الكتاب: موجز عن الفتوحات الإسلامية المؤلف: د طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة الناشر: دار النشر للجامعات - القاهرة الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- موجز عن الفتوحات الإسلامية طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة الكتاب: موجز عن الفتوحات الإسلامية المؤلف: د طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة الناشر: دار النشر للجامعات - القاهرة الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم تقديم: الجهاد في سبيل الله جزء أساسي من رسالة الإسلام، وسمة بارزة للأمة الإسلامية، ومن غاياته الدفاع عن ديار الإسلام، وإزالة العوائق التي تقف في سبيل وصول الدعوة الإسلامية إلى شعوب الأرض، وغزو ديار الحرب لتحويلها إلى جزء من ديار الإسلام، أو إلى دار عهد يدفع أهلها الجزية للمسلمين1. ويجب التنبيه هنا إلى أن أصل الجهاد في سبيل الله ليس لحمل الناس على اعتناق الإسلام كرها، فـ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [سورة البقرة: 256] ، وإنما لإزالة الحواجز والعقبات المانعة من سماع دين الفطرة التي فطر الله الناس علهيا، ولدفع الظلم عن المستضعفين في الأرض من الرجال والنساء والولدان. وكانت الدعوة إلى الإسلام وطرحه بأسلوب الحوار والمفاوضة الهادئة تسير جنبا إلى جنب مع الانتصارات العسكرية الباهرة التي حققتها الجيوش الإسلامية الفاتحة. وطريقة الحوار هذه كانت وسيلة من وسائل المسلمين المبتكرة في إقناع الشعوب بالتي هي أحسن كما تدعونا إلى ذلك أبواب الحوار والدعوة السلمية، ويكون أسلوب السيف هذا مؤقتا لإزالة العقبات التي تقف حائلا أمام تعريف الشعوب بعقيدة الإسلام. وبهذه الأهداف السامية والغايات العالية انطلقت حركة الفتوحات الإسلامية منذ زمن النبي -صلى الله عليه وسلم، وتابعت مسيرتها في عصر الخلفاء الراشدن، "وظلت عجلتها تدور وتلف البلاد من حول ديار الإسلام، لا تترك بلدا لفقره وجذبه، إلى آخر لغناه وخصبه، وإنما كانت تبدأ بها أولا باول، تحاول في دأب وصبر واجتهاد أن تنقله من الشرك والوثنية إلى الإسلام وعقيدة التوحيد الخالصة"2 ولم يوقف حركة الفتوحات الإسلامية في زمن الراشدين إلا أحداث الفتنة التي شهدتها المراحل الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه، وما تلاها من حروب داخلية بني الخليفة الراشد علي   1 د. محمد عبد الحميد الرفاعي: الطابع الإسلامي للدولة الأموية "ص213" -ط دار الثقافة العربية، القاهرة 1992م. 2 د. محمد ضيف الله بطاينة: دراسات في تاريخ الخلفاء الأمويين "ص219" ط دار الفرقان، عمان، الأردن، 1999م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ابن أبي طالب -رضي الله عنه، وبين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- الوالي على الشام حينئذ. ولقد أدت هذه الفتنة إلى انشغال المسلمين بأنفسهم عن مواصلة الفتح وتثبيت أقدامهم في البلاد التي فتحوها، وعن نشر الدعوة الإسلامية، "مما يعكس الأثر السلبي للخلافات الداخلية على وضع الدولة الإسلامية الناشئة. وهذه السلبية سوف تصبح نمطا يتكرر مرات عديدة في التاريخ الإسلامي، حيث أضحت الخلافات الداخلية عاملا مهددا لوجود ومكانة الدولة، خاصة في فترات الضعف"1. وبعد خمس سنوات من الفتنة "35-40هـ" -تعثرت خلالها حركة الفتوحات الإسلامية وظلت تتردد في الضعف- اجتمع المسلمون على معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- سنة "41هـ" -وهو العام المعروف بعام الجماعة- وطوت الأمة الإسلامية هذه الصفحة الحزينة من النزاع والخلاف، واستعادت قوتها من جديد، وانطلقت الحركة من عقالها، منتشرة -كالعادة- في جميع الجهات، ومكتسحة العالم القديم شرقه وغربه. ولقد نجح معاوية -رضي الله عنه- في جمع شمل الأمة قبل أن تتفتت تماما، وبعد أن كاد الأمل يضيع في إمكانية الحفاظ على الوعاء الذي يوحد الأمة، ويحفظ الشريعة، فأقام دولة قوية استطاع أن يبدأ بها مرحلة نشطة في العلاقات الدولية والتي كان قطباها حينئذ هما: الدولة الأموية، والدولة البيزنطية2. وفي ظل الدولة الأموية استأنف المسلمون اكتساحهم لقارات العالم القديم "آسيا -إفريقيا- أوروبا" فأحيوا حركة الفتوحات الكبرى، متوغلين في أقطار الدولة البيزنطية حتى مياه "البوسفور" واستولوا على معظم الجزر الواقعة شرقي البحر المتوسط وغربيه وجنوبيه وواصلوا ضغطهم على مدينة "القسطنطينية" عاصمة الدولة البيزنطية، وحاصروها أكثر من مرة. كما أنهم فتحوا شرق العالم حتى اقتربوا من حدود الصين، واستكملوا فتح الشمال الإفريقي كله، من حدود مصر الغربية إلى   1 د. نادية محمود مصطفى: الدولة الأموية دولة الفتوحات "ص7-8" وهو الجزء الثامن من موسوعة العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي -ط المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1966م. 2 نادية مصطفى: المرجع السابق ص (8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 المحيط الأطلسي، ثم عبروا المضيق الذي عرف بـ "جبل طارق" إلى القاهرة الأوروبية ففتحوا إسبانيا، ووصلوا إلى نهر "اللورين" جنوبي فرنسا. ويعتبر النشاط الحرب خلال العصر الأموي من الصفحات المشرقة في تاريخ الأمويين، وعملا من أعمال البطولة والمجد تحسب لدولتهم، وتعطي لها أهمية بالغة، ومكانة مرموقة في التاريخ الإسلامي، بل نكاد نقول: إن الأعمال الحربية التي خاضها القادة العظام في عصر الخلافة الأموية -سواء أكانوا من البيت الأموي "كمحمد بن مروان، وابنه مروان، ومسلمة بن عبد الملك" أم من غير الأمويين "كعقبة بن نافع، وموسى بن نصير، ومولاه طارق بن زياد، وقتيبة بن مسلم" ومحمد بن القاسم، وغيرهم"- تعد علامة بارزة في الفن العسكري العالمي، فلقد حقق هؤلاء القادة المجاهدون ما يشبه الخوارق بمقياس عصرهم، إذ تمكنوا -من خلال زمن وجيز- من الانتشار في أرجاء العالم المعروف آنذاك1. وقد توزعت فتوحات الدولة الأموية على ثلاث جبهات كبرى في وقت واحد، مما يدلل على أن السياسة الحربية الفتحية كانت هي نشاط الأمويين الأساسي: وأول هذه الجبات: "بيزنطة" باعتبارها مركز القوة الرئيسية التي كانت ولا تزال في موقف التهديد المباشر لبلاد الإسلام في المجالين البري والبحري على السواء. وثانيهما: في اتجاه الشمال الإفريقي "بلاد المغرب"، وهو ميدان بيزنطي أيضا في صبغته الرسمية، وإن تجرد من القدرة على التهديد المباشر للنفوذ الإسلامي، وتميز بوجود عامل جديد مؤثر، هو العامل المحلي المتمثل في "البربر" سكان البلاد الأصليين.. وانطلاقا من هذا الميدان امتدت جهود الفاتحين إلى "شبه جزيرة إيبيريا" "إسبانيا" وجنوب فرنسا. أما الميدان الثالث: فكان في اتجاه الشرق: الشمالي والجنوبي، حيث مواطن الأتراك والهنود وبقايا الفرس. وفي الصفحات الآتية حديث موجز عن هذه الميادين الحربية، دون التعرض   1 د. محمد محمد عامر: عصر الخلافة الأموية بداية التغييرات في التاريخ الإسلامي "ص162" ط القاهرة 1982م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 للتفصيلات التي تحفل بها المراجع المختلفة، مكتفين بما يساعد على توضيح اتجاهات الفتوح، ويربط بينها وبين الأحادث التي جرت في مركز الدولة الإسلامية أو قريبا منها، مع الاستعانة بالخرائط التوضيحية التي تعرف بمواقع الأحداث. ونبدأ أولا بالحديث عن الفتوحات في الجبهة الشرقية، ثم في الجانب البيزنطي ثم الشمال الإفريقي، وشبه الجزيرة الإيبيرية "إسبانيا" وجنوب فرنسا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 أولًا: الفتوحات في الشرق مدخل ... أولا: الفتوحات في الشرق تشمل الجبهة الشرقية للدولة الإسلامية المناطق الواقعة شرق العراق. وقد اتسمت الأمم التي كانت تقطن تلك المناطق بالتعدد جنسا وحضارة، وإن اتفقت جميعها في الوثنية. وكان المسلمون حتى خلافة عثمان -رضي الله عنه- قد أتموا فتح البلاد التي تقع بين العراق ونهر "جيحون" "وهو نهر آموداريا الذي يقع -الآن- على الحدود بين تركمانستان وأزبكستان" أي كل أقاليم دولة إيران الساسانية، وتضم منطقة الجبال و""الري"، و"جرجان" و"طبرستان" و"وقوهستان" و"خراسان" و"فارس" و"كرمان" و"مكران" و"سجستان". فلما استشهد عثمان -رضي الله عنه- ووقعت الفتنة تعثرت الفتوح، وخرج أهل هذه البلاد عن الطاعة، حتى إذا التأمت جماعة المسلمين أخذت الدولة الأموية تبذل جهودا بالغة لإعادة البلاد المفتوحة إلى الطاعة، وكانت مهمة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- العاجلة في الشرق فور توليه الخلافة هي تدعيم القوة الإسلامية، وإعادة توطيد أقدام المسلمين هناك، وقد نجحت الدولة الإسلامية في عهده في فتح معظم "خراسان" على يد أميرها عبيد الله بن زياد، وكان معاوية قد ولاه على البصرة والكوفة "53-59هـ"، وعمل هذا الأمير على مد حركة الفتح إلى بلاد ما وراء النهر ، وغزا "بيكند" و"بخارى" من بلاد الصغد، واضطرهما إلى دفع الجزية، ثم قف راجعا إلى البصرة. ويبدو أنه أقم على عبور نهر "جيحون" إلى ما ورائه من البلاد بعد أن أسلمت خراسان قيادها للمسلمين وعز فيها الإسلام. وقد كانت هذه الفتوحات في المنطقة الشرقية تسير في خطين: أحدهما: شمالي إلى بلاد ما وراء النهر. والآخر: جنوبي إلى بلاد السند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 1- بلاد ما وراء النهر : أطلق المسلمون اسم "بلاد ما وراء النهر" على البلاد التي يفصلها نهر "جيحون" عن "خراسان" وهي التي تقع وراءه من جهة الشرق والشمال. وتعرف الآن باسم "آسيا الوسطى" الإسلامية، وتضم خمس جمهوريات إسلامية كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي، ثم من الله عليهم فاستقلوا بعد انهياره. وهذا الجمهوريات هي الآن "أوزبكستان" و"طاجيسكتان" و"قازاخستان" و"تركمانستان" و"قرغيزيا". وتقع بلاد "ما وراء النهر" بين نهر "جيحون" "أموداريا" جنوبا، ونهر "سيحون" "سرداريا -يقع الآن في كازاخستان" شمالا. ويطلق عليها -أحيانا- بلاد "الهياطلة" وكان أهلها وثنيين من أصول تركية، حلوا بها منذ القرن السادس الميلادي1. وتتميز بوفرة المياه، لوجود نهري "جيحون" و"سيحون" وروافقدهما الكثيرة، مما ساعد على خصوبة المنطقة وكثرة الزراعة والعمارة فيها، واجتذاب السكان إليها. ويمكن تقسيمها -عند الفتح الإسلامي- إلى عدة أقاليم أو ممالك مستقلة، هي2: 1- إقليم "طخارستان"، ويقع على صفتي نهر "جيحون". وعاصمة "بلخ". 2- إقليم "الصغد" ومن أشهر مدنه: "بخارى" وسمرقند". 3- إقليم "خوارزم". ويشمل على دلتا نهر "جيحون". وعاصمته: مدينة "الجرجانية".   1 راجع "معجم البلدان" لياقوت الحموي -مادة "هيطل". 2 راجع: مسالك الممالك، للاصطخري ص"295"، والجزء الثاني من "موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي" بعنوان "العصر الأموي -للدكتور عبد الشافي محمد عبد اللطيف- ص"30" وراجع: دراسة في تاريخ الدولة الأموية، للدكتور محمد ضيف الله بطاينة، ص"221". وراجع: بلدان الخلافة الشرقية، تأليف: لي سترنج، ص"789". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 4- إقليم "الختل" في أعالي نهر "جيحون". وعاصمته مدينة "هلبك". ومن مدنه: "أشجرد" و"الصغانيان". وكانت هذه الممالك الأربعة تسمى بالممالك "الجيحونية". 5- إقليم "فرغانة"، على نهر "سيحون". وتعرف اليوم باسم "خوقند". 6- "إقليم الشاش" على نهر سيحون أيضا، وتعرف اليوم باسم "طشقند" "عاصمة كازاخستان الآن". ومن مدة هذين الإقليمين الأخيرين: "خجندة" و"إيلاق" و"إسبيجاب". ومن الجدير بالذكر أن الترك الذين واجههم المسلمون في هذه البلاد -بلاد ما وراء النهر الواقعة بين بلاد إيراه وبلاد المغول- كانوا أجناسا، وكان أول جنس قابلوه هو جنس "الهياطلة" "Heptalirtes"، وكانوا قسمين كبيرين: 1- قبائل الشمال، وهي التي تسمى في الغالب باسم "الهياطلة"، ويلقب ملكهم بـ "الزونبيل"، وهذا اللقب يقرأ أحيانا "الرتبيل" خطأ. 2- قبائل الجنوب، وهي التي تسمى بالزابليين، وقد استقروا في إقليم، "زابلستان" "راجع الخريطة"، وأعطوه اسمهم. ولم يكن "الهياطلة" هم الجنس التركي الوحيد الذي دخل المسلمون في صراع معه في هذه المرحلة من مراحل بنائهم للدولة الإسلامية، بل كان هناك الترك "البختيون"، ويسمون في غير العربية باسم "البكتريين" نسبة إلى إقليم "باكتريا" الذي سكنوه. وعندما دخل المسلمون في صراع مع الترك قاتلوا "البختيين" في نفس الوقت الذي قاتلوا فيه الهياطلة، وكلا الفريقين ينتمي إلى الأتراك "الغزية"1. وقد طرق المسلمون هذه البلاد عدة مرات منذ خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- "23-35هـ"، وغزاها -في خلافة بني أمية- عدد من القادة المسلمين إلى سنة "86هـ" منهم: عبيد الله بن زياد، وسعيد بن عثمان بن عفان، والمهلب بن أبي صفرة، وولديه: يزيد والمفضل، ولم تسفر حملات هؤلاء القادة عن فتح   1 أطلس التاريخ الإسلامي للدكتور حسين مؤنس ص "130-131". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وقد انعكست الخلافات والانقسامات التي أعقبت موت معاوية بن أبي سفيان من "سنة 60هـ" إلى سنة "72هـ" على الفتوح في هذه المنقطة، وأصبح المسلمون في موقف دفاعي، حيث اغتنم الترك انشغال المسلمين بهذا الخلاف، فكانوا يغيرون على ديار الإسلام، ويحرضون أهل الصلح من البلاد على الثورة، وبلغوا في بعض هجومهم إلى قرب "نيسابور" في خراسان، وفقد المسلمون كثيرا من المناطق التي كانوا يسيطرون عليها1. "فما أن تمكن عبد الملك بن مروان "65-86هـ" من القضاء على مناوئيه حتى بدأ يولي الفتح الاهتمام الواجب، وكان ولادته على إقليم العراق هم مفتاح النجاح على الجبهة الشرقية، وكان الحجاج بن يوسف الثقفي الذي ولي على العرق والمشرق "سنة 75هـ" ذا فضل كبير بسبب شدته وصرامته في تحقيق قدر كبير من الاستقرار في العراق -ولو ظاهريا- مكن من خروج الحملات العسكرية نحو الأقاليم الشرقية"2. وقد اضطلع بعبء هذه الفتوح ثلاثة من قادة الحجاج المشهورين، وهم: المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وقتيبة بن مسلم الباهلي، ومحمد ابن القاسم الثقفي. أما المهلب بن أبي صفرة فقد ولاه الحجاج على خراسان سنة "78هـ"، وقام بفتوح واسعة فيما وراء النهر، وغزى مغازي كثيرة، ففتح مدينة "كش" في مملكة "الصغد"، ووجه منها حملة بقيادة ابنه "يزيد" إلى ملك "الختل" واضطره إلى دفع الجزية. كما فتح يزيد قلعة "نيزك" بإقليم "بادغيس" بين "مرو" و"هرات"، وغزا "خوارزم"، واستطاع المهلب وأبناؤه في مدة عامين تقريبا -أن يعيد هيبة المسلمين في المنطقة، وإن كان لم يوفق في إقامة قواعد ثابتة هناك3.   1 راجع: تاريخ خليفة بن خياط ص"222، 224"، وفتحو البلدان للبلاذري، ص"507، 509"، وتاريخ الطبري "5/ 298". وراجع: دراسات في تاريخ الخلفاء الأمويين، للدكتور بطاينة ص"222، 223". 2 الدولة الأموية دولة الفتوحات، نادية محمود مصطفى "ص48". 3 تاريخ خليفة بن خياط "ص279"، تاريخ اليعقوبي "2/ 273"، فتوح البلدان ص"511-514"، تاريخ الطبري "6/ 320، 325". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 فتوحات قتيبة بن مسلم في بلاد ما وراء النهر: أما المرحلة الحاسمة في الفتح والاستقرار فقد بدأت مع تسلم "قتيبة بن مسلم الباهلي" قيادة جيوش الفتح وولاية إقليم خراسان وبلاد الشرق "سنة 85هـ" وظل واليا عليها إلى سنة "99هـ"، وقد كانت الظروف مواتية له تماما، فالدولة الأموية كانت عندئذ في أحسن حالاتها استقرارا وهدوءا وثراء عريضا، فاجتمع لقتيبة مهارة القائد وعزم الوالي "الحجاج بن يوسف الثقفي" وتشجيعه، وقوة الدولة وهيبتها، فكانت فتوحاته العظيمة في بلاد "ما وراء النهر". ولم يكن "قتيبة" قائدا عسكريا فحسب، بل كان إلى جانب ذلك رجل دولة، وصانع سياسة، وواضع نظم وإدارة، فعمل بعد تسلمه أمور الولاية على القضاء على الخلافات العصبية التي كانت تعصف بالقبائل العربية في "خراسان"، من جراء التنافس على الولايات، وجمع زعماءهم على كلمة واحدة تحت الجهاد، كما أنه عمل على كسب ثقة أهل "خراسان" الأصليين، فأحسن إليهم، وقربهم، وعهد إليهم بالوظائف، فاطمأن الجميع إليه، ووثقوا به وبقيادته1. سار قتيبة على نفس الخطة التي سار عليها آل المهلب، وهي خطة الضربات السريعة المتلاحقة على الأعداء، فلا يترك لهم وقت للتجميع، غير أنه امتاز على المهالبة بأنه كان يضع لكل حملة خطة ثابتة، ويحدد لها وجهة معينة، ويجتهد في الوصول إلى ما يقصده، غير عابئ بالمصاعب، معتمدا على الله عز وجل، ثم على بسالته النادرة، وروح القيادة التي امتاز بها، وإيمانه العميق بالإسلام. ولقد مرت خطوات "قتيبة" في فتح تلك البلاد -على مدى عشر سنوات "86-96هـ"- عبر مراحل أربع، حقق في كل منها فتح ناحية واسعة فتحا نهائيا، وثبت أقدام المسلمين والإسلام فيها. وهذه المراحل هي2:   1 د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف: العصر الأموي "الجزء الثاني من موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي- ص30-31". 2 راجع: د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف: العصر الأموي "موسوعة سفير 2/ 31". أطلس تاريخ الإسلام للدكتور حسين مؤنس "ص131". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 المرحلة الأولى "86-87هـ": وفيها أخضع "قتيبة بن مسلم" إقليم "طخارستان" الواقع على ضفتي نهر "جيحون". ويبدو أن أوضاعه لم تكن قد استقرت للمسلمين تماما منذ أن فتحه "الأحنف ابن قيس" في خلافة عثمان بن عفان. وكانت تلك بداية ناجحة من "قتيبة"؛ فبدون توكيد أقدامه في "طخارستان" لم يكن ممكنا أن يمضي لفتح "ما وراء النهر". وقد أصبح يتمتع بهيبة كبيرة في تلك البلاد، فما إن يسمع الملوك بمسيره إليهم حتى يسرعوا إلى لقائه وطلب الصلح. المرحلة الثانية "87-90هـ": وفيها فتح "قتيبة" إقليم "بخارى" كله بعد حروب طاحنة وانتظام حملاته عليها. المرحلة الثالثة "91-93هـ": وفيها أكمل فتح حوض جيحون" كله وأتم فتح "سجستان" "92هـ"، وإقليم "خوارزم" "93هـ". وتوج عمله بالاستيلاء على "سمرقند" أعظم مدن ما وراء النهر كلها. ومن جميل ما يروى في فتح سمرقند أن المسلمين حينما دخلوها أخرجوا ما فيها من الأصنام وأحرقوها، وكان أهل سمرقند يعتقدون أن من استخف بها هلك، فلما أحرقها المسلمون ولم يصابوا بأذى أسلم من أهلها خلق كثير. المرحلة الرابعة "94-96هـ": وفيها عبر قتيبة "نهر سيحون"، وفتح الممالك السيحونية الثلاث: "الشاش" و"أشروسنة" و"فرغانة" ثم دخل أرض الصين، وأوغل في مقاطة "سنكيانج"، ووصل إلى إقليم "كاشغر" وجعلها قاعدة إسلامية، وتهيأ لفتح الصين لولا أن وفاة "الحجاج بن يوسف الثقفي" "95هـ"، والخليفة "الوليد بن عبد الملك" "96هـ" جعلته يتوقف عند هذا الحد، لكنه أجبر ملك الصين على دفع الجزية1. ونذكر هنا ثلاث ملاحظات جديرة بالتسجيل وهي: 1- لقد كان أهل هذه البلاد جاهلين بحقيقة الإسلام، وتصوروا أن المسلمين إنما   1 راجع: تفاصيل الحروب والمعارك التي خاضها قتيبة في بلاد ما وراء النهر: تاريخ الطبري "6/ 425، 432، 436-437، 455، 463، 470، 473، 480، 503، 504" فتوح البلدان للبلاذري "ص516، 518، 521، 522". تاريخ اليعقوبي "2/ 287". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 جاءوا للاستيلاء على خيرات بلادهم، الأمر الذي جعلهم يقاومون بشراسة، لكنهم لما عرفوا أن المسلمين ليسوا غزاة، وإنما هداة يحملون إليهم الإسلام أقبلوا على اعتناقه والإيمان بمبادئه. يقول المستشرق المجري "أرمينوس فامبري": "إن بخارى التي قاموت العرب في البداية مقاومة عنيفة قد فتحت لهم أبوابا لتستقبلهم ومعهم تعاليم نبيهم محمد -صلى الله عليه وسلم، تلك التعاليم التي قوبلت أول الأمر بمعارضة شديدة، ثم أقبل القوم عليها بعد ذلك في غيرة شديدة حتى لنري الإسلام -الذي أخذ شأنه يضعف اليوم في جهات آسيا الأخرى- وقد غدا في بخارى اليوم "1873م" على الصورة التي كان عليها أيام الخلفاء الراشدين1. 2- كان السكان في هذه المناطق يرضون بالصلح أو يعتنقون الإسلام ظاهريا في بداية الأمر كما أسلفنا، وما إن ينصرف الجند المسلمون حتى ينقضوا العهد أو يرتدوا عن الإسلام. وهذا يظهر بوضوح مدى منطقية مفهوم "عقبة بن نافع" -فاتح "إفريقية" ومؤسس مدينة "القيروان" فيها -بضرورة أن يكون الفتح معنويان، وليس عسكريا، فالفتح المعنوي يحتاج إلى وجود مسلمين مقيمين في المنطقة بعد فتحها يفتحون القلوب بالإيمان والعلم. أما الفتح العسكري فيتم بواسطة الجند الذين يرتحلون بعد نجاح المهمة العسكرية فلا يحققون شيئا في الواقع إلا فتح الأرض التي تنقض عليهم فور انسحابهم2. 3- لا شك أن قيادة "قتيبة بن مسلم" الفذة وخططه العسكرية المحكمة، ودعم القيادة العليا له -ممثلة بالحجاج في العراق، والخليفة عبد الملك، ثم ابنه الوليد في الشام- إضافة إلى ما كان من طاقات إيمانية عند الجند: جعل النصر حليف المسلمين في هذا الميدان، وقد ساعد ذلك -مع المعاملة الطيبة لأهل البلاد- على تحويل المنطقة إلى دار إسلام3. وبوفاة "قتيبة بن مسلم" توقفت فتوحات المسلمين على هذه الجبهة عند الحد   1 د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف: العصر الأموي "الجزء الثاني من موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي -ص31". 2 نادية محمود مصطفى: الدولة الأمورية دولة الفتوحات، ص"50". 3 د. محمد ضيف الله بطاينة: دراسات في تاريخ الخلفاء الأمويين ص"227". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الذي تركها هو عليه، ذلك أنه لما تولى "يزيد بن المهلب بن أبي صفرة" على خراسان -ولاه عليها الخليفة سليمان ابن عبد الملك سنة "97هـ"- وجه همه إلى فتح "جرجان" و"طبرستان"ن ولم يكن المسلمون قد وطأوا أيهما من قبل، وذلك حتى يحقق فتحا يغبط سليمان كما كانت نجاحات "قتيبة" تغبط الوليد. ولقد استطاع "يزيد" أن يفتح "جرجان" بالفعل صلحا، ثم توجه إلى "طبرستان"، ولكنه هناك، فنقض أهل "جرجان" عهدهم، فعاد وحاربهم وفتحها هذه المرة عنوة1. ولقد ظل الجهاد والاستعداد للغزو قائما في هذا الجانب من العالم إلى نهاية حكم بني أمية، ومما يلاحظ في هذا الميدان أن الترك الذين ظلوا ينزلون خارج دائرة سلطان المسلمين من بلاد ما وراء النهر كانوا -بعد فتوحات قتيبة بن مسلم- لا ينفكون يهجمون على المناطق التي دخلت في سلطان المسلمين، ويحرضون أهلها على الثورة والعصيان، فكان المسلمون يقومون بإخضاعهم وإعادة البلاد إلى الطاعة2. ولا شك أن هذا الميدان كان من أشد الميادين قتالا، ولم يكن دار حرب أشد من بلاد الترك، ولكنها تحولت بعد الجهود المتوالية إلى دار إسلام، وأصبحت في فترة تالية كعبة العلم والعلماء، ونشأت فيها مراكز علمية وحضارية مثل: بخارى، وبلخ، وسمرقند، ونيسابور، وهراة، ومرو، والري، وجرجان، وسرخس، وطبرستان، وغيرها. وخرجت هذه المدن عددا هائلا من العلماء استضاءت بهم الأمة، وملأت أسماؤهم سمع الدنيا وبصرها. واليوم تتوزع هذه البلاد بين إيران وأفغانستان. أما الجزء الأكبر منها فيقع في الجمهوريات الإسلامية الخمسة في آسيا الوسطى فازاخستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وطاجكستان، وقيرغيزيا3.   1 تفاصيل الأحداث في تاريخ الطبري "6/ 541-544". 2 راجع تفاصيل معارك ما بعد قتيبة بن مسلم إلى أواخر عصر بني أمية في ميدان "ما وراء النهر": تاريخ الطبري "6/ 605، 607، 7/ 8، 14، 65، 71، 113، 114، 176، 192" وفتوح البلدان للبلاذري، ص "301، 519، 525، 527". تاريخ اليعقوبي "2/ 302، 524". 3 من أجل معرفة المزيد عن بلاد خراسان وما وراء النهر في العصر الحاضر انظر: كتاب "حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة" للدكتور جميل عبد الله محمد المصري "ط مكتبة العبيكان -الرياض 1996م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 2- فتح بلاد السند "حملات محمد بن القاسم" : انقسمت شبه القارة الهندية في القديم إلى قسمين جغرافيين كبيرين، هما: "بلاد السند والبنجاب" و"بلاد الهند". وبلاد السند هي البلاد المحيطة بنهر السند "Indus"، الذي كان يسمى من قبل بـ "نهر مهران"، وينبع من عيون في أعالي السند وجبالها من أرض قشمير "كشمير"، ويصب في بحر السند "المحيط الهندي". وتمتد هذه البلاد غربا من إيران، إلى جبال "الهمالايا" في الشمال الشرقي، تاركة شبه القارة الهندي في جنوبها. وتكون -الآن- جزءا كبيرا من دولة باكستان الحالية. ومن مدن السند: مدينة "الديبل" "مكان كراتشي الحالية"، "قندابيل"، و"قيقان"، و"لاهور"، و"قصدار"، و"الميد"، و"الملتان" المجاورة للهند، وتقع على أعلى رافد من روافد نهر مهران. وكان العرب يطلقون على "السند" من الأسماء: "ثغر الهند"، لأنه كان في ذلك الوقت المعبر إلى بلاد الهند1. وقد سبق الفتح المنظم لبلاد "السند" سلسلة من الحملات والغزوات قام بها المسلمون، لمعرفة طبيعة البلاد وجمع المعلومات عنها، كما حدث لبلاد ما وراء النهر. وكانت البداية مبكرة في عهدة الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، وتتابعت الغزوات بعده في خلافة كل من عثمان وعلي معاوية -رضي الله عنه، وحقق المسلمون فيها انتصارات عديدة، وغنموا مغانم كثيرة، إلى أن جاء عهد الوليد ابن عبد الملك "86-96هـ"، فجاء عهد الفتح المنظم لهذه البلاد. وبعد أن استقام الأمر للحجاج بن يوسف الثقفي في جنوبي بلاد فارس، وتوطدت أقدام المسلمين هناك، وقضى على تمرد الملك "رتبيل" ملك سجستان، وأخضع بلاده بدأ يعد العدة لفتح إقليم "السند" نهائيا، فأرسل عدة ولاة قتلوا في   1 راجع: أطلس التاريخ الإسلامي، للدكتور حسين مؤنس "الخريطة ص118" دراسات في تاريخ الخلفاء الأمويين، للدكتور بطاينة ص"236" موسوعة التاريخ الإسلامي للدكتور أحمد شلبي "الجزء الثاني: الدولة الأموية ص139". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الغزو واحدا بعد آخر، إلى أن استقر رأيه على تعيين قائد كبير أسند إليه هذه المهمة وهو ابن أخيه وصهره "محمد بن القاسم الثقفي"، الذي عرف بفاتح السند، وكان واليا على فارس في سن السابعة والعشرين من عمره، وجهزه بما يكفل له النكاح من عدة وعتاد، وأمده بستة آلاف جندي من أهل الشام، إضافة إلى ما كان معه من الجنود، فاجتمع تحت قيادته نحو عشرين ألفا في تقدير بعض المؤرخين، وأنفق الحجاج على الجيش ستين ألف ألف "60.000.000" درهم. ويمكن تلخيص مراحل الفتح التي قام بها محمد بن القاسم في الخطوات الآتية: 1- سار محمد بن القاسم بجنده من "شيراز" إلى "مكران"، وأقام بها أياما واتخذ منها قاعدة للفتح ونقطة انطلاق، ثم فتح "قنزابور"، ثم "أرمائيل". 2- تقدم لفتح "الديبل"، وتقع -الآن- قريبة من كراتشي في باكستان، وجعل عتادة أزواده في سفن أرسلها بالبحر من "أرمائيل"، وحاصر "الديبل"، ونصب عليها المنجنيق، وفتحها بعد قتال عنيف دام ثلاثة أيام، وهدم "البد" الكبير بها، وكل "بد" آخر "والبد: كل تمثال أو معبد لبوذا" ثم حولها إلى مدينة إسلامية، وأزال منها كل آثار البوذيةن وبنى بها المساجد وأسكنها أربعة آلاف مسلم. 3- كان لفتح المسلمين مدينة "الديبل" أثر كبير على أهل "السند" فسارعوا يطلبون الصلح، فصالحهم محمد بن القاسم ورفق بهم، ثم سار إلى مدينة "البيرون" "حيدار أباد السند حاليا" فصالح أهلها، وجعل لا يمر -بعد- بمدينة إلا فتحها صلحا أو عنوة، حتى بلغ نهر "مهران"، فعبر النهر، وفاجأ "داهر" ملك السند، والتقى معه في معركة حامية "93هـ" قتل فيها الملك، وانقض جمعه. وبمقتله استسلمت بقية بلاد السند، وأصبحت جزءا من بلاد الإسلام. 4- مضى محمد بن القاسم يستكمل فتحه، فاستولى على مدن وحصون كثيرة إلى أن اجتاز نهر "بياس" واقتحم مدينة "الملتان" في إقليم البنجاب "راجع الخريطة" في جيش عداده خمسون ألفا من الجنود والفرسان "عشرهم فقط من الجيش الأصلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الفاتح، ومعظمهم ممن انضم إلى المسلمين بعد نجاحهم في المعارك السابقة"، فاستولى على المدينة بعد قتال عنيف، وقضى على كل التماثيل والمعابد البوذية هناك، وغنم مغانم كثيرة من الذهب والفضة، ولهذا سميت "الملتان" بيت "أو ثغر" الذهب. وقد اتبع ابن القاسم في هذه المدينة ما اتبعه في المدن الأخرى التي فتحها، من حيث التنظيمات المالية والإدارية والعسكرية، فعين الحكام على كورها المختلفة، وترك بها حامية من الجنود، وأخذ العهود والمواثيق على أعيان المدينة بأن يعملوا على استقرار الأمن. 5- وفي أثناء وجود محمد بن القاسم في "الملتان" جاءه خبر وفاة الحجاج، فاغتم لذلك، لكنه واصل فتوحاته حتى أتم فتح بلاد السند، وجاءته قبائل "الزط" و"الميد" -المعروفين بقطع الطرق البرية والبحرية- مرحبين به، وتعهدوا له بالطاعة والعمل على سلامة الطرق في البر والبحر. 6- انتهت أعمال ابن القاسم الحربية بإخضاع إقليم "الكيرج" على الحدود السندية الهندية وهزيمة ملكه "دوهر" ومقتله؛ ودخول أهله في طاعة المسلمين1. وكان محمد بن القاسم يتطلع إلى فتح إمارة "كنوج" "قنوج" "Kanyj" أعظم إمارات الهند والتي كانت تمتد من السند إلى البنغال، فاستأذن "الحجاج" فأذن له، وبينما هو على أتم الاستعداد لذلك كخطوة أولى نحو الوصول إلى "كشمير" وإتمام فتح كل السند والهند إذ وصله موت الحجاج "95هـ"، ومن بعده بستة أشهر الخليفة الوليد عبد الملك "96هـ"، وتولى أخوه سليمان الخلافةن وكان سليمان ينقم على "الحجاج" وصنائعه، لأنه أقر "الوليد بن عبد المملك" على خلع بيعة "سليمان" وعقدها لابنه عبد العزيز بدلا منه، ومن ثم فما أن تولى حتى عزل   1 تفاصيل الأحداث في تاريخ خليفة بن خياط ص"206-213"، ص"318"، تاريخ اليعقوبي "2/ 231-234"، ص"288-290"، فتوح البلدان للبلاذري ص"530، 531، 532، 540-543"، والكامل في التاريخ لابن الأثير "4/ 250، 251". وراجع: التاريخ والحضارة الإسلامية في الباكستان "السند والبنجاب" إلى آخر فترة الحكم العربي، للدكتور عبد الله جمال الدين ص"34-77"، وأطلس التاريخ الإسلامي للدكتور حسين مؤنس، ص"132". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 محمد بن القاسم عن ولاية السند، وأمر به مقيدا إلى دمشق حيث عذب حتى موت، دون أن يشفع له جهاده في سبيل نشر الإسلام في مناطق استعصت على المسلمين طويلا، بل كان الاعتبار الأهم هو للأهواء الشخصية1. ويعلق الدكتور عبد الله جمال الدين على مقتل ابن القاسم بقوله: "وإن المرء ليعجب كيف تنتهي حياة ذلك الشاب بهذه الصورة المريرة، وهو الذي فتح كلا بلاد لسند، ونشر الإسلام في كافة أرجائها في فترة قياسية لم تتجاوز السنوات الثلاث؟ كيف يواجه محمد بن القاسم هذا المصير المؤلم ويجزى ذلك الجزاء المهين؟ لقد تضاءلت أمام أعماله الحربية والسياسية عظمة الإسكندر "المقدوني" وشهرته، إذ بينما عجز الإسكندر قبل ألف عام عن الاستيلاء على قسم ضئيل من الهند كان سكانه أقل من ربع السكان زمن ابن القاسم استطاع هذا الفتى أن يخضعها ويلحقها بالدولة الإسلامية من غير كبير عناء. وقد قال مؤرخ إنجليزي: لو أراد ابن القاسم أن يستمر بفتوحاته حتى الصين لما عاقه عائق، ولم يتجاوز أحد من الغزاة فتوحاته إلى أيام الغرنويين. لقد كان واحدا من عظماء الرجال في كل العصور"2. ومهما يكن من أمر فقد توقفت الفتوحات في جبهة السند بمجرد مغادرة محمد بن القاسم البلاد، وانكمش المسلمون في المناطق التي تم فتحها من قبل، وتركت الأوضاع السياسية السيئة في عاصمة الخلافة "دمشق" تأثيرها على الاستقرار والأمن في شبه القارة الهندية، فقامت الثورات والفتن في بعض المناطق الخاضعة للمسلمين، وحاول بعض أمراء السند وملوكها الذين قد فروا إلى كشمير وغيرها العودة إلى البلاد، ونجع بعضهم في استعادة سلطانه ونفوذه، مستفيدا من الاضطرابات الداخلية في العالم الإسلامي3. ولما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة "99-101هـ" كتب إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام والطاعة، فدخلت بد السند كلها في طاعة المسلمين، وأسلم   1 راجع الكامل في التاريخ، لابن الأثير "4/ 286، 287". 2 د. عبد الله جمال الدين: التاريخ والحضارة الإسلامية في الباكستان "أو السند والبنجاب" إلى آخر فترة الحكم العربي "ص80، 81". 3 د. عبد الله جمال الدين: المرجع السابق ص"81". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 أهلها وملوكها وتسموا بأسماء العرب، وبهذا أصبحت بلاد السند بلاد إسلام. ثم عادت واضطرب في أواخر بني أمية، إلى أن انتظمت في خلافة أبي جعفر المنصور -العباسي "136-157هـ" وفي أيامه افتتحت "كشمير" ودخلت في دولة الإسلام1. ولا بد من الإشارة إلى أن الفتح العربي الإسلامي للسند لم يكن فتحا عسكريا فحسب، وإنما -كما حدث في الجبهات الأخرى- تنقلت العشائر العربية إلى هناك، وحمل العرب إلى البلاد نفس أسلوبهم في الحياة، كما انتشرت الثقافة الإسلامية والعربية في المدن التي ستؤسس فيما بعد، مما ساعد على نشر الإسلام والعربية، بل هاجرت إلى الهند نفس الصور الفكرية التي طبعت العالم الإسلامي في القرن الأول الهجري، كما انتقلت إليها فرق ودعايات الخروج والشيعة2.   1 راجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير "4/ 323" "أحداث سنة 100هـ"، وأطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس، ص"131". 2 د. عبد الله جمال الدين: مرجع سابق، ص"82، 83". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ثانيا: الفتوحات في الجانب البيزنطي سيطرة المسلمين على الحوض الشرقي للبحر المتوسط في عصر الراشدين : كان الروم البيزنطيون أشد أعطاء المسلمين، وأقواهم شكيمة. وقد أدرك معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- هذه الحقيقة حيث قضى أربعين عاما في قتالهم، منذ أن كان واليا على الشام في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، وإلى وفاته "سنة 60هـ" ولذلك نراه يوصي من بعده بقوله: "شذوا خناق الروم، فإنكم تضبطون بذلك غيرهم من الأمم"1. وفي إقليم الشام تاخمت حدود الدولة الإسلامية حدود الأمبراطورية البيزنطية، كما جاورت ممتلكات تلك الأمبراطورية سواحل الشامل في حوض البحر المتوسط الشرقي، ومن ثم هدد الخطر البيزني إقليم الشام برا وبحرا. ويعتبر الانتصار الحاسم الذي أحرزه المسلمون على الجيوش البيزنطية في موقعة "اليرموك" "13هـ/ 643م" أو "15هـ/ 636م" نقطة تحول هامة في حركة الفتوح الإسلامية، أدت إلى انهيار قوي الروم، وانفصال الشام عن جسم الامبراطورية البيزنطية. ويذكر المؤرخون أن "هرقل" عندما بلغه نبأ الكارثة التي حلت بجيوشه في معركة "اليوموك" رحل إلى "القسطنطينية"، فلما تجاوز الدرب الذي يصل أرض الشام بأرض "بيزنطة" نظر إلى الأراضي السورية وقال -يودعها بنظرة- "عليك يا سورية السلام، ونعم البلد هذا للعدو"2. وعلى إثر هذه المعركة أخذت مدن الشام الكبرى في الشمال والجنوب تتساقط سريعا، الواحدة بعد الأخرى في أيدي المسلمين. ولم يكد هؤلاء ينتهون من فتح   1 تاريخ خليفة بن خياط، ص"230". 2 فتوح البلدان، للبلاذري، تحقيق د. صلاح الدين المنجد -القسم الأول "ص162" "ط القاهرة 1956م". والكامل في التاريخ لابن الأثير "2/ 342"، "ط دار الكتب العلمية، بيروت 1987م". وراجع: تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام للدكتور السيد عبد العزيز السالم، ودكتور: أحمد مختار العبادي "ص13" "ط مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية 1993م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 "دمشق" حتى وجهوا جهودهم لفتح المدن الساحلية الشامية والجزر الواقعة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط: 1- فقد استولى عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في بداية فتوح الشام- على موانئ "غزة" و"عسقلان" و"عكا" "سنة 15هـ/ 636م". 2- ثم استولى يزيد بن أبي سفيان "الوالي على الشام -قبل أخيه معاوية- في خلافة عمر بن الخطاب" على "صيدا" و"صور" و"بيروت" و"جبيل" "سنة 17هـ/ 638م". 3- واستولى عبادة بن الصامت -بأمر من يزيد بن أبي سفيان- على موانئ السواحل الشامية الشمالية، مثل "اللاذقية" و"جبالة"، و"أنطرسوس". 4- وعندما تولى معاوية بن أبي سفيان إمارة الشام بدأ النشاط البحري الكبير في شرق البحر المتوسط، وأظهر في فتح المنطقة الساحلية عبقرية فذة، وبذل فيها جهودا ذات "بلاء حسن وأثر جميل" على نحو ما شهد له بذلك قادة المسلمين، فاستولى على "قيسارية" "سنة 19هـ/ 640م". وهي من أهم المدن الساحلية بالشام، ثم على مدينة "طرابلس" التي كانت ميناء "دمشق" ومفتاح حياتها الاقتصاديةن وتتفوق على سائر مدن الشام في حصونها وبهائها1. 5- وقد اهتم معاوية بغزو جزر البحر المتوسط المواجهة لساحل الشام ليتخذها مراكز أمامية يوجه منها الغزوات البحرية إلى بلاد البيزنطيين نفسها، فاستولى على "أرواد" و"رودس". ثم قاد أول حملة بحرية إسلامية على جزيرة "قبرص"2، فتوجه إليها من "عكا" "سنة 28هـ/ 645م"، وما كادت السفن الإسلامية ترسو إلى ساحلها حتى أذعن أهلها بالطاعة للمسلمين، وصالحهم معاوية على جزية سنوية، واشترط عليهم أن يلتزموا الحياد في الصراع العربي البيزنطي، وأن يبلغوا المسلمين بسير عدوهم من البيزنطيين. فلما كانت "سنة 32هـ/ 652م" أعان أهل   1 راجع: الكامل لابن الأثير "1/ 404". 2 تبعد جزيرة "قبرص" عن الساحل السوري "90كم" وعن الساحل التركي "65كم"، وعن الساحل المصري "400كم"، وعن الساحل اليوناني "900كم"، ويبلغ أقصى طول لها "235كم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قبرص البيزنطيين على الغزاة في البحر بسفن قدموها لهم، فغزاهم معاوية "سنة 33هـ/ 653م" في خمسمائة سفينة، وافتتح الجزيرة -في هذه المرة- عنوة، ثم أقرهم على صلحهم الأول، وارسل إليهم اثني عشر ألفا من المسلمين ليقيموا في الجزيرة، ونقل إليها جماعة أخرى من مسلمي بعلبك، فبنوا المساجد والبيوت1. 6- وقد خاص المسلمون في أواخر العصر الراشدي موقعة بحرية هامة ضد البيزنطيين حسمت السيادة البحرية في حوض البحر المتوسط، وقلبت التفوق البيزنطي لصالح المسلمين، ونعني بها موقعة "ذات الصواري" "سنة 34هـ/ 654م". وتذكر المصادر العربية أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح "أمير مصر" خرج بأسطوله البحري من "رشيد" قاصدا أسطول الروم، وفي الوقت نفسه خرج "بسر بن أبي أرطأة" -وهو أحد قادة معاوية- بأسطوله من "صور"، وتلاقى الاثنان في البحر بالقرب من ساحل "ليكيا" "عند فونيكة" -في جنوب أنطاكية- حيث دارات المعركة هناك. وكان الأسطول البيزنطي مكونا من خمسمائة مركب، أو سبعمائة وقيل "ألف"، في حين كان المسلمون في نحو مائتي مركب، وقد وصف أحد المسلمين المشاركين في المعركة شعوره حين تقابلت الأساطيل الإسلامية مع السفن البيزنطية قائلا: "فالتقينا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط". ويبدو أن المسلمين أدركوا أن خوض قتال بحري ضد هذه الأعداد الضخمة من السفن المدربة مخاطرة غير مأمونة، فاختروا أن يجعلوها حربا برية في البحر، فربطوا سفنهم المتقاربة في سفن الأعداء، وجعلوا من ظهورها ميدانا بريا للقتال، واشتدت المعركة، وقتل من الجانبين أعداد هائلة، واختلطت دماء القتلى بمياه البحر، فصبغته بلونها الأحمر القاني، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما، وانتهى القتال بانتصار حاسم للمسلمين، وأسفر عن بداية لطور بحري جديد سيطر المسلمون فيه على حوض البحر المتوسط الشرقي على حساب البحرية البيزنطية، وأكسبهم خبرة طيبة في المجال البحري   1 راجع: تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام "ص132-20"، أطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس "ص285"، الأمويون والبيزنطيون للدكتور/ إبراهيم العدوي "ص47-53". وراجع عن غزو قبرص" تاريخ الطبري "4/ 259، 260، 262"، وتاريخ الكامل لابن الأثير "2/ 488". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 العسكري، مما فتح لهم آفاقا جديدة لميادين الامتياز والتفوق في مجابهة دولة الروم المتربصين بهم1. ويعلق الدكتور إبراهيم العدوي على معركة "ذات الصواري" بقوله: "وتعتبر هذه الوقعة البحرية من المعارك الحاسمة القلائل التي غيرت مجرى تاريخ البحر المتوسط ... إذ قضت على اتصافه بأنه بحرم "الروم"، وجعلته حريا أن يدعى "بحر المسلمين"، فقد انطلقت فيه السفن الإسلامية في حرية تذهب حيثما تريد، رافعة علم الإسلام. وتجلت أولى النتائج الهامة التي ترتبت على هذه المعركة الفاصلة عندما تخلى الإمبراطور البيزنطي "قنسطانز" ومن جاء بعده من الأباطرة عن فكرة طرد المسلمين من البلاد التي استولوا عليها في شرق البحر الأبيض المتوسط، واستعادة ما كان لهم من سالف النفوذ والسلطان هناك، إذ أدرك أولئك الأباطرة أن هذه الفكرة ضرب من الأحلام التي فات أوانها، وأن قدم المسلمين رسخت نهائيا على شاطئ البحر المتوسط الشرقي، فجنحوا إلى الاعتراف بالأمر الواقع، وادخار جهودهم وقوتهم إلى وقت قد يحتاجون فيه للدفاع عن دولتهم وحمايتها من التردي نهائيا في أيد المسلمين"2. وخلاصة ما تقدم أن المسلمين استطاعوا -قبل نهاية العصر الراشدي- أن ينتزعوا السيادة البحرية على الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وأن تكحون لهم السيطرة الكاملة على سواحل ذلك البحر، من طرابلس الشام، إلى "قرطاجنة" في منطقة "إفريقية"، واستولوا على جزر أرواد" و"قبرص" و"رودس"، تمهيدا لغزو القسطنطينية".   1 راجع تفاصيل عن المعركة: تاريخ الطبري "4/ 290، 291"، تاريخ البحرية الإسلامية للدكتور السيد عبد العزيز سالم "1/ 28-31"، أطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس ص"285"، والدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، للدكتور حمدي شاهين "ص258-261"، الأمويون والبيزنطيون، للدكتور إبراهيم العدوي "ص92-99". 2 الأمويون والبيزنطيون "ص98، 99". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 سياسة معاوية بن أبي سفيان البحرية في مواجهة الروم ... سياسة معاوية بن أبي سيان البحرية في مواجهة الروم: تولى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أمر الدولة الأموية صبيحة تأسيسها، وكان واليا على الشام لأكثر من عشرين سنة متصلة في زمن خلافة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما- على التوالي. وقد وقع عليه -في أكثر الوقت- العبء الأكبر في مجابهة الخطر البيزنطي على إقليم الشام برا وبحرا. وكان لخبرته القتالية الطويلة مع الروم أثر واضح في تشكيل رؤية -أو "استراتيجية"- للتعامل معهم، وفي توجيه قناعته بطبيعة السياسة الملائمة لهذا التعامل. وكانت المواجهة القتالية المستمرة مع الروم البيظنطيين هي الأسلوب الذي ارتآه أنسب للتعامل معهم، وكان توليه خلافة المسلمين هي الفرصة المناسبة التي ساعدته على تحوي لتلك القناعة الشخصية إلى "سياسة دولة"، وتوافرت -إلى ذلك- مجموعة من العوامل الداخلية الإيجابية أدت إلى إنجاح هذه السياسة، أهمها وجود جيش قوي، ولاؤه الأول والأخير للخليفة، وموارد اقتصادية هائلة تدرها الأمصارن وقرب عهد بالإسلام وفر أعداد هائلة من المتطوعين المؤمنين بهذه السياسة بوصفها رسالة إيمانية1. وبعد أن أمن معاوية الجبهة الداخلية للدولة الإسلامية باتباع مجموعة من الخطوات -أهمها حل المشاكل التي خلفتها أعوام متتالية من الفتن والحروب بعد مقتل الخليفة الشهيد عثمان -رضي الله عنه، وإزالة التناحر القبلي بين عرب الشام وعرب الجنوب وفق ميزان عدل لا يميل إلى أحد الطرفين على حساب الآخر. وبعد أن نقل عاصمة الخلاصة إلى دمشق الشام موطن شيعته ومناصريه، ولتكون قريبة من ميدان الصراع مع البيزنطيين، إضافة إلى اهتمامه الكبير بتأسيس جيش قوي ليكون عدته في تنفيذ مشاريعه الحربية، وجعل قوامه الأساسي من جند الشام الموالين له، واختار مجموعة من خيرة القادة العسكريين لقيادته -نقول: بعد أن نجع في تحقيق ذلك كله عمد إلى رسم الخطوط العريضة لسياسات التعامل الخارجي للدولة الأموية، والتي استمرت منهاجا لها حتى زالت سنة "132هـ". ولعل المعلم الرئيس لسياسة التعامل الخارجي للدولة الأموية يتلخص في عبارة واحدة، هي "الهجوم خير وسيلة للدفاع، والعمل المستمر على توسيع الدولة وضم مناطق جديدة إليها". وهذه السياسة يمكن أن نطلق عليها اسم "سياسة تداعي الفتوحات"، فمثلا: نجد أن الدولة الأموية قد آمنت بأن تأمين فتوحات الشام   1 نادية مصطفى: الدولة الأموية دولة الفتوحات "ص13- بتصرف يسير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 إنما يستدعي السيطرة على المناطق المجاورة له من الشمال والشمال الشرقي "أرمينية"، والجنوب الغربي "مصر"، والمناطق الغربية "جزر البحر المتوسط الشرقية"، ثم إن تأمين فتوحات مصر استدعى فتح إفريقية "تونس"، وهذا بدوره تطلب فتح المغرب الأوسط "الجزائر"، ثم المغرب الأقصى، ثم عبور المضيق إلى شبه الجزيرة الإيبيرية "إسبانيا". وبهذا أصبح المسلمون في مواجهة القوى غير الإسلامية "الأوروبية" في الغرب بالقدر نفسه الذي واجهوا به الدولة البيزنطية في الشرق. فعلى هدي الظروف الجغرافية -إذن- كانت تسير الفتوحات الأموية برا من أجل رفع راية الإسلام1. ولم يختلف الأمر في البحر عنه في البر؛ فبعد غزو جزيرة "قبرص" في البحر المتوسط الشرقي أيقن الأمويون ضرورة عدم التوقف عن هذا الحد، فمواصلة الاستيلاء على الجزر التابعة للروم في شرق هذا البحر كان حتمية وفقا لسياسة الأمويين الخارجية؛ فشرق البحر المتوسط تنتشر فيه الجزر التي تقسمه إلى بحار داخلية صغيرة، يتصل بعضها ببعض عن طريق مضايق وفتحات صغيرة، وتتحكم في مداخلها أطراف تلك الجزر، فكانت هذه المضايق أشبه أعناق الزجاجات تكفل للمسيطر عليها السيادة على ما يليها من بحار داخلية وما يطل على هذه البحار من أراض وبلاد، ومن ثم سار الأمويون في استيلائهم على هذه الجزر وفق خطة منطقية محددة بدقة، تهدف إلى تأمين سلامة الفتوحات الإسلامية في البر عن طريق الاستيلاء على الجزر القريبة المجاورة مباشرة لتلك الأراضي المفتوحة، ثم متابعة الاستيلاء على غيرها من الجزر التي تتحكم في أكبر عدد من المضايق البحرية، وذلك لسد كل المنافذ والطرق أمام الأساطيل البيزنطية إذا ما رغبت في مهاجمة الأراضي المفتوحة من جهة البحر2.   1 راجع: الصراع بين العرب وأوروبا من ظهور الإسلام إلى انتهاء الحروب الصليبية للدكتور رمضان عبد التواب "ص96 وما بعدها" "ط دار المعارف، القاهرة 1983م"، الحدود الإسلامية البيزنطية بين الاحتكاك الحربي والاتصال الحضاري، للدكتور فتح عثمان "ص259، 260" "ط القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر"، الدولة الأموية دولة الفتوحات، لنادية مصطفى "ص16". 2 الدولة الأموية دولة الفتوحات "ص16، 17". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 بناء الأسطول والتمهيد البري والبحري لفتح القسطنطينية : أدرك معاوية -مؤسس الدولة الأموية- أثناء فترة ولايته الطويلة على الشام، والتي احتك فيها عن قرب بالوم البيزنطيين -أن قوتهم البحرية هي العامل ذو الأثر القوي في بقائهم كدولة، ثم إنه أدرك- أثناء اشتراكه في فتح مدن الشام الساحلية -مدى خطر المحاولات الهجومية البحرية التي تقوم بها الأساطيل البيزنطية لاسترداد تلك المدن المفتوحة، والتي كانت تنطلق من قواعد الروم البحرية. ومن هنا رأى معاوية أنه من الضروري أن يمتلك المسلمون قوة بحرية تمكنهم من الدفاع عن الشواطئ التي امتلكوها، بل وعدم الاكتفاء بالسياسة الدفاعية المتمثلة في وضع حاميات على الشواطئ لصد الهجمات البحرية البيزنطية واستبدالها بسياسة هجومية تعتمد على أسطول إسلامي قوي يقف من الأسطول البيزنطي موقف الند، وتكون مهمته -ليس انتظار هجمات البيزنطين لصدها- وإنما المبادرة بالاستيلاء على جزر البحر المتوسط التابعة للبيزنطيين. وقد رفع معاوية -رضي الله عنه- أثناء ولايته على الشام- الأمر إلى الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، شارحا له أهمية هذا التوجه؛ لأنه عاني في فتح مدن الشام الساحلية عناء شديدا بسبب وجود الأسطول البيزنطي. غير أن عمر -رضي الله عنه- رفض الفكرة، خوفا على المسلمين من أهوال البحار، إذ لم يكن لهم خبرة بالحروب البحرية، بل هم أهل صحراء. ورأى أيضا أن الوقت لا يزال مبكرا للدخول في ذلك الميدان الخطر. واكتفى عمر -رضي الله عنه- بأن يقوم معاوية بتحصين الشواطئ بالحصون، وأن يملأها بالمقاتلين والمرابطين. وفي خلافة عثمان -رضي الله عنه- "24-35هـ" رفع إليه معاوية طلبه القديم بإنشاء أسطول بحري، فرفض عثمان في أول أمر، لكنه عاد فوافق بعدما اقتنع بأهمية المشروع، لكنه اشترط أن يكون الجهاد البحري تطوعا، ولا يكره عليه أحد. وعلى الفور بدأ معاوية في تحقيق سياسته ومشروعه، فشرع في بناء الأسطول، مستغلا كل الإمكانات الموجودة في مصر والشام لصناعة السفن1، ولم تمض أربع سنوات حتى   1 راجع: العصر الأموي للدكتور عبد الشافي عبد اللطيف "الجزء الثاني من موسو عة سفير للتاريخ الإسلامي ص23". وراجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير "2/ 488". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ظهر إلى الوجود أسطول إسلامي كبير نجح معوية به في فتح جزيرة "قبرص" "28هـ" و"33هـ". وجزيرة "أرواد" -الواقعة بالقرب من ساحل الشام بين "جبلة" و"طرابلس"- "سنة 28-29هـ"، وجزيرة "رودس" "سنة 33هـ"، وهي أهم جزر "بحر إيجة". وتوج حملاته البحرية بغلق بحر إيجه وسد منافذ الرئيسية في وجه السفن البيزنطية، ومنعها من الوصول إلى بلاد المسلمين، وذلك بالاستيلاء على جزيرة "إقريطش" "كريت". كما أنه هزم الأسطول البيزنطي في موقعة ذات الصواري "سنة 34هـ" التي سبق الحديث عنها قبل قليل. وهكذا وجه معاوية أنظار المسلمين شطر البحر المتوسط، وأوقفهم على أهمية جزره، فاستولى على ما استطاعت أساطيله أن تفتحه منها، وطرق باب غيرها ممهدا الطريق لمن يأتي بعده من الخلفاء الأمويين، وكفل للمسلمين قوة بحرية نافست البيزنطيين سيادتهم القديمة على البحر المتوسط، ثم أخذ يعبئها لأهم عمل في تاريخها، وهو ضرب عاصمة البيزنطيين أنفسهم، والاستيلاء عليها1.   1 الأمويون والبيزنطيون، للدكتور إبراهيم العدوي "ص92". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 منطقة الثغور الشامية وأهميتها في توسيع الفتوحات بآسيا الصغرى "الأناضول" : ولقد ارتبط بنشاط معاوية البحري وتحصين المدن الساحلية بالشام: القيام بمجهودات أخرى لحماية أطراف الشام الشمالية من إغارات البيزنطيين، وكانت الفتوحات الإسلامية الأولى للشام في عهد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد وصلت إلى "أنطاكية" و"حلب" و"قنسرين". وما أن انهزم البيزنطيون وعادوا إلى "آسيا الصغرى ""الأناضول" حتى دخلت المنطقة الشمالية من الشام في حظيرة المسلمين. وقد وضع لها نظام جديد يتفق مع متاخمتها لحدود آسيا الصغرى البيزنطية، إذ وقف المسلمون عند السفوح الجنوبية الشرقية لجبال "طوروس"، على حين تحصين البيزنطيون خلف هذه السلسلة الجبلية في آسيا الصغرى "راجع الخريطة". وأدى هذا الموقف إلى تخوف كل من المسلمين والبيزنطيين من بعضهما البعض، ودفعهما إلى تحويل المنطقة التي تفصل بين ممتلكاتهما إلى خراب موحش لا يشجع أحدا على ارتياده، ونقل كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 منهما سكان حدودهما إلى داخل البلاد، وترك حصونهما مقفرة، ومنازلهما خالية من العمران. ولقد لقي المسلمون متاعب جمة وصعاب كبيرة في حملاتهم الألى التي قاموا بها عبر هذه الجهات الجبلية التي تفصل شمال الشام عن آسيا الصغرى، إذ كان عليهم اجتياز بعض الدروب والممرات الجبلية وجبال "طوروس" لمهاجمة البيزنطيين. ولم يلبث المسلمون أن عملوا على تلاقي هذه الأخطار بترك حاميات عسكرية عند الثغرات الجبلية التي ينفذون منها، ثم تطور الأمر إلى اهتمامهم بتحصين المدن التي تتحكم في هذه الممرات، بإعادة بناء الحصون المخربة التي درمها البيزنطيون أثناء تقهقرهم، وبناء حصون جديدة، ومن هنا انتشرت سلسلة من الحصون في المنطقة الإسلامية الملاصقة للدروب والممرات التي ينفذ منها البيزنطيون من جبال طوروس لمهاجمة شمال الشام، وعرفت هذه المنطقة باسم "الثغور"، على حين أطلق اسم "العواصم" على سلسلة الحصون الخلفية لمنطقة الثغور. ولم تلبث هذه المناطق أن اتسعت، واهتم معاوية وقادته بتعميرها وتحصينها، وتشجيع المسلمين على الإقامة فيها، وإرساء نظم عسكرية وإدارية فعالة مكنتها من القيام بوظيفتها على أكمل وجه1، ألا وهي: الهجوم على الدولة البيزنطية ذاتها، وفي عقر دارها. وقد عرفت الغزوات التي كانت تخرج من منطقة الثغور والقلاع لمهاجمة أراضي البيزنطيين باسم "الصوافي والشواتي"، حيث كانت الغزوات الإسلامية تقوم صيفا وشتاء، وتتوغل في بلاد الروم، ثم تعود إلى قواعدها مرة أخرى بعد الانتهاء من مهمتها. واستهدفت إنهاك قوة الوم وشغلهم في ديارهم بسلسلة لا تنقطع من الحملات، صيفا وشتاء، برا وبحرا، وكانت تهدف -في الوقت نفسه- إلى إيجاد ميدان يتدرب فيه الجند الإسلامي على أساليب القتال والقيادة، وتخريج جيل جديد من المحاربين والقادة العسكرين، وإعدادهم للقيام بمشاريع الفتوحات الكبرى فيما بعد2، ولا تكاد سنة من سني خلافة معاوية "41-60هـ" تخلو من صائفة أو شاتية   1 الأمويون والبيزنطيون، للدكتور إبراهيم العدوي "ص100-103". 2 الدولة الأموية دولة الفتوحات لنادية مصطفى "ص19"، الأمويون والبيزنطيون للدكتور إبراهيم العدوي "ص104-105". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 إلى بلاد الروم كما أنها لم تنقطع طوال العصر الأموي باستثناء فترات الفتن الداخلية1. وقد أسفرت هذه الغزوات البرية عن تأكيد الهيمنة الإسلامية على نواحي كبيرة من آسيا الصغرى، كما أسفرت عن فتح بعض البلاد والحصون البيزنطية في البر، مثل "زبطرة" و"ملطية" و"أنطاكية" وإقليم "أرمينية". وهكذا بدت غزوات البر والبحر في خلافة معاوية -رضي الله عنه- تمهد للاستيلاء على "القسطنطينية" قلعة الروم المنيعة، التي إذا ما سقطت هي سقطوا هم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 حصار القسطنطينية في عصر بني أمية مدخل ... حصار القسطنطينية في عصر بني أمية: كانت "القسطنطينية" الرأس المدبر والمحرك الذي أدار شئون الدفاع البحري عن الدولة البيزنطية وجزرها في حوض البحر المتوسط الشرقي، ولا سيما السواحل الواقعة حول بحر "إيجة" الغني بجزره الممتدة إلى مياه "القسطنطينية" المحلية. وقد أدرك المسلمون أنه لا استقرار لفتوحاتهم إلا بإدخال هذه العاصمة في قائمة الفتوحات، كما تم لهم من قبل الاستيلاء على "المدائن" عاصمة الفرس2. وبعد تمهيد طويل بواسطة حملات برية على آسيا الصغرى وصل بعضها إلى "القسطنطينية" -ومحاولات أخرى بحرية خرجت من القواعد الإسلامية البحرية على سواحل الشام ومصر- أحس المسلمون أنهم وصلوا إلى درجة جيدة من الخبرة بالطريق إلى "القسطنطينية" برا وبحرا، وأنهم يستطيعون غزوها والاستيلاء عليها والقضاء على دولة الروم. ولقد قدر للمسلمين القضاء على الدولة البيزنطية في عصر بني أمية لتغير وجه التاريخ تماما، ولكن فشل محاولاتهم الأولى في العصر الأموي أتاح لهذه الدولة حياة امتدت قرابة تسعة قرون. وعندما دخل الأتراك العثمانيون "القسطنطينية" "سنة 857هـ" كانت دولة الروم قد أتمت رسالتها التاريخية التي كان لها أبعد الأثر على مسيرة الإسلام في شرق أوروبا، بل في تاريخ أوروبا كلها. وسنوجز فيما يلي الكلام على أكبر محاولات المسلمين لفتح "القسطنطينية" وهي:   1 راجع: تاريخ خليفة بن خياط "ص205-227"، تاريخ الطبري "5/ 172، 181، 212، 227، 231، 232، 234، 235، 287، 293، 301، 308، 309، 315، 322". وراجع الثغور البرية الإسلامية على حدود الدولة البيزنطية في العصور الوسطى، للدكتورة علية الجنزوري "ص20-25" "ط القاهرة 1979". 2 د. إبراهيم العدوي: الأمويون والبيزنطيون "ص92، 93". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 المحاولة الأولى: حملة سفيان بن عوف "سنة 49هـ/ 669م" : أرسلها معاوية بن أبي سفيان برا، فاخترقت آسيا الصغرى وافتتحت حصونا كثيرة في الأناضول حتى وصلت إلى سواحل "بحر مرمرة"، ثم بعث معاوية ابنه "يزيد" مددا لسفيان بن عوف وجعله أميرا شرفيا على الحملة، ومعه نفر من أبناء الصحابة، مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنهم. وقد اشتبك المسلمون مع الروم في القتال، واستشهد الكثير من الصحابة، منهم أبو أيوب الأنصاري الذي دفن بالقرب من مدينة "بروسة". وقد حال الشتاء القارس وصعوبة الإمدادات البشرية والتموينية -لبعد المسافة وضعف وسائل النقل في ذلك الوقت- ثم نقص الأطعمة والأغذيةن وتفشي الأمراض بين الجند، ومناعة "القسطنطينية" -حال ذلك كله دون فتح المدينة. ولقد حاول المسلمون عبثا اختراق أسوارها بعد حصارها، إلا أنهم فشلوا في ذلكن فعادوا دون خسائر كبيرة "عام 50هـ"1. وقد تنبأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الغزوة، ووعد أهلها المغفرة، فقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري عن أم حرام بنت ملحان: "أول جيش من أمتي يركبون البحر قد أوجبوا، وأول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم". وكان الدرس الهام الذي خرج به معاوية من هذه الحملة هو ضرورة تدعيم القوات البرية التي تغزو "القسطنطينية" بقوات بحرية ضخمة، حيث تحيط المياه بالمدينة من ثلاث جهات، وعكف على تجهيز هذا الأسطول مدة اربع سنوات استطاع خلالها تدريبه عمليا باسترداد جزيرة "رودس" "عام 52هـ/ 672م" -وكان الروم قد استردوها أثناء فترة خلافة عثمان -رضي الله عنهم- ثم جزيرة "كزيكوس" "وهي جزيرة أرواد" "عام 54هـ/ 674م"، والتي سيجعل منها المسلمون مقرا لإدارة الحصار الثاني للقسطنطينية، والذي بدأ "عام 54هـ"2.   1 راجع: تاريخ خليفة بن خياط ص"211"، تاريخ اليعقوبي "2/ 229"، تاريخ الطبري "5/ 232"، الكامل لابن الأثير "3/ 314، 315". 2 راجع: الدولة الأموية دولة الفتوحات، لنادية مصطفى "ص24". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المحاولة الثانية: حصار السبع سنوات "54-60هـ/ 674-679م" : وفي الطريق إلى هذا الحصار استولى المسلمون على "أزمير"، واحتلوا ساحل "ليكيا"، وخرج الأسطول الإسلامي من جزيرة "أرواد" بقيادة "جنادة بن أبي أمية الأزدي"، وأحكم المسلمون حصار "القسطنطينية" برا وبحرا، من "إبريل" إلى "سبتمبر"، ثم ارتدوا عنها مع قدوم الشتاء إلى جزيرة "أرواد" "كزيكوس"، ثم عادوا إلى الحصار في الصيف التالي، ليرتدوا في الشتاء مرة أخرى، واستمر الأمر على هذا الحال، يحاصرون صيفا، ويرتدون شتاء، حتى "عام 60هـ/ 679م" عندما قرر معاوية بصفة نهائية الانسحاب، وعقد معاهدة صلح مع إمبراطور الروم: قسطنطين الرابع، مدتها ثلاثون عام. وقد فقد المسلمون في هذا الحصار العديد من القادة، وثلاثين ألف مقاتل، ومعظم سفن الأسطول، وكان من أسباب الفشل: الإنهاك الذي تعرض له الجيش الأموي طول سنوات الحصار، كما أنهم فوجئوا بسلاح لم يكن لهم به عهد ولا طاقة لهم بمكافحته ودفع خطره، وهذا السلاح، عرف باسم "النار الإغريقية"، استخدمته البيزنطيون كوسيلة دفاعية تسببت في حرق عدد كبير من قطع الأسطول الإسلامي، وقد بث الذعر في نفوس المحاصرين للمدينة. وكانت هذه النار تتركب من النفط والكبريت والغاز، وتزداد اشتعالا عند ملامستها للماء، ولا يخمد نارها إلا باستخدام الرمل والخل. وقد كان لهذه النار أثر حاسم في صد المسلمين عن "القسطنطينية"، فاضطروا إلى رفع الحصار وعقد معاهدة الصلح مع البيزنطيون1.   1 راجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير "3/ 497". أطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس "ص286"، تاريخ البحرية الإسلامية للدكتور السيد عبد العزيز السيد سالم، ودكتور أحمد مختار العبادي "1/ 32، 33"، وراجع: مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام لمحمد عبد الله عنان "ص32-36"، والدولة الأموية دولة الفتوحات، لنادية مصطفى "ص24". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 صفحة ساقطة بالأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 صفحة ساقطة بالأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الروم؛ لأنها لم تتوقف أبدا، حتى في سنوات الإعداد لحصار "القسطنطينية"، بل وأثناء حصارها أيضا1. وإذا كانت أحداث الفتن الداخلية "من 60-72هـ" أدت إلى انكسار الدولة الأموية في صراعها مع الروم البيزنطيين فإنه ما إن استقرت الأوضاع في الداخل -ولو جزئيا- حتى بدأ الأمويون يعاودون الهجوم بعنف، ويحققون الفتوحات والانتصارات، ويستعيدون بعض ما ضاع من الدولة الإسلاميةن مثل "المصيصة" التي استردها عبد الملك بن مروان "سنة 84هـ" بعد أربعة عشر عاما من وقوعها في يد البيزنطيين. وفي عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك "86-96هـ" -وبفضل الإنجازات الهامة التي حققها والده في إرساء دعائم الجبهة الداخلية توحيد الدولة الأموية- ستبدأ حركة فتوحات واسعة في الشرق والغرب، وسوف يجبر البيزنطيون على الارتداد لموقف الدفاع مرى أخرى. وقد استهل "الوليد" عهد بفتح حصين "طوانة" "88هـ" -وهي مفتاح الطريق بين الشام ومضيق البوسفور، بعد أن كبد البيزنطيين خمسين ألف مقاتل2. ثم فتح "عمورية" و"هرقلية" "عام 89هـ"3. وبدأ يعد العدة للإيقاع بالقسطنطينية.   1 راجع: الدولة الأموية دولة لفتوحات "ص26". 2 راجع: الكامل لابن الأثير "4/ 246". 3 الكامل لابن الأثير "4/ 249". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الحصار الثالث للقسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الملك "97-98هـ" : تابع الوليد بن عبد الملك سياسة تقوية الأسطول الإسلامي، وعمل على تنسيق التعاون بين القوات البرية والبحرية، وخلق مناخا طيبا للعمليات الحربية، حتى إذا جاءت "سنة 94هـ" بدأ في الاستعداد لغزو العاصمة البيزنطية، وجهز حملة بحرية برية بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك. وما إن ترامت أخبار هذه الاستعدادات إلى السلطات البيزنطية حتى بدأ تهتم بتدعيم وسائل الدفاع عن أسطوار "القسطنطينية"، كما عنيت بقتوية الدفاع البحري تمهيدا لحصار قد يطول أمده كما حدث في الحصار الثاني. ولكن وفاة الوليد بن عبد الملك أدت إلى إرجاء إنفاذ الحملة إلى مقصدها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فلما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة أخذ يجهز الجيوش للسير إلى "القسطنطينية" وخرجت الحملة بالفعل بقيادة مسلمة بن عبد الملك في أسطول كبير يقدر عدده ثمانية عشر ألف سفينة -وقيل: ألف وثمانمائة سفينة- ومعه مائة وعشرون ألف مقاتل، وتوجه نحو المدينة العتيقة "سنة 98هـ/ 716م" ليبدأ الحصار الثالث. ولقد انتهى هذا الحصار -الذي استمر عامين- بالفشل في اقتحام "القسطنطينية" كما حدث في الحصار السابق له. ويرجع فشل هذا الحصار الثالث إلى العديد من الأسباب، بعضها كان عاملا هاما في فشل حصار السبع سنوات السابق، وبعضها ظهر جديدا في الحصار الأخير. فمن الأسباب المتكرره: قسوة الظروف الطبيعية "المناخ"، ومهارة المقاتلين البيزنطيين في استخدام "النار الإغريقية"، وعزم أهل المدينة واستماتهم في الدفاع عنها، يساعدهم في ذلك منعة أسوارها وموقعها1. أما أهم الأسباب المستجدة والتي أدت إلى فشل الحصار فهو محالفة المسلمين لأحد الروم البيزنطيين، وهو القائد العسكري "ليو الأيسوري" "الأرمني"، وكان طامعا في عرش بيزنطة، ففاوض "مسلمة بن عبد الملك" قائد الحملة على أن يعاونه فيما يريد، ويتركه يدخل "القسطنطينية"، حتى إذا نجح "ليو" في عزل الإمبراطور "ثيودوسيوس" الثالث، ونصب نفسه إمبراطورا، مهد للمسلمين دخول المدينة. وقد عاونه مسلمة وأجابه إلى طلبه، فلما تمكن "ليو" من الحكم نقض عهده المدينة، وانقلب عليهم، وانضم إلى إخوانه البيزنطيين، واجتهد في تحصين البلد، ونجح في صد الحملة الإسلامية عن أسوارها المنيعة2. وهذا يؤكد أن معاهدة المسلمين لأطراف غير إسلامية بغرض التناصر ضد طرف غير إسلامي إنما هو سلاح ذو حدين، وأن عواقب استخدامه بغير حرص وخيمة وحاسمة. وبالرغم من أن المسلمين قد لاقوا في هذا الحصار صعوبات كثيرة، وقدموا تضحيات هائلة، وقتل منهم عدد كبير، وحطمت الريح العاتية عددا من السفن، وسببت خللا في الأسطول، وانتهز البيزنطيون هذه الفرصة وسلطوا نيرانهم اليونانية   1 الدولة الأموية دولة الفتوحات لنادية مصطفى "ص30"، الصراع بين العرب وأوروبا من ظهور الإسلام إلى انتهاء الحروب الصليبية للدكتور عبد العظيم رمضان "ص113". 2 راجع: تاريخ الطبري "6/ 530، 531"، والكامل في التاريخ لابن الأثير "4/ 304، 305"، وراجع: الحدود الإسلامية البيزنطية لفتحي عثمان "2/ 85-91". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 على السفن الإسلامية وأحرقوا عددا كبيرا منها -بالرغم من ذلك كله فإن المسلمين استمروا في إحكام الحصار إلى أن توفى سليمان بن عبد الملك "في 10 من صفر سلنة 99هـ"، وحل الشتاء ببرده وثلجه، فهلك عدد كبير من العسكر من شدة البرد، ونفقت معظم الخيول والدواب، وعدم الأقوات، وحل الضيق بمعسكر المسلمين حتى أكل الجند الدواب والجلود وأصول الشجر والورق، وكل شيء غير التراب، وظل الأمر كذلك إلى أن كتب الخليفة الجديد عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- إلى مسلمة -وهو بأرض الروم- يأمره بالعودة بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلا وطعاما كثيرا، وحث الناس على معونتهم1. لقد كانت هذه الحملة الثالثة على "القسطنطينية" أعظم وأضخم الحملات التي استطاعت قوى الإسلام أن تجردها لهزيمة القوى البيزنطية، وكانت أعظم مجهود استطاع أن يبذله المسلمون لحمل لواء الإسلام إلى أمم الغرب غير الإسلامي، ثم إن الظروف لم تكن -ولن تكن أبدا مواتية- لتحقيق هذه الهدف إلا بعد سبعة قرون عندما سينجح الأتراك "المسلمون" العثمانيون في فتح "القسطنطينية" "857هـ/ 1453م". ولقد حاول إخفاق المسلمين -زمن بني أمية- في فتح "القسطنطينية" من انتشار الإسلام في أوروبا، ولو قدر للمسلمين النجاح في ذلك الوقت لتغير مصير أوروبا بعد هذا الوقت وإلى الآن، ولنشأت فيها أمم غير الأمم، ودين غير دين المسيحية، أي لو قدر ونجحت تلك الحملة الثالثة في الاستيلاء على "القسطنطينية" لكانت الدولة الأموية قد نقلت النظام الدولي من نظام ثنائي الأقطاب إلى نظام عالمي أحادي الأقطاب، يتسيده المسلمون، وتدخل فيه أوروبا ضمن ديار الإسلامن ويتغير مسار التاريخ2. وختاما نقول: لم تكن تلك الغزوة إلا جولة من جولات عديدة تعاورها الظفر والفشل، ولم تتوقف حركة الجهاد بعدها، وظل الفتح مستمرا على جميع الجبهات في الشرق والغرب، وظل الجهاد مع البيزنطيين قائما وإن لم يحدث غزو لـ "القسطنطينية" مرة أخرى في الفترة المتبقية من عصر بني أمية.   1 تاريخ الطبري "6/ 530، 531"، ص"553"، الكامل لابن الأثير "4/ 315". 2 راجع: الدولة الأموية دولة الفتوحات، ص"32" "بتصرف يسير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ثالثا: فتوح المغرب والأندلس وبلاد غالة "جنوب فرنسا" طبيعة الفتح الإسلامي لبلاد المغرب : وقبل المضي قدما في الحديث عن المراحل التي مر بها الفتح الإسلامي لبلاد المغرب نود أن نسجل ملاحظة على قدر كبير من الأهمية تتعلق بطبيعة الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، وهي أن الجبهة المغربية كانت من أعنف جبهات القتال وأصعبها في مسلسل حركة الفتوحات العربية الإسلامية. فقد استغرقت عمليات الفتح في بلاد المغرب حوالي سبين سنة متوالية "21-90هـ/ 642-708م". لقي فيها المسلمون من الجهد والخسائر ما لم يلقوا مثله في فتح إقليم آخر. وهذه الفترة الزمنية تعد فترة طويلة إذا ما قورنت بالمدة القصيرة التي تم فيها فتح بلاد الشام والعراق ومصر وبلاد فارس، والتي لم تزد عن عشر سنوات فقط على الرغم من اتساع هذه البلاد وكثرة مدنها وسكانها، ووقوع معارك قاسية وكبيرة واجهها المسلمون هنا، مثل "نهاوند" و"القادسية" و"اليرموك" وغيرها1. فما هي الأسباب؟ يمكن تلخيص الأسباب في النقاط التالية: 1- طبيعة بلاد المغرب الجبلية، ووعورة مسالكها، وشدة مراس أهلها "من البربر" في القتال، وصمودهم في المقاومة في بداية الأمر قبل معرفتهم بأهداف الفتح الإسلامي. وقد كان لغلبة الطبيعة الجبلية الوعرة، وبعد المسافات بين المراكز العمرانية المختلفة، وصعوبة الاتصال فيما بينهما أثر عميق في حياة السكان، حيث طبعتهم بطابع الخشونة والشجاعة، وأكسبتهم حدة المقاومة، والصبر على القتال والمواجهة، فتميزوا عن العرب، وأوقعوا الهزيمة بهم في أكثر من معركة، بل وصرعوا بعض قادتهم، مثل عقبة بن نافع، وأبي المهاجر دينار "سنة 64هـ". وقد كان سكان المغرب من الكثرة والتنوع بحيث لم يكن من الميسور إخضاعهم في مدة يسيرة؛ لأنهم -وكما يقول "حسان بن النعمان" أحد قادة الفتح "وكان واليا   1 راجع: فتح العرب للمغرب، للدكتور حسين مؤنس ص"268، 269"، فجر الأندلس "للمؤلف نفسه" ص"35"، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، للدكتور السيد عبد العزيز سالم ص"25". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 على المغرب من سنة 78هـ": "أمم ليس لها غاية، ولا يقف أحد منها على نهاية، كلما بادت أمة خلفتها أمم، وهم من الحفل والكثرة كسائمة النعم"1. ولم يتمكن المسلمون من السيطرة على المغرب تماما إلا بعد أن ابتعدوا عن سياسة المواجهة العسكرية العنيفة، وعملوا على اكتساب البربر عن طريق نشر الإسلام بينهم، وإدخالهم في الجيوش العربية كجنود محاربين، وإشراكهم في تسيير الإدارة الجديدة، وإدماجهم مع إخوانهم العرب المسلمين في ديوان الجند دون تمييز. 2- ما طرأ على المسلمين من مشكلات وفتن شغلتهم عن مواصلة الفتح، أو حالت بينهم وبين أن يتعهدوه بما ينبغي من العناية والاهتمام. وأهم هذه المشكلات الفتنة الكبرى التي صدعت الجبهة الداخلية، وانتهت بمقتل الخليفة الشهيد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- "سنة 35هـ". ثم هناك الخلاف بين علي بن أبي طالب، وبين طلحة بن عبيد الله، والزبير وعائشة -رضي الله عنهم جميعا- والذي انتهى بموقعة الجمل "35هـ". ثم هناك الصدام الذي نشأ بين علي بن أبي طالب وبين معاوية -رضي الله عنهما، وطبع بصماته على كل شبر من الدولة الإسلامية. ثم ما صادف معاوية بعد ذلك من عقبات كان لا بد من مواجهتها قبل تأمين الخلافة، وما قابله خلفاؤه -من بعده حتى عهد عبد الملك بن مروان "65-86هـ" من مشاكل المطالبين بالخلافة، مثل الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، والخوارج. كل ذلك له أثره الواضح في انصراف الحكومة المركزية عن متابعة وتنظيم الفتح الإسلامي للمغرب، مما كان سببا في إطالة مدة الفتح على هذه الصورة2. 3- عدم وجود قواعد ثابتة للفتح في "إفريقية -المغرب". ولقد كان الفتح الإسلامي للمنطقة -وحتى تأسيس مدينة القيروان "سنة 50-55هـ"- مجرد محاولات استكشافية، أو حملات يمكن أن ندرجها تحت ما نعبر عنه بـ "جس النبض" دون أن تهدف إلى الاستقرار في المنطقة. وربما لم يكن المسلمون قد كونوا فكرة واضحة عن أبعاد هذه البلاد وسكانها. وكانوا يعودودن -بعد كل عملية حربية- إلى "الفسطاط" القاعدة الحربية في مصر -دون ترك قوات كافية للحفاظ   1 البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لابن عذارى المراكشي ج1، ص"36". 2 راجع دراسات أندلسية، للدكتور محمد عبد الحميد عيسى ص"45، 46". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 على ما أمكن الاستيلاء عليه من أراض أو مدن، مما كان يعطي الفرصة للروم والبربر -وبمجرد أن تنتهي المعارك، ويعود المسلمون من حيث أتوا- أن يستعدوا ما سبق لهم أن فقدوه، ولم تتحول سياسات الفتوحات الإسلامية في المغرب إلا بعد التفكير في اتخاذ قاعدة ثابتة للمسلمين في المنطقة وبناء مدينة "القيروان"1. وليس من شك في أن بناء المدن الإسلامية في الأمصار المفتوحة -مثل "البصرة" و"الكوفة" في العراق، و"الفسطاط" في مصر، ... إلخ- قد لعب دوره الحاسم، ليس في تثبيت أقدام المسلمين في هذه المناطق، وإنما -أيضا- في نشر الإسلام والعروبة، وإخراج أهل هذه المناطق من بقايا جاهليتها إلى عصر جديد في رحاب الأمة الإسلامية. 4- ولقد كان لاختلاف وجهات النظر بين قادة الفتح الإسلامي للمغرب -نتيجة اتساع البلاد وكثرة مشاكلها، أثر في إطالة مدة الفتح. وحيث أنه لم تكن هناك فكرة واضحة ومعرفة سابقة بأبعاد الميدان المغربي وسكانه "على عكس الحال في المناطق القريبة من الجزيرة العربية، مثل العراق والشام" فإنه لم يكن هناك خطة ثابتة ومحددة تسير عليها الفتوحات في هذا الميدان، ولعب الاجتهاد دوره الرئيسي في توجيه العمليات الحربية. فقد رأى بعض القادة أن القتال وحده هو الحل الأمثل. ورأى بعضهم ضرورة إقامة معسكرات وقواعد ثابتة للمسلمين. ولجأ آخرون إلى سياسة إقامة علاقات مع البربر. ومن ثم كان تباين وجهات النظر أحد عوامل تغيير لسياسة الحربية في المنطقة، وما يترتب على ذلك من تغيير في الوسائل وخطوات لتنفيذ2. 5- رغبة بعض ولاة مصر في أن تكون لهم اليد الطولى والسيطرة على هذه لبلاد، والتصرف في مالها وغنائمها. وكان لذلك أثره في تعطيل الفتح، ومنع لفاتحين من إنفاذ برامجهم الجهادية، وإدراك الغايات التي سعوا إليها بعد أن بذلوا لجهد العظيم لإدراكها. ولا أدل على ذلك من موقف مسلمة بن مخلد الأنصاري الوالي على مصر في زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان" من عقبة بن نافع أحد كبار   1 راجع: دراسات أندلسية، للدكتور محمد عبد الحميد عيسى ص"49". 2 دراسات أندلسية ص"48". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ساقطة بالأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الجانب الآخر في المعركة التالية، وذلك حتى "عام 86هـ/ 707م" تقريبا، وهو نهاية ولاية القائد المجاهد حسان بن النعمان، والذي نجح في إخضاع "إفريقية" "المغرب الأدنى". ثم جاء من بعده موسى بن نصير، وقام بمهمة استكمال الفتح، وإخضاع الشمال الإفريقية كله للمسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 مراحل الفتح الإسلامي للمغرب المرحلة الأولى: مرحلة الاستكشاف والاستطلاع "22-50هـ/ 643-670م" أولًا: عمرو بن العاص وأولى المحاولات "فتح برقة- ودان- فزان- طرابلس" ... مراحل الفتح الإسلامي للمغرب: لهذه الأسباب -وغيرها- مجتمعة كان فتح المسلمين للمغرب فتحا مميزا عن باقي الأقاليم المفتوحة، وكانت الجبهة المغربية من أعنف جبهات القتال وأطولها في حركات الفتوحات العربية الإسلامية. ونتيجة لطول مدة الفتح الإسلامي لمنطقة المغرب فإن المؤرخين يميلون إلى تقسيم هذه الفتوحات إلى عدة مراحل، من أجل تسهيل دراستها واستيعابها؛ فهناك من يقسمها إلى مراحل عدة، قد تصل إلى ثماني مراحل، أو سبع، بحسب القادة الذين تولوا الجهاد هناك. ومنهم من يقسم الفتح إلى ثلاث مراحل رئيسية أو مرحلتين رئيسيتين؛ أولاهما: قبل تأسيس القيروان "سنة 50هـ". والأخرى تالية لها. وليس هناك تعارض بين هذه التقسيمات؛ لأن الذين يفضلون تقسيم الفتح إلى مرحلتين رئيسيتين أو ثلاثة كانوا يقسمون كل مرحلة إلى تقسيمات داخلية. وسنتبع التقسيم الثلاثي في عرضنا التالي -المختصر- لفتوح المغرب. المرحلة الأولى: مرحلة الاستكشاف والاستطلاع "22-50هـ/ 643-670م" وقد امتدت هذه المرحلة من سنة "22هـ/ 642م" إلى منتصف القرن الأول الهجري. وقادة هذه المرحلة هم: عمرو بن العاص "ت44هـ/ 664م"، وعبد الله ابن سعيد بن أبي سرح "ت 37هـ/ 657م". ومعاوية بن حديج الكندي "ت52هـ/ 627م"، وعقبة بن نافع الفهري "الحملة الأولى" -رضي الله عنهم أجمعين. أولا: عمرو بن العاص وأولى المحاولات "فتح برقة -وادن- فزان -طرابلس" ما كاد عمرو بن العاص -رضي الله عنه- ينهي فتح الإسكندرية ويستقر فيها حتى بدأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 يفكر في تأمين حدود مصر الغربية، فواصل السير إلى أن وصل "برقة"، وذلك في أواخر "سنة 21هـ/ 642م"، فصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها جزية1 في كل عام "دينار على كل حالم"2. وقد كانت "برقة" تابعة لمصر من أيام الاحتلال الروماني والبيزنطي، ولذا أقدم عمرو بن العاص على فتحها؛ لأنه يعتبرها مصرية. وبهذا يمكن إخراج فتح "برقة" من فتوح "إفريقية"، واعتبار فتحها إتماا لفتح مصر، ووقوفا عند حدها الغربي3. ولم يكن هدف عمرو بن العاص قاصرا على تأمين حدود مصر الغربية والقضاء على قوة البيزنطيين في ذلك الجانب فحسب، وإنما كانت تحثه دوافع الجهاد الإسلامي من أجل مواصلة نشر الإسلام. فبعد أن انتهى من فتح "برقة" بدأ في الاستعداد لفتح "طرابلس"، ولكن كان لا بد أن يؤمن خط العودة، خشية أن يؤتى من قبل السكان المقيمين في الواحات الداخلية، ومن هناك أدرك ضرورة تقسيم جيشه إلى فرقتين: إحداهما بقيادة تتجه إلى "طرابلس"، والثانية بقيادة عقبة بن نافع الفهري -وكان يومئذ قائدا صغيرا في جيش عمرو- لتتجه إلى المناطق الداخلية4. أما عقبة فلم يجد مقاوم تذكر حتى وصل إلى "زويلة"5، وفتحها بالصلح على ثلاث عشرة ألف دينار6، وأقام في هذه النواحي الصحراوية المنعزلة نحو عشرين سنة يدعو إلى الإسلام7، ويضرب لأهلها المثل الجميل للمسلمين الصادق المتفاني في دينه، واستطاع أن يكسب إلى جانبه قلوب الكثير من أهلها، ومعظمهم من قبائل "نفوسة" و"لواتة" و"نفزاوة"، وهم من البربر "البتر"8.   1 فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"170". 2 البيان المغرب لابن عذارى ج1 ص"9". 3 د. طاهر راغب: التطور السياسي للمغرب من الفتح إلى آخر القرن العاشر الهجري ص"14". ومن الجدير بالذكر أن "برقة" استمرت تحت الإدارة المصرية مدة طويلة أيام الخلفاء الراشدين، في الدولة الأموية، ومدة طويلة من الدولة العباسية. 4 د. محمد عبد الحميد عيسى: دراسات أندلسية -ص "11"، د. حسين مؤنس: فتح العرب للمغرب ص"59". 5 زويلة: مدينة غير مسورة في وسط الصحراء، وهي أول حدود السودان القديم "معجم البلدان "3/ 160". 6 تاريخ الطبري "4/ 144"، الكامل في التاريخ لابن الأثير "2/ 423". 7 وذلك قبل أن يقود حملته الأولى لفتح إفريقية "سنة 50هـ" ويؤسس هناك مدينة "القيروان". 8 راجع: فجر الأندلس للدكتور حسين مؤنس ص"37"، تاريخ المغرب العربي للدكتور سعد زغلول عبد الحميد، ج1، ص"83-87"، وانظر: فتح مصر والمغرب لابن عبد الحكم، ص"171". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وأما عمرو بن العاص فقد واصل المسير بحذاء الساحل، قاصدا "طرابلس" -وكانت هي الأخرى تابعة لمصر من الناحية الإدارية- فوصل إليها "سنة 22هـ/ 643م"، "وحاصرها شهرا لا يقدر منهم على شيء"، كما يقول ابن عبد الحكم1 وقد كان لطرابلس أسوارها التي تحيط بها إلا من جهة البحر، وكان حصار عمرو لها من ناحية البر فقط، ولم يؤثر هذا في المدينة أثرا ذا بال لخلو جهة البحر من الحصار ولم يتمكن المسلمون من فتحها إلا بعد أن نجحت إحدى سرايا الاستطلاع من التسلل إلى داخلها من الجهة المطلة على البحر، وتم تحقيق مفاجأة عسكرية جيدة ضد البيزنطيين الذين لم يجدوا فرصة لتنظيم المقاومة، بل هرب من استطاع منهم إلى سفنهم، تاركين وراءهم مغانم كثيرة2. وبمجرد استيلاء عمرو بن العاص على طرابلس سير قوة كبيرة من فرسانه، وأمرهم بالإسراع نحو مدينة "سبرت" "Sabrata"، وهي آخر مدن الإقليم الساحلية الهامة في اتجاه الحدود التونسية. ويصف ابن عبد الحكم فتح هذه المدينة بقوله: "وكان من بـ "سبرت" متحصنين ... فلما بلغهم محاصرة عمرو مدينة طرابلس، وأنه لم يصنع فيهم شيئا، ولا طاقة له بهم أمنوا، فلما ظفر عمرو بن العاص بمدينة طرابلس جرد خيلا كثيفة من ليلته، وأمرهم بسرعة السير، فصبحت خيله مدينة "سبرت"، وقد غفلوا وقد فتحوا أبوابهم لتسرح ماشيتهم، فدخلوها "أي المسلمون"، فلم ينج منهم أحد "أي من أهلها"، واحتوى عمرو على ما فيها"3. وفي أثناء حصار عمرو بن العاص لمدينة طرابلس أرسل قائده "بسر بن أرطأة" إلى ميدنة "ودان" في قلب إقليم "فزان"، وتقع جنوب طرابلس على بعد "800 كم" في الصحراء، فافتتحها "سنة 23هـ/ 643م"4 "راجع الخريطة.   1 فتوح مصر والمغرب ص"111". 2 راجع قصة فتح طرابلس في "فتوح مصر والمغرب" لابن عبد الحكم، ص"171"، والكامل لابن الأثير "2/ 428"، وراجع: فتح العرب للمغرب، لحسين مؤنس ص"60-63". 3 فتوح مصر والمغرب ص"172". 4 فتوح مصر والمغرب ص"194، 195". وراجع: معالم تاريخ المغرب والأندلس لحسين مؤنس ص"34، 35". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 التفكير في فتح "إفريقية" في آخر خلافة عمر بن الخطاب: بهذا يكون عمرو بن العاص قد نجح في تأمين الحدود الغربية لمصر الإسلامية، وفتح البلاد الليبية الحالية دون عقبات كبيرة. وبعد أن تم له ذلك أخذ يستعد لفتح "إفريقية" "البلاد التونسية"، ولكنه قبل أن يفعل رأى استئذان الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، وكتب إليه يقول: "إن الله فتح علينا إطرابلس، وليس بينها وبين إفريقية إلا تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يغزوها، ويفتحها الله على يديه فعل". فرد الخليفة -رافضا فكرة الغزو- فقال: "لا، إنها ليست بإفريقية، ولكنها المفرقة، غادرة، مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت"1. والسؤال: لماذا لم يسمح عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لقائده عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بمواصلة الجهاد في هذه المنطقة، وهو الذي دفع بالمسلمين إلى الجهاد في ميادين شتى، وتم على يديه انهيار أكبر امبراطوريتين هما فارس والروم؟ لقد فسر الباحثون هذا الرفض بعدة تفسيرات، يمكن دمجها في سببين اثنين: الأول: ما تعبر عنه مقالة عمر المذكورة؛ من أنه كان على علم بمجريات الأمور في "إفريقية"، وأنها ليست مأمونة الجوانب، ولا ميسورة الفتح، ولا قريبة الطاعة، وكان محيطا بثورات أهلها ونكثهم بالعهود، ومن هنا خشي على جيوش المسلمين من أن تنساب وتتبعثر في هذه المناطق الشاسعة، وهي لم تزل بعد في حاجة إلى توطيد نفوذها وسلطانها في البلاد التي تم فتحها2. وهذا الموقف متسق مع إحساس الخليفة بالمسئولية، ومتفق ومجريات الأحداث؛ فما زالت مصر حديثة عهد بالفتح، وخط الإمدادات سيطول، وربما تعرض في فترة أو أخرى لخطر القطع أو التأخر3.   1 فتوح مصر والمغرب ص"173". وفي البيان المغرب -لابن عذارى "ج1 ص9": "وكتب "عمر بن العاص" إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يخبره بما أفاء الله عليه من النصر والفتح، وأن ليس أمامه إلا بلاد إفريقية، وملوكها كثير، وأهلها في عدد عظيم، وأكثر ركوبها الخيل، فأمره بالإنصراف عنها. فأمر عمرو العسكر بالرحيل قافلا إلى مصر". 2 د. السيد عبد العزيز سالم: المغرب الكبير "الجزء الثاني: المغرب في العصر الإسلامي -ص65"، د. أحمد مختار العبادي: في تاريخ المغرب والأندلس ص"38"، د. محمد عبد الحميد عيسى: دراسات أندلسية، ص"13"، د. شكري فيصل: حركة الفتح الإسلامي، ص"157". 3 د. طاهر راغب: التطور السياسي للمغرب ... ص"18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الثاني: كانت أحوال مصر الداخلية تتطلب عودة عمرو بن العاص سريعا، إذ أتاه كتاب ذكر فيه: "أن الروم يريدون نكث العهد، ونقض ما كان بينهم وبينه ... فانصرف عمرو راجعا مبادرا لما أتاه"1. واكتفى بإرسال البعوث الخفيفة السريعة للتذكير بين حين وحين بقوة المسلمين2. أثبتت الأحداث -إذن- أن الوقت لم يحن بعد لمواصلة الجهاد نحو إفريقية. وإلى هنا ينتهي دور عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في فتوح المغرب، وهو دور ليس بالكبير، فليس فيه مواقع عظيمة، إنما هو تقدم سهل في مناطق قليلة المقاومة. وقد حرص دائما على أن يكون بمقربة من الساحل لا موغلا في الداخل كما سيفعل كثيرون ممن سيأتون بعده من قادة الفتح، وقد اهتم كذلك بأن يؤمن له أمر الساحل؛ فلم يكد يتم فتح "برقة" حتى بعث عقبة بن نافع إلى "فزان"، ولم يكد يتم له فتح "طرابلس" حتى أرسل بسر بن أرطأة إلى "ودان". وهذه السياسة الحكيمة -أي تأمين المناطق الداخلية في خطوط الفتح- سيهملها أكبر القواعد الذين أتوا بعده، وهو عقبة بن نافع، فكان إهمالها سببا في ضياع جهوده كلها هباء؛ بل في استشهاده هو، وانتقاض إفريقية كلها انتقاضا تاما3.   1 فتوح مصر والمغرب ص"173"، وراجع: تاريخ المغرب العربي للدكتور سعد زغلول عبد الحميد "ج1 ص95"، التطور السياسي للمغرب، للدكتور طاهر راغب، ص"18". 2 يشير ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب -ص173" إلى ذلك بقوله: "وقد كان عمرو يبعث الجريدة من الخيل فيصيبون الغنائم ثم يرجعون". والجريدة من الخيل: سرية من الفرسان ليس معهم رجالة. 3 راجع: فتح العرب للمغرب، للدكتور حسين مؤنس، ص"69". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ثانيا: فتح إفريقية وبعد عودة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بقليل كان استشهاد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أواخر "سنة 23هـ/ 643م"، وتوقفت أعمال الفتح، إلا من عدة سرايا صغيرة كما ذكرنا. ولم يلبث الخليفة الجديدة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن عزل عمرو بن العاص عن إمارة مصر، وأسندها إلى أخيه في الرضاع "عبد الله بن سعد ابن أبي سرح" "سنة 25هـ/ 645-646م"1.   1 راجع سبب العزل في "فتوح مصر والمغرب" ص"173، 174"، والكامل لابن الأثير "2/ 482". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 1- عبد الله سعد بن أبي سرح وفتح إفريقية للمرة الأولى "27-29هـ": وقد واصل عبد الله بن سعد بن أبي سرح -رضي الله عنه -والي مصر الجديد- السياسة العسكرية التي انتهجها عمرو بن العاص بعد فتح طرابلس، فأخذ يرسل جماعات الخيالة في شكل سرايا، للإغارة على أطراف إفريقية. وكان من أغراض هذه السرايا الاستكشاف، ورصد المتغيرات على حدود مصر الغربية، ومراقبة القوى البيزنطية المعادية1. ونظرا للنجاح الذي حققه هذه الحملات الاستكشافية فكر ابن أبي سرح في القيام بحملة حقيقية لفتح "إفريقية". وبدأ باستشارة الخليفة عثمان، "وكتب إليه يخبره بقربهم "أي قرب الروم" من حز المسلمين ويستأذن في غزوها"2. وكان عثمان -رضي الله عنه- هو الآخر يخشى على المسلمين من التوغل في تلك المناطق البعيدة المترامية، إذ يشير البلاذري في "فتوح البلدان" إلى أنه كان "متوقفا في غزوها"3 ثم إنه وافق على الغزو بعد أن استشار كبار الصحابة وأصحاب الرأي4، وأخذ يدعو الناس إلى الجهاد، ويحثهم على التطوع، فتقاطروا من مختلف القبائل للاشتراك في هذه الغزوة، وأعان هو الجيش بألف بعير من ماله، يحمل عليها ضعفاء الناس -أي فقراؤهم- وفتح خزائن السلاح، وأمر للناس بأعطياتهم وأمدهم بالخيل، فلما اكتمل الجيش في الجرف "على مقربة من المدينة"، قام فيها خطيبا، ورغبهم في الجهاد، ثم قال لهم: "لقد عهدت إلى عبد الله بن سعد "بن أبي سرح" أن يحسن صحبتكم ويرفق بكم، وقد استعملت عليكم الحارب بن الحكم5 إلى أن تقدموا على ابن أبي سرح، فيكون الأمر له"6. وكان ذلك في المحرم من "سنة 27هـ/ 647-648م".   1 راجع: فتوح مصر والمغرب، ص"183"، والبيان المغرب، لابن عذارى "1/ 9"، والكامل في التاريخ لابن الأثير "ج2، ص480". وراجع: التاريخ السياسي للمغرب -لطاهر راغب، ص"18". 2 فتوح مصر والمغرب ص"183". وفتوح البلدان للبلاذري ص"226"، "ط ليدن 1866م". 3 فتوح البلدان ص"226". 4 فتوح مصر والمغرب ص"183"، فتوح البلدان ص"226". 5 هو أخرو مروان بن الحكم بن العاص الأموي، جعل عثمان القيادة له أثناء الطريق من المدينة إلى مصر. 6 البيان المغرب ج1، ص"8، 9"، فتوح مصر والمغرب ص"183". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وقد اندمج في هذه الحملة نفر غيل قليل من مشاهير الصحابة وأولادهم، وسمى هذا الجيش "جيش العبادلة" لاشتراك عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن زيد ابن الخطاب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي بكر الصديق، وأخيه عبد الرحمن، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم1. وكانوا جميعا شبابا في السن الباكرة -رضي الله عنهم أجمعين. ولما وصلت تلك القوات إلى عبد الله بن سعيد بن أبي سرح في مصر تولى القيادة عليها، وجمع إليها ما كان لديه من الجند، فصار له جيش عدته -باتفاق المؤرخين- عشرين ألفان فاستخلف على مصر الصحابي عقبة بن عامر الجهني، ومضى هو إلى إفريقية2. معركة سبيطلة وانتصار المسلمين "27-28هـ/ 647-648م": كان حاكم المغرب "جريجوريوس" الأرمني "ويسميه العرب جرجير" قد انفصل عن الإمبراطورية البيزنطية، واستقل بحكم بلاد المغرب كلها "سنة 646م" وكان سلطانه ما بين طرابلس إلى طنجة" كما يقول ابن عبد الحكم3. ولما كان مقامه بقرطاجنة -وهي المدينة البحرية الهامة- يعرضه لخطر الأسطول البيزنطي الذي كانت له السيطرة حتى ذلك الوقت على البحر فإنه فضل أن يكون بأمن في الدخل، واختار المقام في "سبيطلة"، وهي مدينة كبير وحصينة، ولها أهمية خاصة في ذلك الوقت، باعتبارها واحدة من سلسلة المدن التي تكون خط الدفاع الثاني الذي أقامته بيزنطة للدفاع عن البلاد ضد ما يتوقعه الروم من هجمات البربر. وتقع على الطريق الذي يؤدي من السهل الساحلي "سهل تونس" إلى جبال الأوراس، وقريبة من المنطقة التي ستبنى فيها مدينة "القيروان" بينهما سبعون ميلا، وبينها وبين قرطاجنة مائة وخمسون ميلا4 "راجع موقعها على الخريطة".   1 طبقات علماء إفريقية لأبي العرب القيرواني ص"68، 69". وراجع: فتوح العرب للمغرب، للدكتور مؤنس، ص"81". 2 فتوح مصر والمغرب، ص"184"، طبقات علماء إفريقة ص"70". البيان المغرب ج1 ص"9". 3 فتوح مصر والمغرب، ص"183". والكامل لابن الأثير ج2 ص483". 4 راجع فتوح العرب للمغرب، لحسين مؤنس ص"75-76، 96". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ويدل اختيارها قاعدة للملك -أيضا- على أن "جرجير" استشعر بخطر المسلمين بعد أخذهم "طرابلس" و"سبرت". ثم إنه كان يعول على نصر البربر وعونهم، فأحب أن يتحرر فيهم، ويستعين بهم، ففضل اللجوء إلى الداخل، والتحصن في "سيبطلة"1. وصل عبد الله بن سعد بن أبي سرح بجيشه -إلى برقةن فلقيه عندها عقبة بن نافع الفهري، فيمن كان معه من المسلمين، فانضم إليه. ثم تحرك إلى طرابلس -وكانت قد خرجت عن طاعة المسلمين بعد فتحها الأول -فوجد أهلها قد امتنعوا خلف أسوارها. فلبث على حصارها أياما، فخاف أن يطول الحصار وهو يريد الإسراع إلى "جرجير" في سبيطلة، فأمر الناس بالرحل كسبا للوقت، وكذلك فعل حين وصل إلى "قابس"، وجد أهلها متحصنين، فانصرف عنها، إذ أشار عليه الصحابة أن لا يشتغل بها عن هدفه الأساسي، وهو فتح إفريقية" والقضاء على التجمع البيزنطي في "سببيطلة"، فواصل المسير إلى أن حط رحاله في إقليم "قمونية" في سهل تونس -غير بعيد من سبيطلة- ريثما يستريح الجند، وليأخذوا في الاستعداد للمعركة الفاصلة. وفي هذه الأثناء أخذ ابن أبي سريح يرسل السرايا، تستكشف البلاد في كل الجهات، وتأتي بالمؤن والعلف2. وقد كان باستطاعة "جريجوريوس" أن يقف للمسلمين عند "قابس" ويسد عليهم الطريق الضيق الذي يؤدي من "طرابلس" إلى "إفريقية" بين "قابس" و"شط الجريد"، وهو أشبه بعنق الزجاجة -كما يقول العسكريون- لكنه فضل الانتظار في سهل متسع يسمى "عقوبة"، على أميال من "سبيطلة". وأغلب الظن أن هذا الموضع لم يكن مجرد سهل، وإنما كان أحد الحصون الكثيرة التي كانت تحيط بسبيطلة3. وعنده دار المعركة بين المسلمين والبيزنطيين.   1 راجع: فتح العرب للمغرب، لمؤنس، ص"83، 84"، تاريخ المغرب العربي للدكتور سعد زغلول عبد الحميد، ج1، ص"105، 106-107". 2 الكامل لابن الأثير، ج2 ص"483"، رياض النفوس للمالكي ص"10، 12، 16"، وراجع: فتح العرب للمغرب، لمؤنس، ص"84-85". 3 د. حسين مؤنس: فتح العرب للمغرب ص"85-86"، وراجع: فتوح البلدان للبلاذري، ص"226". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وقبل أن يبدأ القتال دارت المفاوضات بين الطرفين، وعرض المسلمون شروطهم وهي: الإسلام، أو دفع الجزية والخضوع للمسلمين، أو القتال، فامتنع "جريجوريوس" من قبول أي من هذه الشروط، وفشلت المفاوضات، وفشل معها الحل السلمي، ولم يعد أمام الفريقين إلا القتال1. أما تفاصيل معركة "سبيطلة" فالحديث عنها يطول. ويمكن تلخيص مجريات الأحداث في أن هذه المعركة بدأت في حصن "عقوبة" بمناوشات متفرقة بين الجانبين، واستمرت الحرب سجالا دون طائل، وكان القتال يدور يوميا نهارا من الصباح إلى وقت الظهر، ثم ترجع كل طائفة إلى معسكرها، فلا يستأنفون القتال إلا في اليوم التالي. وحينما أوشك المسلمون أن ييئسوا من الانتصار، ودخلهم الخوف -لحصانة الموقع، وكثرة جند الروم التي قيل إنها بلغت مائة وعشرين "120" ألف رجل "قد رفعوا الصليب، وعليهم من السلاح ما الله أعلم به، وفيهم من الخيل ما لا يحصى" "كما يقول الرواة"- أقل مددة من المدينة بقيادة عبد الله بن الزبير، كان له أثر كبير في تحقيق النصر للمسلمين. ذلك أن ابن الزبير اكتشف أن طريقة القتال تلك لن تحقق نجاحا، فعرض على القائد عبد الله بن سعد بن أبي سرح خطة جديدة؛ قال: "إن أمرنا يطول مع هؤلاء، وهم في أمداد متصلة، وبلاد هي لهم، ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن تترك غدا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين، ونقاتل نحن الروم في باقي العسكر، إلى أن يضجروا ويملوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم، ورجع المسلمون، ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون، ونقصدهم على غرة، ولعل الله ينصرنا عليهم". نجحت هذه الخطة، وثارت الكمائن بالروم، فانهزموا، وقتل منهم أعداد كبيرة، وقتل ملكهم "جريجوريوس" -قتله عبد الله بن الزبير- وأسرت ابنته. ثم ضرب ابن أبي سرح الحصار على مدينة سبيطلة" نفسها بعد أن منع المنهزمين من الاعتصام بها، فسقطت بسهولة، وأسفر الأمر عن فوز المسلمين بمغانم كثيرة، وثروة طائلة،   1 الكامل لابن الأثير "2/ 483". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قسمت على المقاتلين -بعد إخراج الخمس- فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الراجل ألف دينار1. وبعد معركة "سبيطلة" أقام عبد الله بن سعد بن أبي سرح معسكره في الأرض التي بنيت فيها مدينة "القيروان" فيما بعد. ومن هناك أخذ يوجه السرايا تضرب في أرجاء ولاية "إفريقية" وتجتاح البلاد بهمة كبيرة "حتى ذلت الروم، ورعبوا رعبا شديدا" كما يقول الرواة2. ويقول ابن عبد الحكم: "فلما رأى ذلك رؤساء أهل إفريقية طلبوا إلى عبد الله بن سعد أن يأخذ منهم مالا على أن يخرج من بلادهم، فقبل ذلك، ورجع إلى مصر، ولم يول عليهم أحد"3 ويحدد ابن عذارى في روايته قدر هذا المال، وهو ثلاثمائة قنطار من الذهب4 ويقدره البعض بألفي ألف وخمسمائة ألف دينار "2.500.000"5 وكان من بين شروط الصلح أيضا "أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهو لهم، وما أصابوه بعد الصلح ردوه عليهم"6. رجع ابن أبي سرح إلى مصر في أوائل "سنة 29هـ/ 649م" بعد خمسة عشر شهرا قضاها في هذه الغزوة. دون أن يتخذ أي إجراء يكفل الاحتفاظ بنتائج هذا النصر الكبير، وبدلا من أن يسير نحو "قرطاجنة" القاعدة الكبرى للروم ويستولى عليها، ويقرر بذلك نهاية ولاية "إفريقية" البيزنطية -كما فعل عمرو بن العاص عندما أتم فتح مصر باستيلائه على الإسكندرية- نجده يكتفي بالغنائم الوفيرة، ويقبل بشروط الصلح ويعجل بالعودة، "فكان على من أتى بعده -كما يقول د. حسين مؤنس- أن يبدأ من جديد؛ لأن انسحابه عفى على معظم النتائج التي كان المسلمون قد وصلوا إليها في البلاد"7.   1 تفاصيل الأحداث في: فتوح مصر والمغرب، لابن عبد الحكم، ص"183-186"، فتوح البلدان للبلاذري، ص266"، والكامل لابن الأثير "2/ 483-484". البيان المغرب، لابن عذارى. "ج1 ص10-13". وراجع: فتح العرب للمغرب لمؤنس ص"85-98". تاريخ المغرب العربي للدكتور سعد زغلول "1/ 107-114". 2 البيان المغرب، لابن عذارى "1/ 12". 3 فتوح مصر والمغرب، "ص184". 4 البيان المغرب، "1/ 12". 5 فتوح البلدان للبلاذري ص"227"، والكامل لابن الأثير "2/ 484". 6 البيان المغرب "1/ 12". 7 د. حسين مؤنس: فجر الأندلس، ص"37". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وإذا كان لهذا الانتصار العظيم الذي حققه المسلمون عند سبيطلة في أوائل "سنة 28هـ/ 648م" من نتيجة فهي أنه "كسر سلطان البيزنطيين كسرة لن يعود بعدها إلى ما كان عليه في البلاد قبل الفتح الإسلامي. وسيحاول البيزنطيون العودة إلى البلاد والاتحاد مع البربر ومغالبة العرب، ولكن كل محاولاتهم لن تزيد عن أن تكون محاولات قليلة الخطر، عديمة النتائج1. 2- حملة معاوية بن حديج السكوني "45/ 666م": عزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن قيادة جيش الفتح في إفريقيةن لكنه بقي واليا على مصر، واستمر نشاطه الحربي -وخاصة ضد الروم- إلى نهاية ولايته عليها "سنة 36هـ/ 656م"2. وبمقتل الخليفة عثمان -رضي الله عنه- في أواخر "سنة 35هـ/ 656م" اختلفت كلمة المسلمين، وانفتحت أبواب الفتنة على مصراعيها. وكان لا بد أن تؤثر هذه الأحداث التي استمرت خمس سنوات "35-40هـ" على حركة الفتوح في "إفريقية" وغيرها فبسببها تعطلت حركة الجهاد، وكان باستطاعة الروم أن يستعيدوا "إفريقية" خلال تلك الفترة التي انشغل فيها المسلمون بخلافاتهم، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك بصورة فعالة. وما أن استقر الأمر لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- "عام 41هـ/ 661م" -الذي سمي بعام الجماعة- حتى عادت الفتوح قوية من جديد في المشرق، وفي المغرب على السواء وقرر فصل ولاية "إفريقية" عن ولاية "مصر". وجعلها ولاية تابعة للخلافة مباشرة، وعين "معاوية بن حديج السكوني" واليا عليها، وأمره بالمسير إليها ومواصلة الجهاد، وزوده بجيش مكون من عشرة آلاف مقاتل، من بينهم عدد كبير من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبنائهم، أمثال عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الملك بن مروان وغيرهم3. خرج معاوية بن خديج من الإسكندرية، وسار برا بإزاء الساحل حتى وصل إلى "قمونية"، وهو المكان الذي عسكر فيه من قبل ابن أبي سرح قائد المسلمين في معركة   1 د. حسين مؤنس: المرجع نفسه، ص"37". 2 فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"188". 3 البيان المغرب لابن عذارى "1/ 16"، طبقات علماء إفريقية لأبي العرب تميم ص"78". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 سبيطلة "28هـ". ولم يكد الجيش يحط برحاله في هذا الإقليم حتى تسامع المسلمون بوصول جيش بيزنطي "أسطول بحري" إلى إفريقية، قوامه ثلاثون ألف مقاتل، أرسله الإمبراطور البيزنطي، بقيادة أحد البطارقة يدعى "نقفور" ونزل في منطقة "الساحل" الواقعة بين "سوسة" و"سفاقس" "راجع الخريطة". فتقدم ابن حديج نحوهم، وعسكر في مكان بالقرب من جبل "القرن"، ومنه أرسل جيشا كثيفا بقيادة عبد الله بن الزبير للتصدي لجيش الوم، فتقدم للقائهم، وناوشهم مناوشة خفيفة تقهقروا بعدها إلى "سوسة"، ثم أقلعوا في البحر إلى "صقلية" منهزمين، واستولى المسلمون على المدينة. ثم أرسل ابن حديج سرية أخرى في ألف فارس بقياس عبد الملك بن مروان -وكان في التاسعة عشرة من عمره- إلى "جلولاء"1 فحاصرها وفتحها عنوة. ثم قاد هو بنفسه حملة إلى "بنزرت" -على الساحل الشمالي بالقرب من "قرطاجنة" فافتتحها. "ومن الغريب -كما يقول د. حسين مؤنس- أنه لم يقصد قرطاجنة عاصمة إفريقية البيزنطية، وكانت معروفة للعرب إذ ذاك فلا يقال إنه جهلها. وربما كان السبب في ذلك أنه تهيب حصارها، لما كان معروفا عنها من المنعة والقوة. ولا نزاع في أنه أخطأ بذلك خطأ كبيرا، فلو أنه وجه جهوده نحو قرطاجنة لخطا بفتح إفريقة خطوة كبرى، لا شك في أهميتها، لكنه انصرف إلى منياء لا أهمية له -وهو "بنزرت"، ولم يكن لسقوطه أي أثر في فتح هذه البلاد"2. ولذا لا نستطيع اعتبار أعمال معاوية بن حديج فتوحا؛ لأن الضربات السريعة لا تعتبر فتوحا، ولا تنشأ عنها فتوح. وحملته هذه ما هي إلا إحدى المقدمات التي سبقت الفتح الحقيق الذي ستبدأ أولى حلقاته على يد طالت خبرته بـ إفريقية وأهلها، فعرف السبيل الصحيح لتثبيت أقدام المسلمين في بلاد المغرب، ألا وهو عقبة بن نافع الفهري.   1 جلولاء -أو جلولة- مدينة كبيرة وحصن بيزنطي قديم، وتقع على مقربة من "القيروان" الحالية، تبعد عنها أربعة وعشرين ميلا -راجع "وصف إفريقية" ص"31-32"، وهو منتزع من كتاب "المسالك والممالك" لأبي عبيد البكري -وراجع: فتح العرب للمغرب، للدكتور حسين مؤنس ص"123". 2 فتح العرب للمغرب ص"125". وراجع عن العمليات الحربية التي قام بها معاوية بن حديج في إفريقية: فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"192-194"، البيان المغرب "1/ 15-18"، الكامل لابن الأثير "2/ 485"، صفة إفريقية "من المسالك والممالك للبكري" ص"34-35"، ص"58". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وإذا كان لحملة ابن حديج -ومن قبلها حملة ابن أبي سرح- من أهمية فإنها تتلخص في أن بلاد "إفريقية" أصبحت أرضا مألوفة للمسلمين، ولم تعد مخوفة "غادرة مغدور بها" كما كان الحال قبل اقتحامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 المرحلة الثانية: الاستقرار والفتح المؤقت "50-71هـ/ 670-689م" أولا: عقبة بن نافع في ولايته الأولى وتأسيس مدينة القيروان "50-55هـ/ 670-674م" لم تتح الفرصة لمعاوية بن حديج أن يعود إلى "إفريقية" لاستكمال الفتح، إذ عزله الخليفة معاوية بن أبي سفيان عن قيادة الجند "عام 48هـ/ 668م" وعين بدلا منه القائد المجاهد عقبة بن نافع الفهري "عام 50هـ/ 668م". ويتفق المؤرخون على أن بداية ولاية عقبة بن نافع الفهري تمثل مرحلة جديدة من مراحل الجهاد الإسلامي في منطقة المغرب، وكان اختياره موفقا إلى حد بعيد، ونابعا من قناعة تامة بأنه هو القائد الجديد رجل المستقبل في مرحلة انتهت بها حرب الاستكشاف والسرايا العادية لتبدأ مرحلة ذوي الكفاءات العسكرية من الفرسان الموهوبين؛ مرحلة الفتح الثابت المستقر. ولقد توفر في عقبة من الكفاءات الحربية والخلال الدينية ما يجعله جديرا بحمل هذا العبء الثقيل، حيث مكنه طول عهده بإفريقية، وكثرة اشتغاله بحروبها من تنمية مواهبة الحربية، وتكوين فكرة واضحة عن هذه البلاد التي جال في ربوعها، والتعرف على الكير من أخلاق وعادات أهلها، والتفطن إلى أمثل السبل لفتحها وإخضاعها، وكان رجلا قوي الإيمان، ورعا تقيا، تميل نفسه إلى الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام والدعوة إليه، لا إلى مجرد الفتوح والانتصارات وما وراء ذلك من مكاسب1. وقد تأكد لعقبة بن نافع أن فتح "إفريقية" وبقية المغرب لا يثبت إلا بأمرين. أولهما: إنشاء مركز للمسلمين تعسكر فيه جيوشهم، ويأمنون فيه على أموالهم   1 راجع ترجمة عقبة بن نافع في "سير أعلام النبلاء" للذهبي "ج3 ص349"، والإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر "3/ 30"، وعن تاريخ جهاده في "إفريقية" قبل تأسيس القيروان "فتح العرب للمغرب" لمؤنس ص"130-135". تاريخ المغرب العربي، لسعد زغلول عبد الحميد "1/ 134-142". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ونسائهم وذراريهم، ومنه يخرجون للغزو، بدلا من العودة في كل مرة إلى "فسطاط" مصر. وثانيهما: غزو البربر أنفسهم، والتوغل في قلب بلادهم، وإدراكهم في منازلهم في الهضاب والجبال والصحراء، بدلا من الاكتفاء بغزو مدائن الساحل ثم العود إلى "الفسطاط"؛ لأن المسلمين لا يكادون ينصرفون عن هذه البلاد حتى تعود الأمور إلى ما كانت عليه، لاتصال هذه المناطق عن طريق البحر بالبيزنطيين، تتلقى منهم الإمدادات، وكانوا -كما وصفهم عقبة نفسه- "إذا دخل عليهم أميرا أطاعوا، وأظهر بعضهم الإسلام، فإذا عاد الأمير عنهم نكثوا، وارتد من أسلم"1. تلك كانت الخطة التي وضعها عقبة نافع، وأراد أن ينفذها على مرحلتين، لكنه إذا كان قد نجح في أن ينفذ المرحلة الأولى ببناء مدينة القيروان فإنه كان ما كاد يشرع في تنفيذ المرحلة الثانية حتى رأت الخلافة أن تعهد بقيادة الجيوش الإسلامية في "إفريقية" إلى قائد آخر هو "أبو المهاجر دينار". وسيأتي الحديث عن ذلك بعد قليل. وجه معاوية بن أبي سفيان إلى عقبة -وهو في مستقرة ببرقة وزويلة- عشرة آلاف فارس2 -من بينهم خمسة وعشرون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم3- فضم عقبة إليهم من أسلم من البربر4. وقد كان لطول الفترة التي قضاها هذا القائد في مناطق برقة وصحراء زويلة وطرابلس، وتتابع حملاته على هذه النواحي "من 22هـ- إلى 49هـ" أثر كبير في دخول بعض أهلها في الإسلام. وكان في ضمة لهم إلى الجيش دليل على أن هؤلاء أحسوا بحلاوة الإسلام، وعرفوا ضرورة الجهاد. وفي مسيرة إلى إفريقية اتخذ عقبة طريقه في داخل البلاد، مباعدا عن الساحل وقد اتخذ هذه الخطة في كل أعماله، سواء في هذه الغزوة أو فيما بعدها. وربما كان   1 البيان المغرب لابن عذارى "1/ 19"، الكامل لابن الأثير "3/ 320"، وراجع: "فتح العرب للمغرب" لمؤنس ص"133"، دراسات أندلسية للدكتور محمد عبد الحميد عيسى، ص"22". 2 البيان المغرب "1/ 19". 3 طبقات علماء إفريقية، لأبي العرب تميم، ص"56". وفي رواية ابن عذارى "ثمانية عشر صحابيا" "البيان المغرب 1/ 20". 4 الكامل لابن الأثير "2/ 320"، نهاية الأرب للنويري جـ24، ص"22". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 دافعه إلى ذلك هو أن الطريق الداخلي المقفر لا تكون فيه إلا مقاومة ضئيلة من القبائل البربرية وسكان الواحات. أما الإقليم الساحلي فهو مليء بالحصون والمسالح1. وبعد أن أتم عقبة إخضاع أقاليم الواحات في صحروات جنوب "طرابلس" مثل -"ودان" و"فزان" و"غدامس"- توجه إلى بلاد الجريد "جنوب البلاد التونسية"، وأخضع كل واحاتها، وافتتح "قفصة" و"قسطيلة". ثم أفضى إلى "قمونية" قلب إفريقية البيزنطية، "وهو الموضع الذي عسكر معاوية بن حديج فيه من قبل"، فوقع اختياره عليه، ليقيم فيه المدينة التي عقد العزم على بنائها2. تأسيس القيروان 3: وفي "قمونية" -وفي هذا القطر الفسيح الذي يطل على البحر- بدأ عقبة بن نافع في اختيار موقع المدينة الجديدة. ولقد أحسن الاختيار بشهادة جميع المؤرخين؛ إذ راعى أن تكون المدينة في موضع متوسط بين الساحل والجبل، بحيث تكون بعيدة عن كل من ساحل البحر والجبل "جبل أوراس" بمسيرة يوم، وهو مدة كافية للابتعاد عن خطر المفاجأة من غزو بيزنطي بحري، أو من هجوم بربري يأتي من الجبل. كما أنه حرص على أن تكون في موقع يتمتع بوفرة المياه والمرعى والأرض الصالحة للزراعة1. وقد علق المستشرق الفرنس "كودل" "Caudel" على ذلك بقوله: "وكان اختيار المكان موفقا، بل بلغ من التوفيق في اختياره أن ولاه المغرب ومن خلفهم من الحكام المستقلين أقاموا بها زمنا طويلا، ولم ينتقلوا عنها إلا حينما اضطرتهم ظروف سياسية جديدة إلى ذلك، كما كان موقعها الحربي ملحوظ الأهمية، إذ كان الحاكم الذي   1 راجع: فتح العرب للمغرب، لحسين مؤنس، ص"139". 2 راجع: فتوح مصر والمغرب، لابن عبد الحكم، ص"194-195". 3 تطلق كلمة "قيروان" على معسكر الجند، أو موضع اجتماع الناس والجيش. ويفهم هذا من قول عقبة حين عزم على تأسيس هذه المدينة: "وأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة نجعل فيها عسكرا، وتكون عزا للإسلام إلى آخر الدهر". فلما انتهى إلى اختيار موضعها قال: "هذه قيرونكم" أي مدينتكم التي تجعلون فيها عسكركم. وكلمة "قيروان" فارسية معربة، أصلها "كروان" أو "كريان" ومعاها: قافلة أو مراح القوافل. راجع: فتح العرب للمغرب لحسين مؤنس، ص"153-154". 4 راجع: ابن عذارى في البيان المغرب "1/ 19". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 يتخذ هذا الموضوع مركزا لأعماله يستطيع أن يرى العدو من بعيد، ويتحرز من الغارات المفاجئة الكثيرة الحدوث عند البربر، وإذا أراد أن يطاردهم إلى هضابهم وجد الطريق مفتوحة أمامه ... "1. وقد عمرت "القيروان" بمختلف الأبنية، وقامت فيها الأسواقن وأمها الناس من جميع الجهات، وعظم قدرها جدا، وقدر لها أن تصبح من أكثر المراكز الإسلامية بركة على الإسلام وأهله، وتحولت بسرعة إلى قاعدة سياسية ودينية وفكرية للإسلام في إفريقية. ولعل دعوة عقبة بن نافع قد استجيبت حينما دعا لهذه المدينة بعد اكتمالها بأن تكون عزا للإسلام وموئلا للعلم والعلماء فقال: "اللهم املأها فقها، وأعمرها بالمطيعين والعابدين، واجعلها عزا لدينك، وذلا على من كفر بك، وأعز بها الإسلام، وامنعها من جبابرة الأرض"2. أنفق عقبة في تخطيط المدينة وبنائها أربع سنوات كاملة دون أن ينصرف إلى عمل آخر من أعمال الفتوح، باستثناء بعض السريا التي كان يرسلها إلى المناطق المجاورة3. وقد أبدى بعض المؤرخين دهشتهم من أن المسلمين أنفقوا هذا الوقت الطويل مطمئنين من هجوم الروم عليهم، مع أن "قرطاجنة" -عاصمة الروم- لم تكن تبعد عن "القيروان" أكثر من مسيرة ثلاثة أيام. وقد عللوا ذلك بأن الروم كانوا -إذ ذاك في شغل عن "إفريقية" وغيرها من ولاياتهم بمدافعة هجمات المسلمين- في الشرق -على القسطنطينية وبعض جزر البحر المتوسط القريبة منها، خلال السنوات من "49هـ" إلى "54"4، فانقطعت الأمداد عن الروم بإفريقية طوال هذه المدة وعدة سنوات بعدها5.   1 نقلا عن "فتح العرب للمغرب" لحسين مؤنس ص"143". 2 طبقات علماء إفريقية لأبي العرب تميم ص"56". وراجع ما ذكره أبو عبيد البكري في وصف القيروان ومسجدها الجامع في "المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب" "مستخرج من كتابه: المسالك والممالك" -ص "22-27". 3 راجع: الكامل لابن الأثير "3/ 320". 4 راجع: تاريخ البحرية الإسلامية في مصر مصر والشام ص"21-24"، ص"31-33". 5 فتح العرب للمغرب -لحسين مؤنس، ص "145". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ونسجل هنا ملاحظتين على قدر كبير من الأهمية فيما يتعلق بتأسيس "القيروان": أولاهما: لقد أنشأ عقبة للمسلمين قاعدة يحكم فيها البلاد التي يفتحها وتصدر منها الغزوات. ومعنى هذا أنه -بعمله هذا- قد جعل "إفريقية" ولاية إسلامية جديدة، لأنه ما دام قد أنشأ بها مسجدا ودارا للإمارة فقد أصبحت المنطقة كلها جزءا من الدولة الإسلامية، ولا يجوز بعد ذلك للمسلمين أن يتخلوا عنها، وبالفعل كان من الممكن -قبل ذلك- أن ينسحبوا من "إفريقية" إلى "برقة" أو إلى مصر كما كانوا يفعلون. أما الآن فلا بد لهم أن يثبتوا في هذه الناحية، وإن فقدوها -لسبب ما- فيجب عليهم أن يستعدوها مرة أخرى، لأنها جزء من الديار الإسلامية1. وثانيتهما: وكما أفادت هذه المدينة حركة الفتوح كبرى من الناحية العسكرية فقد أفادت أيضا في العمل على نشر الإسلام والعروبة في المغرب. وهذا هو الغرض الأساسي من الفتوح، وذلك حينما سنحت الفرصة للاتصال السلمي بين البربر والعرب والمقيمين بالمدينة في الفترات التي تتوقف فيها الحروب؛ الأمر الذي ساعد على تقبل بعض البربر للدين الجديد باقتناع دون أي شبهة اضطرار. وقد زاد هذا الأمر أهمية أن الكثيرين من هؤلاء البربر الذين أسلموا أخذوا ينتظمون في جيوش المسلمين، ويسيرون معهم لإتمام فتح البلاد2.   1 معالم تاريخ المغرب والأندلس، لحسين مؤنس -ص"36". 2 راجع: التطور السياسي للمغرب، للدكتور طاهر راغب ص"38-39"، فجر الأندلس لحسين مؤنس ص"40". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ثانيًا: عزل عقبة وولاية أبي المهاجر ديار "55-62هـ/ 674-681م" ... ثانيا: عزل عقبة وولاية أبي المهاجر دينار "55-62هـ/ 674-681م" وبينما كان عقبة يتخذ الأهبة للخروج للغزو الواسع النطاق -بعد أن أتم تأسيس "نقطة الارتكاز"- إذا معاوية بن أبي سفيان "الخليفة" يفاجئه بالعزل "سنة 55هـ/ 674م". وكان من المتوقع بعد أن قام عقبة بهذا العمل المجيد أن تكافئه الدولة بأن تتركه في ولايته ليتم ما بدأه، إلا أنه -بدلا من ذلك- يتلقى أمرا بعزله عن "إفريقية"1   1الكامل "3/ 321"، البيان المغرب "1/ 21". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وكان الخليفة قد ولى على مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري "سنة 47هـ/ 667م" وهو من أنصار البيت الأموي الذي أعانوا معاوية على الوصول إلى الخلافة، فكافأه بولاية مصر، وظل واليا عليها إلى سنة "62هـ/ 681م". وعندما رأى مسلمة أن "إفريقية" أصبحت ولاية وميدانا جديدا واسعا للفتوحات طمحت نفسه إلى أن يحوزها، فسعى عند الخليفة في عزل عقبة، وجمعت له الولاية على مصر وإفريقية معا، ثم ولى على "إفريقية" رجلا من أهل مصر مولى له -نائبا عنه- هو "أبو المهاجر دينار"1. وكان مسلمة قد أوصى الوالي الجديد أن يعزل عقبة أحسن العزل"2، فلما قدم أبو المهاجر "إفريقية" أساء عزل هذا القائد الكبير، وحبسه. ولم يكتف بذلك، وإنما كره نزول "القيروان"، ونزل في قرية صغيرة على بعد ميلين منها، تعرف بـ "تكرور" أو "تكروان" رغبة في التقليل من أهمية العاصمة الجديدة، وإيجاد بديل عنها، وبل وحث الناس على تعمير الموضع الجديد3. وقد خرج عقبة فتوجه إلى دمشق، وشكا للخليفة، فطيب نفسه، ولكنه لم يرده إلى ولايته. يقول ابن عذارى: "ولما قدم عقبة على معاوية قال له: فتحت البلاد، ودانت لي، وبنيت المنازل، واتخذت مسجدا للجماعة، وسكنت الناس "أي بنيت لهم مساكن"، ثم أرسلت عبد الأنصار فأساء عزلي؟ فاعتذر له معاوية ... وتراخى الأمر حتى توفي -أي الخليفة- "سنة 60هـ" وأفضى الأمر "أي الخلافة" إلى يزيد ابنه"4. والحق أن أبا المهاجر كان من خيرة الولاة، وعلى قدر كبير من الحكمة، ولم يكن أقل كفاءة من عقبة بن نافع، فهما ينتميان إلى مدرسة واحدة، هي مدرسة الإسلام، وتعلم فيها الاثنان معنى الجهاد، والتضحية في سبيل الله -عز وجل. ورغم كل ما ذكره المؤرخون من خلاف بين القائدين، أو ما حدث بينهما من إساءة   1 راجع الكامل "3/ 321". والبيان "1/ 21"، وفتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"197". 2 فتوح مصر والمغرب ص"197". 3 فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"197"، البيان المغرب "1/ 21-22". 4 البيان المغرب لابن عذارى "1/ 22". وورد في الكتاب نفسه أن عقبة دعا على أبي المهاجر أن يمكنه الله منه، فبلغت أبا المهاجر دعوته، فقال: "هو عبد لا ترد دعوته"، لم يزل خائفا منه، نادما على ما فعل معه -وراجع أيضا: فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"197". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 نجدهما يشتركان في هدف واحد هو العمل -ما أمكنهما- على نشر كلمة الله -سبحانه وتعالى- في المغرب، وإن اختلف كل منهما في القيام بهذا الواجب. فقد كان عقبة عسكريا صرفان تميل طبيعته إلى حسم الأمور، مستخدما سيفه وجنده. بينما كان أبو المهاجر رجلا سياسيا محنكا، استخدم السيف حين كان له ضرورة، ومال إلى اللين ليتمن من قلوب بعض البربر ويضمهم إلى الإسلام، ويخرجهم من ساحة الأعداء، إلى ساحة المحايدين1. وكان أبو المهاجر دينار أول قائد مسلم يقدر على أن يخرج من سهل تونس ويتوغل في هذاب "المغرب الأوسط" ويهاجم القبائل البربرية في مواطنها الحصينة، ووصلت غزواته إلى "تلمسان"، وهي أكبر قواعد القسم الشرقي من المغرب الأوسط. وفي هذه النواحي كانت منازل قبيلة "أوربة"، وهي قبائل البربر "البرانس" في ذلك الحين، ويدين أفرادها بدين النصرانية. ويتزعمها رجل بربري قوي يسمى "كسيلة بن لمرم"2، وكان متحالفا مع الروم البيزنطيين ضد العرب. وقد استطاع أبو المهاجر أن يغزو مواقع "أوربة" في جبال "الأوراس"، وأن يكتسب رئيسها كسيلة" إلى الإسلام، فأسلمن وتبعه نفر كبير من قومه3. وبعد أن قضى أبو المهاجر في هذا الغزو نحو من سنتين "59-61هـ" على إلى معسكره، وأقام به عاما واحدا حتى عزل. وكان الظروف السياسية في عاصمة الدولة الإسلامة "دمشق" قد تغيرت، فمات الخليفة معاوية "سنة 60هـ/ 679م"، وتولى من بعده ابنه يزيد. وكان يزيد مقتنعا بعقبة بن نافع وحسن بلائه في فتح إفريقية، فأعاده مرة أخرى إليها -بعد أن استجاب لشكواه- وعزل أبا المهاجر "سنة 62هـ/ 681م"4.   1 راجع: دراسات أندلسية، للدكتور محمد عبد الحميد عيسى "ص25". تاريخ المغرب العربي للدكتور سعد زغلول "1/ 152". 2 كسيلة -بفتح الكاف وكسر السين المهملة، وهذا هو الصحيح. وقد ضبطت في "البيان المغرب 1/ 28، 29". بضم الكاف وفتح السين. وأما "لمرم" فهي بفتح اللام والراء، وبينهما ميم ساكنة، وآخرها ميم "راجع: فتح العرب للمغرب ص17". 3 راجع: معالم تاريخ المغرب والأندلس ص "37-38"، وفجر الأندلس ص"40" "وكلاهما لحسين مؤنس". وراجع عن دور أبي المهاجر دينار في حملته "البيان المغرب 1/ 28-29". والعبر، لابن خلدون "6/ 146". 4 البيان المغرب "1/ 22". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ثالثا: ولاية عقبة بن نافع الثانية ومحاولة فتح المغرب الأقصى "62-64هـ/ 681-684م" عاد عقبة إلى "القيروان"، وكان أول ما فعله هو القبض على أبي المهاجر دينار، وتوثيقه في الحديد، وأخذ ما لديه من أموال "مائة ألف دينار" للإنفاق منها على إعداد الحملة الجديدة، ثم إنه أمر بتخريب معسكره "تكروان"، وجدد ما كان قد خرب من عمارة "القيروان"، ورد الناس إليها، فعمرت وعظم شأنها1، ثم بدأ منها حملة كبرى تختلف عن كل الحملات السابقة. إذ أنه ساح في كل صحروات المغربين -الأوسط والأقصى- حتى وصل إلى سواحل "السوس الأقصى" على البحر المحيط. وقبل الخروج من القيروان قرر عقبة أن يترك فيها حامية عسكرية قدرت بستة آلاف رجل، للدفاع عن المدينة، وحماية ما بها من الذراري والأموال، واختار "زهير بن قيس البلوي" قائدا عليها2، ثم بدأ حملته الكبرى بهمة عالية، وعزيمة لا تفتر، حبا في الجهاد، وتوقا إلى الاستشهاد، وأملا في الانتهاء من فتوحات المغرب التي طال أمدها. اتجه عقبة نحو مدينة "باغاية" عند أقدم جبل الأوراس، ولقي جمعا كبير من الروم، فهزمهم، ثم زحف إلى "بلاد الزاب" الفسيحة "في المغرب الأوسط" فاكتسحها بعد عدة معارك انتهت كلها بهزيمة الروم، فلما وصل إلى "تاهرت" وجد نفسه أمام تحالف كبير من الروم والبربر لم يعهد المسلمون له مثيلا من قبل، فالتقى بهم في معركة حامية، فأباد فرسانهم وفرق جمعهم، وقطع آثارهم3، واستمر في طريقه غير عابئ بالمقاومة مهما اشتدت، حتى وصل إلى ولاية "طنجة" في المغرب الأقصى. وكان يحكمها أمير من الروم يسمى "يليان4، فأرسل إلى عقبة مهاديا   1 فتوح مصر والمغرب ص"180"، والبيان المغرب "1/ 23"، رياض النفوس للمالكي "1/ 22". 2 الكامل لابن الأثير "3/ 450"، فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"198". 3 راجع تفاصيل هذه المعارك: البيان المغرب "1/ 23-24"، الكامل لابن الأثير "3/ 451"، وراجع: تاريخ المسلمين في المغرب والأندلس، لدكتور/ طه عبد المقصود عبد الحميد "ص72-73" "ط دار طيبة للإنتاج والتوزيع -القاهرة 2000م". 4 سيكون لهذه الشخصية دور في فتح الأندلس، فبعد ثلاثين عاما من تاريخ حملة عقبة بن نافع -وفي ولاية موسى بن نصير آخر الفاتحين المسلمين للمغرب، وفي أثناء فتح الأندلس بقيادة موسى بن نصير، وطارق بن زياد -لقي "يليان" هذا مرة أخرى، وسيكون له شأن مع القائدين المذكورين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ومستعطفا له، وسأله المسالمة والنزول على حكمه، فقبل منه عقبة واجتمع به وأقره على بلاده. ويبدو أن عقبة كان يتطلع إلى فتح الأندلس، فاستفهم من "يليان" عن حالها، فأمده بالمعلومات عن حكامها "القوط"1، ولفت نظره إلى عدم التفكير في فتحها، "وعظم عليه أمرها" وقال له: "قد تركت الروم وراء ظهرك، وما أمامك إلا البربر، لم يدخلوا في دين النصرانية ولا غيرها، ومعظهم المصامدة"2. وعلى إثر هذه المشورة انحذر عقبة إلى جنوب المغرب الأقصى، حيث مواطن "صنهاجة" الملثمين وهو يومئذ وثنيون لم يدينوا بالنصرانية، فبدأ "بالسوس الأدنى"، ووصل إلى "وليلى" على مقربة من الموضع الذي ستقام فيه مدينة "فاس"، واستمر في مغامرته الكبرى حتى وطئت جيوشه أرس السوس الأقصى، وانتهى إلى جنوب المدينة الحالية المعروفة باسم "أغادير"، وتقع على مصب وادي السوس الذي يصب في المحيط. وهناك وقع المشهد التاريخي الشهير الذي حدثتنا عنه كتب التاريخ، وهو مشهد عقبة يدخل بفرسه في مياه المحيط الأطلسي حتى وصل الماء إلى تلابيبه، ويشهد الله على أنه وصل براية الإسلام إلى آخر المعمورة، ويقول: "يا رب لولا أن البحر منعني لمضيت في البلاد إلى مسلك ذي القرنين، مدافعا عن دينك، مقاتلا من كفر بك"3. بهذا يكون عقبة بن نافع قد أتم فتح بلاد المغرب، ونجح في التغلب على كل الجموع التي تصدت له، وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الفتح بصورة كاملة تقريبا. استشهاد عقبة في طريقة العودة إلى القيروان: وفي غمرة هذا النصر المبين يهرب "كسيلة بن لمرم" القائد البربري الذي أسلم على يد "أبي المهاجر دينار"، وأسلمت معه قبيلته "اوربة" وكان عقبة قد اصطحبه -وأبا المهاجر- في غزوته تلك، وأشرك معه جموعا من البربر المسلمين، وتذكر   1 راجع عن القوط في الأندلس، ص" ". 2 البيان المغرب "1/ 26"، والمصامدة: هم قبائل "مصمودة" البربرية. 3 البيان المغرب "1/ 27"، وراجع: الكامل لابن الأثير "3/ 451". والعبر لابن خلدون "6/ 107". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الروايات أن عقبة عامل "كسيلة" بما لا يليق به كقائد، وبما يتناسب معه كحديث عهد بالإسلام1. بدأ عقبة رحلة العودة إلى القيروان، فاتخذ طريقه نحو "طنجة" لكي يعود إلى "المغرب الأوسط" وعندما وصل إلى "بلاد الزاب" في "بلاد الجزائر" -وعند بلدة "طبنة" "وعلى مسيرة ثمانية أيام من القيروان"- بعث بمعظم جنده إلى القيروان على عجل ولم يبق معه إلا جزءا صغيرا من الجيش يقدر بخمسة آلاف؛ لينهي به لما قد أجله في أول الحملة من ترك عدد من الحاميات الرومية معتصمة بقلاعها. ولعل السبب الذي جعل عقبة يرسل معظم الجيش إلى القيران يعود إلى أن أخبارا مقلقة قد وصلته "على ما يرى بعض الدراسين" أو أنه اطمأن إلى ما أنجزه في المغرب الأقصى كما يرى آخرون2. ويعلل ابن عذارى إرساله هذا العسكر إلى القيروان برغبة الجند في الإسراء "للإياب إلى أحيائهم، والبدار إلى عيالهم"3. ويضيف تعليلا آخر فيقول: "ثقة منه بما دوخ من البلاد، وأنه لا يقوم له أحد"4. وقد آثر عقبة أن يعرج -بمن بقي معه من الجنود- على مدينة "تهوذة" في أحواز نهر الزاب، للاستيلاء عليها، وإقامة حامية من فرسانه دائمة فيها5. وهنا يظهر على مسرح الأحداث الزعيم البربري "كسيلة". وكان قد استطاع الفرار من جيش عقبة، وأخذ يتحين الفرصة المناسبة للقضاء عليه. وكان عيون الروم وجواسيسهم في هذه المنطقة قد بعثوا إليه، "فأعلموه بقلة من معه -أي عقبة- فجمع له جمعا كبير من الروم والبربر "قدر بخمسين ألف مقاتل" وزحف إليه ليلا حتى نزل بالقرب منه"6. ولم تكن إساءة عقبة إلى "كسيلة" -رغم ما نراه من بعض المبالغة فيما أوردته   1 راجع التفاصيل في البيان المغرب "1/ 29"، الكامل لابن الأثير "3/ 452". 2 د. أحمد مختار العبادي: في تاريخ المغرب والأندلس ص"43"، د. السيد عبد العزيز سالم: تاريخ المغرب في العصر الإسلامي، ص"141". 3 البيان المغرب "1/ 28". 4 البيان المغرب "1/ 29". 5 "نص جديد عن فتح العرب للمغرب" -نشره ليفي بروفنسال في صحيفة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد سنة 1954م، "ص220"؟؟؟ لعبيد الله بن صالح من علماء القرن الثامن. وراجع: البيان المغرب "1/ 28". 6 رياض النفوس للمالكي "1/ 25". وراجع: البيان المغرب "1/ 29". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المصادر بشأنها -هي السبب الوحيد في التفاف هذا الحشد الهائل من البربر والروم، ولكن السبب الأهم هو أن عقبة استطاع أن يفل جمعهم، ويشتت شملهم، وينتصر عليهم في كل المواقع التي خاضها ضدهم، وهذا هو الذي أزعجهم، وأوجد نوعا من التوافق أو التعاطف بينهم، فما زالوا يتربصون به حتى واتتهم الفرصة عندما انفرد بعيدا عن جيشه فتمكنوا من القضاء عليه. ويروي ابن عذارى قصة هذه الكارثة التي وقعت "سنة 63هـ- أو 64هـ/ 681-682م" فيقول: "لما وصل عقبة إلى مدينة "طبنة" أمر أصحابه، فتقدموا ثقة منه بما دوخ من البلاد، وأنه لا يقوم له أحد، لينفذ قدر الله ومراده، ويتعجل لعبده من كرامته ميعاده. وفصرف أصحابه إلى منازلهم عند قربهم منها، وسار هو إلى مندينة "تهوذة" لينظر فيمن يصلح لها من الفرسان. فلما انتهى إليها في بقية من معه وكانوا قليلا نظر الروم إليهم، فطمعوا فيهم، فأغلقوا باب حصنهم، وجعلوا يشتمونه ويرمونه بالحجارة والنبل، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل. فلما توسط البلاد بعث الروم إلى كيسلة بن لمزم الأوربي ... ". ويكمل ابن عذارى سير الأحداث -في موضع آخر قائلا: "فانتهز كسيلة فرصة فنكث، وقام في أهل بيته وقبائله من البربر. فقال أبو المهاجر لعبة: عاجله قبل أن يستعجل أمره. فوقف إليه عقبة، فتنحى "كسيلة" أمامه، فقالت له البربر: لم تنتحي عنه، وهو في خمسة آلاف، ونحن في خمسين ألفا في الزيادة، والرجل ليس عنده من يمده، وقد سار عنه أصحابه؟! فركبه البربر في الجيوش العظيمة "أي قودوه عليهم" وغشيه بهم كسيلة بقرب من تهوذا. فنزل عقبة -رضي الله عنه- وركع ركعتين وقال لأبي المهاجر: الحق بالمسلمين فقم بأمرهم، فأنا أغتنم الشهادة. فقال له: وأنا والله أغتنمها معك. فكسر كل واحد منهما جفن سيفه، وكسر المسلمون كذلك أغماد سيوفهم، وأمرهم أن يترجلوا عن خيولهم، فقاتلوا قتالا شديدا حتى بلغ منهم الجهد، وكثر فيهم الجراح، وتكاثر عليهم العدو، فقتل عقبة وأبو المهاجر، ومن كان معهما من المسلمين، ولم يفلت منهم أحد إلا بعض وجوههم أسروا ... "1.   1 البيان المغرب "1/ 28، 29". وراجع: فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"198"، الكامل لابن الأثير "3/ 452". ومن الجدير بالذكر أن موضع "تهوذة" لا يزال يعرف اليوم بسيدي عقبة، وهو عبارة عن واحة من النخيل بالقرب من مدينة "بسكرة" في جنوب "قسنطينة" بالجزائر "على بعد خمسة كيلو مترات من "تهوذة" وبها قبر هذا الفاتح العربي العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وهكذا كان عدم الحذر -حتى بعد الانتصار- هو السبب الذي مكن الروم والبربر من التجمع واغتنام الفرصة الحاسمة، وقد دوى خبر مقتل عقبة في إفريقية والمغرب دويا هائلا، وكان له أثر عميق في نفوس المسلمين. وكان "كسيلة" قد زحف بجيوش لا حصر لها إلى القيروان، "فانقلبت إفريقية نارا وعظم على المسلمين، فخرجوا هاربين"1. ولم يبق في القيروان إلا الشيوخ والنساء والأطفال وكل مثقل بالأولاد، فأرسلوا إلى "كسيلة" يسألونه الأمان فأجابهم إلى ذلك، ودخل المدينة في المحرم "سنة 64هـ-682م" وجلس في قصر الإمارة أميرا على البربر ومن بقي في القيروان من العرب2. ويتفق المؤرخون على أن زهير بن قيس خليفة عقبة على القيروان أراد -بعد كارثة "تهوذة"- أن يقاتل كسيلة بمن بقي من الجيش، ويداف عن المدينة، وخطب في الناس قائلا: "يا معشر المسلمين، إن أصحابكم قد دخلوا الجنة، وقد من الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، ويفتح الله لكم دون ذلك". فاعترض عليه حنش الصنعاني "وهو من التابعين، وممن اشترك في فتح الأندلس"، وطالبه بالانسحاب مع بقية الجيس إلى المشرق حتى لا يتعرض المسلمون لسيوف البربر، وقال: "لا والله ما نقبل قولك، ولا لك علينا ولاية، ولا عمل أفضل من النجاة بهذه العصابة "الجماعة" من المسلمين إلى مشرقهم". ثم قال: "يا معشر المسلمين، من أراد منكم القفول إلى مشرقه فليتبعني" فاتبعه الناس، ولم يبق مع زهير إلا أهل بيته وذويه، فاضطر إلى اللحاق بهم، ونزل بقصره في "برقة"، وأقام بهها مرابطا إلى أن ولي عبد الملك بن مروان الخلافة "سنة 65هـ-683م". وبهذا خرجت "إفريقية" من أيدي المسلمين، وتراجعوا إلى برقة التي كان عمرو بن العاص قد فتحها منذ أربعين سنة، وكان على من أتى بعد "عقبة" أن يبدأ العمل من جديد.   1 رياض النفوس للمالكي "1/ 28"، وراجع: البيان المغرب "1/ 29-30". 2 رياض النفوس "1/ 28"، والبيان المغرب "1/ 30-31". 3 البيان المغرب "1/ 31"، وراجع: رياض النفوس "1/ 28". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت للحملة الجهادية التي قادها عقبة بن نافع لفتح البلاد المغربية، فإنها تعتبر من كبريات الحملات العسكرية في تاريخ هذا الإقليم، شملت المغارب الثلاثة، وأدخلت المسلمين إلى مناطق لم يدخلوها من قبل، وحققت عدة انتصارات عسكرية مهمة، وعرفت البربر في مناطق نائية بالإسلام، وتكفي هذه النتائج التي حققتها هذه الحملة ردا على من قلل من أهميتها، وأضعف من قيمتها. وبقي أن نقول: إن هذ المجاهد الكبير -عقبة بن نافع- يعتبر بحق من أعظم قادة الفتح الإسلامي، وواحد من أكبر بناء الدولة الإسلامية. ولا يقارن في هذا المجال إلا بالقائد الكبير "قتيبة بن مسلم الباهلي" الذي تولى مهمة الفتوح في الجناح الشرقي لدولة الإسلام، وإليه يرجع الفضل في التغلب على مقاومة الترك الوثنيين وفتح بلادهم للإسلام، والوصول به إلى "كاشغر" في إقليم "سنكيانج" في غرب الصين الحالية. وكان "عقبة" و"قتيبة" متعاصرين، واحد منهما وصل بحدود دولة الإسلام إلى أقصاها غربا، والثاني وصل بها إلى أقصاها شرقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 رابعًا: زهير بن قيس البلوي واسترداد القيرون "69-71هـ/ 688م-689م" ... رابعا: زهير بن قيس البلوي واسترداد القيروان "69-71هـ/ 688م-689م" لم تستطيع الخلافة الأموية أن تهتم بأمور "إفريقية" إثر مقتل عقبة بن نافع واحتلال "كسيلة" البربري للقيروان إلا بعد وقت طويل؛ لأن ظروف الخلافة لم تسمح بذلك. لقد توفي يزيد بن معاوية "64هـ/ 682م"، وخلفه ابنه معاوية "الثاني" ولم يكمل عاما واحدا حتى تنازل عن الخلافة دون أن يعين من يخلفه، وانتهى الأمر -في العام نفسه- إلى مروان بن الحكم. وكان عبد الله بن الزبير قد ثار على الأمويين بعد موت يزيد، واستولى على الحجاز والعراق ودخلت مصر في طاعته، واتسع سلطانه، وأعلن نفسه خليفة. وقد انشغل مروان بن الحكم بمحاربة الزبيريين واستعادة البلاد إلى الأسرة الأموية، ثم مات سريعا "عام 65هـ/ 683م" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 تاركا الخلافة لابنه عبد الملك الذي ورث واقعا سياسيا مرهقا عمل بمهارة فائقة وجهد دؤوب على تعديله. وبعد أن هدأت الأحوال شيئا فشيئا ابتداء من "68هـ/ 687م" وثبتت الخلافة الأموية لعبد الملك اتسع أمامه الوقت ليقوم بعمل عسكري لاستعادة القيروان والمغرب. وكان زهير بن قيس -الذي انسحب بالمسلمين من "القيروان" بعد مقتل عقبة- لا يزال منتظرا في "برقة" إلى أن تأتيه الإمدادات لكي ينهض إلى "إفريقية" من جديد. ونظرا لأنه "صاحب عقبة، وهو مثله دينا وعقل، وأعلم الناس بسيرته وتدبيره، وأولاهم بطلب دمه" -كما تقول الرواية1- فقد وقع الاختيار عليه ليقود الحملة العسكرية الجديدة، وأمده الخليفة عبد الملك بالخيل والرجال والعتاد والمال. سار زهير بن قيس بجيشه إلى "القيران" سنة "69هـ/ 688م"، وكان كسيلة قد تركها هو ومن معها من البربر والروم، واحتمى بالجبل على مقربة منها، فلما وصل زهير لم يدخل المدينة وإنما أقام بظاهرها ثلاثة أيام، إلى أن استراح الجيش استعدادا للمعركة الكبرى، وفي اليوم الرابع التقى الجمعان بالقرب من القيروان -على مسيرة يوم منها- في معركة لم تعرف "إفريقية" لها مثيلا من قبل؛ إذ فشى القتل في الفريقين "حتى يئس الناس من الحياة" كما يقول الرواة، وما كاد اليوم يشرف على الانتهاء حتى حقق المسلمون نصرا كبيرا، فانهزم البربر والروم، وقتل "كسيلة" وكثير من كبار أصحابه، وطارد المسلمون فلول المنهزمين إلى مسافات بعيدة2. عودة زهير إلى "برقة" ومقتله في معركة مع الروم "69هـ/ 688م": رجع زهير إلى "القيروان" ليرتب أمورها ويصلح من أحوال المسلمين بها. وبعد أن تم له من ذلك ما أراد واطمأن إلى أنه لم يعد هناك خطورة "لخلو البلاد من عدو أو ذي شوكة" أعلن أنه عائد إلى المشرق ومن أراد من أصحابه. ويبدو أنه لم يكن مستريحا للمقام في تلك البلاد، ويفسر الرواة ذلك بأن زهيرا "كان من رؤساء العابدين وأشراف المجاهدين وكبراء الزاهدين، وأنه رأى بإفريقية ملكا عظيما فأبى أن يقيم وقال: إنما قدمت للجهاد، فأخاف أن أميل إلى النيا فأهلك"3.   1 البيان المغرب "1/ 31". 2 البيان المغرب "1/ 32-33"، الكامل "3/ 453". 3 البيان "1/ 33"، فتوح مصر والمغرب ص"202". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وكان الروم بالقسطنطينية فد بلغهم مسير زهير ومعه الجيش كله من "برقة" إلى "القيروان" لقتال كسيلة، فاغتنموا الفرصة وخرجوا من جزيرة "صقلية" في مراكب كثيرة وقوة عظيمة فأغاروا على "برقة"، وأصابوا فيها سبيا كثيرا وقتلوا ونهبوا، وأقاموا بها مدة أربعين يوما1. وقد وافق ذلك رجوع زهير إلى المشرق فأخبر بخبرهم، فأمر العساكر بالإسراع والجد في قتالهم، وعجل هو بالمسير ومعه سبعون من أصحابه أكثرهم من التابعين وأشراف العرب المجاهدين، وعندما علم الروم بقدومه أخذوا في الاستعداد للرحيل عن "برقة"، وفي الوقت الذي وصل "زهير" فيه إلى ساحل مدينة "درنة" -التي اتخذها الروم مركز لهم- كان الروم يدخلون سباياهم من نساء المسلمين وذراريهم إلى المراكب. قال ابن الأثير: "فلما رآه المسلمون استغاثوا به فلم يمكنه الرجوع، وباشر القتال، واشتد الأمر، وعظم الخطب، وتكاثر الروم عليهم، فقلتوا زهيرا وأصحابه، ولم ينج منهم أحد، وعاد الروم بما غنموا من القسطنطينية"2. وهكذا أصيب المسلمون بكارثة ثانية في "إفريقية"، ووصلت أنباء مقتل زهير وأصحابه إلى "دمشق"، فكان لها رنة حزن عميقة، وتوقف الفتح مرة أخرى عدة سنوات، وكان لا بد من مواجهة حاسمة بعد أن طال الأمر كثيرا.   1 د. سعد زغلول: تاريخ المغرب العربي "ج1 ص176". 2 الكامل "3/ 453-454". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المرحلة الثالثة: إتمام الفتح وتثبيت سلطان المسلمين في المغرب "73-95هـ/ 692-714م" أولا: حسان بن النعمان والقضاء على مقاومة الروم والبربر "73-85هـ / 693-705" كان لا بد للخليفة عبد الملك بن مروان من القيام بعمل كبير يمحو به عن المسلمين ما خلفته تلك السنوات الطوال من الجهاد في الجناح الغربي للدولة الإسلامية، ولكنه لم يكن في وضع يسمح له بالعمل الإيجابي في المغرب؛ فقد كان مشغولا بمحاربة منافسة عبد الله بن الزبير "أحد أبطال سبيطلة". وبعد أن انتهت هذه الأزمة السياسية بمقتل ابن الزبير "سنة 73هـ/ 693م" واجتمع المسلمون على خلافة عبد الملك انصب تفكيره واهتمامه على الإعداد لملحمة جديدة؛ فعهد بولاية المغرب إلى أحد مشاهير قادة الشام، وهو حسان بن النعمان الغساني -الملقب بالشيخ الأمين- "سنة 73هـ/ 692م"، وأمده بجيش بلغت عدته أربعين ألف مقاتل، وأمره بالمقام في مصر، وفوضه في أموال خراجها للإنفاق منه على الفتح1. أما أحوال "إفريقية" عقب استشهاد زهير بن قيس في الفترة من "69هـ/ 688م" إلى "73هـ/ 692م" -بإيجاز- فقد عادت بعض السيطرة البيزنطية على أجزاء من الساحل الإفريقي، وخاصة في "قرطاجنة". كما أن قبيلة "أوربة" -البرنسية التي كان كسيلة الأوربي يتزعمها- بدأت في التقهقر عن مركز الصدارة في جبال "الأوراس"، تاركة المجال لقبيلة أخرى شديدة المراس تدعى "جراوة" -من قبائل البربر "البتر"- وتقودها امرأة لقبها العرب بالكاهنة، واسمها "داهيا بنت ماتية"، وكانت على جانب كبير من المهارة والقدرة، وتمكنت من تجميع قبائل جبال "الأوراس" تحت إمرتها، حتى أصبح "جميع من بإفريقية من الروم منها خائفون وجميع البربر لها مطيعون" حسب تعبير المؤرخين2. الجولة الأولى لحسان بن النعمان: النصر ثم الهزيمة: 1- خرج حسان بن النعمان من مصر أوائل سنة 74هـ/ 693م" على رأس جيشه، ووصل به إلى "طرابلس"، فانضم إليه من كان هناك من المسلمين، ثم سار إلى "إفريقية" ودخل "القيروان" حيث أعد نفسه للغزو3. وقد اتبع حسان خطة عسكرية جديدة أساسها مقابلة أعدائه من الروم والبربر، كل على حده، حتى يسهل القضاء عليهم. وبدأ بالروم، فاتجه بكل قواته إلى "قرطاجنة"، وهي عاصمة "إفريقية" القديمةن ومصدر المقاومة الثابت، ولم يكن أحد من القادة السابقين قد تمكن من فتحها، فضرب عليها الحصار، وكان بها عدد كبير   1 البيان المغرب "1/ 34". وراجع: الكامل "4/ 135". 2 البيان المغرب "1/ 35". وراجع: التطور السياسي للمغرب للدكتور طاهر راغب، ص"62". 3 البيان "1/ 34"، الكامل "4/ 135". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 من الروم، خرجوا عن بكرة أبيهم للتقال مع ملكهم فنصره الله عليهم، وقتل منهم خلقا كثيرا، وفر الباقون في المراكب إلى جزائر البحر وخاصة نحو "صقلية"1. 2- وبعد هزيمة القرطاجنيين تصدى حسان بن النعمان لتحالف "بيزنطي/ بربري" جديد. فقد حاول الروم أن ينتقموا من المسلمين لاستيلائهم على "قرطاجنة"، فاجتمعوا في موضع يسمى "صطفورة"، وأمدهم البربر بعسكر عظيم، فزحف إليهم حسان، وقاتلهم حتى هزمهم، وتمخضت المعركة عن عدد كبير من قتلى التحالف البيزنطي البربري، وعلى إثرها هر بمن بقي من الروم إلى مدينة "باجه" خائفين، وتراجع البربر إلى مدينة "بونة". ثم انصرف حسان إلى مدينة "القيروان" فأقام بها حتى برئت جراح أصحابه2. 3- بقي أن يتصدى حسان للتجمع البربري الضخم والشرس في منطقة جبال الأوراس في الداخل، بقيادة "الكاهنة" التي تمكنت -كما ذكرنا- من تجميع قوي البربر وئاستها لهم بعد مقتل "كسيلة الأوربي". وكان حسان قد أدرك أن هذا التجمع له خطورة قصوى، ولا بد من التصدي له، وأنه إن تمكن من التغلب عليه فقد دان له المغرب كله، وسقطت فيه آخر قاعدة ضخمة للمقاومة، وقد ذكر ابن عذارى هذا المعنى في قوله: "لما دخل حسان القيروان أراح بها أياما، ثم سأل أهلها عمن بقي من أعظم ملوك إفريقية، ليسير إليه فيبيده أو يسلم، فدلوه على امرأة بجبل أوراس يقال لها الكاهنة، وجميع من بإفريقية من الروم منها خائفون، وجميع البربر لها مطيعون، فإن قتلها كان لك المغرب كله، لم يبق لك مضاد ولا معاند"3. ولذلك توجه إليها حسان بجيوشه والتقى معها عند وادي "مسكيانه". ورغم ما تقوله النصوص التاريخية من أن الجيش الإسلامي كان في أعلى الوادي "أي في مركز استراتيجي جيد"، وأن جموع البربر كانت في أسفله فإن القتال المرير انتهى بهزيمة حسان هزيمة منكرة أدت إلى ضياع كل "إفريقية" وراتداد المسلمين إلى حدود مدينة   1 الكامل "4/ 135". البيان المغرب "1/ 34-35". 2 المصدران السابقان، إضافة إلى: رياض النفوس للمالكي، ص"32". 3 البيان المغرب "1/ 35". وراجع: المسلمون في المغرب والأندلس، للدكتور محمد محمد زيتون، ص"53"، التطور السياسي للمغرب، للدكتور طاهر راغب، ص"64". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 "قابس"1 "راجع موقع قابس على الخريطة". ويصف المؤرخون هذا اللقاء بأن الفريقين "اقتتلوا قتالا شديدا، فعظم البلاء، وظن المسلمون أنه الفناء، وانهزم حسان بعد بلاء عظيم، فاتبعته "الكاهنة" بمن معها حتى خرج من حد قابس، فأسلم إفريقية، ومضى على وجهه، وأسرت من أصحابه ثمانية رجال، وقيل: ثمانين رجلا". وقد سمى الوادي الذي وقعت فيه المعركة بـ "وادي العذارى" لكثرة من قتل فيه من زهرة شباب المسلمين2. وعلى إثر هذه الهزيمة استرد الروم عاصمتهم "قرطاجنة"، وكان استردادهم لها متسما بالقسوة والعنف، فقد أعدوا أسطولا كبيرا بقيادة البطريق يوحنا، وهاجموا المدينة "سنة 78هـ/ 697م"، وتمكنوا من الفتك بالحامية العربية الموجودة فيها، حتى ليقال: إن قائد الحملة كان يباشر قتل المسلمين بيده3. وقد كتب حسان إلى الخليفة بخبر هذه الهزيمة وما ترتب عليها، وكان مما قال: "إن أمم المغرب ليس لها غاية، ولا يقف أحد منها على نهاية، كلما بادت أمة خلفتها أمم، وهي من الحفل والكثرة كسائمة النعم". فعاد الجواب يأمره أن يقيم حيث وافاه، فورد عليه فيه "برقة"، فأقام بها، وبنى هناك قصورا عرفت بصورة حسان4. وهكذا اضطر المسلمون إلى التخلي عن فتوحهم في المغرب للمرة الثالثة خلال عشر سنوات فقط "من 65- إلى 74هـ"، وتطلب الأمر إلى خمس سنوات طوال لاسترجاع البلاد التي سادتها تلك المرأة الكاهنة. الجولة الثانية: النصر والتمكين النهائي تأخر وصول المدد من الخليفة لمدة تصل إلى خمس سنوات، وقيل: ثلاث سنوات، وهي مدة طويلة جعلت الكاهنة صاحبة الشأن في تصريف شئون "إفريقية". وكان مما فعلته -وأجمع عليه المؤرخون القدامى- أنها اتبعت ما يسمى "حرب الأرض المحروقة"، وهي سياسة حربية تقوم على التخريب، وترك الأرض خرابا   1 تقع مدينة "قابس" على بعد "250" كيلو متر من "طرابلس". 2 رياض النفوس للمالكي، ص"32"، وراجع البيان المغرب "1/ 36"، والكامل "4/ 135-136". 3 راجع: فتح العرب للمغرب للدكتور حسين مؤنس ص"254"، حركة الفتح الإسلامي، لشكري فيصل، ص"174". 4 البيان المغرب "1/ 36". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أمام الخصم حتى لا ينتفع بخيراتها ويزهد في الإقامة بها. وقد درست الكاهنة موقف العرب والمسلمين، وعرفت أنهم عائدون بعد حين كما فعلوا من قبل، فعمدت إلى تخريب المدن والقرى، وهدم الحصون، وحرق أشجار الزيتون والكروم. ويروي المؤرخون قولها للبربر: "إن العرب إنما يطلبون من إفريقية المدائن والذهب والفضة ونحن إنما نريد منها المزارع والمراعي، فلا نرى لك إلا خراب بلاد إفريقية كلها، حتى ييئس منها العرب، فلا يكون لهم رجوع إليها آخر الدهر"1. ولقد أخطأت "الكاهنة" هدفها وظنت أن المسلمين إنما يقدمون للسلب والنهب والاستيلاء على المدن والذهب والفضة كما كان يفعل الغزاة سابقا، ولم تعرف أنهم حملة رسالة، ومبلغي دعوة، ودعاة إلى دين الله تعالى. وقد عجل هذا الفعل منها بالقضاء عليها، وجعل أهل البلاد من الروم خاصة وأتباعهم من الأفارقة يفرون إلى جزائر البحر، بل ويستغيثون بحسان بن النعمان فيما نزل بهم من خراب2. أما بالنسبة لحسان فقد قضى مدة السنوات الخمس يستعد لخوض المعركة الفاصلة ويأخذ لها الأهبة كاملة، واستطاع -من خلال التخابر والاستطلاع- أن يعرف مواطن القوة والضعف في صفوف العدو. وعندما أتم حالة الاستعداد، ووصلته الأمداد من جنوب العرب وفرسانهم وممن انضم إليهم من مسلمي البربر سار إلى الكاهنة، والتقى بها مع جيشها، وتمكن من هزيمتها وقتلها، "واقتحم جبال الأوراس عنوة، واستلحم فيه زهاء مائة ألف"3. وكان من ثمرات هذا النصر المبين أن سارع كثير من البربر يطلبون الأمان ويعلنون الإسلام والطاعة، لكن -لما يعرفه حسان من كثرة ارتداد البربر- "لم يقبل أمانهم إلا أن يعطوه من جميع قبائلهم اثني عشر ألفا يكونوا مع العرب مجاهدين، فأجابوه، وأسلموا على يديه"4.   1 البيان المغرب "1/ 36"، والكامل "4/ 136، وراجع: تاريخ العرب العربي، للدكتور سعد زغلول عبد الحميد "1/ 187-188". 2 راجع: تاريخ إفريقية والمغرب، للرقيق القيرواني، ص"48-49". 3 العبر لابن خلدون، ج7، ص"9". وراجع: البيان المغرب "1/ 37-38"، الكامل "4/ 136-137". 4 البيان المغرب "1/ 38". ومن الجدير بالذكر أن حسان بن النعمان حينما تحرك بالجيش لمحاربة الكاهنة أدركت أن نهايتها قريبة. وعلى الرغم من أنها لم ترض بالاستسلام ووجدت أن ذلك من العار؛ لأن الملوك لا يستسلمون فإنها رأت أن تأخذ لولديها الأمان، وينضموا إلى جانب حسان. وقد أسلما وحسن إسلامهما، وأصبحا من المجاهدين المسلمين، وعهد حسان إليهما بالقيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 هكذا قضى العرب المسلمون على آخر حركة للمقاومة قام بها أهالي البلاد، إذ كانت الكاهنة هي الحصن الأخير الذي احتمى وراءه البربر والروم، فلما سقطت انتهت كل مقاومة، ولم يبق أمام العرب بعد ذلك إلا "غبار قبائل". أما عن "قرطاجنة" التي استعادها الروم "سنة 78هـ" بعد حملة حسان بن النعمان الأولى فقد سار إليها حسان، وطرد منها الحامية الرومية التي استقرت فيها بقيادة البطريق يوحنا، واستولى على المدينة عنوة وقام بتخريبها حتى "صارت كأمس الغابر" كما يقول ابن عذارى1. ولم يعد لها بعد ذلك أثر يذكر، غير أن الفرنسيين عندما احتلوا إقليم تونس -في العصر الحديث- أحيوها من جديد في صورة ضاحية لمدينة تونس الحالية، وعرفت باسمها الفرنسي، وهو "قرطاج" وقد أصبحت الآن جزءا من مدينة تونس. وإذا كان عمرو بن العاص عندما دخل "الإسكندرية" فاتحا -في المرة الثانية- أقسم ليهدمن سورها، فإن حسان بن النعمان قرر أن يتخلص من "قرطاجنة" كلها، وهي الباب الذي يأتي منه الروم، وذلك بسبب تطرفها وصعوبة الدفاع عنها2. أعمال حسان بن النعمان الإصلاحية في المغرب وبداية التحول الفعلي لأهل البلاد إلى الإسلام: بهذا يكون حسان بن النعمان قد أتم فتح "إفريقية" و"المغرب الأوسط"، ورأى أن عليه -قبل أن يسترسل في إكمال الأعمال العسكرية- أن ينظم هذه البلاد الواسعة التي دانت بعد ما يقرب من ستين "60" عاما منذ بدأ عمرو بن العاص فتحها "سنة 21هـ/ 642م"؛ فقام ببعض الأعمال الإنشائية والإدارية المهمة، كان لها الأثر البعيد في بلاد المغرب، وتثبيت الإسلام فيها إلى آخر الدهر إن شاء الله، فمن ذلك: 1- أنه اهتم بعمران مدينة "القيروان" على نحو تتسع معه لجموع العرب والمسلمين التي سكنتها حتى أصبحت المدينة جديرة بمركزها كعاصمة للبلاد بدلا من   1 البيان المغرب "1/ 35". 2 راجع: تاريخ المغرب العربي، للدكتور سعد زغلول عبد الحميد، ص"194-195". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 "قرطاجنة"، كما أنه جدد مسجدها وأحسن بناءه، وأقام في المدينة يوجه منها شئون البلاد ويدير أحوالها. وقد عمرها المسلمون حتى انتشر فيها العمران، واتسعت رقعتها1. 2- ولم يكن حسان مطمئنا من ناحية الروم، وكان يرى أن سقوط "قرطاجنة" وتخريبها لا يمنع من عودتهم إلى مكان آخر من الساحل، فعول على إنشاء ميناء إسلامي جديد على مقربة من "قرطاجنة" ليشرف على البحر، ويحول بين الروم وبين الاقتراب. ومن هنا شرع في بناء مدينة "تونس"2 "سنة 84هـ/ 703م"، وتزويدها بدار صناعة لبناء الأساطيل. وعلى الرغم من أن "تونس" لم تزد -عند إنشائها في عهد حسان بن النعمان- عن محرس صغير به بعض المساجد والمباني السكنية ودار صناعة السفن -فإنها ستصبح بعد ذلك بثلاثين سنة في ولاية عبيد الله بن الحبحاب "116-123هـ" ثغر إفريقية الكبير، ويتكون فيها أسطول عظيم يغزو المسلمون به جزيرة "صقلية" وجنوب إيطاليا، بل وجنوبي فرنسا، ويمهدون به السبيل للسيطرة على غرب البحر الأبيض المتوسط3. 3- وكان حسان بن النعمان أول من أدخل البربر بشكل منظم في الجيش العربي الإفريقي وحرص على أن يشرك معه نفرا من أهل القبائل في حروبه، وجعل اشتراكهم معه في الحرب شرطا لتأمينهم، أي إنه فرض الخدمة العسكرية على أهلها البلاد، جنبا إلى جنب مع العرب. وكانت تلك خطوة موفقة استطاع بها حسان أن يضمن ولاء البربر، وأن يحبب إليهم الإسلام. وإذا كان الغرض من الفتح الإسلامي هو نشر الإسلام والتعريب -وتلك هي رسالة المسلمين- فإن انضمام البربر إلى الجيش العربي، يعني دخولهم في الإسلام.   1 فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص"201"، البيان المغرب "1/ 38"، الكامل "4/ 136". 2 سميت بذلك؛ لأنه توجد قرب موضعها قرية قديمة تسمى "تينس" "Tynes" وكانت الأرض التي أقيمت عليها المدينة تسمى "ترشيش" -أو "ترسيس" "بالمهملتين"، وتقع على جزء من خليج واسع يسمى "خليج رادس" "راجع: المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب للبكري -ص37، 84". 3 راجع: فجر الأندلس، لحسين مؤنس، ص"45"، وتاريخ البحرية الإسلامية في حوض البحر المتوسط للدكتور العبادي، والدكتور السيد عبد العزيز سالم، ج2، ص"28-34". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ولم يكتف حسان بأن يشرك هؤلاء البربر في حروبه ويجعل لهم نصيبا من الغنائم وإنما رتب لهم أعطيات تصرف لهم من بيت المال، وساوى بينهم وبين العرب في هذا العطاء وفي المعاملة، فأحبه البربر، وأخلصوا للدولة، حتى صاروا -يفيما بعد- نواة لفتح شبة الجزيرة الإيبيرية "إسبانيا"1. 4- اهتم حسان بتعليم البربر القرآن وأصول الإسلام، وعهد بهذه المهمة إلى ثلاثة عشر فقيها من أفاضل التابعين2. وبطبيعة الحال كان تعليم القرآن لهؤلاء البربر وغيرهم يعني تعليمهم اللغة العربية، ونشر الأخلاق الإسلامية، واكتسابهم إلى العروبة بصفة نهائية، وبذلك سار التعريب جنبا إلى جنب مع الإسلام منذ البداية. 5- قسم الأراضي خططا للبربر، أي اختص كل قبيلة بخطة تتصرف بها، وتؤدي مالها، وتكون مسئولة عنها. 6- دون الدواوين، أي نظم شئون الحكومة، وعين الموظفين على نواحي الإدارة؛ من خراج، وزكاة، وجند، وما إلى ذلك، واختارهم من ذوي الحزم والحصافة، ومن ذوي الدين والإخلا والنزاهة3. 7- اعتبر أرض المغرب مفتوحة صلحا لا عنوة، فأقر البربر على ما بيدهم من الأرض، ومعنى ذلك أن يؤدوا عنها "الخراج". أما الأراضي التي كانت ملكا للبيزنطيين ومن قاوم الفتح من الأفارقة فقد اعتبرها حسان مفتوحة عنوة، ولذا اعتبرها من أملاك المسلمين، واعتبر من وجدهم عليها موالي لهم، فكان لهذه الناحية أثر طيب في نفوس البربر4.   1 فتح العرب للمغرب، لحسين مؤنس، ص"274-275". تاريخ المغرب والأندلس، للدكتور هاشم عبد الراضي، والدكتور محمد عبد الحميد الرفاعي، ص"74". 2 نص جديد عن فتح العرب للمغرب -نشره بروفنسال بمجلة المعهد المصري بمدريد، سنة "1954م"، ص"223". وراجع: تاريخ المغرب العربي للدكتور سعد زغلول، ص"198"، معالم تاريخ المغرب والأندلس، للدكتور حسين مؤنس، ص"49". 3 البيان المغرب "1/ 38"، وراجع: فتح العرب للمغرب، ص"276". 4 فتح العرب للمغرب، ص"276". المغرب الإسلامي للدكتور حسن علي حسن "الجزء السادس من موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي ص19". وراجع أيضا: البيان المغرب "1/ 38"، كتاب الخراج لأبي يوسف "صاحب أبي حنيفة"، الفصل الذي عنوانه: "في إسلام قوم من أهل الحرب وأهل البادية على أرضهم وأموالهم". وراجع: فتح العرب للمغرب، ص"276". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 8- عين القضاة في النواحي المختلفة للفصل في الخصومات، والحكم بين الناس بكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم. وبهذه التنظيمات الإدارية والمالية التي وضعها حسان بن النعمان دخل تاريخ "إفريقية" الإسلامية في دور جديد، وتحولت إلى قاعدة إسلامية ينطلق منها المسلمون إلى ما يليها غربا. ولهذا يعتبر هذا الفاتح العظيم من أكابر بناة الدولة الإسلامية، والفاتح الحقيقي لبلاد المغرب. وقد استحق -عن جدارة- أن يسمى "الشيخ الأمين"1.   1 البيان المغرب "1/ 39". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ثانيا: ولاية موسى بن نصير، واستقرار الفتح " 85-95هـ/ 705-714م" وبعد سنة واحدة من إنشاء ميناء تونس جاء قرار عزل حسان بن النعمان عن ولاية المغرب في أواخر "سنة 85هـ/ 705م"، أو في أوائل "سنة 86هـ" وعين موسى بن نصير مكانه أميرا على البلاد2. والحق أن حسان بن النعمان -وإن كان قد مهد "إفريقية" و"المغرب الأوسط" -فإن المغرب الأقصى لم يكن قد تمهد أمام المسلمين، وهذا ما وقع على كاهل موسى ابن نصير، ولا شك أنه أفاد من تجارب الفاتحين السابقين، وكانت حملاته أشبه بنزهات عسكرية -كما يقال- "لأن الإقليم كان قد عرف من قبل جهاد المسلمين وبأسهم، وحرصهم على تمام الفتح، كما أن عددا من البربر لا يستهان به دخل الإسلام وعرفه، وأن عددا منهم شارك في الجهاد مع حسان بن النعمان كما عرفنا، بالإضافة إلى ما عرف من مهارة موسى بن نصير وحنكته وحبه للجهاد"3. وقد بدأ موسى أعماله الحربية بالقضاء على بقايا جيوب المقاومة في "إفريقية"،   1 البيان المغرب "1/ 39". 2 راجع قصة العزل وأسبابه والخلاف الوارد في تاريخه: البيان المغرب "1/ 38-39"، فتح العرب للمغرب لحسين مؤنس، ص"263-265"، وتاريخ المغرب العربي، لسعد زغلول عبد الحميد، ص"203-206". 3 د. طاهر راغب: التطور السياسي للمغرب، ص"72-73". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فسير كتيبة من خمسمائة فارس إلى قلعة "زغوان" -على مسيرة يوم من القيروان- فتم فتحها، ودخل القيوان من سبيها عشرة آلاف. هذا، في الوقت الذي أرسل فيه "موسى" أبناءه على رأس مجموعات من الجند لإخضاع المناطق المحيطة بالقيروان، وقد نجحوا في تحقيق ما خرجوا من أجله، وكان الهدف من الحملات تأمين الخطوط الخلفية إذا ما خرج "موسى" للجهاد في المغربين: الأوسط والأقصى1. توجه موسى -بعد ذلك- إلى المغرب الأوسط لتوطيد أقدام الفتح فيه، إكمالا لما قام به حسان بن النعمان، وقد "رأى أن البربر قد طمعوا في البلاد" -كما يقول ابن خلدون2- حيث بدأت بعض العناصر البربرية من المهيمنين على هذا الإقليم في التحرك، وهم من قبائل "زناتة" و"هوارة" و"كتامة"، يقودهم رجل يدعوى "طامون. وكان على موسى -لكي يتهيأ له السيطرة التامة على المغرب الأوسط- أن يقضي على قوة هذا الرجل مثلما سبق لحسان أن قضى على الكاهنة من قبل. وبالفعل تمكن موسى به القضاء عليه، وأرسله إلى مصر حيث قتل هنالك3. وقد ظهرت آثار هذا النصر سريعا، فبدأت القبائل -وعلى رأسها "كتامة"- في طلب الأمان، وإرسال الرهائن، دليلا على الدخول في الطاعة وصدق النوايا4. وبذلك تمكن موسى من السيطرة على المغرب الأوسط، وبقي عليه أن ينطلق إلى "المغرب الأقصى"، لقتال القبائل التي ما زالت خارج سيطرة المسلمين. ويبدو أن أخبار موسى وانتصاراته قد وصلت إلى سكان هذا الإقليم فعرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فهربوا أمامه، وسهل عليه فتح الإقليم بسرعة واضحة، فمال إلى المدن الكبرى ومواطن التجمعات البربرية، فافتتح "درعة" وصحراء "تافيلالت" في "السوس الأقصى" -أو سجلماسة- وسيطر على قبائل "صنهاجة" و"المصامدة"، وأخضعها كلها للإسلام، فدخول فيه طوعا، وولى عليهم واليا5.   1 الإمامة والسياسة "2/ 63"، وراجع أيضا: تاريخ المغرب العربي، لسعد زغلول عبد الحميد، ص"209". والمغرب الإسلامي، للدكتور حسن علي حسن "موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي 6/ 20". 2 العبر، لابن خلدون "4/ 187". 3 البيان المغرب "1/ 41"، وراجع: التطور السياسي للمغرب للدكتور طاهر راغب، ص"73". 4 البيان المغرب "1/ 41". 5 البيان "1/ 42". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وبعد أن تم لموسى إخضاع هذه المناطق في جنوب المغرب الأقصى تطلع نحو إقليم طنجة -في الساحل الشمالي الغربي- التي كانت للأمير الرومي "يوليان" منذ أيام عقبة بن نافع1 "راجع الخريطة"، فنجح في انتزاع "المدينة" وما حولها لأول مرة، وكان "بها من البربر بطون من البتر والبرانس ممن لم يدخل في الطاعة"2. وقد ترك موسى على ساحل "طنجة" حامية عسكرية للرباط تتكون من ألف وسبعمائة "1700" رجل من العرب، واثني عشر "12" ألف من البربر، وولى عليهم قائده ومولاه البربري "طارق بن زياد"3. وبذلك تم فتح "المغرب الأقصى" كله، عدا مدينة "سبتة" الساحلية القريبة من "طنجة"، استعت على المسلمين لمناعتها، وبقية في يد "يليان" إلى حين. وقد رأى موسى بن نصير ضرورة تأمين هذا الفتح المجيد عن طريق غزو جزيرة صقلية التي كان من الممكن أن يتخذها اليزنطيون قاعدة لضرب المغرب. ولقد مهد لذلك بالاهتمام بعمران مدينة تونس، وتوسيع دار الصناعة بها، ثم جهز حملة بقيادة "عياش بن أخيل"، فسار بالأسطول إلى جزيرة صقلية، ونزل على مدينة فيها تسمى "سرقوسة"، "فغنمها وجميع ما بها، وقفل سالما غانما"4. وعلى الرغم من أن هذه الغزوة كانت سريعة، وعاد منها المسلمون بمغانم وفيرة، فإنها تعد بداية لنشاط المسلمين الواسع في الحوض الغربي للبحر المتوسط، الذي سيتحول شيئا فشيئا إلى بحيرة إسلامية، وخاصة بعد فتح إسبانيا "الأندلس" -"92هـ/ 711م"- ثم فتح صقلية في أوائل القرن الهجري الثالث، وبالتحديد "سنة 212هـ/ 827م". ولم يكتف موسى بالنواحي العسكرية، وإنما بدأ بمهمة أخرى لا تقل أهمية عن جهاده الحربي، وهي تثبيت الإسلام، وتعليم اللغة العربية؛ فقد عهد إلى الدعاة   1 المقصود بطنجة -هنا- الولاية التي كانت في القديم تتسع لمسيرة شهر، وليس المدينة المسماة بهذا الاسم، وكانت "سبته" تابعة لهذه الولاية، ومناطق أخرى في "السوس الأدنى"، وهي البلاد الواقعة على مدينة طنجة نفسها، "راجع: تاريخ المغرب العربي، لسعد زغلول عبد الحميد ص212". 2 فتوح مصر والمغرب، لابن عبد الحكم، ص"205". 3 البيان المغرب "1/ 43". 4 المصدر السابق، والصفحة نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 بتعليم البربر القرآن الكريم، وتفقيهم في الدين1. كما أنه حرص على حسن معاملتهم، وأشركهم في حكم البلاد كما فعل حسان بن النعمان، ويتضح ذلك من تولية طارق بن زياد على "طنجة" عاصمة المغرب الأقصى. وسيقود طارق -فيما بعد "92هـ/ 711م"- جيشا كبيرا، جله من البربر، لفتح شبه الجزيرة الإيبيرية "إسبانيا"، وحمل رسالة الإسلام لأول مرة عبر البحر إلى القارة الأوربية من ناحية الغرب، بعد أن فشل المسلمون كثيرا في دخول هذه القارة -عبر القسطنطينية- من الشرق. من نتائج الفتح الإسلامي للمغرب 2: ولا شك في أن الفتح الإسلامي لبلاد المغرب قد أحدث تغييرا دينيا وسياسيا واجتماعيا، وهو ما عجز عنه الغزو الروماني أو البيزنطي لهذه البلاد؛ وكان ذلك لاختلاف الهدف بين الفريقين، فعلى حين كان المسلمون يتطلعون إلى نشر الدين الإسلامي واستمالة البربر نحوه، وزيادة مساحة الدولة الإسلامية، كان البيزنطيون يهدفون إلى استعباد الشعوب واستغلال ثروات البلاد. ومن ثم فقد كان من أبرز نتائج الفتح الإسلامي: 1- انتشار الإسلام بين قبائل البربر، وإرشادهم إلى العقيدة الصحيحة السهلة، ولذا تحمت قبائل البربر للدين الإسلامي، وانضموا تحت لوائه لنشره والدفاع عنه، وتمتع البربر بجميع الحقوق التي كان يتمتع بها سائر المسلمين آنذاك. 2- تصور المجتمع البربري، وتغيرت عاداته وتقاليده بعد الفتح الإسلامي واحتكاك البربر بالفاتحين. 3- بدأت اللغة العربية في الانتشار بين البربر، وساعد على انتشارها كونها لغة الدين الجديد، مما رغب البربر في تعلمها حتى يتفقهوا في الدين، ويتعلموا قواعد الإسلام، فضلا عما كان لتعريف الدواوين على مستوى الدولة الإسلامية في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، من أثر في انتشار اللغة العربية في جميع أرجاء   1 البيان المغرب "1/ 43". 2 راجع: تاريخ المغرب والأندلس للدكتور هاشم عبد الراضي، والدكتور محمد عبد الحميد الرفاعي، ص"76-78"، تاريخ المغرب والأندلس، للدكتور محمد المنسي عاصم، ص"48-49". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الدولة الإسلامية حتى صارت لغة الإدارة الحكومية، فضلا عن كونها لغة الدين والفكر والثقافة الإسلامية. 4- ساهم البربر مساهمة كبيرة في الجيش الإسلامي، وبخاصة عندها فتح العرب ميدانا جديدا كانوا يتحرقون شوقا إلى مثله، وهو ميدان الأندلس لنشر الإسلام، لكان "طارق بن زياد" قائد حملة الفتح من البربر، وكان معظم قادة الجيش منهم. 5- إنشاء عاصمة إسلامية بالمغرب لتكون حاضرة من حواضر نشر الإسلام ألا وهي القيروان. 6- إنشاء عدد من المساجد كان لها دور عظيم في نشر الثقافة الإسلامية، فهي منارات العلم، ومراكز الإشعاع الحضاري. 7- وأخيرا فإن من أبرز النتائج السياسية للفتح: إبراز القوة الإسلامية وتصديها للروم -العدو الدائم للمسلمين- وكسر شوكتهم، وبسط النفوذ الإسلامي، وانحسار سلطان الدولة البيزنطية. ومن خلال هذه المعطيات يمكن القول: إن الفتح العربي الإسلامي لبلاد المغرب لم يكن فتحا عسكريا، وإنما كان -في المقام الأول- فتحا حضاريا، أثر في الحياة العامة المغربية تأثيرا كبيرا، وحقق لها وحدتها في الدين واللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فتح إسبانيا وبلاد الغال "جنوب فرنسا" : أ- فتح إسبانيا: يعتبر فتح إسبانيا "الأندلس"، تابعا لفتوح المسلمين في الغرب، وقد كان فتحا رائعا من الناحية العسكرية أضاف إلى دولة الإسلام قطرا ضخما من أقطار أوروبا، وامتد الإسلام به على ثلاث قارات. وبهذا الفتح نجح المسلمون في دخول القارة الأوروبية من الغرب، في حين فشلوا في دخولها بمحاولة فتح "القسطنطينية" من الشرق، ثم أتيحت لهم الفرصة بعد ذلك للتوغل في غرب أوروبا حتى وصلوا إلى قرب نهر "السين" في جنوب بلاد غالة "فرنسا". ومن ذلك الحين أصبح الإسلام عاملا رئيسيا من العوامل الموجهة لتاريخ الغرب الأوروبي1. وكان "القوط" -وهم قبائل جرمانية- آخر الشعوب التي حكمت "إسبانيا"، في الفترة ما بين أوائل القرن الخامس الميلادي إلى أن فتحها المسلمون "سنة 711م"، أي قرابة قرنين من الزمان. وقد اتخذوا من مدينة "طليطلة" -في شمال البلاد- عاصمة لهم. وفي السنوات الثلاثين الأخيرة من حكم القوط في "إسبانيا" أساءوا الحكم بين الرعية، إلى الحد الذي جعل المستشرق الفرنسي "ليفي بروفنسال" يطلق على هذه السنوات وصف "السنوات العجاف" بالنسبة لما يعرف من تاريخ إسبانيا القوطية، حيث كانت هذه الفترة مشحونة بالفوضى والاضطرابات، وأصاب المدن اضمحلال عام نتيجة لاضطراب أمور الدولة، وعدم الإحساس بالأمن، وسوء الأحوال المعيشية وسياسة الاستغلال. ويرجع السبب في ذلك إلى كثرة المنازعات والصراع بين الطبقات والحاكمين، وفيما بين الحكام القوط أنفسهم، إضافة إلى تفكك المجتمع الإسباني وقيامه على الطبقات المتحاجزة. وبعبارة مجملة: كانت إسبانيا قبل الفتح الإسلامي تشكو الفشل السياسي، والتأخر الاقتصادي، والتفكك الاجتماعي، والظلم الطبقي. وقبل الفتح بسنة واحدة -أو تزيد- قام أحد رجال الجيش -ويدعي "رودريك"   1 راجع: أطلس التاريخ الإسلامي للدكتور/ حسين مؤنس "ص135". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 "Rodrgo" -ويعربه العرب إلى "لذريق"- بالاستيلاء على السلطة، وعزل الملك "غيطشة" "Witiza" وأصبح الحاكم الفعلي للبلاد، واتبع سياسة ظالمة، فتغيرت قلوب الناس عليه، واشتعلت ضده نيران الثورات في "طليطلة" وغيرها، يقودها أتباع الملك السابق وأفراد أسرته، حيث كانوا يتحينون الفرصة لاستعادة ملكهم، وقد وجودها في الفتح الإسلامي، فلجأوا إلى المسلمين للاستعانة بهم1. مقدمات الفتح: بعد أن اغتصب "لذريق" عرق إسبانيا أمعن في مطاردة أفراد بيت الملك "غيطشة" وتتبع أنصاره بالأذى، ففروا من إسبانيا والتمسوا سبل النجاة، إما إلى أقصى الشمال، أو إلى مدينة "سبتة" وهي ولاية إفريقية تابعة للقوط، وكانت حصنا منيعا من الحصون الإفريقية التي لم يخضها المسلمون بعد، كما كانت ثغرا له قيمته على مضيق جبل طارق. ويبدوا أن حاكم "سبتة" آنذاك -ويدعى "يليان" "JULIAN" كان من أنصار الملك "غيطشة" وأنه كان يدين له بالولاء. ويقال: إنه كان يمت بصلة القرابة والنسب إلى أسرة الملك، فلما انتزع "لذريق" عرش إسبانيا من أصحابه عمد "يليان" -بمعاونة أنصار الملك المخلوع وأقربائه- إلى استرجاع ملكهم، مستعينا في ذلك بالمسلمين الذين دانت لهم بلاد الشمال الإفريقي، وكان ذلك مقدمة الفتح. وتتفق المصادر العربية على أن "يليان" توجه بنفسه إلى طارق بن زياد قائد القوات الإسلامية المعسكرة عند مدينة "طنجة" بالمغرب الأقصى -والقريبة من مدينة "سبتة"- يعرض عليه أن يساعده في دخول الأندلس. ولم يتردد طارق في الاتصال فورا بموسى بن نصير -وكان مقيما في القيروان- فأبلغه ما كان من أمر "يليان" ورحب بما عرضه عليه2.   1 راجع التفاصيل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي: المسلمون في الأندلس للمستشرق الهولندي "دوزي" -ترجمة د. حسين حبشي "ج1 ص27-47"، دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان "1/ 30-32"، وتاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس للدكتور السيد عبد العزيز السالم ص"51-65"، وتاريخ المسلمين في المغرب والأندلس للدكتور طه عبد المقصود ص"185-188". 2 ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب ص205 "ط الهيئة العامة لقصور الثقافة -سلسلة الذخائر"، ابن القوطية: تاريخ افتتاح الأندلس ص8 "ط بيروت 1958م". ابن عذارى: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ج2 ص6. نفح الطيب للمقري "1/ 229، 230، 231، 252-254". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 كان موسى بن نصير متلهفا على افتتاح الأندلس، لكنه لم يشأ أن يقحم المسلمين في مغامرة لا يعلم نتائجها إلا الله، ولم يكن قد وثق بعد بيليان، ثم إنه لا يستطيع أن يقبل على هذا العمل العسكري الكبير دون أن يستأذن الخليفة أو يستشيره فيما هو مقبل عليه. وهذا ما حدث بالفعل؛ فكتب إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك "يخبره بالذي دعاه إليه يليان من أمر الأندلس، ويستأذنه في اقتحامها. فكتب إليه الوليد "أن خضها بالسرايا حتى ترى وتختبر شأنها، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال". فراجعه "موسى": "إنه ليس ببحر زخار، إنما هو خليج منه يبين للناظر ما خلفه". فكتب إليه: "وإن كان، فلا بد من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه"1. لقد ترددت الخلافة -بادئ الأمر- بالقيام بمثل هذا العمل الكبير، خوفا على المسلمين من المخاطرة في مفاوز، أو إيقاعهم في مهالك. لكن موسى أقنح الخليفة بالأمر، ثم تم الاتفاق على أن يسبق الفتح اختبار المكان بالسرايا، أو الحملات الاستطلاعية. عمل موسى بن نصير بهذه النصيحة، وأرسل في رمضان "سنة 91هـ/ 711م" سرية استكشافية مكونة من خمسمائة جندي -فيهم مائة فارس- بقيادة "طريف بن مالك" الملقب بأبي زرعة، وهو مسلم بربري، ويقال إنه من أصل عربي ينتسب إلى قبيلة "معافر" أو "نخع" اليمنية2. وقد عبر هذا الجيش الزقاق "مضيق جبل طارق" من سبتة، بسفن "يليان" أو بسفن غيره، ونزل في جزية تعرف باسم "بالوما "PALOMAS" التي عرفت فيما بعد باسم "جزيرة طريف". وعادت هذه الحملة بالغنائم الوفيرة، وبالأخبار المشجعة على الاستمرار في عملية الفتح3. وقبل الحديث عن الخطوة التالية في فتح الأندلس نشير ها إلى ملاحظتين: الأولى: كانت فكرة فتح شبه الجزيرة الإيبيرية فكرة إسلامية خالصة. بل   1 نفح الطيب ج1 ص253، البيان المغرب ج2 ص5، أخبار مجموعة "ص5-6". 2 نفح الطيب "1/ 233، 254"، صفة جزيرة الأندلس "من الروض المعطار للحميري" "ص8". 3 راجع نفح الطيب "1/ 253"، دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان 1/ 40، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس للسيد عبد العزيز سالم ص70، التاريخ الأندلس للحجي ص45-46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ويروى أنها فكرة قديمة تمتد إلى أيام الخليفة الراشد عثمان بن عفان1. وكان القائد عقبة بن نافع الفهري "63هـ" يفكر في اجتياز المضيق إلى إسبانيا لو استطاع2. ويذكر الذهبي أن موسى بن نصير جهز ولده عبد الله، فافتتح جزيرتي "ميورقة" و"منورقة" وهما من الجزر القريبة من شواطئ إسبانيا الشرقية، وكان ذلك سنة 89هـ3، أي قبل الفتح بعامين تقريبا، أما الاتصال بيليان -حاكم سبتة- أو بغيره من الإسبان فإنه جاء مواتيا -على ما يبدو- في الوقت الذي كان موسى بن نصير يفكر في تنفيذ فكرة الفتحز ومن هنا يمكن القول: إن اتصالات الجانب الإسباني بموسى ومساعداتهم ربما كانت عاملا مساعدا سهل سير الفتح أو عجل به. لكن المبادأة ومرد العمليات وإنجازها كانت من الجانب الإسلامي الذي اندفع مع الفتح بقوة فائقة مرتكز على عقيدته4. والثانية: لقد اعتقد "يليان" -وأتباعه- أن الاتصال بالمسلمين في التخلص من "لذريق" الحاكم المستبد لا يزيد على الاستعانة بهم في إنزال ضربة قاصمة بالقوط، ثم يعودون إلى حدودهم ببلاد المغرب محلمين بالغنائم، وغاب عنهم أن المسلمين حملة رسالة سامية، وأنهم مكلفون بتبليغها لكل الناس، وأن ما يشغلهم قبل كل شيء هو نشر مبادئ دينهم السمحة وتعريف الشعوب بها. مراحل الفتح: ويطول المقام لو أردنا أن نتتبع -في هذا المختصر- مراحل الفتح الإسلامي بكل تفاصيلها، لكن حسبنا أن نجمع هذه التفاصيل في النقاط التالية: أولا: عبور طارق بن زياد بقواته إلى الأندلس: اطمأن موسى بن نصير إلى النتائج التي حققتها الحملة الاستطلاعية بقيادة طريف ابن مالك، وزادت رغبته في الفتح، واشتد عزمه وتلهفه على السير في هذه المغامرة، فأعد حملة عسكرية قوامها سبعة آلاف جندي، وجلهم من المسلمين البربر، وأمر   1 البيان المغرب "ج2 ص4"، نفح الطيب "1/ 204-205". 2 البيان المغرب "ج1 ص26". 3 الذهبي: العبر في خبر من غبر "ج1 ص14" "ط الكويت". 4 راجع: التاريخ الأندلس للحجي "ص44، 45". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 عليهم قائدا من قواده المشهورين بحسن القيادة والكفاءة وقوة الإخلاص، هو مولاه طارق بن زياد" وهو -في أصح الآراء- بربري من قبيلة "نفزة"1. ومن الغريب أن يكون الجيش الذي أعده للحملة مكونا كله من البربر باستثناء عدد قليل من العرب "لا يزيد على الثلاثمائة". وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الفتوح الإسلامية يتولى فيها جيش كامل من المغلوبين فتح قطر من الأقطار الكبرى كالأندلس. ويدل هذا على أن بربر المغرب قد حسن إسلامهم، وأصبحوا على هذا النحو يؤلفون القوة الكبرى التي اعتمد عليها موسى بن نصير في فتح الأندلس عسكريا. ويبدوا أن البربر كانوا أكثر معرفة من العرب ببلاد الأندلس، فالمغرب والأندلس يؤلفان وحدة جغرافية وتاريخية في آن واحد2. عبر طارق بن زياد بجيشه من "سبتة" "أو من "طنجة"" إلى الطرف الآخر من المضيق في الخامس من شهر رجب -أو في شعبان- "عام 92هـ/ 711م"، في السفن الأربعة التي كانت ملكا ليلان ووضعها في خدمة المسلمين3. وذكر المؤرخ ابن عذارى أن "يليان كان "يحمل أصحاب طارق في مراكب التجار التي تختلف إلى الأندلس، ولا يشعر أهل الأندلس بذلك، ويظنون أن المراكب تختلف بالتجار، فحمل الناس فوجا بعد فوج إلى الأندلس4. ولا شك أن موسى استعان في العبور ببعض قطع من أسطوله الإسلامي الذي أنتجته دار الصناعة بتونس5، والقول بأن القيام بعملية فتح إقليم كبير مثل الأندلس يمكن أن يفي بحاجته استعارة سفن قول بعيد، فمن الراجح تماما أنه كانت للمسلمين سفنهم، استعملها جيشهم في هذا الفتح6.   1 البيان المغرب ج1 ص43، ص5، نفح الطيب "1/ 254". 2 السيد عبد العزيز سالم: تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس "ص71". 3 أخبار مجموعة "ص6". 4 ابن عذارى: البيان المغرب "ج2 ص6". 5 هي دار الصناعة التي أقامها حسان بن ثابت لصناعة السفن اللازمة لمدافعة الروم في البر والبحر والإغارة على بلادهم. وبهذه السفن بعث موسى بن نصير قائده "عياش بن أخيل" إلى صقلية فغزاها "تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس "ص72"، وراجع: البيان المغرب "ج1 ص42". 6 راجع: التاريخ الأندلسي لعبد الرحمن الحجي "ص47-49". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 تجمع الجيش الإسلامي -بعد العبور- عند جبل "كالبي" "CALPE" الذي عرف فيما بعد باسم "جبل طارق"، وأقام طارق بتلك المنطقة عدة أيام بني خلالها سورا أحاط بجيوشه سماه "سور العرب"1، وأقام قاعدة حربية بجوار الجبل على الساحل لحماية الجيش من الخلف في حالة الانسحاب، في موضع يقابل "الجزيرة الخضراء" وعليه أقيمت هذه المدينة فيما بعد. "وهذا الميناء يسهل اتصاله بميناء "سبتة" المغربي، على حين يصعب اتصاله بإسبانيا لوجود مرتفعات بينهما"2. ولم يمض وقت طويل حتى اشتبك الجيش الإسلامي مع قوات القوط في عدة معارك بالقرب من "الجزيرة الخضراء" انتصر فيها المسلمون يقول الرازي -وهو من كبار المؤرخين الأندلسيين- "لما بلغ لذريق خبر طارق ومن معه ومكانهم الذي هم فيه بعث إليهم الجيوش، جيشا بعد جيش. وكان قد قود على أحدهم ابن أخت له يسمى "ينج" وكان أكبر رجاله، فكانوا عند كل لقاء يهزمون ويقتلون، وقتل "ينج" وهزم عسكره"، فقوى المسلمون، وركب الرجالة الخيل، وانتشروا بناحيتهم التي جازوا بها"3. ثانيا: معركة وادي برباط "أو: وادي لكه": الفاصلة وبينما كان لذريق مشغولا بإخماد بعض الثورات في "بنبلونة" -في الشمال- جاءه الخبر بمجيء الجيوش الإسلامية وانتصارهم على قواته في عدد من المعارك، فهاله ما حدث، وأصيب بهلع ورعب شديدين، وكر راجعا إلى "طليطلة"، وبدأ يعبأ جيشه للقاء المسلمين. ويذكر المؤرخون أنه جمع مائة ألف مقاتل. وقيل سبعين ألفا4. وقد وصلت أنباء تلك الحشود إلى طارق بن زياد، فكتب إلى موسى بن نصير يستمده، فأمده بخمسة آلاف جندي، على رأسهم "طريف بن مالك" وأغلبهم من الفرسان، وبهم كملت عدة الجيش الإسلامي اثني عشر ألفا5.   1 البيان المغرب "2/ 9"، نفح الطيب "1/ 218". 2 المسملون في الأندلس -للدكتور عبد الله جمال الدين ص7. وذكر الحميري أن موسى أيسر المراسي للجواز وأقربها من بر العدوة، ويحاذيه مرسى مدينة سبتة "الروض المعطار في خبر الأقطار للحميري "ص74". 3 البيان المغرب "ج2 ص8". 4 أخبار مجموعة "ص7"، نفح الطيب "1/ 233، 255-257"، دولة الإسلام في الأندلس "1/ 42". ويذكر الحميري أن لذريق جمع ستمائة ألف فارس "الروض المعطار ص10"، وهذه مبالغة واضحة "وراجع: تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس للسيد عبد العزيز سالم ص75". 5 أخبار مجموعة "ص7"، نفح الطيب "1/ 257". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وقد واصل طارق بن زياد السير بجيوشه ومشى في محاذاة الساحل، وأقام معسكره في منطقة سهلية واسعة في كورة "شذونة" جنوب غرب إسبانيا بالقرب من نهر "برباط" ووادي "لكه" الذي يصب في المحيط مدينة "قادس" الساحلية1. وفي هذه المنطقة تم اللقاء بين الجيش الإسلامي والجيش القوطي، ودار معركة هائلة استمرت ثمانية أيام "من الأحد 28 رمضان -إلى الأحد الخامس من شوال/ 19-26 يوليو 711م"، وانتهت بهزيمة القوط هزيمة ساحقة، بعد أن اقتتل الطرفان "اقتتالا شديدا حتى ظنوا أنه الفناء"، وتبع المسلمون فلول القوط بالقتل والأسر، ولم يرفعوا عنهم السيف ثلاثة أيام2. وقد اختلفت الروايات في شأن مصير "لذريق"، فقيل: إنه قتل غريقا في "وادي لكه". ويذكر البعض أنه فر من الميدان والتقى بالمسلمين في معركة أخرى شمال إسبانيا في ولاية شلمنقة وقتل فيها، وهذا الرأي الأخير ضعيف، لا تدعمه الأدلة3. وتعد معركة "وادي لكه" معركة فاصلة، توقف عليها مصير إسبانيا في يد المسلمين، بحيث يمكن القول "إن جميع المعارك التي حدثت بعد ذلك في بقية أنحاء شبه الجزيرة كانت بمثابة مناوشات بسيطة -وإن كان بعضها مهما وقويا- إذا قورنت بهذه المعركة الفاصلة، ولم يستغرق استيلاء المسلمين على إسبانيا بعد ذلك -رغم وعورة مسالكها وقسوة مناخها- أكثر من ثلاث سنوات، وهذا يدل على أن المقاومة كانت قد ضعفت تقريبا"4. ثالثا: الاتجاه نحو الشمال وفتح طليطلة عاصمة القوط وبعد هذا النصر العظيم الذي حققه طارق بن زياد وجنده كان لابد أن يجنى   1 التاريخ الأندلسي للحجي "ص56". ويطلق ابن عذارى على "وادي لكه" اسم "وادي الطين" "البيان المغرب 2/ 7" ويبدو أنه سمي كذلك لقلة مياهه وكثرة طينه. ويسميه ابن عبد الحكم "وادي أم حكيم "فتوح مصر والمغرب ص206". وراجع: تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس "ص79"، المسلمون في الأندلس ص8". 2 البيان المغرب 2/ 7-8، فتوح مصر والمغرب "ص206-207"، نفح الطيب "1/ 259". 3 تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس "ص80"، "ص97-99"، معالم تاريخ الأندلس والمغرب لحسين مؤنس "ص238"، التاريخ الأندلسي للحجي ص57. دراسات المغرب والأندلس للدكتور أحمد مختار العبادي "ص34". 4 العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس "ص35". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ثماره قبل أن تتجمع فلول القوط مرة أخرى، فزحف إلى الشمال نحو مدينة "طليطلة" قبل أن يتدارك القوط الأمر ويحكموا الدفاع عنها، وفي طريقه إليها فتح عدة مدن، مثل "مورور" و"إستجة" و"قرطبة" و"إلبيرة" و"غرناطة"، ثم توجه إلى "طليطلة" ودخلها سنة "93هـ" دون مقاومة فوجدها خالية "ليس فيها إلا اليهود في قوم قلة"1 وقد فر حاكمها مع أصحابه من كبار القوط والقساوسة -في اتجاه شمال شرقي- حاملين معهم ذخائر الكنيسة، فترك طارق فرقة من جنوده في "طليطلة" ومضى يطارد الفارين في الطريق الذي يسميه العرب "وادي الحجارة" وعند بلدة صغيرة تسمى "الكالا دي هنارس" -"ويسميها العرب "قلعة عبد السلام" وتسمى أيضا بمدينة "المائدة"2" أدرك المسلمون فيها الهاربين من طليطلة، وغنموا ما كانوا معهم من ذخائر بالغة القيمة3. ولم يتجاوز طراق بن زياد المنطقة التي وصل إليها، فلربما "خشى أن يقطع عليه العدو الطريق في هذه البلاد الجبلية الذي بذلوه، وثقلوا بالغنائم التي جمعوها"4 فعاد إلى "طليطلة" في أوائل 93هـ "أواخر 711". رابعا: عبور موسى بن نصير إلى الأندلس واستكمال الفتح كتب طارق بن زياد إلى موسى بن نصير يحيطه بأنباء الفتح وما أحرزه من نجاح، ويطلب منه المدد. وعلى الفور قرر موسى التوجه إلى الأندلس، وأصدر أوامره إلى طارق بوقف الفتح حتى يلحق به. وكان طبيعيا أن يهرع موسى للحاق بقائده، فأخذ معه قوة قدرها "18000" ثمانية عشر ألف مقاتل، معظمهم من العرب هذه المرة، وفيهم الكثير من زعماء العرب الشامية القيسية، والعرب اليمينة   1 البيان المغرب "2/ 12". 2 تبعد قلعة "هنارس" -الذي كانت تعرف بقلعة عبد السلام أو "المائدة"- تبعد عن مديد "عاصمة إسبانيا الآن" "34" كم شمالا "راجع: رحلة الأندلس للدكتور حسين مؤنس ص"335-336"، مديد العربية، للدكتور محمود علي مكي ص41". 3 البيان المغرب 2/ 12، فتوح مصر والمغرب "ص207"، نفح الطيب "1/ 161، 265، 272"، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس "ص83-84"، معالم تاريخ المغرب والأندلس "ص236-237"، المسلمون في الأندلس "ص9"، التاريخ الأندلسي للحجي ص"65-66". 4 دراسات في تاريخ المغرب والأندلس للعبادي "ص36". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الكلبية، وعبر من سبتة إلى الجزيرة الخضراء بالأندلس، فأقام بها أياما للراحة والتأهب لخوض المعركة القادمة، ثم أجمع على المسير نحو "طليطلة" في طريق غير الطريق الذي سار فيه طارق؛ ليفتح هو الآخر فتوحا جديدة، فمر بمدينة "إشبيلية" وفتحها بعد حصار شديد، وكانت من أعظم مدائن الأندلس، وأعجبها بنيانا وآثارا. ثم مضى موسى بعد ذلك إلى مدينة "ماردة" التي تقع على نهر آنُهْ "راجع الخريطة" -وكانت من المدن الحصينة، ذات الأسوار المنيعة والأبراج العالية- فحاصرها طويلا، إلى أن استسلمت له، ودخلها صلحا "في مطلع شوال 94هـ". وبعد شهر من الإقامة فيها تحرك موسى بن نصير صوب "طليطلة"، فلما وصل إلى "طلبيرة" -على نهر التاجُهْ "راجع الخريطة"- خرج طارق بن زياد للقائه هناك، وسلمه قيادة الفتح، وعادا معا بالجيش إلى "طليطلة"، فأقاما بها طوال فصل الشتاء، ثم نهضا لاستكمال فتح شمال الأندلس. اتجه طارق بن زياد بقواته إلى الشمال الشرقي، واحتل مدينة "سرقسطة" الواقعة على نهر "إبرو"، وصعد إلى قرب جبال "البرتات" "التي تفصل إسبانيا عن جنوب فرنسا"، ثم عاد واتجه غربا محاذيا نهر "إبرو". وعند مدينة "أشترقة" "راجع موقعها على الخريطة" التقى بموسى بن نصير وجيشه، وسار الاثنان لفتح شمال غرب الأندلس. فأما موسى فقد دخل "أبيط" "Oviedo" بعد أن عبر جبال "كنتبرية"، ووصل إلى ساحل خليج "بسكاي" عند بلدة "خيخون" "راجع الخريطة". وأما طارق فقد بلغ مداخل إقليم "جليقية" في أقصى الشمال الغربي. وهنا أحس موسى أنه أتم فتح الأندلس، فعاد إلى "طليطلة" ليواصل عمله كأول والٍ من ولاة الأندلس، ولكن الخليفة الوليد بن عبد الملك كان قد استدعاه مع طارق بن زياد إلى دمشق، فترك ابنه "عبد العزيز بن موسى" واليا على الأندلس في "المحرم 95هـ/ سبتمبر 713م"1 ليقوم بما تقتضيه أحوال البلاد من التنظيم والإصلاح، وبه يبدأ عصر الولاة بالأندلس.   1 راجع التفاصيل عن عبور موسى بن نصير إلى الأندلس, ومواصلة عمليات الفتح: تاريخ المسلمين في المغرب والأندلس للدكتور/ طه عبد المقصود عبد الحميد "ص199-205"، مع المراجع المذكورة في هوامش هذه الصفحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وهكذا نرى هذين الفاتحين العظيمين قد خلّفا الأندلس وراءهما بعد أن قاما بما يمكن اعتباره معجزة من معجزات الفتوحات الإسلامية في مدة قاربت أربع سنوات من الجهاد المتصل والحركة الدائمة. لقد استطاع هذان الرجلان -مع جيش من المسلمين من بين عرب وبربر لا يزيد على ثلاثين ألف مقاتل- أن يفتحا قطرا أوروبيا واسعا يعتبر من أصعب الأقطار الأوروبية من الناحية الجغرافية. وقد قام المسلمون بهذا الفتح العظيم بشجاعة تعتبر مضرب المثل، وساروا على خطة عسكرية وسياسية واضحة, تدل على خبرة جيدة بمسائل الحروب وفتوح البلدان، وقاد موسى وطارق ورجالهما بحزم ونظام وبصيرة تذكرنا بقيادة خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وأبي عبيدة بن الجراح وقتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم في فتوحات المشرق. ومع أن المسلمين وصلوا بفتوحاتهم إلى الركن الشمالي الغربي -وهو الإقليم المسمى "أشتوريش" في منطقة "جليقية" وشارفوا سواحل المحيط عند خليج "بسكاي"- فإنهم في الواقع لم يفرضوا سلطانهم تماما على هذه النواحي كلها؛ لوعورة مسالكها، وبرودة مناخها. وقد حدث أن بعض فلول الجيش القوطي المنهزم بزعامة قائد منهم يدعى "بلاي" "Pelayo" "ت 737م" استطاعت أن تعتصم بالجبال الشمالية في هذه المنطقة، وهي التي يسميها الإسبان بقمم أوروبا -في سلسلة جبال "قنتبرية"- وهي عبارة عن ثلاثة جبال شامخة، وبها مغارة تعرف بكهف "كوفا دونجا"، ويسميها العرب "صخرة بلاي"؛ لأنه اختبأ فيها هو وأصحابه، وكان عددهم لا يزيد عن الثلاثين -فيما بدا للفاتحين- فلما حاصرهم المسلمون وأعياهم أمرهم تركوهم وانصرفوا؛ استقلالا لعددهم، واستخفافا بشأنهم1. وفي هذه البؤرة الصغيرة "كوفا دونجا" -أو صخرة بلاي- نبتت نواة دولة إسبانيا النصرانية، ونبتت معها حركة المقاومة الإسبانية التي أخذت تنمو وتتسع حتى استولت على مدينة "ليون" ثم سيطرت على جميع المنطقة الشمالية الغربية التي صارت تعرف بمملكة "ليون"، ولقد أحاطت هذه المملكة نفسها بسلسلة من القلاع والحصون لحماية نفسها من هجمات المسلمين، وعرفت هذه الحصون في المصادر العربية باسم منطقة   1 نفح الطيب "1/ 276"، وراجع البيان المغرب "2/ 29". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وهكذا نرى هذين الفاتحين العظيمين قد خلّفا الأندلس وراءهما بعد أن قاما بما يمكن اعتباره معجزة من معجزات الفتوحات الإسلامية في مدة قاربت أربع سنوات من الجهاد المتصل والحركة الدائمة. لقد استطاع هذان الرجلان -مع جيش من المسلمين من بين عرب وبربر لا يزيد على ثلاثين ألف مقاتل- أن يفتحا قطرا أوروبيا واسعا يعتبر من أصعب الأقطار الأوروبية من الناحية الجغرافية. وقد قام المسلمون بهذا الفتح العظيم بشجاعة تعتبر مضرب المثل، وساروا على خطة عسكرية وسياسية واضحة, تدل على خبرة جيدة بمسائل الحروب وفتوح البلدان، وقاد موسى وطارق ورجالهما بحزم ونظام وبصيرة تذكرنا بقيادة خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وأبي عبيدة بن الجراح وقتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم في فتوحات المشرق. ومع أن المسلمين وصلوا بفتوحاتهم إلى الركن الشمالي الغربي -وهو الإقليم المسمى "أشتوريش" في منطقة "جليقية" وشارفوا سواحل المحيط عند خليج "بسكاي"- فإنهم في الواقع لم يفرضوا سلطانهم تماما على هذه النواحي كلها؛ لوعورة مسالكها، وبرودة مناخها. وقد حدث أن بعض فلول الجيش القوطي المنهزم بزعامة قائد منهم يدعى "بلاي" "Pelayo" "ت 737م" استطاعت أن تعتصم بالجبال الشمالية في هذه المنطقة، وهي التي يسميها الإسبان بقمم أوروبا -في سلسلة جبال "قنتبرية"- وهي عبارة عن ثلاثة جبال شامخة، وبها مغارة تعرف بكهف "كوفا دونجا"، ويسميها العرب "صخرة بلاي"؛ لأنه اختبأ فيها هو وأصحابه، وكان عددهم لا يزيد عن الثلاثين -فيما بدا للفاتحين- فلما حاصرهم المسلمون وأعياهم أمرهم تركوهم وانصرفوا؛ استقلالا لعددهم، واستخفافا بشأنهم1. وفي هذه البؤرة الصغيرة "كوفا دونجا" -أو صخرة بلاي- نبتت نواة دولة إسبانيا النصرانية، ونبتت معها حركة المقاومة الإسبانية التي أخذت تنمو وتتسع حتى استولت على مدينة "ليون" ثم سيطرت على جميع المنطقة الشمالية الغربية التي صارت تعرف بمملكة "ليون"، ولقد أحاطت هذه المملكة نفسها بسلسلة من القلاع والحصون لحماية نفسها من هجمات المسلمين، وعرفت هذه الحصون في المصادر العربية باسم منطقة   1 نفح الطيب "1/ 276"، وراجع البيان المغرب "2/ 29". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أ- ولاية "سبتمانية"، وتشتمل على سبع مدن، وعاصمتها "أربونة". ب- ولاية "أكيتانية" -تقع إلى الشمال الغربي من "سبتمانية"- وعاصمتها "برديل" الواقعة على مصب نهر الجارون. ج- إقليم "بروفانس" -يقع إلى الشمال الشرقي من "سبتمانية"- وعاصمته مدينة "أبنيون"، وتقع على وادي رودنة "نهر الرون". د- إقليم "برغندية" غربي "نهر لارون"، وعاصمته مدينة "لوذون". هـ- المنطقة الواقعة شمال "نهر اللوار" حتى ألمانيا الحاضرة، وكانت خاضعة للدولة "الميروفنجية". 1- حملة السمح بن مالك الخولاني "100-102هـ": وأول من غزا "بلاد غالة" من الولاة: السمح بن مالك الخولاني "100-102هـ"، فقد بدأ بالاستيلاء على "أربونة"، ثم مضى في تقدمه حتى فتح "طولوشة" "تولوز"، واستولى على ولاية سبتمانية كلها، وأقام بها حكومة مسلمة في هذا الوقت المبكر. وقد اتخذ من "أربونة" قاعدة للجهاد وراء جبال البرت، وتوغل في إقليم "أكيتانية"، غير أنه استُشهد في موقعة بالقرب من "طولوشة" انهزم فيها المسلمون، وقتل منهم عدد كبير، وذلك في يوم عرفة "سنة 102هـ"، فتولى القيادة عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، وأقروه واليا للأندلس حتى يأتي الوالي الجديد، وكانت هذه هي ولايته الأولى ولم يدم فيها أكثر من شهر1. 2- حملة عنبسة بن سحيم الكلبي "107-110هـ": تولى عنبسة بن سحيم الكلبي "سنة 103هـ"، وكان كالسمح بن مالك صالحا قويا، فقضى أربع سنوات من ولايته في تنظيم أمور الدولة وإصلاح الجيش وإعداده لمواصلة غزو بلاد الفرنجة، وقد عبر "عنبسة" بجيوشه جبال البرتات، وتابع حركة الفتوح لإقليم "سبتمانية" بمدنه السبع، وافتتح إقليم "بروفانس"، واتجه شرقا حتى بلغ   1 عن جهاد السمح بن مالك وراء البرتات راجع: تاريخ العلماء والرواة بالأندلس لابن الفرضي "1/ 230"، نفح الطيب "1/ 235"، البيان المغرب "2/ 26"، تاريخ المسلمين وآثارهم بالأندلس ص"137, 138"، التاريخ الأندلسي للحجي ص"185-188"، دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان "1/ 81". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 نهر "الرون" ثم صعد مع النهر شمالا حتى بلغ مدينة "ليون"، وتوغل بعدها حتى كان على بعد سبعين كيلومترا من جنوبي باريس الحالية، وهي أبعد نقطة وصل إليها المسلمون شمالا، وتبعد نحو ثمانمائة كيلومتر شمال جبال البرتات. وفي طريق عودته تصدت له جموع كبيرة من الفرنجة، فاستشهد في إحدى المعارك "سنة 107هـ"، فقام بقيادة الجيش والعودة إلى "أربونة" "عذرة بن عبد الله الفهري" الذي حكم حتى ربيع الأول سنة 110هـ1. وبالرغم من أن وصول الجيوش الإسلامية إلى هذا الحد، وأن ذلك يعد دليلا قاطعا على ما امتازوا به من جرأة وقوة وإيمان, فإننا لا نستطيع القول -كما يرى الدكتور حسين مؤنس- بأن "عنبسة" فتح جنوبي غالة أو حوض الرون "بالمعنى الحقيقي"؛ لأنه في الواقع لم يفعل شيئا لتثبيت أقدام المسلمين فيما وصلوا إليه من البلاد، ولكنه على أي حال الفاتح المسلم الوحيد الذي وصل إلى هذا المدى في فتوحه. وكان لا بد من حملات ضخمة أكثر نظاما ليتم فتح هذه النواحي, كما أتمت حملات زهير بن قيس، وحسان بن النعمان, وموسى بن نصير عمل عقبة بن نافع في المغرب2. وقد أثارت حملة عنبسة مخاوف أوروبا كلها، حيث إنه اقتحمها اقتحاما، وأوغل بجيشه في داخل بلادها دون أن يستطيع أحد مقاومته، الأمر الذي جعل القائم بمملكة الفرنجة إذ ذاك -وهو "شارك مارتل" أو "كارل"، وتسميه مصادرنا العربية "قارله"- يشعر بأنه لا بد من القيام بعمل حاسم إذا عاد المسلمون مرة أخرى. وبالفعل بدأ يستعد لهذا اللقاء، فأخذ يجمع القوات والسلاح والأزواد، وصالح أمراء "برغندية"، واتفق مع رجال "سبتمانية"، ومع دوق "حاكم" "أكيتانية" ليقوموا معا بعمل حاسم ضد المسلمين3. 3- معركة بلاط الشهداء "114هـ/ 732م", واستشهاد عبد الرحمن الغافقي: وبعد أن توالى على الأندلس سبعة من الولاة بين سنتي "107-112هـ/ 725-730م" تفاقمت خلالها المشكلات وازدادت الاضطرابات وانتشر الخلل   1 راجع: البيان المغرب "2702"، معالم تاريخ المغرب والأندلس لحسين مؤنس "ص254"، المسلمون في الأندلس للدكتور عبد الله جمال الدين "موسوعة سفير 7/ 14". 2، 3 د. حسين مؤنس: معالم تاريخ الأندلس ص"255". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والخلاف بين الزعماء ورجال القبائل1, عُيِّن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي واليا "في صفر 112هـ"، وهذه هي ولايته الثانية، وكان من أعظم قواد المسلمين في الأندلس عدلا وصلاحا وقدرة وكفاءة، وقد قضى ما يقرب من عام نظم خلاله شئون البلاد، ثم أعلن الجهاد ضد الفرنجة، وكون جيشا هائلا يتراوح عدده ما بين سبعين ألفا ومائة ألف، جلهم من البربر. وفي أوائل سنة 114هـ/ 732م سار الغافقي بجيوشه نحو الشمال، وعبر جبال "ألبرت" من طريق "بنبلونة" متجها إلى دوقية "أكيتانية" أعظم ولايات غالة في ذلك الوقت فاكتسحها، ودخل عاصمتها "برديل" عنوة، ثم واصل زحفه حتى أشرف بجيشه على نهر "اللوار" واستولى على مدينتي "بواتييه" و"تور"، وما كاد يخرج الجيش الإسلامي من "بواتييه" في طريقه نحو باريس حتى فوجئ عبد الرحمن الغافقي بوصول جيش هائل من الفرنج والمرتزقة يقوده "شارل مارتن" "قارله". وعلى بعد عشرين كيلومترا شمال "بواتييه" في الطريق إلى "تور" جنوبي مجرى اللوار في موضع قريب من طريق روماني قديم هو المسمى "بالبلاط", حدثت المعركة الكبرى بين الجيشين في أواخر شعبان 114هـ/ أكتوبر 732م. وقد تكون هذه المعركة وقعت بالقرب من موضع يطلق عليه اليوم اسم "مواسيه لاباتاي" Moussais la bataille. وتصمت المصادر العربية عن ذكر تفاصيل هذه الموقعة الفاصلة، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنها كانت كارثة على جيش المسلمين، بحيث نفر قدامى المؤرخين من مجرد ذكرها، فاندرجت أخبارها في زوايا النسيان. وقد استمرت المعركة ثمانية أيام، مما يدل على أنها كانت معركة حامية. والحق أن كلا من الجانبين بذل أقصى وسعه في القتال، وصبر المسلمون صبرا طويلا حتى تجمعت عليهم قوات نصرانية من كل ناحية، ولم يقتصر الأمر على الفرنجة، بل انضم إليهم كثيرون من أجناس أخرى "ألمان، وسُواف، وسكسون". وآخر مراحل المعركة كان هجوما عنيفا على مؤخرة الجيش الإسلامي، فانتهبت الغنائم، وتزعزع   1 راجع البيان المغرب "2/ 27, 28"، نفح الطيب "1/ 235, 236". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 نظام الجيش، وبينما يحاول الغافقي إعادة النظام إلى جيشه أصابه سهم فقتله، فعم الاضطراب بين المسلمين وكثر القتل فيهم، واشتد الفرنج عليهم، لكنهم صبروا حتى جن الليل وتحاجز الفريقان دون فصل، ثم انسحب المسلمون نحو مراكزهم في "سبتمانيا" تاركين غنائمهم، وأصبح الفرنجة فلم يجدوا لهم أثرا سوى الجرحى ومن لم يتمكنوا من مرافقة الجيش المنسحب، فأجهزوا عليهم، وانتهبوا ذخائر عظيمة، ولم يفكروا في تتبع المسلمين1. ومهما قيل من أسباب لتعليل خسارة المسلمين في معركة "بلاط الشهداء" -من مثل ما قيل عن وجود خلاف في الجيش الإسلامي "العرب والبربر"، وابتعاد الجيش عن بلاد الإسلام بحيث أصبح على بعد "400 كم" شمال جبال ألبرت التي تبعد عن قرطبة مسافة "900 كم" مما جعل موالاته بالمؤن والإمداد أمرا عسيرا، بينما كانت خطوط إمداد الفرنجة سهلة ومتصلة، إضافة إلى أن المناخ لم يكن مناسبا لخوض الجنود والخيول العربية تلك المعركة القاسية، وأن المسلمين ساروا مثقلين بغنائم المعارك السابقة، مما دفع العدو إلى ضرب مؤخرة الجيش الإسلامي فارتبكت صفوفه، هذا إلى أن إمارات "غالة" كانت قد تكتلت جميعا لمواجهة جيوش الإسلام وصدها عن الجنوب2- أقول: مهما قيل من مثل هذه التعليلات وغيرها، وبعيدا عن مدى صحة بعضها وواقعيتها, فإن معركة بلاط الشهداء كانت أعظم لقاء بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب، ففي سهول "تور"، و"بواتييه" فقد المسلمون سيطرتهم على أوروبا، وارتد تيار الفتح الإسلامي أمام الأمم الشمالية كما ارتد قبل ذلك بأعوام أمام أسوار القسطنطينية، وأخفقت بذلك آخر محاولة بذلتها الخلافة لافتتاح أمم الغرب وإخضاع النصرانية لصولة الإسلام، ولم تتح للإسلام   1 عن معركة بلاط الشهداء راجع بتوسع: دولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبد الله عنان "1/ 92-111"، معالم تاريخ المغرب والأندلس لحسين مؤنس ص"140-147"، التاريخ الأندلسي للحجي ص"193-203"، المسلمون في الأندلس لعبد الله جمال الدين "موسوعة سفير "7/ 15, 16"، الأندلس في التاريخ لشاكر مصطفى ص"26". وراجع: الكامل لابن الأثير "4/ 404"، البيان المغرب "2/ 28"، نفح الطيب "1/ 236، 3/ 15, 16". 2 راجع معالم تاريخ المغرب والأندلس لحسين مؤنس ص257، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس للسيد سالم ص"143". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 المتحد فرصة أخرى؛ لينفذ إلى قلب أوروبا في مثل كثرته وعزمه واعتزازه يوم مسيره إلى بلاط الشهداء. وبينما شغلت إسبانيا بمنازعاتها الداخلية, إذ قامت فيما وراء ألبرتات إمبراطورية فرنجية عظيمة موحدة تهدد الإسلام في الغرب، وتنازعه السيادة والنفوذ1. وعلى الرغم من هزيمة المسلمين في بلاط الشهداء "بواتييه", فقد بقيت حامية عسكرية عربية في مدينة "أربونة" جنوب غربي فرنسا نحو عشرين سنة محتفظة بذلك البلد وبجانب كبير من "سبتمانية"، ولم ينسحب المسلمون من "غالة" تماما إلا بعد قيام الدولة الأموية في الأندلس "سنة 138هـ/ 756م" وقرار عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" بسحب قوات المسلمين من "غالة", والاكتفاء بسلطان المسلمين على الأندلس.   1 د. محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس "1/ 111". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109