الكتاب: دراسات في علم اللغة المؤلف: كمال بشر الناشر: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- دراسات في علم اللغة كمال بشر الكتاب: دراسات في علم اللغة المؤلف: كمال بشر الناشر: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... واجهة الكتاب: ينتظم هذا الكتاب أشتاتا مؤتلفة من الدرس اللغوي. فيه -وإن لم تكن ذات موضوع واحد- تلتقي ويحتضن بعضها بعضا من البدء إلى النهاية. إنها من جهة تتناول قضايا أو مشكلات أثيرت وتثار في الأوساط اللغوية العربية قديمها وحديثها، وهي من جهة ثانية عولجت في هذا الكتاب علاجا يخضع لوحدة النظرة المنهجية التي تعتمد على الموضوعية في التحليل والمناقشة، وعلى الحوار مع الحقائق اللغوية ذاتها دون الالتجاء إلى أي مسلك خارجي من تأويل، أو افتراض، أو تفلسف ... إلخ. ومن هنا كان الائتلاف بين هذه الأشتات؛ لكونها خالصة العروبة، وخاضعة في النظر والدرس لمنهج واحد، هو منهج الوصف القائم على تسجيل الواقع في إطار سياقه وطبيعته، بالنظر الواعي والمعالجة اللغوية الصرفة. بعض من مباحث الكتاب "وهي ثلاثة المباحث الأولى" له ذكر متناثر هنا وهناك في أعمال القدامى من اللغويين، ولكنه ذكر عارض في سياقات مختلفة، خال من لملمة جوانب الموضوع أو القضية وتجميعها لتشكل كلا متكاملا ينماز بحدوده، وخصوصياته، وموقعه. فرأينا أن نصنع صنعا آخر لتأليف هذه الجوانب والأبعاد، حتى نريح الذهن من الجري وراء هذه المتناثرات، ولإخضاعها لمنهج من الدرس اللغوي الحديث، حتى نرشد شباب الدارسين "وبعض شيوخهم" إلى كيفية تناول القديم في ضوء الحديث. ونكون بذلك قد ظفرنا بالحسنيين: رعاية القديم والحفاظ عليه وصقله أو تهذيبه، أو الحوار معه بفكر جديد، حتى يظهر في صورة أبهى وأجلى وأقرب منالا للشادين من الباحثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أما بقية مباحث الكتاب فهي جديدة تمام الجدة مادة ومنهجا، اقتضتها حركة التاريخ وظروف الحياة المتغيرة دائما وأبدا. وخضعت للدرس بذات النظرة الموضوعية القائمة على تحليل الواقع. ويحمل الكتاب الحالي عنوان كتاب سابق طبع ونشر خمس مرات متتالية من عام 1969م حتى أواخر السبعينيات، ثم توقفت إصداراته لأسباب مختلفة، ثم رأينا أن نصنع هذا الكتاب الذي بين أيدينا، ضاما بين جنباته ثلاثة البحوث المشار إليها سابقا، مع أربعة بحوث أخرى، فاكتمل عددها سبعة، ذات نسب قريب وعلاقة وثيقة، من حيث إنها جميعا تعرض لقضايا لغوية عربية. وجدير بالذكر أن هذه المباحث السبعة نشرت كلها قبلا -بتفصيل أو إيجاز- في مجلات عربية ذات شهرة واسعة ومكانة عالية في الأوساط العربية وغير العربية، مثل: مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجلة كلية الآداب بجامعة الكويت، ومجلة الدارة السعودية ... إلخ. المبحث الأول: الألف والواو والياء "واي" في اللغة العربية "واي" هذه تدعى حروف العلة في التراث اللغوي العربي القديم. وقد عالجها العرب، علاجا تقليديا تعوزه الدقة والوضوح، إذ قد خلطوا في علاجها بين الرمز والصوت، الأمر الذي قاد إلى جمع من المشكلات في التحليل والوصول إلى نتائج حقيقية، وانصرفوا في جل مناقشاتهم إلى شيء من وظائفها الصرفية والنحوية، متناسين قيمها الصوتية التي من شأنها أن تفصح عن حقائقها ووظائفها في البنية اللغوية. ومن ثم كان البدء هنا بتحليل قيمها الصوتية في العربية الفصيحة، وقد أدى هذا التحليل إلى الكشف عن طبيعتها، وإلى تصنيف هذه القيم إلى المجموعة الصوتية المعينة التي تنتمي إليها، أهي أصوات صامتة Consonants أم حركات Vowels. ثم انطلق الدرس إلى بيان وظائف كل صوت "أو نوع منه" في البناء الصرفي والنحوي في اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 المبحث الثاني: همزة الوصل همزة الوصل مشكلة قديمة حديثة من حيث نطقها ورسمها وموقعها في البناء الصوتي الصرفي للغة العربية. وقد أجاد القدماء في حصر مواقعها وخواصها النطقية. ولكنهم لم يعرضوا بحال إلى وصفها في البنية اللغوية: أهي لبنة أساسية في هذا البناء، أم أنها مجرد انزلاق صوتي يسهل النطق بالساكن؟ وقد وقف البحث عند هذه النقطة الأخيرة وقفة متأنية، منتهيا إلى ما انتهى إليه الخليل من أنها "سلم اللسان" أي: تحريك صوتي يدرج اللسان منه إلى النطق بالساكن في أنماط معينة من الكلم العربي. المبحث الثالث: السكون في اللغة العربية السكون اسم لرمز هو "o" في أكثر الروايات، ولحالة صوتية سالبة، وقد اختلف الدارسون في رمزه إلى أقوال شتى، تولى البحث الإفصاح عنها وصلاحية كل منها للدلالة على نطق سالب. ثم ركز البحث على بيان وظائف السكون "بوصفه غير متحقق نطقا" صرفيا ونحويا، الأمر الذي يسوغ ضمه إلى نظام الحركات. فهو -وإن كان عديما في النطق- ذو وظيفة واضحة في البناء اللغوي، شأنه شأن الحركات تماما. المبحث الرابع: خواص صوتية تمتاز بها اللغة العربية عرضنا في هذا المبحث لبعض الخواص الصوتية التي تنماز بها العربية من غيرها من اللغات التي لنا معرفة مناسبة بها. وانصرف التركيز إلى مجموعة محدودة من هذه الخواص التي يغيب عن بعض الدارسين أهميتها وقيمتها في البنية اللغوية العربية. من ذلك مثلا: بيان الوظائف المنوعة للحركات على الرغم من قلتها العددية، فهي في جملتها ذات قيم صوتية، وصرفية نحوية، ودلالية كذلك، على خلاف ما يجري في كثير من اللغات. وأشرنا كذلك إلى انفراد العربية بمجموعة من الأصوات التي لا وجود لها في غيرها من اللغات كالضاد، أو يقل أو يندر وجودها في لغات أخرى، "كالهمزة والقاف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ثم درجنا بعدُ إلى ظاهرة التفخيم في لغتنا، حيث بينا أن التفخيم لبعض الأصوات "الصاد والضاد والطاء والظاء" ذو قيمة صوتية وأخرى دلالية، كما يظهر مثل: في مقابلة "طاب" بكلمة "تاب". إنه تفخيم "فونيمي" Phonimic. وهناك أنواع أخرى من التفخيم المشروط، كما في حال: "القاف، والخاء، والغين ... " وغيرها. المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة بحث أعد لمؤتمر عقد في عمان بالأردن عام 1974م وألقي هناك بالنيابة عنا. وهو يحاول معالجة مشكلة عدم إلمام التلاميذ في مرحلة التعليم الأولى باللغة الفصيحة، وغلبة العاميات على سلوكهم اللغوي. واتجه البحث في ذلك إلى محورين رئيسين. أولهما: وجوب تقديم المادة العربية في صورة سهلة ميسرة خالية من التقعر والتعقيد، بمراعاة طاقة الناشئة ومحصولهم اللغوي. ثانيهما: الاسترشاد بالعاميات، لا بوصفها كذلك، بل بالنظر فيها محاولين استخلاص ما يصلح منها للتواصل العربي الفصيح. ففي العاميات مفردات وتراكيب فصيحة، ولكنها تاهت وسط سيل المفردات والتراكيب العامية الصرفة، كما في أسماء الألوان مثلا "أحمر، أبيض، أسود ... إلخ". وهناك كثير من المفردات التي يمكن تفصيحها وردها إلى أصولها الفصيحة بشيء من الدرس والنظر من أهل الاختصاص. المبحث السادس: الأخطاء الشائعة في نظام الجملة "بين طلاب الجامعات" بحث ألقي في مؤتمر بجامعة الكويت عام 1979م، لمناقشة ظاهرة منذرة بالخطر برزت إلى الوجود في السلوك اللغوي لطلاب الجامعات العربية، وبخاصة على مستوى التراكيب. وكان البدء في هذا العمل بتحديد مفهوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 المصطلحات الواردة في الموضوع. فعمدنا إلى تحديد هذه المفهومات، بشرح مفهوم "الخطأ" ومعايير الحكم بالخطأ أو الصواب. ثم تلا بيان مفهومنا للجملة أو التركيب. مع التركيز على خواصهما وخواص مكوناتهما: من اختيار للمفردات، وموقعها، وعلاقتها بعضها ببعض، والإعراب. وتدرج البحث بعد إلى النقطة الأساسية، بتجميع أمثلة منوعة من الأخطاء في هذا الإطار، والقيام بتنميطها وبيان الخطأ في كل نمط منها، مستعينين في ذلك بأمثلة شائعة من الخطأ على ألسنة هؤلاء الطلاب وأقلامهم. وخرجنا من ذلك بنتيجة مفزعة، حيث تبين لنا أن الخطأ ليس في الإعراب ووجوهه فقط، بل امتد أمره إلى الخواص الأخرى للتراكيب من اختيار، وموقعية، وعلاقات داخلية بين مكونات الجملة. وأنهينا بحثنا بضرورة تقديم قواعد العربية في صورة نصوص كاملة، حتى لا يتركز العمل على وجه دون آخر من وجوه خواص التراكيب أو الجمل. المبحث السابع: التعريب بين التفكير والتعبير انطلقت في السنوات الأخيرة نداءات مخلصة إلى وجوب تعريب العلوم في الجامعات ونحوها من الهيئات والأوساط المعنية بهذه العلوم والتعامل معها نظرا وتطبيقا. ولكن هذه النداءات كانت في جملها نداءات فردية، ينقصها تحديد مفهوم "التعريب" تحديدا دقيقا. فانصرف البحث في البدء إلى تحديد هذا المفهوم، فتبين لنا أن له أربعة مفهومات في الثقافة العربية، قديمها وحديثها على سواء. وأشرنا إلى أن المفهوم المناسب لسياقنا هذا هو "توظيف اللغة العربية" وحدها في كل الأعمال العلمية كَتْبًا وأداء منطوقا في المحاضرات وما إليها. وقادتنا خبرتنا اللغوية والثقافية إلى تقرير أن القضية ليست قضية التعبير باللغة العربية، وإنما ينبغي أن يوجه نداء التعريب إلى تعريب الفكر أولا. علينا في كل حال وآن أن نفكر تفكيرا عربيا عند الانشغال بهذه العلوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وغيرها، فكيفما نفكر يكن تعبيرنا. أما مجرد التعبير باللغة العربية دون التكفير بها وفيها، فلا غناء فيه، لأنه في هذه الحال لا يعدو أن يكون ترجمة لفكر أجنبي، وما أظن أن هذا هو المقصود، أو أنه يصل بنا إلى غاياتنا القومية. وختمنا بحثنا بوجوب إلقاء مسئولية التعريب بهذا المفهوم الذي اخترناه إلى هيئات علمية مُشكَّلة بمعايير دقيقة، وبين يديها خطة مرسومة للقيام بهذا العمل القومي الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 المحتويات : الصفحة الموضوع 13 المبحث الأول: الألف والواو والياء "واي في اللغة العربية". 101 المبحث الثاني: همزة الوصل. 139 المبحث الثالث: السكون في اللغة العربية. 191 المبحث الرابع: خواص صوتية تمتاز بها اللغة العربية. 215 المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة. 251 المبحث السادس: الأخطاء الشائعة في نظام الجملة "بين طلاب الجامعات". 307 المبحث السابع: التعريب بين التفكير والتعبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 المبحث الأول: الألف والواو والياء "واى في اللغة العربية" مدخل ... المبحث الأول: الألف والواو والياء "واى في اللغة العربية" الألف والواو والياء "واي": عندما انتوينا إخراج هذا المبحث إلى الناس كانت تجول بخاطرنا عدة مشكلات صرفية نحوية معينة تتعلق بما يسميه علماء العربية "حروف العلة"1. ثم تأكد لي بعدُ أن الموضوع لا يمكن أن يبحث بحثا علميا دقيقا دون التعرض لوجوهه الصوتية. وذلك في الحق هو ما تقرره الدراسات اللغوية الحديثة التي تنص على فشل أية دراسة صرفية أو نحوية لا تأخذ في الحسبان الجانب الصوتي للظاهرة المدروسة. وقبل الدخول في أية تفصيلات يجدر بنا أن نشير إلى نقطتين مهمتين هما:   1 تعرض الدكتور إبراهيم أنيس لحروف العلة في دراسة قيمة سماها: "بحث في اشتقاق حروف العلة". ونشرت هذه الدراسة بمجلة كلية الآداب. جامعة الإسكندرية. المجلد الثاني سنة 1944. وفي هذه الدراسة عالج الدكتور أنيس عددا من المشكلات التي تتعلق بهذه الحروف. ويمكن تلخيص أهم آرائه في هذه المشكلات فيما يلي: 1- من رأيه أن الياء والواو لا تكونان إلا أصليتين في الأفعال والأسماء المشتقة، إذ -كما تقول عبارة المؤلف- "لا نكاد نعثر على واو أو ياء ليست أصلا من أصول الكلمة" في هذين النوعين من الكلمات. 2- الواو والياء كانتا في الأصل أحد الأصوات الثلاثة: اللام والنون والميم. وقد أدت عوامل التطور اللغوي إلى هذا الانقلاب، لما بين هذه الأصوات وبين الياء والواو من شبه صوتي. 3- كل "من الواو والياء المحدثة من لام أو نون أو ميم قلبت في بعض الصيغ إلى صوت لين طويل: فتحة طويلة أو كسرة طويلة أو ضمة طويلة". وفي رأيه كذلك "أنه لا بد من تسكين الواو أو الياء" قبل هذا القلب. والواقع أن البحث يتركز في نقطة أساسية هي النقطة الثانية، أما النقطتان الأولى والثانية فقد اقتضتهما منا مناقشة النقطة الأساسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الأولى: أن المشكلات التي نشأت عن "واي" في اللغة العربية لا ترجع إلى طبيعتها بقدر ما ترجع إلى طريقة معالجتها والنظر فيها. أو بعبارة أخرى، نستطيع أن نقول إن هذه المشكلات لا ترجع في أساسها إلى الحقائق اللغوية التي تتضمنها "واي"، وإنما ترجع إلى طريقة اللغويين في تقعيد هذه الحقائق وتنظيمها. فعلماء العربية في دراسة "واي"، قد خلطوا أحيانا بين الصوت، والرمز الكتابي، كما خلطوا من وقت إلى آخر بين قيمتها الصوتية ووظائفها الصرفية والنحوية. كذلك خان بعضهم الحظ في تعرف القيم الصوتية المختلفة بدقة لكل رمز من هذه الرموز الثلاثة. يضاف إلى ما تقدم أن الأصوات التي يرمز إليها في العربية بالرموز "واي" أصوات تتعرض للتغير والتطور بصورة أكبر وأوضح مما يقع لغيرها من الأصوات: 1- اللغة العربية الفصيحة كما ينطقها الآن المتخصصون في هذه اللغة. 2- النصوص الواردة عن علماء العربية من قدامى ومحدثين فيما يتعلق بموضوع البحث. وبهذه المناسبة أيضا نرى لزاما علينا أن نتعرض لبعض المصطلحات الأساسية في هذه الدراسة، وأن نقدم لها نوعا من التحديد، حتى نعين القارئ على الفهم الدقيق، كما يتبين من السطور التالية: واي: ثلاثة رموز عربية لمجموعة من الأصوات التي تلعب دورا مهما في اللغة العربية ونظمها الصوتية، والصرفية، والنحوية. وهذه الرموز لها أسماء، هي "بترتيب الرسم السابق": الواو، الألف، الياء. ومن المعروف أن هذه الأسماء ذاتها يطلقها علماء العربية أيضا على الأصوات التي يرمز إليها بالرموز الثلاثة السابقة. لدينا إذن "بالإضافة إلى واي" ثلاثة أنواع من المصطلحات التي يجب أن نحددها جيدا وأن نفرق بين مدلولاتها حتى نعرف المقصود بكل نوع منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تجنبا للخلط والاضطراب اللذين قد يقع فيهما بعض الباحثين بسبب عدم تحديد سابق للمراد بهذه المصطلحات وأمثالها. هذه الأنواع الثلاثة هي: الرموز "والمفرد رمز"، والأصوات "والمفرد صوت"، والأسماء "والمفرد اسم". فالرموز: هي العلامات الكتابية التي تستخدم في اللغة المعينة للدلالة على أصوات معينة. أو -قل- هي حيل أو وسائل كتابية تستخدم لتمثيل النطق وتصويره. مثال هذه الرموز في العربية "واي". والأصوات: هي الآثار السمعية التي تصدر طواعية واختيارا عن تلك الأعضاء المسماة تجاوزا أعضاء النطق. وهذه الآثار تظهر في صور ذبذبات معدلة وموائمة لما يصاحبها من حركات الفم بأعضائه المختلفة. مثال هذه الأصوات في العربية: أصوات الواو، والألف، والياء. أما الأسماء: فهي ألفاظ أو كلمات يستخدمها أصحاب اللغة المعينة لإطلاقها على أصوات معينة، وعلى رموز تستخدم في تصوير هذه الأصوات كتابة. مثال هذه الأسماء في العربية الألف والواو والياء. وهكذا نرى أن هناك فرقا بين الرمز والصوت. فالرمز "كما قلنا": علامة كتابية تدرس وينظر إليها في إطار نظام الكتابة العادية أو الإملائية أو ما يسمى "الألفباء"، لا في إطار نظام الأصوات: والصوت أثر سمعي أو حدث نطقي، يدرس وينظر في إطار النظام الصوتي للغة المعينة The Phonetic system of a given language لا في نظام الألفباء لهذه اللغة. وكثيرا ما يقع الخلط بين مفهومي هذين المصطلحين، لأسباب ثلاثة رئيسية، هي: 1- الجهل بالفرق بينهما أو عدم الاهتمام بهذا الفرق، أو الانخداع بالنظام الكتابي بتوهم أن ما يكتب هو ما ينطق، أو بتوهم أن الرمز الكتابي هو كل شيء في الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 2- وحدة الاسم الذي يطلق على الرمز الكتابي والصوت معا، فالواو مثلا اسم يطلق في اللغة العربية على العلامة "و" وعلى الصوت أو الأصوات التي يرمز إليها بهذه العلامة. وهذان السببان يعدان -في نظرنا- من أهم أسباب اضطراب علماء العربية في معالجة حروف "واي". 3- عدم تمثيل الرمز الكتابي للصوت المنطوق تمثيلا صادقا، في بعض الأحايين، أو عدم مطابقة المكتوب للمنطوق بالفعل. ويتضح هذان الأمران في كثير من اللغات الأجنبية، ففي الإنجليزية مثلا يرمز أحيانا للصوت "f" بالرمزين "ph"، ولصوت "s" بالرمز "c" إلخ. وأحيانا توجد الرموز في الكلمة المكتوبة على حين أن ليس لها مقابل صوتي كما في نحو 1night. أما المصطلح "أسماء" فلا يختلط بالمصطلحين السابقين، وهو عادة أعم منهما، وبسبب هذا العموم سوف نتخذه أساسا للمناقشة التالية، والأسماء التي لدينا الآن ثلاثة. هي الألف والياء والواو: "واي". وقبل أن نحاول تحديد القيم الصوتية لمدلولات هذه الأسماء، نرى من المفيد أن نعرض -في إيجاز- لنقطة مهمة تتعلق باستعمالها، وذلك بإلقاء الضوء على تطور مدلولاتها ومراحل هذا التطور في تاريخ العربية.   1 night تكتب صوتيا nait. وعندنا من النوع الأول في العربية أمثلة كثير منها: "رمى" حيث كتب الصوت الأخير بالياء مع أن خاصة الصوت توجب كتابته بالفتحة الطويلة أو ما يسمى بألف المد. أم أمثلة النوع الثاني فقليلة، منها: وجود الألف في نحو رموا والواو في عمرو. وهناك نوع ثالث في العربية، يتلخص في عدم مقابلة الصوت المعين برمز كتابي كما في نحو "هذا"، حيث توجب الكتابة الصوتية وجود فتحة طويلة أي: ألف بعد الهاء، ولعلاج هذا النقص ونحوه ابتكر علماء الأصوات نظاما خاصا لتصوير الكلام المنطوق تصويرا دقيقا. هذا النظام هو ما يعرف بالكتابة الصوتية Phonetic transcription وفي هذا النظام يراعى تمثيل كل صوت برمز مستقل متفق عليه وعلى قيمته الصوتية، ومن البديهي أن هذا النظام لا يخضع لنظام الألفباء العادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الألف المرحلة الأولى ... الألف: فكرة تاريخية 1: الألف اسم لمدلولات عدة، مرت -في نظرنا- بمرحلتين تاريخيتين مختلفتين. المرحلة الأولى: كانت الألف تطلق في الأصل -بحسب التاريخ المعروف لنا- على الألف، أو على ما عرف في مرحلة تاريخية متأخرة نسبيا باسم "الهمزة"، أي: ذلك الصوت الذي ندعوه حديثا الوقفة الحنجرية glottal stop، والرمز الأصلي لهذا الصوت هو "ا" بدون رأس العين الصغيرة "ء" فوقه أو تحته ومعنى هذا أن الألف -اسما ورمزًا- لم تكن في المراحل الأولى ما يسمى أخيرا بالألف المد أو ما ندعوه في اصطلاحنا الفتحة الطويلة "aa"، كما في نحو: قال. ويكاد يكون من المؤكد أن الفتحة الطويلة "ألف المد" لم يكن لها علامة كتابية في هذه المرحلة، شأنها في ذلك شأن الحركات القصيرة كلها "الفتحة والكسرة والضمة"، والحركتين الطويلتين الأخريين، الضمة والكسرة "= واو المد ويائه: uu وii" كما تظهران في نحو: تقول وأبيع. ولا يظنن ظان أن العرب في المراحل الأولى لم يكونوا يعرفون الهمزة بوصفها صوتا، أو أن الهمزة صوت حديث في اللغة العربية. إن الهمزة من أصوات العربية منذ التاريخ المعروف لنا. ولكن هذا الصوت لم يسم بالهمزة في المراحل الأولى، وإنما كان يسمى ألفا ورمزه "ا" كما سبق آنفا.   1 نشر هذا الجزء التاريخي الخاص بالألف في مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء الثاني والعشرين سنة 1967. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أما أن الألف هي اسم الهمزة "الوقفة الحنجرية" في الأصل فأدلته كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: 1- من خواص الأصوات العربية أن قيمها الصوتية يعبر عنها دائما بصدر أسمائها. فالاسم "كاف" مثلا يعبر صدره وهو "ك" عن الصوت "ك". وكذلك الاسم "ألف" يعبر صدره صوتيا عما سمي أخيرا الهمزة. وفي هذا المعنى يقول ابن جني: "إن كل حرف سميته ففي أول حروف تسميته لفظه بعينه. ألا ترى أنك إذا قلت: جيم فأول حروف الحرف "جيم". وإذا قلت: دال فأول حروف الحرف "دال" وإذا قلت: حاء فأول ما لفظت به "حاء"، وكذلك إذا قلت: ألف، فأول الحروف التي نطقت بها همزة"1. ويقول حفني ناصف: "للحروف العربية خواص لم تجتمع في غيرها من اللغات الأخرى. منها أن مسمياتها دائما في صدر أسمائها، فصدر كلمة ألف "ء" وصدر كلمة باء "ب" وصدر كلمة جيم "ج" وهكذا لآخر الحروف"2. 3- وأصرح من هذا وأوضح في هذا الشأن ما قرره ابن جني في مكان آخر، وروي مثله عن أبي العباس المبرد "وإن كانت هذه الرواية في معرض الاعتراض على المبرد في مشكلة أخرى تتعلق بالهمزة"، انظر فيما بعد.   1 ابن جني: سر صناعة الإعراب، جـ1 ص47. 2 حفني ناصف: تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية ص28، ط2 سنة 1958 وانظر ابن يعيش، شرح المفصل جـ10، ص126. 3 انظر: حفني ناصف، المرجع السابق ص40-43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 يقول ابن جني: "إن أبا العباس كان يعد حروف المعجم ثمانية وعشرين حرفا، وجعل الباء أولها ويدع الألف من أولها ويقول: هي همزة" أي أن الألف نطقا ورسما هي ما عرف بالهمزة في فترات متأخرة. وهذا القول فيما يتعلق بهذه المنطقة هو ما رآه ابن جني نفسه حيث يقول: "اعلم أن الألف التي في أول حروف المعجم هي صورة الهمزة"1. أما أن أبا العباس قد ترك الألف "الهمزة" ولم يذكرها في الأبجدية؛ فذلك لأنها -كما تقول عبارته التي رواها ابن جني- "لا تثبت على صورة واحدة، وليست لها صورة مستقرة، فلا أعتدها مع الحروف التي أشكالها محفوظة معروفة"2. وهنا نرى أن المبرد قد وقع في خطأ واضح إذ هو قد خلط -بعبارته هذه- بين مستويين: مستوى النطق ومستوى الكتابة. إنه يعلل تركه للهمزة وعدم ذكره لها في الألفباء بتغير صوتها وعدم استقرارها على حالة واحدة. والواقع أن الذي يتغير إنما هي الصورة الكتابية للهمزة لا نطقها. فمن المؤكد أن الهمزة تنطق سواء أكتبتها على ياء أم واو، وبالطبع حين تكتب على صورتها الأصلية وهي الألف. وقد أدرك ابن جني بثاقب نظره هذا الخطأ الذي وقع فيه أبو العباس، فاعترض عليه بعبارة تنم عن ذكاء وعمق في فهم الحقائق، حيث استطاع أن يتذوق ما لم يستطع المبرد تذوقه من معرفة الفرق بين النطق والكتابة. يقول: "أما إخراج أبي العباس الهمزة من جملة الحروف واحتجاجه في ذلك بأنها لا تثبت صورتها فليس بشيء. وذلك أن جميع هذه الحروف إنما   1 ابن جني: المرجع السابق ص46، وانظر أيضا: ابن يعيش، شرح المفصل جـ10 ص126. وإطلاق الألف على الهمزة نلحظه كثيرا في كتاب العين للخليل بن أحمد، من ذلك مثلا ما جاء هناك من أنه حين أراد تأليف الحروف أعمل فكره فلم يمكنه "أن يبتدئ التأليف من أول أب ت ث وهو الألف". فالألف هنا يقصد بها الهمزة. ومع ذلك كان يطلق المصطلح الآخر وهو "الهمزة" على هذا الصوت نفسه، كما يبدو في قوله: "وأما الهمزة فمخرجها من أقصى الحلق". انظر كتاب العين للخليل بن أحمد، تحقيق د. عبد الله درويش: جـ1 ص52، 58. 2 ابن جني: المصدر السابق ص46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وجب إثباتها واعتدادها لما كانت موجودة في اللفظ الذي هو قبل الخط. والهمزة موجودة في اللفظ كالهاء والقاف وغيرها، فسبيلها أن تعتد حرفا كغيرها"1. وإذا كان المبرد يعني بعبارته السابقة تغير الهمزة نطقا كذلك، كما في حالة التخفيف مثلا فنحن ندفع هذا الظن بأن التخفيف في الهمزة لهجة، وذلك أمر ثابت لديهم. جاء في مراح الأرواح وشرحه، أن الهمزة "قد تخفف، لأنها حرف ثقيل إذ مخرجه أبعد من مخارج جميع الحروف لأنه يخرج من أقصى الحلق فهو شبيه بالتهوع المستكره لكل أحد بالطبع، فخففها قوم وهم أكثر أهل الحجاز وخاصة قريش. روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال: "نزل القرآن بلسان قوم وليسوا بأصحاب نبر. ولولا أن جبريل نزل بالهمزة على النبي عليه السلام ما همزتها" وحققها آخرون وهم تميم وقيس"2. وإذا ثبت أن التخفيف في الهمزة لهجة وجب علينا حينئذ أن ننظر إليه في إطار هذه اللهجة وحدها لا في إطار اللغة بعامة، حتى نتجنب الخلط الذي ينتج عن تداخل اللغات. وقد تنبه ابن جني إلى هذا الخلط في اعتراض له آخر وجهه إلى المبرد لتركه الألف "الهمزة" من الألفباء بسبب تغير صوتها، يقول: "وإنما كتبت الهمزة واوا مرة وياء أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف. ولو أريد تحقيقها ألبتة لوجب أن تكتب ألفا على كل حال. يدل على صحة ذلك أنك إذا أوقعتها موقعا لا يمكن فيه تخفيفها ولا تكون فيه إلا محققة، لم يجز أن تكتب إلا ألفا، مفتوحة كانت، أو مضمومة، أو مكسورة، وذلك إذا وقعت أولا نحو أخذ، وإبراهيم. فلما وقعت موقعا لا بد فيه من   1 ابن جني: المرجع السابق ص48. 2 النبر هنا معناه الهمز ويؤخذ من بقية الكلام أن كلمة "الهمز" "بمعنى الوقفة الحنجرية" كانت معروفة زمن علي بن أبي طالب. انظر مراح الأرواح في علم الصرف لأحمد بن علي بن مسعود وشرحه لابن كمال باشا ص98 طبعة 1937. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 تحقيقها اجتمع على كتبها ألفا ألبتة. وعلى هذا1 وجدت في بعض المصاحف "يستهزأون" بالألف قبل الواو ووجد فيها أيضا "وإن من شيأ إلا يسبح بحمده" [الإسراء: 44] بالألف بعد الياء، وإنما ذلك لتوكيد التحقيق"2. وهكذا يكشف لنا ابن جني العظيم في هذا الرد عن نقطة أخرى مهمة، لا في هذا المقام فحسب، بل في مناهج البحث اللغوي بعامة. ذلك أن عبارته السابقة تعني أننا في معاملتنا للهمزة نخلط بين لهجتين "بيئتين لغويتين" وبين مستويين كذلك: مستوى النطق ومستوى الكتابة. فنحن في النطق ننطق الهمزة وبذلك نتمشى مع اللهجة أو اللهجات التي تحققها، ولكننا في الكتابة نكتبها أحيانا على واو أو ياء "أما كتابتها بالألف فهو الأصل بالطبع" مراعين في ذلك تلك الصور التي تصير إليها الهمزة في لهجات التخفيف ومعناه أننا في النطق نتبع لهجة أو لهجات معينة، ولكننا في الكتابة نأخذ بحكم لهجة أو لهجات أخرى، تلك هي التي تخفف الهمزة. وفي هذا العمل -في رأينا- خلط كبير تنتج عنه أحكام متناقضة أو متضاربة للظاهرة اللغوية الواحدة. أما سبب هذا الخلط فهو تعدد البيئة   1 الإشارة بهذا إلى مضمون ما تقدم. وهو أنها إذا لم تقع في أول الكلمة يخففها الحجازيون ويحققها غيرهم. ولذلك توجد في بعض المصاحف محققة مكتوبة على ألف على طريقة غير الحجازيين. هذا التعليق من عمل المحققين لكتابة سر صناعة الإعراب لابن جني، وهو في رأينا تعليق مهم! انظر سر صناعة الإعراب ص47. 2 ابن جني، المرجع السابق ص46-47. وورد مثل هذا القول عن ابن يعيش في شرح المفصل جـ10 ص126، حيث يقول: "والصواب ما ذكره سيبويه وأصحابه من أن حروف المعجم تسعة وعشرون حرفا، أولها الهمزة وهي الألف التي في أول حروف المعجم وهذه الألف هي صورتها على الحقيقة، وإنما كتبت تارة واوا وياء أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف ولو أريد تحقيقها لم تكن إلا ألفا على الأصل. ألا ترى أنها إذا وقعت موقعا لا تكون فيه إلا محققة لا يمكن فيه تخفيفها -وذلك إذا وقعت أولا- لا تكتب إلا ألفا نحو: أعلم، أذهب، أخرج، وفي الأسماء: أحمد، إبراهيم، أترجة ... وأمر آخر يدل على أن صورة الهمزة صورة الألف أن كل حرف سميته ففي أول حروف تسميته لفظه بعينه، ألا ترى أنك إذا قلت باء ففي أول حروفه باء، وإذا قلت ثاء ففي أول حروفه ثاء، وكذلك الجيم والدال وسائر حروف المعجم، فكذلك إذا قلت: ألف، فأول الحروف التي نطقت بها همزة، فدل ذلك أن صورتها صورة الألف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 اللغوية أو عدم وحدة مصدر المادة المدروسة. وفي ظننا أن هذا الخلط وأمثاله كان من أكبر عوامل التعقيد والاضطراب في قواعد اللغة العربية، أصواتها وصرفها ونحوها. فكثيرا ما يحدث أن يضع علماء العربية قواعد مختلفة "متباينة أو متناقضة" للظاهرة اللغوية الواحدة. وذلك سببه أن هذه الظاهرة قد تكون مختلفة الخواص من لهجة إلى أخرى، أو أنها ذات مسلكين مختلفين فيهما. وربما يكتفون -في أحيان كثيرة- بوضع القاعدة العامة لهذه الظاهرة طبقا لما لاحظوه من خواصها في لهجة معينة، ثم يحكمون بالشذوذ أو عدم الصحة أو التأويل على خواصها الأخرى التي تتميز بها في لهجة أو عدد آخر من اللهجات. وهذا العمل من اللغويين العرب أمر معروف مشهور ويشيع تطبيقه بصفة خاصة على قواعد النحو. والبحث اللغوي الحديث يوجب علينا منذ البداية "فيما يوجب" أن نحدد البيئة اللغوية للظاهرة المدروسة تجنبا للأحكام المتباينة لهذه الظاهرة. ورائدنا في هذا السبيل هو أن وحدة الحكم على الظاهرة اللغوية المعينة يجب أن تبنى على أساس وحدة الظاهرة نفسها في الذات والصفات، أو الخواص. فإذا ما تعددت أو اختلفت هذه الخواص وجب تعدد الأحكام، طبقا للمبدأ الذي ينص على وجوب تعدد الأنظمة في معالجة الظاهرة أو الظواهر التي تختلف خواصها. أما أن تخضع هذه الخواص المختلفة كلها لحكم واحد فهو عمل تعسفي ويعرض الدراسة للتعقيد والاضطراب. وإذا كان هذا هو الواجب اتباعه في وضع قواعد اللهجة الواحدة "البيئة اللغوية الواحدة" فما بالك حين تتعدد اللهجات أو البيئات؟ إننا حين تتعدد اللهجات يجب أن نضع قواعدنا طبقا للموجود في كل لهجة على حدة. ومعناه أننا إذا كنا من محققي الهمزة وجب أن نعطيها أحكام التحقيق على كل المستويات. وهذا يوجب علينا كتابتها بالألف دائما "وهو علامتها الأصلية" بقطع النظر عن موقعها وعن حركتها أو حركات ما قبلها وما بعدها. وواضح مما تقدم أن ابن جني يميل إلى هذا الرأي، وهو ما تؤيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 حقيقة الصوت وماهيته. فالهمزة كما سنعرف فيما بعد -من الأصوات الصامتة 1Consonants، "أو ما تسمى بالحروف الصحيحة في مقابل حروف العلة في نظر العرب".   1 الصوت الصامت "والجمع صوامت" هو ما يشار إليه بالمصطلح الإنجليزي Consonant، أي هو كل ما ليس "حركة" Vowel. ويسميه بعض الدارسين الصوت "الساكن" والتسمية بالساكن تسمية صحيحة مقبولة، إذ جرى العرف عليها منذ وقت ليس بالقصير. وقد حدد أصحاب هذا الاصطلاح ما يقصدون بهذا الاستعمال. ولكنا في هذا البحث "وأمثاله من كل ما نعرض فيه الألف والواو والياء" آثرنا استعمال المصطلح "الصامت" لسببين مهمين: أولهما: أن الكلمة "ساكن" والجمع سواكن" قد تؤدي إلى لبس، إذ قد تؤخذ على أن المقصود بها هو الحرف المشكل بالسكون "على ما هي القاعدة العامة في البحوث الصرفية التقليدية"، على حين أن المراد هو كل صوت ليس حركة، سواء أكان مشكلا بالسكون أم بغيره من علامات الحركات. ثانيهما: "وهذا هو المهم في هذا المقام بالذات" أن علماء العربية جروا على التوسع في مفهوم الكلمة "ساكن" "وما تصرف منها" بإطلاقها -خطأ- على حروف المد: "الألف، والواو، والياء" أو ما تسمى الحركات الطويلة. وهذا -كما ترى- إطلاق مضلل، وبخاصة في هذا البحث وغيره، مما يعرض لهذه الحروف الثلاثة التي لا يصح بحال إطلاق اسم الساكن عليها في أي موقع كانت، اللهم إلا إذا قصد بالساكن -على ضرب من التوسع- الحرف الخالي من علامات الحركات. على أن هذه الحالة ذاتها مسألة تتعلق بنظام الكتابة، لا بواقع النطق والحقيقة الصوتية. وهما مدار العمل في هذا البحث وفي غيره من كل دراسة صوتية. ومن الجدير بالذكر أن استعمال المصطلح "صامت" ليعني كل ما ليس حركة أو حرف مد استعمال قديم. لقد جاء هذا الاستعمال واضحا في عبارة لبعضهم يقول فيها: "إن الابتداء بالساكن إذا كان مصوتا أعني حرف مد ممتنع بالاتفاق. وأما الابتداء بالساكن الصامت أعني غير حرف المد فقد جوزه قوم. فهو هنا يستعمل المصطلح "الصامت" بمعنى كل صوت ليس بحركة، طويلة "أي حرف مد" كانت، كما هو واضح من النص أو قصيرة، كما يظهر من بقية كلامه وهو: "ولا شك أن الحركات أبعاض المصوتات، فكما لا يمكن الابتداء بالمصوت لا يمكن الابتداء ببعضه" شرح مراح الأرواح للمولى شمس الدين أحمد المعروف بديكنقوز، مطبعة الحلبي سنة 1937 جـ2، ص120". وهذا المصطلح نفسه "الصامت" يستعمله ابن سينا في معرض الكلام على حالتي الواو، والياء، حيث سماهما الواو والياء الصامتتين في نحو، "ولد، يلد"، والمصوتتين في نحو "أدعو، أرمي" وهي تسمية موفقة. وتقسيم موفق كذلك لحالتي الواو والياء، فالواو والياء، كما سنعرف في مكانه بالتفصيل إما صوتان صامتان "Consonants" أو كما يقال أحيانا: أنصاف حركات "Semi-vowels" وإما حركتان هما الضمة والكسرة الطويلتان، أو واو المد وياؤه، أو ما أشير إليهما هنا بالمصوتين، على = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وقد صرح علماء العربية أنفسهم بهذا المعنى فحكم الهمزة عندهم "كحكم الحرف الصحيح في تحمل الحركات"1، فهي إذن في أحكامها الصوتية والكتابية مثل الباء، والتاء ... وغيرهما من الصوامت، ومن ثم وجبت معاملتها معاملة هذه الأصوات من حيث كتابتها وتصويرها بالرسم فكما يكتب صوت الباء، والتاء، بالباء أو التاء دائما -أي: بقطع النظر عن موقعها الصوتي- وجبت كتابة الهمزة ألفا دائما كذلك2. أما إذا كنا من أصحاب التخفيف في الهمزة دائما "كأن يكون ذلك من خواص لهجة معينة" أو أحيانا "كما قد يحدث في بعض الصيغ أو المستويات الكلامية"، فالأمر حينئذ مختلف تماما. إننا في هذه الحالة يجب أن ندرس الموجود بالفعل. سواء أكان ذلك الموجود ياء أم واوا أم ألف مد، لأنا حينئذ لا نتعامل مع الهمزة، وإنما مع شيء مختلف عنها تماما من الناحية الصوتية في الأقل. إن التخفيف في نظرنا تخفيف لا همز. ويجب أن ينظر إليه دائما بهذه الصفة، لأنا في منهج الوصف نعني بالموجود أو بما هو كائن لا بما كان، أو بما يفترض أنه كان.   = عادة العرب في ذلك، كما هو واضح من النص السابق لشارح المراح وكما هو نص على ذلك أيضا ابن جني في خصائصه "جـ3 ص124"، وتنضم إليهما ألف المد في هذه الحالة الأخيرة. والتعبير "بصامت" ليعني كل صوت ليس بحركة تعبير دقيق إذ هو يصف خاصة من الخواص الأساسية لهذه الأصوات، وهي ضعف الوضوح السمعي إذا قيست بالحركات التي تتسم بقوة الوضوح السمعي نسبيا. ومن هذا نرى أيضا أن علماء العربية قد أجادوا في وصفهم حروف المد "الحركات الطويلة" بالحروف المصوتة، إشارة إلى ما فيها من وضوح سمعي، ولكن فاتهم أن يطلقوا هذا الوصف صراحة على الحركات القصيرة، إذ هي أبعاض الحركات الطويلة "= حروف المد"، فما أطلق على الكل يجوز تطبيقه على الجزء بداهة. على أن التوسع في إطلاق المصطلح "مصوت" ليشمل الحركات طويلها وقصيرها مفهوم من نص شارح المراح السابق "= الحركات أبعاض المصوتات" كما يفهم أيضا من كلام ابن سينا، عندما يقول مثلا: "والواو المصوتة وأختها الضمة ... " انظر في هذا الموضوع. أسباب حدوث الحروف لابن سينا، بتحقيق محب الدين الخطيب، مطبعة المؤيد 1322هـ، ص13. 1 مراح الأرواح ص98. 2 وإنما تكتب بالألف بالذات لأنه صورتها الأصلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وفي الحق أن علماء العربية قد خلطوا في قواعد الهمزة "من تحقيق وتخفيف وقلب، وإبدال ... إلخ" خلطا واضحا. وأساس هذا الخلط أنهم يعدون التخفيف وإخوته عارضا يعرض للهمزة، وربما يعدونه الهمزة بادية في صور مختلفة. وكان من نتيجة ذلك وجود عدد ضخم من الأحكام المتضاربة التي تتعلق بها وأحوالها، ولسنا لذلك مع ابن جني في قوله: أما انقلاب الهمزة "في بعض أحوالها لعارض يعرض لها من تخفيف أو بدل فلا يخرجها من كونها حرفا، وانقلابها أول دليل على كونها حرفا"1 أي: حرفا مستقلا قائما بذاته هو همزة. فالهمزة -في رأينا- لم تقلب، وإنما الذي حدث هو أنها لم تنطق، وإنما نطق شيء آخر هو ياء، أو واو المد. والذي عكر الصفو على ابن جني، وغيره من علماء العربية، هو اهتمامهم الكبير بالأصول الاشتقاقية للكلمات، وافتراضهم وجوب وجود هذه الأصول في كل الصيغ المتفرعة عنها. فوجود الهمزة في "خطيئة" مثلا كان يوجب وجودها في "خطايا". فعدم وجودها إذن إنما هو لعارض عرض لها، وقد تكلفوا هم بتوضيح هذا العارض وأمثاله في بحوثهم. على أن المسألة في حقيقتها أيسر من هذا بكثير: كلما وجدت الهمزة فهي همزة، وإلا فالموجود بالفعل هو الذي يؤخذ في الحسبان، أيا كانت صورته الصوتية. كل ما تقدم خاص بالشق الأول من القضية، وهو أن الألف في الأصل هو الهمزة "الوقفة الحنجرية". أما الشق الثاني وهو أن الألف في المراحل الأولى لم يكن يعني ما يسمى ألف المد فيما بعد أو ما يسمى الآن الفتحة الطويلة "aa"، كما في نام مثلا، فسوف تتبين حقيقة الأمر فيه من المناقشة التالية التي سوف نتناول فيها المرحلة الثانية من مراحل استعمال "الألف" وتطور مدولاتها.   1 ابن جني، المرجع السابق ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 المرحلة الثانية : من الثابت أن اللغة العربية لم تعن في مراحلها الأولى برموز الحركات عنايتها برموز الأصوات الصامتة. ومما يتمشى مع هذا الوضع نظرة علماء العربية إلى أصول الكلمات التي تتألف -في رأيهم- من أصوات صامتة فقط، تتشكل إلى كلمات مختلفة الصيغ والأوزان بإضافة الحركات إلى هذه الأصول. فالحركات إذن في نظرهم شيء فرعي أو ثانوي. ولعل من أسباب هذه النظرة عدم وجود رموز مستقلة للحركات، إذ كان الكلام خلوا مما يدل على حركات الأصوات الصامتة. وكان الناس يفهمون ما يقرءون بالاعتماد على سياق الكلام وما يقتضيه المقام. وكان هذا الإهمال مطبقا على الحركات كلها قصيرها وطويلها. ومن ضمنها الفتحة الطويلة التي لم يكن لها علامة مستقلة تدل عليها وظلت الحال كذلك إلى أن أحس الناس ضرورة وضع علامات مستقلة لهذه الحركات. فكان -ضمن ما قاموا به في هذا السبيل- أن استغلوا الألف "الدالة على الهمزة في الأصل" للدلالة على الفتحة الطويلة كذلك1. وأغلب الظن أنهم فعلوا ذلك لما رأوا من أن الهمزة "تقلب" فتحة طويلة في بعض موضع التخفيف، فاستعملوها في هذه المواضع وفي غيرها كذلك طردا للباب. وربما فعلوا ذلك أيضا تقليدا لما حدث في حالتي الياء والواو، فهما في الأصل كانتا رمزين للواو والياء بصفتهما صوتين صامتين فقط، أو ما يسمى أنصاف   1 لا نستطيع تحديد الفترة التي جرى فيها هذا الاستعمال تحديدا دقيقا. ولكنا نرجح أن هذا حدث قبل وضع علامات الحركات القصار، ومن المعروف أن الذي قام بوضع هذه الحركات في بداية الأمر هو أبو الأسود الدؤلي وكان ذلك بالنقط ثم أدخل عليه الخليل تعديله المشهور وهو الشكل بالعلامات المعروفة لنا جميعا. والذي نعرفه هو أن هذا العمل كان أسبق من زمن الخليل، فالمشهور أن استغلال الألف لتصوير الفتحة الطويلة أو ألف المد أمر كان معروفا في لغات سامية أخرى قبل العربية. وفي عبارة للأستاذ حفني ناصف ما يفيد أن هذا الأمر كان معروفا بالفعل قبل الخليل. يقول هذا الباحث "ووضع الخليل للهمزة رأس عين صغيرة "ء" لقرب الهمزة من العين في المخرج ولأن الألف جعلت علامة الفتحة" حفني ناصف تاريخ الأدب ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 حركات1 "Semi-vowels" كما في نحو: "ولد، يضرب"، ثم استخدمتا فيما بعد "ولكن في مرحلة تسبق استعمال الألف" في الدلالة على الفتحة الطويلة" للدلالة على الواو والياء بصفتهما حركات Vowels أي: ضمة طويلة "uu" وكسرة طويلة "ii" في نحو: نقول، ونبيع. وجاء في كلام بعضهم ما يشعر بأن استعمال الألف في الدلالة على الفتحة الطويلة، سببه اتحاد الهمزة والفتحة الطويلة "أو ألف المد في عرفهم" من حيث الذات أو المخرج أو كليهما. وهذا التعليل -في رأينا- خطأ واضح، إذ شتان بين "ذاتي" الهمزة والفتحة الطويلة وبين مخرجيهما كذلك، كما سيتبين فيما بعد2. "انظر ص91، 120 وما بعدها". ويبدو أن العربية في عدم تخصيصها رمزا مستقلا للفتحة الطويلة -في بداية الأمر- كانت تتبع بعض أخواتها الساميات في ذلك الشأن. فمن الثابت "أن هذه الألف التي تمثل الفتحة الطويلة لا وجود لها في العبرية، وإنما تمثل هذه الحركة علامة خاصة توضع تحت الحروف. وقد استمرت العربية تحاكي العبرية في ذلك حتى جاء الخليل بن أحمد فوضع الألف لتكون علامة لمد الفتحة. وقد اتبع هذا النظام في الكتابة العادية وبقي النظام القديم متبعا في كتابة المصحف العثماني ولا يزال متبعا فيه حتى الآن. ولا يزال النظام القديم متبعا في رسم بعض كلمات منها: هذا، وهذان وهؤلاء، وأولئك ولكن وهأنتم، وإسحق وإسمعيل والسموات"3.   1 "والملاحظ أن بعض الدارسين يطلقون المصطلح "أشباه حركات" على الواو والياء بوصفهما نصفي حركة، والأولى ما أثبتناه هنا، وبخاصة أن التسمية "أنصاف حركات" تسمية قديمة مستقرة ولا داعي إلى العدول عنها من غير أن تكون هناك حاجة ملحة تدعو إلى ذلك". 2 "انظر ص91، 120 وما بعدها". 3 الأستاذ حامد عبد القادر: مجلة الرسالة، العدد 1011-18 فبراير 1965 ص13 "السنة الثانية والعشرون". ونلاحظ أن عبارة الكاتب تفيد أن أول من استعمل الألف للدلالة على الفتحة الطويلة هو الخليل بن أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ومعنى ما تقدم أن الألف في هذه المرحلة أصبحت ذات مدلولين مختلفين: أحدهما: صوت الهمزة والثاني: الفتحة الطويلة وكانت تستخدم في الرسم كذلك للدلالة عليهما على سواء. ويبدو أن الأمر استمر على هذا الوضع لفترة من الزمن، حتى ابتكر الخليل بن أحمد علامة مميزة للهمزة هي عبارة عن رأس عين صغيرة "ء"، فأخذت هذه العلامة الجديدة تلعب دورها في تصوير صوت الهمزة. وإنما اختار الخليل هذا الرمز بالذات، لأنه -على ما يروى- أحس بقرب مخرج الهمزة من مخرج العين، أما سبب وضع هذا الرمز فهو -على ما يبدو- محاولة تجنب اللبس الناشئ عن استعمال الألف في تصوير الفتحة الطويلة بالإضافة إلى تمثيله الهمزة رسما. ويستنتج من هذا أن الهمزة نطقا كانت تكتب دائما بالألف قبل هذه المرحلة. أما بعد ابتكار الرمز الجديد "ء" فالأحداث تسير إلى أن الهمزة صارت تصور بهذا الرمز، ولكن في أشكال مختلفة: فهذا الرمز الجديد إما أن يكتب على ألف أو ياء أو واو أو على لا شيء طبقا لمواقع الهمزة في الكلمة. أما كتابتها فوق الألف "أو تحته على خلاف في ذلك إذا كانت مكسورة" فقد حددت لها مواقع محددة، وإضافتها إلى الألف هنا إنما هو توكيد للفرق بين الهمزة نطقا وبين الفتحة الطويلة التي تكتب بالألف هي الأخرى، ولكن بدون العلامة "ء"، وإنما كتبت على الياء تارة وعلى الواو أخرى مراعاة لحالات التخفيف، وقد تكفل ابن جني بتوضيح ذلك فيما تقدم1. ويلح علينا في هذا المجال سؤال مهم، هو: متى استعمل الاسم "الهمزة" أو "الهمز" للدلالة على ذلك الصوت المعروف "بالوقفة الحنجرية"؟ هذا سؤال كثر الكلام حوله، ولكنا -أسفا- لا نستطيع أن نأتي فيه بالقول الفصل، إذ ليست لدينا نصوص تحدد تحديدا دقيقا بداية ظهور هذا   1 "انظر ص52-53 من هذا البحث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الاسم بوصفه مصطلحا فنيا يطلق على الوقفة الحنجرية. ولكن من المحقق أن هذا الاسم بهذا المعنى كان معروفا أيام الخليل، وربما قبل زمنه، بل ربما امتدت بداية استعمال هذا المصطلح في هذا المعنى الجديد إلى زمن الخلفاء الراشدين. وهناك نصوص -إن صحت- تدل على هذا الاحتمال وتؤيده. فقد روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال: "نزل القرآن بلسان قوم وليسوا بأصحاب نبر، ولولا أن جبريل نزل بالهمزة على النبي صلى الله عليه وسلم ما همزتها"1. وفي هذا النص نلاحظ استعمال كلمة "نبر" في معنى الهمزة "أو الهمز"2، وهي في واقع الأمر المصطلح الأصلي الذي كان يطلق على الوقفة الحنجرية قبل أن تسمى همزة. والنبر -كما هو معروف- معناه في الأصل الضغط والحصر، وهو -كما ترى- معنى ملحوظ في نطق الهمزة. وعلى هذا يمكن أخذ هذا النص على أنه يمثل فترة بداية الانتقال من الاستعمال القديم "وهو النبر" إلى الاستعمال الجديد "وهو الهمزة" الذي تأكد وأصبح مقررا بابتكار الخليل له رمزا مستقلا. ونلاحظ على كل حال أن ابتكار الرمز الجديد "ء"، لم يمنع الناس من إطلاق الألف على الهمزة والفتحة الطويلة كلتيهما، وكان إطلاقه على الهمزة بطريق الأصالة، وعلى الفتحة الطويلة بطريق التوسع والمجاز. ولكن يبدو أن الأمر -بمرور الزمن- قد انعكس وأصبح الناس يظنون أن الألف أصل في الفتحة الطويلة، ولكنه يطلق على الهمزة بطريق الاشتراك في الاسم أو المجاز. وهذا الفهم واضح كل الوضوح من كلام بعض المتأخرين. جاء في شرح المراح:   1 مراح الأرواح وشرحه لابن كمال باشا ص98، وحفني ناصف تاريخ الأدب ص13. 2 قال ابن منظور: "النبر بالكلام: الهمز ... وفي الحديث، قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبئ الله1 فقال: "لا تنبر باسمي"، أي: لا تهمز وفي رواية: فقال إنا معشر قريش لا ننبر ... ولما حج المهدي قدم الكسائي يصلي بالمدينة، فهمز فأنكر أهل المدينة عليه، وقالوا: تنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن؟ ". لسان العرب، جـ6، ص4323. طبعة دار المعارف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 "يجوز إطلاق الألف على الهمزة إما حقيقة بالاشتراك على ما قيل وإما مجازًا لكونها على صورتها في بعض المواضع، أو لكونهما متحدين ذاتا"1. ويقرب من هذا المعنى ما يردده ابن كمال باشا في شرحه على المرجع المذكور، يقول: "سميت الهمزة ألفا، لأن الهمزة إذا وقعت أولا تكتب على صورة الألف ولأنهما متقاربان في المخرج"2. وفي هذا النص ما يدل على عدم إدراك واضح لتاريخ الألف وما عرض لاسمها من تطور في الاستعمال. أما عبارة صاحب الصحاح فيفهم منها أن المصطلح "ألف" يطلق على الصوتين بالتساوي بينهما. فالألف عنده "على ضربين": لينة ومتحركة، فاللينة تسمى ألفا "= فتحة طويلة aa" والمتحركة تسمى همزة. ولهذا المعنى حكم الفقهاء -زاد الله رفعة أعلامهم- بأن الحروف ثمانية وعشرون". فهذه العبارة قد قنعت بتسجيل الاستعمال الشائع بين الناس، دون الإشارة إلى التطور التاريخي لهذا الاستعمال، ودون تنبيه إلى الترتيب الزمني لإطلاق اسم "الألف" على مدلوليه.   1 شرح مراح الأرواح للمولى شمس الدين أحمد المعروف بديكنقوز ص56 والتعبير بكونهما "متحدين ذاتا" تعبير غير دقيق لوجود فروق كبيرة بين الهمزة "الوقفة الحنجرية" وألف المد، على ما سيتضح لنا في مكانه. 2 شرح مراح الأرواح لابن كمال باشا ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الواو والياء المدلول الأول ... الواو والياء: فكرة تاريخية: تطلق الواو والياء في اللغة العربية قديمها وحديثها على مدلولين صوتيين مختلفين. فهما اسمان "ورمزان كذلك" للواو والياء في نحو: ولد، يلد: "walada"؛ "yalidu" كما يدلان "ويصوران أيضا" الواو والياء في نحو: نتلو، نرمي: "narmii"؛ "natluu". وهما في الحالة الأولى يعرفان في الدرس الصوتي الحديث بأنصاف الحركات "Semi-vowels"، ولكنهما -بالرغم من هذه التسمية- يعدان وحدتين أو عنصرين في نظام الأصوات الصامتة "Consonants". أما في الحالة الثانية فهما حركتان "Vowels", ونعني بهما الضمة والكسرة الطويلتين، أو ما يشار إليهما بواو المد ويائه في التراث اللغوي عند العرب. المدلول الأول: يؤخذ من تاريخ اللغات السامية بوجه عام أن هذا المدلول هو الأصل الذي وضعت له التسمية بالواو والياء، وأنه وحده هو الذي ظل يشار إليه بهذه التسمية لمدة غير قصيرة، ذلك لأن علماء هذه اللغات كانوا يوجهون عنايتهم بالدرجة الأولى إلى الأصوات الصامتة أو "الحروف"، على حين كانوا ينظرون إلى الحركات قصيرها وطويلها- كما لو كانت شيئا ثانويا أو شيئا عارضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 يلحق بهذه "الحروف"1، ولا توجد إلا بوجودها. وهناك في اللغة العربية من الأدلة ما يشير إلى هذه الحقيقة ويؤكدها. أولا: يبدأ كل من الاسمين "واو" و"ياء" بالصوتين "و" و"ي" بوصفهما صامتين لا بوصفهما حركتين، تمشيا مع القاعدة المشهورة الخاصة بالأصوات العربية، وهي أن قيم هذه الأصوات يعبر عنها دائما بصدر أسمائها. وليس لنا أن نفترض أن يكون المقصود بهذين الاسمين الواو والياء بوصفهما حركتين، وذلك للسببين الآتيين: 1- نطق صدر الاسمين "واو" و"ياء" إنما ينطبق على الواو والياء بوصفهما الأول دون الثاني، إذ جاء هذا الصدر متلوا بحركة، كما وقع في ابتداء الكلمة، وهما أمران غير جائزين بالنسبة للحركات في اللغة العربية. 2- الحركات الطويلة "long vowels" "واوًا كانت هذه الحركات أو ياء أو ألفا" تعد في نظر العرب أصواتا ساكنة، ومن ثم -في نظرهم أيضا- لا يمكن النطق بها وحدها، أو البدء بها في النطق، ولهذا كان من الضروري دعمها بصوت متحرك، كاللام مثلا، كما حدث للألف المدية، حيث وردت في الألفباء الإملائية بالصورة "لا"، عند أولئك الذين يرون ضرورة تخصيص رمز لها2. فعدم مجيء الواو والياء على هذا النهج ونحوه دليل قاطع على أن المراد بهذين الاسمين "على الأقل في أصل الوضع" إنما هو الواو والياء الصامتتان.   1 قد يطلق المصطلح "الحروف" أيضا على الواو والياء بوصفهما حركتين، ولكن القاعدة حينئذ: وجوب إضافة كلمة المد أو المد واللين إلى هذا المصطلح، بحيث إذا ذكر بدون هذه الإضافة انصرف في الحال إلى الأصوات الصامتة وحدها. 2 انظر: سر صناعة الإعراب لابن جني، جـ1 ص48-49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ثانيا: يشير ترتيب سيبويه للأصوات العربية من حيث مخارجها إلى أن المقصود بالواو والياء هو مدلولهما الأول، وهو كونهما صوتين صامتين. لقد وضع هذا العالم الياء مع الجيم والشين، ونص على أن مخرجها إنما يكون " ... وسط اللسان، بينه وبين وسط الحنك الأعلى"، كما وضع الواو بصحبة الباء والميم وقرر أنها "مما بين الشفتين". وقد سلك ابن جني هذا المسلك نفسه من حيث ترتيبهما في الألفباء الصوتية، ومن حيث تحديد مخرجيهما، وحرص على أن ينقل كلمات سيبويه في هذا المجال بنصها دون أدنى تغيير1. وما قرره هذان العالمان بهذا الشأن إنما يناسب الواو والياء غير المديتين، إذ الواو والياء المديتان أو الحركتان إنما ينسب نطقهما إلى وضع اللسان في الفم من حيث ارتفاعه وانخفاضه، ومن حيث جزؤه المرتفع أو المنخفض، كما سنرى فيما بعد عند مناقشة الواو والياء بوصفهما حركتين. أما الخليل فقد سلك في هذا الأمر مسلكا آخر، إذ هو قد وضع الواو والياء "ومعهما الألف والهمزة" في ترتيب يخالف ما أتى به الشيخان المذكوران. لقد وضع الخليل هذه "الحروف" الأربعة في نهاية ألفبائه الصوتية في مجموعة واحدة بعد تلك الحروف التي سماها هو "الحروف الصحاح". ويبدو أن هذا الترتيب لهذه الأصوات الأربعة ليس ترتيبا مخرجيا وإنما هو ترتيب لها من حيث مخالفتها للحروف الأخرى من الناحية الصرفية، أي: من حيث ما يطرأ عليها من تغير أو اعتلال في الكلمة: فهذه الحروف -في نظره- حروف علة والحروف الأخرى حروف صحاح2.   1 الكتاب لسيبويه، جـ2 ص404-405، وسر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص50-53. 2 كتاب العين للخليل بن أحمد، تحقيق د. عبد الله درويش جـ1 ص53 و65. ومن الواضح أن الخليل قد أخطأه التوفيق في وضعه الهمزة مع الألف والياء والواو، إذ الهمزة في كل صورها وحالاتها صوت صامت أو حرف صحيح "على حد تعبيرهم" وليس حرف علة. أما ما يحدث من عدم نطقها في لهجة التخفيف أو التسهيل كما يقولون، فهذا أمر آخر، ينبغي أن ينظر إليه على حالته الموجودة بالفعل، لا على أساس أنه الصوت الموجود مكان الهمزة "ألفا كان أو ياء أو واوا" المقلوب عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ومن هذا الترتيب الذي صنعه الخليل يصعب على المرء أن يحدد صفة الواو والياء من الناحية الصوتية، أو أن يبين بالدقة ما إذا كان المقصود بهما كونهما صامتين أو كونهما حركتين. وتتأكد هذه الصعوبة حين نعلم أن خاصة الاعتلال تطبق على الواو والياء بصفتيهما المذكورتين. على أن هناك في أثناء كلامه على مدارج الحروفي وأحيازها "مخارجها" ما يوحي بأنه يعني بهذين الحرفين الواو والياء المديتين أو الحركتين، إذ هو يصفهما "ومعهما الألف والهمزة" وصفا أقرب ما يكون إلى الحركات لا الأصوات الصامتة. يقول الخليل: "في العربية تسعة وعشرون حرفا، منها خمسة وعشرون حرفا صحاحا، لها أحياز ومخارج، وأربعة هوائية، وهي: الواو، والياء، والألف اللينة، والهمزة". ومرة أخرى، يسقط الهمزة من هذه المجموعة، ويضم الواو والياء إلى الألف وينسب الثلاثة إلى حيز واحد وهو "الهواء"1. فنسبة هذه الأصوات إلى الهواء أو وصفها بأنها هوائية قد يعني -بشيء من الحذر- ما نعرفه اليوم عن أهم خاصة من خواص الحركات في النطق. وهذه الخاصة تتمثل في مرور الهواء من خلال الحلق ووسط الفم حرا طليقا لا يقف في طريقه عائق أو مانع من أي نوع. ونقول -بشيء من الحذر، لأن هناك احتمالا آخر يسوغ لنا افتراضه في هذا المقام- لعل الخليل هنا يعني الواو والياء الصامتتين، ولكنه أخطأ في مذاقهما، أو لعله ذاقهما مذاق الحركات، فكان هذا الوصف المشار إليه. وذواق الواو والياء الصامتتين ذواقهما حركتين أمر ليس ببعيد على الخليل أو غير الخليل من قدامى ومحدثين. فمن الثابت أن نطق صوتي الواو والياء الصامتتين يشبه نطق صوتيهما بوصفهما حركتين إلى حد ما، ولهذا كانت تسميتها "أنصاف حركات" Semi-vowels، ومن هنا كانت مظنة الخلط   1 المرجع السابق ص64-65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 بين الحالتين. ولهذا السبب نفسه يرى المحققون من الدراسين أن التفريق بين حالتي الواو والياء إنما ينبغي أن يكون على أساس الوظيفة التي تقوم بها هذه الأصوات في التركيب الصوتي للغة، لا على أساس النطق الصرف. ثالثا: لم تذكر الواو والياء في الألفباء الإملائية ذات الترتيب المألوف لنا الآن "أب ث ج ح خ ... إلخ" إلا مرة واحدة. وتشير دلائل الأمور في مجموع التراث اللغوي عن العرب إلى أن المراد بهما الواو والياء الصامتتان لا الحركتان. وهذا الافتراض يتمشى مع اتجاههم العام الذي ينحو نحو الاهتمام بالأصوات الصامة دون الحركات. ولنا أن نفترض كذلك أن هذا الوضع كان هو المقصود في الأصل في الأقل. ولم يكن هناك ما يمنع -بالطبع- من استغلال رمزي هذين الصوتين واستخدامهما في كتابة الواو والياء "الحركتين" كما حدث في الماضي وما هو حادث الآن بالفعل. ويؤيدنا في هذا الفهم ما جاء عن باحث حديث، مشيرا إلى هذا الاتجاه من علماء العربية نحو الحركات عموما، أو ما سماها هذا الباحث أصوات اللين. يقول: "وأصوات اللين مع أنها عنصر رئيسي في اللغات ومع أنها أكثر شيوعا فيها، لم يعن به المتقدمون من علماء العربية، فقد كانت الإشارة إليها دائما سطحية، لا على أنها من بنية الكلمات بل كعرض يعرض لها، ولا يكون منها إلا شطرا فرعيا. وليست العربية وحدها هي التي أهمل في بحثها أصوات اللين. بل شاركتها في هذا أخواتها السامية. ولعل الذي دعا إلى هذا الانحراف أن الكتابة السامية منذ القديم عنيت فقط بالأصوات الساكنة "الصامتة" فرمزت لا برموز. ثم جاء عهد عليها أحس الكتاب بأهمية أصوات اللين الطويلة كالواو والياء الممدودتين فكتبوهما في بعض النقوش والنصوص القديمة"1.   1 دكتور إبراهيم أنيس: "بحث في اشتقاق حروف العلة"، مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية المجلد الثاني سنة 1944، ص104، 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 المدلول الثاني : نعني بهذا المدلول كون الواو والياء حركتين طويلتين "أو كما يسميهما البعض صوتي مد ولين"، كما في نحو: أقول وأبيع. ولقد جاء هذا المدلول تابعا في الوجود للمدلول الأول، حين شعر العلماء بضرورة تصوير هاتين الحركتين في الكتابة، فاستغلوا رمزي الواو والياء الصامتتين للدلالة عليهما. ويمكن فهم هذا المعنى من النص السابق للباحث المذكور. وربما كان أصرح منه في هذا المجال قول رايت W. Wright: إن العرب لم يكن لديهم في الأصل علامات للحركات القصيرة. وللدلالة على الحركات الطويلة والحركات المركبة استخدموا "رموز" تلك الأصوات الصامتة الثلاثة التي تعد أقرب الأصوات إليها في النطق، أي "ا" "بدون علامة الهمزة" للدلالة على a و "ي" الدلالة على "i" و"ai" و "و" للدلالة على u و1au. ويؤخذ من كلام رايت أن العرب هم الذين ابتدءوا استغلال رموز هذه الأصوات الصامتة الثلاثة في الدلالة على الحركات الطويلة الثلاث "ألف المد، وواوه، ويائه". ولكن المعروف أن العرب كانوا تابعين في ذلك لما جرى في بعض اللغات السامية كالعبرية والآرامية. ودليل ذلك أنا نلحظ في الكتابة العربية في أقدم عصورها آثارا تدل على أن كتابتهم لهذه الحركات تمثل مرحلة انتقالية. تتمثل هذه المرحلة في عدم اطراد أسلوب الكتابة فيما يتعلق بهذه الحركات الثلاث، حيث جاءت كلمات كثيرة بدون رموز لها في الكتابة. وبقيت هذه الآثار واضحة في كثير من النصوص، كما يبدو في "الخط العثماني" الذي كتب به القرآن الكريم في زمن عثمان رضي الله عنه. ولدينا من أمثلة الواو والياء في ذلك نحو: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: آية 18] ، {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6] ، و {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر: آية 8] 2. وفي   1 انظر: W.Wright A Grammar of Arabic Language. vol. l, p. 7. 2 أمثلة الألف في ذلك كثيرة جدا وقد أشرنا إلى بعضها فيما تقدم، انظر ص60 من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الجانب الآخر من الصورة توجد الأمثلة الكثيرة التي تثبت فيها رموز الحركات الطوال في مرحلة متقدمة من تاريخ العربية. ويدل هذا السلوك غير المطرد على أن الكتابة العربية في هذا الشأن كانت تتأرجح بين طريقين: الطريق القديم المعهود بها والمعروف لدى أصحابها، وهو عدم الإشارة إلى هذه الحركات في الكتابة، والطريق الجديد الذي انتقل إليها من أخواتها الساميات، والذي يعني بتصوير هذه الحركات بالرموز: وهذا هو شأن مراحل الانتقال دائما. ولنا على كلام رايت السابق ملاحظة أخرى جديرة بالنظر في هذا المقام وهذه الملاحظة ذات شقين: الأول: يدل كلام هذا الباحث على أن كلا من الواو والياء في نحو حوض وبيت يكون جزءا من حركة مركبة diphthong، جزؤها الآخر هو الفتحة السابقة عليهما، وتمثل هذه الحركة المركبة في الكتابة هكذا: "au =وْ"، "ai = َيْ". وهذا التقدير في نظرنا تقدير غير صحيح؛ إذ الواو والياء في هذا الموقع ونحوه ليستا جزأين من حركتين "ولا حركتين بالطبع"؛ بل هما صوتان صامتان consonants أو ما يسميان بالاسم "أنصاف حركات"؛ لشبههما الواضح بالحركات في النطق. وهذا الذي ندعيه مبني على أساس الخواص النطقية والوظيفية للصوتين: فتحة + واو أو ياء ساكنة "غير متحركة". أما من حيث النطق. فهذه المجموعة combination لا تنطبق عليها الصفات النطقية للحركات المركبة التي تتمثل أساسا في أن أعضاء النطق تبدأ في منطقة حركة من حركات وتسير مباشرة في اتجاه حركة أخرى، مكونة حركة واحدة ذات خاصة انزلاقية a vowel-glide. وهذه الصفة الانزلاقية مفقودة في نطق الفتحة العربية متلوة بواو أو ياء ساكنة، إذ يحدث في نطقها أن تنتقل أعضاء النطق من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 منطقة إلى أخرى محدثة نوعا من الانفصال في تحركها، فهما إذن صوتان مستقلان، أحدهما: فتحة والثاني: واو، أو ياء صامتة، أو نصف حركة. وهذا الذي نشعر به من ناحية النطق تؤكده وظيفة هذه الأصوات في تركيب اللغة، فكل من الفتحة والواو أو الياء في هذا السياق وحدة مستقلة، وتنتمي إلى جنس معين من الأصوات، فالوحدة الأولى وهي الفتحة تقوم بوظيفة الحركات، والثانية وهي: الواو، أو الياء تؤدي دور الأصوات الصامتة. ويظهر ذلك بوضوح في سلسلة التوزيع الصرفي للكلمات التي تشتمل عليها من نحو: أحواض، وأبيات، حيث تتبع الواو والياء بحركة "هي الفتحة الطويلة في هذه الحالة"، وهذه خاصة تستحيل على الحركات أو أجزائها في اللغة العربية. والحكم بأن الواو والياء في نحو: حوض وبيت جزءان من حركات مركبة خطأ مشهور وقع فيه المستشرقون منذ زمن طويل، وتابعهم فيه كثير من اللغويين العرب المحدثين، وبخاصة أولئك الذين يعملون في حقل الدراسات السامية، وليست لهم الخبرة الكافية بالدراسات الصوتية الحديثة. أما الشق الثاني مما نلاحظه على "رايت" في هذا السياق فهو ما يفهم من كلامه من أن الواو والياء في مثل حوض وبيت إنما أشير إليهما في تلك المرحلة الثانية التي جرت فيها كذلك كتابة الواو والياء الممدودتين في نحو: أدعو وأرمي. وهذا الفهم -على حد علمنا- يخالف المشهور والمعروف في الآثار العلمية التي عرضت لموضوع الخط العربي والسامي بوجه عام. فهناك تشير الدلائل إلى أن الواو والياء في "حوض وبيت" ونحوهما كانتا تصوران في الكتابة السامية في المرحلة الأولى التي كانت العناية فيها موجهة إلى الأصوات الصامتة، والتي تمت فيها كتابة جميع هذه الأصوات ومن بينها الواو والياء، الصامتتان في مثل: ولَد، يَلد. ثُم بعد فترة من الزمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وفي مرحلة تالية استخدم الرمزان "و، ي" للدلالة على الواو والياء الممدودتين فقط. ولعل مما يؤيد هذه النظرة ما يفترضه بعضهم من أن الرمزين "و، ي" الدالين في الأصل على الواو والياء الصامتتين، إنما استخدما في تصوير الواو والياء الممدودتين "الحركتين الطويلتين" لما رآه الناس من تطور الواو والياء الصامتتين في نحو: حَوْض وبَيْت "hawd, bayt" إلى حركتين طويلتين، أي: حُوض، وبِيت "hood, beet" كما تنطقان الآن في العامية المصرية. ومعناه أنه على الرغم من تطور النطق ظل الخط ثابتا على حاله الأول أي مشتملا على الواو والياء، كما كانت قبل هذا التطور. ثم انتقل هذا الاستعمال فيما بعد إلى كل واو وياء ممدودة، في نحو: أدعو وأرمي لاشتراكهما في الطول مع الواو والياء في "حوض وبيت" في النطق المتطور. واستخدام الرمزين "و، ي" الدالين على الواو والياء الصامتتين في وَلد يَلد، وحَوْض وبَيْت، لتصوير الواو والياء الحركتين الطويلتين في أدعو وأرمي تفسره أسباب مختلفة، منها: 1- ما سبق أن ألمعنا إليه من تطور الواو والياء في حوض وبيت إلى حركتين طويلتين، وهذا هو المشهور بين دارسي اللغات السامية، ومعناه أن اللغة العربية قلدت أخواتها الساميات في هذا الاستغلال، على الرغم من فقدان السبب الأصلي فيها؛ إذ بقيت الواو والياء في هذه اللغة في هذين المثالين بحالهما ولم يتطورا حتى الآن إلى حركتين طويلتين، بعكس ما يدعي أنه حدث في غيرها من اللغات السامية. والحق أن هذا السبب يبدو واهيا في نظرنا، إذ الحركتان الطويلتان في "حُوض وبِيت" بالنطق المتطور، لم تتطورا عن الواو والياء وحدهما كما ادعى هؤلاء الدارسون، وإنما تطورتا عن صوتين مجتمعين، هما الفتحة والواو والفتحة والياء، قارن الأمثلة الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 2- وأدق من هذا السبب بالنسبة للغة العربية ما نراه نحن من أن هذا الاستغلال لهذين الرمزين إنما كان نتيجة لتطور في النطق في نماذج أخرى من الكلمات. هذه النماذج تمثلها صيغ الفعل المضارع الأجوف والناقص مما كان على وزن يَفْعُل ويفْعِل، نحو: يقول، يبيع ويغزو ويرمي. ففي رأينا أن الواو والياء الممدودتين في هذه الصيغ تطورتا "تاريخيا وليس أمرا افتراضيا كما يظن الصرفيون" عن واو وياء صامتتين متلوتين بحركات1. قارن الأمثلة الآتية: وهذه النماذج ونحوها كانت المنطلق إلى استخدام الواو والياء الدالتين على صوتين صامتين في الدلالة على واو المد ويائه. 3- على أن هناك سببا علميا واضحا لهذا الاستغلال، وهو الشبه الصوتي بين الواو والياء في حالتيهما: كونهما صوتين صامتين وكونهما حركتين. فنطقهما إذا أخذتا منعزلتين يشتمل على خواص صوتية معينة متشابهة في الحالتين. ولهذا نرى وجوب التفرقة بينهما في الحالتين على أساس قيمهما في التركيب الصوتي للغة لا على أساس النطق الخالص.   1 سيدرس هذا الموضوع بالتفصيل في فرصة أخرى إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 "واي" في الألفباء الإملائية: ومهما يكن من أمر فقد نتجت عدة مشكلات من التطور في استعمال الواو والياء من التغير التاريخي الذي لحق مدلوليهما على مر الزمن. وتشترك الألف معهما في هذا الموضوع نفسه. هذه المشكلات تنعكس بصفة خاصة على الألفباء التقليدية ونظمها المختلفة. نحن نعلم أن هناك نظامين للألفباء: أما أحدهما: فقديم، ويقل استعماله في الوقت الحاضر. يتألف هذا النظام من تسعة وعشرين حرفا "رمزا"، تبدأ بالألف وتنتهي بالياء. غير أن رمز الألف قد ذكر مرتين: إحداهما في أول الألفباء والثانية قرب نهايتها مع وصل هذا الرمز بحرف اللام هكذا "لا"، على حين ذكرت الواو والياء مرة واحدة. وممن اختار هذا النظام ابن جني يقول: "اعلم أن أصول حروف المعجم عند الكافة تسعة وعشرون حرفا"1. وتفسير ما فعله ابن جني ومن لف لفه هو أنهم يخصصون الألف الأولى للهمزة على الأصل في ذلك، والثانية للفتحة الطويلة بطريق استغلال الصورة الكتابية. وهذا التفسير واضح من كلام ابن جني نفسه، حيث يقول: "اعلم أن الألف التي في أول حروف المعجم هي صورة الهمزة"2، ثم يقول أيضا: "فأما المدة التي في نحو: قام وسار وكتاب وحمار فصورتها أيضا صورة الهمزة المحققة التي في: أحمد، وإبراهيم، وأترجة، إلا أن هذه الألف لا تكون إلا ساكنة، فصورتها وصورة الهمزة المتحركة واحدة وإن اختلف مخرجاهما"3.   1، 2 ابن جني: سر صناعة الإعراب جـ1 ص46، وانظر ابن يعيش شرح المفصل جـ10 ص126. 3 ابن جني السابق: ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ومعنى هذا أن هؤلاء القوم قد أبقوا الاسم القديم "الألف" لإطلاقه على الهمزة "نطقا ورسما" واستغلوا صورته "واسمه كذلك لكن بإضافة كلمة المد إليه" للدلالة على الفتحة الطويلة، ثم وصلوا صورة الألف باللام في الحالة الثانية حتى "نتمكن من النطق بها". قال ابن جني: "واعلم أن واضع حروف الهجاء لما لم يمكنه أن ينطق بالألف التي هي مدة ساكنة -لأن الساكن لا يمكن الابتداء به1- دعمها باللام قبلها متحركة ليمكن الابتداء بها، فقال: هـ. و. لا. ى. فقوله: "لا" بزنة "ما ويا"، ولا تقل -كما يقول المعلمون- لام ألف"2. أما علة اختيار اللام بالذات لدعم ألف المد فلابن جني فيه تفسير لطيف، ولكنه لا يعنينا في هذا المقام3. ونستطيع أن نستنتج من منهج أصحاب هذا الرأي أنهم يفضلون أو يميلون إلى كتابة الهمزة بالألف دائما، حيث خصصوا للهمزة رمزا مستقلا وللفتحة الطويلة رمزًا آخر، وإن اتفقا في الصورة والرسم. وقد سبق أن قررنا أن هذا هو ما يفهم من كلام ابن جني الذي صرح فيه بقوله: "اعلم أن الألف التي في أول حروف المعجم هي صورة الهمزة، وإنما كتبت الهمزة واوا مرة وياء أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف. ولو أريد تحقيقها ألبتة لوجب أن تكتب ألفا على كل حال. يدل على صحة ذلك أنك إذا أوقعتها موقعا لا يمكن فيه تخفيفها -ولا تكون فيه إلا محققة- لم يجز أن تكتب إلا ألفا، مفتوحة كانت أو مضمومة أو مكسورة. وذلك إذا وقعت أولا نحو: "أُخذ، أُخذَ، وإِبرهيم" فلما وقعت موقعا لا بد فيه من تحقيقها اجتمع على كَتْبِها ألفا   1 الواقع أن ابن جني لم يوفق -كما لم يوفق غيره- في هذه العبارة، فالثابت أن الفتحة الطويلة وكذلك كل حركة يمكن النطق بها وحدها، والذي جر ابن جني إلى هذا القول هو نظرتهم إلى الحركات عموما بأنها أشياء ثانوية تابعة للصوت الصحيح، وإلى أصوات المد خصوصا بأنها ساكنة أي غير متحركة، مع العلم بأن أصوات المد نفسها ليست إلا حركات. 2 المرجع السابق ص48-49. 3 المرجع السابق ص49-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ألبتة. وعلى هذا وجدت في بعض المصاحف "يستهزأون" بالألف قبل الواو، ووجد فيها أيضا: "وإن من شيأ إلا يسبح بحمده" بالألف بعد الياء، وإنما ذلك لتوكيد التحقيق"1. وهذا الذي جرى عليه ابن جني وأصحابه بالنسبة للألف عمل جيد في حد ذاته من وجهة النظر الصوتية؛ إذ هم قد خصصوا لكل صوت رمزا مستقلا: فالهمزة رمزها الألف الأولى، والفتحة الطويلة رمزها الألف الثانية. ولا ضير أبدا من تشابه الرسم والصورة، فهذه ضرورة مقبولة عند الحاجة، ويمكن التمييز بين صورتي الرمز بعلامات إضافية توضع فوق إحدى الصورتين أو تحتهما أو تتصل بهما، كما هو حادث بالفعل في المشكلة الحالية. فصورة الألف عند دلالتهما على الهمزة تصاحب -قاعدة- بوضع العلامة الإضافية "ء" التي ابتكرها الخليل، على حين تخلو الصورة الثانية من آية علامة عند دلالتها على الفتحة الطويلة. وجواز وضع العلامات الإضافية على الرموز الأساسية أو اتصالها بها أمر مقبول معترف به في الكتابات الصوتية Phonetic transcription، حيث تسمى الحروف الأساسية symbols "رموزا" والعلامات الإضافية علامات مميزة diacritical marks. أما بالنسبة للواو والياء، فالأمر يحتاج إلى نظر. إن النص في الألفباء على رمزين "أو صورتين مختلفتين لرمز واحد"، أحدهما: للهمزة والثاني: للفتحة الطويلة -هذا النص- فيما نعلم- يقصد به شيء مهم، هو التفريق بين صوتين مختلفين هما: الألف بوصفها همزة وهي حينئذ صوت صامت consonant أو ما سموه الحرف الصحيح، وبين الألف بوصفها فتحة طويلة وهي حينئذ حركة vowel أو ما سموه ألف المد واللين. هذا العمل كان يوجب على ابن جني ومن سار على دربه أن يسلكوا الطريق نفسه مع الواو والياء. فمن الثابت -كما أشرنا من قبل- أن لكل من الواو والياء قيمتين مختلفتين.   1 المرجع السابق ص46-47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الأولى كون كل منهما صوتا صامتا consonant أو ما يسمى أحيانا "نصف حركة" semi-vowel، والثانية كون كل منهما حركة أو ما يسميها علماء العربية حينئذ واو المد وياءه. فَلِمَ إذن اكتفى أصحاب هذا المنهج بذكر الواو والياء مرة واحدة في الألفباء؟ أوليس الحال مع الواو والياء بحاجة إلى رمزين مختلفين "أو صورتين مختلفتين لهذين الرمزين" للدلالة على القيمتين المختلفتين لهما؟ هناك ثلاثة احتمالات للإجابة عن هذين السؤالين: 1- لعلهم اقتصروا على ذكر الواو والياء مرة واحدة، اقتداء بالنهج القديم الذي كان يهمل كتابة الواو والياء الممدودتين. ومن ثم لم تكن هناك حاجة إلى تخصيص رمزين مستقلين لهما، واكتفوا -بناء على ذلك- بالنص على الواو والياء الصامتتين وحدهما. ويرجح هذا الاحتمال ما كان يجري في الفترات الأولى للخط العربي من عدم اطراد كتابة الواو والياء الممدودتين، فقد كانوا يكتبونهما أحيانا ويهملونهما أحيانا أخرى. 2- يبدو أن بعضهم لم يدرك حقيقة الفروق الصوتية بين حالتي الواو والياء. ونعني بها تلك الفروق التي ترتبط بوظائفهما وقيمهما في التركيب الصوتي للغة، ولا نعني بذلك ما قد يبدو بين الحالتين من خلاف في خواص النطق وسماته. وبهذا لم تبرز أمام هؤلاء الباحثين أية حاجة تدعوهم إلى وضع رموز مستقلة لكل حالة. 3- لعلهم أدركوا قوة الشبه بين حالتي الواو والياء من حيثُ النطق الفعلي، إذ كل واحدة منهما تنطق في حالتيها بصورة يصعب معها التمييز بين هاتين الحالتين أو الفصل بينهما بصفة قاطعة. وإلى هذا المعنى يشير أحد الباحثين، فيقول: "أما فيما يخص الياء والواو فإن مخرجهما يبقى كما هو، ساكنتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 كانتا أو متحركتين، وإنما الذي يتغير هو سلوكهما. فالمتحركة ياء كانت أو واوا تكتسب قوة أكبر، إذ يمكن أن تكون مثل الحروف الصحيحة، وهي كذلك فعلا، حيث يكون لكل مخرج حرف مستقل. من أجل هذا لم يصور العرب هذه الحروف بصورتين: ياء ساكنة وياء متحركة، واوًا ساكنة، وواوًا متحركة. وإنما صوروها بصورة هذا الحرف الوحيد، فقد اشتمل الحرف على الإمكانيتين: المصوت وهو الكسرة: "i" أو الضمة: "u"، والصامت وهو الياء: "y" أو الواو: "w""1. ومعنى هذا أن علماء العربية اكتفوا باستغلال الواو والياء الصامتتين في الدلالة على الواو والياء الممدودتين، وبخاصة أن هذا الاستغلال تسوغه حقيقة تاريخية تتمثل في ذلك التطور الذي لحق الواو والياء الصامتتين في بعض الصيغ، وصيرهما "مع ما يصحبهما من حركات" إلى حركات طويلة. وبهذا يكون لكل من الواو والياء مدلولان مختلفان في الألفباء: كونهما صوتين صامتين، وكونهما حركتين. وهذا الاحتمال الأخير يعني أن علماء العربية كانوا يدركون أن الواو والياء قيمتين صوتيتين، كما أدركوا كذلك أن للألف قيمتين. وهذا الإدراك في رأينا كان يوجب عليهم أن يقفوا من الرموز الدالة على الواو والياء في حالتيهما المختلفتين موقفهم من الألف في حالتيها، حيث خصصوا لكل حالة رمزا، أو بعبارة أخرى، حيث نصوا في الألفباء على رمزين اثنين للألف أو صورتين مختلفتين لها. فإذا ما فرقنا بين حالتي الألف، وجب -بالمثل- التفريق بين حالتي الواو والياء. وكان مقتضى ذلك أن يضع أصحاب هذا النظام الألفبائي رموزا   1 الأب. هنري فليش "التفكير الصوتي عند العرب" ترجمة د. عبد الصبور شاهين، بحث مستخرج من مجلة اللغة العربية، العدد 22 سنة 1968 ص12. وكان الأَوْلى أن يقول: "الكسرة الطويلة "ii" أو الضمة الطويلة "uu"، إذ الياء والواو بوصفهما مصوتين حركتان طويلتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 مستقلة، أو علامات مميزة، لكل من الواو والياء عندما يكونان حركتين "حرفي مد"، كأن يقولوا مثلا: "لام واو"، و"لام ياء", كما قالوا: "لام ألف". وقد أدرك هذا الذي نقوله -من قبل- باحث حديث ولغوي ذواقة هو الأستاذ حفني ناصف. يقول: "والذي ذكر "لام ألف" في الحروف كان عليه أن يذكر "لام واو" و"لام ياء"1. وفي هذا ما يشير بوضوح إلى أن هذا الباحث الكبير كان يدرك القيم الصوتية المختلفة لكل من الألف والواو والياء. وتدل عبارته التالية على عمق وأصالة في البحث الصوتي، كما تنبئ عن عبقرية في فهم الحقائق وتصويرها بصورة يندر وجود مثلها في كتابات كل من تعرض لهذه القضية وأمثالها من قضايا اللغويين. يقول في تلخيص المشكلة وتفسيرها: وكلمة "ألف" المذكورة في أول الحروف وكلمتا "واو" و"ياء" المذكورتان في آخرها من قبيل المشترك اللفظي، فالأولى تطلق على الألف في نحو: "أُمْر وإِمْر وأُمِر ومرء" وتسمى: بالألف اليابسة، وبالهمزة، وتطلق على الألف في نحو: "قال" وتسمى: بالألف اللينة وألف المد وهي المراد من حرف "لام ألف" عند من ذكرها في حروف المعجم ... والثانية تطلق على الواو في نحو: "صفوًا وصفوٍ وصفوٌ" وتطلق على الواو في نحو: "محمود" وتسمى واو المد. والثالثة تطلق على الياء في نحو: "سعيًا وسعيٍ وسعيٌ" وعلى الياء في نحو: جميل وتسمى ياء المد2. ونأخذ من كلام هذا الباحث حقيقة مهمة -نص عليها هو نفسه- وهي أن الأصوات المرموز إليها في العربية بحروف الألفباء. "سواء عددتها ثمانية وعشرين رمزا كما هو رأيه أم تسعة وعشرين كما هو رأي غيره" واحد وثلاثون صوتا. ويؤكد هو هذا المعنى فيقول: "فأسماء الحروف الأصلية ثمانية وعشرون ومسمياتها واحد وثلاثون، لأن   1 حفني ناصف: تاريخ الأدب ص11. 2 حفني ناصف: تاريخ الأدب ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ثلاثة من الأسماء تدل على ستة من المسميات. وهذه الثلاثة هي، كما سبق الألف والواو والياء إذ كل واحد منها يكون مدا وغير مد"1. أما النظام الثاني للألفباء العربية؛ فهو ذلك النظام المشهور والمعروف بيننا الآن، وهو الذي تسير عليه وزارة التربية والتعليم بجمهورية مصر العربية. وألفباء هذا النظام تتألف من ثمانية وعشرين رمزا فقط، فلم تذكر فيه الواو والياء إلا مرة واحدة، ولم تأخذ في حسبانها الألف في "لا" مكتفية بالألف الموجود في أول الألفباء، على أن يؤدي وظيفتين مختلفتين "اسما ورمزا"، فيطلق على الهمزة، وعلى الفتحة الطويلة "ألف المد" كلتيهما. ويكون لفظ "الألف" حينئذ من قبيل المشترك اللفظي، كما قرر ذلك حفني ناصف في كلامه السابق. وهذا النظام -في رأينا- أوفق وأقرب إلى الواقع، لأن تخصيص رمز مستقل للفتحة الطويلة، يوجب تخصيص رمز مستقل لكل من الواو والياء، عندما تكونان حركتين طويلتين "uu" و"ii" كما سبق أن بينا عند مناقشة النظام الأول. غير أنه ينبغي على أتباع هذا النظام أن يدركوا حقيقة مهمة، وهي أن كلا من الألف والواو والياء في ألفبائهم يعني شيئين اثنين لا شيئا واحدا، أحدهما: صوت صامت consonant. وهو الهمزة والواو والياء والثاني: حركة "أو حرف مد" وهو الفتحة الطويلة والضمة الطويلة والكسرة الطويلة. ولكن هل يعلم رجال وزارة التربية ذلك؟ ربما، وقليل ما هم. على أن لنا رأيا خاصا في هذه المشكلة نعرضه في كلمات: نحن نختار نظام الألفباء المكون من ثمانية وعشرين رمزا، ولكن بشرط أن تكون هذه الألفباء الأصوات الصامتة فقط consonants. وهذا معناه أن الألف في   1 حفني ناصف: تاريخ الأدب ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أول الأبجدية لا تعني حينئذ إلا الهمزة، وأن الواو والياء في آخرها يعنيان فقط الواو والياء عندما يكونان صوتين صامتين كذلك، كما في نحو: "وَلد، ويَضرب"، على هذا تكون الرموز ثمانية وعشرين والأصوات "الرئيسية" كذلك ثمانية وعشرين، وكلها أصوات صامتة. وهذا المنهج له مَزِيَّتانِ: 1- اتباع السبيل التقليدي في أكثر ألفباءات اللغات الأخرى حيث تضع هذه اللغات نوعين من الألفباء: إحداهما للأصوات الصامتة والثانية للحركات. 2- البحث اللغوي الدقيق يفضل هذا المنهج لتأكيد الفرق بين الأصوات الصامتة والحركات، ولتجنب الخلط الذي قد ينشأ من وضع رمز "وليكن رمز الواو مثلا" في ألفباء الأصوات الصامتة، على حين أنه يستغل كذلك في الدلالة على حركة. ومقتضى ما نقول: وجوب وضع نظام للألفباء العربية مكون من قسمين رئيسيين؛ أحدهما مكون من رمز الأصوات الصامتة، والثاني من رموز الحركات. وهذا النظام بالذات أوفق وأنسب بالنسبة للغة العربية بوجه خاص؛ إذ إننا حين نفعل ذلك نستطيع إدخال رموز الحركات القصيرة ضمن نظام الحركات بعامة، لا أن نتركها هكذا مهملة أو شبه مهملة، أي: دون وضعها في نظام خاص، نظام يقف على قدم المساواة من حيث الأهمية والقيمة اللغوية مع نظام الأصوات الصامتة. وتؤيدنا في ذلك حقيقة مهمة، تلك هي العلاقة القوية بين الحركات القصار والحركات الطوال، بل إن أردت الحقيقة، ليس هناك من فرق في الكيف بين هذين النوعين، وإنما الفرق في الكم فقط، وهو القصر والطول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الألف والواو والياء دراسة لغوية تحليلية على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية مدخل ... الألف والواو والياء دراسة لغوية تحليلية على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية: الألف والواو والياء على المستوى الصوتي: تلعب الألف والواو والياء دورا بارزا في النظام الصوتي للغة العربية، وتتسم كل واحدة منها بمجموعة من الخواص التي تستأهل النظر العلمي الجاد، والتي ترتبط بمشكلات صوتية مشهورة، جرت بعض الدارسين -قدامى ومحدثين على سواء- إلى الوقوع في كثير من الأخطاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الألف أولا: الهمزة ... الألف: تبين لنا من المقدمة التاريخية السابقة أن للألف مدلولين مختلفين أحدهما الهمزة، والثاني ما يراد به ألف وما يطلق عليه في العرف الحديث الفتحة الطويلة، وهي بالاعتبار الأول جزء من نظام الأصوات الصامتة consonants، ولكنها من الحركات vowels من وجهة النظر الثانية. ولسوف نعرض في الصفحات التالية لهذين المدلولين كليهما، ولكن مع الفصل بينهما في التحليل والمناقشة، حيثُ ينفرد كل مدلول منهما بعدد من الصفات الصوتية التي تقتضي هذا النهج. أولا: الهمزة الهمزة -في رأينا- صوت صامت حنجري، وقفة انفجارية، ويطلق عليه في الإنجليزية glottal stop أو glottal catch والفرنسية Coup de glotte. ويتم نطق هذا الصوت بأن تسد فتحة المزمار The glottis الموجودة بين الوترين الصوتيين the vocal chords، وذلك بانطباق هذين الوترين انطباقا تاما وحبس الهواء خلفهما، بحيث لا يمر من الحنجرة إلى الحلق وما بعده، ثم ينفرج الوتران فيخرج الهواء فجأة محدثا صوتا انفجاريا. ويلاحظ في التعريف السابق للهمزة أنا راعينا أمرين: أحدهما: موضع النطق وهو منطقة الحنجرة، ومن ثم وصفت الهمزة بأنها حنجرية. والثاني: حالة ممر الهواء عند النطق. وقد رأينا أن هذا الممر يغلق إغلاقا تاما ثم يفتح فجأة، فيحدث انفجار نتيجة لخروج الهواء المضغوط خلف الوترين الصوتيين. ومن هنا كانت الصفة "وقفة" stop وانفجارية Plosive. فالهمزة وقفة إذا راعينا هذا الإغلاق. وهي انفجارية إذا راعينا انفجار الهواء. والأمريكيون أميل إلى الاعتبار الأول، لا في الهمزة فحسب، بل في كل ما يتفق معها في هذه الصفة من الأصوات. أما الإنجليز فيفضلون الاعتبار الثاني، وكلا المسلكين صحيح ودقيق. غير أنا أهملنا جانبا ثالثا يؤخذ به عادة عند النظر في جميع الأصوات. ذلك الجانب هو ملاحظة وضع الوترين الصوتيين من حيث ذبذبتها أو عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ذبذبتهما عند النطق بالصوت المعين. فإذا ما مر الهواء المندفع من الرئتين خلال هذين الوترين بحيثُ يجعلهما يتذبذبان بانتظام وبسرعة سمي الصوت المنطوق آنئذ بالصوت "المجهور" Voiced. أما إذا مر هذا الهواء خلالهما دون أن يجابهه أي اعتراض، بسبب انفراجهما انفراجا يفسح مجالا للنفس، سمي الصوت المنطوق صوتا "مهموسا" Voiceless أو 1Breathed. وهذا الإهمال مقصود، حيث إن وضع الوترين الصوتيين -حال النطق بالهمزة- لا يمكن وصفه بالذبذبة أو عدمها. فالوتران مغلقان إغلاقا تاما، فلا ذبذبة، ولا مجال لخروج الهواء من بينهما كذلك في نظرنا. ومن ثم جاز لنا أن نهمل هذا الاعتبار الثالث نهائيا، أو أن ننظر إليه بصورة سلبية، حيئنذ   1 انظر: دانيال جونز An Outline of English Phonetics ص20 وهناك ينص على جواز إطلاق أي من هذين المصطلحين على الأصوات التي تنطلق بهذه الطريقة أيا كان نوع هذه الأصوات، غير أنه يفضل إطلاق المصطلح الأول Voiceless على تلك الأصوات المسماة "انفجارية" Plosives Continuants "المتمادة". ومن ثم نرى أنه لا محل لاعتراض الدكتور عبد الرحمن أيوب "أصوات اللغة ص183 ط2" على الدكتور إبراهيم أنيس في استعماله المصطلح الثاني عند وصف الهمزة بأنها "صوت لا هو بالمجهور ولا بالمهموس"، وهو ما يقابل عبارة دانيال جونز "المرجع السابق ص138" عند وصفه للهمزة بأنها "neither breathed nor voiced" فاستعمل جونز هنا breathed "لا Voiceless" وهو استعمال جائز ولكنه غير مفضل. 2 من هؤلاء الدكتور إبراهيم أنيس "الأصوات اللغوية ص73 ط2" والدكتور محمود السعران "علم اللغة ص171"، ودانيال جونز "المرجع السابق". وهذا المعنى نفسه يفهم من كلام B. Bloch and G. Trager في كتابهما Outline of Linguistic Analysis موجز في التحليل اللغوي ص17، حيث يقرران أن "أي صوت مهما كان نوعه -باستثناء الهمزة- يمكن أن ينطق مجهورا أو مهموسا، أي مع ذبذبة الأوتار الصوتية أو عدم ذبذبتها"، وانظر أيضا ص25 من المرجع المذكور حيث يعيد المؤلفان هذا المعنى نفسه. ويشير إلى هذا الاتجاه كذلك ما سلكه "روبنس" R. H. Robins عند الكلام على أوضاع الأوتار الصوتية حال النطق بالأصوات؛ حيث عين وضعا خاصا بنطق الهمزة، يختلف عن وضع هذه الأوتار بالنطق بالأصوات المجهورة والمهموسة. انظر: روبنس: General Linguistics: An lntroductory Survey, pp. 88, 99. "روبنس: علم اللغة العام، عرض تمهيدي ص88 و99". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 نضيف إلى وصف الهمزة عبارة أخرى هي "أنها صوت لا بالمجهور ولا بالمهموس". وهذا الذي نقوله بالنسبة لهذا الجانب الثالث يأخذ به كثير من المحدثين الذين يتفقون معنا في وصف الهمزة بأنها صوت لا بالمجهور ولا بالمهموس1. وهناك آخرون يرون أن الهمزة صوت "مهموس". ويعلل أحدهم الهمس بقوله: "وتأتي جهة الهمس في هذا الصوت من أن إقفال الأوتار الصوتية معه لا يسمح بوجود الجهر في النطق"2. فهو يعدها مهموسة لعدم وجود حالة وضع الجهر. ويتفق معه في مثل هذا التعليل باحث آخر حيث يقول: ولا يمكن حال النطق بالهمزة "أن تظل الأوتار الصوتية انطباقا تاما، وهو أمر يناقض التذبذب، ومن أجل هذا نقول بأن الهمزة مهموسة، لأن الهمس يعني عدم التذبذب"2. وهكذا نجد أن كلا من هذين الدارسين قد عد الهمزة مهموسة لعدم التذبذب في الأوتار الصوتية أو لعدم وجود حالة الجهر. ونحن نرى أن الهمس ليس معناه عدم الجهر. أو بعبارة أدق، نحن نرى أن الهمس لا ينتج من عدم التذبذب وحده، وإنما ينتج من عدم التذبذب الذي سببه انفراج الوترين نفسيهما انفراجا يسمح بمرور النفس خلالهما. أما عدم التذبذب في حالة الهمزة فهو نتيجة للإقفال التام للوترين، وهذا في رأينا وضع آخر، لا هو بوضع حالة الجهر ولا هو بوضع حالة الهمس. ومعنى ذلك أن للأوتار الصوتية -في نظرنا- ثلاثة أوضاع رئيسية في الكلام العادي: وضع لها حالة الجهر وآخر حالة الهمس وثالث عند النطق بالهمزة العربية. ولكن يبدو أن الباحثين المذكورين اكتفيا بوضعين اثنين لهذين الوترين، وهو ما لا نأخذ به.   1 الدكتور تمام حسان: مناهج البحث في اللغة ص97. 2 الدكتور عبد الرحمن أيوب: أصوات اللغة ص184، ط2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 والقول بهمس الهمزة ذهب إليه كذلك هيفنر الأمريكي الذي يؤكد أنها "دائما صوت مهموس"1 ولكنه مع ذلك لا يعلل لنا هذا الحكم ولا يحاول تفسيره. وهناك عالم إنجليزي -هو جاردنر- يؤكد أن "طبيعة الهمزة تجعل جهرها أمرًا مستحيلا"2، ولكنه مع ذلك يقف عند هذا الحد، فلا يفصح بشيء عن الهمس وجوازه أو عدم جوازه بالنسبة للهمزة. ومهما يكن من أمرٍ فهؤلاء الدارسون جميعا متفقون فيما بينهم على الخواص الأخرى للهمزة، وهي: 1- كونها صوتا صامتا Consonant له خواص الأصوات الصامتة وأما ما ينسب إليها من تسهيل، أو تخفيف، أو قلب ... إلخ، فهذه كلها في نظرهم ظواهر مستقلة يجب أن تؤخذ على أساس صورها الحاضرة، لا على أساس الأصل المفترض. 2- حنجرية، فمخرجها الحنجرة، وهي أقصى مواضع النطق في الجهاز النطقي عند الإنسان، ولا يشركها في هذا المخرج في العربية إلا صوت الهاء. 3- وقفة انفجارية Plosive Stop. كذلك يؤكد جميعهم أن الهمزة لا تكون مجهورة بحال من الأحوال، لاستحالة ذلك الأمر استحالة مادية، بسبب انطباق الوترين الصوتيين انطباقا تاما حال النطق بها، ومن ثم ليس من الممكن أن تحدث ذبذبة للأوتار من أي نوع كانت هذه الذبذبة. وتلخيص هذا الاتفاق بين العلماء بالصورة السابقة أمر مهم وضروري، حيث يعيننا على فهم المناقشة التالية الخاصة بآراء علماء العربية القدامى في هذا الصوت.   1 هيفنر: General Phonetics P. 125. 2 جاردنر: The Phonetics of Arabic, p. 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ينص سيبويه في كتابه على أن الهمزة حرف شديد مجهور، وهي حلقية عنده، أو من أقصى الحلق، بعبارة أدق1، وقد تبع سيبويه في ذلك معظم علماء العربية الذين جاءوا من بعده، بل يكاد هؤلاء جميعا يرددون الألفاظ نفسها. وممن تبعه في ذلك أيضا ابن جني الذي لم يزد عما قاله سيبويه في هذا الشأن إلا في التفصيل والشرح، وفي إقحام بعض المشكلات الصرفية في مناقشة القضايا المتعلقة بهذا الصوت2. أما تقويم هذه الأحكام من وجهة النظر الحديثة، فيقتضينا أن ننظر أولا في المصطلحات التي استعملت في الوصف، ثم في معانيها والمقصود منها. والمصطلحات المذكورة في التعريف السابق أربعة أولها الحرف. والمقصود به هنا الصوت3، وهو صوت صحيح، وهو ما نسميه Consonant ولهم تسمية أخرى بارعة يصح إطلاقها على هذا الصوت، هذه التسمية هي "الصوت الصامت"4. أما كونها صوتا صحيحا "أو صامتا" فهو ثابت في كلامهم: "وحكم الهمزة كحكم الحرف الصحيح في تحمل الحركات"، غير أنه كان الأوفق -في نظرنا- التعبير بأسلوب غير أسلوب التشبيه. ويبدو أن الالتجاء إلى أسلوب التشبيه هنا سببه ما رأوه من أن الهمزة أحيانا يعرض لها عارض من تخفيف أو تسهيل أو إبدال أو قلب إلخ، فلم تكن حينئذ أصيلة في الصحة -في نظرهم- أصالة الباء أو التاء مثلا. يدل على هذا المعنى بقية النص السابق: "إلا أنها قد تخفف لأنها حرف ثقيل، إذ مخرجه أبعد مخارج جميع الحروف ... "5. وهناك نصوص أخرى معروفة مشهورة تشير إلى تسهيل الهمزة، أو إبدالها، أو قلبها ... إلخ.   1 سيبويه: الكتاب جـ2 ص404-406 "طبعة بولاق". 2 ابن جني: سر صناعة الإعراب جـ1 ص52، 69، 78 وما بعدها. 3 من معاني "الحرف" في العربية الرمز الكتابي والصوت والمقطع والكلمة والجملة والعبارة، هذا بالإضافة إلى معانيها العامة التي لا تعنينا هنا. 4 انظر الملحوظة "1" ص55. 5 انظر شرح مراح الأرواح ص98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وفي رأينا -كما سبق أن أشرنا إلى ذلك- أن هذا النظر إلى الهمزة يعني خلطا بين اللهجات التي تحققها والتي تخففها أو تسهلها، أو خلطا بين مستويين كلاميين: كلام فصيح وكلام غير فصيح مثلا. وعلى كل حال فالوصف الذي قدموه للهمزة هنا وصف علمي يتمشى -في عمومه- مع ما أثبته النظر الحديث. أما وصف الهمزة بأنها صوت شديد فيمكن أن يعد وصفا صحيحا ودقيقا في احتمال واحد. ذلك إذا أخذنا المصطلح "شديد" على أنه يعني ما نعنيه بالمصطلح الحديث "انفجاري" أو "وقفة انفجارية". والحق أن كلام علماء العربية في هذا الشأن يوحي في عمومه بهذا التوافق. فعلى الرغم من صعوبة التعريف الذي قدموه للأصوات الشديدة1، فهناك دليل قوي يشير إلى أن فهمهم للصوت الشديد يتفق -في عمومه- مع فهمنا للصوت الوقفة الانفجارية، ذلك دليل يتلخص في أن ما سموه بالحروف الشديدة يقابل عندنا -باستثناء واحد أو اثنين- ما نسميه بالوقفات الانفجارية. فالأصوات الشديدة عندهم مجموعة في قولك "أجدت طبقك"2 "والألف هنا تمثل الهمزة" والأصوات الوقفات الانفجارية عندنا -بحسب نطقنا الحالي للفصيحة- هي: الهمزة والباء والتاء والدال والضاد والطاء والكاف والقاف. وهكذا نرى أن الخلاف بيننا وبينهم يظهر في حالتين اثنتين هما: 1- إخراجهم للضاد من الأصوات الشديدة. على حين أنا عددناها من الوقفات الانفجارية. 2- إدخالهم للجيم ضمن الأصوات الشديدة، ولكنا نعدها صوتا من نوع آخر يسمى بالأصوات المركبة أو الانفجارية الاحتكاكية.   1 انظر هذا التعريف في الكتاب لسيبويه جـ3 ص406 وسر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص70. 2 ابن جني: المرجع السابق ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فما سر هذا الخلاف "إذا كانت الشدة عندهم تساوي الوقفة الانفجارية عندنا"؟ هناك احتمالان: أحدهما أنهم ربما أخطئوا في وصف كل من الضاد والجيم. الثاني "وهو الراجح" أن تطورا حدث لهذين الصوتين، أو أنهم كانوا يصفون صوتين آخرين غير اللذين نعرفهما الآن. فالمفهوم لنا من جملة الأوصاف التي نعتوا بها الضاد أن الضاد القديمة تختلف عن ضادنا الحالية من وجوه عدة منها: أنها في نظرهم جانبية "فهي تشبه -ولكنها ليست مثل- اللام في ذلك" وأنها لا أخت لها من مخرجها أو في بعض صفاتها، على حين أن لها أختا في نطقنا الحالي وهي الدال، والفرق بينهما إنما هو الإطباق أو التفخيم في الأولى، وعدم الإطباق أو الترقيق في الثانية. أما بالنسبة للجيم فربما كانوا يصفون جيما أشبه بجيم القاهرة فهي التي يمكن أن تسمى شديدة أو وقفة انفجارية، فلعل هذا الصوت إذن قد تطور ثم عاد إلى أصله في لهجة القاهرة ونحوها، أو لعله كان خاصا بلهجات معينة1. فإذا ما صح هذا الاحتمال الثاني بالنسبة للضاد والجيم جاز لنا القول بأن المصطلح "شديد" عندهم يعني ما نعنيه حديثا بالمصطلح "وقفة انفجارية". ومن ثم يكون وصفهم للهمزة بأنها صوت شديد وصفا صحيحا دقيقا، إذ الخلاف في لفظ المصطلحات كلا خلاف، وإنما العبرة بالمدلول. ووصف القدامى الهمزة بأنها صوت مجهور يستدعي تأملا ونظرا، ذلك لأن أحدًا -غير هؤلاء العلماء- لم يقل بجهر الهمزة، ولاستحالة ذلك استحالة مادية حال النطق بها. كما سبق أن أشرنا إلى ذلك. فكيف إذن جاز لعلماء العربية وصف هذا الصوت بأنه مجهور؟ أهم مخطئون في وصف الهمزة أم في تعريف الجهر نفسه؟ وهل هناك من مخرج أو تفسير لما قالوه؟   1 ما زالت الجيم تنطق كما ينطقها القاهريون "g" في بعض المناطق اليمنية في الشمال والجنوب كليهما، كما يرى التاريخ اللغوي أن هذا هو الأصل في اللغة العربية وأخواتها الساميات كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قدم علماء العربية تعريفا للجهر وللصوت المجهور، ولكنه في نظري تعريف صعب عسير الفهم. وواضع التعريف في الأصل هو سيبويه، وتبعه غيره فيه بدون أدنى تغيير في العبارة تقريبا1. أما صعوبة هذا التعريف فترجع في رأيي إلى سببين: أحدهما: استعمال مصطلحات في هذا التعريف غير مألوفة وغير معروف المقصود بمعانيها بدقة ووضوح. وثانيهما: عدم ذكر أية إشارة إلى العنصر الأساسي أو الشرط الأساسي في تعريف الجهر بحسب العرف الحديث. هذا العنصر أو الشرط هو ضم الوترين الصوتيين ضما معينا بحيث يسمح بمرور الهواء من خلالهما، وبحيث يجعلهما يتذبذبان بسرعة فائقة وانتظام2. فهل مفهوم الجهر عندهم يختلف عن مفهومه في نظر المحدثين؟ من الجائز أن يكون الأمر كذلك، إذا نظرنا إلى مجموع تصريحاتهم في هذا الشأن نظرة عجلى سطحية، أو إذا أسأنا الظن بهم وبتقديرهم للموضوع. ولكن النظر الدقيق في بعض ما قالوه -بقطع النظر عن التعريف الذي قدموه للجهر- وحسن الظن بهم يقودان إلى احتمال أقرب إلى الصحة والحقيقة. لقد نص هؤلاء العلماء على الأصوات المجهورة نصا، وهي في مجموعها تتفق مع ما عددناه مجهورا فيما عدا صوتي القاف والطاء "وهذ الصوت المختلف فيه وهو الهمزة"، فهما في نظرهم مجهوران، على حين أنهما مهموسان بحسب نطقنا الحالي لهما. ومع ذلك فمن السهل تفسير هذا الخلاف فيما يختص   1 انظر: الكتاب لسيبويه جـ2 ص465، وسر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص69. 2 يروي الدكتور إبراهيم أنيس نصا عن أبي الحسن الأخفش نسبه إلى سيبويه، ومنه يفهم الدكتور إبراهيم أنيس أن كلام سيبويه في الجهر والهمس يتضمن "آراء قيمة في الدراسة الصوتية تتفق مع أحدث النظريات إلى حد كبير"، وأن هذه الآراء في مجموعها تفيد ما تفهمه الآن من ذبذبة الوترين "في حالة الجهر" وعدم ذبذبتهما "في حالة الهمس". انظر: الأصوات اللغوية ص88-91 ط3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بهذين الصوتين. يبدو أن القاف التي وصفها علماء العربية صوت أشبه بالجاف المصرية التي تنطق في الصعيد وبعض جهات الوجه البحري في نحو قال "G" وهذا صوت مجهور ولا شك، ولعله كان خاصا بلهجة أو لهجات معينة. وكذلك يبدو أن الطاء في القديم كانت تختلف عن طائنا الحالية. وهنا نص صريح لسيبويه يفيد ما نقول. ففي هذا النص يذكر سيبويه أن الطاء أخت الدال في كل خواصها ما عدا الإطباق في الطاء وعدمه في الدال. ونحن نعرف أن الدال صوت مجهور، فنظيره إذن -وهو الطاء- مجهور كذلك1. إذا صح هذا التفسير -وهو ما نأخذ به لأسباب أخرى ليس هنا محل تفصيلها- بالنسبة لهذين الصوتين "القاف والطاء" أصبح من الواضح أنهم يدركون معنى الجهر، وإن خانهم الحظ في إدراك الدور الذي يلعبه الوتران الصوتيان، أو إدراك ما يحدث في المنطقة كلها. ويبدو أنه كانت لديهم فكرة غامضة عما يحدث في الجهاز النطقي حال الجهر. ويؤكد احتمال إدراك هؤلاء العلماء لمعنى الجهر اتفاقهم معنا في عدد الأصوات المجهورة بعد هذا التفسير الذي قدمناه لصوتي القاف والطاء، كما تؤكده حقيقة أخرى، وهي إدراكهم لوظيفة الجهر في الكلام. ومعنى ما تقدم إذن أنهم كانوا على صواب في تعريف الجهر والصوت المجهور، ولكنهم أخطئوا في وصف الهمزة بالجهر. على أنا نستطيع -بطريقتهم- أن نفسر سبب هذا الخطأ الذي وقعوا فيه. هناك احتمالان لوصفهم الهمزة بالجهر. الأول: لعلهم وصفوا الهمزة متبوعة بحركة، فأحسوا الجهر بسبب وجود الحركة، إذ الحركات العربية كلها "عادة" مجهورة.   1 الكتاب لسيبويه جـ2 ص406، وانظر أيضا الأصوات اللغوية للدكتور إبراهيم أنيس: ص50، 52، 67-69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الثاني: لعلهم كانوا يصفون الهمزة المسهلة "وهي ما تسمى همزة بين بين"، وفي نطق الهمزة المسهلة لا تقفل الأوتار الصوتية إقفالا تاما "بخلاف حال نطق الهمزة المحققة" "بل يكون إقفالا تقريبيا"، وحينئذ يحدث الجهر حال النطق غير أن المجهور هنا ليس الهمزة أو الوقفة الحنجرية، ولكنه شيء أشبه بأصوات العلة1. والاتجاه الغالب عند علماء العربية هو وصف الهمزة بأنها صوت حلقي، وهو وصف يمكن قبوله بضرب من التوسع فقط، ذلك لأن الهمزة تخرج في حقيقة الأمر من منطقة الحنجرة Larynx وهي منطقة تقع في أسفل الفراغ الحلقي Pharynx، وهي أول مواضع النطق في الجهاز الصوتي عند الإنسان على أنه يمكن تفسير ما ذهب إليه علماء العربية بوجه من الوجوه الآتية: 1- ربما أخطأ هؤلاء العلماء الملاحظة والتقدير. فلم يستطيعوا تحديد منطقة الهمزة بالدقة، وبخاصة أنها متصلة بمنطقة الحلق. 2- يبدو أن هؤلاء العلماء أطلقوا "الحلق" على منطقة أوسع وأكبر من تلك التي نسميها "الحلق" اليوم. أو بعبارة أخرى، يبدو أنهم أطلقوا لفظ "الحلق" على تلك المنطقة التي تشمل -في عرفنا الحاضر- الحنجرة والحلق "بمعناه الدقيق" وأقصى الحنك من باب التوسع والمجاز. ويظهر هذا الاحتمال واضحا في قول قائلهم: همز فهاء ثم عين حاء ... مهملتان ثم غين خاء ويقصد أن هذه الأصوات الستة كلها حلقية، على حين أنا نقسمها اليوم إلى ثلاث مجموعات: "الهمزة والهاء"، وهما صوتان حنجريان، "والعين والحاء" وهما صوتان حلقيان، "والغين والخاء" وهما من أقصى الحنك، وربما سوغ ما ذهب إليه هؤلاء الدارسون أمران:   1 أرشدنا إلى هذا التعليل الدكتور تمام حسان عند مناقشته لتسهيل الهمزة، انظر مناهج البحث في اللغة ص 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أحدهما: قرب هذه المخارج بعضها من بعض، بل عدم إمكانية الفصل بينها فصلا تاما، وإنما الفصل أمر تقديري مبني على الناحية الفسيولوجية. ثانيهما: اشتراك هذه الأصوات الستة في بعض الخواص الصوتية والصرفية في اللغة العربية، منها أن الفعل على وزن فعل يفعل بفتح العين في الماضي والمضارع لا يقع إلا إذا كان عين الفعل أو لامه حرف حلق. وإنما التزموا فتح العين فيهما "ليقاوم خفة فتحة العين ثقالة حروف العين"1. ومن هذه الخواص أيضا جواز تحريك الاسم الثلاثي ساكن العين بالفتح إذا كانت هذه العين حرف حلق، فيقال مثلا نهر وبحر بفتح الهاء والحاء. على أن هؤلاء أنفسهم أحسوا بأن الهمزة "ومعها الهاء والألف على خلاف" أدخل في النطق من أخواتها، ومن ثم قسموا الحلق إلى ثلاث مناطق: 1- أقصاه. 2- أوسطه. 3- أدناه. فمن أقصاه "الهمزة والألف والهاء"2. وخلاصة ما تقدم أن معظم علماء العربية اتفقوا مع البحث الحديث في نقطة مهمة، هي أن الهمزة تخرج من أول مواضع النطق، غير أنهم سموا هذا الموضع أقصى الحلق وسماه البحث الحديث بالحنجرة. يدل على إدراكهم لهذه   1 انظر شرح مراح الأرواح ص18. 2 الكتاب لسيبويه الجزء الثاني ص404، وسر صناعة الإعراب لابن جني، جـ1 ص50. وقد جاء هذا التقسيم منظوما بصورة واضحة في متن الجزرية، حيث يقول صاحبها "ابن الجزري". ثم لأقصى الحلق همز هاء ... ثم لوسطه فعين حاء أدناه غين خاؤها ... ... ... ... ... ... ... ونلاحظ هنا -خلافا للكثيرين- أنه لم ينسب ألف المد إلى أي جزء من الحلق، وإنما نسميه -مع الواو والياء- إلى الجوف والهواء، وهو عمل جيد، كما سنرى فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الحقيقة -حقيقة أن الهمزة أسبق الأصوات مخرجا أو من أسبقها- ترتيبهم للأصوات العربية ترتيبا مخرجيا، فهم في هذا الترتيب وضعوا الهمزة في صدر الأصوات هكذا: الهمزة والألف والهاء ... إلخ، والمعروف أن غالبية لغويي العرب القدامى سلكوا هذا المسلك الذي ابتدعه سيبويه. وهو مسلك سليم مقبول فيما يختص بوضع الهمزة في الترتيب المخرجي للأصوات العربية. أما المروي عن الخليل فيما يتعلق بمخرج الهمزة وبعض خواصها ففيه خلط واضطراب واضحان. ويستوي في ذلك ما جاء في كتاب العين المشهور بنسبته إلى هذا العالم الجليل، وما ورد في غير هذا المعجم من الآثار اللغوية التي ترسمت خطأه في هذه المسألة "وغيرها" كالتهذيب للأزهري، وإذا صحت نسبة الآراء الواردة في هذه الآثار وغيرها إلى الخليل فلا يسعنا إلا القول بأن الهمزة كانت تمثل مشكلة حقيقية عنده، حيث لم يستطع أن يأتي برأي حاسم فيها، وإنما كان يسلك نحوها مسالك شتى قادته إلى الغموض أحيانا، وإلى التناقض أحيانا أخرى1. ويقيننا أن موضوع الهمزة عند الخليل -على نحو ما جاء في هذه الآثار- يحتاج إلى دراسة مستقلة، ولكنا مع ذلك رأينا أن نشير هنا -في إيجاز موجز- إلى تلك المعالم البارزة من آرائه وتصريحاته فيما يتعلق بموضوع الحديث.   1 أغلب الظن أن الخلط في موضوع الهمزة "وغيرها" على نحو ما جاء في كتاب العين المنسوب إلى الخليل ليس مصدره الخليل نفسه، وإنما يرجع إلى تلامذته الذين خانهم التوفيق في تدوين آراء الشيخ، كما ألقاها عليهم، أو كما أراد لها أن تكون. وقد أخذ بعضهم هذا الخلط دليلا على أن الكتاب المذكور ليس من صنع الخليل، وإنما هو من جمع تلامذته لآرائه. وهؤلاء لم يسلموا من الخطأ في نقل كلام أستاذهم، ولم يتحروا الدقة في تفسير مادته شرحها. ومن المعتقد كذلك أن بالكتاب زيادات وإضافات أدخلها عليه بعض هؤلاء التلاميذ أو رواة الكتاب عبر الأجيال المتعاقبة. ومهما يكن من أمر، فنحن نناقش موضوعنا هذا على أساس المادة الواردة في كتاب العين وفي غيره من الآثار العلمية التي نقلت عنه أو التي نسبت ما سجلته في هذا الشأن إلى الخليل. وليس يعنينا في هذا المقام أن نثبت صحة هذه النسبة أو أن ننفيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 من المعروف أن الخليل لم يبدأ ترتيبه المخرجي للأصوات بالهمزة، وإنما بدأه بصوت العين، مخالفا بذلك أكثر علماء العربية ومنهم تلميذه سيبويه، ومخالفا أيضا ما كنا نتوقعه من باحث عبقري مثله في شئون الأصوات والموسيقا اللغوية. ولقد قدم تعليل مشهور لتسويغ هذا المسلك الذي سلكه الشيخ الكبير نحو موقع الهمزة في سلسلة الأصوات العربية من حيث مخارجها ومواضع نطقها. يروي السيوطي في المزهر عن ابن كيسان أنه قال: "سمعت من يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبدأ بالهمزة لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني، ومنه العين والحاء فوجدت العين أنصع الحرفين، فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف"1. فهذا النص -إن صحت روايته- يدل على أن الخليل كان يدرك أن الهمزة هي أول الأصوات العربية مخرجا. وبذلك يتفق مع سيبويه وغيره من الباحثين العرب، كما يتفق مع وجهة النظر الحديثة في ذلك. ولكن الخليل -على الرغم من هذا الإدراك- لم يشأ أن يبدأ بها الألفباء الصوتية، لأنها في نظره غير مستقرة الصورة النطقية، ولم ترق إلى درجة غيرها من الأصوات التي هي أحق منها "ومن غيرها" في أن تتصدر الأصوات العربية، وهي العين لقوتها ونصاعتها. وعلى فرض التسليم بصحة هذا الاحتمال -وهو إدراك الخيل لموقع الهمزة بين الأصوات- فما زال هذا النص السابق نفسه يدل على اضطراب الخليل في فهم حقيقة الهمزة وغيرها من الأصوات. إن ظواهر النقص والتغيير   1 المزهر للسيوطي جـ1 ص90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والحذف التي ظن الخليل أنها تلحق الهمزة ظواهر مستقلة، وليست -في رأينا- صورا أخرى لها أو إبدالا منها. إن المنطوق في هذه الحالات قد يكون ألفا أو واوًا أو ياء، وربما لا يكون هناك أي منطوق على الإطلاق. والنظر العلمي الحديث يوجب علينا أن نأخذ في الحسبان تلك الظواهر أو الأحداث المنطوقة وحدها، لا ما يظن أنه أصل هذه الظواهر وتلك الأحداث. إن الهمزة همزة فقط حين تحقق وتنطق بالفعل، أما تلك الحالات المشار إليها ونحوها فليست من الهمزة في شيء، وهي وحدها التي تؤخذ في الحسبان دون الهمزة. ولقد كانت هذه النظرة إلى الهمزة سببا في وقوع الخليل في خطأ آخر يتعلق بهذا الصوت نفسه. ذلك أنه يرى أن الهمزة حرف معتل، إذ هي في نظره قابلة للتغير والتحول، شأنها في ذلك شأن "حروف العلة" المعهودة: الألف والواو والياء. يروي صاحب التهذيب عن الخليل أنه قال: "والحروف الثمانية والعشرون على نحوين: معتل، وصحيح. فالمعتل منها ثلاثة أحرف: الهمزة، والياء، والواو. قال: "يعني الخليل" وصورهن على ما ترى: "اوي" ثم يعيد هذا المعنى نفسه ناسبا إياه إلى الخليل كذلك. ولكن مع إضافة الألف إلى هذه الحروف الثلاثة، على ما هو المتوقع، "قال -يعني الخليل- والعويص في الحروف المعتلة، وهي أربعة أحرف: الهمزة والألف اللينة والياء والواو"1. أما الاعتلال فيفسره الأزهري في التهذيب نقلا عن الخليل على   1 تهذيب اللغة للأزهري، جـ1 ص50-51، تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون "سلسلة "تراثنا"". ونلاحظ هنا أن الأزهري لم يذكر الألف ضمن الحروف المعتلة في النص الأول على حين ذكرها في الثاني، وهو يدل على خلط واضح. ولعل هذا الخلط وقع من الأزهري عند النقل، أو هو ناتج من سوء فهم واختلاط الأمر عليه. وربما يكون هذا الخلط من الخليل نفسه، فهو يذكر الألف مرة ويهملها أخرى، كما رأينا، لأنه -على ما يبدو- كان يعاصر مرحلة انتقالية فيما يتعلق بهذين الصوتين، ونعني بها مرحلة التوسع في مفهوم الألف "الذي هو أصل في الهمزة وحدها دون ألف المد" ليشمل الهمزة والألف كليهما. وهناك خلط ثان يظهر في النص الأول حيث قرر أن الخليل عد الحروف ثمانية وعشرين، على حين يذكر في مكان آخر نقلا عن الخليل كذلك أنها تسعة وعشرون حيث يقول "ص48 من المرجع المذكور": قال الخليل بن أحمد، حروف العربية تسعة وعشرون حرفا، وهذا هو الوارد في كتاب العين نفسه، انظر مثلا ص64-65 من هذا المرجع الأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 نحو ما ذكرنا، فيروى أن الخليل قال: "واعتلالها "أي: اعتلال هذه الحروف ومن ضمنها الهمزة" تغيرها من حال إلى حال، ودخول بعضها على بعض واستخلاف بعضها من بعض"1. وقد بنى الخليل على هذا السلوك نحو الهمزة أحكاما أخرى مختلفة، ليس لها ما يسوغها من الحقيقة والواقع. من ذلك مثلا إحجامه عن بدء الألفباء الصوتية بالهمزة، كما رأينا. ومن هذه الأحكام كذلك أنه لم يشأ أن يبدأ بها الألفباء العادية "الإملائية"، مخالفا بذلك العرف السائد قبله، كما يبدو بوضوح من ذلك النص التالي الوارد في كتاب العين. فقد جاء هناك أن الخليل حين أراد أن يؤلف الحروف ويرتبها تدبر في الأمر وأعمل فكره فيه، "فلم يمكنه أن يبتدئ التأليف من أول: أ، ب، ت، ث وهو الألف، لأن الألف حرف معتل"2. ولقد ردد صاحب التهذيب هذا الكلام نفسه على لسان الليث، قال: "قال الليث بن المظفر: لما أراد الخليل بن أحمد الابتداء في كتاب العين أعمل فكره فيه فلم يمكنه أن يبتدئ من أول أب ت ث، لأن الألف حرف معتل"3.   1 الأزهري: المرجع السابق ص50. 2 كتاب العين للخليل بن أحمد جـ1 ص52. والمقصود بالألف هنا الهمزة؛ لأن الألف في أول الألفباء همزة باتفاق المتقدمين والمتأخرين. وهذا أيضا هو ما يفهم من سياق الكلام، حيث جاء هناك في هذا المقام نفسه ما يلي: "وإنما كان ذواقه إياها "يعني الحروف" أنه كان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف، نحو: أب، أت، أح ... " إلخ. فالألف هنا لا يمكن أن تكون ألف المد، لأنها -بهذا الوصف- حركة "طويلة" والحركة لا يجوز الابتداء بها في العربية، أو هي -على حد تعبيرهم- حرف ساكن، ولا يجوز الابتداء بالساكن، كما هو معروف، بحسب قواعدهم التي قرروها للغتهم. 3 التهذيب جـ1 ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ولقد أكد الخليل هذه النظرة غير الدقيقة إلى الهمزة، وهي كونها حرف علة، ومساواتها بحروف العلة المعروفة في هذا الحكم بأمرين آخرين تجدر الإشارة إليهما في هذا المقام. الأول: قسم الخليل الألفباء الصوتية من حيث مواضع النطق إلى قسمين اثنين، أحدهما خاص بما سماه "الحروف الصحاح"، وبدأه بصوت العين، على ما هو معروف، وختمه بالباء والميم، أما الثاني فيشتمل على الحروف الأربعة الواو والألف والياء والهمزة. وهذا ترتيبه للقسمين معا، كما ورد في كتاب العين: ""ع ح هـ خ غ"، "ق ك"، "ج ش ض"، "ص س ز"، "ط د ت"، "ظ ذ ث"، "ر ل ن"، "ف ب م"، فهذه الحروف الصحاح، "وا يء""1. فهذا الترتيب يشير بوضوح إلى أن الخليل قد سوى في الخواص والميزات بين الهمزة وحروف العلة. وهو حكم جانبه الصواب، إذ الهمزة -بهذا الوصف- صوت صامت أو "صحيح" له موضع من النطق محدد هو الحنجرة، على حين تعد: الألف، والواو، والياء المديات حركات صِرفة Vowels، وتصدر عن جهاز النطق بصفة مخصوصة تختلف اختلافا جذريا عن طريقة نطق الأصوات الصامتة. ويسجل صاحب التهذيب هذا الترتيب نفسه ولكن مع عدم ذكر الهمزة في هذه الألفباء التي نقلها عن الخليل، وكذلك فعل ابن منظور في "لسان العرب"، حيث ذكر الألفباء الصوتية -كما رآها الخليل- وبدأه بالعين ثم الحاء ثم الهاء وانتهى بالباء والميم والياء والواو والألف2.   1 العين جـ1 ص65. 2 التهذيب جـ1 ص41، واللسان جـ1 ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فإذا ما فسرنا الألف هنا بألف المد -دون الهمزة- كان ذلك أنسب وأوفق، حيث أن وضع ألف المد مع الياء والواو له ما يسوغه، وهو كونها جميعا تشترك في خاصتي المد والعلة، كما يقولون. وهذا التفسير محتمل ولا شك، وبخاصة فيم يتعلق برواية صاحب اللسان الذي كان يعيش في وقت متأخر نسبيا، حيث كان الألف يغلب إطلاقه على ألف المد دون الهمزة. ومعنى هذا حينئذ أن الهمزة أهمل ذكرها في الألفباء الصوتية. وهو أمر يمكن فهمه بالنسبة لنظر العلماء إلى هذا الصوت في هذه المرحلة. وهي مرحلة شاهدت كتابة الهمزة بصور مختلفة. أي كتابتها على الألف أو الواو أو الياء أو مفرده. ومن ثم اختلط عليهم الأمر بالنسبة لهذا الصوت ذي الصور الكتابية المختلفة. أما إذ فسر الألف في رواية اللسان "وغيره" بالهمزة وألف المد معا "على سبيل التوسع في مفهومه" فلا يزال الاعتراض على الخليل قائما. وهنا رأي آخر في الترتيب الصوتي للحروف عند الخليل، رواه أبو الفرج سلمة بن عبد الله بن دلان المعافري الجزيري في قوله: يا سائلي عن حروف العين دونكها ... في رتبة ضمها وزن وإحصاء إلى أن قال: واللام، والنون، ثم الفاء، والباء ... والميم، والواو، والمهموز، والياء1 فإذا ما فسر المهموز بالهمزة فيمكن الاعتراض عليه بمثل ما اعترض على الخليل نفسه. والمرجح أن يكون المقصود بالمهموز هنا ألف المد وحده، وإنما اقتضى النظم عدم ذكره، أو أن التعبير خان واضع الأبيات. وربما يؤيد هذا الظن أن أبا الفرج لم يشر إلى ألف المد إطلاقا في بقية الأبيات. وليس من المستساغ أن يترك النص عليه؛ إذ لم يفعل ذلك أحد من قبله أو من بعده. أما   1 المزهر للسيوطي جـ1 ص89-90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 إذا كان المقصود بالمهموز الهمزة وألف المد معا، فيكون موقفنا منه هو موقفنا من الاحتمال الثاني لرواية صاحب اللسان التي أشرنا إليها فيما سبق. أم الأمر الثاني الذي يؤكد عدم الدقة في النظر إلى الهمزة فيظهر في الحكم عليها بأنها لا تنسب إلى أي جزء من اللسان أو الحلق أو اللهاة، وأنها تصدر من حيث تصدر الألف اللينة والواو والياء. ولقد ألح صاحب كتاب العين على هذا المعنى أكثر من مرة حيث جاء هناك مثلا: "قال الليث: قال الخليل: في العربية تسعة وعشرون حرفا، منها خمسة وعشرون حرفا صحاحا، لها أحياز ومخارج، وأربعة هوائية وهي الواو والياء والألف اللينة "والهمزة". فأما الهمزة فسميت حرفا هوائيا لأنها تخرج من الجوف، فلا تقع في مدرجة من مدارج اللسان، ولا من مدارج الحلق ولا من مدارج اللهاة. إنما هي هاوية في الهواء، فلم يكن لها حيز تنسب إليه إلا الجوف. وكان يقول كثيرا: "الألف اللينة والواو والياء هوائية، أي: أنها في الهواء"1. ويكرر هذا المعنى نفسه في سياق آخر، فيقول: "والياء والواو والألف والهمزة هوائية في حيز واحد، لأنها لا يتعلق بها شيء"2. أما الأزهري صاحب التهذيب الذي يحرص على نقل آراء الخليل برمتها فيما يختص بالقضايا الصوتية في الأقل، فنلاحظ أنه يعرض لكيفية صدور   1 كتاب العين ص64. وذكر الهمزة في أول النص من عمل المحقق وهي زيادة يقتضيها السياق كما هو واضح من بقية الكلام. 2 العين للخليل ص65. والكلام المذكور في صفحتي 64-65 من هذا الكتاب فيما يتعلق بهذه الأصوات الأربعة فيه خلط كبير. فقد جاء هناك مرتين نسبة هذه الحروف الأربعة إلى حيز واحد ووصفها جميعا بأنها هوائية، ولكنه مرة ثالثة يعزل الهمزة عن أخواتها ويقرر أن: "الألف والواو والياء في حيز واحد"، أما الهمزة فهي "في الهواء لم يكن لها حيز تنسب إليه". ففي هذا النص الأخير يأتي بالتفريق بين الهمزة والحروف الأخرى، ولكنه تفريق جاء في غير موضعه. إن الفرق بين الهمزة وهذه الحروف ليس في كونها -كما جاء في هذا النص- غير ذات حيز تنسب إليه، وإنما -على العكس من ذلك تماما- في كونها ذات حيز معين، هو الحنجرة، على حين يخرج هواء هذه الأصوات الثلاثة بوصفها حركات حرا طليقا بدون عائق، كما هو معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 حروف "العلة" ومخارجها ثلاث مرات في سياق واحد، ولكنه يهمل ذكر الهمزة في حالتين منهما، ويكتفي بذكرها مع هذه الحروف مرة واحدة. وقد جاء ذلك في نص له تكاد تتفق ألفاظه وعباراته مع ما رويناه عن كتاب العين وهذا هو النص: قال الخليل بن أحمد: حروف العربية تسعة وعشرون حرفا، منها خمسة وعشرون حرفا لها أحياز ومدارج، وأربعة أحرف يقال لها: جوف. الواو أجوف، ومثله الياء والألف اللينة والهمزة، سميت جوفا لأنها تخرج من الجوف فلا تخرج في مدرجة، وهي في الهواء، فلم يكن لها حيز تنسب إليه إلا الجوف"1. وهكذا نرى الخليل أو تلامذته الذين جمعوا آراءه في كتاب العين يخلطون خلطا واضحا في نقطتين اثنتين تتعلقان بمخرج الهمزة: النقطة الأولى: تتمثل في عدم نسبتها إلى نقطة أو مدرجة معينة من مدارج النطق، وإصرارهم على أنها في الهواء لا حيز لها. والهمزة -على ما هو مقرر الآن- لها مدرجة محددة لا سبيل إلى الشك في خروج الهمزة منها، وهي الحنجرة، ما سبق ذكر ذلك في موقعه2. ومن المؤكد أن الذي أوقعهم في هذا الخطأ هو نظرته إلى الهمزة كما لو كانت حرف "علة" "بحسب تعبيرهم" أو كما لو كانت حركة، كما نقول اليوم. أو لعلهم ركزوا على حالة من الحالات التي ظنوا أنها تعتريها، وهي حالة التخفيف أو التسهيل. وهذه الحالة في رأينا -كما ألمحنا إلى ذلك سابقا أكثر من مرة -ليست من حالات الهمزة في شيء، إذ المنطوق في هذه الحالة ليس همزا، وإنما هو شيء آخر قد يكون ألفا أو واوا أو ياء. وهذا المنطوق وحده -لا الهمزة- هو الذي يؤخذ في الحسبان.   1 التهذيب جـ1 ص48. 2 انظر ص91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 النقطة الثانية: التي تتصل بالاضطراب الحاصل منهم بالنسبة لمخرج الهمزة نعني بها ضمهم الهمزة إلى الألف والواو والياء ونسبتها جميعا إلى الهواء أو إلى الجوف. فهذه النسبة وإن صحت بالنسبة لحروف المد "والحركات عموما" لا تصح بالنسبة للهمزة على الإطلاق. فهواء الهمزة ليس منطلقا من "الجوف" إلى الخارج بدون عائق -كما هو الحال في نطق الحركات ومنها حروف المد بوصفها حركات طويلة- وإنما المعروف أن هواءها يقف وقوفا تاما في منطقة الحنجرة بسبب انطباق الوترين الصوتيين، ثم ينطلق هذا الهواء، فجأة وبسرعة إلى الخارج محدثا انفجارا، ومن ثم كانت تسميتها "بالوقفة الحنجرية" glottal stop أو "بالصوت الانفجاري الحنجري" glottal plosive. وهناك دليل آخر على اضطراب الخليل وتلامذته فيما يتعلق بمخرج الهمزة، يتمثل في تصريحهم أكثر من مرة بأنها صوت حلقي. ومن ذلك مثلا قول الخليل: "وأما الهمزة فمخرجها من أقصى الحلق"1 ويعيد الأزهري في التهذيب هذا الكلام نفسه بحروف الخليل، فيقول: "وأما مخرج الهمزة فمن أقصى الحلق". ثم يثني ثانية في سياق آخر فيسجل المعنى بإضافة العين إلى الهمزة، ويقرر أن: "الألف اللينة هي أضعف الحروف المعتلة والهمزة أقواها متنا، ومخرجها من أقصى الحلق من عند العين"2. فهم هاهنا قد نسبوا الهمزة إلى مدرجة أو نقطة معينة من نقاط النطق، على حين نفوا هذه النسبة -في نصوص أخرى- كما نسبوها إلى الحلق هنا وإلى الهواء هناك. وفي استطاعة البحث العلمي أن يقبل نسبة الهمزة إلى الحلق، ولكن على أساس واحد معين. وذلك عندما نفسر الحلق -في مفهومهم- بمعنى   1 كتاب العين ص58. 2 التهذيب جـ1 ص44، 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 أوسع ليشمل ثلاث مناطق مختلفة، ولكنها متصلة بعضها ببعض اتصالا وثيقا. تلك المناطق هي: 1- الحنجرة. 2- الحلق "بالمفهوم الدقيق". 3- أقصى الحنك. وقد درج على نحو هذا التقسيم كثير من قدامى الدارسين العرب "كسيبويه وابن جني"، حيث قسموا الحلق إلى ما سموه: أقصى الحلق ومنه: "الهمزة والهاء"، وأوسطه ومنه: "العين والحاء"، وأدناه ومنه: "الغين والخاء". فأقصى الحلق عندهم إذًا يقابل الحنجرة في العرف الحديث، وبهذا يسوغ لهم ما فعلوا، ويتركز الفرق حينئذ في التسمية. على أن هذا الاعتذار الذي قدمناه لهم لا ينطبق على الرواية الثانية لصاحب التهذيب، حيث قرر بوضوح أن الهمزة تخرج من حيث تخرج العين. وهذا غير صحيح على الإطلاق سواء أفسرنا الحلق بالمعنى الضيق أم الواسع، فالهمزة في كلتا الحالتين أعمق من العين وأسبق منها مخرجا. والحق أن الموضوع كما قدمه هؤلاء الرجال كله خلط واضطراب. وذلك مرجعه إلى أمرين رئيسين: 1- معاملتهم للهمزة معاملة "حروف العلة". 2- عدم قدرتهم على تحديد موضوع نطقها تحديدًا دقيقا، فهم تارة ينسبونها إلى ما تنسب إليه "حروف العلة"، وأخرى يعينون لها مخارج غير صحيحة. ونتيجة هذا كله أن الخليل أو صانعي ذلك الكتاب الذي نسبوه إليه "وهو العين" لم يوفقوا في تعرف الخواص الصوتية للهمزة، كما لم يستطيعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 تحديد مخرجها تحديدا واضحا. والقول بأن الخليل كان يدرك أن الهمزة هي أول الأصوات مخرجا قول يحتمل النظر والمناقشة. إن هذا الحكم قد استنتجه العلماء من رواية ابن كيسان التي أشرنا إليها سابقا والتي تقول: "سمعت من يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبدأ بالهمزة، لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف، لأنها لا تكون في ابتداء كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء، لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني ومنه العين والحاء فوجدت العين أنصع الحرفين، فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف". فهذا النص في رأينا من صنع المتأخرين، وليس من كلام الخليل نفسه. فهناك في الآثار المروية عن الخليل وتلامذته ما يناقض مفهوم هذه الرواية ويضعها موضع الشك، وذلك من جهتين اثنتين تتعلقان بموضوع الحديث. الجهة الأولى: مفهوم هذا النص أن الخليل يعلم تماما أن الهمزة -دون غيرها- هي أول الحروف مخرجا، كما ذكرنا، على حين ينص هو نفسه في كتاب العين على ما يبطل ذلك وينقضه، حيث يقرر أن العين -لا الهمزة- هي أول الأصوات في المخرج. يقول: "وإنما كان ذواقه إياها "يعني الحروف" أنه كان يفتح فاه بالألف، ثم يظهر الحرف، نحو: أبْ، أتْ، أحْ، أعْ، أغْ، فوجد العين أدخل الحروف في الحلق، فجعلها أول الكتاب ثم ما قرب منها الأرفع فالأرفع حتى أتى على آخرها وهو الميم". ويؤكد هذا المعنى نفسه مرة أخرى فيقول: "قأقصى الحروف كلها العين"1. ثم يعقب هذ النص بترتيب الأصوات بحسب ذواقه إياها، فيضع العين أولها ثم الحاء ثم الهاء إلى أن يصل إلى "حروف العلة" فيضعها في نهاية الترتيب ومعها الهمزة2. ووضع   1 العين ص52، 64. 2 السابق ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الهمزة في هذا الموضع إنما يرجع إلى معاملته لها معاملة حروف العلة، كما بينا سابقا، وهذه النظرة الخاطئة هي السبب الحقيقي في هذا الاضطراب الذي نتج عنه عدم معرفته بمخرجها الصحيح. وهذا المسلك نفسه سلكه صاحب التهذيب حيث يروى عن الخليل أنه قال: "وأقصى الحروف كلها العين". ثم يؤلف الحروف فيبدأ بالعين فالحاء فالهاء، ويضع حروف العلة في نهاية الترتيب، ولكنه -بعكس ما جاء في العين- يغفل ذكر الهمزة1. الجهة الثانية: يفهم من رواية ابن كيسان السابقة أن الخليل كان يرى أن الهاء أسبق من الحاء، ولكنه أخرها لخفائها، على حين يفيد كلام الخليل في أكثر من موضع أن الهاء تعقب الحاء -لا تسبقها- أو هي قريبة منها في موقع عام واحد. قال الخليل: "فأقصى الحروف كلها العين ثم الحاء، ولولا بحة في الحاء لأشبهت العين لقرب مخرجها من العين. ثم الهاء ولولا هتة في الهاء، وقال مرة: "ههة"، لأشبهت الحاء لقرب مخرج الهاء من الحاء، فهذه ثلاثة أحرف في حيز واحد، بعضها أرفع من بعض ... "2. ثم يؤكد هذه النظرة بترتيب الألفباء -في أكثر من سياق- واضعا الهاء بعد الحاء. ولم يخرج كلام الأزهري في التهذيب عن هذا المعنى الذي ينقله عن الخليل بالألفاظ والعبارات ذاتها تقريبا، كما يتبعه في هذا الترتيب الذي أشرنا إليه3. وليس يعني كل ما تقدم على أية حال أن العرب خانهم التوفيق في تعرف صوت الهمزة وخواصها المميزة لها. إنهم -باستثناء الخليل أو رواته وتابعيهم- استطاعوا الوقوف على أهم صفات هذا الصوت، وهي صفة   1 التهذيب جـ1 ص41، 48. 2 العين ص64. 3 التهذيب ص41، 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الانفجار، أو الشدة، بحسب تعبيرهم، كما استطاعوا أن يعينوا موضعا عاما من مواضع النطق. بل نزيد على ذلك فنقرر أن منهم من يدركون هذا الموضع أو المخرج إدراكا دقيقا، غير أنهم لا يملكون التعبير الفني الحديث. من هؤلاء مثلا الزركشي صاحب "البرهان" الذي يصرح بأن "الهمزة من الرئة" وأنها "أعمق الحروف"1. فكونها أعمق الحروف مخرجا "ومعها الهاء، على ما هو معروف" حكم دقيق بارع، وأما التعبير عن مخرجها بالرئة بدلا من الحنجرة، فسببه -فيما نعتقد- شعوره القوي بالحفز الواضح والواقع على هذا الجزء من الإنسان، نتيجة لضغط الهواء وانحصاره في الحنجرة وما تحتها، بسبب انطباق الوترين الصوتيين الواقعين في هذه الحنجرة. وهو شعور صحيح ووصف سليم لما يحدث بالفعل عند النطق بالهمزة. غير أن هذا العالم لم يستطع التعبير عن موضع النطق بالمصطلح "حنجرة" لاحتمال عدم معرفته بهذا المصطلح الذي لم يكن مشهورا بين لغويي العرب، بل كان مجهولا تماما لكثير من متقدميهم. على أن هناك عالما عربيا فذا قدم لنا وصفا لكيفية حدوث الهمزة، أتى فيه بمعظم خواصها كما يراه البحث الصوتي الحديث. هذا العالم هو الشيخ الرئيس ابن سينا في رسالة صغيرة له تسمى "أسباب حدوث الحروف". يقول الشيخ في هذا الشأن: "أما الهمزة فإنها تحدث من حفز قوي من الحجاب وعضل الصدر لهواء كثير ومن مقاومة الطرجهاري الحافز زمانا قليلا لحفز الهواء ثم اندفاعه إلى الانقلاع بالعضل الفاتحة وضغط الهواء معا"2. فهذا الوصف ينتظم خاصتين   1 البرهان في علوم القرآن للزركشي جـ1 ص168، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. 2 أسباب حدوث الحروف لابن سينا ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 من خواص الهمزة1. الأولى، كيفية نطقها وهو مكون من مرحلتين، ونعني بذلك سد طريق الهواء في الحنجرة بانطباق الوترين الصوتيين، ثم خروج هذا الهواء منفرجا إلى الخارج بعد ذلك فجأة وبسرعة. وقد عبر ابن سينا عن الحالة الأولى بالحفز القوي في الحجاب وعضل الصدر، وهو حفز نحس به بقوة عند بداية نطق الهمزة، بسبب انضغاط الهواء وحصره الناتجين عن انطباق الوترين، كما أشرنا إلى ذلك عند تفسير كلام الزركشي. أما الخطوة الثانية "وهي الانفجار" فقد أشار إليها الشيخ الرئيس "باندفاع الهواء" الذي ينقلع بالعضلات الفاتحة أي: ينحيها بعضها عن بعض فتنفتح الحنجرة "أي ينفرج الوتران" مصحوبا ذلك كله بخروج الهواء المضغوط. أما الخاصية الثانية التي ينتظمها هذا الوصف البارع فهي تتعلق بالمنطقة التي تصدر منها الهمزة. إنها الحنجرة بصريح عبارة ابن سينا. فليس "الطرجهاري" المذكور في الصوف السابق إلا ما نسميه اليوم بالغضروف الهرمي arytenoid، وهما في الواقع غضروفان هرميان، وسميا كذلك لأن كلا منهما يشبه الهرم2. وهذان الغضروفان يكونان جزءا رئيسيا من غضاريف   1 الخاصة الثالثة والمكملة لخواص الهمزة هي حالتها من حيث وضع الأوتار الصوتية، أي من حيث الجهر والهمس، ولم يشر إليها ابن سينا هنا. 2 الغضروف الهرمي aryteniod أشير إليه "بالطرجهاري" مرة و"بالطرجهالي" مرة أخرى في رسالة ابن سينا المذكورة. ويبدو أن كلا الاستعمالين صحيح، على ما يفهم من القاموس المحيط، إذ جاء فيه "طرجهارة" شبه كأس يشرب فيه، وفي مكان آخر يقول: "الطرجهالة بالكسر الفنجانة كالطرجهارة". ويقول الدكتور أنيس "أصوات اللغة عند ابن سينا: مجموعة بحوث مؤتمر مجمع اللغة العربية يناير 1963، ص180": الطرجهاري "من الكلمة الفارسية طرجهارة أي: كأس للشرب". ثم يقول: "ويبدو أن هذا الغضروف قد ظهر لأطباء العرب القدماء على هذه الصورة على حين أنه بدا للإغريق القدماء على شكل المغرفة لأن معنى aryteniod الشبيه بالمغرفة. ويرى الدكتور شرف أن هذا الغضروف في الحيوان يشبه فم الإبريق. ولذا سماه ابن سينا بالطرجهاري". أما نحن فقد سميناه بالهرمي لأنه يشبه الهرم إلى حد ما. وهذه التسمية هي المشهورة الآن، كما يبدو مثلا من عبارة "هيفنر" "علم الأصوات العام ص16": roughly pyramid-shaped arytenoid artilages. ومما يذكر أن بعض الباحثين يسميه "الطرجهالي" ويدعوه آخرون "الطهرجلياني". والتسمية الأولى ذكرها إلياس أنطون إلياس في قاموسه المعروف، والثانية للدكتور عبد الرحمن أيوب أصوات اللغة ص48 ط2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الحنجرة، ولهما قدرة على الحركة. فقد يقترب أحدهما من الآخر أو يبتعد عنه، وقد يشتد الاقتراب بينهما حتى تلتقي قمتاهما فينسد فراغ الحنجرة. وهذا هو ما يحدث بالفعل عند النطق بالهمزة، حيث يؤدي هذا الالتقاء إلى انطبق الوترين الصوتيين انطباقا تاما. والمصطلح "حنجرة" نفسه ليس غريبا عن ابن سينا، كما هو معروف. وقد قدم لنا في رسالته المذكورة وصفا بارعا مفصلا لهذا العضو وأجزائه المختلفة "وهي الغضاريف" مشيرا إلى ما يطرأ على هذه الأجزاء أثناء عملية إصدار الكلام وغيرها. اقتصرنا في كل ما سبق على وصف الهمزة ومناقشة مشكلاتها من وجهة النظر الصوتية الصرفة، فبنينا هذه المناقشة على أساس أنها صوت مفرد منعزل، ونظرنا إليها في ذلك من ناحيتين اثنتين. 1- الناحية العضوية أو الفسيولوجية physiological، وهي تتعلق بكل ما يتصل بأعضاء النطق وأوضاعها وحركاتها المختلفة. 2- ناحية التأثير السمعي audible effect، من حيث تلك الآثار السمعية التي تحدثها الذبذبات الصوتية المنتشرة في الهواء والتي تؤثر في أذن السامع تأثيرا معينا والتي تنتج -في وقت نفسه- عن ميكانيكية النطق. وهذه النظرة بجانبيها نظرة صوتية محضة، أي: جاءت على مستوى الفوناتيك at the phonetic level. أما دراسة الهمزة من الناحية الصوتية الوظيفية at the phonological level أي على مستوى الفنولوجيا، بالنظر إلى قيمتها ووظيفتها في التركيب الصوتي للغة العربية؛ نقول أما هذه الدراسة فلم نعرض لها هنا لسببين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أولهما: أنها دراسة واسعة تحتاج إلى بحث مستقل، لتشعب الكلام فيها تشعبا لا تحتمله هذه الدراسة. ثانيهما: "وهو الأهم" أن دراسة أي صوت دراسة وظيفية لا يمكن أن تتم بدون دراسة جميع أصوات اللغة المعينة، لأن هذا الصوت أو ذاك لا قيمة له إلا بوصفه جزءا من نظام معين، وفيه تظهر قيمته ويبرز معناه الصوتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ثانيا: ألف المد ألف المد هو المسمى الثاني للمصطلح العام "ألف"، وهذه التسمية هي المشهورة في الدرس الصوتي التقليدي عند العرب. وقد ينعت أحيانا بألف المد واللين، أو بالألف اللينة، في مقابل الألف "اليابسة" التي يعنون بها الهمزة. وليس من النادر أن يطلقوا عليه "حرف علة"، غير أن هذا النظر الأخير إنما يغلب تطبيقه في ميدان الصرف. أما في العرف الصوتي الحديث فألف المد تسمى الحركة، ونعني بها الفتحة الطويلة، التي تصور في الكتابة الصوتية Phonetic transcription تصويرا عاما هكذا: "a" أو "aa"، على أساس أن تكرار الرمز يعني طول الحركة، كما في نحو قال: qaal بالفتحة الطويلة "= ألف المد" في مقابل نحو كتب: kataba بالفتحة القصيرة. ومن الطبيعي أن يعتمد تحديد هذه الحركة الطويلة على تحديد الحركة القصيرة المعروفة بالفتحة في التراث العربي التي وضعوا لها اسم التقليدي المعروف "َ" للدلالة عليها. وسبب هذا الاعتماد هو اتفاق الحركتين في كل الخواص النطقية، فيما عدا خاصة الكمية quantity أو الفترة الزمنية duration التي يستغرقها نطق كل منها، والتي تستتبع -بالضرورة- اختلافا من نوع ما في درجة انفتاح الشفاه. والفتحة -كما هو معروف- هي إحدى الحركات الثلاث الرئيسية في اللغة العربية، وهي تكمل مع أختيها -الكسرة الضمة- نظام الحركات في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 هذه اللغة 1The vowel system of Arabic. ولهذه الفتحة -كما لغيرها من الحركات- خواص صوتية معينة، يمكن تحديدها وتعرفها بأكثر من طريق علمي على المستوى الصوتي. 1- يمكن تحديد الفتحة -كما يمكن تحديد غيرها من الأصوات- على أساس خواصها النطقية، وما يرتبط بذلك من آثار سمعية تصل إلى أذن السامع عن طريق الذبذبات المنتشرة في الهواء نتيجة لحركات أعضاء النطق أو بعبارة أخرى، نستطيع أن نصف الفتحة "وغيرها" بالإشارة إلى ميكانيكية النطق، وما تنتظمه هذه العملية من أوضاع أعضاء النطق وحركاتها المختلفة، وما ينتج عن ذلك من ذبذبات وموجات صوتية ملائمة لهذه الأوضاع والحركات، وتصل إلى أذن السامع، وتؤثر فيه تأثيرا معينا. وهذه النظرة -كما ترى- تتضمن ثلاثة جوانب متصلة غير منفصلة: - الأول: جانب نطقي articulatory. - الثاني: طبيعي أو مادي physical أو acoustic كما يشار إليه أحيانا. - الثالث: فهو سمعي audible. وسوف نعتمد في دراستنا هنا على الجانب الأول؛ لأنه أوضحها وأهمها، مشيرين إلى الجانب الثالث كذلك، إذ لا نملك إهمال الآثار السمعية التي تصل إلى أسماعنا. أما الجانب الثاني فهو جانب دقيق بطبيعته، ويحتاج إلى تحليل صوتي معملي لا تحتمله البحوث الصوتية الدقيقة المتخصصة.   1 لسنا هنا في مجال دراسة الحركات العربية بالتفصيل، ومن ثم ليس من شأننا أن نشير إلى أي نوع من تلك الحركات الأخرى الإضافية التي قد تنسب إلى العربية أحيانا كالإمالة بأنواعها، أو تلك الحركات التي قد تكون خاصة بلهجة "قديمة" دون أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وهذا النظرة بجوانبها الثلاثة تدخل في نطاق علم الأصوات phonetics "أو الفوناتيك"، بوصفه المنهج الذي يركز جهوده على الناحية المادية للأصوات، أي على أساس أنها أحداث منطوقة بالفعل speech-events في الموقف المعين. 2- يمكن تحديد الحركة "كما يمكن تحديد غيرها" بالنظر إلى وظيفتها في التركيب الصوتي، أي: بالنظر إلى قيمتها ومعانيها الصوتية في الموقع المعين. ويتم ذلك عادة بطريق التقابل أو التبادل commumitation بين الصوت المعين وغيره من الأصوات في سياقات متشابهة أو متماثلة comparable، كمقابلة الفتحة مثلا في نحو: جَلسة "بفتح الجيم، اسم مرة" وبالكسرة في نحو: جِلسة "بكسر الجيم، اسم هيئة". وهذا الجانب جانب وظيفي functional، يعني بالأصوات من حيث وظائفها في تركيب اللغة، لا بالأصوات من ناحيتها المادية النطقية الخالصة. فهو إذ ينظر إلى الفتحة مثلا إنما ينظر إليها بوصفها وحدة unit أو عنصرا term في نظام system صوتي معين، لا بوصفها حدثا صوتيا منطوقا. فوظيفة هذا الجانب إذن التجريد abstraction وتنظيم المادة وتقعيدها، لا البحث في الأمثلة الجزئية الواقعة أو حصرها ودرسها بهذا الوصف. وهو إن عرض لهذه الجزئيات إنما يعرض لها بغرض التجريد والوصول منها إلى قواعد كلية. وربما يتضح الفرق بين هذا الجانب الوظيفي والجانب السابق بالمثال الآتي: الفتحة من وجهة النظر الوظيفية وحدة صوتية تكون جزءا من نظام الحركات في اللغة العربية، وهي بهذا المعنى ليست كسرة أو ضمة. ولكنها من حيث النطق وآثاره السمعية، "وهو ما يهتم به الجانب الأول" قد تكون ذات صور نطقية متعددة، وذات آثار سمعية مختلفة، بحسب الموقع الصوتي الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 تقع فيه. فهناك مثلا: الفتحة المفخمة، والفتحة المرققة، وتلك التي قد تدعى بين بين، وهناك كذلك مثلا الفتحة القصيرة، والفتحة الطويلة ... إلخ. هذه النظرة الثانية للأصوات دراسة وظيفية، وإطارها العام هو علم وظائف الأصوات أو الفونولوجيا phonology. ونحن في تعريفنا للفتحة سوف نأخذ في الحسبان الجانب النطقي وما يتعلق به أولا، ثم نخلص من ذلك إلى النظرة الوظيفية التي تنتهي بنا إلى تحديد الفتحة بوصفها وحدة صوتية أو جزءا من نظام الحركات في العربية. وإنما كان ذلك النهج منا لأن جانب الفونولوجيا -على الرغم من اختصاصه بمرحلة التجريد والتقعيد- لا يمكن فصله فصلا تاما عن الفوناتيك؛ فكلاهما مرتبط بالآخر ومعتمد عليه. الفتحة بوصفها حركة ينطبق عليها "من وجهة النظر الفوناتيكية" التعريف العام للحركات، ذلك التعريف الذي ينتظم خاصتين أساسيتين هما: حرية مرور الهواء خلال الحلق والفم، وذبذبة الأوتار الصوتية حال النطق بها. أو بعبارة أخرى -كما يقول علماء الأصوات- الحركة صوت يحدث أثناء النطق به أن يمر الهواء حرا طليقا من خلال الحلق والفم، دون أن يقف في طريقه عائق أو حائل، ودون أن يضيق مجرى الهواء ضيقا من شأنه أن يحدث احتكاكا مسموعا، ودون أن ينحرف عن وسط الفم إلى الجانبين أو أحدهما وهي في العادة صوت مجهور1.   1 انظر: دانيال جونز: An Outline of English Phonetics, p. 23 وروبنس: "علم اللغة العام: عرض تمهيدي" ص94، وبلوك وتريجر: "موجز التحليل اللغوي" ص18، 25 ومن رأى جونز أن الحركات دائما مجهورة في الكلام العادي، ولكن ينعدم هذا الجهر في الوشوشة Whispered Speech. أما الباحثون الآخرون فيرون أن جهر الحركات هو القاعدة العامة، ولكن هناك لغات معينة بها حركات مهموسة في الكلام العادي. أما "هيفنر" في كتابه General Phonetics فيرى أن الحركات قد تكون مجهورة أو غير مجهورة ومن هذه الحالة الأخيرة الحركات في الوشوشة وقد تسمى حينئذ "مهموسة" انظر المرجع السابق ص85-86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 أما تحديدها بوصفها فتحة فيعتمد على عاملين مهمين، هما وضع اللسان في الفم، والشكل الذي تتخذه الشفاه عند النطق. أما بالنسبة للحالة الأولى فاللسان مع الفتحة العربية يكاد يكون مستويا flat في قاع الفم مع ارتفاع خفيف في وسطه، وربما ينحو هذا الارتفاع نحو الخلف قليلا. فالفتحة بهذا الاعتبار حركة متسعة أو منفتحة Open. وتدل هذه التسمية على الاتساع النسبي الواقع بين اللسان في وضعه المذكور وبين سقف الحنك الأعلى. والملاحظ أن الشفاه حال النطق بالفتحة تكون في وضع محايد neutral أي: غير مضمومة not rounded، وغير منفرجة not spread. "ضم الشفاه يكون مع الضمة، وانفراجها مع الكسرة"، أو بعبارة أخرى تكون الشفاه معها مفتوحة، ومن هنا كانت تسميتها "بالفتحة"1. ومن الجدير بالذكر أن هذا الوصف إنما ينطبق على الفتحة بوصفها نمطا أو جنسا a type or a class of sounds ينضم تحته عدد من الفتحات التي قد يأخذ اللسان معها أوضاعا مختلفة من حيث درجة ارتفاعه وانخفاضه، ومن حيث جزؤه المرتفع أو المنخفض: أهو الجزء الأمامي أم الخلفي. وهذ الوصف ذاته -وإن كان مبنيا على أساس النطق "أو النظرة الفوناتيكية"- يقرب أن يكون وظيفيا أو فنولوجيا لاهتمامه بالأنماط لا بالجزئيات والأمثلة النطقية المختلفة Variants. ومهما يكن الأمر، فالفتحة بصورها النطقية المتعددة ليست إلا وحدة صوتية واحدة من الناحية الفنولوجية الوظيفية. ذلك لأن هذه الصور ليست إلا صورا سياقية نتجت عن اختلاف المواقع الصوتية في التركيب، وليست تنفرد   1 من هذا يظهر أن هذه التسمية تسمية علمية بارعة، وقد توصل إليها أبو الأسود الدؤلي منذ مئات السنين، كما تبدو من تلك القصة المشهورة المروية عنه في هذا المجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 كل صورة منها بقيمة لغوية تختلف عن قيمة الأخريات. إنها جميعا من هذه الناحية الأخيرة -ناحية الوظيفة والقيمة اللغوية- تمثل كلا أو نوعا من الحركات هو ما اتفق على تسميته بالفتحة. والفتحة بهذا المعنى الوظيفي ليس لها من مدلول أكثر من كونها ليست كسرة أو ضمة، وهي تتبادل السياقات الصوتية معهما. نقول مثلا: جَلسة "بفتح الجيم" × جِلسة "بكسر الجيم" وبَرد "بفتح الباء" × بُرد "بضم الباء = ثياب" فنلاحظ وقوع الفتحة موقع الكسرة والضمة وتبادلها للمواقع معهما وقد أدى هذا الوقوع وهذا التبادل إلى اختلاف المعنى في الحالتين، كما هو واضح من الأمثلة. وهذا يعني أن الفتحة هنا ذات وظيفة لغوية، إذ استطاعت أن تفرق بين المعاني في الكلمات المتشابهة في كل مكوناتها الصوتية، باستثناء نفسها. وهذه الوظيفة هي وظيفة الفتحة بهذا الوصف، أي: بقطع النظر عن صورها وأمثلتها الجزئية المتعددة من فتحة مفخمة، ومرققة، وبين بين ... إلخ. والأوصاف السابقة بجانبيها الفوناتيكي والفونولوجي أو النطقي والوظيفي تنطبق في عمومها على الفتحة الطويلة "= ألف المد"؛ إذ هي مثل الفتحة القصيرة في كل ما ذكرنا باستثناء خاصتين فرعيتين. أولاهما: تظهر في فرق الكمية؛ حيث يستغرق نطق الفتحة الطويلة زمنا أطول نسبيا من نطق القصيرة. وتصحب هذه الخاصة ظاهرة نطقية أخرى، هي أن حياد الشفتين "المعهود في نطق الفتحة القصيرة" يميل إلى اتخاذ وضع مختلف إلى حد ما، يظهر هذا الوضع في ازدياد درجة الاتساع بينهما، بسبب خاصة الطول في الفتحة الطويلة دون القصيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ونعني بالخاصة الثانية التي تنفرد بها الطويلة دون القصيرة أن الفتحة الطويلة إنما تقارن وظائفها اللغوية في التركيب بوظائف الكسرة والضمة الطويلتين -لا القصيرتين- أي: واو المد ويائه، كما ترى في نحو: قاما "للمثنى" × قومي "أمر المخاطبة" وقاما "للمثنى" × قوموا "أمر جماعة الذكور" حيث وقع التبادل هنا بين الحركات الطويلة في سياقات صوتية متماثلة، وحيث أدى هذا التبادل إلى التفريق بين المعاني. نخلص من كل ما تقدم إلى أن ما يسمى "ألف المد" في التراث التقليدي ليس إلا حركة، هي الفتحة الطويلة. أما كونها حركة فلاتصافها بخواص الحركات بعامة. وتتلخص تلك الخواص في صفة "الجهر" الذي ينشأ عن ذبذبة الأوتار الصوتية حال النطق، وفي أن هواءها عند النطق يخرج في الحلق والفم حرا طليقا دون أن يعوقه عائق أو مانع ودون أن ينحرف إلى أحد الجانبين أو كليهما. أما كونها فتحة فلانطباق الخواص النطقية للفتحة عليها، باستثناء خاصتي الطول وإمكانية التبادل في المواقع الصوتية مع الواو والياء، لا مع الكسرة والضمة القصيرتين، كما سبق أن ذكرنا. فالفتحة في العربية إذن وحدة واحدة، ولكنها قد تكون قصيرة وعلامتها الكتابية " َ" أو طويلة وعلامتها "ا" وهي ما تسمى ألف المد. وتتفق هاتان الصورتان للفتحة في ظاهرة صوتية أخرى مهمة، تلك هي ظاهرة التفخيم والترقيق وما بينهما. فالفتحة بذاتها لا تتصف بتفخيم أو ترقيق، وإنما تعتريها هذه الظاهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 في السياق أي بسبب تأثرها بما يجاورها من الأصوات، فهي إذن ظاهرة سياقية contextual كما يظهر في نحو: - صَبْرٌ - قَبْرٌ - سَبْرٌ حيث فخمت الفتحة في المثال الأول، ورققت في الثالث ولكنها بين الحالتين في المثال الثاني. وهذا الاختلاف في الدرجة يرجع إلى الأصوات السابقة عليها في هذه الكلمات. فهي في الكلمة الأولى مسبوقة بصوت مفخم هو الصاد. وفي الثالثة بالسين وهو صوت مرقق. أما في المثال الثاني فهي واقعة بعد القاف1 وهو صوت بين بين أي بين التفخيم والترقيق. وكذلك الحال في الفتحة الطويلة "= ألف المد"؛ حيث لا تتصف بذاتها بهذه الظاهرة بدرجاتها المختلفة. قارن: - صاد - قاد -ساد حيث كانت "الألف" "= الفتحة الطويلة" مفخمة في الكلمة الأولى ومرققة في الثالثة، ولكنها بين الدرجتين في المثال الثاني. وسبب هذا الاختلاف إنما هو السياق نفسه. ومن الجدير بالذكر أن عالما عربيا قد لحظ هذه الحقيقة، وهي أن ما تخضع له الألف "= الفتحة الطويلة" من تفخيم "أو ترقيق بطبيعة الحال" إنما   1 عبارة "بعد" لا تشير إلى: أنها واقعة على الباء ولكنها تشير إلى أنها واقعة على الصاد، أو السين. إملائيا، ولكنها وفقا لطبيعة النطق. تنطق بعد النطق بالصامت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 سببه السياق، أما هي ذاتها فلا توصف بتفخيم أو ترقيق. يقول ابن الجوزي: ومن الحروف "الحروف المستقلة وضدها المستعلية. والاستعلاء من صفات القوة. وهي سبعة يجمعها قولك: "قظ خص ضغط"، وهي حروف التفخيم على الصواب. وأعلاها "الطاء"، كما أن أسفل المستفلة "الياء". وقيل: حروف التفخيم هي حروف الإطباق1، ولا شك أنها أقواها تفخيما، وزاد مكي عليها الألف. وهو وَهْمٌ، فإن الألف تتبع ما قبلها فلا توصف بترقيق أو تفخيم"2. فابن الجزري هنا ينفي كون الألف مفخمة أو مرققة بذاتها، وهذا قول سليم ولا شك، غير أنه قصر خضوع الألف لهذه الظاهرة على الحالات التي تكون فيها تالية للأصوات التي تؤثر فيها. وكان الأوفق به أن يعمم الأمر فيرجعها إلى الموقع أو السياق بعامة، لندخل الحالات الأخرى التي يحدث لها التأثر بالأصوات التالية لها أيضا، كما يظهر مثلا في نحو: فاض، باض حيث تأثرت الألف بتفخيم الأصوات التالية لها "لا السابقة عليها"، وكان مقتضى كلامه أن تكون مرققة في مثل هذه الحالات لسبقها بأصوات مرققة. "وأما ابن جني فلم يذهب هذا المذهب الدقيق على ما يبدو. إنه لم يربط تفخيم الألف "أو ترقيقه" بالسياق أو الموقع، وإنما يفهم من كلامه أن الألف قد تفخم "أو ترقق" بذاتها، أي بقطع النظر عما يسبقها أو يلحقها من الأصوات. يقول: "وأما ألف التفخيم فهي التي تجدها بين الألف والواو، نحو قولهم:   1 حروف الإطباق أربعة هي: الصاد والضاد والطاء والظاء. 2 النشر في القراءات العشر لابن الجزري جـ1 ص202-203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 سُلام عليك، وقُام زيد، وعلى هذا كتبوا: الصلوة، والزكوة، والحيوة، بالواو، لأن الألف مالت نحو الواو". فابن جني ههنا يشعرنا بأن التفخيم من صفات الألف ذاتها، كما يشعرنا بأن هناك أكثر من صورة لنطقها بقطع النظر عن سياقها الصوتي. والظاهر على كل حال أن هذا العالم كان يتكلم عن الألف في لهجة معينة أو مستوى لغوي معين، بدليل أنه عد هذا النطق داخلا في إطار ما سماه الأصوات أو الحروف المستحسنة1. ومعناه أن تفخيم الألف جائز وإن لم يكن هو الأصل فيها. وفي ظننا أن هذا النطق اللهجي -غير المرتبط بالموقع والسياق- متأثر بنطق أجنبي عن العربية في مستواها الفصيح، وبدليل أمثلته الأخرى في بقية النص، وهي "الصلوة والزكوة" إلخ، وهي كلمات سوريانية الأصل على ما نعلم. ويجب أن نعرف على كل حال أن التفخيم في الألف "والحركات العربية كلها" ليس ظاهرة "فونيمية" phonemic، أي: ليس ظاهرة من شأنها التفريق بين المعاني في الكلمات المتماثلة في تركيبها الصوتي، فيما عدا هذه الظاهرة نفسها. وإنما التفخيم هنا ظاهرة تطريزية prosodic، هي خاصة السياق كله وناتجة عنه. فالتفخيم هنا يختلف عن التفخيم في الطاء من نحو: طاب؛ إذ هذا الأخير تفخيم "فونيمي"؛ إذ كان وجوده مفرقا ومميزا للمعاني، كما يظهر من مقارنة: "طاب" بـ"تاب". ففي "طاب" تفخيم واضح في الحدث اللغوي كله، ولكنه تفخيم ذو معنى لغوي في الطاء "إذ هو يميزها من التاء" وتفخيم سياقي تطريزي في الألف "والباء كذلك"، سببه وجود هذه الطاء.   1 سر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص51 و56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 هذا القول الموجز الذي سقناه فيما يتعلق بألف المد وخواصها من وجهة النظر الحديثة من شأنه أن يقود إلى عقد مقارنة بين هذه النظرة وما رآه علماء العربية في الموضوع نفسه. ولكننا رأينا أن نرجئ الكلام على هذه المقارنة لنعود إليه في دراسة خاصة تضم الواو والياء كذلك، لأن هؤلاء العلماء قد تناولوا هذه "الحروف" الثلاثة معا، وأتوا فيها بأحكام تنسحب عليها جميعا بصفة عامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الواو والياء : يطلق كل من الواو والياء على مدلولين صوتيين مختلفين. فهما اسمان للواو والياء في نحو ندنو، نرمي nadnuu, narmii، وهما كذلك يدلان على الواو والياء، في مثل وهب، يهب: wahaba, yahabu، وقوم، بيت: qawm, bayt. والواو والياء في الحالة الأولى حركتان خالصتان، ونعني بهما الضمة والكسرة الطويلتين، ومن ثم كانتا عنصرين أو مثالين من أمثلة الحركات اللغة العربية، أما في الحالة الثانية فيعرفان في الدرس الصوتي الحديث "بأنصاف حركات" semi-vowels، ولكنهما ينضمان -من وجهة النظر الوظيفية- إلى تلك المجموعة من الأصوات المعروفة بالأصوات الصامتة Consonants. ولكن السؤال الآن هو: كيف يمكن التمييز بين الحالتين؟ أو بعبارة أخرى: ما أسس التفريق بين هذين المدلولين؟ وما حدود كل منهما ووظائفه في اللغة العربية؟ نستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة من زاويتين صوتيتين مختلفتين، زاوية فوناتيكية، تعنى بالنطق وآثاره المادية والسمعية، وزاوية فنولوجية، توجه اهتمامها نحو: الوظيفة اللغوية لهذه الأصوات في التركيب الصوتي للغة العربية. حاول بعضهم التفريق بين الحالتين على أساس صوتي "فوناتيكي" صرف. فهما حركتان "طويلتان" في أدعو، أرمي؛ لانطباق خواص الحركات ومعايير الحكم عليهما. ذلك لأن الهواء عند نطقهما يخرج حرا طليقا دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 عائق أو مانع من أي نوع من وسط الفم، وهما صوتان مجهوران كذلك، فالواو في "أدعو" لها خواص الضمة "القصيرة" وتفترق عنها في الكمية فقط، ومدة النطق duration. إنها مثلها في الكيف ومختلفة عنها في الكم فقط. وهذه المعايير ذاتها تنطبق على الياء في "أرمي": إنها كسرة طويلة، أي: ضعف الكسرة القصيرة في الكم ولكنها مثلها تماما في الكيف. ولكن الواو والياء صوتان صامتان consonants في نحو "وَعد، يَعد"؛ لأن الهواء الخارج من الرئتين عند نطقهما -وإن كان يخرج من وسط الفم- يقابله عائق من نوع ما، يضيق مجرى الهواء، بسبب اقتراب مؤخر اللسان من أقصى الحنك مع الواو، ومقدمه من مقدم الحنك عن النطق بالياء. وبذلك فقدنا بعض سمات الحركات الخالصة التي تتمثل في الحرية الكاملة للهواء عند نطقهما، فشابهتا الأصوات الصامتة، وأصبحتا مرشحتين لانضمامهما. ولكن أصحاب هذا الرأي الذي يفرق بين الحالتين على أساس نطقي صرف أدركوا أن مجرى الهواء -وإن ضاق عند نطقهما في هذه الحالة- لم يصل إلى درجة الضيق التي نلاحظها عند نطق الأصوات الصامتة. ومن ثم رأوا في النهاية تسميتهما أنصاف حركات semi-vowels وأجازوا أيضا تسميتهما أنصاف أصوات صامتة semi-consonants، لشبههما نطقا بالفئتين: الحركات والأصوات الصامتة، وإن كان الشائع في الأوساط اللغوية في مجملها إطلاق المصطلح "أنصاف الحركات" على هذين الصوتين. أما نحن فلسنا نأخذ بهذا المعيار النطقي وحده في التفريق بين حالتي الواو والياء، ونعتمد في الأساس على معيار أدق وأقرب إلى الحقيقة، وهو معيار الوظيفة ودورهما في البناء اللغوي الواقعي. إنهما حركتان خالصتان في نحو: "أدعو، أرمي" لوقوعهما موقع الحركات، واستحالة ضمهما إلى الأصوات الصامتة، لامتناع تحريكهما في هذين المثالين ونحوهما بحركات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 على عكس ما يحدث لهما في نحو "وَعد، يَعد" إذ جاءتا متلوتين بالحركات الممثلة في الفتحة في المثالين. والواو والياء صوتان صامتان خالصان في نحو المثالين الأخيرين لوقوعهما موقع الأصوات الصامتة وجواز التبادل معها في كل مواقعهما. ففي حال التبادل نقول "نَعد، تَعد" بالنون في الأولى، والتاء في الثانية. ولا يمكن هنا أن نصنفهما حركات بحال، لأنهما متبوعتان بحركات، ومن المقرر -ويشهد له واقع اللغة- أنه لا يجوز اجتماع حركتين متتاليتين في أي موقع من مواقع الكلمة في اللغة العربية. ربما يصعب على بعض الناس التفريق بين الحالتين وظيفيا، بسبب استخدام رمز واحد واسم واحد للواو والياء في أي موقع يقعان فيه. ويمكننا تيسير الأمر للباحثين عن الفرق بين القيمتين بالإشارة إلى بعض الأمارات التي ترشد الدارس إلى تعرف هذين الصوتين حال كونهما أصواتا صامتة وظيفيا، فنقول: 1- الواو والياء صوتان صامتان وظيفيا إذا وقعتا في أول الكلمة، إذ من المحال عدهما حركتين، لامتناع بدء الكلمة العربية بالحركات. 2- هما صوتان صامتان إذا أتبعتا بحركات إذ لا يمكن اجتماع حركتين متتاليتين في كلمة واحدة كما أشرنا إلى ذلك. 3- الواو والياء صوتان صامتان إذا أصابهما التضعيف، نحو "قَوَّام، مَيّال" وقد أشار ابن جني إلى هذه السمة ذاتها، فقال: "إنهما ضارعتا أو ماثلتا أو شابهتا" الحروف الصحاح. وعندنا أيضا أن الواو والياء صوتان صامتان وظيفيا في نحو: "حوض، بيت"، أي: إذا وقعتا ساكنتين مسبوقتين بفتحة، وقد وهم بعض المستشرقين "وتبعهم بعض الدارسين العرب العاملين في مجال اللغات السامية" فظنوا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الواو والياء في المثالين السابقين ونحوهما يكونان مع الفتحة السابقة عليهما حركة مركبة diphthong. وهذا وهم كبير، إذ ليس في هذين المثالين وما جاء على هيئتهما حركة مركبة، وإنما هناك وحدتان صوتيتان مستقلتان. الفتحة + الواو أو الياء. ودليل أن الواو والياء هنا وحدتان مستقلتان وليستا عنصرين من حركة مركبة، ظهورهما كذلك في تصرفات الكلمة كما في نحو "أحواض، أبيات" حيث تحققت طبيعتهما، وهي كونهما أصواتا مستقلة، وهما في هذا الاستقلال رشحتا نفسيهما لحسبانهما صوتين صامتين، إذ قد أتبعتا بحركة وهي الفتحة الطويلة "الألف"، كما هو واضح من المثالين المذكورين. ولكن هذا الذي نقول لا يمنعنا من إطلاق الاسم الشائع عليهما وهو "أنصاف حركتين"، اتباعا للتقاليد الجارية، ولشبهة التقارب في الأداء النطقي بين حالتيهما. أما علاج اللغويين العرب القدامى "وبعض المحدثين" للواو والياء فقد جاء علاجا مضطربا، لا يكشف كشفا دقيقا عن طبيعتهما، ويخلط خلطا واضحا بين قيمتهما ودورها في البناء اللغوي. إنهم أولا خلطوا بين الرمز "الكتابي" والصوت، وركزوا ثانيا على ما يصيبهما من تغير في مواقع مختلفة من الكلمة، فأطلقوا عليهما المصطلح التقليدي "حروف علة". نعم، إنهم في مجملهم أشاروا إلى أنهما حرف مد في نحو "أدعو، أرمي" الأمر الذي ينبئ عن إدراكهم أنهما حركتان "طويلتان" وقد صرح بعض الثقات منهم إلى هذه الحقيقة، حيث بينوا أن بينهما وبين الضمة والكسرة علاقة الكلية والجزئية. ولكنهم لم يعرضوا عرضا مناسبا لمدلوليهما الآخر، وهو كونهما من الأصوات الصامتة، باستثناء إشارات سريعة وقعت من بعضهم كابن جني الذي نبه إلى أنهما يضارعان "يشابهان" الحروف الصحاح إذا أصابهما التضعيف، كما أشرنا إلى ذلك قبلا. وهذا الذي قرره ابن جني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 على الرغم من صحته وجودته لا يغني كثيرا ولا يفي بحاجة التفريق بين كونهما من حروف المد "الحركات" وكونهما من الأصوات الصامتة. ولكنهم جميعا -على الرغم من هذه الإشارات الخاطفة المقبولة- لم يوفقوا من الناحية الواقعية في النظر إلى الواو والياء عندما يصيبهما شيء من التغير في تصاريف الكلمات إنهم مثلا يقررون أن "لم يقُل" أصلها "لم يقول": فحذفت الواو لالتقاء الساكنين. وهذا وهم منهم إذا المحذوف هو الرمز "و"، أما الواو نطقا "وهي الضمة الطويلة" فقد قُصرت، وصارت حركة قصيرة، هي الضمة، وذلك لأن التركيب المنطقي في اللغة العربية لا يسمح بطول الحركة في هذا السياق. فمن المعلوم أن المقطع: "ص ح ح ص"1 لا يقع في العربية إلا في حالتين اثنتين: عند الوقف، كما في "قال" بتسكين اللام، وعندما يكون الصامت الأخير مدغما في مثله، كما في "ضالين" "ص ح ح ص". وقد جاء تسويغهم لحذف الواو في المثال السابق، والياء في "لم يِبْع" على أساس أنهما حرفا علة، يصيبهما الحذف والتغيير والاعتلال إلخ. وهذه النظرة -وإن كانت تصلح مسوغا لهذه التسمية- لا تصلح أساسا للقول بأن الواو والياء قد حذفتا، وكان الأولى بل الصحيح أن يشار إلى أنهما قد أصابهما التقصير، كما قررنا نحن. ومع ذلك كله، ما زلنا نحمد لأسلافنا جهودهم في خدمة العربية والحفاظ عليها، بالطريق الذي استطاعوا وبالمنهج المتواضع الذي اتبعوا.   1 ص = صوت صامت Consonant وح ح = حركة طويلة Long vowel. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المبحث الثاني: همزة الوصل مدخل ... المبحث الثاني: همزة الوصل هناك قاعدتان مشهورتان في التراث اللغوي عند العرب، تنص أولاهما على أنه "لا يوقف على متحرك"، وتقرر الثانية أنه "لا يجوز الابتداء بالساكن". والمفروض أن هاتين القاعدتين -كغيرهما من القواعد- قد استخلصهما علماء اللغة من الأحداث الكلامية الفعلية، ومن الأمثلة الجزئية للواقع اللغوي. ويبدو حتى هذه اللحظة أن القاعدة الأولى -بوصفها قاعدة- قد استوفت شروطها، وكملت لها خواصها؛ إذ لم يرد عنهم ما يناقضها، وليس هناك من القوانين الصوتية ما يعارضها أو يحول دون تصديقها. أما القاعدة الثانية فتتضمن قضية تدعو إلى المناقشة والنظر، وبخاصة إذا أخذنا في الحسبان تلك القاعدة الأخرى التي ارتبطت بها دائما في الدرس اللغوي التقليدي، والتي أتى بها علماء العربية لتصبح لهم قاعدتهم الأساسية أو لتكملها. هذه القاعدة الأخرى التكميلية تتمثل في تصريح اللغويين بوجوب "اجتلاب همزة"، ليتوصل إلى النطق بهذا الساكن الذي منعوا جوازه. هذه الهمزة المجتلبة سموها "همزة وصل" ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في سبب هذه التسمية. 1- قيل: إنها سميت كذلك من باب المجاز "لعلاقة الضدية؛ لأنها تسقط وصلا، فكان حقها أن تسمى همزة ابتداء". 2- وقيل: لا مجاز، بل "سميت بذلك لوصل ما بعدها بما قبلها عند سقوطها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 3- وقال البصريون: "سميت بذلك لوصول المتكلم بها إلى النطق بالساكن". واعترض عليهم بأنه كان من اللائق حينئذ أن تسمى همزة الوصول أو التوصل، لا الوصل"1. ومهما يكن السبب في هذه التسمية فقد اتفق هؤلاء العلماء على أن همزة الوصل تظهر وتحقق نطقا في ابتداء الكلام، ولكنها تسقط في درجه، كما اتفقوا على الدافع إلى اجتلابها. وهو تعذر النطق بالساكن، أي الصوت غير المتبوع بحركة، أو المشكل بالسكون في اصطلاحهم. هذا الدافع -وهو هنا يمثل القاعدة الأساسية في هذه القضية -أمر فيه نظر، إذ لا تخلو المسألة من احتمالين اثنين. أحدهما: أن النطق بالساكن في ابتداء الكلام، متعذر أو مستحيل استحالة مطلقة، بقطع النظر عن وقوعه بالفعل أوعدم وقوعه. الثاني: أن هذا النطق متعذر أو مستحيل بحسب الواقع والحقيقة، لأنه لم يسمع من أفواه العرب، ومن ثم أصبح خاصة من خواص لغتهم، ولهذا جيء بهمزة الوصل للتخلص من هذا التعذر أو تلك الاستحالة. أما الاحتمال الأول فمردود، إذ النطق بالساكن ابتداء بوصفه إمكانية صوتية أمر ليس متعذرا أو مستحيلا لا في الواقع أو التصور أو كليهما. كما لا نظن أن العربي في الماضي أو الحاضر يعجز جهازه النطقي عن أداء هذه الظاهرة الصوتية. وقد جاءت عبارة بعضهم بما يفيد إمكانية هذا النطق وبما يوحي بجواز وقوعه. يروي الصبان عن السيد الجرجاني والكافيجي أن النطق بالساكن في ابتداء الكلام "ممكن لكنه مُستثقَل"2. بل هناك ما هو أوضح من هذا وأصرح، حيث ورد عن بعضهم ما يشير -بالنص- إلى وقوع   1 حاشية الخضري على ابن عقيل، جـ2 ص179. 2 حاشية الصبان على الأشموني جـ4 ص205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ذلك بالفعل في اللغة العربية. يروي الشيخ شمس الدين أحمد المعروف بديكنقوز أن "الابتداء بالساكن إذا كان مصوتا أعني حرف مد ممتنع بالاتفاق. وأما الابتداء بالساكن الصامت أعني غير حرف المد فقد جوزه قوم"1. وهذا الذي ذكره هذا الشيخ لا يخلو من واحد من اثنين. فهو إما تجويز من المتكلمين "أو بعضهم على حد هذه الرواية" أي: وقوعه منهم. وهذا أهم شيء في الموضوع، إذ المتكلم -في نظرنا- هو مصدر القواعد اللغوية وأساسها الأول. وإما أنه تجويز من بعض العلماء. وهو احتمال يؤدي إلى النتيجة نفسها، إذ من المفروض -بل من المحتم- أن يستنبط العلماء قواعدهم من الواقع اللغوي المنطوق بالفعل. ومعنى ذلك في الحالتين أن النطق بالساكن في ابتداء الكلام ظاهرة حقيقية وقعت في كلام الناس في فترة من تاريخ العربية. غاية الأمر أن بعض الدارسين استطاعوا بقوة ملاحظتهم ودقة حسهم أن يدركوا هذه الظاهرة الصوتية. على حين عجز آخرون عن هذا الإدراك، إما لصعوبة ذلك عليهم. أو لعيوب ترجع إلى ذوات أنفسهم. ولكن ذلك بالطبع لا يقدح في حقيقة الموضوع. وهي حدوث ظاهرة النطق بالساكن في ابتداء الكلام في العربية أو إحدى لهجاتها، كما تشير إلى ذلك تلك الرواية السابقة. ولعلنا إذا رجعنا في التاريخ اللغوي قليلا إلى الوراء استطعنا أن نعثر على بعض الحقائق العلمية التي من شأنها أن تقوي هذا الادعاء الذي ندعيه أو هذا الافتراض العلمي الذي نفترضه. تروي لنا كتب اللغة أن ظاهرة النطق بالساكن في أول الكلام ليست ظاهرة غريبة عن اللغات السامية، أو عن بعضها في أقل تقدير، إذا قصرنا   1 شرح مراح الأرواح ص120، والمراد بالساكن في قوله: "الساكن الصامت" المشكل بالسكون أي: غير المتلو بحركة والمقصود بالصامت هو ما يطلق عليه Consonant بالإنجليزية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أدلتنا على المسجل منها بالفعل بالنسبة لهذه الظاهرة. يقرر الدارسون في حقل البحوث السامية أن اللغة السريانية عرفت النطق بالساكن في ابتداء الكلام وأن ذلك كان يحدث في سياقات تقابل مجموعة من المواقع اللغوية التي يقتضي بعضها وجود همزة الوصل في اللغة العربية والتي لا يقتضي بعضها وجود هذه الهمزة، كما تبين لنا ذلك من الأمثلة التالية: والواقع أن ظاهرة النطق بالساكن في أول الكلام ليست مقصورة على التراث اللغوي القديم، بل هي موجودة كذلك في اللهجات العربية الحديثة المنتشرة في أرجاء الوطن العربي. ففي لهجة لبنان مثلا "وبخاصة لهجة الدروز والقطاع الشمالي كله" توجد هذه الظاهرة في مجموعة من السياقات اللغوية، من أهمها:   1 تفضل مشكورا، فأمدنا بهذه الأمثلة السريانية والعبرية، الدكتور رمضان عبد التواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 1- كل سياق لغوي يقتضي وجود همزة الوصل في اللغة الفصحى1، على القول بوجودها، نحو: "ضروب" "فعل أمر = druub". نفتْح "فعل ماض = infatah". 2- أول كل فعل مضارع ماضيه في الفصحى على وزن فعّل بتشديد العين "فيما عدا صيغة المتكلم حيث تحذف الهمزة نهائيا نحو: يوفق "ywaffaq". 3- أول مضارع الفعل الأجوف الثلاثي "ما عدا حالة المتكلم حيث تحذف الهمزة نهائيا كالسابق" نحو نْروح "nruuh". 4- أول كل كلمة هي اسم فاعل أو مفعول من الرباعي المضعف العين. مثل مجرب "mjarrib" موفق "mwaffaq". وقد ارتبطت بهذه الظاهرة - ظاهرة النطق بالساكن ابتداء- ظاهرة أخرى يستحيل وقوعها في اللغة الفصحى بحسب ما نص عليه علماء هذه اللغة. تتمثل هذه الظاهرة في صورتين رئيسيتين هما: 1- وجود مقطع مكون من صوت صامت واحد consonant. أو ما يمكن أن يشار إليه بالرمز: c؛ "consonant = c"، ويكون هذا المقطع عادة في أول الكلمة نحو: ضروب "c/cvvc = d/ruub".   1 يستثنى من ذلك همزة أداة التعريف، حيث تطورت إلى كسرة في هذه اللهجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ولكن هذا النمط المقطعي الذي يبدأ بصامتين "cc" غير كثير الورود في هذه اللهجة، إنه مقصور على حال واحدة معينة. هي صيغة ما أصله "استفعل" وفروعها في اللغة الفصحى. على أن يكون عين الكلمة ولامها من جنس واحد، نحو ستْعِد، أو تكون عينها حرف مد نحو ستراح: "= c/ccvvc straah". وظاهرة النطق بالساكن نلحظها كذلك في لهجة القاهرة. نحن لا ننكر أن هذه اللهجة قد احتفظت بهمزة الوصل في أماكنها التقليدية. بل نضيف إلى ذلك. فنقول: إننا نسمعها أحيانا من بعض المثقفين وأنصافهم كما لو كانت همزة قطع. ولكنا مع ذلك نلاحظ أن هذه اللهجة قد كونت لنفسها نماذج وأنماطا من الصيغ يبدأ أولها بصوت صامت ساكن أي: غير متبوع بحركة. من أشهر هذه النماذج وأوضحها في نظرنا حتى الآن صيغ الفعل الماضي من الثلاثي الموزون على فَعِل "بفتح فكسر" في الفصحى، وذلك عندما يتصل هذا الفعل بضمائر الرفع المتصلة. يقولون: فهم: fihim ولكن فْهمت: fhimt وهذا يعني بالضرورة أن اللهجة القاهرية قد طورت لنفسها تركيبا مقطعيا من نمط جديد. هو "consonant = c" كما في: فهمت "c/cvcc = fhimt". وموقعه أول الكلمة. وهو نمط غير معروف في الفصحى إذا أخذنا بكل ما رآه علماء هذه اللغة من قواعد صوتية وصرفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 كل هذا الذي قررنا إنما يمثل معالم على الطريق إلى تأكيد القول بإمكانية النطق بالساكن في ابتداء الكلام وإلى الاعتقاد بوقوع ذلك النطق في اللغة العربية أو في لهجاتها، في الأقل في بعض فتراتها التاريخية. وليس من البعيد أن تكون هذه اللغة أو لهجاتها قد خضعت فيما بعد لشيء من التطور، ظهر أثره في حدوث صوت في أول الكلمات التي كانت تبدأ بالساكن قبل وجود هذا الصوت الذي سماه علماء العربية "همزة الوصل". وهذا الافتراض يقودنا إلى التفسير لقاعدتهم المشهورة: لا يجوز الابتداء بالساكن. هذا التفسير -بحسب فهمنا لكلامهم- هو أن النطق بالساكن في ابتداء الكلام لم يقع من أفواه العرب، وإنما الذي وقع في نطقهم بهمزة وصل اجتلبت للتخلص من هذا الممنوع في سياقات معينة. ورأينا في هذا التفسير الثاني يتلخص في هذه العبارة: على فرض التسليم بصحة القول بأن العرب لم ينطقوا بالساكن في ابتداء الكلام، إننا نشك في أن يكون المنطوق في هذه السياقات المعينة همزة. ولا يغير من ظننا هذا وصفها بأنها للوصل أو لغيره. ويعتمد اتجاهنا في هذه القضية على مجموعة من الأدلة العلمية المستقاة من خبرتنا الصوتية ونطقنا الفعلي للغة العربية والمستنتجة من تصريحات علماء العربية ومناقشاتهم لهذه الهمزة ومشكلاتها. إن هذا الصوت الذي يظهر في أول الكلمة نحو: "اضرب" و"استخراج" ... إلخ والذي يرمز إليه بالألف في الكتابة ليس همزة فيما نعتقد. إنه -على فرض وقوعه- نوع من التحريك الذي يسهل عملية النطق بالساكن. وهذا التحريك قد يختلط أمره على بعض الناس فيظنوه همزة، إذ إن هواءه يبدأ من منطقة صدور الهمزة وهي الحنجرة. ويبدو أن اللغويين العرب قد وقعوا في هذا الوهم، ولكنهم لما أدركوا أن صفات هذا "الصوت" تختلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 عن صفات ما سموه "همزة قطع" دعوا هذا "الصوت" الأول "همزة وصل"، إشارة إلى خاصة من خواصها، وهي "وصل ما قبلها بما بعدها عند سقوطها"1. وحقيقة الأمر -في نظرنا- أن هذا "الصوت" الذي سمعوه في المواقع التي نصوا عليها إنما هو ذلك التحريك أو ما نفضل أن نسميه "الصُّوَيت" الذي يستطيع أن يؤدي تلك الوظيفة التي أرادها علماء اللغة وهي التوصل إلى النطق بالساكن. أما أدلتنا على أن هذا "الصوت" ليس همزة "في الأقل في الأصل قبل تطوره إلى همزة أو ما يشبهها في أفواه العامة وأنصاف المثقفين" فكثيرة نجملها فيما يلي:   1 انظر آراءهم المختلفة في سبب تسميتها "همزة الوصل". ص137، 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الدليل الأول : طبيعة التكوين الصوتي للهمزة تناقض الغرض الذي من أجله جاءت همزة الوصل، وهو التوصل إلى النطق بالساكن، أو تسهيل هذه العملية، بعبارة أخرى، وقد جاء في كلامهم ما يفيد الإشارة إلى هذا الغرض من اجتلاب الهمزة، فيسميها الخليل مثلا "سلم اللسان"1، ويرى أن "الألف التي في اسْحنكك، واقْشعّر واسْحنفر، واسْبكر ليست من أصل البناء. وإنما أدخلت هذه الألفات في هذه الأفعال وأمثالها من الكلام لتكون الألف عمادًا وسلما للسان إلى حرف البناء، لأن حرف اللسان حين ينطلق بنطق الساكن من الحروف يحتاج إلى ألف الوصل"2.   1 شرح مراح الأرواح ص55. 2 كتاب العين، الخليل بن أحمد، تحقيق الدكتور عبد الله درويش: جـ1 ص54 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فألف الوصل إذن "صوت" جيء به لتسهيل النطق بالساكن الذي هو الأصل، لكن عدل عنه لصعوبته. وما كانت الهمزة -بوصفها همزة أو وقفة حنجرية- سلما أو تمهيدا إلى النطق بالساكن. إنها على العكس من ذلك، فهي حاجز ومانع في حقيقتها obstacle، وفي نطقها صعوبة ظاهرة تناقض استخدامها للتسهيل والتيسير. وتسميتها همزة الوصل لا يناقض هذه الحقيقة. فهي همزة وصل، لا لأنها سهلة في النطق، أو لأنها تختلف -في النطق منعزلة- عما سموه همزة قطع. وإنما لأنها لا تسمع في درج الكلام، أو لأنها تصبح "لا شيء" من الناحية الصوتية في الكلام المتصل. وهذه ظاهرة صوتية فنولوجية phonological feature تَعْرِض لغيرها من الأصوات وبخاصة الحركات في وصل الكلام word-junction. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الدليل الثاني : كون "ألف الوصل" همزة يوقعنا فيما أردنا التخلص منه. فالهمزة -وحدها- صوت ساكن خال من الحركة. فكيف إذن نبدأ بالساكن على حين نريد التخلص منه؟ لقد تنبه إلى هذا التناقض بعض الأذكياء منهم، كابن جني وغيره من اللغويين. فتساءلوا: أجاءت همزة الوصل ساكنة ثم حركت؟ أم أنها جاءت متحركة؟ اختلفت الإجابات عن هذا السؤال وتنوعت إلى اتجاهين: أحدهما: يذهب إليه ابن جني وهو أن همزة الوصل "حكمها أن تكون ساكنة لأنها حرف جاء لمعنى، ولا حظ له في الإعراب. وهي في أول الحرف "يعني الكلمة" كالهاء التي لبيان الحركة بعد الألف في آخر الحرف في: وا زيداه، ووا عمراه ووا أمير المؤمنيناه. فكما أن تلك ساكنة فكذلك كان ينبغي في الألف "يعني همزة الوصل" أن تكون ساكنة. وكذلك أيضا نون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 التثنية ونون الجمع ونون التنوين، هؤلاء كلهن سواكن. فلما اجتمع ساكنان، هي والحرف الساكن بعدها، كسرت لالتقائهما؛ فقلت: اضرب، اذهب. ولم يجز أن يتحرك ما بعدها لأجلها. من قبل أنك لو فعلت ذلك لبقيت هي أيضا في أول الكلمة ساكنة، فكان يحتاج لسكونها إلى حرف قبلها محرك، يقع الابتداء به. فلذلك حركت هي دون ما بعدها"1. وقد تبع ابن جني في رأيه هذا كل من الرضي وابن الحاجب، على ما يروي ابن كمال باشا2. ويبدو أن ابن جني قد تأثر برأي أستاذه أبي علي الفارسي في ذلك، يروي الصبان عن السيوطي في الهمع أن البصريين اختلفوا في كيفية وضع همزة الوصل، "فقال الفارسي وغيره: اجتلبت ساكنة، لأن أصل المبني السكون، وكسرت لالتقاء الساكنين"3. ويرى شمس الدين أحمد صاحب أحد شرحي المراح أن هذه الكيفية لوضع الهمزة تمثل رأي الجمهور، فهي -عندهم- اجتلبت ساكنة "لما فيه من تقليل الزيادة، ثم لما احتيج إلى تحريكها حركت بالكسرة لأنه أصل في تحريك الساكن"4. ثانيهما: يرى أصحاب هذا الاتجاه أنها اجتلبت متحركة "لأن سبب الإتيان بها التوصل إلى الابتداء بالساكن فوجب كونها متحركة كسائر الحروف المبدوء بها". وهذا رأي جماعة من البصريين على ما يفهم من كلام الصبان5، كما هو رأي ابن كمال باشا الذي يرفض اتجاه ابن جني السابق، ويذهب إلى أن ما قرره أبو الفتح "باطل لأنه يلزم العود إلى المهروب عنه. وهو الهروب عن   1 سر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص127. 2 شرح مراح الأرواح لابن كمال باشا ص55. 3 الصبان على الأشموني جـ4 ص309. 4 شرح مراح الأرواح لشمس الدين أحمد ص55. 5 الصبان: المرجع السابق جـ4، ص209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 حرف ساكن إلى حرف آخر ساكن مثل الأول". وعنده أن "الحق زيادتها متحركة لئلا يلزم المحظور"1. وهذا الخلاف يمثل -في رأينا- اضطرابا حقيقيا في إدراك كنه الصوت المجتلب لتسهيل عملية النطق بالساكن. ومن ثم عجزوا عن تحديده بالدقة: أهو الهمزة وحدها؟ أم الهمزة متلوة بحركة؟ والقائلون بالهمزة وحدها أحسوا بصعوبة جديدة تقابلهم عند افتراضهم هذا، إذ إن ذلك يقتضي الوقوع فيما أرادوا التخلص منه وهو البدء بالساكن. ولهذا تحايلوا على الموضوع بافتراض آخر، هو تحريك هذه الهمزة بعد اجتلابها. وعندنا أن مجيء الصوت ساكنا أولا ثم تحريكه ثانيا عملية عقلية افتراضية، لجأ إليها اللغويون لتسويغ قواعدهم وتصحيح مبادئهم. أما المتكلم -وهو أهم عنصر في الدرس اللغوي- فلم يسلك هذا المسلك الذي يتضمن وقوع النطق على مراحل، والذي يعني كذلك أن هذا المتكلم كان يشغل نفسه بالتفكير في هذه القضية قبل النطق. إنه نطق هذا الصوت إما ساكنا -وبهذا يقع هؤلاء اللغويون فيما أردوا الهروب منه- وإما متحركا وبذا يلتقي هذا الرأي مع الاتجاه الثاني القائل بزيادة الهمزة متحركة من أول الأمر. ومعنى ذلك في الحالتين أن المزيد حينئذ صوتان لا صوت واحد. أحدهما الهمزة والثاني الحركة التالية لها. وهذا الافتراض -وإن أمكن تصديقه عقلا- يبعد أن يكون قد وقع في حقيقة الأمر. إننا عندما نمارس نطق هذه الصوت الذي افترضوه وسموه همزة الوصل لا نحس بهذه الثنائية. وإنما نشعر بصوت واحد أو "بصويت" هو أقرب ما يكون إلى نوع من التحريك، يعتمد عليه اللسان حتى يصل إلى الساكن بعده، على ما يفهم من رأي الخليل الذي أشرنا إليه سابقا. على أن هذا الافتراض نفسه قد واجه اللغويين بصعوبة أخرى اضطرتهم إلى الدخول في مناقشات جديدة، كان يغني عنها النظر في الموضوع من زاوية الواقع بدلا من الافتراض والتأويل. تلك الصعوبة تتمثل في تحديد نوع الحركة التي تصاحب الهمزة.   1 ابن كمال باشا: المرجع السابق، ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الدليل الثالث : يبدو أن إجماعهم قد انعقد على أن الكسرة هي الأصل في تحريك همزة الوصل، أما اختيار الكسرة بالذات، فلأنها هي "الأصل في التخلص من التقاء الساكنين" أو لأنها أحق الحركات بها، لأنها "أي: الكسرة" راجحة على الضمة بقلة الثقل، وعلى الفتحة بأنها لا توهم استفهاما"1. وهذه التعليلات التي قدموها لتفضيل الكسرة على غيرها تعليلات واهية في نظرنا ولا نستطيع أن نسلمها لهم، فالحركة التي يأتي بها العربي عند التقاء الساكنين ليست في نظرنا كسرة وإنما هي نوع من التحريك الذي لا ينحاز إلى أي من الحركات الثلاث: إنه صويت جيء به لتسهيل النطق بالساكنين المتتاليين، ويمكن تسميته حركة من باب المجاز فقط ويسمى في اللغة الإنجليزية prosthetic vowel. وليس لنا بحال أن نعد هذه الحركة أو هذا التحريك -بعبارة أدق- جزءا من نظام الحركات في اللغة العربية، إذ هو يختلف من ناحية النطق ومن ناحية التوزيع الصوتي في اللغة phonetic distribution عن بقية الحركات اختلافا بينا. ثم لنا أن نسأل: لم كانت الكسرة بالذات هي الحركة المفضلة عند التقاء الساكنين؟ يجيب بعضهم عن هذا التساؤل إجابات لا تعدو أن تكون افتراضات عقلية أو تخمينات نظرية لا أساس لها من الواقع. يقول المولى شمس الدين أحمد:   1 الصبان على الأشموني، جـ4 ص209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وإنما جيء بالكسر لتحريك همزة الوصل "لأنه أصل في تحريك الساكن، لأنه أبعد حركات الإعراب عن الإعراب لامتناع دخوله في قبيلين من المعربات وهما المضارع وما لا ينصرف، ودخول أخويه في المعربات كلها. فلما احتيج إلى التحريك حركت بما هو أقل وجودًا في الإعراب وأكثر شبها بالسكون الذي وجد في بعض المعربات دون بعض، ولأن السكون والجزم عوض في الفعل من الكسرة في الاسم فعوض الكسر من السكون أيضا، ولأن وقوع اجتماع الساكنين كثير في الكلام بشهادة الاستقراء وللأفعال منه القِدْحُ المُعلَّى، وناهيك -نوعا- الأوامر من الأفعال المشددة الأواخر وما ينجزم منها بأنواع الجزم، وعندك أن للأكثر حكم الكل فتقدمت الأفعال في اعتبار اجتماع الساكنين والاحتياج إلى التحريك. ومعلوم أن لا مدخل للجر في الأفعال؛ فأفادت الكسرة الخلاص من اجتماع الساكنين، وذلك ظاهر، وكون الكسرة طارئة بكم المقدمة المعلومة، بخلاف اختيها فإنهما تفيدان الخلاص فقط والمفيد لفائدتين أولى بأن يكون أصلا، فالكسر أصل في تحريك الساكن"1. وهكذا نرى أن هذا النص مشحون بالافتراضات الذهنية التي تتضمن قضايا منذرة بالخطر، ما كان ينبغي لها أن تلقى بهذه السهولة إلى القارئ دون التأني والتعمق في البحث عن حقيقتها، وكل افتراض من هذه الافتراضات قابل للنظر والمناقشة، بل للرفض كذلك. فالادعاء بأن الكسر أقل وجودًا في الإعراب من أخويه "الضم والفتح" مبني على النظر في عدد الأبواب التي تدخلها هذه الحركة أو تلك. ونحن هنا لا ننظر إلى الأبواب التي هي من صنع اللغوي، وإنما ننظر إلى الواقع اللغوي المنطوق، أي: إلى الأمثلة الفعلية التي يمارسها المتكلم والتي تندرج تحت هذه الأبواب. وفي ظننا أن المعرب بالكسرة في هذه الأمثلة الفعلية لا يقل -إن لم   1 شمس الدين أحمد شرح مراح الأرواح ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 يزد -عما كان حظه الإعراب بالضمة أو الفتحة منفردة. على أنا نستطيع -على طريقتهم- أن ندعي أن هذه القلة تنطبق على الفتحة كذلك، إذ هي لا توجد إلا في بابين، هما جمعا التصحيح: جمع المؤنث السالم وهذا ظاهر، وجمع المذكر السالم الذي ينصب ويجر بالياء، أي: بالكسرة الطويلة في نظرنا، ولا وجود للفتحة فيهما. أضف إلى هذا أن مسألة الكثرة والقلة في الوقوع مسألة تستدعي إحصاء شاملا لكل الأمثلة، ولا يمكن الاعتماد على التخمين فيها، فإذا ما تم هذا الإحصاء ربما ساغ لنا هذا الادعاء ونحوه. وحتى فيما لو ثبت أو صح أن الكسرة أقل وقوعا في الإعراب فلسنا -مع ذلك- نرى أن هذا الأمر يصلح مسوغا لتفضيلها على أختيها، إذ لا ارتباط بين الجهتين. أما تشبيه الكسر بالسكون في قلة الوقوع بالمعربات ففيه مغالطة واضحة، إذ ما الداعي إلى قصر وجه الشبه على الوقوع في المعربات دون المبنيات!! لا نظن أن هناك سببا غير التمحل والتحايل على الأمور لتسويغ افتراضاتهم. على أن هذا التشبيه يثير الدهشة في نظر القارئ، إذ هو على عكس المألوف المتعارف فيما بينهم. هذا المتعارف هو تشبيه الفتحة "لا الكسرة" بالسكون للخفة في كل منهما. وهذه الخفة -وهي وجه الشبه هنا- أولى بالأخذ في الحسبان في قضيتنا هذه، لأن المسألة كلها من بدايتها إلى نهايتها ترتبط بموضوع تسهيل النطق وتيسيره. أما كانت الفتحة إذن أولى من الكسرة في ذلك؟! ومن طريف ما ذكروا أن اختيار الكسرة بالذات إنما جاء عن طريق العوض. فالسكون أي: الجزم خاص بالأفعال دون الأسماء: على عكس الكسرة في ذلك. فكان من العدل في نظرهم -على طريق المقاصة- أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يعوض الكسر من السكون "فيدخل الأفعال". ولما استشعروا أن الكسر "للتخلص من التقاء الساكنين" لا يقتصر على الأفعال. سوغوا هذه المقاصة بأن "للأفعال القدح المعلى" من ظاهرة اجتماع الساكنين التي تستدعي وجود الكسر، ومعلوم أن "للأكثر حكم الكل". وبهذا التعليل الذي قدموه وسجلوه في النص السابق، كانت الكسرة في نظرهم هي الأصل عند التقاء الساكنين، ومن ثم كانت الأصل كذلك في تحريك همزة الوصل، وهو تعليل واه ضعيف، لا يفضل التعليل الثاني الذي قدموه لتفضيل الكسرة على الضمة. فالكسرة في نظرهم أولى من الضمة لخفتها أو "لقلة ثقلها" في النطق. وهذه -في رأينا- مسألة تختلف فيها أذواق الناس. وما كانت أذواق الناس في يوم من الأيام أساسا للحكم الموضوعي على الأشياء أو أساسا لوضع قواعد اللغة وتقنينها. إن النظر العلمي الموضوعي لا تعنيه بحال مسألة الصعوبة والسهولة لاعتمادها على الذاتية وتأثرها بالرأي الفردي. أما التعليل الثالث وهو إيثار الكسرة على الفتحة حتى "لا توهم استفهاما" فهو يدل على جهل بحقائق الأمور، إذ شتان بين همزة الوصل وهمزة الاستفهام، فالأولى لها خواصها بوصفها للوصل والثانية همزة قطع لها صفاتها ومميزاتها التي تختلف عما استقر للأولى، وينطبق هذا على النطق وعلى ما يعرض لكل منهما في سياق الكلام المتصل، على نحو ما قرره علماء العربية أنفسهم. أضف إلى هذا أن همزة الاستفهام لها سياقات لغوية معينة يدركها من له أدنى خبرة بخواص "المنطوق" الاستفهامي، حيث يتميز هذا المنطوق بصفات صوتية، منها التنغيم "أو موسيقا الكلام" وأنماطه. ومنها ما يسبقها أو يلحقها من كلام، وهناك أخيرا -وليس آخرا- المقام الذي يعين الباحث على تحديد الظواهر اللغوية المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وبهذا كله تبين لنا أن تعليلاتهم التي ذكروها لاختيار الكسرة بالذات ولتفضيلها على أختيها في حال التقاء الساكنين وتحريك همزة الوصل ادعاءات لا يؤيدها الواقع اللغوي، أو منطق البحث العلمي الصحيح، ويبدو أن الكوفيين كانوا أكثر توفيقا من غيرهم حيث نصوا على أن كسرة همزة الوصل في نحو "اضرب وضمها في اسكن" إنما جاء "اتباعا للثالث"1، فالكسر إذن ليس مفضلا لذاته، وإنما لسبب صوتي واضح، وهو تعليل جيد يدل على تذوق وفهم. وهذا الذي رآه الكوفيون ذو أهمية خاصة في هذا المجال، إذ هو يقودنا إلى حقيقة الموضوع. وهي أن هذا الصوت الذي سمي همزة وصل لا يعدو أن يكون نوعا من التحريك ينحو نحو الحركة التالية له في الكلمة. وربما يدل على هذا ما أحس به بعض النابهين من أن حركة همزة الوصل لها حالات متعددة يلاحظ فيها أو في أغلبها أنها تناسب نوع الحركة التالية لها وتوافقها في بعض خواصها. يقول الأشموني: "اعلم أن لهمزة الوصل بالنسبة لحركتها سبع حالات: وجوب الفتح وذلك في المبدوء بال، ووجوب الضم وذلك في نحو: اُنطلق واُستخرج مبنيين للمفعول2، وفي أمر الثلاثي "المضموم العين" في الأصل3، نحو: اُقتُلْ واُكْتُبْ، بخلاف امشوا وامضوا، ورجحان الضم على الكسر وذلك فيما عرض جعل ضمة عينه كسرة نحو: اُغزي، قاله: ابن الناظم. وفي تكملة أبي علي أنه يجب إشمام ما قبل ياء المخاطبة وإخلاص ضمة الهمزة. وفي التسهيل: أن همزة الوصل تُشَمُّ قبل الضم المشم. ورجحان الفتح على الكسر   1 الأشموني جـ4 ص209. 2 البناء للمفعول، ومبني لما لم يذكر فاعله، ومبني لما لم يسم فاعله. كلها مصطلحات تشير إلى الفعل المبني للمجهول. 3 يشير بعبارة "في الأصل" إلى الفعل المضارع فإذا كانت عينه مضمومة وجب حينئذ أن يكون الأمر المبدوء بألف الوصل. واجب الضم: يكتُب، اُكتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وذلك في: "ايمن وايم". ورجحان الكسر على الضم وذلك في كلمة: اسم، وجواز الضم والكسر والإشمام وذلك نحو: اختار، وانقاد مبنيين للمفعول، ووجوب الكسر وذلك فيما بقي وهو الأصل"1. ومعنى هذا أن حركة همزة الوصل في جميع الحالات -باستثناء حالتي ال وايمن "وايم لغة فيها"- روعي فيها أن تكون متناسبة في النوع وأكثر الصفات مع الحركة التالية لها في الكلمة، سواء أكان ذلك بحسب أصل الكلمة أم بحسب الصورة التي توجد عليها. وفي هذا السلوك الصوتي الذي تسلكه هذه الحركة ما ينهض دليلا آخر على ما افترضناه من عدم وجود همزة وصل وتأكيد ما ادعيناه من وجود تحريك أو "صُوَيْت" تبدأ به الكلمة في مكان الهمزة التي أوجب اجتلابها علماء العربية. وهذا الصويت هو الذي يتشكل بشكل الحركة التالية له.   1 السابق جـ4 ص 208-209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الدليل الرابع : يبدو لنا أن هناك إحساسا من نوع ما بين اللغويين العرب بأن ما سموه همزة وصل ليس إلا "نقلة" حركية تختلف في طبيعتها وصفاتها عن كل من الأصوات الصامتة consonants والحركات vowels. يتمثل هذا الإحساس في جملة من تصريحاتهم ومناقشاتهم المتناثرة هنا وهناك في التراث اللغوي. من ذلك مثلا وصفهم للهمزة بأنها "للوصول" أو "الوصل". أما الأول: "وهو كونها للوصول أو التوصل" فمعناه أنها تساعد المتكلم وتوصله إلى النطق بالساكن. وما كانت الأصوات الصامتة في رأيهم -باستثناء الهمزة- وسيلة أو موصلا سهلا إلى هذا الهدف. أما الهمزة -وهي ما خرجت عن هذه القاعدة في نظرهم- فنحن نشك في قيامها بهذه الوظيفة كذلك، إذ هي الأخرى صوت صامت له صفات الصوامت وخواصها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فما ينطبق على هذه الصوامت ينطبق عليها، لاتحادها جميعا في المميزات الأساسية التي سوغت جمعها وضمها بعضها إلى بعض تحت باب واحد، هو باب الأصوات الصامتة. أما ما قد يدعيه بعضهم من أن الهمزة تنفرد ببعض مميزات معينة، كالتسهيل أو التخفيف أو الحذف إلخ فهو مردود بأن هذه الظواهر وغيرها ظواهر مستقلة، لا تنسب إلى الهمزة، وإنما تنسب إلى نفسها بوصفها أحداثا لغوية ذات كيان خاص وقعت في سياقات أو لهجات معينة، تقابلها سياقات أو لهجات أخرى تظهر فيها الهمزة. أضف إلى هذا أن الهمزة بطبيعة نطقها -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- تناقض غرض التسهيل والتيسير في النطق. وهو الغرض الذي من أجله أوجبوا اجتلاب همزة الوصل، وقد أحس بهذا الذي نقوله بعض المدققين منهم. يقرر ابن كمال باشا أن الهمزة قد تخفف "لأنها حرف ثقيل، إذ مخرجه أبعد من مخارج جميع الحروف لأنه يخرج من أقصى الحلق. فهو شبيه بالتهوع المستكره لكل أحد بالطبع"1. ولا يعترض على هذا بأن المقصود بهذا النص همزة القطع لا الوصل، إذ لا فرق عندنا في النطق بين الهمزتين، فالهمزة في كل الحالات همزة، وما الفرق بينهما إلا ظاهرة السقوط في درج الكلام لهمزة الوصل على الرأي القائل بوجودها. ولكن هذا السقوط ظاهرة سياقية contextual feature تخضع لظروف صوتية مختلفة، وقد تعرض لأصوات أخرى غير الهمزة، ومن أخصها الحركات. والثاني: "وهو كونها للوصل" معناه أنها تصل ما قبلها بما بعدها لسقوطها في درج الكلام، وهذه الخاصة -في رأينا- تناسب الحركات، فهي التي تخضع لكثير من الظواهر الصوتية، كالتقصير والتطويل والحذف إلخ،   1 ابن كمال باشا: شرح مراح الأرواح ص98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وهي التي تؤهلها طبيعتها لوصل الكلام. ونحن نعلم علم اليقين أن العربية تقرر وجوب وصل الكلام عند إظهار الحركات في أواخر الكلمات، وذلك مفهوم من قاعدتهم المشهورة: "لا يوقف على متحرك"؛ إذ معناه -بمفهوم المخالفة- وجوب الوصل عند التحريك. ولسنا مع ذلك ندعي أن هذا الصوت الذي سموه همزة وصل حركة، وذلك لسببين: أولهما: أن ذلك الصوت الذي يبدأ به النطق في نحو: "اضرب" و"اكتب" ليست له صفات الكسرة أو الضمة وخواصهما1. وذلك واضح تمام الوضوح لكل من له دراية بطبيعة هاتين الحركتين وطريقة تكوينهما في النطق الفعلي. أما السبب الثاني: الذي يمنع افتراض كون هذا الصوت حركة فهو أن التركيب الصوتي للغة العربية يمنع ابتداء النطق بالحركات. وهذا يتمشى مع القانون الفنولوجي العام phonological rule لهذه اللغة: وهو عدم وقوع أي مقطع بها يبدأ بحركة. وقد أدرك هذه الحقيقة بعض لغويي العرب، حيث نصوا على أن "الابتداء بالساكن إذا كان مصوتا أعني حرف مد ممتنع بالاتفاق. وأما الابتداء بالساكن الصامت أعني غير حرف المد فقد جوزه قوم. ولا شك الحركات أبعاض المصوتات ... فكما لا يمكن الابتداء بالمصوت لا يمكن الابتداء ببعضه. ويمكن الابتداء بالصامت الساكن، فيجوز أن يقدم الصامت الساكن على الحركة، ولا يجوز أن تقدم الحركة على الحرف، وإلا يلزم الابتداء بالساكن الممتنع اتفاقا"2.   1 أما الهمزة المفتوحة في أداة التعريف وايمن قلنا فيها رأي خاص سيأتي بعد. 2 شمس الدين أحمد: مراح الأرواح ص120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 على أن القول بوجوب تحريك هذه الهمزة -قبل اجتلابها أو بعده- يقتضي سقوط صوتين لا صوت واحد في درج الكلام، هما الهمزة وحركتها كما يظهر في المثالين التاليين: وإذا كانت همزة الوصل تتحمل الحركات -كما رأوا هم- فمعناه أنه صوت صامت consonant، له صفات الأصوات الصامتة، شأنها في ذلك شأن همزة القطع التي لم يختلفوا على كونها من هذه الأصوات. وقد جاء في كلامهم ما يؤيد هذه الحقيقة، حيث صرحوا بأن "حكم الهمزة كحكم الحرف الصحيح في جميع الأحكام"1 وفي عبارة بعضهم أن "حكم الهمزة كحكم الحرف الصحيح في تحمل الحركات"2. ومتى ثبت أن همزة الوصل كهمزة القطع في كونها من الأصوات الصامتة وفي كونها تتحمل الحركات مثلها، كان من الواجب إعطاؤها   1 المرجع السابق ص98. 2 ابن كمال باشا، شرح مراح الأرواح ص98. ومما يذكر أن هذين العالمين استثنيا من شبه الهمزة بالحروف الصحيحة كونها تخفف "وذلك إذا لم يكن مبتدأ بها" لأنها حرف ثقيل. وعندنا أن هذا الاستثناء لا محل له، لأن التخفيف في نظرنا ظاهرة مستقلة عن الهمزة، تدرس ويقرر حكمها بحسب الحالة التي تبدو عليها بالفعل في الكلام المنطوق، وبمثل هذه الدراسة سوف يتضح لنا أن التخفيف ليس سوى لهجة أو ظاهرة تتعلق بالسياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أحكامها، في الأقل فيما يتعلق بهذه الحركات التي تشترك "الهمزتان" في تحملها. ولكنا مع ذلك نراهم يفرقون بينهما من هذه الناحية في حالات كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال: 1- أن البصريين نصوا على أنه "لا يجوز نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها" على حين "أجمعوا على جواز نقل حركة همزة القطع إلى الساكن قبلها نحو منَ ابوك"1. 2- أنهم فرقوا بينهما وبين حركاتهما في الرسم؛ فقد جاء في صبح الأعشى أن المتقدمين كانوا يشيرون إلى الهمزة "همزة القطع"، "بنقطة صفراء ليخالفوا بها نقط الإعراب ... ويرسمونها فوق الحرف أبدا. إلا أنهم يأتون معها بنقط الإعراب الدالة على السكون والحركات الثلاث بالحمرة ... وسواء في ذلك كانت صورة الهمزة واوا أم ياء أم ألفا؛ إذ حق الهمزة أن تلزم مكانا واحدا من السطر، لأنها حرف من حروف المعجم. والمتأخرون يجعلونها عينا بلا عراقة، وذلك لقرب مخرج الهمزة من العين ولأنها تمتحن بها"2. أما بالنسبة لهمزة الوصل فقد جاء في هذا المرجع نفسه أن المتقدمين كانوا يشيرون إليها برسم جرة بالحمرة "وأما المتأخرون فإنهم رسموا لذلك صادا لطيفة إشارة إلى الوصل، وجعلوها بأعلى الحرف دائما، ولم يراعوا في ذلك الحركات اكتفاء باللفظ"3. فهذان النصان يقرران شيئين مهمين في هذا الباب، أولهما المخالفة بين الهمزتين في الرسم، وهو أمر يبدو ضروريا بالنسبة للقائلين بالفرق بينهما. ولكن يعكر الصفو عليهم ما قرروه هم من أن الهمزتين كلتيهما تتحملان   1 د. عبد الرحمن السيد: مدرسة البصرة النحوية "مخطوط مكتبة كلية دار العلوم" ص90. 2 القلقشندي: صبح الأعشى جـ3، ص163 "من مطبوعات: تراثنا". 3 المرجع السابق ص166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الحركات، وهو ما يعني اتفاقهما أو وحدتهما من حيث النوع والصفات، وكان ذلك -بالطبع- يقتضي توحيد رسمهما وتصويرهما في الكتابة. وإذا جازت المخالفة بين الهمزتين نفسيهما في الرسم، ما كان يجوز لهؤلاء العلماء أن يخالفوا بين حركاتهما؛ إذ لا فرق بين الحركات -وهذا أمر لا خلاف فيه- سواء أكانت تالية لهمزة القطع أم همزة الوصل: إن الحركة في أي سياق مهما يكن نوعه لا تخرج عن طبيعتها ومميزاتها الأصلية، وإن جاز تأثرها بوجه من الوجوه بالسابق أو اللاحق لها من أصوات، كما يظهر ذلك مثلا في تأثرها بالتفخيم أو الترقيق. ولكن الذي حدث -وهو ما يدل عليه الأمر الثاني المستفاد من النصين السابقين- هو أن علماء العربية خالفوا بين الحالتين، حيث قرروا رموزًا خاصة بحركات همزة القطع، على حين أهملوا حركات همزة الوصل فتركوها عارية من الرموز "اكتفاء باللفظ". ورأينا أن هذا السلوك الذي سلكوه تجاه الحركات هنا ربما يدل على أنهم أحسوا -وقد يكون إحساسا غامضا- بأن هناك فرقا بين الحركات في الحالتين، وهذا هو في الحقيقة ما نود توضيحه: ليست هناك حركات بالمعنى الدقيق، بل ليست هناك أيضا همزة وصل في تلك السياقات التي أوجبوا وجود هذه الهمزة فيها1. وإنما هناك تحريك يسير، حار علماء العربية في تحديده صوتيا وفي بيان حقيقته، ومن ثم خلطوا في وصفه وفي بيان أحكامه. وقد يؤيدنا في هذا كذلك رأي البصريين السابق الذي نص على عدم جواز نقل حركة همزة الوصل إلى الساكن قبلها؛ إذ لا توجد هناك حركة تنقل، ولا همزة وصل "تسمح" بنقل حركتها إلى سابقها، على نحو ما يجري مع همزة القطع.   1 نستثني من ذلك همزة أداء التعريف وهمزة أيمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الدليل الخامس : إمكانية الابتداء بالساكن في بعض اللغات الأخرى كالسريانية والعبرية مثلا قد تؤخذ دليلا جديدا على احتمال خلو اللغة العربية من هذه الهمزة كذلك. وربما ينطبق هذا الأمر على هذه اللغة بصورة آكد في فتراتها التاريخية السابقة، حيث كان من الجائز الابتداء بالساكن في النطق آنذاك. ولعل مما يشير إلى صحة هذا الافتراض وقوع هذه الظاهرة -ظاهرة النطق بالساكن في ابتداء الكلام- في اللغة السريانية "وربما في العبرية كذلك" وفي بعض اللهجات الحديثة، كاللهجة اللبنانية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك1. وإلى هذا الاتجاه الذي نتجه إليه ذهب أحد الدارسين المحدثين، حيث يقرر أن المرحلة "السابقة لهذه العربية الفصيحة كانت تجيز الابتداء بالساكن. والذي يقوي هذا الافتراض عندي قولهم: إن أمر الثلاثي في العربية همزته همزة وصل. والناطق المجيد لهذه البنية لا يحس بهذه الهمزة فلسانه ينطلق بالضاد كما في كلمة اضرب "الأمر" قبل أن ينطلق بشيء اسمه الوصل. وإجادة النطق تستدعي محو هذه الألف إطلاقا. وعلى هذا جاء نطق المغاربة في أيامنا هذه، فهم ينطلقون بالساكن في أفعال الأمر الثلاثية". ويرى هذا الباحث أن هذه الظاهرة ليست مقصورة على الأفعال، بل هي كذلك تطبق على الأسماء، فيقول: "ومثل هذا ننطلق بالساكن إذا بدأنا بالأسماء التي نصوا على أن ألفاظها للوصل، كما في "ابن" و"اسم"، فأنت تنطلق بالساكن أو بشيء فيه سكون أو بنصف الساكن -إذا أسعفتنا لغة الاصطلاح- حتى يتم النطق بالكلمة على وجه اللازم. ووجود هذه الناحية ربما كان دليلا على الابتداء بالساكن في العربية التي سبقت هذه المرحلة الفصيحة، كما يقوي هذا القول استساغة الانطلاق بالساكن في سائر   1 انظر ص140-142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 اللغات السامية الأخرى، بل ربما كانت الآرامية السريانية أشد قبولا للبدء بالساكن من التحريك. ومن أجل ذلك صارت هذه الناحية من مميزاتها الظاهرة"1. وإلى هنا يجوز لنا أن نسأل القائلين بهمزة الوصل: لم اختيرت الهمزة بالذات ليتوصل بها إلى النطق بالساكن؟ لِمَ لم يكن هذا الوصل صوتا آخر كالطاء أو الياء إلخ؟ يجيب ابن جني -بطريقته الفلسفية- عن هذا التساؤل بإجابتين اثنتين. يقول في إحداهما: "فإن قال قائل: ولم اختيرت الهمزة ليقع الابتداء بها دون غيرها من سائر الحروف، نحو: الجيم والطاء وغيرهما؟ فالجواب: أنهم أرادوا حرفا يتبلغ به في الابتداء، ويحذف في الوصل للاستغناء عنه بما قبله. فلما اعتزموا على حرف يمكن حذفه واطراحه مع الغنى عنه جعلوه همزة، لأن العادة فيها في أكثر الأحوال حذفها للتخفيف وهي مع ذلك أصل، فكيف بها إذا كانت زائدة؟ ألا تراهم حذفوها أصلا في نحو: خذ وكل ومر وويْلمِّه وناس والله، في أحد قولي سيبويه، وقالوا: ذَنْ لا أفعل، فحذفوا همزة إذن. وقال الآخر: وكان حاملكم منا ورافدكم ... وحامل المِينَ بعد المِينَ والألَفِ أراد المئين، فحذف الهمزة2. وفي هذا النص يعتل ابن جني لاختيار الهمزة بعلتين:   1 د: إبراهيم السامرائي: التطور اللغوي التاريخي ص66-67. 2 ابن جني: سر صناعة الإعراب جـ1 ص127-128. ويلمه = ويل أمه، أسقطت الهمزة وجعلت كلمة واحدة، وناس أصلها أناس، والله أصلها الإله عنده. والمقصود "بالألف" على وزن سبب، الألف، فحرك اللام للضرورة. و"لكن صاحب اللسان قال: أراد الآلاف" بالجمع، انظر المرجع المذكور، ص128، هامش8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 إحداهما: كونها -في رأيه- حرفا يتبلغ به في الابتداء. وذلك مردود بما سبقت الإشارة إليه من أن الهمزة -بصريح عبارتهم- "حرف ثقيل مستكره"، أو هي غصة في الحلق. ثانيهما: هي أن الهمزة -دون غيرها من الأصوات- صوت يمكن حذفه مع الاستغناء عنه، سواء أكانت الهمزة أصلا أم زائدة. وهذا الاعتلال تمكن مناقشته مع جهتين: الجهة الأولى: أن الخواص التي ذكرها تناسب الحركات وتنطبق عليها بصورة واضحة، إذ هي أكثر الأصوات تعرضا لمثل هذه الظواهر التي ذكرها في نصه. وقد بينا فيما سبق امتناع الابتداء بالحركات في العربية، وهو ما يتمشى مع ما قرروه. الجهة الثانية: أن "حذف" الهمزة في نحو خذ وبابه ظاهرة صرفية لا صوتية تقتضيها بنية الصيغ في هذه الأفعال، كما هو معروف. ولنا أن نفترض أن تطورًا قد لحق بهذه الصيغ ونحوها، وربما يدل عليه تأويلهم لهذه الصيغ بنحو قولهم: خذ: أصلها أؤخذ إلخ. أما الأمثلة الأخرى من نحو "ناس" و"الله" إلخ فالحذف فيها لهجة من اللهجات، ولا يجوز الاستدلال بأحكام لهجة على لهجة أخرى، أو بعبارة أوضح، لا يجوز في البحث الحديث فرض ظواهر لهجة من اللهجات على لهجة أخرى، لأن لكل منهما خواصها المميزة لها. على أنا نلاحظ أن الهمزة في كل الأمثلة التي ذكرها ابن جني همزات قطع. وهذا يعني أن استدلاله استدلال ناقص لعدم اتحاد جهتي التناظر إذ هم أنفسهم قد نصوا على اختلاف الهمزتين في طبيعتهما وخواصهما. أما الإجابة الثانية التي قدمها ابن جني عن التساؤل حول تفضيل الهمزة دون غيرها من الأصوات فتتمثل في قوله: "وإن شئت فقل: إنما زادوا الهمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 هنا لكثرة زيادة الهمزة أولا، نحو: أفكل وأيْدع وأيلُم وإصبع وأُترجّة وإزْفنّة. ولم يكثر زيادة غير الهمزة أولا كزيادتها هي أولا"1. وهذا في الواقع تعليل ضعيف لا يعدو أن يكون تفسيرا، أو بالأحرى تسويغا متكلفا لما وقع بالفعل، أو لما يظنه هؤلاء اللغويون أنه قد وقع. وهو تعليل يقتضي كذلك أن المتكلم -وهو أهم عنصر في الموضوع كله- وقد أعمل فكره قبل الكلام فيما ينبغي أن يسلكه حتى اختار الهمزة بالذات للأسباب التي ذكرها أبو الفتح. ومعلوم بالطبع لكل أحد أن يتكلم ما حاول -ولن يحاول- هذا الذي ظنه ابن جني، لأنه دائما وأبدا يرسل الكلام إرسالا دون التفكير في قواعده الصوتية أو الصرفية إلخ. كل هذا الذي قررناه يقودنا إلى نتيجتين اثنتين: أولاهما: أن النطق بالساكن في ابتداء الكلام إمكانية صوتية يجوز وقوعها في اللغة العربية، وأغلب الظن أنها وقعت بالفعل في فترة من الفترات التاريخية لهذه اللغة، وربما كان ذلك قبل أن يتجه الناطقون بهذه اللغة إلى استحداث صوت أو "صُوَيْت" في أول أنواع معينة من الصيغ والكلمات، وهو ما سماه علماء العربية بهمزة الوصل. ثانيهما: أن ما سماه هؤلاء العلماء همزة الوصل، ليس في حقيقة الأمر إلا نوعا من التحريك أو هو "نقلة" حركية لجأ إليها المتكلمون في فترة تاريخية من الزمن لتسهيل عملية النطق بالساكن. ومن المهم أن نقرر أن هذا التحريك أو الصويت ذو صفة غامضة، فقد ينحو نحو الكسرة أو الضمة، وقد يكون بينهما، إلى آخر ما روى علماء العربية من وجوه خاصة بحركات همزة الوصل2. وهذه الوجوه -في بعض   1 ابن جني: سر صناعة الإعراب، جـ1 ص128، 128. 2 انظر ص153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الروايات- سبعة، "نستثني منها حركة الفتحة وهي خالصة بال وايمن، كما سنبين فيما بعد" وقد أثبتنا أن هذه الحركات ليست إلا هذا التحريك متخذا لنفسه عدة صور بحسب السياق المعين. كما يجب أن نقرر أن هذا التحريك إنما هو ظاهرة صوتية فنولوجية phonological feature، أو نوع من التطريز الصوتي prosodic feature الذي يتغير بتغير السياق. فهو مثلا ذو أثر سمعي في ابتداء الكلام، ولكنه غير موجود في درجه، أي: أنه حينئذ ليس له تحقيق نطقي phonetically nothing. ومعنى ما تقدم أن هذا الصوت ليس حركة أو ليس جزءا من نظام الحركات في اللغة العربية. إنه لا يقع في أي حيز من أحياز الحركات الثلاث قصيرها وطويلها: فهو يختلف عنها جميعا في الصفات، كما يختلف عنها فيما هو أهم من ذلك وهو التوزيع الصوتي phonetic distrobution في اللغة العربية، وفي عدم التبادل معها في أي سياق. فهو إذن "وصلة" أي: وسيلة "إيصال" أو "وصل" على اختلاف ما رأوا في ذلك بالنسبة لهمزة الوصل. على أنه من الممكن القول بشيء من التساهل: إن هذا "الصُوَيْت" كان في الأصل هو ذلك التحريك الذي أشرنا إليه. ولكن ربما بالغ بعض الناس في نطقه حتى قارب أن يكون همزة، أو أنه أصبح همزة محققة، وهذا ما نلاحظه الآن بالفعل بين العوام وأنصاف المثقفين، حيث ينطقون هذا الصوت همزة، بل هم يرسمونه في الكتابة همزة كذلك. غير أن هذا الأمر لا يفسد الاحتمال الذي رأيناه، لأن ما يفعله هؤلاء الناس إنما هو نوع من التطور اللغوي linguistic change الذي يجب أن ينظر إليه بهذا الوصف، وقد يعد خطأ في نظر بعض الدارسين. وهذا التحريك الذي رأينا أنه يقوم مقام همزة الوصل التي افترض وجودها علماء العربية له قيمتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الصامتة، وإنما هو مجرد عنصر مقطعي اقتضاه نظام المقاطع للغة العربية على الرأي الذي ذهبنا إليه في هذه الدراسة. بقي علينا أن نشير هنا إلى أن كل ما قررناه فيما سبق لا يطبق على همزتي ال وايمن، إذ يمكن حسبانهما همزتي قطع لا وصل. ونستطيع أن نؤيد وجهة نظرنا هذه بمجموعة من الحقائق العلمية التي نلخصها فيما يلي: 1- نطق الهمزتين في ابتداء الكلام هو نطق الهمزة محققة، ولهما صفات ما سموه "همزة القطع" أو الوقفة الحنجرية. أما سقوطهما في درج الكلام، فهو ظاهرة اقتضاها وصل الكلام بعضه ببعض. وخضوع الأصوات بعامة لشيء من التغير في وصل الكلام أمر عادي مألوف، لا يقتصر على مجموعة من الأصوات دون غيرها. 2- لزوم الهمزة في أداة التعريف و"ايمن" حركة واحدة "بالاتفاق في الأولى وعلى الراجح في الثانية" وعدم تغير هذه الحركة بتغير السياق دليل يقوي الادعاء بأن هذه الهمزة ليست للوصل، وبخاصة إذا أخذنا في الحسبان ما قرره علماء العربية من أنواع الحركات المصاحبة لهمزة الوصل. فهذه الحركات في نظرهم تبلغ ستا أو تظهر في ست صور مختلفة. فعدم تغير الحركة في هاتين الصيغتين وتغيرها إلى هذه الصور المتعددة في الصيغ الأخرى يشير إلى أن هناك فرقا من نوع ما بين الحالتين. هذا الفرق -على ما نرى- هو أن الهمزة في "ال" و"ايمن" صوت صامت consonant أتبع بحركة محددة، على حين أن الموجود بالصيغ الأخرى إنما هو تحريك أو انزلاق حركي يتشكل بصور مختلفة طبقا للسياق الصوتي الذي يقع فيه. 3- كون الحركة اللازمة فتحة لا كسرة علامة أخرى على الطريق إلى هذا الاتجاه. فلو كانت الهمزة هنا للوصل حقيقة لأوجبوا كسرها، تمشيا مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 قاعدتهم الأساسية التي تنص على أن الكسرة هي الحركة الأصلية لهذه الهمزة، أما غيرها من الحركات فهو خروج عن هذا الأصل. وقد أدرك علماء العربية أنفسهم هذا الشذوذ. ومن ثم حاولوا تفسيره بما لا يخرج -في نظرنا- عن كونه مجرد تبرير أو تعليل عقلي افتراضي لما حدث بالفعل. جاء في مراح الأرواح وشرحه ما يلي: "وفتح ألف ايمن أي: همزته ... مع كونه للوصل بدليل سقوطه في الدرج والأصل في ألف الوصل الكسر ... لأنه جمع يمين وألفه للقطع لأنه ألف أفعُل وألفه مفتوحة، ثم جعل للوصل أي عومل معاملة ألف الوصل بأن سقطت في الدرج لكثرته أي: لكثرة "ايمن" استعمالا، وكثرة الاستعمال تقتضي التخفيف ... وفتح ألف التعريف مع كونه للوصل بدليل سقوطه في الدرج لكثرته استعمالا أيضا"1. فهو هنا يعتل لفتح همزة "ايمن" بكونها صيغة جمع على أفعل "وهو رأي على ما سنرى فيما بعد"، وهمزة هذا الجمع همزة قطع بالاتفاق وهي مفتوحة كذلك. ولكنها هنا عوملت معاملة همزة الوصل بسقوطها في الدرج لكثرة الاستعمال. وهذا تعليل -كما نرى- يحمل بطلانه في طياته، لما يتضمنه من تحايل على الحقائق وتعسف واضح في تفسيرها. أما بالنسبة لهمزة أداة التعريف فلم يجدوا ما يعتلون به سوى كثرة استعمال هذه الأداة، وفي رأيهم أن الفتحة أوفق من غيرها مع هذه الكثرة!! واستمع إلى ابن جني في تفسيره لهذه الظاهرة -ظاهرة فتح الهمزة في "ال" و"ايمن"- حيث يقول: "فأما لام التعريف فالهمزة معها مفتوحة، وذلك لأن اللام حرف، فجعلوا حركة الهمزة معها فتحة، لتخالف حركتها في الأسماء والأفعال، فأما   1 مراح الأرواح لأحمد بن علي بن مسعود، وشرح هذا المرجع لشمس الدين أحمد، ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ايمن في القسم ففتحت الهمزة فيها -وهي اسم- من قبل أن هذا اسم غير متمكن، ولا يستعمل إلا في القسم وحده. فلما ضارع الحرف بقلة تمكنه فتح تشبيها بالهمزة اللاحقة لحرف التعريف. وليس هذا فيه إلا دون بناء الاسم، لمضارعته الحرف ... ويؤكد عندك أيضا هذا الاسم في مضارعته الحرف أنهم قد تلاعبوا به وأضعفوه. فقالوا مرة: "ايمن الله"، ومرة: "ايم الله" ومرة: "ايم الله"، ومرة: "مِ الله"، وقالوا: "مُ الله"، وقالوا: مُنُ ربي، ومِنِ ربي. فلما حذفوا هذا الحذف المفرط وأصاروه من كونه على حرف واحد إلى لفظ الحروف قوي شبه الحرف عليه، ففتحوا همزته تشبيها بهمزة لام التعريف"1. فهذا التفسير -كما نرى- ليس إلا مثلا آخر من أمثلة الإغراق في التأويل والتماس العلل التي يولع بها ابن جني في كثير من مناقشاته. وهو إن دل على شيء فإنما يدل على المقدرة البارعة لدى أبي الفتح في تصوير الأمور بغير صورها الحقيقية. ففتح الهمزة المصاحبة للام التعريف لغرض المخالفة بين حركتها هنا وحركتها في الأسماء والأفعال أمر لا يقره منطق الواقع ولا منطق اللغة. إنما المنطق هو أن الهمزة وردت في كلام العرب مفتوحة، فيجب أن تؤخذ بهذه الصفة وتسجل أحكامها وفق ما تبديه من خواص واقعية دون تأويل أو تعليل. واختيار الفتحة لهمزة ايمن تشبيها لهذه الصيغة بالحرف لما يعتريها من ضعف أو نقص هو الآخر تفسير واه يبدو فيه التكلف واضحا. وحقيقة الأمر أن الهمزة في أداة التعريف وايمن يمكن حسبانهما همزتي قطع، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، وكما يتبين كذلك من أدلة أخرى خاصة بكل حالة منهما. ففي "ايمن" نلاحظ اضطرابا بين النحاة في الحكم عليها وعلى همزتها. فهي عند البصريين اسم مفرد من اليمن، وهمزتها للوصل عندهم، بدليل سقوطها في درج الكلام، ووزنها على أفعل، ومثله جاء في العربية كآجُر وآنُك.   1 ابن جني: سر صناعة الإعراب، ص131-132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وأغلب الظن أن هذا الكلام ليس إلا ترديدا لرأي شيخهم سيبويه في هذه النقطة ذاتها. فهذا هو الزجاجي يقول: وهمزة ايمن في نحو: قولهم: ايمن الله لأفعلن ذلك "ألفه ألف وصل، إلا أنها فتحت لدخولها على اسم غير متمكن، كذلك يقول سيبويه: واشتقاقه عنده من اليمن. واستدل على ذلك بقول بعضهم: ايمن الله بكسر الألف ولو كانت ألف قطع لم تكسر، ويقول الشاعر: فقال فريق القوم لما نشدتهم ... نعم وفريق ليْمُنُ لله ما ندري فحذف الألف في الوصل"1. أما عند الكوفيين فايمن جمع لا مفرد؛ إذ ليس في رأيهم اسم مفرد في العربية على وزن أفعل. أما آجر وآنك فأعجميان في نظرهم. وهمزتهما همزة قطع عندهم، ولكنها عوملت معاملة همزة الوصل فسقطت في الدرج لكثرة الاستعمال2. وهذا هو ما يروى عن الفراء كذلك. يقول الزجاجي في الجمل: قال الفراء: "ألف ايمن ألف قطع وهي جمع عنده"3. وهكذا يقع الخلاف بين الفريقين ويلتمس كل منهما العلل والتأويلات لما ذهب إليه. وفي اعتقادنا أن الحق في جانب الكوفيين ومن تابعهم. وأما ما اعتل به البصريون من سقوط الهمزة في وصل الكلام فليس يكفي دليلا مقنعا للقول بأنها همزة وصل فهذا السقوط لا يعدو أن يكون ظاهرة فنولوجية اقتضاها السياق، لا لأنها "جعلت للوصل"، كما ادعوا. وأما تحريك هذه الهمزة بالكسر -كما قرر سيبويه- فذلك يغلب أن يكون لهجة خاصة ينبغي ألا تنسحب أحكامها على غيرها من أساليب الكلام.   1 الزجاجي: الجمل ص85-86. 2 انظر: حاشية الخضري على ابن عقيل جـ2 ص181. وشرحي مراح الأرواح لشمس الدين أحمد وابن كمال باشا ص56. 3 الزجاجي: السابق ص85-86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وهناك فيما يتعلق بهمزة أداء التعريف آراء ونصوص صريحة تؤكد لنا ما ذهبنا إليه فهذه الهمزة للقطع عند بعضهم، ومنهم شيخ اللغويين العرب الخليل بن أحمد. يقول ابن كمال باشا في شرح مراح الأرواح: "اعلم أنهم اختلفوا في آلة التعريف. فذكر المبرد في كتابه الشافي أن حرف التعريف الهمزة المفتوحة وحدها. وإنما ضم اللام إليها لئلا يشبه ألف التعريف بألف الاستفهام فيكون للقطع ... وقال الخليل "ال" بكمالها آلة التعريف ثنائي نحو: هل فيكون همزته للقطع، وإنما حذفت في الدرج لكثرة الاستعمال"1. وكذلك عاملوا همزة أداة التعريف معاملة همزة القطع في عدم حذفها عند سبقها بهمزة الاستفهام، وجواز إبدالها ألفا وتسهيلها في هذا السياق نفسه، شأنها في ذلك شأن همزة القطع تماما. تقول: آلحق قلت؟ كما تقول: آكرمت يا زيد عمرا؟ بإبدال الهمزة ألفا فيهما. كل هذا الذي قررنا يقودنا إلى نتيجة واضحة، تلك هي أن همزة أداة التعريف وايمن يحسبان همزتي قطع، وأما ما تخضع له من سقوط في وصل الكلام أحيانا فهو ظاهرة صوتية سياقية تعرض للهمزة ولغيرها من الأصوات وبخاصة الحركات   1 شرح مراح الأرواح لابن كمال باشا ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 المبحث الثالث: السكون في اللغة العربية مدخل ... المبحث الثالث: السكون في اللغة العربية السكون في اللغة العربية 1: لعب السكون دورا مهما في الدرس اللغوي عند العرب. وقد تناولوه وعرضوا لكثير من مشكلاته على مختلف المستويات اللغوية. وقد اهتموا به في الخط والكتابة كذلك. فوضعوا له علامة مميزة، أصبحت في عرف الناطقين بالضاد جزءا من النظام الكتابي للغتهم. ولكنا مع ذلك نلاحظ أن كل ما خلفوه لنا من تراث في هذا الشأن مملوء بالاضطراب والبعد عن جادة الصواب أحيانا، الأمر الذي دفعنا إلى مناقشة الموضوع من جديد، في محاولة ترمي -فيما ترمي إليه- إلى تقويم وجهات النظر التقليدية في هذه الظاهرة. ومناقشة السكون مناقشة لغوية كاملة تقتضينا أن نعرض له من الزوايا المختلفة للبحث، أي: من الناحية الصوتية والصرفية والنحوية. وقد يكون من المفيد كذلك أن نشير في إيجاز إلى ما رآه علماء اللغة العربية فيما يتعلق برمزه في الكتابة. يروي صاحب التصريح احتمالات عدة تبلغ في مجموعها ستة، يمكن أن نرجع إليها تلك العلامة المألوفة لنا، وهي "هـ". 1- ينقل عن أبي حيان أن علامة السكون خاء فوق الحرف، وأن سيبويه جعلها هكذا: "خ" على أنها اختصار للكلمة "خف" أو "خفيف". 2- هي رأس جيم وهي مختصرة من "اجزم".   1 نشر موجز لهذا البحث بمجلة مجمع اللغة العربية "الجزء الرابع والعشرون، يناير سنة 1969". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 3- هي رأس ميم وهي مختصرة من "اجزم" أيضا. 4- هي رأس حاء مهملة مختصرة من "استرح"، لأن "الوقف استراحة". 5- علامة السكون دائرة، لأن الدائرة صفر "هـ"، وهو الذي لا شيء فيه من العدد. 6- علامة السكون دال، ويعلل ذلك بقوله: "وكأنهم لما رأوها بغير تعريف ظنوها دالا"1. وواضح من هذا أن كل واحد من هذه الاحتمالات يصلح لأن يكون هو الأصل الذي تطورت عنه العلامة الحالية "هـ"، بل إن الاحتمال الخامس -وهو كونها دائرة، أو علامة الصفر "هـ"، على ما عليه الحال في كثير من اللغات -يطابق هذه العلامة تمام المطابقة في الشكل والصورة. وهذا الاحتمال بالإضافة إلى ذلك، يتضمن ما يرشحه للقبول أكثر من غيره، إذ الصفر -فيما لو أخذ وحده منعزلا- ليس له قيمة عددية إيجابية، كما نص على ذلك صاحب التصريح. والسكون من الناحية الصوتية خال هو الآخر من التحقيق الصوتي Phonetic realization، أي: ليس له أثر مادي من ناحية النطق الفعلي. وبهذا تكون هناك مناسبة واضحة بين المعنى المنقول منه والمعنى المنقول إليه. أما كون علامة السكون خاء فيفسر على أن المقصود رأس خاء بلا نقطة، هكذا "حـ". ثم لحقها تغير في الشكل حتى صارت إلى ما هو عليه الآن2. واختيار الخاء فيه إشارة إلى خاصة من خواص السكون، وهي الخفة في النطق، على ما رآه كثير من النحويين، أي: إذا قيس بالحركات أو إذا   1 انظر التصريح شرح التوضيح للشيخ خالد الأزهري جـ2 ص343-344. وانظر أيضا: الصبان على الأشموني جـ4 ص156، حيث جاء هناك ذكر العلامات الأربع الأولى. 2 ورأس الخاء "بدون نقط" لا تزال واضحة في الاستعمال في بعض أنواع الخطوط في الوقت الحاضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 قورن بما سموه "السكون" الشديد، وهو ما يصاحب الإدغام الذي رمزوا إليه بحرف الشين بلا نقط "سـ" للدلالة على هذا المعنى. والإشارة بحرف الجيم إلى السكون تعني أن المقصود رأس جيم بلا نقطة كذلك "حـ" واستعمال هذا الرمز يعني -في نظر القائلين بذلك- الدلالة على وظيفة من أهم وظائف السكون عندهم، وهي كونه علامة على الحالة الإعرابية المعروفة بالجزم، أو كونه ينبئ عن الجزم بمعنى القطع والبت في الأمور. وهذا التفسير مبني على اختلاف الآراء في معنى الجزم الذي يفيده السكون: أهو القطع المادي، بمعنى قطع الحركة أو حرف العلة، أي حذفهما، أم القطع المعنوي الذي يفيد الأمر والتشديد في الطلب، والذي يتحقق ماديا في صيغة الأمر مثلا؟ رأيان نص عليهما علماء اللغة العربية. وما قيل عن الجيم هنا ينطبق على الميم، إذ استخدامها -أو بالأحرى استخدام رأسها- علامة على السكون فيه الإشارة إلى المعاني السابقة، إذ الميم هي الأخرى اختصار لكلمة "اجزم". أما استعمال رأس الحاء للإرماز إلى السكون ففيه إيماء إلى وظيفة واضحة من وظائفه، وهي دلالته على الوقف في الكلام. والوقف -كما يرى أصحاب هذا الرأي- فيه استراحة، فكأن الرمز مختصر من الفعل "استرح" كما نصوا على ذلك، أو من آية صيغة أخرى من المادة نفسها. ويخيل إلينا على كل حال أن هذه الاحتمالات الثلاثة الأخيرة مبنية على مجرد التخمين والحدس. كما أنها تعتمد في تفسير رموزها على الإشارة إلى وظيفة السكون في سياق واحد فقط. هذا السياق هو نهاية الكلمة أو الجملة، حيث يكون هذا السكون علامة مميزة للجزم أو الوقف. والأولى في نظرنا أن نفسر علامة السكون -في حالتي الجيم والحاء- على أنها رأس خاء، إذ في استخدام هذه الخاء إشارة واضحة إلى الخاصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الأساسية للسكون في كل سياق وكل موقع في الكلام العربي. هذه الخاصة -كما رأوا هم- هي خفته. على أنه من الجائز أن تكون هذه العلامة قد فسرت أو قرئت خطأ: لعلها خاء في الواقع وحقيقة الأمر، ولكنها أخذت بطريق الخطأ على أنها رأس جيم أو حاء وذلك بسبب غياب النقط الذي يفرق بين هذه الحروف. وهذا الذي نراه هنا من كون العلامة هي رأس خاء يتمشى مع القول التقليدي الشائع بين القدامى والمحدثين على سواء1. أما القول بأن علامة السكون هي رأس الميم ففيه خلط واضح بين رأس الميم "مـ" وبين علامة الصفر "هـ" "وهو أحد الاحتمالات التي نصوا عليها" وربما أوقعهم في هذا الخلط عدم معرفتهم بهذا الرمز الأخير أو عدم إدراكهم لقيمته. والرأي الذي يرى أن الدال هي الأصل في علامة السكون رأي يبدو بعيدا عن الصواب. والظاهر أن الأمر التبس عليهم للتشابه الكبير بين رأس الخاء "غير المنقوطة" وبين الدال المفردة "د"، وهو أمر نلحظه كثيرا في بعض أنواع الخطوط. وإذا كان لنا أن نبدي رأيا في "رموز" السكون فإننا نميل إلى تفضيل وجهة النظر القائلة بأن علامة الصفر "هـ" هي رمز السكون. وربما كان ذلك أقرب إلى غيره من الحقيقة. لما بين الجهتين من اتفاق وتماثل في خاصتهما الأساسية وهي "الخلو" من القيمة المادية. وذلك بالطبع إذا أُخِذا منعزلين أو قورنا بما من شأنه أن يصحبهما من أعداد أو حركات. على أن الافتراض القائل بأن علامة السكون هي رأس خاء غير منقوطة افتراض له وجاهته، وليس هناك ما يمنع من قبوله، على أن يكون تاليا للاحتمال السابق من حيث الأفضلية والاختيار.   1 انظر: حفني ناصف، تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية ص76 ط2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ومن يدري؟ لعل للاحتمالين أصلا تاريخيا. فربما وضعت رأس الخاء بالفعل في فترة من الفترات للدلالة على السكون -وهو ما تشير إليه كتب اللغة، حيث ينسبون هذا الوضع إلى الخليل بن أحمد- ثم تطورت إلى ما يشبه الدائرة "هـ"، كما يظهر في بعض الخطوط، أو بقيت محافظة على كثير من سماتها الأصلية "حـ"، كما يبدو في أنواع أخرى. ومن الجائز كذلك أن تكون هناك علامة جديدة، قد استحدثت في فترة من تاريخ العربية للدلالة على هذا السكون. وأن تكون هذه العلامة هي رمز الصفر "هـ". وربما يؤيد هذا الرأي الذي نراه من وضع علامتين وصلتا في النهاية إلى صورة واحدة هي "هـ". ربما يؤيد هذا أكثر من غيره شيوع هذا الرمز بعينه "هـ" في الاستعمال الحاضر وربما الماض كذلك بصورة أوسع من استعمال غيره من الرموز التي ظن أنها -كلها أو بعضها- علامات للسكون. والأهم من هذا كله على أية حال هو بيان القيمة اللغوية للسكون، وبخاصة من وجهة النظر الصوتية، ويخيل إلينا أن تجلية هذا الأمر تعتمد في أساسها على الإجابة عن هذا السؤال. ما السكون؟ أهو صوت لغوي؟ أو بعبارة أقرب إلى موضوع الحديث "وهو تقويم آراء علماء العربية في السكون": هل السكون حركة؟ الإجابة عن هذا السؤال -بكل صوره- سهلة ميسورة على كل من له دراية بمعنى الصوت اللغوي، وكل من له أدنى خبرة بالدراسات الصوتية، فلسوف يقرر هؤلاء جميعا على الفور أن السكون ليس صوتا لغويا alinguistic Sound أي: أنه شيء لا ينطق ولا يسمع، أو هو شيء ليس له تحقيق صوتي عادي phonetic realization أو أي تأثير سمعي audible effect. وبهذا يصبح السكون خاليا تماما من العنصرين الأساسيين لأي صوت من الأصوات. ولقد أثبت التحليل لأصوات العربية أن ليس بينها صوت ينطق أو يحقق ماديا أكثر من تلك الأصوات المنحصرة في المجموعتين المعروفتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 بالأصوات الصامتة Consonants والحركات vowels. وفي عرف المحققين من الدارسين أن السكون -من الناحية النطقية الصرفة- لا ينتمي إلى أي من هاتين المجموعتين، وإن كان بعض هؤلاء الدارسين يرى أن لهذا السكون قيمة لغوية من نوع ما، على ما سنرى فيما بعد. وبهذا ثبت لنا أن السكون ليس صوتا صامتا Consonant، وهذا أمر واضح بالنسبة للقدامى والمحدثين على سواء، كما أنه ليس حركة بالمعنى الذي يفيده هذا المصطلح في نظر العارفين من الباحثين، إذ انتفاء كونه صوتا يعني استحالة اعتباره حركة، لأن الحركة صوت لها صفات الأصوات في عمومها، مضافا إلى ذلك مميزاتها النوعية التي تنفرد بها بوصفها حركة، وفقا لما قرره علماء الأصوات. ونستطيع أن نؤكد ما قررناه بعبارة تقربنا من الاصطلاح التقليدي، ليسهل الفهم ويتبين القصد في جلاء ووضوح فنقول: إن السكون لا يتلفظ به ولا وجود له من الناحية النطقية الفعلية، أو هو -من وجهة نظر معينة- "عدم" الصوت، أي: عدم الحركة. وإنما فسرنا الصوت هنا بالحركة بالذات، لأن مناقشة علماء العربية للسكون تدور في جملتها حول كونه حركة أو غير حركة، وحول بيان موقعه من الحركات العربية وعلاقته بها. أما تفاصيل آراء هؤلاء العلماء في هذا الموضوع فتظهر في عدد من النصوص المختلفة التي تتسم -في عمومها- بالخلط، بل بالتناقض أحيانا، وليس من النادر أن نجد الباحث الواحد يناقض نفسه في فكرته عن السكون، حيث يلقي إلينا برأيين اثنين -في مكان واحد أو مكانين مختلفين- لا يتمشى أحدهما مع الآخر، وربما عارضه أو ناقضه كذلك. وهذه الآراء كلها يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات رئيسية، على أساس ما بين أفراد كل مجموعة من تشابه أو تماثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 المجموعة الأولى : وهذه المجموعة تمثل اتجاها قويا بين لُغويي العرب، والمتأخرين منهم بوجه خاص. يعامل أصحاب هذا الاتجاه السكون على أنه حركة أو كما لو كان كذلك حيث ينعتونه صراحة بالمصطلح "حركة"، ويجعلونه قسيما للحركات وواحدًا في سلسلة عددها. أو هم -في أقل تقدير- يقرنون السكون بالحركات وينسبون إليه ما لها أو لبعضها من خواص صوتية أو وظيفية. ومن الواضح أن هذا الاتجاه يستلزم ضمنا -وبالضرورة- اعترافهم بأن السكون شيء ينطق ويتلفظ به بالفعل. إذ ثبوت كونه حركة أو منحه الخواص الصوتية للحركات يقتضي هذا اللزوم بداهة. ومن أصرح النصوص في هذا الشأن عبارة بعضهم التي تحكي "أنه ينوب عن أربع حركات الأصول عشرة أشياء. فينوب عن الضمة: "الواو والألف والنون"، وعن الفتحة: "الألف والكسرة والياء وحذف النون"، وعن الكسرة: "الفتحة والياء"، وعن السكون: "الحذف""1. ويفهم من هذا القول صراحة أن السكون حركة وأنه أحد أربع حركات. كما يفيد أن السكون شيء محقق صوتيا أو أنه شيء إيجابي مادي، ينوب عن شيء مادي آخر "هو الحذف وفقا للنص السابق"، إذا اقتضى السياق عدم ظهوره أو إذا لم يسمح هذا السياق بذلك. ويقرب من هذا ما قرره ابن هشام في توضيحه، حيث قرن السكون بالحركات وجعله واحدا منها، فيقول: "وأنواع البناء أربعة، أحدها: السكون وهو الأصل ... ويسمى أيضا وقفا. ولخفته دخل في الكلم الثلاث نحو: هلْ وقمْ وكمْ. والثاني: الفتح وهو أقرب الحركات إلى السكون، فلهذا دخل أيضا   1 حاشية الخضري على ابن عقيل، جـ1 ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 في الكلم الثلاث نحو: سوفَ وقامَ وأينَ. والنوعان الآخران، وهما الكسر والضم ولثقلهما وثقل الفعل، لم يدخلا فيه ودخلا في الحرف والاسم"1. وفي هذا النص كذلك نلاحظ أن السكون عومل معاملة الحركات من حيث "الوجود الصوتي"، فهو يظهر فعلا في الكلمات المختلفة أو يدخلها كالحركات تماما. كما أن وصفه بالخفة ومقارنته بالفتحة في ذلك، فيه إشارة واضحة إلى خاصة "الوجود الصوتي" هذه، إذ الخفة إنما تكون في النطق أولا وقبل كل شيء. ومن الواضح أن ابن هشام هنا يردد قولة ابن مالك عن أنواع البناء: ومنه ذو فتح وذو كسر وضم ... كأينَ أمسِ حيثُ والساكن كمْ ولابن هشام رأي آخر في مفهوم السكون يختلف عن رأيه السالف بل يكاد يناقضه، إذ يشير إليه كما لو كان شيئا سلبيا أو شيئا يتحقق وجوده عند زوال غيره "ويعني بذلك الحركات". وهذا التفسير يؤخذ من قوله: وعلامات الإعراب الأصلية أربع "هي الضمة للرفع، والفتحة للنصب، والكسرة للخفص، وحذف الحركة للجزم"2 وهو في هذا السياق كذلك متأثر بقول ابن مالك: واجزم بتسكين والتسكين -كما فسروه وارتضاه الكثيرون منهم- معناه حذف الحركة "لا عدمها". وهذا الرأي الثاني -وإن كنا لا نميل إليه- يسير في الاتجاه الصحيح حيث نفى الإيجابية الصوتية عن السكون، غير أنه كان الأولى أن يعبر عن هذه الحالة "بعدم الحركة"، لأن "حذف الحركة" -حسب عبارته السابقة- يفيد أنه كانت هناك حركات ثم أزيلت. والواقع اللغوي -كما هو   1 التصريح على التوضيح، جـ1 ص59. 2 انظر التصريح على التوضيح جـ1 ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 واضح -لا يؤيد ذلك إذ الحركة لم توجد وما كان لها أن توجد في مثل هذا السياق الذي يشير إليه ابن هشام. وهناك من المحدثين من وقع في مثل هذا الخلط أو أشد درجة، على الرغم مما تشعر به بعض عباراته من أنه يدرك المفهوم الصوتي للسكون. إننا نعني بذلك الأستاذ حفني ناصف1 الذي يصرح بأن "الحركات الأصلية التي تصور الحروف أربع وهي الفتحة والكسرة والسكون". ويؤكد هذا المعنى نفسه بقوله في مناسبة أخرى: إن "الحركات قسمان أصلية ومتفرعة، فالأصلية هي: الفتحة والكسرة، والضمة، والسكون، وهي المصطلح على تصويرها هكذا: ـَُِْـ". ولكنه يعود فيعتذر عن نفسه اعتذارا لطيفا، فيقول "وإنما أطلق اسم الحركة على السكون هنا تغليبا"2 ومع ذلك مازلنا نضعه في عداد الواهمين، لأن تسمية الشيء باسم غيره تغليبا تقتضي الاشتراك أو الاتفاق في خواص معينة. وهذا لا ينطبق على السكون ألبتة من الناحية النطقية، وهي الناحية التي يعنيها هذا الباحث في هذا المقام، على ما يبدو. أما إذا كان يعني مشاركة السكون للحركات في الوظائف الصرفية والنحوية فهذا أمر مقبول، بل من الضروري أخذه في الحسبان عند معالجة قواعد العربية.   1 هناك محدثون آخرون اتجهوا هذا الاتجاه، كالأستاذ إبراهيم مصطفى، وقد ناقشنا رأيه مستقلا نظرا لأهميته وغرابة ما جاء به من آراء. 2 حفني ناصف تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية ص11، 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 المجموعة الثانية : وتضم هذه المجموعة عددا من النصوص المتناثرة هنا وهناك في التراث اللغوي. وهذه النصوص تمثل غالبية الآراء وأشهرها فيما يتعلق بحقيقة السكون، وهي جميعا تتفق في خاصة واضحة، هي عدم تسمية السكون بالحركة وعدم وصفه بهذا المصطلح، ولكنها كلها -أو أجلها- تعامله على أنه شيء ينطق ويتلفظ به تحقيقا، وكثيرا ما يقارنون بينه وبين الحركات في هذه الخاصة التي نسبوها إليه. وهذا الاتجاه -بكثرة نصوصه وتنوعها- تلخصه إشارات عابرة يلقي بها الدارسون من وقت إلى آخر ويمر بها كثير من القراء دون التمعن في حقيقة ما تنطوي عليه. من ذلك قولهم مثلا: "السكون أخف الحركات" أو "أخف من الحركات"، أو نحو قولهم: "الفتح أقرب الحركات للسكون"، أو"الفتح يشبه السكون في الخفة" إلخ. فهذه الإشارات ونحوها -وإن اختلفت في الأداء اللفظي- تنبئ عن معنى واحد، هو افتراضهم أن السكون شيء ينطق، ولكنه أخف الحركات أو أخف منها في ذلك. والفتح -في نظر علماء العربية والتقليديين من المحدثين- أقرب الحركات إلى السكون لأنه يقرب منه أو يشبهه في خفة النطق. وهذه المقارنة في الحالتين -بين الحركات في عمومها وبين السكون، وبين الفتحة وحدها وبينه- لا يمكن تفسيرها إلا على أساس التشابه الصوتي أو التقارب في عملية النطق الفعلية، وإلا ما كان هنا داعٍ لاستعمال المصطلحين "خفة"، "خفيف" في حالة السكون أو استعمال عكسهما في حالة الحركات كالتعبير "بالثقل أو ثقيلة". وهذه المصطلحات -كما ترى- تفيد التحقيق الصوتي أو إيجابيته، إذ لا يكون ذلك بجانبيه "الخفة والثقل" إلا في النطق والتلفظ بالشيء بداهة. وقد جرهم إلى هذا الافتراض أو الوهم محاولتهم تسويغ قاعدة مشهورة، غير معتمدة هي الأخرى على الواقع اللغوي أو منطق اللغة نفسها. هذه القاعدة هي ما أشار إليها ابن مالك بقوله: "والأصل في المبني أن يسكنا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 قال أكثر الشراح: وإنما كان ذلك هو الأصل "لخفة السكون" و"لثقل الحركة"1. ولم يكتف صاحب المفصل بذلك بل عد البناء على السكون هو القياس. وعلل شارحه -ابن يعيش- هذا الادعاء بكلام طويل نكتفي منه بقوله: وإنما كان القياس في كل مبني السكون لوجهين: أحدهما أن البناء ضد الإعراب، وأصل الإعراب أن يكون بالحركات المختلفة للدلالة على المعاني المختلفة فوجب أن يكون البناء الذي هو ضده السكون. والوجه الثاني أن الحركة زيادة مستثقلة بالنسبة إلى السكون، فلا يأتى بها إلا لضرورة تدعو لذلك"2. فهذا التعليل -بالإضافة إلى ما يشتمل عليه من مغالطة منهجية- يصف الحركات بالثقل، إذا قورنت بالسكون وفي ذلك ما يعني إيجابية السكون ووجوده نطقا، غير أنه يتميز بالخفة في ذلك. على أن غالبية النصوص التي تنتمي إلى هذا الاتجاه لا تكتفي بمجرد المقارنة بين السكون والحركات في بعض سمات النطق، وإنما تصرح -بل تؤكد   1 انظر حاشية الخضري على ابن عقيل جـ1 ص32 والتصريح على التوضيح جـ1 ص58. 2 راجع إحياء النحو للأستاذ إبراهيم مصطفى ص102-103 والقول بأن البناء على السكون هو القياس أمر غير مقبول ويتضمن مغالطة منهجية. وذلك لأن القياس ينبغي أن يكون مبنيا على الواقع اللغوي نفسه. وقد لاحظ الأستاذ إبراهيم مصطفى أن هذا الأساس مفقود، فليس الكلام المبني ساكنا كله أو أغلبه. وقد قام هو بالنظر في الكلم المبني كله فوجد أن عدد حروف المعاني سبعون حرفا "الساكن منها اثنان وعشرون والمتحرك ثمانية وأربعون" ومعناه، كما قال: إن الساكن "في لبناء اقل من المتحرك". م بالنسبة للاسم فوجد أننا "لسنا في حاجة إلى الإحصاء، وجلي أنه قل أن يبنى على السكون "أما الفعل فالماضي بناؤه على الفتح ما أمكن والمضارع أكثر بناؤه على الفتح وذلك حين يؤكد بإحدى النونين والأمر وحده يبنى على السكون "انظر المرجع السابق ص104-107" وخلاصة هذا أن المبني على السكون من الكلم أقل من المبني على غيره، وهذه الحقيقة الواقعة تفسد أساس هذا القياس الذي ذكروه. وقد أدرك الصبان هذا الذي قلناه، فيصرح -تعليقا على قول ابن مالك: "والأصل في المبني أن يسكنا"- بأن الأصل أي الراجح والمصطحب لا الغالب؛ إذ ليس أغلب المبنيات ساكنا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 هذا التصريح أحيانا- بأن السكون شيء يتلفظ به ويتساوى في هذه الخاصة مع الحركات. جاء في كلام بعضهم قوله: "وأما البناء فعلى أنه لفظي هو الحركات والسكنات ونوابها اللازمة ... " ويتأكد هذا المعنى من قول هذا الدارس نفسه: إن فعل الأمر مبني عند البصريين "على ما يجزم به مضارعه لو كان يجزم، من سكون في صحيح الآخر ملفوظ كاضرب، أو مقدر كرد واضرب الرجل". ولم يقنع الخضري هنا بالحكم على السكون بأنه شيء يتحقق في اللفظ والنطق، بل منحه خاصة من أهم خواص الحركات عندهم وهي وجوب تقديرها إذا منع من ظهورها. ومعناه -بعبارة أخرى- أن للسكون نوعين من الوجود: وجود بالفعل ووجود في التقدير حين يصعب أو يستحيل تحققه في واقع النطق. ومعاملة السكون معاملة الحركات في النطق وفي خاصة الظهور أحيانا والتقدير أحيانا أخرى، تبدو أصرح وأوضح في سياق آخر من عبارة الخضري نفسه حيث ينص على أن حركة البناء تكون ظاهرة أو مقدرة "كضرب وضربت وكذا السكون كمن وإذا؛ فإن إذا مبنية على سكون مقدر منعه السكون الأصلي في الألف، كما تمنع الحركة الحركة"1. وفي هذا النص الأخير -كما ترى- إغراق في الوهم والخلط حيث عد الخضري الألف في "إذا" سكونا، وأن هذا السكون منع السكون الآخر من الظهور. وكلا التقديرين -في رأينا- أمر غير مقبول. أما أن الألف في "إذا" سكون فهو خطأ صوتي وقع فيه علماء العربية منذ القديم، مخدوعين   1 الخضري على ابن عقيل جـ1 ص30، 32-33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 في ذلك -على ما نعتقد- بغياب رموز الحركات القصيرة، وهذا الغياب في نظرهم يعني السكون، بقطع النظر عن طبيعة الصوت المعين. وقولهم: إن سكون الألف في "إذا" منع السكون الآخر من الظهور أمر لا يمكن تفسيره إلا على أساس أن المقدر هو رمز السكون "هـ" لا صوته؛ إذ السكون "بمعنى غياب الحركات" شيء لا يتعدد. أما الحركات فهي تختلف عن السكون في ذلك، فهي متعددة في طبيعتها وصورها، فهناك الفتحة، والكسرة، والضمة. وفي هذا الذي يذهب إليه هؤلاء العلماء دليل واضح على أنهم قد خلطوا بين الرموز والأصوات أو المكتوب والمنطوق، وهو ما أدى إلى وقوعهم في بعض الأخطاء الصوتية، كما في هذه الحالة مثلا. وليس ينفرد الخضري بهذه النظرة تجاه السكون، فقد شاركه فيها غيره مستخدما مصطلحات وعبارات لا تخرج في جملتها عما فعله الدارس الأول. يقول صاحب التصريح في التعليق على كلام الموضح بأن الإعراب أثر ظاهر أو مقدر: "والمراد بالأثر الظاهر أو المقدر نفس الحركات الثلاث والسكون وما ناب عنها. والمراد بالظاهر ما يتلفظ به من حركة أو حرف أو سكون. "والمراد بالمقدر ما ينوى من ذلك"1. وجدير بالذكر أن بعضهم قد أدرك ما في هذه الآراء من مغالاة وبعد عن الحقيقة، ففسرها -أو بعبارة أدق فعارضها- في صورة تأويلات أو تخريجات تقليدية. من هؤلاء المعارضين الشيخ يس في تعليقه على الكلام السابق الذي نقلناه عن خالد الأزهري، فيقول: "قال الدنوشرى: عد السكون من الإعراب اللفظي فيه تسامح. وكأنهم أرادوا باللفظي ما يتعلق باللفظ، والسكون عدم الحركة الملفوظة أو ما يلفظ به. وقال أيضا: جعلهم السكون   1 التصريح على التوضيح جـ1 ص59-60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وهو عدم الحركة والحذف وهو إسقاط حركة أو حرف لفظيا تسمح واللفظ إنما هو متعلقهما وهو الحركة والحرف"1. وفي هذا المنقول عن الدنوشري ما يدل على وعي بطبيعة "السكون" وقيمته الصوتية2، وفيه كذلك ما يتضمن الرد البليغ على أولئك الخالطين الذين استغلق عليهم الأمر، فلم يستطيعوا التفريق بين الحركات، وبين ما سموه بالسكون من ناحية النطق. وفي ظننا أن هناك سببين آخرين قد أوقعا هؤلاء العلماء في وهمهم الزاعم "نطقية" السكون ومساواته بالحركات في هذه السمة وفي غيرها من الخواص الصوتية. وينطبق هذا القول الذي نقوله على كل أولئك الذين تبنوا أحد الاتجاهين السابقين أو كليهما معا. لعل السبب الأول يرجع إلى ما رآه علماء العربية من أن "تلك الظاهرة" التي سموها سكونا تمثل إمكانية رابعة فيما يختص بنهايات الكلمات في الجمل؛ فقد تنتهي بفتحة أو كسرة أو ضمة، أو بعدم هذه الإمكانيات الثلاث. كما أنها احتمال رابع في بعض المواقع بالصيغ الصرفية، فالنموذج: فعل قد يكون مفتوح العين أو مكسورها أو مضمومها أو "ساكنها". وعلى مستوى الأصوات من الناحية الوظيفية at the phonological، لاحظ   1 حاشية الشيخ يس على التصريح جـ1 ص60. 2 ما قرره الدنوشري بالنسبة للسكون "وهو كونه ليس لفظيا أو كونه عدم الحركة" قول صحيح مقبول، كما قلنا. ولكن ما ذكره فيما يتعلق بحذف الحرف أو إسقاطه ليس دقيقا لأن حذف الحرف أو إسقاطه له أثر نطقي، يتحقق في صورة حركة قصيرة. نقول مثلا: يرمي، بوجود الحرف وهو رمز الحركة الطويلة وهي الكسرة، ولكن لم يرم بإسقاط الحرف، وبالرغم من هذا بقي أثر منطوق هو الكسرة القصيرة. ويبدو أن الدنوشرى متأثر بطريقة الكتابة "غير مدرك لناحية النطق" فقد لاحظ حذف الحرف في الكتابة "في لم يرم مثلا" فظن ألا أثر للنطق تبعا لذلك في حين أن الأثر النطقي موجود وهو محقق في الحركة القصيرة. ومعنى ذلك أن حذف الحرف في الكتابة ارتبط به تقصير الحركة في النطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 هؤلاء العلماء أن "السكون" قد يكون نهاية المقطع، كما في نحو: ضربت: ضَ/ رَبْ/ ت. ولم يغب عن أذهانهم بالطبع ما تلعبه هذه الظاهرة من دور بارز في التفاعيل العروضية إلى غير ذلك من الوظائف الصوتية الخاصة بموسيقا الكلام، كما في الوقف مثلا. فمن المحتمل أن تكون هذه الوظائف وغيرها قد خدعت هؤلاء العلماء فساووا بين السكون والحركات من جهات أخرى، فظنوه شيئا ينطق، كما تنطق الحركات، وسموه حركة كذلك، على حين أنه "لا شيء" من الناحية النطقية كما أنه ليس حركة من هذه الناحية أيضا وإنما هو عدمها، كما سنعرف فيما بعد. أما السبب الثاني: فهو وجود رمز خاص بالسكون في نظام الكتابة العربية. فربما أوحى هذا التخصيص إلى بعضهم بأن مدلول هذا الرمز "هـ" لا بد أن يكون شيئا ينطق ويتلفظ به بالفعل، شأنه في ذلك شأن الحركات المختلفة التي خصص لكل واحدة منها رمز مستقل كذلك. ولعل هذا نفسه هو السر في حكم بعض آخر على السكون بأنه حركة ومنحه أهم خواصها عندهم: فهو شيء تجتلبه العوامل، ويظهر كما تظهر الحركات ويقدر كما تقدر إذا لم يكن ظهوره مستطاعا. وقد جرهم هذا الخلط في فهم الرموز الكتابية ووظيفتها إلى إطلاق المصطلح "ساكن" "وما اشتق منه" على كل "حرف" خلا من علامات الحركات الثلاث: الفتحة والكسرة والضمة. وهذا "الحرف" يتحقق في صورتين رئيسيتين: إحداهما تتمثل في كل حرف "صحيح" لم تصاحبه هذه العلامات، وقد ابتكروا هم لهذه الحالة علامة مميزة هي "هـ"، وسموها السكون، ودعوا مدلولها الحرف الساكن كالباء في نحو لم يضرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أما الحالة الثانية فيقصدون بها كل حروف المد في نحو دعا، أدعو، أرمي، فهذه الحروف عندهم "لا يكنَّ إلا سواكن، لأنهن مدات والمدات لا يتحركن أبدًا"1. وما سميت هذه المدات سواكن -على ما نفهم من كلامهم- إلا لخلوها من علامات الحركات الثلاث "الفتحة والكسرة والضمة القصيرات"، وإلا فمن المستحيل تسميتها سواكن، على أي وجه فسرت السكون ومعناه، أي سواء أعددته حركة ملفوظة، أم أخذته على أنه حذف الحركة أو عدمها، لعدم انطباق هذه المعاني جميعا على حروف المد من الناحية النطقية. فمن الواضح أن ما سموه حروف المد ليس إلا تعبيرا قديما عما يعرف في الاصطلاح الصوتي الحديث بالحركات الطويلة: الفتحة والكسرة والضمة الممثلة كتابة بالألف والياء والواو بهذا الترتيب. فكيف إذن تكون هذه المدات حركات، ثم نسميها سواكن أو ننعتها بصفة السكون؟ إن هذا الذي رأوه بالنسبة لهذه المدات ليس إلا تناقضا صريحا أوقعهم فيه عدم قدرتهم على التفريق بين الصوت والرمز الكتابي الذي يشير إلى هذا الصوت. وكثيرا ما اختلط الأمر على بعضهم فبنوا قواعدهم على النظر إلى الرموز دون الأصوات الحقيقية، الأمر الذي أدى إلى وقوع اضطراب مصحوب بعدم دقة فيما وصلوا إليه من قوانين صوتية وغير صوتية. فمن المألوف مثلا قولهم: الفعل في لم يرم مجزوم بحذف الياء، على حين أن المحذوف إنما هو الرمز الكتابي، لا الصوت، وإنما الصوت الممثل في الحركة الطويلة "ii" قد قصر وصار "i" فقط، إذ التصوير الصوتي للفعل قبل الجزم هو "yarmii"، ولكن بعد الجزم أصبح "yarmi".   1 سر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وإذا قيل إنهم يقصدون بالياء هنا الحركة لا الرمز؛ إذ هي مدة والمدة -كما هو معروف ومفهوم من كلام بعضهم- حركة طويلة إذا قيل هذا، ظل الاعتراض قائما وهو أن الياء بوصفها حركة لم تحذف وإنما أصابها القصر فقط. ومعنى هذا كله أن التعبير بحذف الياء على أن من التفسيرين تعبير غير دقيق. ولكنا مع هذا لا ننكر بحال أن بعضهم يدرك تماما ما لهذه المدات من قيم صوتية، وأن بينها وبين الحركات علاقة هي علاقة الكل بالجزء أو العكس، ويفهم هذا بوضوح من قول ابن جني: "اعلم أن الحركات أبعاض حروف المد واللين، وهي الألف والياء والواو. فكما أن هذه الحروف ثلاثة فكذلك الحركات ثلاث، وهي الفتحة والكسرة والضمة. فالفتحة بعض الألف والكسرة بعض الياء والضمة بعض الواو. وقد كان متقدمو النحويين يسمون الفتحة الألف الصغيرة والكسرة الياء الصغيرة والضمة الواو الصغيرة، وقد كانوا في ذلك على طريق مستقيمة"1. ولكنهم على الرغم من هذا الفهم الواعي الدقيق لم يسلموا من البعد عن جادة الصواب أحيانا، فنظروا إلى هذه المدات نظرتهم إلى "الساكن" وعاملوها معاملته في كثير من الأحكام الصوتية والصرفية. وذلك يرجع -كما قلنا- إلى انخداعهم بغياب علامات الحركات الثلاث القصار، متأثرين في ذلك بالرموز الكتابية. أما هذه المعاملة فتظهر في كثير من الحالات، نكتفي بالإشارة إلى أمثلة منها لتوضيح ما نقول. وأكثر ما جاء من هذا الباب قصد به تفسير قاعدتهم المشهورة: وجوب "التخلص من التقاء الساكنين". ويقع هذا التخلص في حالة السكون "بمعنى عدم الحركة" بتحريك الساكن، ولكنه يتم في حالة المدات بحذفها، كما رأوا هم في نحو المثال التالي:   1 سر صناعة الإعراب لابن جني جـ1 ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 "لم يقل" أصلها: عندهم "لم يقوْلْ" التقى ساكنان "الواو واللام"، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين. أما حقيقة الأمر -كما نراها نحن- فهي أن الواو هنا رمز للضمة الطويلة "uu"، وليست صوتا ساكنا، وفي هذا السياق قصرت هذه الضمة فصارت "u" فقط؛ لأن التركيب المقطعي للعربية الفصحى يمنع وجود حركة طويلة، متلوة بصوت غير متحرك إلا في حالة الوقف، وفي باب دابة ونحوها مما كان الأول من "الساكنين" فيه حرف مد والثاني مدغما في مثله. أو بعبارة أخرى قريبة إلى الاصطلاح الصوتي، نقول: إن التركيب المقطعي ص ح ح ص1 ممنوع في اللغة العربية إلا في هاتين الحالتين المذكورتين. ومن نحو ما تقدم كذلك قولهم في "لتكتُبنّ" مثلا، أصلها: لتكتبون "أي بعد حذف نون الرفع"، التقى ساكنان، الواو والنون فحذفت الواو لالتقاء الساكنين. فإذا ما سئلوا: لم حذفت الواو بالذات؟ أجابوا بأن حذف النون يفوت غرض التوكيد، على حين أن حذف الواو لا يفوت غرضا، ولأنها لو لم تحذف التقى ساكنان، هذا بالإضافة إلى وجود ضمة قبلها تدل عليها عند الحذف. قال شارح المراح: "وحذفوا واو ليضربوا، أي: حذفوا الواو من الجمع المذكر من الأمر الغائب عن زيادة نون التوكيد الثقيلة، وكذا من الأمر المخاطب نحو: اضربوا للتخفيف، اكتفاء بالضمة، ولأنه لو لم يحذف التقى ساكنان، مع أنه لا التباس. وحذفوا ياء اضربي، أي: وحذفوا الياء من المفرد المؤنث المخاطبة عند زيادة النون الثقيلة أيضا للتخفيف اكتفاء بالكسرة. ولا يرد أن يقال: إن الواو والياء علامتان والعلامة لا تحذف، لأن الحركتين اللتين قبلهما تدلان عليهما فكانا كأنهما لم تحذفا"2.   1 ص = صوت صامت consonant وح ح = حركة طويلة long vowel. 2 شرح مراح الأرواح لابن كمال باشا ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وفي هذا النص ما يدل على الخلط بين الرمز الكتابي والصوت. فمن المؤكد أن الذي حذف إنما هي الواو أو الياء بوصفهما رمزا كتابيا لا بوصفهما صوتا. أما الواو والياء بهذا الوصف الأخير فقد لحقهما التقصير، فصارتا ضمة "u" وكسرة "i" بعد أن كانتا واوا "uu" وياء "ii"بسبب امتناع التركيب المقطعي المشار إليه سابقا في هذا السياق1. ومعنى هذا أن الضمة والكسرة اللتين نصوا على أنهما تدلان على الواو والياء "المحذوفتين" ليستا أجنبيتين عن الواو والياء، أو ليستا غير متصلتين بهما، وإنما هو في حقيقة الأمر بعضهما، على ما نص عليه ابن جني وغيره من الواعين لهذه الظاهرة. وقد قام هذا البعض مقام الكل بسبب صوتي وظيفي phonological يتسق مع النظام المقطعي للغة العربية. ومن أمثلة الخلط بين السكون بمعناه العام "وهو عدم الحركة" وبين حروف المد قولهم: إن "ذو" الطائية مبنية "على سكون الواو عند بعض طيئ". والحقيقة -من وجهة النظر الصوتية- هي أن هذه الكلمة تلزم الواو أو الضمة الطويلة في جميع الحالات. وليست هذه الواو ساكنة إلا إذا فسر السكون بالخلو من علامة الحركات القصار، على ما يفهم من كلامهم وهو وهم آخر، كما ألمعنا إلى ذلك فيما سبق. على أن هذا الذي نراه من وجوب القول بلزوم "ذو" الواو أو الضمة الطويلة، لا القول بأنها مبنية على سكون الواو يتمشى مع ما قرروه هم   1 هذ التفسير نفسه يتمشى مع قواعدهم الأخرى. فالمعروف أن الواو هنا فاعل، فالقول بحذفها يعني حذف الفاعل وهو غير جائز عندهم. أما القول بالتقصير "تقصير الضمة الطويلة الممثلة كتابة بالواو" فيعني وجود الفاعل ولكن بصورة أخرى هي الضمة القصيرة، لا الواو. وهذا يعني أن مورفيم morpheme الفاعلية في نحو: يكتبون له صورتان؛ إحداهما: الواو أو الضمة الطويلة، والثانية: الضمة القصيرة عند التوكيد بالنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 أنفسهم بالنسبة لهذه الصيغة، عندما رووا رأيا ثانيا ينص على أن بعضا آخر من طيئ "يعربها بالحروف حملا على ذي بمعنى صاحب"1. فهذا القول يعني أنها تعرب بالواو في حالة الرفع، وهذه الواو -كما هو واضح- ليست إلا مدة أو ضمة طويلة "uu" ولا أثر للسكون فيها على رأيهم أو رأي غيرهم على سواء. وإذا صح هذا بالنسبة لهذه الحالة، لزم كذلك القول بأن "ذو" تلزم الواو في حالة البناء، وأنها ليست مبنية على السكون إذ لا فرق بين الحالتين "حالة الرفع على القول بإعرابها وحالة البناء مطلقا" من ناحية النطق، فهي تنطق "thuu" فيهما. وإذا كان هناك من فرق بين الحالتين فإنما يتمثل ذلك فقط في اختلاف وجهات نظر اللغويين إلى هذه الصيغة، حيث يرى بعضهم بناءها ويقرر آخرون إعرابها. ولكن اختلاف الرأي في هذا الحكم لا يصلح مسوغا بحال من الأحوال لتغيير الحقيقة الصوتية المنطوقة بالفعل، تلك الحقيقة هي أن "ذو" تنطق بمدة واوية أو ضمة طويلة "uu" وأنها خالية مما سموه سكونا سواء أحكمت عليها بالرفع "في حالة الإعراب" أم اخترت بناءها في كل الحالات. وهناك من التصريحات ما هو أدخل مما تقدم في الخلط بين السكون وطبيعة أصوات "المد" "الحركات الطويلة المسماة الألف والياء والواو" وما يتضمن في الوقت نفسه خلطا بين الرموز الكتابية والأصوات. ويتضح هذا بصفة خاصة في تلك العبارات المشهورة من نحو قولهم: "أحرف المد المسبوقة بحركة تجانسها" أو قولهم: "أحرف المد هي الألف والياء والواو الساكنة إذا سبقت بحركة من جنسها"، أي: أن تكون هناك فتحة قبل الألف وكسرة قبل الياء وضمة قبل الواو. ومن هذا القبيل تصريح   1 حاشية الخضري على ابن عقيل جـ1 ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 حفني ناصف بأن من صفات الأصوات "المد ويختص بالأحرف "وي ا" الساكنة المسبوقة بحركة مجانسة"1. فهذه الأحرف في نظرهم مدات وهي في الوقت نفسه ساكنة، وهذه المدات كذلك مسبوقة بحركات مجانسة. حكمان لا صحة لأحدهما، ويدلان على اضطراب في فهم حقائق الأشياء. فكونهما مدات يعني بداهة كونها حركات طويلة "uu-ii-aa" وذلك يبطل كونها ساكنة، إذ السكون عدم الحركة. وعلى هذا لا يمكن فهم كلامهم هنا إلا على تفسير السكون بأنه خلو من علامة الحركات القصار. ولكن الخلو من هذه العلامة "وهي رمز كتابي لا صوت" لا يعني عدم الحركة في النطق دائما، فقد يتحقق هذا العدم في نحو لم يضرب، وربما لا يتحقق كما في نحو غزا، ويرمي، ويدعو، حيث تنتهي هذه الكلمات بحركات طويلة، هي أصوات المد التي نعتوها بالسكون خطأ بسبب خلوها من علامات الحركات القصار. أما أن هذه المدات مسبوقة بحركات تجانسها فهو وهم آخر لا أساس له من الصحة؛ إذ ليست هناك حركات سابقة أو لاحقة، وإنما المدات نفسها هي الحركات وهي حركات طويلة ويرمز إليها في الكتابة بالرموز المعروفة "اوي = aa: قال، uu: يدعو، ii: أرمي". وقد ساقهم إلى هذا الاضطراب عدم قدرتهم على التمييز بين الرمز والصوت أو المكتوب والمنطوق. فالواو مثلا بوصفها رمزا في نحو: أدعو، يمكن تسميتها "ساكنة" بمعنى أنها خالية من علامات الحركات القصيرة، ولكنها بوصفها صوتا حركة طويلة. ويبدو أن علماء العربية قد اعتمدوا على الاعتبار الأول دون الثاني، ومن ثم كان حكمهم عليها بالسكون وأنها مسبوقة بحركة تجانسها هي الضمة، مخدوعين في ذلك بالرسم الكتابي. وقد زاد في هذا الخداع ما عمد   1 حفني ناصف: أو تاريخ الأدب، أو حياة اللغة العربية ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 إليه بعضهم من وضع علامة لما ظنوه حركة قصيرة تسبق حروف المد، فوضعوا فتحة قبل الألف في "قال" وكسرة قبل الياء في "أرمي" وضمة قبل الواو في "أدعو". وهذا -في رأينا- سلوك خاطئ تماما من وجهة النظر الصوتية، إذ الحروف هنا ليست ساكنة ولا مسبوقة بحركة، إنها نفسها هي الحركات "وهي طويلة" وقد أشير إليها كتابة بالألف والياء والواو. ومعنى هذا أننا لسنا في حاجة إلى وضع علامات الحركات القصار قبل هذه الحروف، أو ليس هناك من الأصوات ما تمثله أو تشير إليه. وانتفاء الأصوات يقتضي -ضرورة- انتفاء الرموز، إذ الرموز تابعة للأصوات لا العكس. ومن هذا الضرب كذلك ما جاء في كلام بعضهم من حكمهم على الألف بأنها حركة وأنها ساكنة في الوقت نفسه. وهو في حقيقة الأمر تناقض صريح أوقعهم فيه الخلط بين السكون وبين القيم الصوتية لأحرف المد. يرى صاحب المراح أن الفعل الماضي إنما بني على الفتح، لأن الفتح "أخو السكون ولأن الفتحة جزء الألف، والألف أخو السكون". ثم يعلق عليه شارحه بقوله: "يعني أن بين الفتح والسكون مناسبة، وبين الألف والسكون مناسبة أيضا، لأن الألف ملزوم السكون لأنه ساكن أبدا، فيكون بين الفتح والسكون مناسبة، وحيث تعذر السكون صير إلى ما يناسبه من الحركات عملا بالأصل بقدر الإمكان"1. فالألف في نظرهم حركة طويلة لأنه "مركب من فتحتين" وهو قول صحيح مقبول، ولكنه كذلك ساكن عندهم، وهو وهم واضح، والجمع بين هاتين الصفتين أمر ترفضه طبائع الأشياء. ولقائل أن يقول: لعل علماء العربية أطلقوا المصطلح "ساكن" على الواو والياء والألف في نحو: أدعو وأرمي وقال، للتفريق بينها وبين الواو والياء   1 مراح الأرواح ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والألف في مثل وعد، يعد، وأعد1؛ حيث جاءت متحركة أي: متلوة بحركة في هذه الأمثلة الأخيرة. ورأينا أن هذا الاحتمال -على فرض صحته- يشير إلى أن هؤلاء القوم يدركون بصورة ما طبيعة الفروق بين حالتي هذه الحروف. ولكن هذا الاصطلاح الذي أطلقوه على هذه الحروف في الأمثلة الأولى ما زال يخالف الواقع اللغوي، فهي في هذه الأمثلة حركات طويلة أو مدات، وليست بساكنة ولا يصح تسميتها كذلك إلا على احتمال واحد هو: تفسير السكون بالخلو من علامات الحركات القصار. وهذا التفسير مرفوض من وجهة النظر العلمية، بسببين اثنين: أولهما: أن في هذا النهج اعتمادا على الرموز لا الأصوات الفعلية في تقعيد القواعد، وهو ما لم يأخذ به أحد، لأن الرموز في عمومها وسائل كتابية ناقصة لا تفي بحاجة النطق في كثير من الأحيان. ثانيهما: أن الاعتماد على الرموز دون الأصوات الحقيقية كثيرا ما يؤدي إلى الخلط والاضطراب، كما رأينا في تلك الأمثلة، التي أوردناها سابقا، للتدليل على وقوع علماء العربية في أخطاء صوتية وصرفية بهذا السبب نفسه.   1 الألف في العربية تطلق على الهمزة كما في نحو: أعد ويسميها بعضهم الألف المتحركة، وعلى ألف المد في نحو قال وتسمى عندهم بالألف الساكنة، أو اللينة. انظر مراح الأرواح ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 المجموعة الثالثة : تضم هذه المجموعة عددا من الأقوال التي تدل على فهم واع لطبيعة السكون وقيمته الصوتية، والتي تنبئ عن إدراك لحقيقته من ناحية النطق. ترى هذه الأقوال في مجموعها أن السكون لا ينطق، وأنه ليس بحركة وإنما هو "عدم الحركة". ويمثل هذا الاتجاه نفر قليل من اللغويين المتأخرين الذين نقرأ في عباراتهم ما ينص صراحة على هذا المعنى الذي ذكرناه. من هؤلاء مثلا: الأشموني، وصاحب التصريح، وغيرهما ممن يقررون -في أكثر من مناسبة- أن "السكون عدم الحركة"1 بل إن هناك في كلام بعضهم ما يشعر بأنهم يدركون أعماق الموضوع، فلا يكتفون بالنص على أن السكون عدم الحركة، وإنما يعترضون كذلك على أولئك الذين يعاملون السكون معاملة الحركات من ناحية النطق والتلفظ. فلقد روينا سابقا عن الشيخ يس ما نقله عن الدونشري في قوله: "جعلهم السكون وهو عدم الحركة والحذف وهو إسقاط حرف أو حركة لفظيا تسمح"2. ويبدو أن السكون -من وجهة النظر الصوتية- لم يمثل مشكلة في نظر المتقدمين من اللغويين. فلم يرو عنهم -فيما نعلم- أي شيء يناقض قيمته الصوتية أو حقيقته من حيث النطق بالمفهوم الذي نرتضيه اليوم. وهناك في آثارهم ما يؤكد أن هؤلاء المتقدمين كانوا يدركون هذه القيمة وتلك الحقيقة إدراكا صحيحا. فنرى أبا الأسود مثلا في تلك القصة المشهورة التي تعد -في نظرنا- أول محاولة في العربية لتحديد نوع من القيمة الصوتية للحركات، نراه يهمل السكون إهمالا تاما ولا يشير إليه ألبتة ويكتفي بوصف خاصة من أهم خواص الحركات، وهي تلك التي تتعلق بشكل   1 الأشموني جـ4، ص156، والتصريح على التوضيح جـ1، ص58. والحق أن صاحب التصريح كان مضطربا في الحكم على القيمة الصوتية، فهو مرة ينظر إليه كما لو كان شيئا ينطق ويتلفظ به، شأنه في ذلك شأن الحركات "انظر ص192" ومرة ثانية يعرف السكون بأنه "سلب" الحركة، وسلب الحركة -كما هو واضح- يعني أن الحركات كانت موجودة ثم أزيلت. وحقيقة الأمر أن الكلام جاء خاليا من الحركات منذ بداية الأمر. ثم يعود هذا الرجل نفسه مرة ثالثة فيسمي السكون "عدم الحركة"، كما في الحال التي معنا، وهو قول وجيه مقبول انظر: التصريح على التوضيح جـ1 ص58، ص60، جـ2 ص343. 2 حاشية الشيخ يس على التصريح جـ1 ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الشفاه حال النطق بها. فقد روي عنه أنه كان يقول للكاتب الذي اختاره لتشكيل القرآن: "إذا رأيتني فتحت شفتي بالحرف فانقط واحدة فوقه وإذا كسرتهما فانقط واحدة أسفله، وإذا ضممتها فاجعل النقطة بين يدي الحرف ... " ومن الثابت كذلك أنهم في تلك الفترة لم يكونوا يستخدمون أية علامة أو إشارة في الكتابة للدلالة على الحرف "الساكن"1. وهذا ابن جني، عندما يبين العلاقة بين الحركات القصار والحركات الطوال، لا يعرض للسكون ولا يحاول ربطه بهذه الحركات، بل إن عبارته في هذا المقام تنفي صراحة احتمال كونه واحدًا منها حيث حصرها في ثلاث فقط. يقول: "اعلم أن الحركات أبعاض حروف المد واللين، وهي الألف والياء والواو. فكما أن هذه الحروف ثلاثة، فكذلك الحركات ثلاث، وهي الفتحة والكسرة والضمة"2. ويؤكد ابن جني هذا المعنى نفسه حين يعلل -بطريقته الفلسفية المعهودة- تسمية الحركات بهذا الاسم، حيث يأتي تعليله غير منطبق بحال على السكون أو على خاصته من ناحية النطق. وفي هذا التعليل جاء قوله: "وإنما سميت هذه الأصوات الناقصة حركات، لأنها تعلق الحرف الذي تقترن به وتجذبه نحو الحروف التي هي أبعاضها. فالفتحة تجذب الحرف نحو الألف والكسرة تجذبه نحو الياء والضمة تجذبه نحو الواو"3. رأي الأستاذ إبراهيم مصطفى: ولأستاذنا إبراهيم مصطفى رأي في السكون يتفق في أساسه مع تلك الآراء التي أوجزناها في المجموعتين الأوليين من أقوال العرب في هذا   1 انظر: تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية لحفني ناصف ص67. 2 سر صناعة الإعراب لابن جني ص19. 3 سر صناعة الإعراب لابن جني ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الموضوع. وتذهب هذه الآراء في عمومها إلى أن السكون شيء ينطق وأنه حركة، أو تعامله معاملة الحركات من حيث الخواص النطقية، وإن لم تطلق عليه المصطلح "حركة" بطريق التصريح. وهو بالإضافة إلى ذلك، حين يعرض وجهة نظره، يعرض من وقت إلى آخر لبعض المشكلات الصوتية ويذهب فيها مذاهب تدعو إلى النظر والمناقشة. لذلك آثرنا تخصيص جزء مستقل من هذا البحث لبيان حقيقة الأمر فيما اشتمل عليه كلام هذا الدارس الكبير. ولم يكن السكون في حد ذاته هو النقطة الأساسية في دراسات إبراهيم مصطفى وإنما جره إليه موضوع آخر ألح عليه إلحاحا شديدا، فعكف عليه، وأولاه عناية فائقة وخصص له جزءا كبيرا من كتابه المشهور "إحياء النحو". هذا الموضوع الآخر يتمثل في موقف الباحث من "الفتح" أو الحركة المسماة "بالفتحة" ووظيفتها في العربية. إن الفتحة عنده -بخلاف أختيها الكسرة والضمة- ليست "علامة إعراب ولا دالة على شيء، بل هي الحركة الخفيفة المستحبة عند العرب التي يراد أن تنتهي بها الكلمة كلما أمكن ذلك. فهي بمثابة السكون في لغة العامة"1. ثم يتدرج من ذلك إلى إثبات أن الفتحة أخف في النطق من الكسرة والضمة كليهما، ولم يكتف بهذا القدر، بل إنه يحاول جاهدًا تأكيد خفة الفتحة "عن السكون" كذلك يقول: "فخفة الفتحة في النطق وامتيازها في ذلك على أختيها الضمة والكسرة أمر جلي، يؤيده البرهان من كل وجه. والذي نحاول أن نقرره بعد، هو أن الفتحة أخف من السكون أيضا وأيسر نطقا. وخصوصا إذا كان ذلك في وسط اللفظ ودرج الكلام"2.   1 إحياء النحو لإبراهيم مصطفى ص ز، 50، 78. 2 السابق ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 يؤخذ من هذا النص أمران: أولهما -وهو الموضوع الأساسي للباحث- أن الفتحة أخف من السكون في النطق. وثانيهما -وهو ما يعنينا نحن- أن السكون شيء ينطق بالفعل، أي أنه -كالأصوات الحقيقية، حركات أو غير حركات- له تحقق صوتي Phonetic realization وأثر سمعي audible effect. وهذا الأمر الثاني واضح كل الوضوح من المقارنة بين الفتح والسكون، إذ هذه المقارنة تعد دليلا على الاعتراف باشتراكهما في الخاصة الأساسية للأصوات وهي النطقية. وكون السكون شيئا ينطق أو كونه حركة يبدو أنه أمر بديهي ثابت لا يحتاج إلى تدليل أو تأييد في نظر هذا الباحث. إنما الذي يحتاج إلى ذلك هو ما ذهب إليه من أن الفتحة أخف من السكون نطقا. وإنه ليحاول جاهدا تأكيد ذلك بمختلف الشواهد المباشر منها وغير المباشر على سواء، ويعيب على النحاة أن اتجهوا في ذلك الأمر الاتجاه المضاد، فقرروا أن السكون هو الأخف من الفتح، لأنه -بعبارتهم- "أخف من الحركات جميعا". فقد يسمونه التخفيف، ويقولون: إن السكون عدم والحركة وجود. و"لا شيء" أضعف وأخف من "شيء"، مهما يكن ضعيفا. وذلك من سنتهم في الأخذ بالفلسفة النظرية وغلوهم فيها بما قد يلفتهم عن الواقع"1. ونحن نرى أن في كلام النحاة ما يدل على ذكاء ووعي، وما يمكن أن يجعلهم أقرب منه إلى الواقع. فالسكون -في حقيقة الأمر- عدم أو "لا شيء" من الناحية النطقية. أما التعرض له من حيث الخفة أو الثقل فقد أوقعهم فيما يناقض كلامهم، إذ الخفة وعدمها أمران يرتبطان بالنطق،   1 إحياء النحو ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 و"العدم" "والسكون" شيء لا ينطق بداهة. على أنه -بشيء من التسمح- يمكن تفسير كلامهم بأن المقصود هو أن نطق الحرف خاليا من الحركة أخف منه متبوعا بها. ومهما يكن من أمر فلم يأل الباحث جهدًا في تقديم ما وسعه من الأدلة لتأييد رأيه، وهو كون الفتح أخف من السكون في النطق ولسوف نعرض فيما يلي لأهم هذه الأدلة، لا لذاتها، وإنما لما اشتملت عليه من فكر تعنينا في هذا المقام. تتلخص تلك الفكر في أمرين مهمين: الأول: ما تتضمنه من القول "بنطقية" السكون، وهو أمر مرفوض عندنا. الثاني: تعرض الباحث لعدد من المسائل الصوتية ذات الصلة بموضوع المناقشة ووقوفه منها موقفا يدعو إلى المساءلة أو التوضيح، كما سبق أن ألمعنا بذلك وهذه الأدلة هي: 1- إن السكون أثقل من الفتح في النطق. لأننا إذا "عدنا إلى طبيعة السكون، وفحصناه حين النطق بالساكن، رأينا أن السكون يستلزم أن تضغط النَّفَس عند مخرج الحرف، محتفظا به، وفي هذا العمل كلفة تراها إذا نطقت بمثل: أبْ، أتْ، أثْ، وقسته إلى با، تا، ثا"1. إنه هنا يرى أن السكون ثقيل في النطق، لأنه يستلزم وقف النفس أو ضغطه، كما في الأمثلة التي أوردها، على حين ألا سكون هناك نطقا، وإنما المنطوق -أو ما يراد نطقه- هو عدد من الأصوات منفردة، هي بالترتيب: ب، ت، ث. وتذوقها إنما يكون بنطقها غير متبوعة بحركة، حتى لا تختلط بهذه الحركة. وضغط النفس الذي أحس به الباحث ونسب إليه صعوبة النطق، يرجع إلى طبيعة هذه الأصوات، فالصوتان الأولان وهما "ب، ت" صوتان   1 إحياء النحو، ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 انفجاريان، ويحدث حال النطق بهما وقوف الهواء وقوفا تاما عند مواضع النطق لفترة قصيرة، يعقبها انفجار مفاجئ فهذه الوقفة، لا السكون، هي التي جعلته يشعر بما يسميه "كلفة" في النطق. والصوت الثالث وهو "ث" صوت احتكاكي مما بين الأسنان. يضيق المجرى حال النطق به ضيقا ملحوظا بحيث يخرج الهواء ولكن بشيء من المشقة والجهد. فلعل هذه الظاهرة هي التي دفعته إلى تصور صعوبة في النطق. وإذا جاز وجود هذه الصعوبة، فإنما يرجع ذلك إلى طبيعة الصوت نفسه وهو "ث" ولا دخل للسكون في ذلك، إذ ليس "سكون" ينطق. على أن المقارنة بين أبْ، أتْ إلخ وبين با، تا إلخ مقارنة خاطئة، إذ الأصوات الأولى أصوات مفردة هي: "b أو t" ولكنها في الأمثلة الأخرى أصوات متبوعة بحركة طويلة، تظهر في الكتابة الصوتية هكذا: "baa وtaa". 2- وبشيء من التفصيل يؤيد الكلام السابق وهو ادعاؤه خفة الفتح، في النطق وثقل السكون فيه، فيورد أمثلة منوعة للأصوات حين تنطق "ساكنة"، يقول في ذلك: هناك من الحروف "ما إذا أسكنته أرسلت به النفس آنا ومطلت النطق، متكلفا الاحتفاظ بمخرج الساكن، كما ترى في غواشْ واشْراك، ونواصْ واصنْع، وناسْ ومسْئول، ومتراخْ، وأخْبار. ومنها ما يكلفك أن تردد اللسان كأنك تكرر الحرف، كما ترى في راء إرْعاد وقَدَرْ. فإذا حركته حركة ما مررت به الهويني من غير ضغط ولا ترديد. ومنها ما يلزمك قطع النفس وبث النطق، مع الضغط على الحرف والتمسك بمخرجه مثل: أبْ وإبْراهيم وطبقْ وإقْبال، وقدْ وقدْر ففيها كما ترى، شدة في النطق ونصيب من الكلفة، لا تراه إذا أرسلت الحروف مفتوحة"1.   1 إحياء النحو، ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ذكر الباحث هنا ثلاث مجموعات من الأصوات "أو الحروف على حد تعبيرهم" حين تنطق "ساكنة" أي: غير متلوة بحركة ليؤكد ما ذهب إليه: المجموعة الأولى هي: الشين والصاد والسين والخاء، والثانية هي: الراء وحدها. أما المجموعة الثالثة فهي: الباء والقاف والدال. أما بالنسبة لأصوات المجموعة الأولى فهو يرى أن في نطقها "ساكنة" صعوبة ظاهرة، لأنك تتكلف الاحتفاظ بمخرجها. وبديهي أن هذه الأصوات احتكاكية، يحدث في أثناء النطق بها أن يضيق مجرى الهواء الصاعد من الرئتين إلى الحلق والفم ضيقا من شأنه أن يجعل الهواء يمر، ولكن مع إحداث احتكاك أو حفيف مسموع. ويختلف التأثير السمعي لهذا الاحتكاك باختلاف المنطقة التي يقع فيها، وباختلاف درجة ضيق المجرى أو اتساعه. ويبدو أن هذا التأثير السمعي هو الذي دفع الباحث إلى القول بأن هناك تكلفا في الاحتفاظ بالمخرج، إذ الاحتكاك يعني بداهة تسلل الهواء ونفاذه، بل تفشيه في منطقة واسعة نسبيا. وقد يوحي ذلك بانتقال المخرج، أو -على حد تعبيره- قد يؤدي ذلك إلى صعوبة في النطق بسبب محاولة الاحتفاظ بالمخرج، على أن كل ما حدث وما سمع إنما يرجع إلى طبيعة هذه الأصوات الاحتكاكية نفسها، لا إلى "السكون"، إذ ليس هناك سكون بالمعنى الذي رآه بعضهم وهو أنه شيء ينطق. وصوت الراء، كما هو معروف، صوت مكرر وتكراري، أو هو صوت التكرار كما سماه علماء العربية، وإنما سمي كذلك لما يحدث من تكرار التقاءات طرف اللسان باللثة، وهذا التكرار أحد خواصه النطقية. فإذا كانت هناك صعوبة في نطقه فتلك الصعوبة مصدرها هذا الصوت نفسه، لا ما تصوره الباحث من وجود سكون معه ذي قيمة نطقية. أما أن صفة الصوت الراء، أو -بعبارة أدق- أما أن التأثير السمعي لهذا الصوت يختلف حين يحرك، بهذا أمر طبيعي؛ إذ المنطوق في هذه الحالة الأخيرة صوتان لا صوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 واحد، هما الراء والحركة التالية له، وقد تستريح أذن بعض الناس إلى نطق هذا الصوت محركا، على حين تستثقل ذلك حين يأتي غير متبوع بحركة، ومن ثم يحكم هؤلاء الناس بسهولة النطق في الحالة الأولى وصعوبته في الثانية. وأصوات المجموعة الثالثة، وهي الباء والقاف والدال، أصوات انفجارية Plosives أو وقفات stops. يقف الهواء حال النطق بها وقوفا تاما عند مواضع النطق، ثم يخرج هذا الهواء المضغوط فجأة وبسرعة محدثا انفجارا مسموعا. فهناك إذا في بداية الأمر قطع النفس، أو "الضغط على الحرف والتمسك بمخرجه"، كما عبر الباحث، يتلوه انفجار. فهذه الكلفة في النطق التي أحسها هذا الدارس والتي نعتها بالصعوبة "إن كانت هناك صعوبة" ترجع إلى هذا القطع أو الضغط الذي هو جزء من طبيعة النطق بالصوت الانفجاري لا إلى أي شيء آخر، سمه ما شئت، أي: سواء أطلقت عليه السكون أم لا. أما زوال هذه الكلفة أو الصعوبة عند نطق هذه الأصوات متلوة بفتحة "أو بأية حركة أخرى" فليس يفسر بأكثر من أن العملية العضوية للنطق قد اختلفت في الحالتين اختلافا كبيرا بينا، فهذه العملية كانت في إحدى الحالتين تقوم بإصدار أصوات مفردة، هي: الباء، أو القاف، أو الدال فقط، ولكنها في الحالة الثانية كانت تؤدي أصواتا مصحوبة بحركة. وبهذا يسقط الاستدلال بهذا الدليل الأخير؛ إذ المقارنة بين الحالتين غير دقيقة لاختلاف عناصر جهتي المقارنة اختلافا جذريا، كما رأيت. ومما هو جدير بالذكر على كل حال أن الأستاذ في مناقشته هذه يشعر بأنه يدرك تمام الإدراك ما يحدث في أثناء النطق بهذه الأصوات التي ذكرها، وأنه على وعي بالفروق بين المجموعات الثلاث السابقة، سواء أكان ذلك من ناحية النطق أم من ناحية التأثير السمعي، ولكن فاته أنه ينسب هذه الخواص التي أحس بها إلى هذه الأصوات نفسها، لا إلى ما ظنه سكونا ينطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 3- السكون أشد كلفة من الفتح في النطق، والفتح أيسر منه في ذلك بدليل اتفاق "القراء والنحاة على أن مخرج الحرف إنما يتبين ويتمثل إذا كان ساكنا. فكلفوا من يريد درس الحروف ووصفها وتحقيق مخارجها أن يسكن الحرف، ويصله بمتحرك قبله، فيقول: أبْ وأتْ وأثْ، ثم يرقب النطق ويصف المخرج ويبين الصفات، وما رسموا ذلك إلا لما رأوا في الإسكان من التمهل بالحرف والتمسك بمخرجه وتحقيق نطقه، فهذا من طبيعة السكون، ونطق العرب به يبين أن الفتحة أخف منه وأيسر مؤونة في النطق. وليس ينكر ذلك إلا من غالط نفسه وأنكر حسه"1. وهذا الدليل -في نظرنا- لا يفيد الأستاذ في شيء، فاتفاق القراء والنحاة على نطق الصوت "أو الحرف" ساكنا عند دراسته ووصفه إنما جاء لحكمة واضحة، تلك هي أن المقصود هنا إنما هو نطق هذا الحرف وحده، إذ نطقه متلوا بحركة يفقده بعض خواصه، لاختلاط تلك الخواص بخواص الحركة التالية له. ومن ثم لم يكن بد من نطق الحرف "ساكنا" أي: خاليا من الحركة أو غير متلو بها. وليس يعني السكون هنا وجود أي شيء آخر ينطق بالإضافة إلى الصوت المقصود نطقه، وإلا فاتت الحكمة من تسكينه أي تجريده من الحركات. ومعنى هذا أن العرب كانوا على طريق مستقيمة حين اشترطوا هذا الشرط الذي أخذ الباحث ليكون شاهدا له على صعوبة "النطق" بشيء غير موجود، هو السكون في نظره. 4- السكون ثقيل في النطق؛ لأنك "تعلم أن العرب تأبى أن تبدأ بساكن وترفض أن يجتمع في نطقها ساكنان، حتى تفر من أحدهما بكسر أو فتح"2.   1 إحياء النحو ص 86-87. 2 السابق ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 امتناع النطق بالساكن في ابتداء الكلام في رأيهم خاصة من خواص العربية، والمقصود بالساكن هنا هو "الحرف" غير متلو بحركة، وليس يعني ذلك ثقل "السكون" أو خفته، إذ ليس في السياق سكون ينطق، وإنما هناك صوت مجرد من التحريك، وقد يكون الصوت أي واحد من الأصوات العربية، الباء، التاء، الثاء إلخ. ورفض اجتماع ساكنين في النطق يعني امتناع صوتين صامتين متتالين، أي امتناع التركيب: ص + ص "Consonant + Consonant = cc". فالثقل "إن كان هناك ثقل" يرجع إلى خروج هذا النموذج عن المألوف في نطق العرب لا إلى السكون؛ إذ ليس هناك سكون إلا في الرسم الكتابي أو التصور فقط. 5- ولم يكتف الباحث بهذه الأدلة التي استنتجها من "واقع" النطق في نظره، والتي اعتمد فيها على التأثير السمعي لما ظنه السكون، فأورد شاهدًا آخر يعتمد على المعنى الذي يفيده السكون أو استخدامه في العربية. فهو يرى أن من دلالات صعوبة السكون في النطق "إذا قيس بالفتحة" استخدامه "علامة التشديد والبت في الطلب، كما ترى التزامه في الأمر، وفي لتفعلْ ولا تفعلْ. وأنت تعلم ما يستدعيه الأمر في أغلب حاله من البت والتشدد والجزم. وربما أتوا بالسكون في غير الأمر للدلالة على التأكيد وتقوية الكلام، كما ترى في قول امرئ القيس: فاليوم أشربْ غير مستحقِب ... إثْما من الله ولا واغل وقول جرير: ما للفرزدق من عز يلوذ به ... إلا بنو العم في أيديهم الخشب سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فما تعرفْكم العرب بل إن أبا عمرو بن العلاء، من القراء السبعة ومن أئمة النحاة، قرأ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 "إن الله يأمرْكم أن تذبحوا بقرة"، بإسكان الراء لما كان استنكار المأمورين له ظاهرا ونفورهم منه قريبا1. وفي رأينا أن ربط الظواهر الصوتية بالمعنى، أي: ادعاء أن أصواتا معينة تدل على معان معينة أو توحي بها، قضية لم يتفق على صحتها الدارسون. وهي قضية وإن جاز الأخذ بها في بعض العلوم كالنقد الأدبي مثلا. لا يصح الاعتماد عليها في البحث اللغوي الحديث. ذلك لأنها تعتمد في أساسها على الذوق الشخصي والنظرة الذاتية وهما يمثلان اتجاها مرفوضا في دراسة اللغة. وعلى فرض التسليم بصحة هذا الادعاء أو قَبوله بوجه عام2، فإننا نشك في سلامة تطبيقه على المسألة التي بين أيدينا فمن الواضح أنه لا تلازم ألبتة بين السكون وبين ما سماه الباحث "تقوية الكلام والبت في الطلب" فقد يحصل هذا الغرض بغير السكون، كما يحدث في أمر غير الواحد، وفي الأفعال الخمسة حين تجزم بلام الأمر. وقد وقع السكون في الكلام، ومع ذلك لا نلاحظ "تأكيدا أو بتا في الطلب" وهو كثير، من ذلك مثلا، التسكين في حالات الوقف أو ضرورات الشعر أو في الجزم بغير لام الأمر ولا الناهية. على أن هذا الدليل -في حقيقة الأمر- باطل من أساسه، إذ ليس هناك سكون يوصف بالثقل أو الخفة في النطق، وإنما هناك عدم الحركة، وهذا العدم لا منطوق له، في الواقع أو التصور. وتسمية هذا "العدم" سكونا أمر يجوز قبوله، ولكن شريطة أن يكون الدارس على وعي بمفهوم هذا المصطلح من ناحية النطق.   1 إحياء النحو ص 86-88. 2 المعروف أن النحاة يعدون ما جاء من ذلك في الشعر ضرورة. وأما قراءة أبي عمرو بن العلاء فيرى ابن مجاهد: أنا أبا عمرو كان يسكن لام الفعل في مثل ذلك للتخفيف في النطق لا لطرح الإعراب. الكتاب لسيبويه جـ2 ص297، كتاب "السبعة" لابن مجاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وعلى الرغم من هذا كله، ينهي الباحث كلامه بما بدأه به، مؤكدًا أن السكون شيء ينطق وأن الفتحة أخف منه في ذلك. فيقول: "فهذا حسب المنصف بيانا ودليلا أن الفتحة أخف من السكون وأيسر نطقا. فإذا كان ذلك في وسط اللفظ ودرج الكلام كان أوضح وأبين، لأن الإسكان أشبه بالوقف وأقرب إلى قطع النفس"1. ونحن من جانبنا لا نوافق الباحث الفاضل على هذه النتيجة التي انتهى إليها كما لا نوافقه هو وغيره ممن ناقشنا آراءهم في هذا البحث، على كثير مما نسبوه إلى السكون من خواص، تجعله كما لو كان صوتا له تحقق مادي كالأصوات الأخرى للغة. أما رأينا في هذا الموضوع كله فيعتمد على نظرة شاملة لظاهرة السكون، وللدور الذي يلعبه في اللغة العربية، ولا يتم ذلك بالطبع إلا بدراسته على المستويات المختلفة للبحث اللغوي، أي: من الناحية الصوتية والصرفية والنحوية. أما من الناحية الصوتية، فللسكون جانبان؛ أحدهما جانب النطق والتأثير السمعي، والثاني جانب الوظيفة التي يقوم بها في النظام الصوتي للغة العربية. فهو من حيث الجانب الأول "عدم" "أو" لا شيء Phonetically or acoustically noting إذ إنه لا ينطق وليس له أي تأثير سمعي. ويعني هذا أنه ليس صوتا صامتا Consonant أو حركة Vowel، على هذا المستوى الصوتي المادي. وهذا الرأي -كما هو واضح- يختلف اختلافا جذريا عما ذهب إليه كثير من اللغويين العرب "قدامى ومحدثين" الذين نظروا إلى السكون على   1 إحياء النحو ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أنه شيء ينطق ويسمع بالفعل، والذين عاملوه معاملة الحركات في كثير من الخواص، كمقارنتهم إياه بهذه الحركات، وبخاصة الفتحة، في الخفة أو الثقل في النطق، ومن ثم سموه حركة وعدوه رابع الحركات. وإطلاق اسم "الحركة" على السكون على هذا المستوى النطقي المحض at the phonetic level إطلاق غير دقيق، ولا يستند إلى أساس من الواقع، لأن الحركة من هذه الناحية -ناحية النطق الفعلي والتأثير السمعي- لها صفات معينة لا يوجد شيء منها ألبتة في السكون. وهذا يعني أننا إذا اقتصرنا على هذه الزاوية -زاوية النطق- جاز لنا الاستغناء عن السكون وساغ لنا إهماله في الدرس اللغوي. ولكن النظر العميق في السكون من الجوانب اللغوية الأخرى يؤكد أن له قيما معينة توجب علينا الاهتمام به وأخذه في الحسبان. بعض هذه القيم -وهي أهمها- تظهر في الجانب الصوتي الثاني للسكون ونعني به جانب الوظيفة، أي: جانب الدور الذي يؤديه داخل الإطار العام لأصوات العربية. إن السكون من هذه الزاوية "ظاهرة" feature أو "عنصر" element له قيمة value، تقارن بقيم الحركات في هذه اللغة، وتتلخص مظاهر هذه القيمة أو هذا الدور في الحالات الآتية: 1- السكون إمكانية من إمكانيات أربع، تعرض للحروف أو الأصوات الصامتة، فهذه الحروف أو الأصوات قد تتبع بفتحة أو كسرة أو ضمة أو "بلا شيء" منها. وهذه الإمكانية الرابعة -وهي الخلو من الحركة- لها قيمة صوتية على المستوى الوظيفي at the phonological level إذ هي تميز الحرف الخالي من الإمكانيات الثلاث الأخرى. وهذا التمييز ذو أهمية خاصة؛ لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 يشير إلى حالة صوتية رابعة "موجودة" بالعقل، وهي ولا شك في حاجة إلى اصطلاح خاص بها يكون اسما لها ودليلا عليها. وهذه الإمكانيات الأربع تظهر بوضوح فيما لو نظرنا مثلا إلى عين الكلمة الثلاثية. فهناك: "فعل"، بفتح العين وكسرها وضمها، ثم هناك فعل بخلو العين من الحركات الثلاث. وقد أشاروا إلى هذه الحالة الرابعة برمز السكون "هـ". 2- الخلو من الحركة "وهو السكون" له وظيفة في التركيب المقطعي في اللغة العربية. فهو يميز نهاية المقطع المنتهي بحرف خال من الحركات الثلاث، كما في المقطع ص ح ص "= صوت صامت + حركة + صوت صامت = cvc" وهو مقطع متوسط مغلق، يقابل المقطع: "ص ح ح" وهو مقطع متوسط مفتوح، أو المقطع: "ص ح" وهو مقطع قصير1. 3- السكون له وظيفة موسيقية في نهاية الكلمة أو الجملة في بعض المقامات اللغوية. وقد لاحظ العرب هذه الوظيفة وأدركوا قيمتها، ورتبوا عليها قواعد نحوية معينة في باب خاص سموه "باب الوقف". ولهذه الظاهرة نفسها -بالإضافة إلى ذلك- قيمة وظيفية تتعلق بالتركيب المقطعي، فالسكون في حالة الوقف يعد واحدًا من سياقين اثنين يسمحان بوقوع نمط مقطعي معين لا يجوز حدوثه في غيرهما في اللغة العربية2 هذا النمط هو: ص ح ح ص "cvvc". 4- وتظهر هذه القيمة الموسيقية للسكون بصورة أوضح في التفعيلات العروضية. فهذه التفعيلات -كما هو معروف- مبنية على أنساق صوتية   1 والحركة -قصيرة "= ح"، أو طويلة "= ح ح"- قد تكون فتحة أو كسرة أو ضمة. 2 السياق الثاني هو باب دابة ونحوها مما كان الساكن فيه "بعد حرف المد" مدغما في مثله وكان المثلان من كلمة واحدة، أو أصلين في الكلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 "موسيقية" معينة، للسكون دور كبير في تشكيل أنماطها وأنماط وحداتها المكونة لها. 5- هناك تبادل في الموقع بين الخلو من الحركة والفتح في بعض السياقات الصوتية في صيغ صرفية خاصة، كتلك التي نص عليه علماء العربية، مما كان عينها صوتا من الأصوات التي نعتوها بالأصوات الحلقية "وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء"، كما في نهْر ونهَر وبحْر وبحَر إلخ. هذه الوظائف تبرر لنا أهمية الخلو من الحركة أو السكون في اللغة العربية، ومن ثم وجب علينا أن نجد له مكانا مناسبا في النظام الصوتي لهذه اللغة. وقد قادنا التحليل الذي قمنا به إلى عده عنصرا an element من العناصر المكونة للنظام الصوتي للغة العربية على المستوى الوظيفي أو الفنولوجي at the phonological level، كما أرشدنا هذا التحليل كذلك إلى جواز قرنه بالحركات وربطه بها، لما بينه وبينها من تشابه في وظائف صوتية معينة، كما سبق أن بينا. ولكن: ما كنه هذا العنصر وما نوعه؟ أهو حركة أم هو مجرد ظاهرة مميزة لبعض السياقات الصوتية؟ تختلف الإجابة عن هذا السؤال باختلاف الزاوية التي ننظر منها إلى السكون. فهو -كما اتضح لنا فيما مضى- ليس صوتا ولا حركة إذا أخذناه من زاوية النطق والتأثير السمعي لخلوه من صفات الأصوات والحركات على هذا المستوى. إنه من هذه الناحية "لا شيء" أو هو "عدم الحركة"، أو الخلو منها. وهذا هو الاصطلاح الواجب اتباعه حين ينظر إلى السكون هذه النظرة النطقية المادية. وقد وفق بعض علماء العربية حين نعتوه بهذا الوصف في بحوثهم، كما تبين لنا ذلك مما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ويحق لنا كذلك أن نتمسك بهذه التسمية "= عدم الحركة أو الخلو منها" حين ننتقل إلى المستوى الصوتي الثاني، وهو مستوى الدور الذي يقوم به السكون في اللغة؛ لأن الصوت على هذا المستوى الوظيفي -على الرغم من كونه وحدة مجردة abstract unit- يعتمد في حقيقة الأمر على الصوت المادي المنطوق، فالسكون وإن أدى وظيفة الأصوات، أو الحركات -بعبارة أدق- لا يزال من حيث النطق "عدما" أو "خلوا" من الحركة. وبهذا يسوغ لنا الاكتفاء بوصفه أو تسميته عنصرا على أساس أنه مجرد ظاهرة ارتبطت بها بعض القيم الصوتية في سياقات معينة. وهذه الظاهرة -كما هو واضح- سلبية نطقا، إيجابية عملا ووظيفة. ولكن هذا العنصر الإيجابي أثبت أنه يقف موقف المساواة مع الحركات في كثير من المقامات الصوتية على مستوى الكلمة والجملة كليهما. ولا شك أن هذا الوضع يرشحه لأن يكون جزءا من نظام الحركات في اللغة العربية، بل قد يدفعنا إلى إطلاق اسم "الحركة" عليه كذلك. غير أن إطلاق هذا الاصطلاح على السكون مشروط بقيدين اثنين مهمين. الأول: تسمية السكون "حركة" مقصورة على الجانب الوظيفي له. وهو جانب لا يعتمد -في هذه الحالة- على النطق المادي، أو هو يعتمد عليه، ولكن بالمعنى السلبي، إذ السكون سلبي أو عدم من هذه النظرة الأخيرة. الثاني: هذه التسمية يجب أن تكون مقرونة بمصطلح يشير إلى الفروق الأساسية بين السكون وبين الحركات الأخرى. هذه الفروق تتلخص في خاصة واحدة، هي "سلبية" السكون في النطق، وإيجابية الحركات من هذه الجهة. ولهذا نقترح أن نسمي السكون "الحركة الصفر" zoro vowel للدلالة على ذلك. ولا يتبادر إلى الذهن أن هذا الإطلاق قد يعني خلو السكون من القيمة، لأن الصفر، وإن كان غير ذي قيمة منعزلا، وحدة إيجابية ذات وظيفة خاصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 في النظام العددي. وكذلك الحال في السكون، فهو سلبي نطقا إيجابي في النظام الفنولوجي للعربية. ومن هذا كله نخلص بنتيجتين اثنتين: أولاهما: يجوز لنا تسمية السكون "ظاهرة" أو "عنصرا" أو "حركة"؛ إذا نظرنا إلى قيمته الوظيفية ثانيتهما: يختلف عدد الحركات في العربية باختلاف الجانب الصوتي: فهذه الحركات ثلاث من حيث النطق والتأثير السمعي1 وهي الفتحة والكسرة والضمة. ولكنها أربع على المستوى الوظيفي، وهي هذه الثلاث مضافا إليها السكون. وفي هذه الحالة الأخيرة، يكون هناك نظام وظيفي للحركات مكون من أربعة عناصر: a four-term system، ثلاثة منها لها تحقيق صوتي مادي phonetic realization وهي الفتحة والكسرة والضمة، وعنصر واحد "وهو السكون" "لا شيء" أو عدم من هذه الناحية phonetically nothing. وهنا قد يلح على القارئ هذا السؤال المهم: كيفي يكون السكون عنصرا صوتيا أو حركة وهو في الوقت نفسه خال من أية خاصة نطقية أو سمعية تعيننا على تعرفه؟ وإذا كان السكون محروما من كل المظاهر النطقية والسمعية، فماذا يبقى إذن؟ أو ماذا يكون هناك من وسائل لتدلنا على وجوده؟ الإجابة عن هذين السؤالين ذات ارتباط وثيق بفكرة عامة مهمة في الدراسات اللغوية الحديثة، تلك هي فكرة "الصفر" في بحث اللغة zero in linguistics.   1 الحركات ثلاث على أساس أنها وحدات لها تحقق صوتي مادي. ولكن هذا التحقق المادي قد يتعدد للحركة الواحدة بتعدد السياق. فلو نظرنا إلى السياقات المختلفة ولاحظنا الفروق الجزئية الدقيقة في النطق أمكننا الوصول إلى أضعاف هذا العدد، يصل إلى ثماني عشرة صورة للحركات الثلاث وربما أكثر من ذلك؛ انظر: كتابنا "الأصوات العربية" لمزيد من البيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 يرى الآخذون بهذا الاتجاه أن الدارس قد تدفعه الحاجة إلى تأسيس "عنصر" غير ذي مضمون نطقي أو سمعي في نظمه اللغوية المختلفة، من صوتية وصرفية ونحوية، إذ قد يعينه ذلك على الوصول إلى حقائقه ونتائجه بصورة سهلة دقيقة. وهذا "العنصر" اللغوي سموه "صفرا" zero على طريق المجاز بجامع التشابه بينه وبين "الصفر" في نظام الأعداد في خواص معينة، أهمها سلبية "الصفر" وسلبية الصفر العددي إذا أخذ منعزلا. وفي حالة "الصفر" اللغوي كانت هناك صعوبات معينة، تتلخص في ثلاث: 1- المفروض أن يكون للعنصر اللغوي وجود مادي، ومن الواضح أن ليس للصفر مثل هذا الوجود. 2- وظيفة العناصر اللغوية التعبير عن الفكر، والمفروض أن يتم هذا التعبير بعناصر أو رموز مادية materal signs والسكون ليس رمزا ماديا، إذ لا ينطق ولا يسمع1. 3- كل عنصر لغوي لا بد له من صورة مادية "في النطق" form خاصة به، ويمكن تعرفها في كل السياقات المختلفة، لاستقرارها على حالة واحدة2. ولا بد لكل عنصر لغوي كذلك من قيمة مميزة distinctive value، أي قيمة موقع التقابل مع قيم أخرى في سياقات معينة.   1 ليس المقصود بالرمز هنا الرمز الكتابي. وإنما المقصود به الصورة المادية للرمز العقلي "mental sign المخزون في الذهن. وهي تلك الصورة التي تحقق هذا الرمز العقلي في النطق. وهذا التفسير، على كل حال، مبني على رأي دي سوسير في مفهوم "الرمز اللغوي". 2 التعبير "بالاستقرار على حالة واحدة" في النطق في تجوز. فالصوت أو الوحدة الصوتية، بعبارة أدق، تختلف صورها النطقية من سياق إلى آخر، ولكن المقصود هنا الاستقرار النسبي بمعنى الاحتفاظ بالخواص الأساسية التي تفرق بين وحدة وأخرى. كالفرق بين التاء والدال مثلا، على الرغم مما يخضعان له من تغيرات جزيئة في بعض السياقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وقد استطاع أصحاب "منهج الصفر" التخلص من هذه الصعوبات كلها، بطريق أو بآخر، أما بالنسبة للصعوبة الأولى فقد توسعوا في استعمال لفظ "عنصر" وجعلوا من مدلولاته "وإن كانت جانبية أو هامشية بحسب تعبير بعضهم" ما ليس له وجود مادي. فكما توسع الرياضيون في فكرة "العدد" بحيث تشمل "الصفر" أو أي عدد "خيالي" كذلك لا ضير أبدا من التوسع في فكرة "العنصر اللغوي" لتغطي ظواهر أخرى؛ التنغيم، ومواقع الكلم في الجملة word-order والصفر كذلك. وتخلصوا من الصعوبة الثانية بانتهاج منهج دي سوسير الذي يرى أن "الرمز المادي ليس ضروريا للتعبير عن الأفكار". فهناك كثير من الأفكار التي لا تحتاج إلى صور مادية للتعبير عنها، ويكتفي فيها "بالعدم" أو "الخلو" أو "الصفر". ويوجد من ذلك في اللغة العربية أمثلة ذات أنواع عدة. منها -على المستوى الصرفي- فكرة الغيبة والإفراد والتذكير في الفعل الماضي في نحو: محمد حضر، حين يقارن بمثل: فاطمة حضرت. ففي المثال الثاني وجدت لاحقة مادية هي تاء التأنيث التي دلت على الغيبة والإفراد والتأنيث، في حين خلا المثال الأول من مثل هذه اللاحقة. وهذا الخلو نفسه ذو قيمة، إذ هو دليل فكرة التذكير بالإضافة إلى الإفراد والغيبة. وبهذا جاز لنا هنا افتراض وجود عنصر لغوي، أو "لاحقة صفر" zero suffix. أما الصعوبة الثالثة وهي التي تفترض وجود كل من الصورة المادية للعنصر اللغوي والقيمة المميزة له فيبدو أنها هي الصعوبة الحقيقية في هذا المقام. وذلك لأن "الصفر" وهو العنصر اللغوي في حالتنا هذه ليست له أية صورة من هذا القبيل، إذ هو خال من أي مظهر سمعي devoid of any acoustic shape. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ولكن الحقيقة فيما يتعلق بالصفر هي أن الشرطين تنتظمهما هذه الصعوبة الثالثة لا يمكن تحقق أحدهما مستقلا عن الآخر. فالصفر لا يمكن أن تكون له صورة يتعرف عليها إلا من خلال قيمته. أو بعبارة أخرى، إن تعرف الصفر إنما يتم بقيمته المميزة فقط. وهذه القيمة وحدها ذات غناء كبير في الدلالة عليه. وقيمة الصفر هي وظيفته. وتثبت هذه الوظيفة وتتأكد حين يكون الصفر أو أي عنصر لغوي قادرا على التبادل commutation مع عناصر أخرى في مواقع لغوية معينة، أو على حد تعبير دي سوسير حين يكون هناك تقابل أو تخالف opposition بينه وبين غيره. والتقابل وسيلة من وسائل التعبير في رأي بعضهم، وبخاصة أولئك الذين يتبعون دي سوسير الذي يصرح بأن اللغة "قد تكتفي أحيانا بالتقابل بين الشيء واللاشيء". ومن هنا جاءت فكرة هذا الباحث العظيم التي تذهب إلى "أن الرمز المادي ليس ضروريا للتعبير عن الفكرة"، إذ قد "تقنع الفكرة بالصفر" للتعبير عنها1. وبهذه الطريقة استطاع أصحاب "نظرية الصفر" أن يثبتوا أن "الصفر" جدير أن يسمى عنصرا وأن يصبح وحدة لغوية ذات قيم خاصة، تختلف من مستوى إلى آخر بحسب الظام اللغوي المعين الذي تنتمي إليه. وبهذه السبيل نفسها يجوز لنا نحن أن نسمي "السكون" عنصرا، بل نطلق عليه اسم الحركة كذلك. أما أنه عنصر فواضح، ذلك لأنه -وإن خلا من الصورة المادية- يقوم بدور معين في اللغة العربية يقارن بأدوار العناصر الأخرى، ويظهر ذلك إما بطريقة التبادل أو التقابل على خلاف في وجهات نظر الدارسين. كما ألمعنا إلى ذلك.   1 See Zero in Linguistics, by W. Haas "Studies in linguistic analysis Special Vol. of the Philological Society, 1957", pp. 33-53 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أما القول: بأنه حركة "أي: على المستوى الوظيفي" فمبني على ما أشرنا إليه أكثر من مرة أن وظيفة السكون إنما تقارن بوظائف الحركات دون غيرها من الأصوات، وأنه يتبادل معها عددًا من السياقات الصوتية في اللغة العربية. ولكننا على الرغم من هذا التشابه لم ننس ما بينه وبينها من فروق واضحة ومن ثم كانت التسمية التي اخترناها له، وهي "الحركة الصفر" zero vowel للدلالة على ذلك. وبسبب هذه الفروق التي تتلخص في تلك الصعوبات المذكورة سابقا بوصفها عوائق في طريق "الصفر المئوي" "والسكون مثل له"، لم نستطع الحكم على السكون بأنه وحدة صوتية phonological unit، تقف على قدم المساواة مع وحدات الحركات الأخرى "وهي الفتحة والكسرة والضمة" في كل خواصها وصفاتها. إننا نستطيع أن نحكم عليه بأنه وحدة، ولكنها وحدة من ذلك النوع الذي يطلق عليه بعضهم "الوحدات الثانوية أو الهاشمية" marginal or secondary units وكذلك نستطيع -مستخدمين اصطلاح الأمريكان في مثل هذه الحالة- أن نسميه فونيما ثانوية secondary phoneme أو "فونيما خارج التركيب" suprasegmental phoneme، على حين تعد الحركات الثلاث الأخرى فونيمات أساسية primary phonemes، أو فونيمات تركيبية: segmental phonemes. والفرق بين الحالتين هو أن الفونيم الأساسية أو التركيبية تعد جزءا من بناء التركيب الصوتي، كلمة كان هذا التركيب أو غير كلمة، وهي فونيم يمكن إفرادها وعزلها عن أخواتها في التركيب، في حين أن الفونيم الثانوية أو الهامشية أو "الفونيم خارج التركيب" مجرد ظاهرة خارجية، ترتبط بالتركيب وتميزه، ولكنها ليست جزءا من بنائه، ومن ثم لا يمكن إفرادها أو عزلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وهذا الوصف ينطبق على السكون في العربية، إذ لا يمكن عزله، أو حتى تصور هذا العزل، لأنه لا يتحقق وجوده إلا بوجود التركيب نفسه، فسكون الباء في: لم يضرب مثلا لا يعدو أن يكون ظاهرة تنتمي إلى التركيب كله وليس جزءا من مكونات هذا التركيب الأساسية. ولأستاذنا فيرث رأى في السكون يتفق في أساسه مع ما قررناه هنا فالسكون عنده وظيفة تقارن بوظائف الحركات، ومن ثم ربطه بها وضمه إليها، وسماه -كما فعلنا- "الحركة الصفر" zero vowel، لأن "كل حرف في العربية له إمكانيات حركية ثلاث أو عدم الحركة" a trivocalic 1potentiality or zero vowel. ولكنه لم يشأ أن يعده فونيما ثانوية أو غير ثانوية، لأنه ليس ممن يفرقون بين الفونيمات هذا التفريق الذي ذكرناه سابقا. والحق أن فيرث ليس من أنصار "نظرية الفونيم" في عمومها، لأنها لا تتمشى مع منهجه الذي يرى أنه ليس هناك في الكلام ما هو أولى أو أساسي وما هو ثانوي أو هامشي، وإنما هناك التركيب كله بمكوناته وخواصه مجتمعة، وليس لبعضها أفضلية على بعضها الآخر، وإذا كان لا بد من التفريق بين هذه المكونات فينبغي أن يكون ذلك على أساس الوظيفة ونوعها، لا على الأهمية أو عدمها، ولهذا كان عنده "وحدات" units و"ظواهر تطريزية" prosodies. والنوع الأول من هذا التقسيم الثاني يطابق ما يعرف بالفونيمات الأساسية ونحوها، على حين يطابق النوع الثاني الفونيمات الثانوية وأخواتها. ويبدو من كلام فيرث حول السكون في العربية أنه يعده "ظاهرة تطريزية" prosody. كما يعد رمزه الكتابي "هـ" رمزا تطريزيا كذلك prosodic sign. وفي رأيه أن هذا الرمز واحد من رموز معينة تكون فيما بينها نظاما ثانيا للكتابة في العربية. وهذه الرموز هي تلك العلامات التي تضاف إلى "الحروف" لتوضيح دقائقها وهي ما يطلق عليها diacritical marks   1 Firth, Papers in Linguistics p. 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 أو العلامات المميزة. وأفراد هذا النظام في نظره هي: الفتحة والكسرة والضمة والسكون والألف والواو والياء، والتشديد والهمزة، فكلها تشكل ما سماه "بالنظام التطريزي" للكتابة العربية 1prosodic system "of writing. وبهذا كله استقام لنا ما رأيناه وسجلناه فيما مضى من أن السكون -على المستوى الصوتي الوظيفي- عنصر صوتي أو حركي على الرغم من أنه "لا شيء" -وبالتالي ليس حركة أو صوتا- من ناحية النطق والتأثير السمعي. وليس فيما ذهبنا إليه من تناقض، لاختلاف الجهتين واختلاف وجهتي النظر اللتين بنيت عليهما هذه النتيجة كما ظهر لنا ذلك بالتفصيل فيما سبق. ولا يظنن ظان أننا -بهذه النتيجة- قد عدنا إلى ما اعترضنا عليه ولم نقبله من أولئك الدارسين -قدامى ومحدثين- الذين رأوا أن السكون حركة وأنه رابع الحركات. إننا لم نعد إلى هذا الرأي، وليس ما توصلنا إليه بمتفق مع ما ذهبوا إليه فيما يتعلق بهذه القضية، فشتان بين القولين وبعد ما بين النتيجتين.   1 انظر: فيرث، المرجع السابق ص126، 127، أما النظام الآخر الذي يراه فيرث للكتابة العربية فهو النظام الخاص برموز الوحدات أو الأصوات الصامتة في اللغة consonants ويفهم من كلام فيرث أن "النظام التطريزي" الذي اقترحه للكتابة إنما تشير رموزه إلى ظواهر تطريزية prosodies لا إلى وحدات units. وهنا نختلف معه في بعض ما رآه. كون الألف والياء والواو والسكون والتشديد "بوصفها رموزا" دلالات كتابية على ظواهر تطريزية أمر مقبول، أما بالنسبة للسكون والتشديد فظاهر، وكذلك الأمر فيما يختص بالألف والياء والواو بوصفها دلالات على طول الحركات "الفتحة والكسرة والضمة، بهذا الترتيب"، إذ الطول ليس وحدة بذاته وإنما هو "ظاهرية تطريزية" a prosody of length. أما أن الفتحة والكسرة والضمة والهمزة رموز لظواهر تطريزية، فقول غير مقبول عندنا، ذلك لأن الفتحة والكسرة والضمة والهمزة "من الناحية الكتابية" وإن كانت رموزًا إضافية في اللغة العربية diacritics تشير إلى وحدات units، أو primary phonemes "فونيمات أساسية"، لا ظواهر تطريزية، إذ هي عناصر أساسية في التكريب الصوتي للغة العربية segmental phonemes ويبدو أن فيرث متأثر بآراء العرب الذين ينظرون إلى هذه العناصر كما لو كانت أشياء ثانوية من الناحية الصوتية والكتابية معا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ويظهر الفرق بيننا وبينهم من عدة وجوه، تتلخص في نقطتين. أولاهما: أن بعض هؤلاء الدارسين نظروا إلى السكون نظرة سطحية واعتمدوا أكثر ما اعتمدوا على الرمز الكتابي له دون حقيقته الصوتية. سواء أكان ذلك من ناحية النطق أم من ناحية الوظيفة. وهذا السلوك ولا شك سلوك مضلل، لأن الرموز الكتابية لا تصلح بحال أن تكون مصدرا للحقائق الصوتية. وقد ظهر ذلك واضحا فيما وقعوا فيه من خلط، حتى لنجد الدارس الواحد في السياق الواحد يناقض نفسه؛ فالسكون عنده حركة، وهو كذلك عدم الحركة، أو كانت هذه التسمية المختلفة باعتبارين مختلفين لأجزناها لهم وارتضيناها منهم، ولكن ذلك في واقع الأمر لم يكن سوى نتيجة للخلط وعدم الفهم بحقيقة السكون، ودوره في اللغة. النقطة الثانية: تتمثل في تلك الحقيقة الناصعة، وهي أنهم بنوا حكمهم هذا على النطق الفعلي والتأثير السمعي، فسموه حركة وعاملوه معاملة الحركات على هذا الأساس. وهذا الأساس -كما رأيت- لا يصلح مسوغا ألبتة لتسمية السكون حركة وإعطائه خواص الحركات لخلوه من صفاتها تماما على هذا المستوى. أما ما آل إليه بحثنا فهو أن السكون حركة على المستوى الوظيفي لا النطقي، مهملين بالطبع رمزه الكتابي لعدم جدواه في هذا الشأن. أما الحكم عليه بأنه حركة فللتشابه الواضح بين دوره ودور الحركات على المستوى الصوتي الوظيفي، وهو ما اختصت به التسمية "حركة". وهذا العنصر الصوتي أو ما سميناه "الحركة الصفر"، ونعني به السكون، له قيم لغوية على المستوى الصرفي والنحوي كذلك ويمكن التدليل على ذلك بالإشارة إلى أمثلة مما يقوم به من وظائف في هذا المجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 من المعروف أن كل حرف من حروف الأصول radicals وبخاصة في الأصول الثلاثية، قد يتبع بواحدة من الحركات الثلاث أو بالحركة الصفر وهي السكون. وهذه الإمكانيات يظهر أثرها في تكوين الصيغ وتحديد الأوزان وليس من الضروري أن تتحقق هذه الإمكانيات في المادة الواحدة، ولكنها إمكانيات جائزة الوقوع بالمعنى العام أو المعنى التجريدي. وقد وفق علماء العربية إلى إدراك هذه الحقيقة، فابتكروا الأوزان وجعلوها بمثابة المقاييس العامة أو القواعد التجريدية للنماذج الحقيقية. ولاتصافها بصفة العموم والتجريد، كانت الأوزان، لا الأمثلة الفعلية هي التي تقبل هذه الإمكانيات الأربع بصورة لا تقبل الشك. فهناك في المادة الثلاثية "ف ع ل" تجد هذه الإمكانيات الأربع بالنسبة للعين مثلا: فعل بفتح العين وكسرها وضمها: ثم فعْل بسكونها. هذا فيما لو نظرنا إلى الصيغ منعزلة، ولكنها بمجرد أن توضع في تركيب نحوي يتحدد وزنها ولا يمكن أن تقع لها إلا إمكانية واحدة. فالصيغة "فهم" في: محمد فَهِمَ الدرس مكسورة العين، ولكنها تسكن في: هذا فهْم جيد، ولا يمكن أن تقبل العين أية إمكانية أخرى في أي من هذين السياقين ومعنى هذا أن الإمكانيات الصرفية الأربع يحددها السياق النحوي للجملة: grammatically determined. فإذا ما تركنا مستوى النظر في الصيغ والأوزان وانتقلنا إلى التراكيب النحوية ألفينا عدة وظائف مهمة للسكون، تبرز أمامنا اثنتان منها بوجه خاص. تظهر الأولى في حالة جزم الفعل المضارع الصحيح الآخر، حيث يقوم السكون بوظيفة تقارن بوظيفتي الفتحة والضمة، فالسكون دليل الجزم والفتحة علامة النصب والضمة شاهد الرفع. وهذه كلها حالات إعرابية مقررة، ولكنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ذات معان نحوية مختلفة، وترجع أسباب هذا الاختلاف إلى عدة عوامل، منها موقع الكلمات في الجملة والارتباط الداخلي بين الوحدات المكونة لها، وفي النهاية يتبلور هذا الاختلاف ويظهر في صورة الإعراب، ويستدل عليه بعلامات هذا الإعراب، ومن هذه العلامات السكون. وتقودنا هذه الحقيقة القول بأنه من الممكن أن نعد السكون "وحدة صرفية" morpheme، قامت بوظيفة إعرابية واضحة على هذا المستوى النحوي في الجملة. فإذا كانت الفتحة "في إعراب المضارع" هي مورفيم النصب والضمة مورفيم الرفع، وجب بالمثل الحكم على السكون بأنه مورفيم الجزم. والوظيفة الثانية للسكون على المستوى النحوي تتحقق في فعل الأمر للمفرد المذكر في نحو اضرب. فالسكون هنا ذو دلالة نحوية تقارن بدلالة الألف في المثنى "اضربا" والياء في حالة المفردة المخاطبة "اضربي"، والواو في حالة الجمع "اضربوا". وهكذا نرى السكون "بمعنى الخلو من الحركة" يتبادل المواقع في التركيب مع وحدات صرفية مقررة عند علماء العربية أنفسهم. فالألف صيغة المثنى والياء للمخاطبة المؤنثة والواو دليل الجماعة. ونستطيع كذلك أن نقرر أن السكون وحدة صرفية morpheme قامت بوظيفة الدلالة على الإفراد والتذكير في فعل الأمر. وهناك بالإضافة إلى هاتين الوظيفتين البارزتين قيم نحوية أخرى، نستطيع أن نمثل لها في هذا المقام بمثالين اثنين: 1- السكون دليل إعرابي في حالة الوقف في صورة نحوية خاصة، وهي صور حددها علماء العربية وأسسوا قواعدها، على نحو ما هو معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 2- السكون إمكانية من إمكانيات البناء في اللغة العربية، حيث تجيء كلمات لازمة الفتح، وأخرى تظهر بالضم وثالثة تختص بالكسر، وعدد آخر منها يلزم السكون. هذه الحقائق كلها -كما وضحت لنا في المناقشة السابقة- تقرر وجوب النظر إلى السكون نظرا شاملا على مختلف المستويات اللغوية، ووجوب الحكم عليه بأنه وحدة صوتية phonological unit أو فونيم ثانوية secondary phoneme أو ما سميناه "الحركة الصفر" zero vowel على المستوى الصوتي الوظيفي. وتدفعنا هذه الحقائق إلى القول بأن السكون وحدة صرفية morpheme أيضا ذات قيم معينة على المستوى الصرفي والنحوي. وكما جازت لنا تسميته "الحركة الصفر" zero vowel في حالة النظر إلى النظام الصوتي للغة العربية يسوغ لنا هنا كذلك أن نطلق عليه المصطلح "المورفيم الصفر" zero morpheme، مراعين في ذلك حقيقته المادية وهي أنه ليس ذا صيغة form من حيث النطق. والنتيجة النهائية لهذا كله هي أن السكون في العربية عنصر لغوي لا ينبغي إغفاله على الرغم من عدم تحققه في النطق المادي وخلوه من أي أثر سمعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 المبحث الرابع: خواص صوتية تمتاز بها اللغة العربية لكل لغة سماتها ومميزاتها الخاصة بها، ويستوي في ذلك أن تكون هذه الخواص صوتية أو صرفية أو نحوية أو أسلوبية أو على مستوى الألفاظ ودلالتها. ومن البديهي أن تكون هذه السمات هي جملة الفروق بين لغة وأخرى، وأن تكون الأساس الذي ينبني عليه تحديد اللغات والحكم على هوية كل واحدة منها، وإعطاؤها اسما خاصا بها تنفرد به ويتعرف إليها في كل الحالات. وليست العربية بدعا في ذلك، فلها ملامحها وظواهرها التي مازتها من غيرها من اللغات، وجعلتها لغة ذات ضوابط وحدود معينة أهلتها للتسمية المعروفة بها منذ أزمان بعيدة، وهي اللغة العربية. وسمات عربيتنا هذه كثيرة كثرة فائقة، هي -في الحق- جملة القواعد والقوانين الضابطة لها ولاستعمالاتها. ولسنا بقادرين -في هذا المقام ونحوه- على أن نأتي بهذه القواعد والقوانين كلها أو جلها. ومن ثم سوف نكتفي هنا بإيراد أمثلة قليلة لشيء من هذه السمات والخواص التي تنفرد أو تكاد تنفرد بها العربية، إما لأنها خاصة بها ومقصورة عليها، وإما لأنه تشيع أو توظف فيها توظيفا يجري على وفق نظم ثابتة مطردة، تجعل هذا الشيوع وذاك التوظيف ملمحا مميزا للغة العربية. أضف إلى ذلك أن الأمثلة التي سقناها هنا محصورة في الجانب الصوتي المميز للغتنا. فأول ذلك أن اللغة العربية استخدمت جهاز النطق عند الإنسان خير استخدام وأعدله. فقد جاءت أصوات هذه اللغة موزعة على مدارج النطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 توزيعا واسعا شاملا لكل نقاطه ومواضعه. فمن بداية هذا الجهاز -ونعني بذلك الحنجرة- جاءت الهمزة والهاء، ومن نهايته -وتتمثل في الشفتين- جاءت الباء والميم. ومن بين هاتين المدرجتين خرجت بقية الأصوات العربية مندرجة في شبه سلسلة متصلة الحلقات، بحيث لا يقع ازدحام في منطقة أو مناطق، ولا يحدث إهمال لبعضها. فهناك بعد الحنجرة، يقع الحلق ومنه العين والحاء، ثم اللهاة ومنها القاف ثم أقصى الحنك ومنه الغين والخاء والكاف والواو، ثم وسطه ومنه الياء، وهكذا من نقطة إلى أخرى، تخرج أصوات معينة، دون تجاوز لمبدأ التدرج المنتظم الخالي من ظاهرة التجمع عند منطقة وترك أخرى دون استغلال. نحن لا ننكر أن جهاز النطق عند الإنسان لا يختلف في جملته أو تفصيله من أمة إلى أخرى، أو من فرد إلى آخر، ما لم يكن به عيب خلقي عند هذا أو ذاك. إنما الفرق بين الأمم في هذا المجال يرجع إلى طريق توظيف هذا الجهاز واستغلاله. وأسلوب هذا التوظيف وطريق هذا الاستغلال يؤديان حتما إلى فروق صوتية مميزة، تختلف في القلة والكثرة والصفة بحسب الأحوال. على أن التفاوت بين اللغات في استغلال جهاز النطق لا يعني أن لغة ما أفضل من أخرى؛ إذ إن مسألة الأفضلية هذه مسألة نسبية، إذ ربما يتدخل فيها الذوق الشخصي والنظر غير العلمي أحيانا. ولكن مما لا شك فيه أن نتائج الاختلاف في توظيف هذا الجهاز في النطق يؤدي -بالضرورة- إلى حصيلة من الملامح الصوتية التي تمتاز بها اللغات بعضها من بعض وهذا ما قصدنا إلى إثباته في هذا المجال. ويرتبط بهذا التوظيف لجهاز النطق في العربية أمور أخرى تضاف إلى جملة الخواص الصوتية للغة العربية. من ذلك مثلا أن جملة كبيرة من أصوات هذه اللغة يقع بعضها من بعض موقع التقابل أو التناظر. فهناك نلمح أن بعض الأصوات تصدر عن مخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 نطقي واحد، ولكنها -على الرغم من اشتراكها في هذه الدائرة- تختلف فيما بينها بسمة أو بأخرى تجعل كل واحد منها صوتا مستقلا، له دور في تركيب المقطع أو الكلمة، وفي دلالة هذه الكلمة ووظيفتها. فالهمزة والهاء منطقتهما النطقية واحدة، ولكن يختص كل واحد من الصوتين بملمح ينفرد به، يؤهله للاستقلال والكيان الخاص، فالهمزة وقفة انفجارية، أو صوت شديد في اصطلاحهم في القديم، والهاء احتكاكي أو رخو، ومن ثم سار كل صوت في طريقه يؤدي دوره في اللغة، فلدينا مثلا "آب" و"هاب" افترقت الكلمتان وصار لكل منهما معنى مستقل بسبب وجود الهمزة في الكلمة الأولى والهاء في الثانية. وهناك أيضا العين والحاء وهما جميعا من منطقة الحلق، ويتفقان أيضا في كيفية مرور الهواء عند النطق بها، ولكن العين صوت تتذبذب الأوتار الصوتية عند نطقه، والحاء لا تحدث معه ذبذبة من أي نوع، فكان الأول مجهورا والثاني مهموسا. وهذه السمة فرقت بينهما ورشحت كلا منهما للاستقلال، بدليل أننا نقول: "عور" و"حور" بمعنيين مختلفين تماما. وذلك -كما هو واضح- إنما يرجع إلى وجود العين في الأولى والحاء في الثانية ومثل هذا الذي نقول ينطبق بتمامه على الذال والثاء: فهما مما بين الأسنان واحتكاكيان، ولكن الذال مجهور والثاء مهموس، ومن ثم كان الفرق في نحو: "ذاب" و"ثاب" بمعنيين مستقلين. وهذا مثال آخر يشرح صفة التقابل هذه بين أصوات العربية: التاء والطاء مثلا صوتان يتفقان في المخرج وفي صفة الوقف والانفجار والهمس، ولكن عملية فسيولوجية معينة تحدث عند النطق بالطاء فتجعلها صوتا مفخما، وهذا التفخيم له دور ووظيفة، إذ هو الملمح الوحيد الذي يميز الطاء من التاء، ويمنح هذه الطاء كيانا خاصا تستطيع أن تؤدي وظيفة لغوية تختلف عن تلك المدة التى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 للتاء: قارن "طاب" و"تاب": كلمتان مستقلتان بمعنيين مختلفين، بسبب وجود الطاء المفخمة في الكلمة الأولى والتاء المرققة في الثانية. ربما يوجد ما يشبه هذا التناظر أو التقابل في أصوات بعض اللغات كما يتمثل ذلك في الصورتين الأوليين من الكلمتين: this وthree في اللغة الإنجليزية. ولكن من المهم أن ندرك أن هذا التقابل لا يجري على سنن مطرد في تكوين الكلمات وبنيتها، فهو إن وجد فإنما يكون ذلك في كلمتين أو كلمات معدودات دون أن يتخذ مسارا أو اتجاها مستقرا يؤهله لأن يكون قاعدة أو ما يشبه أن يكون كذلك. وخاصة أخرى ترتبط بأسلوب توزيع الأصوات على مدارج النطق في العربية: تتمثل هذه الخاصة في نظام هذا التوزيع، بحيث تجيء الأصوات المؤلفة للكلمة منسجمة متناسقة خالية من الثقل، ليس بينها تنافر يؤذي السمع أو عدم انسجام يفقدها حلاوة النغم وحسن التلقي والقبول. ولقد أدرك علماء العربية هذه الخاصة في لغتهم، واستطاعوا بفكرهم الثاقب ونظرهم الدقيق أن يضعوا ما يشبه أن يكون قواعد صوتية لما ينبغي أن يكون عليه تأليف الكلمة من أصوات، أخذا بنظام توزيع أصوات لغتهم على مدارج النطق ونظام التناسق والانسجام بين هذه الأصوات. لقد قرروا أن العربية تتجنب جمع "الزاي مع الظاء، والسين، والصاد، والذال"، وجمع "الجيم مع القاف، والظاء، والطاء، والغين، والصاد"، وجمع "الحاء مع الهاء"، ووقوع الهاء قبل العين، والخاء قبل الهاء إلى آخر ما قرروا في هذا الباب على ما هو معروف للدارسين. وقد أشار ابن جني إلى شيء من هذا في خصائصه، فيقول: أما إهمال ما أهمل مما تحتمله قسمة التركيب في بعض الأصول المتصورة أوالمستعملة فأكثره متروك للاستثقال. وبقيته ملحقة به ومقفاة على أثره. فمن ذلك ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 رفض استعماله لتقارب حروفه نحو: سص وصس وطت وتط وصش وشص، لنفور الحس عنه والمشقة على النفس لتكلفه. وكذلك قج وجق وكق وقك وكج وجك. وكذلك حروف الحلق هي من الائتلاف أبعد لتقارب مخارجها من معظم الحروف، أعني حروف الفم. وإن جمع بين اثنين منها يقدم الأقوى على الأضعف نحو: أهل وأحد وأخ وعهد، وكذلك متى تقارب الحرفان لم يجمع بينهما إلا بتقديم الأقوى منها. وهناك بالعربية أصوات تقل أو يندر وجودها في كثير من اللغات المعروفة لنا في الشرق والغرب على سواء. من ذلك مثلا الهمزة المعروفة لنا في التراث بهمزة القطع1، كما في الصوت الأول من نحو "أحمد" و"أعرف" و"أعلام" مثلا فهذه الهمزة ليس له وجود في كثير من اللغات الأوربية وغيرها وهي إن وجدت في بعض صور الكلام وأساليبه كما في لهجة "لندن" مثلا ليست تعدل أو تتساوى مع الصوت العربي في كل وجوهه وخصائصه: إن الموجود في لهجة "لندن" هذه ليس همزا حقيقيا، إنما هو نوع من "التهميز" أو هو منح النطق سمة من سمات الهمزة، وليست له قيمة الهمزة العربية من حيث كونه عنصرا في تكوين الكلمة ودلالتها. إن هذا الصوت "اللندني" لا يعدو أن يكون ظاهرة نطقية بحتة، وليس وحدة صوتية مميزة، ذات وظيفة في التفريق بين المعاني أو تحديد القيم الصرفية والنحوية للكلمة. وعلى العكس من ذلك كله تتمتع همزتنا باستقلال وكيان صوتي ودلالي معا.   1 الهمزة "واسمها الأصلي الألف" لها وجود في اللغات السامرية، كالعبرية والآرامية والسوريانية وهي في العبرية تنطق محققة "وقفة حنجرية كالعربية" إذا وقفت بعد سكون تام "كما في ياصاه بمعنى خرجت" أو بعد شدة أو في أول الكلام. ولكنها تنطق مسهلة أو مدا للحركة السابقة عليها "كما في نحو توامر Touamar بمعنى تقول أو تأمر فأصلها همزة لأنها من: أمَر" فلها وجود في هذه اللغة، ولكن توزيعها في الكلام مختلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وهناك في العربية كذلك صوت القاف الذي يندر أن تجد له نظيرا فيما نعرف من لغات، باستثناء الساميات التي تعد العربية واحدة منها، كما هو معروف، وإذا اضطر من تخلو لغته منها إلى نطقها حولها إلى صوت الكاف أو ما أشبه، حتى إنك لتسمع هذا النطق الخاطئ ذاته في نطق غير المثقفين من العرب أنفسهم عندما يحاولون استخدام كلمة فصيحة بعينها في كلامهم اللهجي العادي. أما العين فهو صوت لا وجود له في اللغات الأوربية، وإذا حاول واحد من أصحاب هذه اللغات استخدامه انتقل إلى استخدام الهمزة بدلا منه. ومن الطريف أن نعلم أن بعض الدارسين في الغرب يرى أنه من الأنسب أن تسمى العربية "لغة العين" بدلا من قولنا "لغة الضاد" وهم في ذلك واهمون، لأن العين -وإن لم يوجد في اللغات الأوربية- صوت معروف مقرر في اللغات السامية. ويأتي صوت "الضاد" على قمة السمات الصوتية التي تنفرد به اللغة العربية. وذلك أن هذا الصوت -بوصفه وحدة صوتية ذات قيمة ووظيفة في تركيب الكلمة ودلالتها- ليس له وجود على الإطلاق في أية لغة معروفة لنا على وجه الأرض1. نعم، ربما نسمع صوتا يشبهه أو يماثله في بعض الكلمات في لغات معينة، كما في نحو: bud وmud في اللغة الإنجليزية. ولكن هذا الذي نسمعه في مثل هذه الكلمات الإنجليزية ليس ضادا أو قل: ليست له قيمة الضاد العربية. إن الذي نسمعه في هاتين الكلمتين، إنما هو صوت "d" الدال، ولكنه نطق مفخما فأشبه ضادنا في النطق، ولكن شتان بين الصوتين في القيمة والوظيفة. فضادنا صوت مميز للمعاني، كما يظهر ذلك مثلا عندما   1 نعني بالعربية هنا العربية الشمالية والعربية الجنوبية معا. وإذا كان هناك أثر لهذه الضاد في اللغة الحبشية، فإنما هو من قبيل التأثير والتأثر أو الاقتراض اللغوي، كما في مثل "dahay بمعنى الشمس والضحى" والمثال نفسه دليل هذا الاقتراض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 نقارن بين "دل" و"ضل" فهاهنا كلمتان مستقلتان. ولكل منهما معنى مختلف، وذلك بسبب وجود الدال في الأولى والضاد في الثانية. وليس كذلك الأمر بحال في هذا الصوت المسموع في اللغة الإنجليزية في مثل ما ذكرنا من أمثلة. هذا شيء من الخواص الصوتية التي تمتاز بها العربية من غيرها من اللغات، وهي أمثلة تتعلق بما يعرف في الدرس الصوتي الحديث بالأصوات الصامتة أو الساكنة "consonants" ونزيد القول إيضاحا الآن بذكر شيء من سمات الحركات في هذه اللغة، وبإشارة عاجلة أخرى إلى بعض الظواهر الصوتية ذات القيمة المميزة للغتنا. الحركات في اللغة العربية قليلة العدد نسبيا، فهي ثلاث حركات أساسية هي الفتحة والكسرة والضمة، وكل منها قد تكون قصيرة أو طويلة فهي ست بهذا الوصف، أي: إن أخذت الطول والقصر في الحسبان. هذه الحركات القليلة العدد ظاهرة بارزة، تستحق النظر والتأمل إذا قيست بما يناظرها في اللغات الأخرى، ففي اللغة الإنجليزية مثلا اثنتان وعشرون حركة، وعلى الرغم من هذا الفارق الكبير بين اللغتين في هذا المجال، نجد الحركات في العربية تقوم بوظائفها ودورها في تشكيل الكلام وبنائه على وجه لا يقل أهمية عن نظيراتها في اللغة الإنجليزية، بل تفوقها وتمتاز منها في بعض الوجوه. نحن لا ننكر أن هذه الحركات الست قد تتعدد صورها وأمثلتها في النطق الفعلي للكلم، بسبب ما يجاورها من الأصوات الصامتة، فالفتحة مثلا قد تكون مرققة، أو مفخمة، أو بين بين، كما في نحو: دل -ضل -قل، بهذا الترتيب، وذلك بسبب وجود الدال في الكلمة الأولى والضاد "المفخمة" في الثانية والقاف "التي بين الترقيق والتفخيم" في الثالثة ولكن هذه السمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الثلاث التي لحقت الفتحة في هذه الأمثلة ذات قيمة نطقية فقط، وليست ذات قيمة في الدلالة، أي في التفريق بين المعاني. والفرق في المعاني بين هذه الكلمات الثلاث إنما سببه الدال والضاد والقاف، وليس ترقيق الفتحة أو تفخيمها أو نطقها بين الحالتين. ومن ثم يقع الخطأ في المعنى والنطق أو اللبس فيهما إذا حدث خطأ في نطق هذه الأصوات الثلاثة "الدال والضاد والقاف" أي بالإتيان بها على وجه مخالف لطبيعتها النطقية المقررة من ترقيق أو تفخيم أو "وسطية". ومعنى ذلك -كما قررنا- أن الحركات في العربية بوصفها وحدات مميزة للمعاني والقيم الدلالية في اللغة العربية ست فقط، وإن تعددت صورها النطقية الفعلية في السياقات المختلفة. وعد هذه الحركات ستا فقط هو المأخوذ به في النظر العلمي في النظام الصوتي للغة العربية، وهو المبدأ المتبع "باتفاق" عند محاولة وضع القواعد أو الضوابط الصوتية الوظيفية المميزة لهذه اللغة. وقلة الحركات في لغة ما حسنة من حسنات هذه اللغة في النطق والأداء الفعلي للكلام. ذلك أن الحركات -في عمومها- أصعب من الأصوات الأخرى وأكثرها تعرضا للتغيير والتبدل. ومن الطبيعي أنه كلما زاد عدد الحركات كانت صعوبة النطق أقوى احتمالا وظاهرة التغير والتحول أكثر وقوعا. زد على ذلك أن كثرة الحركات تقود حتما إلى تداخلها والخلط بينها من حين إلى آخر، الأمر الذي نتج منه -لا محالة- خطأ في النطق أو خلط فيه، ويؤدي إلى الخطأ في المعنى أو اللبس فيه. واحتمال الوقوع في الخطأ في نطق هذه الحركات الكثيرة واضح كل الوضوح عندما يحاول أجنبي استخدام تلك اللغة الكثيرة حركاتها كما يبدو ذلك لنا عندما ينطق العربي اللغة الإنجليزية حيث يقع في أخطاء نطقية واضحة، كما يخلط بينها خلطا غير مقبول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ولعل هذا الذي قررنا من القلة العددية للحركات العربية وما يتبع ذلك من ضعف احتمال تعرض هذه الحركات للتغير والتبدل، يفسر لنا ذلك السر الفريد الذي تختص به عربيتنا الفصحى في ماضيها وحاضرها. ذلك أن هذه الحركات ما زالت هي هي ثابتة مستقرة بعددها وصفاتها لم يصبها تغير يذكر في تاريخها الطويل، وهذا بدوره ضمن بقاء اللغة العربية وساعدها على الاحتفاظ بخواصها الصوتية الأساسية على مر الزمن، حتى إنك لا تجد فروقا صوتية ذات شأن بين حالها في الماضي والحاضر. أما الفروق التي تلحقها في اللهجات العربية الحديثة في مجال الحركات فهي فروق فردية في أساسها ترجع إلى البيئة الجغرافية والثقافية، وهي مع ذلك فروق يسيرة في طبيعتها يمكن ردها كلها أو جلها إلى حركات اللغة الأم بصورة أو بأخرى، كما يمكن حصرها وضبطها بشيء من النظر والتأمل. وعلى الرغم من هذه القلة النسبية في عدد حركات العربية، فإن لهذه الحركات دورا خطيرا في المادة اللغوية على كل المستويات. فهي -بالإضافة إلى دورها الصوتي المتمثل في كونها لبنات أساسية في البناء الصوتي للغة- تؤدي وظائف ذات أهمية فائقة على المستوى الصرفي والمعجمي والدلالي والنحوي جميعا. نستطيع أن نتبين هذا الدور وقيمته بذكر أمثلة قليلة توضح ما نقول. فمن المعروف أن الكلمات العربية مادتها الأساسية تلك الأصوات المعروفة بالأصوات الصامتة أو الساكنة، كالباء، والتاء والثاء ... إلخ، ولكن هذا الأصل يلحقه تعديل وتحويل أو تحوير وتغيير بوساطة الحركات، فينتج لنا عن هذا الأصل مجموعة من الأوزان أو الصيغ الصرفية لكل منها قيمة معجمية دلالية مختلفة فالأصل المتمثل في "ع ر ض" مثلا، يمكن أن نأتي منه بطريق التغيير في الحركات بالكلمات التالية: عَرْض "بفتح العين وسكون الراء" ومعناه ضد الطول أو هو مصدر عرض يعرض، وعِرْض "بكسر العين" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ومعناه الحسب والشرف، وعُرْض "بضم العين" ومعناه "الجانب" كما في قولنا: ألقى به عُرض الحائط، أو معناه "الوسط" كما في نحو "في عُرض البحر أي في وسطه". وهكذا نرى أن الوزن الصرفي مختلف، وكذلك الحال بالنسبة للدلالة المعجمية. وأكثر من هذا، ليس من النادر أن نجد التبادل بين الحركات يؤدي إلى تفريق صرفي وظيفي، كأن تنتمي صيغة ما إلى جنس صرفي معين، وبتغيير إحدى حركات هذه الصيغة نصل إلى جنس صرفي آخر. قارن: إِعلام "بكسر الهمزة" بقولنا: أُعلام "بفتح الهمزة" فالصيغة الأولى مصدر الفعل "أعلم" والثانية جمع "علم". وهذا النوع من الأمثلة كثير الورود في العربية، نحو إنباء وأنباء، وإحكام وأحكام ... إلخ. أما وظائف الحركات على المستوى النحوي فهي ذات خطر وشأن. ويكفي أن ندرك أن الإعراب في جملته يقوم على الحركات، فهي علاماته الأصلية في كل الحالات، وهي كذلك دالته في الإعراب "النائب" في معظم الحالات، كما أن الاختلاف في حركات الإعراب دليل الاختلاف في الوظيفة النحوية للكلمة، والفتحة، كما هو معروف، علامة النصب، على حين أن الضمة علامة الرفع، والكسرة علامة الجر. وليس هذا فقط، فللحركات في العربية دور في التفريق بين الأجناس الصرفية كما في حال المثنى وعلامته الألف وجمع المذكر السالم وعلامته الواو، كما هو مقرر معروف. وهذه الألف إن هي إلا فتحة طويلة، كما أن الواو لا تعدو أن تكون ضمة طويلة، وهما في الوقت ذاته علامتا حالة إعرابية، هي الرفع فيهما. ولعله من الطريف أن نذكر في هذا المقام أن "سلب الحركة" "المسمى عندهم بالسكون" هو الآخر ذو وظيفة صرفية نحوية ذات قيمة معينة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 النظام الإعرابي للغة العربية. فالسكون أو عدم الحركة دليل الجزم في بعض صور المضارع كما أنه علامة البناء في صيغ منوعة تنتمي إلى أجناس صرفية مختلفة، كما يظهر ذلك مثلا في بعض الأسماء والأفعال "فعل الأمر" والحروف على ما هو معروف لنا جميعا. وأكبر الظن أن هذه الوظيفة الإعرابية للسكون "وهو عدم الحركة" كانت السبب الذي دعا بعض النحاة إلى الحكم على السكون بأنه حركة وأنه رابع الحركات فيها. وربما كان لهم العذر في هذا الحكم، حيث رأوه يؤدي وظائف إعرابية تقارن في الأهمية بوظائف الحركات الحقيقية في هذا الشأن. والحق أن السكون هو عدم الحركة أو هو لا شيء "صفر" من الناحية النطقية، ومن ثم لا يدخل في عداد الحركات من هذه الناحية، إذ لا يشترك مع الحركات "أو أي صوت في اللغة" في أية خاصة من خواصها النطقية. ولكن هذا العدم أو اللاشيء له دور وظيفي في اللغة يظهر بصفة خاصة في الإعراب. وعلى هذا يمكن لنا، تجاوزا، عده عنصرا من عناصر النظام الإعرابي في اللغة العربية، أو قل هو "حركة وظيفيا وهو عدم الحركة أو اللاشيء نطقا". ومادمنا في مجال ذكر شيء من الخواص الصوتية للغتنا، جاز لنا أن نشير إلى تلك الخاصة المميزة، المعروفة "بالتنوين" فالتنوين من الناحية الصوتية نون ساكنة، ولكنها تختلف عن بقية النونات في العربية من حيث الموقع والتوزيع في بناء الكلمة. إن موقعه الصوتي محدد وثابت، حيث لا يقع إلا في آخر نوع أو نمط معين من الكلمات. أما من الناحية الصرفية والنحوية فللتنوين جملة مهمة من الوظائف. من ذلك مثلا أنه دليل "التنكير أو الإبهام في النكرات" كما في "رجل" ودليل "الشيوع" في بعض الأعلام، مثل: "محمد"، ولهذا يجب حذف هذا التنوين عند الإضافة، والإضافة من شأنها إزالة هذا التنكير وذاك الإبهام، كما أن من شأنها تعيين العلم وتحديده، فينتفي الشيوع أو شبهته. وليس من الغريب إذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 حذف هذا التنوين عند وصف العلم المنون بكلمة "ابن" كما في نحو "محمد بن عبد الله" حيث قام الوصف بدور التخصيص أو التعيين، ومن ثم لا حاجة إلى التنوين. وما قلناه هنا على التنوين ينطبق بتمامه على النون في المثنى وجمع المذكر السالم. فهذه النون في رأينا "ورأي غالبية النحاة" هي التنوين، غير أنه كتب هنا بالنون لاستحالة استخدام رمز التنوين المعروف في هذا الموقع. وهذه النون كما هو معروف واجب حذفها عند الإضافة، لأنها رفعت الإبهام والشيوع المفهومين بالتنوين "أي: النون" قبل الإضافة. أما أن هذه النون في المثنى والجمع تبقى ولا تحذف عند اتصالهما بالألف واللام "الرجلان المسلمون" فتلك قضية أخرى. ذلك أن الألف واللام هنا للتعريف أي: تأهيل الكلمة لأن تقع موقعا نحويا معينا كالابتداء مثلا، وليست هذه الأداة للتعيين أو التخصيص والتحديد، إذ مازالت فكرة التعميم والشيوع قائمة بالمثنى والجمع بسبب التعدد. والتعدد يناقض التحديد أو التعيين كما هو واضح، ومن ثم ثبتت النون. وحذف التنوين في المفرد المعرف باللام لا يتناقض مع ما قلنا، لأن هذا الحذف في هذه الحالة هو الأصل أولا، ولأن "مفردية الكلمة ساعدت على إزالة الإبهام أو الشيوع ثانيا، فلا حاجة إذن إلى التنوين"1. وتحريك التنوين "أي النون" في المثنى والجمع، على العكس منه في المفرد إنما كان لسبب صوتي ظاهر، ذلك أنه وقع في موقع يوجب تحريكه، منعا لالتقاء الساكنين، ومع ذلك قد يأتي ساكنا كما في حالة الوقف، وهي قاعدة مقررة منصوص عليها في النظام الصوتي والنحوي، على ما هو معروف لدى أهل النظر.   1 يفسر بعضهم ثبوت النون في المثنى والجمع مع وجود أداة التعريف بتفسير آخر، هو أن النون هنا عوض عن الإعراب بالحركات في المفرد. ومن ثم بقيت. أما النون في الأفعال الخمسة. نحو: يكتبان، يكتبون، إلخ، ففيها شبهة تحتاج إلى بحث مستقل، ربما أتينا عليه في فرصة أخرى، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ولا ننسى في هذا المجال أن نشير إلى أن التنوين أيضا هو علامة صرف الكلمة نحويا، وحذفه دليل منع الكلمة من الصرف، والممنوع من الصرف باب كبير متشعب الجوانب، تنبنى قواعده على ضوابط عدة، من بينها وجود ظاهرة التنوين أو عدم وجودها، على ما هو معلوم لنا جميعا. أما وجود النون "أي التنوين" في المثنى والجمع المذكر الذي لا ينون مفرده "أي الممنوع من الصرف" كإبراهيمون مثلا، فذلك لأن تنوين ما لا ينصرف مقدر، فقامت النون "أي التنوين" مقامه في الجمع والمثنى. ويمكن لنا بعد ذلك أن نشير إلى أمثلة أخرى من تلك الظواهر الصوتية التي تمتاز بها اللغة العربية إذا قورنت بكثير من اللغات المعروفة لنا، والتي لا يدركها كثير من المثقفين العرب، ولا يعيرها التفاتا ذا بال بعض الدارسين المتخصصين. هذه الظواهر قد تختص بصوت أو مجموعة معينة من الأصوات. فأول ذلك ما يعرف بالتاء المربوطة. هذه التاء اتفق على رسمها بالرمز "ة" أي بصورة "هاء" فوقها نقطتان. هذا الرمز يتحقق في النطق الفعلي للغة بصورتين أساسيتين مختلفتين في الصفات والسمات وفقا للسياق الذي تقع فيه. فهي تنطق تاء خالصة في وصل الكلام، ولكنها هاء صرفة في الوقف، تقول في الفصحى: فاطمة بنت أخي "بتاء متلوة بضمة" ولكن "هذه فاطمة" "بهاء ساكنة" ومن ثم يمكن عد نطقها تاء دليلا على وصل الكلام، كما أن تحقيقها هاء علامة من علامات الفصل أو الوقف. ومعنى هذا إذن أن نطق "التاء المربوطة" في الوصل يؤهلها لأن تكون مثلا أو صورة من صور تلك الوحدة الصوتية المعروفة بالتاء "ت"، على حين يرشحها تحقيقها في الفصل لأن تنتمي إلى الوحدة الصوتية الأخرى المرسومة بالهاء "هـ، بدون نقطة" وهي في الحالة الأولى كذلك لها ما للتاء من صفات، كما أنها في الفصل والوقف تنتظم ما للهاء من سمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 لهذا لم يكن غريبا ولا شاذا عدم تخصيص رمز لها قائم بذاته في الألفباء التقليدية، تلك الألفباء التي تعني في الأساس برموز الوحدات الصوتية التي من شأنها أن تفرق بين المعاني للكمات "قارن: باب × ناب"، ولا تهتم بالإشارة إلى الاحتمالات النطقية للوحدة الصوتية المعينة، كنطقي الدال مثلا في عدت وعدنا، فهي تاء أو أشبه بها في الكلمة الأولى، ولكنها دال خالصة في الثانية، ومع ذلك فالدال وحدة صوتية واحدة. وعدم ذكر رمز خاص للتاء المربوطة في ألفباء الوحدات الصوتية لا يعني إهمالها أو عدم الاعتداد بها في النظام الصوتي للغة العربية، لأنها -كما يتضح من المناقشة- تنضم إلى التاء "ت" حينا وإلى الهاء "هـ" حينا آخر، ومن ثم لم يكن هناك مسوغ علمي للنص على رمز خاص بها في هذه الألفباء، ومع ذلك، فقد أدرك علماء العربية بثاقب نظرهم أن التاء المربوطة -على الرغم من دخولها في باب التاء مرة وفي باب الهاء مرة أخرى -تختلف عن هاتين الوحدتين "التاء والهاء" في جملة من الصفات الصوتية والصرفية والنحوية. ومن ثم أتوا برمز لها يدخل في عداد الرموز الثانوية للألفباء العربية، كرمز الهمزة "ء" ورمز التشديد "ّ" ورمز السكون "هـ" هذا الرمز هو رمز "ة" الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من قواعد الكتابة الإملائية للغتنا، والخطأ فيه خطأ إملائي صريح. وإنه لمن الذكاء والعمق حقا أن كتبوها بهذا الرمز بالذات "ة" إذ هو في الأساس صورة الهاء "وهذه حالتها في بعض المواقع الصوتية" وتوجوها بنقطتين إشارة إلى قيمة التاء. كما هو الحال في بعض مواقعها، ووضع نقطتين بالذات "أي لا نقطة أو ثلاث" دليل واضح على هذه القيمة الصوتية الثانية. فهذا الرمز الثانوي أو الإضافي "ة" للتاء المربوطة حقق لها نوعا من الكيان الذي تستحقه، ونبه غير العارفين إلى خواصها التي تمتاز بها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 النظام اللغوي للعربية، فهي صوتيا -مثلا- تختلف عن كل من التاء والهاء في الموقعية وفي تحديد نطق معين لا يتخلف في كل من سياقيها المعروفين: الوصل والوقف، إنها لا تكون إلا في آخر الكلمة، وفي كلمات ذات طبيعة صرفية معينة، وهي تاء فقط في الوصل وهاء في الوقف". أما من الناحية الصرفية والنحوية فالتاء المربوطة دليل التأنيث في أجناس خاصة من الكلم، ووجودها "مع علل أخرى" يمنع الصرف في أجناس أخرى، إلى غير ذلك من الخواص الصرفية والنحوية، كما يتمثل في عدم جواز جمع ما اشتمل عليها جمع المذكر السالم، على ما هو مقرر. ونأتي بعد ذلك إلى ظاهرة صوتية مهمة تتعلق بمجموعة معينة من أصوات العربية، وهي ظاهرة التفخيم. والتفخيم في أيسر عبارة -أثر سمعي تدركه الأذن نتيجة لعملية فسيولوجية معقدة، تتعاون في تشكيلها مجموعة من العوامل أظهرها وأقربها إدراكا: تقعير اللسان، بمعنى انخفاض وسطه نسبيا عند النطق بالصوت المفخم، ويتبع ذلك حتما ارتفاع الجزء الخلفي من اللسان نحو الحنك الأعلى. حدوث شيء من التوتر في أعضاء النطق وبخاصة في أوردة الرقبة، ويتصل بذلك أو ينتج منه تعديل في تجويف الفم والنطق بشدة أو قوة نسبية. والأصوات المفخمة في العربية على ضربين رئيسيين: أصوات مفخمة تفخيما كليا، وأصوات تفخيمها بين بين. أما أصوات النوع الأول فهي الصاد والضاد والطاء والظاء وهي المسماة في القديم "أصوات الإطباق" وهذه الأصوات الأربعة -في رأي الجميع بلا استثناء- مفخمة في كل موقع تقع فيه في اللغة العربية، وذلك بقطع النظر عما يسبقها أو يلحقها من الأصوات وهي النظير المفخم للسين والدال والتاء والذال. ومن ثم كان تفخيمها ذا قيمة دلالية، له دور في التفريق بين المعاني، بالإضافة إلى قيمته الصوتية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ومن ثم كان الخطأ في نطق هذه الأصوات بترقيقها خطأ من ناحيتين: خطأ صوتي وهو أمر معيب غير مقبول للخروج بالصوت المفخم عن طبيعته وسماته، وخطأ دلالي يؤدي إلى اللبس في المعنى وغموضه. ونستطيع أن ندرك ذلك من الأمثلة الآتية: صاد × ساد، ضل × دل، طاب × تاب، ظل × ذل. حيث نلحظ اختلافا في المعنى بين كل كلمتين متقابلتين. والسبب في ذلك واضح، وهو وجود صوت مفخم في إحداهما ونظيره المرقق في الثانية معنى هذا -بعبارة اللغويين- أن الصوت المفخم ليس صورة نطقية سياقية للصوت المرقق، وإنما هو نظيره، وله قيمته الخاصة به صوتيا ودلاليا. ومعنى ذلك أيضا أن نطق هذه الأصوات المفخمة مرققة يؤدي إلى الخلط واللبس بين الكلم في اللغة العربية، إذ حينئذ تصير الصاد سينا والضاد دالا والطاء تاء والظاء ذالا. وبهذا يضيع التفريق في المعاني كما تضيع القيمة الصوتية المميزة لهذا الصوت أو ذاك. وأصوات الضرب الثاني من أصوات التفخيم هي القاف والخاء والغين وتفخيمها تفخيم "بين بين". و"البينية" هذه تظهر في سمتين متلازمتين هما أن تفخيمها أقل درجة من تفخيم أصوات النوع الأول، وأن هذا التفخيم "الضعيف" نسبيا إنما يظهر عندما يتلو هذه الأصوات ضم أو فتح "قصير أو طويل" ولكنه يختفي أو يكاد عند كسرها، إذ هي -حينئذ- إلى الترقيق أقرب. والخطأ في نطق هذه الأصوات الثلاثة من حيث التفخيم أو الترقيق خطأ صوتي محض، لا يؤثر على المعنى ولا يؤدي إلى اللبس فيه، لانعدام نظائر مرققة لها في العربية، على العكس من أصوات الإطباق الأربعة السابقة "ص ض ط ظ" وعلى الرغم من ذلك فهذا الخطأ -بالإضافة إلى عده خطأ صوتيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 في نطق اللغة. -دليل على "تفاهة" المتكلم وسطحية ثقافته اللغوية، إذ هو عند ترقيقها في مواضع التفخيم يأتي بأصوات غير مألوفة للأذن العربية على الإطلاق، بخلاف أصوات الإطباق الأربعة، فقد يلجأ المتكلم إلى ترقيقها في مواقف اجتماعية أو درامية معينة، ويكون نطقه مقبولا في هذه المواقف بالذات، لأنه يرمي إلى إحداث تأثير خاص أو تصوير سلوك لغوي معين بقصد التندر أو الفكاهة أو السخرية. والملاحظ على كل حال أن النساء أكثر ميلا إلى ترقيق أصوات التفخيم بنوعيها، وهو أمر مازلنا نحكم عليه بالخطأ في إطار اللغة الفصحى. وهذه الأصوات الثلاثة، مضمومة إلى أصوات الإطباق السابقة، تسمى جميعا بأصوات الاستعلاء في التراث العربي، وهي تسمية صحيحة دقيقة، إذ عند النطق بها جميعا في حال التفخيم تعلو مؤخرة اللسان نحو الجزء الخلفي من الحنك الأعلى. أما بقية أصوات العربية فهي "باستثناء اللام والراء" مرققة بطبيعتها وإن كان يلحقها شيء من التفخيم بالمجاورة، أي بوقوعها في سياق صوت مفخم سابق أو لاحق. وينطبق هذا الذي نقول على الحركات جميعا، فهي بنفسها لا توصف بتفخيم أو ترقيق، وإنما يكون هذا أو ذاك بحسب سياقها الصوتي. لاحظ الأمثلة الآتية: تاب × طاب وبت × بط حيث جاءت الفتحة الطويلة "الألف" والباء مرققتين في الكلمة الأولى، ولكنهما مفخمتان في الثانية، وكذلك جاءت الباء وفتحتها مرققتين في الكلمة الثالثة على حين أصابهما التفخيم في الرابعة، وإنما كان هذا أو ذاك بسبب طبيعة الأصوات المجاورة من حيث التفخيم والترقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 أما اللام والراء فلهما حالات خاصة تستدعي نظرا مستقلا، لاختلاف أحوالهما من هذه الناحية عن كل ما سبق ذكره. اللام صوت مرقق بطبيعته ولكنه ينفرد بأحكام خاصة من حيث الترقيق والتفخيم في لفظ الجلالة "الله" وحده، فهو في هذا اللفظ يفخم إذا سبق بضم أو فتح ولكنه يرقق إذا جاء بعد كسر نقول: {دَعَوُا اللَّهَ} و"باركَ اللهُ فيك" بالتفخيم، ولكن: "بسمِ الله الرحمن الرحيم" و {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} بالترقيق وإلى هذه الأحكام أشار واحد منهم بقوله: وفخم اللام من اسم الله ... عن فتح أو ضم كعبدَ الله1 والراء في اللغة العربية الفصحى صوت ينفرد بمجموعة من السمات النطقية التي تخفى على كثير من المثقفين وبعض المتخصصين، حيث يأتون بها على وجه غير صحيح من حيث التفخيم والترقيق، وذلك لأسباب نجمل منها ما يلي: التأثر بما يجري في اللهجات العامية من خلط في نطق هذا الصوت واختلاف واضح في أدائه من لهجة إلى أخرى، بحسب البيئة أو الثقافة أو هما معا. فهناك قوم يرققون هذا الصوت حيث يجب التفخيم، وآخرون يفخمون حيث لا مسوغ له، وفرقة ثالثة يلتبس عليها الأمر، فتخلط بين الحالتين، وربما يأتي الواحد منهم بصورتين مختلفتين للراء في الكلمة الواحدة أو السياق الصوتي الواحد. المروي لنا أنه كان هناك اختلاف بين القبائل العربية في القديم في نطق هذا الصوت من حيث التفخيم والترقيق. روي خلاف واضح بين القراء أنفسهم في نطق الراء في مواقع معينة، كما يظهر ذلك في قراءة "ورش" و"حفص".   1 كلمة "عبد" هنا تقرأ بفتح الدال ليتحقق التفخيم في لام لفظ الجلالة وهي مخالفة نحوية جائزة في مثل هذه الحالة، إذ قصد بها التمثيل والتوضيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 صعوبة استيعاب القوانين والضوابط التي حددها أهل الثقة للإتيان بهذا الصوت مفخما أو مرققا، كما يتضح مما يلي: جرى معظم الثقات على ذكر ضوابط الترقيق في الراء بشيء من التفصيل، دون النص على تفريعات أحوال التفخيم وإمكاناته السياقية المتعددة، وربما كان ذلك منهم لشيوع ظاهرة التفخيم في الراء وكثرة ورودها كثرة يصعب معها وضع ضوابط تفصيلية لها، حتى إن بعضهم يقرر أن الراء من طبيعتها التفخيم، ومعناه أن الترقيق نوع من الاستثناء. المروي عن هؤلاء الثقات أن الراء يصيبها الترقيق في حالتين رئيسيتين هما: -إذا جاءت مكسورة "أي متلوة بكسر" بقطع النظر عن طبيعة الصوت السابق أو اللاحق لها، كما في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} و {وَفِي الرِّقَابِ} و {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وكذلك في نحو: "بشرى" بالإمالة إذ حركة الإمالة تدخل في إطار الكسرة، أو هي أقرب إليها من الفتح على ما هو معروف. - إذا وقعت ساكنة بعد كسر. وذلك بشرطين: أولهما: أن تكون الكسرة أصلية، لا عارضة ككسرة همزة الوصل أو الكسرة التي يؤتى بها للتخلص من التقاء، الساكنين. ثانيهما: ألا يقع بعدها صوت استعلاء "ص ض ط ظ خ غ ق" ويتحقق هذان الشرطان في نحو "فرعون" و"مرية". فإن كانت الكسرة عارضت فخمت الراء، نحو: {ارْكَعُوا} {إِنِ ارْتَبْتُمْ} وكذلك تفخم الراء الساكنة المسبوقة بكسرة إذا وليها صوت استعلاء، مثل "فرقة، قرطاس، مرصاد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ويلحق بهذه الحالة الثانية الراء الساكنة الواقعة بعد إمالة أو ياء ساكنة، حيث يصيبها الترقيق أيضا، كما في نحو: "نار" بالإمالة، "خبير، خير" وواضح أن الترقيق هنا واقع في حدود الصوتية، إذ الإمالة نوع من الكسر أو هي قريبة منه، والياء في "خبير" إن هي إلا كسرة طويلة "وسموها ياء ساكنة وفقا لاصطلاحهم". والياء الساكنة في "خيْر" فيها شبهة الكسرة، لأنها في هذا الموقع تتسم بشيء من صفات الكسر، وتقرب منه في المخرج. وفي هذا المقام أيضا نصوا على ترقيق الراء الساكنة إذا وقعت بعد كسرة وفصل بينهما بساكن، كما في نحو "قدر "و"كبر" بكسر القاف والكاف وسكون الراء فيهما. وهذا الأمر واضح كذلك، يمكن فهمه وتفسيره، حيث إن الراء الساكنة، ما زالت مسبوقة بكسرة أصلية، والفصل بالساكن كلا فصل، فلا يحجب تأثير الكسرة السابقة وعملها أو دورها في الترقيق. والملاحظ على أية حال أن الراء في كل هذه الصور الفرعية الملحقة بالحالة الثانية من حالات ترقيقها ذات وضع خاص: إنها في هذه الصور كلها لا تكون إلا في آخر الكلمة وفي حالة الوقف بالذات، إذ لا يمكن وقوعها ساكنة في هذا السياق الصوتي الذي وقعت فيه إلا منطوقة موقوفا عليها. وتفسير ذلك أن التركيب المقطعي في اللغة العربية يمنع وقوع أي صوت ساكن "خال من الحركة" بعد حركة طويلة كما في "نار" بالإمالة، و"خبير" بياء المد أو الكسرة الطويلة، إلا في الوقف1. وكذلك يمنع التركيب المقطعي للغتنا توالي ساكنين، أي اجتماع صوتين صامتين "خاليين من التحريك" في أي موقع من مواقع الكلمة إلا في آخرها. ومن الطبيعي أن ذلك لا يتحقق إلا في حال الوقف كما في "خَيْر"، "قِدْر" و"كِبْر"، وهي الأمثلة المذكورة   1 وهناك حالة ثانية يجوز فيها وقوع الصوت الساكن بعد حركة طويلة "حرف مد" وهذا إذا كان هذا الصوت الساكن مدغما في مثله، كما في مثل "الضالين" حيث وقعت اللام الأولى ساكنة بعد حرف مد وهي مدغمة في اللام الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 سابقا، ولعل عبارتهم المشهورة: "لا يجوز التقاء الساكنين" تفسر كل ما قلنا. أما جواز هذا الالتقاء في الوقف، فذلك لتحقيق وظيفة نحوية مهمة، هي "الوقف" وهو باب في قواعد اللغة معروف، وخاصة من خواص الأداء النحوي والصوتي في العربية. ومن الواضح أن النص على ترقيق الراء، يعني -ضمنا- وقوع التفخيم في غير هذا المنصوص عليه، أو بعبارة أخرى، تفخم الراء إذا وقعت مضمومة أو مفتوحة مطلقا، وكذلك إذا وقعت ساكنة باستثناء السياقات الصوتية المذكورة في الحالة الثانية من حالات الترقيق وصورها الفرعية الملحقة بها. وإلى هذا كله أشار بعضهم بصورة مجملة بقوله: ورقّق الراء إذا ما كسرت ... كذاك بعد الكسر حيث سكنت ما لم تكن من قبل حرف استعلا ... أو كانت الكسرة ليست أصلا وإلى هنا يكفي أن نقرر أن ما أتينا به في هذه العجالة أشبه بحسوة طائر من بحر العربية الزاخر بالسمات والصفات الصوتية التي تمنحها نوعا من التفرد وضربا من الخصوصية، وأن ما ذكرناه هنا مجرد دلائل يسترشد بها الدارسون والراغبون في الوقوف على شيء من أسرار لغتهم العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 المبحث الخامس: نوعية اللغة التي يتعلمها التلاميذ في المرحلة الأولى ووسائل التقريب بينها وبين اللغة الفصيحة يمثل التعليم في المرحلة الأولى ركنا أساسيا من أركان إعداد المواطن للحياة، وتأهيله للتعامل مع البيئة بصورة تسمح له باكتساب خبراتها ومعارفها، وعلى وجه تجعل منه عضوا ذا دور فعال في مجتمعه الصغير أو الكبير على سواء. ولا يتم ذلك في نظرنا إلا بتخطيط دقيق لما ينبغي أن يلقى إليه من علوم ومعارف في هذه المرحلة، آخذين في الحسبان نقطة البداية ونقطة النهاية في كل ما نرسم ونخطط، حتى نضمن للمتعلم تدرجا طبيعيا مناسبا لهاتين النقطتين كلتيهما، وحتى نأخذ بيده نحو الهدف المرسوم في تأن يتصف بالعمق والجدة. وليس من شك في أن أية خطة دراسية لا يمكن لها أن تحظى بالنجاح إلا بإعداد وسيلة أو وسائل علمية واضحة، من شأنها أن تفي بأغراض هذه الخطة، وأن تمكن المتعلم من الإلمام بما تضمنته جوانبها من ألوان المعرفة وضروب الخبرة. وتقع اللغة من هذه الوسائل موقعا فريدا فاللغة في المراحل الأولى من التعليم ليست مادة دراسية فحسب، ولكنها -في الوقت نفسه- الوسيلة الأساسية لدراسة المواد الأخرى واستيعابها. وإذا كانت بعض الخبرات يمكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 تحصيلها بالاعتماد على التفاعل مع البيئة الطبيعية، فإن هناك خبرات أخرى -وغير المباشرة منها بوجه خاص- لا يمكن اكتسابها إلا باللغة وبالقدرة على استخدامها استخداما ناجحا. وقد لاحظ المربون وعلماء النفس أن هناك ارتباطا وثيقا بين النجاح في تحصيل المواد المختلفة والقدرة اللغوية، ذلك لأن اللغة تلعب الدور الأكبر في استقبال الأفكار واستيعابها والتعبير عنها. فالتلميذ المتقدم في مادته اللغوية يفوق أقرانه في سرعة الفهم والتحصيل لما يقرأ، ويقوده هذا في النهاية إلى نجاح محقق في دارسته، بل في الحياة بجملتها. وليس يقتصر دور اللغة على تيسير التحصيل والاستيعاب للمواد الدراسية. إنها بالإضافة إلى ذلك -تمد المتعلم بعامل مهم من عوامل النجاح في الحياة العامة، إذ تمنحه القدرة على أن يتعامل بالكلمة تعاملا لبقا ذكيا،، فيتحدث ويناقش بوضوح وتركيز، ويقرأ ما تقع يده عليه ويفهمه في جلاء وعمق. وهذا الضرب من استغلال اللغة وفنونها من شأنه أن يفتح للإنسان في الحياة مجالا أوسع ويسير به في دنيا الثقافة إلى مدى أرحب. إذا كان هذا هو دور اللغة في المدرسة وخارجها أصبح من الضروري إعطاؤها حقها من الاهتمام والعناية. ولقد اتجهت أنظار الباحثين العرب في السنوات الأخيرة إلى هذا الموضوع ومحاولة دراسته من شتى جوانبه. وأخذوا في تصنيف مشكلات تعليم اللغة العربية بالمرحلة الأولى بوجه خاص آملين بذلك أن يصلوا إلى خطة محددة مبنية على أسس علمية جادة. وكان من الطبيعي أن يواجهوا أول الأمر في هذا المجال بموضوع قديم حديث، هو تحديد "نوعية اللغة" أو "الصيغة اللغوية" التي ينبغي أن يؤخذ بها في هذه المرحلة أو التي يمكن أن تكون المنطلق لما ننتوي تقديمه للتلاميذ في السنوات الأولى من التعليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وتحديد "نوعية اللغة" يخضع في نظرنا لمبدأين اثنين متصلين غير منفصلين هما: 1- المبدأ التربوي المقرر الذي ينص على وجوب الانتقال من المعلوم إلى المجهول في عملية التعليم بعامة، ويضمن لنا هذا المبدأ أن ينطلق المتعلم من أرض صلبة تمكنه من الترقي والتدرج في رحلته التعليمية في تأن ونجاح مؤكد. كما يحميه من الوقوع في متاهات أو آفاق مجهولة تعوق مسيرته وتحرمه من استغلال طاقاته وقدراته الذاتية في اكتشاف طريقه نحو اكتساب مزيد من الخبرات والمعارف. 2- المبدأ التقليدي العام أو المقرر بين الأمم الذي جرى -وما يزال يجري- على أن تكون اللغة التي تقدم للتلاميذ في أية مرحلة هي اللغة القومية، تلك اللغة التي تخلو أو تكاد تخلو من الطابع المحلي أو البيئي، والتي تنسب إلى القوم بعامة وتستخدم في تسجيل معارفهم وثقافتهم الأصلية، وتربط حاضرهم بماضيهم وتأخذ بيدهم نحو مستقبل أكثر ازدهارا وتقدما. ومن الواضح أن الأخذ بالمبدأ الأول وحده يقتضي أن تكون اللغة المختارة في المرحلة الأولى من التعليم هي العامية، لأنها هي الصيغة المألوفة للتلاميذ في هذه المرحلة، كما أن الانحياز نحو المبدأ وحده يعني أن تكون تلك اللغة هي العربية الفصحى، لأنها لغة القوم أو الأقوام المعروفين بالعرب. أما التمسك بالمبدأين معا "كما هو المفروض"، ففيه صعوبة ظاهرة، ويحتاج إلى تخطيط دقيق ودراسة عميقة لأنه ينتظم أمرين يبدوان متناقضين، أو متباعدين غير متقابلين، أحدهما يذهب بنا شمالا والآخر يتجه بنا نحو اليمين أو العكس بالعكس، ومعنى هذا أننا أمام "معادلة صعبة" كما يقولون. وربما كانت هذه المعادلة واحدا من الأسباب الرئيسية التي قد تغري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الباحثين بالأخذ بواحد من المبدأين السابقين دون الآخر، حتى لا يقعوا في محظور "التناقض" وحتى يصلوا إلى أهدافهم في سهولة ويسر. القول بالمبدأ الأول: اختيار المبدأ الأول "مبدأ وجوب الانتقال من المعلوم إلى المجهول" قد يحتج له بأن اللغة العامية هي الصيغة اللغوية المناسبة، لأنها لصيقة بالأطفال، يتعاملون بها هنا وهناك في كل مجالات النشاط التي تسود مجتمعهم، إنهم يسمعونها في كل مكان يحلون به أو يذهبون إليه، وهم يفهمونها جيدا، ويتحدثون بها ويعبرون بها عن ذوات أنفسهم وعن معارفهم وخبراتهم والوقوف على هذه المعارف والخبرات أمر مهم في عملية التعليم، ما في ذلك شك. فحرمانهم من اللغة العامية "وهي التي يدركونها جيدا" يحرمنا من الكشف عن طاقاتهم وقدراتهم، وبذلك نفقد أهم عامل من عوامل التعليم الناجح المثمر. القول بالمبدأ الثاني: والقول بالمبدأ الثاني وحده لا تُعْوِزُه الأدلة التي تقف إلى جانبه وتغري بقبوله. وهذه بعض الأدلة التي يمكن أن يحتج بها في هذا المجال. 1- اللغة القومية هي اللغة الفصحى، لغة القرآن الكريم ولغة التراث وكنوز الثقافة العربية الأصيلة. وهي بهذا جديرة أن تقع موقع الصدارة من المستويات اللغوية الأخرى. وعدم الأخذ بهذه الفصحى في مراحل التعليم يسلمنا إلى ضياع فكري ثقافي، حيث يفصل حاضرنا عن ماضينا المجيد. هذا بالإضافة إلى ما يعقب هذا الإهمال من نتائج منذرة بالخطر، إذ ينحرف بنا الأمر بمرور الزمن إلى الانعزال عن لغة القرآن والبعد عنها بعدا يفقدنا أهم أساس وأكرمه من أسس ديننا الحنيف. 2- اللغة الفصحى هي أساس القومية العربية ومحورها الذي تدور حوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 مقومات هذه القومية. إنها الرابطة الوثقى التي تربط العرب بعضهم ببعض سياسيا وثقافيا واجتماعيا كذلك. إن تفضيل أية صيغة لغوية أخرى عليها يعرض الوَحدة العربية للانهيار. ويجعل من هذه الأمة مجموعات من الدول المتنافرة المتضاربة في أهدافها وآمالها. 3- اللغة الفصحى هي السجل الحي لحضارة عربية عريقة، تضرب بعيدا في أعماق التاريخ، ولسنا نملك أن نقطع الواصلة بين هذه الحضارة وواقعنا الراهن، وإلا كان علينا أن نبدأ من جديد، ونحتاج إلى أحقاب طويلة لا يعلم مداها إلا الله كي نبني حضارة أخرى جديرة بأمة عريقة تحاول أن تأخذ موقعها اللائق بها في مجتمع حديث زاخر بألوان شتى من مناحي الفكر والتقدم الإنساني. وهيهات أن تصمد حضارة من هذا النمط أمام التيارات الفكرية والثقافية في العالم المعاصر ما لم يكن لها سند واتصال وثيق بأصول حضارية عريقة عميقة كتلك التي نعم بها العرب في تاريخهم الطويل. 4- وقد يضيف بعضهم إلى ذلك عاملا أو دليلا آخر يتصل بذات الفصحى، وخواصها أنها -في نظرهم- لغة غنية في وسائل التعبير، ألفاظا وعبارات، وهي بذلك تمد المتعلم بزاد لا ينفد من وسائل الإفصاح عن النفس، كما تعينه على الأخذ بنصيب وافر من ألوان المعرفة والخبرة. مناقشة القولين: وفي رأينا أن كلا من الاتجاهين السابقين -إذا أخذنا بأيهما وحده على إطلاقه دون تحديد- تقف في طريقه عقبات، وتقابل تطبيقه مشكلات قومية وتربوية وعملية. فالبدء بالعامية في المراحل الأولى من التعليم على الرغم من اتساقه الظاهري مع مبدأ وجوب الانطلاق من المعلوم إلى المجهول، يثير على الفور هذا السؤال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 أية عامية تختار؟ هنا احتمالان -لا ثالث لهما- للإجابة عن هذا السؤال. الاحتمال الأول: قد يرى بعضهم أن ينطلق كل بلد عربي من لهجته الخاصة به، فهي أطوع لأبنائه، وأكثر ألفة، وأقرب منالا من الصيغ اللغوية الأخرى. وهي بذلك تمده بوسائل التعبير عن ذاته وتكشف عن معارفه وخبراته، ومن ثم يقدر لنا أن نستغل طاقاته وقدراته بتقديم المزيد من المعارف والخبرات، كلما تدرجنا به في سلم التعليم والتثقيف. وهذا الاحتمال -إذا أخذ على إطلاقه- مردود وغير مقبول في نظرنا لأسباب متعددة مترتب بعضها على بعض، منها: 1- اللهجات العامية في البلاد العربية يختلف بعضها عن بعض اختلافا واضحا على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية -واستخدامها في أية مرحلة من مراحل التعليم من شأنه أن يوسع من دائرة هذا الاختلاف، ويمنحها عوامل قوية تؤدي إلى التفريق والتنويع بصورة أشد وأكثر عمقا. وليس من البعيد -في هذه الحالة- أن تأخذ كل لهجة طريقها الخاص بها وتثبت قواعدها ونظمها حتى تستقل بنفسها وتصبح لغة قائمة بذاتها على مر الزمن. وليس هذا الأمر مستحيلا أو خيالا بالنسبة للتطور اللغوي وطبيعته. لقد حدث هذا في عديد من اللغات، كاللاتينية التي ساعدت الظروف السياسية والثقافية على التباعد بين لهجاتها حتى صارت لغات مستقلة ذات خواص مميزة تبعد قليلا أو كثيرا عن اللغة الأم. 2- يترتب على هذا الموقف انعزال الفصحى وإبعادها عن مسرح الحياة، وقد يؤدي إلى إضعافها أو القضاء على مقوماتها الأساسية بصورة أو بأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 3- هذا الذي يحدث للفصحى ينتج منه القضاء على مقومات الوحدة الثقافية والفكرية والسياسية بين العرب. وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا بكل تأكيد. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد. إن اختيار العامية للأخذ بها في مراحل التعليم الأولى "وغيرها بالطبع" يوقعنا في محظور آخر، فالبلد العربي الواحد لا يقتصر التعامل اللغوي فيه على لهجة واحدة. وإنما هناك عدد من اللهجات التي تختلف فيما بينها، بسبب العوامل الجغرافية أو الثقافية أو غيرها، فلدينا في مصر مثلا لهجة أو عدة لهجات بالوجه البحري، وكذلك الحال في الصعيد، وهناك من جانب آخر في أي من هاتين المنطقتين الجغرافيتين الكبيرتين ألوان من الكلام وأنماط الحديث التي يستطيع الباحث المدقق أن يصنفها إلى ما يمكن أن نسميه بلهجة العوام ولهجة المتنورين ولهجة المثقفين. وهنا نجد أن الآخذ بمبدأ اللهجات نفسه في متاهة واضطراب حيث لا يستطيع علميا أن يحسم الأمر، فيفضل لهجة على أخرى، لأن أسس الاختيار أو التفضيل تساعده والقول باختيار العناصر العامة أو المشتركة بين هذه اللهجات قول نظري، يحتاج قبل الإقدام على تطبيقه إلى دراسات طويلة شاقة، وهو أمر -بطبيعة الحال- يحتاج إلى وقت طويل ومال كثير حتى نستطيع إنجازه بصورة علمية مقبولة. والحق أن هذا الاتجاه يعد في نظرنا خطوة على الطريق السليم نحو إصلاح تعليم اللغة العربية من شتى جوانبه، ومن هذه الجوانب تحديد نوعية اللغة في المراحل الأولى، ذلك لأن الكشف عن العناصر المشتركة أو النماذج اللغوية الشائعة في البيئة المعينة عامل من عوامل تحديد النطاق الذي ندور فيه نحو تعيين الصيغة اللغوية المناسبة لهذه المراحل. كما سوف يتبين لنا فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الاحتمال الثاني: قد يتصور بعضهم أن في مقدورنا أن نختار لهجة عربية معينة بقطع النظر عن بيئتها الجغرافية، لتكون نقطة البدء في تعليم العربية بالوطن العربي كله. وقد يبنون تصورهم هذا على أساس ما لهذه اللهجة من سعة الانتشار، وما تتسم به من خواص ومميزات تؤهلها للقبول. قد يظنون أن لهجة مثل لهجة القاهرة أو بغداد أو بيروت أو غيرها صالحة للقيام بهذا الدور الذي يتصورون، لما تحظى به كل واحدة منها من مقومات جغرافية وثقافية ولغوية خاصة. هذا التصور في رأينا ضرب من الخيال، أو هو وهم من الأوهام، لو نحن حاولنا أن نفرضه فرضا؛ إذ اللغات لا تفرض على الناس إلا على يد محتل يبغي السيطرة على مقدراتهم وحياتهم. وعلى فرض قبول هذا التصور الجانح في الخيال، فإن الأمر يحتاج إلى جهود جبارة، ودراسات مضنية، الأولى بها كلها أن توجه نحو الفصحى ومشكلاتها، ذلك لأن هذه الفصحى في أي شكل من أشكالها لها مكان معترف به في كل البلاد العربية، ولها سند من الواقع العملي، حيث تستخدم هنا وهناك في صورة من الصور في النشاط الكتابي أو الأدبي على أقل تقدير. يتبين لنا من هذا كله أن اللهجة أو اللهجات العامية لا ترشحها ظروفها الاجتماعية والقومية لأن تكون الصيغة اللغوية المختارة للتعليم في المراحل الأولى، إذا أخذت على إطلاقها، دون تعرف كامل على خواصها، وإدراك دقيق لمقوماتها، حتى نستطيع الحكم على مدى الاستعانة بها أو اختيار بعض عناصرها الصالحة لتكون بمثابة التمهيد أو التقديم لما ينبغي الإلقاء به للمتعلمين في هذه المراحل من مستوى لغوي مقبول من النواحي التربوية والقومية والثقافية جميعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أضف إلى ذلك أن هناك عاملا آخر مهما يقف في طريق الأخذ باللهجات العامية أخذا مطلقا. لم تحظ العامية حتى الآن بتراث أدبي مقبول على المستوى العربي كله. وكل أو جل ما قدم بها من أدب أو سجل من معرفة إنما هو لون من ألوان الثقافة الفردية أو البيئية الضيقة التي لا تصلح مسوغا للانحياز إليها من الوجهتين الثقافية والقومية. ويفقد هذا الأدب وتلك المعرفة بذلك عامل الاستمرار والشمول والتصوير الحقيقي للفكر العربي والحضارة العربية بالمعنى الصحيح. والانحياز إلى الفصحى والتمسك بفرضها في المراحل الأولى من التعليم اتجاه قد يقابل هو الآخر بمجموعة من الاعتراضات أو التساؤلات. قد يقال مثلا: 1- إن الفصحى في جملتها غريبة أو مجهولة الحدود بالنسبة لتلاميذ هذه المراحل المبكرة، ومن ثم كان فرضها عليهم مناقضا للمبدأ التربوي المقرر والمشار إليه سابقا وهو "وجوب الانتقال من المعلوم إلى المجهول". 2- فرض المجهول على التلاميذ يؤدي إلى نتائج عكسية، إذ المتوقع بل الحادث بالفعل أن يمل التلاميذ دروس اللغة ولا يقبلوا عليها. وهم إن أقبلوا طوعا أو كرها يقضون وقتا طويلا في فهمهما واستيعابها، الأمر الذي يعوق تقدمهم اللغوي المنشود، ومما يزيد في نفورهم وإعراضهم عنها حرمانهم من القدرة على استخدامها استخداما مثمرا في حياتهم العامة، حيث يقل هذا الاستخدام أو ينعدم، باستثناء دروس اللغة ذاتها. 3- إن مصطلح "الفصحى" إذا أخذ على إطلاقه دون تحديد قد يغري بعض القائمين على شئون اللغة بتقديم مادة لغوية مغرقة في البعد في معناها ومبناها عن مدارك المتعلمين في هذه السن، بسبب انتساب هذه المادة إلى مراحل تاريخية قديمة ليست في إطار خبرة التلاميذ أو معارفهم، أو بسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 احتوائها على خواص لفظية وتركيبية وإعرابية يشق عليهم أن يتعاملوا معها تعاملا إيجابيا. ومن ثم ينشأ حاجز قوي بين التلميذ واللغة يحرمه من قدرة التعبير عن نفسه. ويعوق انطلاق تفكيره ونمو معارفه وخبراته، إذ قد سلب أهم وسيلة من وسائل هذا الانطلاق وذاك النمو، وهذه الوسيلة هي اللغة بالطبع. 4- اللغة الفصحى في الأغلب الأعم لغة كتابة، وهيهات أن تؤخذ اللغة المأخذ الصحيح من المادة المكتوبة، لأنها جامدة ساكنة، محرومة من دفء الواقع وصدق الحقيقة. واللغة -في أساسها- نشاط فسيولوجي يقتضي: "مرسلا"، و"مستقبلا"، و"موقفا مناسبا"، أو سياق حال يعين على الفهم والتذوق، وأنى لنا العثور على هذه العناصر الثلاثة في النص المكتوب. هذا الذي قيل -ويقال دائما- قد يقف عقبة في طريق الأخذ بالفصحى في بداية التعليم، ويقتضي منا نظرا وتأملا قبل الإقدام على الطريق، وقبل أن ننساق مع العواطف إلى الوقوع في متاهات وبعد عن جادة الصواب. الرأي: من كل ما تقدم يتضح لنا أنه لا العامية وحدها ولا الفصحى على إطلاقهما بصالحة للبدء بها في المراحل الأولى من التعليم، إذن ما الصيغة اللغوية المناسبة، أو ما نوعية اللغة التي يمكن أن تتخذ منطلقا للتعليم اللغوي في هذه المراحل؟ إن تحديد هذه "النوعية" -كما قررنا من قبل- ينبغي أن يجيء على وفق المبدأين المقررين اللذين أوجبنا الأخذ بهما معا، وهما "البدء من المعلوم إلى المجهول، وأن تكون اللغة المختارة هي اللغة القومية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وبالرغم من أن هذين المبدأين ينتظمان معادلة صعبة "تتمثل في وجوب الأخذ بالعامية وحدها وفقا للمبدأ الأول وبالفصحى فقط تمشيا مع المبدأ الثاني" فإن النظر المتأني الفاحص يستطيع أن يمدنا بخطة تسلمنا إلى صيغة لغوية مقبولة. في مقدور البحث العلمي الدقيق أن يقرر أن هناك في البيئة العربية الواحدة مستويات لغوية ذات سمات وخواص مختلفة. أهم هذه المستويات وأقربها إلى الواقع وأكثرها شمولا واتساعا ثلاث هي: 1- العامية. 2- الفصحى المعاصرة. 3- فصحى التراث. العامية: هي لغة الحديث اليومي الدارج ولغة الحياة العامة بكل ما فيها من أوجه النشاط الإنساني على مستوى الجماهير العريضة. وهذه صيغة لغوية معروفة مستقرة في كل بلد عربي. والفصحى: المعاصرة صيغة لغوية تستخدم في الكتابة في الأغلب الأعم. فهي لغة التأليف في شتى مناحيه وفنونه. وهي بالإضافة إلى ذلك لها وجود من نوع ما في الكلام المنطوق والاستعمال الفسيولوجي الحي، كما يبدو مثلا في المحاضرات الجامعية الجيدة، والخطب السياسية الجادة، وفي الندوات العلمية ذات المستوى اللائق، وفي نشرات الأخبار في الإذاعة "بوسيلتيها الراديو والتليفزيون". وهذه الفصحى تنتظم -فيما تنتظم- خواص اللغة العربية الأساسية، فهي تراعي قواعد الإعراب في جملتها، وتسير -بصورة عامة- على قوانين نظم الكلام العربي. كما ألفناه في عصور العربية الأصيلة. ولكنها -في الوقت نفسه- طورت لنفسها وسائل حديثة من التعبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 لقد ضمت إلى ثروتها اللفظية أعدادا هائلة من الكلمات والصيغ، اقتضتها -وتقتضيها- مظاهر الحضارة المتجددة على مر الأيام. كما استحدثت هذه اللغة أنماطا من نظم الكلام وتأليفه، جاءت على ضرب غير معهود في العربية، بحسب المنصوص عليه في كتب اللغة، ولسنا نعدم أن نعثر على صور جديدة من النطق، لحقت ببعض الأصوات أو مواقع النبر أو أنماط التنغيم في الجملة والعبارة، حين تستخدم هذه اللغة في الكلام الفعلي. أما فصحى التراث: "وهو مصطلح لسنا من أنصاره، ولكنه يشيع بين الدارسين" فهي لغة كنوز الثقافة والحضارة العربية الأصيلة وترجمان الفكر العربي في العصور الزاهرة. وهي اللغة التي دونت قواعدها ونظمها واستقرت في كتب اللغة والنحو والبيان. وعلى وفق هذه القواعد وطرائق هذا النظم جاء التراث وآثاره العلمية المعهودة للمتخصصين وأضرابهم من الناس. وهذه اللغة بمميزاتها المعروفة لدى أهل الاختصاص قل أن يستخدمها كاتب أو أديب أو عالم في إنتاجه المعاصر. ولست أظن أن أحدا يستعملها في حديثه أو في أي لون من ألوان نشاطه اللغوي المنطوق، اللهم إلا في بعض الخطب المنبرية وما إليها، تلك الخطب التي لا تعدو أن تكون اقتباسا مباشرا من نصوص قديمة، لم يشهد أصحابها عصرنا الذي نعيش فيه. هذا التصنيف الثلاثي لمستويات العربية يرشدنا في الحال إلى طريق اختيار الصيغة اللغوية المناسبة للمراحل الأولى من التعليم في الوطن العربي كله. إننا نختار أن تكون الفصحى المعاصرة هي محور العمل في هذه المراحل وهدفنا الأول فيها، على ألا يقف بنا الأمر عند هذا الحد، بل لا بد من الالتجاء إلى المستويين الآخرين والتماس العون منهما، بحسب الحاجة، وبحسب الحال ومقتضياته التربوية والثقافية والقومية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 أما الفصحى المعاصرة هي أساس العمل ومحوره، فلأسباب منوعة نرشحها للقبول أكثر من الصيغ اللغوية الأخرى. السبب الأول: أن هذه الفصحى -بالأوصاف السابق ذكرها وموقعها في سلسلة التدرج اللغوي المشار إليه فيما مضى- هي "اللغة القومية" للعرب في عصرنا الحديث. إنها حين تستخدم في الكتابة أو الحديث يفهمها العرب أينما كانوا وأينما حلوا، وإن كان ذلك بدرجات تتفاوت قليلا بحسب السن أو الثقافة أو درجة التعليم. إن المؤلف أو البحث أو المقال المعين يكتب بها في القاهرة أو في بيروت أو بغداد أو غيرها من العواصم العربية فيلتقطه الناس ويتناولونه بالقراءة، ويدركون ما فيه في سهولة ويسر، ويستوعبون مادته إلى حد كبير. وإن استمع إليها العرب منطوقة في أي موقع في بلادهم استجابوا لها، وانفعلوا بها وأدركوا ما تحمله من معان وأفكار، بدون معاناة أو بذل مجهود خاص، وسبيلك إلى التأكد من هذا الذي نقول أن تستمع إلى خطاب سياسي جيد أو حديث علمي جاد أو إلى نشرة أخبار مبثوثة على الهواء من إذاعة هذا العربي أو ذاك. إن العربية الفصحى -بهذا الموقع وتلك الخواص والسمات- تفي بأغراض المبدأ الثاني الذي قررنا وجوب اتباعه فيما سبق، وهو "كون اللغة التي تقدم في المراحل الأولى من التعليم هي اللغة القومية". والأخذ بهذه الصيغة من الفصحى لا يعني انعزالنا عما سمي "بفصحى التراث" أو بعدنا عنها أو إهمالها بحال من الأحوال، إن الفصحيين كلتيهما حلقتان متصلتان اتصالا وثيقا، ليس بينهما انعزال أو حدود فاصلة فصلا تاما. إنهما أشبه بجانبين من جوانب شيء واحد اختص كل جانب منهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 بمجموعة من السمات التي لا تلبث أن تتلاشى أو تقل بمجرد الانتقال من وإلى هذه الصيغة أو تلك. على أنا قد قررنا منذ البداية وجوب الاستعانة بفصحى التراث والتدرج إليها، حتى نصل في النهاية "وهذا أمل كبير" إلى أسلوب عربي موحد، لك فيما بعد أن تسميه "اللغة المشتركة" أو "الفصحى" بدون نعوت أو أوصاف مميزة. السبب الثاني: الفصحى المعاصرة -كما نعهدها ونستخدمها الآن- ليست مجهولة تمام الجهل للمتعلمين، وإن شق عليهم التحدث بها أو استخدامها في التعبير عن ذوات أنفسهم، وهذه هي المشكلة الحقيقية التي تقابل تلاميذ المراحل الأولى، حيث إنه من المقرر وجوب البدء معهم بما يعرفون وبما يستطيعون استخدامه في الحديث، وبما يألفونه ويقع تحت خبرتهم من ثروة لغوية. وهنا ينبغي أن نقف وقفة متأنية لنتدبر الأمر. علينا في هذا الموقف أن نلجأ إلى طريقين اثنين متصلين غير منفصلين. أولهما: استغلال ما لديهم من معرفة بعناصر الفصحى المعاصرة، تلك المعرفة التي حصلوا عليها بطريق الاستماع إلى الأحاديث الجيدة من الإذاعة وغيرها من وسائل الإعلام والتثقيف. إن هذه العناصر - على الرغم من قلتها -تمثل خطوة على الطريق. ثانيهما: "وهو الأهم" سبيلنا إلى استغلال هذه العناصر الفصيحة وتنميتها هو اتخاذنا العامية "في الوطن العربي المعين" مدخلا إلى الفصحى ومعبرا إليها. وربما يسهل علينا ذلك ما نلمسه من تداخل بين الفصحى المعاصرة وبعض عناصر العامية، وبخاصة فيما يتعلق بالثروة اللفظية. إننا -بقطع النظر عن قواعد الإعراب وبعض قواعد النظم- نستطيع الانتقال من العامية إلى الفصحى، كما نستطيع أن نعثر على عناصر فصيحة مهمة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ثنايا العامية. إن العامية في الوقت الحاضر ليست بعيدة عن "الفصحى المعاصرة" بالقدر الذي يظنه بعض الناس. إن الدراسة الجادة والبحث العلمي الدقيق كفيلان بالعثور على عناصر مشتركة كثيرة. تصلح في نظرنا نقطة بدء موقوت لتعليم اللغة القومية في المراحل الأولى. وهنا ينبغي أن نشير إلى أمرين مهمين: 1- إن هذا المنهج ليس دعوة إلى العامية بحال من الأحوال. إنه على العكس من ذلك يرمي إلى خدمة لغتنا القومية، وذلك بسبب الوصول إليها والتمكن منها من طريق واقعي مألوف للمتعلمين، ومن ثم يقبل المتعلم على ما يلقى إليه ولا يمله أو يرغب عنه. 2- إن الأخذ من العامية ليس أخذا مطلقا في المادة أو الفترة الزمنية. أما من حيث المادة فهذا الأخذ مشروط بعملية الانتقاء والاختيار، وهو من حيث الفترة الزمنية أخذ موقوت كما قررنا، فلا علينا إن نحن أخذنا -في البداية- بعناصر عامية مختارة لفترة محددة، محاولين التقليل أوالتخلص منها بالتدريج، حتى يقف التلميذ على أرض صلبة يستطيع الانطلاق منها نحو الفصحى بدرجاتها ومستوياتها المختلفة. هذا الطريق بجانبيه يضمن لنا الوفاء بالمبدأ الأول المقرر الأخذ به في عملية التعليم بعامة. وهو مبدأ "وجوب الانتقال من المعلوم إلى المجهول" ومعناه في النهاية أن الأخذ بالفصحى المعاصرة مع الاعتماد على عناصر مختارة من العامية والتدرج من هذه الفصحى إلى فصحى التراث يتمشى مع المبدأين المقررين والواجب اتباعهما معا في تعليم اللغة. وهنا قد يتساءل الناس: كيف تتخذ العامية مدخلا إلى الفصحى ومعبرا إليها؟ والإجابة عن هذه التساؤل تتلخص في وجوب القيام بعملية اختيار وانتقاء. وهذا الاختيار في حاجة إلى دراسة شاملة واسعة للهجات، لتعرُّفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 تلك العناصر التي يمكن أن تستقل في هذا الشأن. ولقد حاولت دراسات سابقة الإجابة بدورها عن هذا السؤال. ولكن أيا منها لم يخرج متكاملا، بحيث يمكن الاعتماد عليه جملة وتفصيلا. إنها في عمومها دراسات ضيقة المجال، محدودة الإطار، قنعت بالنظر في الثروة اللفظية لعدد محدود من التلاميذ أو المدارس في بيئات معدودة، وألقت بنتائج الأخذ بها أخذا مطلقا في هذا المجال المنذر بالخطر. ولسنا نزعم أننا قدمنا بمثل هذه الدراسة أو ننتوي القيام بها وحدنا. ولكنا نستطيع أن نضع أمام المهتمين بشئون تعليم العربية عدة مبادئ يمكن الاسترشاد بها أو الإضافة إليها أو تعديلها. يمكن الاستعانة بالعامية في مجالين اثنين: المجال الأول: مجال الألفاظ ألفاظ اللغة هي اللبنات التي يتكون منها البناء الكبير، ومن ثم كان الاهتمام بحصرها وجمعها الشغل الشاغل للغويين في القديم والحديث، لأنها تمثل الثروة اللفظية للغة المعينة. غير أنه ينبغي في مقامنا هذا الاهتمام بحصر الألفاظ التي تسعفنا في هدفنا هذا، والتي تمدنا بالعون في الأخذ بيد المتعلم في هذه المراحل المبكرة. وينبغي أن نخضع هذا الحصر لمبدأ الشيوع في الاستعمال، أي: أن نوجه العناية أول ما نوجه نحو جمع الألفاظ التي يشيع ذكرها ويكثر ترددها على ألسنة الأطفال القادمين إلى المدارس أو المقيدين بمراحلها الأولى بالفعل. والاهتمام بمبدأ الشيوع جد مهم، لأن كثرة استعمال المتعلمين للكلمة المعينة تعني أنها مألوفة لهم وتقع تحت خبرتهم المباشرة ومن ثم يصبح استغلالها استغلالا مثمرا ناجحا. والمفروض أن تحديد الشيوع أو عدم الشيوع أمر يخضع لعمليات إحصائية، مسبوقة بمسح شامل للقطاع اللغوي المعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 والكلمات أو الألفاظ التي يمكن الاستعانة بها في هذا المجال ذات أنواع وأنماط متعددة. أهمها في نظرنا "آخذين في الحسبان اللهجة المصرية وحدها" ما يلي: أ- كلمات فصيحة: بالعامية كلمات فصيحة صرفة، جاءت على أوزان منوعة أو أجناس من الكلم المختلفة، وتنتمي إلى مجالات متعددة من ألوان الثقافة والخبرة. وقد تستعمل هذه الكلمات في مدلولاتها الأصلية أو فيما يقرب منها، وقد تبعد عن هذه المدلولات بصورة أو بأخرى. وهذه نماذج يكثر ورود أمثلتها في العامية المصرية. 1- أسماء: وقد تكون ذات دلالات حسية أو معنوية مجردة، من ذلك: باب، شارع، ولد، بنت، شمس، حب، حس، عدل، حرية، أمل ... إلخ. 2- أفعال: والفعل الماضي بالذات أشهرها وأكثرها استعمالا. أما المضارع فقد أصابه تطور ملحوظ، فقد تدخل الباء على صيغة بوصفها سابقة ذات دلالاة معينة، أو الحاء متلوة بفتحة للإشارة إلى زمن معين: "باكل، بيشرب" "حاكل، حيشرب" وكذلك فعل الأمر، بعدت أمثلة كثيرة من أوزانه وصيغه عن قواعد الفصحى، بسبب عدم مراعاة قواعد البناء وما ينتج عن ذلك من تغيير في مكونات الصيغة أو الوزن. ويظهر هذا بوجه خاص في الأفعال الجوف والناقصة، حيث يقولون: روح، بيع، وأرمي، غني "للمفرد المذكر". أما الأمثلة الماضية فهي كثيرة جدا ومنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ضرب، كتب، فتح، نادى، غنى، راح، باح1 ... إلخ. 3- أوزان بذواتها: وزن "أفعل" -دالا على لون أو عيب- جاءت أمثلته كلها تقريبا على وفاق الفصحى بدون تغيير: أحمر، أخضر، أبيض، وأعمى، أعود ... إلخ. "أفعل التفضيل متلوا بمن، هو الآخر كثير الورود والاستعمال على نظام الفصحى" "أسرع، أحسن، أفضل، أكبر". أسماء الفاعلين والمفعولين على وزن "فاعل ومفعول" "ما عدا ما صيغ من فعل أجوف أو ناقص"، يكثر ورودها على صورها الفصيحة، بدون تغيير: اسم الفاعل اسم المفعول فاهم مفهوم عارف معروف كاتب مكتوب كما نلاحظ أن كثيرا من أسماء الزمان والمكان من الثلاثي ذات حظ كبير من الاستعمال على وفق ما ورد في الفصحى: مكتب، مدخل، ملعب، مرمى ... إلخ. وينتسب إلى هذا الباب "باب الكلمات الفصيحة الصرفة" كلمات تستعمل على وجهها الصحيح ويظن الناس أنها عامية خالصة، من هذه الكلمات:   1 لم نذكر شيئا من الحروف لأنه لا قيمة لاستعمالها وحدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 خر = في القاموس: خر الماء سقط من علو إلى سفل بصوت. خام = في القاموس: الخام الجلد لم يدبغ. رف = في القاموس: الرف شبه الطاق عليه طوائف البيت. سك "الباب" = في القاموس: السك: سد الشيء. ولعل "سك" أصلها "صك" بالصاد وفي القاموس: صك الباب أغلقه. والمعنيان كما ترى متقاربان، كما أن النطق فيهما أيضا متقارب. خش = في القاموس: خششت فيه دخلت. داس = في القاموس: الدوس الوطء بالرجل، وفي المختار: داس الشيء برجله. المداس = في القاموس: المداس الذي يلبس في الرجل. شاف = في القاموس: شاف الشيء شوفا جلاه. وهكذا نستطيع أن نأتي بمئات من الكمات من هذا القبيل، لو نحن كنا بصدد الحصر، ولكنا نعني هنا بالتمثيل فقط1. ب- كلمات يمكن تفصيحها: نقصد بالتفصيح محاولة إرجاع الكلمة إلى أصل فصيح، إما بالإشارة إلى ما أصابها من تغيير أو تطور في الوزن أو في بعض الأصوات، وإما بردها إلى لهجة قديمة. وهذا النوع من الكلمات ذو أمثلة فائقة الحصر والعد، ومن ثم سوف نعني هنا بإيراد أمثلة لنماذج مختلفة فيها: 1- كلمات ذات أصل فصيح ولكن أصاب بعض أصواتها الصامتة شيء من التغيير في النطق، مثل:   1 يمكن الاستعانة في هذا الباب "باب الكلمات الفصيحة ويظن الناس أنها عامية" بكثير من الدراسات الجادة، مثل "تهذيب الألفاظ العامية" للشيخ محمد على الدسوقي و"معجم الألفاظ العامية ذات الأصول العربية" للدكتور عبد المنعم سيد سالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 "زعق، زقاق" "تنطق القاف همزة في القاهرة ونحوها من المدن المصرية". "جمل، جميل" "ينطق الجيم الفصيحة المركبة "جيما انفجارية خالصة على أن هذا النطق الثاني نفسه يروى أنه لهجة قديمة فصيحة". "تلاته، سوره" "ينطق الثاء تاء في الأولى وسينا في الثانية". "زكي، زليل" "ينطق الذال فيهما زايا". "ظلم، ظلام" ينطق الظاء فيهما زايا مفخمة". كلمات أصاب بعض حركاتها تغيير: شباك "بكسر الشين والفصيح ضمها". شتيمة "بكسر الشين والفصيح فتحها". فتك "بكسر الفاء والتاء والفصيح "فتك" بفتح الفاء وكسر التاء". فيهم يسمع "بكسر الأول والثاني فيهما والفصيح فتح الأول وكسر الثاني، وهذا الوزن من الأفعال كثير جدا". ومن المفيد أن نعلم أن هذا التغيير في الحركات أدى بطبيعة الحال إلى تغيير الأوزان، وهذا التغيير بصورتيه ملحوظ في الأفعال المضارعة إلى حد كبير، كما نعلم جميعا. ومن أشهر أمثلة تغيير الحركات بسبب التطور الصوتي تحويل الفتحة المتبوعة بياء ساكنة إلى حركة طويلة أمامية نصف ضيقة وتحويل الفتحة المتبوعة بواو ساكنة إلى حركة طويلة خلفية نصف ضيقة، مثل بيت "bayt" في العامية "beet" يوم "yawm" في العامية "yoom". 3- كلمات أو أوزان جاءت على وفق لهجة قديمة، وهذا النوع أمثلته كثيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وذات أشكال عدة، وبسبب هذه الكثرة سوف نشير إلى الظاهرة الأساسية، مع ذكر نماذج محدودة: أ- تسهيل الهمزة: "فار، راس" وذلك معروف في لهجة عربية قديمة. ب- كسر حرف المضارعة: "يفهم، يفتح"، وهو لغة بهراء. جـ- حذف نون "من" الجاره: ملآن "من الآن" وهو لغة خثعم وزبيد من اليمن. د- حذف اللام والألف من "على" الجاره. علمفرس عللحته "على اللجنة" وهو لغة بلحارث. وهذا السلوك في العامية أشبه بقانون مطرد. وهناك إلى جانب ذلك أمثلة متفرقة جاءت على أوزان وصور مختلفة، وكلها -أو جلها- يمكن ردها إلى أصل فصيح، بشيء من التعمق والنظر الدقيق، من ذلك: "هو" بتشديد الواو. "امبارح" بالميم بدلا من اللام في أداة التعريف، وهذه لهجة معروفة. "مديون" بالتصحيح بدلا من الإعلال "مدين"، ويروى أنها لهجة تميم. 4- كلمات حدث فيها تغيير بالزيادة أو القلب أو الإبدال. "بحلق" وأصلها الفصيح "حملق". "يطوح" وأصلها الفصيح "يتطوح". "راجل" بزيادة ألف وتغيير في الأصوات. جـ- كلمات معربة أو دخيلة: وهذه كثيرة الاستعمال في العامية، وقد دخلتها "وغيرها" عن طريق الاتصال الثقافي والعلمي بلغات أجنبية مختلفة. وهي في معظمها تعبر عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 مظاهر الحضارة والتقدم العلمي في العصر الحديث. ولسنا هنا بصدد التمثيل لهذا النوع من الكلمات، فهي معروفة لنا جميعا، ونستخدمها في حياتنا العامة والخاصة في المجالات المختلفة. والأهم من ذلك كله أن نقرر أنه لا ضير علينا مطلقا إن نحن استخدمنا هذه الكلمات على المستويين العامي والفصيح، لأنها ذات مدلولات خاصة، ليس من السهل أحيانا التعبير عنها بألفاظ عربية. أو قل: إنه ينبغي -في أقل تقدير- أن نستعملها فترة معينة من الزمن حتى تستقر مدلولاتها في أذهان الناس، وحينئذ علينا أن نحاول ترجمتها بالتدريج، كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا. المجال الثاني مجال الجمل والعبارات: يمكن أن نستعين كذلك بالعامية في مجال الجمل والتراكيب. والمعروف أن اللغة ليست كلمات أو ألفاظا مفردة، وإنما هي كلمات وألفاظ صنعت في نسق معين، وضم بعضها إلى بعض على نظام خاص، وفقا لقواعد اللغة المعينة في ذلك. وحصيلة هذا الضم والنظم في التراكيب التي يمثل لها عادة بالجمل أو العبارات. والحق أن الاستعانة بالعامية في مجال الجمل والعبارات أجدى من الجري وراء الألفاظ، ولكن الواقع الملموس يمنعنا من هذه الإفادة على الوجه المأمول، ذلك لأن قواعد نظم الكلام في العامية خرج في عمومه عن قوانين الفصحى في ذلك إلى حد واضح، وبالرغم من هذا سوف نحاول رسم خطة موجزة يمكن جعلها مدخلا لدراسة شاملة لهذا الموضوع. ينبغي أن تكون الاستعانة في هذا المقام مركزة على أنماط الجمل، لا على مكونات هذه الأنماط، ولكن لا ضير علينا إن نحن أخذنا في الحسبان هذه المكونات كذلك إذا كانت فصيحة أو قابلة للتفصيح على الوجه الذي بينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وأشهر أنماط الجمل في العامية التي يمكن الأخذ بها أو الانطلاق منها نمطان معروفان هما: 1- مبتدأ + خبر 2- فعل + فاعل والنمط الأول أكثر ذيوعا واستعمالا في العامية، وليس بعيدا عن الفصحى، حتى إذا كان الخبر فعلا، غاية الأمر أنه قليل نسبيا، وشروط استعماله بمقامه المناسب له حسب قواعد البلاغة العربية. والمكون الثاني لهذا النمط الأول قد يكون اسما مفردا أو جملة فعلية أو اسمية أو شبه جملة. ومكونات هذا النمط بجزأيه معروفة للتلميذ بحسب أنواعها سواء أكانت أسماء أم "بالنسبة للمكون الثاني وحده" أفعالا أم شبه جملة. ووظيفتنا استغلال هذه المعرفة السليقية بحشو هذا الموقع بكلمات فصيحة، أو كلمات لها أصل فصيح. أما النمط الثاني "وهو الأقل ورودًا في العامية" فينبغي الأخذ به بطريق تدريجي حتى نصل بالمتعلم إلى درجة تقربه من سلوك الفصيحة في ذلك. على أن هذين النمطين إنما يمكن العمل بهما في الإثبات بصورة أوسع وأشمل من زميليه الاستفهام والنفي. ذلك لأن جمل الاستفهام الخاص، قد تغيرت قواعد نظمها إلى حد كبير، من ذلك مثلا أن أداة الاستفهام الخاصة تأتي عادة في نهاية الجملة في اللغة العامية، على العكس من المتفق عليه في الفصحى: الولد فين؟ × أين الولد؟ هذا بالإضافة إلى أن واحدا من مكونات الجملة "وهو أداة الاستفهام" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 قد يعد بعدا واضحا عن صيغه المقررة في الفصيحة، بالرغم من عدم استحالة تفصيحه بصورة أخرى. أما جمل الاستفهام العام فيمكن الالتجاء إليها وينبغي استغلالها. فهي في عمومها ما زالت -في نظمها- تجري على قواعد العربية باستثناء أداة الاستفهام: الهمزة أو "هل". الولد في البيت × آلولد في البيت؟ وهنا تنبغي الإشارة إلى أن على المعلم واجبا ملحا في وجوب تصوير النطق تصويرا صادقا بحسب قواعد أنماط هذه الجمل. إن العامية هنا استعاضت بالتنغيم عن الأداة، وخاصة هذا التنغيم، إنه تنغيم صاعد للإشارة إلى عدم تمام الكلام، وتمامه إنما يكون بالإجابة عن السؤال. وأنماط جمل النفي في العامية قد طورت لنفسها قواعد من النظم ليس من السهل "في هذه المراحل المبكرة" أن نفحصها، حيث إن ذلك يأخذ وقتا طويلا ويحمل المتعلم عنتا وجهدا: الولد "أو الواد" مش فاهم "عامية" الولد ليس فاهما "فصيحة". ما كتبتوش "عامية" × لم أكتبه "فصيحة" ... إلخ. ويمكن -بدلا من ذلك- بذل شيء من الجهد في سبيل تقديم أنماط منفية فصيحة يحتاج انتفاؤها إلى دقة فائقة من المعلم. ومهما يكن من أمر فهذه إشارة إلى الطريق، وعلى المهتمين بشئون التعليم أن يعكفوا على دراسة هذا المجال. إنهم إن فعلوا ذلك بصدق وإخلاص لا بد واصلون إلى نتيجة يمكن الاعتماد عليها والانطلاق منها إلى خط تعليمي واضح سليم. هذا الطريق الذي رسمناه يوضح لنا كيف يمكن أن نأخذ بيد التلميذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 منطلقين به من مادة يعرفها إلى مادة مجهولة أو تكاد تكون كذلك. وبالمثل نستطيع أن نتدرج به من الفصحى المعاصرة إلى فصحى التراث، وبذلك تكمل حلقات لغتنا القومية وندخل في مجال موحد هو مجال العربية في عمومها، بدون تصنيف جاد لمستوياتها. ولكن الالتجاء إلى فصحى التراث تقتضي منا حذرا وعناية، ويوجب علينا النظر في الأمر بموضوعية غير مشوبة بالعواطف أو متبوعة بتسحر وأسى. نستطيع أن نأخذ من فصحى التراث أسهل نماذجها، وأقربها إلى المعهود لدى المتعلم وأن نسير به في خطى متدرجة. وليس يعوزنا العثور على كثير من النماذج التي تفي بغرض التعليم السليم والحصول على قدر كاف من كنوز تراثنا وثقافتنا الأصيلة. القرآن الكريم مملوء بالنماذج الرائعة في السهولة وقرب التناول. ولذلك الحديث الشريف والأدب العربي -نثرا وشعرا- نستطيع أن نقتطف منهما نماذج كثيرة منوعة، تنطلق كلها بالسهولة والقرب من إدراك المتعلمين في أية مرحلة، ولكن الأمر يحتاج إلى عناية في الاختيار، وإلى دقة في رسم خطة الأخذ منهما، بحسب الحاجة ومقتضيات السن والمستوى الثقافي للطلاب. هذا السبيل الذي رسمناه إن اتخذناه كفيل بأن يضع لنا أساسا سليما ومنطلقا صالحا لتعليم اللغة في المراحل الأولى، وجدير أن يربط حاضرنا بماضينا ويفتح أعيننا على مستقبل لغوي أغنى مادة وأكثر ثروة. ولكن هذا المنهج يحتاج إلى عمل متواصل ودراسات مستمرة، تتمثل في النظر الدائم في العامية لتعيين الصالح منها وتحديد القدر المناسب للأخذ به من حيث القلة والكثرة، بحسب الترقي في مراحل التعليم، كما تتمثل في الرجوع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فصحى التراث لمراجعة آثارها وكنوزها واختيار ما يتسق مع هذا المنهج، بحيث يكون الانتقال إليهما انتقالا طبيعيا غير مصطنع، حتى تأتي في نهاية المطاف إلى صيغة لغوية عامة مقبولة تمثل ثقافتنا في كل العصور وتعبر عن حاجاتنا في مجتمع حديث، مملوء بمظاهر العلم والحضارة. إرشادات إلى مبادئ الاختيار: إنه من الخطأ والخطر أن تلتقط المادة اللغوية التقاطا وتقدم إلى التلاميذ دون درس ونظر دقيقين، بل ينبغي أن يقوم الأمر على أساس من الاختيار الذي تحدده مجموعة من المبادئ أو الذي يتحرك ضمن إطار عام في أقل تقدير. ولسنا بقادرين هنا أن نأتي على كل هذه المبادئ أو معظمها أو أن نحدد إطارا معينا يلتزم به الدارسون. ومن ثم سوف نقنع بذكر أمثلة من القواعد التي يمكن الاسترشاد بها عند اختيار المادة، وهي قواعد تهدف إلى تسهيل الأمر على التلاميذ ومساعدتهم على تقبلها بدون عناء أو بذل جهد كبير. من المبادئ المقررة بين المربين وجوب الحرص على فكرة التوازن بين جوانب المادة، وبخاصة في حالتنا هذه، تلك الحالة التي تأخذ من الفصحى المعاصرة محورها الأساسي، مع امتدادها إلى العامية وفصحى التراث للأخذ منهما. فها هنا ينبغي ألا يطغى جانب على الآخر، وإنما تمثل الجوانب كلها تمثيلا مناسبا، وفقا لظروف الحال، ومقتضيات المستوى الثقافي للتلاميذ. وعلينا في كل الحالات أن نأخذ في الحسبان تلك العناصر اللغوية المختلفة التي من شأنها أن ترشح المادة للاختيار. هذه العناصر ذات أنواع شتى منها ما يتصل بالكلمة المفردة ومنها ما يختص بالجملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أولا: في الكلمة هناك صفات صوتية وصرفية ودلالية جديرة أن تجعل الكلمة مستساغة وأكثر قبولا. أ- صفات صوتية: 1- الأقرب إلى روح المنهج الصحيح أن تخلو الكلمة من الأصوات الصعبة في بداية الأمر، كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا. من هذه الأصوات الصعبة بالنسبة للصغار: الثاء والذال والظاء، وحروف الإطباق: الصاد والضاد والطاء "والظاء". أما الجمع بينها أو تتابعها في كلمة واحدة فهو أمر يكلف المتعلم جهدا وعنتا، كما في نحو: اضطر، اصطبر، إلخ. وترجع الصعوبة في نطق هذه الأصوات إلى طبائعها وإلى عدم إتيان الكبار لها على الوجه الصحيح1. 2- الجمع بين أصوات أقصى جهاز النطق "الحنجرة وأقصى الحنك" يمثل صعوبة ظاهرة، كالجمع بين العين والهاء، أو العين والخاء. 3- الكلمات إذا قلت مقاطعها وقصرت كانت أفضل، وأولى بالاختيار. على أن هناك أصواتا تألفها الأذن العربية ويكثر الناس من استعمالها لاحتوائها على عنصر الوضوح السمعي أو عنصر "الغنائية". من هذه الأصوات ما يعرف بأصوات الذلاقة2 التي يجمعها قولهم "مر بنقل" وكذلك أصوات الرنين أو ما تسمى بأشباه الحركات ويجمعها علماء   1 الصعوبة والسهولة أمران نسبيان، فالثاء والدال والظاء في بلد مثل الكويت لا تمثل صعوبة للصغار لكثرة ورودها على ألسنة الكبار من حولهم. 2 للتوسع في موضوع أصوات الذلاقة، اقرأ لنا بحث "الأصوات المتوسطة والأصوات الذلق، رأى في المفهوم وبيان للخواص" نشر بمجلة البحوث والدراسات العربية، العدد 25، يوليو/ تموز 1996، ص47-65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 العربية في قولهم "لن عمر"، أو "لم يروعنا" في رأي بعضهم وفي استطاعتنا استغلال هذه الخاصة لتلك الأصوات باختيار الكلمات التي تنتظمها. ب- صفات صرفية: 1- الأولى أن تكون الكلمات على وفق الأوزان السهلة المقبولة: "فعل" أولى من "أفعل"، وهذا أفضل من "افعلل" إلخ. 2- الكلمات الخالية من اللواصق " " أفضل من تلك التي تشحن بهذه اللواصق، فأعطى مثلا أفضل من "أعطاكها" حيث جاء الفعل الأول مجردا من أية لاصقة على حين ورد الثاني بلاحقين " ". جـ- من حيث الدلالة: إن الاهتمام بالدلالة أو المعنى لا يقل عن الاهتمام بالشكل والصورة للكلمة، إذ لا خير في كلمة غمض معناها أو التبس على المتعلم. إن الاغتناء بالألفاظ دون مراعاة المعاني خطأ وخطر، إذ يجعل من التلميذ مجرد آلة يردد ما يسمع دون أن يعي شيئا. ومن ثم ينبغي أن نقرر أن البدء بالكلمات ذات المعاني المحسة خطوة على الطريق السليم، أما الألفاظ ذات المعاني المجردة أو المفهومات الفلسفية أو الجدلية فهيهات أن يفيد منها المتعلم في هذه السن المبكرة. وعلى هذا النهج ننصح المربين بالتقليل ما أمكن من استعمال الكلمات التي تؤدي إلى سوء الفهم أو الغموض، كالمشترك اللفظي والتضاد والمجاز، وما إلى ذلك من تلك الكلمات التي تحتمل أكثر من معنى، ولا يمكن التفريق بين معانيها إلا في سياقات معينة، ربما لا تقع تحت خبرة المتعلمين الصغار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ثانيا: في الجملة للجملة هي الأخرى صفات تتعلق بالنظم وطرائقه تجعلها أقرب منالا وأكثر قبولا لدى المتعلم الصغير. من هذه الصفات وأهمها: 1- الجملة القصيرة أولى من الجملة الطويلة، لأن الطويلة تتطلب من التلميذ مجهودًا يتمثل في عملية الربط بين مكوناتها الداخلية. والقصر والطول من الأمور النسبية على كل حال، وهنا تظهر براعة المعلم في تحديد ما يختار. ومهما يكن من أمر ينبغي ألا تحشى الجملة بأعداد من المتعلقات أو المكلمات التي يمكن التعبير عنها في جمل أخرى مستقلة. 2- الجملة البسيطة أولى من الجملة المركبة. ومن أمثلة الجمل المركبة تلك التي تشتمل على "أداة ربط" مثل "إن" و"إذا". إن الجملة من هذا النمط تحتوي على جملتين بسيطتين تنتهي كل واحدة منهما بنغمة موسيقية خاصة: الأولى "في حالتنا هذه" تنتهي بنغمة صاعدة إشارة إلى أن الكلام لم يتم، والثانية تنتهي بنغمة هابطة دلالة على انتهاء الكلام. وإنه لمن الصعب على المتعلم الصغير أن يأتي بنغمتين من نمطين مختلفين في منطوق واحد. نعم، قد يستطيع نطق هذه الجملة المركبة ولكنه سوف يخطئ في موسيقاها، دون شك. 3- ينبغي أن تراعى قواعد التقديم والتأخير في الجملة، بحسب الشائع والأكثر استعمالا. فالمبتدأ الأولى به أن يكون في موقعه، لا أن يسبقه الخبر، والمفعول به ينبغي أن يأخذ مكانه حسب القواعد العامة، إذ تقديمه على الفاعل أو عليه وعلى الفعل معا يؤدي إلى تعقيد ظاهر. تلك إشارات على الطريق أو نماذج مما ينبغي الأخذ به من صفات وسمات لغوية عند القيام بعملية اختيار المادة، سواء انتخبت هذ المادة من العامية أو من الفصحى بمستوييها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 على أن الأمر كله في حاجة ملحة إلى بحوث كثيرة، يضطلع بها المربون واللغويون معا، علنا في نهاية المطاف نصل إلى مستوى لغوي مقبول. وسائل التقريب بين المستويات المختلفة: يفترض أن اللغة التي يمكن أن تقدم إلى المتعلمين في هذه المرحلة هي اللغة العامية، أو ما يقرب أن يكون كذلك على أحسن تقدير. ولكنا -كما يرى القارئ في الصفحات السابقة- لم نأخذ بهذا الافتراض على إطلاقه وإنما رأينا أن يكون محور عملنا هو الفصحى المعاصرة مع الامتداد بحدودها نحو العامية وفصحى التراث. وموضوع التقريب بين المستويات اللغوية موضوع عام، يحتاج إلى بحث مستقل. ولكنا تتميما للفائدة -نستطيع أن نرسم خطوطا لجوانبه، ووسائله. من أهم هذه الوسائل ما قمنا به بالفعل في بحثنا هذا. ونعني بذلك الاهتمام بالصيغة اللغوية الوسطى "الفصحى المعاصرة" مع الاتجاه نحو العامية لالتقاط فصيحها أو اختيار ما يمكن تفصيحه والسير بالتدريج نحو فصحى التراث، على الوجه الذي بيناه سابقا. أما الوسائل أو العوامل الأخرى فهي كثيرة، وهي متدخلة متشابكة، تتعاون فيما بينها تعاونا وثيقا نحو الوصول إلى هدف محدد هو تكوين ما يمكن أن يسمى باللغة المشتركة أو اللغة القومية العامة، ويمكن تسميتها في الوقت نفسه "باللغة الفصحى أو الفصيحة". وهذه الوسائل كلها يمكن ضمها تحت عامل واحد هو "التثقيف اللغوي القومي"، والنعت "بالقومي" جد مهم، لأنه يخرج العامية من الحسبان إذ هي ليست لغة قومية للعرب، وإنما هي صور من الكلام مختلفة، بحسب اختلاف البيئات والمستويات الثقافية الاجتماعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وأمثلة هذا التثقيف اللغوي القومي كثيرة، ولكنها تعتمد جميعا على التمسك بصيغة لغوية مقبولة ثقافيا وقوميا. تلك الصيغة أشبه بما يمكن أن يسمى "اللغة الأساسية" أو "اللغة النموذجية" إلخ. من هذه الأمثلة: 1- تثقيف الأسرة: تثقيف الأسرة تثقيفا لغويا أمر ذو خطر وبال، حيث يتلقى الطفل مبادئ الكلام وأسسه في محيط هذه الأسرة. إنه يشب على وفق ما يسمع. 2- وسائل الإعلام: الإذاعة "بوسيلتيها الراديو والتليفزيون" والصحافة من أخطر الوسائل للتقريب بين المستويات اللغوية، إن هي اتخذت لنفسها سبيلا واضحا وخطة مرسومة في المجال اللغوي. الإذاعة يسمعها الصغار والكبار، وكذلك يسمعها الناس على اختلاف طبقاتهم وحرفهم وصنائعهم. والكلام المسموع ذو تأثير فعال. فإذا جرت هذه الإذاعة على استعمال نمط من الكلام موحد وصحيح ألفه المستمعون، وأغلب الظن أنهم سيقلدونه ويسيرون على منواله. وكذلك الحال بالنسبة للصحافة، وإن كان جمهورها أقل من جمهور الكلمة المسموعة، ولكنها لا بد أن تترك أثرها على القراء. 3- الغناء والأدب بفنونه: الغناء كلمات مسموعة تلقى بلحن مطرب مشوق. فإن جاءت صحيحة مقبولة فعلت فعلها في نفوس الناس. ولعلنا نذكر أن رجل الشارع يردد من وقت إلى آخر بعض الأغاني الفصيحة، كتلك القصائد المشهورة التي غنتها أم كلثوم، من أمثال "نهج البردة" ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 والأدب المكتوب والمسموع له دوره الملحوظ في عملية التقريب بين المستويات اللغوية. وقديما قامت أسواق عكاظ وغيرها من الأسواق المعروفة في تاريخنا الأدبي بدور ملموس في التقريب بين اللهجات العربية كان الشاعر يعند إلى قصيدته فيؤلفها بلغة مشتركة، حتى يفهمها الناس الذين يفدون إلى السوق من بيئات مختلفة ذات لهجات منوعة. 4- المسرح والسينما: يلعب المسرح والسينما دورا له أثره في حياة الناس. ويستطيع هذان الجهازان أن يقوما بوظيفة تثقيفية جماهيرية، أساسها اللغة الفصيحة، أو لغة مثقفة تصلح واصلة بين العامية الصرفة والفصحى. 5- النشرات الحكومية: الملاحظ أن المكاتبات الحكومية لا تعني العناية الكافية باللغة على العكس مما ينتظر الناس، لأن صدورها عن هذه الجهات الرسمية له أثره ويقيننا أن اهتمامها بالأسلوب اللغوي الصحيح سبيل من سبل التقريب وتكوين لغة قومية مشتركة. 6- الكتب الثقافية: يجدر بالمسئولين أن يعنوا بالكتاب العام من حيث المضمون والشكل، ذلك لأن مثل هذه الكتب لها جمهور عريض، ومن ثم يجدر بنا أن ننتهز هذه الفرصة فنعني بلغتها، وبذلك تصبح رافدا من روافد الصحة اللغوية. مع ضرورة ضبط هذه المواد بالشكل ضبطا كاملا. وأن لا ننسى مجلات الأطفال. فهي واحدة من أهم وسائل التقريب، غاية الأمر أن تحرير هذه المجلات يحتاج إلى ذكاء وحسن تصرف في المادة اللغوية، حتى يستطيع الصغير الإفادة منها على الوجه المبتغى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 بهذه الوسائل وغيرها يتسنى لنا أن نقوم بإصلاح لغوي قومي، وما أشد حاجتنا إلى لغة موحدة "أو شبه موحدة" يستخدمها الناس في مجالات حياتهم العامة. والخاصة في مختلف البلدان العربية. ذلك أمل ننشده، ونظن أننا سائرون إليه وواصلون إلى الدرب بإذن الله، متى صحت النية، وصدقت العزائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 المبحث السادس: الأخطاء الشائعة في نظام الجملة بين طلاب الجامعات مدخل ... المبحث السادس: الأخطاء الشائعة في نظام الجملة "بين طلاب الجامعات" بالعنوان المذكور أربع كلمات تدخل في إطار المصطلحات التي ينبغي تحديدها منذ البداية، حتى تأتي المناقشة متسقة مع ما وضع لها من مبادئ وضوابط منهجية، تكون النتائج واضحة خالية من الاضطراب. والملاحظ أن كثيرا من الناس -مختصين وغير مختصين- يتناولون هذه المصطلحات وأمثالها بطريقة من اثنين. فقد يستعلمونها بدون تحديد من أي نوع، واهمين أن معانيها واضحة مستقرة في العرف العام، أو يحاولون تقديم نوع من التعريف بها، ولكن دون ربط هذا التعريف بمنهج علمي معين أو اتجاه في البحث واضحة معالمه ورسومه. وكلا الطريقين -في نظرنا- غير محمود، لأن المصطلحات العلمية لا يمكن أن يكتفى في تعرفها بمفهوماتها المعهودة في العرف العام، ولأن عدم ربطها بخط فكري محدد يؤدي إلى اللبس والخلط في نتائج الدرس. وهذا ما نعهده بالفعل في بعض الدراسات اللغوية المعاصرة، حيث يقع الخلاف بين الباحثين حول الموضوع الواحد أو النقطة الواحدة، والسبب في ذلك أن كل واحد منهم يأخذ المصطلحات بمعان تغاير ما رآه الآخر، أو أنه لم يحدد خطوط منهجه الذي يلقي الضوء على مفهومات مصطلحاته. والمصطلحات التي ننتوي تحديدها في هذا البحث في ضوء ما نختار من منهج هي تلك "الكلمات" التي ينتظمها العنوان السابق باستثناء حرف الجر "في". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الأخطاء "ومفردها "خطأ": إن تحديد مفهوم "الخطأ" في اللغة يقتضي منا أن نشير -في إيجاز موجز- إلى نقطتين لهما صلة وثيقة بالموضوع، إحداهما منهجية والأخرى تتعلق بطبيعة اللغة. أما فيما يتعلق بطبيعة اللغة فمن المقرر والثابت أن اللغة لا تبقى على حال واحدة، بل يصيبها دائما وأبدا شيء من "التطور" أو التغير أو التبديل في كل ظواهرها: صوتية أو صرفية أو نحوية أو أسلوبية. ذلك أن الحياة نفسها متغيرة متجددة، ومن ثم تستلزم أنماطا من الكلام جديدة تقابل حاجاتها التعبيرية وتفي بأغراضها ومقاصدها التي تختلف من طور إلى طور ومن بيئة إلى أخرى. وهكذا تخضع اللغة لما يخضع له جميع مظاهر السلوك الإنساني فتتحرك من موقعها، فتضيف جديدا أو تنقص قديما أو تجمع بينهما. وتختلف درجة هذا التحرك وعمقه باختلاف الظروف والملابسات التي تعيش فيها اللغة المعينة. هذا "التحرك" اللغوي أو تلك الديناميكية اللغوية المقررة يختلف الدارسون في الحكم عليها، كما يختلفون في تعيين مواقع آثارها في النظام اللغوي المعين. فهناك رجال المنهج الوصفي الذين يأخذون هذا "التحرك" قضية مسلمة، ولا يعنيهم منه إلا ملاحظته وتسجيله بأسلوب موضوعي صرف، ولا يدخلون أنوفهم فيما يلاحظون بنظرة ذاتية تسمه بالصواب أو الخطأ أو الجودة وعدم الجودة. وتنحصر وظيفتهم في وصف ما يلاحظون وتسجيل قواعده المستخلصة من الأمثلة المتشابهة. فالجديد عندهم إن كان مطرا في سلوكه ومظاهره ينضم إلى قواعد اللغة ويصبح جزءا من نظامها وإن لم يكن مطردا فهو ابتكار فردي، ربما يأتي عليه اليوم الذي يرشحه للقبول العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وإذا كان لهم أن ينعتوا هذا الجديد بنعت ينبئ عن منهجهم وصفوه "بالتغير" الذي لا يزيد مفهومه عن وصف ما وقع في اللغة بالفعل، وقد يسمه بعض البالغين منهم "بالتطور" بمعنى الانتقال من طور إلى طور أحسن، على أساس أن هذا الجديد أو هذا "التغير" لم يأت عبثا أو حشوا أو إفسادا وإنما جاء لمقابلة حاجات الناس في المجتمع الذي لا يكف عن التغير في كل مظاهر السلوك فيه. أما المعياريون فلهم موقف مخالف تجاه هذا الجديد أو هذا التغير الذي يصيب اللغة. هذا التغير، إن خرج عن قواعد اللغة المتفق عليها والخاضعة للضوابط المرسومة، عد خطأ صرفا أو نوعا من اللحن أو الانحراف في أقل تقدير. إن هؤلاء المعيارين يفرضون القواعد ويفرضون الالتزام بها، إذ اللغة عندهم "ما يجب أن يتكلمه الناس". إنهم ينهجون المنهج المعياري الذي يعني بوضع معايير ومقاييس لغوية معينة ينبغي اتباعها والأخذ بها دائما وأبدا: فما جاء على وفق هذه المعايير والمقاييس فهو صواب. وما جاء على خلاف ذلك فهو خطأ. وهنا تقابل المعيارين مشكلة حقيقية كثيرا ما تثار في الأوساط اللغوي وتوجه إليهم. هذه المشكلة تتمثل في السؤال التالي: ما الأساس الذي تنبني عليه القواعد أو المعايير التي يجب الالتزام بها في السلوك اللغوي؟ أو ما مصدر هذه القواعد والمعايير؟ يجيب المعياريون عن هذا السؤال بطريق تقليدي موروث غامض؟ خلاصته أن الأساس أو المصدر إنما هو اللغة الصحيحة السليمة أو النموذجية "أو الفصحى في العربية" التي تلقاها الناس جيلا بعد جيل والتي وضع قواعدها ورسم حدودها أهل الاختصاص من اللغويين، ولا يعنيهم بعد ذلك أن تكون هذه اللغة قديمة امتد بها العمر وتعرضت لشيء من التغير أو أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قواعدها جاءت شاملة لكل أنماط التعبير وصوره. ومضمون هذا الكلام أن هؤلاء القوم ينكرون التطور ودوره في السلوك اللغوي، أو أنهم يعترفون بوقوعه ولكنه في نظرهم يقع في مجال الخطأ والصواب وربما يمثل هذا الاتجاه واحد من رجالات العربية المشتغلين بقضايا "الصواب والخطأ" في اللغة، حين يقول: "تجري العربية على قوانين ومقاييس يعد الانحراف عنها خطأ ولحنا فيها. وكذلك مفرداتها وصيغها ومعانيها يجب الاحتفاظ بما ورد فيها عن العرب. ولا ينبغي أن نتجاوزه إلا بالمجاز أو الاشتقاق في حدود ما رسم جهابذة اللغة"1. أما موقفنا نحن إزاء هذه القضية في هذا البحث وما شاكله فيتلخص في خط تفكيري ذي مرحلتين منفصلتين. نقوم في الأولى بتسجيل الظاهرة وتحليلها بالصورة التي تبدو عليها، ثم نتبع ذلك في المرحلة الثانية بتقويم ما نلاحظه ونبدي رأينا فيه من حيث الصواب والخطأ وفقا لمبادئ محددة. ونحن في ذلك لا نخلط بين منهجين، وإنما نفيد منهما معا، وبخاصة في هذه الآونة بالذات التي تحتاج العربية فيها إلى إبداء الرأي وتقديم المشورة، دون الاكتفاء بمجرد التشخيص النظري البحث. على أنه من سوء التقدير ألا نستغل نتائج الدرس الواصف وألا نحاول تطبيقها والأخذ بها بحسب الظرف المعين، كما أنه من الخطأ أن نفرض معايير أو مقاييس لغوية غير مستندة إلى واقع لغوي حقيقي. وفي رأينا أن الحكم على الظاهرة المعينة من حيث الصواب والخطأ ينبغي أن يبنى على الأسس الثلاثة الآتية: 1- استشارة القواعد التقليدية المسجلة في كتب اللغة الموثوق بها.   1 الشيخ النجار: الأخطاء الشائعة جـ1 ص1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 2- الائتناس بآراء أهل الاختصاص، ونعني بهم المشتغلين باللغة وشئونها بالحرفة والصنعة، من أمثال رجال المجامع اللغوية وأساتذة الجامعات المختصين. 3- اطراد الاستعمال اللغوي في البيئة اللغوية المعينة مع عدم ورود ما يمنعه أو لا يجيزه من القواعد والضوابط المقبولة في إطار الأساسين الأولين. ولسوف نأخذ هنا بهذه الأسس الثلاثة مجتمعة. أما الأخذ بالأساس الأول فواضح، ذلك أن اللغة العربية اليوم "أو "فصحى العصر" كما يقولون" في صورتها المكتوبة مازالت محتفظة بجملة الخواص المميزة للغة العربية في عصورها الأولى، ومازالت قواعدها الأساسية تسير في الإطار العام الذي رسمته القوانين والضوابط المسجلة في كتب اللغة "الرسمية" والتي اتفق على قبولها معيارا للصواب والخطأ. ومن ثم كان من المنطق والضروري كذلك أن نعود إلى هذه الضوابط لتقويم ما يواجهنا من مشكلات في عربية اليوم. غير أنه ثبت بالتجربة والخبرة الطويلة أن هذه الضوابط والقواعد نفسها كثيرا ما تقف حائلا أمام إصدار حكم صريح في هذه القضية أو تلك، وأحيانا تقود إلى البلبلة والاضطراب في التقويم، وذلك للأسباب التالية: 1- تعدد الأوجه أو الأحكام بالنسبة للظاهرة الواحدة، وبخاصة في مجال الإعراب. وليس بخافٍ علينا ما سجله علماء العربية من أحكام فيما يختص مثلا بإعراب الأسماء الخمسة والمثنى وجمع المذكر السالم وكل ما سجلوه أو حكموا به وارد عن العرب أو هكذا قالوا. 2- المبالغة في التأويل والتقدير والتفسير في التحليل الإعرابي، حتى إن المثل الواحد قد يعد صوابا في نظر بعضهم وخطأ صرفا في نظر الآخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 من ذلك مثلا ما نعلم وقرره الجمهور من أن كسر اللام بالجر من "رسوله" في قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} خطأ صراح. بل لقد روي أن هذه القراءة كانت من أسباب قدوم أبي الأسود على وضع النحو، على حين أن بعضا من الدارسين جوز هذا الكسر على أساس أن الواو هنا للقسم لا للعطف. ومن المعلوم لنا أن بعض أمثلة هذا التأويل أو التقدير مبنية على أسس غير مسموعة من العربي صاحب اللغة ومصدرها الحقيقي، وإنما جرى تحليلها على أسس ذهنية افتراضية أو وفقا لوجهات نظر خاصة يتعسفها الدارسون القدامى أحيانا. ومن حسن حظهم أن خاصة المرونة التي تتسم بها قواعد العربية تغريهم بهذا السلوك من وقت إلى آخر، ولا يعنيهم بعد ذلك إن تغيرت المعاني أو اضطربت بمثل هذا المنهج. 3- يتبع هذين السببين سبب ثالث يتمثل في تعدد درجات الصحة وإمكانية القبول للأحكام والضوابط التي رسموها، فهناك الصحيح باتفاق والمختلف في صحته، وهناك الضعيف والشاذ. وهناك ما يجوز في الشعر ولا يجوز في النثر. وهذا أمر -كما هو واضح- يضع الدارس أحيانا في حيرة بالغة، إذ قد يصعب عليه الاختيار أو التفضيل بين وجه وآخر أو درجة وأخرى من درجات الصحة أو القبول في كل حال ومثال. بل ربما دفعه ذلك إلى تجويز كل ما يقابله من مادة. على أساس أنه لا يعدم أن يجد لها أو لأمثلتها وجها أو تفسيرا أو تخريجا يستند إليه في الحكم، بل ربما تستقر في ذهنه المقولة المشهورة الصادقة غير الصادقة" "لا يخطئ نحوي قط". 4- باستثناء الإعراب، لم يهتم علماء العربية الاهتمام الكافي بالنسبة للجوانب الأخرى للنظم أو نظام الجملة، حتى إن الإنسان ليحار أحيانا في الحكم بالصواب أو الخطأ على هذا المثال أو ذاك من حيث جوانب الاختيار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 والموقعية والمطابقة، لا ننكر بحال أن هذه الجوانب قد عولجت بصورة ما في كتب النحو والبلاغة، ولكن ذلك جاء بطريقة ينقصها الاستقصاء والتصنيف واستخلاص القواعد العامة لكل باب وتجميعها في إطار علمي ذي حدود مرسومة. والحق أن جل ما جاء من ذلك من كتب التراث إنما كان لخدمة الإعراب أو بدافع منه. 5- قواعد العربية وضوابطها -شأنها في ذلك شأن قواعد أية لغة- تتصف بالعموم لا بالشمول، أي: أنها لا تنسحب بالضرورة على كل مثال أو مقول أيام التقعيد وقبله. وأغلب الظن أنه كانت هناك أمثلة أو أنماط من التراكيب أو صور من الكلام لم تؤخذ في الحسبان عند التقعيد لسبب أو لآخر، على الرغم من أهليتها للنظر والدرس بوصفها كلاما عربيا ذا خواص مقبولة في بيئته، وذلك -في رأينا- أساس من أسس ترشيح هذا الكلام للأخذ به أو تقعيده. ودليل وجود مثل هذا الكلام المهمل تقعيده تلك الإشارات السريعة التي تقابلنا من وقت إلى آخر في كتب اللغة، منبئة عن وجه أو قاعدة جريئة في لهجة من اللهجات أو ضرب من أساليب الكلام. إذا قبل هذا الظن -وهو جدير بالقبول- جاز لنا أن نقول لعل أمثلة من الجديد في عربية اليوم تنزع إلى ذاك القديم الذي لم تسجل قواعده أو سجلت وخفيت علينا أو على بعض منا. كل هذه الأسباب التي تقف أمام الأخذ بالقواعد المسجلة جملة وتفصيلا، بكل ما تنتظمه من اضطراب وما تتسم به من تعدد في الآراء والتوجيهات والافتراضات تحتاج منا إلى النظر الدقيق في اختيار الأحكام وتطبيقها عند البحث في قضية الصواب والخطأ. ومنهجنا هنا هو الأخذ بما صح عند الجمهور وكان مبنيا على أساس واقعي خاليا من التأويل والافتراض أو التعسف في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 التقدير. ولا ضير من الأخذ بالقليل أو الشاذ "بمعنى المخالف للقاعدة العامة" في غير قواعد الإعراب ما لم يخرج بالعربية من خواصها الأساسية فيؤدي إلى فساد المعنى أو اضطرابه. والأخذ بهذا القليل أو الشاذ مطلب محمود في هذا الأوان حيث تكثر مشكلات العربية وتصرخ في وجوهنا فلا نجد لها حلا إلا الرفض المطلق أو القبول المطلق، وكلا الأمرين لا يفيدنا في شيء. وربما كان من الأوفق في هذه المرحلة أن نسترشد بأساس ثان من أسس التقويم عند الأخذ بالمنهج المعياري، فنعاود المختصين من اللغويين ونراجعهم من وقت إلى آخر. ونشير أن الرأي من هؤلاء المختصين مسلك مقبول بل ضروري في نظرنا، حيث إن في هذا النهج نوعا من "توحيد مصدر الفتوى" فيما جد في لغتنا، فلا تترك الأمور فوضى يتقاذفها أنصاف المثقفين وأشباههم فيفتوا بما يعلمون وما لا يعلمون. هذا بالإضافة إلى ما لهؤلاء المختصين من خبرة ودراسة في التفسير والتوجيه والإرشاد إلى ما يخفى على كثير من العاملين في الحقل اللغوي. والملاحظ على كل حال أن بعضا من أهل الاختصاص يترددون في الحكم على الظواهر اللغوية الجديدة، ولا يستطيعون حل بعض المشكلات التي يستفتون فيها، إما تمسكا بظاهر القديم أو عجزًا عن الفتوى أو رفضا لهذا الجديد برمته. وهم في هذا الموقف الأخير "وهو الرفض المطلق لكل جديد" يتنكرون لأهم وظائفهم كما يتنكرون لحقيقة ثابتة مستقرة، هي تغير اللغة من حال إلى آخر، شئنا أو لم نشأ. وهذا التغير يحتاج منا إلى نظرة ودراسة، ولا يجدي رفضه بحال من الأحوال. لهذا كان الأساس الثالث المشار إليه سابقا جديرا بالنظر والأخذ في الحسبان في قضيتنا هذه. إن اطراد استعمال الظاهرة اللغوية في بيئة معينة يرشحها للقبول ويؤهلها لأن تصبح جزءا أو مثلا من أمثلة النظام اللغوي في هذه البيئة، ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 لأن انتشارها الواسع العريض يقضي على كل مقاومة تقف في طريقها. وهنا يأتي دور الباحث اللغوي الذي لا ينبغي أن يقف مكتوف الأيدي أمام الجديد اللغوي، وعليه أن يحكم بصحته ما لم يخالف بالنص قاعدة قديمة أو يعارضها وما لم يؤد إلى تغيير في أصول العربية أو الخروج بها عن دائرة الخواص المميزة لها. ونحن بهذا نتمشى مع روح التطور، وهو حتمي، ونضمن للغتنا نموا وغنى في وسائل التعبير. وهو ضروري. ومن أمثلة هذا الضرب من الجديد في عربية اليوم قولهم "باطراد": عندما تمارس الرياضة فسوف تجد راحة نفسية حيث استعملت "عندما" رابطة تشبه أداة الشرط في ربط الشرط بجملة الجواب مع استخدام الفاء في جواب الشرط المبدوء بسوف، كما هو الحال تماما في أساليب الشرط المعهودة. ومن ذلك أيضا وبخاصة في عناوين الصحف. المتهربون من الضرائب، كيف نتعقبهم؟ حيث استخدمت أداة الاستفهام كما لو كانت في غير موقع الصدارة، على حين أنها في الواقع جاءت في صدر جملتها وهي منطوق ثان أريد به نوع من البيان أو التساؤل شبه المستقبل جذبا للانتباه واهتماما بالفكرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الأخطاء الشائعة : الشيوع في حد ذاته يعني كثرة الاستعمال وربما اطراده، وهذا دليل القبول من البيئة اللغوية، ويرشحه للنظر الذي قد يؤدي إلى الحكم بصحته هذا هو رأي الوصفيين. ولكن المعياريين لهم توجه آخر، إذ المصطلح "الشائعة" وقع صفة لمصطلح آخر هو "الأخطاء". وشيوع الأخطاء ظاهرة تنذر بفساد اللغة واضطراب قواعدها. الأمر الذي يستوجب العمل على مقاومته وعلاجه بطريق أو بآخر. والمعياريون -على العكس من الوصفيين- لا يدخلون في تفاصيل تحديد معنى الشيوع أو بيان درجاته، ويكتفون بالقول بأن "الخطأ الشائع" هو ما خرج عن الحدود المرسومة وكثر استعماله بحيث أصبح يشكل ظاهرة في الوسط اللغوي المعين، وليس مقصورا استعماله على فرد أو مجموعة من الأفراد بوصفه سمة خاصة بهم أو سلوكا فرديا مميزا لأساليبهم اللغوية والمعروف أن الابتكار أو التجديد اللغوي إنما يصدر في الأصل عن فرد أو أفراد لم يتفقوا على هذا الجديد بطريق العمد، وإن جاز أن يقع هذا الاتفاق بمحض المصادفة. والابتكار في هذه المرحلة ما زال فرديا، فإذا كتب له النجاح وذاع وشاع أصبح جماعيا، وهذه المرحلة الثانية هي التي يؤخذ بها في قضية الصواب والخطأ رفضا أو قبولا، بحسب وجهات نظر الدارسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 نظام الجملة مدخل ... نظام الجملة: لن نعرض هنا لذلك الحوار المضطرب بين الدارسين فيما يتعلق بتحديد الجملة، إذ قد كثرت آراؤهم في ذلك الأمر وتنوعت إلى درجة يصعب معها الوقوف على تعريف متفق عليه أو يشبه أن يكون كذلك. ولقد وضعنا لأنفسنا في هذا البحث "وفي غيره" تحديدا للجملة يفي بحاجة المناقشة والتحليل، ويعين القارئ على الفهم والمتابعة. الجملة عندنا: "هي كل منطوق مفيد في موقعه محدود بسكتتين". ولا يضير بعد هذا أن يكون هذا المنطوق قصيرا أو طويلا، بسيطا أو مركبا، كما يجوز أن يكون مركبا من كلمة أو كلمتين في سياقات معينة، كما في الإجابة عن السؤال مثلا. والإشارة إلى "الجملة" بعنوان البحث لا يعني إهمال النظر في أجزاء الجملة أو أشباهها أو ما شاكل ذلك من مختلف أنواع التراكيب، كالتركيب الإضافي والوصفي وغيرهما؛ لأن الخطأ ليس مقصورا على نمط دون آخر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 أنماط التأليف، ولأن هذه الأنواع ذاتها لا تعدو أن تكون بمثابة الوحدات البنائية للجملة، فما ينطبق عليها ينطبق على مكوناتها. وفي رأينا أنه كان الأولى بالعنوان أن يأتي بصورة أخرى هي: "الخطأ الشائع في نظام الكلام" باستعمال المصطلح "الكلام" بدلا من "الجملة" لأنه أعم، ويصدق على ما لا يصدق عليه تعريف الجملة عندنا وعند غيرنا على سواء، ولله در عبد القاهر الجرجاني حين أشار إلى نظريته المعروفة "بالنظم" دون التورط في تحديد أو تقييد يفوت الغرض. أما "نظام الجملة" فسوف نأخذه بمعنى واسع غير معهود لكثير من الدارسين، قدامى ومحدثين على سواء. إن "نظام الجملة" عندنا يعني وجوه صحتها، أو بعبارة أدق، نستطيع أن نقول: إن نظام الجملة يشتمل على جملة القوانين والقواعد التي تضبط طرائق التأليف ووجوهه المتفق عليها في البيئة اللغوية المعينة. إنه ينتظم الوجوه أو الجهات التالية في اللغة العربية: 1- الاختيار. 2- الموقعية. 3- المطابقة. 4- الإعراب. ونحن بهذا النهج نريد أن نؤكد حقيقتين مهمتين: أولاهما: ليس صحيحا أن نظام الجملة يعني مجرد ترتيب الكلم في التركيب، كما قد يتوهم بعضهم. إن مجرد ترتيب الكلمات أو ضمها بعضها إلى بعض ليس بشيء في ذاته ما لم نراع قواعد "التوليف" أو السبك وقوانين التعليق أو الربط، حتى يصير البناء وحدة متكاملة منسوقة الأطراف منظومة الوحدات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ثانيهما: نود أن نزيح الوهم بأن الإعراب ليس عضوا من عناصر نظام الجملة، إن الإعراب الصحيح هو دليل السبك الصحيح، وأن المخطئ في وجوهه غير مدرك -لا محالة- لوسائل البناء وأداته. وقديما قالوا: الإعراب دليل الموقعية. ولعل هذا هو سر اهتمام العرب به اهتماما كبيرا، لأنه نهاية المطاف والحصيلة المحسة للجوانب "التوليفية" الأخرى للتركيب. ولا يعترض علينا بعدم اهتمام عبد القاهر الجرجاني به بصورة تشبه أو تقرب من اهتمامه بالوجوه الأخرى للنظم. ذلك أن عبد القاهر في مسلكه هذا كان ينعى على الدارسين اهتمامهم بالإعراب بمعنى مجرد النظر في أواخر الكلم إعرابا وبناء، دون كبير عناية بوسائل التأليف الأخرى التي هي في الواقع بمثابة الروافد أو العناصر التي تصنعه. ونحن بهذا النهج نكون قد فسرنا "نظام الجملة" بما يعني مفهوم "النحو" ووظائفه بالمعنى العلمي الدقيق. فليس النحو الإعراب كما وهم كثير من متأخري النحاة، وكما سار على ذلك معظم المشتغلين بهذا العلم ومسائله في معاهدنا وجامعاتنا، وهو الأمر الذي أساء إلى النحو تعليما وتعلما واستيعابا واستخداما وتطبيقا. ولقد كان البلاغيون أكثر توفيقا وأقرب إلى الصحة حين ركزوا جهودهم في "علم المعاني" على التراكيب وخواصها "التوليفية" تاركين الإعراب أو راغبين عن الدخول في مسائله لا لعدم أهميته، وإنما لافتراضهم تحققه ووجوده على وجهه الصحيح عند النظر في الوجوه الأخرى للتركيب أو نظام الجملة، أو للابتعاد عن الجدل العقيم الذي وقع فيه النحاة المحترفون حول الإعراب، أو للاعتراض السلبي على مسلك هؤلاء النحاة في هذا الشأن. ورأينا في هذه المشكلة -وهي جد مهمة- أن نعدل من أسلوب تدريسنا للنحو، فنعمد إلى التراكيب ونصنفها إلى أنماطها المختلفة، ثم نقوم بعد ذلك بتحليلها في إطار الجوانب الأربعة المذكورة سابقا، والتي تمثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 العناصر الأساسية لنظام الجملة. ولا ضير من الاهتمام بالإعراب -نوع اهتمام- على أساس أنه أهم دليل من أدلة التعليق الذي ينتظم الجوانب الثلاثة الأخرى، ونعني بها "الاختيار" و"الموقعية" و"المطابقة". بقي علينا في هذا المجال أن نشير إلى مصدر مادة الدراسة وطبيعة هذه المادة. المادة هي العربية الفصيحة التي يستخدمها طلاب الجامعات، وبخاصة في أقسام اللغة العربية. وهذه اللغة الفصيحة لغة مكتوبة في الأغلب الأعم، والأمثلة كلها أو جلها مستقاة من أعمالهم التحريرية في البحوث والاختبارات. وإنما كان اعتمادنا على اللغة المكتوبة، لأن لغتهم المنطوقة لا تفيدنا في شيء في هذا المجال: إنها لغة لا يمكن أن تدخل في إطار الفصيحة بالمعنى الذي يرتضيه المعياريون، وإنه لمن الظلم لها ولهم أن تؤخذ هذا المأخذ، فهي خليط مسوخ من أنواع شتى من اللهجات ومن ضروب شتى من الأساليب العربية التي ندر أن يكون أحدها فصيحا أو ما أشبه. حتى لو تعمد الطلاب الكلام بالفصيحة لوقعنا في حرج معهم ومع أنفسنا، إذ لن يستطيع الواحد منهم أن يرسل الكلام الصحيح إرسالا لمدة تزيد عن الدقيقة الواحدة. وفي الحق أنهم معذورون، فكثير من المتخصصين والمهتمين بشئون العربية لا تسعفهم قدراتهم اللغوية بمادة منطوقة صحيحة لأكثر من دقائق معدودة. والأخذ من اللغة المكتوبة يشكل صعوبة حقيقية أمام الدارسين. ذلك أن هذه اللغة محرومة من بعض الظواهر الصوتية ذات الأهمية في التحليل اللغوي على مستوى التراكيب "وغيرها". ونعني بذلك مثلا التنغيم والفواصل الصوتية من وقفات وسكنات واستراحات. وكلها ظواهر مهمة في تحديد أنماط الكلام وأنواع الجمل، وتعين على الكشف عن خواص التركيب، فيما يتعلق بالموقعية في أقل تقدير. وفيما تفيدنا علامات الترقيم في تعرف هذه الظواهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 أو بعضها، لكن -يبدو أن الطلاب شأنهم في ذلك شأن غيرهم من المواطنين- لا يدركون هذه العلامات ولا يعرفون قيمها في الكلام المكتوب. ومعنى هذا كله أن الدارس -ما لم يكن ذا خبرة واسعة بهذه الأمور- لا يستطيع أن يأتي بشيء ذي قيمة في هذا المجال. أضف إلى هذا أن هؤلاء الطلاب متأثرون في كتاباتهم بمصدرين أجنبيين عن مادة الدارسة. أما أولهما فهو اللغات الأجنبية. إما بطريق مباشر أو بطريق ما يجري في السوق من ترجمات قام ويقوم بها أنصاف المثقفين. المصدر الثاني اللهجات العامية، فكثيرا ما نلحظ في مادة الطلاب المكتوبة أمثلة صيغت على نهج قواعد النظم في هذه اللهجات. ولننصرف الآن إلى مناقشة أخطاء الطلاب في نظام الجملة، وفقا للنهج الذي اخترنا لمفهوم النظم، وهو أن ينتظم أربعة جوانب متصلة غير منفصلة، هي الاختيار والموقعية والمطابقة والإعراب. ولسوف تتركز المناقشة على الشائع من هذه الأخطاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أولا: الإعراب وإنما كان البدء به لكثرة وقوع الخطأ فيه، وتعدد أنواعه ومناحيه، حتى ليظن الدارس أن هؤلاء الطلاب غير عارفين بقواعده الأساسية، أو متجاهلون لها، أو غير مبالين بما يفعلون. وهذا السلوك المعيب واضح في كلامهم المكتوب والمنطوق، وإن كان في هذا الأخير أكثر وقوعا وشيوعا. وهم في ذلك لا يختلفون كثيرا عن أضرابهم من المثقفين وأشباههم. ودليل ذلك ما نلحظه من أخطاء صارخة في الإعراب، في وسائل الإعلام المنطوقة والمكتوبة، وفي بعض الأعمال الجادة كالمجلات الثقافية والعلمية والكتب الرسمية وغير الرسمية، بل إننا نلحظه في بعض الكتب الجامعية، وربما وقع فيه أساتذة اللغة العربية ومدرسوها وهم في حلقة الدرس النحوي نفسه. وكان البدء بالإعراب كذلك لنؤكد ما ألمحنا إليه سابقا من أن الإعراب عنصر من عناصر نظام الجملة في العربية، وليس شيئا منعزلا عن هذا النظام، كما يتوهم كثير منهم بالقول أو بالفعل، مثلا في طرائقهم ومناهجهم في تقديم مادة النحو وتعليمه. إن الإعراب دليل الموقعية، أو قل: إنه من أهم دلائل التعليق، أي: ربط الكلم بعضه ببعض على طريقة مخصوصة، فهو يشير إلى وظيفة الصيغة ومدى ارتباطها بما يسبقها أو يلحقها، مهما يكن موقعها من الجملة. والعربية بهذه الخاصة -خاصة الإعراب- تمتاز من غيرها من اللغات، إذ هي تتصف بالمرونة في قواعد ترتيب الكلام ونظمه في الجملة من حيث التقديم والتأخير. ويكفي للتدليل على ذلك أن نشير مثلا إلى حال المفعول به. فهو سبق الفعل جوازا ووجوبا ويتوسط بين الفعل والعامل جوازا ووجوبا ويتأخر عن العامل جوازا ووجوبا كذلك، وهو في كل الحالات محدد الوظيفة معروف. بفضل وسائل التعليق أو الربط، ومن أهمها الإعراب الخاص به وهو النصب. تأمل معي الأمثلة الثلاثة الآتية وهي جميعا من باب واحد تقريبا، من حيث مكونات البناء الأساسية: 1- فعل + مفعول به "متصل بضمير الفاعل" + الفاعل، مثل: خاف رَبَّه عمرُ 2- فعل + مفعول به + فاعل "متصل بضمير المفعول"، مثل: "وإذ" ابتلى إبراهيمَ ربُّه 3- فعل + فاعل "متصل بضمير المفعول" + مفعول به، مثل: زان نورُه الشجرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ففي المثالين الأول والثاني تقدم المفعول على فاعله، وهو في الأول كثير شائع، ولكن هذا التقدم واجب في الثاني "بحسب رأيهم" لاتصال الفاعل "المتأخر" بضمير المفعول. وفي كلتا الحالتين كان الإعراب دليلا من أدلة الوظيفة للصيغة الواقعة مفعولا، أو هو مانع للبس، كما يقولون. أما المثال الثالث "وهو شاذ في رأيهم" فقد جاء بناؤه مضطربا بسبب اتصال الفاعل المتقدم بضمير المفعول المتأخر، ومع ذلك صح الكلام "نوع صحة، لوقوعه في استعمالهم" وأمن اللبس بوجود الإعراب بوصفه دليلا من أدلة التعليق، بالإضافة إلى عنصر "الاختيار" المتمثل في كلمتي "زان + نور". وقد أشار ابن مالك إلى الحالتين الأولى والثالثة بقوله: وشاع نحو خاف ربه عمر ... وشذ نحو زان نوره الشجر وسكت عن الصورة الثانية، لأنها مفهومة بداهة، إذ شذوذ الثالثة هذه يعني ضمنا وجوب عكسها وهي هذه الصورة. ولسوف يلاحظ القارئ أن معظم الأمثلة تشير إلى الخطأ في الإعراب بالحروف، وذلك لسبب بسيط، وهو أن المادة أو جلها مستقاة من اللغة المكتوبة، وهذه الحروف موجودة في صلب الكلمات، ومن ثم يسهل التقاط الأخطاء وتعرفها والخطأ في الإعراب بالحركات القصيرة موجود كذلك ويكثر وقوعه، ولكنه لا يدرك في الكلام المكتوب إلا في حالات نادرة، كما في نصب غير الممنوع من الصرف، حيث تصحب الفتحة ألف في آخر الكلمة، كما في رأيت رجلا. وكذلك الحال في جزم المضارع الأجوف الصحيح الآخر، في مثل: لم يكون، لم يبيع، لم ينام. فثبوت حرف العلة "أو عدم تقصير الحركة الطويلة الممثلة في الواو والياء والألف" يدل على خطأ في الإعراب، حتى على فرض تسكين آخر الفعل لأن تسكين الجزم في هذه الحالة يصحبه وجوبا تقصير هذه الحركات الطوال، وفقا لنظام التركيب المقطعي في العربية الفصحى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 والخطأ في الإعراب لا يعني الخطأ في علامته وحدها، وإنما يعني بالإضافة إلى ذلك الجهل بالحالة الإعرابية "الرفع والنصب والجر والجزم" أي: الجهل بالموقعية وعدم إدراك وظيفة الصيغة المعنية في التركيب، فلا يدرى أهي فاعل أم مفعول، أهي اسم "إن" أم خبرها إلخ، ومن ثم تأتي العلامة غير مناسبة للموقعية الصحيحة. وأغلب الظن أن معظم حالات الخطأ الإعرابية إنما ترجع إلى هذا الاحتمال الثاني "وهو الجهل بالمواقعية والوظيفة"، غير أن دليلنا في الكشف عن الخطأ في هذا الوجه "وغيره" يتمثل في العلامة الإعرابية، ونعني بها العلامة الإعرابية الظاهرة بالذات، بدليل عدم تعُّرف على الخطأ في هذا الباب في حالة البناء أو الإعراب التقديري. ولما كانت العلامات الإعرابية هي دليلنا الواضح في تعرف الأخطاء هنا فقد جاءت أمثلتنا مصنفة -في مجموعها- على هذا الأساس، وإن كان الخطأ في كثير من الحالات يتمثل في الجهل بالموقعية "أو الوظيفة" وبعلامة الإعراب كذلك. ففي قولهم مثلا: وضع أرسطو كتابان في النقد: تشير النظرة العاجلة إلى أن الطالب استعمل "الألف" بدلا من الياء في إعراب هذا المثنى، ولكن ليس من البعيد -بل هو المحتمل الراجح- أن الطالب لم يدرك موقعية المثنى أو وظيفته في هذا التركيب، فاختار هذه العلامة. ولقد أثبتت الدراسة أن هناك اتجاهات معينة في الخطأ في الإعراب "بوجوهه المختلفة على نحو ما بينا" في لغة الطلاب "مكتوبة ومنطوقة" يكثر اتباعها ويغلب أن تكون مطردة في الاستعمال على نحو واضح ملموس تظهر هذه الاتجاهات في إعراب أجناس نحوية متعددة، من أهمها ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 1- يقع الخطأ كثيرا في إعراب اسم "إن" وأخواتها إذا كان خبرها شبه جملة متقدما على الاسم "كما في نحو: إن ثمة رأي آخر حيث جاء الاسم مرفوعا، إما جهلا بالموقعية وما يناسبها من علامات إعرابية أو جهلا بالقيمة النحوية لشبه الجملة ثمة" التي لا يمكن أن تكون هنا إلا خبرا، ووقع متقدما. ولا يقتصر هذا السلوك على هذا المثال ونحوه مما تستخدم فيه "ثمة" وأخواتها" ثم وهنا وهناك إلخ "وهي أشباه جمل تخفى قيمها على كثير من المثقفين"، بل يحدث الشيء نفسه مع أشباه الجمل العادية، مثل: إن في كلامك خلط كبير وكذلك يقع الخطأ بكثرة في إعراب اسم كان وأخواتها إذا كان خبرها من النمطين السابقين، وجاء متقدما على الاسم، حيث ينصب هذا الاسم: وكان هناك رأيا آخر كان في الدرس نقاطا غير مفهومة وليس هذا فقط، فقد يلفق الطالب، في هذه الأنماط ونحوها بين الخطأ والصواب في المثال الواحد، كأن يقول: وكانت خلفهم نارا مشتعلة وحائط قصير حيث جاء اسم "كان" منصوبا، ولكن ما عطف عليه وقع مرفوعا، وهو دليل الخلط وعدم الإدراك لوظائف الكلم في التركيب. ومن المؤسف أن نقابل أحيانا في كتابات طلاب الفرق الأولى "حديثي العهد بالجامعة" أمثلة يقع فيها الخطأ في أسماء إن وكان وأخبارهم بوجه عام: إن الباحثون كانوا يريدون إن المرأة إنسانا مستقلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 كان المسلمين متأثرين برأي غيرهم الحرية عمل وليست كلام ولا نعدم أن نجد في كلام هؤلاء وأمثالهم أخطاء في إعراب المبتدأ والخبر: الشاهدان موجودين بل هناك حدودا 2- إعراب الأسماء الخمسة1 يغلب عليه أن يكون بالواو في كل الحالات الإعرابية، فقد جاء بهما في حالتي النصب والجر، كما في قولهم مثلا: كانت سلاحا ذو حدين خالف البلاغيون أبو عبيدة وفي كتاب الجاحظ وكتاب أبو عبيدة ويبدو على كل حال أن الخطأ في هذا الباب "وغيره" لا يرجع إلى سوء التقدير في اختيار العلامة المناسبة بقدر ما يرجع إلى الجهل بمواقع الكلم ووظائفه، بدليل قولهم مثلا: توفي أبي الفرج واستخدم أبي عبيدة عدة مصطلحات حيث أعرب بالياء وهما في موقع الرفع. ومن الطريف أن الطلاب لم يستعملوا الإعراب بالألف في هذه الأسماء إلا في موضعها الصحيحة، وهي   1 القول بأنها خمسة "أو ستة" في لغة الطلاب فيه تجوز إذ المستعمل في لغتهم هو: أب وأخ، وكذلك "ذو" أحيانا. أما "حم" فنادرا ما تستعمل وتلزم الألف غالبا تأثرا بالعامية. ولم نلاحظ استعمالهم للاسمين "فو، هن" إلا مرددين لهما في نصوص مكتوبة من صنع غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 مواضع النصب، على حين أن الإعراب بالألف في جميع الحالات لغة مروية عن العرب في الأسماء الثلاثة: أب، أخ، حم، على ما هو معروف. 3- الاتجاه الغالب في إعراب المثنى أن يكون بالألف وفي جمع المذكر السالم أن يكون بالواو1 في جميع الحالات. فمن أمثلة الأول في حالتي النصب والجر. وضع أرسطو كتابان في النقد لو نظرنا إلى البيتان ... ومن أمثلة الثاني في هاتين الحالتين: أن الباحثون كانوا يريدون ... بالنسبة لمؤرخو البلاغة ... وخيال هؤلاء الناس المارون ... ولكنا نعود فنقول: يبدو أن الطلاب في الحقيقة غير مدركين إدراكا صحيحا لوظائف الصيغ وقيمتها في التركيب، ومن ثم يظهر خلطهم في اختيار علامات الإعراب. ويؤكد هذا الظن ما يقابلنا من أمثلة غير قليلة تنحو منحى آخر في الإعراب، فيأتي المثنى بالياء في حالة الرفع، وكذلك جمع المذكر السالم. فمن الأول قولهم:   1 لفت نظرنا استعمال الطلاب للألف في المثنى في معظم الحالات وهي لغة مروية، واستعمالهم للواو في جمع المذكر وهذا لم يرد عنهم. هذا يثير تساؤلين خطرا لنا من زمن. أولهما: استعمال الألف أكثر من استعمال الياء "في الفصيحة المعاصرة" يؤكد ظننا أن الأعراب بالياء في المثنى غريب، ولعله خطوة ناتجة عن تطور نطقي للألف. ثانيهما: يشير منطق العربية إلى احتمال إعراب جمع المذكر بالواو في جميع الحالات. وإن لم يرد به نص. أليس منه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} بالواو في موقع النصب؟ وهذا التساؤل الثاني ينصرف إلى احتمال الإعراب في الأسماء الخمسة بالواو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الفلسفة والفن متحدين من حيث العلاقة ومختلفين من حيث الموضوع ومن الثاني: لم يفعل كما فعل سابقيه. 4- إعراب الأفعال الخمسة في لغة الطلاب مضطرب أشد اضطراب وهذا الاضطراب ليس سببه الخلط بين الصحة والخطأ في إعرابها من مثال إلى آخر، وإنما سببه الخلط في صور الخطأ. تأمل الأمثلة الآتية وهي نماذج مما يقعون فيه أحيانا: قام النقاد يدافعون عن حرية الشعر بذل الشعراء جهدهم في أن يأتون بلغة جديدة لم يعنون بإطلاق أسماء على هذه الفنون في المثال الأول حذفوا النون من الفعل في موقع الرفع على حين ثبتت هذه النون في حالتي النصب والجزم. وهذ يعني الاضطراب المؤكد في إدراكهم لحالات إعراب المضارع وعلامات هذا الإعراب في هذا الجنس من الكلم. ومهما يكن من أمر فهذه الأخطاء ليست شائعة في لغة الطلاب شيوع غيرها، ولكنها تمثل ظاهرة خطيرة قد تخطى بالانتشار والانتقال من وسط مثقف إلى آخر، وقد لاحظنا مثلها أو نحوها بالفعل في بعض الصحف اليومية، وبخاصة ثبوت النون في حالتي النصب والجزم. 5- الفعل المضارع المعتل الآخر المجزوم يكاد يسلك مسلكا خاطئا موحدا في الإعراب في لغة هؤلاء الشباب. ذلك المسلك يتمثل في عدم حذف حرف العلة "أو تفسير الحركة، كما يقول بعضهم" ويستوي في ذلك أن يكون هذا الحرف ألفا أو واوا أو ياء، وهذه أمثلته: هذا الرأي لم يلقى نجاحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 لم يدعو العقاد إلى ترك التشبيه لم يكتفي قدامة بهذا التعريف وهذا الخطأ في المكتوب واضح لا محل للشك في وقوعه، ولو كان في المنطوق ربما فات علينا أو على بعضنا. ويلحق بهذا الباب -في رأينا- خطأ نلحظه في جزم المضارع الصحيح الآخر الأجوف، إذ ترد أمثلته أحيانا على النحو: لم يكون، لم يبيع، لم ينال إن جزم الأمثلة بالسكون يقتضي حتما حذف حرف العلة "أو تقصير الحركة"، بسبب صوتي صرفي يتعلق بطبيعة التركيب المقطعي في عربيتنا الفصحى. تمثل النماذج السابقة كلها أهم أنواع الخطأ في الإعراب وأكثره وقوعا بين طلاب الجامعات، كما تشير معظم الأمثلة السابقة إلى الخطأ في الإعراب بالحروف. وهناك أيضا أجناس نحوية أخرى يقع فيها الخطأ بصورة فردية لن تأخذ طابع الشيوع بعد. وكذلك تدل التجربة على وقوع الطلاب كثيرا في أخطاء إعرابية أخرى، ولكنا لا ندركها ونتعرف عليها بصورة مؤكدة إلا في الكلام المنطوق، لأن الإعراب فيها بالحركات دون الحروف. يظهر لنا ذلك واضحا في أثناء اللقاءات العلمية المباشرة والاختبارات الشفوية، حيث تشيع الأخطاء في أبواب نحوية معينة من أهمها ما يلي: 1- الاسم المنقوص في حالة النصب. 2- الفعل المضارع المعتل الآخر بالواو والياء في حالة النصب. ففي هاتين الحالتين لا تظهر الفتحة، ويكاد يكون هذا السلوك مطردًا في نطق الطلاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 3- يعامل الممنوع من الصرف بوجه عام معاملة المصروف من حيث ظهور التنوين والجر بالكسرة، وما جاء على صيغة منتهى الجموع. والحق أن باب الممنوع من الصرف في عمومه يوقع الطلاب، العارفين منهم وغير العارفين- في خلط كبير. فبينما يخطئ كثير منهم في هذا الباب، ويعاملونه معاملة المصروف، نجد بعضا غير قليل يقع في الوهم أحيانا فيمنعون من الصرف ما حقه الصرف. يظهر ذلك على الأخص فيما كان جمع تكسير على وزن "أفعال" منتهيا بهمزة قبلها ألف ممدودة. كما في مثل: أنباء، أبهاء، أصداء. يظن الطلاب خطأ أن هذه الجموع ونحوها تنتهي بألف التأنيث الممدودة مثل علماء، وشرفاء، لأنها تشبهها في انتهائها بهمزة قبلها ألف ممدودة، ولم يدركوا الفرق الكبير بين الحالتين في التركيب العميق للصيغ، الهمزة في أوزان الألف التأنيث الممدودة همزة زائدة بحسب القاعدة العامة، أما في أمثلتنا هذه فهي أصلية أو منقلبة عن ياء أو واو كما جاءت هذه الأمثلة على وزن أفعال، جمعا وما كانت همزته كذلك من هذا الوزن لا يمنع من الصرف بحال1. هذا العرض السريع للأخطاء في الإعراب يشير إلى نتيجتين مهمتين. أولاهما: أن الخطأ في الإعراب أصبح يشكل ظاهرة منذرة بالخطر في لغة الطلاب، الأمر الذي يستدعي وقفة متأنية ومواجهة حاسمة. وأسباب هذا الخطأ كثيرة متداخلة معقدة، أهمها: 1- فقدان الأسلوب الصحيح في الممارسة اللغوية، وهو الكلام المنطوق   1 أشياء تصرف على الرأي القائل بأنها على وزن أفعال "والهمزة فيها أصلية"، ولكنها تمنع من الصرف على افتراض أنها على وزن "لفعاء" بعد القلب المكاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الفعلي واستخدامه في شتى مجالات الحياة، إذ هو القادر على تكوين الأنماط النحوية السليمة واستقرارها. 2- طريقة التعليم، تلك الطريقة التي تجمد نفسها بالتركيز على البحث في أواخر الكلم، وتلقين الطلاب علامات الإعراب دون ربط مناسب بين الإعراب "بهذا المعنى" وعناصر التأليف الأخرى للكلام. ثانيهما: تتمثل في أن معظم الخطأ في الإعراب بالعلامات النائبة، وهذا يقتضي منا نظرا وتأملا كبيرين، وهذا لا يكون علاجه في رأينا إلا بالنظر في إطار تخطيط جديد لدراسة النحو وتعليمه. ونأمل أن تكون لنا عودة إلى هذه النقطة بالذات في فرصة أخرى. واتضح لنا من المناقشة السابقة كذلك أن عددا غير قليل من الأمثلة التي حكمنا عليها بالخطأ جاءت على وفاق رأي أو لهجة من اللهجات في القديم. تبين لنا ذلك مثلا في: 1- أمثلة المثنى حيث جاء بعضها بالألف في حالتي النصب والجر. 2- أمثلة جمع المذكر السالم، وفيها ما لزم الياء "والإعراب على النون". 3- ثبوت النون في الأفعال الخمسة مع "أن" الناصبة، وقد يأتي مثله مع "لم" الجازمة". ففي القديم يروى أنه جاءت أمثلة من هذا القبيل: "إن أباها وأبا أباها" قد بلغا في المجد غايتاها بالألف في حالة النصب. ولا يزالون ضاربين القباب "بجر القباب وثبوت ياء الجمع ونونه". أن تقرءان على أسماء ويحكما.. "بثبوت النون مع "أن"". ونحو: "لم يوفون بثبوت النون مع "لم"". ومع ذلك مازلنا نحكم على أمثلة الطلاب من هذا القبيل بأنها خطأ. وهذا الحكم يتمشى مع معاييرنا التي اخترناها للحكم في هذه القضية. ومن هذه المعايير العودة إلى القواعد النحوية، المشهورة والمتفق عليها بين الجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ثانيا: الاختيار ونعني به أن يختار المنشئ -متكلما أو كاتبا- كلماته أو صيغه بحيث تكون صالحة للتعبير عن معانيه في مواقفها الاجتماعية المعينة، وبحيث يصح ربطه بعضها ببعض بطريق مخصوصة، أو على وفق قواعد الربط والتعليق المتعارف عليها في اللغة المدروسة. والاختيار بهذا المعنى يرتبط بالموقعية أشد ارتباطا وأوثقه، إذ ليس يقبل مجرد رص الكلمات أو الصيغ بعضها بجوار بعض بدون أن تقع كل واحدة منها في موقع يناسبها في التركيب، وذلك بالنظر إلى سوابقها ولواحقها، حتى يصير البناء كله وحدة متكاملة متماسكة الأطراف. وباستثناء عبد القاهر الجرجاني ومن لف لفه، لسنا نعلم أن أحدًا من السالفين أو الخالفين قد اهتم بالاختيار بهذا المفهوم الاهتمام المناسب لحاله، أو وقف عنده وقفة تكشف عن أبعاده وتوضيح قيمته أو دوره بوصفه عنصرا من عناصر نظام الجملة. وعبد القاهر نفسه اكتفى في هذا المجال بإشارات سريعة متناثرة هنا وهناك، تحتاج إلى جهد للتعرف على مقاصده بوضوح، وإلى نظرة بصيرة بأسلوب الرجل في التفكير وطرائقه في التعبير. فمن ذلك مثلا قوله: وينبغي "أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون الكلم إخبارا وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجبا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة"1. ولم يشأ عبد القاهر بعد ذلك أن يضيف شيئا من شأنه أن يبين تفاصيل الاختيار وطرائقه وأنماطه وكيف تكون هذه الأنماط، ولو بذكر أمثلة منوعة ومصنفة على وفق هذه الطرائق والأنماط. هذا بالإضافة إلى أنه كان يشغل نفسه بنوع من الاختيار، وهو اختيار الأجود والأفضل حتى تتم بلاغة الكلام، على حين أنا نقصد به إلى مجرد اختيار العناصر التي يصح بها الكلام من الوجهة التركيبية المحضة. ودليل انشغاله بفكرة "انتقاء" الأفضل والأجود هذه، قوله: "هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة، حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له عن صاحبتها على ما هي موسومة به حتى يقال: إن "رجلا" أدل على معناه من "فرس" على ما سمي به؟ وحتى يتصور في الاسمين الموضعين لشيء واحد أن يكون هذا أحسن نبأ عنه وأبين كشفا عن صورته من الآخر، فيكون "الليث" مثلا أدل على "السبع" المعلوم من "الأسد"2. كذلك ربط عبد القاهر "الاختيار" بالموقعية. وأدرك ما بينهما من تلازم، إذ هما يكونان نظرية النظم عنده. يقول في ذلك "على الرغم من أنه لا يزال يضرب على وفاق حرفته التي تتمثل في مراعاة الأفضل والأجود": "وهل يقع في وهم -وإن جهد- أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية أو أن تكون حروف هذه أخف وامتزاجها أحسن وما يكد اللسان أبعد؟ وهل تجد أحدا يقول هذه اللفظة فسيحة إلا وهو يعتبر   1 عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز ص30 مطبعة الفتوح، سنة 1331هـ بالقاهرة. 2 دلائل الإعجاز ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها"1. وشأن عبد القاهر هنا شأنه في الحالة السابقة، حيث أوجز الكلام إيجازا "وهو كلام نظري في جملته مكرر في أكثر من موضع في كتابه"، فلم يأت بتفاصيل مبينة أو أمثلة موضحة لكيفيات استعمال الكلام في إطار عنصري نظريته، الاختيار والموقعية. ولسنا ندعي أننا قادرون في هذا البحث على أن نأتي بالبدع أو بما لم يأت به الأولون والآخرون، وإنما سنحاول جهد الطاقة أن نلقي ضوءا على فكرة الاختيار هذه عن طريق مناقشاتنا لبضع صوره وأمثلته التفصيلية، كما التقطناها التقاطا من أخطاء الطلاب في هذا المجال. والملاحظ أن الطلاب "وغيرهم من المثقفين" يخرجون في كلامهم "المنطوق والمكتوب" على قواعد الاختيار2 المألوفة في اللغة الفصيحة خروجا يسترعي النظر ويقتضي منا وقفة متأنية قبل إصدار الحكم على هذا السلوك اللغوي الجديد. إن الناظر المدقق في عربية اليوم لا يكاد يجد جملة أو عبارة تخلو من اختيار كلمة أو صيغة3 لم تألفها هذه الفصيحة في استعمالاتها "التقليدية" أو لم تجد نوعا من التساؤل أو الاعتراض من بعض الدارسين. والحق أننا لو نظرنا إلى هذه "التجاوزات" "وما أكثرها! " بنظرة حرفية ملتزمة   1 دلائل الإعجاز ص30. 2 ليس للاختبار في العربية قواعد مدروسة ذات انضباط وتحديد واضحين، على النحو الذي جاءت به قواعد الإعراب مثلا، وإنما هناك نماذج من الاستعمال محفوظة يدركها أهل النظر ويتعرفون عليها بالخبرة والممارسة. وأساس هذه المعرفة النصوص الأدبية الأصيلة، أو أقوال المعجمات أو الإشارات الخفيفة المتناثرة هنا وهناك في كتب الصرف والنحو والبلاغة ... إلخ. 3 الكلمة في هذا الباب والبابين التاليين تعني "اللفظة" دون تحديد لجنسها الصرفي. أما الصيغة فهي الكلمة محددة الجنس الصرفي والوظيفة النحوية، أهي اسم أم فعل، فعل ماض أم مضارع، أم هي أداة ... إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 بدقائق قواعد الاختيار في العربية لاستطعنا إخراج لغة هؤلاء الطلاب "وغيرهم" من دائرة القبول. ولعل هذا الموقف كان واحدا من الأسباب التي دعت المختصين من رجال المجامع اللغوية ونحوها إلى النظر في بعض ما جد من استعمالات ورآه جمع منهم مخالفا لأصول العربية، وحاولوا إخضاعه لما سموه أحيانا "بالتصحيح" أو التفصيح أو التأويل والتقدير. وربما قبلوه أو أمثلة منه دون الالتجاء إلى هذه الطرق، على أساس من شيوعه وكثرة تداوله بصورة تجعل رفضه تعنتا وتعسفا، وبخاصة إذا كان مفيدا في مواقعه ولم يجدوا له بديلا أو مخرجا. وهذه أمثلة مما حاولوا معالجته في هذا الباب، وجلها أو كلها تدور في نطاق الكلمات أو الصيغ المفردة، إذ قلما تناولوا التراكيب وخواصها الجديدة بالدراسة. 1- رأوا الفعل "استهدف" "على وزان استفعل" متعديا في قولهم "استهدف المصلحة العامة"، فرأوا تخريجه على أن السين والتاء فيه "للجعل أو الاتخاذ"، وأجازوه في الاستعمال العام. 2- رأوا "التقييم، وقيم" مستعملين في معنى بين القيمة وحددها، وكان حقهما بالواو لا بالياء، فأجازوهما لشيوعهما وللتفرقة بينهما وبين تقويم وقوم "في معنى التعديل. وجاءت إجازتهم هذه استنادا إلى ورود نحو "عيد" الناس إذا شهدوا العيد، ولم يقولوا فيه "عود" بالواو تحاشيا عن توهم أنها من العادة". 3- رأوا "التبرير وبرر" مستعملين في معنى جعله مقبولا مستساغا فأجازوهما لشيوعهما استنادا إلى قرار عام أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة في قياسية تضعيف للتكثير والمبالغة. "وأصل الفعل بر، في مثل بر حجه = قبل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 4- وكثيرا ما يحتدم الخلاف بين المجمعين حول تصحيح صيغة أو إجازة استعمالها في مواقع معينة في التركيب. فالمعروف أن "أي" في الفصحى اسم مبهم قد يأتي استفهاما أو موصولا أو شرطا أو صفة لنكرة. ولكنها في لغة اليوم قد "تشغل مواقع أخرى فتقع فاعلا أو نائب فاعل أو مفعولا به" من ذلك مثلا قولهم: لا يعجبني أي كلام في هذا الموضوع. لم يأخذ منه أي كتاب. "وقد أتعب أعضاء المجمع أنفسهم في رد هذا الاستخدام المعاصر إلى معنى من معانيها المعروفة في الفصحى. وقد كان الأستاذ العقاد ذا بصيرة قوية حين قال تعليقا على هذه المحاولات، أضاف الصحفيون إلى اللغة العربية تلك العبارة لتدل على المعنى الذي تدل عليه كلمة في اللغة الإنجليزية، دون أن يخلوا بالمعنى الأصلي لكلمة "أي". ولو لم يبتكروا هذا التعبير لبقي مقابل الكلمة ناقصا في العربية، وليس من واجبنا أن نترك لغتنا عاجزة عن الدلالة عما تدل عليه اللغات الحية الأخرى"1. وهكذا لو تتبعنا ما عرض له المجمعيون في هذا الصدد لخرجنا بنتيجة واضحة، هي أن عربية اليوم قد فتحت الباب على مصراعيه لاستعمالات لغوية جديدة تنتظم كلمات أو صيغا يختلف الدارسون في قبولها أو جواز اختيارها في هذا التركيب أو ذاك، لورودها على غير المألوف في الفصحى، مسجلا في صورة قواعد، أو مدركا بالذوق اللغوي أو الخبرة والممارسة. وكذلك نحن، عرضت لنا عشرات الأمثلة في لغة طلاب الجامعات حرنا في تقويمها والحكم عليها، لاحتمالها وجوه الصحة والخطأ، بسبب اضطراب   1 لغة الصحافة المعاصرة، للدكتور محمد حسن عبد العزيز 57، سلسلة "كتابك" العدد 98 "دار المعارف بالقاهرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 قواعد الاختيار في الفصحى، أو لورودها على وجه يبدو مقبولا وإن لم ترد في القديم نصوص تؤيده. والحق أن ظاهرة الاختيار "الجديدة" في عربية المثقفين اليوم تحتاج إلى دراسة مستقلة، تنبني على الملاحظة الشاملة والإحصاء الدقيق، حتى يمكن إبداء الرأي فيها بصورة علمية واضحة. ولقد اكتفينا في مناقشتنا هذه بإيراد نماذج قليلة، تأكدنا من وجه الخطأ فيها، وصرفنا النظر عن كل ما يحتمل الخلاف في التقدير أو يثير الجدل بلا طائل. ولقد تبين لنا أن الخطأ في الاختيار قد يكون في اختيار الكلمة أو اختيار الصيغة. والأول لا يؤثر في قواعد الربط والتعليق في التركيب بقدر ما يؤثر في المعنى العام للجملة، ولكنه يؤدي في جميع الحالات إلى ظهور أنماط من التراكيب غير المألوفة في القديم. أما الثاني "وهو الخطأ في اختيار الصيغة" فمعظمه يؤثر في نظام الجملة من موقعية وما يتبعها من ربط وتعليق، وبعضه ينحصر في الصيغة المفردة لورودها على وجه مخالف لقواعد الصياغة الصرفية. الخطأ في اختيار الكلمات: كثيرا ما تقع الكلمة في موقع لا يناسبها في التركيب بسبب من معناها المعجمي كما في نحو: لا أفهم طالما أنت موجود وصوابه " ... مادمت موجودا" لأن "طالما" بمعنى "طال" ومثالها صحيح: طالما نصحتك. خرجوا سويا وصوابه "خرجوا معا"، "سوى" في اللغة معناه الكمال. يقال "هو سوى الخلقة". لا يجب أن تفعل كذا ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 والاستعمال الصحيح هو: "لا يجوز لا يصح، أو يجب ألا ... ". الرؤيا اليوم غير واضحة والمقصود الرؤية البصرية. والرؤيا لا تكون إلا في النوم، فهي من رأي في منامه "رؤيا" على وزن فعلى بدون تنوين. ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} وقوله: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} . وقد يحدث الخطأ في الخلط في استعمال كلمة مصحوبة بصيغة أو صيغ لا تناسبها في السياق المعين، كما في قولهم: أخبار كثيرة يسجلها التاريخ في الماضي حيث استعملوا الفعل المضارع مرتبطا بكلمة "الماضي". ولكن يبدو أن هذا النمط اتجاه جديد في لغة الصحافة بوجه خاص، حيث يقابل القارئ عناوين كثيرة من نحو: أسرار خطيرة تذيعها النيابة أمس ومنه كذلك ما ورد على لسان شوقي: إن عزا لم يظلل في غد ... بجناحيك ذليل مستباح حيث استعمل المضارع المنفي بلم وربطه "غد"، وهو يبدو غير مقبول، لأن المضارع المسبوق بلم يدل على الماضي ومع ذلك ارتبط بما يفيد الاستقبال صراحة وهو كلمة "غد". الخطأ في اختيار الصيغ: وهذا النوع ضربان: الأول: قد يكون الخطأ في اختيار الصيغة المفردة لمجيئها على وزان خطأ أو يؤدي إلى معنى غير مقصود، وفي هذه الحالة تبدو الصيغة قلقة في موضعها وإن لم تؤثر على قواعد النظم أحيانا. أما الضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الثاني فنعني به اختيار صيغة قد تكون صحيحة من الوجهة الصرفية المطلقة ولكن مصاحبتها لغيرها من السوابق واللواحق أوقع المتكلمين في خطأ واضح. وأمثلة النوع الأول كثيرة إلى حد يفوق الحصر في لغة الطلاب وغيرهم ممن يزعمون معرفة العربية معرفة جيدة. من ذلك ما يلي: هذا القرار لاغي والمقصود أبطل عمله. وصحيحه ملغي "على وزان مفعل" لأنه من ألغى الرباعي. أما "لاغي" فهو من "لغا، يلغو" بمعنى قال قولا سخيفا. ومنه قوله تعال: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} أي لا تسمع فيها لغوا. عمل مشين من الرباعي بضم الميم، وصحيحه عمل شائن لأنه من الثلاثي "شان" واسم المفعول منه "مشين" على وزان "مبيع". أما شأن الرباعي فلا وجود له في اللغة. استقل القطار ينصب "القطار" على أنه مفعول به. والصحيح "أقله القطار" برفع القطار على أنه فاعل، على وفاق قولهم "أقل الجرة" أطاق حملها" أو "استقله القطار" بالرفع على الفاعلية. بمعنى "مضى به وارتحل" من قولهم "استقل القوم" مضوا وارتحلوا. والخطأ في اختيار الصيغة هنا أدى كما ترى إلى وقوع خطأ في التركيب كله، إذ نتج عنه اختلاف في وظيفة الصيغة المصاحبة. وأدى هذا الخطأ بنوعيه إلى خطأ واضح في المعنى، إذا استقل القطار بالنصب معناه "في الأصل" حمل "الرجل" القطار، وهو لغو. أما أمثلة النوع الثاني من الخطأ في اختيار الصيغ فهي كثيرة أيضا، وهذه الأمثلة تبرز بوضوح مدى تأثير هذا الخطأ على خواص التركيب كله، إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 تنتج عنه مخالفات نحوية صريحة في الموقعية والربط والتعليق، وكل مظاهر النظم تقريبا. وفيما يلي تصنيف لأنماط الخطأ في هذا الباب، مراعين في كل ذلك الإشارة إلى الصيغة "أو الصيغ" التي أدت إلى خروج التركيب كله من قواعده المقررة. 1- في التعدي واللزوم: يكثر استعمال الطلاب للأفعال المتعدية واللازمة في صور غير مألوفة في القديم أو في غير ما قرر لها من قواعد صرفية ونحوية. وهم في ذلك يتبعون العرف السائد في الأساليب الحديثة، بحيث أصبح هذا الاستعمال ظاهرة عامة، ليست تخص طبقة من المثقفين دون الأخرى. وفيما يلي أمثلة لأهم أنماط هذا الاستعمال. 1- قد يأتي الفعل اللازم متعديا بحرف الجر، نحو: تأكدت من الحقيقة بعد البحث في مراجع كثيرة والمعروف أن "تأكد" مطاوع للفعل أكد، فهو لازم. 2- وأكثر من السابق في الاستعمال جعل الفعل اللازم متعديا بنفسه إلى اسم ظاهر أو ضمير. يعيش الفعل المتعدي بحرف الجر متعديا بنفسه، وهو كثير. احتجت مراجع كثيرة وصلت القاهرة في ساعة متأخرة وأكثر ما يكون هذا المثال الثاني عندما يكون المتعدي إليه دالا على المكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 4- وقد يحدث العكس، أي يقع الفعل المتعدي بنفسه متعديا بحرف الجر، وهذا شائع جدا حتى وصل درجة تشبه الاطراد: أمكن لنا أن نفعل حاز على الدرجة تحرى عن الأمر إلخ 5- جعل الفعل المتعدي إلى الأول بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر متعديا لاثنين. أهديته كتاب وصحته أهديت إليه كتاب، وهو رباعي بمعنى قدم هدية، بخلاف الثلاثي "هدى" في نحو "هداه الله الطريق" فهو متعد إلى اثنين بنفسه. 6- وقد يقع العكس: كلفته بالأمر في مقابل صحيحه وهو "كلفته الأمر" بدو الحرف في الثاني، إذ هو متعد إلى اثنتين بنفسه. وهناك حالات أخرى كثيرة يمكن ادخالها في هذا الباب وأن لم تكن متعلقة بتحويل المتعدي إلى لازم أو العكس، وإنما تختص باستعمال حرف جر مكان آخر مع هذا الفعل أو ذاك. وأمثلة هذا الضرب من الكلام شائعة في عربية اليوم منطوقة ومكتوبة في بيئات المتعلمين جميعا. ومن أمثلته: أثر علينا هذا الموقف وأسدى لي نصحا قال بأسلوب الواثق مما يقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ففي الأول استعمل الحرف "على" "في مكان" "في"، وفي الثاني اللام بدلا من "إلى" واستخدم في الثالث "من" وحق الحرف أن يكون "الباء". نحن ندرك أن كثيرا من هذه الأمثلة السابقة يمكن تخريجه في إطار أصين من أصول التقعيد في العربية، وهما "التضمين" و"التعاور بين الحروف". ولكنا مع ذلك لم نأخذ بأيهما هنا، ذلك لأن الأصل الثاني "وهو التعاور" لم يحاول واحد منهم -فيما يعلم- أن يكشف عن حدوده أو أن يبين طرائفه ومواقعه. وإنما هو أشبه بقوله طرأت على أذهان بعضهم للتخلص مما يقابلهم من مشكلات في هذا الصدد. على أنا نحس أن الأخذ به إنما هو ضرب من التحمل قد يؤدي إلى التعسف أحيانا في التقدير وإصدار الحكم. كذلك لم نحاول الأخذ بالمبدأ الأول "وهو التضمين" هنا لأسباب كثيرة، أهمها في نظرنا اختلاف رجال التقعيد في القديم في قياسيته أو سماعيته وفي حدوده الجائز الأخذ بها. هذا بالإضافة إلى أن بعضهم نص على أنه لا يلجأ إليه إلا لأغراض بلاغية، وبهذا الشرط الأخير أخذ مجمع اللغة العربية بالقاهرة1. ونحن في دراستنا هذه لا علاقة لنا بالنظر في بلاغة الكلام أو اختيار الأجود والأفضل، وإنما مهمتنا كلها لا تتجاوز النظر في مجرد الصحة والخطأ. ولسنا نظن بحال أن هؤلاء الطلاب وأمثالهم من المثقفين يقصدون في أساليبهم هذه إلى أغراض بلاغية، وإنما الذي دفعهم إلى الوقوع فيما وقعوا فيه هو الجهل المحض بقواعد التأليف في العربية. 2- اختيار أدوات النفي: نلحظ خلطا في استعمال الطلاب بين أدوات النفي مع الفعل. وأكثر ما جاء من ذلك اختيارهم لأداة النفي "لا" مع الفعل الماضي مطلقا.   1 مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة 1/ 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 لا زال الموضوع يحتاج إلى دراسة ومكان النفي هنا يقتضي "ما"، لأن "لا" النافية لا تصاحب الماضي إلا في الدعاء في مثل "لا أصابك الله بمكروه" أو إذا تكررت مع فعلها، "لا قام ولا استخار". وقد تختار "لن" في مكان "لم" مع المضارع، كما في قولهم: لن يعرف أبو عبيدة كل هذه المصطلحات في مقام "لم يعرف ... " وقد تأتي "لم" بدلا من "لا" مع المضارع أيضا: القارئ المعاصر لم يفهم القصيدة بسهولة. ويقتضي المقام استعمال "لا". 3- اختلاف زمن الفعل: وقع في أمثلة قليلة استعمال فعلين مختلفي الزمن مع عدم وجود مسوغ من السياق أو المقام والذي شاهدناه بالفعل هو وقوع المضارع متلوا بماض: كان قدامة يميل إلى النزعة العقلية وفضلها على غيرها. 4- الوصف بالاسم الجامد: شاع في أوساط الطلاب اختيار الاسم الجامد وصفا، على خلاف القاعدة العامة، وهم في ذلك متأثرون بوسائل الإعلام، كما في نحو: مصر النيل، مصر الخير، مصر الأهرام والرأي عند الجمهور أن الوصف يكون بالمشتق وما يشبهه، كما يبدو ذلك في قول ابن مالك: وانعت بمشتق كصعب وذرب ... وشبهه كذا وذي والمنتسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وأجاز ابن الحاجب وجماعة منهم الوصف بالاسم الجامد، إذ الضابط في الموضوع كله "دلالة الوصف عن معنى في متبرعه كالرجل الدال على الرجولة". ومن ثم يجوز في اسم الجنس المحلى بأل بعد اسم الإشارة كونه نعتا ككونه بدلا أو بيانا نحو هذا الرجل قائم"1. 5- فصل ما حصه الوصل من الضمائر: وهذا قليل، ومثاله: لعل أنني نسيت والمفروض أن لعلي أو لعلني. وقد ورد مثل هذا الاستعمال في أقوال بعض الشعراء المجيدين في الحديث، كما في قول إبراهيم ناجي في قصيدة "العودة": فيجيب الدمع والماضي الجريح لم عدنا؟ ليت أنا لم نعد 6- اختيار صيغ عامية: قد يكون من المناسب أحيانا اختيار صيغة عامية أو أكثر لشدة ارتباطها بالموقف، أو لأنها أوفق من غيرها في هذا المقام أو ذاك، فهي حينئذ أشبه "بالمصطلح" الذي لا يمكن الاستغناء عنه بقطع النظر عن صياغته أو انتمائه لهذا المستوى اللغوي أو ذاك. لكن ليس من المقبول اختيار الصيغ العامية في غير حاجة أو ضرورة ملحة، كما في عبارة واحد من الطلاب: لم يعد لدى الشاعر وقت للت والعجم. أو قول الآخر: لكن ضروري من استخدام أسلوب آخر.   1 حاشية الخضري على ابن عقيل 2/ 49 المطبعة الميمنية بالقاهرة 1305هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وواضح من المثالين أن الخلط فيهما يرجع إلى عجز الطالب وعدم قدرته على التعبير بالفصيح المناسب للمقام. والحق أن التأثر بالعامية في إطار "الاختيار" أصبح الآن واسع الأبعاد عميقها، لدرجة أنه يستحق نظرا خاصا ودراسة مستقلة. ومثله في هذا التأثر باللغات الأجنبية. حيث يعمد المنشئون -متكلمين وكاتبين- إلى تعريب الألفاظ والعبارات الأجنبية بصور تتفق أو تختلف مع قواعد العربية في ذلك. وهذا الضرب الثاني من التأثير والتأثر هو الآخر جدير أن يلقى اهتماما خاصا في إطار دراسة "التعريب ومشكلاته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ثالثا: الموقعية الموقعية وثيقة الصلة بالاختيار وهما معا يكونان فكرة النظم عند عبد القاهر الجرجاني. وقد أدرك هو بثاقب نظره هذه العلاقة، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك. ويعود فيؤكد هذه العلاقة تأكيدا واضحا، وإن كان ذلك بطريق التمثيل لإمكانات اختيار الصيغ للمعنى العام الواحد وبيان الفروق بين كل صيغة وأختها بالإشارة إلى موقعها من التأليف. يقول: "واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت فلا تخل بشيء منها. وذلك أنا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه، فينظر في الخير إلى الوجوه التي تراها في قولك زيد منطلق وزيد ينطلق وينطلق زيد ومنطلق زيد وزيد المنطلق والمنطلق زيد، وزيد المنطلق وزيد هو المنطلق". "وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك إن تخرج أخرج وإن خرجت خرجت وإن تخرج فأنا خارج وأنا خارج إن خرجت وأنا إن خرجت خارج. وفي الحال إلى الوجوه التي تراها في قولك جاءني زيد مسرعا وجاءني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 يسرع وجاءني وهو مسرع أو هو يسرع، وجاءني قد أسرع وجاءني وقد أسرع. فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجيء به حيث ينبغي له. وينظر في الحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصيته في ذلك المعنى، فيضع كلا من ذلك في خاص معناه، نحو أن يجيء بما في نفي الحال وبلا إذا أراد نفي الاستقبال، وبأن فيما يترجح بين أن يكون وألا يكون، وبإذا فيما علم أنه كائن1". والكلام على "الموقعية" له مكان في أعمال النحاة والبلاغيين، وإن جاء ذلك بطريقة ينقصها الاستقصاء والحصر والتصنيف إلى أنماط بحسب السمات التركيبية للجمل، كما ينقصها التوضيح في باب أو أبواب خاصة بها. وإنما جاء ذكرها في هذه الأعمال متناثرا هنا وهناك: ففي باب الفاعل شيء وفي المبتدأ والخبر أشياء، وفي المفعولات نظرات وفي الحال والتمييز لمحات وفي التوابع إشارات، ومن ثم كان على الدارس أن يجري وراء هذه الأبواب ويلهث في البحث عن ضالته التي ربما لا يسعفه الحظ في العثور عليها، على الرغم من أنها قد تكون مبثوثة أو محشورة في إشارة جانبية في شرح أو حاشية أو تعليق. هذا بالإضافة إلى أن النحاة المحترفين لم يعنوا بالإشارة إلى أهمية الموقعية في تأليف الكلام، وإن كانت هناك إشارات جيدة إلى ذلك في بعض أقوال البلاغيين من أمثال عبد القاهر الجرجاني الذي يلخص هذه الأهمية بقوله: واعلم أن لا محصول للكلام "غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خيرا عن الآخر أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول أو تأكيدا له أو بدلا منه، أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون الثاني صفة أو حالا أو تمييزا، أو تتوخى في كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنيا فتدخل عليه   1 عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز 48 مطبعة الفتوح 1331هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الحروف الموضوعة لذلك، أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطا في الآخر، فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بعد اسم من الأسماء التي ضمنت معنى ذلك الحرف. وعلى هذا القياس"1. والموقعية في عربية اليوم متأثرة إلى حد واضح بالأساليب الأجنبية حتى ليستطيع الواحد منا أن يرد الجملة أو العبارة أو الفقرة كلها من حيث ترتيب الكلم فيها إلى أصل أجنبي. ولا يعني هذا بحال أن كل ما جاء على هذا النمط من الأساليب خطأ جملة وتفصيلا. فبعض هذه الأساليب لا يوجد في العربية من القواعد ما يعارضه أو يمنعه صراحة، وبعضها مستحدث ويمكن قبوله على وجه من الوجوه. ولكن هناك في الجانب الآخر تراكيب جاوزت حدود الصواب في العربية لأنها صيغت صياغة أجنبية بعيدة عن روح العربية وما قرر لها من قواعد، كما في نحو: أنا كمصري ... المصوغ على وفاق التركيب الإنجليزي. وصوابه: أنا -مصريا- أو بوصفي مصريا ... ومنه كذلك: كلما ذاكرت كلما فهمت بتكرير الرابطة "كلما". وقد جاءت الجملة على غرار التركيب الإنجليزي. والملاحظ على كل حال أن لغة الطلاب "وغيرهم" قد اتخذت اتجاهات معينة تقرب أن تكون السمة العامة في كلامهم من حيث الموقعية. من هذه الاتجاهات حالات مقبولة، ورد مثلها في العربية، وإن لم تكوّن على وفق المشهور أو الأكثر شيوعا فيها. من هذه الحالات:   1 عبد القاهرة الجرجاني في دلائل الإعجاز ص36 مطبعة الفتوح 1331هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 1- تقديم متعلق الفعل من جار ومجرور أو ظرف، نحو: في حديث سابق، أشرنا إلى كذا ... ويبدو التركيب كما لو كان مكونا من عنصرين، أحدهما جاء بمثابة المقدمة أو التمهيد للثاني، ولكن دون فصل تام بينهما بدليل "النغمة الصاعدة" التي ينتهي بها الجزء الأول، وهذه النغمة دليل اتصال الكلام. وأحيانا يأتون بأداة بين الجزأين تشعر بشيء من الانفصال بينهما، كما في مثل: ومن جهة أخرى، فإني لا أرى هذا الرأي حيث جاءت الفاء في هذا الموقع على غير المعهود في الأساليب العربية المتفق على صحتها. 2- في الجمل الفعلية "وهي ما اشتملت على فعل بقطع النظر عن موقعه يكثر تقديم الاسم على الفعل، على عكس المشهور في الأساليب القديمة. 3- حرية الموقعية بالنسبة للمفعول المطلق إذا لم يذكر فعله، والأكثر تصدير الجملة به. ومثاله: انطلاقا من هذه النقطة تتفرع المناقشة. وكذلك الحال في المفعول لأجله، ويكثر وقوعه في بدء الكلام، نحو: أملا في الحصول على تقدير، أعمل ليل نهار. 4- يأتي الحال الجملة متقدما على معموله وصاحبه من وقت إلى آخر: وهو يخرج من المدرج اصطدم بالباب بالإضافة إلى ذلك هناك حالات جديدة في الصياغة من حيث ترتيب الكلام في التركيب، وتبدو في ظاهرها كما لو كانت مخالفة لقواعد العربية نعني بذلك ما جرى عليه العرف الحديث في لغة الصحافة ونحوها "وتأثر به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 المثقفون جميعا من طلاب وغيرهم" من استخدام أدوات الاستفهام في مواقع غير معهودة في القديم، كما في قولهم مثلا: المتهربون من الضرائب، كيف نتعقبهم؟ الامتحان الفصلي، متى يكون؟ والمعروف أن هذه الأدوات لها الصدارة في الفصحى، ومن ثم إذا وقع أحدها مبتدأ أو خبرا وجب تقديمه. وقد وهم بعض الدارسين المحدثين فظنوا أن الأداة الاستفهامية في هذين المثالين قد فقدت خاصتها، حيث لم تتصدر التركيب الذي وقعت فيه. والحق أن الأداة هنا ما زالت في صدر الكلام، أي الجملة التي وقعت بها الجملة الثانية في التركيبين السابقين. فكأن التركيب مكون من جملتين، جاءت الثانية منهما مصدرة بأداة الاستفهام جذبا للانتباه. ودليل ما نقول وجود سكتة خفيفة بين الجانبين عند النطق الصحيح للتركيب كله. وقد أشرنا إلى ذلك بوضع فاصلة في المثالين. أما أنماط الخطأ في الموقعية فهي متعددة، ويمكن أن نجمل أهمها فيما يلي: 1- تأخير ما حقه التقديم: ونعني بذلك في غير حالات الاستفهام السابقة، ويظهر هذا بكثرة عند استخدام الرابطة "بينما"، إذ يقولون: دخلت عليه بينما كان يذاكر وقد نصوا على أن "بينما وبينا" لها صدارة الكلام. 2- الفصل بين الصفة والموصوف: والمقصود الفصل بينهما بأجنبي، كما في مثل: كان شاعرا ربما غير مجيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 فالصفة هي "غير مجيد" وقد فصل بينهما وبين موصوفها بصيغة أجنبية وهو غير جائز عندهم. 3- الفصل بين الموصول وصلته: وهو كثير في أسلوب الأدباء المعاصرين، وربما كان ذلك منهم للتأكيد على صيغة معينة، هي الفاصلة بين الموصول وصلته، كما في مثل: الشاعر الذي بشعره الغزير يفوق أقرانه شاعر فحل. والاتفاق بينهم على أن الفعل بأجنبي ممنوع، وعده ابن مالك شاذا ونستطيع في مثالنا هذا أن نعتبر الفاصل غير أجنبي إذ هو متعلق بالفعل بعده. وأصل الكلام "الذي يفوق أقرانه بشعره الغزير ... " وبهذا يكون الكلام له وجه من العربية. 4- الفصل بين المتعاطفين: ومثاله: قابل أعضاء هيئة التدريس الحاليين وكذلك السابقين. فالفصل هنا جاء، بإقحام الصيغة كذلك. وأغلب الظن أنه من تأثير اللغة الإنجليزية في مثل and also، وفي مثالنا هذا لا يمكن إعراب "كذلك" خبرا مقدما و"السابقين" مبتدأ مؤخرا، إذ هو جمع مذكر سالم، ولو كان الأمر كذلك لوجب أن يكون بالواو لا بالياء. 5- الفصل بين المضاف والمضاف إليه: وأكثره واقع بين المتعاطفين في التركيب الإضافي، كما في مثل: طلاب وأساتذة وعاملو الكلية وهذا النوع من الفصل له وجه ضعيف في العربية وأجازه بعضهم في الشعر. وقد يأتي الفصل أحيانا بغير ذلك، نحو: مدير عام الإدارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فكلمة "عام" هذه يحتمل أن تكون صفة، أو أن تكون مقحمة دون إدراك لوظيفتها في مثل هذا التركيب الذي ينبغي أن يكون: المدير العام للإدارة أو "مدير الإدارة العام". وفي هذه الحالة الأخيرة يكون هناك فصل بين الصفة والموصوف، ولكنه فاصل غير أجنبي، إذ هو مضاف إليه وهو مكمل للمضاف. 6- إضافة المؤكد إلى المؤكد: ومثاله: نفس الشيء وهو من آثار الأخذ من اللغات الأجنبية، ففي الإنجليزية يقولون: على الرغم من أنه في هذه اللغة تركيب وصفي لا إضافي. 7- العطف على الضمير المرفوع المستتر: يأتي كثيرا العطف على الضمير المرفوع المستتر بدون فاصل، مثل: لا يتفق والمجهود الذي بذلناه برفع "المجهول" والواجب هنا الفصل بين المتعاطفين بضمير منفصل، كما في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} فأنت جاء فاصلا بين المعطوف وهو "زوجك" والمعطوف عليه وهو الضمير المستتر "أنت" وقد نص النحاة على هذا الحكم عند شرح قول ابن مالك: وإن على ضمير رفع متصل ... عطفت فافعل بالضمير المنفصل فقالوا وهذا الحكم ينطبق عند العطف على الضمير المرفوع المستتر. تلك أمثلة تشير إلى أهم أنماط الخطأ في الموقعية. وهناك بالإضافة إلى ذلك حالات أخرى من المخالفات في هذا الباب، وهي في الوقت نفسه تنتظم أخطاء في الاختيار. ومن ثم يمكن أن تنضم إلى أي من البابين، ولكنا رأينا أنه من الأنسب لها عقد باب خاص بها، لأنه لم تتح لنا حتى الآن فرصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 تصنيفها في إطار مسائل هذ الباب، أو ذاك. وأكدنا هذا الصنيع بوضع عنوان منفصل. مصاحبات جديدة: ونعني بهذا المصطلح ضم صيغة إلى أخرى ومصاحبتها له على وجه يشبه أن يكون مطردا. وهذه المصاحبات كلها أو جلها مرفوضة من وجهة نظر القواعد التقليدية، لأنها تنتظم مخالفات نحوية فيما يتعلق بقوانين التأليف. ومن أشهر الأمثلة وأكثرها وقوعا الأنماط التالية: 1- سوف + لن + الفعل. 2- سوف + لا + الفعل. ومثالها: سوف لن تأخر بعد اليوم. سوف لا أفعل هذا ثانية. قالوا: "السين" وسوف مختصات بالمضارع وهما بمثابة الجزء منه فلا يفصل بينهما وبين الفعل فاصل، هذا بالإضافة إلى أن "لن" تفيد الاستقبال "مع إفادتها النفي" فكان أداتين اجتمعتا لمعنى واحد وهو عبث. 3- هل + لا + الفعل. 4- هل + السين أو سوف + الفعل. الأمثلة: هل تستطيع ذلك؟ هل ستذاكر الليلة؟ والمعروف أن "هل" لا تدخل على أداة نفي، وإنما يقال "ألا تستطيع" بالاستفهام بالهمزة. ومن المقرر كذلك أن هل "تخلص الفعل المضارع للاستقبال" والسين وسوف للاستقبال. فدخول "هل" عليهما يعني اجتماع أداتين لمعنى واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 5- قد + لا + الفعل. مثل: قد لا أحضر هذه المحاضرة. قالوا: أن قد تختص بالفعل المثبوت، كما منعوا الفصل بينها وبين الفعل. على أن مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد أجاز هذا الأسلوب. وهناك في لغة الطلاب وغيرهم حالات أخرى من هذا الضرب، ولكن ليس من شأننا أن نأتي على كل ذلك في هذه الدارسة العاجلة. وإن كنا نبيح لأنفسنا الإشارة إلى حالات خاصة بالواو والفاء وما لحقهما من اتجاهات جديدة في الاستعمال تظهر في مصاحبتهما لصيغ معينة في التراكيب، وهي مصاحبات لا تجد سندا من القديم من حيث الاستخدام الفعلي والقواعد المسجلة معا. والواو والفاء "حالات خاصة". والواو: نلاحظ أن الواو في عربية اليوم قد استخدمت استخداما متوسعا فيه إلى حد ظاهر، حيث وقعت في مواقع لم يألفها نظام التأليف في القديم، وصاحبت صيغا ما كان لها أن تصحبها فيما روي عنهم من قواعد، أو نصوص أدبية. والواو في هذه المواقع الجديدة وهذه المصاحبات المبتكرة ليس من السهل التعرف على وظيفتها أو تفسير هذه الوظيفة بحسب القواعد التقليدية. هذه المواقع والمصاحبات كثيرة، ولسوف نكتفي هنا بإيراد أمثلة لأنماط التراكيب التي ترد فيها الواو مصاحبة للأدوات بوجه خاص. من ذلك ما يلي: "من لغة طلاب الجامعات": 1- "لا بد" + و + أن ... "لا بد" وأن تقوم بالواجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 "فعل" + و + أن سبق وأن أشرنا إلى ذلك في هاتين الحالتين لا نرى وظيفة واضحة للواو، بالإضافة إلى أنها في المثال الثاني وقعت بين الفعل وفاعله المؤول من "أن" والفعل، ولم يعهد في العربية مثل هذا الفعل. 2- بل + وفي مصر بل والعالم العربي 3- بل + و + حتى لا أعرف هذا الموضوع بل وحتى مغزاه 4- بل + و + لو بل ولو كان الأمر بيدي 5- بل + و + لا + حتى لا أعرف اسمه بل ولا حتى اسمه 6- الواو + حتى + و + لو وحتى ولو خان الصديق وهناك أمثلة أخرى كثيرة من هذا النوع، بالإضافة إلى أنماط من التراكيب صاحبت الواو فيها صيغا ليست بأدوات ووقعت فيها مواقع ليس للواو من وظيفة ظاهرة مثل: طول عمره وهو يخاف "هو يخاف طول عمره". منذ عشرة أيام ونحن ندعوهم "منذ عشرة أيام نحن ندعوهم". والتفسير الوحيد لهذه الأمثلة كلها هو أن: الواو زائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الفاء: كذلك ظهرت الفاء في مصاحبات تدعو إلى النظر لعدم وجود مسوغ ظاهر لوجودها وأكثر ما يكون ذلك في الجمل المركبة، حيث تستخدم كما لو كانت رابطة من الروابط، وأحيانا تأتي في بداية عبارة متعلقة بكلام سابق أو مترتبة عليه. وهذه أمثلة لها: وإذا رفا لقول بهذا رأي صحيح. كذلك فإن الإعراب أصل في الأسماء. ومن ثم فإني أخالف هذا الرأي. عندما تحضر فإني سأكرمك. وفي هذا المثال -كما نرى- استخدمت الصيغة "عندما" كما لو كانت أداة شرط، ووقعت الفاء في جوابها، كما يحدث تماما مع أدوات الشرط العادية، عندما يكون الجواب من هذا النمط من التركيب وهو كونه جملة اسمية. تلك لمحات تتعلق بالمخالفات الموقعية في لغة الطلاب والمثقفين بعامة، وهي لمحات تثير في النفس أشياء وتقتضي منا دراسة علمية متأنية لعربية اليوم لنرى رأينا فيما جد فيها من أساليب واستعمالات، وبخاصة أننا لم نعرض هنا لتأثير اللغات الأجنبية واللهجات العامية في اللغة الفصيحة في هذا المجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ثالثا: الموقعية ... الجزء: 1 رابعا: المطابقة المطابقة -كغيرها من عناصر نظام الجملة- نوقشت متناثرة هنا وهناك في تراث العربية، باستثناء أبواب نحوية معينة ركز فيها "نوع تركيز" الكلام على أوجه المطابقة واحتمالاتها، كما يظهر ذلك مثلا في التوابع والعدد وأفعل التفضيل والإضافة. ومن الظريف حقا أن تكون معظم الأخطاء التي يقع فيها الطلاب في هذا المجال مما تنتمي أمثلته إلى هذه الأبواب. والمطابقة في العربية تكون في: 1- في الشخص "متكلم، مخاطب، غائب" وهو خاص بالضمائر. 2- الإعراب. 3- في التعريف والتنكير. 4- في النوع "التذكير والتأنيث". 5- في العدد "الإفراد والتثنية الجمع". وهناك ضرب آخر من المطابقة تقتضيه طبيعة العربية وقواعدها كذلك، وهي ما يختص بالعاقل وغير العاقل. وهذا الضرب بالذات لم يحظ من علماء العربية إلا بلمحات سريعة لا تغني شيئا. وأخطاء الطلاب في قواعد المطابقة تختلف من حال إلى حال من حيث الكثرة والقلة. وفيما يلي كشف بالمثال عن هذه الأخطاء. وإن في إيجاز موجز. لم نلاحظ أخطاء في لغة هؤلاء الشباب في قواعد المطابقة في الشخص، وإن كنا لا نستبعد وجودها، ودليلنا على ذلك مستواهم الضعيف في قواعد العربية بوجه عام. والخطأ في الإعراب من حيث قوانين المطابقة موجود بكثرة. وذلك أمر بديهي، فقد سبق أن قررنا شيوع الأخطاء في الإعراب بعامة، ومن ثم ينطبق ما ذكرناه هناك على حالتنا هذه، وإليك أمثلة قليلة من هذا النوع، وهو خطأ مؤسف حقا. إن كفار قريش ومشركوها ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 فأتى بصيغة الرفع مع عطفها على منصوب هو اسم إن. ولا مجال للقول بأنها معطوفة على المحل. ومنه كذلك: أتى بكلام دقيقا اكتشف فنا جديد المطابقة في التعريف والتنكير: يظهر خطؤهم في ذلك في بابين اثنين بوجه خاص. الأول أفعل التفضيل. إنهم هنا يعرفونه بال حين يكون متلوا بمن، كما في قولهم: والأحسن من هذا ... نعم قد ورد مثله في الشعر في القديم، ولكن لم يؤخذ به، وعد مرفوضا من الجماعة. الباب الثاني التركيب الإضافي، غير أن ذلك محصور في نمطين من التراكيب، هما: 1- غير مضاف إليه الغير مفهوم: وصحته "غير المفهوم"، وذلك بسببين اثنين معا: "غير" متوغلة في الإبهام فلا تدخلها أداة التعريف في أي موقع وقعت فيه، وهي هنا في موقع المضاف. والمضاف في العربية لا تدخله أداة التعريف إلا إذا كان صفة مضافا إلى ما فيه "ال" و"كالجعد الشعر". ووصل أل بذا المضاف مفتقر ... إن وصلت بالثاني كالجعد الشعر 2- عدد + معدود الخمسة كتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وصحته "خمسة كتب" أو "الخمسة الكتب" على رأي الكوفيين، بتعريف الجزأين. وفي كل الحالات لا يعرف الجزء الأول لأنه مضاف. وحاول مجمع اللغة العربية بالقاهرة تصحيح هذا الاستعمال الشائع. المطابقة في النوع: يقع الخطأ في هذا الباب في نمطين معينين بوجه خاص، ولكن لا نعدم أمثلة متناثرة في أنماط أخرى، وهي قليلة لا تشكل ظاهرة. النمط الأول: التركيب العددي من هذا البناء: العدد من "1-10" + المعدود ومثاله: ثلاث أبواب ثلاثة صفحات والحق أن الخطأ في هذه الحالة وأمثالها ليس مقصورا على الطلاب أو عامة المثقفين، بل قد يقع فيه أهل الاختصاص. وهم إن وقعوا تأولوا أو تمحلوا. النمط الثاني: يظهر في هذا الشكل: مفرد مضاف + جمع تكسير "مضاف إليه ومفرده مذكر". إحدى المعاهد إحدى أركان التشبيه وهذا خطأ يمكن تفسيره "لا تسويغه". وهم المتكلمون فظنوا أن المضاف هنا يؤنثه لأنه مرتبط بجمع تكسير، وجمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض مواقعه، فتقول: جاء الرجال أو جاءت الرجال. ومنه كذلك نحو: أصبح علما ذات قواعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وقليلا ما نقابل بأمثلة أخرى من الخطأ في هذه الباب، مثل: كانت هذه الخطوة ذو حدين. والواجب أن يقول: "ذات" بصيغة المؤنث. وفي المثال خطأ آخر، كما ترى، وهو الخطأ في الإعراب. وقد نجد نحو: أدت تنوع الأدوات إلى غموض القصيدة. بتأنيث الفعل مع الفاعل المذكر، ولعل الذي أوقعهم في الخطأ هو إضافة الفاعل إلى جمع مؤنث، فالتبس الأمر على المنشئ. وهناك كثرة كاثرة من الأمثلة يذكر فيها الفعل مع إسناده إلى فاعل مؤنث تأنيثا مجازيا، مثل: شاع هذه الظاهر. ولكن مثل هذا التركيب جائز في العربية، على ما قرروا. الخطأ في العدد: قليلا ما يقع الطلاب في الخطأ في هذا الوجه من المطابقة. ومع ذلك قابلتنا أمثلة تشير إلى خطأ واضح في هذا المجال. وأكثره في الأشكال النحوية المنتظمة لمثنى وجمع، حيث يخلط الطلاب بينهما في المطابقة، كما في قولهم: هذان الكتابان هم. "المبتدأ مثنى والخبر جمع". وقد يقع العكس: وهم مبحثان. "ضمير الجمع مبتدأ والخبر مثنى". ومن المخالفة في المطابقة -على رأي- إسناد الفعل إلى الضمير مع ذكر الفاعل الظاهر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ذهبوا البلاغيون. وهو جائز على أنه لغة، قيل هي لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة" ومنه في القرآن {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} . وتأولت الجماعة هذه الأمثلة ونحوها، على ما هو معروف. بقي أن نشير إشارة خاطفة إلى معاملة الطلاب للأجناس "العاقلة وغير العاقلة". المشهور -وأظنه القاعدة العامة- أن الضمير "هم" بصيغة الجمع يشار به عادة إلى العقلاء، وربما جاء على خلاف ذلك قليلا، كما في قول واحد منهم: دواوينه الخمسة هم. وربما استعملوا اسم الموصول "ما" متعلقا بالعاقل: وراموا مما حاولوا اكتشاف لغة جديدة. ومنه في القرآن الكريم: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 1 وربما تأولوه. وبعد: فهذه إشارات خاطفة إلى أنماط الخطأ التي يقع فيها الطلاب في نظام الجملة العربية، وقد رأينا -فيما رأينا- أخطاء صارخة، لا ينبغي أن تمر دون تفكير وبحث ومحاولة الوصول إلى علاج. ولست أظن أن هذا الخطأ "وغيره" مقصور على طلاب وطن عربي دون الآخر، فالكل في الهم سواء. وهنا نتساءل: 1- ماذا ينبغي أن تكون عليه العربية. 2- أنريد أشكالا أو مستويات منها؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما هي؟   1 سورة النساء آية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 3- أنريد عربية عامة صحيحة تربط حاضرنا بماضينا وتحتفظ بأصول العربية الفصحى؟ 4- كيف، وما وسائل ذلك؟ 5- ما أسباب ما تعانيه العربية اليوم؟ وما وسائل العلاج؟ ومهما تكن الأسباب أو تعددت، فمن أهمها جهل العرب بلغتهم، بل بثقافتهم وحضارتهم وموقعهم في العالم. وأملنا أن نصل إلى إجابات صريحة واضحة في هذا الأمر كله، ذلك الأمر الذي أضحى غير مقبول من الوجهات القومية والثقافية بل الاجتماعية والاقتصادية كذلك ... والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 المبحث السابع: التعريب بين التفكير والتعبير مدخل ... المبحث السابع: التعريب بين التفكير والتعبير ينطلق الحديث من وقت إلى آخر في عالمنا العربي مناديا بوجوب تعريب العلوم باعتماد اللغة العربية لغة التدريس والتأليف والبحث العلمي والتقنيات الحديثة في جامعاتنا ومعاهدنا. وهناك من الدارسين أهل الاختصاص من لم يعيروا هذا النداء أي اهتمام، بل ربما عارضه بعضهم وأطلقوا شعارات أخرى ترمي إلى إسكات هذا النداء والتشويش عليه حتى لا ينفذ إلى الآذان ويخرج إلى حيز التنفيذ عاجلا أو آجلا. ولا نعدم في الوقت نفسه أن نجد من يقف وسط المعركة حائرا، لا يدري إلى أي من القبيلين ينتسب، إما لجهله أعماق القضية، وإما عجزا عن تقديم يد العون لهؤلاء أو أولئك. ونحن من جانبنا نؤيد "التعريب" من حيث المبدأ. والمبدأ أشبه شيء بالدستور يحتاج إلى تفسير وضبط لأبعاده وأهدافه، وتعرف مجالات تطبيقه، وبيئة هذا التطبيق وزمانه. وهذا يقتضي منا إلقاء الضوء على بعض الأفكار والجوانب المتعلقة بهذا المبدأ إيجابا وسلبا، والتي قد يغيب عن بعضهم من القبيلين كليهما إدراك حقيقة الأمر فيها وما يلفها من مشكلات وصعوبات. وأول ذلك تحديد مفهوم "التعريب" في التوظيف العربي المعاصر، إذ إن المصطلحات هي مفاتيح العلوم، فينبغي أن تكون ذات قدرة وكفاية للكشف عن مغاليق ما نود الوصول إليه، ولا يكون ذلك -بطبيعة الحال- إلا بإخضاعها للنظر والتدقيق مبني ومعنى. يوظف "التعريب" -مصطلحا- في الثقافة العربية المعاصرة في أربعة معان، مختلطة الحدود في أذهان الكثيرين منا في النظر والتطبيق على سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 المعنى الأول: قد يطلق "التعريب" في ميادين الثقافة العامة ويقصد به إخضاع النصوص أو الأعمال الأجنبية -علمية أو أدبية أو فنية- لشيء من التصرف في مبناها ومعناها، وذلك بتطويعها لمقتضيات الظروف وأنماط التقاليد الاجتماعية والثقافة العربية، وجعلها ذات سمة عربية في الإطار العام. وقد يقتضي ذلك شيئا من التغيير في الجزئيات وبعض التفاصيل بذكر أفكار أو أمثلة أو نماذج عربية في صلب النص أو العمل المنقول. ومعنى هذا أن النقل -في حالة النصوص المكتوبة- يأخذ طريقين متصلين غير منفصلين: أحدهما ترجمة الفكرة العامة أو العناصر الرئيسية للموضوع، وثانيهما حشو النص المنقول بأفكار جزئية عربية، أو التحرير والتعديل في بعض نقاطه أو حذف شيء أو أشياء منه، حتى يأخذ الطابع العربي بصورة من الصور. وكثيرا ما يحدث هذا الضرب من "التعريب" في المسرحيات والأفلام ونحوها وبعض الأعمال العلمية، وقد يسمى بالاقتباس أحيانا، أي: اقتباس الفكر الرئيسة وصوغها في بناء عربي. المعنى الثاني: وهو شديد الصلة بالأول، حيث يطلق "التعريب" ويراد به الترجمة، وهذا المفهوم يأخذ به بعض الناس -مثقفين وغير مثقفين- بطريق التجوز أو عن سوء فهم أو جهل بالمعاني الدقيقة للمصطلحات. وهذا المسلك -في رأينا- تعزوه الدقة أو -في الأصح- هو ضرب من الخطأ المحض. إن الترجمة تعني نقل معاني الكلمات أو العبارات والنصوص الأجنبية والتعبير عنها بكلمات وعبارات مقابلة لها في اللغة المنقول إليها، سواء أكانت هذه اللغة المنقول إليها عربية أم غير عربية، في حين أن "التعريب" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 في أدق معانيه محصور في النقل إلى العربية، "والعربية وحدها". وقد يكون النقل في مجال الألفاظ ذاتها، وهو الأشيع والأكثر استعمالا لمصطلح "التعريب" "انظر المعنى الثالث" أو بتطويع النصوص على الوجه الذي بينا في المعنى الأول. وقد يراد بالتعريب اعتماد اللغة العربية لغة العلم والفن بدلا من اللغات الأجنبية "انظر المعنى الرابع". المعنى الثالث: وهو الأشهر في الاستعمال والأكثر استقرارا واتباعا في مجال العلم، وبخاصة في المصطلحات ونحوها. والمقصود به هنا نقل اللفظة الأجنبية بحالها إلى اللغة العربية، مع نوع من التعديل أو التغيير في صورتها بالقدر الذي يتمشى مع القواعد الصوتية والصرفية في اللغة العربية، وفقا للخطوط العريضة لضوابط هذين الجانبين في لغتنا. فالتعريب هنا إذن محصور مفهومه في مجال الألفاظ ونحوها من حيث المبنى والشكل. والتعريب بهذا المعنى الثالث "أي تطويع الألفاظ الأجنبية بردها إلى الصور العربية صوتيا وصرفيا" هو ما يشيع العمل به في نقل العلوم والفنون الحديثة، غير أن استخدامه في هذا النقل له حدود وضوابط من حيث الكيف والكم. لقد سجل الأقدمون بعض القواعد العامة التي ينبغي اتباعها عند تعريب المصطلحات، فاشترطوا شروطا صوتية وأخرى صرفية للألفاظ المنقولة، حتى تأخذ السمة العربية التي تؤهلها للانتظام في الثروة اللفظية العربية، وحتى يسهل عليها التأقلم وتصبح "عربية" بالاستعمال الخاص والعام معا. وهذه الشروط كلها أو بعضها ما زال بعض الباحثين يتمسكون بها حتى وقتنا هذا. بقصد إلى إزاحة الغربة عن هذه الألفاظ ومنحها أردية مألوفة مأنوسة. والحق أن اشتراط حدود معينة للصور النطقية والصرفية للمصطلحات المنقولة بالتعريب ينبغي ألا يؤخذ على إطلاقه. وإنما يعالج الأمر بحسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الظروف والحالات التي تواجهنا، شريطة أن يكون صوغها على وفق المألوف لألسنة العرب وآذانهم قدر المستطاع. أما من حيث الكم والأقدار المنقولة من الألفاظ بالتعريب فهناك آراء: هناك من لا يجيز التعريب ألبتة، لأن فيه -على ما يرى أصحاب هذا الرأي -إفساد للعربية وتشويها لمادتها. وعندهم أن الترجمة هي السبيل الأوفق والأولى بالاتباع في هذه السبيل. وهناك في الجانب الآخر من يرى فتح باب التعريب على إطلاقه، دون شرط أو قيد، على أساس أن المصطلح المعرب أقرب في الدلالة على المفهوم المقصود وأكثر وفاء بأغراض التعبير من الترجمة. أما المنصفون من الدارسين والباحثين فلا يرون بأسا من التعريب، وبخاصة في المراحل الأولى من نقل العلوم والفنون الأجنبية، ولكن بأقدار مناسبة، وحيث تكون الحاجة ملحة إلى هذا النهج. وهم في ذلك يستدلون بما جرى في القديم، حيث أقدم علماؤنا على تعريب أعداد كبيرة من المصطلحات ذات الأهمية الخاصة، على ما هو معروف ومشهور. ونحن من جانبنا نأخذ بهذا الرأي، ولكن بشروطنا الخاصة التي تتمثل في وجوب وضع التعريب تاليا للترجمة في المحاولة والاجتهاد، وفي وضع نوع من الضوابط التي تحكم هذا النقل بالتعريب. المعنى الرابع: يشيع بين أهل الاختصاص من الدارسين العرب في السنوات الأخيرة توظيف مصطلح "التعريب" في مفهوم خاص، وإن كان هذا المفهوم ما يزال غائما في أذهان الكثيرين منهم. وأحسب أن أوضح تحديد له وأدق تفسير لمعناه في سياق المعارك الدائرة حوله الآن، هو ما قدمه لنا الأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية الأردني في بحث له اشترك به في فعاليات المؤتمر الثامن والخمسين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة 1992م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ومعلوم أن هذا المؤتمر قد عقد ورتبت كل أعماله وبحوثه لمناقشة قضية التعريب بهذا المفهوم الخاص "من جميع زواياه وجوانبه" الذي حدده الدكتور خليفة بقوله: "فالتعريب في هذا المصطلح الذي يكون محور مؤتمر مجمعنا لهذا العام، يعني بالتحديد تحويل الجامعات والكليات الجامعية والمعاهد العليا التي تضم مئات الأقسام العلمية، من التدريس باللغات الأجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية وغيرهما إلى التدريس باللغة العربية، واعتماد اللغة العربية لغة التدريس الجامعي والبحث العلمي والتقنيات الحديثة". هذا هو "التعريب" ذو المفهوم الخاص الذي نظن أو يفترض أن المناقشات الجارية في الساحة العربية منذ فترة قصيرة تدور حوله تأييدا أو معارضة، وعلى الرغم من وضوح هذا المفهوم للتعريب والأخذ به عند جملة من الباحثين العارفين، فالملاحظ أن هذا المفهوم قد اقتصر على التعريب اللغوي، أي: اعتماد العربية لغة العلم تدريسا وبحثا وتأليفا بدلا من اللغات الأجنبية وهذا التفسير للتعريب تفسير جائز ومقبول بوجه من الوجوه، ولكنه لا ينفذ إلى جوهر الموضوع ولا يصل بنا إلى أعماق القضية الأساسية، قضية "التبعية" العلمية للآخرين، والسير من خلفهم والتلقي عنهم دون مشاركة فاعلة. التعريب عندنا يعني تعريب الفكر واللغة معا، إذ الاقتصار على التعريب اللغوي علاج قاصر إذا لم يعتمد على تفكير عربي، لأن التوظيف اللغوي المحض غير الصادر عن فكر عربي قد يكون بالترجمة أو بنقل أفكار الآخرين والاقتباس منها وصوغ ذلك كله باللغة العربية. ومردود ذلك أننا نظل تابعين فكريا وإن بدا أننا مستقلون لغويا. والتبعية الفكرية هي الداء الحقيقي الذي يفرز أدواء أخرى تنخر في عظام الجسم العربي. وعلى رأسها داء التعريب اللغوي الذي توجهت إليه أنظار الدارسين، وجعلوه محور مناقشاتهم ومعاركهم، غافلين عن مصدره الذي يتولد عنه ويمده بعناصر وجوده، وهو التعريب الفكري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 لا ننكر أن بعض الباحثين قد أشاروا إلى قضية تعريب الفكر هذه، ولكنها جاءت إشارات خاطفة وردت هنا وهناك في سياق الحديث عن التعريب اللغوي الذي رأوه السبيل الوحيد المفضي إلى تعريب الفكر. يقول الدكتور خليفة في بحثه المشار إليه سابقا: "هذا المدلول الحديث "مشيرا إلى تحديده السابق للتعريب".. يعني التحول من استعمال لغة أجنبية فرضت على المؤسسات العامة والخاصة إلى استعمال اللغة العربية وتأصيلها لغة الفكر والتفكير". صحيح أن تعريب اللغة له دور لا ينكر في تعريب الفكر، إذ بين الجانبين ارتباط وثيق، ولكن هناك عوامل وعناصر أخرى كثيرة ذات فعالية غير منكورة في تنمية الفكر وتعميقه وتنوع أبعاده وجوانبه، كالخبرة والثقافة العامة وسعة الاطلاع على مصادر المعرفة العامة والخاصة، سواء أكانت هذه المعارف عربية أم أجنبية. هذه العوامل مجتمعة "وغيرها كثير" هي الأدوات الفاعلة في تحريك الفكر وتنشيطه ودفعه إلى الخلق والابتكار، بحيث يصبح قادرا على التفاعل والتعامل مع ما يجري في الحياة، والتصرف فيما يقابله أو يواجهه من مشكلات، ومن ضمنها التعريب اللغوي نفسه. وتعريب الفكر عندنا يعني بالضرورة أن يكون للعرب دور إيجابي فاعل ذو خصوصية مميزة، لها نوع من الكيان المؤثر في السوق العلمية والفنية وجميع مجالات الحياة الإنسانية. ويتم ذلك في مجال العلوم بالمشاركة والمساهمة في النشاط العلمي بمجالاته المختلفة، كأن يكون لنا نصيب في الابتداع والابتكار أو الإضافة والتجديد أو التعديل والتطوير، أو حتى التفسير والتطويع للتطبيق السليم الراشد. وهذه المشاركة الفاعلة وتلك المساهمة الإيجابية لا تأتي من فراغ، وإنما أساسها العمل الدائب في الاطلاع والتحصيل والاستيعاب والهضم لأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الآخرين، بالإضافة إلى محصول الدارس نفسه ومخزون معارفه وثقافته. ثم يقلب هذا الدارس كل ذلك في فكره العربي في إطار شخصيته وموقعه، حتى تستقر لديه حصيلة معرفية أصيلة يستطيع -إن شاء- أن يعبر عنها باللغة العربية في سهولة ويسر، شريطة أن يكون مسيطرا على أدوات التعبير بها. ومعنى هذا أن التعبير اللغوي العربي يولده التفكير العربي، فإن الإنسان يعبر باللغة التي يفكر بها. إنك إن أعملت فكرك باللغة العربية كتبت بها واستطعت أن توظفها إذا شئت، وأنى شئت. والذين يوظفون اللغات الأجنبية أو يفضلون توظيفها في أعمالهم العلمية هم واحد من اثنين، إما أنهم يفكرون بهذه اللغات، وإما أنهم يختارون الطريق السهل، وهو مجرد نقل مادة جاهزة باللغات الأجنبية، وتكون المسألة حينئذ أشبه باستيراد "فيلم" صنع في بلد ما وعرض على "شاشاتنا"، بصورته ومضمونه أو بمبناه ومعناه، دون أن يكون لنا دور في هذا العرض سوى التسلية وتزجية الفراغ، وربما ضياع الوقت أيضا. ومعلوم بالضرورة، أن التفكير العربي المولد للتعبير بالعربية يحتاج إلى مخزون عقلي من هذه اللغة وحصيلة من نظمها وأساليبها مناسبة للتخصص أو العلم المعين. فإذا كان هذا التخصص أو ذاك العلم جديدا بالنسبة للدارس أو غير مستقر الأصول عنده، فلا مناص له من العود إلى لغة الأصل والتفكير بها، حتى يستوعب ويهضم، ثم يخرج -بعد- ما يستوعب ويهضم في عبارات عربية. ومهما يكن الأمر، فالتعريب لغويا فقط أو لغويا وفكريا، له أنصار ومعارضون، ولكل فريق حججه ومسوغات اتجاهه. ونحن كما ألمحنا سابقا من أنصار "التعريب" شريطة أن يكون التعريب تعريبا فكريا ولغويا معا. أما حججنا لوجوب تعريب الفكر فواضحة لا تحتاج إلى دليل. ويكفي أن نقرر أن تعريب الفكر فيه تخليصنا من التبعية العلمية، ومنحنا فرصة التفاعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الإيجابي في السوق العلمية. وهو تفاعل من شأنه أن يزيد في محصولنا العلمي وينمي قدراتنا على الابتداع والابتكار، ومن ثم يصبح لنا "هوية" علمية، وشخصية فاعلة لها دورها وموقعها في كتائب الزاحفين نحو خير البشرية بالنظر والدرس والإنتاج الأصيل. ينبغي أن نضيف لبنة إلى البناء، ولا يعقل أن نظل قاعدين أو متفرجين أو ناقلين، فنعرض أنفسنا للتخلف أو الضياع وسط هذا العالم المائج بالأفكار في شتى حقول العلم والمعرفة. وليس يخفى على أحد أن تعريب الفكر "في حقول العلم في الأقل" قد يأخذ وقتا طويلا لكثرة عوامله وعناصره، وتشابكها، الأمر الذي يقتضي منا النظر في هذه العوامل والعناصر، واختيار أقربها منالا وأهمها فعالية في هذا السبيل. ذلك العامل أو العنصر في رأينا هو التعريب اللغوي، فلنبدأ به، ولكن بتخطيط محكم وتطبيق واع، وإن التدريج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 التعريب اللغوي: مؤيدوه ومعارضوه : المؤيدون : التعريب اللغوي هو المنطلق الحقيقي لتعريب الفكر، ونحن نراه خطوة أساسية في هذه السبيل. بالإضافة إلى أنه أصبح ضرورة قومية وعلمية، لصالح العرب والعربية ذاتها. وفيما يلي جملة من الأسباب التي ترشح الرأي المؤيد للقبول. 1- التعريب مطلب قومي: ليس من المقبول شكلا وموضوعا أن يظل العلم "أو بعض فروعه" في البلاد العربية أسيرا للغات الأجنبية تفكيرا وتناولا وتحصيلا حتى هذه اللحظة، ذلك أن إيثار اللغات الأجنبية على لغتنا القومية فيه تقليل لشأنها وإضعاف لمنزلتها بين الناس. وربما يؤدي ذلك في النهاية إلى خلق جو علمي ثقافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 مضطرب، لا هو إلى الأجنبي ينتمي، ولا هو إلى العروبة ينتسب. وإنما هو جو فاقد "الهوية" مشتت السمات مشوه القسمات، ليس له حدود ضابطة ولا أصول ثابتة. وهذا هو الضياع القومي والانهيار الفكري الذي ينذر بمحو روح الانتماء التي تعد اللغة قطبها الذي يتجسد وتتمثل فيه كل القيم والمثل وأنماط السلوك الفارقة بين قوم وقوم والمميزة لأمة من أخرى. 2- التعريب مطلب علمي: توظيف العربية في العلوم ييسر للطالب والباحث العربي العملية العلمية والتعليمية، ويساعدهما على سرعة الفهم والتحصيل والانتاج. والقول بأن الطالب العادي تعوزه أدوات التعبير بالعربية الفصيحة الصحيحة قول يحمل بطلانه في طياته. إذا كان هذا الطالب ضعيفا في لغته القومية فهو في اللغة الأجنبية أضعف، وإذا كان عاجزا عن توظيف اللغة العربية فهو في التعامل مع اللغات الأجنبية أعجز. ومنطق الأشياء يقرر أن الإنسان مهما تزدد حصيلته من اللغة الأجنبية، فلن يقوى على التعامل بها أو توظيفها بالقدر الذي يمنحه لسان أمه، الذي استقر في عقله ووجدانه ولازمه منذ نعومة أظفاره، ويروى أن "كلوت" بك ناظر مدرسة الطب المصرية في عهودها الأولى، كان حريصا على ترجمة المواد الطبية من الفرنسية إلى العربية، وفاء بهذا المعنى نفسه. ويقول في ذلك: "إن التعليم بلغة أجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة، كما لا ينتج منه توطيد العلم أو تعميم نفعه". 3- التعريب مطلب لغوي: التعريب يمنح لغتنا القومية فرصة ذهبية بتمكينها من التفاعل الحي والكشف عن طاقاتها، تلك الطاقات والقدرات التي لم يحاول بعض الدارسين تنشيطها واستغلالها، وتركوها معطلة -قصدا أو عن غير قصد- حتى غدت في نظرهم عاجزة عن الوفاء بحاجاتهم من وسائل التعبير وأدواته. ومن ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 توهموا عجزا طبيعيا فيها وعقما خلقيا في مادتها، فانصرفوا عنها وألقوا بها خارج أسوار معاهدهم واستبدلوا بها لسنا أعجمية. ومنح العربية فرصة التفاعل في البيئات العلمية يزيد من ثروتها، وينمي محصولها، كما يساعد الدارسين على التفكير بها، الأمر الذي يؤدي إلى ألفها والتعامل بها، وبذلك ينزاح عنها توهم ضعفها واتهامها بالعجز عن ملاحقة العلوم وما يجد فيها من تطور. 4- التعريب مطلب اجتماعي: الإصرار على توظيف اللغات الأجنبية في العلوم قد يؤخذ دليلا على وجود نوع من النزعة إلى إظهار التفوق والامتياز، على أساس أن هذه اللغات هي لأقوام محسوبين في عداد الأمم التي ينظر إليها على أنها جديرة بالتقليد في مجالات الحياة بوجه عام وفي مجال العلوم في أقل تقدير. وهذه النزعة -إن صح وجودها ويبدو أن الأمر كذلك- لها وجهان من الخطأ والخطر من الوجهة الثقافية والاجتماعية على المستويين العام والخاص. أما أول هذين الوجهين فيتمثل في إحداث هزة في السلوك الاجتماعي، إذ ربما تستهوي هذه النزعة بعضا من الناس -مثقفين وغير مثقفين- وتجرهم إلى السير في هذا الدرب الخادع، وينحازون -قصدا أو عن غير قصد- إلى كل ما هو مستورد أو منقول من ألوان العلم والثقافة، ويحاولون التزين أو التجمل بهذه الألوان تكلفا واصطناعا، أو ادعاء بأنهم طبقة متميزة أو أنهم قطعوا شوطا في الوصول إلى مدارج رفيعة من سلم الطبقات الاجتماعية. ومن ثم نرى هؤلاء الناس وأمثالهم يعلنون ويلحون في الإعلان عن أنفسهم باتخاذ أنماط من السلوك الاجتماعي، توحي بهذا الامتياز المتوهم. ويأتي على القمة من وسائل هذا الإعلان توظيف اللغات الأجنبية في حياتهم العامة والخاصة، والتشدق بكلمات منها مشوهة، مغلوطة نطقا واستخداما، كلما ألحت عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 نزعة الاستعلاء وتحركت في نفوسهم فكرة الامتياز. وربما يلخص هذا المسلك كله قول القائلين: إن السر في انحياز بعضهم إلى توظيف اللغات الأجنبية في العلوم وغيرها هو محاولة الاحتفاظ بأرستقراطية المهنة وإظهار "الفوقية" في السلم الاجتماعي والثقافي. وأما ثاني هذين الوجهين فهو ذو نسب قريب من الوجه الأول ومترتب عليه نفسيا وعلميا، ذلك أن السلوك الاجتماعي -مهما تكن مصادره وأنماطه-فلا بد- إن عاجلا أو آجلا- أن يصبح تقليدا وعادة، فتستقر ملامحه وقسماته في النفس وتنفذ إلى الفكر والعقل، وتكون اتجاها نفسيا ينشد "التعريب" وتتطلع إليه كي تهيئ لنفسها بيئة على شاكلتها، تضمن لها النمو وتمنحها عوامل البقاء والاستمرارية. والنتيجة الحتمية لهذا كله فقدان روح الانتماء القومي، وإن بالتدريج، وتعويد النفس على التقليد والتبعية في مجال العلم والثقافة وحرمانها من الأخذ بأسباب الابتكار والاعتماد على النفس. وذلك -للأسف- ما نلمس بعض مظاهره وآثاره واضحة في ميدان العلوم وبعض مناحي الفكر والثقافة في العالم العربي بأجمعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 المعارضون : هناك في الجانب الآخر أقوام يقفون موقف المعارضة لمبدأ التعريب، ويرسلون صرخاتهم بانفعال وحماس شديدين، منادين بأن الدعوة إلى التعريب دعوة إلى التخلف العلمي والجمود الفكري، ذلك أنهم متصورون أن هذا النهج سوف يقود إلى عزلنا عن العالم المتقدم ويباعد بيننا وبين ما يجري في حقوله العلمية من تطور وابتداع متلاحقين. ويحتج هؤلاء لرفضهم هذه الدعوة بمجموعة من الحجج، نشير إلى اثنتين منهما لأهميتهما ولمحاولة الكشف عما يغلفهما من غموض وما يلابسهما من سوء تقدير وتجاوز في النظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 1- قصور اللغة العربية وعجز أدواتها عن التعبير: يدعي هؤلاء أن اللغة العربية لغة جامدة غير متطورة، وقفت مادتها وقوالب التعبير فيها عند حد لا يمكنها من مواكبة العلوم الحديثة أو الوفاء بوسائلها اللغوية، وهي وسائل متجددة سريعة الخطو في الخلق والابتداع. وإيثار العربية القاصرة عن ملاحظة هذه الاستمرارية في التجديد والابتكار على اللغات الأجنبية فيه تعطيل لمسيرتنا العلمية وحرمان لنا من المشاركة الفعالة أو الأخذ بنصيب مما ينعم به الآخرون من علم ومعرفة. والقول بقصور العربية أو عجزها عن أداء دورها في مجال التعريب قول خال من النصفة وتعوزه الحجة. هذا الادعاء في رأينا إنما يصدر عن واحد من اثنين من القائلين به، قد يدعيه إنسان تنقصه المعرفة بحقيقة اللغة وطبيعتها، وما ينبغي أن تكون عليه علاقتها بمجتمعها الذي تعيش فيه، أو يروج لها مخدوع غير حصيف، ينشد الانتصار لكل ما هو أجنبي ويرمي إلى التقليل من شأن مقوماتنا الحضارية وأدواتنا الثقافية. ولتوضيح الأمر بالنسبة لشبهات هذين الوجهين، نقول: إن أوجه النقص والقصور في أية لغة لا ترجع إلى هذه اللغة بذاتها، بقدر ما تنسب إلى أهليها وإلى الظروف العلمية والثقافية التي تلقها وتتفاعل معها. فكلما حرص أهلوها على إمدادها بالزاد، وكلما ماجت البيئة المعينة بالنشاط العلمي والثقافي، نهضت اللغة واستجابت لهذا النشاط، وأخذت في استغلال طاقاتها من الوسائل اللغوية اللازمة للوفاء بحاجاتهم. وكلما جمد التفكير العلمي وتخلف النشاط الثقافي، ظلت اللغة في موقعها جامدة، لا تبدي حراكا، ولا تقدم زادا؛ لأنها بذلك قد فقدت عوامل النمو وحرمت من عناصر النضج. إن اللغة تعطي وتأخذ، ولا يمكن أن يستمر دورها في العطاء ما حرمت من المنح وتقديم الزاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 إن الذي حدث -وما يزال يحدث- في حالتنا نحن العرب أن بعض علمائنا في العصر الحديث كفوا عن الابتكار وجانبوا التفكير العلمي المبدع، وقنعوا في بعض الحالات بالتقليد والنقل. ومن الطبيعي أن نقل الفكرة الأجنبية أو تقليدها يستتبع حتما وبالضرورة نقل الوسائل اللغوية المعبرة عنها، واستخدام مصطلحاتها الفنية. والمعروف أن العالم المبتكر أو الباحث المنشئ لا يجد صعوبة في العثور على أدوات تعبيره اللغوي ومصطلحاته. إن هذه الأدوات حاضرة في ذهنه بصورة من الصور، لأن انشغال الفكر بالابتكار تصحبه عادة صور لغوية مهزوزة أو غائمة في أول الأمر، وهي بمثابة القوالب أو الأطر التي تصلح لاحتواء الفكر أو الحقائق التي يشغل بها الباحث الأصيل نفسه، وما عليه بعد إلا أن يخلص هذه الصور اللغوية من غموضها ويعمل على بلورتها، وذلك بصوغها في النهاية في أشكال لغوية واضحة، معبرة خير تعبير عن فكره وحقائقه. فلو أن علماءنا عمدوا إلى مثل هذا النهج في التفكير العلمي لضمنا ثروة لغوية عربية تواكب ما ينتجون من علم وتفي بحاجات متبكراتهم، لارتباط الجانبين "الفكري واللغوي" ارتباطا وثيقا وجودا وعدما. أما التبعية في التفكير العلمي فلا مناص لها من التبعية اللغوية. وليس من المبالغة في شيء أن نقرر مع ما قرره باحثون آخرون في هذا الشأن من أن "الدعوة إلى استعمال اللغات غير العربية في دراسة العلوم لم تنبعث من عدم إمكان تيسير استعمال العربية في العلوم الجديدة، ولا هي رد فعل على موقف متين في الدفاع عن الفصحى بمفهومهم الضيق لها، إنما هي منبعثة من دافع نفسي أعمق، وهو مدى ضعف إدراكهم لكيانهم العربي ومدى رغبتهم في الحفاظ عليه وتنميته. إن موقفهم لا ينبعث من اعتقادهم بعجز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 اللغة العربية، بقدر ما هو من إعجاب يصل حد الاستسلام للحضارة الغربية1. 2- حجب اللغات الأجنبية عزل لمسيرة التطور العلمي: يتوهم المعارضون أن الدعوة إلى التعريب تعني -بطريق مباشر أو غير مباشر- إهمال اللغات الأجنبية وإبعادها وإخراجها من الحسبان في ميادين العلم والثقافة، في حين أن هذه اللغات هي الأداة الأساسية والفعالة التي تمكننا من ملاحقة ما يجري في العالم من نشاط علمي يزيد من معارفنا وينمي قدراتنا وطاقاتنا، ويدفعنا إلى التعمق والتجويد. وزحزحة هذه اللغات عن الساحة العلمية تستتبع حتما حصرنا في دائرة ضيقة تحدها أسوار العزلة التي تعني الجمود. وهذا -في الحق- وهم مرفوض، إذ لم يدر بخلد أي من الداعين إلى التعريب أن ينزلق إلى هذا الوهم أو مجرد التفكير فيه أو الانحياز إلى جانبه إن الأمر على العكس من ذلك. إن دعاة التعريب ينادون في الوقت نفسه بضرورة إجادة اللغات الأجنبية بالقدر الذي يسعف المهتمين بالشئون العلمية ويمكنهم من فتح نوافذ جديدة تصلهم بالعالم من حولهم وتمنحهم فرصة المشاركة والتفاعل مع الأجواء العلمية هنا وهناك. وقد نسي الرافضون لدعوة التعريب أن هناك فرقا كبيرا بين إجادة لغة للإفادة منها وفرضها فرضا على معاهد العلم، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى سيطرة هذه اللغة على مقوماتنا العلمية والثقافية والفكرية، وإلى طرح اللغة القومية جانبا، فيجف ماؤها وينضب معينها، فتكف عن المنح والعطاء، ومن   1 صالح أحمد العلي "أسلوب الكتابة والهوية الثقافية القومية" من مجموعة بحوث ومقالات صادرة عن "مركز دراسات الوحدة العربية"، بعنوان "اللغة العربية والوعي القومي" ص178 الطبعة الأولى سنة 1984م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ثم يرفع المعارضون أصواتهم، معلنين عجز العربية وقصورها عن أداء دورها في هذا المجال. وقد يزيد هؤلاء المعارضون من حججهم، بإبراز المصطلحات العلمية أمام الداعين إلى التعريب، إذ إن غالبية هذه المصطلحات لها صفة العالمية، ولا تستطيع لغة واحدة أن تتعامل معها وتنقلها إليها بأدواتها التعبيرية الخاصة، فتنفصم العرى بين الدارسين وتضطرب الأمور وتختلط مفاتيح العلم المتمثلة في هذه المصطلحات. وحقيقة الأمر أن المصطلحات العلمية مشكلة قائمة بذاتها، سواء أخذنا بالتعريب أم لم نأخذ به. ومن ثم تستحق وقفة خاصة للنظر في أبعادها وإبداء الرأي في معالجتها، وأملنا أن نعود إلى ذلك في فرصة أخرى بمشيئة الله. ومع ذلك يمكننا في هذا السياق -سياق تعريب العمل فكريا ولغويا- أن نشير إلى جملة من الخطوط العريضة التي يتمشى تطبيقها مع مبدأ التعريب ويفي بحاجة الداعين إلى هذا المبدأ. ويمكن أن نوجز تصورنا لهذا المنهج في الأمور التالية: أولا: في حالة الابتكار أو التعريب الفكري إذا كان الباحث المعين مبتكرا في تخصصه ومجال مسئوليته العلمية، فليست هناك صعوبة ذات بال تقف في طريق ابتكار مصطلحاته ووضعها بالطريق المعهود في وضع المصطلحات. إنه صاحب المادة العلمية في هذه الحالة، وبمقدوره حينئذ أن يصنع مفاتيحها ويشكلها وفقا لما صنعت له من علم وفن. وهذا هو الحال المعهود عند كل الرواد من الدارسين الذين يأتون بالجديد، معتمدين على أفكارهم ومحصولهم المعرفي. وقد تشيع ابتكاراتهم العلمية حاملة معها مفاتيحها، أي مصطلحاتها، وتصبح تراثا عاما يمتاح منه الماتحون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 هنا وهناك بدون تفريق -حدث هذا أو مثله أيام الإزدهار الفكري والعلمي في تاريخ العرب والمسلمين. وهذا بالطبع يقتضي أن يكون الباحث ذا علم واسع ودراية عميقة بالثروة اللفظية للغة العربية وطرائق تصرفاتها في الكلمات من اشتقاق ونحت وتوليد للمعاني بالتوسيع في دلالات كلمات قديمة أو بالتوظيف المجازي لها إلخ. فالمفكر المبدع المدرك لأسرار لغته يستطيع أن يلبي حاجاته من المصطلحات متى كانت الفكرة العلمية واضحة لديه، ومتى كان هو مدركا لأبعادها وأعماقها، وهذا شأن المبدعين في حقيقة الأمر. ثانيا: في حالة النقل أو التعريب اللغوي أما إذا كان المصطلح منقولا من لغة أجنبية، لخصوصية في وصفه وتوظيفه أو لشهرته وعلميته، أو لأي سبب علمي آخر، فإن هذا النقل يشكل صعوبة حقيقية في التعامل معه، وفي "أقلمته"، وذلك لشدة ارتباطه بمادته التي صنع هذا المصطلح لبلورتها والكشف عن مغاليقها. وليس من النادر أن تكون هذه المادة نفسها غير واضحة تمام الوضوح بالنسبة للناقلين، إما لجدتها وإما لضعف في استيعابها وهضمها، الأمر الذي من شأنه أن يزيد المسألة تعقيدا واضطرابا. ومع هذا فقد حاول الدارسون اقتراح أساليب معينة يمكن اتباعها في هذا النقل، متفقين تارة ومختلفين أخرى في ترتيبها وأولوياتها. وهذا هو اختيارنا لترتيب هذه الأساليب في سياق قضيتنا الحالية، وهي محاولة تعريب العلوم: 1- الترجمة. 2- التعريب. 3- نقل المصطلح الأجنبي بحاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الترجمة مدخل ... الترجمة: نحن في سياق تعريب العلوم نفضل البدء بمحاولة ترجمة المصطلحات الأجنبية التي يراد نقلها إلى ساحتنا العلمية، على الرغم مما قد تنتظمه الترجمة من مزالق وتضحيات بحقائق الأمور في قليل أو كثير. نفضل ذلك، لأن في الترجمة مزايا علمية وقومية. يتمثل أهمها في الظفر بحقائق علمية، نكسوها لباسا عربيا، يرشحها للتمثيل والهضم والاستيعاب في سهولة ويسر، بالإضافة إلى ما يعنيه ذلك من إثراء اللغة العربية وتطويع مادتها. واختيار البدء بالترجمة مشروط بشرطين متلازمين، أولهما الفهم التام الدقيق لمفهوم المصطلح الأجنبي، ثانيهما: أن يكون المصطلح العربي المقابل مناسبا نطقا وصياغة، خاليا من الشذوذ والإغراب في أصواته وبنائه، أي: أن تكون صورته النطقية مقبولة مستساغة وشكله الصرفي مأنوسا، بحيث يسهل استخدامه بطريقة تعمل على استقراره وانتشاره في الوسط العلمي المعين. فإذا كان المصطلح العربي المناسب موجودا بالفعل فبها ونعمت، وإلا لجأنا إلى ابتكاره بطريق التوليد. والتوليد له جانبان: توليد في الصيغة وتوليد في الدلالة. والتوليد في الصيغة قد يكون بالوضع أو النحت. ونعني بالوضع ابتكار كلمة جديدة من أصل عربي، بطريق الاشتقاق أو القياس وما إلى ذلك من ضروب التوليد اللفظي. فإن لم يسعفنا الحال لجأنا إلى النحت، وهو منهج مأخوذ به في اللغة العربية منذ أقدم عصورها. أما التوليد في الدلالة، فنعني به توظيف كلمات قديمة في معنى جديد، بالتوسيع في دلالاتها على ضرب من المجاز، أو تعدد الدلالات. فالتوليد إذن يعني اختراع كلمة جديدة، أو توظيف كلمة قديمة في معنى جديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 التعريب: وإذا لم يوفق الدارس إلى ترجمة مصطلحاته الأجنبية إلى ما يقابلها في العربية بالوسائل المشار إليها سابقا فلا ضير عليه، بل ربما يتحتم عليه، أن يلجأ إلى التعريب. والتعريب أسلوب مشروع، وله أحكامه وضوابطه التي تعني في الأساس إخضاع المصطلح الأجنبي لشيء من التعديل أو التغيير في بنيته، ليطابق النظم الصوتية والصرفية في العربية. فالتعريب في مجال المصطلحات تابع للترجمة وتال لها، متى كانت الترجمة الدقيقة عصية المنال، أو كانت تنتظم تضحية بدقائق المعاني ومفاهيم المصطلح الأجنبي. نقل المصطلح الأجنبي لحاله: التعريب بضوابطه وأحكامه المقررة قد يصعب الأخذ به أحيانا، ومن ثم لا مانع لدينا من نقل المصطلح الأجنبي بصورته الأصلية كاملة غير منقوصة، حتى يستقر مفهومه ويتضح بصورة لا لبس فيها ولا غموض. ولا ضير بعد أن يعود إليه الدارس لترجمته، إن استطاع إلى ذلك سبيلا. وليس في التعريب أو النقل الحرفي للمصطلح ضرر أو منقصة في حالة استحالة الترجمة. إنما الضرر والمنقصة في التضحية بحقائق العلوم والتورط في استخدام مصطلحات غامضة أو قاصرة عن التعبير العلمي الدقيق. ومهما يكن من أمر، فجواز التعريب والنقل الحرفي ينبغي أن يكون مشروطا وموقوتا، وعلى الدارسين من أهل الاختصاص واللغويين أن يتحملوا مسئولياتهم ويبذلوا ما وسعهم الجهد في سبيل سد النقص والتخلص منه. وليس يكفي في هذا المجال ترجمة المصطلحات أو تعريبها أو نقلها، وإنما الأوفق أن ننصرف إلى ذوات أنفسنا ونعمل على تنشيط التفكير العلمي المبدع بصورة عربية في المادة والمصطلحات معا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وخلاصة الرأي في هذا الموضوع كله -موضوع تعريب العلوم ونقل المصطلحات الأجنبية - أو التعريب ينبغي أن يكون تعريبا فكريا ولغويا معا، وهو بهذا المعنى مطلب قومي وعلمي واجتماعي. أما من الناحية القومية فالتعريب من شأنه أن يردنا إلى ذوات أنفسنا فننظر في طاقاتنا وكفاياتنا، ونعمل على استغلالها أو توظيفها في بلورة هويتها وتأكيدها، بحيث يصبح لها وزن ونوع خصوصية تصونها من الضياع أو الذوبان أو التبعية وسط هذا الحشد الهائل من القوميات والأيديولوجيات المتصارعة على التفوق وانتزاع السيطرة على العالم. ولا يكون ذلك -بالطبع- إلا باكتمال العدد والأدوات التي تؤهلنا للوقوف على أرض صلبة، تحمي شخصيتنا أو تفرقها بين القبائل. وأولى هذه العدد والأدوات ومصدرها الحقيقي يتمثل في الفكر الأصيل ومشاركته الفعالة بسلاح العلم الذي يضمن لنا موقعا ذا خصوصية عربية. والتعريب من الوجهة العلمية هو بمثابة المرآة الكاشفة عن شخصيتنا، وهو الدليل على أهليتنا لاكتساب موقع يحمي حقيقتنا ويمكنها من الانطلاق نحو عالم أوسع وأرحب من الفعالية والمشاركة الإيجابية. إن التعريب ييسر سبل التحصيل والاستيعاب والهضم للدارسين، وينشط محصولهم اللغوي، الذي -بدوره- يعمل على تنشيط الفكر وتعميقه، بحيث يخرج لنا زادا عربيا أصيلا نشارك به في المسيرة العلمية في العالم، وليس من اللائق علميا أن ندور في فلك الآخرين بالاعتماد على لغاتهم والتفكير بها، وهو في رأينا تفكير لا جذور له ولا عمق فيه، لأنه موظف في الأساس في التقليد أو مجرد النقل عنهم. والانصراف عن تجربة التعريب الفكري واللغوي، بالاعتماد على المحصول المعرفي المصدر إلينا أو المستورد من الخارج لا بد أن يجرنا -عاجلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أو آجلا -إلى تبعية ثقافية واجتماعية. وهي تبعية أشد خطورة وأعمق تأثيرا، لاتساع دائرتها وتعدد مناحيها، إذ سوف تجر إلى ساحتها جميع الطبقات والفئات، وتهدد بيئتهم الاجتماعية وتشوه هويتهم الثقافية. تحقيق مطلب التعريب قوميا: تحقيق التعريب وجعله حقيقة واقعة لا يجدي فيه رفع الصوت أو إطلاق الشعارات في جانبه، كما لا تغني فيه جهود أفراد أو جماعات منهم في محاولة شق الطريق إلى هذا الهدف المنشود. إن إطلاق الشعارات ورفع الصوت بالنداءات الداعية إلى ضرورته وحتميته لا تلبث أن تفنى في الهواء دون إحداث أي أثر لها، سوى رجعها الذي يحشو الآذان ويشغل الأدمغة بالضوضاء. وكذلك تبقى جهود الأفراد أعمالا متناثرة هنا وهناك، محرومة من المنهجية والتكامل، الأمر الذي يفقدها قوة الفاعلية ويعرضها للتضارب، وربما التناقض أحيانا. تحقيق التعريب قوميا، وبصورة علمية جادة، يحتاج إلى نظرة شاملة مبنية على تخطيط مرسوم ذي حدود وضوابط تكفل له التطبيق السليم، حسب الأهداف والغايات المنوطة به. يقتضي الأمر في نظرنا تأسيس هيئة علمية تلقي إليها مسئولية النظر والدرس والتخطيط ووضع مناهج التنفيذ ومكانه وزمانه، وكيفياته. تشكل هذه الهيئة بحيث تنظم أعضاء من ذوي الاختصاص والخبرة والمعرفة الواسعة بالعلوم واللغة، وبحيث تكون مبرأة من الألوان السياسية أو الانحياز إلى اتجاهات أيديولوجية غير قومية أو إلى مرام شخصية أو نفعية. هدفها الأول والأخير خدمة العلوم في الإطار القومي العام. ولقد أحسن "السودان" الشقيق صنعا حين أقدم في سبتمبر 1990م على تأسيس ما سموه "الهيئة العليا للتعريب"، متضمنا هذا التأسيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 القرارات واللوائح المنظمة لأعمالها ومسئولياتها تجاه أهدافها وغاياتها في إطار المصلحة القومية. والملاحظ أن هذه الهيئة السودانية قد قصرت مسؤلياتها على التخطيط ورسم السياسات العامة للتعريب ومتابعة إنجاز ما رسم وخطط في الجهات المعنية وهي الجامعات والمعاهد العليا ومراكز البحوث. فهي متابعة ضابطة داعمة، وليست متابعة تأمر أو تفرض أو تتدخل إلا في حدود المرسوم بلوائح الهيئة. إن وظيفتها التنسيق وتقديم الدعم الأدبي والمادي، ضمانا لإنجاح العمل وحمايته من الفوضى والاضطراب والتدخل والتكرار، وضمانا لاستمرارية العمل وتأكيد مسيرته بدفع عجلته بمنحه الأدوات والوسائل اللازمة من مال ومراجع ومكتبات ومستلزمات النشر، إلخ. ومن شواهد هذا التنسيق والانضباط ما رأته الهيئة من قيام وحدات للتعريب بكل جامعة وكل كلية وكل قسم، مع الربط بينها جميعا، حتى تنساب المعلومات من القسم مرورا بالكلية والجامعة حتى مركز التنسيق الممثل في الهيئة ذاتها، وبالعكس. والملاحظ كذلك أن هذه الهيئة قد توسعت في مفهوم التعريب، بحيث يشمل الترجمة والنقل من الآثار الأجنبية. وهذا النهج مقبول في هذه المرحلة البادئة التي يرجى لها أن تنتهي إلى تأصيل الفكر العربي، بحيث يسهم في النشاط العلمي العالمي بالابتداع والمشاركة الفعالة التي قد تصقلها وتعمقها الترجمات الضرورية حسب الحالة والظرف المعين. وفي رأينا أن موقعنا العلمي والأدبي يفرض علينا أن نكف عن الجدل وننطلق إلى خطوة عملية يجسدها إنشاء هيئة أو تعيين جهة معينة تتولى هذه المسئولية وتبدأ في الإعداد والتخطيط لها، على أن يكون التطبيق الفعلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 بالتدريج زمانا ومكانا وتخصصا، حتى تكتمل العدد والأدوات ونقف على أرض صلبة، ويصبح الأمل واقعا، والحلم حقيقة. وهذه العدد والأدوات كثيرة منوعة يدركها أهل الاختصاص، ولكن لا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى أمرين هما بمثابة حجر الأساس في هذا البناء القومي المأمول إقامته، حتى نلجأ إليه ونلوذ به، حماية لشخصيتنا ووقاية لها من التطفل والازدحام على موائد الآخرين. أول هذين الأمرين يتمثل في محاولة تنشيط الفكر العربي، بتخليصه من التبعية بالتدريج، وذلك بإمداده بالوسائل والعناصر التي تحفزه إلى التدريب والتجريب في ميدان الابتداع، والاعتماد على الذات. ولا يعني ذلك بحال أننا ننادي بالانكفاء على أنفسنا والاكتفاء بما لدينا، إذ المعارف إنما تنمو وتتأصل بتبادل الخبرات والثقافات والاحتكاك المباشر وغير المباشر المبني على منهج الأخذ والعطاء معا. والأمر الثاني الذي ينبغي أن نأخذه منذ البدء في عملية التعريب -تفكيرا وإنجازا- هو ضرورة التوجه إلى لغتنا القومية، فنوفيها حقها ونمكنها من أداء دورها في هذا الميدان. ويكون ذلك -في رأينا- بالعمل على محورين: محور التجريب بتوظيفها في العلوم بالتأليف المنشئ أو النقل بالترجمة، ومحور النظر في أدواتها التعبيرية وثروتها اللفظية، والأسلوبية، بهذف الوصول إلى مادة طيعة قادرة على تشكيل الأفكار العلمية وصبها في قوالب دقيقة تتسم بالسهولة النسبية وتمثل روح العصر وحاجاته المتطورة المتجددة. وهذا بالقطع يجرنا إلى قضية جوهرية، وهي قضية اللغة العربية وتوظيفها في الحياة العامة والخاصة. إن إخضاعها للتجريب في ميدان العلوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 يجرنا فورا إلى النظر في أدوائها ومشكلاتها بشكل علمي دقيق. وفي صلاح اللغة العربية صلاح الفكر العربي الذي يمثل قطب الرحى في عملية التعريب. وجدير بالذكر أن "الهيئة العليا للتعريب" بالسودان، قد ضمنت نظام العمل عقد دورات متخصصة في علم اللغة العربية وفقهها للعاملين في مجال التعريب، حتى يكون العمل عربيا متكاملا فكرا ولغة. وهذا ما نحلم به ونرجو تحقيقه في الوطن العربي بأجمعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 المراجع والمصادر : 1- إبراهيم أنيس "دكتور": الأصوات اللغوية. ط "دار النهضة العربية، الطبعة الثالثة، سنة 1961م". 2- إبراهيم أنيس "دكتور": بحث في اشتقاق حروف العلة. ط: "جامعة الإسكندرية، مجلة كلية الآداب، المجلد الثاني سنة 1944". 3- إبراهيم أنيس "دكتور": أصوات اللغة عند ابن سينا، "مجموعة بحوث مؤتمر الدورة التاسعة والعشرين لمجمع اللغة العربية، سنة 1963". 4- إبراهيم السامرائي "دكتور": التطور اللغوي التاريخي. ط: "معهد البحوث والدراسات العربية سنة 1966". 5- إبراهيم مصطفى: إحياء النحو. 6- الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد: تهذيب اللغة "الجزء الأول"، تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، ط: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر والترجمة سنة 1964". 7- الأشموني، علي بن محمد: شرح الأشموني "بحاشية الصبان"، ط: المكتبة التجارية. 8- ابن الجزري، أبو الخير محمد بن محمد الدمشقي: النشر في القراءات العشر، ط: "المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة". 9- ابن الجزري، أبو الخير محمد بن محمد الدمشقي: متن الجزرية بشرح شيخ الإسلام الشيخ زكريا الأنصاري ط: "المكتبة التجارية سنة، 1950". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 10- ابن جني، أبو الفتح: الخصائص، تحقيق الأستاذ: محمد علي النجار، ط: دار الكتب المصرية سنة 1956". 11- ابن جني، أبو الفتح عثمان: سر صناعة الإعراب "الجزء الأول"، تحقيق الأساتذة السقا وآخرين ط: "البابي الحلبي، الطبعة الأولى سنة 1954". 12- ابن سينا، أبو علي الحسين: أسباب حدوث الحروف، تحقيق محب الدين الخطيب. ط: "مطبعة المؤيد سنة 1322هـ". 13- ابن مسعود، أحمد بن علي: مراح الأرواح في علم الصرف، بشرحيه لديكنقوز، وابن كمال باشا، ط: "مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثانية سنة 1973". 14- ابن يعيش أبو البقاء موفق الدين: شرح المفصل للزمخشري. 15- تمام حسان "دكتور": مناهج البحث في اللغة ط: "مكتبة الأنجلو المصرية سنة 1955". 17- الخضري، محمد: حاشية الخضري على ابن عقيل، ط: "المطبعة الميمنية سنة 1305هـ". 18- الخليل بن أحمد: كتاب العين "الجزء الأول"، تحقيق الدكتور عبد الله درويش، ط: "مطبعة العاني، بغداد سنة 1967". 19- خالد الأزهري: شرح التصريح على التوضيح "بحاشية الشيخ يس بن زين الدين"، ط: المكتبة التجارية سنة 1358هـ. 20- الزجاجي، أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق: الجمل، تحقيق ابن أبي شنب الأستاذ بكلية الجزائر "الطبعة الثانية، باريس سنة 1957". 21- الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله: البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط: "عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة الأولى سنة 1957". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 22- سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر: كتاب سيبويه، ط: "المطبعة الأميرية ببولاق". 23- السيوطي، أبو بكر جلال الدين عبد الرحمن: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق جاد المولى وآخرين، ط: "دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة الرابعة سنة 1958". 24- الصبان، محمد بن علي، حاشية الصبان على الأشموني "المكتبة التجارية الكبرى". 25- صالح أحمد العلي: أسلوب الكتابة والهوية الثقافية القومية، من مجموعة بحوث ومقالات صادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان "اللغة العربية والوعي القومي" الطبعة الأولى سنة 1984. 26- عبد الرحمن أيوب "دكتور": أصوات اللغة، ط: "مطبعة الكيلاني، الطبعة الثانية سنة 1968". 27- عبد الصبور شاهين "دكتور": التفكير الصوتي عند العرب. وهو ترجمة لبحث بالفرنسية للأب هنري فليش "مستخرج من مجلة مجمع اللغة العربية العدد 23 سنة 1968". 29- القلقشندي: صبح الأعشى "الجزء الثالث من مطبوعات تراثنا". 30- محمود السعران "دكتور": علم اللغة مقدمة للقارئ العربي "الطبعة الأولى سنة 1962". 31- Bloch, B.& Trager, G.L: Outline of Linguistic Analysis "Linguistic Society of America, 1942". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 32- Firth, J.R: Papers in Linguistics, "Oxford University Press, 1967". 33- Gairdner, W.H.T: The Phonetics of Arabic, "Oxford University Press,1925". 34- Heffner, R.M.S: General Phonetics "The University of Wisconsim Press 1960". 35- Hass, W: Zero in linguisitcs "Studies in Linguistic analysis, special vol. of the Philological Society. 1957, pp. 33-53". 36- Robins, R.H: General Linguistics: An Introductory Suvey Longmans, Green & Co. Ltd. 1964". 37- Wright, W: A Grammar of the Arabic Language, translated from the German of Caspari, "third ed., Cambridge University Press, 1951". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335