الكتاب: منهاج المحدثين في القرن الأول الهجري وحتى عصرنا الحاضر المؤلف: على عبد الباسط مزيد الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- منهاج المحدثين في القرن الأول الهجري وحتى عصرنا الحاضر على عبد الباسط مزيد الكتاب: منهاج المحدثين في القرن الأول الهجري وحتى عصرنا الحاضر المؤلف: على عبد الباسط مزيد الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم تقديم: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم. وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الذي بعثه الله في الأميين رسولًا منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.. أما بعد، لقد أمرنا الله تعالى باتباع رسوله دون مراء، وطاعته دون جدال، فقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وحذرنا من مخالفته بالفتنة أو العذاب الأليم، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ، فلا ينبغي لمؤمن أن يتردد في الاحتكام إلى شرعه، والالتزام بمنهجه وهديه. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] . ولا يشك مسلم في أن شرع الله تعالى وهديه يتمثل في القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة؛ ولذلك قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"، فالكتاب والسُّنَّة هما الشرع الحنيف، والدين القيم، من تمسك بهما رشد، ومن حكم بهما عدل، ومن عمل بهما أُجر، ومن التزم بهما هُدي إلى صراط مستقيم، قال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ولقد أدرك السلف قدر السُّنَّة ومكانتها -فضلًا عن القرآن الكريم- فحفظوها في الصدور، ودونوها في السطور، ورَعَوْها حق رعايتها، فكانت مصدر قوتهم، وسر هيبتهم. ومن الغريب والعجيب أننا في الوقت الذي نرى فيه عناية؛ بل ومفاخرة غير المسلمين بتراثهم الحضاري والثقافي والعلمي -نرى نابتة تزعم الانتساب إلى الإسلام تهاجم موروثها الديني، وتعمل جاهدة للنيل منه والحط من قدره؛ بل وتسعى للخلاص منه. وهؤلاء وُلدوا في بلادنا، ويتكلمون بلغتنا؛ ولكنهم تغذوا فكر الكفرة والمشركين والملاحدة، فنمت أعوادهم مائلة إليهم، وجندوا أنفسهم الخبيثة وأقلامهم الملوثة للثرثرة في وسائل الإعلام والنشر المختلفة، ومن حين لآخر يختلقون المشاكل ليُسقطوا من بناء الإسلام لَبِنة، ومن مهابته في النفوس جزءًا، وقد اتخذت هذه الفئة الضالة مسالك شتى للوصول إلى أغراضهم، وللالتفات حول الإسلام جميعًا، فمنهم من جنَّد نفسه للنيل من قدسية القرآن الكريم، وسوء تأويله، ومنهم من جند نفسه للنيل من قدسية الحديث الشريف، أو التشكيك في الصحيح منه، وهؤلاء لا يخرجون عن ثلاثة أصناف: صنف جاهل غبي افتتن بحب الظهور، وصنف ملحد يدعو إلى الإلحاد لهوى في نفسه، وصنف مأجور لخدمة غير المسلمين الطامعين. وقد قيض الله تعالى لهؤلاء وأمثالهم في كل عصر مَن يتصدى لهم، ويفضح أمرهم، ويحذِّر المسلمين منهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . ويوضح هذا البحث مدى عناية السلف والخلف -رجالًا ونساء- بالحديث النبوي الشريف، تدوينًا وتوثيقًا ورواية وغير ذلك، وأنهم بذلوا جهودًا كبيرة جدًّا من أجل خدمة السُّنَّة النبوية، والمحافظة عليها، والذود عنها في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد مماته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 - وقد جاء هذا البحث في مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب: المقدمة: فيها التنبيه على أهمية التمسك بالسُّنَّة النبوية باعتبارها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وأنها نالت عناية السلف في الصدر الأول للإسلام، والتنبيه أيضًا على أن هناك مشوشين يسعون للنيل من السُّنَّة المطهرة، وأن علماء المسلمين المتخصصين تعقبوا هذه الفئة الضالة، وفندوا كافة مزاعمهم، وردوهم على أعقابهم خاسرين. التمهيد: وفيه فصلان: الفصل الأول: منكرو السُّنَّة والرد عليهم، وفيه مبحثان: المبحث الأول: مزاعم منكري السُّنَّة قديمًا والرد عليها. المبحث الثاني: منكرو السُّنَّة حديثًا، وتفنيد مزاعمهم. الفصل الثاني: مكانة السُّنَّة في التشريع الإسلامي. الباب الأول: مناهج المحدثين في القرن الأول الهجري: وفيه أحد عشر فصلًا: الفصل الأول: مظاهر اهتمام الصحابة بالسُّنَّة. الفصل الثاني: كتابة السُّنَّة في العهد النبوي. الفصل الثالث: أشهر الصحف والكتابات في العهد النبوي. الفصل الرابع: الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم. الفصل الخامس: بواعث كتابة الحديث الشريف في القرن الأول الهجري. الفصل السادس: مظاهر احتياط الصحابة في قبول الحديث الشريف. الفصل السابع: منهج الصحابة في رواية الحديث الشريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الفصل الثامن: الصحابة المكثرون لرواية الحديث الشريف. الفصل التاسع: أسباب تفاوت الصحابة في رواية الحديث الشريف. الفصل العاشر: دور أمهات المؤمنين في خدمة الحديث الشريف. الفصل الحادي عشر: أسباب تفاوت أمهات المؤمنين في الرواية. الباب الثاني: مناهج المحدثين في القرن الثاني الهجري: وفيه سبعة فصول: الفصل الأول: المستجدات في هذا العصر. الفصل الثاني: التدوين الشامل للسنة في هذا العصر، ومنهج العلماء في التصنيف. الفصل الثالث: جهود التابعين في توثيق السُّنَّة وحفظها وتدوينها في النصف الأول من القرن الثاني الهجري. الفصل الرابع: أشهر الصحف والكتابات في القرن الثاني الهجري. الفصل الخامس: ضوابط الرواية عند التابعين. الفصل السادس: التصنيف في القرن الثاني وبداية الثالث الهجريين. الفصل السابع: الأئمة الأربعة، وأثرهم في علوم الحديث. الباب الثالث: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري وحتى عصرنا الحاضر: وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري: وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: أهم المشكلات التي واجهت المحدثين في القرن الثالث الهجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 المبحث الثاني: تدوين الحديث وعلومه في القرن الثالث الهجري. المبحث الثالث: مناهج العلماء في تدوين الحديث في القرن الثالث الهجري. المبحث الرابع: أئمة القرن الثالث الهجري، ومناهجهم. وفيه: الإمام البخاري، والإمام مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد بن حنبل. الفصل الثاني: مناهج المحدثين في القرن الرابع الهجري. الفصل الثالث: منهج التصنيف في القرن الخامس وحتى سقوط الخلافة العباسية. الفصل الرابع: منهج التصنيف من سقوط الخلافة العباسية حتى عصرنا الحاضر: وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: السُّنَّة من عام "656هـ" حتى عام "911هـ". المبحث الثاني: دور العلماء في خدمة السُّنَّة بعد عام "911هـ" وحتى آخر القرن الرابع الهجري. المبحث الثالث: دور أشهر الممالك التي كان لها أثر ملموس في خدمة السُّنَّة في هذا العصر. المبحث الرابع: جهود علماء المسلمين في خدمة السُّنَّة في العصر الحاضر. والله الموفق والمستعان دكتور/ علي عبد الباسط مزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 التمهيد الفصل الأول: منكرو السنة والرد عليهم المبحث الأول: مزاعم منكري السنة قديما، والرد عليها ... التمهيد: وفيه فصلان: الفصل الأول: منكرو السُّنَّة والرد عليهم لأهمية السُّنَّة في بناء التشريع الإسلامي اهتمت بها الأمة اهتمامًا بالغًا، وسخروا لها كافة جهودهم وكل طاقاتهم، ابتداء من الصحابة رضوان الله عليهم، وتمخض عن هذا الاهتمام علوم عظيمة غايتها البحث في معاني الأحاديث النبوية الشريفة، وشكلها، وطريقة روايتها، وتمييز صحيحها من سقيمها، ولم يوجد رجل أو امرأة ممن روى الحديث الشريف إلا وله ترجمة خضعت لبحث دقيق من كل ناحية. ورغم ذلك ظهر في كل عصر من ينكر السُّنَّة، ويطالب بالاكتفاء بالقرآن الكريم، بحجة أن السُّنَّة لم تنقل إلينا كما ينبغي، وهذا افتراء يدحضه عديد من الأدلة، ونوضح ذلك من خلال المبحثين الآتيين: المبحث الأول: مزاعم منكري السُّنَّة قديمًا، والرد عليها من يتأمل كلام منكري السُّنَّة قديمًا يجدهم يركزون على عدة مزاعم؛ هي: الأول: أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي يفهمه مَن عرف العربية، وتفقه فيها، وقد ورد إلينا ورودًا قطعيًّا لا شك فيه، فلا حاجة إلى السُّنَّة كي تبينه. الثاني: أن الله تعالى قد نص في كتابه العزيز على أنه قد حوى كل شيء، وفيه تبيان كل شيء. الثالث: أن السُّنَّة قد وردت إلينا ورودًا ظنيًّا؛ لأنها نقلت عن طريق الرواة الذين يخطئون وينسون ويكذبون، فالرواية باطلة، وما تنقله باطل لا يصح الاحتجاج به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الرابع: كيف نسوي بين القرآن الكريم الذي ورد ورودًا قطعيًّا، والسُّنَّة التي وردت ورودًا ظنيًّا، ونخصص بها عام الكتاب، أو نقيد مطلقه؟ 1 وقد تصدى كثير من الأئمة والعلماء -قديمًا وحديثًا- بالرد على منكري السُّنَّة وتفنيد مزاعمهم.. ونتخير من هذه الردود رد الإمام الشافعي، والعالِم الحجة ابن أبي حاتم الرازي. أولًا: رد الإمام الشافعي يعتبر رد الإمام الشافعي من أبلغ الردود وأبين المناقشات قديمًا. ومجمل رده ومناقشته لهم ينحصر فيما يلي2: أولًا: أن الله تعالى نص في القرآن الكريم على السُّنَّة، وذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2] ، ونحوه قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] فالعطف هنا على مغاير، فالكتاب غير الحكمة، ولا يُسلَّم للمعترضين أن الكتاب والحكمة لفظان يدلان على معنى واحد، وأن الحكمة هي الكتاب. فهذا الاعتراض مدفوع بما جاء في آيات أخرى، نحو قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] ، فالحكمة هي السُّنَّة، وآيات الله هي القرآن الكريم، والمراد بالتلاوة القراءة، ولو صح قولهم لكانت الكلمات الثلاث "آياته، الكتاب، الحكمة" مترادفات، وهي جميعًا في آية واحدة، وهي قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] والقول باشتمال آية واحدة على ثلاثة مترادفات غير معهود في الأسلوب القرآني، ويتنافى مع إيجاز القرآن وبلاغته3.   1 المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص 189". 2 راجع ذلك مفصلًا في: توثيق السُّنَّة في القرن الثاني الهجري "ص77-102". 3 راجع: المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص192". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وإذا كان القرآن الكريم اشتمل على السُّنَّة، فيجب علينا أن نأخذ بها، وألا نكون كمن آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة: 85] . ثانيًا1: قد فرض الله تعالى علينا اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] ، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . فهذه الآيات ونحوها تدل على أن هناك أحكامًا وأوامر للرسول -صلى الله عليه وسلم- ليست في القرآن، ويجب علينا اتباعها تنفيذًا لأوامر الله تعالى في كتابه العزيز، ولا يمكن اتباعها إلا بأخذها من الرواة الذين نقلوها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب -كما يقول الأصوليون. وليس المراد من حكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطاعته في الآيات هو الحكم بما أنزل الله في كتابه، وطاعته فيما يبلغهم من كتاب الله -عز وجل- كما يزعم لمعترضون، ولو سلمنا ذلك جدلًا، فإنا لا نجد السبيل إلى تطبيق أحكام الله -عز وجل- على الوجه الأكمل إلا إذا اقتدينا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة والوقوف على سنته والأخذ بها، وطريقنا إليها هو الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثالثًا: هناك بعض الأحكام التي نُسخت في القرآن الكريم وجاءت مكانها أحكام أخرى، ولم يبين هذا النسخ إلا السُّنَّة؛ مما يجعلنا في حاجة إلى الأخذ بها. ومن ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] ، فالآية تفرض وتقرر على المؤمنين أن يوصوا لوالديهم وأقربائهم إذا أحسوا بدنوِّ الأجل، وجاءت السُّنَّة بنسخ الوصية للوالدين والأقربن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" 1، ولا دليل على هذا النسخ إلا بالسُّنَّة، فتطبيق حكم الله على الوجه الأكمل لا يكون إلا بالأخذ بالسُّنَّة، وذلك حتى لا يُعمل بآية قد نسخ الشرع حكمها. رابعًا: وصرحوا بما هو حق؛ ولكنهم سرعان ما حوَّروه إلى باطل، فقالوا: إن السُّنَّة تخصص العام في القرآن الكريم، والقرآن قطعي الورود، والسُّنَّة ظنية الثبوت؛ فلهذا تُرد السُّنَّة؛ لأن القرآن قطعي وهي ظنية. وهؤلاء يعارضون أنفسهم بأنفسهم؛ لأنهم يتفقون -مع غيرهم- على أن حرمة الدم والمال مقطوع بهما، ومتفقون على أنه إذا شهد اثنان على إنسان بأنه قتل آخر عمدًا، فإنه يباح دمه ويُقتل قَصاصًا، وإذا شهد اثنان على إنسان بأنه انتهب مالًا عوقب ويؤخذ من ماله بقدر ما أخذ، وقد حكمنا بذلك بناء على ظننا أن الشاهدين صادقان، فهذا تخصيص قطعي بظني: القطعي هو حرمة الدم والمال، والظني هو شهادة الشهود، ومنكرو السُّنَّة يعترفون بذلك ويقبلونه، فلِمَ يرفضون السُّنَّة بحجة أنها ظنية والقرآن قطعي؟!   1 هذا الحديث جزء من حديث طويل في خطبة الوداع بدايته: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" الحديث، رواه أبو داود في "17" كتاب البيوع والإجارات: باب في تضمين العارية - حديث رقم "3565"، والترمذي في "31" كتاب الوصايا "5" باب ما جاء لا وصية لوارث - حديث رقم "2120" من حديث أبي أمامة، وقال الترمذي: وفي الباب عن عمرو بن خارجة، وأنس، وهو حديث حسن صحيح ... ثم رواه الترمذي من حديث عمرو بن خارجة بنحو حديث أبي أمامة مطولًا "2121" وقال: هذا حديث صحيح. ورواه النسائي في المجتبى "30" كتاب الوصايا "5" باب إبطال الوصية للوارث - من حديث عمرو بن خارجة بالطرف المذكور فقط "3461، 3462، 3463"، ورواه ابن ماجه في "22" كتاب الوصايا "6" باب لا وصية لوارث - من حديث عمرو بن خارجة بنحو حديث الترمذي "2712"، ومن حديث أبي أمامة بالطرف المذكور "2713"، ومن حديث أنس بن مالك مختصر أيضًا "2714"، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة "2/ 368": هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ولا شك أن في الأخبار أو الأحاديث احتمال الخطأ والوهم والكذب؛ ولكن العلماء وضعوا ضوابط ومقاييس كثيرة للتثبت والتأكد من عدالة الرواة وضبطهم؛ بحيث يصبح نقل الحديث على وجه الصحة أكثر تأكيدًا من أداء الشهادة على الوجه الصحيح، ومنكرو السُّنَّة لا يختلفون في صحة الشهادة، فكيف يختلفون في صحة رواية السُّنَّة ونسبة الظن فيها أقل من نسبة الظن في الشهادة؟! فالقرآن الكريم نص على اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويكون ذلك باتباع ما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، ونحن لا نعرف ذلك إلا بالرواية التي نالت عناية فائقة من الأئمة العلماء الذين وضعوا كافة الأسس والضوابط والمقاييس التي تبين حال كل واحد من رواة الحديث الشريف من حيث العدالة والضبط والإتقان ... إلخ. ثانيًا: مناقشة الإمام ابن أبي حاتم الرازي للمنكرين للسُّنَّة عاش ابن أبي حاتم في القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجريين، وهو من أبرز الحريصين على نقل الرواية الصحيحة، وله مناقشات هامة في إثبات مشروعية الرواية في مقدمة كتابه "الجرح والتعديل" "1/ 1/ 1-13" ويمكننا توضيحها فيما يلي: أولًا: قد جعل الله تعالى المسلمين عدولًا يُعتمد على شهادتهم وروايتهم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ومعنى الوسط: العدل، وهم كذلك بتمسكهم بمبادئ دينهم، فهم يشهدون يوم القيامة على الأنبياء بأنهم بلغوا عن ربهم رسالاته إلى الناس بناء على إخبار الله ورسوله لهم بذلك، وإذا كان الله تعالى جعلهم عدولًا وقَبِلَ روايتهم وأخبارهم التي رَوَوْها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه أحرى بنا أن نقبل روايتهم؛ لأنها نوع من الشهادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وروى ابن أبي حاتم في تفسير الآية السابقة بإسناده عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي أنه قال صلى الله عليه وسلم: "يُدعى نوح -عليه السلام- يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيُدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيُقال لنوح عليه السلام: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته، فذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} " قال: "الوسط: العدل، فتُدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم يشهد عليكم بعد". قال ابن أبي حاتم: لما أخبر الله -عز وجل- أنه جعل هذه الأمة عدلًا في شهادتهم بتبليغ رسلهم رسالات ربهم بَانَ أن السُّنَّة تصح بالأخبار المروية؛ إذ كانت هذه الأمة إنما علمت بتبليغ الأنبياء رسالات ربهم بإخبار نبيهم صلى الله عليه وسلم. وقد أشار الله تعالى إلى أن الأخبار لا تؤخذ إلا من العُدول؛ لأن هذا يجعلنا نطمئن إلى سلامة ما نُقل إلينا من التغيير والتحريف والتبديل1. ثانيًا: قد حث الله تعالى المؤمنين بأن يَنْقُل من فَقُه أو تعلَّم من الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الآخرين الذين لم يتمكنوا من ذلك، وعملية النقل هذه هي الرواية، قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . روى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس 0رضي الله عنهما- أنه قال في تفسير هذه الآية: "لتنفر طائفة ولتمكث طائفة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالماكثون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم من الغزو لعلهم يحذرون ما أنزل من بعدهم من قضاء الله -عز وجل- وكتابه وحدوده". قال ابن أبي حاتم: "قد أمر الله -عز وجل- المتخلفين مع نبيه -صلى الله عليه وسلم- عمن خرج غازيًا أن يخبروا إخوانهم الغازين إذا رجعوا إليهم بما سمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سنته، فدل ذلك على أن السنن تصح بالإخبار".   1 راجع: المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص197". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وفي رواية لابن عباس -رضي الله عنهما- قال في تفسير الآية الكريمة: "كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة، فيأتون النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون في دينهم، ويقولون لنبي الله صلى الله عليه وسلم: ما تأمرنا أن نفعله؟ وأخبِرنا ما نقول لعشائرنا ... فيأمرهم نبي الله بطاعة الله وطاعة رسوله، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة، وكانوا إذا أتَوا قومهم نادَوا: أن من أسلم فهو منا، وينذرونهم، حتى إن الرجل ليفارق أباه وأمه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخبرهم، وينذرهم قومهم، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة". ثالثًا: قد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتمد على رواية أخبار العدول، وينفذ بمقتضاها بعض الأحكام، وإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك فنحن نتأسى به، ونقبل السُّنَّة التي تأتينا عن طريق الرواة العدول، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] . روى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قوله: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وأنه لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا ليتلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه لما حُدِّث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه رجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غضبًا شديدًا، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله! إنا حُدِّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن يكون رده كتاب جاءه منك بغضب علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله". ورُوي عن مجاهد وقتادة والضحاك نحو ذلك. قال ابن أبي حاتم: "لما أخبر الوليد بن أبي معيط النبي -صلى الله عليه وسلم- بامتناع من بعث إليهم مصدقًا فقبل خبره لصدق الوليد وستره عنده، وتغيظ عليهم بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وهمَّ بغزوهم حتى نزل عليه القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} فكف عند ذلك عنهم، دل على أن السنن تصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنقل الرواة الصادقين لها". وقد تدل الآية على أن الفسقة لا تُؤخذ منهم الرواية، وبذلك تصان السُّنَّة من التحريف والتبديل1. رابعًا: وقد ورد في أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجوب أخذ السنن بنقل الرواة العدول لها، ومن ذلك: الأمر بنقل الأخبار عنه -صلى الله عليه وسلم- وذلك في قوله: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" 2، وقوله: "حدثوا عني ولا حرج" 3، وقوله في أكثر من حديث: "فليبلغ الشاهد الغائب" 4. وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكذب عليه وبيَّن عقاب من يفعل ذلك، فلا يحل التحديث عنه إلا إذا تأكدنا من صحة نسبة الحديث إليه، ولا نقبل رواية الكاذبين، وبذلك نصل إلى الحق من سنته.   1 راجع المدخل إلى توثيق السنة "ص200". 2 رواه البخاري والترمذي وغيرهما من طريق حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. صحيح البخاري "60" كتاب أحاديث الأنبياء "50" باب ما ذكر عن بني إسرائيل - حديث رقم "3461". سنن الترمذي "42" كتاب العلم "13" باب ما جاء في الحديث عن نبي إسرائيل - حديث رقم "2669"، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. 3 رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". صحيح مسلم "4/ 2298، 2299" "53" كتاب الزهد "16" باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم - حديث رقم "72/ 3004". ورواه الإمام أحمد في مسنده "3/ 46" عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا بلفظ: $"حدثوا عني، ولا تكذبوا عليَّ، ومن كذب عليَّ متعمدًا فقد تبوأ مقعده من النار، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج". 4 جاء ذلك عند البخاري في كتاب جزاء الصيد "1832"، والعلم "67، 105"، والأضاحي "5550"، والحج "1739" "1741"، والفتن "7078"، والمغازي "4259"، والتوحيد "7447"، ومسلم في القسامة حديث رقم "30، 29/ 1679". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ففي الحديث الشريف الحض على نقل السُّنة، والترغيب في طلبها، والسعى إلى تحصيلها وتبليغها، وتوصية المرتحلين فيها، قال ابن أبي حاتم: "ولما أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بطالبي الآثار، والمرتحلين فيها، ونبه عن فضيلتهم؛ عُلم أن في ذلك ثبوت الآثار، بنقل الطالبين الناقلين لها، ولو لم تثبت بنقل الرواة لها لما كان في ترغيب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها معنى". قال الأستاذ الدكتور/ رفعت فوزي مُعقبًا على ما سبق: "ويرى ابن أبي حاتم أنه أتى في ذلك بما يراه كافيًا لدحض حجة هؤلاء وإبطال دعواهم، ولا أظن أنه يُقنع مثل هؤلاء القوم بطريقته هذه؛ لأنه يستشهد بما يرفضونه أساسًا، وهو الآثار، وحتى تلك الآيات التي ساقها؛ لأنه يبين مواطن الاستشهاد فيها اعتمادًا على ما ساقه من آثار وردت في آثارها، وهو كمحدث أُشربت نفسه حب الحديث، لا يريد أن يخرج عن دائرة التحديث حتى في المواطن التي ينبغي فيها الخروج عنها؛ ليكون عمله مجديًا ويؤدي الغاية المرجوَّة منه. ومهما يكن من شيء، فقد أفاد عمله هذا من ناحية أخرى؛ من حيث بيان مشروعية الرواية وأهميتها في نقل السنن، وفي ذلك تأصيل لها، وبيان لقيمتها، كما أفاد عمله هذا كذلك طمأنة لقلوب المؤمنين"1.   1 المدخل إلى توثيق السُّنة "ص201". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 المبحث الثاني: منكرو السُّنَّة حديثًا، وتفنيد مزاعمهم سبق أن ذكرنا أن منكري السُّنَّة بزغوا في كل عصر، وقد رد عليهم الإمام الشافعي قديمًا وكذلك ابن أبي حاتم وغيرهما. وحديثًا أنكر بعض الناس أن تكون السُّنَّة مصدرًا للتشريع الإسلامي مُتذرعين بالعديد من الحجج، وأهمها ما يلي1: أولًا: القرآن الكريم حوى كل أمور الدين ووضحها؛ بحيث يغني عما عداه، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، والأخذ بالسُّنَّة يناقض ذلك. ثانيًا: الله تعالى ضَمِنَ حفظ كتابه لأنه مصدر التشريع ولم يضمن حفظ السُّنَّة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ولو كانت السُّنَّة دليلًا من أدلة التشريع وحجة كالقرآن لتكفل الله بحفظها، ولا يستطيع أحد أن يدَّعي أن السُّنَّة وصلت إلينا بنصها. ثالثًا: لو كانت السُّنَّة حجة ومصدرًا من مصادر التشريع لتكفل النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتابتها، ولعمل الصحابة والتابعون على جمعها وتدوينها صيانة لها من العبث والتبديل والتحريف والنسيان؛ لكن الثابت -هكذا يزعمون- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كتابتها وأمر بمحو ما كُتب منها، وكذلك فعل الصحابة والتابعون. رابعًا: ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على عدم حجية السُّنَّة، ومن ذلك قوله: "إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس مني"2، وقوله: "إذا حُدِّثتم عني حديثًا تنكرونه -قلته أو   1 راجع: السُّنَّة ومكانتها في التشريع "ص138-140"، المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص201-203". 2 رواه الإمام الشافعي في الأم رقم "2998". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 لم أقله- فلا تصدقوا به؛ فإني لا أقول ما يُنكر ولا يُعرف"1، وقوله: "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه"2، وفي رواية: "لا يمسكن الناس على شيء، فإني لا أحل ما أحل الله، ولا أحرم إلا ما حرم الله" 3. فهذه الأحاديث تفيد وجوب عرض السُّنَّة على القرآن، وأن نأخذ منها ما وافق القرآن، وما خالفه لا نقيله، فلا أهمية للسُّنَّة، ودورها هو التوكيد والتكرار لما في القرآن الكريم. خامسًا: أكثر بعض الصحابة من التحديث عن الرسول كثرة لا تتناسب مع صحبته للرسول، مما يدل على أنه كان يتقوَّل عليه لأهواء سياسية وشخصية، فكيف نثق فيما رووه إذن؟ سادسًا: لم يهتم علماء الحديث بنقد المتن، فصححوا أحاديث كثيرة موضوعة ولو عُرضت على مقاييس أخرى "غير السند" لتبين عدم صحتها. - مناقشة مزاعم منكري السُّنَّة حديثًا 4: فيما يلي تفنيد لحجج المنكرين للسُّنة حديثًا: الأول: المراد بالكتاب في الآية الكريمة: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} اللوح المحفوظ، وليس القرآن كما يزعمون، وكذلك في قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] .   1 تاريخ بغداد "11/ 391"، والكامل لابن عدي "1/ 26" الباب السابع اتقاء حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ما يعلمه ويعرفه ويتقنه، والميزان "3/ 352" في ترجمة الفضل بن سهل رقم "2728" كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وفي إسناده الفضل بن سهل، وقد عد الحافظ الذهبي هذا الحديث من مناكيره. 2 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 171، 172" وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وقال: لم يروه عن يحيى بن سعيد إلا علي بن عاصم، تفرد به صالح بن الحسن بن محمد الزعفراني، قلت: ولم أرَ من ترجمهما". 3 رواه الشافعي في مسنده "332". 4 راجع: المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص204-220". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الثاني: والمراد بالذكر في الآية الكريمة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الشرع والدين الذي بعث به رسوله، فهو يشمل القرآن والسُّنَّة ولا يخص أحدهما، والدليل قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] . وقد قيض الله تعالى من يحفظ كتابه، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتنقيتها من الدخيل والموضوع، وحفظها من التغيير والتبديل والتحريف. وهذا ما فهمه عبد الله بن المبارك حين قيل له: "هذه الأحاديث الموضوعية؟ " فقال: تعيش لها الجهابذة، وتلا قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. وقال ابن حزم في معرض رده على الزاعمين أن الذكر هو القرآن: "هذه دعوى كاذبة مجردة عن البرهان وتخصيص للذكر بلا دليل، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- من قرآن أو سنة"2. الثالث: كون الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بعدم كتابة السُّنَّة فليس ذلك دليلًا على عدم حجيتها؛ وإنما كان ذلك لأسباب تقتضيها المصلحة، ومن هذه الأسباب: أن النهي كان أولًا وذلك للتفرغ لحفظ القرآن الكريم والاطمئنان إلى عدم اختلاطه بغيره. ومنها: أن النهي كان في حق أشخاص بعينهم حتى لا يتكلوا على الكتابة أو لضعفهم في كتابة العربية. وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ بكتابة السُّنَّة لبعض الصحابة في أول الإسلام، ثم كان الإذن لمن شاء أن يكتب بعد ذلك. الرابع: الأحاديث التي احتجوا بها على عدم حجية السُّنَّة لا تنهض دليلًا على رأيهم؛ لأنها غير صحيحة:   1 تدريب الراوي "2/ 358" مؤسسة الرسالة - بيروت. 2 الإحكام "1/ 121". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الحديث الأول: "إن الحديث سيفشو عني ... "، قال البيهقي: "رواه خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابي، فالحديث منقطع"، وقال مرة أخرى: "والحديث الذي رُوي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان" يعني بذلك: أن يتعارض مع ما يدعو إليه القرآن من طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والاحتكام إلى الله ورسوله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [النساء: 59] . وقد قال الشافعي فيما نقله عنه البيهقي في هذا الحديث: "ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر". وقال: "وهذه أيضًا رواية منقطعة، عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل هذه الرواية في شيء". ثم رواه البيهقي بسنده عن الشافعي قال: قال أبو يوسف: حدثني خالد بن أبي كريمة، عن أبي جعفر، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه دعا اليهود فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى -عليه السلام- فصَعِدَ النبي -صلى الله عليه وسلم- المنبر، فخطب الناس فقال: "إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني". قال البيهقي: هذه الرواية منقطعة، كما قال الشافعي في كتاب الرسالة، وكأنه أراد بالمجهول خالد بن أبي كريمة، فلم يعرف من حاله ما يثبت به خبره1. وقد روى الطبراني عن ابن عمر نحو ما جاء عند الشافعي، قال السخاوي: قد سُئل شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- عن هذا الحديث فقال: إنه جاء من طرق لا تخلو من مقال، وقال الصنعاني: هو موضوع2.   1 معرفة السُّنَّة والآثار عن الإمام الشافعي "1/ 69". 2 انظر: كشف الخفاء للعجلوني "1/ 86". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وقال ابن حزم في الحسين بن عبد الله بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي المدني أحد رواة الحديث من بعض طرقه: "الحسين بن عبد الله متهم بالزندقة"1. ومن جهة أخرى، فإنه على اعتبار التسليم بقبول هذا الحديث، فإن "العلماء بهذا الحديث قديمًا على أن السُّنَّة تأتي بجديد، وأن كل ما تأتي به يجب أن يُلتمس له أصل في القرآن الكريم، مع التسليم بأن الأخذ بالسُّنَّة واجب، أما اليوم -فكما نرى- يُستدل به على ترك السُّنَّة وعدم الأخذ بها"2. الحديث الثاني: "إذا حُدثتم عني حديثًا تعرفونه ولا تنكرونه ... "، قال الدكتور رفعت فوزي: "فرواياته كلها ضعيفة منقطعة كما نص على ذلك العلماء"3. الحديث الثالث: "إني لا أحل ما أحل الله .... "، قال الشافعي: "هذا منقطع، وعلى فرض صحته فليس فيه دليل للخصم فيما يدَّعِي؛ لأن معناه أن ليس للناس أن يقولوا: كيف يُحل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويحرم ما ليس في القرآن، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مُشرِّع، وهو لا يحل إلا ما كان حلالًا في شرع الله، ولا يحرم إلا ما كان حرامًا فيه، وكل ما يحله أو يحرمه إنما هو في كتاب الله باعتبار أنه أمر بطاعته، ونهى عن مخالفته، فقد أمرنا أن نطيعه -صلى الله عليه وسلم- فيما يحله أو يحرمه، أو أن كل ما يحرمه أو يحله له أصل في كتاب الله -عز وجل- أو نظير يقاس عليه4. والعجيب في هؤلاء المنكرين للسُّنَّة أنهم يستدلون بها على عدم حجيتها، فكيف يرفض هؤلاء السُّنَّة ثم يأخذون منها الدليل على ما يزعمون؟! وإن جاز لهم ذلك، فلماذا يستدلون بالأحاديث الضعيفة ويتركون الأحاديث الصحيحة التي تحث على كتابة السُّنَّة، وعلى الأخذ بالسُّنَّة؟!   1 الإحكام "2/ 76". 2 المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص208". 3 المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص109". 4 راجع: نقد هذه الأحاديث في "مفتاح الجنة" للسيوطي "ص13-16"، و"السُّنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي" "ص145-148". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الخامس: بالنسبة لزعمهم بأن الصحابة والتابعين زادوا على السُّنَّة وتقوَّلوا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحجة أن ما رووه بلغ من الكثرة حدًّا لا يتناسب مع صحبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- فهذا مدحوض، والرد عليه لا يحتاج إلى عناء كبير. فلقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- حريصين على استيعاب دين الله ونقله إلى الأجيال اللاحقة، ولم يكن دافعهم إلى ذلك أهواء شخصية وسياسية كما يزعمون؛ وإنما كان الدافع هو الغيرة على دين الله تعالى، وشدة الرغبة في الحفاظ عليه1.   1 راجع: المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص210". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الفصل الثاني: مكانة السُّنَّة في التشريع الإسلامي السُّنَّة هي المصدر الثاني في التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، وإنها حُجة جميع المسلمين اتفاقًا، وبنص القرآن الكريم في آيات عديدة. ومهمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأُولى هي تبليغ الوحي الإلهي متمثلًا في القرآن الكريم. ثم عليه مهمة أخرى؛ وهي أن يبين للناس الأصول العامة والأحكام المجملة، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . وليكون لهذا التبيين والتوضيح مكانةٌ في نفوس المؤمنين، وموضعُ احترام كامل وتقدير -نص القرآن على وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، وقال تعالى: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . وقد قرن الله تعالى طاعة رسوله بطاعته -عز وجل- وجعل في التزامنا بذلك حياة لنا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] ، وجعل الله شرط الإيمان الصحيح الاحتكام إلى الله ورسوله، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] ، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، ولا يجوز مخالفته البتة، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ويطمئن الله تعالى المؤمنين من ناحية تشريع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يأمر إلا بالمعروف ولا ينهى إلا عن المنكر، وأنه يحل ما هو طيب ويحرم ما هو خبيث، قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] . - والأحاديث الصحيحة التي تؤكد أهمية طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتمسك بسنته كثيرة: منها: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي" 1. ومنها: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبَى"، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبَى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبَى" 2. ومنها: حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- الذي رواه أبو داود والترمذي من طريق شعبة، عن أبي عون، عن الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذًا إلى اليمن فقال له: "كيف تصنع إن عرض لك قضاء"؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: "فإن لم تجد"؟ قال: فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث3. ومعظم المسلمين يحفظون الحديث الصحيح الذي حذر فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ترك سنته   1 ذكره السيوطي في جمع الجوامع "2/ 1016"، والجامع الصغير "رقم 3282"، وعزاه للحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة. 2 رواه البخاري في صحيحه: كتاب الاعتصام، باب الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- رقم "7280". 3 سنن أبي داود "4/ 18، 19" "18" كتاب الأقضية "11" باب اجتهاد الرأي في القضاء - حديث رقم "3592"، "3593"، سنن الترمذي "3/ 316، 617" "13" كتاب الأحكام "3" باب ما جاء في القاضي كيف يقضي - حديث رقم "1327"، "1328"، وقال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بمتصل، وأبو عون الثقفي اسمه عبيد الله. اهـ. وقال الإمام البخاري عن إسناد هذا الحديث: "الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي، عن أصحاب معاذ، عن معاذ، روى عنه ابن عون، ولا يصح، ولا يُعرف بهذا، مرسل". التاريخ الكبير "2/ 277" ترجمة رقم "2449". وممن ضعفه أيضًا ابن حزم، وعبد الحق كما في التلخيص الحبير "4/ 183"، وكلام ابن حزم في الإحكام له "773/ 2" ... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 والاحتكام إلى القرآن وحدة: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك الرجل متكئًا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله -عز وجل- فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله" 1.   = وذكر الخطيب البغدادي لهذا الحديث طريقًا آخر في الفقيه والمتفقه "1/ 189": عبادة بن نُسَيّ، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن معاذ، وقال الخطيب: "وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة". وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير "4/ 183": "فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا لكان كافيًا في صحة الحديث". وممن صحح هذا الحديث من جهة سنده أيضًا: الإمام القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه عارضة الأحوذي "6/ 72، 73" قال: "اختلف الناس في هذا الحديث، فمنهم من قال: إنه لا يصح، ومنهم من قال: هو صحيح، والدين القول بصحته؛ فإنه حديث مشهور يرويه شعبة بن الحجاج، رواه عن جماعة من الرفقاء والأئمة؛ منهم: يحيى بن سعيد، وعبد الله بن المبارك، وأبو داود الطيالسي، والحارث بن عمرو الهذلي الذي يرويه عنه، وإن لم يعرف إلا بهذا الحديث فكفى برواية شعبة عنه، وبكونه ابن أخ للمغيرة في التعديل له والتعريف به، وغاية حظه في مرتبته أن يكون من الأفراد ولا يقدح ذلك فيه، ولا أحد من أصحاب معاذ مجهولًا". وصححه الإمام الحافظ الذهبي في كتابه: "مختصر العلل المتناهية لابن الجوزي"، والذي طبع باسم "تلخيص كتاب العلل المتناهية لابن الجوزي" "ص269، 270" بتحقيق ياسر إبراهيم محمد، فقد عقب على كلام ابن الجوزي قال عن الحارث: ما هو مجهول؛ بل روى عنه جماعة وهو صدوق إن شاء الله، وعن قوله: وأصحاب معاذ لا يعرفون. قال: ما في أصحاب "معاذ" بحمد الله ضعيف، ولا سيما وهم جماعة. ثم قال: "وهذا حديث حسن الإسناد، ومعناه صحيح". وصححه أيضًا الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين "2028" قال: "فهذا حديث وإن كان عن غير مسمين، فهم أصحاب معاذ، فلا يضره ذلك؛ لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذي حدث به الحارث به عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ، لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهر من أن يكون عن واحد منهم لو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، ولا يعرف من أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح؛ بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث، وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به". ومن جهة أخرى، فإن هناك بعض العلماء الذين صححوا هذا الحديث من جهة شهرته بين العلماء؛ حيث تلقوه بالقبول، وعملوا به، واحتجوا به، وصار مشهورًا بينهم، واستغنوا بشهرته عن النظر في إسناده كما فعلوا هذا في أحاديث أخر، وممن صححه من هذه الجهة: أبو العباس بن العاص "أحمد بن أبي أحمد الطبري من أئمة الشافعية، انظر: سير أعلام النبلاء 15/ 371، 372" ذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير "4/ 183" وقال ابن حجر: "إنه استند في صحته إلى تلقي أئمة الفقه والاجتهاد له بالقبول، وأنه قال: وهذا القدر مغنٍ عن مجرد الرواية، وهو نظير أخذهم بحديث: "لا وصية لوارث"، مع كون راويه إسماعيل بن عياش". 1 رواه الحاكم في المستدرك "1/ 108-110" بأكثر من طريق وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الحافظ الذهبي، ورواه أبو داود "4640"، والترمذي "2664" وحسنه، وابن ماجه "12"، كلهم من حديث المقدام بن معدي كرب -رضي الله عنه- وقال الخطابي: وفي الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان حجة بنفسه. معالم السنن هامش أبي داود "5/ 11". وقوله: "متكئًا على أريكته" كناية عن عدم مبالاته واهتمامه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 - عَلاقة السُّنَّة بالقرآن الكريم: السُّنَّة مرتبطة بالقرآن ارتباطًا وثيقًا، فقد تكون مفصِّلة لِمُجْمَلِه كبيانها لكيفية الصلاة، ففي الحديث: "صلوا كما رأيتموني أُصلي" 1؛ حيث تحديد الوقت والعدد والكيفية، ونحو بيانها لكيفية الحج، ففي الحديث: "خذوا عني مناسككم" 2، وأيضًا المسائل المتعلقة بالزكاة والصيام ... وقد تكون مُقيِّدة لمطلقه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قيدت السُّنَّة القطع في المرة الأولى بقطع اليد من مفصل الكف ... ، وقوله تعالى في الميراث يقسَّم {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] قيدته السُّنَّة بأنه لا وصية لوارث، وبأن تكون الوصية لغيره في حدود الثلث ... وقد تكون مُخصِّصة لعامه، ومن الأحكام التي جاءت عامة في القرآن الكريم الميراث في: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن} [النساء: 11] خصصته السُّنَّة بأن القاتل لا يرث، ولا يرث المؤمن الكافر والعكس، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن الأنبياء لا نُورَث، ما تركناه صدقة"، ومنه أيضًا أن الله تعالى قال في الزواج: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24] خصصته السُّنَّة بأنه: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا على ابنة أخيها، ولا على ابن أختها، فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"، وبقوله: "يُحَرَّم من الرضاع ما يحرم من النسب". وقد تكون مُوَضِّحة لمشكله؛ كتوضيح الشجرة في: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَة} [إبراهيم: 24] بأنها النخلة، وكتوضيح التثبيت في: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ} [إبراهيم: 27] بأن ذلك في القبر حين يُسأل المؤمن.   1 رواه البخاري ضمن حديث طويل عن مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- مرفوعًا. راجع: صحيح البخاري "10" كتاب الأذان "18" باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة ... إلخ، حديث رقم "631"، وانظر: رقم "628" وأطرافه. 2 رواه مسلم في حديث لجابر بن عبد الله رضي الله عنه. راجع: صحيح مسلم "15" كتاب الحج "51" باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر، حديث رقم "310/ 1297". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقد تكون موضِّحة لمبهمه، فلم يفهم الصحابة الظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك للصحابة بأن المراد "الشرك"، واستدل بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . وهناك أحكام أتى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يذكرها القرآن الكريم مجملة أو مفصلة أو مبهمة أو عامة أو خاصة أو مطلقة أو مقيدة، ومن ذلك تحريم لحوم الْحُمُر الأهلية، وتحريم كل ذي ناب من السباع، وتحريم كل ذي مخلب من الطير، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في الزواج ... إلخ، وتحليله لحوم الضب والأرانب؛ ولكن: هل هذه الأحكام جديدة أم نُصَّ عليها في كتاب الله عز وجل؟ أ- يرى المحدثون أن مثل هذه الأحكام جديد سكت عنه القرآن الكريم. ب- ويرى بعض العلماء -وخاصة الأصوليين- أن هذه الأحكام ليست جديدة، فكل ما جاءت به السُّنَّة لا يخرج عن كونه بيانًا لما في كتاب الله عز وجل. وقد كان السبب في اختلافهم هذا اختلاف فهمهم لما جاء في كتاب الله تعالى أنه قد حوى كل شيء، وأنه فيه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 1. فالمحدِّثون يرون أن مثل هذه الأحكام -وإن لم ينص عليها القرآن الكريم- تندرج تحت الآيات التي تأمر باتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطاعته، وتحذر من مخالفته فيما يحكم بينهم، فالقرآن الكريم -إذن- قد بيَّن كل ما يأتي به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين نص على سنته والأخذ بها. وأصحاب الرأي الثاني يرون أن القرآن الكريم قد اشتمل على الأصول العامة التي يمكن أن يندرج تحتها كل ما ينفع المؤمنين ويوجه مسيرتهم على الطريق   1 قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المستقيم، وكل ما يأمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما هو بهدى من هذه الأصول، وتطبيق لحكمتها العامة، أو إلحاق بفرع من الفروع التي نص الله -عز وجل- في كتابه على أصولها. فمثلًا ما ورد في السُّنَّة من تحريم لحوم الحُمُر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير -له أصل في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . فالرسول -صلى الله عليه وسلم- عَلِمَ بوحي من الله تعالى أن مثل هذه اللحوم من الخبائث فحرمها على المسلمين. وما ورد من تحليل لحوم الأرنب والضب أصله في الآية السابقة، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- نص على تحليله؛ لأنه عَلِمَ أنهما من الطيبات التي أحلها الله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الاعراف: 157] . والرسول -صلى الله عليه وسلم- حرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها؛ لأن مثله قد حرمه الله -وهو الجمع بين الأختين- في كتاب الله عز وجل، فالمصلحة فيها جميعًا واحدة؛ وهي قطع صلة الرحم، وبث عوامل التفكك في الأسر التي يريد الإسلام لها أن تتماسك وتتراحم؛ ولهذا نص صلى الله عليه وسلم على هذه المصلحة عندما نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها فقال: "فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" 1. ولكل من هؤلاء وأولئكم حجته2؛ ولكن الذي يهمنا هنا أمران: الأمر الأول: أن ما جاءت به السُّنَّة من هذا القبيل واجب الاتباع، وهو ما يعترف به الفريقان مع اختلاف وجهتي نظرهما في كونه مندرجًا تحت ما جاء به صلى الله عليه وسلم في كتاب الله عز وجل أو جديدًا لم ينص عليه فيه. الأمر الثاني: أن السُّنَّة على كلتا الوجهتين أضافت شيئًا نحن في حاجة إليه   1 أصول التشريع الإسلامي "ص48" طبعة دار المعارف، والحديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه "6/ 362" بلفظ: "فإنهن إذا فعلن ذلك قطعن أرحامهن". 2 الاتجاهات الفقهية للدكتور عبد المجيد محمود "ص160-184". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 سواء أأسميناه بيانًا أم جديدًا، ولن نستطيع أن نهتدي إليه من عند أنفسنا، ومن غير هدى من نبينا صلى الله عليه وسلم. ويبين الإمام ابن تيمية: لماذا يجب علينا اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- اتباعًا مطلقًا فيقول: "الحديث النبوي عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدَّث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد النبوة من قوله وفعله وإقراره، فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة، فما قاله إن كان خبرًا وجب تصديقه به، وإن كان تشريعًا -إيجابًا أو تحريمًا- وجب اتباعه فيه، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله -عز وجل- فلا يكون خبرهم إلا حقًّا، وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب، وأنه ينبئ بالغيب، والرسول مأمور بدعوة الخَلْق وتبليغهم رسالات ربه"1. قال فضيلة الدكتور رفعت فوزي2: "وقد يسأل بعضنا هذا السؤال: لماذا لم يحتوِ كتاب الله -عز وجل- تفصيلًا على مثل هذه الأمور التي تركها لبيان الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والجواب: أن كتاب الله -عز وجل- لو اهتم بهذه التفصيلات لاستطال استطالة تجعل من الحرج على المؤمنين أن يستقصوه، ويحفظوه، ويرتلوه، وكل هذا واجب عليهم، هذا بالإضافة إلى أنه كتاب هداية يضم كل ما يهدي المؤمنين في كل وقت، ومثل هذه التفصيلات لا أعتقد أن التالي لها -لو كانت في كتاب الله- تشع في نفسه تلك الهداية التي يستشعرها المؤمن في كل آية يتلوها من كتاب الله الكريم. وأيضًا لإظهار رحمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأمته، فهو بهم {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} كما قال الله -عز وجل- وهذه الرحمة تظهر في بيان كتاب الله حتى لا يترك المؤمنين حَيْرى في فَهْم وتطبيق نصوص كتاب الله العزيز. وحتى تتحقق القدوة بالرسول -صلى الله عليه وسلم- لا بُدَّ من الاقتناع العقلي، وهذا يتمثل   1 مجموع فتاوى ابن تيمية "18/ 6، 7، 10". 2 المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص16، 17". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 في أن يرى المسلمون أن هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس شخصًا كغيره؛ وإنما هو جزء من دينهم الذي جاء به من عند الله، ولن يتحقق هذا الجزء إلا باتباع نبيهم في الصلوات وغيرها، وإلا فكيف يصلي المؤمن دون تنفيذ ما أتى به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا المجال؟! إن هذا مستحيل -عقلًا- والله عز وجل أعلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الباب الأول: مناهج المحدثين في القرن الأول الهجري الفصل الأول: مظاهر اهتمام الصحابة بالسنة ... الباب الأول: مناهج المحدثين في القرن الأول الهجري - وفيه أحد عشر فصلًا: الفصل الأول: مظاهر اهتمام الصحابة بالسُّنَّة هناك عدة مظاهر تدل على اهتمام الصحابة -رضي الله عنهم- بالسُّنَّة، ومن أهمها ما يلي: الأول: الحرص على حضور مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسماعه والرواية عنه والاقتداء به والالتزام بأوامره وتوجيهاته. ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عمر -رضي الله عنه- قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك1. الثاني: حرص بعضهم على سماع الحديث من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة ليحدث به غيره؛ فقد جاء في صحيح مسلم قول عمرو بن عَنْبَسَة -رضي الله عنه- بعد أن حدَّث بحديث: لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة إلى أن أكذب على الله ولا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو لم أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا مرة أو مرتين أو ثلاثًا -حتى عَدَّ سبع مرات- ما حدثت به أبدًا؛ ولكني سمعته أكثر من ذلك2. الثالث: كما حرصوا على أن تنقل أقواله -صلى الله عليه وسلم- كما صدرت منه نقية غير   1 صحيح البخاري "5/ 114 فتح" كتاب المظالم، الباب "26"، "1/ 185" كتاب العلم الباب "27"، "8/ 657" تفسير سورة التحريم "8/ 659"، "9/ 278" كتاب النكاح، الباب "84"، "9/ 317" الباب "106"، "10/ 301" كتاب اللباس، الباب "31"، "13/ 232"، "13/ 240". 2 صحيح مسلم، بشرح النووي "2/ 481-483". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 مشوبة بشائبة وغير محرفة أدنى تحريف، فاتخذوا الحيطة في حفظ الحديث وفي سماعه، وخاصة بعدما سمعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم محذرًا من الكذب عليه1: "مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" 2. الرابع: من مظاهر اهتمام الصحابة بالسُّنَّة: تدوينُها في صحف، وهذا التدوين -في كتب، أو صحف، أو رسائل- يعد من الجهود الهامة التي قام بها الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.   1 المدخل إلى توثيق السُّنَّة، أ. د. رفعت فوزي "ص32". 2 رواه البخاري في: "3" كتاب العلم، "38" باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم - حديث رقم "107"، وأبو داود في سننه: "20" كتاب العلم، "4" باب في التشديد على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم - حديث رقم "3651"، وابن ماجه في سننه - حديث رقم "36"، كلهم من حديث الزبير بن العوام -رضي الله عنه- وللحديث شواهد كثيرة صحيحة أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الفصل الثاني: كتابة السُّنَّة في العهد النبوي يزعم بعض أهل العلم غير المتخصصين في الحديث الشريف وعلومه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن كتابة السُّنَّة وتدوينها، وغاب عن هؤلاء وأمثالهم أن كل الأحاديث المرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الكتابة ضعيفة الإسناد1، باستثناء الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه من طريق همام، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" 2. وحتى هذا الحديث أعلَّه الخطيب البغدادي، فزعم أن المحفوظ عن أبي سعيد الخدري من قوله موقوفًا عليه وليس مرفوعًا3. وعلى اعتبار صحته مرفوعًا -وهو ما أرجحه- فإن هناك أحاديث في أعلى درجات الصحة جاء فيها تصريح النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإذن بالكتابة؛ منها:   1 رُوي ذلك -أي النهي- من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وفي إسنادهما "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم" ضعيف عند جمهور العلماء؛ ومنهم: النسائي، وأبو زرعة الرازي، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم، وعلي بن المديني وغيرهم. راجع: الجرح والتعديل "2/ 233"، الميزان "2/ 564". كما رُوي من حديث زيد بن ثابت في سنن أبي داود "رقم 3647"، وفيه علتان؛ الأولى: في إسناده كثير بن زيد، ضعفه النسائي. وقال ابن معين: ليس بالقوي، وفي رواية: ليس به بأس، وفي ثالثة: ثقة. وقال أبو زرعة الرازي: صدوق فيه لين. وقال ابن المديني: صالح وليس بقوي. وقال ابن عدي: لم أرَ بحديثه بأسًا. راجع: ميزان الاعتدال "3/ 404"، الضعفاء والمتروكين للنسائي "ص229" ترجمة رقم "505" طبع دار المعرفة - بيروت. الثانية: أن الراوي عن زيد بن ثابت هو "المطلب بن عبد الله بن حَنْطَب القرشي المخزومي" وهو لم يسمع من زيد بن ثابت، فالإسناد منقطع. راجع: تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل "ص502، 503" بتحقيقنا. ولذلك قال عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني: "أما الأحاديث، فإنما هي: مختلف في صحته، وآخر متفق علي ضعفه". الأنوار الكاشفة لما في كتاب "أضواء على السُّنَّة" من الزلل والتضليل والمجازفة "ص35" طبع المكتبة السلفية بالقاهرة سنة "1378هـ". 2 صحيح مسلم "4/ 2298" "53" كتاب الزهد والرقائق "16" باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم "72/ 3004". 3 راجع: تقييد العلم "ص31، 32". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما فتح خطب ... فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه" أي: الخطبة التي سمعها. ومن الأحاديث الصحيحة ما رواه أبو داود، والدارمي في سننيهما، وأحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَشَر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق" 1.   1 سنن أبي داود "4/ 60" رقم "3646"، وراجع أيضًا مسند الإمام أحمد "2/ 162، 192، 207، 215"، سنن الدارمي "1/ 125"، تقييد العلم "ص79-81"، جامع بيان العلم "1/ 71"، وقد دون فيها كل شيء سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم "تقييد العلم "85"، ورُوي أنه حفظ ألف حديث "أسد الغابة 3/ 233"، وقد ورث هذه الصحيفة حفيده شعيب بن محمد وأخذها بعده الحفيد الأكبر لعبد الله بن عمرو بن العاص وهو عمرو "ت118 أو 120هـ" تهذيب العلم "85". وقد اعتنى المحدثون بالإسناد إلى عمرو بن شعيب إلى أبيه إلى جده وقد ذكروا هذه الصحيفة "تهذيب التهذيب 8/ 54" ومعظمها في مسند الإمام أحمد بن حنبل "مسند عبد الله بن عمرو بن العاص". ويُروى أن مجاهد "ت102هـ" رأى هذه الصحيفة "طبقات ابن سعد 2/ 2/ 125"، "4/ 2/ 8، 9" أسد الغابة "2/ 234"، وذات مرة زار مجاهد عبد الله بن عمرو بن العاص وحاول أن يأخذ الصحيفة فمنعه، حرصًا من ابن عمرو عليها. أسد الغابة "3/ 234"، تقييد العلم "84". ويُروى أن عبد الله بن عمرو اعتاد أن يحفظ الأحاديث المكتوبة في صندوق، وأنه سئل يومًا عن حديث فأخرج الكتاب من الصندوق وروى منه الحديث ردًّا على السؤال "مسند الإمام أحمد 10/ 172-174" تحقيق أحمد شاكر؛ بل يروى أنه كان لديه كتاب وصحيفة يحتويان على أحاديث للنبي، وأنه سلمهما لأبي راشد الحبراني لما طلب منه أن يروي له ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم "تقييد العلم 85". ومما يؤكد تدوينه الأحاديث مبكرًا قول أبي هريرة: "ليس أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مني؛ إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب "سنن الدارمي 1/ 136" باب من رخص في كتابة العلم - حديث "483"، وانظر تقييد العلم "82"، جامع بيان العلم "1/ 70". وقد سبق أن بينا أن أبا هريرة كان لا يكتب في البداية لأسباب ثم كتب بعد ذلك. وكان عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- يملي الأحاديث على تلاميذه "فتح المغيث للسخاوي 216" تقييد العلم "85، 182"، حتى أمن شوفا بن ماتع دوَّن كتابين من إملائه "خطط المقريزي 2/ 332"، وانظر ترجمة ابن ماتع في مشاهير علماء الأمصار "ص121" رقم "940"، وكان يملي من صحيفته أو من يعض سجلاته المكتوبة عنده فقد كان عنده عدد ضخم من الكتب "تذكرة الحفاظ 1/ 36" - مسند أحمد "2/ 176"، ويُروى أنه جمع فتاوى الخليفة عمر بن الخطاب "سنن الدارقطني 453". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ومن جهة أخرى، فإن الحديث الذي رواه الإمام مسلم ذكر النووي عن القاضي عياض في شرحه له ثلاث إجابات كلها مقبولة ومحتملة: الأولى: أن نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- كان موجهًا لمن يثق بحفظه خشية اتكاله على الكتابة، وأما من لم يثق بحفظه فقد أذن له بالكتابة. الثانية: أن حديث النهي منسوخ بحديث الإذن بالكتابة؛ فقد كان النهي حين خِيف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة. الثالثة: أن النهي كان منصبًّا على الكتابة في صحيفة واحدة "أي: كتابة السُّنَّة مع القرآن في صحيفة واحدة" خشية الاختلاط، وحتى لا يشتبه على القاريء. قال القاضي: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كبير في كتابة العلم، فكرهها كثير منهم وأجازها أكثرهم، ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف، واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي، فقيل: هو في حق مَن يوثق بحفظه ويُخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب، ويحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على مَن لا يوثق بحفظه كحديث: "اكتبوا لأبي شاه"، وحديث صحيفة علي -رضي الله عنه- وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات، وحديث كتاب الصدقة ونصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر -رضي الله عنه- أنسًا -رضي الله عنه- حين وجهه إلى البحرين، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب، وغير ذلك من الأحاديث، وقيل: إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة، قيل: إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة؛ لئلا يختلط فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة، والله أعلم1.   1 شرح صحيح مسلم للنووي "18/ 334-339"، وانظر نحوه في مقدمة ابن الصلاح "ص88" في النوع الخامس والعشرين، وفي معالم السنن للخطابي، هامش سنن أبي داود "4/ 16" في تعليقه على حديث زيد بن ثابت رقم "3647". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ورأى ابن الصلاح أن النهي كان في أول الأمر لخشية اختلاط الحديث بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن فيه1، وبيَّن أن أحاديث الإذن بالكتابة كانت بعد النهي، وذكر غير واحد من الأئمة والحفاظ أنه لو لم يأذن الرسول بالكتابة لكان ذلك سبيلًا إلى الجهل بالشريعة واندراس كثير من السنن. وروى ابن الصلاح بسنده عن الأوزاعي أنه كان يقول: كان هذا العلم كريمًا يتلقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله. ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة، والله أعلم2. وروى ابن عبد البر بسند صحيح عن إسحاق بن منصور قال: قلت لأحمد بن حنبل: من كره كتاب العلم؟ قال: كرهه قوم، ورخص فيه آخرون. قلت له: لو لم يكتب العلم لذهب. قال: نعم، ولولا كتابة العلم أي شيء كنا نحن؟ قال إسحاق بن منصور: وسألت إسحاق بن راهويه فقال كما قال أحمد سواء3. فقد ثبت أن الصحابة كانوا يدونون السنة، وكانوا يحثون أبناءهم على الكتابة والتدوين: فقد كتب أبو بكر -رضي الله عنه- لأنس بن مالك -رضي الله عنهم- كتابًا فيه فرائض الصدقة التي سنَّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد توارث هذا الكتاب ثمامة بن عبد الله بن أنس بعد أن حدَّثه به أبوه4. وقد هَمَّ أبو بكر بجمع السنن، فكتب ما يقرب من خمسمائة حديث، ثم رأى أن يحرقها خوفًا من أن تنقل عنه ويكون فيها شيء غير صحيح، وليس لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الكتابة5.   1، 2 انظر: المقدمة "ص88" في النوع الخامس والعشرين. 3 جامع بيان العلم "1/ 329". دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع. 4 راجع: صحيح البخاري "2/ 146، 147"، سنن أبي داود "2/ 129، 130" كتاب الزكاة - حديث رقم "1567"، وسنن النسائي: كتاب الزكاة - حديث رقم "2449"، وسنن ابن ماجه "1/ 155" كتاب الزكاة - حديث رقم "1800"، تقييد العلم "87"، وفيه نصوص من هذا الكتاب. 5 راجع: تذكرة الحفاظ "1/ ص5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وروى مسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه كتب حديثًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير كتاب أبي بكر1. وروى الخطيب بسنده عن عبد الله بن المثنى قال: حدثني عمَّاي: النضر وموسى ابنا أنس، عن أبيهما أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه أمرهما بكتابة الحديث والآثار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعلمها2. وكان ثمامة بن عبد الله بن أنس لديه كتاب نقله إلى حماد بن سلمة3. وروى أبو خيثمة -رضي الله عنه- بسند صحيح عن علي -كرم الله وجهه- قوله: من يشتري صحيفة بدرهم يكتب فيها العلم؟ 4 وزاد ابن سعد: فاشترى الحارث الأعور صحفًا بدرهم، ثم جاء بها عليًّا فكتب له علمًا كثيرًا5. ويروى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "ت32هـ" كان له كتاب، على الرغم مما رُوي عنه من أنه من المعارضين لكتابة الحديث، حتى يقال: إنه أتلف كتابًا أُحضر له للدراسة والتأمل6، فقد أقسم ابنه أن لديه كتابًا بخط والده7. وجمع الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- بنيه وبني أخيه فقال: يا بَني، إنكم اليوم صغار قوم أوشك أن تكونوا كبار قوم فعليكم بالعلم، فمن لم يحفظ منكم فليكتبه وليضعه في بيته8. وقد كان قضاء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مكتوبًا، بدليل أن ابن أبي مليكة قال: كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب له كتابًا ويخفي عني، فقال ولد ناصح: أنا   1 صحيح مسلم بشرح النووي "1/ 205-207" وفيه نص ما كتبه. 2 تقييد العلم "ص96". 3 الكفاية "473". 4 كتاب العلم لأبي خيثمة "ص144" بتحقيق الألباني - المطبعة العمومية - دمشق. 5 الطبقات الكبرى "6/ 116". 6 راجع: جامع بيان العلم "1/ 62-65"، تقييد العلم "25، 38، 39، 53-56". 7 راجع: جامع بيان العلم "1/ 72". 8 تقييد العلم "ص91، 92". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 اختار له الأمور اختيارًا وأخفي عنه، فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء، ويمر به الشيء فيقول: "والله ما قضى بهذا علي، إلا أن يكون ضل"1. قال الحافظ التيجاني: "هذا يدل على أن قضاء علي كان مكتوبًا، والقضاء يستند إلى السُّنَّة"2. وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية بن أبي سفيان بعض الحديث3. وروى أبو خيثمة -رضي الله عنه- بسند صحيح عن ورَّاد كاتب المغيرة قال: أملى عليَّ المغيرة، وكتبته بيدي4. وأجاز أبو أمامة الباهلي كتابة العلم، فقد سأله تلميذه الحسن بن جابر عن كتابة العلم فقال: لا بأس بذلك5، وكتب عبد الله بن أبي أوفَى -رضي الله عنهما- حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأرسله إلى بعض أصحابه6. وأبو هريرة -رضي الله عنه- أكثر الصحابة حفظًا للحديث الشريف على الإطلاق، وذلك ببركة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالحفظ كما في صحيح البخاري، وإذا كان ممن لا يكتب الحديث الشريف، فإن تلاميذه كتبوا له حديثه، وأخذ هذه الكتب فحفظها عنده حتى لا يُغيَّر في حديثه أو يبدَّل فيه، وحتى تكون مقياسًا عنده لما نسب إليه من الأحاديث الكثيرة التي بثها في التابعين الذين بلغوا ثمانمائة نفس7. وإذا كان أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- كره الكتابة؛ فإنما هذا اجتهاد منه؛ لئلا يجعل الحديث كالقرآن في كتاب، وليس لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، ومن جهة أخرى فإن ابنه خالفه، وكان يكتب حديثه8.   1 مقدمة صحيح مسلم بشرح النووي "1/ 197". 2 سنة الرسول صلى الله عليه وسلم "ص54". 3 صحيح البخاري "ص2/ 153" طبعة الشعب. 4 كتاب العلم "ص117". 5 سنن الدارمي "1/ 127"، تقييد العلم "ص98"، وإسناد أبي داود حسن. 6 صحيح البخاري "4/ 62" طبعة الشعب، وذكر البخاري أجزاء من الحديث الذي كتبه. 7 راجع: فتح الباري "1/ 184"، والعلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد "1/ 43"، وجامع بيان العلم "1/ 89". 8 تقييد العلم "ص36-38". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الفصل الثالث: أشهر الصحف والكتابات في العهد النبوي ثبت عن عدد كبير من الصحابة -رضوان الله عليهم- أنهم كتبوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، ومن هؤلاء: عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال في الحديث الذي رواه الدارمي وغيره: "فأما الصادقة فصحيفة كتبتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم"1، وصحيفته الصادقة مشهورة عند المحدثين2. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثًا عنه مني؛ إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب3. وأبو هريرة تعلم الكتابة مؤخرًا ثم أتقنها بعد ذلك، فكان النهي في حقه في مرحلة مبكرة خشية الخطأ، ثم كتب بعد ذلك لما تمكن من الكتابة4، فقد رُوي عنه قوله: "إنني أملك أحاديث مكتوبة تملأ خمسة أجولة"5. وكانت مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- صحيفة في جراب سيفه سأله أبو جحيفة عما فيها فقال: العقل "أي: الأحكام المتعلقة بالدية" وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر، وهذا الحديث رواه البخاري وغيره6.   1 سنن الدارمي "1/ 127". 2 راجع: طبقات ابن سعد "2/ 2/ 125"، "4/ 2/ 8، 9"، "7/ 2/ 189"، سير أعلام النبلاء "3/ 58"، تقييد العلم "ص84، 85" وفيه نصوص منها. 3 تقييد العلم "82"، جامع بيان العلم "1/ 70". 4 راجع: صحيفة همام "ص37"، دلائل التوثيق المبكر للسنة والحديث "ص433-438"، وقد رُوي أنه عرض كتابة الأحاديث على "ابن وهب" "فتح الباري 1/ 148". 5 حلية الأولياء "1/ 381"، وذكرت مصادر عديدة أن بشير بن مالك كتب عن أبي هريرة مجموعة أحاديث، وأنه حصل على إجازة من أبي هريرة لنقلها للناس. راجع: "الكفاية 399، 411"، طبقات ابن سعد "7/ 1/ 162"، تهذيب التهذيب "1/ 47"، تقييد العلم "101". 6 راجع: صحيح البخاري "4/ 289" كتاب الفرائض "4/ 324" كتاب الديات "4/ 425" كتاب الاعتصام، وسنن الترمذي "6/ 181، 182" كتاب الديات، ورُوي أنه كان للإمام على كتاب وجد عند عبد الله بن عباس "صحيح مسلم 1/ 7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وكانت لعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- كانت له كتب حمل بعير، وأنه ترك عددًا كبيرًا من المخطوطات كما قال ابن سعد في طبقاته الكبرى1، وسجل بعض الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعضها عن بعض كبار الصحابة مثل أبي رافع وغيره، كما صرح هو بذلك، فقد كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يأتي أبا رافع -رضي الله عنه- ويسأله: ما صنع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها2، وقد شهدت بذلك سلمى مولاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: رأيت ابن عباس معه ألواح يكتب عليها عن أبي رافع شيئًا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم3. وكتب سمرة بن جندب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحيفة مشهورة عند المحدثين4.   1 صحيح البخاري بشرح فتح البخاري "5/ 216"، وذكرت بعض المصادر أنه في آخر حياته ذهب بصره واعتاد الناس أن يقرءوا له الكتب. راجع: سير أعلام النبلاء "3/ 238"، الكفاية "ص384". 2 راجع: تقييد العلم "ص91، 92". 3 الطبقات لابن سعد "2/ 124" وقد رُوي أن عبد الله بن عباس عين له كتبة ليسجلوا له الأحاديث "الإصابة 2/ 332 - رقم 4781"، وكان يملي تلاميذه "تقييد العلم 102"، وكان كثيرًا ما ينصح الناس بتقييد العلم وتدوينه "تقييد العلم 92، جامع بيان العلم 1/ 72"، وأملى تلميذه "مجاهد بن جبير" تفسيره الشهير "تفسير الطبري 1/ 90"، وكان يدون كل شيء سمعه "طبقات ابن سعد 2/ 2/ 123، تقييد العلم 92"، ويروى أنه دون "1660" حديثًا "تدريب الراوي" وبعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسمع من الصحابة، واعتاد أن يحمل ألواحًا خشبية يدون عليها الأحاديث "طبقات ابن سعد 2/ 2/ 123"، تقييد العلم 91، 92"، وقد كثرت كتبه وتضخمت لدرجة أنها كانت تتطلب جملًا ينقلها من مكان لآخر "طبقات ابن سعد 5/ 216، تقييد العلم 136" وقد وصلت هذه الكتب تلميذه ومولاه "كريب" الذي أودعها بدوره عند موسى بن عقبة "تقييد العلم 19، 136، طبقات ابن سعد 5/ 216"، وكان علي بن عبد الله بن عباس إذا أراد بعض كتب والده كتب لكريب: "أرسل لي كتاب كذا وكذا، وحينئذ ينسخ كريب الكتاب المطلوب ويرسله إلى علي" "تقييد العلم 136، طبقات ابن سعد 5/ 126، شذرات الذهب 1/ 114"، وكانت لديه نسخة الإمام علي بن أبي طالب الخاصة بالأحكام القضائية والتي رآها معه طاوس ونسخها لأحد تلاميذه "صحيح مسلم 1/ 7". 4 راجع: تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين "ص254"، توثيق السُّنَّة للدكتور رفعت فوزي "51، 52". وقد جمعت صحيفة سمرة بن جندب أحاديث كثيرة، وذكر مرة أنها "كتاب" "طبقات ابن سعد 7/ 1/ 115" ومرة "صحيفة" "دراسات إسلامية لجولد تسيهر 2/ 10/ 23"، ومرة "رسالة" "تهذيب التهذيب 4/ 236"، وتذكرة الحفاظ "4/ 236، 237"، وسلم هذه الأحاديث لابنه سليمان "تهذيب التهذيب 4/ 198"، والحسن البصري "طبقات ابن سعد 7/ 1/ 115"، تذكرة الحفاظ "2/ 268-289". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وكتب جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- صحيفة اشتهرت فيما بعد بصحيفة جابر بن عبد الله1، وأخرج الإمام مسلم منها في صحيحه ما يقرب من ثلاثين حديثًا في مناسك الحج، وأطولها حديث حجة الوداع2. وكان لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- كتاب حمله معه إلى اليمن عندما عُين واليًا عليها من قِبَلِ النبي صلى الله عليه وسلم3. وكان لعمرو بن حزم الأنصاري -رضي الله عنه- كتاب اشتمل على أحكام في الزكاة والدية والميراث وغيرها، حمله معه إلى نجران لما عينه الرسول واليًا عليها4، وكان لسعد بن عبادة كتاب احتفظت به أسرته ورواه ابنه5. وكان لشمعون بن زيد بن أبي ريحانة الأزدي -رضي الله عنه- "صحف"، وقد اعتاد أن يكتب على وجهي ورق البردي، ويقال: إنه أول من ثنى الورق العريض بضغط الأوراق وحياكتها مع بعضها6. وكانت لمحمد بن مسلمة الأنصاري "ت46هـ" صحيفة، وُجدت في غمد سيفه7، روى الرامهرموزي بسنده عن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن   1 راجع: الطبقات الكبرى "5/ 344". 2 وهو من رواية جعفر بن محمد عن أبيه، عنه، وفيه وصف كامل لحجة النبي صلى الله عليه وسلم. راجع: صحيح مسلم بشرح النووي "3/ 313-356". 3 راجع: سيرة ابن هشام "ص886، 887"، "956، 957"، حلية الأولياء "1/ 240، 241"، الأموال "27، 37". 4 وهو الكتاب الذي كتبه له الرسول صلى الله عليه وسلم. راجع: تاريخ بغداد "8/ 228"، الموطأ "4/ 175، 176" في كتاب العقول، سنن النسائي "8/ 56-61" كتاب القسامة، تاريخ الطبري "1/ 1728، 1729"، تقييد العلم "ص72"، جامع بيان العلم "1/ 71". 5 راجع: الأم للشافعي "7/ 112"، دراسات إسلامية لجولد تسيهر "2/ 9، 10"، "2/ 22، 23". وفي سنن الترمذي "6/ 89" كتاب الأحكام، ومسند الإمام أحمد "5/ 285"، وتعجيل المنفعة لابن حجر "36، 214": "أخبرني ابن سعد بن عبادة أنه وجد في كتاب سعد أن ... " الحديث. وصرح بعضهم بأنه كانت له كتب. راجع: مشاهير علماء الأمصار "ص130" رقم "1024". 6 راجع: الإصابة "2/ 156" رقم "3921". 7 المحدث الفاصل "ص497"، ومحمد هذا هو أكبر من اسمه محمد من الصحابة رضوان الله عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 مسلمة الأنصاري وجدنا في ذؤابة سيفه كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن لربكم في بقية دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعل دعوة أن توافق رحمة يسعد بها صاحبها سعادة لا يضر بعدها أبدًا1. وكانت لأبي اليَسَر: كعب بن عمرو بن عباد السلمي رضي الله عنه "ت55هـ" صحف، وذكرت المصادر أنه كان معه وعاء ممتلئ بالمخطوطات2. وكان لأبي رافع "ت36هـ" كتاب احتوى على أحاديث خاصة بالصلاة، وقد سلمه إلى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام3. وكانت لعبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- كتب ينظر فيها قبل أن يخرج إلى الناس، ذكر ذلك الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، وذكره أيضًا في "تذكرة الحفاظ"4، كما ذكر غيره أن مولاه نافع قرأ له أحد هذه الكتب عدة مرات، وقالوا: إن هذا الكتاب ظل معه لمدة ثلاثين عامًا، وأما ما روي عنه من عدم الكتابة فيُحمل على أنه كان في البداية ثم عدل عن ذلك. وكانت لأنس بن مالك -رضي الله عنه- كتب دوَّن فيها ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصرح بذلك فيما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه، وذكره أيضًا الرَّامَهْرُمُوزي وغيره، وقد أخرجها في أخيريات حياته لبعض زواره وقال: "هذه الكتب التي كتبت فيها ما سمعته من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أعطيت لهم كل هذه الكتب لدراستها والتمعن فيها"5.   1 المصدر السابق "ص497". 2 راجع: رجال الصحيحين "ص340، 341" طبعة الهند. 3 الكفاية "39". 4 راجع: سير أعلام النبلاء "3/ 238" وقال: "هذا غريب"، وفي الجامع لأخلاق الراوي للخطيب: كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- إذا خرج إلى السوق ينظر في كتبه. 5 تقييد العلم "ص95، 96"، تاريخ بغداد "8/ 259"، المحدث الفاضل "34/ ب"، تدوين الحديث "ص67، 68". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وممن روى عنه أيضًا أنه كتب الحديث الشريف: عبد الله بن أبي أوفَى والمغيرة بن شعبة، وفاطمة بنت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والسيدة عائشة رضي الله عنهما، وأبو بكر الصديق الذي هَمَّ بجمع الأحاديث فدون خمسمائة حديث ثم أتلفها خشية أن يكون فيها حديث غير صحيح1، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وسليمان الفارسي، وأسماء بنت عميس، وفاطمة بنت قيس، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو بكرة الثقفي، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وعبد الله بن الزبير، ورافع بن خديج، وغيرهم من صحابة رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، حتى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكرت العديد من المصادر أنه كانت لديه بعض الأحاديث المكتوبة، ورُوي عنه قوله: "قيِّدوا العلم بالكتاب"2، وهذا لا يتعارض مع رُوي عنه في خلافته من جمع الكتب وحرقها؛ وذلك لعدم ثبوته من طريق صحيح، ولمخالفته للواقع.   1 راجع: تذكرة الحفاظ "1/ 5". 2 رُوي ذلك عن عمر بن الخطاب وأنس بن مالك رضي الله عنهما، راجع: المحدث الفاصل للرامهرمزي "ص377"، تقييد العلم للخطيب "ص88"، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر "1/ 68" طبعة السلفية - الثانية "1388هـ/ 1968م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الفصل الرابع: الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم روى الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق ابن إسحاق، وحبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم أن أبا الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاري حدثه أن عمر بن عبد العزيز حين استُخلف أرسل إلى المدينة يلتمس عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وسره في الصدقات، فوجد عند آل عمر بن الخطاب كتاب عمر إلى عماله في الصدقات بمثل كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عمرو بن حزم، فأمر عمر بن عبد العزيز عماله على الصدقات أن يأخذوا بما في ذينك1 الكتابين، فكان فيهما صدقة الإبل ما زادت على التسعين واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على العشرين ومائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعًا وعشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك فليس فيها ما لا تبلغ العشرة منها شيء حتى تبلغ العشرة2. قال الحاكم: وأما كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم، فإن إسناده من شرط هذا الكتاب؛ ولذلك ذكرت السياقة بطولها. أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي ببغداد، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أبي، عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيهما، عن جدهما، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم، فإذا بلغ قيمة الذهب مائتي درهم، ففي كل أربعين درهمًا درهم. هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وهو دليل على الكتاب المشروح المفسر3.   1 اسم إشارة بمعنى "هذين". 2 المستدرك للحاكم "1/ 394، 395" كتاب الزكاة، السنن الكبرى للبيهقي "4/ 91، 92" كتاب الزكاة. 3 المستدرك للحاكم "1/ 395" ووافقه الذهبي في تصحيح الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أخبرناه أبو نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارَى، ثنا صالح بن عبد الله بن محمد بن حبيب الحافظ، ثنا الحكم بن موسى. وحدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، ثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد العبدي، ثنا أبو صالح الحكم بن موسى القنطري، ثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث مع عمرو بن حزم فقُرئت على أهل اليمن، وهذه نسختها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن كلال، قيل: ذي رعين ومعافر وهمدان، أما بعد.. فقد رجع رسولكم وأعطيتم من المغانم خُمس الله، وما كتب الله على المؤمنين من العشر في العقار ما سقت السماء أو كانت سحاء أو كان بعلاء ففيه العشر إذا بلغت خمسة أوسق1، وما سُقي بالرشاء والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق، وفي كل خمس من الإبل السائمة2 شاة إلى أن تبلغ أربعًا وعشرين، فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيها ابنة مخاض3، فإن لم توجد فابن لبون4 ذكر إلى أن تبلغ خمسة وثلاثين، فإذا زادت على خمسة وثلاثين واحدة ففيها ابنة لبون إلى أن تبلغ خمسة وأربعين، فإن زادت واحدة على خمسة وأربعين ففيها حِقَّة5 طروقة الفحل إلى أن تبلغ ستين، فإن زادت على ستين واحدة ففيها   1 الوسق: ستون صاعًا. 2 السائمة: التي ترعى. 3 ابنة المخاض: هي التي أتى عليها حول ودخلت في السنة الثانية وحملت فصارت من المخاض، وهي الحوامل، والمخاض: اسم جماعة للنوق الحوامل. 4 ابن اللبون: الذي أتى عليه حولان ودخل في السنة الثالثة، فصارت أمه لبونًا بوضع الحمل؛ أي: ذات لبن. 5 حِقَّة: هي التي أتى عليها ثلاث سنين، ودخلت في السنة الرابعة، فاستحقت الحمل والضراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 جَذَعَة1 إلى أن تبلغ خمسة وسبعين، فإن زادت واحدة على خمسة وسبعين ففيها ابنة لبون إلى أن تبلغ تسعين، فإن زادت واحدة على تسعين ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فما زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة طروقة الجمل، وفي كل ثلاثين باقورة تبيع جذع2، وفي كل أربعين باقورة بقرة، وفي كل أربعين شاة سائمة شاة إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإن زادت على عشرين ومائة واحدة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين، فإن زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى أن تبلغ ثلاثمائة، فإن زادت فما زاد ففي كل مائة شاةٍ شاةٌ، ولا يوجد في الصدقة هرمة ولا عجفاء ولا ذات عوار ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصَّدق، ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خيفة الصدقة3، وما أخذ من الخليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، وفي كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم وما زاد ففي كل أربعين درهمًا درهم وليس فيما دون خمس أواق شيء، وفي كل أربعين دينارًا دينار. إن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لأهل بيت محمد، إنما هي الزكاة تزكى بها أنفسهم ولفقراء المؤمنين وفي سبيل الله وابن السبيل، وليس في رقيق ولا في مزرعة ولا عمالها شيء إذا كانت تؤدى صدقتها من العشر، وأنه ليس في عبد مسلم ولا في فرسه شيء". قال: وكان في الكتاب: "إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة: الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، والفرار في سبيل الله يوم   1 جذعة: هي التي تمت لها أربع سنين ودخلت في الخامسة. 2 التبيع: هو ما دخل في الثانية، وسُمي تبيعًا لأنه فُطم عن أمه فهو يتبعها. 3 إنما يقع هذا في زكاة الخلطاء، وفيه إثبات الخلطة في المواشي، قال الإمام مالك: وتفسير قوله: "لا يجمع بين مفترق" أن يكون النفر الثلاثة الذين يكون لكل واحد منهم أربعون شاة، قد وجبت على كل واحد منهم في غنمه الصدقة، فإذا أظلهم المصدق جمعوها؛ لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة، فنهوا عن ذلك، وتفسير قوله: "ولا يفرق بين مجتمع" أن الخليطين يكون لكل واحد منهما مائة شاة وشاة فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فإذا أظلهما المصدق فرقا غنمهما، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة واحدة، فنُهي عن ذلك "الموطأ 17" كتاب الزكاة "13" باب صدقة الخلطاء - رقم "25". وأظلهم: أي أشرف عليهم، والمصدق: أي آخذ الصدقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وأن العمرة الحج الأصغر، ولا يمس القرآن إلا طاهر، ولا طلاق قبل إملاك، ولا عتق حتى يبتاع، ولا يصلين أحد منكم في ثوب واحد وشقه باد1، ولا يصلين أحد منكم عاقص2 شعره، ولا يصلين أحد منكم في ثوب واحد ليس على منكبه شيء". وكان في الكتاب أن من اعتبط3 مؤمنًا قتلًا عن بينة فله قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وأن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف الذي جدعه4 الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرِّجْل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة5 ثلث الدية، وفي الجائفة6 ثلث الدية، وفي الْمُنَقَّلة7 خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من الأصابع من اليد والرِّجْل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضَّحة8 خمس من الإبل، وأن الرجل يُقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار. هذا حديث كبير مفسر في هذا الباب، يشهد له أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وأقام العلماء في عصره محمد بن مسلم الزهري بالصحة، كما تقدم ذكرى له، وسليمان بن داود الدمشقي الخولاني معروف بالزهري، وإن كان يحيى بن معين غمزه، فقد عدله غيره كما أخبرنيه أبو أحمد الحسين بن علي ثنا   1 باد: ظاهر. 2 عاقص شعره: عقص الشعر: ضفره وليُّه على الرأس. 3 اعتبطه: أي ذبحه. 4 جدعه: قطعه. 5 المأمومة: الشجة تبلغ أم الدماغ "أو أم الرأس". 6 الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف والتي تخالط الجوف. 7 المنقلة: الشجة التي تنقل العظم -أي: تكسره- حتى يخرج منها فراش العظام، "وفراش العظام: القشور التي تكون على العظم، وقيل: العظام التي تخرج من رأس الإنسان إذا شج وكسر". 8 الموضَّحة: الشجة التي تُبدي وضح العظم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي وسئل عن حديث عمرو بن حزم في كتاب رسول الله الذي كتبه له في الصدقات، فقال لسليمان بن داود الخولاني: عندنا ممن لا بأس به قال أبو محمد بن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول ذلك. قال الحاكم: قد بذلت ما أدى إليه الاجتهاد في إخراج هذه الأحاديث المفسرة الملخصة في الزكاة ولا يستغنى هذا الكتاب عن شرحها، واستدللت على صحتها بالأسانيد الصحيحة عن الخلفاء والتابعين بقبولها واستعمالها بما فيه غنية لمن أناطها1، وقد كان إمامنا شعبة يقول في حديث عقبة بن عامر الجهني في الوضوء: لأن يصح لي مثل هذا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحب إلَيَّ من نفسي ومالي وأهلي، وذاك حديث في صلاة التطوع، فكيف بهذه السنن التي هي قواعد الإسلام! والله الموفق، وهو حسبي ونعم الوكيل2. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير: "قوله: روي عن   1 أناطها: أناط الشيء بغيره أي علقه. 2 المستدرك "1/ 395-397"، وقال الذهبي معقبًا: سليمان بن داود الدمشقي الخولاني معروف بالزهري، وإن كان ابن معين قد غمزه، فقد عدله غيره، قال أبو حاتم: عندي لا بأس به، وكذا قال أبو زرعة، وهذا الحديث بطوله رواه البيهقي في سننه الكبرى "4/ 89، 90"، والنسائي في سننه "8/ 57" "45" كتاب القسامة - حديث "4853". وقال البيهقي: وقد أخرج أحمد هذا الحديث في مسنده عن الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، ورواه النسائي في سننه "8/ 57-60" "45" كتاب القسامة "47، 46"، ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له من طريق سليمان بن أرقم، عن الزهري به "4854"، ومن طريق ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: قرأت كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه على نجران، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا بيان من الله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ... " وكتب الآيات - الحديث رقم "4855". ومن طريق سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري قال: جاءني أبو بكر بن حزم بكتاب من أدَم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا بيان من الله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ... " وتلا منها آيات - الحديث "4856". ومن طريق مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه قال: الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم في العقول - الحديث "4857". ورواه أيضًا ابن حبان في صحيحه "14/ 501-515 إحسان" "60" كتاب البيوع "7" باب كتب المصطفى صلى الله عليه وسلم - ذكر كتبة المصطفى صلى الله عليه وسلم - كتابه إلى اليمن - حديث "6559". وذكر الزيلعي في نصب الراية "2/ 339-344"، وابن عبد البر في جامع بيان العلم "1/ 71"، والطبري في تاريخه "1/ 1727"، وابن هشام في سيرته "961"، وانظر أيضًا: كتاب الأموال "362-368"، تقييد العلم "72". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 عمرو بن حزم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب في كتابه إلى أهل اليمن: "إن الذكر يقتل بالأنثى"، هذا طرف من كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مشهور، قد رواه مالك والشافعي عنه، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم في العقول، ووصله نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه عن جده، وجده محمد بن عمرو بن حزم ولد في عهد النبي ولكن لم يسمع منه، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر، ومن طريقه الدارقطني، ورواه أبو داود والنسائي من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري مرسلًا، ورواه أبو داود في المراسيل عن ابن شهاب قال: قرأت في كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم، ورواه النسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي موصولًا مطولًا، من حديث الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود: حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، وفرقه الدارمي في مسنده عن الحكم مقطعًا. وقد اختلف أهل الحديث في صحة هذا الحديث، فقال أبو داود في المراسيل: قد أُسند هذا الحديث ولا يصح، والذي في إسناده سليمان بن داود وهم؛ وإنما هو سليمان بن أرقم، وقال في موضع آخر: لا أحدث به، وقد وهم الحكم بن موسى في قوله: سليمان بن داود، وقد حدثني محمد بن الوليد الدمشقي أنه قرأه في أصل يحيى بن حمزة: سليمان بن أرقم، وهكذا قال أبو زرعة الدمشقي: إنه الصواب، وتبعه صالح بن محمد جزرة، وأبو الحسن الهروي وغيرهما، وقال جزرة: نا دُحَيم قال: قرأت في كتاب يحيى بن حمزة حديث عمرو بن حزم، فإذا هو عن سليمان بن أرقم، قال صالح: كتب هذه الحكاية عني مسلم بن الحجاج، قلت: ويؤكد هذا ما رواه النسائي عن الهيثم بن مروان عن محمد بن بكار، عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم عن الزهري، وقال: هذا أشبه بالصواب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وقال ابن حزم: صحيفة عمرو بن حزم منقطة لا تقوم بها حجة، وسليمان بن داود متفق على تركه، وقال عبد الحق: سليمان بن داود هذا الذي يروي هذه النسخة عن الزهري ضعيف، ويقال: إنه سليمان بن أرقم، وتعقبه ابن عدي فقال: هذا خطأ إنما هو سليمان بن داود وقد جوَّده الحكم بن موسى. انتهى. وقال أبو زرعة: عرضته على أحمد، فقال: سليمان بن داود هذا ليس بشيء، وقال ابن حبان: سليمان بن داود اليمامي ضعيف، وسليمان بن داود الخولاني ثقة، وكلاهما يروي عن الزهري، والذي روى حديث الصدقات هو الخولاني، فمن ضعفه فإنما ظن أن الراوي له هو اليمامي، قلت: ولولا ما تقدم من أن الحكم بن موسى وهم في قوله: سليمان بن داود، وإنما هو سليمان بن أرقم لكان لكلام ابن حبان وجه، وصححه الحاكم وابن حبان كما تقدم والبيهقي، ونُقل عن أحمد بن حنبل أنه قال: أرجو أن يكون صحيحًا، قال: وقد أثنى على سليمان بن داود الخولاني هذا أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ، قال الحاكم: وحدثني أبو أحمد الحسين بن علي عن ابن أبي حاتم عن أبيه أنه سئل عن حديث عمرو بن حزم، فقال: سليمان بن داود عندنا ممن لا بأس به. وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة، لا من حيث الإسناد؛ بل من حيث الشهرة، فقال الشافعي في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف بما فيه عند أهل العلم معرفة يُستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة، قال: ويدل على شهرته ما رواه ابن وهب عن مالك عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: وُجد كتاب عند آل حزم يذكرون أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ، إلا أنا نرى أنه كتاب غير مسموع عمن فوق الزهري، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 المنقولة كتابًا أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم، وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد عبد العزيز، وإمام عصره الزهري، لهذا الكتاب بالصحة، ثم ساق ذلك بسنده إليهما1.   1 التلخيص الحبير "4/ 17، 18" رقم "1688". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الفصل الخامس: بواعث كتابة الحديث في القرن الأول الهجري يمكن القول بأن هناك عدة أسباب ملحة لتدوين الحديث الشريف وكتابته: 1- منها: الباعث الديني والتشريعي: حيث إن السُّنَّة تشتمل على الأحكام الفقهية والقواعد التشريعية، وكان لا بد من تدوينها وتسجيلها لتُحفظ خشية التحريف أو النسيان، وخاصة الأحاديث الطويلة نحو: أحاديث الزكاة والصدقات وأحاديث أحكام الديات ونحوها. 2- ومنها: الحرص على تسجيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما فيها من تفاصيل وأعمال في بيته وفي المسجد وفي السوق وفي الغزوات وكافة المواقف والأفعال؛ وذلك للاقتداء به في الأفعال والأعمال وغيرها. 3- ومنها: تدوين السُّنَّة في رسائل إلى الملوك والأمراء من غير المسلمين؛ لدعوتهم إلى الإسلام، وبيان أهم سمات الإسلام وأبرز أهدافه. 4 ومنها: تدوين السُّنَّة في مكاتبات إلى أمراء الأجناد وقادة الثغور والسرايا وحكام الأقاليم، وعمال المسلمين في شتى البلاد، ونحو ذلك. ومن المكاتبات والمراسلات التي اشتملت على بعض الحديث الشريف، سواء بين الصحابة، أو بين الصحابة والتابعين، ومن ذلك: - كتب معاوية بن أبي سفيان للمغيرة بن شعبة يطلب منه بعض الأحاديث، فاستجاب المغيرة لطلب معاوية وأرسل له بعض الأحاديث بالبريد1. - وكتب ابن عباس لأبي موسى الأشعري يستفسر منه عن بعض الأحاديث، فأرسلها له بالبريد2.   1 صحيح البخاري "4/ 423" كتاب الاعتصام بالسُّنَّة. 2 مسند أبي داود الطيالسي "2/ 71". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 - وأرسل أبو موسى الأشعري إلى عبد الله بن مسعود1. - وأرسل جرير بن عبد الله إلى معاوية بن أبي سفيان2. - وأرسل سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء3. - وأرسل عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح4. - وأرسل زيد بن أرقم إلى أنس بن مالك5. - وأرسل النعمان بن بشير إلى قيس بن الهيثم6. - وأرسل الضحاك بن قيس بن خالد إلى قيس بن الهيثم7. - وأرسل عبد الله بن عمرو إلى عبد العزيز بن مروان8. 5- ومنها: تتدوين السُّنة من أجل حفظها من الاندراس، والمحافظة عليها من التحريف؛ وذلك ليرجع إليها الصحابة صحيحة منزهة عن الخطأ والتحريف، وليرجع إليها مَن بعدهم من التابعين ثم أتباعهم ... إلخ، وهكذا الأجيال اللاحقة، ومن الصحابة الذين حفظوا السُّنة مكتوبة أصحاب الصحف والكتب الذين سبق ذكرهم. 6- ومنها: تدوين ضعيفي الحفظ؛ وذلك ليتمكنوا من حفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما صدر عنه، وليتمكنوا من الرجوع إليه كلما أرادوا لتثبيت الحفظ وتجنب الخطأ. ومن ذلك الكتابة "لأبي شاه" بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم.   1 المسند "4/ 396، 414". 2 المسند "4/ 361". 3 ميزان الاعتدال "4/ 546" رقم "10375". 4 سنن ابن ماجه "2/ 166" كتاب الفرائض "9" بباب ذوي الأرحام - في الحديث رقم "2737". 5 تهذيب التهذيب "3/ 394". 6 المسند "4/ 277". 7 المسند "3/ 453"، أسد الغابة "3/ 37"، الإصابة "2/ 207" رقم "1469". 8 طبقات ابن سعد "4/ 1/ 110، 111". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 7- التدوين بغرض الاستخدام الخاص: فقد رغب بعض الصحابة أن يكون لديهم سجل فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لعبد الله بن عمر كتب ينظر فيها من آنٍ لآخر، وكذلك غيره من الصحابة الذين كانت لهم صحف وكتب. 8- مكاتبات خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم: فقد حُفظت بعض السنن من خلال المراسلات الرسمية للنبي، ومنها العقود والاتفاقات والمعاهدات. 9- التسجيل الثانوي من جانب طلاب الحديث: وذلك في حلقات العلم التي كان يعقدها الصحابة خاصة، فقد اعتاد واثلة بن الأسقع "ت83هـ" أن يملي الأحاديث على طلابه في تلك المرحلة المبكرة1. وممن كانوا يعقدون حلقات لدراسة الأحاديث وحفظها وتدوينها: أُبي بن كعب "ت22هـ"2، وعبد الله بن مسعود "ت32هـ"3، وعبادة بن الصامت "ت34هـ"4، وعمران بن حصين "ت52هـ"5، وأبو هريرة "ت59هـ"6، وعبد الله بن عمرو بن العاص "ت65هـ"7، وعبد الله بن عباس "ت68هـ"8، وجابر بن عبد الله "ت78هـ"9، وغيرهم رضي الله عنه. وغير ذلك من العوامل والأسباب والبواعث التي استدعت كتابة الحديث.   1 الإملاء "13"، الميزان "4/ 145" رقم "8658"، تقييد العلم "99". 2 طبقات ابن سعد "3/ 2/ 61". 3 طبقات ابن سعد "3/ 1/ 110"، "3/ 2/ 61". 4 التراتيب الإدارية "1/ 48". 5 طبقات ابن اسعد "4/ 2/ 29". 6 سير أعلام النبلاء "2/ 440، 441، 433، 436". 7 طبقات ابن سعد "4/ 2/ 12، 13". 8 طبقات ابن سعد "2/ 1/ 121، 122"، "79/ 6"، الكنى "2/ 126"، تاريخ بغداد "1/ 175"، سير أعلام النبلاء "3/ 235". 9 تهذيب التهذيب "2/ 43". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الفصل السادس: مظاهر احتياط الصحابة في قبول الحديث الشريف 1 كما احتاط الصحابة في التحديث احتاطوا أيضًا وتثبتوا في قبول الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خشية الوقوع في الخطأ، ومن مظاهر ذلك ما يلي: الأول: طلبهم شاهدًا على السماع: قال الحافظ الذهبي: كان أبو بكر -رضي الله عنه- أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تُورث، فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر لك شيئًا، ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيها السدس، فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه2. وروى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا، فرجعت فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع"، فقال: والله لتقيمن عليه ببينة3، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أُبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك4، فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك؛ ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم5.   1 راجع: المدخل إلى توثيق السنة "ص32-34". 2 تذكرة الحفاظ "1/ 3" والحديث في الموطأ "2/ 513"، وسنن أبي داود "3/ 316، 317" "13" كتاب الفرائض "5" باب في الجدة - حديث "2894"، سنن الترمذي "4/ 365، 366" "30" كتاب الفرائض "10" باب ما جاء في ميراث الجدة - حديث "2100"، "2101"، سنن ابن ماجه "2/ 108، 109" "23" كتاب الفرائض "4" باب ميراث الجدة - حديث "2724". 3 في لفظ مسلم: فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتك. 4 صحيح البخاري بحاشية السندي "4/ 88"، صحيح مسلم "3/ 1694". وهو في الموطأ "2/ 964". 5 الموطأ "2/ 964". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وروى الإمام مسلم عن المسور بن مخرمة قال: استشار عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة1، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي قضى فيه بغُرَّة2: عبد أو أمة. قال: فقال عمر رضي الله عنه: ائتني بمن يشهد معك. قال: فشهد له محمد بن مسلمة3. وروى صفوان بن عيسى: أخبرنا محمد بن عمار عن عبد الله بن أبي بكر قال: كان للعباس بيت في قبلة المسجد، فضاق المسجد على الناس، فطلب إليه عمر البيع فأبى، فذكر الحديث4. وفيه: فقال عمر لأُبي: لتأتيني على ما تقول ببينة، فخرجا فإذا ناس من الأنصار قال: فذكرهم، قالوا: قد سمعنا هذا5 من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: أما إني لم أتهمك؛ ولكني أحببتُ أن أتثبت6.   1 ملاص: هو جنين المرأة، والمشهور لغة: إملاص المرأة. 2 الغرة: العبد والأمة، فعبر عن الكل بالبعض، وأصل الغرة بياض الوجه، وغرة كل شيء أوله وأكرمه. 3 صحيح مسلم "3/ 1311" "28" كتاب القسامة "11" باب دية الجنين ... حديث رقم "39/ 1689". 4 انظر طبقات ابن سعد "4/ 1/ 13، 14" و"3/ 1/ 203" ونصه كما رواه ابن سعد عن سالم أبي النضر أن عمر قال له: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين، وإما أن أخططك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين، وإما أن تصدق بها على المسلمين فتوسع بها في مسجدهم، فقال: لا ولا واحدة منها، فقال عمر: بيني وبينك من شئت، فقال: أُبي بن كعب، فانطلقا إلى أُبي، فقصا عليه القصة فقال أبي: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالا: حدثنا، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتًا أُذكر فيه، فخط له هذا الخطة خطة بيت المقدس، فإذا تربيعها بيت رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياه، فأبَى فحدث داود نفسه أن يأخذه منه، فأوحى الله إليه أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتًا أذكر فيه، فأردت أن تدخل في بيت الغصب، وليس من شأني الغصب، وإن عقوبتك ألا تبنيه، قال: يا رب فمن ولدي، قال: من ولدك". قال: فأخذ عمر -رضي الله عنه- بمجامع ثياب أبي بن كعب -رضي الله عنه- وقال: جئتك بشيء فجئت بما هو أشهد منه لتخرجن مما قلت. فجاء يقوده حتى أدخله المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم أبو ذر، فقال: إني نشدت إليه رجلًا سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر حديث بيت المقدس حين أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره، فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال آخر: أنا سمعته، وقال آخر: لنا سمعته -يعني من الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: فأرسل عمر أُبيًّا، قال: وأقبل أُبي على عمر فقال: يا عمر، أتتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: يا أبا المنذر، لا والله ما اتهمتك عليه؛ ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ظاهرًا، وقال عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك في دارك، فقال العباس: أما إذ فعلت هذا، فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسِّع بها عليهم في مسجدهم، فأما وأنت تخاصمني فلا، فخط عمر لهم دارهم التي هي لهم اليوم، وبناها من بيت مال المسلمين. 5 أي: حديث بناء بيت المقدس الذي ذكره أبي بن كعب رضي الله عنه. 6 تذكرة الحفاظ "1/ 8" وانظر: طبقات ابن سعد "4/ 1/ 13، 14". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وعن مالك بن أوس قال: سمعت عمر يقول لعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد: نشدتكم بالله الذي تقوم السماء والأرض به أعلمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنا لا نورث، ما تركناه صدقة"؟ قالوا: اللهم نعم1. وعن بُسر بن سعيد قال: أتى عثمانُ المقاعد، فدعا بوضوء، فتمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه ثلاثًا ثلاثًا، ثم مسح برأسه ورجليه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا يتوضأ، يا هؤلاء أكذاك؟ "لنفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنده" قالوا: نعم2. الثاني: التشدد في الحفظ والأداء خشية أن يكون الواحد منهم سمع الحديث أو حفظه على وجه لا ينبغي فيخطئ في أدائه، ويكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كان غير متعمد، فقللوا من روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن المقل في الرواية أضبط وأتقن لما يُروى. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما يمنعني أن أحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا أكون أوعى أصحابه عنه؛ ولكني أشهد لَسَمِعتُه يقول: "مَن قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار" 3. ويقول الإمام علي كرم الله وجهه: "إذا حدثتكم عن رسول الله فلأن أخرَّ من السماء أحب إليَّ من أن أقول عليه ما لم يقل"4. وصح عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه خطبهم فقال: "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار"5. فأبو بكر يبين للناس جميعًا أنه لا يحدث إلا بما يعلم ويثق منه، ثم إنه لم يكتفِ بالحيطة لنفسه؛ بل أمر الناس بذلك أيضًا، وحثهم على التثبت فيما يحدثون به أو يستمعونه، ومن   1 مسند أحمد "1/ 288، 186، 187" وإسناده صحيح. 2 مسند أحمد "1/ 372" بإسناد صحيح. 3 مسند أحمد "1/ 65". 4 صحيح مسلم بشرح النووي "3/ 116". 5 تذكرة الحفاظ "1/ 4"، وفي مقدمة التمهيد "1/ 11" ولفظه: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "إياكم والكذب؛ فإنه مجانب الإيمان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ذلك ما رواه الذهبي من مراسيل ابن أبي مليكة: أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: "إنكم تحدثون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافًا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحِلُّوا حلاله وحرِّموا حرامه". ثم قال الحافظ الذهبي: "يدلك هذا أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية، ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنن، فلما أُخْبِرَه ما اكتفى حتى استظهر بثقة آخر، ولم يقل: حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج"1. الثالث: أنهم تشددوا مع الآخرين الذين يتلقون عنهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما يوضح ذلك قول البراء بن عازب رضي الله عنه: "ما كل الحديث سمعناه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحدثنا أصحابنا وكنا منشغلين في رعاية الإبل، وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيسمعونه من أقرانهم وممن هو أحفظ منهم، وكانوا يشددون على من يسمعون منه"2، فروى الزهري أنا أبا بكر -رضي الله عنه- حدث رجلًا حديثًا فاستفهمه إياه، فقال أبو بكر: هو كما حدثتك، أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا أنا قلت ما لم يقل3. الرابع: ومن مظاهر هذا التشدد: أنهم كانوا يستحلفون الراوي عن الرسول مهما كانت منزلته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الإسلام؛ فقد روى علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- حديثًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام إليه عَبِيدَة السلماني فقال: "يا أمير المؤمنين، والله الذي لا إله إلا هو لَسَمِعتَ هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو" حتى استخلفه ثلاثًا وهو يحلف4.   1 تذكرة الحفاظ "1/ 3، 4"، وانظر: السنة قبل التدوين "ص113". 2 معرفة علوم الحديث للحاكم "ص14". 3 راجع: السنة قبل التدوين لمحمد عجاج الخطيب "ص112، 113" ومصادره. 4 صحيح مسلم بشرح النووي "3/ 118، 119". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وكذلك كان علي -رضي الله عنه- يفعل، فروى الترمذي في سننه عن أسماء بن الحكيم الفزاري قال: سمعت عليًّا يقول: إني كنت رجلًا إذا سمعتُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني به، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته، فإذا حلف صدقته، وإنه حدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له" الحديث1. الخامس: ومن مظاهر هذا التشدد أيضًا أن بعضهم حَرَصَ على ألا يأخذ حديثًا منقطعًا لم يسمعه ناقله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا إذا بيَّن إسناده الموصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك حديث مسلم الذي رواه أربعة من الصحابة: عمرو بن السعدي عن حُويطب، عن السائب، عن عمر بن الخطاب: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعطي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- العطاء فيقول عمر: أعطِه يا رسول الله أفقر إليه مني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذه فتموَّلْه أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وإلا فلا تُتْبِعهُ نفسَك" 2. وقال النووي في شرحه للحديث: "وقد جاءت جملة من الأحاديث فيها أربعة صحابيون يروي بعضهم عن بعض، أو أربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض"3. السادس: ومن مظاهر الحيطة التوقف في قبول الحديث وعرضه على القرآن الكريم: مثاله: إنكار السيدة عائشة -رضي الله عنها- حديث عمر: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"؛ حيث فهم سيدنا عمر -رضي الله عنه- أن ذلك عام، وأن التعذيب بسبب بكاء الأهل على الميت، فأنكرت عليه ذلك، وقالت: إنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في يهودية   1 سنن الترمذي "2/ 257، 258"، ومسند أحمد "1/ 154، 174، 178". 2 صحيح مسلم بشرح النووي "3/ 84، 85". و"مشرف" أي: قائم على عمل بالإشراف، "فلا تتبعه نفسك" أي: لا تحرص عليه. 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أنها تعذب وهم يبكون عليها؛ يعني: تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء، واحتجت بقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] وقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] . فهي -رضي الله عنها- ترى أن الحديث يخص الكافر وحده ولم تكذِّبْ عمر ولا ابنه عبد الله في رواية الحديث وخاصة الذي جاء فيه لفظ "المؤمن" "في الصحيحين"؛ وإنما ترى أنهما أخطآ أو نَسِيَا، واستندت إلى القرآن الكريم في الفَهْم الذي بان لها من روايات الحديث المختلفة. ففي رواية في الصحيحين قالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه؛ ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] 1. وفي رواية في المستدرك2: وأما قوله: إن الميت يعذب ببكاء الحي، فلم يكن الحديث على هذا؛ ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بدار رجل من اليهود قد مات وأهله يبكون عليه فقال: "إنهم ليبكون عليه، وإنه ليعذب" {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 12] وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وفي رواية عند مسلم قالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن -أي: ابن عمر- أما إنه لم يكذب؛ ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على يهودية يُبكى عليها، فقال: "إنهم يبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها" 3. وفي رواية عند مسلم أيضًا قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن سمع شيئًا فلم يحفظه، إنما مرت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جنازة يهودي، وهم يبكون عليه، فقال: "أنتم تبكون عليه وإنه ليعذب" 4.   1 صحيح البخاري "1/ 397" كتاب الجنائز "23" باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببكاء أهله عليه" - حديث "1286، 288". صحيح مسلم "2/ 641، 642" "11" كتاب الجنائز "9" باب الميت يعذب ببكاء أهله - حديث "928/ 23". 2 المستدرك للحاكم "2/ 215" كتاب العتق. 3 صحيح مسلم "2/ 643" "11" كتاب الجنائز "9" باب الميت يعذب ببكاء أهله - حديث "932/ 27". 4 صحيح مسلم "2/ 642" الموضع السابق - الحديث "931/ 25". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقد جاء في رواية أخرى تصريحها أيضًا بعدم تكذيب عمر وابنه عبد الله -رضي الله عنهما- ففي رواية: "إنكم لتحدثوني من غير كاذبين ولا مكذِّبين؛ ولكن السمع يخطئ"1، وفي رواية: "رحم الله عمر، ما كذب؛ ولكنه أخطأ، أو نسي"2. وقد ذكر القرطبي أن عمر وابنه -رضي الله عنهما- لم ينفردا برواية الحديث؛ وإنما رُوي عن عدة من الصحابة، فلا وجه لإنكار هذا الحديث، والأَوْلَى حمله على محمل صحيح. قال القرطبي: "إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضًا ولم يسمع بعضًا -بعيد؛ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون؛ فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل الصحيح، ومن هؤلاء: عمر، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وقيلة بنت مخرمة"3. وقد ذكر العلماء عدة أوجه محتملة في الجمع بين هذا الأحاديث التي رواها سيدنا عمر وغيره، والتي روتها السيدة عائشة رضي الله عنها. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة بضروب الجمع: - منها: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه إذا أوصى أهله بذلك، وممن قال ذلك: المزي وإبراهيم الحربي وآخرون من الشافعية. وقال أبو الليث السمرقندي: إنه قول عامة أهل العلم، ونقله النووي عن الجمهور، قالوا: وكان معروفًا للقدماء حتى قال طرفة بن العبد: إذا مِتُّ فانعيني بما أنا أهله ... وشُقِّي عليَّ الجيب يابنة مِعبَدِ   1 صحيح مسلم بشرح النووي "2/ 589-593". 2 الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة - للزركشي "ص76، 77". 3 المفهم "2/ 581". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ثم ذكر أن ذلك يقع أيضًا لمن نهى أهله عن ذلك ممن كان شأنهم ذلك، وهو قول داود وابن المرابط وطائفة. - ويرى الإمام البخاري صحة الحديثين جميعًا؛ ولكن ليسا على إطلاقهما، فحديث عمر إنما هو في النوح المنهي عنه، والذي فيه التفوه بمعارضة القدر والتمرد عليه، وإذا كان من سنته ذلك، ولا يكون فيه معارضة للآية الكريمة: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 12] . وقال نحو ذلك ابن حزم وطائفة، واستدل ابن حزم بحديث ابن عمر عند البخاري في قصة موت إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه: "ولكن يُعذب بهذا"، وأشار إلى لسانه، قال ابن حزم: فصح أن البكاء الذي يُعذب به الإنسان ما كان منه باللسان. - وقيل: معنى التعذيب: توبيخ الملائكة له بما يَنْدُبه أهله به. - وقيل: معنى التعذيب: تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها. اختاره الطبري ورجحه القاضي عياض وابن المرابط وابن تيمية1. ومما سبق يتبين أنه لا تعارض بين السُّنَّة الصحيحة والقرآن الكريم. وقد قال العلماء: إن السيدة عائشة حملت اللام للعهد، وحملها سيدنا عمر على الاستغراق، وذلك في رواية: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" 2. السابع: ومن مظاهر الحيطة عرض السُّنَّة على السُّنَّة، ومثاله ما رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: دخلتُ على عائشة فقلت: يا أماه! إن جابر بن عبد الله يقول: "الماء من الماء" فقالت: "أخطأ، جابر أعلم مني برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقول: "إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل"، أيوجب الرجم ولا يوجب الغسل؟! "3   1 راجع: فتح الباري "3/ 185" وما بعدها في ترجمة الباب السابق للبخاري. 2 راجع: الإجابة للزركشي "ص92". 3 الإجابة "ص145". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ومثاله أيضًا حديث شريك بن عبد الله عن المقدام بن شُريح بن هانئ عن عائشة قالت: "من حدثكم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يبول قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدًا" رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه1. قال الترمذي: هو أحسن شيء في هذا الباب وأصح. وقال الإمام بدر الدين الزركشي: وإسناده على شرط مسلم2. الثامن: ومن مظاهر الحيطة عرض الحديث على القياس: ومثاله: ما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوضوء مما مست النار ولو من ثور أقط"، فقال له ابن عباس: أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ فقال أبو هريرة: يابن أخي، إذا سمعتَ حديثًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا تضرب له مثلًا3. التاسع: ومن هذه الوسائل أيضًا عرض الحديث على ما يقول به الصحابة، متى كان الحديث مخالفًا لفتواهم دل ذلك على أن الرسول لم يقله أو أنه منسوخ، ومثاله: قال عبيد بن رفاعة الأنصاري: كنا نجلس في مجلس فيه زيد بن ثابت، فتذاكروا الغسل من الإنزال، فقال زيد: "ما على أحدكم إذا جامع فلم ينزل إلا أن يغسل فرجه، ويتوضأ وضوءه للصلاة" فقام رجل من أهل المجلس، فأتى عمر فأخبره بذلك، فقال عمر للرجل: اذهب أنت بنفسك فائتني به، حتى   1 سنن الترمذي "17/ 1" أبواب الطهارة "8" باب ما جاء في النهي عن البول قائمًا - حديث "12". وقال أبو عيسى: حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح، سنن النسائي "1/ 26" "1" كتاب الطهارة "25" باب البول في البيت جالسًا - حديث "29" سنن ابن ماجه "1/ 112" "1" كتاب الطهارة "14" في البول قاعدًا - حديث "307". 2 الإجابة "ص166". 3 سنن الترمذي "1/ 114، 115" أبواب الطهارة "58" باب ما جاء في الوضوء مما غيرت النار - حديث "79". قال أبو عيسى: وفي الباب عن أم حبيبة، وأم سلمة، وزيد بن ثابت، وأبي طلحة، وأبي أيوب، وأبي موسى، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء مما غيرت النار، وأكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعين من بعدهم على ترك الوضوء مما غيرت النار، و"الأقط": لبن مجفف يابس، كأنه نوع من الجبن، و"الثور": القطعة منه، و"الحميم": الماء الحار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 تكون أنت الشاهد عليه، فذهب فجاء به وعند عمر ناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، فقال له عمر: أي عُدي نفسه، تفتي الناس بهذا؟! فقال زيد: أما والله ما ابتدعتُه؛ ولكن سمعته من أعمامي: رفاعة بن رافع، ومن أبي أيوب الأنصاري. فقال عمر لمن عنده: يا عباد الله، قد اختلفتم، وأنتم أهل بدر الأخيار، فقال له علي: فأرسل إلى أزواج النبي، فإنه إن كان شيء من ذلك ظَهَرْنَ عليه، فأرسل إلى حفصة فسألها فقالت: "لا علم لي بذلك"، ثم أرسل إلى عائشة فقالت: "إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل"، فقال عمر عند ذلك: "لا أعلم أحدًا فعله ثم لم يغتسل إلا جعلتُه نكالًا"1. العاشر: ومن مظاهر الحيطة في قبول الحديث الشريف أنهم كانوا إذا وجدوا كتابًا لا يحدثون بما فيه إلا إن تأكدوا من سماعه أو قراءته على صاحبه، فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يكره تلقي الحديث من الكتب دون سماع أو قراءة، فقال: "إذا وجد أحدكم كتابًا فيه علم لم يسمعه من عالم فليَدْعُ بإناء وماء فلينقعه فيه حتى يختلط سواده مع بياضه"2. تلك آثار تبين منهج الصحابة في التثبت والتأكد من الأخبار، وهذا لا يعني أبدًا أن الصحابة اشترطوا لقبول الحديث أن يرويه راويان فأكثر أو أن يشهد الناس على الراوي أو يُستحلف، فإذا لم يحصل شيء من هذا رُدَّ خبرُه؛ بل كان الصحابة يثبتون في قبول الأخبار ويتبعون الطريقة التي تطمئن إليها نفوسهم، فلم يكن ذلك شأنهم المستمر؛ بل كان يحصل إذا ما ارتابوا في ضبط الراوي ونحوه، كما كان الهدف حمل المسلمين على جادَّة التثبت العلمي والتحفظ في دين الله حتى لا يتقول أحد على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل، ويتضح هذا في قول عمر -رضي الله عنه- عندما رجع أبو موسى الأشعري مع أبي سعيد الخدري وشهد له: "أما إني   1 الإجابة لما استدركته السيدة عائشة على الصحابة "ص78". 2 الكفاية في علم الرواية "ص353" طبعة الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 لم أتهمك؛ ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم"1، وكما قال الذهبي: "إن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به الواحد، وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم؛ إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم، ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد"2. وقال أيضًا بعد إيراد طريقة الصديق في التثبت: "إن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية"3. وكما طلب الصحابة من الراوي شهادة غيره أيضًا، قبلوا أحاديث كثيرة برواية الآحاد وبَنَوْا عليها أحكامهم4. فقد قبل عمر -رضي الله عنه- رواية الضحاك بن سفيان: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دينه، ولم يطلب بينة، وقد سبق قول سيدنا عمر أيضًا لأُبي: إما إني لم أتهمك؛ ولكن أحببت أن أتثبت. وقال علي: وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر.   1 موطأ مالك "2/ 964"، والرسالة "435"، وتوجيه النظر "ص16". 2 تذكرة الحفاظ "1/ 6، 7". 3 المصدر السابق "1/ 4". 4 راجع: السنة قبل التدوين "ص116، 117". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الفصل السابع: منهج الصحابة في رواية الحديث الشريف عرَف الصحابة منزلة السُّنَّة، فتمسكوا بها، وتتبعوا آثار الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبَوْا أن يخالفوها متى ثبتت عندهم. واحتاطوا في رواية الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خشية الوقوع في الخطأ، وخوفًا من أن يتسرب إلى السُّنَّة المطهرة الكذبُ أو التحريف، وهي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم؛ ولهذا فإن الصحابة -رضوان الله عليهم- اتَّبعوا كل سبيل يُمكِّنهم من حفظ السُّنَّة المطهرة. وكان سيدنا عمر شديد الإنكار على مَن أكثر الرواية وكان يأمر بأن يُقِلوا من الرواية، يريد بذلك ألا يتسع الناس فيها حتى لا يدخلها الشوب، ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر. وقد كان المنهج العام عند الصحابة هو: التشدد في رواية الحديث، والتثبت في السماع، والتروي في الأداء لأسباب؛ أهمها: حتى لا ينصرف الناس عن الحفظ الجيد للقرآن الكريم، وخشية الخطأ أو وقوع التحريف، ويتضح ذلك خلال العرض الآتي: تشدد عمر بن الخطاب في رواية الحديث الشريف، فحمل الناس على التثبت مما يسمعون، والتروي فيما يؤدون، فكان له الفضل الكبير في صيانة الحديث من الشوائب والدخل. ويصور لنا أبو هريرة -رضي الله عنه- محافظة الصحابة على السُّنَّة في عهد عمر بإجابته عن سؤال طرحه عليه أبو سلمة، قال له: أكنتَ تحدث في زمان عمر هكذا؟ فقال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته. وفي رواية قال: لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثتُ بها زمن عمر لضربني عمر بالدرة1.   1 جامع بيان العلم وفضله "2/ 121". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقد كان تشدد عمر والصحابة معه للمحافظة على القرآن الكريم، بجانب المحافظة على السُّنَّة، فقد خَشِي أن يشتغل الناس بالرواية عن القرآن الكريم، وهو دستور الإسلام، فأراد أن يحفظ المسلمون القرآن جيدًا، ثم يعتنوا بالحديث الشريف الذي لم يكن قد دُوِّن كله في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كالقرآن. فنهج لهم التثبت العلمي والإقلال من الرواية مخافة الوقوع في الخطأ، وقد عُرف إتقان بعض الصحابة وحفظهم الجيد فسُمح لهم بالتحدث. ويتجلى منهج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في وصيته التي أوصى بها وفده إلى الكوفة فيما رُوي عن قرظة بن كعب أنه قال: بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة، وشيَّعنا إلى موضع قرب المدينة يقال له: "صرار"، قال: أتدرون لِمَ مشيتُ معكم؟ قال: قلنا: لحقِّ صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولحق الأنصار. قال: لكني مشيت معكم لحديث أردت أن أحدثكم به، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم: إنكم تَقْدُمون على قوم للقرآن في قلوبهم هزيز كهزيز المرجل، فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم وقالوا: أصحاب محمد، فأقلوا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا شريككم1. وفي رواية: فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حدِّثنا، فقال: نهانا عمر رضي الله عنه2. ورُوي عن أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- أنه اتبع منهج الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ومنع الإكثار من الرواية، قال محمود بن لبيد: سمعت عثمان على المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثًا عن رسول الله لم أسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر؛ فإنه لم يمنعنا أن نحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا أكون أوعى لأصحابي عنه؛ إلا أني سمعته يقول: "من قال عليَّ ما لم أقل فقد تبوأ   1 سنن ابن ماجه "1/ 9"، وطبقات ابن سعد "6/ ص2"، والهزيز: الصوت. وقوله: وأنا شريككم أي: شريككم في الإقلال أي: أنصحكم بذلك وأعمل بنصيحتي، لا كما ذهب إليه السندي من أنه شريك في الأجر؛ بسبب أنه الدال الباحث لهم عن الخير. 2 تذكرة الحفاظ "1/ 7"، وجامع بيان العلم "2/ 120"، وانظر: سنن الدارمي "1/ 85"، وسنن البيهقي "1/ 12". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 مقعده من النار"1، وفي رواية: "مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" 2. ويُروى أن معاوية كان يقول: "اتقوا الروايات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ما كان يذكر منها في زمن عمر؛ فإن عمر كان يُخوِّف الناس في الله تعالى"3. والتزم جمهور الصحابة في الخلافة الراشدة منهج عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خشية أن يقعوا في الخطأ مع كثرة تحملهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن مسعود: ليس العلم بكثرة الحديث؛ ولكن العلم الخشية4. ومن الصحابة من لم يُحدث إلا بأحاديث معدودة، ومنهم من لم يحدث إلا بحديث واحد مثل: أُبي بن عمارة المدني، قال المزي: له حديث واحد في المسح على الخفين، رواه أبو داود وابن ماجه5. وآبِي اللحم الغفاري، قال المزي: له حديث واحد في الاستسقاء، رواه الترمذي والنسائي6. أحمد بن جزء البصري، قال المزي: له حديث واحد؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه، رواه أبو داود وابن ماجه وتفرد به عنه الحسن البصري7.   1 قبول الأخبار "ص29"، انظر الحديث في مسند أحمد "1/ 363" مختصرًا بإسناد صحيح. 2 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 143"، وقال: ورجاله رجال الصحيح. 3 رد الدارمي على بشر المريسي "ص135"، وانظر: تذكرة الحفاظ "1/ 7" وانظر: السنة قبل التدوين لمحمد عجاج الخطيب "ص96-98". 4 مختصر كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول "ص1". 5 سنن أبي داود "1/ 109، 110" "1" كتاب الطهارة "60" باب التوقيت على المسح - حديث رقم "158"، سنن ابن ماجه "1/ 181" كتاب الطهارة "87" باب ما جاء في المسح بغير توقيت - حديث رقم "557". 6 سنن الترمذي "2/ 443" كتاب الطهارة "278" باب ما جاء في صلاة الاستسقاء - حديث رقم "557"، سنن النسائي "3/ 159" كتاب الطهارة "17" رفع الإمام يده في الاستسقاء - حديث رقم "1514". 7 سنن أبي داود "2" كتاب الصلاة "158" باب صفة السجود - حديث رقم "900" سنن ابن ماجه "5" كتاب إقامة الصلاة "19" باب السجود - حديث رقم "886". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أدْرُع السلمي، قال المزي: له حديث: جئت ليلة أحرس النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا رجل قراءته عالية، رواه ابن ماجه1. حَدْرَد بن أبي حدرد السلمي، روى حديثًا واحدًا: "من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه" رواه أبو داود2. ولا يتعارض إكثار بعض الصحابة في الرواية مع مبدأ التحري من صحة الرواية، فهذا المبدأ التزم به المكثرون والمقلون معًا: فمثلًا أنس بن مالك الذي كان من المكثرين قال: "إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثًا كثيرًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن تعمد عليَّ كذبًا فليتبوأ مقعده من النار" 3. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ما منهم أحد يحدث بحديث إلا وَدَّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتَى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه إياه"، وفي رواية: "يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول". وقال مجاهد: صحبتُ ابن عمر من مكة إلى المدينة فما سمعتُه يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا هذا الحديث: "مَثَلُ المؤمن مَثَلُ النخلة" 4. وقال السائب بن يزيد: صحبتُ سعد بن أبي وقاس من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثًا حتى رجع5.   1 سنن ابن ماجه "6" كتاب الجنائز "41" باب ما جاء في حفر القبر - حديث رقم "1559". 2 سنن أبي داود "5" كتاب الأدب "55" باب فيمن يهجر أخاه المسلم - حديث رقم "4915". 3 صحيح البخاري بحاشية السندي "1/ 31". صحيح مسلم "1/ 10" المقدمة "2" باب تغليظ الكذب على رسول الله - حديث رقم "2". 4 صحيح مسلم "2/ 2165" "50" كتاب صفات المنافقين وأحكامهم "15" باب "مثل المؤمن مثل النخلة" - حديث رقم "64/ 2811". 5 سنن ابن ماجه "1/ 9" السنن الكبرى للبيهقي "1/ 12"، المحدث الفاصل "ص134" - طبقات ابن سعد "3/ 1/ 102". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فتشدد الصحابة في الرواية كراهة التحريف أو الزيادة والنقصان في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثرة الرواية كانت في نظر الكثيرين منهم مظنة الوقوع في الخطأ والكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكذب عليه فقال: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، ونهى عن رواية ما يُرى أنه كذب فقال: "من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" 1، وفي الحديث الصحيح: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع" 2. تلك هي طريقة الصحابة ومنهجهم في المحافظة على حديث رسول الله خشية الوقوع في الخطأ، أو تسرب الدس إلى الحديث الشريف من الجهلاء وأصحاب الأهواء، أو أن تحمل بعض الأحاديث على غير وجه الحق والصواب، فيكون الحكم بخلاف ما أخذوا به، ففعلوا ذلك كله احتياطًا للدين ورعاية لمصالح المسلمين، لا زهدًا في الحديث النبوي ولا تعطيلًا له، فقد ثبت عن الصحابة جميعًا تمسكهم بالحديث الشريف، وإجلالهم إياه، وأخذهم به، وقد تواتر خبر اجتهاد الصحابة إذا وقعت لهم حادثة شرعية من حلال أو حرام، وفزعهم إلى كتاب الله تعالى، فإن وجدوا فيه ما يريدون تمسكوا به، وأجروا "حكم الحادثة" على مقتضاه، وإن لم يجدوا ما يطلبون فزعوا إلى "السُّنَّة"، فإن رُوي لهم خبر أخذوا به، ونزلوا على حكمه، وإن لم يجدوا الخبر فزعوا إلى الاجتهاد بالرأي3. وطريقة أبي بكر وعمر في الحكم مشهورة؛ كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به التزمه، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى فيه بقضاء؟   1 رواه مسلم في صحيحه من حديث سمرة بن جندب، وحديث المغيرة بن شعبة "1" المقدمة "1" باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 صحيح مسلم "1/ 10" المقدمة "3" باب النهي عن الحديث بكل ما سمع - من حديث أبي هريرة "5". 3 انظر: الملل والنحل للشهرستاني "ص446، 447". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنة سنها النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع رؤساء الناس فاستشارهم1 ... وكان عمر -رضي الله عنه- يفعل ذلك. هكذا كان منهج الصحابة جميعًا في كل ما يرد عليهم، وليس لأحد بعد هذا أن يتخذ بعض ما ورد عن بعض الصحابة ذريعة لهواه فينكر السُّنة أو يشكك فيها، وخاصة الأحاديث التي رواها المكثرون من رواية الحديث الشريف من الصحابة؛ كأبي هريرة وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين. وقد وضح هذه المسألة الأئمة والحفاظ ومنهم ابن عبد البر والخطيب البغدادي، يقول ابن عبد البر: احتج بعض مَن لا علم له ولا معرفة من أهل البدع وغيرهم، الطاعنين في السنن، بحديث عمر -رضي الله عنه- هذا قوله: "أقِلُّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي لا يوصل إلى مراد كتاب الله إلا بها، والطعن على أهلها، ولا حجة في هذا الحديث، ولا دليل على شيء مما ذهبوا إليه من وجوه ذكرها أهل العلم؛ منها: أن وجه قول عمر إنما كان لقوم لم يكونوا أحصَوْا القرآن، فخَشِي عليهم الاشتغال بغيره عنه؛ إذ هو الأصل لكل علم، هذا معنى قول أبي عبيد في ذلك. وقال غيره: إن عمر إنما نهى عن الحديث عما لا يفيد حُكمًا ولا يكون سُنة. وطعن غيرهم في حديث قرظة هذا وردَّه؛ لأن الآثار الثابتة عن عمر خلافه، منها ما روى مالك ومعمر وغيرهما عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عتبة، عن عمر بن الخطاب، في حديث السقيفة أنه خطب يوم جمعة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني أريد أن أقول مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها حيث تنتهى به راحلته، ومن خشي ألا يعيَها فإني لا أحل له أن يكذب عليَّ2.   1 إعلام الموقعين "1/ 62". 2 انظر هذا القول لعمر -رضي الله عنه- رواه الخطيب البغدادي عن ابن عباس في الكفاية "ص166". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وهذا يدل على أن نهيه عن الإكثار، وأمره بالإقلال من الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما كان خوف الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخوفًا من أن يكونوا -مع الإكثار- يحدثون بما لم يتيقنوا حفظه ولم يعوه؛ لأن ضبط من قلَّت روايته أكثر من ضبط المتكثر، وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يُؤمن مع الإكثار؛ فلهذا أمرهم عمر بالإقلال من الرواية، ولو كره الرواية وذمها لنهى عن الإقلال منها والإكثار، ألا تراه يقول: "فمن حفظها ووعاها فليحدث بها"، فكيف يأمرهم بالحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينهاهم عنه؟ هذا لا يستقيم؛ بل كيف ينهاهم عن الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويأمرهم بالإقلال منه، وهو يندبهم إلى الحديث عن نفسه بقوله: من حفظ مقالتي ووعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته؟! ثم قال: ومن خشي ألا يعيها فلا يكذب عليَّ، وهذا يوضح لك ما ذكرنا، والآثار الصحاح عنه من رواية أهل المدينة بخلاف حديث هذا؛ وإنما يدور على "بيان1" عن "الشعبي" وليس مثله جدة في هذا الباب؛ لأنه يعارض السنن والكتاب. قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} [الأحزاب: 21] ، وقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، ومثل هذا في القرآن كثير، ولا سبيل إلى اتباعه2 والتأسي به والوقوف عند أمره إلا بالخبر عنه، فكيف يتوهم أحد على عمر أنه يأمر بخلاف ما أمر الله به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى مَن لم يسمعها ... " الحديث، وفيه الحض الوكيد على التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم، وقال: "خذوا عني في غير ما حدثت وبلِّغوا عني"، والكلام في هذا أوضح من النهار لأُولى النهى   1 هو بيان بن بشر الأحمي أبو بشر الكوفي، موثق، وطعن ابن عبد البر في روايته هذه؛ لأنه خالف من هو أوثق منه، وهذا لا يمنع صحتها؛ ولكن يجمع بينهما. انظر: الإحكام لابن حزم "2/ 137"، وانظر كلام ابن عبد البر الآتي. 2 أي: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 والاعتبار، ولا يخلو الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يكون خيرًا أو شرًّا، فإن كان خيرًا -ولا شك في أنه خير- فالإكثار من الخير أفضل، وإن كان شرًّا فلا يجوز أن يُتوهم أن عمر يوصيهم بالإقلال من الشر1. وهذا يدلك أنه إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخوف الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن؛ لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه. وذكر مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز عن قيس بن عبادة قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: من سمع حديثًا فأداه كما سمع فقد سلم. ومما يدل على هذا ما ذكرناه فيما يروى عن عمر أنه كان يقول: تعلموا الفرائض والسُّنة كما تتعلمون القرآن. فسوى بينهما. وكتب عمر: تعلموا السُّنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن. قالوا: اللحن معرفة وجوه الكلام وتصرفه والحجة به، وعمر هو الناشد للناس في غير موقف؛ بل في مواقف شتى: من عنده علم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كذا، نحو ما ذكره مالك وغيره عنه في توريث المرأة من دية زوجها، وفي الجنين يسقط ميتًا عند ضرب بطن أمه وغير ذلك. وكيف يتوهم على عمر ما توهمه الذين ذكرنا قولهم وهو القائل: "إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها". وعمر أيضًا هو القائل: خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم. وهو القائل: سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. ثم يقول ابن عبد البر: وقد يحتمل عندي أن تكون الآثار كلها عن عمر صحيحة متفقة، ويخرج معناها على أن من شك في شيء تركه، ومن حفظ شيئًا وأتقنه جاز له أن يحدث به، وإن كان الإكثار يحمل الإنسان على التقَحُّم2 في أن يحدث بكل ما سمع من جيد ورديء، وغث وسمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   1 انظر: إعلام الموقعين "1/ 55" لمعرفة المزيد من حرص سيدنا عمر على السُّنة. 2 التقحم: عدم المبالاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع" رواه مسلم1. ولو كان مذهب عمر ما ذكرنا؛ لكانت الحجة في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون قوله، فهو القائل: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها وبلغها"، وقال النبي: "تسمعون ويُسمع منكم" رواه أبو داود والإمام أحمد والحاكم2. ويقول الخطيب البغدادي: إن قال القائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتشديده عليهم في ذلك؟ قيل له: فعل ذلك عمر احتياطًا للدين وحسن نظر للمسلمين؛ لأنه خاف أن يتكلوا عن الأعمال، ويتكلوا على ظاهر الأخبار، وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها، ولا كل من سمعها عرف فقهها، فقد يرد الحديث مجملًا ويستنبط معناه وتفسيره من غيره، فخشي عمر أن يُحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحكم بخلاف ما أُخذ، ونحو من هذا. الحديث الآخر عن معاذ قال: كنت ردف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حمار له يقال له: عُفَيْر، فقال: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله"؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألا يعذب مَن لا يشرك به"، قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا، فيتكلوا" 3. وفي تشديد عمر على الصحابة في رواياتهم حِفْظٌ لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترهيب لمن لم يكن من الصحابة أن يُدخل في السنن ما ليس منها؛ لأنه إذا رأى الصحابي المقبول القول، المشهور بصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- قد تُشُدِّدَ عليه في   1 صحيح مسلم "1/ 10" المقدمة "3" باب النهي عن الحديث بكل ما سمع - حديث رقم "5". 2 جامع بيان العلم وفضله "2/ 121-124". 3 رواه البخاري في صحيحه "1/ 236 - فتح " من حديث أنس بن مالك أن رسول الله ومعاذًا رديفه على الرحل قال: "يا معاذ بن جبل ... " الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 روايته، كان هو أجدر أن يكون للرواية أهيب، وبهذا يسلم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يتطرق إليه الكذب، ولا يزاد عليه ما ليس منه1. وروى الخطيب عن عبد الله بن عامر اليحصبي قال: سمعت معاوية على المنبر بدمشق يقول: "يأيها الناس، إياكم وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا حديثًا كان يذكر على عهد عمر -رضي الله عنه- فإن عمر كان يخيف الناس في الله عز وجل"2. وإلى هذا المعنى الذي ذكرناه ذهب عمر في طلبه من أبي موسى الأشعري أن يحضر معه رجل يشهد أنه سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث السلام؛ لكن فعله على الوجه الذي بيناه من الاحتياط؛ لحفظ السنن والترهيب في الرواية، والله أعلم. انتهى3. فلقد كان الصحابة جميعًا يتثبتون في الحديث، ويتأنون في قبول الأخبار وأدائها، وكانوا لا يحدثون بشيء إلا وهم واثقون من صحته، وقد حرصوا على المحافظة على الحديث بكل وسيلة تقضي إلى ذلك، فاتبعوا منهجًا سليمًا يمنع الشوائب من أن تدخل السُّنة النبوية فتفسدها. وتميز في حمل لواء هذه المحافظة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد ظهر لنا -مما رُوى عنه- اهتمامه الكبير بالسُّنة النبوية وإجلاله للحديث الشريف، وإن الأخبار التي رُويت عنه في هذا الشأن ليدعم بعضها بعضًا في سبيل نشر العلم والحرص على سلامة السُّنة؛ ومن ثَم ليس لأحد أن يرى تناقضًا بين وصية عمر لأهل العلم والآثار الأخرى المروية عنه، فهو إذا طلب الإقلال من الرواية، فإنما يطلبه من باب الاحتياط لحفظ السنن والترهيب في الرواية، وأما من كان يتقن ما   1 انظر: السنة قبل التدوين للدكتور/ محمد عجاج الخطيب "ص104" ومصادره. 2 انظر نحو هذا القول عن معاوية في تذكرة الحفاظ "1/ 7". 3 شرف أصحاب الحديث "ص92، 93" وحديث السلام هو حديث أبي سعيد الخدري قال: سلم عبد الله بن قيس على عمر ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في أثره فقال: لِمَ رجعت؟ فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثًا فلم يجب فليرجع"، فقال عمر: لتأتيني على ما تقول ببينة ... إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 يحدث به ويعرف فقهه وحكمه، فلا يتناوله أمر عمر -رضي الله عنه- فكل ما ورد عن أمير المؤمنين إنما يدل على المحافظة على السُّنة ونشرها وتبليغها صحيحة، والسبيل إلى ذلك أن يتثبت حاملوها من مروياتهم، والإقلال من الرواية مظنة عدم الوقوع في الخطأ؛ ولهذا أمر به -رضي الله عنه- وهذا ما رآه ابن عبد البر والخطيب البغدادي من أئمة الحديث، وإليه أذهب، وبه أقول، فالصحابة لم يزهدوا في السُّنة؛ بل كان لهم الفضل الأول في المحافظة عليها1. وثَمَّة رواية عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه حبس بعض الصحابة؛ لأنهم أكثروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقد ناقش بعض العلماء هذه الرواية وردوها: روى الحافظ الذهبي2 عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه أن عمر حبس ثلاثة: "ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". هؤلاء ثلاثة من أجلة أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأتقاهم وأورعهم، هل يُعقل من مثل عمر بن الخطاب أن يحبسهم؟! وهل يكفي لحبسهم أنهم أكثروا من الرواية؟ وقد ناقش ابن حزم هذا الخبر وردَّه وقال: "هذا مرسل ومشكوك فيه من "شعبة" فلا يصح، ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد؛ لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث، وعن تبليغ سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المسلمين، وألزمهم كتمانها وجحدها وألا يذكروها لأحد، فهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، ولئن كان سائر الصحابة متهمين بالكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- فما عمر إلا واحد منهم، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلًا، ولئن   1 السنة قبل التدوين لمحمد عجاج الخطيب "ص105، 106" بتصرف يسير. 2 تذكرة الحفاظ "1/ 7" وفيه سعيد بن إبراهيم، والصواب سعد، وهو حفيد عبد الرحمن بن عوف. انظر: مجمع الزوائد "1/ 149". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 كان حبسهم وهم غير متهمين لقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء، ولا بد له من أحدهما ... ". ثم قال: "وقد حدث عمر بحديث كثير؛ فإنه قد روى خمسمائة حديث ونيفًا على قرب موته من موت النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو كثير الرواية، وليس في الصحابة أكثر رواية منه إلا بضعة عشر منهم"1. قال الدكتور محمد عجاج الخطيب: ولو سلمنا جدلًا بصحة الرواية فهناك خلاف في المحبوسين، فالذهبي يذكر: ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، بينما يذكر ابن حزم: ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا ذر، فهل تكرر الحبس من عمر؟ ولو تكرر لاشتهر، ثم إن حادثة كهذة سيطير خبرها في الآفاق من غير أن تحتمل الشك في المحبوسين؛ لأنهم من أعيان الصحابة، ولو سلمنا أن العبرة في الحادثة نفسها من حيث حبسه بعض الصحابة دون نظر إلى أعيانهم وأشخاصهم؛ لأنهم أكثروا الرواية، قلنا: قد كان غير هؤلاء أكثر منهم حديثًا ولم يردنا خبر عن حبسهم، فلا يعقل أن يحبس أمير المؤمنين بعضًا دون بعض في قضية واحدة هم فيها سواء، وهي الإكثار من الحديث، معاذ الله أن يفعل هذا عمر -رضي الله عنه- فيحبس هؤلاء ويترك أبا هريرة مثلًا وهو أكثر حديثًا منهم، فقد رُوي عن أبي هريرة "5374" خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثًا، وعن ابن مسعود "848" ثمانمائة وثمانية وأربعون حديثًا، وعن أبي الدرداء "179" مائة وتسعة وسبعون حديثًا، وعن أبي ذر "281" مائتان وواحد وثمانون حديثًا2. فإن قيل: إن أبا هريرة لم يكثر من الرواية في عهد عمر -رضي الله عنه- لأنه خشيه. فنقول: لِمَ لَمْ يخشه هؤلاء؟   1 الإحكام لابن حزم "2/ 139" وما بعدها. 2 ذكر ذلك الإمام الحافظ بقي بن مخلد في مسنده. انظر: البارع الفصيح في شرح الجامع الصحيح لأبي البقاء الأحمدي الشافعي. مخطوطة دار الكتب المصرية "ص9-13 ب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 إن عمر نفسه سمح لأبي هريرة أن يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما عرف ورعه وخشيته من الله -عز وجل- روى الذهبي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بلغ عمر حديثي فأرسل إليَّ، فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت فلان؟ قلت: نعم، وقد علمت لأي شيء سألتني. قال: ولِمَ سألتك؟ قلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يومئذ: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، قال: أما لا، فاذهب فحدث1. ومن جهة أخرى، فإن عمر -رضي الله عنه- عندما أرسل عبد الله بن مسعود إلى أهل الكوفة كتب إليهم: "إني والله الذي لا إله إلا هو، أثرتكم به على نفسي فخذوا منه"2، وذكر عمرُ ابنَ مسعود فقال: كنيف مليء علمًا، آثرت به أهل القادسية2. كيف يأمر الناس بالأخذ منه، ويشهد له بالعلم، ثم يحبسه؟! وما ورد على حبس ابن مسعود -رضي الله عنه- يرد على حبس الصحابة الباقين، ففيهم أبو الدرداء -رضي الله عنه- إمام الشام وقاضيها ومعلمها القرآن. وبهذا البيان لا يرقى إلى الصحة خبر حبس عمر للصحابة -رضي الله عنهم- لأنهم أكثروا من الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل إنه يُروى عن ابن مسعود أنه نهى عن الإكثار من الرواية، فهل يُتصور منه أن ينهى عن شيء وهو يفعله؟! وقد رُوي عنه قوله: "ليس العلم بكثرة الحديث؛ ولكن العلم الخشية"3. وفي رواية سعد بن إبراهيم عن أبيه -التي ذكرها الخطيب- ما يدل على أنه استبقاهم في المدينة حتى عرف لفظهم سواء، وهذه هي رواية الخطيب. قال: بعث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وإلى أبي الدرداء -رضي الله عنه- وإلى أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- فقال: ما هذا الحديث الذي   1 سير أعلام النبلاء "2/ 434". 2 سير أعلام النبلاء "1/ 351"، والكنيف: الوعاء. 3 مختصر كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول "ص6". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فحبسهم بالمدبنة حتى استشهد لفظهم سواء1. فيكون هذا من باب تثبت عمر -رضي الله عنه- في الحديث، وهذه الرواية تثبت أنه لم يزجَّ بهم في السجن؛ بل استبقاهم في المدينة ريثما يتثبت من لفظهم، فإن صح هذا فلا ضير عليهم. ومما يؤكد لنا أنه لم يحبس أحدًا -وهو ما استنبطناه من مناقشة الروايات السابقة- ما يرويه الرامهرمزي عن شيخه ابن البري من طريق سعد بن إبراهيم عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب حبس بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم ابن مسعود وأبو الدرداء فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو عبد الله بن البري: يعني منعهم الحديث ولم يكن لعمر حبس"2، فقد فسر ابن البري الخبر تفسيرًا جيدًا وإن جاء مقتضبًا، فهو يريد أنه منعهم كثرة الحديث خوفًا من ألا يتدبر السامعون كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كثر عليهم. فالخلاصة أن ما ورد من أخبار حول حبس عمر -رضي الله عنه- للصحابة؛ لأنهم أكثروا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبار فيها نظر. وفي عهد التابعين ازداد النشاط العلمي لانتشار الصحابة في الأمصار، ثم ما لبث التابعون أن تصدروا للرواية، ومع هذا سلكوا سبيل الصحابة، وساروا على نهجهم، فكانوا على جانب عظيم من الورع والتقوى، وليس بعيدًا ما نقول لأنهم تخرجوا في مدارس الصحابة تلامذة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنسمع الشعبي -وهو أحد كبار التابعين الحفاظ الثقات- يقول: ليتني أنفلت من علمي كفافًا لا لي ولا عليَّ3، وكأنه يشعر بأنه أكثر من التحديث فيقول: "كره الصالحون الأولون الإكثار من الحديث، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما حدثت إلا بما أجمع عليه أهل الحديث"4. وكان شعبة بن الحجاج يقول: التدليس في الحديث أشد   1 شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي - مطبعة جامعة أنقرة "1971م" تحقيق: د/ محمد سعيد خطيب "ص87، 88" رقم "190". 2 المحدث الفاصل "ص145". 3 جامع بيان العلم "130/ 2" ويروى نحوه عن سفيان الثوري، جامع بيان العلم وفضله "2/ 129". 4 تذكرة الحفاظ "1/ 77". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 من الزنا، ولأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلَيَّ من أن أدلِّس1. وفي رواية عنه أنه كان يقول: لأن أقع من فوق هذا القصر -لدار حياله2- على رأسي أحب إليَّ من أقول لكم: قال فلان، لرجل ترونه، أني قد سمعت ذاك منه ولم أسمعه3. ومنهم من كان يقتصد في رواية الحديث على طلابه؛ ليفهموا ما يحدثهم به ويعقلوه ويتدبروه، ومن هذا ما رواه خالد الحذاء قال: كنا نأتي أبلا قلابة، فإذا حدثنا بثلاثة أحاديث قال: قد أكثرتُ4، ويؤكد هذا ما قاله ابن عبد البر: إنما عابوا الإكثار خوفًا من أن يرتفع التدبر والتفهم، ألا ترى إلى ما حكاه بشر بن الوليد عن أبي يوسف قال: "سألني الأعمش عن مسألة وأنا وهو لا غير فأجبته، فقال لي: من أين قلت هذا يا يعقوب؟ فقلت: بالحديث الذي حدثتني أنت، ثم حدثته، فقال لي: يا يعقوب، إني لأحفظ هذا الحديث من قبل أن يُجمع أبواك5، ما عرفت تأويله إلى الآن6"، وروي نحو هذا: أنه جرى بين الأعمش وأبي يوسف وأبي حنيفة، فكان من قول الأعمش: "أنتم الأطباء ونحن الصيادلة7"8.   1 الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي "ص508"، طبع دار الكتب الحديثة، القاهرة. 2 هكذا النص والمعنى: لدار قريبة منه. 3 مقدمة الجرح والتعديل "ص174" ويروى نحوه عن مطرف بن طريف. انظر: نفس المصدر "ص42". 4 انظر المحدث الفاصل "ص145، 146". 5 أي: من قبل أن يخلق، كناية عن أنه حفظه منذ زمن بعيد. 6 هكذا في الأصل ولعله: "إلا الآن". 7 جامع بيان العلم وفضله "2/ 130". 8 انظر: السنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب "ص107-111" بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الفصل الثامن: الصحابة المكثرون لرواية الحديث الشريف أبو هريرة راوية الإسلام ... الفصل الثامن: الصحابة المكثرون لرواية الحديث الشريف هناك كوكبة من الصحابة الأخيار الذين أكثروا من رواية الحديث الشريف، وقد اعتبر العلماء أن من رَوى أكثر من ألف حديث يُعد مكثرًا، وأشهر هؤلاء الصحابة سبعة هم على الترتيب: أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، والسيدة عائشة، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- وفيهم أُنْشِدَ: سبْعٌ من الصحب فوق الألف قد نقلوا ... من الحديث عن المختار خير مضر أبو هريرة سعد جابر أنس ... صدِّيقة وابن عباس كذا ابن عمر 1- أبو هريرة راوية الإسلام 1: هو عبد الرحمن بن صخر بن ثعلبة بن سُليم بن فهم بن غنم بن دوس اليماني، وكان اسمه في الجاهلية "عبد شمس"، وقيل غير ذلك، فسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- "عبد الرحمن"، وأمه "ميمونة بنت صخر" وقيل "أميمة"، وكنيته "أبو هريرة"، و "أبو هِر" بسبب هرة حملها في كُمه، أو هرة كان يداعبها. وهو من قبيلة دَوْس اليمنية، تُوفي والده وهو صغير فنشأ يتيمًا، وكان بعيد المنكبين، أبيض، ذا ضفيرتين، أفرق الثنيتين، يُخضب شيبه بالحمرة.   1 راجع ترجمته في: طبقات ابن سعد "4/ 1/ 157-176"، "52/ 2/ 4"، الإصابة "3/ 287"، جمهرة أنساب العرب "ص360، 361"، الاستيعاب "4/ 1768"، سير أعلام النبلاء "2/ 578-632"، البداية والنهاية "8/ 103"، تذكرة الحفاظ "1/ 31"، تهذيب التهذيب "12/ 262"، الكامل في التاريخ "3/ 88"، تاريخ الطبري "3/ 389"، تاريخ الإسلام "2/ 339". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 أسلم قديمًا قبل الهجرة وهو بأرض قومه على يد "الطفيل بن عمرو الدوسي"، وكان رجلًا شريفًا شاعرًا مضيافًا، وكانت قريش تعرف منزلته في قومه. وهاجر من اليمن إلى المدينة في أيام فتح خيبر، وقد لازم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى آخر حياته، وكان يلازمه في حله وترحاله في ليله ونهاره حتى حمل عنه الحديث الكثير ... وقد أسلمت أمه بعد الهجرة وفرح بإسلامها فرحًا شديدًا. وقد أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع العلاء الحضرمي إلى البحرين؛ لنشر الإسلام وتعليم الناس أمور دينهم. وكانت خيبر أول غزوة شارك فيها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم شهد جميع غزواته بعدها، وقاتل مع أبي بكر في حرب الردة، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ... " الحديث، وفيه المناقشة التي دارت بين أبي بكر وعمر، وفي آخره: "قال أبو هريرة: فقاتلنا معه، فرأينا ذلك رشدًا"1. ولما وُلِّيَ عمر استعمله على البحرين، ودافع عن عثمان في الفتنة. وفي عهد "معاوية" ولاه على المدينة، كما ولى "مروان بن الحكم"، فكان إذا غضب من أبي هريرة ولى مروان، وإذا غضب من مروان ولى أبا هريرة. ورَوى عنه نحو ثمانمائة من الصحابة والتابعين. وتوفي بالمدينة سنة سبع وخمسين من الهجرة عن ثمانية وسبعين عامًا، وقيل: توفي "58هـ"، وقيل: "59 هـ". لقد كان أكثر الصحابة حفظًا للحديث ورواية له، وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم2.   1 مسند الإمام أحمد "1/ 181" بإسناد صحيح. 2 راجع "أبو هريرة راوية الإسلام" لمحمد عجاج الخطيب، و"دفاع عن أبي هريرة" لعبد المنعم صالح العلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وأبو هريرة كغيره من الصحابة مُعدَّل بتعديل الله تعالى له في كتابه، ومُنزه عن الكذب والتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة جميعًا ملتزمون بما وعَوْه من توجيهات وتحذيرات نبوية، وخاصة قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" 1. - محفوظات أبي هريرة: لقد بلغت محفوظات أبي هريرة -رضي الله عنه- حدًّا يثير الدهشة والإعجاب، إلا أنها دهشة تزول وإعجاب ينمحي حين يعلم المرء أن ذلك ببركة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له بكثرة الحفظ وعدم النسيان. ولم يُحدِّث أبو هريرة بكل ما علم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو هريرة: "حفظت من رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقُطع هذا البلعوم"2. وقال أيضًا: "لو أنبأتكم بكل ما أعلم لرماني الناس بالخرق3 وقالوا: أبو هريرة مجنون". وفي رواية: "لو حدثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر"، قال الحسن راوي الحديث عن أبي هريرة: صدق والله! لو أخبرنا أن بيت الله يُهدم أو يُحرق ما صدقه الناس4. وفي رواية: "يقولون: أكثرت يا أبا هريرة، والذي نفسي بيده لو حدثتكم بكل شيء سمعتُه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرميتموني بالقشع -يعني بالمزابل- ثم ما نظرتموني"5.   1 صحيح البخاري "9/ 133". 2 طبقات ابن سعد "4/ 2/ 57"، "118/ 2/ 2"، وفتح الباري "1/ 277"، وحلية الأولياء "1/ 381"، والبداية والنهاية "8/ 105"، وتذكرة الحفاظ "1/ 34"، وسير أعلام النبلاء "2/ 430". 3 المراد: الكذب، ففي لغة أنها من التخلق بالكذب، والْخُرْق: الجهل والحمق. 4، 5 طبقات ابن سعد "4/ 2/ 57، "119/ 2/ 2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 - مرويات أبي هريرة: اجتمعت عدة أسباب جعلت أبا هريرة أحفظ الصحابة وأكثرهم حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: 1- حبه للرسول صلى الله عليه وسلم. 2- دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- له بالحفظ. 3- ملازمته له صلى الله عليه وسلم. 4- حرصه على طلب الحديث. 5- جرأته في السؤال. 6- مذاكرته لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. 7- وأنه عاش "78" عامًا أتاحت له فرصة رواية قدر كبير من الحديث الشريف. - له في الصحيحين "609"، منها "326" متفق عليها، و"93" انفرد البخاري بروايتها له، و"190" انفرد مسلم بروايتها له. - وروى له أصحاب السنن الأربعة والإمام مالك في الموطأ "1609". - وروى له الإمام أحمد في مسنده "3848" بالمكرر، ويصفو له بعد حذف المكرر عدد كبير جدًّا. - وروى له الإمام بقي بن مخلد "201-276هـ" في مسنده "5374". - وجمع أبو إسحاق إبراهيم بن حرب العسكري "ت282هـ" مسند أبي هريرة، وتوجد نسخة منه في خزانة كوبرلي بتركيا1.   1 راجع تاريخ الأدب "3/ 154". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 روى الشيخان أن أبا هريرة قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، إني كنت امرأً مسكينًا، صحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- على بطني، وكان المهاجرون تشغلهم التجارة في الأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من النبي -صلى الله عليه وسلم- مجلسًا، فقال: "مَن يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيئًا سمعه مني"؟ فبسطت ردائي عليَّ حتى قضى حديثه ثم قبضتها إليَّ، فوالذي نفسي بيده لم أنسَ شيئًا سمعته منه صلى الله عليه وسلم1. ورَوى النسائي وغيره أن رجلًا جاء إلى زيد بن ثابت فسأله عن شيء فقال: عليك بأبي هريرة؛ فإني بينما أنا جالس وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله ونذكره إذ خرج علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى جلس إلينا فسكتنا فقال: "عودوا إلى الذي كنتم فيه". قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤمن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي وأسألك علمًا لا يُنسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمين"، فقلنا: يا رسول الله، ونحن نسأل الله علمًا لا يُنسى، فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي2. وقد شهد له إخوانه من الصحابة بكثرة أحاديثه التي سمعها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن ذلك: أن رجلًا جاء إلى طلحة بن عُبيد الله رضي الله عنه، فقال: يا أبا محمد، أرأيت هذا اليماني -يعني أبا هريرة- أهو أعلم بحديث رسول الله منكم، نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم، أم هو يقول عن رسول الله ما لم يقل؟ قال: أما أن يكون سمع ما لم نسمع فلا أشك، سأحدثك عن ذلك: إنا   1 فتح الباري "1/ 224"، مسند أحمد "12/ 270". 2 فتح الباري "1/ 266"، سير أعلام النبلاء "2/ 432"، تهذيب التهذيب "12/ 266"، حلية الأولياء "1/ 381"، البداية والنهاية "8/ 111". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 كنا أهل بيوتات وغنم وعمل، كنا نأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرفي النهار، وكان مسكينًا ضيفًا على باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده مع يده، فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع، ولا نجد أحدًا فيه خير يقول عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل1. وفي رواية: قد سمعنا كما سمع، ولكن حفظ ونسينا2. فقد كان أعلم الصحابة بالسُّنة وأحفظهم لها، ومما يدل على ذلك ما رُوي عن أبي هريرة بسند صحيح أنه قال: أخذَتِ الناسَ ريحٌ بطريق مكة، وعمر بن الخطاب حاج، فاشتدت عليهم فقال عمر لمن حوله: من يحدثنا عن الريح، فلم يرجعوا إليه شيئًا، فبلغني الذي سأل عنه عمر من ذلك، فاستحثثت راحلتي حتى أدركته فقلت: يا أمير المؤمنين، أُخبرتُ أنك سألت عن الريح، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الريح من رَوْح الله، تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا به من شرها" 3. وكان هذا الحديث دليلًا قاطعًا على قناعة عمر -رضي الله عنه- بحفظ أبي هريرة بالرغم من كثرة حديثه4. وروى الوليد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة حدَّث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صلى على جنازة فله قيراط، ومن صلى عليها وتبعها فله قيراطان"، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: انظر ما تُحدِّث، فإنك تكثر من الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ بيده، فذهب به إلى عائشة فسألها عن ذلك فقالت: صدق أبو هريرة! ثم قال: يا أبا عبد الرحمن، إنه والله ما كان يشغلني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصفق في الأسواق، إنما كان يهمني كلمة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمنيها، أو   1 البداية والنهاية "8/ 109"، سير أعلام النبلاء "2/ 436"، فتح الباري "1/ 225". 2 فتح الباري "8/ 77". 3 مسند أحمد "14/ 52" رقم "7619"، والأدب المفرد للبخاري برقم "312"، وأبو داود برقم "5097"، وابن ماجه برقم "3727". 4 أبو هريرة راوية الإسلام "ص148" هامش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 لقمة يطعمنيها1. وفي رواية: إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غرس بالوادي وصفق بالأسواق2. فقال ابن عمر رضي الله عنهما: "أنت أعلمنا يا أبا هريرة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحفظنا لحديثه"3. وفي رواية: "أنت كنت ألزمنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحفظنا لحديثه"4. وعن أشعث بن سُليم عن أبيه قال: سمعت أبا أيوب "الأنصاري" يحدث عن أبي هريرة، فقيل له: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحدث عن أبي هريرة؟! فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع، وإني أن أحدث عنه أحب إليَّ من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعني: ما لم أسمعه منه5. ومن أهم العوامل التي أتاحت له كثرة مسموعاته وضخامة مروياته ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم: روى قيس بن حازم عن أبي هريرة: صحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث سنين، ما كنت سنوات قط أعقل مني، ولا أحب إليَّ أن أعي ما يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهن6. ومن العوامل التي ساهمت في كثرة مسموعاته وأتاحت له كثرة رواياته: - جرأته في سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم: قال أُبي بن كعب: كان أبو هريرة جريئًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن أشياء لا نسأله عنها7.   1 طبقات ابن سعد "4/ 2/ 57" ونحوه في مسند أحمد "12/ 175" رقم "7188" بسند صحيح. 2 طبقات ابن سعد "2/ 2/ 118"، والبداية والنهاية "8/ 107". 3 المصدرين السابقين. 4 سنن الترمذي "5/ 642" "50" كتاب المناقب "47" باب مناقب أبي هريرة رضي الله عنه - حديث رقم "3863"، وقال: هذا حديث حسن. 5 البداية والنهاية "8/ 109"، سير أعلام النبلاء "2/ 436". 6 طبقات ابن سعد "4/ 2/ 54". 7 سير أعلام النبلاء "2/ 451". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ومن العوامل أيضًا: المداومة على مراجعة ما يحفظ ويأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة: إني لأجزِّئ الليل ثلاثة أجزاء: جزءًا للقرآن، وجزءًا أنام، وجزءًا أتذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم1. - ثبات حفظه وقوة ذاكرته: قال أبو الزعيزعة كاتب مروان: دعا مروان أبا هريرة فجعل يسأله، وأجلسني خلف السرير، وجعلت أكتب عنه، حتى إذا كان رأس الحول دعا به، فأقعده من وراء حجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخَّر2، وقد شهد له بذلك الصحابة والتابعون وأهل العلم من بعدهم3. - هل وضع أبو هريرة الأحاديث كَذِبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قد اتهم عبد الحسين وأبو رية أبا هريرة بالكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إرضاء للأمويين ونكاية بالعلويين4، وأبو هريرة بريء من كل هذا، وقد أوردا أخبارًا ضعيفة وموضوعة لا أصل لها5. مواقف عملية تتنافَى مع اتهامه بالكذب في السُّنة لأهواء شخصية: هناك العديد من المواقف التي تحسب لأبي هريرة -رضي الله عنه- وتتنافى مع أي تهمة توجه إليه بالكذب أو التهاون في الحديث الشريف، ومنها ما يأتي:   1 تاريخ دمشق لابن عساكر، ترجمة أبي هريرة "ص129" طبع دار صادر - بيروت. 2 البداية والنهاية "8/ 106"، سير أعلام النبلاء "2/ 431". 3 السنة قبل التدوين "ص427"، وأبو هريرة راوية الإسلام "ص158". 4 راجع: أبو هريرة لعبد الحسين "ص35" وما بعدها، وأضواء على السنة المحمدية لأبي رية "ص190" وما بعدها. 5 السنة قبل التدوين "ص441". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الأول: أنه كان معروفًا بكثرة العبادة والنسك والزهد، قال أبو هريرة: إني لأجزئ الليل ثلاثة أجزاء: جزءًا للقرآن، وجزءًا أنام، وجزءًا أتذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم1. الثاني: أنه عارض مروان بن الحكم -والي المدينة- يوم أراد المسلمون دفن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- مع جده سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وقال لمروان: تدَّخَّل فيما لا يعنيك؟! الثالث: وقف ضد الثوار مع الصحابة يدافع عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. الرابع: وقف محايدًا في الفتنة التي قامت بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- ولم ينضم مع أحد الفريقين. قال الدكتور رفعت فوزي: "وكان موضع ثقة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكانت أحاديثه محل عناية الفقهاء وأئمة المجتهدين في مختلف أمصار الإسلام"2. ودخل رجل على "طلحة بن عبيد الله" فقال: يا أبا محمد، والله ما ندري! هذا اليماني -يعني أبا هريرة- أعلم برسول الله منكم، أو يقول على رسول الله ما لم يسمع أو ما لم يقل؟ فقال طلحة: والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قومًا أغنياء لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرفي النهار ثم نرجع، وكان يدور معه حيثما دار، فما نشك أنه علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع. وفي رواية: كان أبو هريرة رجلًا مسكينًا يلزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأكل معه، فوالله ما أشك أنه قد سمع ما لم نسمع، ولا نجد أحدًا فيه خير يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم3.   1 تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، ترجمة أبي هريرة "ص129" طبع دار صادر - بيروت. 2 المدخل إلى توثيق السنة "ص212". 3 العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد بن حنبل "1/ 72". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ولقد كان أبو هريرة -رضي الله عنه- أحرص الصحابة على سماع الحديث، ومما يدل على ذلك ما جاء في الصحيح عن أبي هريرة قال: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أولَى منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه" 1. ومما يدل على حرصه على رواية الحديث الشريف قوله: "إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثًا، ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160] 2 إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون"3. فإذا كان أبو هريرة ألزم الصحابة بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وأنه كان يدور معه حيثما دار ويحضر ما لا يحضرون -بشهادة الصحابة أنفسهم- فمن البدهي إذن أن يكون أكثر الصحابة حفظًا للحديث الشريف، ومعرفة بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحرصه على التبليغ كان انطلاقًا من الآيات التي تحذر من كتم العلم، وانطلاقًا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواقف عديدة: "اللهم هل بلغت، فليبلغ الشاهد الغائب" 4،   1 صحيح البخاري "1/ 203". 2 وفي رواية: "وايم الله، لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدًا، وتلا الآية 159 من البقرة". صحيح البخاري "1/ 244 فتح". 3 صحيح البخاري "1/ 40، 41". 4 راجع: صحيح البخاري "أحاديث: 67، 105، 1739، 1741، 1832، 4295، 5550، 7447"، وصحيح مسلم "حديث رقم 1679". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقوله: "نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فبلغه كما سمعه، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع" 1، وقوله: "من سئل عن علم فكتمه أُلجم بلجام من نار يوم القيامة" 2، ونحو ذلك. فلهذا كان من الطبيعي أن يبلغ أبو هريرة الناس أكثر مما يبلغهم غيره؛ فهو أكثر الصحابة سماعًا للحديث وأكثرهم رواية له، وقد أقرت الصحابة بذلك ولم يشكوا في سماعه البتة. ومن جهة أخرى، قال فضيلة الدكتور رفعت فوزي: "إن أحاديث أبي هريرة قد محصها أئمة السنة وبينوا ما صح منها وما هو ضعيف أو موضوع، ولم تصح نسبة حديث واحد من الموضوع أو الضعيف إلى أبي هريرة، وإنما كان ذلك من بعض الرواة، والصحيح منها إذا دُرس وقُورن بأحاديث الصحابة تبين أنه لم ينفرد إلا بالقليل منه، فسمنده شائع في المسانيد كلها"3. - أصح الطرق عن أبي هريرة: ذكر العلماء هذه الطرق4: - حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. - أبو الزناد، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة. - ابن عون وأيوب، عن محمد بن سيرين، عنه.   1 رواه الترمذي في سننه "حديث رقم 2657"، وابن ماجه "حديث رقم 233"، وأحمد في مسنده "4157" من حديث عبد الله بن مسعود، ورواه أبو داود في سننه "حديث 366"، والترمذي في سننه "2658" وحسنه، وابن ماجه "230" من حديث زيد بن ثابت، ورواه الحاكم في المستدرك "1/ 294" كتاب العلم، وابن ماجه "231" من حديث جبير بن مطعم، ورواه ابن ماجه "236"، وأحمد في مسنده "13349" من حديث أنس بن مالك. 2 مسند أحمد "14/ 5" رقم "7561" بإسناد صحيح. 3 المدخل إلى توثيق السنة "ص213". 4 راجع: تدريب الراوي "1/ 101/ 106"، الكفاية "ص398"، توضيح الأفكار "1/ 35"، سير أعلام النبلاء "2/ 438"، مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر "1/ 149، 150". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 - مالك، وسفيان بن عيينة، ومعمر، ويونس، وعقيل عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عنه. - إسماعيل بن أبي حكيم، عن عبيدة بن سفيان الحضرمي، عنه. - معمر، عن همام بن منبه، عنه. - يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. - الثناء على أبي هريرة والشهادة له بالحفظ والضبط: لقد حظي أبو هريرة -رضي الله عنه- بثناء الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة ومن تبعهم من كبار الأئمة والعلماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث" 1، وفي رواية: "والذي نفس محمد بيده، لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي لما رأيت من حرصك على العلم" 2، وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المرفوع: "أبو هريرة وعاء من العلم" 3. وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد نهى أبا هريرة وغيره من الإكثار من الحديث؛ لأن الكثرة مظنة الخطأ، وخوفًا من أن يشتغل الناس بالحديث عن القرآن، ولكن عمر -رضي الله عنه- سمح لأبي هريرة بعد ذلك بالتحديث، فروى الذهبي في السير عن أبي هريرة قال: بلغ عمر حديث، فأرسل إليَّ، فقال: كنتَ معنا يوم كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت فلان؟ قلتُ: نعم، وقد علمتُ لأي شيء سألتني. قال: ولم سألتك؟ قلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يومئذ: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" قال: أما لا فاذهب فحدث4، وفي رواية قال عمر: حدِّث الآن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما شئت5.   1 مسند أحمد "15/ 208". 2 فتح الباري "1/ 203"، وسير أعلام النبلاء "2/ 430" بسند صحيح. 3 سير أعلام النبلاء "2/ 430"، وفي سنده زيد العمي مختلف فيه. انظر: الميزان "1/ 363". 4 سير أعلام النبلاء "2/ 434" وفي سند يحيى بن عبد الله مختلف فيه. انظر: الميزان "3/ 297"، وقد رُوي من طرق أخرى ثابتة. 5 تاريخ دمشق لابن عساكر "47/ 487". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وقال عبد الله بن عمر: يا أبا هريرة، كنت ألزمنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعلمنا بحديثه1. وقيل لعبد الله بن عمر: هل تنكر مما يحدث به أبو هريرة شيئًا؟ فقال: لا؛ ولكنه أجترأ وجَبُنا2، وفي رواية قال ابن عمر: أبو هريرة خير مني، وأعلم بما يحدث3، وكان يكثر الترحم عليه ويقول: كان ممن يحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين4. وقال أُبي بن كعب: كان أبو هريرة جريئًا على النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن أشياء لا نسأله عنها5. وقال طلحة بن عبيد الله: لا نشك أنه سمع ما لم نسمع6، وفي رواية: قد سمعنا كما سمع؛ ولكنه حفظ ونسينا7. وقال محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم: فعرفت يومئذ أنه أحفظ الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم8- وذلك حين حضر مجلسه الذي كان فيه مشيخة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يحدثهم، فلا يعرف بعضهم الحديث ثم يتراجعون فيه فيعرفونه. وقال أبو صالح السمان: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم9-   1 سير أعلام النبلاء "2/ 435"، طبقات ابن سعد "118/ 2/ 2" فتح الباري "1/ 225"، وسنن الترمذي "2/ 224" وقال الترمذي: حديث حسن. 2 سير أعلام النبلاء "2/ 437"، تاريخ دمشق "47/ 492". 3 الإصابة "7/ 204"، سنن الترمذي "2/ 224". 4 سير أعلام النبلاء "435/ 2"، البداية والنهاية "8/ 107"، تاريخ دمشق "47/ 493"، طبقات ابن سعد "4/ 2/ 63". 5 سير أعلام النبلاء "2/ 451". 6 سير أعلام النبلاء "2/ 436"، الإصابة "7/ 204". 7 فتح الباري "8/ 77". 8 سير أعلام النبلاء "2/ 444"، فتح الباري "1/ 225". 9 تذكرة الحفاظ "2/ 34"، تاريخ دمشق "47/ 481". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وفي رواية عنه: ما أزعم أن أبا هريرة كان أفضلهم -يعني الصحابة- ولكن كان أحفظ1. وقال الإمام الشافعي: أبو هريرة أحفظ مَن روى الحديث في دهره2. وقال الإمام البخاري: روى عنه نحو ثمانمائة من أهل العلم، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره3. وقال ابن عبد البر "368-463هـ": كان أحفظ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار؛ لاشتغالهم بالتجارة والأنصار بحوائجهم4. وقال ابن الأثير الجزري "555-630هـ": أبو هريرة صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأكثرهم حديثًا عنه5. وقال الحافظ الذهبي "673-748هـ": أبو هريرة الإمام الفقيه المجتهد الحافظ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو هريرة الدوسي اليماني سيد الحفاظ الأثبات6، وقال أيضًا: أبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأدائه بحروفه7، وقال أيضًا: كان أبو هريرة وثيق الحفظ، ما علمنا أنه أخطأ في حديث8. وقال الحافظ ابن كثير "701-774هـ": وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم9، وقال   1 تاريخ دمشق "47/ 482". 2 سير أعلام النبلاء "2/ 432"، تاريخ دمشق "47/ 483". 3 تهذيب التهذيب "12/ 1771". 4 الاستيعاب "4/ 1771". 5 أسد الغابة "5/ 315". 6 سير أعلام النبلاء "2/ 417". 7 المصدر السابق "2/ 445". 8 المصدر السابق "2/ 446". 9 البداية والنهاية "8/ 110". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أيضًا: روى أبو هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكثير الطيب، وكان من حفاظ الصحابة1. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني "773-852هـ": إن أبا هريرة كان أحفظ كل من يروي الحديث في عصره، ولم يأتِ عن أحد من الصحابة كلهم ما عنه2. وقال المؤرخ عبد الحي أحمد "ابن العماد" الحنبلي "1032-1089هـ": كان كثير العبادة والذكر، وحَسَن الأخلاق، ولِيَ إمرة المدينة، وكان حافظ الصحابة وأكثرهم رواية 3. وقال يحيى بن أبي بكر العامري "816-893هـ": أبو هريرة كان عريف أهل الصفة، حلفاء الفقر والصبر، وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ملازمًا له في جميع الأحوال، لا يشغله عنه دنيا ولا أهل ولا مال، ولملازمته لوصيته الأخرى في الحفظ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أكثر الصحابة رواية على وأحفظهم، وقال: وكان حافظًا مثبتًا ذكيًّا مفتيًا، صاحب صيام وقيام4. - أبو هريرة وبعض الباحثين 5: قد كشفت الصورة الصادقة التي رسمها التاريخ لأبي هريرة عن مناقب جمة كثيرة، والتي منها: تقواه وورعه في شبابه وهرمه وغناه وفقره، ومواقفه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزامه بالسنة، واعتزاله وحبه للجماعة وسعيه للخير، وأخلاقه النبيلة، وسجاياه الكريمة، وكثرة وقوة حافظته. إن بعض الباحثين لم يسرهم أن يروا أبا هريرة في هذه المكانة السامية   1 السابق "8/ 103". 2 التهذيب "12/ 266". 3 الذهب "1/ 63". 4 المستطابة "ص70". 5 أبو هريرة راوية الإسلام "ص201-269"، وانظر: رد الدارمي على المريسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 والمنزلة الرفيعة، فدفعتهم ميولهم وأهواؤهم إلى تزييف هذه الصورة الواقعية الصادقة، فرأوا في صحبته للرسول -صلى الله عليه وسلم- غايات خاصة له؛ حيث يشبع بطنه ويروي نهمه، وصوروا أمانته خيانة، وحديثه الكثير كذبًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبهتانًا، ورأوا في فقره مطعنًا وعارًا، وفي تواضعه ذلًّا، وفي أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لونًا من المؤامرات لخداع العامة، ورأوا في اعتزاله الفتن تحزُّبًا، فهو صنيعة الأمويين الذين طوَوْه تحت جناحهم، فكان أداتهم الداعية لمآربهم السياسية فكان لذلك من الكاذبين الواضعين للأحاديث على الرسول -صلى الله عليه وسلم- افتراء وزورًا. هكذا كان أبو هريرة في نظر بعض أهل الأهواء مثل: النظام: إبراهيم بن سيار النظام، والمريسي: بشر المريسي، والبلخي، وأحمد أمين. وتابعهم في هذا العصر بعض المستشرقين مثل: "جولد تسيهر" و "شبرنجر". ومن دعاة العلم عبد الحسين شرف الدين العاملي "الإمامي" في كتابه "أبو هريرة"، ومحمود أبو رية في كتابه "أضواء على السنة المحمدية" الذي استقى كتابه هذا من أستاذه عبد الحسين، فكان أشد تعنتًا ومجانبة للصواب، وغيرهم. وقد زعموا أن أبا هريرة أكثر فأفرط، وروى عنه أصحاب الصحاح والمسانيد فأكثروا وأفرطوا، وتصوروا أن أحاديثه موضوعة ومكذوبة، وقد تغلغلت في أصول الدين وفروعه وغفل عنها المسلمون، فلا بد من الدفاع عن الشريعة الغراء وحمايتها من الأكاذيب والأوهام. وتصوروا غموض نسبه في الجاهلية والإسلام، وأنه شب جاهليًّا لا يستضيء بنور بصيرة، وصعلوكًا قد أخمله الدهر، ويتيمًا أزرى به الفقر، مؤجِّرًا نفسه بطعام بطنه حافيًا عاريًا راضيًا بهوان الذل، وأنه لم يكن مذكورًا في عهد أول خليفتين؛ بل كان مهملًا، ولم يذكروا له سوى أن عمر بعثه واليًا على البحرين ثم عزله سنة إحدى وعشرين، وفي سنة ثلاثين عزله وولَّى عثمان بن أبي العاص الثقفي، وانتزع منه عشرة آلاف درهم سرقها من مال الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وهذه المزاعم كلها باطلة، ويكذبها الواقع التاريخي والأمانة في التوثيق والاستقراء، فقد اشترك في حرب الردة في عهد أبي بكر، وروى الإمام أحمد في مسنده: "فلما كانت الردة قال عمر لأبي بكر: تقاتلهم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا؟ فقال أبو بكر: والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة، ولأقاتلن من فرَّق بينهما، قال أبو هريرة: فقاتلنا معه، فرأينا ذلك رشدًا"1. واستشهدوا برواية مجردة من السند وفيها: أن عمر اتهم أبا هريرة وهو على البحرين بسرقة مال المسلمين، وأنه ضربه بالدرة حتى أدماه. والثابت أن عمر قال لأبي هريرة: فمن أين هي لك؟ قلتُ: خيل نتجت، وغلة رقيق لي، وأعطِيَة تتابعت عليَّ، فنظروا فوجدوه كما قال2، وفي رواية أن عمر أخذ منه اثني عشر ألفًا3، وفي رواية أن عمر عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وشاطره ماله، وعزل أبا هريرة عن البحرين وشاطره ماله4. ويصورونه مستغلًّا للفتنة في عهد عثمان، وأنه راح يضع الأحاديث التي روجها بنو أمية وأولياؤهم للاحتجاج بها لتحقيق مآربهم. وفي عهد علي صوروا أبا هريرة بان صوته خفت وخمل، وأن معاوية جنده للقيام بأعمال ترضيه. وأنه في عهد معاوية وضع الأحاديث التي تشيد بفضل معاوية وحدث بأحاديث لا يقبلها عقل ولا يرضاها ضمير، وله في صحيحي البخاري ومسلم أحاديث أفرغها على هذا القالب وحاكها على هذا المنوال ... ، إلى غير ذلك من المزاعم والأباطيل التي دللوا عليها بالروايات المكذوبة والأخبار الموضوعة والآثار التي لا أصل لها.   1 مسند أحمد "1/ 181" بسند صحيح. 2 تاريخ الإسلام "2/ 338"، البداية والنهاية "8/ 111"، حلية الأولياء "1/ 380". 3 طبقات ابن سعد "4/ 2/ 59". 4 العقد الفريد "1/ 33". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 2- عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما 1: - نسبه ومولده وإسلامه: عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العزي بن رباح بن قرط بن رزايح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، الإمام القدوة شيخ الإسلام، أبو عبد الرحمن القرشي العدوي المكي، ثم المدني. ولد في السنة الثانية أو الثالثة من البعثة، وأسلم مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم. وقال الذهبي: أسلم وهو صغير، ثم هاجر مع أبيه ولم يحتلم، واستُصغر يوم أحد، فأول غزواته الخندق، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وأمه أمُّ أمِّ المؤمنين حفصة: زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون الجمحي2. - أوصافه: قال أبو إسحاق السبيعي: رأيت ابن عمر آدم جسيمًا، إزاره إلى نصف الساقين يطوف3. وقال هشام بن عروة: رأيت ابن عمر له جُمَّة4.   1 راجع ترجمته في: سير أعلام النبلاء "3/ 203-239"، وطبقات ابن سعد "2/ 373" و"4/ 142-188"، نسب قريش "350 وما بعدها"، المحبر "442، 24"، التاريخ الكبير "5/ 2" و "5/ 125"، التاريخ الصغير "1/ 155، 154"، المعرفة والتاريخ "1/ 490، 249"، الجرح والتعديل "5/ 107"، المستدرك "3/ 556"، الحلية "1/ 292" و"2/ 7"، جمهرة أنساب العرب "152"، الاستيعاب "950"، تاريخ بغداد "1/ 171" طبقات الفقهاء "49"، الجمع بين رجال الصحيحين "238/ 1"، تاريخ ابن عساكر: مصورة المجمع 11/ 165، جامع الأصول "9/ 64"، أسد الغابة "3/ 227"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 1/ 278"، وفيات الأعيان "3/ 28"، تهذيب الكمال "15/ 332/ 341"، تاريخ الإسلام "3/ 177"، العبر "1/ 83"، تهذيب التهذيب "2/ 168"، مرآة الجنان "1/ 154"، البداية والنهاية "9/ 4"، مجمع الزوائد "9/ 346"، العقد الثمين "5/ 215"، الإصابة "347/ 2"، تهذيب التهذيب "5/ 328"، النجوم الزاهرة "1/ 192"، خلاصة تهذيب الكمال "175"، شذرات الذهب "1/ 81". 2 سير أعلام النبلاء "3/ 206". 3 سير أعلام النبلاء "3/ 209". 4 المصدر السابق، طبقات ابن سعد "4/ 181". والجمة: شعر الرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ورُوي عن نافع: كان ابن عمر يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة1. وقال أبو بكر البرقي: كان رَبْعةً يخضب بالصفرة2. وقال هشام بن عروة: رأيت شعر ابن عمر يضرب منكبيه، وأُتِي به إليه فقبلني3. ورُوي عنه بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن أنه كان يصفر لحيته بالخلوق والزعفران، فقيل له: تصبغ بالصفرة؟ فقال: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصبغ بها4. وقال موسى بن دهقان: رأيت ابن عمر يتزر إلى أنصاف ساقيه5. وعن نافع: أن ابن عمر اعتم، وأرخاها بين كتفيه6. وعن وكيع: عن النضر أبي لؤلؤة، قال: رأيت على ابن عمر عمامة سوداء7. وقال ابن سيرين: كان نقش خاتم ابن عمر: "عبد الله بن عمر"8. وروى ابن سعد عن ابن أبي ليلى، وعبد الله بن عمر، عن نافع: أن ابن عمر كان يقبض على لحيته، ويأخذ ما جاوز القبضة9. وروى البخاري في صحيحه عن نافع: وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته، فما فَضُل أخذه10.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 208"، وطبقات ابن سعد "4/ 181" بسند حسن. 2 سير أعلام النبلاء "3/ 209". 3 سير أعلام النبلاء "3/ 208"، وطبقات ابن سعد "4/ 181"، ونحوه في تاريخ دمشق لأبي زرعة "1/ 616". 4 سير أعلام النبلاء "3/ 208"، طبقات ابن سعد "4/ 181، 180، 179". 5 سير أعلام النبلاء "3/ 212"، طبقات ابن سعد "4/ 174". 6 المصدران السابقان. 7 سير أعلام النبلاء "3/ 212". 8 طبقات ابن سعد "4/ 176"، سير أعلام النبلاء "3/ 213". 9 طبقات ابن سعد "4/ 178"، سير أعلام النبلاء "3/ 221". 10 صحيح البخاري "10/ 295، 296 فتح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 - أولاده: قال الذهبي: وأولاده من صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفي: أبو بكر، وواقد، وعبد الله، وأبو عبيدة، وعمر، وحفصة، وسودة. ومن أم علقمة المحاربية: عبد الرحمن، وبه يُكنى. ومن سُرِّيَّة أخرى: زيد، وعائشة. ومن أخرى: أبو سلمة وقلابة. ومن أخرى: بلال، فالجملة ستة عشر1. وعن أبي مجلز، عن ابن عمر قال: إليكم عني، فإني كنت مع من هو أعلم مني، ولو علمت أني أبقى حتى تفتقروا إليَّ لتعلمت لكم2. - مشاهده: روى البخاري في صحيحه قوله: عرضت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني3. فالخندق هي أول غزوة شارك فيها، ولم يتخلف عن غزوة أو عن معركة بعدها، فشارك في مؤتة واليرموك وفتح مصر وإفريقية، وقدم الشام والعراق والبصرة وفارس غازيًا، ولم يصح أنه شارك في بدر كما روى علي بن جدعان عن أنس وابن المسيب4، فهذا خطأ وغلط كما قال الذهبي5. وروى البخاري عن البراء قال: عرضت أنا وابن عمر يوم بدر فاستصغرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم6.   1، 2 سير أعلام النبلاء "3/ 238". 3 صحيح البخاري "7/ 302" كتاب المغازي، باب غزوة الخندق. 4، 5 سير أعلام النبلاء "3/ 209". 6 صحيح البخاري "7/ 226" كتاب المغازي، باب عدة أصحاب بدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وقال مجاهد: شهد ابن عمر الفتح وله عشرون سنة1. وقال ابن يونس: شهد ابن عمر فتح مصر، واختط بها، وروى عنه أكثر من أربعين نفسًا من أهلها2. وقد أضافت أمجاده الحربية إليه مكانة في النفوس وخاصة أهل الشام. - علمه وفتواه: لقد تربَّى ابن عمر في مدرسة النبوة واغترف من فيوضها، وكان من النابهين فيها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا لأصحابه وهو فيهم: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المؤمن، فحدثوني ما هي"؟ قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، ووقع الناس في شجر البوادي، ثم قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: "النخلة"، وقد أخبر أباه بأن حياءه منعه من الجواب، فقال له أبوه: وددت لو قلتها ولا أملك كذا وكذا، تشجيعًا له. وقال الذهبي: روى علمًا كثيرًا نافعًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أبيه، وأبي بكر، وعلي، وبلال، وصهيب، وعامر بن ربيعة، وزيد بن ثابت، وزيد عمه، وسعد، وابن مسعود، وعثمان بن طلحة، وأسلم، وحفصة أخته، وعائشة وغيرهم3. ولقد نهم ابن عمر من المدرسة النبوية علمًا غزيرًا جاد به على بعض الصحابة وجماهير التابعين ومن بعدهم. قال الذهبي: ولابن عمر أقوال وفتاوى يطول الكتاب بإيرادها4. وقد مَنَّ الله تعالى عليه بعشرات السنين التي مكنته من إفادة الناس بعلمه   1 سير أعلام النبلاء "3/ 210". 2 المصدر السابق "3/ 209". 3 المصدر السابق "3/ 204". 4 المصدر السابق "3/ 232". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وفتاواه، قال مالك: كان إمام الناس عندنا بعد زيد بن ثابت عبد الله بن عمر، مكث ستين سنة يفتي الناس1. وروى مالك عن نافع: كان ابن عمر وابن عباس يجلسان للناس عند مقدم الحاج، فكنت أجلس إلى هذا يومًا، وإلى هذا يومًا، فكان ابن عباس يجيب ويفتي في كل ما سُئل عنه، وكان ابن عمر يرد أكثر مما يُفتي2، قال الليث بن سعد وغيره: كتب رجل إلى ابن عمر أن اكتب إليَّ بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضهم، لازمًا لأمر جماعتهم، فافعل3. وروى الحارث بن أبي أسامة عن رجل: بعثت أم ولد لعبد الملك بن مروان إلى وكيلها تستهديه غلامًا وقالت: يكون عالمًا بالسنة، قارئًا لكتاب الله فصيحًا، عفيفًا، كثير الحياء، قليل المراء، فكتب إليها: قد طلبتُ هذا الغلام، فلم أجد غلامًا بهذه الصفة إلا عبد الله بن عمر، وقد ساومت به أهله، فأبوا أن يبيعوه4. قال ابن حزم في كتاب "الإحكام" في الباب الثامن والعشرين: المكثرون من الفتيا من الصحابة: عمر وابنه عبد الله، وعلي، وعائشة، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، فهم سبعة فقط يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سِفْر ضخم، وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا ابن عباس في عشرين كتابًا. وأبو بكر هذا أحد أئمة الإسلام.   1 المصدر السابق "3/ 221"، تاريخ الفسوي "1/ 491"، تاريخ بغداد "1/ 172". 2 سير أعلام النبلاء "3/ 222". 3، 4 سير أعلام النبلاء "3/ 222". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وروى أبو حمزة السكري عن إبراهيم الصائغ، عن نافع: أن ابن عمر كان له كتب ينظر فيها قبل أن يخرج إلى الناس، قال الذهبي: هذا غريب1. - ثناء النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه وتبشيره بالجنة: روى الشيخان عن سالم عن أبيه قال: كان الرجل في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكنت غلامًا عَزَبًا شابًّا، فكنت أنام في المسجد، فرأيت كأن ملكين أتياني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، ولها قرون كقرون البئر، فرأيت فيها ناسًا قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقينا ملَك، فقال: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل" قال: فكان بعد لا ينام من الليل إلا القليل2، وروى نحوه نافع، وفيه: "إن عبد الله رجل صالح". وروى سعيد بن بشير عن قتادة، عن ابن سيرين، عن ابن عمر قال: كنت شاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في حائط نخل، فاستأذن أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائذنوا له وبشروه بالجنة" ثم عمر كذلك، ثم عثمان فقال: "بشروه بالجنة على بلوى تصيبه" فدخل يبكي ويضحك، فقال عبد الله: فأنا يا نبي الله؟ قال: "أنت مع أبيك"3.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 238". 2 أخرجه البخاري "3/ 5، 6" في التهجد، باب فضل قيام الليل، وباب من تعار من الليل، فصلى، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب مناقب عبد الله بن عمر، وفي التعبير: باب الإستبرق ودخول الجنة في المنام، وباب الأمن وذَهَاب الروع، وباب الأخذ على اليمين في النوم، وأخرجه مسلم "2479" في فضائل الصحابة: باب فضائل عبد الله بن عمر، والترمذي "3825" في المناقب. 3 إسناده ضعيف لضعف سعيد بن بشير؛ لكن متن الحديث صحيح من طريق آخر إلى قوله: "على بلوى تصيبه"، فقد أخرجه البخاري "13/ 42" وفي مواطن عدة من صحيحه، ومسلم برقم "2403"، والترمذي برقم "3711". من حديث أبي موسى الأشعري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 - تلاميذه: لما كان ابن عمر من أحرص الصحابة على تلقي العلم الكثير من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، ومن أكثرهم حفظًا لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وروايته؛ كان من الطبعي أن يكثر تلاميذه الذين حرصوا على الأخذ عنه، فقد روى عنه خلق كثير؛ منهم: أسلم مولى أبيه، وأمية بن عبد الله الأموي، وأنس بن سيرين، وبشر بن حرب، وبشر بن عائذ، وبكر المزني، وبلال بن عبد الله ابنه، وتميم بن عياش، وثابت البناني، وجبير بن نفير، وحبيب بن أبي ثابت، وحبيب بن أبي مليكة، وحرملة مولى أسامة، والحسن البصري، وابن أخيه حفص بن عاصم، والحكم بن ميناء، وحميد بن عبد الرحمن الزهري، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وذكوان السمان، وزياد بن جبير الثقفي، وزيد بن جبير الطائي، وابنه زيد، وابنه سالم، وسالم بن أبي الجعد، والسائب والد عطاء، وسعد مولى أبي بكر، وسعد مولى طلحة، وسعيد بن جبير، وسعيد بن مرجانة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن يسار، وسليمان بن يسار، وشهر بن حوشب، وطاوس، وعبد الله بن بريدة، وعبد الله بن دينار، وعبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وعبد الله بن شقيق، وابن أبي مليكة، وعبد الله بن عبيد بن عمير، وعبد الله بن كيسان، وعبد الله بن مالك الهمداني، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وعبد الله بن مرة الهمداني، وعبد الله بن موهب الفلسطيني، وحفيده عبد الله بن واقد العمري، وعبد الرحمن بن سعد مولاه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن أبي نعيم، وعبد الرحمن بن يزيد الصنعاني، وعبد الملك بن نافع، وعبيد بن عمير، وعراك بن مالك، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، وعطية العوفي، وعمرو بن دينار، وعمير بن هانئ، والعلاء بن اللجلاج، والقاسم بن عوف، والقاسم بن محمد، وقَزَعة بن يحيى، وكثير بن مرة، وكُليب بن وائل، ومجاهد بن جبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ومحارب بن دثار، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن عباد بن جعفر، وأبو جعفر الباقر، وابن شهاب الزهري، ومحمد بن المنتشر، ومسروق، ومسلم بن جندب، ومعاوية بن قرة، والمغيرة بن سلمان، ومكحول الأزدي، وموسى بن طلحة، وميمون بن مهران، ونافع مولاه، وواسع بن حبان، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، ويحيى البكاء، ويونس بن جبير، وأبو أمامة التيمي، وأبو بردة بن أبي موسى، وأبو بكر بن حفص، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو الصديق الناجي، وأبو عثمان النهدي ... وخلق آخرون. - عبادته، وورعه، وتقواه، وزهده، ورقة قلبه: كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مثالًا يُحتذى به في كثرة العبادة، وشدة التقوى، والزهد في أطايب العيش، والزهد في السلطة، والخوف من الله، ورقة القلب. قال إبراهيم: قال ابن مسعود: إن من أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا عبد الله بن عمر1. وقال ابن عون، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله: لقد رأيتنا ونحن متوافرون وما فينا شاب هو أملك لنفسه من ابن عمر2. وروى سالم بن أبي الجعد، عن جابر: ما منا أحد أدرك الدنيا إلا وقد مالت به، إلا ابن عمر3. وعن عائشة: ما رأيت أحدًا ألزم للأمر الأول من ابن عمر4. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: مات ابن عمر وهو في الفضل مثل أبيه5. وقال أبو إسحاق السبيعي: كنا نأتي ابن أبي ليلى، وكانوا يجتمعون إليه،   1 سير أعلام النبلاء "3/ 211"، طبقات ابن سعد "4/ 144"، حلية الأولياء "1/ 294". 2 الإصابة "2/ 347"، سير أعلام النبلاء "3/ 211". 3 حلية الأولياء "1/ 294"، سير أعلام النبلاء "3/ 211". 4، 5 سير أعلام النبلاء "3/ 212". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فجاءه أبو سامة بن عبد الرحمن فقال: أعُمَر كان أفضل عندكم أم ابنه؟ قالوا: بل عمر، فقال:1 إن عمر كان في زمان له فيه نظراء، وإن ابن عمر بقي في زمان ليس فيه نظير. وقال ابن المسيب: لو شهدت لأحد أنه من أهل الجنة لشهدت لابن عمر، قال الذهبي2: رواه ثقتان عنه. وقال قتادة: سمعت ابن المسيب يقول: كان ابن عمر يوم مات خير من بقي3. وعن طاوس وميمون بن مهران: ما رأيت أورع من ابن عمر4. وبإسناد وسط عن ابن الحنفية: كان ابن عمر خير هذه الأمة5. وروى عبد العزيز بن أبي داود، عن نافع: أن ابن عمر كان إذا فاتته العشاء في جماعة أحيا ليلته6. وقال الوليد بن مسلم: حدثنا ابن جابر، حدثني سليمان بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يحيي الليل صلاة، ثم يقول: يا نافع، أسحَرْنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة إلى أن أقول: نعم، فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح7. وقال طاوس: ما رأيت مصليًا مثل ابن عمر أشد استقبالًا للقبلة بوجهه وكفيه وقدميه8.   1-5 سير أعلام النبلاء "3/ 212". 6 أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء "1/ 303". 7 الحلية "1/ 303"، سير أعلام النبلاء "1/ 235". 8 الحلية "1/ 304"، سير أعلام النبلاء "1/ 235"، وروى ابن سعد في الطبقات "4/ 157" من طريق حماد بن مسعدة، عن ابن عجلان، عن محمد بن يحيى بن حبان قال: كان ابن عمر يحب أن يستقبل كل شيء منه القبلة إذا صلى، حتى كان يستقبل بإبهامه القبلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وروى نافع أن ابن عمر كان يحيي بين الظهر والعصر1. وروى هشام الدستوائي، عن القاسم بن أبي بزة: أن ابن عمر قرأ فبلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] فبكى حتى خر، وامتنع عن قراءة ما بعدها2. وروى معمر، عن أيوب، عن نافع أو غيره: أن رجلًا قال لابن عمر: يا خير الناس، أو ابنَ خير الناس. فقال: "ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه"3. وروى الذهبي في السير، وأبو نعيم في الحلية، وابن سعد في الطبقات بسند صحيح عن عروة يقول: خطبت إلى ابن عمر ابنته ونحن في الطواف، فسكت ولم يجبني بكلمة، فقلت: لو رضي لأجابني، والله لا أراجعه بكلمة. فقُدِّر له أنه صدر إلى المدينة قبلي، ثم قدمت فدخلت مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسلمت عليه، وأديب إليه حقه، فرحب بي وقال: متى قدِمتَ؟ قلت: الآن، فقال: كنتَ ذكرت لي سودة ونحن في الطواف، نتخايل الله بين أعيننا، وكنت قادرًا أن تلقاني في غير ذلك الموطن، فقلتُ: كان أمرًا قُدِّر، قال: فما رأيك اليوم؟ قلت: أحرص ما كنت عليه قط، فدعا ابنيه: سالمًا وعبد الله وزوَّجني4. وروى عبد الرزاق، وأبو نعيم، والبيهقي، والذهبي بسند صحيح عن مجاهد قال: ما رأيت ابن عمر زاحم على الحجر قط، ولقد رأيته مرة زاحم حتى رثم أنفه وابتدر منخراه دمًا5.   1 الحلية "1/ 303"، سير أعلام النبلاء "1/ 235". 2 سير أعلام النبلاء "3/ 235، 236". 3 المصدر السابق "3/ 236"، الحلية "1/ 307" بسند صحيح. 4 سير أعلام النبلاء "3/ 236، 237"، الحلية "1/ 309"، الطبقات "4/ 167، 168". 5 المصنف لعبد الرزاق رقم "8904"، الحلية "1/ 308"، السنن الكبرى للبيهقي "5/ 81"، سير أعلام النبلاء "3/ 236". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ورُوي عن ابن عمر أنه كان يتبع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآثاره وحاله، حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك1. وروى وكيع عن أبي مودود، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان في طريق مكة يقول برأس راحلته يثنيها ويقول: لعل خُفًّا يقع على خف، يعني: خف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم2. ورُوي عن نافع أن ابن عمر كان يتبع آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان مكان صلى فيه، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة، فيصب في أصلها الماء لكيلا تيبس3. وقال نافع: عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو تركنا هذا الباب للنساء"، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات4. وروى عاصم بن محمد العمري، عن أبيه قال: ما سمعت ابن عمر ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بكى5. وروى عكرمة بن عمار عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه: أنه تلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] فجعل ابن عمر -رضي الله عنهما- يبكى حتى لثِقَت لحيته وجيبه من دموعه، فأراد رجل أن يقول لأبي: أقْصِر، فقد آذيتَ الشيخ6. وروى عثمان بن واقد عن نافع: كان ابن عمر إذا قرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] بكى حتى يغلبه البكاء 7.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 213". 2 سير أعلام النبلاء "3/ 237"، حلية الأولياء "1/ 310". 3 أسد الغابة "3/ 341"، سير أعلام النبلاء "3/ 213". 4 طبقات ابن سعد "4/ 162" بإسناد صحيح، وسير أعلام النبلاء "3/ 213". 5 سير أعلام النبلاء "3/ 214". 6 طبقات ابن سعد "4/ 162"، سير أعلام النبلاء "3/ 214". 7 الحلية "1/ 305" بسند صحيح، وسير أعلام النبلاء "3/ 214". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وقال حبيب بن الشهيد: قيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ قال: تطيقونه: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما1. وقال ابن المبارك: أخبرنا عمر بن محمد بن زيد، أخبرنا أبي أن ابن عمر كان له مهراس فيه ماء، فيصلي فيه ما قدر له، ثم يصير إلى الفراش، فيغفي إغفاءه الطائرة، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمسة2. وقال نافع: كان ابن عمر لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر3. وروى أبو الزبير المكي، عن عطاء مولى ابن سباع قال: أقرضت ابن عمر ألفي درهم، فوفَّانيها بزائد مائتي درهم4. وروى معمر عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله قال: لو أن طعامًا كثيرًا كان عند أبي ما شبع منه بعد أن يجد له آكلًا، فعاده ابن مطيع، فرآه قد نحل جمسه، فكلمه فقال: إنه ليأتي عليَّ ثمان سنين ما أشبع فيها شبعة واحدة، أو قال: إلا شبعة، فالآن تريد أن أشبع حين لم يبقَ من عمري إلا ظِمْءُ حمار! 5   1 طبقات ابن سعد "4/ 170" بسند صحيح، وسير أعلام النبلاء "3/ 215". 2 رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء "3/ 215" بسند صحيح، والمهراس: صخرة منقورة تسع كثيرًا من الماء، وقد يعمل منها حياض للماء. 3 سير أعلام النبلاء "3/ 215". 4 المصدر السابق، وفي الهامش "3/ 215، 216": رجاله ثقات، وأخرجه بنحوه مالك "2/ 168"، ومن طريقه ابن سعد "4/ 169" عن حميد، عن قيس، عن مجاهد: أن ابن عمر .... وإنما تحمل له الزيادة فيما إذا لم يكن ذلك على شرط منهما أو عادة، أما إذا شرط في القرض أن يرد أكثر أو أفضل، فهو حرام لا خير فيه، وفعل ابن عمر هذا له سند من السنة، ففي الموطأ "2/ 680" في البيوع، ومسلم "1600" من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع، فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًّا، فقال: "أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء"، وأخرجه البخاري "4/ 394"، ومسلم "1601" من حديث أبي هريرة. 5 مصنف عبد الرزاق "20630"، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية "1/ 298"، وإسناده صحيح، وقوله: "ظمء حمار" أي: شيء يسير، وخص الخمار بذلك لأنه أقل الدواب صبرًا على الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وروى ابن سعد عن ميمون قال: ولقد دخلت على ابن عمر، فقوَّمت كل شيء في بيته من أساس ما يساوي مائة درهم1. روى أبو حازم المديني، عن عبد الله بن دينار، قال: خرجت مع ابن عمر إلى مكة، فعرَّسنا، فانحدر علينا راعٍ من جبل، فقال له ابن عمر: أراعٍ؟ قال: نعم، قال: بعني شاة من الغنم، قال: إني مملوك، قال: قل لسيدك: أكلها الذئب، قال: فأين الله عز وجل؟ قال ابن عمر: فأين الله!! ثم بكى، ثم اشتراه فأعتقه. وروى أسامة بن زيد عن نافع، عن ابن عمر نحوه. وفي رواية ابن أبي روَّاد، عن نافع: فأعتقه، واشترى له الغنم2. وروى الذهبي قال: أخبرنا إسحاق الأسدي، أخبرنا ابن خليل، أخبرنا اللبان، أخبرنا أبو علي الحداد، أخبرنا أبو نعيم الحافظ، حدثنا أحمد بن جعفر، أخبرنا عبد الله بن أحمد، حدثنا أبو كامل، حدثنا أبو عوانة، عن هلال بن خباب عن قزعة، قال: رأيت على ابن عمر ثيابًا خشنة أو جَشَبة، فقلت له: إني قد أتيتك بثوب لين مما يصنع بخراسان، وتقر عيناي أن أراه عليك، قال: أرِنيهِ، فلمسه وقال: أحرير هذا؟ قلت: لا، إنه من قطن، قال: إني أخاف أن ألبسه، أخاف أن أكون مختالًا فخورًا، والله لا يحب كل مختال فخور3.   1 الطبقات "4/ 16، 165"، سير أعلام النبلاء "3/ 213". 2 عزاه الهيثمي للطبراني وقال: ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن الحارث الحاطبي، وهو ثقة. مجمع الزوائد "9/ 347". ونحوه في أسد الغابة "3/ 341"، وهو في سير أعلام النبلاء "3/ 216". 3 سير أعلام النبلاء "3/ 233"، وهو في الحلية "1/ 203"، ورجاله ثقات، غير أن هلال بن خباب تغير بآخره. والجشب من الثياب: الخشن الغليظ، قال الذهبي معلقًا: قلت: كل لباس أوجد في المرء خيلاء وفخرًا فتركه متعين ولو كان من غير ذهب ولا حرير، فإنا نرى الشاب يلبس الفرجية الصوف بفرو من أثمان أربعمائة درهم ونحوها، والكبر والخيلاء على مشيته ظاهر، فإن نصحته ولمته برفق كابر وقال: ما فيَّ خيلاء ولا فخر، وهذا السيد ابن عمر يخاف على نفسه. وكذلك ترى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فرجية تحت كعبيه، وقيل له: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار"، يقول: إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء، وأنا لا أفعل خيلاء. فتراه يكابر ويبرئ نفسه الحمقاء، ويعمد إلى نص مستقل عام، فيخصه بحديث = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 - سخاؤه: روى ابن سعد بسند حسن عن أبي جعفر القارئ: خرجت مع ابن عمر من مكة، وكان له جفنة من ثريد يجتمع عليها بنوه وأصحابه، وكل من جاء حتى يأكل بعضهم قائمًا، ومعه بعير له، عليه مزادتان، فيهما نبيذ وماء، فكان لكل رجل قدح من سويق بذلك النبيذ1. وروى عبد الله بن وهب عن عبيد الله، عن نافع قال: ما أعجبَ ابنَ عمر شيءٌ من ماله إلا قدَّمه، بينا هو يسير على ناقته؛ إذ أعجبته فقال: إخ إخ، فأناخها وقال: يا نافع، حط عنها الرحل، فجللها وقلدها وجعلها في بدنه2. وروى عمر بن محمد بن زيد، عن أبيه: أن ابن عمر كاتب غلامًا له بأربعين ألفًا، فخرج إلى الكوفة، فكان يعمل على حُمُر له حتى أدى خمسة عشر ألفًا، فجاءه إنسان فقال: أمجنون أنت؟ أنت هاهنا تعذب نفسك، وابن عمر يشتري الرقيق يمينًا وشمالًا، ثم يعتقهم، ارجع إليه فقل: عجزت، فجاء إليه بصحيفة فقال: يا أبا عبد الرحمن، قد عجزت، وهذه صحيفتي، فامحها، فقال: لا،   = آخر مستقل بمعنى الخيلاء، ويترخص بقول الصديق: إنه يا رسول الله يسترخي إزاري، فقال: "لست يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء"، فقلنا: أبو بكر -رضي الله عنه- لم يكن يشد إزاره مسدولًا على كعبيه أولا؛ بل كان يشده فوق الكعب، ثم فيما بعد يسترخي. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لاجناح عليه فيما بين ذلك وبين الكعبين"، ومثل هذا في النهي لمن فصَّل سراويل مغطيًا لكعابه، ومنه طول الأكمام زائدًا، وتطويل العذبة، وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس. وقد يعذر الواحد منهم بالجهل، والعالم لا عذر له في تركه الإنكار على الجهلة، فإن خلع على رئيس خلعة سيراء من ذهب وحرير وقندس، يحرمه ما ورد في النهي عن جلود السباع ولبسها، الشخص يسحبها ويختال فيها، ويخطر بيده ويغضب ممن لا يُهنِّيه بهذه المحرمات، ولا سيما إن كانت خلعة وزارة وظلم ونظر مكس، أو ولاية شرطة. فليتهيأ للمقت وللعزل والإهانة والضرب وفي الآخرة أشد عذابًا وتنكيلًا. فرضي الله عن ابن عمر وأبيه، وأين مثل ابن عمر في دينه، وورعه وعلمه وتألهه وخوفه، من رجل تُعرض عليه الخلافة فيأباها، والقضاء من مثل عثمان، فيرده، ونيابة الشام لعلي فيهرب منها. فالله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب. "سير أعلام النبلاء 3/ 233، 234"، "وقوله: الفرجية: ثوب واسع طويل الأكمام، يتخذ من قطن أو حرير أو صوف. والسيراء: بكسر السين وفتح الياء والمد، نوع من البرود تتخذ من حرير. والمكس: الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار". 1 الطبقات "4/ 148"، سير أعلام النبلاء "3/ 239"، والنبيذ: ما يعمل من الأشربة من التمر والذبيب. 2 سير أعلام النبلاء "3/ 217". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ولكن امحها أنت إن شئت. فمحاها، ففاضت عينا عبد الله وقال: اذهب فأنت حر، قال: أصلحك الله، أحسن إلى ابنيَّ. قال: هما حران. قال: أصلحك الله، أحسن إلى أمي ولديَّ. قال: هما حرتان1. وروى أبو نعيم من طريق الإمام أحمد بسند صحيح عن عاصم بن محمد العمري، عن أبيه قال: أعطى عبد الله بن جعفر ابن عمر بنافع عشرة آلاف، فدخل على صفية امرأته، فحدثها قالت: فما تنتظر؟ فهلا ما هو خير من ذلك، وهو حر لوجه الله. فكان يخيل إلى أنه كان ينوي قول الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] 2. وروى جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، عن نافع: أُتِيَ ابن عمر ببضعة وعشرين ألفًا، فما قام حتى أعطاها3، ورواها عيسى بن كثير، عن ميمون وقال: باثنين وعشرين ألف دينار. وقال أبو هلال: حدثنا أيوب بن وائل قال: أتَى ابن عمر بعشرة آلاف فرقها، وأصبح يطلب لراحلته عَلَفًا بدرهم نسيئة4. وروى برد بن سنان، عن نافع قال: إن كان ابن عمر ليُفرِّق في المجلس ثلاثين ألفًا، ثم يأتي عليه شهر ما يأكل مزعة لحم5. وروى عمر بن محمد العمري، عن نافع قال: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد6.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 217". 2 الحلية "1/ 296"، سير أعلام النبلاء "3/ 217، 218". 3، 4 الحلية "1/ 296". 5 مجمع الزوائد "9/ 347"، وعزاه للطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح غير برد بن سنان وهو ثقة. والحلية "1/ 295، 296"، سير أعلام النبلاء "3/ 218". والمزعة: القطعة الصغيرة من اللحم. 6 الحلية "1/ 296"، سير أعلام النبلاء "3/ 218". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وروى عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سالم قال: ما لعن ابن عمر خادمًا له قط إلا واحدًا، فأعتقه1. وروى أيوب، عن نافع قال: بعث معاوية إلى ابن عمر بمائة ألف، فما حال عليه الحول وعنده منها شيء2. وروى الأعمش وغيره، عن نافع قال: مرض ابن عمر، فاشتهى عنبًا أول ما جاء، فأرسلت امرأته بدرهم، فاشترت به عنقودًا، فاتبع الرسولَ سائلٌ، فلما دخل قال: السائل، السائل. فقال ابن عمر: اعطوه إياه. ثم بعثت بدرهم آخر، قال: فاتبعه السائل، فلما دخل قال: السائل، السائل. فقال ابن عمر: أعطوه إياه، فأعطوه، وأرسلت صفية إلى السائل تقول: والله لئن عدت لا تصيب مني خيرًا، ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به3. - تواضعه وحب الناس له: روى أبو جعفر الرازي، عن حصين، قال ابن عمر: إني لأخرج وما لي حجة إلا أن أسلم على الناس، ويسلمون عليَّ4. وروى معمر، عن أبي عمرو النَّدَبي قال: خرجت مع ابن عمر، فما لقي صغيرًا ولا كبيرًا إلا سلم عليه. - شجاعته في الحق: روى الذهبي بسند صحيح عن ابن عمر: أنه قام إلى الحجاج وهو يخطب فقال: يا عدو الله، استحل حرم الله، وخرب بيت الله. فقال: يا شيخًا قد   1 المصنف عبد الرزاق "19534" وإسناده صحيح. 2 الحلية "1/ 296" وإسناده صحيح. 3 سير أعلام النبلاء "3/ 220" وإسناده صحيح، وأخرجه ابن سعد في الطبقات "4/ 158" من طريق عارم: محمد بن الفضل عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع به، وإسناده صحيح. 4 الهيثمي للطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح غير نعيم بن حماد، وهو ثقة. مجمع الزوائد "9/ 347"، سير أعلام النبلاء "3/ 221"، ورواه ابن سعد في الطبقات "4/ 155، 156، 170" بعدة طرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 خَرِف. فلما صدر الناس، أمر الحجاج بعض مسودته، فأخذ حربة مسمومة وضرب بها رجل ابن عمر، فمرض ومات منها. ودخل عليه الحجاج عائدًا فسلم، فلم يرد عليه، وكلمه فلم يجبه1. وروى الذهبي وابن سعد بسند صحيح، عن ابن سيرين: أن الحجاج خطب فقال: إن ابن الزبير بدَّل كلام الله. فعلم ابن عمر فقال: كذب، لم يكن ابن الزبير يستطيع أن يبدل كلام الله ولا أنت، قال: إنك شيخ قد خرفت الغد. قال: أما إنك لو عدتَ عدتُ. وقال الأسود بن شيبان: حدثنا خالد بن سُمَيْر قال: خطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير حرف كلام الله. فقال ابن عمر: كذبت كذبت، ما يستطيع ذلك ولا أنت معه. قال: اسكت، فقد خرفت وذهب عقلك، يوشك شيخ أن يُضرب عنقه، فيخر قد انتفخت خصيتاه، يطوف به صبيان البقيع2. وأخرج البخاري في العيدين: باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم، من طريق أحمد بن يعقوب، حدثني إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه قال: "دخل الحجاج على ابن عمر وأنا عنده فقال: كيف هو؟ فقال: صالح، قال: مَن أصابك؟ قال: أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله". يعني الحجاج. ورواه البخاري أيضًا من طريق محمد بن سوقه، عن سعيد بن جبير3. - منهجه في رواية الحديث: عُرف عن ابن عمر التحري والتثبت في الرواية والضبط والإتقان، وكان أحيانًا   1 سير أعلام النبلاء "3/ 221". 2 الطبقات الكبرى "4/ 184"، سير أعلام النبلاء "3/ 230". 3 صحيح البخاري "2/ 379" حديث رقم "966" ورقم "967" ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 يُقل من الرواية جدًّا، حتى قال الشعبي: جالست ابن عمر سنة، فما سمعته يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا حديثًا واحدًا1. وقال مجاهد: صحبت ابن عمر إلى المدينة، فما سمعت يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا حديثًا2. وقال أبو جعفر الباقر: كان ابن عمر إذا سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا لا يزيد لا ينقص، ولم يكن أحد في ذلك مثله3. - وفاته: تُوفي ابن عمر سنة ثلاث وسبعين، وقال مالك: بلغ ابن عمر سبعًا وثمانين سنة. قال أبو بكر بن البرقي: تُوفي بمكة، ودفن بذي طُوى، وقيل: بفخِّ مقبرة المهاجرين سنة أربع. قال الذهبي: قلت: هو القائل: كنت يوم أُحُد ابن أربع عشرة سنة4، فعلى هذا يكون عمره خمسًا وثمانين سنة، رضي الله عنه وأرضاه5. وروى ابن سعد من طريق سليمان بن حرب، عن شعبة، عن ابن أبي رَوَّاد، عن نافع: أن ابن عمر أوصى رجلًا يُغسِّله فجعل يدلكه بالمسك6. وعن سالم بن عبد الله: مات أبي بمكة، ودفن بفخ سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وثمانين، وأوصاني أن أدفنه خارج الحرم، فلم نقدر، فدفناه بفخ في الحرم في مقبرة المهاجرين7.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 214". 2 تاريخ أبي زرعة الدمشقي "1/ 557"، وسير أعلام النبلاء "3/ 214". 3 سير أعلام النبلاء "3/ 213". 4 سير أعلام النبلاء "3/ 232". 5 المصدر السابق "3/ 232، 233". 6 طبقات ابن سعد "4/ 187"، سير أعلام النبلاء "3/ 231". 7 طبقات ابن سعد "4/ 188"، والسير "3/ 231"، و"فخ" وادٍ بمكة يقال: هو وادي الزاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وقال أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه: قال ابن عمر حين احتضر: ما أجد في نفسي شيئًا إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب1. قال الذهبي: وله قول ثالث في الفئة الباغية، فقال روح بن عبادة: حدثنا العوام بن حوشب، عن عياش العامري، عن سعيد بن جبير، قال: لما احتضر ابن عمر قال: ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا؛ يعني: الحجاج2. - مروياته: قال الذهبي: ولابن عمر في "مسند بقي" ألفان وستمائة وثلاثون حديثًا بالمكرر، واتفقا له على مائة وثمانية وستين حديثًا. وانفرد له البخاري بأحد وثمانين حديثًا، ومسلم بأحد وثلاثين3.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 232"، ورواه من طريق آخر عن ابن عمر نحوه في نفس الموضع. 2 سير أعلام النبلاء "3/ 232"، والطبقات الكبرى "4/ 185" وسنده صحيح. 3 سير أعلام النبلاء "3/ 238". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 3- أنس بن مالك رضي الله عنه 1: - نسبه وإسلامه وشخصيته: أنس بن مالك بن النضر بن ضَمْضَم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. وأمه: أم سليم بنت ملحان. وكنيته: أبو حمزة، ويقال: أبو ثمامة الأنصاري البخاري، وروى الترمذي وغيره عن أنس قال: كناني النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا حمزة ببقلة اجتنيتُها2. لقبه: روى أبو داود والترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأنس: يا ذا الأذنين3. مولده: قال الذهبي: ثبت مولد أنس قبل عام الهجرة بعشر سنين4. وكان -رضي الله عنه- مرجع الصحابة والتابعين في الرواية والفتوى، وقد لخص الحافظ الذهبي مناقبه في صدر ترجمته فقال: الإمام، المفتي، المقرئ، المحدث، راوية الإسلام، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي النجاري المدني، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقرابته من النساء، وتلميذه وتبعه، وآخر أصحابه موتًا. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمًا جمًّا، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاذ، وأسيد بن الحضير، وأبي طلحة. وأمه: أم سليم بنت ملحان، وخالته أم   1 راجع ترجمته في: سير أعلام النبلاء "3/ 259، 406"، وطبقات ابن سعد "7/ 17"، المحبر "301، 334، 379"، التاريخ الكبير "2/ 27"، التاريخ الصغير "1/ 209"، الجرح والتعديل "2/ 286"، المستدرك "3/ 573"، الاستيعاب "108"، طبقات الشيرازي "51"، الجمع بين رجال الصحيحين "1/ 35"، جامع الأصول "9/ 88"، أسد الغابة "1/ 151"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 1/ 127" نهاية الأرب "18/ 223"، تهذيب الكمال "3/ 353-378"، تاريخ الإسلام "3/ 339"، تذكرة الحفاظ "1/ 42"، العبر "1/ 107"، مرآة الجنان "1/ 182"، البداية والنهاية "88/ 9"، مجمع الزوائد "9/ 325"، تهذيب التهذيب "1/ 376"، الإصابة "1/ 71"، النجوم الزاهرة "1/ 224"، خلاصة تهذيب الكمال "35"، شذرات الذهب "1/ 100، 101"، تهذيب ابن عساكر "3/ 142". 2 راجع: سنن الترمذي "حديث 3918". 3 راجع: سنن أبي داود "5002" كتاب الأدب، وسنن الترمذي "3828". 4 سير أعلام النبلاء "3/ 405". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 حرام، وزوجها عبادة بن الصامت، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وفاطمة النبوية، وعدة. ورَوى عنه خَلْق عظيم؛ منهم: الحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي، وأبو قلابة، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، وثابت البناني، وبكر بن عبد الله المزني، والزهري، وقتادة، وابن المنكدر، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وعبد العزيز بن صهيب، وشعيب بن الْحَبْحاب، وعمرو بن عامر الكوفي، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وكثير بن سليم، وعيسى بن طهمان، وعمر بن شاكر، وخلق كثير. وبقي أصحابه الثقات إلى بعد الخمسين ومائة، وبقي ضعفاء أصحابه إلى بعد التسعين ومائة، وبقي بعدهم ناس لا يُوثق بهم؛ بل اطُّرح حديثهم جملة؛ كإبراهيم بن هُدبة، ودينار أبو مكيس، وخراش بن عبد الله، وموسى الطويل، عاشوا مُدَيْدَة بعد المائتين، فلا اعتبار بهم. وإنما كان بعد المائتين بقايا مَن سمع مِن ثقات أصحابه؛ كيزيد بن هارون، وعبد الله بن بكر السهمي، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأبي عاصم النبيل، وأبي نُعيم1. وقد سرد صاحب "التهذيب" نحو مائتي نفس من الرواة عن أنس. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخصه ببعض العلم، فنقل أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه طاف على تسع نسوة في ضحوة بغُسل واحد2. - هيئته وبعض أوصافه وغيره: قال سلمة بن وردان: رأيت على أنس عمامة سوداء قد أرخاها من خلفه3.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 396، 397". 2 انظر: صحيح البخاري "1/ 324"، صحيح مسلم "309"، سنن أبي داود "218"، سنن الترمذي "140"، سنن النسائي "1/ 144"، سنن ابن ماجه "588". 3 سير أعلام النبلاء "3/ 403". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وروى ابن سعد عن أنس: نهى عمر أن نكتب في الخواتيم عربيًّا، وكان في خاتم أنس ذئب أو ثعلب1. وقال ابن سيرين: كان نقش خاتم أنس أسد رابض2. وروى همام، عن ابن جريج عن الزهري، عن أنس: أنه نقش في خاتمه: "محمد رسول الله"، فكان إذا دخل الخلاء نزعه3. وقال ابن عون: رأيت على أنس مِطرَفَ خَزٍّ، وعمامة خز، وجُبَّة خز4. وروى عمرو بن دينار، عن أبي جعفر قال: كان أنس بن مالك أبرص وبه وَضَحٌ شديد، ورأيته يأكل، فيلقم لقمًا كبارًا5. - خدمته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعاء الرسول له: شَرُف أنس بخدمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وملازمته، فاستقى منه علمًا غزيرًا، وظفر منه دعاء مستجابًا. روى مسلم وغيره: كان أنس يقول: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وأنا ابن عشر، ومات وأنا ابن عشرين، وكنَّ أمهاتي يحثُثْنَني على خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم6. وروى أبو داود الطيالسي بسند صحيح والترمذي بإسناد حسنه عن أبي خلدة، قلت لأبي العالية: سمع أنس من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: خدمه عشر سنين، ودعا له، وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منه ريح المسك7.   1 الطبقات الكبرى "7/ 18" بسند صحيح. 2 رواه ابن سعد بسند صحيح في الطبقات الكبرى "7/ 18". 3 طبقات ابن سعد "7/ 22، 23"، سير أعلام النبلاء "3/ 404". 4 طبقات ابن سعد "7/ 23"، سير أعلام النبلاء "3/ 404". 5 سير أعلام النبلاء "3/ 405". 6 راجع: صحيح مسلم حديث رقم "2029/ 125"، ومسند أحمد "3/ 110"، وطبقات ابن سعد "7/ 20"، وسير أعلام النبلاء "3/ 397". 7 سنن الترمذي: كتاب المناقب "45" باب مناقب أنس بن مالك رضي الله عنه، حديث رقم "3833" وقال: هذا حديث حسن غريب، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء "3/ 400". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قال ثُمامة بن عبد الله: كان كَرْمُ أنس يحمل في السنة مرتين1. قال سليمان التيمي: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- يقول: ما بقي أحد صلى القبلتين غيري2. وروى أبو يعلى والترمذي بنحوه عن أنس -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وأنا ابن ثمان سنين، فأخذت أمي بيدي فانطلقت بي إليه، فقالت: يا رسول الله! لم يبقَ رجل ولا امرأة من الأنصار إلا وقد أتحفك بتحفة، وإني لا أقدر على ما أُتحفك به إلا ابني هذا، فخذه، فليخدمك ما بدا لك. قال: فخدمته عشر سنين، فما ضربني، ولا سبني، ولا عبس في وجهي3. وروى مسلم عن أنس قال: جاءت بي أم سليم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أزَّرتني بنصف خمارها، وردتني ببعضه، فقالت: يا رسول الله! هذا أُنيس ابني أتيتك به يخدمك، فادعُ الله له، فقال: "اللهم أكثر ماله وولده" فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي يتعادُّون على نحو من مائة اليوم4. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أمه: أنها رأت أنسًا متخلقًا بخلوق وكان به برص، فسمعني وأنا أقول لأهله: لهذا أجلد من سهل بن سعد، وهو أسن من سهل، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا لي5. وقال أبو اليقظان: مات لأنس في طاعون الجارف6 ثمانون ابنًا، وقيل: سبعون7.   1، 2 سير أعلام النبلاء "3/ 403". 3 راجع: مجمع الزوائد "1/ 271، 272"، سنن الترمذي حديث "589، 2678، 2698". 4 صحيح مسلم "2481/ 143" فضائل الصحابة/ باب فضائل أنس بن مالك. 5 سير أعلام النبلاء "3/ 405". 6 كان طاعون الجارف بالبصرة سنة 69هـ، قال المدائني: حدثني مَن أدرك ذلك قال: كان ثلاثة أيام، فمات فيها نحو مائتي ألف نفس، وقال غيره: مات في طاعون الجارف لأنس من أولاده سبعون نفسًا. " دول الإسلام 1/ 25". 7 سير أعلام النبلاء "3/ 405". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وروى الشيخان من طريق شعبة، عن قتادة، عن أنس: أن أم سليم قالت: يا رسول الله! خادمك أنس، ادعُ الله له، فقال: "اللهم أكثر ماله وولده"، فأخبرني بعض أهلي أنه دفن من صلبي أكثر من مائة1. وروى البخاري في الأدب المفرد، وابن سعد بسند حسن عن أنس قال: دعا لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته" فالله أكثر مالي حتى إن كَرْمًا لي لتحمل في السنة مرتين، ووُلِدَ لصلبي مائة وستة2. وروى البخاري في صحيحه عن حميد، عن أنس رضي الله عنه: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، فقال: "أعيدوا تمركم في وعائه، وسمنكم في سقائه، فإني صائم" ثم قام إلى ناحية البيت فصلى صلاة غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها. فقالت: يا رسول الله! إن لي خويصة، قال: "ما هي؟ " قالت: خادمك أنس. فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به، ثم قال: "اللهم ارزقه مالًا وولدًا، وبارك له" قال: فإني لمن أكثر الأنصار مالًا، وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مَقْدِمَ الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة3. - مشاهده: لم يتخلف أنس -صلى الله عليه وسلم- عن غزوة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى غزوة بدر، فقد شهدها صغيرًا. قال الذهبي: فصحب أنس نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولازمه أكمل الملازمة منذ هاجر وإلى أن مات، وغزا معه غير مرة، وبايع تحت الشجرة.   1 أخرجه البخاري "11/ 122، 154" في الدعوات، ومسلم "2480" في فضائل الصحابة دون قوله: "فأخبرني بعض أهلي"، وأخرجه معها بنحوه "4/ 198، 199" في الصوم: باب من زار قومًا فلم يفطر عندهم، من طريق حميد، عن أنس وفيه: وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي عند مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة. 2 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" "653"، وابن سعد "7/ 19". 3 أخرجه البخاري "4/ 198، 199" في الصوم: باب من زار قومًا فلم يفطر عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقد روى محمد بن سعد في "طبقاته": حدثنا الأنصاري1، عن أبيه، عن مولى لأنس، أنه قال لأنس: أشهدت بدرًا؟ فقال: لا أم لك، وأين أغيب عن بدر. ثم قال الأنصاري: خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بدر وهو غلام يخدمه. وقد رواه عمر بن شبة، عن الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة قال: قيل لأنس: ... فذكر نحوه. قلت: لم يعده أصحاب المغازي في البدريين لكونه حضرها صبيًّا ما قاتل؛ بل بقي في رحال الجيش، فهذا وجه الجمع2. وقال موسى بن أنس: إن أنسًا غزا ثمان غزوات3. - عبادته وورعه: روى ابن سعد بسند صحيح عن ثابت البناني: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدًا أشبه بصلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبن أم سليم؛ يعني: أنسًا4. وقال أنس بن سيرين: كان أنس بن مالك أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر5. وروى الأنصاري عن أبيه، عن ثمامة قال: كان أنس يصلي حتى تفطَّر قدماه دمًا، مما يطيل القيام رضي الله عنه6. وروى معاذ بن معاذ، حدثنا عمران، عن أيوب قال: ضَعُف أنس عن الصوم، فصنع جفنة من ثريد، ودعا ثلاثين مسكينًا فأطعمهم7.   1 الأنصاري: هو محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري ثقة، وأبوه عبد الله صدوق، خرج له البخاري إلا أنه كثير الغلط، ومولى أنس لا يعرف؛ لكن تابعه ثمامة في رواية عمر بن شبة، وهو صدوق. 2 سير أعلام النبلاء "3/ 397، 398". 3-6 سير أعلام النبلاء "3/ 400". 7 سير أعلام النبلاء "3/ 405"، وفي صحيح البخاري "8/ 135": فقد أطعم أنس بن مالك بعدما كَبِرَ عامًا أو عامين كل يوم مسكينًا خبزًا ولحمًا وأفطر. وقال الحافظ: وروى عبد بن حميد من طريق النضر بن أنس، عن أنس: أنه أفطر في رمضان وكان قد كَبِرَ، فأطعم مسكينًا كل يوم، ورويناه في فوائد محمد بن هشام بن ملاس، عن مروان، عن معاوية، عن حميد قال: ضعف أنس عن الصوم عام تُوفي، فسألت ابنه عمر بن أنس: أطاق الصوم؟ قال: لا، فلما عرف أنه لا يطيق القضاء، أمر بجفان من خبز ولحم، فأطعم العدة أو أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وروى ابن سعد في طبقاته من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا شيخ لنا يكنى أبا الحباب قال: سمعت الجريري يقول: أحرم أنس بن مالك من ذات عرق، قال: فما سمعناه متكلمًا إلا بذكر الله حتى حل، قال: فقال له: يابن أخي هكذا الإحرام1. - كرامته: قال ثابت البناني: جاء قيِّمُ أرض أنس فقال: عطشت أرَضوك، فتردَّى أنس ثم خرج إلى البرية، ثم صلى ودعا، فثارت سحابة، وغشيت أرضه ومطرت حتى ملأت صهريجه وذلك في الصيف، فأرسل بعض أهله فقال: انظر أين بلغت؟ فإذا هي لم تعد أرضه إلا يسيرًا2. قال الذهبي معلقًا: هذه كرامة بيِّنة ثبتت بإسنادين3. - رؤيته للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته: روى ابن سعد بسند صحيح عن المثنى بن سعيد قال: سمعت أنسًا يقول: ما ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي، ثم يبكى4. - إكرام عمر له: روى حماد بن سلمة: أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس قال: استعملني أبو بكر على الصدقة، فقدمت وقد مات، فقال عمر: يا أنس، أجئتنا بظهره؟ قلت: نعم. قال: جئنا به، والمال لك. قلت: هو أكثر من ذلك، قال: وإن كان فهو لك. وكان أربعة آلاف5.   1 الطبقات "7/ 22"، وانظر: سير أعلام النبلاء "3/ 401". 2 سير أعلام النبلاء "3/ 401"، طبقات ابن سعد "7/ 21". 3 سير أعلام النبلاء "3/ 401". 4 الطبقات الكبرى "7/ 20"، سير أعلام النبلاء "3/ 403". 5 سير أعلام النبلاء "3/ 401". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 - موقفه من الفتنة: لم يتغير أنس لعثمانَ ولا لعلي في الفتنة، ولم ينضم إلى أحد الفريقين، ولم يشترك في محاربة أحدهما، وقد صرح بأن الله تعالى منحه حبهما جميعًا. قال حميد عن أنس: يقولون: لا يجتمع حب علي وعثمان في قلب، وقد جمع الله حبهما في قلوبنا1. - إيذاء الحجاج بن يوسف الثقفي له: كان أنس -رضي الله عنه- يقف للحجاج بالمرصاد، وكان يؤلب عليه كلما وجد منه خطأ؛ ولذلك كان إيذاء الحجاج له وإهانته إياه. قال جعفر بن سليمان: حدثنا علي بن زيد قال: كنت بالقصر، والحجاج يَعرِض الناسَ ليالي ابن الأشعث، فجاء أنس فقال الحجاج: يا خبيث، جوَّال في الفتن ... ، مرة مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث، أما والذي نفسي بيده، لأستأصلنَّك كما تُستأصل الصَّمْغَة، ولأجردنك كما يُجرَّد الضب. قال: يقول أنس: من يعني الأمير؟ قال: إياك أعني أصمَّ الله سمعك. قال: فاسترجع أنس، وشُغل الحجاج، فخرج أنس، فتبعناه إلى الرحبة فقال: لولا أني ذكرتُ ولدي وخشيت عليهم بعدي، لكلمته بكلام لا يستحييني بعده أبدًا2. قال الأعمش: كتب أنس إلى عبد الملك بن مَرْوان -يعني: لما آذاه الحجاج: إني خدمتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع سنين، والله لو أن النصارى أدركوا رجلًا خدم نبيهم لأكرموه3.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 405". 2 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير "704"، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ضعيف، وأعله الهيثمي في مجمع الزوائد "7/ 274"، وانظره في سير أعلام النبلاء "3/ 402، 403". 3 سير أعلام النبلاء "3/ 402". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وروى عبد الله بن سالم الأشعري، عن أزهر بن عبد الله قال: كنت في الخيل الذين بيتوا أنس بن مالك، وكان فيمن يؤلب على الحجاج، وكان مع ابن الأشعث، فأتوا به الحجاج، فوسم في يده: عتيق الحجاج1. قال الأعمش: كتب أنس إلى عبد الله: قد خدمتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسع وتسعين، وإن الحجاج يُعرِّض بي حَوَكَة البصرة، فقال: يا غلام! اكتب إلى الحجاج: ويلك قد خشيت ألا يصلح على يدي أحد، فإذا جاءك كتابي فقم إلى أنس حتى تعتذر إليه، فلما أتاه الكتاب قال الرسول: أمير المؤمنين، كتب بما هنا؟ قال: إي والله، وما كان في وجهه أشد من هذا. قال: سمعًا وطاعة، وأراد أن ينهض إليه فقلت: إن شئتَ أعلمتُه. فأتيت أنس بن مالك فقلت: ألا ترى قد خافك وأراد أن يجيء إليك فقم إليه، فأقبل أنس يمشي حتى دنا منه، فقال: يا أبا حمزة غضبت؟ قال: نعم، تعرضني بحوكة البصرة؟ قال: إنما مثلي لك كقول الذي قال: "إياك أعنى وأسمعي يا جارة" أردت ألا يكون لأحد عليَّ منطق2. - وفاته 3: كان أنس -رضي الله عنه- آخر الصحابة موتًا، والأرجح أنه مات بالبصرة سنة ثلاث وتسعين وهو ابن مائة وثلاث سنين. قال قتادة: لما مات أنس قال مورق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم، فقيل:   1 سير أعلام النبلاء "3/ 404". 2 المصدر السابق، وانظر: المستدرك "4/ 574". 3 في السير "3/ 405، 406"، قال الذهبي: ثبت مولد أنس قبل عام الهجرة بعشر سنين، وأما موته فاختلفوا فيه، فروى معمر عن حميد: أنه مات سنة إحدى وتسعين، وكذا أرخه قتادة، والهيثم بن عدي، وسعيد بن عفير، وأبو عبيد، وروى معن بن عيسى عن ابن لأنس بن مالك: سنة اثنتين وتسعين. وتابعه الواقدي، وقال عدة وهو الأصح: مات سنة ثلاث وتسعين. قاله ابن علية، وسعيد بن عامر، والمدائني، وأبو نعيم، وخليفة، والفلاس، وقعنب، فيكون عمره على هذا مائة وثلاث سنين. قال الأنصاري: اختلف علينا في سن أنس، فقال بعضهم: بلغ مائة وثلاث سنين. وقال بعضهم: بلغ مائة وسبع سنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وكيف ذلك يا أبا المغيرة؟ قال: كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلنا له: تعالَ إلى من سمعه منه. - مروياته: قال الذهبي: مسنده ألفان ومائتان وستة وثمانون، اتفق له البخاري ومسلم على مائة وثمانين حديثًا، وانفرد البخاري بثمانين حديثًا، ومسلم بتسعين1. - أصح الأسانيد عنه: قيل: مالك، عن الزهري، عنه. وقيل: حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عنه. وقيل: هشام الدستوائي، عن قتادة، عنه. - أوهى الأسانيد إليه: داود بن المحبر، عن قحذم، عن أبيه، عن أبان بن أبي عياش، عنه.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 406". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 4- عائشة رضي الله عنه ا 1: - نسبها وكنيتها ومولدها: عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن غالب، أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا خديجة، ففيها خلاف شهير كما قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب. - كنيتها: أم عبد الله، فكناها بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قالت له: إن النساء قد اكتنين، فكنني، فكناها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأم عبد الله؛ يعني: ابن الزبير؛ لأنها قد حنكته لما وُلد بتمرة، وتُسمى أيضًا الحميراء لغلبة البياض على لونها. - وأمها: أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس. ولدت عائشة -رضي الله عنها- بمكة في السنة الثامنة أو نحوها قبل الهجرة، تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بسنة ونصف، أو نحو ذلك، وهي بنت ست سنين، وبَنَى بها بالمدينة بعد منصرفه من غزوة بدر في شوال سنة اثنتين من الهجرة وهي ابنة تسع سنين، وقيل: بَنَى بها في شوال على رأس ثمانية عشر شهرًا من مهاجره إلى المدينة. وكانت -رضي الله عنها- كثيرة التعبد والتهجد والصوم، وكانت تؤم النساء في الصلاة المكتوبة، وكانت شديدة الحياء حتى أنها كانت تدخل البيت الذي دُفن فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وهي واضعة ثوبها وتقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفن عمر بن الخطاب لم تكن تدخله إلا مشدودة عليها ثيابها حياء من عمر.   1 راجع ترجمة السيدة عائشة -رضي الله عنها- في: أعلام النساء لعمر رضا كحالة "3/ 9/ 131" وفيه مصادر ترجمتها "ص130، 131". وانظر: تهذيب الكمال "35/ 227-236"، ولها ترجمة مستفيضة في سير أعلام النبلاء "2/ 135-201"، وطبقات ابن سعد "8/ 58-81"، وانظر: المستدرك للحاكم "4/ 4-14"، الاستيعاب "4/ 1881"، أسد الغابة "7/ 188"، البداية والنهاية "8/ 91-94"، مجمع الزوائد "9/ 225-244"، تهذيب التهذيب "12/ 433- 436"، الإصابة "13/ 38"، شذرات الذهب "1/ 9 و61 - 63"، صفة الصفوة "2/ 16"، هداية العارفين للبغدادي "ص233"، جوامع السيرة لابن حزم "ص275 - 315"، وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ولم تكذب أبدًا، فكان ابن الزبير إذا حدَّث عن عائشة قال: والله لا تكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبدًا، وكانت كثيرة الصدقات والعطايا حتى قال عبد الله بن الزبير في عطاء أعطته عائشة: والله لتَنْتَهيَنَّ عائشة أو لأحجرَنَّ عليها، فقالت عائشة: هو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: فلله عليَّ نذر ألا أكلم ابن الزبير أبدًا، فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: والله لا أشفع فيه أبدًا. فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما من بني زهرة فقال: أنشدكما بالله أن تدخلاني على عائشة، فإنه لا يحل لها أن تنذر قطيعتي، فأقبل المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: أكلنا؟ قالت: نعم ادخلوا كلكم -ولا تعلم أن معهما ابن الزبير- فلما دخلوا، دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا كلمته وقبلت منه ويقولان: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عما عملت من الهجر، وإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فلما أكثروا على عائشة طفقت تبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك وتبكي حتى تبل دموعُها خمارَها. - دورها في الجهاد: استأذنت عائشة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجهاد فقال: "جهادُكن الحج"، ولما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولقد رأى أنس عائشة وأم سليم، وإنهما لمشمرتان تنقلان القِرَب على متنيهما، ثم تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان، فتفرغانها في أفواه القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 - مكانتها العلمية والأدبية: لقد كانت السيدة عائشة -رضي الله عنها- حاملة لواء العلم في عصرها، ونبراسًا منيرًا لمريدي العلم وطلابه، وقد حسمت كثيرًا من الخلاف الفقهي، وكانت دقيقة في استنباط الحكم من العلة وجمع أطراف الحديث. قال أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه: ما أُشكل علينا -أصحابَ محمد- حديث قط فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا. وقال مسروق: لقد رأيت أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض. وتُعد عائشة من أبرع الناس في القرآن والحديث والفقه والشعر وأحاديث العرب وأخبارهم وأيامهم وأنسابهم. قال عروة بن الزبير: ما رأيت أحدًا أعلم بالقرآن ولا بفرائضه ولا بحلال ولا بحرام ولا بشعر ولا بحديث العرب ولا بنسب من عائشة. وقال أيضًا: ما رأيت أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة. قال أبو عمر بن عبد البر: إن عائشة كانت وحدية بعصرها في ثلاثة علوم: علم الفقه وعلم الطب وعلم الشعر. وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدًا أروى لشعر من عروة، فقلت له: ما أرواك يا أبا عبد الله! قال: وما روايتي في رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا. وكان عروة يقول لعائشة: يا أمتاه لا أعجب من فقهك، أقول: زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر وكان أعلم أو من أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب، كيف هو؟ ومن أين هو؟ قال: فضربت عائشة على منكبه وقالت: أي عرية -تصغير عروة- إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسقم عند آخر عمره، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجهة فتنعت له الأنعات، وكنت أعالجها فمن ثَمَّ. قال الزهري: لو جُمِع علم عائشة بعلم جميع أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وجميع علم الناس لكان علم عائشة أكثر. وفي رواية: أفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وقال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: يا زياد، أي الناس أعلم؟ قال زياد: أنت يا أمير المؤمنين، قال: أعزم عليك، قال: أما إذا عزمت عليَّ فعائشة. وقال محمد بن عمر: ربما روت عائشة القصيدة ستين بيتًا والمائة بيت. وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيًا في العامة، وقال المقداد بن الأسود: ما كنت أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم بشعر ولا فريضة من عائشة. - شيوخها: عُدَّ الذين حفظت عنهم الفتوى من الصحابة مائة ونيف وثلاثون نفسًا ما بين رجل وامرأة، كان المكثرون منهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو. وقال أبو محمد بن حزم: ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سِفْرٌ ضخم، وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس في عشرين كتابًا، وفي شرح الزرقاني وفتح الباري: إن عائشة كانت فقيهة جدًّا حتى قيل: إن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها. وقال الذهبي في الكاشف: إن عائشة أفقه نساء الأمة، وكانت -رضي الله عنها- مرجع كبار الصحابة في العديد من المسائل، قال الزركشي في المعتبر: إن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب كانا يسألانها في مسائل فقهية عديدة. - الذين رَوَوْا عنها: روى عنها خَلْقٌ كثير؛ منهم: أخوها من الرضاعة عوف بن الحارث بن الطفيل، وأختها أم كلثوم بنت أبي بكر، وابنا أخيها القاسم وعبد الله ابنا محمد بن أبي بكر الصديق، وابنتا أخيها حفصة وأسماء ابنتا عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنُ ابنِ أخيها عبد الله بن أبي عتيق، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 أختها عبد الله وعروة ابنا الزبير بن العوام، وابن أختها أسماء وعباد بن حبيب بن عبد الله بن الزبير، وعباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير، وابنته أختها عائشة بنت طلحة، أبو يونس وذكوان أبو عمر، وابن فروخ مولى عائشة. وروى عنها من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، وزيد بن خالد الجهني، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وربيعة بن عمرو الجرشي، والسائب بن يزيد1، والحارث بن عبد الله بن نوفل، وغيرهم. وروى عنها من أكابر التابعين: سعيد بن المسيب، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وعلقمة بن قيس، وعمرو بن ميمون، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، وهمام بن الحارث، وأبو عطية الوادعي، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، ومسروق بن الأجدع، وعبد الله بن حكيم، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابناه أبو بكر ومحمد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، والأسود بن يزيد النخعي، وأيمن المكي، وثمامة بن حزن القشيري، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وحمزة بن عبد الله بن عمر، وسعد بن هشام بن عامر، وسليمان بن يسار، وشريح بن هانئ، وزر بن حبيش، وأبو صالح السمان، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وطاوس، وعبد الله بن شقيق العقيلي، وعبد الله بن شهاب الخولاني، وابن أبي مليكة، وعبد الله البهي، وعبد الرحمن بن شماسة، وعبيد بن عمير الليثي، وعراك بن مالك، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، وعكرمة، وعلقمة بن وقاص، وعلى بن الحسين بن علي، وعمران بن حطان، ومجاهد بن جبر، وكريب، ومالك بن أبي عامر الأصبحي، وفروة بن نوفل الأشجعي، ومحمد بن قيس بن مخرمة، ومحمد بن المنتشر، ونافع بن جبير بن مطعم، ويحيى بن يعمر، ونافع مولى ابن عمر، وأبو بردة بن أبي موسى، وأبو الجوزاء الربعي، وأبو الزبير المكي، وخيرة أم   1 تهذيب التهذيب، وفي شرح الزرقاني: السائب بن زيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الحسن، وصفية بنت أبي عبيد، وصفية بنت شيبة، وعمرة بنت عبد الرحمن، ومعاذة العدوية، وآخرون. - استدراكاتها على الصحابة: ألَّف بدر الدين الزركشي الشافعي كتابًا سماه: "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" وقال في مقدمته: "وبعد، فهذا كتاب أجمع فيه ما تفردت به الصديقة -رضي الله عنها- أو خالفت فيه سواها برأي منها، أو كان عندها فيه سُنة بينة، أو زيادة علم متقنة، أو أنكرت فيه على علماء زمانها، أو رجع فيه إليها أجلة من أعيان أوانها، أو حررته، أو اجتهدت فيه من رأي رأته أقوى". ثم ذكر المؤلف ما استدركته على عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، ومروان بن الحكم، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وزيد بن ثابت، وزينب بنت أرقم، والبراء بن عازب، وعبد الله بن الزبير، وعروة بن الزبير، وجابر، وعلي بن أبي طالب، وأبي الدرداء، وعبد الرحمن بن عوف، وفاطمة بنت قيس، وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وعبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب. ومما استدركته عائشة -رضي الله عنها- على أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يُحدِّث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الطيرة في المرأة والدار والدابة" فطارت شفقًا ثم قالت: كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم مَن حدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في الدابة والدار والمرأة، ثم قرأت: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية. وكانت عائشة -رضي الله عنها- شديدة التمحيص والتنقيب، فقد ذكر المزي أنها كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وقال عروة: سألت عائشة عن قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بين الصفا والمروة. قالت: بئس ما قلت يابن أخي، إن هذه لو كانت كما أولتها كانت لا جناح ألا يطوف بهما؛ ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلَّل1، وكان من أهلَّ بها يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة؛ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ... } الآية. وقالت عائشة رضي الله عنها: وقد سَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطواف بينهما فليس لأحد يترك الطواف بينهما، فأخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالًا من أهل العلم يذكرون أن الناس -إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل لمناة- كانوا يطوفون كلهم بين الصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة؛ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية، قال أبو بكر: فأحسب هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما، في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية في الصفا والمروة، والذين كانوا يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام2. - فصاحتها وبلاغتها: كانت عائشة -رضي الله عنها- فصيحة اللسان بليغة المقال، إذا خطبت ملكت على الناس مسامعهم وإذا تكلمت أخذت بمجامع قلوبهم. قال الأحنف بن قيس: سمعتُ   1 المشلل: جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر، وقديد وادٍ وموضع. 2 صحيح البخاري: "25" كتاب الحج "79" باب "وجوب الصفا والمروة وجُعل من شعائر الله" حديث "1643"، وأطرافه: "1790"، "4495"، "4861"، وصحيح مسلم: "15" كتاب الحج "43" باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به، حديث "1277". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 خطبة أبي بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والخلفاء هلم جرًّا إلى يومي هذا فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن منه في عائشة. وقال موسى بن طلحة: ما رأيت أحدًا أفصح من عائشة1، وقال معاوية: والله ما رأيت خطيبًا قد أبلغ ولا أفصح من عائشة2. وقالت عائشة: قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضَها3، اشرأَبَّ النفاق بالمدينة وارتدت العرب، فوالله ما اختلف المسلمون في لفظة إلا طار أبي بحظها وغنائها في الإسلام، ومن رأى ابن الخطاب علم أنه خُلق غناءً للإسلام، كان والله أحوذيًّا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها. ودخلت عائشة -رضي الله عنها- على أبيها أبي بكر الصديق في مرضه الذي مات فيه فقالت: يا أبتِ، اعْهَد إلى خاصتك، وأنفذ رأيك في سامتك4، وانقل من دار جهازك إلى دار مقامك، وإنك محضور، ومتصل بقلبي لوعتك، وأرى تخاذل أطرافك وانتفاع لونك وإليَّ تعزيتي عنك، ولديه ثواب حزني عليك، أرقأ فلا أرقى5، وأبل فلا أنقى، وأشكو فلا أشكى. فرفع رأسه وقال: يا بنية، هذا يوم يجلى فيه عن غطائي وأعاين جزائي، إن فَرَح فدائم، وإن تَرَح6 فمقيم، إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم حين كان النكوص إضاعة والحزم تفريطًا، فشهيدي الله ما كان هبلى إياه. تبلغت بصفحتهم وتعللت7 بدَرَّة لقحتهم وأقمت صلاتي   1 سنن الترمذي "5/ 663" "50" كتاب المناقب "63" باب فضل عائشة رضي الله عنها حديث رقم "3884" وقال: حسن صحيح غريب، والمستدرك للحاكم "4/ 11" كتاب معرفة الصحابة. 2 المستدرك للحاكم والتذهيب للذهبي وأخرجه الترمذي وقال: حسن. كذا في هامش أعلام النساء لعمر رضا كحالة "3/ 112" مؤسسة الرسالة. 3 هاضها: أي كسرها وألانها. 4 السامة: الخاصة. يقال: السامة والعامة. 5 رَقَأ الدمع: سكن. 6 التَّرَح: ضد الفرح. 7 أي: تلهيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 معهم لا مختالًا أَشِرًا ولا مكاثرًا بَطِرًا1، لم أعد سد الجوعة وروى العورة وقوامة القوام، حاضري الله من طوي ممعض2 تهفو منه الأحشاء وتجب له الأمعاء، واضطررت إلى ذلك اضطرار البرض3 إلى المتعتت الآجن4، فإذا أنا مت فردي إليهم صحفتهم، ولقحتهم، وعبدهم، ورحاهم، ووثارة ما فوقي اتقيت بها أذى البرد، ووثارة ما تحتي اتقيت بها نز الأرض5 كان حشوها قطع السعف المشع. وقالت عائشة -رضي الله عنها- وأبوها يغمض: وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل - وفاتها: وتوفيت عائشة أم المؤمنين بالمدينة المنورة في "17" من رمضان سنة "57هـ" على الصحيح. وقيل: "58هـ"، وقيل: "56هـ"، وقيل: "59هـ" وهي ابنة ست وستين سنة، وأمرت أن تدفن من ليلتها، واجتمع الأنصار وحضروا فلم تُرَ ليلة أكثر ناسًا منها، فدفنت بعد الوتر بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة، ونزل قبرها خمسة: عبد الله وعروة ابنا الزبير، والقاسم وعبد الله ابنا أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. - مروياتها: كانت السيدة عائشة -رضي الله عنها- كبيرة محدثات عصرها بالإضافة إلى شهرتها بالذكاء والفصاحة والبلاغة، وكانت عاملًا كبيرًا ذا تأثير عميق في نشر تعاليم الإسلام ومبادئه.   1 الأشر والبطر: المغالاة في المرح والكبر، وأيضًا: الجحود والكفر. 2 أي: موجع. 3 بَرَضَ الماء: قل. 4 الماء الذي تغير طعمه ولونه ورائحته. 5 نز الأرض: ما تَحَلَّبَ من الأرض من الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 روت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، وعمر بن الخطاب، وفاطمة الزهراء، وسعد بن أبي وقاص، وحمزة بن عمرو الأسلمي، وجذامة بنت وهب رضي الله عنهم. وبلغ عدد أحاديثها: "2210" حديثًا، أُخرج لها منه في الصحيحين "297" حديثًا، والمتفق عليه منها "174" حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثًا، ومسلم بتسعة وستين حديثًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 5- عبد الله بن عباس رضي الله عنهما 1: - نسبه ومولده وإسلامه وأبرز ملامحه: هو حبر الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، أبو العباس: عبد الله ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب بن شيبة بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي الهاشمي المكي الأمير رضي الله عنه. والصحيح الراجح أنه ولد بشِعْب2 بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين. تنقل ابن عباس مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح، وقد أسلم قبل ذلك، فإنه صح عنه أنه قال: كنتُ أنا وأمي من المستضعفين، أنا من الولدان وأمي من النساء3.   1 راجع ترجمته في: سير أعلام النبلاء "3/ 331 - 359"، طبقات ابن سعد "2/ 365"، نسب قريش "26"، المحبر "16، 24، 92، 289، 292، 378"، التاريخ الكبير "5/ 3"، التاريخ الصغير "1/ 126، 127، 137"، أنساب الأشراف "3/ 27، 55"، المعرفة والتاريخ "1/ 241، 270، 493"، الجرح والتعديل "5/ 116"، المستدرك "3/ 533"، الحلية "1/ 314"، جمهرة أنساب العرب "19، 20"، الاستيعاب "933"، تاريخ بغداد "1/ 173"، الجمع بين رجال الصحيحين "1/ 239"، جامع الأصول "9/ 63"، أسد الغابة "3/ 290"، الحلة السيراء "1/ 20" تهذيب الأسماء واللغات "1/ 1/ 274"، وفيات الأعيان "3/ 62"، تهذيب الكمال "3/ 154- 162"، تاريخ الإسلام "3/ 30، تذكرة الحفاظ "1/ 37"، العبر "1/ 76"، معرفة القراء "41"، البداية والنهاية "8/ 295"، العقد الثمين "5/ 190"، الإصابة "2/ 330"، تهذيب التهذيب "5/ 276"، المطالب العالية "4/ 114"، النجوم الزاهرة "1/ 182"، خلاصة تهذيب الكمال "172". 2 شِعْب بكسر الشين: كان منزل بني هاشم غير مساكنهم، ويعرف بشعب أبي يوسف، وهو الشعب الذي أوى إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبنو هاشم لما تحالفت قريش على بني هاشم وكتبوا الصحيفة. انظر شرح المواهب "1/ 278". 3 أخرجه بهذا اللفظ الإسماعيلي من طريق إسحاق بن موسى، عن ابن عيينة، عن عبيد الله، عن ابن عباس فيما ذكره الحافظ في "الفتح"، وأخرجه البخاري في صحيحه "8/ 192" من طريق محمد عبد الله بن محمد، عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله قال: سمعت ابن عباس قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين، وأخرجه البخاري أيضًا والطبري في تفسيره "10270" من طريقين عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، أن ابن عباس تلا: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله. وهو في سنن البيهقي "9/ 13"، وقد رُوي من طرق عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: توفى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن عشر. راجع: مسند أحمد "1/ 253، 337، 357" وفي رواية: جمعت المحكم في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقبض وأنا ابن عشر حجج. راجع: سير أعلام النبلاء "3/ 335" = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوًا من ثلاثين شهرًا، وحدث عنه بجملة صالحة، وعن عمر، وعلي، ومعاذ، ووالده، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سفيان صخر بن حرب، وأبي ذر، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وخلق. وقرأ على أُبَي، وزيد بن ثابت، وقرأ عليه مجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة.   = والمعجم الكبير للطبراني "10577" ومسند الطيالسي "2/ 148" وما رواه أبو بشر معارض بالروايات الصحيحة التي ذكرت أن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: "حديث أبي بشر عندي واه" "سير أعلام النبلاء 3/ 336". وقد روى مالك في "الموطأ" "1/ 155" في قصر الصلاة في السفر: باب الرخصة في المرور بين يدي المصلي، والبخاري "1/ 472" في أول سترة المصلي: باب الإمام سترة من خلفه، وفي صفة الصلاة: باب وضوء الصبيان، وفي الحج: باب حج الصبيان، وفي العلم: باب متى يصح سمع الصغير، ومسلم في الصلاة: باب سترة المصلي "حديث 504"، وأحمد في المسند "1/ 264" أن ابن عباس قال: أقبلتُ راكبًا على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالناس بمنًى، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك على أحد. قوله: وناهزت الاحتلام، أي: قاربته. قلت: وكان ذلك في حجة الوداع. وقال الواقدي: لا خلاف أنه ولد في الشعب وبنو هاشم محصورون فولد قبل خروجهم منه بيسير وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين. ألا تراه يقول: وقد راهقنا الاحتلام، وهذا أثبت مما نقله أبو بشر في سنه "سير أعلام النبلاء 3/ 335". وقال شعبة: عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن خمس عشرة سنة وأنا ختين، أخرجه الطيالسي "2/ 149"، والحاكم "3/ 533"، والطبراني "10578" وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وأورده الهيثمي في "المجمع" "9/ 285"، ونسبه للطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح. وأخرجه البخاري في صحيحه "11/ 75" في الاستئذان: باب الختان بعد الكبر من طريق إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس: مثل من أنت حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا يومئذ مختون. قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "11/ 76": المحفوظ الصحيح أنه ولد بالشعب وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، فيكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة، وبذلك قطع أهل السير، وصححه ابن عبد البر، وأورد بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: ولدت وبنو هاشم في الشعب، وهذا لا ينافي قوله: "ناهزت الاحتلام" ولا قوله: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك؛ لاحتمال أن يكون أدرك، فختن قبل الوفاة النبوية وبعد حجة الوداع، وأما قوله: وأنا ابن عشر، فمحمول على إلغاء الكسر، ورواية أحمد: "وأنا ابن خمس عشرة" يمكن ردها إلى رواية ثلاث عشرة بأن يكون ابن ثلاث عشرة وشيء، وولد في أثناء السنة، فجبر الكسرين، بأن يكون ولد مثلا في شوال، فله من السنة الأولى ثلاثة أشهر، فأطلق عليها سنة، وقبض النبي -صلى الله عليه وسلم- في ربيع، فله من السنة الأخيرة ثلاثة أخرى، وأكمل بينهما ثلاث عشرة، فمن قال: "ثلاث عشرة" ألغى الكسرين، ومن قال: "خمس عشرة" جبرهما، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 قال الذهبي: "وكان وسيمًا جميلًا، مديد القامة، مهيبًا، كامل العقل، ذكي النفس، من رجال الكمال"1. وقال أيضًا: "وكان أبيض، طويلًا، مُشْرَبًا صفرة، جسيمًا، وسيمًا، صبيح الوجه، له وفرة، يخضب بالحناء، دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحكمة"2. وروى سعيد بن سالم، حدثنا ابن جريج قال: كنا جلوسًا مع عطاء في المسجد الحرام، فتذاكرنا ابن عباس، فقال عطاء: ما رأيت القمر ليلة أربع عشرة إلا ذكرت وجه ابن عباس3. وروى إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة قال: كان ابن عباس إذا مر في الطريق، قلن النساء على الحيطان: أمرَّ المسك، أم مر ابن عباس؟ 4 وروى مالك بن دينار عن عكرمة: كان ابن عباس يلبس الخز، ويكره المصمت5. وعن رشدين بن كريب، عن أبيه قال: رأيت ابن عباس يعتم بعمامة سوداء، فيرخي شبرًا بين كتفيه ومن بين يديه. وقال أبو نعيم: حدثنا سلمة بن شابور، قال رجل لعطية: ما أضيق كمك! قال: كذا كان كم ابن عباس، وابن عمر6. وأمه هي أم الفضل لبابة بنت الحارث بن حزن بن بجير الهلالية من هلال بن عامر، أخت أم المؤمنين "ميمونة".   1 سير أعلام النبلاء "3/ 333". 2 المصدر السابق "3/ 336". 3 المصدر السابق "3/ 336، 337". 4 المصدر السابق "3/ 337". 5 سير أعلام النبلاء "3/ 356"، والخز: ثياب تنسج من صوف وإبريسم، والمصمت: هو الذي جميعه إبريسم لا يخالطه قطن ولا غيره. 6 ما سبق من سير أعلام النبلاء "3/ 355". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وله جماعة أولاد، أكبرهم العباس، وبه كان يكنى، وعلي أبو الخلفاء، وهو أصغرهم، والفضل، ومحمد، وعبيد الله، ولبابة، وأسماء. والفضل، ومحمد، وعبيد الله ماتوا ولا عقب لهم، ولبابة لها أولاد وعقب من زوجها علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وبنته الأخرى أسماء، وكانت عند ابن عمها عبد الله بن عبيد الله بن العباس، فولدت له حسنًا وحسينًا. - تلاميذه: روى عنه: ابنه علي، وابن أخيه عبد الله بن معبد، ومواليه عكرمة، ومقسم، وكريب، وأبو معبد نافذ، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل، وأبو أمامة بن سهل، وأخوه كثير بن العباس، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله، وطاوس، وأبو الشعثاء جابر، وعلي بن الحسين، وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبير، والقاسم بن محمد، وأبو صالح السمان، وأبو رجاء العطاردي، وأبو العالية، وعبيد بن عمير، وابنه عبد الله، وعطاء بن يسار، وإبراهيم بن عبد الله بن معبد، وأربدة التميمي صاحب التفسير، وأبو صالح باذام، وطليق بن قيس الحنفي، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، ومحمد بن كعب القرظي، وشهر بن حوشب، وابن أبي مليكة، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن أبي يزيد، وأبو جمرة نصر بن عمران الضبعي، والضحاك بن مزاحم، وأبو الزبير المكي، وبكر بن عبد الله المزني، وحبيب بن أبي ثابت، وسعيد بن أبي الحسن، وإسماعيل السدي، وخَلْق سواهم. وذكر صاحب تهذيب الكمال من الرواة عنه مائتان سوى ثلاثة أنفس. قال أبو سعيد بن يونس: "غزا ابن عباس إفريقية مع ابن أبي سرح، وروى عنه من أهل مصر خمسة عشر نفسًا"1.   1 نقلًا عن سير أعلام النبلاء "3/ 336". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 - دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- له بالحكمة، والعلم، والفقه: ثبت بأسانيد صحيحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح رأسه وضمه إلى صدره ودعا له بالحكمة والفقه في الدين: روى البخاري وغيره من طريق خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى صدره وقال: "اللهم علمه الحكمة" 1. وأخرج ابن سعد من طريق عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس قال: دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمسح على ناصيتي وقال: "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب" 2. وروى أحمد بن حنبل والحاكم والطبراني وغيرهم بإسناد صحيح، عن حماد بن سلمة وغيره، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله قال: بِتُّ في بيت خالتي ميمونة، فوضعت للنبي -صلى الله عليه وسلم- غُسلًا، فقال: "من وضع هذا"؟ قالوا: عبد الله. فقال: "اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين" 3.   1 أخرجه البخاري "1/ 155" في العلم: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم علمه الكتاب" و"7/ 78" في فضائل الصحابة: باب ذكر ابن عباس، و"13/ 208" في أول كتاب الاعتصام، والترمذي "3824"، وابن ماجه "166"، والطبراني "10588"، والبلاذري في "أنساب الأشراف" "3/ 29" كلهم من طريق خالد الحذاء به. 2 الطبقات الكبرى "2/ 365". 3 المسند "1/ 266، 314، 328، 335"، والطبراني في المعجم الكبير "10587"، وتاريخ الفسوي "1/ 494"، وابن سعد "2/ 365"، والبلاذري "3/ 28"، وصححه الحاكم "3/ 534"، ووافقه الذهبي. وكان ابن عباس -رضي الله عنه- من أعلم الصحابة في تفسير القرآن، فقد روى يعقوب بن سفيان في "تاريخه" "1/ 495" بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل، وكان يقول: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وروى هذه الزيادة ابن سعد في "الطبقات" "2/ 366" من وجه آخر عن عبد الله بن مسعود، وروى أبو زرعة الدمشقي في تاريخه عن ابن عمر قال: هو أعلم الناس بما أنزل الله على محمد. وروى يعقوب أيضًا "1/ 495" بإسناد صحيح عن أبي وائل قال: قرأ ابن عباس سورة النور، ثم جعل يفسرها، فقال رجل: "لو سمعت هذا الديلم لأسلمت"، ورواه أبو نعيم في "الحلية" "1/ 324" من وجه آخر بلفظ "سورة البقرة"، وزاد أنه كان على الموسم -يعني: سنة خمس وثلاثين- كان عثمان -رضي الله عنه- أرسله لما حصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 - رؤيته جبريل عليه السلام: روى الإمام أحمد في مسنده وغيره بسند صحيح عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: كنت مع أبي عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان كالمعرض عن أبي، فخرجنا من عنده، فقال: ألم ترَ ابن عمك كالمعرض عني؟ فقلت: إنه كان عنده رجل يناجيه، قال: أوكان عنده أحد؟ قلت: نعم. فرجع إليه، فقال: يا رسول الله، هل كان عندك أحد؟ فقال لي: "هل رأيته يا عبد الله"؟ قال: نعم، قال: "ذاك جبريل فهو الذي شغلني عنك" 1. وروى بأسانيد صحيحة عن موسى بن ميسرة: أن العباس بعث ابنه عبد الله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حاجة، فوجد عنده رجلًا، فرجع ولم يكلمه. فلقي العباس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك فقال: أرسلت إليك ابني فوجد عندك رجلًا، فلم يستطع أن يكلمه. فقال: "يا عم! تدري من ذاك الرجل" قال: لا، قال: "ذاك جبريل لقيني، لن يموت ابنك حتى يذهب بصره ويؤتى علمًا" 2. - عبادته وورعه: روى صالح بن رستم الخزاز، عن ابن أبي مليكة: صحبت ابن عباس -رضي الله عنهما- من مكة إلى المدينة، فكان إذا نزل قام شطر الليل، فسأله أيوب: كيف كانت قراءته؟ قال: قرأ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] فجعل يرتل ويكثر في ذلك النَّشِيج3. وفي رواية عن ابن أبي مليكة: صحبت ابن عباس عن مكة إلى المدينة، فكان   1 المسند "1/ 293، 294، 312"، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "9/ 276" وقال: "رواه أحمد والطبراني بأسانيد، ورجالها رجال الصحيح"، ورواه أبو داود والطيالسي في مسنده "2/ 149". 2 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد "9/ 277" وقال: "رواه الطبراني بأسانيد ورجاله ثقات". 3 سير أعلام النبلاء "3/ 342"، الحلية "1/ 327"، والنشيج: أحر البكاء، وهو مثل البكاء للصبي إذا ردد صوته في صدره ولم يخرجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 يصلي ركعتين، فإن نزل قام شطر الليل ويرتل القرآن حرفًا حرفًا، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب1. وعن مُعتمر بن سليمان، عن شعيب بن درهم، عن أبي رجاء قال: رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشِّرَاك البالي من البكاء2. وعن أبي أمية بن يعلى، عن سعيد بن أبي سعيد قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: يابن عباس! كيف صومك؟ قال: أصوم الإثنين والخميس. قال: ولِمَ؟ قال: لأن الأعمال تُرفع فيهما، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم3. وعن طاوس قال: ما رأيت أحدًا أشد تعظيمًا لحرمات الله من ابن عباس4. وقال القاسم بن محمد: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلًا قط5. وروى أبو عوانة عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه لم يكن يدخل الحمام إلا وحده، وعليه ثوب صفيق، يقول: إني أستحيي الله أن يراني في الحمام متجردًا6. - تواضعه في طلب العلم: روى الحاكم والطبراني وغيرهما بسند صحيح عن جرير بن حازم، عن يعلى   1، 2 سير أعلام النبلاء "3/ 352"، الحلية "1/ 329". 3 إسناده ضعيف لضعف أبي أمية بن يعلى، واسمه إسماعيل بن يعلى الثقفي البصري، قال يحيى: ضعيف ليس حديثه بشيء، وقال مرة: متروك الحديث، وقال النسائي والدارقطني: متروك، وقال البخاري: سكتوا عنه، وفعل ابن عباس ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد روى الترمذي "747" من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض الأعمال يوم الإثنين ويوم الخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم " وهو حديث حسن كما قال الترمذي، فإن له شاهدًا من حديث أسامة بن زيد عند أبي داود "2436"، والنسائي "4/ 201، 202" وسنده حسن، ومن حديث حفصة عند النسائي "4/ 203، 204". 4 سير أعلام النبلاء "3/ 342"، الحلية "1/ 329". 5 سير أعلام النبلاء "3/ 351". 6 المصدر السابق "3/ 355". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ابن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا يابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من ترى؟ فتركت ذلك وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح عليَّ التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يابن عم رسول الله! ألا أرسلتَ إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني1. روى محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عباس قال: وجدت عامة علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند هذا الحي من الأمصار، إن كنت لآتي الرجل منهم، فيقال: هو نائم، فلو شئت أن يوقظ لي، فأدعه حتى يخرج لأستطيب بذلك قلبه2. - تثبته في العلم: كان ابن عباس -رضي الله عنه- معروفًا بالتشدد في قبول الرواية، وأخذ العلم من الصحابة -رضي الله عنهم- فقد روى يزيد بن إبراهيم، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن كنتُ لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم3. - علمه وفقهه: لقد بلغ علم ابن عباس -رضي الله عنهما- وفقهه مبلغًا يثير الدهشة والإعجاب، وذلك   1 طبقات ابن سعد "2/ 367، 368"، المستدرك "3/ 538"، وصححه ووافقه الذهبي، وأورده الهيثمي في "المجمع" "9/ 277" وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 2 سير أعلام النبلاء "3/ 344"، وطبقات ابن سعد "2/ 368"، وأخرجه البلاذري "3/ 34، 35" بسند حسن، ولفظه عند الأخيرين: لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ فأجلس على بابه تسفي الريح على وجهي التراب حتى يستيقظ متى استيقظ فأسأله عما أريد ثم أنصرف. 3 سير أعلام النبلاء "3/ 334"، وقال الذهبي: "إسناده صحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 بشهادة الصحابة وكبار التابعين، وقد بلغ هذه الدرجة من العلم والفقه بفضل دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالعلم والفقه ومعرفة التأويل. وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص: سمعتُ أبي يقول: ما رأيت أحدًا أحضر فَهْمًا، ولا ألب لبًّا، ولا أكثر علمًا، ولا أوسع حلمًا من ابن عباس، لقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات فيقول: قد جاءت معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإن حوله لأهل بدر1. وقال الواقدي: حدثنا موسى بن محمد التيمي، عن أبيه، عن مالك بن أبي عامر، سمع طلحة بن عبيد الله يقول: لقد أُعطي ابن عباس فهمًا، ولَقْنًا، وعلمًا، ما كنت أرى عمر يُقدِّم عليه أحدًا2. وروى ابن سعد بسند صحيح عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد3، وفي رواية: ما عاشره4. وقال الأعمش: حدثونا أن عبد الله قال: ولنعم ترجمان القرآن ابن عباس5. وروى الأعمش عن إبراهيم قال: قال عبد الله: لو أن هذا الغلام أدرك ما أدركنا ما تعلقنا معه بشيء6. وعن محمد بن أُبي بن كعب، سمع أباه يقول -وكان عنده ابن عباس فقام- فقال: هذا يكون حبر هذه الأمة، أرى عقلًا وفهمًا. وقد دعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفقهه في الدين7.   1 طبقات ابن سعد "2/ 369". 2 طبقات ابن سعد "2/ 370". 3 الطبقات" "2/ 366"، و"تاريخ الفسوي" "1/ 495"، والمستدرك "3/ 537" من طرق عن الأعمش به. 4 سير أعلام النبلاء "3/ 347". 5 طبقات ابن سعد "2/ 366"، وتاريخ الفسوي "1/ 495"، وأخرجه الحاكم "3/ 537"، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. 6 سير أعلام النبلاء "3/ 347". 7 سير أعلام النبلاء "3/ 348"، وتاريخ الفسوي "1/ 495"، وابن سعد "2/ 369". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وعن عكرمة: سمعتُ معاوية يقول لي: مولاك والله أفقه مَن مات ومَن عاش1. ويُروى عن عائشة قالت: "أعلم من بقي بالحج ابن عباس"2. قال الذهبي: قلت: "وقد كان يرى متعة الحج حتمًا"3. قال الواقدي: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله قال: كان ابن عباس -رضي الله عنهما- قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبق، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم، ونسب، ونائل. وما رأيت أحدًا أعلم بما سبقه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أعلم بما مضى، ولا أثقب رأيًا فيما احتيج إليه منه، ولقد كنا نحضر عنده فيحدثنا العشية كلها في المغازي، والعشية كلها في النسب، والعشية كلها في الشعر4. وعن طاوس قال: ما رأيت أروع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عباس5. وقال مجاهد: ما رأيت أحدًا قط مثل ابن عباس، لقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الأمة6. وعن مجاهد قال: كان ابن عباس يُسمى البحر؛ لكثرة علمه7. وعن مجاهد أيضًا قال: ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عباس، إلا أن يقول قائل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم8.   1-3 سير أعلام النبلاء "3/ 348"، وتاريخ الفسوي "1/ 495"، وابن سعد "2/ 369". بقي بالحج: أن يحرم قاصد الحج من الميقات بنية العمرة، فإذا فرغ منها تحلل من إحرامه، وبقي متحللًا إلى اليوم الثامن من ذي الحجة، ثم يحرم في اليوم الثامن بنية الحج. انظر: "زاد المعاد" "2/ 178" وما بعدها. 4 طبقات ابن سعد "2/ 368"، وسير أعلام النبلاء "3/ 350". 5 تاريخ الفسوي "1/ 496"، وابن سعد "2/ 366"، وسير أعلام النبلاء "3/ 350". 6 أخرجه الحاكم "3/ 535"، وسير أعلام النبلاء "3/ 350". 7 أنساب الأشراف "3/ 33"، والمستدرك "3/ 535"، والحلية "1/ 316"، وسير أعلام النبلاء "3/ 350". 8 سير أعلام النبلاء "3/ 350". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وعن طاوس قال: أدركت نحوًا من خمسمائة من الصحابة، إذا ذاكروا ابن عباس فخالفوه، فلم يزل يُقرِّرهم حتى ينتهوا إلى قوله. وقال يزيد بن الأصم: خرج معاوية حاجًّا معه ابن عباس، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب ممن يطلب العلم. وعن الأعمش: حدثنا أبو وائل قال: حطبنا ابن عباس، وهو أمير على الموسم، فافتتح سورة النور، فجعل يقرأ ويفسر، فجعلتُ أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا، لو سمعَتْه فارس والروم والترك لأسلمَتْ، وروى عاصم بن بهدلة عن أبي وائل مثله1. وقال إسرائيل: أخبرنا سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه إلا ثلاثًا: "الرقيم"، و"غِسلين"، و"حَنَانًا"2. وروى يحيى بن يمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير قال: قال عمر لابن عباس: لقد علمتَ علمًا ما علمناه3. وعن مسروق قال: كنت إذا رأيت ابن عباس، قلت: أجمل الناس. فإذا نطق، قلت: أفصح الناس. فإذا تحدث، قلت: أعلم الناس4. وقال سفيان بن عيينة: لم يُدرَك مثل ابن عباس في زمانه، ولا مثل الشعبي في زمانه، ولا مثل الثوري في زمانه5.   1 ما سبق في: سير أعلام النبلاء "3/ 351"، وانظر: أنساب الأشراف "3/ 38"، والمستدرك للحاكم "3/ 537"، والحلية "1/ 324". 2 تفسير الطبري "15/ 199" من طريق عبد الرزاق، عن إسرائيل به، وذكره السيوطي في "الإتقان" "10/ 113"، ونسبه للفريابي من طريق سماك، عن عكرمة ... ، وقد ورد عن ابن عباس تفسير "الرقيم" بالكتاب واللوح، أو أنه اسم جبل أصحاب الكهف، و"حنانًا" بالرحمة، و"غسلين" بأنه صديد أهل النار. انظر: الطبري "15/ 198، 199 و16/ 55 و29/ 65". 3 أخرجه البلاذري "3/ 37" من طريق عبد الله بن صالح وعمرو، عن يحيى بن يمان بهذا الإسناد. 4 سير أعلام النبلاء "3/ 351"، وأخرجه البلاذري "3/ 30" بسند حسن عن مسروق به. 5 سير أعلام النبلاء "3/ 352". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وروى البخاري وآخرون غيره بسند صحيح عن أيوب، عن عكرمة: أن عليًّا حرق ناسًا ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لم أكن لأحرقهم أنا بالنار، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تعذبوا بعذاب الله"، وكنت قاتلهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". فبلغ ذلك عليًّا فقال: ويح ابن أم الفضل، إنه لغواص على الْهَنَات1. وقد خلَّف ابن عباس تراثًا ضخمًا من العلم وكمًّا هائلًا من الفقه. قال ابن حزم في كتاب "الإحكام"2: جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون أحد أئمة الإسلام فتاوى ابن عباس في عشرين كتابًا. وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في العلم بحرًا ينشق له الأمر من الأمور، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم ألهمه الحكمة وعلمه التأويل"، فلما عمي، أتاه الناس من أهل الطائف ومعهم علم من علمه -أو قال: كتب من كتبه- فجعلوا يستقرئونه، وجعل يُقدِّم ويؤخر، فلما رأى ذلك قال: إني قد تَلِهْتُ من مصيبتي هذه، فمن كان عنده علم من علمي، فيلقرأ عليَّ، فإن إقراري له كقراءتي عليه، قال: فقرءوا عليه3.   1 أخرجه البخاري "6/ 106" في الجهاد: باب لا يعذب بعذاب الله، و"12/ 237" في استتابة المريدين: باب حكم المرتد والمرتدة، والنسائي "7/ 104" في تحريم الدم: باب الحكم في المرتد، من طرق عن أيوب، عن عكرمة. دون قوله: "فبلغ ذلك ... "، وأخرجه أبو داود "4351" في أول الحدود، والحاكم "3/ 538، 539" وفيه: "فبلغ ذلك عليًّا فقال: ويح ابن عباس". قال الخطابي: قوله: "ويح ابن عباس" لفظه لفظ الدعاء عليه ومعناه المدح له والإعجاب بقوله، وهذا كقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أبي بصير: "ويل أمه مسعر حرب"، وكقول عمر -رضي الله عنه- حين أعجبه قول الوادعي في تفضيل سُهمان الخيل على المقاريف: "هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به" يريد: ما أعلمه، أو ما أصوب رأيه، ولفظ الترمذي "1458" في الحدود: "فبلغ ذلك عليًّا فقال: صدق ابن عباس"، ولفظ البلاذري "3/ 35": "فبلغ ذلك عليًّا فقال: لله در ابن عباس". 2 الإحكام في أصول الأحكام "5/ 92"، ونقله عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء "3/ 358". 3 سير أعلام النبلاء "3/ 354، 355"، وقال الذهبي عقبه: تلهت: تحيرت، والأصل: ولهت، كما قيل في وجاه تجاه. وفي لسان العرب مادة "تله" التله: الحيرة، تله الرجل يتله تلهًا: حار، ورأيته يَتَتَلَّه: أي يتردد متحيرًا. وقيل: أصل التله بمعنى الحيرة: الوله، قلبت الواو ياء، وقد وله يوله، وتله يتله، وقيل: كان في الأصل: ائتله يأتله، فأدغمت الواو في التاء فقيل: اتَّله يتَّله، ثم حذفت التاء فقيل تَلِه يتلَه، كما قالوا: تَخِذ يتْخذ، وتقي يتقى، والأصل فيهما: اتَّخذ يتَّخذ، واتقى يتقي. وقال الأزهري: تَلِهتُ كذا وتلهت عنه: أي ضللته وأُنْسِيتُه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 - مكانته عند عمر رضي الله عنهما: روى ابن عيينة عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن قال: كان ابن عباس من الإسلام بمنزل، وكان من القرآن بمنزل، وكان يقوم على منبرنا هذا، فيقرأ البقرة وآل عمران فيفسرهما آية آية. وكان عمر -رضي الله عنه- إذا ذكره قال: ذلك فتى الكهول، له لسان سَئُول، وقلب عَقول1. وروى معمر عن الزهري قال: قال المهاجرون لعمر: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ قال: ذاكم فتى الكهول؛ إن له لسانًا سئولًا وقلبًا عقولًا2. وروى عاصم بن كُلَيب، عن أبيه، عن ابن عباس قال: دعاني عمر مع الأكابر ويقول لي: لا تتكلم حتى يتكلموا، ثم يسألني، ثم يقبل عليهم فيقول: ما منعكم أن تأتوني بمثل ما يأتيني به هذا الغلام الذي لم تستوِ شئون رأسه3. وروى البخاري في صحيحه من طريقين، عن أبي بشر، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني من أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لِمَ تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعا ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا. فقال لي: أكذاك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمه له قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول4.   1 أخرجه الطبراني "10620"، وعنه أبو نعيم "1/ 318"، والبلاذري "3/ 73"، وأورده الهيثمي في "المجمع" "277/ 9"، ونسبه للطبراني وقال: وأبو بكر الهذلي ضعيف. 2 المستدرك "3/ 539، 540" ورجاله ثقات إلا أنه منقطع. 3 سير أعلام النبلاء "3/ 345". شئون الرأس: عظامه والشعب التي تجمع بين قبائل الرأس وهي أربعة أشؤن. 4 صحيح البخاري: المناقب، وفي "8/ 99" المغازي: باب منزل النبي يوم الفتح، وفي المغازي: باب مرض النبي ووفاته، وفي التفسير: باب قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} , وأخرجه أحمد "1/ 337، 338"، والترمذي "3362"، والطبراني "10616" و"10617"، وابن جرير "30/ 333"، والحاكم "3/ 539"، وأبو نعيم "1/ 316، 317"، وذكره السيوطي في الدر المنثور "6/ 407"، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل. وقوله: "قد وجدوا على عمر" معناه: غضبوا، ولفظ "وجد" الماضي يستعمل بالاشتراك بمعنى الغضب، والحب، والغنى، واللقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقال أبو يحيى الحماني: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قال عمر: لا يلومني أحد على حب ابن عباس. وعن مجالد، عن الشعبي قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال لي أبي: يا بني، إن عمر يدنيك، فاحفظ عني ثلاثًا: لا تفشين له سرًّا، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا يُجَرِّينَّ عليك كذبًا1. وروى عبد الرزاق في مصنفه، عن معمر، عن علي بن بَذِيمة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: قدم على عمر رجلٌ، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا. فقلت: والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذا المسارعة. قال: فزَبَرَني عمر، ثم قال: مَهْ. فانطلقت إلى منزلي مكتبئًا حزينًا، فقلت: قد كنت نزلت من هذا بمنزلة، ولا أراني إلا قد سقطت من نفسه، فاضطجعت على فراشي، حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع، فبينا أنا على ذلك، قيل لي: أجب أمير المؤمنين. فخرجت، فإذا هو قائم على الباب ينتظرني، فأخذ بيدي، ثم خلا بي فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفًا؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن كنت أسأت، فإني أستغفر الله وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت. قال: لتخبرني. قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتَقُّوا2، ومتى ما يحتقوا يختصموا، ومتى ما اختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا. قال: لله أبوك. لقد كنتُ أكتمها الناس حتى جئتَ بها3.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 346"، والحلية "1/ 318"، ونسب قريش "36"، وأنساب الأشراف "3/ 15"، والطبراني "1069"، والفسوي "1/ 533، 534"، وفي مجالد كلام، وباقي رجاله ثقات، وانظر: المجمع "4/ 221". 2 أي: يختصمون ويقول كل واحد منهم: الحق في يدي. 3 المصنف رقم "20368"، وفي تاريخ الفسوي "1/ 516، 517"، وسير أعلام النبلاء "3/ 348، 349" بسنده عن عبد الرزاق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 - بعض شعره: قال ابن عبد البر في ترجمة ابن عباس1: هو القائل ما رُوي عنه من وجوه: إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور قلبي ذكي وعقلي غير ذي دَخَل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور - بعض ما قيل فيه من الشعر: مما قال حسان -رضي الله عنه- فيه: إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه ... رأيتَ له في كل أقواله فضلا إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بمنتَظَمَات لا ترى بينها فصلا كفَى وشفَى ما في النفوس فلم يدع ... لذي أَرَبٍ في القول جِدا ولا هزلا سموتَ إلى العليا بغير مشقة ... فنِلْتَ ذراها لا دَنِيًّا ولا وغلا خُلِقْتَ حليفًا للمروءة والندى ... بَلِيجًا ولم تُخْلَقْ كَهَامًا ولا خَبْلا2 ولأبي الطفيل الكناني حين منع ابن الزبير عبدَ الله بن عباس من الاجتماع بالناس، كان يخافه، وإنما أخَّر الناس عن بيعة ابن عباس -أن لو شاء الخلافة- ذَهاب بصره:   1 الاستيعاب "2/ 356"، وعنه الذهبي في السير "3/ 357". 2 الأبيات بتمامها في سير أعلام النبلاء "3/ 353"، وفي الاستيعاب "2/ 354"، ومجمع الزوائد "9/ 285"، وهي عدا الأول والأخير في ديوان حسان "ص212"، وأنساب الأشراف "3/ 43"، ونسب قريش "27"، والمستدرك "3/ 545"، والإصابة "2/ 330". وقوله: "بليجا" أي: طلق الوجه بالمعروف، قالت الخنساء: كأن لم يقل أهلا لطالب حاجة ... وكان بليج الوجه منشرح الصدر الكهام: يقال: سيف كهام: كليل لا يقطع، ومن المجاز: رجل كهام: لا غناء عنده، ولسان كهام: عيي، وفرس كهام: بطيء عن الغاية، والخبل: الفساد. وقد تحرفت في المطبوع من "الاستيعاب" "بليجا" إلى "فليجا" و"خبلا" إلى "جبلا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 لا دَرَّ دَرُّ الليالي كيف تضحكنا ... منها خُطُوب أعاجيب وتُبكينا ومثل ما تُحدث الأيام من غير ... في ابن الزبير عن الدنيا تُسَلِّينا كنا نجيء ابن عباس فيقبسنا ... فقهًا ويكسبنا أجرًا ويَهدينا ولا يزال عبيد الله مُتْرَعة ... جفانه مُطعِمًا ضيفًا ومسكينًا فالبر والدين والدنيا بدارهما ... ننال منها الذي نبغي إذا شينا إن الرسول هو النور الذي كُشف ... به عَمَايات ماضينا وباقينا ورهطه عصمةٌ في ديننا ولهم ... فضلٌ علينا وحق واجب فينا ففيم تمنعهم منا وتمنعنا ... منهم وتؤذيهم فينا وتؤذينا لن يُؤتِيَ الله إنسانًا ببغضهم ... في الدين عزًّا ولا في الأرض تَمْكِينا1 - وفاته: قال ابن الحنفية لما دفن ابن عباس: اليوم مات ربَّانيُّ هذه الأمة2. وروى غير واحد عن أبي الزبير قال: لما مات ابن عباس جاء طائر أبيض، فدخل في أكفانه، فكانوا يرون أنه علمه3. قال الذهبي: وروى عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير نحوه، وزاد: فما رُئي بعد؛ يعني الطائر4. وروى حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن بُجَيْر بن أبي عبيد قال:   1 سير أعلام النبلاء "3/ 356، 357"، والأبيات في الاستيعاب "2/ 355، 356". 2 طبقات ابن سعد "2/ 368"، البلاذري في أنساب الأشراف "3/ 54"، المستدرك للحاكم "5/ 543"، سير أعلام النبلاء "3/ 357"، تاريخ الفسوي "1/ 540". 3 المستدرك "3/ 543"، أنساب الأشراف "3/ 54". 4 سير أعلام النبلاء "3/ 357". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 مات ابن عباس بالطائف، فلما خرجوا بنعشه، جاء طير عظيم أبيض من قِبَلِ وَجٍّ حتى خالط أكفانه، ثم لم يروه، فكانوا يرون أنه علمه1. وروى الذهبي بسنده عن سالم الأفطس، عن سعيد قال: مات ابن عباس بالطائف، فجاء طائر لم يُرَ على خلقته، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجًا منه، فلما دفن، تليت هذه الآية على شفير القبر لا يُدرَى من تلاها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27] الآية2. وقال الذهبي رواه بسام الصيرفي، عن عبد الله بن يامين، وسَمَّى الطائر: غُرْنوقًا3. وروى فرات بن السائب، عن ميمون بن مهران: شهدت جنازة ابن عباس ... بنحو من حديث سالم الأفطس4، قال الذهبي: فهذه قضية متواترة5. قال علي بن المديني: تُوفي ابن عباس سنة ثمان أو سبع وستين. وقال الواقدي، والهيثم، وأبو نعيم: سنة ثمان. وقيل: عاش إحدى وسبعين سنة6. - مروياته: قال الحافظ الذهبي في السير7: ومسنده ألف وستمائة وستون حديثًا. وله من ذلك في "الصحيحين" خمسة وسبعون، وتفرد البخاري له بمائة وعشرين حديثًا، وتفرد مسلم بتسعة أحاديث.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 358". 2 سير أعلام النبلاء "3/ 358"، وأورده في المجمع "9/ 285" وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وهو في المستدرك "3/ 543، 544". 3 سير أعلام النبلاء "3/ 358"، والخبر في تاريخ الفسوي "1/ 539". 4 حلية الأولياء "1/ 329". 5 سير أعلام النبلاء "3/ 358". 6 المصدر السابق "3/ 359". 7 المصدر السابق "3/ 359". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 6- جابر بن عبد الله 1: - نسبه وأهم ملامحه: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، الإمام الكبير، المجتهد الحافظ، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو عبد الله، وأبو عبد الرحمن، الأنصاري الخزرجي السلمي المدني الفقيه. من أهل بيعة الرضوان، وكان آخر مَن شهد ليلة العقبة الثانية موتًا، وكان مفتي المدينة في زمانه، عاش بعد ابن عمر أعوامًا. شهد ليلة العقبة مع والده، وكان والده من النقباء البدريين، استشهد يوم أُحُد وأحياه الله تعالى وكلمه كِفَاحًا2، وقد انكشف عنه قبره؛ إذ أجرى معاوية عينًا عند قبور شهداء أُحُد، فبادر جابر إلى أبيه بعد دهر، فوجده طريًّا لم يَبْلَ، وكان جابر قد أطاع أباه يوم أحد وقعد لأجل أخواته، ثم شهد الخندق وبيعة الشجرة. وشاخ وذهب بصره، وقارب التسعين. روى حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: استغفر لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة البعير خمسًا وعشرين مرة3.   1 راجع ترجمته في: سير أعلام النبلاء "3/ 189 - 194"، المحبر "298"، التاريخ الكبير "2/ 207"، الجرح والتعديل "2/ 492"، المستدرك "3/ 564"، الاستيعاب "219"، الجمع بين رجال الصحيحين "1/ 72"، جامع الأصول "9/ 86"، أسد الغابة "256/ 1"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 1/ 142"، تهذيب الكمال "4/ 443- 445"، تاريخ الإسلام "3/ 143"، تذكرة الحفاظ "1/ 40"، العبر "1/ 89"، تذهيب التهذيب "1/ 99ب"، الإصابة "1/ 213"، تهذيب التهذيب "2/ 42"، معجم الطبراني "2/ 194"، خلاصة تهذيب الكمال "50"، شذرات الذهب "1/ 84"، وفيه ابن عمر بن حرام، تهذيب ابن عساكر "3/ 389". 2 أي: مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول، والحديث أخرجه الترمذي "3010" في التفسير، وابن ماجه "190" في المقدمة من طريق موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري، عن طلحة بن خراش، عن جابر، وهذا سند حسن، وأخرجه بنحوه أحمد في "المسند" "3/ 361" من طريق علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، وهذا سند حسن في الشواهد، وانظر المستدرك "3/ 203"، انظر تفصيل ذلك في "طبقات ابن سعد" "3/ 562، 563"، والسند صحيح. 3 سير أعلام النبلاء "3/ 190" ورجاله ثقات. وهذا الحديث أخرجه الترمذي "3852" في المناقب، من طريق ابن أبي عمر، عن بشر بن السري بهذا الإسناد وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، ومعنى قوله: "ليلة البعير" ما رُوي عن جابر من غير وجه: أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فباع بعيره من النبي -صلى الله عليه وسلم- واشترط ظهره إلى المدينة، يقول جابر: ليلة بعت من النبي -صلى الله عليه وسلم- البعير استغفر لي خمسًا وعشرين مرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قال يعلى بن عبيد: حدثنا أبو بكر المدني قال: كان جابر لا يبلغ إزاره كعبه، وعليه عمامة بيضاء، رأيته قد أرسلها من ورائه1. وقال عاصم بن عمر: أتانا جابر وعليه مُلاءتان -وقد عمي- مُصفِّرًا لحيته ورأسه بالوَرْس2، وفي يده قدح3. وقال الواقدي: أخبرنا سلمة بن وَرْدان: رأيت جابرًا أبيض الرأس واللحية رضي الله عنه4. - شيوخه وتلاميذه: روى علمًا كثيرًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن عمر، وعلي، وأبي بكر، وأبي عبيدة، ومعاذ بن جبل، والزبير، وطائفة. وحدث عنه: ابن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وسالم بن أبي الجعد، والحسن البصري، والحسن بن محمد ابن الحنفية، وأبو جعفر الباقر، ومحمد بن المنكدر، وسعيد بن ميناء، وأبو الزبير، وأبو سفيان طلحة بن نافع، ومجاهد، والشعبي، وأبو المتوكل الناجي، ومحمد بن عباد بن جعفر، ومعاذ بن رفاعة، ورجاء بن حيوة، ومحارب بن دثار، وسليمان بن عتيق، وشرحبيل بن سعد، وطاوس، وعبيد الله بن مقسم، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وعمرو بن دينار، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وأبو بكر المدني، وطلحة بن خراش، وعثمان بن سراقة، وعبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار، وعبد الله بن أبي قتادة وخلق. - مشاهده: قال الذهبي: قد رُوي أنه شهد بدرًا5.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 194". 2 والورس: نبت أصفر يصبغ به. 3، 4 سير أعلام النبلاء "3/ 194". 5 سير أعلام النبلاء "3/ 190". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وروى أبو عوانة وغيره عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر قال: كنت أمنح لأصحابي الماء يوم بدر1. قال الذهبي: وقيل: إنه عاش أربعًا وتسعين سنة، فعلى هذا كان عمره يوم بدر ثماني عشرة سنة. قال الواقدي: أخبرنا إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، عن جابر قال: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ست عشرة غزوة، لم أقدر أن أغزو حتى قُتل أبي بأُحُد، كان يخلفني على أخواتي، وكن تسعًا، فكان أول ما غزوت معه حمراء الأسد2. وروى الطبراني من طريق محمد بن عبد الله الحضري، حدثنا عمر بن الحسن، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن ياسين الزيات، عن أبي الزبير، عن جابر قال: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث عشرة غزوة3. ورُوي عن جابر قال: كنت في جيش خالد في حصار دمشق4. وقال ابن سعد: شهد جابر العقبة مع السبعين، وكان أصغرهم5. وروى الشيخان عن جابر: قال لنا رسول الله يوم الحديبية: "أنتم اليوم خير أهل الأرض"، وكنا ألفًا وأربعمائة6.   1 تاريخ الإسلام للذهبي "3/ 143"، سير أعلام النبلاء "3/ 191"، وأخرجه البخاري في "تاريخه"، وصحح الحافظ ابن حجر في "الإصابة" إسناده، وهو في المستدرك "3/ 565"، وأنكر الواقدي رواية أبي سفيان عن جابر هذه وقال: وهذا وهم من أهل العراق، وعلق الذهبي على قول الواقدي هذا في "تاريخه" بقوله: صدق، فإن زكريا بن إسحاق روى عن أبي الزبير، عن جابر قال: لم أشهد بدرًا ولا أحدًا منعنى أبي، فلما قتل لم أتخلف عن غزوة. أخرجه مسلم "1813". 2 سير أعلام النبلاء "3/ 191". 3 المعجم الكبير "1742". 4 سير أعلام النبلاء "3/ 192". 5 المصدر السابق "3/ 192". 6 صحيح البخاري "7/ 341" كتاب المغازي، صحيح مسلم "1856". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 - رحلته في طلب الحديث: روى غير واحد من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- يقول: بلغني عن رجل حديث سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاشتريت بعيرًا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس -رضي الله عنه- فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثًا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يحشر الناس يوم القيامة- أو قال العباد- عراة غرلًا بُهْمًا"، قال: قلنا: وما بُهمًا؟ قال: "ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه مَن بَعُدَ -أحسبه قال- كما يسمعه مَن قرب: أنا الملك، أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة". قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله -عز وجل- عراة غرلًا بُهمًا؟! قال: "بالحسنات والسيئات" 1. - وفاته: قال محمد بن عمر: حدثني خارجة بن الحارث قال: مات جابر بن عبد الله سنة ثمان وسبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنة. وكان قد ذهب بصره، ورأيت على سريره بُردًا، وصلى عليه أبان بن عثمان وهو والي المدينة2. والصحيح والراجح وفاته سنة ثمان وسبعين، كما جاء في الرواية السابقة،   1 المسند للإمام أحمد "3/ 495"، الأدب المفرد للبخاري "970"، "الرحلة" للخطيب البغدادي "31"، كلهم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل به. وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري "1/ 158"، ورواه الحاكم أيضًا في المستدرك "2/ 437، 438" وصححه ووافقه الذهبي. 2 رواه الطبراني في المعجم الكبير "1733"، والحاكم في المستدرك "3/ 565". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وكما قال الواقدي، ويحيى بن بكير، وطائفة، وقد قال أبو نعيم: سنة سبع وسبعين1. وكان -رضي الله عنه- آخر مَن شهد العقبة موتًا2. - مروياته: بلغ مسنده ألفًا وخمسمائة وأربعين حديثًا، اتفق له "الشيخان" على ثمانية وخمسين حديثًا، وانفرد له "البخاري" بستة وعشرين حديثًا، و"مسلم" بمائة وستة وعشرين حديثًا.   1 راجع: سير أعلام النبلاء "3/ 194". 2 المصدر السابق "3/ 194". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 7- أبو سعيد الخدري 1: هو: الإمام، المجاهد، الفقيه، المجتهد، مفتي المدينة، سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج. واسم الأبجر: خُدْرَة، وقيل: بل خدرة هي أم الأبجر2. وأخو أبي سعيد لأمه هو قتادة بن النعمان الظفري أحد البدريين. قال عبد الله بن عمر عن وهب بن كيسان قال: رأيت سعيد الخدري يلبس الخز3. - مشاهده: عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، قال: عرضت يوم أُحُد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن ثلاث عشرة، فجعل أبي يأخذ بيدي ويقول: يا رسول الله! إنه عَبْل العظام. وجعل نبي الله يصعد فيَّ النظر ويصوبه، ثم قال: رده، فردني4. وروى الطبراني من طريق زيد بن جارية قال: استصغر النبي -صلى الله عليه وسلم- ناسًا يوم أحُد، منهم زيد بن جارية- يعني نفسه- والبراء بن عازب، وسعد بن خيثمة، أبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله5. واستشهد أبوه مالك يوم أحد، وشهد أبو سعيد الخندق، وبيعة الرضوان.   1 راجع ترجمته في: سير أعلام النبلاء "3/ 168- 171"، تهذيب الكمال "10/ 294- 300"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 2/ 237"، تاريخ الإسلام "3/ 220"، تذكرة الحفاظ "1/ 41" المحبر "291، 429"، أسد الغابة "2/ 289"، "5/ 211"، العبر: "1/ 84"، الوافي بالوفيات "15/ 148"، مرآة الجنان "1/ 155"، الجمع بين رجال الصحيحين "1/ 158"، المستدرك "3/ 563"، جمهرة أنساب العرب "362"، معجم الطبراني الكبير "6/ 40"، الاستيعاب "602"، تاريخ بغداد "180"، طبقات الشيرازي "51"، البداية والنهاية "9/ 3"، الإصابة "2/ 35"، تهذيب التهذيب "3/ 479"، النجوم الزاهرة "192/ 1"، خلاصة تهذيب الكمال "115"، شذرات الذهب "1/ 81"، تهذيب ابن عساكر "6/ 110". 2 انظر: المستدرك "3/ 563"، وأسد الغابة "2/ 365"، والاستيعاب "2/ 47". 3 سير أعلام النبلاء "3/ 170"، تاريخ الإسلام "3/ 221". 4 راجع: سير أعلام النبلاء "3/ 169"، تاريخ الإسلام "3/ 220"، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر "6/ 113". 5 المعجم الكبير "5150". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 - علمه: روى حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه: أنه لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم من أبي سعيد الخدري1. حدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فأكثر وأطاب، وعن أبي بكر، وعمر، وطائفة، وكان أحد الفقهاء المجتهدين. حدث عنه: ابن عمر، وجابر، وأنس، وجماعة من أقرانه، وعامر بن سعد، وعمرو بن سليم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ونافع العمري، وبسر بن سعيد، وبشر بن حرب الندبي، وأبو الصديق الناجي، وأبو المتوكل الناجي، وأبو ندرة العبدي، وأبو صالح السمان، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن خباب، وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، وعبد الرحمن بن أبي نُعْم، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعطاء بن يزيد الليثي، وعطاء بن يسار، وأبو هارون العبدي، وعياض بن عبد الله، ومحمد بن علي الباقر، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وخلق كثير. روى الذهبي وغيره من طريق إسماعيل بن عياش: أنبأنا عقيل بن مدرك أن رجلًا أتى أبا سعيد فقال له: أوصني يا أبا سعيد. فقال له: سألتَ عما سألتُ من قبلك، قال: عليك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في أهل السماء وذكرك في أهل الأرض، وعليك بالصمت إلا في حق، فإنك تغلب الشيطان2. روى الذهبي بسنده عن حماد بن زيد، عن المعلى بن زياد، عن العلاء بن بشير، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد قال: أتى علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن أناس من ضَعَفَة المسلمين ما أظن رسول الله يعرف أحدًا منهم، وأن بعضهم   1 طبقات ابن سعد "2/ 374"، تاريخ الإسلام "3/ 220"، سير أعلام النبلاء "3/ 170". 2 راجع: تاريخ الإسلام "3/ 220"، سير أعلام النبلاء "3/ 170". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ليتوارى من بعض العُرْي، فقال رسول الله بيده، فأدارها شبه الحلقة، قال: فاستدارت له الحلقة، فقال: "بِمَ كنتم تراجعون"؟ قالوا: هذا رجل يقرأ لنا القرآن، ويدعو لنا، قال: "فعودوا لما كنتم فيه"، ثم قال: "الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم" ثم قال: "ليُبشَّر فقراء المؤمنين بالفوز يوم القيامة قبل الأغنياء بمقدار خمسمائة عام، هؤلاء في الجنة يتنعمون، وهؤلاء يُحاسبون" 1. وقال الذهبي: تابعه جعفر بن سليمان عن المعلى، أخرجه أبو داود2 وحده. - وفاته: توفى -رحمه الله تعالى- سنة أربع وسبعين من الهجرة على الصحيح. - مروياته: بلغ مسند أبي سعيد الخدري ألفًا ومائة وسبعين حديثًا، في البخاري ومسلم ثلاثة وأربعون حديثًا، وانفرد البخاري بستة عشر حديثًا، وانفرد مسلم باثنين وخمسين حديثًا. وقال الواقدي: أخبرنا سلمة بن وردان: رأيت جابرًا أبيض الرأس واللحية رضي الله عنه3.   1 سير أعلام النبلاء "3/ 171، 172". 2 سنن أبي داود كتاب العلم باب في القصص رقم "3666"، والعلاء بن بشير: قال ابن المديني: مجهول لم يروِ عنه غير المعلى، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجاله ثقات، وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد "2/ 296"، والترمذي "2354"، وابن ماجه "4122" بلفظ: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام" وسنده حسن، وصححه الترمذي، وابن حبان "2567". 3 انظر: علوم الحديث للحاكم "ص130". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الفصل التاسع: أسباب تفاوت الصحابة في رواية الحديث الشريف ... الفصل السابع: أسباب تفاوت الصحابة في رواية الحديث الشريف يرجع تفاوت الصحابة -رضي الله عنهم- في رواية الحديث إلى عدة أسباب؛ منها ما يلي: أحدها: طول الصحبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وطول مدة ملازمته له، وكثرة مصاحبته في السفر والحضر. ثانيها: طول الأجل بعد وفاته كان مدعاة للإكثار من تحمل الحديث وروايته، ومَن مات في حياة النبي أقل رواية ممن مات بعده. ثالثها: الانشغال بأمور الخلافة والحروب؛ ولذلك نجد الخلفاء أقل رواية من كثيرين غيرهم، فالشواغل تعيق الكثرة تحملًا ورواية. رابعها: ظهور الحوادث المختلفة؛ حيث يحتاج الناس إلى بيان أحكامها؛ فحينئذ يظهر الحرص على طلب الحديث لمعرفة الأحكام الشرعية في هذه الحوادث وغيرها. خامسها: وقوع الفتنة وظهور الكذب في الرواية من أصحاب البدع الداعين إلى بدعتهم من شيعة وخوارج وغيرهم. سادسها: كثرة الأتباع وقلتهم ونشاطهم وخمولهم كان له الدور الكبير في كثرة الرواية وقلتها. سابعها: التفرغ للعبادة والانشغال بها. ثامنها: الحيطة من الرواية مخافة وقوع الخطأ أو التحريف، ولأن الكذب في الحديث يبوء بصاحبه إلى النار. تاسعها: التفاوت في الحفظ قوة وضعفًا. عاشرها: الاستعداد الفطري والموهبة. أحد عشر: ضعف الطريق إلى بعض الصحابة فيترك هذه الطريق؛ ولذلك لم يخرج أصحاب الصحيحين عن أبي عبيدة بن الجراح شيئًا1.   1 انظر: علوم الحديث للحاكم "ص130". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الفصل العاشر: دور أمهات المؤمنين في خدمة الحديث الشريف مدخل ... الفصل العاشر: دور أمهات المؤمنين في خدمة الحديث الشريف 1 من عهد النبوة والنساء شقائق الرجال في خدمة الدين ورواية الحديث الشريف، وقد بلغ عدد الصحابيات اللاتي روين الحديث في مسند الإمام أحمد "141" صحابية، وإن كان بعضهن لم يروِ إلا حديثًا واحدًا. وقد كان لأمهات المؤمنين2 خاصة -رضي الله عنهن- فضل عظيم في تبليغ الدين، ونشر السنة النبوية بين الناس وخاصة بين النساء، فكانت حجراتهن -رضي الله عنهن- مدارس يقصدها طلاب العلم، فيجد السائل عندهن جوابه والمستفتي فتواه، والشاك يقينه ... ومن نعمة الله تعالى على هذه الأمة أن تعددت هذه المدارس بتعدد زوجاته -صلى الله عليه وسلم- حيث توفي -صلى الله عليه وسلم- عن تسع نسوة أو إحدى عشرة كلهن سمعن منه وشاهدن تفاصيل حياته المعيشية والعبادية على تفاوت بينهن في الحفظ والرواية. ولقد كان لأمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- مكانة جليلة لدى الصحابة -رضوان الله عليهم- والتابعين، كما كان الناس يستنكرون أن يسألهم أحد أو يستفتيهم في الأحوال الخاصة مع وجود أمهات المؤمنين3.   1 يراجع هذا البحث في كتاب: دور المرأة في خدمة الحديث في القرون الثلاثة الأولى "ص45-90" رسالة ماجستير -لآمال قرداش بنت الحسين- العدد رقم "70" من كتاب الأمة. 2 تُوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تسع من النساء متفق عليهن لم يختلف فيهن اثنان؛ وهن: سودة وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وجويرية، وأم حبيبة، وصفية، وميمونة -رضي الله عنهن جميعًا- ولم نذكر خديجة بنت خويلد وزينب بنت خزيمة، وهو ظاهر في كونهما لم ترويا شيئًا، فخديجة -رضي الله عنها- توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين على الصحيح، انظر الإصابة "4/ 276"، وتوفيت زينب بنت خزيمة سنة أربع للهجرة. الإصابة "4/ 39". 3 قال مروان: كيف نسأل وفينا النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرسل إلى أم سلمة -رضي الله عنها- في حديث: ترك الوضوء مما مست النار، رواه النسائي في كتاب الوليمة، باب رقم "35". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 دور أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في رواية الحديث: الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- يأخذ أبعادًا شتى، في فضلها أو سَعَة علمها أو فقهما أو أدبها. - مناقبها رضي الله عنها: مناقب عائشة -رضي الله عنها- كثيرة منثورة في كتب السنة، بفضلها ومكانتها، ولقد فتحت -رضي الله عنها- عينيها في بيت قد نوَّره الله بنور الإسلام، فكانت تقول: "لم أعقل أبويَّ إلا وهما يدينان الدين"1. فنشأت في هذا البيت النقي العظيم البركات تحت رعاية أبيها أبي بكر -رضي الله عنها- أحب رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم2- وأول مَن ساند الدعوة الإسلامية، وأنفق من ماله ليشتد عود الإسلام. ثم انتقلت -رضي الله عنها- إلى البيت النبوي وهي ما زالت صبية تلعب3، فاستقبلها سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- فأتم رعايتها وتوجيهها، فصلب عودها في بيت كان منزل الوحي، وكتب له فيما بعد أن يكون منارة من منارات العلم، وفوق هذا أحبها -صلى الله عليه وسلم- حبًّا شديدًا كان يعلن به، وكثيرًا ما كانت تفخر بهذه المزية، وتعدها ضمن الخصال الكثيرة التي حباها الله تعالى بها دون سائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعًا4، ولو لم يكن لها -رضي الله عنها- إلا هذه المنقبة لكفتها. فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحب إلا طيبًا. وكانت مظاهر حب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها- بيِّنة عليه، وكان يعتبر إيذاء   1 صحيح البخاري "3/ 18"، كتاب المناقب، هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة "3905" عن عائشة. 2 سأل عمرو بن العاص النبي: أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: "عائشة"، فمن الرجال؟ قال: "أبوها". أخرجه البخاري في كتاب المغازي، غزوة ذات السلاسل "4358" عن عمرو. 3 قالت عائشة رضي الله عنها: "تزوجني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد متوفى خديجة وأنا ابنة ست، وأدخلت عليه وأنا ابنة تسع، جاءني نسوة وأنا ألعب على أرجوحة وأنا مجممة، وصنعنني ثم أتين بي إليه". رواه أبو داود في السنن، كتاب الأدب "1435"، وسنده صحيح، ومجممة: أي ذات جُمة بالضم، وهي مجتمع شعر الرأس، وهي أكثر من الوفرة، وما سقط على المنكبين، انظر: لسان العرب "2/ 107". 4 كانت عائشة -رضي الله عنها- تقول: "فضلت عليكن بعشر ولا فخر ... " فذكرت حب النبي -صلى الله عليه وسلم- لها، ذكره الذهبي في السير "2/ 147". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 عائشة -رضي الله عنها- من إيذائه، معللًا ذلك بأن الوحي كان ينزل عليه في لحافها دون غيرها من نسائه، فقال صلى الله عليه وسلم: "فإنه والله ما نزل عليه وهو في لحاف امرأة منكن غيرها" 1. وقد تعددت بذلك مناقبها وفضائلها، وقد جمع لها الزركشي في كتابه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" أربعين منقبة لها وحدها لم تشترك معها فيها امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الأفضلية كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على بيانها للناس؛ ليعرفوا قدرها فقال كما روى البخاري: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 2. ويعلق الإمام الذهبي على هذا الحديث بقوله: "وقرائن تدل على أن هذه الأفضلية بأمر إلهي، وإن هذا من أسباب حبه -صلى الله عليه وسلم- الشديد لها"3. وقد أدرك الناس مكانة عائشة عند النبي -صلى الله عليه وسلم4- وقبيح كل مَن ينال منها، كما صرح بذلك عمار بن ياسر وهو يرد على رجل نال من عائشة بقوله: "اغرب مقبوحًا، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! "5. - سعة علمها رضي الله عنها: لقد وهبها الله تعالى ذكاء وذاكرة قوية وحفظًا سريعًا، فقد نشأت في بيت أبي بكر -رضي الله عنه- وعاشت في بيت النبوة، ونهلت من المعين النبوي الصافي، وعُرِفت   1 صحيح البخاري "3/ 63"، فضائل الصحابة، فضائل عائشة، عن عائشة - حديث رقم "3775". 2 صحيح البخاري "4/ 1895"، فضائل الصحابة، فضائل عائشة عن أنس - حديث رقم "246". 3 انظر: سير أعلام النبلاء "2/ 137". 4 راجع: صحيح البخاري "3/ 63"، فضائل الصحابة، فضائل عائشة، من حديث عائشة رقم "3755". وفيه قصة، وقد رواه الحاكم مختصرًا بنحو اللفظ المذكور هنا، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي "المستدرك 4/ 10". 5 سنن الترمذي "5/ 707" كتاب المناقب، باب فضل عائشة رضي الله عنها - حديث "3888". وقال الترمذي: هذا حديث حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 بالتطلع الواسع إلى الاستفادة من العلم والفَهْم، فكانت كثيرة السؤال والاستفسار، شديدة التمحيص والتنقيب، وقد شهد لها بذلك الأكابر، فعن أبي مليكة -رضي الله عنه- قال: "إن عائشة كانت لا تسمع شيئًا إلا راجعت فيه حتى تعرفه"1. - علمها بالقرآن: لقد كانت رضي الله عنها -وهي صبية تلعب- تسمع الآية من القرآن فتحفظها وتضبط مكان نزولها ووقت النزول؛ حيث تقول: لقد نزل بمكة على محمد -صلى الله عليه وسلم- وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] ، وما نزلت البقرة ولا النساء إلا وأنا عنده2. ثم بعد أن انتقلت إلى البيت النبوي حضرت الكثير من نزول القرآن، وإن الوحي كان ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- في لحافها؛ لذلك وصفت أحواله حين نزول الوحي عليه3، الأمر الذي جعلها تلتقط الآية من فم النبي -صلى الله عليه وسلم- فتحفظها وتعي الأحكام والمقاصد4، فجمعت إلى حفظ القرآن معرفة معانيه وتفسيره، فأصبحت من كبار المفسرين للقرآن الكريم، وساعدها على ذلك معرفتها باللغة العربية وأشعارها وآدابها5، وكان لها مصحف خاص بها جمعت القرآن إلى تفسيره؛ ولذا كان بحجم المصحف ثلاث مرات6. - علمها بالحديث رضي الله عنها: لقد كانت -رضي الله عنها- من كبار المحدثين المتميزين، وحُفاظ السنة المتقنين الضابطين،   1 صحيح البخاري "1/ 54" كتاب العلم، باب من سمع شيئًا فراجع فيه حتى يعرفه، عن ابن أبي مليكة "103". 2 صحيح البخاري "3/ 301" كتاب التفسير، تفسير: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} عن عائشة "4876". 3 صحيح البخاري "1/ 13، 14"، كتاب بدء الوحي، عن عائشة "302". 4 كانت عائشة تقول: "إن الآية تنزل علينا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنحفظ حلالها وحرامها وأمرها وزجرها ... ". انظر: أعلام النساء، رضا كحالة "3/ 106"، مؤسسة الرسالة بيروت. 5 كانت عائشة تقول: "رويت للبيد ألف بيت" سير أعلام النبلاء، الذهبي "2/ 140". 6 الإتقان في علوم القرآن، السيوطي "1/ 96"، المكتبة الثقافية، بيروت، لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وقد امتازت عن غيرها من الصحابة أنها سمعت تلك الأحاديث مشافهة من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنها انفردت برواية أحاديث لم يروها عنه غيرها لمكانتها عنده. ولذلك يرجع الفضل إليها في نقل السنة النبوية ونشرها بين الناس، ولو لم تنقلها لضاع قسم كبير منها، خاصة في الأمور التي تتعلق بتصرفات النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته ومع أهله. وكان حفظها لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإتقانه مرجعًا للصحابة فيما اختلفوا فيه من الأحاديث، فيجدون عندها الجواب الشافي الذي يحسم الخلاف ويرد الشك1، وقد كان أبو هريرة من عادته الجلوس إلى حجرة عائشة يُسمعها ما يحدث به الناس، ثم يقول: "يا صاحبة الحجرة، أتنكرين مما أقول شيئًا؟ "2. وقد بلغت درجة عالية في التمكن من العلم حتى صارت مرجعًا لكبار الصحابة، و"صار معاوية في خلافته يكتب إليها سائلًا عن حكم، أو حديث، أو شيء من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يطمئن إلى يقين مما يسمع من غيرها حتى يرد عليه جوابها فيبرد صدره"3. - فقهها رضي الله عنها: إن عائشة -رضي الله عنها- كانت فقيهة جدًّا حتى قيل: إن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها4، وجزم الإمام الزهري بأنها أفقه نساء الأمة على الإطلاق5، وذكر ابن حزم أن فتواها يمكن أن تجمع في سِفْرٍ ضخم6.   1 وقد حظيت استدراكاتها على الصحابة باهتمام العلماء، وصنفوا في ذلك، كما فعل الزركشي في الإجابة، وأبو منصور عبد المحسن بن محمد البغدادي "411-489هـ" وغيرهم. 2 صحيح مسلم "4/ 194" فضائل أبي هريرة عن عائشة "2493". 3 انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل "6/ 87"، دار صادر بيروت. 4 فتح الباري، ابن حجر "7/ 17"، دار الريان للتراث، القاهرة ط2، 1987م. 5 سير أعلام النبلاء، الذهبي "2/ 135". 6 تلقيح فهوم أهل الأثر، لابن الجوزي "ص305" مكتبة الآداب، القاهرة، وكذا جوامع السيرة، لابن حزم "ص134" طبعة كراتشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وأقوال العلماء المشهود لهم بالفضل والعلم في مكانة عائشة -رضي الله عنها- العلمية تعكس إمامة عائشة -رضي الله عنها- فيما ورثته من العلم النبوي، فقد كانت من القلة القليلة التي حظيت بهذا المركز المرموق، وكان يأتيها صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألونها عن عويص العلم ومشكله، فتجيبهم جوابًا مشبعًا بروح التروي والتحقيق، وقد شهد لها بهذا أبو موسى الأشعري إذ قال: "ما أُشكل علينا -أصحابَ محمد- أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علم"1. وكانت بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استقلت بالفتوى مدة خلافة أبي بكر وعمر إلى أن تُوفيت2. - علمها بالطب والشعر وأخبار العرب: وكما كانت عائشة مرجعًا مهمًّا في الشئون الفقهية والتشريعية وكبيرة محدثات عصرها، كانت من أبرع الناس في الطب والشعر وأحاديث العرب وأنسابهم، قال ابن أختها عروة بن الزبير: "لقد صحبت عائشة فما رأيت أحدًا قط كان أعلم بآية نزلت، ولا بفريضة، ولا سنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بكذا ولا كذا، ولا بقضاء، ولا طب منها، فقلت لها: يا خالة، الطب من أين تعلمتيه؟ فقالت: كنت أمرض فيُنعت لي الشيء، أو يمرض المريض فينعت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه"3. كما امتازت بفصاحة اللسان، وبلاغة المقال، إذا خطبت ملكت على الناس مسامعهم، وإذا تكلمت أخذت بمجامع قلوبهم، فعن الأحنف بن قيس قال: سمعت خطبة أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والخلفاء هلم جرًّا إلى يومي هذا، فما سمعت الكلام من مخلوق أفخم ولا أحسن من فِي عائشة4.   1 سنن الترمذي: المناقب، فضل عائشة "3928" وقال: حسن صحيح. 2 سير أعلام النبلاء "2/ 145". 3 سير أعلام النبلاء "2/ 184" وقال فيه المحقق: رجاله ثقات. 4 المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري "4/ 11" دار المعرفة، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 كما كان لأم المؤمنين دورها في حياة المسلمين في مختلف مجالات الحياة، ولم تكن بمنأى عن الأحداث التي مرت بالمسلمين خلال حياتها التي اقتربت من السبعين، وكانت لها مواقف مشهورة، وآثار معروفة في الأحداث السياسية والاجتماعية التي مرت بالمسلمين بعد مقتل سيدنا عثمان بن عفان، وقد سجلت كتب التاريخ كثيرًا من الأحداث التي تركت فيها أم المؤمنين لمسات بارزة1. - تلاميذها رضي الله عنها: لقد شاع علم السيدة عائشة -رضي الله عنها- وانتشر فضلها، وفاقت غيرها في الفرائض والسنن والفقه. وروى عنها خلق كثير من طبقات مختلفة، وقد قضت حياتها -التي قاربت السبعين- تروي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفتي في الدين، فقد تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي ابنة تسع، وتوفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، فكانت من آخر أمهات المؤمنين وفاة -رضي الله عنهن جميعًا- وقد استفاد الناس من ذلك كثيرًا، فتيسر لكبار الصحابة وصغارهم، وكبار التابعين وصغارهم، السماع منها والإفادة من علمها وفقهها. وقد روى عنها من الصحابة أبوها أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وربيعة بن الجرشي، والسائب بن يزيد، وعمرو بن العاص، وزيد بن خالد الجهني، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وصفية بنت شيبة، وغيرهم. وروى عنها من آل بيتها: عروة بن الزبير ابن أختها أسماء، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخيها، وأختها أم كلثوم، وأخوها من الرضاعة عوف بن الحارث، وبنتا أختها عبد الرحمن: حفصة وأسماء، وابن أختها أسماء عبد الله   1 لمزيد من التفصيل في دور عائشة السياسي انظر أعلام النساء، عمر كحالة "3/ 30". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ابن الزبير، وحفيدا أسماء: عباد وحبيب ولدا عبد الله بن الزبير، وبنت أختها أم كلثوم عائشة بنت طلحة ... وغيرهم. ومن مواليها: ذكوان، وأبو يونس، وفروخ. ومن التابعين: مسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد النخعي، وسعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، والشعبي، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وعمرة بنت عبد الرحمن، ومعاذة العدوية، وخيرة أم الحسن البصري، وصفية بنت أبي عبيد، وعلقمة بن قيس، وابن أبي مليكة، وسليمان بن يسار، وخلق سواهم. - مروياتها رضي الله عنها: روت أم المؤمنين عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الكثير الطيب، وحديثها منثور في كتب الحديث المختلفة، ولتتضح مرتبتها بين المكثرين في الرواية نورد هنا عدد مرويات كل واحد من المكثرين مرتبين حسب الكثرة1: 1- أبو هريرة: رُوي له عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثًا2. 2- عبد الله بن عمر: ألفان وستمائة وثلاثون حديثًا "2630". 3- أنس بن مالك: ألفان ومائتان وستة وثمانون حديثًا "2286". 4- عائشة: ألفان ومائتان وعشرة أحاديث "2210". 5- عبد الله بن عباس: ألف وستمائة وستون حديثًا "1660".   1 تلقيح فهوم أهل الأثر، ابن الجوزي "363"، جوامع السيرة، لابن حزم "ص275، 276"، وقال أحمد بن حنبل: هم ستة لم يذكر فيهم أبو سعيد الخدري. انظر: الباعث الحثيث "85". 2 ذكر لها هذا العدد ابن حزم في جوامع السيرة "275"، والذهبي في السير "3/ 139"، والزركشي في الإجابة "33"، والسيوطي في تدريب الراوي "2/ 217". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 6- جابر بن عبد الله: ألف وخمسمائة وأربعون حديثًا "1540". 7- أبو سعيد الخدري: ألف ومائة وسبعون حديثًا "1170". فإذا كانت عائشة -رضي الله عنها- تروي "2210"1 حديثًا، فهل تحتل الدرجة الرابعة باعتبار كثرة الرواية عامة2، أما باعتبار الكثرة في الكتب الستة فتحتل الدرجة الثانية بعد أبي هريرة مباشرة؛ إذ له في الكتب الستة ثلاثة آلاف وثلاثمائة وسبعون حديثًا "3370"، ورُوي لعائشة في الكتب الستة ألفا حديث وواحد وثمانون حديثًا "2081"2. - واتفق لها البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثًا "174". - وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثًا "54". - وانفرد مسلم بتسعة وستين حديثًا "69"3. وبهذا يصبح مجموع حديثها عند الشيخين مجتمعًا ومنفردًا "297"4. - محتوى مروياتها: المتفحص لكتب الحديث المختلفة -كالصحاح، والمسانيد، والسنن، والجوامع- يلحظ كثرة روايتها وتنوعها، وأن مروياتها طرقت معظم أبواب الأحكام، وإن غلب على مروياتها طابع الأفعال على الأقوال، ولا سيما ما يتعلق بأعمال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيتية والمعيشية، كما تميزت عائشة -رضي الله عنها- في مروياتها بنقل أحكام النساء الخاصة بهن، ولم يضارعها في ذلك أحد. إن مروياتها تناولت أحاديث تتعلق بأبواب الإيمان والوحي والعلم والقراءة   1 وقول أحمد شاكر في الباعث الحثيث: "أكثر الصحابة رواية للحديث أبو هريرة ثم عائشة ثم ... " غير دقيق، والصحيح الترتيب الذي ذكره ابن حزم في جوامع السيرة "275" أي: الدرجة الرابعة. 2 اعتمدت في هذا العدد على ترقيم تحفة الأشراف للمزي من مسند عائشة "11/ 348، و12/ 448". 3 سير أعلام النبلاء، الذهبي "2/ 139". 4 ذكره ابن الجوزي في تلقيح الفهوم "ص403". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 التفسير، وآداب قضاء الحاجة، والوضوء والغسل في يوم الجمعة، وفي الجنابة، وبمسائل في الحيض والاستحاضة، وما يتعلق بجواز مباشرة الرجل الحائض، وقد برعت وفاقت غيرها في هذا المجال ... وكذا أحاديث في التيمم، تتعلق بسبب نزول آية التيمم -وهي صاحبة القصة- وكذا حوت مروياتها أبوابًا في الصلاة تتعلق بالأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وبكيفية فريضة الصلوات، وأحاديث في الأذان، وما كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المؤذنين، وأحاديث تتعلق بأحكام الصلاة، وما ورد من الأذكار والأدعية خلالها وفي دبرها، وبالإمامة، وفضل الجماعة، وأحاديث في المساجد وآدابها وفضلها، وحضور النساء المساجد، وأحاديث بخصوص صلاة العيدين، والخسوف والكسوف، وما يتعلق بالسنن الراتبة والنوافل وقيام الليل، وصلاة التراويح، وما ورد في الوتر، وصلاة الجنازة وما يتعلق بها من ثياب الكفن، وأحاديث في إثبات عذاب القبر، والتحذير من اتخاذ القبور مساجد، وغير ذلك مما يتعلق بالقبور وأهلها. كما تناولت مروياتها أحاديث كثيرة في الصدقة وأجرها، وإنفاق المرأة من مال زوجها بغير إذنه، وكذا اشتملت على أحاديث كثيرة في الصوم تتعلق بمسائل شتى في تحري هلال شعبان لمعرفة هلال رمضان، وفي السحور، وفي الصائم الذي يصبح وهو جنب، وتقبيل الصائم، وأحاديث في صيام التطوع، وأخرى في الاعتكاف، وفي تحري ليلة القدر، وفي قضاء الصيام، وفي النهي عن الوصال في الصوم، وأيضًا روايات كثيرة جدًّا في الحج تتعلق بالتلبية وأنواع الحج الثلاثة، واستعمال الطيب قبل الدخول في الإحرام وقبل طواف الإفاضة وبعد التحلل الأصغر، وبفتل القلائد للهدي، وبعدد عُمَرِ النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمرة عائشة نفسها من التنعيم ونزول المحصب، وما يتعلق ببناء الكعبة وفضلها. وكذا روايات في الأضاحي وفي الذبائح وبعض ما يتعلق بهما نحو العقيقة، كما أن لها مرويات في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 البيوع وما يتعلق بها، وفي العتق، والمكاتبة. وتشتمل على أحاديث في باب اللباس، والأطعمة، والأشربة، والطب فيما يتعلق بعلاج المريض والدواء وبالرقية والدعاء، وبأحاديث في النذور والشهادات، وأيضًا أحاديث تتعلق بالجهاد، والمغازي، والإمارة. كما تتضمن مروياتها مجموعة من الأحاديث تدور حول النكاح وحسن المعاشرة بين الزوجين، والطلاق وما يتعلق به، وروايات في أبواب الحدود، وأبواب المناقب والسير، وجملة كبيرة من الأحاديث في الآداب المعيشية، وفي البر والصلة، كما روت أحاديث في الزهد والرقاق، وأحاديث في الفتن، وأشراط الساعة، والقدر، وما يتعلق بالقيامة، وأحاديث في الاستغفار، والدعاء، والتوبة. - مكثرو الرواية عن عائشة -رضي الله عنها- ورواياتهم عنها في الكتب الستة: نبغ كثير من تلاميذ عائشة -رضي الله عنها- وأصبحوا بدورهم مثابة لطلاب العلم يضرب الناس إليهم أكباد الإبل ابتغاء ما ورثوه من علم عائشة، فتلاميذها أوعية حافظة لعلمها، نذكر هنا ستة، هم أكثر الرواة المكثرين عنها رضي الله عنها: 1- عروة بن الزبير: ابن العوام بن خويلد الأسدي، أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه، مشهور من الثانية مات سنة 94هـ على الصحيح، مولده في أوائل خلافة عمر الفاروق، وهو أكثر رواية عن خالته عائشة -رضي الله عنها- حتى روى عنها وحده "1050" حديثًا من مجموع أحاديثها البالغ عددها "1999"، وهو نصف مسندها1. قال عنه الزهري: "كان عروة بحرًا لا ينزف ولا تكدره الدلاء"2، وقد كان شديد الملازمة لخالته عائشة، كثير السؤال، مما كان يثير غبطة طلاب العلم من كثرة دخوله عليها؛ فأصبح مرجعًا لعلمها.   1 انظر: سير أعلام النبلاء "4/ 421-437"، طبقات ابن سعد "5/ 178"، وأعداد الأحاديث مأخوذة من تحفة الأشراف للحافظ المزي. 2 سير أعلام النبلاء "4/ 428". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 2- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق1: التيمي أبو عبد الرحمن، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة، ومن كبار الثالثة، مات سنة "106هـ" على الصحيح، قُتل أبوه محمد سنة "38هـ" في مصر لما قدم أميرًا عليها من قبل علي بن أبي طالب، فبقي القاسم يتيمًا في حجر عمته عائشة رضي الله عنها. وكان يلازمها مع ما عرف به من النباهة، وهو حديث السن مما يسر له استيعاب ما تسمعه آذانه وإدراك ما يحفظه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو فتاوى من عائشة وغيرها، وله "137" حديثًا يرويها عنها في الكتب الستة فقط. 3- الأسود بن يزيد النخعي2: الكوفي أبو عمرو، الثقة، العابد، من الثانية، روى الأسود عن عائشة "117" حديثًا في الكتب الستة فقط. 4- عمرة بنت عبد الرحمن3: ابن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، وكانت في حجر عائشة، مدنية تابعية ثقة ثبت حجة، قال ابن حبان: "كانت من أعلم الناس بحديث عائشة"، وقال ابن سعد: "كانت عالمة"، وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم أن يكتب له أحاديث عمرة ... كما شهد لها الزهري بقوله: "فأتيتها -أي عَمْرَة- فوجدتها بحرًا لا ينزف". ولها في الكتب الستة "72" حديثًا ترويها عن عائشة رضي الله عنها. - أصح الأسانيد عن عائشة: من ذلك: 1- هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة4.   1 المصدر السابق "5/ 53-60". 2 سير أعلام النبلاء "4/ 50-53"، طبقات ابن سعد "6/ 70"، وتذكره الحفاظ للذهبي وغيرها. 3 سير أعلام النبلاء "4/ 507، 508"، طبقات ابن سعد "8/ 484"، وتهذيب الكمال وغيرها. 4 شرح الباعث الحثيث، أحمد شاكر "11". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 2- يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمرو بن حفص العمري، عن القاسم، عن عائشة -رضي الله عنها- قال ابن معين: ترجمة مشبكة الذهب1. 3 عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قال ابن معين: "ليس إسناد أثبت من هذا"2. 4- أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة3. 5- الزهري، عن عروة، عن عائشة4. فمن خلال هذا الغرض الموجز جدًّا في حق أكبر المحدثات عبر العصور، أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ندرك الجهود الكبيرة التي قدمتها للأمة الإسلامية، فكانت وما زالت -رضي الله عنها- قدوة النساء والرجال في العلم والفقه والزهد وسائر أعمال المعروف.   1 معرفة علوم الحديث الحاكم "ص55"، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1977م. 2 الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق أحمد عمر هاشم، دار الكتاب العربي، بيروت ط1986م، والنكت لابن حجر، المجلس العلمي لإحياء التراث الإسلامي، المدينة، ط1. 3 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي "2/ 229"، مكتبة المعارف، الرياض، ط1983م. 4 طرح التثريب شرح التقريب، زين الدين العراقي "1/ 22" دار المعارف، حلب، سوريا، دون ذكر الطبعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 دور أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- في رواية الحديث: - ترجمتها وفضلها: هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، أبوها أحد أبناء قريش المعدودين، وأجوادهم المشهورين، وكان يُدعَى بـ"زاد الراكب"1. كانت قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- عند أبي سلمة، عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، الصحابي ذو الهجرتين، ابن عمة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- برَّة بنت عبد المطلب، وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، وكانت وزوجها من السابقين الأولين، وهاجرا مع العشرة الأولين إلى الحبشة، حيث وُلد ابنهما "سلمة". ثم هاجر إلى المدينة بعد قدومهما مكة بعد بيعة العقبة2، فكانت أم سلمة -رضي الله عنها- بهذا أول ظعينة دخلت المدينة، وفي المدينة عكفت -رضي الله عنها- على تربية صغارها، وعكف زوجها على الجهاد، فشهد بدرًا وأحدًا وأبلى فيها بلاء مشهودًا، ورُمي في عضده، ثم انتكأ هذا الجرح فظل به حتى مات سنة أربع للهجرة "4هـ"، وكان من دعاء أبي سلمة: "اللهم اخلفني في أهلي بخير"، فأخلفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على زوجته أم سلمة، فصارت أمًّا للمؤمنين، وعلى بنيه: سلمة، وعمر، وزينب، فصاروا ربائب في حجره المبارك -صلى الله عليه وسلم- وذلك سنة أربع للهجرة "4هـ". وكانت أم سلمة -رضي الله عنهما- آخر مَن مات من أمهات المؤمنين، عمرت حتى بلغها قتل الحسين، لم تلبث بعده إلا يسيرًا، وانتقلت إلى الله تعالى سنة "62هـ"، وكانت قد عاشت نحوًا من تسعين سنة3.   1 زاد الراكب: أنه كان إذا سافر، فخرج معه الناس، فلم يتخذوا زادًا معه ولم يوقدوا، يكفيهم ويغنيهم. انظر: لسان العرب لابن منظور، مادة "زود" "3/ 198". 2 انظر: السمط الثمين "87"، والسيرة النبوية لابن هشام، دار الجيل "2/ 80، 81". 3 سير أعلام النبلاء، الذهبي "2/ 209". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وأما منزلتها في قوة البلاغة، ورجاحة العقل، وحصافة الرأي، ودقة الفهم، فقريبة من منزلة السيدة عائشة رضي الله عنهما، وقد أشارت على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية بما يدل على ذلك؛ حيث أشارت عليه بأن يتقدم الناس بنحر الهدي والحلق لما امتنعوا أن ينحروا ويحلقوا ليحلوا من الإحرام، فلما فعل ذلك قام الناس فنحروا وحلقوا1. كما كانت تُعد من فقهاء الصحابة ممن كان يفتي؛ إذ عدها ابن حزم ضمن الدرجة الثانية التي تشمل متوسطي الفتوى بين الصحابة -رضي الله عنهم- حيث قال: "المتوسطون فيما روى عنهم من الفتوى: عثمان، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وأنس، وأم سلمة ... " إلى أن عدهم ثلاثة عشر، ثم قال: "ويمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير"2. - مروياتها -رضي الله عنها- وتلاميذها: روت أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- الكثير الطيب؛ حيث تعد ثاني راوية للحديث بعد أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- إذ لها جملة أحاديث قدرت حسب كتاب بقي بن مخلد ثلاثمائة وثمانية وسبعين حديثًا "378". اتفق لها البخاري ومسلم على ثلاثة عشر حديثًا، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثلاثة عشر3. ومجموع مروياتها حسب ما ورد في تحفة الأشراف مائة وثمانية وخمسون حديثًا "158"4.   1 زاد المعاد "2/ 125"، الإصابة "4/ 440"، وانظر الحديث في صحيح البخاري "2/ 279" كتاب الشروط. 2 جوامع السيرة، ابن حزم "134"، تلقيح فهوم الآثر، ابن الجوزي "305". 3 سير أعلام النبلاء "2/ 101". 4 تحفة الأشراف، للحافظ المزي "13/ 3 - 82". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 - محتوى مروياتها رضي الله عنها: كان وجود أم المؤمنين أم سلمة، وأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنهما- خاصة بين الصحابة، وتأخر وفاتهما بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من العوامل المهمة التي جعلت الناس يقصدونهما خاصة للسؤال والفتيا، وبعد وفاة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- سنة "58هـ"، تربعت أم سلمة -رضي الله عنها- على باب الرواية؛ لكونها آخر مَن تبقى من أمهات المؤمنين، الأمر الذي جعل مروياتها كثيرة؛ إذ جمعت بين الأحكام والتفسير والآداب والأدعية والفتن ... إلخ. ففي أبواب الطهارة روت في: غسل الجنابة، وغسل الرجل مع زوجه، وكيفية اغتسال النساء، وفي دخول الحائض والجنب المسجد، والنوم مع الحائض في لحاف واحد، والاستحاضة، وفي ذيول النساء وما يطهرها ... وغيرها. وفي أبواب الصلاة وما تعلق بها من أحكام روت في: الركعتين بعد العصر، وهي صاحبة هذه الرواية، وقد أخذتها عنها عائشة وغيرها، كما روت في قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكيفية صلاته، ووتره ونوافله، وروت في الدعاء دبر الصلاة، كما روت في عدم قضاء الحائض الصلاة، وصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسًا، والمرأة تصلي في درع وخمار ليس لها إزار إذا لم تظهر قدماها، وفي القنوت ... وفي الزكاة روت في: الإنفاق على الأولاد والزوج، وفي فضل الصدقة، في زكاة الحلي. وفي أبواب الصوم روت في: الجنب يدركه الفجر، وفي القُبْلة للصائم، وفي فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وفي الصوم في ذي الحجة. كما روت في أبواب الحج: في حج النساء، وفي ما بين بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنبره، وفيمن أهلَّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى، وفي طواف الخروج. وروت أيضًا في الجنائز: في الدعاء للميت، والدعاء عند المصيبة، والنهي عن اكتحال الحادَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وروت في الأدب، وفي ستر العورة، وفي رفع الرأس إلى السماء عند الخروج من البيت، والمرأة ترخي من إزارها ذراعًا، وروت في الأشربة، والنهي عن عجم النوى طبخًا، وخلط النبيذ بالتمر، وفي النكاح، روت زواجها، وفي الإحداد والرضاع. كما روت في المغازي، والمظالم والفتن، في الجيش الذي يخسف به، وفي المهدي، وروت في المناقب في ذكر علي وذكر عمار. فهذا الكم من المرويات وغيرها -كما نلاحظ- تغلب عليه الصفة العلمية مع وجود مرويات في غير ذلك، في الأقوال النبوية وفي الأدعية، مما يعطي أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- شهادة أيضًا على حفظها واهتمامها بما يصدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وروايته للناس. وقد نقل عنها مروياتها جيل من التلاميذ رجالًا ونساء، من مختلف الأقطار؛ حيث روى عنها -رضي الله عنها- خلق كثير: - فمن الصحابة: أم المؤمنين عائشة، وأبو سعيد الخدري، وعمر بن أبي سلمة، وأنس بن مالك، وبُرَيْدة بن الحصيب الأسلمي، وسليمان بن بريدة، وأبو رافع، وابن عباس. - ومن التابعين: أشهرهم: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وشقيق بن سلمة، وعبد الله بن أبي مليكة، وعامر الشعبي، والأسود بن يزيد، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وشهر بن حوشب، ونافع بن جبير بن مطعم ... وآخرون. - ومن النساء: ابنتها زينب، وهند بنت الحارث، وصفية بنت شيبة، وصفية بنت أبي عبيد، وأم ولد إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وعمرة بنت عبد الرحمن، وحكيمة، ورميثة، وأم محمد بن قيس. - ومن نساء أهل الكوفة: عمرة بنت أفعى، وجسرة بنت دجاجة، وأم مساور الحميري، وأم موسى "سُرِّيَّة علي"، وجدة ابن جدعان، وأم مبشر1.   1 تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ أبي الحجاج يوسف المزي "35/ 319". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 دور أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها- في رواية الحديث: بعد أم المؤمنين أم سلمة التي تحتل المرتبة الثانية من حيث كثرة الرواية بين كل الروايات عمومًا وبين أمهات المؤمنين خصوصًا، تأتي أم المؤمنين ميمونة، وأم المؤمنين أم حبيبة، وأم المؤمنين حفصة، في الدرجة الثالثة، وقد صنفهن بقي بن مخلد في أصحاب العشرات بهذا الترتيب1. - ترجمتها وفضلها رضي الله عنها: هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن روبية بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية2، وهي أخت أم الفضل زوجة العباس، وخالة خالد بن الوليد وابن عباس. تزوجها أولًا مسعود بن عمر الثقفي قبيل الإسلام، ففارقها، وتزوجها أبو رهم بن عبد العزى فمات عنها، فتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- في وقت فراغه من عمرة القضاء سنة "7هـ" في ذي القعدة، وبَنَى بها بسَرِف3. كانت ميمونة -رضي الله عنها- من سادات النساء، وخير شهادة على ذلك ما ذكرته عنها ضرتها عائشة لابن أختها يزيد بن الأصم، وقد أقبلت تلومه في أمر؛ حيث يقول: " .... ثم وعظتني موعظة بليغة، ثم قالت: أما علمت أن الله ساقك حتى جعلك في بيت نبيه، ذهبت والله ميمونة، ورمَى بحبلك على غاربك، أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم"4.   1 تلقيح الفهوم، ابن الجوزي "365"، وبقي بن مخلد هو شيخ الإسلام أبو عبد الله عبد الرحمن الأندلسي القرطبي، الحافظ، صاحب "التفسير"، "المسند"، وهو أول من كثر الحديث ونشره بالأندلس، توفي سنة 273هـ. انظر: طبقات الحفاظ، السيوطي "ص277". 2 لها ترجمة في الإصابة، ابن حجر "4/ 397"، طبقات ابن سعد "8/ 132"، السير "2/ 238- 246" وغيره. 3 سَرِف: بفتح أوله وكسر ثانيه وآخره فاء، وهو موضع على ستة أميال من مكة. انظر: معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر بيروت "3/ 212". 4 أخرجه ابن سعد في الطبقات "8/ 138"، والحاكم في المستدرك "4/ 31". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وفي هذا الخبر ما يفيد أن ميمونة ماتت قبل عائشة، فقد ذكر خليفة بن خياط موتها سنة "51هـ"1. وقد دفنت في الظلة التي بَنَى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسرف2. - تلاميذها ومروياتها رضي الله عنها: روت أم المؤمنين ميمونة ستة وسبعين حديثًا "76"3، وبالتالي تأتي مباشرة بعد أم المؤمنين أم سلمة في الترتيب حسب كثرة الرواية، وعدد أحاديثها في الكتب الستة واحد وثلاثون حديثًا "31"4، ورُوي لها في الصحيحين سبعة أحاديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة أحاديث5. وقد روى عنها: ابن عباس ابن أختها، وابن أختها الثاني عبد الله بن شداد بن الهاد، وابن اختها الثالث عبد الرحمن بن السائب، وابن أختها الرابع يزيد بن الأصم، وعبيد بن السباق، وكريب مولى ابن عباس -وكان يدخل على أمهات المؤمنين- ومولاها سليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وعمران بن حذيفة، ومولاتها ندبة، والعالية بنت سُبَيْع، وأم منبوذ. - محتوى مروياتها: يلاحظ أن مروياتها توزعت على هؤلاء الرواة السابق ذكرهم، وأغلبهم من محارمها وفيهم الحبر ابن عباس، إضافة إلى أن مروياتها غلبت عليها الصفة العملية؛ أي: أنها تصف فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته ومع أهله. فقد رُوي عنها في أبواب الطهارة: في كيفية الغسل من الجنابة، وفي   1 تاريخ خليفة، تحقيق أكرم ضياء العمري، دار طيبة، ط1، 1985م "ص218". 2 انظر: ابن سعد في الطبقات "8/ 139"، والحاكم في المستدرك "4/ 31". 3 تلقيح الفهوم، ابن الجوزي "ص365". 4 العدد مأخوذ من تحفة الأشراف "13/ 484- 498". 5 سير أعلام النبلاء "2/ 245". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- بفضل غسل نسائه، ومباشرة الحائض وهي مؤتزرة، وقراءة القرآن في حجر الحائض، والصلاة بعد الأكل بدون وضوء، وهي كلها أفعال نبوية. وفي أبواب الصلاة: رُوي عنها في فضل الصلاة في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي سجود النبي صلى الله عليه وسلم ... ، وفي الجنائز: في الميت يصلي عليه أمة من الناس ... ، وروت في الصيام: في صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في عرفة. ورُوي عنها في الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب ولا صورة، وفي رقية النبي -صلى الله عليه وسلم- كما رُوي عنها في العتق، ولعل أبرز حكم ارتبط باسم ميمونة -رضي الله عنها- هو تزويج المحرم، فقد تضاربت الروايات في قصة تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- ميمونة، هل كان حلالًا أم محرما؟ وقد عاشت أم المؤمنين ميمونة في البيت النبوي ثلاث سنوات، وبقيت بعده إلى سنة "51هـ"، فثلاث سنوات وإن كانت مدة قصيرة إلا أنها سمحت لها بأن تنقل عنه -صلى الله عليه وسلم- مجموعة لا بأس بها من الأحاديث -كما رأينا- ساهمت في إعطاء نظرة مفصلة عن حياته -صلى الله عليه وسلم- في بيته، وكفى بها شرفًا أن قصة زواجها منه -صلى الله عليه وسلم- فرع من الفروع المهمة في الفقه الإسلامي، الذي كثرت حوله الآراء. ومما ساعد على كثرة مروياتها -مقارنة بغيرها من أمهات المؤمنين، رغم كونها آخر مَن تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه- أمران؛ هما: - تأخر وفاتها رضي الله عنها "51هـ". - كون أحد المكثرين من الرواية من محارمها وهو ابن عباس، ولا شك أن هذا يسهل عليه الدخول عليها وسؤالها في القضايا المختلفة؛ إذ إن أمهات المؤمنين كانت لهن حرمة خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 دور أم المؤمنين حبيبة رضي الله عنها ... دور أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها: - ترجمتها وفضلها: هي بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي1، وهي من بنات عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس في أزواجه مَن هي أقرب نسبًا إليه منها، كانت قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند عبيد الله بن جحش، وهاجر بها إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم تنصر هناك ومات على النصرانية، وبقيت أم حبيبة -رضي الله عنها- على دينها، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن يخطبها له بالحبشة سنة ست للهجرة، فتزوجها -صلى الله عليه وسلم- زوجها إياه النجاشي2، ومهرها أربعة آلاف، وبعث بها مع شرحبيل ابن حسنة، وجهازها كله من عند النجاشي، فلا يوجد في نسائه -صلى الله عليه وسلم- من هي أكثر صداقًا منها، ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها، فلما بلغ أبا سفيان نكاح النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنته قال: "ذاك الفحل لا يُقرع أنفه"3. تُوفيت أم حبيبة -رضي الله عنها- سنة أربع وأربعين للهجرة4، وكانت ولدت قبل البعثة بسبعة عشر عامًا، وقبيل موتها دعت عائشة -رضي الله عنها- فقالت: "قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولكِ ما كان من ذلك". فقالت عائشة: "غفر الله لكِ ذلك كله وحللت من ذلك"، فقالت: سررتني سرك الله. وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك5.   1 انظر ترجمتها في الإصابة، ابن حجر "4/ 298". 2 النجاشي: أصحمة ملك الحبشة، معدود في الصحابة، وكان ممن حسن إسلامه، ولم يهاجر، ولا رؤية له، وقد توفي في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه صلاة الغائب. صحيح البخاري "3/ 151" المناقب، موت النجاشي "3877". وانظر: سير أعلام النبلاء "1/ 418- 443". 3 أخرجه ابن سعد في الطبقات "8/ 99"، والحاكم في المستدرك "4/ 22". 4 السير "2/ 220". 5 أخرجه ابن سعد في الطبقات "8/ 100"، والحاكم في المستدرك "4/ 22، 23". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 - مروياتها وتلاميذها رضي الله عنها: روت أم المؤمنين أم حبيبة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة أحاديث، عدها بقي بن مخلد فوجدها خمسة وستين حديثًا1، ولها في مجموع الكتب الستة تسعة وعشرون حديثًا2، اتفق لها البخاري ومسلم على حديثين3. روى عنها: أخواها معاوية وعنبسة، وابن أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، وعروة بن الزبير، وشتير بن شكل، وشهر بن حوشب، وأبو سفيان بن سعيد بن الأخنش وهي خالته، وأبو صالح ذكوان السمان، وصفية بنت شيبة، وزينب بنت أبي سلمة. - محتوى مروياتها: حديثها -رضي الله عنها- مشهور في تحريم الربيبة وأخت المرأة4، وأيضًا حديثها في فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن مشهور، وقد رواه عنها معظم التلاميذ الذين ذكرناهم. كما حوت مروياتها أحاديث في وجوب الإحداد للمرأة المتوفَّى عنها زوجها، وعدم جوازه لغير الزوج فوق ثلاثة أيام، والكحل للحادة ... وفي الحج، كما روت في استحباب دفع الضعفة من النساء وغيرهن من المزدلفة إلى منًى في أواخر الليل قبل زحمة الناس. وفي أبواب الطهارة: ترك الوضوء مما مسته النار، وفي صلاة الرجل في الثوب الذي جامع فيه، وما يجوز للرجل من المرأة الحائض ... وفي أبواب الصوم: روت في جواز القبلة للصائم، وفي الدعاء بعد الأذان ... وروت في العير التي فيها الجرس لا تصحبها الملائكة، وغيرها.   1 تلقيح الفهوم "ص365". 2 تحفة الأشراف "11/ 306 - 323". 3 سير أعلام النبلاء "2/ 219". 4 صحيح البخاري "3/ 5" كتاب النكاح"، باب {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ، حديث "5107". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 دور أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها : - ترجمتها وفضلها رضي الله عنها: هي بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي1، كانت قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- عند خنيس بن حذافة السهمي، فلما توفي عنها "بأحد" خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن كان عمر عرضها على أبي بكر ثم على عثمان، فلم يردا عليه بالقبول إلا لكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرها، ولما شكى عمر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان من أبي بكر وعثمان، وقال له: "يتزوج حفصة مَن هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان مَن هي خير من حفصة" 2، وقد تزوج عثمان -رضي الله عنه- أم كلثوم بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- حفصة سنة ثلاث من الهجرة "3هـ"، وكان مولدها -رضي الله عنها- قبل البعثة بخمس سنين. ورُوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد طلق حفصة -رضي الله عنها- ثم راجعها3 لتحافظ على مكانتها أُمًّا للمؤمنين. توفيت حفصة سنة إحدى وأربعين عام الجماعة "41هـ"4. - مروياتها وتلاميذها رضي الله عنها: روت حفصة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة أحاديث، مسندها في كتاب بقي بن مخلد بلغ ستين حديثًا5، اتفق لها الشيخان على أربعة أحاديث، وانفرد مسلم بستة أحاديث، ومجموع مروياتها في الكتب الستة ثمانية وعشرون حديثًا "28"6.   1 انظر ترجمتها في سير أعلام النبلاء "2/ 227"، الإصابة "4/ 264". 2 صحيح البخاري "3/ 368" كتاب النكاح، باب عرض الرجل ابنته أو أخته على أهل الخير - حديث "5222" عن ابن عمر. 3 سنن أبي داود "2/ 294" كتاب الطلاق، باب في المراجعة. 4 سير أعلام النبلاء "2/ 292". 5 جوامع السيرة، ابن حزم "ص14"، تلقيح الفهوم، ابن الجوزي "365". 6 تحفة الأشراف، المزي "11/ 278 - 292". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 - محتوى مروياتها: روت في الطهارة في وجوب الغسل على كل محتلم يوم الجمعة، وجعل اليد اليمنى للطعام والشراب. وفي أبواب الصلاة، روت في الركعتين الخفيفتين إذا نودي بالصبح، وهي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصوم روت في: لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر، وصوم النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام من كل شهر، وفي القبلة للصائم، وفيمن يصبح جنبًا ثم يتم صومه، وفي صيام الإثنين والخميس، وصيام عاشوراء وغيرها. كما روت في المناسك: في الدواب التي لا جناح على مَن قتلهن، كما روت في الزينة في لبس الديباج للرجل، وفي الشمائل: في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الآداب: فيما يفعل الرجل إذا أراد النوم، وفي الطب: في رقية النملة، وفي تعبير الرؤيا، وفي الفتن: في قصة ابن الصائد وخروج الدجال من غضبة يغضبها، وهذا أشهر ما روت. ويلاحظ غلبة السُّنَّة الفعلية في وصف أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- التي اشتركت في نقلها إلى الناس مع بقية أمهات المؤمنين، مع تفاوت في الرواية بينهن -كثرة وقلة- إلا أنها كسائر أمهات المؤمنين تختص برواية بعض الأحاديث التي لم تروها بقية أمهات المؤمنين؛ كروايتها في الرقية من النَّمِلَة، وقصة ابن صائد، وخروج الدجال من غضبة يغضبها، والدواب التي لا جناح في قتلهن. وهكذا شرف الله أمهات المؤمنين كل واحدة بأحاديث ترويها ويلتصق اسمها بها؛ لتبين للعالم نور الحكمة الذي ينبع من حجرات هؤلاء السيدات، رضوان الله عليهن جميعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 دور أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها : - ترجمتها وفضلها رضي الله عنها: هي بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة1، وهي ابن عمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمها: أميمة بنت عبد المطلب من المهاجرات الأُوَل، كانت زينب -رضي الله عنها- عند زيد بن حارثة مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- فزوجها الله تعالى بنبيه بنص كتابه بعد أن فارقها زيد2، فكان زواجها -رضي الله عنها- بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فريدًا، بلا ولي ولا شاهد، فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين3. كانت -رضي الله عنها- من سادة النساء، دينًا وورعًا وجودًا ومعروفًا، تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذي القعدة سنة خمس للهجرة، وكانت صالحة قوامة صوامة بارة، وقد شهد لها بذلك سيد الخلق زوجها -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول لعمر: "إن زينب بنت جحش أواهة" قيل: يا رسول الله، ما الأواهة؟ قال: "الخاشعة المتضرعة، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} " [هود: 75] 4. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر لأزواجه أن: "أسرعكن لحوقًا بي أطولكن يدًا" 5، فبشرها بسرعة لحوقها به -صلى الله عليه وسلم- وهي زوجته في الجنة، وفيه شهادة على برها وصدقها؛ حيث إنها كانت امرأة صنَّاعة اليد، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق. وشهادة لها أخرى من أم المؤمنين عائشة إذ تقول: "كانت زينب بنت   1 انظر ترجمتها في سير أعلام النبلاء "2/ 211"، الإصابة "4/ 307"، أسد الغابة "5/ 463". 2 قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] . 3 كانت زينب تفتخر على أمهات المؤمنين وتقول: "زوجكن أهليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات". انظر: صحيح البخاري "4/ 388" كتاب التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء، عن أنس، حديث رقم "742". 4 ذكره الذهبي في السير "2/ 211"، وفي الهامش: هو مرسل وفيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف. 5 صحيح مسلم "4/ 7- 19" كتاب الفضائل، من فضائل زينب بنت جحش "2452" عن عائشة، وهو في البخاري "1/ 39" بلفظ يوهم أن: أسرعهن لحوقًا سودة، كتاب الزكاة - الباب رقم "11" من حديث عائشة "1420". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 جحش تساميني في المنزلة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما رأيت امرأة خيرًا في الدين من زينب، أتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل رحمًا، وأعظم صدقة رضي الله عنها"1. - تلاميذها ومروياتها رضي الله عنها: كانت أم المؤمنين زينب أول مَن لحق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك سنة عشرين للهجرة2، فقد عاشت خمس سنوات معه -صلى الله عليه وسلم- وعشر سنوات بعدها. وبلغت مروياتها وفق كتاب بقي بن مخلد أحد عشر حديثًا3، ولها في الكتب الستة خمسة أحاديث4، اتفق لها البخاري ومسلم على حديثين5، وأشهر من روى عنها: ابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش، وأم المؤمنين أم حبيبة، وزينب بنت أبي سلمة، وأرسل عنها القاسم بن محمد. ورغم أن مروياتها قليلة بالمقارنة بما ذكرنا من مرويات أمهات المؤمنين، إلا أنها صاحبة رواية خروج يأجوج ومأجوج6، وما صح واشتهر في هذا الجانب مروي عنها، كما أن حديثها في الاستحاضة معروف، وروت أيضًا في إحداد المرأة على غير زوجها وهو مما اتفق عليه7، كما روت في الطهارة في باب الوضوء، وفي بول الغلام وبول الجارية، وهو في غير الكتب الستة، فكانت لها -رضي الله عنها- إسهاماتها في خدمة السُّنَّة.   1 صحيح مسلم "4/ 1891" كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة، عن عائشة "242". 2 سير أعلام النبلاء "2/ 212". 3 تلقيح الفهوم، ابن الجوزي "ص370". 4 تحفة الأشراف للمزي "11/ 321- 323". 5 سير أعلام النبلاء "2/ 121". 6 صحيح البخاري "4/ 327"، الفتن، خروج يأجوج ومأجوج، حديث رقم "7135". 7 صحيح البخاري "1/ 395"، الجنائز، إحداد المراة على غير زوجها، حديث رقم "1282". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 دور أم المؤمنين صفية رضي الله عنها : - ترجمتها وفضلها رضي الله عنها: هي صفية بنت حُيي بن أخطب بن سعية، من سبط "اللاوِي" ابن نبي الله إسرائيل "يعقوب" بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ثم من ذرية رسول الله هارون عليه السلام1. كانت قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- عند سلام بن أبي حقيق، ثم خلف عليها كنانة بن أبي حقيق، وكانا من شعراء اليهود، فقتل كنانة يوم خيبر، فسبيت صفية وصارت في سهم دحية الكلبي، فقيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- عنها، فاصطفاها لنفسه، ثم لما طهرت تزوجها وجعل عتقها صداقها2. كانت -رضي الله عنها- امرأة شريفة عاقلة، ذات حسب ودين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكرمها ويحنو عليها كلما طالتها غَيْرة نسائه -صلى الله عليه وسلم- حتى إنه هجر زينب -رضي الله عنها- محرم وصفر ولم يأتها؛ لأنها نالت منها بكلمة3، كما كان يساندها في الرد على أزواجه إذا عايرنها لكونها من غير العرب4. وكانت ذا حلم ووقار، ومن الشواهد على ذلك عتقها الجارية التي افترت عليها لدى عمر أنها تحب السبت وتصل اليهود، ولما عرفت أن الشيطان أوحى للجارية بذلك عفت عنها وأعتقتها5. تُوفيت -رضي الله عنها- سنة "36هـ"6.   1 انظر ترجمتها في سير أعلام النبلاء "2/ 22"، الإصابة "4/ 337، 338"، أسد الغابة "5/ 490". 2 صحيح البخاري "3/ 359" كتاب النكاح، باب من جعل عتق الأمة صداقها، حديث رقم "5086". 3 لما برك بصفية أم المؤمنين الجمل، وهن مع النبي في الحج، طلب من زينب أن تفقر "تعير" صفية جملًا، فقالت: "أنا أفقر يهوديتك! " فغضب النبي ... الحديث أخرجه أحمد بن حنبل في المسند "6/ 337، 338". 4 سنن الترمذي "5/ 708" كتاب المناقب "3898"، وقال: حسن صحيح غريب. 5 الاستيعاب "4/ 337". 6 سير أعلام النبلاء "2/ 42". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 - تلاميذها ومروياتها رضي الله عنها: حدث عنها: علي بن الحسين، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث، وكنانة مولاها وغيرهم. مسندها في كتاب بقي بن مخلد عشرة أحاديث1؛ منها حديث واحد متفق عليه، كما روت في الكتب الستة ستة أحاديث2. - محتوي مروياتها: روت في باب الاعتكاف وهو مما اتفق عليه الشيخان، والمعتكف يخرج لحوائجه إلى باب المسجد، وفي استحباب من رُؤي خاليًا بامرأة وكانت زوجته أو محرمًا أن يقول: هذه فلانة، كما روت في صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي الدعوات، ورواية في تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- ميمونة وهو حلال، كما روت في مناقبها هي، كما روت أيضًا في حديث الجيش الذي يُخسف به، وكان راوية لسنن لم يروها أحد غيرها، فكانت شاهدة على أحكام نقلتها للناس واقترن اسمها بها.   1 تلقيح الفهوم، ابن الجوزي "ص369". 2 تحفة الأشراف "11/ 337- 340". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 دور أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها : - ترجمتها وفضلها رضي الله عنها: هي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية ثم المصطلقية1، كانت قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- عند ابن عم لها يقال له: مسافع بن صفوان بن ذي الشفر، فقُتل عنها في غزوة المريسيع سنة خمس للهجرة، فكانت في السبي، فوقعت في سهم أحد الصحابة فكاتبها على نفسها، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- تستعين به في فكاكها، فأجابها في أكرم من ذلك، تزوجها2، وخرج الخبر إلى الناس فقالوا: أصهار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسْترقُّون! فأعتقوا مَن كان في أيديهم من سبي بني المصطلق، فبلغ عتقهم مائة أهل بيت، فكانت عظيمة البركة على قومها، وكان أبوها سيدًا مطاعًا، تُوفيت -رضي الله عنها- سنة خمسين، وقيل: ست وخمسين3. - تلاميذها ومروياتها رضي الله عنها: حدث عنها: ابن عباس، وعبيد بن السَّبَّاق، وكريب مولى ابن عباس، ومجاهد، وأبو أيوب يحيى بن مالك الأزدي. بلغ مسندها في كتاب بقي بن مخلد سبعة أحاديث4، منها أربعة في الكتب الستة، حديث عند البخاري، وحديثان عند مسلم. وقد تضمنت مروياتها أحاديث في الصوم، في عدم تخصيص يوم الجمعة بالصوم، وحديث في الدعوات في جواب التسبيح، وفي الزكاة في إباحة الهدية للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كان المهدي ملكها بطريق الصدقة، كما روت في العتق. وهكذا بسبعة أحاديث شريفة خلَّدتْ أم المؤمنين جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها- اسمها في عالم الرواية؛ لتضيف إلى شرف صحبتها للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأمومتها للمسلمين، تبليغها الأمة سنن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما تيسر لها ذلك.   1 لها ترجمة في الإصابة "4/ 257"، سير أعلام النبلاء "2/ 261"، المستدرك للحاكم "4/ 27". 2 صحيح مسلم "2/ 43" كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، عن أنس "1365". 3 الأول قال به ابن سعد في الطبقات "8/ 121"، والثاني قاله خليفة بن خياط في تاريخه "ص234". 4 تلقيح الفهوم، لابن الجوزي "ص370"، جوامع السيرة، لابن حزم "ص143". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 دور أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها : - ترجمتها وفضلها رضي الله عنها: هي سودة بنت زمعة بن قيس القرشية العامرية1، وهي أول مَن تزوج بها النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد خديجة -رضي الله عنها- وانفردت به نحو ثلاث سنين أو أكثر حتى تزوج عائشة رضي الله عنها. وكانت أولًا عند السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو العامري، كانت سيدة جليلة نبيلة، وهي التي وهبت يومها لعائشة رعاية لقلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت قد فركت2، كانت عائشة تتمنى أن لو كانت على طريقتها؛ إذ تقول: "ما رأيت امرأة أحب إليَّ أن أكون في مسلاخها من سودة"3. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج سودة في رمضان سنة عشر من النبوة، وهاجر بها، وماتت بالمدينة سنة أربع وخمسين على رأي4، وعلى رأي توفيت زمن عمر5. - تلاميذها ومروياتها رضي الله عنها: حدَّث عن سودة -رضي الله عنها- ابن عباس، ويحيى بن عبد الله الأنصاري، وغيرهما، ولها خمسة أحاديث -فقط- حسب ما جمعه بقي بن مخلد6، ولها حديثان في الكتب الستة7، لم يُروَ لها إلا حديث واحد في البخاري، وهو في الذبائح.   1 راجع ترجمتها في سير أعلام النبلاء "2/ 265"، الإصابة، ابن حجر "4/ 330". 2 صحيح البخاري "3/ 391" كتاب النكاح، باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها "5212" عن عائشة، وفركت وامرأة فروك: أي لا أرب لها في الرجال، انظر أساس البلاغة "ص340". 3 صحيح مسلم "2/ 1089" كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها، عن عائشة، وقولها: "مسلاخها" كأنها تمنت ان تكون في مثل هديها وطريقتها، والمسلخ، الجلد، حديث رقم "1463". 4 الطبقات لابن سعد "8/ 53". 5 التاريخ الصغير، البخاري "ص53"، دار الكتب العلمية، بيروت. 6 تلقيح الفهوم "371"، وجوامع السيرة "143". 7 تحفة الأشراف "11/ 145". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقال: ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها، ثم ما زلنا نبذ فيه حتى صار شَنًّا1. فمن خلال العرض الموجز السابق يتبين بوضوح دور أمهات المؤمنين في رواية الحديث وخدمة السُّنَّة، وتوضيح الكثير من الأحكام الفقهية، ولولا كثير من الأحاديث التي رُويت عنهن لفاتنا الكثير من السنن، فهذه الميزة وحدها كفيلة بأن تجعل منهن أعمدة رواية أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- المعيشية، خاصة أم المؤمنين عائشة سيدة المحدثات في هذه الأمة، رضوان الله عليهن أجمعين.   1 صحيح البخاري "83" كتاب الأَيمان والنذور - حديث رقم "6686". و"مَسْكها" أي: جلدها، و"شَنًّا" أي: باليًا، والشنة: القربة العتيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الفصل الحادى عشر: أسباب تفاوت أمهات المؤمنين رضي الله عنها في الرواية ... الفصل الحادي عشر: أسباب تفاوت أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- في الرواية: يتفاوت الصحابة جميعًا في الرواية قلة وكثرة، فبينما نجد أحدهم روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الآلاف من الأحاديث، نجد الآخر لم يروِ إلا حديثًا واحدًا، وبعضهم لم يروِ شيئًا، وكذلك الأمر مع أمهات المؤمنين، وقد سبق ذكر أسباب التفاوت بالنسبة للصحابة، وأما التفاوت بالنسبة لأمهات المؤمنين فمرجعه إلى جملة أسباب؛ منها ما يلي: 1- تفاوت درجات الحفظ عندهن. 2- تفاوت مدة ملازمتهن للنبي صلى الله عليه وسلم. 3- التفاوت في مشاركتهن أو حضورهن الأحداث والغياب عنها. 4- تحفُّظ بعضهن من إكثار الرواية. 5- الاستعداد الفطري، وتفاوت الذكاء والوعي. 6- التفاوت في قصر أعمارهن أو طولها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. 7- انصراف بعضهن إلى العبادة أكثر من انصرافهن إلى الحفظ والرواية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الباب الثاني: مناهج المحدثين في القرن الثاني الهجري الفصل الأول: المستجدات في هذا العصر ... الباب الثاني: مناهج المحدثين في القرن الثاني الهجري سأحاول بفضل الله تعالى توضيح هذه المناهج، وذلك من خلال الفصول الآتية: الفصل الأول: المستجدات في هذا العصر في عصر تابعي التابعين تغيرت الظروف عن عصر الصحابة والتابعين، وتطورت بعض الأمور، وظهرت بعض الملابسات التي استدعت وضع مناهج ومقاييس وضوابط يستعين بها المحققون ونقاد الحديث في الكشف عن العلل والدخيل مما نُسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كذبًا؛ وذلك لهدف الحفاظ على السُّنَّة من الوضع، وصيانتها من الخطأ والتحريف. - ويمكن تلخيص المستجدات فيما يلي1: أولًا: وفاة الصحابة ومعظم التابعين الذين كانوا يحفظون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: نزول الإسناد واستحالة لقيا جميع الرواة الموصِّلين إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثًا: ظهور المذاهب الفقهية، ومن ثَم الاختلاف بين الأئمة ومحاولة توثيق ما عندهم من الأحاديث ومناقشة مخالفيهم، وتمخض عن ذلك حركة كبيرة في توثيق السُّنَّة خاض غمارَها الأحناف والشافعي وأصحاب مالك، رضي الله عنهم أجمعين. رابعًا: كثرة الوضع في الحديث، وكثرة الخطأ فيه من قِبَلِ بعض المنتسبين إلى الإسلام من ضعاف الإيمان وأهل البدع.   1 راجع: كتاب "المدخل إلى توثيق السُّنة" "ص56، 57" أ. د. رفعت فوزي عبد المطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 خامسًا: لم تدون السُّنَّة تدوينًا شاملًا في العصر الأول خوفًا من اختلاطها بالقرآن، وأما في عصر أتباع التابعين كثر الحفاظ والكتبة، وزال الخوف السابق، فضلًا عن الحاجة الماسة لهذا التدوين؛ خشية اندراس السُّنَّة وضياعها بموت حفاظها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الفصل الثاني: التدوين الشامل للسنة في هذا العصر ومنهج العلماء في التصنيف بسبب المستجدات والملابسات التي ظهرت في عصر تابعي التابعين أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة تدوينًا شاملًا؛ لتكون مجموعة في مصنفات يستفيد منها المسلمون، ولم يكن تدوينها من قبل بعض الصحابة والتابعين يرقى إلى مستويات المصنفات والمؤلفات1. فقد روى الدارمي بسنده عن عبد الله بن دينار قال: كتب عمر بن عبد العزيز "ت101هـ" إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتبوه؛ فإني خفت دروس العلم وذَهَاب أهله2. وروى الدارمي أيضًا بسنده عن عبد الله بن دينار قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن اكتب بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبحديث عمر؛ فإني قد خشيت درس العلم وذهابه3. قال البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم رضي الله عنه "عامل المدينة": "انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولتُفْشُوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا"4.   1 راجع: المدخل إلى توثيق السُّنة "ص57". 2 سنن الدارمي "1/ 137" باب: من رخص في كتابة العلم - حديث "488"، والمحدث الفاصل "ص373، 374". 3 سنن الدارمي "1/ 137" باب: من رخص في كتابة العلم - حديث "487"، ونحوه في الموطأ رواية الشيباني - حديث رقم "389". 4 صحيح البخاري "3" كتاب العلم، في ترجمة الباب "34" كيف يقبض العلم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وامتثل العلماء لهذا الأمر، واهتموا بهذا النداء من أمير المؤمنين، وجَدُّوا في جمع الحديث الشريف، وكان محمد بن شهاب الزهري "ت124هـ" أول مَن حقق رغبته واستجاب لدعوته فقال: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطانه دفترًا"1. وقال مرة أخرى: لقد أمرنا عمر بن عبد العزيز أن نجمع السنة، وتنفيذًا لهذا الأمر كتبنا الكتب العديدة، وأرسلت نسخًا لأجزاء مختلفة من الدولة2. ووُجد في كل مدينة مَن يهتم بجمع الحديث والتصنيف في السُّنَّة: ففي مكة: صنف في السُّنة ابن جريج "ت150هـ"، وسفيان بن عيينة "ت198هـ". وفي المدينة: مالك بن أنس "ت179هـ"، ومحمد بن إسحاق "ت151هـ"، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب "ت157هـ". وفي البصرة: الربيع بن صبيح "ت160هـ"، وسعيد بن أبي عروبة "ت156هـ"، وحماد بن سلمة "ت168هـ". وفي اليمن: معمر بن راشد "95 - 153هـ". وفي الشام: عبد الرحمن الأوزاعي "88 - 157هـ". وفي الكوفة: سفيان الثوري "ت161هـ". وفي خراسان: عبد الله بن المبارك "ت181هـ". وفي واسط: هشيم بن بشير "ت183هـ". وفي الرِّي: جرير بن عبد الحميد "ت188هـ".   1 جامع بيان العلم وفضله "1/ 76". 2 انظر: فتح الباري "1/ 57"، وفتح المغيث لولي الدين العراقي "ص239"، والأموال لأبي عبيد "ص578 - 580". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وفي مصر: عبد الله بن وهب "125- 179هـ". ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم ممن نسجوا على منوالهم1. وكانت معظم مصنفات هؤلاء ومجاميعهم تضم الحديث الشريف وفتاوى الصحابة والتابعين، وأظهر مثال لذلك موطأ الإمام مالك الذي يجمع الحديث وفتاوى الصحابة والتابعين وعمل أهل المدينة2، غير أن الإمام مالكًا تحرَّى الصحة في موطئه فلم يُخرج فيه إلا صحيحًا، وما كان من مراسيل أو بلاغات ونحوها فقد وقف عليها الأئمة موصولة وصحيحة "أو حسنة" في مصنفات أخرى، وقد التزم الإمام مالك في الموطأ بتخريج روايات الثقات الذين لا ينزل حديثهم عن درجة الحسن بحال، وأما غير الإمام مالك -ممن صنفوا في عهده- فلم يلتزموا ذلك في مصنفاتهم. وذكر الدكتور عجاج الخطيب أن أمير مصر عبد العزيز بن مروان "ت85هـ" والد "عمر" حاول التدوين الرسمي للسُّنَّة، وذلك حين بعث إلى عالم حمص التابعي الكبير "كُثير بن مرة الحضرمي" وكان أدرك سبعين بدريًّا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحمص: "أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحاديثهم إلا حديث أبي هريرة فإنه عندنا"؛ ولكن المصادر لم تخبرنا عن امتثال كُثير لهذا الطلب ... فيكون التدوين الرسمي في عهد ابنه عمر، ومن ذلك الوقت اهتم الرواة بالتدوين الذي شاع في أرجاء المدن الإسلامية.   1 المحدث الفاصل "ص611 - 613". 2 راجع: المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص59". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الفصل الثالث: جهود التابعين في توثيق السُّنَّة وحفظها وتدوينها في النصف الأول من القرن الثاني الهجري كانت الفتنة التي وقعت في آخر عهد سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- نقطة انعطاف ومرحلة تحول؛ حيث انتسب إلى الإسلام قلة من الرجال ضعيفي الإيمان، أباحوا لأنفسهم الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نُصرةً لبدعتهم وأهوائهم. فكان على التابعين واجب القيام بكشف حديث هؤلاء وبيانه والتنبيه عليه والتحذير منه. "وكانت الوسيلة لنقل سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي الرواية، وكان معيار صدق الحديث أو وضعه هو صدق ناقليه أو كذبهم"1. وتتجلى جهودهم ومظاهر هذا الاهتمام والتحري الشديد والحيطة فيما يلي: 1- اهتموا بدراسة الرجال رواة الأحاديث: ونقدهم وبيان ما فيهم من جرح وتعديل، ولم يقبلوا الحديث إلا عن ثقة معروف بالعدالة، وكما قال الشافعي: "كان ابن سيرين وإبراهيم النخعي وطاوس وغير واحد من التابعين يذهبون إلى ألا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي ويحفظ، وما رأيت أحدًا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب"2. 2- اهتموا بالإسناد فوقفوا على حال رواته: قال ابن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السُّنَّة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"3.   1 المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص48". 2 السُّنَّة قبل التدوين "ص237"، والمدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص498". 3 صحيح مسلم بشرح النووي "1/ 71". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ومثال ذلك ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بعدي من أمتي ... " الحديث، قال ابن الصامت رضي الله عنه: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحكم الغفاري قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر كذا، فذكرت له هذا الحديث، فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم1. 3- السماع والحفظ والتثبت في الرواية: كانوا يتتبعون الأخطاء ويحصونها ويهتمون بها اقتداء بالصحابة في الحيطة مع أنفسهم والآخرين، قال الشعبي: "والله لو أصبتُ تسعًا وتسعين مرة وأخطأتُ مرة لعدوا عليَّ تلك الواحدة"2. 4- نقد المتن: ومن أمثلة ذلك أن إبراهيم النخعي كان يترك بعض الأحاديث -عاملًا عقله وقياسه- بحجة أن الصحابة فعلوا ذلك، فقال عنهم: كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة ويدعون، ولو كان ولد الزنى شر الثلاثة لما انتُظر بأمه أن تضع3، وأنكر بهذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ولد الزنى شر الثلاثة" 4. كما رد حديث فاطمة بنت قيس، وحديث التغريب للزاني، وحديث الشاهد واليمين؛ لأنه يرى معارضتها للقرآن الكريم، ورد أحاديث القنوت في الفجر معللًا ذلك بأنه لو صح لاشتهر عن جميع الصحابة5.   1 صحيح مسلم بشرح النووي "1/ 71". 2 تذكرة الحفاظ للذهبي "1/ 82". 3 كشف الأسرار "2/ 298"، أصول السرخسي "1/ 340". 4 الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة "ص118". 5 راجع ذلك مفصلًا في رسالة الماجستير: إبراهيم النخعي - كلية دار العلوم - القاهرة "ص306- 312" أ. د. محمد عبد الهادي سراج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وكذا الشعبي سمع رجلًا يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله خلق صورين، له في كل صور نفختان: نفخة الصعق ونفخة القيامة، فرده لمعارضته القرآن، وقال لراويه: يا شيخ، اتقِ الله، ولا تُحدِّثنَّ بالخطأ، إن الله تعالى لم يخلق إلا صورًا واحدًا، وإنما هي نفختان: نفخة الصعق ونفخة القيامة، انطلاقًا من قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] 1.   1 تحذير الخواص للسيوطي "ص153". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الفصل الرابع: أشهر الصحف والكتابات في القرن الثاني الهجري لقد حَرَصَ التابعون على ملازمة الصحابة وحفظ مروياتهم وتدوينها، ولقد سجلت أمهات الكتب أن علماء التابعين دوَّنوا ثروة هائلة من الحديث الشريف، وكانت لديهم كتب وصحف ونسخ شهيرة دوَّنوا فيها هذه الأحاديث، وقد حفظ لنا التاريخ بعض صحائفهم وكتبهم التي دوَّنوها عن الصحابة، والتي منها ما يأتي: - كُتُب أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي "ت104هـ، وقيل بعدها" التي كتبها عن: سمرة بن جندب، وأنس بن مالك، وثابت بن الضحاك، وعمرو بن سلمة وغيرهم1. - صحفية حُجْر بن عدي "51هـ" عن السيدة عائشة وعلي بن أبي طالب وغيرهما2. - كتاب محمد بن عمرو بن حزم "63هـ" عن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص ووالده عمرو بن حزم والي نجران من قِبَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم3. - صحيفة محمد ابن الحنفية "73هـ" عن جابر بن عبد الله وغيره4.   1 راجع: جامع بيان العلم "1/ 34، 72، 251"، تقييد العلم "103"، طبقات ابن سعد "7/ 1/ 91، 133 - 135" و "7/ 2/ 17"، سنن الدارمي "1/ 45، 136، 253"، و"2/ 223، 236، 311، 409، 434"، الجرح والتعديل "2/2 / 57- 58"، تذكرة الحفاظ "1/ 82"، "1/ 94- 95"، حلية الأولياء "2/ 282- 289"، "5/ 355، 356"، الكفاية للخطيب البغدادي "392، 376، 503". 2 راجع: طبقات ابن سعد "6/ 152 - 154". 3 راجع: تهذيب الأسماء واللغات للنووي "1/ 1/ 89"، وانظر: دلائل التوثيق المبكر للسُّنة والحديث للدكتور امتياز أحمد عميد كلية المعارف الإسلامية بجامعة كراتشي "ص438" ومصادره. 4 راجع: طبقات ابن سعد "5/ 77"، "6/ 233"، تهذيب التهذيب "6/ 94" الجرح والتعديل "1/ 71" في المقدمة، وفي "3/ 1/ 26". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 - كتاب بشير بن نهيك "80هـ" عن أبي هريرة1. - صحيفة سعيد بن جبير "95هـ" عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما، ويقال: إنه جمع تفسيرًا للقرآن بأمر من الخليفة عبد الملك، واحتفظ بهذا التفسير في مكتبة القصر بعد موته2. - نسخة شهر من حوشب الأشعري "100هـ" عن أبي هريرة وعائشة وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وغيرهم3. - نسخة حبان بن جزء السلمي "100هـ" عن ابن عمر وأبي هريرة4. - نسخة عقبة بن أبي الحسناء عن أبي هريرة5. كتاب خالد بن معدان الكلاعي "103هـ" يتضمن مجموعة ضخمة من الأحاديث جمعها من الصحابة وجعلها في كتاب مجلد بلوحين من الخشب وملتحمين معًا. وورثها تلميذه بشير بن سعد6. - صحيفة الحسن البصري "110هـ" قال عفان بن مسلم: "إنها كانت في حجم إبهامين وبنصرين إذا ضممناهما معًا"، وكانت له كتب عديدة غير هذه الصحيفة الشهيرة عند المحدثين7.   1 راجع: تقييد العلم "101"، وتهذيب التهذيب "1/ 470"، سنن الدارمي "1/ 127"، جامع بيان العلم "1/ 72"، طبقات ابن سعد "1/ 162". 2 راجع: طبقات ابن سعد "6/ 21، 179، 186"، تقييد العلم "43، 44، 102، 103"، ميزان الاعتدال "3/ 7" رقم "5638"، الجرح والتعديل "3/ 1/ 332"، سنن الدارمي "1/ 128"، جامع بيان العلم "1/ 66". 3 راجع: تهذيب التهذيب "4/ 369"، 11/ 37"، تاريخ بغداد "11/ 59"، الجرح والتعديل "3/ 1/ 9". 4 راجع: تهذيب التهذيب "2/ 171"، الجرح والتعديل "1/ 2/ 268". 5 مجموعة أحاديث عقبة بن أبي الحسناء التي نقلها عن أبي هريرة عرفت باسم النسخة، وكانت نسخة منها عند الحافظ الذهبي. انظر: ميزان الاعتدال "7/ 85" ترجمة رقم "5685". 6 راجع: تذكرة الحفاظ "1/ 87، 166"، الجرح والتعديل "1/ 1/ 412"، و"1/ 2/ 351"، حلية الأولياء "5/ 218"، تهذيب التهذيب "3/ 119". 7 راجع: جامع بيان العلم "1/ 74، 75"، طبقات ابن سعد "7/ 1/ 115، 116، 127"، "7/ 2/ 17"، "7/ 2/ 35"، الكفاية "349"، "506"، تقييد العلم "101"، تهذيب التهذيب "2/ 267 - 269"، تاريخ بغداد "8/ 138"، تاريخ الطبري "3/ 2488 - 2493". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 - نسخة قاسم بن عبد الرحمن الشامي، وقد نقلها تلميذه علي بن يزيد1. - نسخة عبد الله بن بريدة الأسلمي "115هـ" أخذها عن والده وغيره من الصحابة2. - نسخة سليمان بن موسى الأسدي "115هـ" عن واثلة بن الأسقع3. - صحيفة طلحة بن نافع "117هـ" عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهما4. - نسخة محمد بن سيرين، وقد نقلها عنه الأوزاعي5. - صحيفة عطاء بن أبي رباح "117هـ"، عن عدد من مشاهير الصحابة6. - صحيفة محمد بن شهاب الزهري "124هـ" وعدد من الكتب في المغازي والحديث والأنساب، وبسبب اهتمام الزهري وتلاميذه بكتابة الحديث وإملائه عُرفوا باسم: "أصحاب الكتب"، وسُميت فترته باسم "عصر الكتب"، وقد ذكرت المصادر للزهري نحو عشرة كتب7. - صحيفة همام بن منبه "131هـ" عن شيخه أبي هريرة -رضي الله عنه- ونقلها تليمذه معمر بن راشد، وحفظها عبد الرزاق بن همام منفصلة عن مصنفه الكبير،   1 تهذيب الأسماء واللغات "1/ 2/ 54"، تهذيب التهذيب "7/ 369". 2 راجع: تهذيب التهذيب "6/ 158"، مشاهير علماء الأمصار "ص179" رقم "1415". 3 راجع: تذكرة الحفاظ "4/ 226"، ميزان الاعتدال "2/ 225" رقم "3518"، مشاهير علماء الأمصار "ص179" رقم "1415". 4 راجع: ميزان الاعتدال "2/ 342" رقم "4012"، تهذيب التهذيب "4/ 224"، "5/ 26"، الجرح والتعديل "2/ 1/ 475". 5 تهذيب التهذيب "6/ 240". 6 راجع: تهذيب الأسماء واللغات "1/ 1/ 333"، تهذيب التهذيب "3/ 329"، الجرح والتعديل "1/ 130" في المقدمة، وانظر: صحيح البخاري "2/ 43" كتاب البيوع، و"3/ 240" كتاب تفسير القرآن. 7 راجع: الجرح والتعديل "3/ 1/ 38، 39"، تهذيب التهذيب "10/ 362"، تذكرة الحفاظ "1/ 97، 105"، تاريخ الإسلام "5/ 143"، تاريخ الطبري "2/ 428- 1269"، جامع بيان العلم "1/ 73"، الكفاية "387، 388"، تاريخ ابن عساكر "2/ 438"، "6/ 379"، وانظر: دلائل التوثيق المبكر للسُّنة للدكتور امتياز أحمد "ص480- 495". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ثم أخذها تلميذاه: أحمد بن حنبل وأبو الحسن أحمد بن يوسف السلمي1. - صحيفة هشام بن عروة بن الزبير "146هـ" عن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو وغيرهما2. - وصحيفة حميد بن أبي حميد الطويل "142هـ"، نسخها من مخطوطة الأحاديث للحسن البصري3. وأكتفي بما ذكرت من كتب وصحف ونسخ دوَّنَها التابعون عن الصحابة -رضي الله عنهم- وأما ما رُوي عن بعض التابعين من كراهة الكتابة، فقد علله بعض أهل العلم المعاصرين بأن المقصود بها كراهة كتابة الرأي، والأخبار التي وردت في النهي دون تخصيص تحمل على ذلك. قيل لجابر بن زيد "ت93هـ": إنهم يكتبون رأيك. فقال مستنكرًا: "يكتبون ما عسى أن أرجع عنه غدًا! ". ولقد كانت الخشية من اندراس السُّنَّة وموت علمائها السبب الرئيسي الذي دفع عمر بن عبد العزيز "ت101هـ" إلى تدوينها رسميًّا، فروى البخاري أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لايعلم؛ فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا4، وقال الزهري: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطانه دفترًا"، وكان الزهري أول مَن حقق رغبته واستجاب لدعوته5.   1 وقد طبعت هذه الصحيفة أكثر من طبعة؛ منها: طبعة دمشق "1372هـ-1953م" وأخرى بتحقيق أ. د. رفعت فوزي عبد المطلب - الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة، وقد حفظها عبد الرزاق بن همام الصنعاني "211هـ" منفصلة عن مصنفه المعروف. راجع: الكفاية "321"، وراجع: مسند الإمام أحمد "2/ 312- 318"، طبقات ابن سعد "5/ 359"، تهذيب التهذيب "11/ 67". 2 راجع: الكفاية "350، 359، 390، 459"، طبقات ابن سعد "5/ 362"، جامع بيان العلم "1/ 77". 3 راجع: طبقات ابن سعد "7/ 1/ 126"، "2/ 20"، تقييد العلم "101"، تهذيب التهذيب "3/ 39"، ميزان الاعتدال "610/ 1" رقم "2320". 4 صحيح البخاري "3" كتاب العلم في ترجمة الباب "34" كيف يقبض العلم. 5 راجع: جامع بيان العلم "1/ 76"، فتح المغيث للحافظ ولي الدين العراقي "239"، الأموال لأبي عبيد "ص578 - 580". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الفصل الخامس: ضوابط الرواية عند التابعين وضع التابعون ضوابط وأسسًا لضمان صحة النقل وتجنب التحريف والتبديل، وفي سبيل أن يكون تدوينهم عن الصحابة تدوينًا أمينًا لا يعتريه الشك أو الخطأ أو التحريف التزموا بهذه الضوابط والأسس الهامة، والتي منها ما يأتي: 1- التثبت في السماع والأداء: قال أبو العالية التابعي الكبير: كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم نرضَ حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم. وقال غيره: إني كنت لأركب إلى مصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه1. وكانوا يتركون الرواية عن غير المتثبتين حتى وإن كانوا عدولًا. قال أبو الزناد: أدركت بالمدينة مائة أو قريبًا من المائة ما يؤخذ عن أحد منهم، وهم ثقات يقال: ليس من أهله2. 2- معارضة كتبهم ومقابلتها: قال هشام بن عروة: قال لي أبي: أكتبتَ؟ قلت: نعم، قال: عارضتَ؟ قلت: لا، قال: لم تكتب. ويقول يحيى بن أبي كثير: من كتب ولم يعارض كان كمن خرج من المخرج ولم يستنج3. ومن أمثلة العرض على الشيخ: قيل لنافع مولى عبد الله بن عمر: إنهم قد كتبوا حديثك، قال: فليأتوني حتى أقيمه لهم4.   1 سنن الدارمي "1/ 140". 2 المحدث الفاضل "ص407". 3 المحدث الفاصل "ص44". 4 أدب الإملاء والاستملاء، للسمعاني "ص78" طبع ليدن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 3- حفظ كتبهم وصحائفهم في أماكن أمينة: مع معاودة النظر فيها ومراجعتها من حين لآخر: فحفظ الحسن بن علي صحيفة أبيه في صومعة لا يخرجها منها إلا عند الحاجة إليها1. وكان خالد بن معدان يتخذ لكتابه عرًى وأزرارًا حفظًا له2. وكان قد لقي سبعين صحابيًّا. وكان قتادة يحفظ صحيفة جابر بن عبد الله حفظًا جيدًا3، وقال الحسن البصري: إن لنا كتبًا نتعاهدها4. 4- ومن الضوابط: أنهم كانوا لا يجيزون القراءة في كتاب يجدونه إلا إذا راجعوا هذا الكتاب بالسماع أو القراءة على الشيخ تجنبًا للتحريف، قيل لابن سيرين: ما تقول في رجل يجد الكتاب يقرؤه أو ينظر فيه؟ قال: لا حتى يسمعه من ثقة5. فعرف عنهم الاهتمام بما يُسمى بالسماع أو العرض. وأما طريق الوجادة فلم يكونوا يعتمدون عليها كثيرًا.   1 العلل ومعرفة الرجال "1/ 104". 2 تذكرة الحفاظ "1/ 93". 3 الطبقات الكبرى "7/ 2/ 2". 4 تقييد العلم "ص100"، كتابة العلم "ص125". 5 الكفاية "ص53". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الفصل السادس: التصنيف في القرن الثاني وبداية الثالث الهجريين خطا التأليف والتصنيف خطوة أخرى على يد أئمة عاشوا في القرن الثاني وقليل من القرن الثالث، فقد رأى بعض هؤلاء أن يجمعوا الأحاديث التي رواها كل صحابي في موضوع واحد، فألفوا المسانيد، كما ألفوا في الرواة، وفي علل الحديث. أولًا: التأليف في المسانيد: ممن ألف في ذلك أبو داود الطيالسي "133 - 204هـ" وأسد بن موسى "ت212هـ"، وعبيد الله بن موسى "ت213هـ"، ومسدد البصري "ت228هـ"، ونعيم بن حماد "ت128هـ"، وأحمد بن حنبل "164- 241هـ"، وإسحاق بن راهويه "161- 238هـ"، وعثمان بن أبي شيبة "156 - 239هـ". واقتصرت هذه المسانيد على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون أقوال الصحابة والتابعين، وجمعت الحديث الصحيح والضعيف، ويصعب على القارئ التمييز بين هذه الأحاديث إلا إذا كان مؤهلًا لذلك خبرة ودراية1. وقد كان ذلك مع الاستمرار في المصنفات المرتبة على الموضوعات والتي جمعت الحديث المرفوع وآثار الصحابة والتابعين مثل: مصنف عبد الرزاق الصنعاني "126- 211هـ"، ومصنف عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي "ت235هـ". ثانيًا: التأليف في الرواة تبع التدوين الشامل للأحاديث أو تعاصر معه التأليف في رواة الأحاديث وبيان شيوخهم الذين رووا عنهم وتلاميذهم الذين أخذوا منهم، وبيان أسمائهم   1 راجع: السُّنَّة قبل التدوين "ص339"، المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص59". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وكناهم وألقابهم وأنسابهم وموطنهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم، وبيان ما فيهم من جرح وتعديل. وممن ألف في ذلك في هذه الفترة: يحيى بن معين "158- 237هـ" ألف "تاريخ الرواة" رتبه على حروف المعجم، وخليفة بن خياط الشيباني "ت240هـ" ألف "التاريخ" في عشرة أجزاء، و"طبقات الرواة" ومحمد بن سعد كاتب الواقدي "168- 230هـ" ألف كتابه "الطبقات"، وترجم فيه للصحابة على طبقاتهم فالتابعين، فمن بعده إلى وقته، والإمام أحمد بن حنبل "168- 241هـ" ألف "التاريخ" و"لكنى" و"الجرح والتعديل"، وعلي بن المديني "161 - 234هـ" ألف "الأسامي والكنى"، و"معرفة من نزل من الصحابة على سائر البلدان"1. ثالثًا: التأليف في علل الحديث ألفت في تلك الفترة مؤلفات تكشف الخلل الخفي في الإسناد أو المتن، وتميز الحديث الصحيح من غيره، وممن ألف في العلل: الإمام يحيى بن سعيد القطان "ت198هـ" ألف كتاب "العلل"، والإمام يحيى بن معين "158- 237هـ" ألف "التاريخ والعلل" ذكر فيه بعض الرواة وبعض رواياتهم وبيَّن عللها، وعلي بن المديني "161- 234هـ" ألف "العلل"، والإمام أحمد بن حنبل "168- 241هـ" ألف "علل الحديث ومعرفة الرجال". وقد جاءت هذه المؤلفات بغير ترتيب لا على المسانيد ولا على الأبواب2. رابعًا: التأليف في الموطآت ممن ألف في الموطآت: أ- الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي،   1 راجع: السُّنة قبل التدوين "ص261 - 276"، المدخل إلى توثيق السُّنة "ص60". 2 راجع: نشأة علوم الحديث ومصطلحه "ص223، 224"، المدخل إلى توثيق السُّنة "ص61". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أبو عبد الله المدني الفقيه، إمام دار الهجرة، ورأس المتقين، وكبير المحدثين "93 - 179هـ". وقد مكث الإمام مالك في تأليف كتابه "الموطأ" أربعين سنة كاملة ينقحه ويهذبه، ورتبه على الأبواب الفقهية، ومن عادته أنه يذكر عقب عنوان الباب الحديث المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ما ورد فيه من الآثار عن الصحابة والتابعين، وخاصة من أهل المدينة؛ لأنه لم يرحل عنها، وأحيانًا يذكر ما عليه العمل، أو المجمع عليه في المدينة، وقد يتبع الحديث أحيانًا بتفسير كلمة لغويًّا أو بعض الجمل. فالموطأ خلاصة لجهود هذا الإمام المحدِّث الكبير خلال أربعين عامًا، فكان متقنًا في بابه، وكان -رحمه الله تعالى- يتحرى في المتون وينتقي في الأسانيد، وقد بيَّن العلماء -سلفًا وخلفًا- أن أحاديث الموطأ كلها صحيحة، وأن أسانيده وردت متصلة جميعًا، فلا يوجد في الموطأ حديث مرسل ولا منقطع إلا وقد اتصل سنده من طرق أخرى، كما قرر العلماء، ومنهم أبو عمر بن عبد البر في كتابه "التقصي في مسند حديث الموطأ ومرسله". وقديمًا قال الإمام الشافعي: "ما على الأرض كتاب هو أقرب إلى القرآن من كتاب مالك"، وفي رواية: "ما بعد كتاب الله أكثر صوابًا من موطأ مالك"، وفي رواية: "ما بعد كتاب الله أنفع من الموطأ"، وفي رواية: "ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك". ب- عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، مولاهم، أبو محمد، المصري، الفقيه، الحافظ، العابد "125- 197هـ"، وكتابه "الموطأ" أشار إليه غير واحد من الأئمة والحفاظ منهم ابن حجر العسقلاني في "التلخيص الحبير"، والزيلعي في "نصب الراية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ولم يطبع "موطأ" عبد الله بن وهب كاملًا إلى الآن1. ولم يلتزم ابن وهب في هذا المصنف برواية الأحاديث الصحيحة والمرفوعة؛ وإنما جمع فيه الصحيح والحسن، والضعيف، والمرفوع، والمرسل، والموقوف، والمقطوع.   1 وقد شرفت بتحقيق جزء منه بالاشتراك مع فضيلة الدكتور/ رفعت فوزي عبد المطلب، طبع ونشر دار الوفاء بالقاهرة، وموطأ ابن وهب مرتب على الأبواب الفقهية، مثل موطأ الإمام مالك، وقد بلغ عدد الروايات في هذه القطعة من موطأ ابن وهب "526" خمسمائة وستًّا وعشرين رواية. كما طبع جزء آخر منه بتحقيق الدكتور مصطفى حسن حسين محمد أبو الخير بجامعة الأزهر "رسالة الدكتوراه له". وجاء في مجلدين واشتمل على "717" حديثًا، منه الصحيح، ومنه الحسن، ومنه الضعيف "دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع بالمملكة العربية السعودية" الطبعة الأولى "1416هـ-1996م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الفصل السابع: الأئمة الأربعة، وأثرهم في الحديث وعلومه مدخل ... الفصل السابع: الأئمة الأربعة وأثرهم في الحديث وعلومه لقد امتن الله تعالى على هذه الأئمة بأئمة قيضهم لحفظ دينه، ومكنهم من معرفة كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وجندهم لخدمة الإسلام والمسلمين، فألهمهم حفظ القرآن الكريم ومعرفة علومه، وأعانهم على حفظ الحديث الشريف ومعرفة طرقه وعلومه، فبلغوا في ذلك درجة تدعو إلى الدهشة والإعجاب، فكانوا مصابيح الهدى لغيرهم في الاجتهاد والفتوى والتبصير بأمور الدين والدنيا معًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقد شهد لهم المتخصصون من معاصريهم ولاحقيهم بالإمامة في الفقه والحديث، وأقروا لهم بالفضل والتقوى والورع، وهي شهادات تدل بوضوح على دور هؤلاء الأئمة في خدمة الحديث الشريف وعلومه، فلا يغرنك إرجاف المرجفين وزعم الزاعمين. النعمان بن ثابت التتيمي أبو حنيفة الكوفي "80- 150هـ"1 إمام الأئمة، سراج الأمة، ذو مناقب جمة، اعترف بجلالته أجلة العلماء الأعلام، أثنوا عليه بسَعَة العلم ودقة الفهم. قال التهانوي: "وإمامنا الأعظم قد ثبتت رؤيته لبعض الصحابة، واختلف في روايته عنهم. قال الإمام علي القاري: والمعتمد ثبوتها، وقد صرح برؤيته لأنس وكونه تابعيًّا على المختار جمع عظيم من المحدثين وأهل   1 رجع ترجمته في تهذيب الكمال "29/ 417- 445"، طبقات ابن سعد "6/ 368"، "7/ 322"، تاريخ الدوري "2/ 607"، طبقات خليفة "ص167- 327"، التاريخ الصغير "2/ 100، 43، 230"، المحلى لابن حزم "2/ 141"، "8/ 272"، سير أعلام النبلاء "6/ 390- 403"، تاريخ الإسلام "6/ 135"، الكاشف "3/ رقم 5943"، تذكرة الحفاظ "1/ 168"، تهذيب التهذيب "10/ 449 - 452"، التقريب "2/ 303"، شذرات الذهب "1/ 227 - 229"، الجواهر المضيئة "1/ 168"، النجوم الزاهرة "2/ 12"، مرآة الجنان "1/ 309"، البداية والنهاية "10/ 107"، وفيات الأعيان "5/ 415- 423"، الكامل في التاريخ "5/ 459، 585"، تاريخ بغداد "13/ 323، 324" الجرح والتعديل "8/ 449 - 450" رقم "2062"، التاريخ الكبير "8/ 81" رقم "2253". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 العلم بالأخبار"، وذكر منهم: ابن سعد، والذهبي، وابن حجر، والعراقي، والسيوطي، والمزي، والخطيب البغدادي، وابن الجوزي، وابن عبد البر، والسمعاني، والنووي، وعبد الغني المقدسي، والجزري، والقسطلاني، والعيني، وغيرهم من الأئمة والحفاظ1، فهو تابعي مندرج في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} [التوبة: 100] . وقال عبد الرزاق بن همام: ما رأيت أحدًا قط أحلم من أبي حنيفة، لقد رأيته في المسجد الحرام والناس يتحلقون حوله إذ سأله رجل عن مسألة، فأفتاه بها، فقال له رجل: قال فيها الحسن كذا وكذا، وقال فيها عبد الله بن مسعود كذا، فقال أبو حنيفة: أخطأ أبو الحسن وأصاب عبد الله بن مسعود، فصاحوا به. قال عبد الرزاق فنظرت في المسألة، فإذا قول ابن مسعود فيها كما قال أبو حنيفة، وتابعه أصحاب عبد الله بن مسعود2. وسأل رجل سفيان الثوري عن مسألة في الحج فقال له الرجل: إن أبا حنيفة قال فيها كذا، فقال سفيان: هو كما قال أبو حنيفة، ومَن يقول غير هذا! ولم يكن سفيان الثوري ممن يداهن أو يجامل على حساب الفقه والدين3. وقد قال عبد الله بن المبارك: ما رأيت أحدًا أتقى لله من سفيان الثوري، ولا رأيت أحدًا أعقل من أبي حنيفة4. وكان ابن المبارك يذكر عن أبي حنيفة كل خير ويزكيه ويقرظه ويثني عليه5.   1 قواعد في علوم الحديث "ص306". 2 الانتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء: مالك والشافعي وأبي حنيفة، لابن عبد البر "ص135" طبع مطبعة المعاهد بمصر - الناشر مكتبة القدسي. 3 المصدر السابق "ص127، 128". 4 المصدر السابق "ص131". 5 المصدر السابق "ص131". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: مَن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة1. وروى ابن عبد البر بسنده عن الحسن بن صالح بن حي قال: كان النعمان بن ثابت فهمًا عالمًا متثبتًا في علمه إذا صح عنده الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعده إلى غيره2. وقد بلغ في الفقه والعلم والحفظ درجة تدعو إلى الدهشة والإعجاب حتى قال ابن شبرمة: عجزت النساء أن تلد مثل النعمان3. وقد كان مع هذا الفقه الكثير والعلم الغزير يحيي الليل ويقومه4. وقال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول: ما رأيت مثل وكيع، وكان يفتي برأي أبي حنيفة5. وقد نال من الثناء والتقدير ما لم ينله كثيرون من الأئمة أهل الفقه والعلم، ولما كان له الفضل في كثير من العلم والفقه نال منه حاسدوه والحاقدون عليه. وقال حاتم بن آدم: قلت للفضل بن موسى السيناني: ما تقول في هؤلاء الذين يقعون في أبي حنيفة؟ قال: إن أبا حنيفة جاءهم بما يعقلونه، وبما لا يعقلونه من العلم، ولم يترك لهم شيئًا فحسدوه6. وقال عيسى بن يونس: لا تتكلمن في أبي حنيفة بسوء، ولا تصدقن أحدًا يسيء فيه القول، فإني والله ما رأيت أفضل منه، ولا أورع منه، ولا أفقه منه7.   1 المصدر السابق "ص136". 2 المصدر السابق "ص128". 3 المصدر السابق "ص131". 4 المصدر السابق "ص125". 5 المصدر السابق "ص136". 6 المصدر السابق "ص136". 7 المصدر السابق "ص137". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وقال الحكم بن هشام: كان أبو حنيفة لا يرد حديثًا ثبت عنده عن رسول الله، وكان من أعظم الناس أمانة، وأراده السلطان على أن يوليه مفاتيح خزانته فأبَى واختار ضربهم وحبسهم على عذاب الله. فقال له رجل: والله ما رأيت أحدًا وصفه بما وصفته، فقال: هو والله ما قلت لك1. وقال إبراهيم بن عبد الله الخلال: "سمعت عبد الله بن المبارك يقول -وذُكر عنده أبو حنيفة فقال: أتذكرون رجلًا عُرضت عليه الدنيا بحذافيرها ففر منها!! 2 وقد أراده أبو جعفر ليوليه القضاء، فأبَى، فأمر به إلى السجن، فمات في السجن، ودفن في مقابر الخيزران رحمة الله عليه3. وقال روح بن عبادة: كنت عند ابن جريج سنة خمس ومائة، فقيل له: مات أبو حنيفة، فقال: رحمه الله قد ذهب معه علم كثير4. وكان شعبة بن الحجاج حسن الرأي في أبي حنيفة، ولما قيل له: مات أبو حنيفة، قال شعبة: لقد ذهب معه فقه الكوفة تفضل الله علينا وعليه برحمته5. شروط أبي حنيفة في قبول خبر الواحد: 1- ألا يخالف السُّنة المشهورة سواء كانت فعلية أم قولية. 2- ألا يخالف المتوارث بين الصحابة والتابعين في أي بلد. 3- ألا يخالف عموم الكتاب أو ظاهره؛ لأن الكتاب قطعي فيقدم على الظني.   1 المصدر السابق "ص169، 170". 2 المصدر السابق "ص168". 3 المصدر السابق "ص171" بتصرف. 4 المصدر السابق "ص135". 5 المصدر السابق "ص126، 127". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 4- أن يكون راوي الخبر فقيهًا إذا خالف الحديث قياسًا جليًّا؛ لأن غير الفقيه تحتمل روايته على المعنى، فيكون قد أخطأ فيها. 5- ألا يكون فيما تعم به البلوى، ومنه الحدود والكفارات التي تُدرأ بالشبهات؛ لأن العادة قاضية بأن يسمعه الكثير غير الواحد، فلا بد بذلك أن يشتهر وتتلقاه الأمة بالقبول. 6- ألا يسبق طعن أحد من السلف فيه، وألا يترك أحد المختلفين من الصحابة الاحتجاج بالخبر الذي رواه. 7- ألا يعمل الراوي بخلاف خبره؛ كحديث أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا، فإنه مخالف لفتوى أبي هريرة؛ لذلك ترك أبو حنيفة العمل به. 8- ألا يكون الراوي منفردًا بزيادة المتن أو السند، إلا إذا كان هذا الراوي ثقة؛ لأن العمل برواية الثقات أحوط في دين الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي 1: هو: أبو عبد الله، المدني، الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها: مالك، عن نافع، عن ابن عمر، من السابعة، مات سنة تسع وسبعين ومائة "179هـ"، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة. وهبه الله تعالى علمًا وفقهًا، وامتن عليه كثرة الحفظ وسيلان الذهن، وأسبغ عليه جزيل نعمه، حتى بلغ إمام الأئمة وشيخ الإسلام وحجة الأمة، وإمام دار الهجرة، ضرب له العلماء أكباد الإبل من كل حَدَب وصوب؛ لينهلوا من فقهه وعلمه، ونال تقدير الأئمة والعلماء المعاصرين له واللاحقين به، وأثنوا عليه ثناء لم يحظَ به غيره. روى الحميدي عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة". قال ابن عبد البر معلقًا على هذا الحديث: "وهذا الحديث لا يرويه أحد   1 راجع ترجمته في: سير أعلام النبلاء "8/ 48 - 135"، تهذيب الكمال "27/ 91- 120"، تاريخ خليفة بن خياط "1/ 432"، "2/ 719"، طبقات خليفة "ص275"، الحلية "6/ 316"، أنساب العرب لابن حزم "1/ 435، 436"، الانتقاء لابن عبد البر "ص9 - 36"، ترتيب المدارك "1/ 102- 254"، تذكرة الحفاظ لابن عبد الهادي "49/ 2"، صفة الصفوة "2/ 177- 180"، تهذيب الأسماء واللغات "2/ 75- 79"، وفيات الأعيان "4/ 135 - 139"، تذكرة الحفاظ "1/ 207- 213"، العبر للذهبي "1/ 272"، مرآة الجنان لليافعي "1/ 373- 377"، البداية والنهاية "10/ 174- 175"، الديباج المذهب "1/ 55- 139"، تهذيب التهذيب "10/ 5"، النجوم الزاهرة "2/ 96- 97"، التاريخ الكبير "7/ 310"، التاريخ الصغير "2/ 220"، الطبقات الكبرى للشعراني "ص45"، شذرات الذهب "2/ 12- 15"، الكاشف "3/ 112"، تاريخ ابن معين "2/ 543- 546"، الأنساب "1/ 287"، اللباب "1/ 69"، مروج الذهب "3/ 350"، طبقات الحفاظ "ص89"، طبقات القراء "2/ 35"، الكامل لابن الأثير "5/ 532"، "6/ 50، 147، 226، 234، 436"، "9/ 257"، "11/ 292"، ثقات ابن حبان "7/ 459"، رجال البخاري للباجي "2/ 696"، الجمع بين رجال الصحيحين "2/ 480". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 بهذا الإسناد وهم أئمة كلهم: سفيان بن عيينة إمام، وابن جريج مثله وأجل منه، وأبو الزبير حافظ متقن، وإن كان بعض الناس تكلم فيه، وأبو صالح السمان أحد ثقات التابعين"1. وروى ابن عبد البر بسنده عن سفيان بن عيينة أنه قال: نرى هذا الحديث الذي يروى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه مالك بن أنس. وفي رواية قال: أراه مالكًا، وأقام سفيان على ذلك زمانًا ثم رجع عنه بعد ذلك فقال: أراه عبد الله بن عبد العزيز العمري العابد، قال ابن عبد البر: ليس العمري هذا ممن يلحق في العلم والفقه بمالك بن أنس، وإن كان عابدًا شريفًا2. وقال علي بن المديني: قال سفيان بن عيينة: رحم الله مالكًا ما كان أشد انتقاءه للرجال3. وروى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن معين يقول: قال سفيان بن عيينة: وما نحن عند مالك بن أنس؟ إنما كنا نتتبع آثار مالك وننظر الشيخ إذا كان كتب عن مالك كتبنا عنه4. وروى ابن عبد البر عن سفيان بن عيينة أنه ذكر مالك بن أنس -رضي الله عنه- فقال: كان لا يبلغ من الحديث إلا صحيحًا ولا يحدث إلا عن ثقات الناس وما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موت مالك بن أنس5. وروى ابن عبد البر بسنده عن الشافعي قوله: إذا جاء الحديث عن مالك فشُدَّ به يديك.   1 الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، لابن عبد البر "ص19" طبع مطبعة المعاهد بمصر - الناشر مكتبة القدسي. 2 المصدر السابق "ص19، 21". 3 المصدر السابق "ص21". 4 المصدر السابق "ص21، 22". 5 المصدر السابق "ص21، 22". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وقوله: إذا جاءك الخبر فمالك النجم. وقوله: إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمن عليَّ من مالك بن أنس. وقوله: مالك بن أنس معلمي، وعنه أخذت العلم. وقوله: كان مالك بن أنس إذا شك في الحديث طرحه كله1. وروى ابن عبد البر بسنده عن علي بن المديني، عن عبد الرحمن بن مهدي يقول: أخبرني وهيب بن خالد، وكان من أبصر الناس بالحديث والرجال، أنه قدم المدينة قال: فلم أرَ أحدًا إلا يعرف وينكر إلا مالكًا ويحيى بن سعيد الأنصاري. قال عبد الرحمن بن مهدي: لا أقدم على مالك في صحة الحديث أحدًا2. وروى ابن عبد البر بسنده عن علي بن المديني قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما في القوم أصح حديثًا من مالك -يعني بالقوم: الثوري والأوزاعي وابن عيينة- قال: ومالك أحب إلَيَّ من معمر3. وقال يحيى بن سعيد: سفيان وشعبة ليس لهما ثالث إلا مالك3. وبنفس الإسناد عن يحيى بن سعيد القطان قال: "كان مالك بن أنس إمامًا في الحديث"3. وروى ابن عبد البر بسنده عن عبد الله بن وهب قال: لولا أني أدركت مالكًا والليث بن سعد لضللتُ، وفي رواية قال أبو جعفر الأيلي: سمعت ابن وهب ما لا أحصي يقول: لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت. وفي رواية قال هارون بن سعيد الأيلي: سمعتُ ابن وهب -وذكر اختلاف الأحاديث والروايات- فقال: لولا أن لقيتُ مالكًا لضللت4.   1 راجع هذه الروايات بأسانيدها في الانتقاء "ص23". 2 المصدر السابق "ص25". 3 المصدر السابق "ص26". 4 المصدر السابق "ص27، 28". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وقال عبد الرحمن بن مهدي: أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة1. وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما رأيت أحدًا أعقل من مالك بن أنس رضي الله عنه وأرضاه2. وسأل أبو زرعة الدمشقي الإمام أحمد بن حنبل عن سفيان ومالك إذا اختلفا في الرواية، فقال: مالك أكبر في قلبي، فقال له: فمالك والأوزاعي إذا اختلفا، فقال: مالك أحب إلَيَّ وإن كان الأوزاعي من الأئمة3. وأول ما حفظ أبو زرعة الرازي حفظ حديث مالك، ووعاه كله وكذا رأي4. وقال ابن أبي مريم: قلت ليحيى بن معين: الليث أرفع عندك أو مالك؟ قال: مالك. قلت: أليس مالك أعلى أصحاب الزهري؟ قال: نعم، قلت: فعبيد الله أثبت في نافع أو مالك؟ قال: مالك أثبت الناس. وقال يحيى بن معين: كان مالك من حجج الله على خلقه5. وروى ابن عبد البر بسنده عن البخاري قوله: مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي، كنيته أبو عبد الله، كان إمامًا، روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري6. وروى ابن عبد البر بسنده عن أحمد بن شعيب النسائي قوله: أمناء الله -عز وجل- على علم رسوله عليه السلام: شعبة بن الحجاج، ومالك بن أنس، ويحيى بن   1 المصدر السابق "ص28". 2 المصدر السابق "ص29". 3 المصدر السابق "ص30". 4 المصدر السابق "ص32". 5 المصدر السابق "ص31". 6 المصدر السابق "ص31". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 سعيد القطان، قال: والثوري إمام إلا أنه كان يروي عن الضعفاء، قال: وما أحد عندي بعد التابعين أنبل من مالك بن أنس، ولا أحد آمن على الحديث منه، ثم شعبة في الحديث، ثم يحيى بن سعيد القطان، ليس بعد التابعين آمن على الحديث من هؤلاء الثلاثة، ولا أقل رواية عن الضعفاء منهم1. وقال أبو زرعة الرازي: أول شيء أخذ نفسي بحفظه من الحديث حديث مالك، فلما حفظته ووعيته طلبت حديث الثوري وشعبة وغيرهما، فلما تناهيت في حفظ الحديث نظرت في رأي مالك والثوري والأوزاعي وكتبت كتب الشافعي2. وقال أبو داود السجستاني: رحم الله مالكًا كان إمامًا، رحم الله الشافعي كان إمامًا، رحم الله أبا حنيفة كان إمامًا3.   1 المصدر السابق "ص31". 2 الانتقاء لابن عبد البر "ص32". 3 المصدر السابق "ص32". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الإمام الشافعي "150-204هـ" 1: هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ... إلخ، فيجتمع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في عبد مناف. لم يظهر في علماء الإسلام مثله في فقه الكتاب والسنة، ودقة الاستنباط، وإقامة الحجة، وقوة البرهان والدليل، فكان مرجع أهل العلم في زمانه؛ حيث رحلوا إليه من كل حَدَب وصوب، ووفدوا إليه من كل فج عميق؛ لينهلوا من علمه، ويغترفوا من فقهه. وتواترت أخباره بين علماء عصره، وبلغ في الفقه والاستنباط وقوة الحجة درجة تدعو إلى الدهشة والإكبار حتى نال -بكل جدارة- لقب "ناصر السُّنَّة"، وحتى قال الإمام أحمد بن حنبل: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث. رحل إلى مالك بن أنس في المدينة ولازمه وأخذ عنه الفقه والعلم، كما رحل إلى العراق ثلاث مرات2 -حيث أبي حنيفة- فأخذ الفقه والعلم، فاجتمع له   1 راجع ترجمته في: تهذيب الكمال "24/ 355- 381"، سير أعلام النبلاء "10/ 5- 99"، التاريخ الكبير "1/ 42"، التاريخ الصغير "2/ 302"، الجرح والتعديل "7/ 201"، حلية الأولياء "9/ 63- 161"، الانتقاء "ص65- 121"، تاريخ بغداد "2/ 56- 73"، طبقات الفقهاء للشيرازي "ص48 - 50"، طبقات الحنابلة "1/ 280"، ترتيب المدارك "2/ 382"، الأنساب "7/ 251- 254"، تاريخ ابن عساكر "14/ 395 - 418"، "15/ 1- 25"، صفة الصفوة "2/ 95"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 44- 67"، وفيات الأعيان "4/ 163-169"، تذكرة الحفاظ "1/ 361-363"، الكاشف "3/ 17"، الوافي بالوفيات "2/ 171-181"، مرآة الجنان "2/ 13 - 28"، البداية والنهاية "10/ 251- 254"، الديباج المذهب "2/ 156- 161"، تهذيب التهذيب "9/ 25"، النجوم الزاهرة "2/ 176، 177"، طبقات الحفاظ "ص152"، حسن المحاضرة "1/ 303، 304"، طبقات المفسرين "2/ 98"، مفتاح السعادة 2/ 88 - 94"، طبقات الشافعية لابن هداية الله "11- 14"، شذرات الذهب "2/ 9- 11"، مناقب الشافعي للشيرازي. 2 دخل الشافعي بغداد ثلاث مرات: الأولى في شبابه سنة "184هـ"، وقيل: قبلها في خلافة هارون الرشيد، والثانية سنة "195هـ" ومكث سنتين، والثالثة سنة "198هـ" فأقام بها شهرًا ثم خرج إلى مصر؛ حيث دخلها سنة "199هـ" وأقام بها حتى مات رحمة الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، وتصرف في ذلك حتى أصَّل الأصول وقعَّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره. كان -رحمه الله تعالى- ذا فصاحة وبلاغة وبيان وحسن أدب. قال الإمام داود بن علي الظاهري: قال لي إسحاق بن راهويه: ذهبت أنا وأحمد بن حنبل إلى الشافعي بمكة فسألته عن أشياء، فوجدته فصيحًا حسن الأدب، فلما فارقناه أعلمني جماعة من أهل الفهم بالقرآن أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد أُوتي فيه فهمًا، فلو كنت عرفته للزمته. قال داود: ورأيته يتأسف على ما فاته منه. وقال يحيى بن سعيد القطان: إني لأدعو للشافعي في الصلاة وغيرها منذ أربع سنين لما أظهر من القول بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وقال الإمام أحمد بن حنبل: ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو فيها للشافعي2. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: لولا الشافعي ما عرفت كيف أرد على أحد، وبه عرفت ما عرفت، وهو الذي علمني القياس -رحمه الله- فقد كان صاحب سُنة وأثر وفضل وخير مع لسان فصيح طويل وعقل صحيح رصين3. وقال أيضًا: قال لي أبي: الزم هذا الشيخ -يعني محمد بن إدريس الشافعي- فما رأيت أبصر بأصول العلم، أو قال: أصول الفقه منه4. وقال إسحاق بن راهويه: لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال لي: تعالَ حتى أريك رجلًا لم ترَ عيناك مثله، فأراني الشافعي5.   1 الانتقاء في فضل الأئمة الثلاثة الفقهاء "ص72". 2 المصدر السابق "ص76". 3 المصدر السابق "ص73" 4 المصدر السابق "ص73". 5 المصدر السابق "ص74". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وقال إسحاق أيضًا: محمد بن إدريس الشافعي عندنا إمام1. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: يا أبة! أي رجل كان الشافعي؟ فإني أسمعك تكثر الدعاء الدعاء له، فقال: يا بني! كان الشافعي -رحمه الله- كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من عوض أو خلف؟ 2 وقال الإمام أحمد بن حنبل: ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه مِنَّة3. وقال هارون بن سعيد الأيلي الثقة الفاضل: ما رأيت مثل الشافعي قط، ولقد قدم علينا مصر فقالوا: قدم رجل من قريش فقيه، فجئناه وهو يصلي، فما رأينا أحسن وجهًا منه ولا أحسن صلاة فافتتنَّا به، فلما قضى صلاته تكلم فما رأينا أحسن منطقًا منه4. وقال هارون أيضًا: لو أن الشافعي ناظر على أن هذا العمود الذي من الحجارة من خشب لأثبت ذلك؛ لقدرته على المناظرة5. وكان إذا جاء سفيان بن عيينة شيء من التفسير والفتيا التفت إلى الشافعي وقال: سلوا هذا، ولما بلغه خبر موت الشافعي قال -أي ابن عيينة: إن مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه6. وقد ولد -رحمه الله تعالى- بغزة سنة "105هـ" ومات ليلة الجمعة، ودفن بعد عصر ذاك اليوم الموافق آخر يوم من شهر رجب "204هـ" رضي الله عنه.   1 المصدر السابق "ص77". 2 المصدر السابق "ص74، 75". 3 المصدر السابق "ص76". 4 المصدر السابق "ص87، 88". 5 المصدر السابق "ص88". 6 المصدر السابق "ص70". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي "164-241هـ" 1: خُرج به من مرو حملًا، وولد بغداد، ونشأ بها، ومات بها، وطاف البلاد في طلب العلم، ودخل الكوفة، والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام، والجزيرة، والمغرب، والجزائر، والعراق، وفارس، وخراسان، وغيرها. ومناقبه -رحمه الله تعالى- أكثر من أن تُحصى أو تستقصى، ويمكننا الوقوف على بعض هذه المناقب من خلال تأمل بعض ما جاء على ألسنة الأئمة وأهل الفضل والعلم، وما نقله الحافظ الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الإمام أحمد. قال عبد الرزاق الصنعاني: ما رأيت أحدًا أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل. وقال قتيبة بن سعد: خير أهل زماننا ابن المبارك، ثم هذا الشاب -يعني أحمد بن حنبل- وإذا رأيت رجلًا يحب أحمد، فاعلم أنه صاحب سُنة، ولو أدرك عصر الثوري والأوزاعي والليث، لكان هو المقدم عليهم. فقيل لقتيبة: يُضم أحمد إلى التابعين؟ قال: إلى كبار التابعين. وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلًا أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل. وعدَّه الشافعي من عجائب الزمن، وعلل ذلك بأنه كان صغيرًا وكلما قال شيئًا صدقه الكبار2.   1 راجع ترجمته في: تهذيب الكمال "1/ 437- 470"، سير أعلام النبلاء "11/ 177- 358"، طبقات ابن سعد "7/ 354، 355"، التاريخ الكبير "2/ 5"، التاريخ الصغير "2/ 375"، الجرح والتعديل "1/ 292- 313"، "2/ 68- 70"، حلية الأولياء "9/ 161 - 233"، تاريخ بغداد "4/ 412- 423"، طبقات الحنابلة "1/ 4- 20"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 110 - 112"، وفيات الأعيان "1/ 63- 65"، تذكرة الحفاظ "2/ 431"، العبر "1/ 435"، تذهيب التهذيب "1/ 22"، الوافي بالوفيات "6/ 363- 369"، مرآة الجنان "2/ 132"، طبقات الشافعية للسبكي "2/ 27 - 37"، البداية والنهاية "10/ 325- 343"، النجوم الزاهرة "2/ 304 - 306"، طبقات الحفاظ "ص186"، شذرات الذهب "2/ 96 - 98"، طبقات المفسرين "1/ 70"، التذكرة بمعرفة رجال الكتب العشرة "1/ 69 - 71". 2 راجع: التذكرة بمعرفة رجال الكتب العشرة "1/ 69" لأبي المحاسن محمد بن علي الحسيني "715-765هـ" الناشر مكتبة الخانجي - بتحقيق أ. د. رفعت فوزي عبد المطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وقال علي بن خَشْرم: سمعت بشر بن الحارث يقول: أنا أُسأل عن أحمد بن حنبل؟ إن أحمد أُدخل الكير فخرج ذهبًا أحمر. وقال عمرو الناقد: إذا وافقني أحمد بن حنبل على حديث، لا أبالي من خالفني. وقال محمد بن يحيى الذهلي: جعلت أحمد إمامًا فيما بيني وبين الله. وساق الحافظ ابن كثير أيضَا في "تاريخه"1 جملة من ثناء أهل العلم عليه، فقال: قال يحيى بن سعيد القطان شيخ أحمد: ما قدم عليَّ من بغداد أحد أحب إلَيَّ من أحمد بن حنبل. وقال علي بن المديني: إن الله أيد هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة2. وقال أيضًا: إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد بن حنبل، لم أبالِ إذا لقيت ربي كيف كان. وقال أيضًا: إني اتخذت أحمد حجة فيما بيني وبين الله عز وجل. وقال يحيى بن معين: كان في أحمد بن حنبل خصال ما رأيتها في عالم قط، كان محدثًا، وكان حافظًا، وكان عالمًا، وكان ورعًا، وكان زاهدًا، وكان عاقلًا. وقال أيضًا: أراد الناس أن نكون مثل أحمد بن حنبل، والله ما نقوى أن نكون مثله، ولا نطيق سلوك طريقه. وقال أبو بكر بن أبي داود: أحمد بن حنبل مُقدَّم على كل مَن يحمل بيده قلمًا ومحبرة.   1 البداية والنهاية "10/ 350". 2 التذكرة "1/ 69". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وقال أبو زرعة الرازي: ما أعرف في أصحابنا أفقه منه. ولأحمد بن حمدان الحراني في كتابه "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي"1 كلام حسن أعقبه بنقل بعض أقوال الأئمة والعلماء في الإمام أحمد ثم مؤلفات الإمام أحمد. قال أحمد بن حمدان: ولما كان من اللازم الالتزام بأهل الدين وعلماء الشريعة المبرزين، وأكابر الأئمة المتبعين المتبوعين، والمشهورين من المحققين المحقين المتدينين الورعين، والموفقين المسددين المرشدين، وكان الإمام العالم السالك الناسك الكامل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -رضي الله عنه- قد تأخر عن أئمة المذاهب المشهورة، ونظر في مذاهبهم ومذاهب من قبلهم، وأقاويلهم وسبَرَها وخبرها، وانتقدها واختار أرجحها وأصحها، ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التصوير والتأصيل والتفصيل، فتفرغ للاختيار والترجيح والتنقيح والتكميل والإشارة بين الصحيح، مع كمال آلته وبراعته في العلوم الشرعية، وترحجه على مَن سبقه لما يأتي، ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلك، كان مذهبه أولى من غيره بالاتباع والتقليد، وهذا طريق الإنصاف والسلامة من القدح في بعض الأئمة، وقد ادعى الشافعية ذلك في مذهب الشافعي أيضًا، وأنه أولى من غيره. ونحن نقول: كان الإمام أحمد أكثرهم علمًا بالأخبار، وعملًا بالآثار، واقتفاء للسلف، واكتفاء بهم دون الخلف، وهو من أجلهم قدرًا وذكرًا، وأرفعهم منزلة وشكرًا، وأسدهم طريقة وأقومهم سطرًا، وأشهرهم ديانة وصيانة وأمانة وأمرًا، وأعلمهم برًّا وبحرًا، قد اجتمع له من العلم والعمل والدين والورع والاتباع والجمع والاطلاع والرحلة والحفظ والمعرفة والشهرة بذلك كله ونحوه ما لم يجتمع مثله لإنسان، وأثنى عليه أئمة الأمصار، وأهل الأعصار وإلى الآن، واتفقوا على إمامته وفضيلته واتباعه لمن مضى بإحسان، وأنه إمام في سائر علوم الدين، مع الإكثار والإتقان، وكان أولى   1 انظر: كتاب صفة الفتوى والمفتي والمستفتي "ص74-80" لأحمد بن حمدان الحراني الحنبلي "603-695هـ" طبع المكتب الإسلامي - بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 بالاتباع، وأحرى بالبعد عن الابتداع، وقد صنف الناس في فضائله ومناقبه كتبًا كثيرة، تدل على أمانته ورجحانه على غيره؛ فلذلك ونحوه تعين الوقوف على بابه، والانتماء إليه، والاقتداء به، والاهتداء بنور صوابه، والاهتداء بهديه في وروده وإيابه، والاقتفاء لمطالبه وأسبابه، والاكتفاء بصحبة أصحابه، ولأن مذهبه من أصح المذاهب وأكمل، وأوضح المناهج وأجمل؛ لكثرة أخذه له من الكتاب والسنة، مع معرفته بهما وبأقوال الأئمة، وأحوال سلف الأمة، وتطلعه على علوم الإسلام، وتطلعه من الأدلة الشرعية والأحكام، ودينه التام وعلمه العام، والثناء عليه من أكابر العلماء وشهادتهم له بالإمامة والتقدم على أكثر القدماء، وإطنابهم في مدحه وشكره، وإسهابهم في نشر فضله وذكره، ولم يشكوا في صحة اعتقاده وانتقاده، وأن الصحة تحصل بإخباره، والنفرة بإنكاره، والعبرة باعتباره، والخبرة باختباره؛ بل يرجعون في دينهم إليه، ويعولون عليه، ويرضون بما ينسب إليه، ولو كذب عليه. فلله الحمد إذ وفقنا لاتباع مذهبه، والابتداء بتحصيله وطلبه، وللانتهاء إلى الرضاء به لصحة مطلبه. وهذا وأمثاله قليل من كثير، ونقطة من بحر غزير، والغرض الحث على اتباعه ومعرفة أتباعه في العلوم واتساع باعه رضي الله عنه، وجعلنا من أتباعه، وحشرنا في زمرة أتباعه، وقد ذكرنا جملة من مناقبه وكلام العلماء في مدحه وإمامته في كتب أخرى، ولو لم يقل فيه الناس سوى ما نذكره الآن لكان فيه أبلغ غاية وأنهى نهاية، وفي بعضه كفاية: قال الشافعي: أحمد إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في القرآن، إمام في اللغة، إمام في السُّنة، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في الفقر. وقال: خرجت من بغداد وما خلفت بها أورع ولا أتقى ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل. وقال لأحمد: أنتم أعلم منا بالحديث، فإذا كان الحديث كوفيًّا أو شاميًّا فأعلموني حتى أذهب إليه. وقال: كل مافي كتبي: حدثني الثقة ... فهو أحمد بن حنبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وقال يحيى بن معين: والله ما تحت أديم السماء أفقه من أحمد بن حنبل، ليس في شرق ولا غرب مثله. وقال إبراهيم الحربي: رأيت أحمد كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف، يقول ما شاء ويدع ما شاء، وعد الأئمة وقال: كان أحمد أفقه القوم. وقال أبو القاسم الختلي: كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن المسألة كأن علم الدنيا بين عينيه. وقال الخلال: كان أحمد بن حنبل إذا تكلم في الفقه تكلم بكلام رجل قد انتقد العلم فتكلم على معرفة. وقال أحمد بن سعيد: ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أحمد. وقال عبد الرزاق: ما رأيت أفقه من أحمد بن حنبل ولا أورع، وما رأيت مثله، وما قدم علينا مثله، قال أبو يعقوب: وما رحل إلى أحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما رحل إلى عبد الرزاق. وقال أبو عبيد: انتهى العلم إلى أربعة: علي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، وكان أحمد أفقههم فيه. وقال قتيبة بن سعيد: لو أدرك أحمد عصر الثوري ومالك والأوزاعي والليث ونظر إليهم لكان هو المقدَّم، وقيل: تقيس أحمد إلى التابعين؟ فقال: إلى كبار التابعين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وقال: أحمد وإسحاق إماما الدنيا. وقال أبو بكر بن داود: لم يكن في زمن أحمد مثله، وقال عبد الوهاب الوراق: كان أحمد أعلم أهل زمانه، وهو من الراسخين في العلم، وما رأيت مثله، قال: وقد أجاب عن ستين ألف مسألة بأخبرنا وحدثنا، وقال أبو ثور: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أجمع المسلمون على أحمد بن حنبل، وقال: كنت إذا رأيته خيل إليك أن الشريعة لوح بين عينيه. وقال إسحاق بن راهويه: أنا أقيس أحمد إلى كبار التابعين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وهو حجة بين الله وبين عبيده في أرضه، ولا يدرك فضله. وقال ابن مهدي: لقد كاد هذا الغلام أن يكون إمامًا في بطن أمه. وقال أبو زرعة: كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث، قيل: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب، وقال: حزرنا استشهادات أحمد في العلوم فوجدناه يحفظ سبعمائة ألف حديث فيما يتعلق بالأحكام، وقال: ما أعلم في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه، وما رأيت أكمل منه، اجتمع فيه فقه وزهد وأشياء كثيرة، وما رأيت مثله في فنون العلم والفقه والزهد والمعرفة وكل خير، وهو أحفظ مني، وما رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ منه. وقال عبد الله بن أحمد: كان أبي يذاكرني بألفي ألف حديث. وقال مهنا: ما رأيت أجمع لكل خير من أحمد، وما رأيت مثله في علمه وفقهه وزهده وورعه. وقال الهيثم بن جميل: إن عاش هذا الفتَى سيكون حجة على أهل زمانه. وقال أحمد: رحلت في طلب العلم والسُّنة إلى الثغور والشامات والسواحل والمغرب والجزائر ومكة والمدينة والحجاز واليمن والعراقين جميعًا وفارس وخراسان والجبال والأطراف، ثم عدت إلى بغداد، وقال: استفاد منا الشافعي أكثر مما استفدنا منه. وقال أبو الوفاء علي بن عقيل: قد خرج عن أحمد اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم، وخرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 منهم، وانفرد بما سلموه له من الحفظ وشاد لهم، وربما زاد على كبارهم، وله التصانيف الكثيرة؛ منها: "المسند" وهو بزيادة ابنه عبد الله أربعون ألف حديث إلا أربعين حديثًا، ومنها التفسير، وهو مائة ألف وعشرن ألفًا، وقيل: بل مائة ألف وخمسون ألفًا، ومنها الزهد، وهو نحو مائة جزء، ومنها الناسخ والمنسوخ، ومنها المقدم والمؤخر في القرآن، وجوابات أسئلة، ومنها المنسك الكبير والمنسك الصغير، والصيام والفرائض، وحديث شعبة، وفضائل الصحابة، وفضائل أبي بكر، وفضائل الحسن والحسين، والتاريخ، والأسماء والكنى، والرسالة في الصلاة، ورسائل في السُّنة والأشربة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والرد على الزنادقة والجهمية وأهل الأهواء في متشابه القرآن، وغير ذلك كثير1. ومشايخه أعيان السلف، وأئمة الخلف، وأصحابه خلق كثير، قال الشريف أبو جعفر الهاشمي: لا يحصيهم عدد، ولا يحويهم بلد، ولعلهم مائة ألف أو يزيدون، وروى الفقه عنه أكثر من مائتي نفس، أكثرهم أئمة أصحاب تصانيف، وروى عنه الحديث أكابر مشايخه؛ كعبد الرزاق، وابن عُليَّة، وابن مهدي، ووكيع، وقتيبة، ومعروف الكرخي، وابن المديني، وخلق غيرهم، وما من مسألة في الفروع والأصول إلا له فيها قول أو أكثر، نصًّا أو إيماء، وهو من ولد شيبان بن ذهل لا من ولد ذهل بن شيبان، يلتقي نسبه بنسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نزار. اهـ.   1 وقد ذكر له ابن النديم في "فهرسته" "ص285" "العلل والرجال"، وذكره العقيلي أيضًا في كتابه: "الضعفاء الكبير" "3/ 239". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الباب الثالث: منهاج المحدثين في القرن الثالث الهجري وحتى عصرنا الحاضر الفصل الأول: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري المبحث الأول: أهم المشكلات التى واجهت المحدثين في القرن الثالث الهجري ... الباب الثالث: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري الفصل الأول: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري يعتبر القرن الثالث الهجري أزهى عصور السُّنَّة وأحفلها بخدمة الحديث، ففيه ظهر أفذاذ الرجال من حفاظ الحديث وأئمة الرواية، وخبراء الجرح والتعديل، كما سعد بالتآليف الخالدة والمصنفات الهامة في الحديث وعلومه المختلفة، وعلى رأسها الكتب الستة "صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه" التي جمعت أصول الإسلام وفروعه، وفيه أيضًا اعتنى أئمة الحديث بالكلام على الأسانيد والرجال، وبيان منزلتهم في الجرح والتعديل، هذا بالرغم من المشكلات الخطيرة التي واجهت علماء الحديث. - وإليك توضيح كل ما سبق من خلال عدة مباحث نعرضها فيما يلي: المبحث الأول: أهم المشكلات التي واجهت المحدثين في القرن الثالث الهجري في هذا القرن -وخاصة بمجيء المأمون للخلافة "198- 218هـ"- أمسك المحدثون عن رواية أحاديث الصفات والرؤيا، فقد جاء المأمون، فوجد العلماء فريقين مختلفين، ووجد الخلاف محتدمًا بين علماء الكلام والفقهاء والمحدثين، فقد خاض علماء الكلام في مسائل عدة في أصول الدين خالفوا فيها الجمهور، وأهم هذه المسائل وأشهرها مسألتان: - إحداهما: مسألة أفعال العباد: فيرى المعتزلة أن أفعال العباد مخلوقة لهم، لا لله تعالى؛ ولهذا استحقوا عليها الثواب والعقاب، بينما رأى الجمهور أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وليس للعباد فيها سوى جريانها على أيديهم بكسبهم واختيارهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 - الثانية: مسألة صفات الله تعالى: فيرى المعتزلة أن الله تعالى منزه عن ثبوت صفات قائمة بذاته كالسمع والبصر والقدرة والكلام والحياة، بينما رأى الجمهور أن هذه الصفات قديمة قائمة بذات الله تعالى ليست عين الذات ولا غيرها. والخلاف في هذه المسألة أدى إلى خلاف في القرآن الكريم، فرأى الجمهور أنه كلام الله، وأنه قديم؛ لأنه صفة لله تعالى، ولكن المعتزلة يرون أنه مخلوق وحادث. وكان الخليفة المأمون عالمًا1 ميالًا إلى حرية البحث والمناظرة، فأفسح المجال أمام المتكلمين، فنشبت المعركة الكبيرة بينهم وبين المحدثين، وكان المأمون يعقد لهم مجالس للمناظرة والمحاورة أملًا في الاتفاق على رأي، ولكن هيهات ... فلما أخفق في القضاء على هذا الخلاف أراد أن يرغم الفقهاء والمحدثين على قبول رأي المعتزلة الذي مال إليه واعتنقه -وهو أن القرآن مخلوق- واعتبر المأمون أن الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر -وهم المخالفون- "لا نظر لهم ولا روية، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه، أهل جهالة بالله وعمى عنه، وضلال عن حقيقة دينه ... " وغير ذلك من القذف الذي رمى به الفقهاء والمحدثين، مما جاء في كتابه إلى عامله على بغداد "إسحاق بن إبراهيم الخزاعي"، بينما هو كان يغزو بلاد الروم حتى أنه وصفهم في هذا الكتاب بأنهم شر الأمة وإخوان إبليس. وأمر عامله هذا بأن يمتحن القضاة والمحدثين في هذه المسألة، وأن يقتل كل مَن لم يقل بخلق القرآن، وقال له: "فمن لم يجب فامنعه من الفتوى والرواية". وأنفذ المأمون وصيته إلى أخيه المعتصم بالسير على طريقته في مسألة خلق القرآن، ففعل المعتصم، وأمر المتعلمين بأن يعلموا الصبيان رأي المعتزلة في هذه المسألة.   1 سمع الموطأ، واطلع على الفلسفة اليونانية وأقوال حكماء الفرس، وأمر بترجمة الكثير من كتب الروم، وأصبح عصره أزهى عصور العلم في خلافة بني العباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وقتل المعتصم في ذلك كثيرًا من العلماء، وأهان كثيرًا من أهل الحديث، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- الذي أصر على رأيه، فأُوذي كثيرًا. ومات المعتصم "227هـ"، وجاء ابنه "الواثق" فأحيا الفتنة، وأمر أمير البصرة أن يمتحن الأئمة والمؤذنين في مسألة خلق القرآن، وقتل وأهان في ذلك الكثير من العلماء والمحدثين، وقد ساعد الواثق في ذلك وزيره أحمد بن أبي دؤاد الذي كان على رءوس الاعتزال. ولكن الواثق ملَّ هذه المحنة فرجع عنها في آخر عمره، وسخط على "أحمد بن أبي دؤاد"؛ ولكن بعد إهانة المحدثين والفقهاء، وقتل وأذى الكثيرين منهم، من قبل الدولة والمعتزلة الذين قويت شوكتهم، ونالوا من أهل السنة، وانتقموا منهم، وخاصة بعد أن قربهم الخلفاء، وأخذوا بزمام الوزارات والقضاء. وولي "المتوكل على الله بن المعتصم" الخلافة بعد أخيه الواثق "232هـ" فرفع المحنة، وأظهر ميلًا عظيمًا إلى السُّنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، واستقدم المحدثين إلى "سامراء"، وأكرمهم وأجزل لهم العطاء. فحدثوا بأحاديث الصفات والرؤيا، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة، فاجتمع إليه نحو ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور، فاجتمع إليه نحو ثلاثين ألفًا أيضًا، ودعا الناس للمتوكل وبالغوا في الثناء عليه حتى قال بعضهم: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السُّنَّة وإماتة التجهم1. وكما ابتُلي المحدثون في هذا القرن بهذه المحنة التي انتصر عليهم فيها المعتزلة،   1 راجع: البداية والنهاية "10/ 272"، تاريخ الخلفاء للسيوطي "ص204"، والحديث والمحدثون، لمحمد محمد أبو زهو "ص316- 322"، طبع دار الكتاب العربي، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ابتلوا أيضًا بشرذمة انتسبوا لأهل الحديث، منهم المرتزقة والقصَّاصون والذين يتكسبون بالحديث، والجهلة بأحكام الشرع وأمور الدين. وقد عاصرت هذه الفئة الضالة المحنة فاستغلتها أحسن استغلال، فأصبح أمام المحدثين عبء آخر يتمثل في محاربة الوضاعين من الزنادقة والقصاصين في هذه الفترة مستغلين انشغال العلماء بهذه المحنة. ومما يحمد للمحدثين في المحنة سلامة موفقهم حيث الإمساك عن الخوص في مسألة خلق القرآن وغيرها، فأغلقوا بذلك أبوابًا من الشر لا نهاية لها؛ منها: استدراجهم إلى عقائد المعتزلة خاصة، وهم بموقفهم هذا حافظوا على الالتزام بمنهج السلف الصالح، فجزاهم الله عن الدين وأهله الجزاء الأوفَى. - نتائج محنة خلق القرآن على الحديث والمحدِّثين: نوجز هذه النتائج فيما يلي: أولًا: السمو بمكانة المحدثين الذين أبوا إلا اتباع منهج السلف وعدم الخوض في هذه المسائل، وفي المقابل الحط من مكانة الذين خاضوا فيها. ثانيًا: وضع الأحاديث، واختلاق الروايات من قِبَل أهل الأهواء والزنادقة والكذابين والمارقين عن الدين، ومن ذلك روايتهم عن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال: القرآن مخلوق؛ فقد كفر"1. وروايتهم عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل ما في السماوات والأرض وما بينهما مخلوق غير الله والقرآن؛ وذلك أنه كلامه، منه بدأ، وإليه يعود، وسيجيء أقوام من أمتى يقولون: القرآن مخلوق فمن قاله منهم فقد كفر   1 الموضوعات لابن الجوزي "1/ 107" كتاب التوحيد، الباب الأول: باب في أن الله عز وجل قديم، بسنده عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- مرفوعًا، وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال الدارقطني: محمد بن عبيد يكذب، ويضع الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 بالله العظيم، وطلقت امرأته من ساعته؛ لأنه لا ينبغي للمؤمنة أن تكون تحت كافر، إلا أن تكون سبقته بالقول"1. وزعم الزنادقة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما أراد الله خلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسه من ذلك"2. وقد كان للشعوبية دور في هذا الوضع، فهي قد نمت في القرن الثاني الهجري؛ ولكنها بلغت أوجهًا في القرن الثالث الهجري، ومما وضعوه واختلقوه: أنهم زعموا أن الأعاجم ذكرت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لأنا بهم أوثق مني بكم"3، وقول العربي فيما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "العرب سادات العجم"4. ثالثًا: الطعن في أهل الحديث وأئمة المسلمين وحتى الصحابة -رضي الله عنهم- وذلك من قِبَل أهل الأهواء الذين رموهم بالجهل الكبير، وادعاء الحديث، ورموهم بصفات المرتزقة، وقد استغل المستشرقون ذلك. رابعًا: كان لهذه المحنة أثر في التجريح والتعديل، فمن جهة كان المأمون يرد رواية من لم يقل بخلق القرآن، ويحكم بفسق الشهود والقضاة إن لم يقروا بذلك. ومن جهة أخرى سجل علماء الجرح والتعديل الذين خاضوا في هذه المسألة وعدُّوا ذلك جرحًا مؤثرًا.   1 المجروحين لابن حبان "2/ 312"، ميزان الاعتدال "4/ 63"، تذكرة الموضوعات "ص181" رقم "606"، وقال: فيه محمد بن يحيى بن رزين، دجال يضع الحديث. 2 الموضوعات لابن الجوزي "1/ 105" كتاب التوحيد، الباب الأول: باب في أن الله عز وجل قديم - الحديث الأول في الباب، وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يشك في وضعه، وما وضع مثل هذا مسلم، وإنه لم أرك الموضوعات وأدبرها، إذ هو مستحيل؛ لأن الخالق لا يخلق نفسه، وقد اتهم علماء الحديث بوضع هذا الحديث محمد بن شجاع. 3 نقلًا عن الحديث والمحدثون، لمحمد محمد أبو زهو "ص339" طبع دار الكتاب العربي، بيروت. 4 كشف الخفاء للعجلوني "2/ 75" رقم "1723" وقال: ليس بحديث؛ بل هو من كلام بعضهم، وهو صحيح بالنظر للجنس. وقال القاري: لا أصل له، ومعناه صحيح. الأسرار المرفوعة لعلي القاري "رقم 245"، طبعة مؤسسة الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ووضع الزنادقة حديث: "من أراد بر والديه فليعطِ الشعراء"1. ووضعوا أيضًا حديث: "النظر إلى وجه عليٍّ عبادة"2.   1 تذكرة الموضوعات "ص200" رقم "730"، المجروحين "1/ 119"، الميزان "1/ 18"، اللسان "1/ 31". وقال ابن القيسراني: فيه إبراهيم بن إسحاق بن عيسى البغدادي، كذاب، والحديث باطل. 2 تذكرة الموضوعات "ص269" رقم "1109" وقال أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسراني "ت507هـ"، فيه الحسن بن علي العدوي هو كذاب دجال. وهو أيضًا في المجروحين "1/ 241"، الميزان "1/ 507"، اللسان "2/ 129". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 المبحث الثاني: تدوين الحديث وعلومه في القرن الثالث الهجري أولًا: أهم وأشهر المصنفات في الحديث الشريف ألَّف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري "194 - 256هـ" كتاب: "الجامع الصحيح" الذي عده العلماء أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى. وألف الإمام مسلم بن الحجاج "206 - 261هـ" كتابه الصحيح الذي يلي صحيح الإمام البخاري من حيث الصحة. وألف أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني "202- 275هـ" كتابه "السنن". وألف أبو عيسى محمد بن سورة الترمذي "209 - 279هـ" كتابه الجامع. وألف أحمد بن شعيب النسائي "215-303هـ" كتابه "السنن الكبرى" ثم "المجتبى من السنن". وألف أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني "207-275هـ" كتابه "السنن". وغيرها من المصنفات في الحديث الشريف. ثانيًا: أهم وأشهر المصنفات التي ألفت في نقد الحديث زخر القرن الثالث الهجري بأئمة وحفاظ وخبراء بعلل الحديث، ومعرفة الجرح والتعديل، استفادوا من جهود السابقين، وأضافوا إليها كثيرًا من جهودهم، ودوَّنوا ذلك في مصنفاتهم، ومن هؤلاء: البخاري، وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم وابنه عبد الرحمن، ومحمد بن يحيى الذهلي، والبزار، والترمذي، وغيرهم. - ففي الصحابة: ألف الإمام محمد بن عبد الله بن عيسى المروزي "220-293هـ" "كتاب المعرفة". - وفي الكنى: صنف كل من البخاري والنسائي والترمذي وغيرهم، فضلًا عن كتاب "الكنى والأسماء" لأبي بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي "224-310هـ" جمع فيه خلقًا من المعروفين بكناهم، وذكر كثيرًا من رواياتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 - وفي تواريخ الرجال وأحوالهم: صنف الإمام البخاري "التاريخ الكبير"، و"التاريخ الأوسط"، و"التاريخ الصغير"، و"الضعفاء". وألف الإمام أبو إسحاق الجوزجاني "ت259 أو 256هـ" "الجرح والتعديل" و"الضعفاء"، وألف ابن خيثمة "تاريخ الثقات والضعفاء"، وألف الترمذي "كتاب التاريخ"، وألف ابن ماجه "كتاب التاريخ" أيضًا جمع فيه الرجال من عصر الصحابة إلى وقته، وألف ابن أبي حاتم "240 - 327هـ" كتابه "الجرح والتعديل". - وفي علل الحديث: صنف ابن أبي حاتم "240-327هـ" "علل الحديث"، وألف الأئمة: أبو زرعة الرازي، وأبو زرعة الدمشقي، والترمذي، والبزار، ويعقوب بن أبي شيبة "المسند المعلل"، ويعتبر كتاب يعقوب بن أبي شيبة أفضل ما صُنف في هذا الباب، ولم يكمله، وألف محمد بن يحيى الذهلي "علل حديث الزهري"، وألف أبو جعفر بن جرير الطبري "224-310هـ" كتابه "تهذيب الآثار" جمع فيه أخبارًا مرتبة على طريقة المسند وبيَّن فيها عللها. - وفي المراسيل: ألف أبو داود السجستاني كتابه "المراسيل" ورتبه على الأبواب الفقهية، وألف ابن أبي حاتم كتابه "المراسيل" أيضًا، جمع فيه معظم الرواة الذين لهم روايات فيها انقطاع في السند، ورتبه على حروف المعجم. - وفي الأوهام: ألف الإمام مسلم كتاب "بيان أوهام المحدثين". - وفي مختلف الحديث: ألف الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري "ت276هـ" كتابه: "تأويل مختلف الحديث في الرد على أعداء أهل الحديث" ليرد فيه على أعداء الحديث، ويزيل التناقض الذي أثاره مخالفو أهل الحديث في الرأي أو في المنهج. ومعظم هذه المصنفات نقلت إلينا نقلًا صحيحًا ومطبوعة بين أيدينا الآن1.   1 راجع: المدخل إلى توثيق السُّنَّة "ص64، 65". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 المبحث الثالث: مناهج العلماء في تدوين الحديث في القرن الثالث الهجري يمكن حصر مناهج العلماء وطرق المحدِّثين في ثلاثة طرق: - الطريقة الأولى: جمع الطعون التي وجهها أهل الكلام للمحدثين، سواء ما كان يرجع إلى ما حملوه من الحديث الشريف، أو ما كان يرجع إلى أشخاصهم من العدالة والضبط. ومثال ذلك: أبو محمد بن مسلم بن قتيبة "ت276هـ"1 في كتابه: "تأويل مختلف الحديث في الرد على أعداء الحديث"، دافع فيه عن السُّنَّة وأهلها، وذكر فيه طعون المعتزلة في أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم، ثم فند هذه الطعون جميعًا، ثم تناول بعض الطاعنين في الحديث وأهله؛ ومنهم: أبو الهذيل العلاف، وعبيد الله بن الحسن، وهشام بن الحكم. كما تناول ابن قتيبة الجاحظ -خطيب المعتزلة- وبين أنه متذبذب في العقيدة، وأنه يكذب ويضع الحديث نصرة لمذهبه، وأنه يستهزئ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر أهل الحديث، وبيَّن أنهم يلتمسون الحق من طريقه الصحيح، ودافع عنهم، وبرأهم مما ينسب إليهم، كما ذكر أسباب حملهم للأحاديث؛ حيث إنهم ينحلون المتون والأسانيد جميعًا، ويميزون صحيحها من سقيمها، ويبينونه للناس. وقام بالجمع بين الأحاديث التي زعم المتكلمون أنها متناقضة أو مشكلة، فرفع عنها التناقض، وأزال عنها الإشكال، كما سجل على أهل الكلام تعصبهم الذي أعماهم عن الحق.   1 من تصانيفه: غريب القرآن، غريب الحديث، إعراب القرآن، مشكل القرآن، مشكل الحديث، عيون الأخبار، إصلاح الغلط، كتاب التفقيه، كتاب الخليل، كتاب الميسر والقداح، المسائل والجوابات، وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وأيضًا علي بن المديني وكتابه "اختلاف الحديث" والذي جاء في خمسة أجزاء. الطريقة الثانية: جمع الحديث على المسانيد مرتَّبة على الصحابة: بحيث يذكر الصحابي وما يرويه من أحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء كان صحيحًا أو ضعيفًا. ومنهم مَن يرتب مسنده على السوابق في الإسلام، فيقدم العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم من أسلم يوم الفتح، ثم أصاغر الصحابة سنًّا، ثم النساء. ومنهم من يرتب مسنده على القبائل، فيقدم بني هاشم، ثم الأقرب فالأقرب نسبًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم من لم يراعِ شيئًا مما سبق. - ومن هذه المسانيد: - مسند عبيد الله بن موسى "ت213هـ". - مسند الحميدي "ت219هـ". - مسند مسدَّد بن مُسَرْهَد "ت228هـ". - ومسند إسحاق بن راهويه "ت237هـ". - مسند عثمان بن أبي شيبة "ت239هـ". - مسند الإمام أحمد بن حنبل "164-241هـ". - مسند عبد بن حميد "ت249هـ". - المسند الكبير، ليعقوب بن شيبة "ت262هـ" جمع الأحاديث وأبان عن عللها؛ ولذلك فهو متميز على غيره فيها؛ ولكنه لم يتمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 - مسند محمد بن مهدي "ت272هـ". - المسند الكبير، لبقي بن مخلد القرطبي "ت276هـ" رتبه على أسماء الصحابة، ثم رتب حديث كل صحابي على أبواب الفقه، وبلغ عدد الصحابة فيه "1600"، وقد فضله ابن حزم على مسند الإمام أحمد بن حنبل؛ ولكن الحافظ ابن كثير قال في تاريخه: وعندي في ذلك نظر، والظاهر أن مسند أحمد أجود منه وأجمع. اهـ. - مسند البزَّار "ت292هـ". - مسند أبي يعلى الموصلي "210-307هـ". ويؤخذ على هذه المصنفات عدم التمييز بن الحديث الصحيح والضعيف، وهذا التمييز لا يستطيعه غير العلماء المتخصصون، ففيه يتعذر الوقوف على درجة الحديث. وأيضًا صعوبة الوقوف على الأحكام الفقهية والشرعية، فهذا أيضًا خاص بالحفاظ المتقنين، ففيها الخلط بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة، وفيها عدم التبويب الفقهي. ولكن أهمية هذه المسانيد في استقلالها بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون غيره من روايات الصحابة والتابعين. الطريقة الثالثة: التصنيف على الأبواب الفقهية: بحيث يصنف الحافظ أو المحدِّث الأحاديث وفقًا لموضوعها، ومنهم من اقتصر على الأحاديث الصحيحة؛ كالإمام محمد بن إسماعيل البخاري "194 - 256هـ" في صحيحه المسمى: "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وتبعه تلميذه: مسلم بن الحجاج القشيري "206-261هـ" في صحيحه. وقد اتفق العلماء على أن كتابيهما أصح الكتب المصنَّفة في الحديث الشريف على الإطلاق. ومنهم من جمع الصحيح والضعيف؛ كأبي داود "202- 275هـ"، والترمذي "209- 279هـ"، والنسائي "215 - 303هـ"، وابن ماجه "209 - 273هـ". ومنهم من ذكر درجة الأحاديث في مصنفه مثل الترمذي. ومنهم من ينبه أحيانًا على الضعيف مثل: أبي داود، والنسائي. ومنهم من لم ينبه على درجة الحديث مثل ابن ماجه "207- 275هـ". فميزة هذه المصنفات تيسير الاطلاع على درجة الأحاديث والأحكام الشرعية. ولقد كان القرن الثالث الهجري أزهَى عصور الحديث وتدوينه، ففيه ظهر كبار المحدثين، وحذاق الناقدين، وخبراء العلل، وأهم المصنفات وعلى رأسها الكتب الستة التي حظيت بالشرح والاختصار والتعليق والجمع والمستخرجات عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 المبحث الرابع: أئمة القرن الثالث الهجري ومناهجهم أولًا: الإمام البخاري "194-256هـ" 1 هو: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَة2، ولد ببخارَى يوم الجمعة الموافق الثالث عشر من شهر شوال سنة 194هـ، ومات ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة عيد الفطر سنة 256هـ3. قضى عمره في طلب الحديث وحفظه وتدوينه متنفلًا من بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، ومن شيخ إلى شيخ، وحيثما كانت السُّنَّة جذبته إليها، فرحل إلى: مكة، والمدينة، وبغداد، وواسط، والبصرة، والكوفة، ومصر، ومرو، وهراء، ونيسابور، وقيسارية، وعسقلان، وحمص، وخراسان، وغيرهم. وقال: "كتبتُ عن ألف ثقة من العلماء وزيادة، وليس عندي حديث لا أذكر إسناده"4. وقال مرة أخرى: "كتبت عن ألف وثمانين نفسًا ليس فيهم إلًا صاحب حديث، وليس فيهم صاحب بدعة، ولا زنديق"5. ومنهم: إبراهيم بن المنذر الحزامي، ومطرف بن عبد الله، وإبراهيم بن حمزة، ويحيى بن قزعة، وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي، وأبو بكر الحميدي،   1 للإمام البخاري ترجمة في مواضع كثيرة؛ منها: تهذيب الكمال "24/ 430-468"، تهذيب التهذيب "9/ 47-55"، التقريب "2/ 144"، خلاصة الخزرجي "2/ ترجمة 6052"، شذرات الذهب "2/ 134"، طبقات السبكي "2/ 212"، وفيات الأعيان "4/ 188"، سير أعلام النبلاء "12/ 391"، تذكرة الحفاظ "2/ 555"، الكاشف "3/ ترجمة 4786"، شروط الأئمة الستة "ص10". 2 هكذا ضبطها غير واحد، وهي فارسية، ومعناها: الزراع، راجع: هدى الساري "ص477"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 67". 3 راجع: هدى الساري "ص477"، تهذيب التهذيب "9/ 48"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 67، 68"، تذكرة الحفاظ "2/ 556"، سير أعلام النبلاء "12/ 468"، تاريخ بغداد "2/ 6"، "2/ 34". 4 مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 8". 5 راجع: هدى الساري "ص479"، عمدة القاري "1/ 22"، سير أعلام النبلاء "12/ 395". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وإسماعيل بن سالم الصائغ، وعبد الله بن يزيد المقري، وأبو نعيم، وطلق بن غنام، وعمرو بن حفص، وخلاد بن يحيى، وأبو عاصم النبيل، وأبو الوليد الطيالسي، وسليمان بن حرب، وعارم: محمد بن الفضل، وعفان بن مسلم، ومحمد بن يوسف الفريابي، وحيوة بن شريح، ومحمد بن سلام البيكندي، ومحمد بن يوسف البيكندي، وعبد الله بن محمد الْمُسْنِدِي، وآدم بن أبي إياس، وأبو اليمان: الحكم بن نافع، ومحمد بن يحيى الصائغ، ومحمد بن يحيى الذهلي، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن مقاتل، وعبدان بن عبد الله بن عثمان، وإسحاق بن راهويه، وخلائق من الأئمة وغيرهم. ومن تلاميذه: محمد بن يوسف الفربري، وأحمد بن محمد البزار، ومحمد بن إسحاق الخزاعي، ومحمد بن دلويه الوراق، وأبو أحمد: محمد بن سليمان بن فارس، وعبد الله بن أحمد بن عبد السلام الخفاف، وآدم بن موسى، وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأشقر، وأبو عبد الله: محمد بن أبي حاتم "وراقه". ومن شيوخه الذين رووا عنه: عبد الله بن محمد المسندي، وإسحاق بن أحمد بن خلف، ومحمد بن خلف بن قتيبة وغيرهم. ومن الحفاظ من أقرانه فمن بعدهم: أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وأبو بكر بن أبي عاصم، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو بكر البزار صاحب المسند، ومسلم بن الحجاج في غير الصحيح، وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي، وأبو عمرو الخفاف، وجعفر بن محمد بن موسى النيسابوري، ومحمد بن عبد الله الحضرمي مطين الحافظ الكوفي، وأبو داود السجستاني، وأبو بكر بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن إسحاق الفاكهي، ويحيى بن يحيى بن محمد بن صاعد، والحسين بن إسماعيل المحاملي، وهو آخر من حدث عنه ببغداد، وأمم لا يحصون، ويكفي ما حكاه الفربري أنه سمع معه الصحيح من البخاري تسعون ألفًا. وقد مكث في تصنيف صحيحه ست عشرة سنة، وانتقاه من زُهَاء ستمائة ألف حديث قال: "لقد خرجت كتابي الصحيح هذا من زهاء ستمائة ألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 حديث، وما وضعت فيه حديثًا إلا واغتسلت وصليت ركعتين لله سبحانه وتعالى"1. وقد اتفق الجمهور على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى، وأطبق على قبوله بلا خلاف علماء الأسلاف والأخلاف2، وأطنب العلماء في الثناء عليه وبيان منزلته، ومن ذلك ما قاله العلامة الشيخ محمد بن يوسف البنوري: "أصح كتاب بعد كتاب الله، أصبح تلو كتاب الله في المزايا التي قالها -صلى الله عليه وسلم- في كتاب الله الحكيم: "لا يخلق على كثرة الرد، ولا يمل قاريه، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه"، فأضحى كالشمس في كبد السماء بلغ إلى أقصى القبول والمجد والثناء، فانتهض أعيان الأمة وأعلام العلم في كل عصر من أقدم العصور إلى اليوم لشرحه والتعليق عليه، وتلخيصه، واختصاره أو ترتيبه، وتأليف أطرافه، أو شرح تراجمه، أو ترجمة رجاله، أو بيان غريبه، أو وصل مرسله، وتعليقاته أو مبهمه، وإبراز فوائده، ولطائفه، حديثًا وفقهًا وعربية وبلاغة ووضعًا وترتيبًا وتوزيعًا وتبويبًا حتى في تعديد حروفه وكلماته وما إلى ذلك"3. وقال الإمام العيني: لم يحظَ كتاب من كتب الحديث بتناول العلماء -علماء فن الحديث- له شرحًا وإيضاحًا من المتقدمين والمتأخرين كما حظي صحيح البخاري4، وانتهى الشيخ المباركفوري بقوله: "إنه الكتاب الوحيد -بعد كتاب الله تعالى- الذي يحل مشاكل الدين والدنيا كلها، ويشهد على المواهب وبراعة المؤلف في كل هذه الميادين"5. قال ابن الصلاح: "وجملة ما في كتاب البخاري سبعة آلاف حديث، إلا أن هذه العبارة قد يندرج تحتها عندهم آثار الصحابة   1 راجع: تهذيب التهذيب "9/ 49"، عمدة القاري "1/ 22"، طبقات السبكي "2/ 221"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 74". 2 عمدة القاري "1/ 5". 3 من مقدمة كتاب: لامع الدراري على جامع البخاري "أ-ب". 4 عمدة القاري "1/ 26". 5 سيرة الإمام البخاري "ص322". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 والتابعين وربما عد الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين"1، وكلها صحيحة بالإجماع. قال أبو جعفر محمود بن عمرو العقيلي: "لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة، إلا في أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة"2. - مؤلفات الإمام البخاري: الجامع الصحيح، والأدب المفرد، ورفع اليدين في الصلاة، والقراءة خلف الإمام، والتاريخ الكبير، والتاريخ الأوسط، والتاريخ الصغير، والضعفاء الصغير، والمسند الكبير، والتفسير الكبير، والجامع الكبير "وهو غير الجامع الصحيح"، وخلق أفعال العباد، والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل، وبر الوالدين، وأسامي الصحابة، والوحدان، والهبة، والمبسوط، والعلل، والكنى، والفوائد، والاعتقاد أو السنة، والسنن في الفقه، وأخبار الصفات، وقضايا الصحابة والتابعين، والأشربة3. - شروط البخاري في جامعه الصحيح، ومنهجه فيه: هناك شروط معتبرة ومذكورة عند الأئمة، مَن احتوى عليها وتحلى بها لزم قبول خبره، وإخراج حديثه في الصحيح، وهذه الشروط هي: 1- الإسلام. 2- العقل. 3- الصدق.   1 المقدمة "ص10، 11". 2 هدى الساري "ص7"، "ص489"، ونحوه في مجموع الفتاوى لابن تيمية "1/ 256"، "18/ ص19". 3 راجع هذه المؤلفات وتقريرًا عن كل واحد منها في رسالتي للماجستير - مرويات البخاري في غير الصحيح "1/ 46-69". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 4- ألا يكون مدلسًا. 5- العدالة: وهي اتباع أوامر الشرع، واجتناب نواهيه، وتجنب الفواحش، وتحري العدل، وتوقي اللفظ. 6- أن يكون معروفًا بطلب الحديث الشريف، والرحلة من أجله والعناية به. 7- أن يكون حفظه مأخوذًا عن العلماء لا عن الصحف. 8- أن يكون ضابطًا لما يسمعه. 9- أن يكون متيقظًا، سليم الذهن غير مغفل. 10- أن يكون قليل الغلط والوهم. 11- أن يكون حسن السمت، موصوفًا بالوقار. 12- أن يكون مجانبًا للأهواء تاركًا للبدع. وإذا كانت الشروط السابقة شروطًا عامة في الراوي، فإن الإمام البخاري قد زاد عليها مما يؤكد لنا أن ما أدخله في جامعه الصحيح لا يتطرق إليه الشك، وهذه هي شروط الإمام البخاري في جامعه الصحيح1. من الملاحظ أنه لم ينقل عن الإمام البخاري أنه قال: شرطت أن أخرج ما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يعرف ذلك من سَبَرَ صحيحه ومصنفاته الأخرى. - وقد ذكر علماء الحديث -الذين درسوا صحيحه- الشروط الآتية: الشرط الأول: طول ملازمة الراوي لشيخه، وذلك أدعى إلى حفظه وضبطه للحديث الذي يرويه عنه.   1 راجع: تدريب الراوي "1/ 127"، مقدمة ابن الصلاح "ص7"، هدى الساري "ص9، 10"، شروط الأئمة الخمسة "ص43-50"، شروط الأئمة الستة "ص17-19"، المدخل إلى توثيق السنة "ص73، 76"، سيرة الإمام البخاري "ص177-179"، الإمام البخاري محدثًا وفقيهًا "ص90، 91"، كتب السُّنَّة - دراسة توثيقية "الجزء الأول" "ص73-77". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الشرط الثاني: يشترط الإمام البخاري اللقاء والمعاصرة وعدم التدليس؛ بحيث يكون الراوي قد ثبت به لقاء من حدث عنه ولو مرة واحدة، مع اشتراط أن يكون ثقة، فإذا ثبت ذلك عنه حملت عنده "عنعنته" على السماع، وبعبارة أخرى: إذا قال الراوي: عن فلان، فإن الإمام البخاري يتوقف في إخراج الحديث حتى يتأكد من لقاء الراوي بشيخه، وأن هذه اللفظة تساوي عنده: "سمعت فلانًا"، وهذا ينطبق على جميع العنعنات الموجودة في جامعه الصحيح. قال ابن حجر: وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه، وأكثر منه، حتى أنه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة إلا ليبين سماع راوٍ من شيخه؛ لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئًا معنعنًا"1. وللتأكد من السماع والاتصال ترك الإمام البخاري حديث بعض الأئمة مثل حماد بن سلمة -وهو إمام في علم الحديث- لما تكلم فيه بعض منتحلي المعرفة؛ بسبب أن بعض الكذبة أدخل في حديثه ما ليس منه، ولم يخرج له إلا في بعض مواضع الاستشهاد؛ ليبين أنه ثقة، وأخذ أحاديثه التي يرويها من أقرانه الذين لا تحوم حولهم شبهة، مثل: شعبة بن الحجاج، وحماد بن زيد، وأبي عوانة، وأبي الأحوص، وغيرهم، كما ترك سهيل بن أبي صالح لما تكلم بعض النقاد في سماعه من أبيه فقالوا: إنه أخذ أحاديث أبيه من صحفه ولم يسمعها منه2، فلم يخرج له البخاري إلا مقرونًا أو تعليقًا3. وعلى أساس من هذه الشروط جاء صحيح البخاري مختصرًا، ولم يستوعب كل الصحيح؛ بل إنه ترك كثيرًا من الصحيح. يقول الإمام البخاري: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، وما تركت من الصحيح أكثر"4.   1 هدى الساري "ص288". 2 شروط الأئمة الستة "ص12، 13". 3 تقريب التهذيب "ص259" ترجمة رقم "2675". 4 شروط الأئمة الخمسة "ص64"، وهدى الساري "ص5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وإذا كانت الأحاديث المسندة الموصولة في الصحيح كما عدها عدًّا دقيقًا الإمام ابن حجر العسقلاني "2602" حديثًا1، فإن الأحاديث الصحيحة تفوق هذا العدد كثيرًا. - منهج الإمام البخاري في صحيحه 2: يقول الدهلوي: "أول ما صنف أهل الحديث في علم الحديث جعلوه مدونًا في أربعة فنون: فن السنة أعني الذي يُقال له: الفقه، مثل موطأ مالك، وجامع سفيان. وفن التفسير مثل كتاب ابن جريج. وفن السِّير مثل كتاب محمد بن إسحاق. وفن الزهد والرقاق مثل كتاب ابن المبارك، فأراد البخاري -رحمه الله- أن يجمع الفنون الأربعة في كتاب، ويجرده لما حكم له العلماء بالصحة قبل البخاري وفي زمانه، ويجرده للحديث المرفوع المسند، وما فيه من الآثار، وغيرها إنما جاء تبعًا، لا بأصالة؛ ولهذا سمى كتابه "الجامع الصحيح المسند"3. ولهذا صنف البخاري هذه الأحاديث وغيرها على أبواب الفقه والعقائد والتفسير والآداب، وكل أبواب ينتظمها موضوع واحد جعلها كتابًا يضم معنى هذه الأبواب، وقد بدأ "بكتاب بدء الوحي" ثم ذكر بعده كتاب "الإيمان" ثم "العلم". وقدم "بدء الوحي" -كما يقول البلقيني- لأنه منبع الخيرات، وبه قامت الشرائع وجاءت الرسالات، ومنه عرف الإيمان والعلوم4. وقال أ. د. عبد المجيد محمود: "فالبخاري بدأ كتابه بدء الوحي، ثم الإيمان، ثم العلم، وقد يكون ملحظ البخاري في ذلك أن أول ما يطالب به الإنسان هو   1 هدى الساري "ص478"، أما بالمكرر منها فعدده "7397" حديثًا "هدى الساري ص468"، وقد حصرها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي فبلغت "7563" حديثًا. هذا عدا ما فيه من التعاليق والمتابعات التي يصل بها عدد أحاديث الكتاب "9082" حديثًا "هدى الساري ص470". 2 انظر: كتب السنة، الجزء الأول، للدكتور رفعت فوزي "ص77-80" ومصادره. 3 شرح تراجم أبواب البخاري "ص7". 4 هدى الساري "ص471". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 0الإيمان، وعن الإيمان تصدر بقية الأعمال، والإيمان أمر نفسي مستكن في القلب لا يكفي في إثباته إعلانه باللسان، فيجب أن يتوفر فيه عنصر الإخلاص؛ لهذا بدأ البخاري كتابه بحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وأول شيء يجب الإيمان به هو الوحي، لأن جميع متطلبات الإيمان -مما سيذكره في صحيحه- متوقف على كون محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا موحى إليه، فإذا استقر ذلك وجب على الإنسان أن يتعلم الشرائع حتى يكون ممتمثلًا لربه، متصفًا بالإيمان، وأول ما يجب أن يتعلمه حينئذ هو الطهارة، ثم الصلاة، ثم تأتي بعد ذلك بقية الأحكام والفضائل. وقد يكون بدؤه بالوحي إشارة منه إلى أن الحديث النبوي -الذي هو موضوع كتابه- من قبيل الوحي، فله من الطاعة والامتثال بالقرآن؛ حيث إن مصدرهما واحد، وهو الله سبحانه وتعالى"1. وبعد الطهارة ذكر الصلاة، ثم الزكاة، ثم الحج، ثم الصوم، ثم البيوع، وبقية المعاملات. وبعد أن انتهى من المعاملات ذكر المرافعات: فذكر كتاب الشهادات، ثم ذكر كتاب الصلح، ثم الوصية والوقف، ثم الجهاد، ثم عرض لأبواب غير فقهية مثل: بدء الخلق، وتراجم الأنبياء، والجنة والنار، ثم مناقب قريش، وفضائل الصحابة. ثم ذكر السيرة النبوية والمغازي وما يتبعها، ثم كتاب التفسير، ثم فضائل القرآن، ثم عاد إلى الفقه من نكاح وطلاق ونفقات، ثم الأطعمة، ثم الأشربة، وبعد هذا ذكر كتاب الطب، ثم اللباس، ثم الأدب، ثم الاستئذان، ثم الدعوات، ثم الرقاق، ثم النذور، ثم الكفارات، ثم الفرائض، ثم الحدود، ثم الديات، ثم المرتدين، ثم الإكراه، ثم الحيل، وهذه بعضها فقه، وبعضها غير فقه، وأخيرًا ذكر كتاب تعبير الرؤيا، ثم كتاب الفتن، ثم كتاب الأحكام، ثم كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ثم كتاب التوحيد.   1 الاتجاهات الفقهية عند المحدثين في القرن الثالث الهجري "ص300"، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1399هـ-1979م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وقد بيَّن البلقيني وابن حجر وجوه الربط بين كتب البخاري بعضها ببعض، وبين أبوابه وصلتها بكتبها1. وعدد كتبه 97 كتابًا، وعدد أبوابه "3934" بابًا، وفي بعض أبوابه هذه توجد الأحاديث المتصلة المسندة الصحيحة الكثيرة، وفي بعضها حديث واحد، وفي بعضها ما لا يوجد فيه أحاديث أصلًا، وكأن البخاري لم يجد في مثل هذه الأبواب أحاديث على شروطه التي أسلفنا القول فيها فتركه هكذا عسى أن يتيسر له حديث فيما بعد، أو يشير إلى أنه لم يصح فيه حديث2، وذلك نحو البابين "3"، "13" من كتاب "بدء الخلق"، ونحو الأبواب: "4"، "13"، "23"، "26"، "30"، "33"، "34"، "36"، "42"، "52"، كل هذه الأبواب في كتاب "أحاديث الأنبياء"، ونحو الباب "5" من كتاب النفقات. وقد كرر الإمام البخاري بعض هذه الأحاديث الصحيحة في كتابه؛ لأن الحديث الواحد قد يشتمل على أكثر من معنى، وكل معنى يندرج تحت باب معين، فهو "يستخرج منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه"3، "أو يكرر الحديث؛ لأنه يشمل على فائدة حديثية". ولأنه يحرص على أن يكون كتابه مختصرًا، فإنه لا يكرر الحديث كاملًا دائمًا، وإنما يذكر الجزء الذي يتضمن معنى الباب الذي يدرجه تحته، إلا إذا تعددت طرق الحديث فإنه يذكر الحديث مع سنده بتمامه. - عناية الأمة الإسلامية بصحيح الإمام البخاري: نال الجامع الصحيح للبخاري عناية كبيرة من الأمة الإسلامية وعلمائها؛ بحيث لم يحظَ بهذه العناية كتاب آخر بعد كتاب الله -عز وجل- وتمثلت هذه العناية في عدة جوانب؛ منها: توثيق أحاديثه، والكشف عن صحتها، وانتقاله إلينا   1 هدى الساري "ص470-474". 2 المصدر السابق "ص6، 12". 3 المصدر السابق "ص125". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 موثقًا عبر العصور السابقة، وحتى قيام الساعة، دون مساس بالتحريف أو التغيير، ونزيد الأمور وضوحًا بما يلي: أولًا: انتهى الإمام البخاري من تأليف جامعه الصحيح قبل وفاته بثلاثة وعشرين عامًا على الأقل1، والدليل على ذلك أنه قدمه إلى شيوخه: يحيى بن معين "233هـ-847م"، وعلي بن المديني "235هـ-549م"، وأحمد بن حنبل "241هـ-855م"، وقد توفي البخاري عام "256هـ"، وبهذا يكون أتيح لألوف التلاميذ والمهتمين بالحديث سماعه -كله أو بعضه- من خلال حلقات الدرس التي كان يعقدها البخاري في عدة بلاد2. وانتقل صحيح البخاري بعد ذلك على أيد أمينة بطرق الرواية المختلفة من سماع وإجازة ومناولة وغيرها، وذلك مباشرة من أيد الرواة إلى تلاميذهم المشتغلين بالرواية والأمناء عليها. وقد ذكر ابن خير الإشبيلي "502-575هـ" في فهرسته الطرق التي وصل بها صحيح البخاري دون تحريف أو تغيير، فقال في روايته لصحيح البخاري3: "مصنف الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري؛ وهو الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه". 1- أما رواية أبي ذر عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الهروي الحافظ -رحمه الله- فحدثني بها شيخنا الخطيب، أبو الحسن شريح بن محمد شريح المقري -رحمه الله- قراءة عليه بلفظي مرارًا، وسماعًا مرارًا، قال: حدثني به أبي -رحمه الله- سماعًا من لفظه، وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عيسى بن منظور القيسي -رحمه الله- سماعًا عليه، قالا: حدثنا بها أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد الهروي سماعًا عليه، قال محمد بن شريح: سمعته عليه في المسجد الحرام عند   1 راجع: فهرسة ابن خير الإشبيلي عن شيوخه "ص95". 2 راجع: هدى الساري "ص492"، تاريخ بغداد "2/ 9". 3 "فهرسة ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنفة في ضروب العلم وأنواع المعارف" لأبي بكر محمد بن خير بن عمر بن خليفة الأموي الإشبيلي "502-575هـ/ 1108-1179م" "ص94-98". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 باب الندوة سنة "403هـ". وقال ابن منظور: سمعته عليه في المسجد الحرام عند باب الندوة سنة "431هـ"، وقرئ عليه مرة ثانية، وأنا أسمع، والشيخ أبو ذر ينظر في أصله، وأنا أصلح في كتابي هذا في المسجد الحرام عند باب الندوة في شوال سنة "431هـ"، قال: أخبرنا به أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي بهراة سنة "373هـ"، وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم المستملي ببلخ سنة "374هـ"، وأبو الهيتم محمد بن المكي بن محمد بن ذراع الكشميهني بها سنة "387هـ"، قالوا كلهم: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صلح بن بشر الفربري بفربر، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي -رحمه الله- قال أبو ذر: سمعت أبا إسحاق المستملي يقول: مات محمد بن يوسف الفربري -رحمه الله- في شهر شوال لعشر بقين منه، من سنة "320هـ"، وتوفي أبو إسحاق المستعلي سنة "376هـ"، وكان سماعه ورحلته إلى الفربري سنة "314هـ"، وولد أبو محمد الحموي سنة "293هـ"، وسمع الفربري سنة "315هـ"؛ قال أبو ذر: سمعت أبا الهيثم محمد بن المكي أيضًا يقول: سمعت الكلاباذي أبا نصر البخاري يقول: كان سماع محمد بن يوسف الفربري بهذا الكتاب من محمد بن إسماعيل البخاري مرتين مرة بفربر في سنة "284هـ"، ومرة ببخارى، وذكر أبو الهيثم أنه سمع هذا الكتاب من الفربري بفربر في ربيع الأول سنة "320هـ"، وتوفي أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- سنة "256هـ"، وكان مولده يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شوال سنة "194هـ"، قال مسلمة بن قاسم: سمعت من يقول عن أبي جعفر العقيلي قال: لما ألف البخاري كتابه في صحيح الحديث عرضه على علي بن المديني، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، فامتحنوه، فكلهم قال له: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث؛ قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة. - وأما رواية ابن السكن: فحدثني بها شيخنا أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث -رحمه الله- قراءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 منى عليه قال: حدثني بها أبو عمر أحمد بن محمد بن الحذاء التميمي سماعًا عليه بقراءة أبي علي الجياني قال: نا بها أبو محمد عبد الله بن محمد بن أسد الجهني قراءة عليه سنة "394هـ"، قال: نا أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن الحافظ في منزله بمصر سنة "343هـ" قال: نا محمد بن يوسف بن مطر بن صلح بن بشر الفربري بفربر من ناحية بخارى، قال: نا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري سنة "253هـ". - وأما رواية الأصيلي: فحدثني بها الشيخ الفقيه أبو القاسم أحمد بن محمد بن بقي -رحمه الله- قراءة مني عليه، والشيخ الفقيه أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث -رحمه الله- سماعًا لجملة منه، ومناولة منه لي لجميعه، قالا جميعًا: حدثنا بها الفقيه أبو عبد الله محمد بن فرج مولى محمد بن يحيى البكري المعروف بابن الطلاع، أما ابن بقي فقال: سمعت جميعه عليه، وأما ابن مغيث فقال: حدثنا به قراءة منه علينا لأكثر الكتاب، وإجازة لسائره، قال: سمعت جميعه على الفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد عابد المعافري في سنة "423 هـ" بقراءة محمد بن محمد بن بشير الصراف، قال: سمعت جميعها على الفقيه أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي سنة "383هـ". قال: قرأتها على أبي زيد محمد بن أحمد المروزي بمكة سنة "353هـ"، قال أبو محمد الأصيلي: وسمعتها على أبي زيد أيضًا ببغداد في شهر صفر سنة "359هـ"، قرأ أبو زيد بعضها، وقرأت أنا بعضها حتى كمل جميع المصنف، قال أبو عبد الله محمد بن يوسف الفربري سنة "318هـ" قال: نا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري سنة "253هـ"، قال أبو محمد الأصيلي: وقرأتها على أبي أحمد بن يوسف الجرجاني، قال: نا محمد بن يوسف الفربري، قال: نا محمد بن إسماعيل البخاري، وحدثني أيضًا بهذه الرواية الشيخ أبو محمد بن عتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 -رحمه الله- إجازة فيما كتب به إلَيَّ، قال: حدثني بها الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عابد المذكور إجازة لي فيما كتبه لي بخط يده، قال: نا أبو محمد الأصيلي بالإسناد المتقدم، وحدثني أيضًا برواية أبي زيد المروزي المذكور شيخنا القاضي أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز اللخمي الباجي -رحمه الله- سماعًا عليه لأكثرها ومناولة لجميعها، قال: حدثني بها أبي، وعماي أبو عمر أحمد، وأبو عبد الله محمد، وابن عمي صاحب الصلاة أبو محمد عبد الله بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله، قالوا كلهم: حدثنا بها الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله، قال: كتب أبي أبو عمر أحمد بن عبد الله كتاب البخاري عن بعض ثقات أصحابه المصريين وسمعته بقراءته عليه، حدثنا به عن أبي زيد محمد بن أحمد المروزي، عن محمد بن يوسف الفربري، عن محمد بن إسماعيل البخاري. - وأما رواية القابسي: فحدثني بها الشيخ أبو محمد بن عتاب -رحمه الله- إجازة، قال: حدثني بها أبو القاسم حاتم بن محمد الطرابلسي قراءة عليه، قال: نا أبو الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي الفقيه، قال: نا أبو زيد محمد بن أحمد المروزي بالسند المتقدم، وحدثني بها أيضًا الشيخ أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر القيسي، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن عبد العزيز اللخمي، وغيرهما من شيوخي -رحمهم الله- قالوا: حدثنا بها أبو علي على حسين بن محمد بن أحمد الغساني، ثم الجياني -رحمه الله- قال: قرأتها على أبي القاسم حاتم بن محمد الطرابلسي -رحمه الله- مرات، وحدثني بها عن أبي الحسن علي بن محمد بن الخلف القابسي الفقيه عن أبي زيد محمد بن أحمد المروزي عن أبي عبد الله الفربري عن البخاري رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 - وأما رواية النسفي: فحدثني بها الشيخ أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر القيسي -رحمه الله- قال: نا أبو علي حسين بن محمد بن أحمد الغساني، قال: حدثني بها أبو العاصي حكم بن محمد بن حكم الجذامي إجازة، قال: نا أبو الفضل أحمد بن أبي عمران الهروي بمكة سنة "382هـ": سمعت بعضه، وأجاز لي سائره، قال: نا أبو صالح خلف بن محمد بن إسماعيل الخيام البخاري، قال: نا إبراهيم بن معقل بن الحجاج النسفي، قال: نا البخاري، قال أبو علي: وروينا عن أبي الفضل صالح بن محمد بن شاذان الأصبهاني، عن أبي إسحاق إبراهيم بن معقل النسفي، أن البخاري أجاز له آخر الديوان من أول كتاب الأحكام إلى آخر ما رواه النسفي عن البخاري من الديوان؛ لأن في رواية محمد بن يوسف الفربري زيادة على رواية النسفي نحوًا من تسع أوراق من نسختي، وقد أعلمت على الموضع من كتابي، قال أبو علي: وهذه الروايات كلها متقاربة، وأقرب الروايات إلى رواية أبي ذر رواية أبي الحسن القابسي عن أبي زيد المروزي. وبعد ابن خير جاء ابن حجر فبين أن روايته للجامع الصحيح تتصل إلى البخاري عن طريق أربعة من تلاميذه، وقد ذكر كل واحد منهم، وبيَّن تلاميذه والآخذين بروايته حتى انتهت إليه1، وقارن بين هذه النسخ في أثناء شرحه للكتاب، وهكذا فعل العلماء في كل عصر إلى يومنا هذا2. وقد ترتب على هذا المسلك العلمي الدقيق ضمان سلامة انتقال صحيح البخاري. وقد يعترض أحد بأن هناك اختلافات في بعض النسخ، نقول: هذه الاختلافات أشار إليها ابن خير الإشبيلي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وهي   1 فتح الباري "1/ 2 - 5". 2 راجع مثلًا: فهرس الفهارس لعبد الحي الكتاني، وغيره من الفهارس والأثبات "المطبوعة" والمنتشرة في العديد من المكتبات الخاصة والعامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 محصورة ومعزوة إلى أصحابها، وسببها اختلاف الأوقات التي يسمع فيها تلاميذ البخاري منه، أو لبعض أخطاء النساخ. قال أ. د. رفعت فوزي: "ومن هنا سهل على من يريد ضبطه وتحريره أن يرجع بكل وجه من رواياته إلى أصله1. وهذا هو ما فعله علم من أعلام الحديث في القرن السابع الهجري، وهو الحافظ شرف الدين علي بن محمد بن عبد الله اليونيني "ت 701هـ-1302م"؛ فقد قام بضبط رواية البخاري، وقابل أصله بأصل مسموع على الحافظ أبي محمد عبد الله بن أحمد الهروي، وبأصل مسموع على الحافظ أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، وبأصل الحافظ أبي القاسم بن عساكر، وبأصل مسموع على أبي الوقت. وقد حضر معه في هذه المقابلة الإمام النحوي جمال الدين بن مالك، فكان إذا مر في الألفاظ ما يتراءى أنه مخالف لقوانين العربية المشهورة قال لليونيني: هل الرواية فيه كذلك؟ فإن أجابه: بأنها منها شرع ابن مالك في توجيهها حسب إمكانه، وجمع هذه التوجيهات في كتابه "التوضيح في حل مشكلات الجامع الصحيح". ولم يقصد اليونيني من هذه المقابلة أن يرجح بين ما في هذه الأصول من مختلف الروايات، وأن يخرج منها صورة مختارة في نظره لصحيح البخاري، وإنما قصد أن يجمع تلك الروايات كلها في صعيد واحد؛ تيسيرًا لمن يريد الانتفاع بها من العلماء، وإغناء له عن التنقيب عليها في مختلف المظان، وقد استعان بالرموز في الإشارة إلى اختلاف النسخ، وصنع من بعض حروف الهجاء علامات يضعها على مواطن الخلاف، ويرشد بها إلى الرواة المختلفين، وبذلك ضبط رواياتهم مجتمعة بأخصر طريق، وحرر ألفاظ الكتاب على نحو ما هو ثابت عند أصحاب الأصول الأربعة التي قابل عليها أصله2.   1 وقد وضعت المؤلفات والأبحاث في روايات البخاري واختلافها والمقارنة بينها، انظر: تاريخ التراث العربي "1/ 310، 311". 2 التعريف بأمير المؤمنين في الحديث "ص130، 131". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 والنص المطبوع الآن هو نسخة اليونيني هذه، مع مقارنة ببعض النسخ، وقد أرسل هذا الأصل إلى السلطان عبد الحميد لينشر في مصر، وقد طبع في مطبعة بولاق1. ثانيًا: وأيضًا هناك طرق أخرى نُقل بها صحيح البخاري على نحو آخر، وذلك على أيدي الشراح الذين حققوا في أثناء شرحهم الروايات والنصوص، كما في فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني، وغيره من شروح صحيح البخاري. قال أ. د. رفعت فوزي: "وقد شرح صحيح البخاري أعلام بصراء بالحديث والفقه، منهم: أحمد بن محمد الخطابي "ت386هـ-996م"، ومحمد بن يوسف بن علي الكرماني "ت787هـ-1384م" في كتابه "الكواكب الدراري"، وأحمد بن علي بن حجر العسقلاني "ت852هـ-1448م" في كتابه "فتح الباري"، ومحمود بن أحمد بن موسى العيني "ت855هـ-1450م" في كتابه "عمدة القاري"، وأحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني "ت923هـ-1517م" في كتابه "إرشاد الساري"، وغيرهم كثيرون، وقد ذكر فؤاد سزكين في كتابه "تاريخ التراث العربي" 56 شرحًا، وبعضها مخطوط، وبعضها قد طبع عدة مرات كالكتب السابقة"2. ثالثًا: كما نقل على نحو آخر في الكتب التي جمعت بين صحيحي البخاري ومسلم، أو ذكر أطرافهما، وذلك كتاب "الجمع بين الصحيحين" لمحمد بن عبد الله الجوزقي "ت388هـ-998م"، و"الجمع بين الصحيحين" لمحمد بن أبي نصر الحميدي "ت488هـ-1095م"، و"الجامع بين الصحيحين" لأبي نعيم عبيد الله بن الحسن بن أحمد بن الحداد "ت517هـ-1123م"، وغيرهم3.   1 كتب السُّنة "ص165، 166". 2 كتب السُّنة "ص166"، وانظر: تاريخ التراث العربي "1/ 312- 331" "الطبعة الأولى"، وقد أشار إلى مواضع مخطوطاتها في مكتبات العالم المختلفة، كما أشار إلى ما طبع منها. 3 تاريخ التراث "1/ 345، 346". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ومن الكتب التي ذكرت أطراف الصحيحين كتاب "أطراف الصحيحين"، لخلف بن محمد الواسطي "ت401هـ-1011م"1. كما ألفت المستخرجات على الصحيحين، وهي تحمل متون أحاديث الصحيحين مع اختلاف في الأسانيد2. رابعًا: وقد ألفت الكتب التي تُعْنَى برواة البخاري، وبيان حالتهم في الرواية، والكشف عن أساميهم وكناهم وألقابهم، ووصل التعاليق فيه ببيان رجالها، ومن هذه الكتب كتاب "أسامي مَن روى عنهم البخاري" لعبد الله بن عدي بن عبد الله الجرجاني بن القطان "ت365هـ-976م"، وكتاب "ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايته من الثقات عند محمد بن إسماعيل البخاري" لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني "ت385هـ-995م"، وكتاب "أحاديث التعليق" لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي "ت597هـ-1200م"، وكتاب "تغليق التعليق على كتاب البخاري" لابن حجر العسقلاني، وغيرها3. هذا عدا المؤلفات التي تُعْنَى بتيسير الاستفادة من هذا الكتاب العظيم مما ليس مجال تفصيلها هنا4.   1 تاريخ التراث "1/ 345". 2 وهذه المستخرجات كثيرة حصرها الإمام السيوطي في اثنين وعشرين مستخرجًا "تدريب الراوي 1/ 137"، ومن أشهرها: المستخرج على الصحيحين لأبي نعيم الأصفهاني، والمستخرج على صحيح البخاري لأبي بكر الإسماعيلي، والمستخرج على صحيح مسلم لأبي عوانة الإسفراييني. 3 تاريخ التراث "1/ 341-343". 4 المرجع السابق "1/ 341-346". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ثانيًا: الإمام مسلم "206-261هـ" 1 هو: أبو الحسين مسلم بن الححاج بن مسلم القشيري النيسابوري، ولد بنيسابور سنة "206هـ"، وتوفي بها -أيضًا- عشية الأحد، ودفن يوم الإثنين في رجب سنة "261هـ"، وهو ابن خمس وخمسين سنة، وقضى عمره في طلب الحديث وحفظه وتدوينه، ورحل في طلبه إلى بلدان كثيرة؛ منها: الحجاز، ومصر، والشام، والعراق، وخراسان، والري، وغيرها، وسمع من خلائق من الأئمة وغيرهم، منهم: قتيبة بن سعيد، وأحمد بن حنبل، وإسماعيل بن أبي أويس، ويحيى بن يحيى، وأبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة، وعبد الله بن أسماء، وشيبان بن فروخ، وحرملة بن يحيى صاحب الشافعي، ومحمد بن يسار، ومحمد بن مهران، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، ومحمد بن سلمة المرادي، وخلائق من الأئمة غيرهم، وروى عنه: أبو عيسى الترمذي، ويحيى بن صاعد، ومحمد بن مخلد، وإبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الزاهد، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء، وعلي بن الحسين، ومكي بن عبدان، وأبو عوانة، يعقوب بن إسحاق الإسفراييني، وأبو عمرو أحمد بن المبارك المستملي، ونصر بن أحمد، وخلائق. - مصنفات الإمام مسلم: له العديد من المصنفات؛ منها: "المسند الصحيح"، و"المسند الكبير" رتبه على الرجال، و"الجامع" رتبه على الأبواب، و"كتاب التمييز"، و"العلل"، و"سؤالات   1 راجع ترجمته في:الأعلام للزركلي "8/ 117"، الطبعة الثانية، تهذيب الأسماء واللغات للنووي "1/ 131"، تهذيب الكمال "27/ 499 - 507"، تهذيب التهذيب "10/ 226"، التقريب "2/ 245"، تذكرة الحفاظ "2/ 588"، تاريخ بغداد "13/ 100"، الأنساب للسمعاني "10/ 155"، سير أعلام النبلاء "12/ 557"، الكاشف "3" ترجمة "5505"، العبر "1/ 197"، شذرات الذهب "2/ 144"، خلاصة الخزرجي "3/ الترجمة 6962"، المنتظم "5/ 32"، شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 109 - 158"، فهرسة ابن خير "98، 212، 213"، فتح الباري لابن رجب "3/ 201"، ففيه ذكر كتاب التفصيل لمسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أحمد بن حنبل"، والانتفاع بأهُب السِّباع"، و"الأسماء والكنى" و"الأفراد"، و"الوحدان" و"الأقران"، و"كتاب عمرو بن شعيب"، و"تسمية شيوخ مالك"، و"مشايخ سفيان الثوري"، و"مشايخ شعبة"، و"كتاب المخضرمين"، وكتاب أولاد الصحابة فمن بعدهم من المحدثين"، و"أوهام المحدثين"، و"الطبقات"، و"أفراد الشاميين"، و"من ليس له إلا راوٍ واحد"، وكتاب "تفصيل السنن". وقد كتب صحيحه -وهو المسمى بالمسند الصحيح- في خمس عشرة سنة، وهو أشهر كتبه. قال الزركلي في الأعلام: جمع فيه اثني عشر ألف حديث كتبها في خمس عشرة سنة، وهو أحد الصحيحين المعول عليهما عند المحدثين والفقهاء والأصوليين1. وقال مسلم رحمه الله تعالى: "صنفتُ هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة"2. وقال أيضًا: "لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة، فمدارهم على هذا المسند، ولقد عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار إلَيَّ أن فيه علة تركته وما قال: هو صحيح ليس له علة أخرجته"3. وقال أيضًا: "ما وضعت شيئًا في هذا المسند إلا بحجة، وما أسقطت منه إلا بحجة"4. وقال أيضًا: "ليس كل شيء صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه"5.   1 الأعلام للزركلي "8/ 117"، وقوله: "اثنتي عشر ألف حديث" يعني بالأحاديث المكررة، وبإسقاط المكرر فهي نحو أربعة آلاف حديث، مقدمة ابن صلاح، هامش "ص11"، وراجع: شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 129"، وبلغ العدد بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي "3033". 2 تذكرة الحفاظ "2/ 589"، شذرات الذهب "2/ 144". 3 تلخيص صحيح مسلم، للقرطبي "1/ 33"، هدى الساري "ص345"، سير أعلام النبلاء "12/ 568"، "12/ 579"، شرح مسلم للنووي "1/ 121، 136". 4 تلخيص صحيح مسلم للقرطبي "1/ 33"، تذكرة الحفاظ "2/ 590"، سير أعلام النبلاء "12/ 580". 5 صحيح مسلم "1/ 304" كتاب الصلاة، في الحديث رقم "63". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 قال سراج الدين البلقيني: "أراد مسلم بقوله: "ما أجمعوا عليه" أربعة: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعثمان بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور الخراساني"1. وحكى القاضي أبو الفضل عياض الإجماع على إمامته، وتقديمه، وصحة حديثه، وميزه2، وثقته، وقبول كتابه3. وقد أبقى له صحيحه ذكرًا جميلًا، وثناء حسنًا، وثوابًا عظيمًا إلى يوم القيامة، قال الإمام النووي: "ومن حقق نظره في صحيح مسلم -رحمه الله- واطلع على ما أودعه في أسانيده، وترتيبه، وحسن سياقته، وبديع طريقته، من نفائس التحقيق، وجواهر التدقيق، وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية، وتلخيص الطرق واختصارها، وضبط متفرقاتها وانتشارها، وكثرة اطلاعه، واتساع روايته، وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات، واللطائف الظاهرات والخفيات -علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره، وقل من يساويه بل يداينه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"4، حتى قال أبو علي الحافظ النيسابوري أستاذ الحاكم: "ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج"5، والجمهور على أن صحيح البخاري مُقدَّم على صحيح الإمام مسلم رحمهما الله جميعًا. - دوافع تصنيف الإمام مسلم لصحيحه: يمكن إرجاع الأسباب التي من أجلها صنف الإمام مسلم صحيحه إلى سببين رئيسيين هما:   1 محاسن الاصطلاح "ص91". 2 المراد التمييز بين الأشياء، ويعني دقة فرز الإمام مسلم لأحاديث صحيحه. 3 تلخيص صحيح مسلم، للقرطبي "ص32". 4 في مقدمة شرح صحيح مسلم له "1/ 115". 5 مقدمة ابن الصلاح "ص10"، تلخيص صحيح مسلم للقرطبي "1/ 32". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الأول: انتخاب طائفة من الأحاديث الصحيحة المتصلة والمشتملة على أحكام الدين وسننه، مرتبة فقهيًّا، خاصة وأن المصنفات الحديثة في عصره -أو قبله- كانت غير مرتبة فقهيًّا، وتجمع الصحيح والضعيف معًا، باستثناء صحيح الإمام البخاري، وموطأ الإمام مالك. الثاني: صرف غير المشتغلين بعلوم الحديث المتخصصين إلى مصنف مشتمل على الأحاديث الصحيحة الجامعة لأحكام الدين بعيدًا عن روايات الزنادقة والقصاصين وجهلة المتصوفة. - منهج الإمام مسلم، وشروطه في صحيحه: رتب الإمام مسلم صحيحه ترتيبًا فقهيًّا دقيقًا على الكتب والأبواب، دون تكرار أو تجزئة لها كما صنع شيخه البخاري، ولتوضيح منهجه نسوق مثالًا من صحيحه: يقول في باب تحريم إيذاء الجار والحث على إكرامه هو والضيف1: 1- حدثنا يحيى بن أيوب، وقتيبة بن سعيد، وعلي بن حُجْر -جميعًا- عن إسماعيل بن جعفر، قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل، قال: أخبرني العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه". 2- حدثني حرملة بن يحيى، أنبأنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: $"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه". 3- حدثنا أبو بكر بن شيبة، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي حصين، عن أبي   1 صحيح مسلم بشرح النووي "1/ 377 - 380". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". 4- حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمثل حديث أبي حصين، غير أنه قال: "فليحسن إلى جاره ... ". 5- حدثنا زهير بن حرب، ومحمد بن نمير، جميعًا عن ابن عيينة، قال ابن نمير: حدثنا سفيان، عن عمرو: أنه سمع نافع بن جبير يخبر عن أبي شريح الخزاعي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت". وواضح من هذا المثال -كما قال فضيلة الدكتور رفعت فوزي- أن الإمام مسلمًا يجمع طرق المتن الواحد من غير تكرار، كما ألزم نفسه بذلك في مقدمة كتابه، فإذا اتحد المتن لا يكرره، فإذا كان الاختلاف يسيرًا نبه عليه فقط، أما إذا كان غير يسير فإنه يعيد المتن؛ لأنه يصبح حينئذ متنًا جديدًا. وواضح أيضًا دقة الإمام مسلم في روايته للأحاديث، ويتمثل هنا في اعتنائه بضبط اختلاف ألفاظ الرواة، ففي الحديث الخامس حدثه زهير بن حرب، ومحمد بن نمير بحديث واحد؛ ولكنه ينبه إلى أن ما أثبته في كتابه إنما هي رواية ابن نمير وألفاظه، فقال: "قال ابن نمير: حدثنا سفيان ... " إلى آخره. ومما يتصل بدقة الإمام مسلم في كتابه ما ذكره الإمام النووي من أنه يعتني بالتمييز بين "حدثنا" و"أخبرنا"، وتقييده ذلك على مشايخه، وفي روايته، وكان من مذهبه -رحمه الله- الفرق بينهما، وأن "حدثنا" لا يجوز إطلاقه إلا على ما سمعه من لفظ الشيخ خاصة، و"أخبرنا" لما قرئ على الشيخ1.   1 صحيح مسلم بشرح النووي "1/ 130". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ومن دقته أيضًا اعتناؤه بالأسانيد وتحويلها، وعدم الاكتفاء ببعضها، مع إيجاز العبارة وكمال حُسنها، ولا يجيز لنفسه أن يروي الصحيفة الواحدة بإسناد واحد، وإنما ينبه على الإسناد في كل حديث، ويتجلى ذلك في صحيفة همام بن منبه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد رويت هذه الصحيفة بإسناد واحد في أولها، وكان مسلم يستطيع أن يفعل ذلك بألا يذكر الإسناد إلا مع الحديث الأول فيها، كما أجاز ذلك وكيع بن الجراح، ويحيى بن معين، وأبو بكر الإسماعيلي الشافعي؛ ولكنه "ورعًا واحتياطًا وتحريًا وإتقانًا" ذكر كل حديث منهما مقترنًا بإسناده1. ومن دقته تحريه في مثل قوله: "حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا سليمان -يعني ابن بلال- عن يحيى، وهو ابن سعيد"، فلم يستجز -رضي الله عنه- أن يقول: سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد؛ لكونه لم يقع في روايته منسوبًا، فلو ذكره بنسبه إلى أبيه لكان مخبرًا عن شيخه أنه أخبره بنسبه، والحقيقة أنه لم يخبره. فهو بهذا كله قد حافظ على التقاليد الأصيلة لعلم الإسناد وروايته، تلك التقاليد التي وضعها أئمة الحديث؛ صيانة للرواية من التبديل والتغيير، وتوثيقًا لها؛ بحيث يطمأن إلى ورود الحديث ورودًا نقيًّا دون تحريف فيه، وأصبح كتاب مسلم -كما قال أحد الدارسين المحققين المعاصرين- بهذا كله "كامل الأسانيد، واضح البناء، منطقيًّا في ترتيب مواده، موفقًا في اختيار مصادره2" 3. هذا، وقد أعلن الإمام مسلم عن منهجه وشرطه في مقدمه صحيحه فقال: "ثم إنَّا -إن شاء الله- مبتدئون في تخريج ما سألت وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك، وهو أنا نَعْمِدُ إلى جُمْلَةِ ما أُسند من الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-   1 مقدمة شرح صحيح مسلم "1/ 131". 2 فؤاد سزكين في تاريخ التراث العربي "1/ 353". 3 كتب السنة، الجزء الأول "ص196 - 199". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فنقسمها على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من الناس، على غير تكرار، إلا أن يأتي موضع لا يُستغنَى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك؛ لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام، فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة، أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن؛ ولكن تفصيله ربما عسر من جملته، فإعادته بهيئته -إذا ضاق ذلك- أسلم. فأما ما وجدنا بُدًّا من إعادته بجملته من غير حاجة منا إليه، فلا نتولى فعله إن شاء الله تعالى. فأما القسم الأول: فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى، من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخبط فاحش، كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين، وبان ذلك في حديثهم، فإذا نحن تقصَّينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارًا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم؛ كعطاء بين السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سُليم، وأضرابهم من حُمَّال الآثار ونُقَّال الأخبار، فهم -وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية- يفضلونهم في الحال والمرتبة؛ لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سنية ... فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت من الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون، أو عند الأكثر منهم، فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم؛ كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدائني، وعمرو بن خالد، وعبد القدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 إبراهيم، وسليمان بن عمرو أبي داود النخعي، وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضًا عن حديثهم، وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفتْ روايتُه أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك، كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله، فمن هذا الضرب من المحدثين: عبد الله بن مُحرَّر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبد الله بن ضميرة، وعمر بن صُهْبان، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث، فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به؛ لأن حكم أهل العلم -والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدِّث من الحديث- أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وُجِدَ كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئًا ليس عند الصحابة قُبِلَتْ زيادته ... فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مُشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما -أو عند أحدهما- العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم. واعلم -وفقك الله تعالى- أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين، ألا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والسِّتارة1 في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع ... "2.   1 الستارة: ما يستتر به، وكذلك السترة، وهي هنا إشارة إلى الصيانة، م "1/ 8" هامش. 2 صحيح مسلم "1/ 4- 8"، طبع دار إحياء الكتب العربية، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وحاصل كلام الإمام مسلم الذي عرض فيه منهجه وشروطه يتلخص فيما يلي: أولًا: أنه يتحاشى التكرار إلا عند الحاجة الماسة. ثانيًا: أنه قسم الأخبار المسندة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ثلاثة أقسام تضم أربع طبقات تبعًا لدرجات الرواة ومكانتهم من حيث قبول رواياتهم وردها: القسم الأول: أنه التزم بتخريج روايات أهل الحفظ والإتقان والاستقامة من أهل الطبقة الأولى أولًا. القسم الثاني: أنه يُتْبِع روايات أهل الطبقة الأولى بروايات أهل الطبقة الثانية، ممن يشملهم الستر والصدق، وليسوا من أهل الحفظ والإتقان، وعنده أن أخبار أهل القسم الثاني لتقوية ومعاضدة روايات أهل القسم الأول عند الاحتياج إليها، وقد بيَّن الحافظ ابن حجر العسقلاني قصد الإمام مسلم من المتابعات، وهو يرفع بها التفرد عن أحاديث أهل القسم الأول إذا وجدت الحاجة لذلك، ويفيد قلة أحاديث القسم الثاني في الصحيح نسبيًّا؛ لأن هدفه الأول الصحة، وقد يتحقق في كثير من الأحيان بأحاديث أهل القسم الأول. وحين تكلم ابن القطان على أحد رجال مسلم وقال: "وعيب على مسلم إخراج حديثه"، قال ابن القيم ردًّا عليه: "ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه؛ لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه"1. وهذا يتفق مع تصريح الإمام مسلم نفسه حين قال: "ليس كل شيء صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه"2. القسم الثالث: ويشمل المتهمين من أهل الطبقة الثالثة، والغالب على حديثه   1 زاد المعاد "1/ 364". 2 صحيح مسلم "1/ 304" في الحديث رقم "63". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 النكارة من أهل الطبقة الرابعة، فهؤلاء لا يعرج على حديثهم، ولا يتشاغل بتخريجه. وهكذا تلاحظ اهتمام الإمام مسلم بالسند، وتحري عدالة الرواة وضبطهم؛ وذلك لأن الإسناد دليل على صحة الحديث أو ضعفه، مما ينعكس بوضوح على الأحكام التشريعية. قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء1. وقد التزم الإمام مسلم بهذا المنهج الذي رسمه لنفسه، وليس كما زعم الحاكم والبيهقي، حين ذهبا إلى أنه لم يخرج في كتابه الصحيح إلا عن الطبقة الأولى، ولم يخرج عن الطبقة الثانية2. قال القاضي عياض: "وليس الأمر على ذلك لمن حقق نظره ولم يتقيد بالتقليد، فإنك إذا نظرت إلى تقسيم مسلم في كتابة الحديث على ثلاث طبقات من الناس كما قال"3، فجاء بحديث الحفاظ والمتقنين أولًا، ثم أتبعه بحديث أهل الستر والصدق، ثم استشهد بحديث من اتهم من قِبَل بعض العلماء بتهمة نفاها عنه آخرون، ممن ضعف أو اتهم ببدعة، قال النووي: "وهذا الذي اختاره القاضي عياض ظاهر جدًّا، والله أعلم"4. فكل الأحاديث التي رواها مسلم في أصول أبواب صحيحه متصلة الإسناد برواية الثقة عن الثقة من أوله إلى آخره، قال ابن الصلاح: شرط مسلم في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه، سالمًا من الشذوذ، ومن العلة، وهذا هو حد الحديث الصحيح في نفس الأمر، فكل حديث اجتمعت فيه هذه الأوصاف فلا خلاف بين أهل الحديث في صحته5.   1 مقدمة صحيح مسلم "1/ 128"، المحدث الفاضل "ص209"، مقدمة ابن الصلاح "ص130"، تدريب الراوي "2/ 160"، شرف أصحاب الحديث "ص41"، معرفة علوم الحديث "ص9"، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "1/ 123". 2، 3 شرح مسلم للنووي "1/ 132". 4 المصدر السابق "1/ 133". 5 صيانة صحيح مسلم "ص72"، ونقله النووي بنحوه في مقدمة صحيح مسلم "1/ 121، 122". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وأخطأ الذين عابوا على الإمام مسلم روايته عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين، الذين ليسوا من شرط الصحيح، وذلك لأحد أسباب لا معاب عليه معها1: أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، قال ابن الصلاح: "ولا يقال: إن الجرح مُقدَّم على التعديل، وهذا تقديم للتعديل على الجرح؛ لأن الذي ذكرناه محمول على ما إذا كان الجرح غير مفسر السبب فإنه لا يعمل به". الثاني: أن يكون ذلك واقعًا في الشواهد والمتابعات لا في الأصول؛ وذلك بأن يذكر الحديث أولًا بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلًا، ثم يتبع ذلك بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجهة التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه. الثالث: أن يكون ضَعْف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه غير قادح فيما رواه من قبل في زمان سداده واستقامته، كما في "أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن أخي عبد الله بن وهب"، فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر، فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وغيرهما ممن اختلط آخرًا، ولم يمنع ذلك من الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك ... ثم روى بسنده عن إبراهيم بن أبي طالب2 يقول: قلت لمسلم بن الحجاج: قد أكثرت الرواية في كتابك الصحيح عن أحمد بن عبد الرحمن الوهبي، وحاله قد ظهر؟ فقال: إنما نقموا عليه بعد خروجي من مصر.   1 راجع: صيانة صحيح مسلم "ص94-98"، شرح مسلم للنووي "1/ 134- 136". 2 إبراهيم بن أبي طالب: محمد بن نوح بن عبد الله النيسابوري، أبو إسحاق شيخ خراسان، قال الحاكم: كان إمام عصره في معرفة الحديث والرجال، أملى كتاب العلل وغيره، تُوفي سنة خمس وتسعين ومائتين. راجع: تذكرة الحفاظ "2/ 638"، العبر "2/ 100". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده برواية الثقات نازل، فيذكر العالي أولًا بطول بإضافة النازل إليه مكتفيًا بمعرفة أهل الشأن بذلك، فقد بلغه إن أبا زرعة الرازي أنكر روايته في صحيحه عن "أسباط بن نصر"، وقطن بن نسير" "وأحمد بن عيسى"، فرد الإمام مسلم على ذلك بقوله: وإنما أدخلت من حديث "أسباط" و"قطن" و"أحمد" ما قد رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع إلَيَّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات. ذكر الحاكم أن من شروط الصحيحين إخراج الحديث عن عدلين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونفى الحازمي هذا الشرط نفيًا قاطعًا، وقال: "فهذا غير صحيح طردًا وعكسًا"1. وجاء من الصحيحين بأمثلة تؤكد عدم صحة ما ذهب إليه الحاكم2، ومن بين الأمثلة الموجودة في صحيح البخاري -والتي تنفي ادعاء الحاكم وزعمه، كما يرى الحازمي- أن أول حديث في صحيح الإمام البخاري، وهو: "إنما الأعمال بالنيات ... "، وآخر حديث فيه، وهو: "كلمتان خفيفتان ... " فردان غريبان، كما نص على ذلك الحافظ البرهان البقاعي وغيره، وقد صنف الحافظ الضياء المقدسي مؤلفًا سماه: "غرائب الصحيحين"، وذلك فيه ما يزيد على مائتي حديث من الغرائب والأفراد المخرجة في الصحيحين3. قلت: وقد يكون مراد الحاكم أن هذا الشرط استحسنه الشيخان؛ ولكنهما لم يلتزما به في كل الأحاديث! - عناية الأمة الإسلامية بصحيح الإمام مسلم: حَظِيَ صحيح الإمام مسلم بعناية كبيرة من الأمة الإسلامية وعلمائها في   1 شروط الأئمة الخمسة "ص43، 44". 2 راجع: المصدر السابق "ص44-50". 3 راجع: المصدر السابق، "التعليق في الهامش" "ص43". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 مشارق الأرض ومغارها، وهذه العناية تلت العناية بصحيح البخاري مباشرة، وكانت هذه العناية من وجوه عدة تكاتفت جميعًا لتؤكد أن صحيح الإمام مسلم انتقل إلينا عبر الأجيال موثقًا ومحفوظًا ومصانًا من أي عبث أو تحريف أو تغيير، وسيظل كذلك حتى قيام الساعة، ونوضح هذه الوجوه فيما يلي1: أولًا: انتقل صحيح الإمام مسلم إلى العلماء بالسماع، أو القراءة، أو المناولة، أو الإجازة جيلًا بعد جيل، شأنه في ذلك شأن المؤلَّفات في العلوم الإسلامية، وإن العناية هنا في هذا المجال أكثر وأوفر. يصف الإمام النووي "631-676هـ/1233-1277م" كيف انتقل صحيح الإمام مسلم إليه خاصة، وإلى عصره عامة فيقول: "صحيح مسلم -رحمه الله- في نهاية من الشهرة، وهو متواتر عنه من حيث الجملة، فالعلم القطعي حاصل بأنه تصنيف أبي الحسين مسلم بن الحجاج، وأما من حيث الرواية المتصلة بالإسناد المتصل بمسلم، فقد انحصرت طريقه عنده في هذه البلدان في رواية أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم، ويروي في بلاد المغرب -مع ذلك- عن أبي محمد أحمد بن علي القلانسي عن مسلم، ورواه عن ابن سفيان جماعة منهم الجلودي، وعن الجلودي جماعة منهم الفارسي، وعنه جماعة منهم الفراوي، وعنه خلائق منهم منصور، وعنه خلائق منهم شيخنا أبو إسحاق"2. قال الشيخ الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وأما القلانسي فوقعت روايته عند أهل المغرب، ولا رواية له عند غيرهم، دخلت روايته إليهم من جهة أبي عبد الله محمد بن يحيى الحذَّاء التميمي القرطبي وغيره، سمعوها بمصر من أبي العلاء عبد الوهاب بن عيسى بن الرحمن بن ماهان البغدادي، قال:   1 انظر كتب السنة، الجزء الأول "ص212 - 221". 2 شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 116". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن يحيى الأشقر الفقيه على مذهب الشافعي، قال: حدثنا أبو محمد القلانسي، قال: حدثنا مسلم إلا ثلاثة أجزاء من آخر الكتاب أولها حديث الإفك الطويل1، فإن أبا العلاء بن ماهان كان يروي ذلك عن أبي أحمد الجلودي، عن ابن سفيان، عن مسلم رضي الله عنه2. وبلغ من دقتهم أن ميزوا بين ما أخذه أشهر الرواة عن مسلم سماعًا وما أخذوه إجازة، وينقل النووي عن ابن الصلاح ذلك، يقول: "اعلم أن لإبراهيم بن سفيان في الكتاب فائتًا لم يسمعه من مسلم، يقال فيه: أخبرنا إبراهيم عن مسلم، ولا يقال فيه: أخبرنا مسلم، ولا: حدثنا مسلم، وروايته لذلك عن مسلم إما بطريق الإجازة، وإما بطريق الوجادة3. وقد أغفل أكثر الرواة عن تبيين ذلك وتحقيقه في فهارسهم وتسميعاتهم وإجازاتهم وغيرها؛ بل يقولون في جميع الكتاب: أخبرنا إبراهيم قال: أخبرنا مسلم، وهذا الفوت في ثلاثة مواضع محققة في أصول معتمدة". وهذه الفوائت قريبًا من ست وثلاثين ورقة4. وقد اجتهد العلماء في كل جيل وكل عصر لأن يسمعوا صحيح الإمام مسلم أكثر من مرة، وعلى أكثر من شيخ، وهذا من شأنه يزيد في الاطمئنان إلى سلامة وصول الكتاب إلى كل جيل لاحق دون تحريف أو تغيير. وقد ذكر ابن خير الإشبيلي "502-575هـ" في فهرسته الطرق التي وصل بها   1 من "ص112- 246" آخر الكتاب ج8 وهو الجزء الأخير من طبعة إستنابول سنة 1329هـ. ومن "ص628 - 883"، من صحيح مسلم على شرح النووي، طبعة دار الشعب بالقاهرة. 2 مقدمة شرح مسلم للنووي "1/ 116، 117" دار القلم، بيروت. 3 وقد رجح النووي، كما هو موجود عنده في بعض الأصول أنه يروي هذا الجزء إجازة "1/ 117" من شرح مسلم، وهذا بطبيعة الحال لا يتنافَى مع كون محمد بن سفيان سمع أحاديث هذا الجزء من مسلم في غير كتاب الصحيح. 4 مقدمة شرح صحيح مسلم، النووي "1/ 117-119". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 صحيح الإمام مسلم دون تحريف أو تغيير، فقال في روايته لصحيح مسلم: مصنف الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، وهو "المسند الصحيح المختصر من السنن، بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". أما رواية الجلودي فحدثني بها الشيخ القاضي أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن العربي -رحمه الله- قراءة مني عليه، قال: أنا به الشيخ أبو بكر محمد بن طرخان بن يلتكين بن يَحْكَم التركي، قال: أنا أبو الليث أبو الفتح نصر بن الحسن بن أبي القاسم التنكتي الشاسي. قال ابن العربي أيضًا: وأخبرنا الشيخ الإمام جمال الإسلام إمام الحرمين أبو عبد الله الحسين بن علي الطبري نزيل مكة بها سماعًا ومناولة، قالا: أنا عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الزكي العدل، قال: نا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم، وفي بعض المواضع يقول ابن سفيان: حدثنا مسلم، وذلك مقيد مجود في أصلي بحمد الله، وحدثني بها أيضًا الشيخ الخطيب أبو بكر موسى بن سيد بن إبراهيم الأموي -رحمه الله- قراءة مني عليه في أصل كتابه بالمسجد الجامع بالجزيرة الخضراء -حرسها الله- في ذي القعدة من سنة 534هـ، والشيخ المحدث أبو الحسن عباد بن سرحان المعافري -رحمه الله- مناولة منه لي في أصل كتابه، والشيخ الإمام أبو الحكم عبد الرحمن بن عبد الملك بن غشَلْيان الأنصاري -رحمه الله- إجازة قالوا كلهم: حدثنا بها الشيخ الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي الطبري المذكور، أما ابن سيد، وابن سرحان، فسمعاه عليه، وأما ابن غشليان فإجازة منه له، وقد تقدم سند الطبري فوق هذا، وحدثني بها أيضًا شيخنا أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث -رحمه الله- قراءة عليه، وأنا أسمع إلا يسيرًا من آخره، فإنه أجازه لي وناولني الديوان كله، قال: حدثني به الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن محمد بن بشير المعافري الصيرفي -رحمه الله- قراءة عليه، قال: نا به أبو محمد عبد الله بن الوليد بن سعد بن بكر الأنصاري بمصر وكتبته من كتابه، قال: نا به أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبد الرحمن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 بِنْدَار بن جبريل الرازي، قال: نا أبو أحمد الجلودي، قال: نا إبراهيم بن محمد بن سفيان، قال: نا مسلم بن الحجاج، وحدثني بها أيضًا الشيخ الأديب أبو عبد الله محمد بن سليمان بن أحمد النفزي المالقي -رحمه الله- مناولة منه لي، قال: حدثني به الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث العذري، ثم الدلائي -رحمه الله- سماعًا مني عليه مرة وثانية، قال: نا به أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبد الرحمن بن بندار الرازي بمكة -حرسها الله- قراءة عليه وأنا أسمع سنة "409هـ" بالإسناد المتقدم، وحدثني بها الشيخ المحدث أبو بكر محمد بن أحمد طاهر القيسي سماعًا عليه لبعضه وإجازة لجميعه، قال: حدثني به الشيخ الحافظ أبو علي حسين بن محمد بن أحمد الغسائي -رحمه الله- قراءة عليه قال: حدثني به الشيخ أبو العباس العذري المذكور، قراءة مني عليه بمدينة بلنسية في أيام من رجب وشعبان سنة "470هـ" قال: نا أبو العباس بن بندار المذكور بالسند المتقدم. قال أبو علي: وأخبرني به أبو القاسم حاتم بن محمد الطرابلسي مناولة من يده إلى يدي، قال: أخبرني به أبو سعيد عمر بن محمد بن محمد بن داود السجزي بمكة سنة "403هـ" قال: نا أبو أحمد الجلودي قراءة عليه في سنة "369هـ" بنيسابور، قال: نا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم، قال حاتم: وحدثني به أبو محمد عبد الملك بن الحسن بن عبد الله الصقلي، قال: نا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن يحيى الكسائي بنيسابور سنة "382هـ"، قال: نا إبراهيم بن محمد بن سفيان سنة "308هـ" قال: نا أبو الحسين مسلم بن الحجاج بنيسابور سنة "257هـ". قال إبراهيم: فرغ لنا مسلم من قراءة الكتاب لعشر خلون من رمضان من العام المذكور، وتوفي مسلم بن الحجاج -رحمه الله- سنة "261هـ"، ذكر أبو بكر الخطيب في تاريخه مدينة السلام: أخبرني محمد بن علي المقري، قال: أنا محمد بن عبد الله النيسابوري، قال: سمعت محمد بن يعقوب أبا عبد الله الحافظ يقول: توفي مسلم بن الحجاج عشية يوم الأحد، ودفن يوم الإثنين لخمس بقين من رجب سنة "261هـ"، وحدثني أيضًا الشيخ أبو محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 عتاب -رحمه الله- إجازة فيما كتب به إليَّ، قال: أنا الشيخ الصالح أبو محمد عبد الله بن سعيد الشنتجالي وأبو القاسم حاتم بن محمد الطرابلسي إجازة، قالا: نا أبو سعيد عمر بن محمد السجزي بإسناده المتقدم، قال أبو محمد بن عتاب: وأخبرني بها أيضًا الشيخ أبو محمد مكي بن أبي طالب المقري إجازة عن أبي العباس أحمد بن محمد بن زكريا القسوي قال: نا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن يحيى الكسائي، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم. وأما رواية ابن ماهان، فحدثني بها الشيخ القاضي أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز اللخمي الباجي سماعًا عليه مرة وثانية، قال: حدثني بها أبي، وعماي أبو عمر أحمد، وأبو عبد الله محمد، وابن عمي الفقيه أبو محمد عبد الله بن علي بن محمد، قالوا كلهم: حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله الفقيه، قال: نا أبو العلاء عبد الوهاب بن عيسى بن ماهان البغدادي سماعًا عليه مع أبي -رحمه الله- بمصر، قدمها علينا، قال: نا أبو بكر أحمد بن محمد بن يحيى الفقيه على مذهب الشافعي المعروف بالأشقر بنيسابور، قال: نا أبو محمد أحمد بن علي بن الحسين بن المغيرة بن عبد الرحمن القلانسي، قال: نا أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري -رحمه الله- وحدثني بها أيضًا أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر القيسي المذكور سماعًا عليه وإجازة على نحو ما تقدم، قال: نا أبو علي حسين بن محمد بن أحمد الغساني، قال: حدثني بها القاضي أبو عمر أحمد بن محمد الحذاء التميمي قراءة عليه سنة 457هـ، قال: نا أبي -رحمه الله- قراءة مني عليه سنة "395هـ"، قال: نا أبو العلاء عبد الوهاب بن عيسى بن ماهان البغدادي، قال: نا أبو بكر أحمد بن محمد الفقيه الأشقر، قال: نا أبو محمد أحمد بن علي القلانسي، قال: نا مسلم بن الحجاج، حاشا ثلاثة أجزاء من آخر الكتاب، أولها حديث عائشة في الإفك ... الحديث الطويل إلى آخر الديوان، فإن أبا العلاء بن ماهان يروي ذلك عن أبي الجلودي، عن إبراهيم بن محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ابن سفيان عن مسلم بن الحجاج، وحدثني بها أيضًا الشيخ أبو محمد بن عتاب إجازة قال: نا أبو عمر بن الحذاء المذكور إجازة بالسند المتقدم، قال: وحدثني بها أبو محمد بن عتاب -رحمه الله- قراءة عليه وأنا أسمع "34ب" غير مرة قال: نا أبو القاسم أحمد بن فتح، قال: نا أبو العلاء بن ماهان بالإسناد المتقدم، قال أبو علي: سمعت أبا عمر بن الحذاء يقول: سمعت أبي -رحمه الله- يقول: أخبرني ثقات أهل مصر: أن أبا الحسن علي بن عمر الدارقطني كتب إلى أهل مصر من بغداد: أن اكتبوا عن أبي العلاء بن ماهان كتاب مسلم بن الحجاج، ووصف أبا العلاء بالثقة والتمييز1. قال فضيلة الدكتور رفعت فوزي2: "وقد انتقل صحيح مسلم بعد ذلك بنفس الطريقة كما يعلم ذلك بدهيًّا من الفهارس والأثبات، والنسخ المخطوطة التي لا يكاد يخلو عصر منها من العصور، كما لا تخلو مكتبة منها من مكتبات المخطوطات العربية في جميع أنحاء العالم، كما ذكر صاحب تاريخ التراث العربي"3. وعندنا أريد طبع صحيح مسلم انتضى له علماء أجلاء وحققوه، وقارنوا بين نسخ مخطوطة منه، فجاء على "أتم وأدق تصحيح" مقيدًا بالشكل الكامل، ومن ذلك ما طبع بدار الطباعة بالأستانة، عام "1329هـ".يقول الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي: "وهذه النسخة لم يأل القائمون على طبعها جهدًا في تصحيحها، ومراجعة النسخ المخطوطة التي كانت تحت أيديهم"4. وما يزال العلماء يطبعون صحيح مسلم، ويعنون بضبطه5 وتحقيقه.   1 فهرسة ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنفة "ص98 - 102". 2 كتب السنة، الجزء الأول "ص218 - 221". 3 فؤاد سزكين: تاريخ التراث العربي "1/ 354". 4 أول ورقة من طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. 5 نشر صحيح مسلم في كلكتا عام "1265هـ"، وفي القاهرة "1327هـ"، "تاريخ الأدب العربي 3/ 108"، ومن الطبعات الحديثة المحققة طبعة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، بالقاهرة، عام "1374هـ- 1955م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ولم يكن انتقال صحيح الإمام مسلم -خاصة هو وصحيح البخاري- كتابة وسماعًا وقراءة فقط، وإنما كان علماء الأمة الإسلامية يعنون بحفظه ومدارسته، والتنبيه إلى ما فيه، وما ليس فيه من الأحاديث وألفاظها وزياداتها. ويعطينا الشيخ عبد الحي الكتاني -وهو من كبار المحدثين في كتابه "فهرس الفهارس والأثبات"1- عند كلامه عن والده المحدث الكبير الكتاني فيقول: "وديوانه الصحيح ختمه نحو الخمسين مرة، ما بين قراءته له على المشايخ وإسماع له، وكان يعرفه معرفة جيدة ... وأتم سماع وإسماع الكتب الستة2 ... يستحضر أحاديث الكتب الستة كأصابع يده، وإن أَنْسَ فلا أنسى أني كنت مرة أسمع عليه كتاب المجالس المكية لأبي حفص الميانسي المكي من أصل عتيق بخط الحافظ أبي العلاء العراقي، فوصلنا فيه إلى حديث عثمان في كيفية وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- فمع عزو الميانسي له إلى مسلم ذكر فيه المسح على الأذنين، فقال لنا الشيخ الوالد: مسح الأذنين في الوضوء لا يوجد في الصحيحين من حديث عثمان، ولا غيره، فقمت بعد ذلك على ساق في مراجعة نسخ صحيح مسلم العتيقة المسموعة وغيرها من المستخرجات والمصنفات الأثرية، فلم أجد لذلك ذكرًا فيها، فأيقنت بحفظ الرجل، وقوة استحضاره وخوضه في السُّنَّة"3. ثانيًا: انتقل صحيح مسلم مرة أخرى على أيدي العلماء الذين شرحوه، ومخطوطات هذه الشروح منتشرة في مكتبات العالم، وبعضها طبع طبعًا محققًا4، وبعضها قارن بين نسخ مسلم، ونبه على ما فيها من اختلافات سببها زيادات يسيرة، أو اختلاف أصحابها، واختلاف أوقات أخذهم لها من مسلم رحمه الله تعالى.   1 طبع عام 1346هـ، بالمطبعة الجديدة الفاسية بالطالعة. 2 الكتب الستة: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن الترمذي، سنن النسائي، سنن ابن ماجه. 3 فهرس الفهارس "2/ 141". 4 انظر: أماكنها، وسنوات طباعة بعضها، ومتى طبعت في "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين "1/ 354- 362"، الطبعة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ومن هذه الشروح: "إكمال الْمُعْلِم بفوائد مسلم للقاضي عياض بن موسى اليحصبي" "544هـ-1149م"، و"إكمال إكمال المعْلِم" لمحمد بن خليفة بن عمر الوشتاتي الأبي التونسي "ت827هـ-1424م"، وهو تكملة للشرح السابق، و"المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج" ليحيى بن شرف النووي "ت676هـ-1277م". ثالثًا: كما ألفت كتب تعنَى بنص صحيح مسلم، من حيث الجمع بينه وبين صحيح البخاري، وما اتفقا عليه وانفردا به، وما استخرج عليه، ومن هذه الكتب "الجمع بين الصحيحين" لمحمد بن عبد الله الجوزقي "ت388هـ-998م"، و"الجمع بين الصحيحين" لمحمد بن نصر الحميدي "ت488هـ-1095م"، و"المستدرك على الصحيحين" لمحمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري "ت404هـ-1014م"، و"أطراف الصحيحين" لخلف بن محمد علي الواسطي، و"المستخرج" للإسماعيلي، و"شرح زوائد مسلم على البخاري، لعمر بن رسلان البلقيني "805هـ-1403م"، وغيرها1. رابعًا: هذا عدا الكتب الأخرى التي تُعْنَى بشرح غريب مسلم، وحل مشكلاته، وإحصاء رجاله، والكشف عن أحوالهم وضبطهم2. وهذا كله يدل على عناية العلماء بصحيح مسلم، وهو أمر يؤكد الثقة به وبنقله وبالمحافظة على نصه، وتواتر نقله، كما قال الإمام النووي رحمة الله عليه.   1 تاريخ التراث "1/ 366- 368"، تدريب الراوي "1/ 111". 2 تاريخ التراث "1/ 364- 366". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 مقارنة بين الصحيحين : لقد التزم الشيخان ألا يخرجا في صحيحيهما سوى الأحاديث الصحيحة، حتى وإن اختلفا في المنهج، وترجح أحدها على الآخر في قوة الشروط: فمن حيث المنهج، فإن الإمام البخاري كان يجزئ الحديث أو يكرره الواحد في عدة كتب أبواب فقهية؛ لأن الحديث الواحد قد يشتمل على أكثر من معنى، وكل معنى يندرج تحت باب معين، فهو بحسن استنباطه وغزارة فقهه يستخرج منه الفوائد الحديثية ويستنبط الأحكام الفقهية المختلفة، ومن هنا يكون السر في التكرار أو التجزئة. وأما الإمام مسلم، فالتزم منهجًا دقيقًا في ترتيب الأحاديث؛ حيث تلافى ما فعله الإمام البخاري في صحيحه، فلم يكرر الأحاديث ولم يجزئها في أبواب عدة. ومن حيث الموازنة في هذه الجزئية، فإن منهج الإمام البخاري يجعل العثور على الحديث بكماله أشد صعوبة من البحث عليه عند مسلم. ومن جهة أخرى، فإن الإمام البخاري اهتم بالتراجم في الأبواب؛ لأنها عكست فقهه ومذهبه، وتوضح رأيه في المسألة التي يتناولها كل باب. ولكن مسلمًا لم يذكر تراجم لأبوابه، ويعلل ذلك الإمام النووي بأنه ربما أراد ألا يزيد حجم الكتاب. قال النووي: "ثم إن مسلمًا -رحمه الله- رتب كتابه على أبواب فهو مبوب في الحقيقة، ولكنه لم يذكر تراجم الأبواب فيه؛ لئلا يزداد بها حجم الكتاب أو لغير ذلك"1. فقد يكون الأمر كذلك، وقد يكون غيره، مثل أن يقال: إنه فعل ذلك لئلا ينشغل الناس عن الأحاديث أو معانيها بالتماس أوجه الصلة بين عناوين الأبواب والأحاديث التي ذكرت تحتها، كما حدث ذلك في كتاب البخاري.   1 شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 129". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 قال فضيلة الدكتور/ رفعت فوزي: وقد سد هذا النقص شراح كتاب مسلم ومحققوه، فوضعوا له الأبواب التي تتلاءم مع معاني الأحاديث فيه1. وأما من حيث الصحة وقوة الشروط، فإن صحيح الإمام البخاري مقدَّم على صحيح مسلم في هذا الجانب، ويدل على ذلك أمران: الأول: شهادة جهابذة الحديث، ومن ذلك ما رواه الحافظ ابن حجر عن أبي عبد الرحمن النسائي أنه قال: "ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل". قال الحافظ: والنسائي لا يُعْنَى بالجودة إلا جودة الأسانيد، كما هو المتبادر إلى الفهم من اصطلاح أهل الحديث، ومثل هذا من النسائي غاية في الوصف مع شدة تحريه وتوقيه وتثبته في نقد الرجال وتقدمه في ذلك على أهل عصره حتى قدمه قوم من الحذاق في معرفة ذلك على مسلم بن الحجاج، وقدمه الدارقطني وغيره على إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة صاحب الصحيح. وقال الإسماعيلي في المدخل له: "أما بعد، فإني نظرت في كتاب الجامع الذي ألفه أبو عبد الله البخاري فرأيته جامعًا، كما سمى لكثير من السنن الصحيحة ودالا على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة التي لا يكمل لمثلها إلا من جمع إلى معرفة الحديث ونقلته والعلم بالروايات وعللها، علمًا بالفقه واللغة، وتمكنًا وتبحرًا فيها، وكان -يرحمه الله- الرجل الذي قصر في زمنه على ذلك، فبرع، وبلغ الغاية، فحاز السبق، وقد نحا نحوه في التصنيف جماعة منهم مسلم بن الحجاج، وكان يقاربه في العصر، فرام مرامه، وكان يأخذ عنه، أو عن كتبه، إلا أنه لم يضايق نفسه مضايقة أبي عبد الله، وروى عن جماعة كثيرة لم يتعرض أبو عبد الله للرواية عنهم، وكل قصد الخير، غير أن أحدًا لم يبلغ في التشدد مبلغ أبي عبد الله، ولا   1 كتب السنة "ص196"، وقال في الهامش: ولعل أكثرهم دقة -في وضع التراجم وصياغتها- الإمام النووي عندما شرح كتاب مسلم؛ لأنه اطلع على ما فعله العلماء، وتلافى نقص صنيعهم "شرح مسلم 1/ 16". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 تسبب إلى استنباط المعاني، واستخراج لطائف فقه الحديث، وتراجم الأبواب الدالة على ما له صلة بالحديث المروي فيه تسببه، ولله الفضل يختص به من يشاء". قال الحافظ ابن حجر: هذا مع اتفاق العلماء على أن البخاري كان أجل من مسلم في العلوم، وأعرف بصناعة الحديث منه، وأن مسلمًا تلميذه وخريجه، ولم يزل يستفيد منه ويتبع آثاره حتى قال الدارقطني "لما ذكره عند الصحيحين": "لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء"1. وقال مرة أخرى: "وأي شيء صنع مسلم؛ إنما أخذ كتاب البخاري فعمل عليه مستخرجًا، وزاد فيه زيادات". الثاني: أن مدار الحديث الصحيح على اتصال السند، والسلامة من الشذوذ والعلة، مع الضبط والإتقان للرواة، وهذه الأوصاف في كتاب البخاري أقوى منها في كتاب مسلم، فهو أشد اتصالًا، وأوثق رجالًا، وأبعد عن الشذوذ والعلة. - فمن حيث اتصال السند: إن الإسناد المعنعن الذي يقال فيه: "فلان عن فلان" اكتفى مسلم فيه بالمعاصرة، أما البخاري فلا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة، وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه، وجرى عليه في صحيحه، كما جرى مسلم على مذهبه المذكور في صحيحه، وصرح به في مقدمته، وبالغ في الرد على من خالفه، ولا شك أن مذهب البخاري في المعنعن أدخل في باب الاتصال، وأبعد عن شائبة الانقطاع، بخلاف ما ذهب إليه مسلم2. - ومن حيث السلامة من الشذوذ والإعلال: إن الأحاديث التي انتقدت عليهما بلغت "210" اختص البخاري منها بـ"78"، واختص مسلم بـ"100"، واشتركا في "32"، ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر فيه3.   1 شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر "ص10". 2 راجع: المصدر السابق "ص10"، وتدريب الراوي "1/ 114". 3 راجع المصدرين السابقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 - ومن حيث إتقان الرواة: يتبين رجحان صحيح البخاري على صحيح مسلم في هذا الباب بعدة أمور1: أ- إن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضع وثلاثون رجلًا، المتكلم فيه بالضعف منهم "80" رجلًا، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري "620" رجلًا، المتكلم فيه بالضعف منهم "160" رجلًا، ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلًا أولى من التخريج عمن تكلم فيه وإن لم يكن ذلك الكلام قادحًا. ب- إن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من التخريج عنهم، وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها كلها أو أكثرها إلا ترجمة عكرمة عن ابن عباس، بخلاف مسلم فإنه أخرج أكثر تلك النسخ؛ كأبي الزبير عن جابر، وسهيل عن أبيه، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، وحماد بن سلمة عن ثابت، وغير ذلك. ج- إن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم، وعرف أحوالهم، واطلع على أحاديثهم، وميز جيدها من غيره، بخلاف مسلم فإن من انفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه أكثرهم ممن تقدم عصره من التابعين ومن بعدهم. ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه دون غيرهم. د- إن البخاري يخرج أحاديث الطبقة الأولى، وهي أعلى الطبقات في الحفظ والإتقان وطول الصحبة لمن أخذوا عنه استيعابًا، وينتقي من أحاديث الطبقة الثانية التي هي دون الأولى في الصفات المذكورة، ومسلم يخرج حديث الطبقة الثانية استيعابًا، وفي أصل موضوع كتابه، فكان البخاري أقوى إسنادًا وأوثق رجالًا. هذا، وأما ما نقل عن أبي علي النيسابوري أنه قال: "ما تحت أديم السماء   1 راجع هذه الأمور في تدريب الراوي "1/ 112، 113". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج" لا ينافي ما تقدم، فقد قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر لي من كلام أبي علي أنه إنما قدم صحيح مسلم لمعنى غير ما يرجع إلى ما نحن بصدده من الشرائط المطلوبة في الصحة؛ بل ذلك لأن مسلمًا صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام ليبوب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه؛ بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات، فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل الندرة تبعًا لا مقصودًا؛ فلهذا قال أبو علي ما قال. قال: وكذلك ما نقل عن بعض المغاربة أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فذلك فيما يرجع إلى حسن السياق، وجودة الوضع والترتيب، ولم يفصح أحد منهم بأن ذلك راجع إلى الأصحية، ولو أفصحوا لرده عليهم شاهد الوجود، فالصفات التي تدور عليها الصحة في كتاب البخاري أتم منها في كتاب مسلم وأشد، وشرطه فيها أقوى وأسد1. الحديث المروي في الصحيحين هل يفيد العلم القطعي أم الظني؟ ذهب ابن الصلاح إلى أن ما رواه الإمام البخاري والإمام مسلم متفقين، أو ما رواه أحدهما منفردًا مقطوع بصحته، ويفيد العلم القطعي لا الظني؛ إلا أنه استثنى قائلًا: "سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل الشأن، والله أعلم"2، قال ابن حجر العسقلاني: "وهو احتراز حسن"2. ووافق بعض العلماء ابن الصلاح فيما ذهب إليه ... قال ابن كثير: "وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه"3، ونقل عن ابن تيمية أنه قال: "هو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة"3.   1 شرح نخبة الفكر "ص10". 2 هدى الساري "ص346". 3 اختصار علوم الحديث "ص35، 36". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 كما ذهب إلى هذا الرأي: داود الظاهري، وابن حزم، وابن حجر، والسيوطي1. وحكاه السيوطي عن عدة من الحفاظ فقال: "فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين مثل قول ابن الصلاح عن جماعة من الشافعية؛ كأبي إسحاق، وأبي حامد الإسفراييني، والقاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعن السرخسي من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب من المالكية، وأبي يعلى، وأبي الخطاب، وابن الزاغوني من الحنابلة، وابن فورك، وأكثر أهل الكلام من الأشعرية، وأهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة؛ بل بالغ ابن طاهر المقدسي في صفة التصوف، فألحق به ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه"2. وقد احترز ابن حجر في رأيه فقال: "إلا أن هذا يختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين -صحيح البخاري، وصحيح مسلم- وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه؛ حيث لا ترجيح؛ لاستحالة أن يفيد المتناقضات العلم بصدقها من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته"3. ومن جهة أخرى، فقد عُورض رأي ابن الصلاح فيما ذهب إليه ومَن وافقه من كثير من المحققين كما زعم الإمام النووي حيث قال في التقريب4: "وخالفه المحققون والأكثرون". وقالوا: إنما يفيد الحديث الصحيح الظن ما لم يكن متواترًا لجواز الخطأ والنسيان على الثقة5. وقد دافع الإمام النووي عن هذا الرأي في غير موضع من كتبه، فقال في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "وهذا الذي ذكره   1 اختصار علوم الحديث "ص35، 37". 2 تدريب الراوي "1/ 166". 3 شرح نخبة الفكر "ص7". 4 التقريب مع تدريب الراوي "1/ 165". 5 تدريب الراوي "1/ 75". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الشيخ -يعني ابن الصلاح- في هذه المواضع خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن؛ فإنها آحاد، والآحاد إنما تفيد الظن على ما تقرر، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك. "قال": وتلقي الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما، وهذا متفق عليه، فإن أخبار الآحاد التي في غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها، ولا تفيد إلا الظن، فكذا الصحيحان، وإنما يفترق الصحيحان وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحًا لا يحتاج إلى النظر فيه؛ بل يجب العمل به مطلقًا، وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر فيه، ويوجد فيه شروط الصحيح، ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه من كلام النبي -صلى الله عليه ويسلم- "قال": وقد اشتد إنكار ابن برهان على مَن قال بما قاله الشيخ، وبالغ في تغطيته"1. وقال الإمام السيوطي: "وكذا عاب ابن عبد السلام على ابن الصلاح هذا القول"2. هذا، وقد رأى الدكتور/ مصطفى السباعي أن ذلك مذهب الجمهور3. قال الدكتور/ إسماعيل سالم عبد العال: "وهو ما نميل إليه ونأخذ به"4. قلت: وأنا أميل إلى ما ذهب إليه ابن الصلاح؛ وذلك لأسباب منها: دقة شروط البخاري في صحيحه، ومنها أن البخاري عرض هذه الأحاديث كلها على شيوخه وأئمة عصره، فأقروها سوى أحرف يسيرة.   1 شرح النووي على صحيح مسلم "1/ 15". 2 تدريب الراوي "1/ 165". 3 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي "ص502". 4 دراسات في السُّنة "ص147". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ويمكن أن ينطبق هذا القول الأخير على هذه الأحرف اليسيرة وحدها دون غيرها، وإن كان القول فيها للبخاري كما قال العقيلي1. وقد اعترض بعض العلماء على ما ذهب إليه النووي والعز بن عبد السلام، فقال البلقيني: "ما قاله النووي وابن عبد السلام ومَن تبعهما ممنوع"2. - انتقاد بعض الحفاظ على الشيخين والجواب عنه: انتقد جماعة من الحفاظ على البخاري ومسلم أحاديث زعموا أنهما أخلَّا فيها بشرطيهما ونزلت عن درجة ما التزماه؛ منهم: الدارقطني، وأبو مسعود الدمشقي، وأبو علي الغساني، وألفوا في ذلك. قال الحافظ ابن حجر: وليست عللها كلها قادحة؛ بل أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف. قال: والأحاديث التي انتقدت عليهما إن كانت مذكورة على سبيل الاستئناس والتقوية -كالمعلقات، والمتابعات، والشواهد- أجيب عن الاعتراض عليها أن توجه بأنها ليست من موضوع الكتابين، فإن موضوعهما المسند المتصل؛ ولهذا لم يتعرض الدارقطني في نقده على الصحيحين إلى الأحاديث المعلقة التي لم توصل في موضع آخر لعلمه بأنها ليست من موضوع الكتابين، وإنما ذكرت استئناسًا واستشهادًا، وإن كانت من الأحاديث المسندة، فإما أن يكون الطعن مبنيًّا على قواعد ضعيفة لبعض المحدثين فلا يقبل لضعف مبناه، وإما أن يكون مبنيًّا على قواعد قوية فحينئذ يكون قد تعارض تصحيحهما، أو تصحيح أحدهما، مع كلام المعترض، ولا ريب في تقدمهما في باب التصحيح والتضعيف على غيرهما. قال الحافظ ابن حجر: وعدة ما انتقد عليهما من الأحاديث المسندة "210" مائتا حديث وعشرة، اشتركا في "32" اثنين وثلاثين حديثًا، واختص البخاري بثمانية وسبعين، ومسلم بمائة.   1 نقلًا عن هدى الساري "ص7"، "ص489" - طبعة بولاق. 2 نقلًا عن تدريب الراوي "1/ 165" - مؤسسة الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 قال: والجواب عن ذلك على سبيل الإجمال أن نقول: لا ريب في تقديم البخاري، ثم مسلم، على أهل عصرهما، ومن بعدهما من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل؛ فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك حتى كان يقول: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني، ومع ذلك، فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: دعوا قوله، فإنه ما رأى مثل نفسه، وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعًا، وروى الفربري عن البخاري قال: ما أدخلت في الصحيح حديثًا إلا بعد أن استخرت الله تعالى، وتيقنت صحته. وقال مكي بن عبد الله: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته. قال: فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام المنتقد عليها يكون قوله معارضًا لتصحيحهما، ولا ريب في تقدمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الاعتراض من حيث الجملة. ثم أجاب الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عن النقد جوابًا تفصيليًّا، قسم فيه الأحاديث التي انتقدت عليهما إلى ستة أقسام، تكلم عليها، ثم أجاب عن الأحاديث التي أوردها الدارقطني على البخاري حديثًا حديثًا، ثم قال: فإذا تأمل المصنف ما حررته من ذلك عظم مقدار هذا المصنف في نفسه، وجل تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم، وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم. قال: وإنما اقتصرت على ما ذكرته عن الدراقطني؛ لأني أردت أن يكون عنوانًا لغيره؛ فإنه الإمام المقدَّم في هذا الفن. اهـ. هذا، وأما الأحاديث التي انتقدت على الإمام مسلم في صحيحه، فقد أجاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 عنها واحدًا واحدًا جهابذة من أئمة الحديث، قال السيوطي: ورأيت فيما يتعلق بمسلم تأليفًا مخصوصًا فيما ضعف من أحاديثه بسبب ضعف رواته. وقد ألف الشيخ ولي الدين العراقي كتابًا في الرد عليه. قال السيوطي: "وذكر بعض الحفاظ أن في كتاب مسلم أحاديث مخالفة لشرط الصحيح، بعضها أبهم راويه، وبعضها فيه إرسال وانقطاع، وبعضها فيه وجادة، وهي في حكم الانقطاع، وبعضها بالمكاتبة، وقد ألف الرشيد العطار كتابًا في الرد عليه، والجواب عنها حديثًا حديثًا، وقد وقفت عليه"1. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: "وأما الغلط، فتارة يكثر من الراوي، وتارة يقل؛ بحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر فيما أخرج له إن وجد مرويًّا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط، علم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلا من طريقه، فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله، وليس في الصحيح -بحمد الله- من ذلك شيء، وحيث يوصف بقلة الغلط، كما يقال: سيئ الحفظ، أو: له أوهام، أو: له مناكير، وغير ذلك من العبارات، فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله؛ إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنف من الرواية عن أولئك"2. وهكذا يصرح الحافظ ابن حجر بأن أصول صحيح البخاري منزهة عن رواية هؤلاء المجرحين بكثرة الخطأ، والأوهام، والمناكير، وسوء الحفظ، وإذا كان الحافظ ابن حجر عَنِيَ نزاهة الإمام البخاري من رواية هؤلاء، فإن البحث أثبت أن أصول صحيح مسلم منزهة من روايتهم أيضًا.   1 تدريب الراوي "1/ 169"، والرشيد العطار: هو أبو الحسين رشيد الدين يحيى بن علي بن عبد الله القرشي الأموي النابلسي ثم المصري العطار المالكي الحافظ "ت662هـ"، وقد لخص الإمام السيوطي كتابه في تدريب الراوي "1/ 261". والكتاب مطبوع باسم: غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة - دار الكتب العلمية - بيروت - ط1 "1417هـ-1996م". 2 هدى الساري "ص381"، ط بولاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وإذا كان الحافظ ابن حجر أشار إلى عدم الاحتجاج برواية المغفلين وكثيري الغلط، فإن هذا هو المذهب الذي أجمع عليه الأئمة، وصرح به السخاوي، والسيوطي، وغيرهما1، وقال عبد الرحمن بن مهدي: قيل لشعبة: متى يُترك حديث الرجل؟ قال: إذا حدَّث عن المعروفين بما لا يعرفه المعروفون، وإذا كثر الغلط، وإذا أتى بالكذب، وإذا روى حديثًا غلطًا مجتمعًا عليه، فلم يتهم نفسه فيتركه طُرح حديثه، وما كان على غير ذلك فاروِ عنه2. قال ابن حجر: "وينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راوٍ مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل مَنْ ذكر فيهما"3. ومما لا شك فيه أن كل الروايات المدونة في أصول الصحيحين لا تحتمل نقدًا، يستوي في ذلك روايات الموثقين، والمختلف فيهم، والمجروحين، فقد أبَى الشيخان إلا أن ينتقيا مما صح عن رواتهما، وما تنطق عليه شروط الصحة عندهما، والتي أقرها أئمة عصرهما وتلقتها الأمة بالقبول من بعدهما. وللإمام الحافظ أبي عمرو بن الصلاح جواب موجز محرر في الدفاع عن مسلم -رحمه الله- يحسن بنا أن نذكره نقلًا عن الإمام النووي في مقدمته لشرح مسلم: قال النووي رحمه الله: عاب عائبون مسلمًا بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقات الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح،   1 راجع: تدريب الراوي "1/ 339"، فتح المغيث للسخاوي "1/ 331"، هدى الساري "ص381" ط بولاق. 2 التعديل والتجريح "1/ 288". 3 هدى الساري "ص384"، ط بولاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ولا عيب عليه في ذلك؛ بل جوابه من أوجه ذكرها الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، ولا يقال: الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتًا مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذا، وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره: ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب. الثاني: أن يكون ذلك واقعًا في المتابعات والشواهد، لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولًا بإسناد نظيف، ورجاله ثقات، ويجعله أصلًا، ثم يتبعه بإسناد آخر، أو أسانيد بها بعض الضعف على وجه التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه، وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح؛ منهم: مطر الوراق، وبقية بن الوليد، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين. الثالث: أن يكون ضَعْف الضعيف -الذي احتج به- طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته، كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب، فقد ذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر، فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وغيرهما ممن اختلط آخرًا، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك. الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي، ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيًا بمعرفة أهل الشأن في ذلك، وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصًا وهو خلاف حاله فيما رواه عن الثقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 أولًا، ثم أتبعه بمن دونهم متابعة، وكأن ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته. روينا عن سعيد بن عمرو البردعي أنه حضر أبا زرعة الرازي، وذكر صحيح مسلم وإنكار أبي زرعة عليه روايته فيه عن أسباط بن نصر وقَطَن بن نُسَيْر وأحمد بن عيسى المصري، وأنه قال أيضًا: يطرق لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا: إذا احتج عليهم بحديث: ليس هذا في الصحيح. قال سعيد بن عمرو: فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة فقال لي مسلم: إنما قلت: صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع لي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية "من هو" أوثق منهم بنزول، فاقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات1 ... قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: فهذا مقام وعر، وقد مهدته بواضح من القول لم أره مجتمعًا في مؤلَّف ولله الحمد. قال: وفيما ذكرته دليل على أن من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه بأنه من شرط الصحيح عند مسلم، فقد غفل وأخطأ؛ بل يتوقف ذلك على النظر في أنه كيف روى عنه على ما بيناه من انقسام ذلك، والله أعلم2. - ومن الناحية العملية والعلمية: لقد حصرت كل الرواة المتهمين في حفظهم من رجال الصحيحين، وذلك ضمن دراسة شاملة لرجال الصحيحين في رسالتي للدكتوراه3، فوجدتهم أربعة وعشرين رجلًا، منهم اثنان من رجال الصحيحين معًا، وسبعة من رجال صحيح البخاري وحده، وخمسة عشر من رجال صحيح مسلم وحده، وتتبعت أقوال   1 شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 134، 135" المقدمة. 2 نقلًا عن المصدر السابق "1/ 136". 3 راجع هذا البحث في رسالتي للدكتوراه وعنوانها: رجال الصحيحين في ميزان أئمة الجرح والتعديل، دراسة استيعابية - تحت الطبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الأئمة فيهم، ورواياتهم المخرجة في الصحيحين والنقد الموجه إليها، وبعد تلك الدراسة المتأنية انتهيت إلى النتائج الآتية: أولًا: أحاديثهم المروية في الصحيحين قليلة جدًّا، ولمعظمهم رواية واحدة. ثانيًا: جاء كثير منهم مقرونًا بغيره من الثقات والأثبات. ثالثًا: جاءت كل رواياتهم في المتابعات والمشاهد. رابعًا: لم يوجه النقد إلا لأربعة أحاديث فقط، وقد ناقشتها جميعًا، وانتهيت إلى أن القول فيها للشيخين. فلله الحمد على ما وفق الإمامين البخاري ومسلمًا للصواب والرشاد. الانتقادات والطعون الموجهة إلى بعض أحاديث الصحيحين مدفوعة جملة وتفصيلًا: الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، وممن اهتدى بهديهم، وتبعهم على بصيرة الأمر: أن كل ما كان من أحاديث في الصحيحين، أو أحدهما، أسفر فيه صبح الصحة لكل ذي عينين؛ لأنه قد قطع عرق النزاع ما صح من الإجماع على تلقي جميع الطوائف الإسلامية لما فيهما بالقبول، وهذه رتبة فوق رتبة التصحيح عند جميع أهل المعقول والمنقول، فلا يهولنك إرجاف المرجفين، وزعم الزاعمين أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة. ونقرر -بداية- أنه لا مؤاخذة على الشيخين إذا كان الحديث المنتقد معلقًا أو ذُكر للاستشهاد؛ لأنه ليس من أصل الكتابين. قال الحافظ ابن حجر: "موضوع الكتابين إنما هو للمسندات، والمعلق ليس بمسند؛ ولهذا لم يتعرض الدارقطني -فيما تتبعه على الصحيحين- إلى الأحاديث المعلقة التي لم توصل في موضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 آخر؛ لعلمه بأنها ليست من موضوع الكتاب، وإنما ذكرت استئناسًا واستشهادًا"1. فلا مؤأخذة إذن على البخاري ومسلم إذا كان الحديث المنتقد ليس من موضوع -أي أصل- الكتاب. وأما بالنسبة للطعن فيما كان من أصل الكتابين، فإن ذلك الطعن مبني على قواعد -لبعض المحدثين- ضعيفة جدًّا مخالفة لما عليه الجمهور من أهل الثقة والأصول وغيرهم2. وقد بلغ جملة الأحاديث المنتقدة من قِبَل بعض الحفاظ كالدارقطني وأبي مسعود الدمشقي وأبي علي الغساني الجياني -وغيرهم- مائتا حديث وعشرة، اشترك الشيخان في اثنين وثلاثين، واختص البخاري بثمانية وسبعين حديثًا، ومسلم بمائة حديث3. ومن تتبع الأحاديث -التي تكلموا فيها- وانتقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة أهل العلم، قضى بصحتها وسلامتها من كل نقد، قد أجمع أهل العلم على أن رجلًا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في الصحيحين من المسندات -مما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه، ورسوله صلى الله عليه وسلم قاله لا شك فيه- أنه لا يحنث والمرأة بحالها في حبالته4. وقد ابتلينا هذه الأيام بمن سولت له نفسه نقد ما أجمع الأئمة -من علماء الحديث والخبراء بعلله- على صحته من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وادَّعى هؤلاء أنهم درسوا الصحيحين دراسة تفهم وتدبر، ونبذوا التعصب وتوصلوا إلى ما وصلوا إليه بفضل القواعد العلمية الحديثة لا الأهواء الشخصية أو الثقافة الأجنبية!! 5   1 هدى الساري "ص344، 345"، ط بولاق. 2 راجع: هدى الساري "ص344". 3 راجع: هدى الساري "ص345". 4 راجع: المقدمة لابن الصلاح "ص13"، وشرح مسلم للنووي "1/ 127". 5 راجع كلام الألباني في: مقدمة شرح العقيدة الطحاوية "ص14، 15" ط المكتب الإسلامي، وإرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل "حديث رقم 1021". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 - وجدير بالذكر أن الطاعنين في بعض أحاديث الشيخين أو أحدهما يمكن تصنيفهم على النحو الآتي: أولًا: بعض الحفاظ من أهل العلم المتقدمين ممن تأخروا عن الشيخين. ثانيًا: بعض المعاصرين، وهم أنواع: أ- منهم أهل علم يَهْوَى الطعن ليُعرف. ب- ومنهم المحسوب على أهل العلم، يتبع أسياده من الغرب الذين درس عندهم، وتخرج على موائدهم. جـ- ومنهم الجاهل. د- ومنهم من كان منحرفًا وملحدًا، ثم صار في عشية وضحاها -في نظره ونظر أمثاله- من شيوخ الإسلام الداعين إلى التجديد. - ويمكن حصر أهداف المعاصرين فيما يلي: أولًا: الحقد على الشيخين. ثانيًا: الطعن في السُّنَّة وتشويهها، ومن ثم هدمها والقضاء على المصدر الثاني للتشريع الإسلامي -كل ذلك تحت شعار الاجتهاد والتجديد في الفكر وإحياء المناظرات واستمرار الحوار- حتى قال بعضهم: "هذه نماذج قليلة أقدمها للقراء، وليس في نيتي مطلقًا أن أشكك أحدًا في عقيدته، أو في المصدر الذي يستقي منه شريعته، ويشهد الله أن دافعي الأول لكتابة هذه السطور، هو إذكاء روح الاجتهاد الذي خمد في المسلمين، وأقعدهم عن البحث والنظر والاستقصاء، كما كان يفعل السلف الصالح، أما إذا أراد المرجفون والحاقدون والمحنطون أن يجهزوا طبول الحرب ضد هذه اليوميات، فأنا على استعداد لإغراقهم في بحر متلاطم من الأدلة والبراهين"1.   1 نقلًا عن مكانة الصحيحين "ص301". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ثم يدعي أن في الصحيحين أحاديث ضعيفة وموضوعة فيقول: "ولكي لا يكون كلامي هذا ثرثرة بلا صدى، وادعاء بلا بينة، فإنني سأسوق هنا نماذج قليلة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي اتفق عليها البخاري ومسلم". ثم يحلف أنه لا يريد التشكيك! 1 علمًا بأن الأحاديث التي زعم أنها ضعيفة أو موضوعة ليست في الصحيحين، ولا في الكتب الستة، وبعضها لا وجود له في كتب الحديث المعتمدة، وألصقها هو بالصحيحين افتراء وكذبًا، ولا غرابة في ذلك، فإن هذا الكاتب كان مُلحدًا -يعتقد أنه لا يزال كذلك- وصار بين عشية وضحاها من الحاملين للواء التجديد في الإسلام "فقهًا وأصولًا وقرآنًا وتفسيرًا وحديثًا وفكرًا" قاتلهم الله أنى يؤفكون. وقال الشيخ الألباني: "والصحيحان هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى باتفاق علماء المسلمين من المحدثين وغيرهم، فقد امتازا على غيرهما من كتب السنة بتفردهما بجمع أصح الأحاديث الصحيحة، وطرح الأحاديث الضعيفة والمتون المنكرة، على قواعد متينة وشروط دقيقة، وقد وفقوا في ذلك توفيقًا بالغًا لم يوفق إليه من بعدهم، ممن نحا نحوهم في جمع الصحيح؛ كابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، حتى صار عرفًا أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما فقد جاوز القنطرة ودخل في طريق الصحة والسلامة، ولا ريب في ذلك، وأنه هو الأصل عندنا"2. وليت الألباني سكت عند هذا التصريح، وإنما أعقب ذلك ببيان أعلن فيه أن الصحيحين لا يسلمان من الغلط، وضرب لذلك مثلًا من الصحيحين، وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو محرم3.   1 مكانة الصحيحين "ص302، 303". 2 مقدمة شرح العقيدة الطحاوية "ص17". 3 خ "4/ 51 فتح" "28" ك جزاء الصيد "12" ب تزويج المحرم - رقم "1837"، خ "9/ 165 فتح" "67" ك النكاح، "30" ب نكاح المحرم، رقم "5114"، خ "7/ 509 فتح" "64" ك المغازي "43" ب عمرة القضاء - رقم "4258 و4259". م "2/ 1031، 1032" "16" ك النكاح "5" ب تحريم نكاح المحرم - رقم "46 و 47". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 قال الألباني: "فإن المقطوع به أنه -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو غير محرم، ثبت ذلك عن ميمونة نفسها"، ثم نقل عن محمد بن عبد الهادي قوله: وقد عد هذه من الغلطات التي وقعت في الصحيح، وميمونة أخبرت أن هذا ما وقع، والإنسان أعرف بحال نفسه1. قلت: هذا المثال الذي أتَى به الألباني عليه لا له، فهو من الأحاديث المشهورة التي وقع التجاذب بين مدلوليها، ومثالها لا يفيد العلم؛ لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم، وقد تكلم العلماء على هذا الحديث، واختلفوا فيه منذ القرن الأول2؛ ولكن الألباني أَبَى إلا أن يُطلق في موضع التقييد -وهو خطأ فادح- علمًا بأن جمعًا من العلماء جمعوا بين ما جاء في تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- من ميمونة وهو محرم، وبين نفيها -رضي الله عنها- ذلك، والجمع أولى من غيره، وهو سبيل أهل العناية والورع3، ونفى ابن حبان أن يكون تعارض بين هذه الأخبار فقال: وليس في هذه الأخبار تعارض4، وكان يجب على الألباني أن يذهب إلى هذا المذهب القوي دفاعًا عن الصحيحين، لا أن يتخذ هذا الحديث قنطرة لكلام على أسانيد الصحيحين حسبما يراه5 بجهده المتواضع6.   1 راجع: مقدمة شرح العقيدة الطحاوية "ص14، 15"، إرواء الغليل "حديث رقم 1021"، تنقيح التحقيق "2/ 104/ 1". 2 راجع: فتح الباري "9/ 165"، "4/ 52"، "7/ 510"، نيل الأوطار "5/ 17- 19"، نصب الراية "3/ 170- 174"، الأم "2/ 160"، الاعتبار للحازمي "ص 19"، الإحكام لابن حزم "2/ 214"، التمهيد "3/ 156"، معالم السنن بهامش سنن أبي داود "2/ 421، 422"، المجموع "7/ 395- 397"، شرح معاني الآثار "2/ 273"، المغني لابن قدامة "3/ 311- 313"، تنبيه المسلم "ص24". 3 راجع: تنبيه المسلم "ص24- 25"، وانظر: فتح الباري "9/ 165"، المغني "3/ 2103- 2109"، نصب الراية "3/ 173". 4 نقلًا عن نصب الراية "3/ 173". 5 تنبيه المسلم "ص25". 6 راجع تحقيق هذه المسألة في رسالتي للماجستير: مرويات الإمام البخاري في غير الصحيح - جمع وترتيب ودراسة "3/ 2103- 2109"، بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وأحاديث أخرى كثيرة -مما اتفق على روايتها الشيخان أو انفرد بها أحدهما- سمح الشيخ الألباني لنفسه وتلاميذه أن يقف منها موقف الناقد البصير1. وادعى الدكتور حمزة عبد الله المليباري -في بحث له ضمن رسالة الدكتوراه له- أن في صحيح الإمام مسلم عللًا خطيرة تدمر صحة جملة كبيرة من أحاديثه، وأنه يجب الاستعانة لذلك بكتب علل الحديث2، ولا شك أنه ادعاء مغرض، هدفه النيل من السُّنة الصحيحة، ولكن هيهات لما يهدفون! ومما يجب التنبيه عليه أن كل الطعون التي اعتمد عليها الطاعنون في بعض أحاديث الصحيحين -أو أحدهما- كلها مبينة على قواعد ضعيفة مخالفة لما اتفق عليه الجمهور من أهل الحديث والفقه والأصول، وعليه فإنها لا تضر بصحة هذه أحاديث، علمًا بأن أكثر هذه الطعون موجهة نحو الرواة لا المتون3. وأما كون الانتقادات والطعون الموجهة إلى بعض أحاديث الصحيحين -أو أحدهما- مردودة جملة؛ فذلك لأمور كثيرة منها ما يلي4: الأول: تعارض قول المنتقدين مع تصحيح الشيخين لأحديثيهما قال الإمام البخاريث: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، وما تركت من صحيح أكثر"5، وقال: "ما أدخلت في كتابي إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول6"، وقال: "أخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث وجعلته حجة بيني وبين الله"7.   1 تناولت معظم هذه الأحاديث في رسالتي للدكتوراه: رجال الصحيحين في ميزان أئمة الجرح والتعديل - دراسة استيعابية - بدار العلوم أيضًا. 2 راجع: منهج الإمام مسلم "ص50". 3 راجع: هدى الساري "ص246" ط بولاق. 4 راجع: مكانة الصحيحين "ص314-326". 5 هدى الساري "ص7". 6 تهذيب الكمال "1/ 167، 168"، هدى الساري "ص7". 7 تاريخ بغداد "2/ 8"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 74"، هدى الساري "ص7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وقال الإمام مسلم: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه"1. وقال: "ما وضعت شيئًا في كتابي هذا المسند إلا بحجة، وما أسقطت منه شيئًا إلا بحجة"2. وقال: "صنفت هذا الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة"3. فجزم الشيخان بصحة أحاديثهما، وأنها منتقاة ومنتخبة من مئات الألوف، وأنهما التزما الصحة، فلم يوردا إلا الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: تعارض قول المنتقد مع ما اتُفِقَ عليه من أصحية الكتابين: فقد انعقد الإجماع على صحة هذين الكتابين، وأنهما أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى، وقد حَكَى هذا الإجماع جمع من الأئمة والحفاظ منهم: الحافظ ابن حجر4، وشيخه سراج الدين البلقيني5، والحافظ ابن طاهر المقدسي6، وأبو بكر الجوزقي7، وأبو عبد الله الحميدي8، وابن تيمية9، والشوكاني10، والحافظ أبو نصر الوائلي السجزي 11، وابن الصلاح12، وأبو إسحاق الإسفرائيني13، والنووي14، وإمام الحرمين15، والسخاوي16،   1 م "1/ 304" ك الصلاة، ب التشهد - في حديث رقم "63". 2 تذكرة الحفاظ "2/ 590". 3 تذكرة الحفاظ "2/ 589". 4 هدى الساري "ص384". 5 محاسن الاصطلاح "ص101". 6-9 النكت على ابن الصلاح "1/ 380". 10 إرشاد الفحول "ص50". 11 نقلًا عن مقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح "ص38، 39". 12 مقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح "ص38، 39"، شرح مسلم لابن الصلاح "ص85"، صيانة صحيح مسلم "ص85". 13 فتح المغيث للسخاوي "1/ 47"، توجيه النظر "ص85". 14 تهذيب الأسماء والصفات "1/ 73، 74"، شرح صحيح مسلم للنووي "1/ 14". 15 شرح مسلم للنووي "1/ 19- 20". 16 فتح المغيث له "1/ 297- 298". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 والقسطلاني1، والسيوطي2، والشيخ أبو الفتح القشيري3. فهؤلاء -وغيرهم- نقلوا الإجماع على صحة ما اتفق عليه الشيخان، وما انفرد به أحدهما من المسندات، قال الشوكاني: "ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم؛ لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه"4. الثالث: تعارض قول المنتقد مع كون الأمة تلقت الكتابين بالقبول قال الإمام أبو إسحاق الإسفرائيني: "أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف بها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها ورواتها ... فمن خالف حكمه خبرًا منها، وليس له تأويل سائغ للخبر نقضنا حكمه؛ لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول"5. وقال ابن الصلاح: "جميع ما حكم مسلم بصحته في هذا الكتاب، فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر، وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه؛ وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد الخلافة ... "6. حتى أخبار الآحاد في الصحيحين -أو أحدهما - تلقتها الأمة بالقبول، وأجمع الأئمة من العلماء على صحتها7. وذكر ابن تيمية -فيما حكاه عنه ابن كثير- أن جماعات من الأئمة نقل عنهم   1 مقدمة شرح صحيح البخاري له "ص20" في المجلد الأول. 2 شرح ألفية السيوطي في مصطلح الحديث "ص10". 3 هدى الساري "ص384"، مرقاة المفاتيح "1/ 17". 4 إرشاد الفحول "ص49" طبعة دار المعرفة - بيروت. 5 فتح المغيث للسخاوي "1/ 47"، توجيه النظر "ص125". 6 مقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح "ص38، 39"، شرح مسلم لابن الصلاح " ص85". 7 راجع: النكت على ابن الصلاح لابن حجر "1/ 371-379". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 القطع بأحاديث الشيخين، منهم: القاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبو إسحاق الإسفرائيني، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن حامد، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الخطاب، وابن الزاعون وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخس من الحنفية، قال: "وهو قول جمع من أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم كأبي إسحاق الإسفرائيني وابن فورك، وأيضًا هو مذهب أهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة"1. الرابع: تعارض قول المنتقد مع ما اتفق عليه من أن أصح الحديث المتفق عليه ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم الإجماع على أن أصح الحديث وأعلى مراتبه ما اتفق عليه الشيخان، ويليه عند الجمهور ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرطهما. قال الحافظ ابن الصلاح: "فأولها: صحيح أخرجه البخاري ومسلم جميعًا، والثاني: صحيح انفرد به البخاري؛ أي: عن مسلم. الثالث: صحيح انفرد به مسلم؛ أي: عن البخاري. الرابع: صحيح على شرطهما لم يخرجاه. الخامس: صحيح على شرط البخاري لم يخرجه. السادس صحيح على شرط مسلم لم يخرجه. السابع: صحيح عند غيرهما وليس على شرط واحد منهما. هذه أمهات أقسامه. وأعلاها -أي: أقسام الصحيح- الأول هو الذي يقول أهل الحديث كثيرًا: "صحيح متفق عليه" يطلقون ذلك ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم، لا اتفاق الأمة عليه؛ لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك وحاصل معه لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول، وهذ القسم جمعيه مقطوع بصحته والعلم اليقين النظري واقع به، خلافًا لقول من نفى ذلك محتجًّا بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول؛ لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ، وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويًّا، ثم بان لي أن هذا المذهب الذي   1 راجع: اختصار علوم الحديث لابن كثير "ص34". ط دار الكتب العلمية، وتدريب الراوي "1/ 166". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 اخترناه أولًا هو الصحيح؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ ... "1. وعليه فيكون قول المنتقد متعارضًا مع ما اتفق عليه علماء الحديث، ويكون الطعن مدهشًا حين يُوجه إلى ما اتفق عليه الشيخان، وهو أعلى مراتب الصحيح، قال ابن تيمية: "والبخاري أحذق وأخبر بهذا الفن من مسلم؛ ولهذا لا يتفقان على حديث إلا يكون صحيحًا لا ريب فيه، قد اتفق أهل العلم على صحته"2. الخامس: تعارض قول المنتقد مع ما اتفق عليه العلماء المعاصرون للشيخين على صحة الكتابين لا يختلف اثنان في أن أعلم أهل الحديث دراية وجرحًا وتعديلًا وخبرة بعلل الحديث وطرقه هم الأئمة: يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو زرعة الرازي، وأحمد بن حنبل، كما أنهم من أعلم أهل الاستقراء والتتبع وجمع الطرق، وقد كان هؤلاء بمثابة الشيوخ والأقران للإمامين البخاري ومسلم؛ لأنهم كانوا معاصرين لهما، وقد عرض الشيخان صحيحيهما -بعد الانتهاء منهما- على هؤلاء وغيرهم من أئمة عصرهما، فأقروهما وشهدوا لهما بالصحة. قال أبو جعفر محمود بن عمرو العقيلي: لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني وغيرهم، فأستحسنوه، وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث. قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة"3، وقال ابن تيمية نحوه4، وقال مكي بن عبد الله: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته"5، وقال الإمام مسلم: "ليس كل شيء   1 مقدمة ابن الصلاح "ص14" في النوع الأول. 2 مجموع الفتاوى "18/ 19 - 20". 3 هدى الساري "ص7" و "ص489". 4 مجموع الفتاوى "18/ 19"و "1/ 256". 5 هدى الساري "ص345". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه"1، قال سراج الدين البلقيني: "أراد مسلم بقوله: "ما أجمعوا عليه" أربعة: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعثمان بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور الخراساني"2. وفي صنيع هذين الإمامين فائدة، وهي تواضع أهل العلم مع بعضهم، خاصة وأن الشيخين إمامان لا يباريان في هذا الميدان ... كما أفاد إجماع هؤلاء الأئمة على صحة ما رواه الإمام البخاري سوى الأحاديث الأربعة التي كان القول فيها للإمام البخاري -رحمه الله تعالى- كما قرر العقيلي. وأما بالنسبة للإمام مسلم فقد ترك كل حديث كان عرضة للنقد، أو اطلع الأئمة على علة فيه، حتى صار كل ما بين دفتي كتابه مما خرجه في الأصول مجمعًا على صحته. وهكذا كان هؤلاء الأئمة المعاصرون للشيخين بمثابة المراجعين والمنقحين مما يجعلنا نستريح للجزم بصحة ما اتفقا عليه، أو انفرد به أحدهما؛ لإجماع هؤلاء الأئمة على صحة ما جاء في الصحيحين أو أحدهما؛ لأن هؤلاء لا يجتمعون على خطأ. فطعون المنتقدين لا تستحق الالتفات إليها أو الاهتمام بها؛ لأنها متعارضة مع تصحيح أسيادهم أئمة الجرح والتعديل والمجتهدين فيه، وخبراء الرواية والدراية والعلل والأسانيد، "وخاصة إذا علمنا أن من هؤلاء الأعلام المتشدد الذي يطعن بالغلطة والغلطتين والمتوسط المعتدل، وليس فيهم المتساهل، فقول هؤلاء أولى بالأخذ به، ويستدل بشهادتهم وإقرارهم وإستحسانهم على صحة هذه الأحاديث في هذين الكتابين"1. السادس: تعارض قول المنتقد مع ورود هذه الأحاديث "المنتقدة" في المستخرجات سليمة من كل ما أُعلت به وهذه فائدة من فوائد المستخرجات على الصحيحين، قال الحافظ ابن حجر:   1 صحيح مسلم "1/ 304"، ك الصلاة في الحديث رقم "63". 2 محاسن الاصطلاح "ص91". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 "وكل علة أعل بها حديث في أحد الصحيحين جاءت رواية المستخرج سالمة منها، فهي من فوائده، وذلك كثير جدًّا". والحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- من أهل الاستقراء والتتبع والتحقيق الدقيق، وله دراية بالصحيح زادت على عشرات السنين، وقوله في هذا الباب حجة معتمدة ... 1. فإن اتضح سلامة هذه الأحاديث من العلل الموجهة إليها، وذلك من خلال ورودها في هذه المستخرجات، وبان سلامتها من هذه الطعون، وزال اللبس عنها؛ كان ذلك مؤيدًا لما صرح به الشيخان من صحة كتابيهما، وانتفاء العلل عن أحاديثهما. السابع: كون الشيخين مجتهدين، والمنتقد مقلد إن مما اتفق عليه أهل العلم بالحديث أن البخاري ومسلمًا -رحمهما الله تعالى- كانا من أئمة المجتهدين في الجرح والتعديل وعلوم الحديث، وتمييز الصحيح من المعلول. قال الحافظ ابن حجر: "لا ريب في تقديم البخاري، ثم مسلم على أهل عصرهما، ومن بعدها من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أهل أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك حتى كان يقول: ما استصغرت نفسي عن أحد إلا عند علي بن المديني، ومع ذلك، فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: دعوا قوله، فإنه ما رأى مثل نفسه، وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعًا ... "2. بينما من جاء بعدهما، فالغالب عليهم التقليد لهما ولغيرهما من أهل   1 مكانة الصحيحين "ص323- 324". 2 هدى الساري "1/ 116". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 عصرهما؛ وذلك لبعد العهد عن الرواة، وعدم المعاصرة للمجرحين والمعدلين، فينقلون كلام المتقدمين ثم يستنبطون منه القول الذي يعتمدونه، وإذا تعارض كلام المجتهد بكلام المقلد، فإن الأخذ بكلام المجتهد هو الأولى؛ لأن كلام المجتهد لا ينتقض بكلام المقلد1. ومما يلفت النظر، أن نقد المنتقدين انصب على الأسانيد دون المتون، اللهم إلا في مواضع يسيرة. قال القسطلاني: "إن الدارقطني تتبع على البخاري في أزيد من مائة موضع، ولم يستطع أن يتكلم إلا في الأسانيد بالوصل والإرسال - غير موضع، وهو: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين وليتجوز فيهما ... " فإنه تكلم فيه مما يتعلق بحال المتن، ووجهه: أن الدارقطني يمشي على القواعد الممهدة عندهم فينازعه، من القواعد، وشأن البخاري أرفع من ذلك، فإنه يمشي على اجتهاده، وينظر إلى خصوص المقام وشهادة الوجدان، وإنما القواعد لغير الممارس على حد التحديد للعوام فيما لم يرد به التحديد من الشارع، ورتبتهما أعلى من الكل بعد اختلاف يسير بينهما"2 أي: البخاري ومسلم، وذكر الحافظ ابن حجر نحوه3. فإذا عرف كل ما سبق وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما؛ اندفعت كل الانتقادات والطعون الموجَّهة إلى الصحيحين جملة. - وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني أن الأحاديث المنتقدة على الصحيحين تنقسم أقسامًا: القسم الأول منها: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد،   1 مكانة الصحيحين "ص324". 2 هدى الساري "ص345". 3 راجع: مكانة الصحيحين "ص325- 326". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فإن أخرج صاحب الصحيح الطريق المزيدة، وعلله الناقد بالطريق الناقصة، فهو تعليل مردود كما صرح به الدارقطني؛ لأن الراوي إن كان سمعه، فالزيادة لا تضر؛ لأنه قد يكون سمعه بواسطة عن شيخه، ثم لقيه فسمعه منه، وإن كان لم يسمعه في الطريق الناقصة، فهو منقطع، والمنقطع من قسم الضعيف، والضعيف لا يعل الصحيح، وإن أخرج صاحب الصحيح الطريق الناقصة وعلله الناقد بالطريق المزيدة تضمن اعتراضه دعوى انقطاع فيما صححه المصنف، فينظر إن كان ذلك الراوي صحابيًّا أو ثقة غير مدلس قد أدرك من روى عنه إدراكًا بينًا، أو صرح بالسماع إن كان مدلسًا من طريق أخرى، فإن وجد ذلك اندفع الاعتراض بذلك، وإن لم يوجد وكان الانقطاع فيه ظاهرًا، فمحصل الجواب عن صاحب الصحيح أنه إنما أخرج مثل ذلك في باب ما له متابع وعاضد، وما حفته قرينة في الجملة تقويه ويكون التصحيح وقع من حيث المجموع ... وربما علل بعض النقاد أحاديث ادُّعي فيها الانقطاع لكونها غير مسموعة كما في الأحاديث المروية بالمكاتبة والإجازة، وهذا لا يلزم منه الانقطاع عند من يسوغ الرواية بالإجازة؛ بل في تخريج صاحب الصحيح لمثل ذلك دليل على صحة الرواية بالإجازة عنده. القسم الثاني منها: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد، فالجواب عنه إن أمكن الجمع بأن يكون الحديث عند ذلك الراوي على الوجهين جميعًا، فأخرجهما المصنف، ولم يقتصر على أحدهما حيث يكون المختلفون في ذلك متعادلين في الحفظ والعدد ... وإن امتنع بأن يكون المختلفون غير متعادلين بل متقاربين في الحفظ والعدد، فيخرج المصنف الطريق الراجحة، ويعرض عن الطريق المرجوحة، أو يشير إليها ... فالتعليل بجميع ذلك من أجل مجرد الاختلاف غير قادح؛ إذ لا يلزم من مجرد الاختلاف اضطراب يوجب الضعف، فينبغي الإعراض أيضًا عما هذا سبيله، والله أعلم. القسم الثالث منها: ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددًا، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 أضبط ممن لم يذكرها، فهذا لا يؤثر التعليل به إلا أن كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع، أما إن كانت الزيادة لا منافاة فيها بحيث تكون كالحديث المستقل فلا، اللهم إلا إن وضح بالدلائل القوية أن تلك الزيادة مدرجة في المتن من كلام بعض رواته، فما كان من هذا القسم فهو مؤثر. القسم الرابع منها: ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف من الرواية، وليس في الصحيح من هذا القبيل غير حديثين ... وتبين أن كلًّا منهما قد توبع. القسم الخامس منها: ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله فمنه ما يؤثر ذلك الوهم قدحًا، ومنه ما لا يؤثر1.   1 مقدمة فتح الباري "ص57"، ط بولاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ثالثًا: أبو داود السجستاني "202-275هـ" 1 هو: سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر أبو داود السجستاني أحد حفاظ الإسلام، وأبرز من رحل وطوَّف، وجمع وصنف، وكتب عن العراقيين، والخراسانيين، والشاميين، والمصريين، والجزريين، والحجازيين، وغيرهم. وكان من أكثر الأئمة معرفة بالحديث الشريف وعلله وفقهه، وكان ناقدًا بصيرًا. ولسعة علمه ودقة تحقيقه، كانت له مكانة متميزة عند الأئمة وأهل العلم، وقد أثنوا عليه ثناء حسنًا مبينين سعة حفظه وخبرته بالعلل وصلاحه وورعه. - ومن شيوخه المشهورين: الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وعمرو بن محمد الناقد، وسعيد بن منصور، وأبو الوليد الطيالسي، ومخلد بن خالد، وقتيبة بن سعيد، ومسدد بن مسرهد، ومحمد بن المثنى، وخلق كثيرون. وروى عنه كثيرون من العلماء والأئمة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل الذي روى عنه حديثًا واحدا، وكان أبو داود يعتز بذلك كثيرًا2. وممن روى عنه من المشهورين: أبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وزكريا الساجي، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو بشر محمد بن أحمد الدولابي، وأبو عوانة الإسفراييني، وأبو بكر أحمد بن محمد بن هارون   1 راجع ترجمته في: تهذيب الكمال "11/ 355- 367"، أخبار أصبهان "1/ 334"، تاريخ بغداد "9/ 55"، أنساب السمعاني "7/ 46"، المنتظم "5/ 97"، الكامل في التاريخ "7/ 425"، اللباب "2/ 105"، وفيات الأعيان "2/ 404"، تذكرة الحفاظ "2/ 591"، العبر "2/ 54"، طبقات السبكي "2/ 293"، البداية والنهاية "11/ 54"، تهذيب التهذيب "4/ 298"، طبقات الحفاظ للسيوطي "ص261"، طبقات المفسرين "ص195"، شذرات الذهب "2/ 167"، وغيرها. 2 راجع: تاريخ بغداد "9/ 55"، الخلاصة "ص127". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الخلال، وأبو بكر بن داود الأصفهاني، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وإسماعيل بن محمد الصفار ... - ثناء العلماء عليه: قال أبو بكر الخلال1: أبو داود سليمان بن الأشعث، الإمام المقدَّم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم، وبصره بمواضعها أحد في زمانه، رجل ورع مقدم2. وقال أحمد بن محمد بن ياسين الهروي3: سليمان بن الأشعث أبو داود السجزي، كان أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلمه وعلله وسنده، في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع، كان من فرسان الحديث4. وقال إبراهيم الحربي5 وأبو بكر الصاغاني6: أُلين لأبي داود الحديث كما ألين لداود النبي -عليه السلام- الحديد7.   1 هو أحمد بن محمد بن هارون البغدادي الحنبلي "ت311هـ" له كتب كثيرة، وقد جمع علم الإمام أحمد. انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" "785"، و"المنهج الأحمد" "2/ 5"، وطبقات الحنابلة "2/ 12"، و"البداية والنهاية" "11/ 148". 2 "تاريخ بغداد" "9/ 57"، و"تهذيب التهذيب" "4/ 172"، "تهذيب ابن عساكر" "6/ 244". 3 هو أحمد بن محمد بن ياسين الهروي الحداد أبو إسحاق "ت334هـ"، انظر ترجمته في "شذرات الذهب" "2/ 335". 4 "تاريخ بغداد" "9/ 57"، و"مختصر المنذري" "1/ 7"، وتهذيب التهذيب " 4/ 172"، و"تهذيب ابن عساكر" "6/ 244". 5 هو إبراهيم بن إسحاق الحربي البغدادي كان حافظًا فقيهًا توفي ببغداد سنة "285". انظر: "معجم الأدباء" "371"، و"المنهج الأحمد" "1/ 196"، و"تاريخ بغداد" "6/ 27"، و"طبقات الحنابلة" "1/ 86"، و"شذرات الذهب" "2/ 190"، و"تذكرة الحفاظ" "584". 6 هو الحافظ محمد بن إسحاق محدث بغداد الإمام الثقة "ت270هـ". انظر: "تاريخ بغداد" "1/ 241"، و"تذكرة الحفاظ" "573". 7 "البداية والنهاية" "11/ 55"، "طبقات الشافعية" "2/ 293"، و"تذكرة الحفاظ" "591"، و"تهذيب التهذيب" "4/ 172"، و"مختصر المنذري" "1/ 5"، و"معالم السنن" "1/ 12"، و"المنهج الأحمد" "1/ 175". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وقال موسى بن هارون الحافظ1: خلق أبو داود في الدنيا للحديث، وفي الآخرة للجنة، ما رأيت أفضل منه2. وقال علان بن عبد الصمد: كان من فرسان الشأن3. وقال أبو حاتم بن حبان 4: كان أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وحفظًا ونسكًا وورعًا وإتقانًا، جمع وصنف وذب عن السنن5. وقال أبو عبد الله بن منده6: الذين أخرجوا وميزوا الثابت من المعلول، والخطأ من الصواب أربعة: البخاري ومسلم، وبعدهما أبو داود والنسائي7. وقال الحاكم8: أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة9. وقال محمد بن مخلد10: كان أبو داود يفي بمذاكرة مائة ألف حديث، وأقر له أهل زمانه بالحفظ11. وقال ابن ماكولا12: هو إمام مشهور. وكان إبراهيم الأصبهاني وأبو بكر بن صدقة 13 يرفعان من قدره بما لا يذكران أحدًا في زمانه مثله14.   1 هو الحافظ موسى بن هارون الحمال البغدادي البزار "ت294هـ"، وانظر: "تذكرة الحفاظ" "669". 2 طبقات الشافعية" "2/ 293"، "تهذيب التهذيب" "4/ 172"، "تهذيب ابن عساكر" "6/ 244". 3 "تهذيب التهذيب" "4/ 172"، و"تهذيب الأسماء واللغات" "2/ 224". 4 هو أبو حاتم محمد بن حبان البستي والشافعي، صاحب "الصحيح"، و"الثقات"، و"المجروحين" "ت254هـ". 5 "تهذيب التهذيب "4/ 172"، و"الخلاصة" للخزرجي "ص127". 6 هو أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن مندة الحافظ "ت396هـ". 7 "تهذيب التهذيب" "4/ 172". 8 هو محمد بن عبد الله بن محمد الحاكم النيسابوري صاحب "المستدرك"، ولد سنة 331هـ، وتفقه على مذهب الشافعي "ت405هـ". 9 هو محمد بن مخلد بن حفص، الإمام مسند بغداد، عاش 98 سنة، "ت331هـ"، "انظر: "تذكرة الحفاظ 828". 10 تهذيب التهذيب "4/ 172". 11 هو الأمير الحافظ أبو نصر علي بن هبة الله مصنف "الإكمال"، ولد سنة "422هـ" وقتله مماليكه الأتراك سنة 486، وقيل: سنة 475. 12 "تهذيب ابن عساكر" "6/ 244". 13 هو الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة البغدادي "ت293هـ". 14 "تهذيب ابن عساكر" "6/ 244"، و"تهذيب التهذيب" "4/ 171". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وقال الذهبي1: وبلغنا أن أبا داود كان من العلماء حتى إن بعض الأئمة قال: كان أبو داود يشبه بأحمد بن حنبل في هديه ودله وسمته، وكان أحمد يشبه في ذلك بوكيع، وكان وكيع يشبه في ذلك بسفيان، وسفيان بمنصور، ومنصور بإبراهيم، وإبراهيم بعلقمة، وعلقمة بعبد الله بن مسعود. وقال علقمة: كان ابن مسعود يشبه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هديه ودله2. ولم يرض السبكي في "طبقاته" أن يمضي بالسلسلة إلى نهايتها؛ بل اختار الوقوف عند ابن مسعود3. ونقل ابن العماد عن الذهبي أيضًا قوله في أبي داود: كان رأسًا في الحديث، رأسًا في الفقه، ذا جلالة، وحرمة، وصلاح، وورع، حتى أنه كان يشبه بأحمد4. وقال ابن الجوزي5: كان عالمًا، حافظًا، عارفًا بعلل الحديث، ذا عفاف وورع، وكان يشبه بأحمد بن حنبل6. - ثناء العلماء على سنن أبي داود: قال الخطابي: وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم، وأمهات السنن، وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدمًا سبقه إليه، ولا متأخرًا لحقه فيه7، فنال بذلك ثناء الأئمة والعلماء وتقديرهم. وقال أبو زكريا الساجي: كتاب الله أصل الإسلام، وكتاب "السنن" لأبي داود عهد الإسلام8.   1 هو الإمام، الحافظ، مؤرخ الإسلام، الناقد: محمد بن عثمان الذهبي، الشافعي، الدمشقي "ت748هـ". 2 "تذكرة الحفاظ" "ص592". 3 "طبقات الشافعية" "2/ 296". 4 "شذرات الذهب" "2/ 167". 5 هو عبد الرحمن بن علي إمام مشهور كثير التصنيف "ت594هـ"، وانظر ترجمته بقلمنا في مقدمة "القصاص والمذكرين". 6 "المنتظم" "5/ 97". 7 "معالم السنن" "1/ 13". 8 "تهذيب ابن عساكر" "6/ 244". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وقال محمد بن مخلد: لما صنف أبو داود "السنن" وقرأه على الناس صار لأهل الحديث كالمصحف يتبعونه، وأقر له أهل زمانه بالحفظ فيه1. وقال ابن الأعرابي -وأشار إلى النسخة وهي بين يديه: لو أن رجلًا لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله، ثم هذا الكتاب لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة2. وعلق الخطابي على كلمة ابن الأعرابي هذه فقال: "وهذا -كما قال- لا شك فيه؛ لأن الله تعالى أنزل كتابه تبيانًا لكل شيء، وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فأخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئًا من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب، إلا أن البيان على ضربين: بيان جلي تناوله الذكر نصًّا، وبيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمنًا، فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكلًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو معنى قوله سبحانه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان، وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدمًا سبقه إليه، ولا متأخرًا لحقه فيه"3. وقال الخطابي أيضًا: "اعلموا -رحمكم الله- أن كتاب السنن لأبي داود كتاب طريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من الناس كافة، وصار حكمًا بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، فلكل فيه ذود وشرب، وعليه معول أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من مدن أهل الأرض. فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتابي محمد بن إسماعيل،   1 "تهذيب الأسماء واللغات" "2/ 224". 2 "معالم السنن" "1/ 12". 3 "معالم السنن" "1/ 12، 13". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ومسلم بن الحجاج، ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد، إلا أن كتاب أبي داود أحسن رصفًا وأكثر فقهًا"1. وقال الخطابي أيضًا: "اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثي أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث سقيم، فالصحيح عندهم ما اتصل سنده وعدلت نقلته، والحسن منه ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء، وكتاب أبي داود جامع لهذين النوعين من الحديث، فأما السقيم منه فعلى طبقات شرها الموضوع، ثم المقلوب -أعني ما قلب إسناده- ثم المجهول، وكتاب أبي داود خليّ منها بريء من جملة وجوهها، فإن وقع فيه شيء من بعض أقسامها لضرب من الحاجة تدعوه إلى ذكره، فإنه لا يألو أن يبين أمره ويذكره علته ويخرج من عهدته، وحكى لنا عن أبي داود أنه قال: "ما ذكرت في كتابي حديثًا اجتمع الناس على تركه". وكان تصنيف علماء الحديث -قبل زمان أبي داود- الجوامع والمسانيد ونحوهما، فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخبارًا وقصصًا ومواعظ وآدابًا، فأما السنن المحضة، فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفاءها، ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة، ومن أدلة سياقها على حسب ما اتفق لأبي داود؛ ولذلك حل هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر محل العجب، فضربت فيه أكباد الإبل، ودامت إليه الرحل"2. وقال أبو حامد الغزالي عن "سنن أبي داود": إنها تكفي المجتهد في أحاديث الأحكام3. وقال ابن القيم: "لما كان كتاب "السنن" لأبي داود -رحمه الله- من   1 معالم السنن "1/ 10، 11". 2 معالم السنن "1/ 11". 3 البداية والنهاية "11/ 55"، وانظر: قواعد التحديث "ص332"، و"مفتاح السنة" للخولي "ص85". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الإسلام بالموضع الذي خصه الله به؛ بحيث صار حكمًا بين أهل الإسلام، وفصلًا في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحققون، فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام، ورتبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، وإطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء"1. وقال ابن حجر في أبي داود: فاق التصانيف الكبار بجمعه ... الأحكام فيها يبذل المجهودا قد كان أقوى ما رأى في بابه ... يأتي به ويحرر التجويدا2 - كتابه "السنن": ألف أبو داود كتابه "السنن" في وقت مبكر، وعُني بتأليفه وترتيبه عناية بالغة، وأعاد النظر فيه مرات متعددة. أما كونه ألفه في وقت مبكر، فيدلنا على ذلك ما ذكره مترجمو أبي داود من أنه روى كتابه "السنن" ببغداد ونقله عن أهلها، ويقال: إنه صنفه قديمًا وعرضه على أحمد بن حنبل "ت241هـ"، وذلك قبل مجيئه بغداد، فاستجاده واستحسنه3. وقد عاصر أبو داود السجستاني كبار الأئمة الذين شرعوا في تمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها أمثال البخاري ومسلم؛ ولكن هذين الإمامين وإن كانا قد اهتما بالناحية الفقهية، إلا أنهما لم يفردا أحاديث الأحكام بالتأليف، وهي أهم ما يبحث عنه المسلمون، ويحتاجون إليه كثيرًا لاستنباط الأحكام الفقهية التي يسيرون عليها.   1 "تهذيب ابن القيم" "1/ 8". 2 "ديوان ابن حجر" "ص20". 3 "تاريخ بغداد" "9/ 55"، و"تهذيب التهذيب" "4/ 171"، و"مختصر سنن أبي داود" "1/ 5"، و"جامع الأصول" "1/ 111". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ولهذا رأينا بعض العلماء يتقدمون خطوة أخرى، فيعنون بهذه الناحية أكثر من غيرها، ومن هؤلاء الإمام أبو داود الذي ألف كتابه السنن ولم يُعْنَ فيه كثيرًا بغير أحاديث الأحكام كالمغازي والسير والقصص والآداب. يقول الخطابي: "وكان تصنيف علماء الحديث قبل زمان أبي داود الجوامع والمسانيد ونحوهما، فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخبارًا وقصصًا ومواعظ وآدابًا، فأما السنن المحضة، فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفاءها، ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة، ومن أدلة سياقها على حسب ما اتفق لأبي داود؛ ولذلك حل هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر محل العجب، فضربت إليه أكباد الإبل، ودامت إليه الرحل"1. وقد جمع أبو داود سننه في عشرين سنة، وانتقاه من خمسمائة ألف حديث، وظل يقرؤه على الناس حوالي أربعين سنة. قال أبو داود: "أقمت بطرطوس عشرين سنة أكتب المسند، فكتبت أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدار الأربعة آلاف على أربعة أحاديث لمن وفقه الله"2، ثم ذكر الأحاديث. وقال أبو داود: كتبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنه هذا الكتاب -يعني السنن- جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت فيها الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما فيه وهن شديد بينته، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات".   1 معالم السنن "1/ 11". 2 تهذيب الأسماء واللغات للنووي "2/ 224"، وسيأتي ذكر هذه الأحاديث الأربعة قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه". والرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبَيْنَ ذلك أمور مشتبهات" 1. - شروط أبي داود في سننه: بيَّن الخطابي شروط أبي داود في كتابه السنن، وهو أنه جمع فيه الحديث الصحيح والحديث الحسن، وأما الحديث السقيم بأنواعه المختلفة كالموضوع والمقلوب الإسناد، والمجهول الرواة فيرى الخطابي أن سنن أبي داود خلا منها، وهو منه بريء من جملة وجوه، ثم بيَّن الخطابي أنه قد تدعو الحاجة أبا داود إلى شيء من هذا السقيم، فيميزه حتى يعرف الناس علته ويخرج من عهدته2. وحكى ابن الصلاح عن أبي داود نفسه أنه روى في سننه الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وأنه بين ما فيه وَهَنٌ شديد. وحكى ابن الصلاح عن ابن منده، ما أشار إليه من أن أبا داود لم يخرج عمن جمعوا على تركه، وأنه قد يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره. قال الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح "ت642هـ" في مقدمته ما نصه: ومن مظانه -يعني الحديث الحسن- سنن أبي داود السجستاني -رحمه الله- روينا عنه أنه قال: ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وروينا عنه أيضًا ما معناه أنه ذكر في كل باب أصح ما عرفه في ذلك الباب، وقال: ما كان في كتابي من   1 تاريخ بغداد "9/ 57"، كشف الظنون "2/ 1004"، وفيات الأعيان "2/ 404"، جامع الأصول "1/ 111"، فتح الباري "1/ 129"، وأورد ابن حجر هذين البيتين: عمدة الدين عندنا كلمات ... مسندات من قول خير البرية اترك الشبهات، وازهد، ودع ما ... ليس يعينك، واعملنَّ بنيَّة 2 راجع: معالم السنن "1/ 6". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 حديث فيه وهن شديد، فقد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض. قال ابن الصلاح: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورًا مطلقًا وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن، عرفنا بأنه من الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عنده، ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به؛ إذ حكى أبو عبد الله بن منده الحافظ أنه سمع محمد بن سعد الباوردي بمصر يقول: كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه، قال ابن منده: وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره؛ لأنه أقوى عنده من رأي الرجال1. اهـ. وقال السيوطي في التدريب: "فعلى ما نقل عن أبي داود يحتمل أن يريد بقوله: "صالح" الصالح للاعتبار دون الاحتجاج، فيشمل الضعيف أيضًا؛ لكن ذكر ابن كثير أنه روى عنه: "وما سكت عنه فهو حسن"، فإن صح ذلك فلا إشكال"2. اهـ. وقال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة مبينًا شروطه في كتابه السنن: "إنكم سألتموني أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب السنن أهي أصح ما عرفت في الباب، فاعلموا أنه كله كذلك، إلا أن يكون قد رُوي من وجهين أحدهما أقوم إسنادًا، والآخر أقوم في الحفظ، فربما كتبت ذلك، ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث، ولم أكتب في الباب إلا حديثًا أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح، فإنها تكثر، وإنما أردت قرب منفعته، فإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة، فإنما هو من زيادة كلام فيه، وإنما تكون فيه كلمة زائدة على الأحاديث، وربما اختصرت الحديث الطويل؛ لأني لو كتبته بطوله لم يعلم   1 المقدمة "ص18" في النوع الثاني. 2 تدريب الراوي "1/ 207"، مؤسسة الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 بعض من يسمعه المراد منه، ولا يفهم موضع الفقه منه فاختصرته لذلك، وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى مثل سفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم فيها، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل، وغيره، فإذا لم يكن مسند غير المراسيل، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة، وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء، فإذا كان فيه حديث منكر بينته أنه منكر، وليس على نحوه في الباب غيره، وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، ومنه ما لا يصح سنده، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض، وهو كتاب لا ترد عليك سُنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا وهي فيه، ولا أعلم شيئًا بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب، ولا يضر رجلًا ألا يكتب من العلم شيئًا بعدما يكتب هذا الكتاب، وإذا نظر فيه وتدبره وتفهمه حينئذ يعلم مقداره، وأما هذه المسائل مسائل الثوري، ومالك والشافعي، فهذه الأحاديث أصولها ... والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئًا من الأحاديث إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس، فالحديث المشهور المتصل الصحيح ليس يقدر أن يرده عليك أحد، وأما الحديث الغريب، فإنه لا يحتج به، ولو كان من رواية الثقات من أئمة العلم. قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث. وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فانشده كما تنشد الضالة، فإن عرف إلا فدعه، ولم أصنف في كتاب السنن إلا الأحكام، فهذه أربعة آلاف وثمانمائة كلها في الأحكام، فأما أحاديث كثيرة في الزهد والفضائل وغيرها، فلم أخرجها والسلام عليكم"1. وقال الصنعاني: "قال أبو داود: ما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح. قال الزين: أي للاحتجاج"2.   1 نقلًا عن مقدمة ابن الصلاح "ص55". 2 توضيح الأفكار "1/ 197". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وقال ابن عبد البر: "كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده، لا سيما إن كان لم يذكر في الباب غيره"1. وقال الذهبي فيما نقله عنه السبكي: "وقد وفَّى بذلك، فإنه بين الضعيف الظاهر، وسكت عن الضعيف المحتمل، فما سكت عنه لا يكون حسنًا عنده، ولا بد؛ بل قد يكون مما فيه الضعف"2. وزعم الحافظ السلفي أنا ما في سنن أبي داود صحيح؛ لأنه أحد الكتب الخمسة التي "اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب"2. فرد عليه ابن الصلاح قائلًا: "وهذا تساهل؛ لأن فيها ما صرحوا بكونه ضعيفًا أو منكرًا أو نحو ذلك من أوصاف الضعيف، وصرح أبو داود فيما قدمنا من روايته عنه بانقسام ما في كتابه إلى صحيح وغيره"3. فابن الصلاح يرى أن الأحاديث التي سكت عنها أبو داود حسنة، لا صحيحة كما زعم الحافظ السلفي، والسبب في موقف ابن الصلاح أنه كان يرى أن ليس للمتأخر أن يجرؤ على الحكم بصحة حديث ليس في أحد الصحيحين، أو لم ينص على صحته أحد من أئمة الحديث السابقين. وقال الأستاذ أحمد شاكر: "إن ابن الصلاح يحكم بحسن الأحاديث التي سكت عنها أبو داود، ولعله سكت عن أحاديث في السنن، وضعفها في شيء من أقواله الأخرى كإجاباته للآجري في الجرح والتعديل، والتصحيح والتعليل، فلا يصح إذن أن يكون ما سكت عنه في "السنن" وضعفه في موضع آخر من كلامه حسنًا؛ بل يكون عنده ضعيفًا، وإنما لجأ ابن الصلاح إلى هذا اتباعًا لقاعدته التي سار عليها من أنه لا يجوز للمتأخرين التجاسر على الحكم بصحة حديث لم يوجد في أحد الصحيحين، أو لم ينص أحد من أئمة الحديث على صحته"4.   1 نقلًا عن: توضيح الأفكار "1/ 197". 2 طبقات السبكي "2/ 293". 3 علوم الحديث "36، 37". 4 الباعث الحثيث "ص42". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وقال في موضع آخر: "وقد رد العراقي وغيره قول ابن الصلاح هذا، وأجازوا لمن تمكن وقويت معرفته أن يحكم بالصحة أو بالضعف على الحديث بعد الفحص عن إسناده وعلله، وهو الصواب. والذي أراه أن ابن الصلاح ذهب إلى ما ذهب إليه بناء على القول بمنع الاجتهاد بعد الأئمة، فكما حظروا الاجتهاد في الفقه أراد ابن الصلاح أن يمنع الاجتهاد في الحديث، وهيهات فالقول بمنع الاجتهاد قول باطل لا برهان عليه من كتاب ولا سنة ولا تجد له شبه دليل"1. - ويتضح من كلام أبي داود وغيره مما سبق ما يلي: أولًا: أنه اهتم في سننه بجمع ما هو صحيح، وحسن، أو صالح للاحتجاج. ثانيًا: أنه قد يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره؛ لأنه أقوى من رأي الرجال. ثالثًا: أنه يبين الأحاديث التي فيها وهن شديد. رابعًا: أن ما سكت عنه فهو صالح عنده. خامسًا: أنه يختار من الأحاديث الصحيحة طريقًا أو طريقين ويترك الطرق الأخرى، وربما فعل ذلك تجنبًا للضخامة وكبر الحجم. سادسًا: أنه اختصر الحديث الطويل ليُفهم موضع الفقه منه. وأما قوله: "وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء"، فقد يكون مراده: أنه لم يخرج لمتروك الحديث عنده على ما ظهر له، أو لمتروك مجمع على ترك حديثه إلا وبينه2. وأما الأحاديث التي سكت عنها: فمنها المتفق عليه، ومنها الموجود في أحد الصحيحين، ومنها ما هو على شرط الصحة، ومنها ما هو حسن لذاته، ومنها ما   1 الباعث الحثيث "ص29". قال الحافظ السيوطي: "والأحوط في مثل ذلك أن يعبر عنه بصحيح الإسناد، ولا يطلق التصحيح لاحتمال علة للحديث خفيت عليه، وقد رأيت من يعبر خشية من ذلك بقوله: صحيح إن شاء الله، وكثيرًا ما يكون الحديث ضعيفًا أو واهيًا، والإسناد صحيح مركب عليه ... ". تدريب الراوي "1/ 183". 2 راجع: شروط الأئمة الخمسة "ص54". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 هو حسن لغيره، ومنها ما فيه راوٍ ضعيف، ولكنه محتمل؛ لعدم الاتفاق على ترك حديثه، أو لعدم شدة ضعفه، ولا ينبغي لنا أن نستنبط من سكوت أبي داود الاحتجاج بكل ما سكت عنه. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "ومن هنا يظهر ضعف طريقة من يحتج بكل ما سكت عليه أبو داود، فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج، ويسكت عنها مثل ابن لهيعة ... فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث بن دحية، وصدقة الدقيقي، وعثمان بن واقد العمري، وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة، وأحاديث المدلسين بالعنعنة، والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم"1. - الضعيف في سنن أبي داود: صرح أبو داود -رحمة الله تعالى عليه- في سننه بتضعيف بعض الأحاديث، ويرى بعض العلماء أن في السنن أيضًا أحاديث ضعيفة لم يصرح أبو داود بضعفها، إما لأن ضعفها محتمل عنده وليس بشديد، وإما لأنه صرح في غير "السنن" بضعفها، كما ذكر ذلك الأستاذ أحمد شاكر في النص الذي أوردناه قبل قليل. فالأحاديث التي صرَّح بضعفها أمرها هين، وكذلك الأحاديث التي سكت عنها وأخرجها الشيخان أو أحدهما فهي صحيحة، أما الأحاديث التي سكت عنها وليست من هذا القبيل ولا ذاك، فإننا نستطيع أن نحكم عليها بالنظر في أسانيدها، فما حكم له سنده بالصحة كان صحيحًا، وما حكم له سنده بالضعف كان ضعيفًا. ومن الجدير بالذكر أن ننوه هنا بأن المنذري وابن الصلاح وغيرهما ذكروا أن محمد بن إسحاق بن منده الحافظ حكى أن شرط أبي داود والنسائي إخراج حديث   1 المنهل العذب المورود، لمحمد خطاب السبكي، نقلًا عن التحفة المرضية للقاضي حسين بن محسن اليماني "1/ 18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أقوام لم يجتمع على تركهم، ويحكون عن أبي داود أنه قال: "ما ذكرت في كتابي حديثًا اجتمع الناس على تركه"1. وهذا الذي يحكونه عن أبي داود أدق من كلمته الواردة في رسالته إلى أهل مكة وهي: "وليس في كتاب السنن عن رجل متروك الحديث شيء"؛ إذ قد أخرج عن أبي جَنَاب يحيى بن أبي حية الكلبي2، ومحمد بن عبد الرحمن البَيْلَمَاني3، وهما من المتروكين وإن وجد من يزكيهما، فلا يعد أمثالهما من المجتمع على تركهم. ورَوى عن جابر الجعفي، فقد أخرج له الحديث رقم "1036"، ونصه: "إذا قام الإمام في الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائمًا، فليجلس، فإن استوى قائمًا، فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو"، ثم قال عقبه: "وليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث"4. وقد ترجم الذهبي في "الميزان" لجابر هذا، وذكر ما يدل على ضعفه واتهامه5. وذكر أبو داود في كتابه السنن عمرو بن ثابت6 وهو رافضي، وقد قرر ذلك أبو داود نفسه، فقال بعد أن أورد الحديث رقم "287": "ورواه عمرو بن ثابت عن ابن عقيل ... " ثم قال أبو داود: "وعمرو بن ثابت رافضي، رجل سوء؛ ولكنه كان صدوقًا في الحديث"7. وروى أيضًا عن الحارث الأعور8 الحديث رقم "908"، وفي الحارث كلام كثير9. وقال ابن كثير في "البداية والنهاية: "قال أبو داود: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا نوح   1 "مختصر المنذري" "1/ 8"، و"علوم الحديث" "33"، و"توجيه النظر" "150"، و"قواعد التحديث" "331". 2 انظر: "الميزان" "4/ 371". 3 انظر: "سنن أبي داود" "1/ 373- 374". 5 انظر: "الميزان" "1/ 379". 6 انظر ترجمته في "الميزان" "3/ 249". 7 انظر: "السنن" "1/ 330". 8 انظر ترجمته في "الميزان" "1/ 435". 9 انظر: "السنن" "1/ 330". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ابن قيس، عن يزيد بن كعب، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزراء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: السجل كاتب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهكذا رواه النسائي ... ورواه أبي جعفر بن جرير في تفسيره عند قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] ... وقد عرضت هذا الحديث على شيخنا الحافظ الكبير الحافظ المزي فأنكره جدًّا، وأخبرته أن شيخنا العلامة أبا العباس ابن تيمية كان يقول: هو حديث موضوع وإن كان في سنن أبي داود. قال شيخنا المزي: وأنا أقوله"1. - لماذا أورد في كتابه الحديث الضعيف؟ 2 أورد أبو داود بعض الأحاديث الضعيفة في كتابه للأمور الآتية: 1- لأن طريقته في التصنيف هي أن يجمع كل الأحاديث التي تتضمن أحكامًا فقهية ذهب إلى القول بها عالم من العلماء. 2- لأنه كان يرى أن الحديث الضعيف -إن لم يكن شديد الضعف- أقوى من رأي الرجال ومن القياس "حكى ابن منده أنه سمع محمد الباوردي يقول: كان من مذهب النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه، قال ابن منده: وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه، ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره أقوى عنده من رأي الرجال"3. وحكى ابن العربي عن أبي داود أنه قال لابنه: "إن أردت أن أقتصر على ما صح عندي لم أرَ من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء؛ ولكنك يا بني تعرف طريقي في الحديث أني لا أخالف ما يضعف إلا إذا كان في الباب ما يدفعه"4.   1 "البداية والنهاية" "5/ 347"، وانظر: "تفسير ابن كثير" "3/ 200"، و"تفسير الطبري" "17/ 100"، و"الإصابة" "2/ 15"، و"السنن الكبرى" للنسائي "1/ 126". 2 انظر أسباب ذلك في كتاب "أبو داود: حياته وسننه" "ص56، 57"، للدكتور/ محمد لطفي الصباغ، المكتب الإسلامي، بيروت، ط "2"، 1405هـ-1985م. 3 "علوم الحديث" "33، 34"، و"توجيه النظر" "150". 4 "المنهل العذب المورود" للشيخ محمود خطاب السبكي "1/ 18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 3- أما إذا كان الحديث شديد الضعف، فإنما يورده ليدل على عدم تبنِّيه لمضمونه، وكأنه بذلك يرد على الآخرين به قائلًا: ليس لكم دليل بهذا الحديث على رأيكم؛ لأن الحديث شديد الضعف. ومثال ذلك ما جاء في باب النهي عن التلقين1 حيث عقد الباب على حديث ضعيف ولم يورد في الباب غيره، فقد جاء بالحديث رقم "98" فقط وهو: عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي! لا تفتح على الإمام في الصلاة". قال أبو داود: أبو إسحاق لم يسمع من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها2. أي: أن الحديث منقطع، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحارث بن عبد الله الأعور نفسه ضعيف عند الجمهور، عرفنا أن الحديث شديد الضعف. - منهج أبي داود في سننه: رتب أبو داود أحاديثه ترتيبًا فقهيًّا، وصنفها على كتب، تندرج تحتها أبواب، واشتمل على الكتب الفقهية الآتية: 1- كتاب الطهارة. 2- كتاب الصلاة. 3- كتاب الزكاة. 4- كتاب اللقطة. 5- كتاب المناسك "الحج". 6- كتاب النكاح. 7- كتاب الطلاق. 8- كتاب الصوم. 9- كتاب الجهاد. 10- كتاب الضحايا "الأضحية". 11- كتاب الصيد. 12- كتاب الوصايا. 13- كتاب الفرائض. 14- كتاب الخراج والإمارة والفيء. 15- كتاب الجنائز. 16- كتاب الأيمان والنذور.   1، 2 انظر: "السنن" "1/ 330". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 17- كتاب البيوع والإجارات. 18- كتاب الأقضية. 19- كتاب العلم. 20- كتاب الأشربة. 21- كتاب الأطعمة. 22- كتاب الطب. 23- كتاب العتق. 24- كتاب الحروف والقراءات. 25- كتاب الحمام. 26- كتاب اللباس. 27- كتاب الترجل. 28- كتاب الخاتم. 29- كتاب الفتن والملاحم. 30- كتاب المهدي. 31- كتاب الملاحم. 32- كتاب الحدود. 33- كتاب الديات. 34- كتاب السُّنَّة. 35- كتاب الأدب. ومن خلال تأمل كتاب أبي داود يتضح الآتي1: 1- يبدأ أولًا الأبواب بذكر الأحاديث الصحيحة، وقد يسوق بعدها أحيانًا غير الصحيحة. 2- أنه يذكر أكثر من طريق للمتن عندما يريد أن يؤكد حكمًا فقهيًّا، كما في كتاب الصلاة في باب: "المرأة لا تقطع الصلاة" ذكر خمسة أحاديث وكلها تبين أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي وعائشة بينه وبين القبلة معترضة؛ مما يدل على أن المرأة لا تقطع الصلاة2. 3- وأنه يعنَى بالتنبيه على اختلاف الرواة في ألفاظ المتون التي تلتقي في موضوع واحد، ومن ذلك ما جاء أيضًا في باب المرأة لا تقطع الصلاة: "حدثنا   1 راجع كتب السنة الجزء الثاني، د. رفعت فوزي "مخطوط بالآلة الكاتبة". 2 سنن أبي داود "1/ 456، 457" "112"، باب من قال: "المرأة لا تقطع الصلاة"، الأحاديث من "710" إلى "714". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 عثمان بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر "ح" قال أبو داود: وحدثنا القعنبي، حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد، وهذا لفظه- عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة، أنها قالت: كنت أنام وأنا معترضة في قبلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيصلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أمامه إذا أراد أن يوتر". زاد عثمان: "غمزني"، ثم اتفقا "فقال: تَنَحَّيْ"1. ففي هذا الحديث ثلاثة تنبيهات: الأول: أن عبد العزيز هو ابن محمد "يعني الدراوردي حتى لا يلتبس بغيره". والثاني: أن هذا الحديث لفظ عبد العزيز بن محمد وليس لفظ محمد بن بشر. والثالث: أن عثمان بن أبي شيبة زاد في لفظ الحديث عن عبد العزيز كلمة "غمزني"؛ وهذا يدل على دقة أبي داود في روايته، وحرصه على نسبة ألفاظ الحديث إلى رواتها، كما هو الحال مع كثير من المحدثين؛ حفاظًا على السُّنة. 4- يذكر ما يخدم الناحية الفقهية التي عُنِيَ بها كتابه، ومن ذلك: أ- أنه يذكر بعض القواعد التي تتبع عندما يبدو تعارض ظاهر الأحاديث؛ ليلفت نظرنا إلى الفهم الصحيح، ففي الأبواب التي روى فيها أحاديث تقول: إن الصلاة تقطعها أشياء، وأخرى تقول: إن الصلاة لا تقطعها هذه الأشياء2. يذكر عقبها هذه القاعدة: "إذا تنازع الخبران عن رسول -صلى الله عليه وسلم- نُظِرَ إلى ما عمل به أصحابه من بعده"3. ب- ينقل أقوال بعض الأئمة تعقيبًا على بعض الأحاديث، ففي "باب   1 المصدر السابق، حديث رقم "714". 2 انظر: سنن أبي داود "1/ 442- 460"، كتاب الصلاة الأبواب: "102" حتى "115" التي اشتملت على الأحاديث "685- 720". 3 سنن أبي داود "1/ 460" نهاية الباب رقم "115" باب من قال: لا يقطع الصلاة شيء - عقب حديث رقم "720". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 المحرم يموت كيف يصنع به" بعد أن روى حديث ابن عباس قال: أُتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل وَقَصَتْهُ راحلته، فمات وهو محرم، فقال: "كفونه في ثوبيه واغسلوه بماء وسدر، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة يلبي" 1. قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: في هذا الحديث خمس سنن: "كفنوه في ثوبيه" أي: يكفن الميت في ثوبين، "واغسلوه بماء وسدر" أي: إن في الغسلات كلها سدرًا، "ولا تخمروا رأسه": ولا تقربوه طيبًا، وكان الكفن من جميع المال. وفي "باب الرجل يُكَفِّر قبل أن يحنث" قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يرخص فيها: الكفارة قبل الحنث2. جـ- يذكر بعض آراء السلف، ويختار منها؛ فقد روى حديث خالد بن الوليد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أكل لحوم الخيل، والبغال، والحمير، وكل ذي ناب من السباع3. ثم علق أبو داود عليه بقوله: "وهو قول مالك"، ثم قال أيضًا: "لا بأس بلحوم الخيل، وليس العمل عليه"، ثم قال أيضًا: "وهذا منسوخ، فقد أكل لحوم الخيل جماعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم: ابن الزبير، وفضالة بن عبيد، وأنس بن مالك، وأسماء بنت أبي بكر، وسويد بن غفلة، وعلقمة، وكانت قريش في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذبحها"4. وروى عن أم سلمة قالت: كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أُمِرْنَا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:   1 سنن أبي داود "3/ 560" "15"، كتاب الجنائز "84"، باب المحرم يموت كيف يصنع به، حديث "3238". 2 سنن أبي داود "3/ 585" "16"، كتاب الأيمان والنذور "17"، باب: الرجل يكفر قبل أن يحنث - عقب حديث رقم "3277". 3 سنن أبي داود "4/ 151، 152" "21" كتاب الأطعمة "26" باب في أكل لحوم الخيل - حديث رقم "3790". 4 في الموضع السابق، عقب الحديث المذكور "3790". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 "احتجبا منه"، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى، لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟! " 1. قال أبو داود: هذا لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم، قد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت قيس: "اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده"2. وفي المستحاضة بعد أن روى ما يفيد أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ قال: "وهو قول الحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء، ومكحول، وإبراهيم، وسالم، والقاسم: إن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها"3. كما روى عن ربيعة: "أنه كان لا يرى على المستحاضة وضوءًا إلا عند كل صلاة إلا أن يصيبها حدث غير الدم"4، فتوضأ، ثم ذكر أن ذلك قول مالك، فقال أبو داود: هذا قول مالك يعني ابن أنس5. - شروحه ومختصراته: شرح السنن كثير من العلماء، منهم: 1- الإمام أبو سليمان الخطابي "ت 328م"، في كتابه "معالم السنن" "مطبوع". 2- وقطب الدين أبو بكر اليمني الشافعي "ت 652هـ". 3 وشهاب الدين الرملي "ت 848هـ" وغيرهم.   1 سنن أبي داود "4/ 361، 362" "26" كتاب اللباس "37" باب في قوله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ} [النور: 31] حديث رقم "4112". 2 الموضع السابق "4/ 362" عقب الحديث المذكور رقم "4112". 3 سنن أبي داود "1/ 194" "1" كتاب الطهارة "108" باب في المرأة التي تستحاض، ومن قال: تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض في آخر تعقيبه على الحديث رقم "281". 4 سنن أبي داود "1/ 214" "1" كتاب الطهارة "118" باب من لم يذكر الوضوء إلا عند الحدث - رقم "306". 5 الموضع السابق "1/ 215" عقب الحديث المذكور رقم "306". وقد قال الخطابي: "وقول ربيعة شاذ، ليس عليه العمل" هامش سنن أبي داود "1/ 214". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 واختصرها الحافظ عبد العظيم المنذري صاحب الترغيب والترهيب المتوفَّى سنة "656هـ". وهذب المختصر ابن قيم الجوزية المتوفَّى "751هـ" ذكر فيه أن الحافظ المنذري قد أحسن في اختصاره، فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل، وزدت عليه من الكلام على علل سكت عنها إذ لم يكملها، وتصحيح أحاديثه، والكلام على متون مشكلة لم يفتح معضلها، وقد بسطت الكلام على مواضع لعل الناظر لا يجدها في كتاب سواه1.   1 كشف الظنون "1/ 478"، مفتاح السُّنة "ص86". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 رابعًا: أبو عيسى الترمذي "209-279هـ" 1 هو: محمد بن عيسى بن سورة بن موسى الترمذي، أحد الأئمة الحفاظ المبرزين، تلميذ الإمام البخاري، ومشاركه فيما يرويه في عدة من مشايخه "مثل: قتيبة بن سعيد، وعلي بن حُجْر، وابن بشار، وغيرهم". سمع منه شيخه البخاري وغيره، وكان مبرزًا على الأقران، آية في الحفظ والإتقان، طاف البلاد، وسمع خلقا كثيرًا من الخراسانيين، والعراقيين، والحجازيين، وغيرهم؛ ولهذا كله اتسعت معرفته بعلوم الحديث رواية ودراية، ولم يكن راوية للحديث فقط، وإنما جمع إلى ذلك الفقه واستنباط الأحكام الشرعية، والوقوف على الآراء الفقهية المختلفة للأئمة، ونقد بعضها أحيانًا ... - شيوخه وتلاميذه: أدرك الترمذي كثيرًا من قدماء الشيوخ وسمع منهم، وكان عصره عصر النهضة العلمية العظيمة في علوم الحديث، وهي النهضة التي نرى أن الذي أثارها -أو كانت له اليد الطولى في إحيائها وبعثها- هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي ناصر الحديث "150-204هـ"؛ إذ علَّم الناس عامة، وأهل العراق ثم مصر خاصة، معنى الاحتجاج بالسنة، ومعنى العمل بها مع القرآن، وحدد أصول ذلك وحررها، وأقام الحجة على مناظره بوجوب الأخذ بالحديث وأفحمهم، وعن ذلك ترى أن الأئمة أصحاب الكتب الستة نبغوا في الطبقة التالية لعصر الشافعي مباشرة، وإن لم يدركوه رؤية وسماعًا لتقدم موته؛ ولكنهم أدركوا أقرانه   1 راجع ترجمته في: تهذيب الكمال "26/ 250- 252"، الأنساب للسمعاني "3/ 45"، وفيات الأعيان "4/ 278"، سير أعلام النبلاء "13/ 270"، تهذيب التهذيب "9/ 387- 389"، التقريب "2/ 198"، شذرات الذهب لابن العماد "2/ 174- 175"، العبر "1/ 442، 444"، "2/ 62"، ميزان الاعتدال "3/ 117" ترجمة رقم "8035"، ثقات ابن حبان "9/ 153"، تذكرة الحفاظ "2/ 187- 188"، النجوم الزاهرة لابن تغري بردي "3/ 81 - 82"، مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده "2/ 11"، كشف الظنون "1/ 375"، الفهرست لابن النديم "ص325"، الكامل لابن الأثير "7/ 164- 165"، توضيح الأفكار على تنقيح الأنظار "1/ 170". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ومعاصريه ومناظريه وكبار تلاميذه، وهاك بيانًا عن تواريخ مولد كل منهم ووفاته؛ لتظهر المقارنة بينهم واضحة: البخاري: محمد بن إسماعيل أبو عبد الله، ولد في شوال سنة 194هـ، ومات يوم السبت غرة شوال سنة 256هـ. مسلم: مسلم بن الحجاج القشيري أبو الحسين، ولد في سنة 204، ومات في 25 رجب سنة 261هـ. الترمذي: محمد بن عيسى أبو عيسى، ولد في سنة 209هـ، ومات في 13 رجب سنة 279هـ. أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني، ولد سنة 202، ومات في شوال سنة 275هـ. النسائي: أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن، ولد سنة 215هـ، ومات في 13 صفر سنة 303هـ. ابن ماجه: محمد بن يزيد بن ماجه أبو عبد الله، ولد سنة 209هـ، ومات في 22 رمضان سنة 273هـ. وقد روى هؤلاء الأئمة الستة عن شيوخ كثيرين، فتفرد بعضهم بالرواية عن بعض الشيوخ، واشترك بعضهم مع غيره في الرواية عن آخرين، واشتركوا جميعًا في الرواية عن تسعة شيوخ فقط وهم: 1- محمد بن بشار بندار "167-250هـ". 2- محمد بن المثني أبو موسى "167-252هـ". 3- زياد بن يحيى الحساني "ت 254هـ". 4- عباس بن عبد العظيم العنبري "ت 246هـ". 5- أبو سعيد الأشج عبد الله بن سعيد الكندي "ت 257هـ". 6- أبو حفص عمرو على الفلاس "ولد بعد سنة 160هـ، ومات سنة 249هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 7- يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي "166-252هـ". 8- محمد بن معمر القيسي البحراني "ت 256هـ". 9- نصر بن على الجهضمي "ت 250هـ". وقد أدرك أبو عيسى الترمذي شيوخًا أقدم من هؤلاء، وسمع منهم، وروى عنهم في كتابه هذا، منهم: - عبد الله بن معاوية الجمحي "ت 243هـ" وقد جاوز المائة. - علي بن حجر المروزي "ت 244هـ" وقد قارب المائة. - سويد بن نصر بن سويد المروزي "ت 240هـ"، عن 91 سنة. - قتيبة بن سعيد الثقفي، أبو رجاء "150-240هـ". - أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري المدني "150-242هـ". - محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب "ت 244هـ". - إبراهيم بن عبد الله بن حاتم الهروي "178-244هـ". - إسماعيل بن موسى الفزاري السدي "ت 245هـ". وغير هؤلاء أيضًا، وكثير من شيوخ البخاري والترمذي تلميذ البخاري وخريجه، وعنه أخذ علم الحديث، وتفقه فيه، وسأله واستفاد منه. وقد طاف أبو عيسى البلاد، وسمع خلقًا من الخراسانيين، والعراقيين، والحجازين. والرواة عن أبي عيسى الترمذي كثيرون، ذكر بعضهم في تذكرة الحفاظ وفي التهذيب، وأهمهم عندنا ذكرًا المحبوبي راوي كتاب الجامع عنه، ترجم له ابن العماد في شذرات الذهب "2/ 373"، قال: "أبو العباس المحبوبي محمد بن أحمد بن محبوب المروزي، محدث مرو، وشيخها ورئيسها، توفي في رمضان "346هـ"، وله سبع وتسعون سنة، روى جامع الترمذي عن مؤلفه، وروى عن سعيد بن مسعود صاحب النضر بن شُميل وأمثاله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ووصفه السمعاني في الأنساب بأنه: "شيخ أهل الثروة من التجار بخراسان، وإليه كانت الرحلة". ويكفي الترمذي فخرًا أن روى عنه البخاري -وهو شيخه- حديثًا واحدًا، فهذه شهادة من البخاري لتلميذه بالرواية والضبط والإتقان. - أقوال العلماء فيه: روى الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي عن أبي سعيد: عبد الرحمن بن محمد الإدريسي الحافظ محدث سمرقند، ومصنف تاريخها "ت 405هـ"1 قال: محمد بن عيسى بن سورة الترمذي الحافظ الضرير أحد الأئمة الذين يُقتدى بهم في علم الحديث، صنف كتاب الجامع، والتواريخ، والعلل، تصنيف رجل عالم متقن، كان يُضرب به المثل في الحفظ2. وبإسناده عن أبي عيسى محمد بن عيسى الحافظ يقول: كنت في طريق مكة، وكنت قد كتبت جزأين من أحاديث شيخ، فمر بنا ذلك الشيخ، فسألت عنه، قالوا: فلان، فذهبت إليه وأنا أظن أن الجزأين معي، وحملت معي في محملي جزأين كنت ظنتت أنهما الجزآن اللذان له، فلما ظفرت به وسألته أجابني إلى ذلك "وأخذت الجزأين فإذا هما بياض، فتحيرت، فجعل الشيخ يقرأ عليَّ من حفظه ثم ينظر إلَيَّ". فرأى البياض في يدي، فقال: أما تستحي منى؟! قلت: لا، وقصصت عليه القصة، وقلت: أحفظه كله، فقال: اقرأ، فقرأت جميع ما قرأ عليَّ على الولاء، فلم يصدقني، وقال: استظهرت قبل أن تجيئني! فقلت: حدثني بغيره فقرأ عليَّ أربعين حديثًا من غرائب حديثه، ثم قال: هات اقرأ، فقرأت عليه من أوله إلى آخره كما قرأ، فلما أخطأتُ في حرف! فقال لي: ما رأيت مثلك3.   1 راجع ترجمته في تذكرة الحفاظ "3/ 249، 250". 2 شروط الأئمة الستة "ص25" طبعة دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ-1984م. 3 المصدر السابق "ص25، 26"، وهي أيضًا في الأنساب للسمعاني، وتذكرة الحفاظ، وتهذيب التهذيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ووصفه السمعاني في الأنساب بأنه "إمام عصره بلا مدافعة، صاحب تصانيف"، وبأنه "أحد الأئمة الذين يُقتدَى بهم في علم الحديث"، ونحو ذلك قال ابن خلكان. ونقل الذهبي في تذكرة الحفاظ، والصفدي في نكت الهميان، والمزي في التهذيب أن ابن حبان ذكره في الثقات وقال: "كان ممن جمع وصنف، وحفظ وذَاكَر". ووصفه المزي في التهذيب بأنه "الحافظ صاحب الجامع وغيره من المصنفات، أحد الأئمة الحفاظ المبرزين، ومن نفع الله به المسلمين". وقال الذهبي في الميزان: "الحافظ العلم، صاحب الجامع، ثقة مجمع عليه، ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم فيه في الفرائض من كتاب الإيصال: إنه مجهول1، فإنه ما عرف ولا دَرَى بوجود الجامع ولا العلل له". وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب: "وأما أبو محمد بن حزم فإنه نادى على نفسه بعدم الاطلاع، فقال في كتاب الفرائض من الإيصال: محمد بن عيسى بن سورة مجهول. ولا يقولن قائل: لعله ما عرف الترمذي ولا اطلع على حفظه ولا على تصانيفه؛ فإن هذا الرجل قد أطلق هذه العبارة في خلق من المشهورين من الثقات الحافظ؛ كأبي القاسم البغوي، وإسماعيل بن محمد الصفار، وأبي العباس الأصم، وغيرهم، والعجب أن الحافظ الفرضي ذكره في كتابه المؤتلف والمختلف ونبَّه على قدره، فكيف فات ابن حزم الوقوف عليه فيه! ".   1 ابن حزم هو الإمام الحافظ الحجة الفقيه المجتهد أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، ولد بقرطبة سنة "384" ومات في 28 سعبان سنة 456هـ، وكتابه "الإيصال" ذكره الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ "3/ 322" وسماه "الإيصال إلى فهم كتاب الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام والحلال والحرام والسنة والإجماع"، وقال: "أورد فيه أقوال الصحابة فمن بعدهم والحجة لكل قول" ووصفه في "ص 326" بأنه 24 مجلدًا مع أنه ذكر قبل ذلك أن المحلى 8 مجلدات، والمحلى مطبوع معروف، فالإيصال ثلاثة أضعاف المحلى، وقد ذكر ابن حزم في المحلى الحديث الذي في إسناده الترمذي "9/ 295، 296" وضعفه؛ ولكن لم يذكر مطعنًا في الترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وقال العلامة طاش كبرى زاده1 في كتاب مفتاح السعادة: "وهو أحد العلماء الحفاظ الأعلام، وله في الفقه يد صالحة، أخذ الحديث عن جماعة من الأئمة، ولقي الصد الأول من المشايخ". وقال ابن العماد الحنبلي2 في شذرات الذهب: "كان مبرزًا على الأقران، آية في الحفظ والإتقان". ونقل الحاكم أبو أحمد3 عن شيخه عراك بن مالك قال: "مات محمد بن إسماعيل البخاري، ولم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد، بكى حتى عمي، وبقي ضريرًا سنين". وفي التهذيب: "قال أبو الفضل البيلماني: سمعت نصر بن محمد الشيركوهي يقول: سمعت محمد بن عيسى الترمذي يقول: قال لي محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي". وهذه شهادة عظيمة من شيخه إمام المسلمين وأمير المؤمنين في الحديث في عصره. وقال ابن الأثير في تاريخه: "كان إمامًا حافظًا، له تصانيف حسنة، منها الجامع الكبير، وهو أحسن الكتب". - مصنفاته: وصفه العلماء فيما مضى بأنه "صاحب التصانيف"، وسموا كتبًا من مؤلفاته، ولكنا لم نرَ منها إلا كتابين: "الجامع الصحيح" وكتاب "الشمائل" وهو كتاب نفيس   1 هو المولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده، توفي سنة 962هـ. 2 هو أبو الفلاح عبد الحي بن أحمد بن محمد المعروف بابن العماد، ولد في 8 رجب سنة 1023هـ، ومات في 16 ذي الحجة سنة 1089هـ. 3 هو محدث خراسان الإمام الحافظ الجهبذ الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري مات سنة "378" عن 92 سنة، وله ترجمة في التذكرة "3/ 174- 176" وهو غير تلميذه الحاكم أبي عبد الله صاحب المستدرك، ذاك أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري المعروف بابن البيع وبالحاكم، ولد في ربيع الأول سنة "321هـ" ومات في صفر سنة "405هـ"، وله ترجمة في التذكرة "3/ 227- 233". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 معروف مشهور، ولعل باقي كتبه فُقِدَ فيما فُقِدَ من نفائس المؤلفات، وكنوز الأئمة العلماء. وفي التهذيب: "ولأبي عيسى كتاب الزهد، مفرد، لم يقع لنا، وكتاب الأسماء والكنى". وهذا بيان مؤلفاته، كما ظهر لنا من أقوال العلماء: 1- الجامع الصحيح. 2- الشمائل النبوية. 3- العلل1. 4- التاريخ2. 5- الزهد. 6- الأسماء والكنى. 7- كتاب الجرح والتعديل. ولعل له كتبًا أخرى لم نقف على خبرها بعد. - كتابه "الجامع" أو "السنن": اشتهر كتاب الإمام الترمذي "بالجامع"، كما يقال له "السنن"، وصفه ابن الأثير في "تاريخه" بأنه "أحسن الكتب". وفي كشف الظنون في الكلام عن "الجامع الصحيح" للترمذي: "وهو ثالث الكتب الستة في الحديث، وقد اشتهر بالنسبة إلى مؤلفه، فيقال: جامع الترمذي، ويقال له: السنن أيضًا، والأول أكثر". وقال الحافظ أبو الفضل المقدسي: "سمعت الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري3 بهراة، وجرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي وكتابه، فقال: كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم؛ لأن كتابي البخاري ومسلم لا يقف على الفائدة منهما إلا المتبحر العالم، وكتاب أبي عيسى يصل إلى فائدته كل أحد من الناس".   1، 2 ذكرهما ابن النديم في الفهرست، وكتاب العلل هذا غير "كتاب العلل" الذي في آخر الجامع الصحيح. 3 هو شيخ الإسلام الهروي الحافظ الإمام الزاهد، صاحب منازل السائرين، سمع جامع أبي عيسى من عبد الجبار بن محمد الجراحي عن المحبوبي عن الترمذي، ولد سنة 396هـ، ومات في ذي الحجة سنة 481هـ، وله ترجمة في تذكرة الحفاظ "3/ 354-360". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ونقل أبو علي منصور بن عبد الله الخالدي عن الترمذي أنه قال في شأن كتابه "الجامع": "صنفت هذا الكتاب، فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم"، وفي رواية: "عرضت هذا الكتاب على علماء الحجاز والعراق وخراسان، فرضوا به واستحسنوه، ومن كان في بيته، فكأنما النبي في بيته يتكلم". وقال العلامة طاش كبرى في ترجمة الترمذي: "له تصانيف كثيرة في علم الحديث، وهذا كتابه الصحيح أحسن الكتب وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيبًا، وأقلها تكرارًا، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال، وتبيين أنواع الحديث، من الصحيح والحسن والغريب، وفيه جرح وتعديل، وفي آخره كتاب العلل، وقد جمع فيه فوائد حسنة، لا يخفى قدرها على مَن وقف عليها". وقد ذكر أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الحق اليوسفي أنواع الأحاديث التي جاءت في كتاب الترمذي، وبيَّن أنها أربعة أقسام: 1- قسم مقطوع بصحته "ويشمل الصحيح والحسن". 2- وقسم على شرط أبي داود والنسائي "أي: ليس فيه وهن شديد". 3- وقسم أخرجه للضدية؛ أي: ذكره مقابل الأحاديث الصحيحة التي أخذ بها الأغلبية، وأبان الترمذي عن علته. 4- وقسم أبان عنه في قوله: "ما أخرجت في كتابي هذا إلا حديثًا قد عمل به بعض الفقهاء". قال أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق اليوسفي1: الجامع -يريد كتاب الترمذي- على أربعة أقسام: قسم مقطوع بصحته، وقسم على شرط أبي داود والنسائي -كما بينا- وقسم أخرجه للضدية، وأبان عن علته، وقسم رابع أبان عنه فقال: ما أخرجت في كتابي هذا إلا حديثًا قد عمل به بعض الفقهاء، وقال فيها:   1 هو: أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن أحمد اليوسفي، مات بمكة "574هـ"، شذرات الذهب "4/ 248". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 قال الترمذي: صنفت كتابي هذا وعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب -يعني الجامع- فكأنما في بيته نبي يتكلم1. انتهى2. قال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي: "اعلم أن الترمذي خرج في كتابه الحديث الصحيح، والحديث الحسن، وهو ما نزل به عن درجة الصحيح، وكان فيه بعض ضعف، والحديث الغريب، والغرائب التي خرجها فيها بعض المناكير، ولا سيما في كتاب الفضائل؛ ولكنه يبين ذلك غالبًا، ولا يسكت عنه، ولا أعلم أنه خرج عن متهم بالكذب -متفق على اتهامه- حديثًا بإسناد منفرد، إلا أنه قد يخرج حديثًا مرويًّا من طرق أو مختلفًا في إسناده، وفي بعض طرقه متهم، وعلى هذا الوجه خرج حديث محمد بن سعيد المصلوب، ومحمد بن السائب الكلبي. نعم قد يخرج عن سيئ الحفظ، وعمن غلب على حديثه الوهن، ويبين ذلك غالبًا ولا يسكت عنه"3. اهـ. المهم أن الإمام الترمذي ميز الأحاديث الصحيحة من غيرها، وكما قال المقدسي: "وقد أزاح عن نفسه الكلام، فإنه شفى في تصنيفه، وتكلم على كل حديث بما يقتضيه"4. وقال الحافظ أبو الفضل المقدسي: "وأما أبو عيسى الترمذي -رحمه الله- فكتابه وحده على أربعة أقسام: قسم صحيح مقطوع به، وهو ما وافق فيه البخاري ومسلمًا، وقسم على شرط الثلاثة دونهما5 -كما بينا- وقسم أخرجه للضدية وأبان على علته ولم يغفله، وقسم رابع أبان هو عنه فقال: ما أخرجت في كتابي   1 نقل هذه القصة الذهبي في تذكرة الحفاظ، وابن حجر في التهذيب، وطاش كبرى زاده في مفتاح السعادة. 2 نقلًا عن توضيح الأفكار للصنعاني "1/ 170". 3 نقلًا عن تعليقات الشيخ المحدث الكوثري على شروط الأئمة الخمسة للحازمي "ص54". 4 شروط الأئمة الستة "ص13". 5 يريد: أبا داود، والنسائي، وابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 إلا حديثًا قد عمل به الفقهاء، وهذا شرط واسع، فإن على هذا الأصل كل حديث احتج به محتج أو عمل بموجبه عامل أخرجه، سواء صح طريقه أو لم يصح، وقد أزاح عن نفسه الكلام، فإنه شَفَى في تصنيفه، وتكلم على كل حديث بما يقتضيه، وكان من طريقته -رحمة الله عليه- أن يترجم الباب الذي فيه حديث مشهور عن صحابي قد صح الطريق إليه وأخرج من حديثه في الكتب الصحاح، فيورد في الباب ذلك الحكم من حديث صحابي آخر لم يخرجوه من حديثه، ولا تكون الطرق إليه كالطريق إلى الأول، إلا أن الحكم صحيح، ثم يتبعه بأن يقول: وفي الباب عن فلان وفلان، ويعد جماعة فيهم ذلك الصحابي المشهور وأكثر، وقلما يسلك هذه الطريقة إلا في أبواب معدودة، والله أعلم"1. وقال ابن الوزير في تنقيح الأنظار: "وفي كلام الذهبي ما يدل على جواز الاعتماد على تصحيح الترمذي وتحسينه؛ لانعقاد الإجماع على ثقته وحفظه في الجملة"2. ثم قال: "وأما قول الذهبي: "إن العلماء لا يعتمدون على تصحيحه" فلعله يريد: لا يعتمدون على تصحيحه فيما روى عن "كثير بن عبد الله"، كما أن ذلك موجود في بعض النسخ -أي الميزان- وقد قال ابن كثير الحافظ في إرشاده: وقد نوقش الترمذي في تصحيح هذا الحديث"3. وللقاضي أبي بكر بن العربي في أول شرحه على الترمذي الذي سماه "عارضة الأحوذي"4 فصل نفيس في مدح كتاب الترمذي ووصفه بحلاوة مقطع، ونفاسة منزع، وعذوبة مشرع، وفيه أربعة عشر علمًا، وذلك أقرب إلى   1 شروط الأئمة الستة "ص21"، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت. 2 تنقيح الأنظار وعليه توضيح الأفكار "1/ 170". 3 المصدر السابق. 4 قال ابن خلكان "1/ 619": "أما معنى عارضة الأحوذي: فالعارضة القدرة على الكلام، يقال: فلان شديد العارضة: إذا كان ذا قدرة على الكلام، والأحوذي، الخفيف في الشيء لحذقه، وقال الأصمعي: الأحوذي المشمر في الأمور القاهر لها، الذي لا يشذ عليه منها شيء، وهو بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح الواو وكسر الدال المعجمة وفي آخره ياء مشددة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 العمل وأسلم: أسند، وصحح، وضعف، وعدد الطرق، وجرح، وعدل، وأسمى، وأكنى1، ووصل، وقطع، وأوضح المعمول به، والمتروك، وبيَّن اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره، وذكر اختلافهم في تأويله، وكل علم من هذه العلوم أصل في بابه، وفرد في نصابه، فالقارئ له لا يزال في رياض مونقة، وعلوم متفقة متسقة، وهذا شيء لا يعمه إلا العلم الغزير، والتوفيق الكثير، والفراغ والتدبير. - منهج الترمذي في "جامعه" أو "سننه": المتأمل في "السنن" أو "الجامع" للإمام الترمذي يلاحظ له منهجًا واضحًا يمكن بيانه فيما يلي: 1- أنه رتبه على الكتب والأبواب الفقهية مثل أبي داود في سننه. 2- وأنه أودعه الصحيح والحسن والضعيف مبينًا درجة كل حديث في موضعه من الكتاب مع بيان وجه الضعف. 3- اختصر طرق الحديث، فإذا كان في الباب عدة أحاديث، ذكر واحدًا أو أكثر، وأشار إلى ما عدا ذلك فيقول: وفي الباب عن فلان وفلان ... 4- يذكر مذاهب الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ... 5- ثم يذكر الأحاديث المخالفة والمعارضة لما رواه في الباب، ويبين درجتها، أو من أخذ بها من الفقهاء، أو أنها منسوخة، وأحيانًا لا يكتفي بتسجيل الآراء، وإنما يذكر رأيه في المسألة. وقال: ما أخرجت في كتابي هذا إلا حديثًا عمل به بعض الفقهاء سوى حديث: "فإن شرب في الرابعة فاقتلوه"، وحديث "جمع بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر". اهـ.   1 يقال: "سَمَاه وسَمَّاه وأسماه" بمعنى. ويقال: كَنَاه وكنَّاه وأكناه" بمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قال الحافظ ابن رجب الحنبلي "ت 795هـ" في شرح علل الترمذي: "وقد اعترض على الترمذي بأنه في غالب الأبواب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالبًا، وليس ذلك بعيب؛ لأنه -رحمه الله- يبين ما فيها من العلل، ثم يبين الصحيح في الإسناد، وكأن قصده -رحمه الله- ذكر العلل؛ ولهذا نجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث، بدأ بما هو غلط، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له، وأما أبو داود فكانت عنايته بالمتون أكثر؛ ولهذا يذكر الطرق واختلاف ألفاظها والزيادات المذكورة في بعضها دون بعض، فكانت عنايته بفقه الحديث أكثر من عنايته بالأسانيد؛ فلهذا يبدأ بالصحيح من الأسانيد، وربما لم يذكر الإسناد المعلل بالكلية"1. وقال ابن الصلاح في مقدمته: "كتاب أبي عيسى الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نوه باسمه وأكثر من ذكره في جامعه ويوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطبقة التي قبله كأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما، وتختلف النسخ من كتاب الترمذي في قوله: "هذا حديث حسن" أو "هذا حديث حسن صحيح"، فينبغي أن تصحح أصلك به بجماعة أصول، وتعتمد على ما اتفقت عليه"2. 6- واختتم مُصنَّفه بكتاب العلل الذي جمع فيه فوائد حديثية هامة، ومن هذه الفوائد ما يلي: 1- الكلام عن الرواة والجرح الذي يرد حديثهم مثل: الكذب، والاتهام، والفسق، والبدعة، والغفلة، وسوء الحفظ. 2- وحث على بيان عيوب الرواة. 3- وبين بعض الرواة الذين تركهم ابن المبارك، وأنه لا تجوز الرواية عنهم. 4- وأن الرواية عن المجروحين جائزة بشرط بيان حال الراوي للناس، وحكى   1 نقلًا عن تعليقات الشيخ المحدث زاهد الكوثري على شرط الأئمة الخمسة للحازمي "ص44". 2 المقدمة "ص17، 18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وفي ذلك قول سفيان الثوري لأصحابه وتلاميذه: اتقوا الكلبي، فقيل له: فإنك تروي عنه، قال: أنا أعرف صدقه من كذبه. 5- والتنبيه إلى عدم الاغترار بصلاح الراوي دون البحث عن ضبطه وحفظه. 6- وفيه قال الترمذي: إن علامة الحفظ ألا يزاد في الإسناد، أو ينقص فيه، أو يجيء بما يغير المعنى من الألفاظ، فأما من أقام الإسناد وحفظه وغير اللفظ، فإن هذا واسع عند أهل العلم إذا لم يتغير المعنى. وهو يجيز بذلك الرواية بالمعنى مستدلًّا بقول واثلة بن الأسقع "الصحابي" رضي الله عنه: إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم. وقول محمد بن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة، اللفظ مختلف والمعنى واحد. وقول ابن عون: كان إبراهيم النخعي والحسن والشعبي يأتون بالحديث على المعاني، وكان القاسم بن محمد ومحمد بن سيرين ورجاء بن حيوة يعيدون الحديث على حروفه. 7- وأن أهل العلم ليسوا على درجة واحدة في الحفظ، فهناك من هو أثبت من غيره في حديث بلد معين، أو شيخ معين، أو أعلم بالرجال، أبو بالأحاديث الطوال، أو غير ذلك من أوجه التفاوت. 8- وأن القراءة على العالم الحافظ لما يقرأ عليه أو يمسك بأصله فيما يقرأ عليه إذا لم يكن حافظًا، قراءة صحيحة عند أهل الحديث مثل السماع. 9- وأن المناولة والإجازة من طرق الرواية الصحيحة. 10- وذكر اختلاف الأئمة في الاحتجاج بالمرسل، ويتبين من كلامه أن المرسل عن ثقة يقبل إرساله. وغيرها من المسائل الحديثية الهامة التي صرح بها، أو نبه عليها، أو أشار إليها في كتاب "العلل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 - شروط الترمذي في جامعه وسننه: يتبين شرط الترمذي من خلال كلامه في كتاب العلل الذي ختم به كتابه، وجعله كالمقدمة له، وهذا الشرط هو أنه جمع فيه أحاديث الأحكام التي عمل بها فقيه أو أخذ بها بعض العلماء. قال الترمذي: "جميع ما في هذا الكتاب من الحديث هو معمول به، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جميع بن الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر"1. وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه 2 " 3.   1 رواه مالك في الموطأ "109"، ومسلم في صحيحه "حديث رقم 705"، وأبو داود "1210"، "1211"، والترمذي "187" وغيرهم، من حديث سعيد بن جبير بن ابن عباس، وفي آخره قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته. 2 رواه أبو داود في كتاب الحدود، حديث رقم "4482"، ورواه الترمذي في الحدود أيضًا حديث رقم "1444"، وابن ماجه في الحدود أيضًا حديث رقم "2573"، وكلهم من حديث معاوية بن أبي سفيان، ورواه أبو داود "4484"، والنسائي "5678"، وابن ماجه "2572" من حديث أبي هريرة بنحوه. 3 سنن الترمذي "5/ 736". ولم يسلم العلماء لما ذهب إليه الترمذي في هذا القول. فقال النووي في شرح صحيح مسلم "5/ 224- 225": "وهذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله، فهو حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه، وأما حديث ابن عباس، فلم يجمعوا على ترك العمل به، بل لهم أقوال" وذكرها. ثم قال النووي في شرح مسلم "5/ 226": "وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة عمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي، وعن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر، ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: أراد ألا يحرج أمته، فلم يعلله بمرض ولا غيره، والله أعلم". وقال المقدسي في شروط الأئمة الستة "ص15" معلقًا على قول الترمذي: هذا شرط واسع، فإن على هذا الأصل كل حديث احتج به محتج أو عمل بموجبه عامل أخرجه سواء صح طريقه أو لم يصح. وقال صاحب دراسات اللبيب: هذا القول منه -أي من الترمذي- غريب جدًّا ... هذا الحديث يعني حديث ابن عباس كثرت في تأويله أقوال العلماء ومذاهبهم فيه، ومع هذا التأويلات والمذاهب فيه، وإن كان بعضها بعيدة كيف يطلق عليه أنه لم يعمل به أحد من العلماء ... وإن أراد الترمذي أنه لم يعمل بظاهره من غير تأويل أحد من العلماء فيبطل قوله: كل حديث في كتابي هذا معمول به ما خلا حديثين، فإن كل حديث في كتابه ليس مما لم يئول أصلًا وعمل بظاهره، على أن هذا الحديث عمل بظاهره جماعة من العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 - مقارنة بين جامع الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي: قال أبو جعفر بن الزبير: "لأبي داود في حصر أحاديث الأحكام واستيفائها ما ليس لغيره، وللترمذي في فنون الصناعة الحديثية ما لم يشاركه غيره، وقد سلك النسائي أغمض تلك المسالك وأجلها". اهـ. وقال الحافظ الذهبي: "انحطت رتبة جامع الترمذي عن سنن أبي داود والنسائي لإخراجه حديث المصلوب والكلبي وأمثالهما". وأفاد الحازمي في شروط الأئمة الخمسة أن أبا داود والنسائي لا يجاوزان الطبقة الثالثة في الأصول، وأن أبا عيسى الترمذي لا يجاوز الطبقة الرابعة1. ثم قال: "وفي الحقيقة شرط الترمذي أبلغ من شرط أبي داود؛ لأن الحديث إذا كان ضعيفًا أو مطلعه من حديث أهل الطبقة الرابعة، فإنه يبين ضعفه وينبه عليه، فيصير الحديث عنده من باب الشواهد والمتابعات، ويكون اعتماده على ما صح عند الجماعة، وعلى الجملة، فكتابه مشتمل على هذا الفن؛ فلهذا جعلنا شرطه دون شرط أبي داود"2. - شروحه 3: لأهمية جامع الترمذي تناوله كثير من العلماء بالشرح والتعليق، ومنهم: 1- أبو بكر بن العربي "ت 546هـ" في شرحه: "عارضة الأحوذي في شرح الترمذي". "مطبوع في ثلاثة عشر جزءًا". 2- الحافظ أبو الفتح محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري "ت 734هـ" بلغ فيه إلى أقل من ثلثيه في نحو عشرة مجلدات، ولم يتمه، ثم أكمله الحافظ زين الدين بن عبد الرحيم بن حسين العراقي "ت 806هـ".   1 راجع: شروط الأئمة الخمسة "ص57" طبعة دار الكتب العلمية - بيروت - ط "1"، 1405هـ- 1984م. 2 المصدر السابق "ص57". 3 انظر: كشف الظنون "1/ 288". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 3- سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني "ت 805هـ" واسم شرحه: "العرف الشذي على جامع الترمذي" لم يكمله. 4- جلال الدين السيوطي "ت 911هـ" واسم شرحه: "قوت المغتذي على جامع الترمذي". 5- الحافظ زين الدين بن عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي "ت 795هـ". 6- الشيخ أبو الحسن بن عبد الهادي السندي "ت 1139هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 خامسًا: أحمد بن شعيب النسائي "215-303هـ" 1 هو: أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار، أبو عبد الرحمن النسائي القاضي الحافظ، أحد الأئمة المبرزين، والحفاظ المتقنين، والأعلام المشهورين، وكان ركنًا من أركان الحديث، حاذقًا، متضلعًا، متفننًا، ساد أهل عصره، وبذ علماءهم وتقدمهم، فكان عمدتهم وقدوتهم، طاف البلاد، وسمع بخراسان، والعراق، والحجاز، ومصر، والشام، والجزيرة، من جماعة يطول ذكرهم. ومن تلاميذه الإمام الطبراني، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو بكر أحمد بن إسحاق السني الحافظ، وخلق كثيرون. قال الحاكم: سمعت أبا الحسن الدارقطني غير مرة يقول: أبو عبد الرحمن الإمام النسائي مقدم على كل من يذكر بعلم الحديث، وبجرح الرواة وتعديلهم في زمانه. وقال أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس صاحب تاريخ مصر أن النسائي كان إمامًا في الحديث، ثقة، ثبتًا، حافظًا، قدم مصر وأقام مدة طويلة فيها ظهرت كنوز خبياته، وانكشف القناع عن رموز خفياته، قدح العلماء زنده فأورى، فانقادوا إليه، وحَظِيَ لديهم بالمنزلة السامية. نقل التاج السبكي عن شيخه الحافظ الذهبي ووالده الشيخ الإمام السبكي، أن الإمام أبا عبد الرحمن النسائي أحفظ من الإمام مسلم صاحب الصحيح، وأن سننه أقل من السنن حديثًا ضعيفًا بعد الصحيحين.   1 راجع ترجمته في: تهذيب الكمال "1/ 328- 340"، وشذرات الذهب "2/ 239- 241"، سير أعلام النبلاء "14/ 125"، وفيات الأعيان "1 / 77"، الكامل في التاريخ "8/ 96"، المنتظم "6/ 131"، تذكرة الحفاظ "2/ 698"، العبر "2/ 123"، الوافي بالوفيات "6/ 416"، البداية والنهاية "11/ 123"، العقد الثمين "3/ 45"، تهذيب التهذيب "1/ 36"، النجوم الزاهرة "3/ 188"، طبقات الحفاظ "ص303"، حسن المحاضرة "1/ 349"، الرسالة المستطرفة "11- 12"، اللباب في تهذيب الأنساب "3/ 306"، الأعلام "1/ 171". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وقال بعضهم: لم يوضع مثل مصنفه في الإسلام، وأنه أشرف المصنفات كلها. وقال ابن منده، وابن السبكي، وأبو علي النيسابوري، وأبو أحمد بن عدي، والخطيب، والدارقطني: كل ما في سنن النسائي صحيح غير تساهل صريح. وقال الحافظ أبو علي: للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط مسلم، وكذلك كان الحاكم والخطيب يقولان: إنه صحيح، وإن له شرطًا في الرجال أشد من شرط مسلم؛ لذلك كان بعض علماء المغاربة يفضله على البخاري. - المجتبَى من السنن الكبرى: قال السيد جمال الدين: صنف الإمام النسائي في أول الأمر كتابًا يقال له "السنن الكبرى"، وهو كتاب جليل ضخم الحجم لم يكتب مثله في جمع طرق الحديث، وبيان مخرجه. وعندما صنف النسائي كتاب "السنن الكبرى" "أهداه إلى أمير الرملة، فقال له الأمير: أكل ما في هذا صحيح؟ قال: لا، قال: فجرد الصحيح منه، فصنع من السنن الكبرى كتابًا أسماه "المجتنَى" أو "المجتبَى" وكلاهما صحيح، والأخير أشهر. استخلصه من السنن الكبرى من كل حديث حسن لم يتكلم في أصله، ولا في إسناده ورواته بالتعليل أو التجريح، فإذا أطلق المحدثون وقالوا: رواه النسائي، فمرادهم هذا "المجتبَى". وبناء على ما سبق يكون "المجتبَى" من صنيع النسائي نفسه؛ ولكن هناك من يقول: المجتبَى من انتقاء ابن السني. وبتحرير هذه المسألة تبين أن هناك فريقين في هذه المسألة، فريق يقول: المجتبى من انتقاء ابن السني، وهو اختصار للسنن الكبرى، ويقف في هذا الجانب الإمام الذهبي "842هـ" وتبعه على ذلك الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي "842هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 يقول الذهبي في ذلك: والذي وقع لنا من سننه هو الكتاب المجتبى من انتخاب أبي بكر بن السني سمعته ملفقًا من جماعة سمعوه من ابن باقا بروايته عن أبي زرعة المقدسي سماعًا لمعظمه، وإجازة لفوت له محدد في الأصل، قال: أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن حمد الدوني، قال: أنبأنا القاضي أحمد بن الحسين، أنا ابن السني عنه1، وكرر نحو هذا الكلام في غير موضع من كتبه. وأما ابن ناصر الدين، فقد تابعه على ذلك، ورأيت عبارته في شذرات الذهب لابن العماد في ترجمة ابن السني إذ قال: قال ابن ناصر الدين: اختصر سنن النسائي، وسماه المجتبَى. وأما الجانب الأخر، فيرى أن المجتبَى من صنع النسائي نفسه اختصره من السنن الكبرى، وابن السني مجرد راوية له، ويقف في هذا الجانب فريق كبير جدًّا من الأعلام والمحدثين، وهو المعروف المشهور عند الناس، وهو الصحيح لدلائل عديدة منها: 1- لم يقدم الذهبي دليلًا على قوله. 2 وجود مثبتات على ذلك منها: ما نقله ابن خير الإشبيلي "575هـ" بسنده عن أبي محمد بن يربوع قال: قال لي أبو علي الغساني رحمه الله: كتاب "الإيمان" و"الصلح" ليسا من المصنف؛ إنما هما من المجتبَى له "بالباء" في السنن المسندة لأبي عبد الرحمن النسائي اختصره من كتابه الكبير المصنف، وذلك أن أحد الأمراء سأله عن كتابه في السنن: أكله صحيح؟ فقال: لا. قال: فاكتب لنا الصحيح مجردًا، فصنع المجتبى، فهو المجتبى من السنن، ترك كل حديث أورده في السنن مما تكلم في إسناده بالتعليل، روى هذا الكتاب عن أبي عبد الرحمن ابنه عبد الكريم بن أحمد، ووليد بن   1 تاريخ الإسلام "9/ 173". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 القاسم الصوفي، ورواه عن أبي موسى عبد الكريم من أهل الأندلس: أيوب بن الحسين قاضي الثغر وغيره ... 1. وأبو علي الغسائي حافظ ثبت قال فيه الذهبي: كان من جهابذة الحفاظ البصراء، بصيرًا بالعربية واللغة والشعر والأنساب، صنف في ذلك كله، ورحل الناس إليه وعولوا في النقل عليه، وتصدر بجامع قرطبة، وأخذ عنه الأعلام، ووصفوه بالجلالة والحفظ والنباهة والتواضع والصيانة، ولد في المحرم سنة "427هـ"، وتوفي في ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة "498هـ"2. وقال محقق سنن النسائي "المجتبَى"3 في مقدمة سنن النسائي بتحقيقه: كما أني وجدت مجلدين من المجتبى قديمين جدًّا كتبت عليهما سماعات بين سنة "630هـ" و "561هـ" فيها نص ظاهر أنها من تأليف النسائي، وقد جاء في صدر أحدهما: الجزء الحادي والعشرون من السنن المأثور عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأليف أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن بحر النسائي، رواية: أبي بكر أحمد بن إسحاق بن السني عنه. رواية القاضي أبي نصر أحمد بن الحسن بن الكسار عنه. رواية الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن محمد الدوني عنه. رواية أبي الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري عنه. رواية الشيخ الإمام زين الدين أبي الحسن علي بن إبراهيم بن نجاد الحنبلي الواعظ. وفيها نص ظاهر على أنها من تأليف النسائي، وابن السني مجرد راوية لها، وإن كان أحد المجلدين قد أكلت أكثره الأَرَضَة، فالآخر ما يزال أكثره صالحًا واضحًا بخط مشرقي جيد يحمل رقم "5637" بالخزانة الملكية بالرباط، وعلى ظهر هذه النسخة كتب بخط قديم قدمها: "قال الطنبي: أخبرني أبو إسحاق الحبال   1 انظر: الفهرست "ص116، 117". 2 انظر: تذكرة الحفاظ، للذهبي "4/ 1233". 3 من مقدمة محقق سنن النسائي، مكتب تحقيق التراث الإسلامي، طبعة دار المعرفة، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 سأل سائل أبا عبد الرحمن ... بعض الأمراء عن كتابه السنن: أصحيح كله؟ فقال: لا، قال: فاكتب لنا الصحيح مجردًا، فصنع المجتبَى "بالباء" من السنن الكبرى، ترك كل حديث أورده في السنن مما تكلم في إسناده بالتعليل، وأبو إسحاق الحبال الذي ينقل عن الطبني هو الحافظ الإمام المتفنن، محدث مصر: إبراهيم بن سعيد بن عبد الله التجيبي، كان من المتشددين في السماع والإجازة، يكتب السماع على الأصول، ورعًا ثبتًا خيرًا، وكان يتعاطى التجارة في الكتب، وحصل عنده من الأصول والأجزاء ما لي عند غيره، وما لا يوصف كثرة، ولد إحدى وتسعين وثلاثمائة، وتوفي سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وقد أطال الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمته والثناء عليه، ومثله السيوطي في حسن المحاضرة. وكذلك ابن الأثير الذي جرد الأصول الخمسة، وضم إليها الموطأ، جرد المجتبى، وليس السنن الكبرى، وساق إسناده بالمجتبى، وفيه النص الواضح على أن المجتبى من تأليف النسائي ذاته، يقول ابن الأثير: إنه قرأه سنة "586هـ" على أبي القاسم يعيش بن صدقة الفراتي إمام مدينة السلام الذي قرأه على أبي الحسن علي بن أحمد بن الحسن بن محمويه اليزيدي سنة "551هـ"، والذي قرأه على أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن الحسن الصوفي الدوني1 سنة "500هـ" في شهر صفر، والذي قرأه على أبي نصر أحمد بن الحسين الكسار بخانكاه "دون" سنة "433هـ"، والذي قرأه على ابن السني بالدينور سنة "363هـ" والذي قال: "حدثنا الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي -رحمه الله تعالى- بكتاب السنن جميعه ... ". وهذا نص واضح قبل الذهبي بما يزيد على قرن ونصف من الزمن، ونص أبي علي الغسائي أسبق من هذا كذلك، ولو كان المجتبَى من صنع ابن السني لاقتضى الأمر من ابن الأثير أن ينص عليه، وأن   1 نسبة إلى دون، قرية من أعمال دينور، قال في معجم البلدان "2/ 490": "وهو من آخر من حدث في الدنيا بكتاب أبي عبد الرحمن النسوي بحلق، وإليه كان الرحلة" أي: أنه أعلى أهل عصره إسنادًا فيه، وقد توفي سنة "501هـ" ووصفه في المعجم بأنه رواية كتب ابن السني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ينسبه إليه، وقد ذكر هو قصة أمير الرملة عندما سأل النسائي عن المصنف: أصحيح كله؟ قال: لا، قال: فجرد لنا منه الصحيح، فصنع المجتبى، كما أن ابن السني ذاته نص أنه سمع المجتبَى من مصنفه بمصر في أكثر من موضع منه، انظر: المطبوع 7/ 171" صدر كتاب الصيد والذبائح، وقد وجدت نسخًا مخطوطة ينص على سماعها من النسائي بمصر في صدر المجتبَى منها نسخة الخزانة العامة بالرباط تحت رقم "1877ك" و "2408ك"، وتجد كذلك الزيلعي، وهو من معاصري الذهبي ينص في غير موضوع من كتابه "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية"، وفي "تخريج أحاديث الكشاف" أن "السنن الصغرى" و"الكبرى" للنسائي؛ بل أصرح من هذا ما قاله رفيقه في الطلب الحافظ الكبير عماد الدين ابن كثير الدمشقي المتوفَّى "774هـ" في ترجمة النسائي: وقد جمع السنن الكبير، وانتخب ما هو أقل حجمًا منه بمرات، وقد وقع لي سماعهما1. وكذلك الحافظ الكبير أبو الفضل العراقي يرى صحة إهدائها لأمير الرملة في القصة المتقدمة، قال السيوطي: ورأيت بخط الحافظ أبي الفضل العراقي أن النسائي لما صنف الكبرى أهداها لأمير الرملة، فقال: كل ما فيها صحيح؟ فقال: لا، قال: ميز الصحيح من غيره، فصنف له الصغرى2. إلا أن المجتبَى لم ينتشر إلا من طريق ابن السني، وعنه القاضي أبو الحسن بن الكسار وعنه الدوني، أما الكبرى، فقد انتشرت عن الأندلسيين؛ لأنهم رووا عن النسائي في أخريات أيامه. - أنواع الأحاديث في المجتبَى، وشرط النسائي فيه: قال النسائي عن الكتابين: كتاب السنن كله صحيح، وبعضه معلول؛ أي: معيب ... والمنتخب المسمى بالمجتبى صحيح، وعلى هذا، فكل ما في السنن الصغرى أو المجتبى صحيح في رأي النسائي.   1 انظر: البداية والنهاية "11/ 123". 2 انظر: تدريب الرواي للسيوطي "ص49". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 قال أستاذنا الدكتور/ رفعت فوزي في كتب السُّنة الجزء الثاني: ولكن الذي درسوا هذا الكتاب رأوا أن فيه تلك الأنواع من الأحاديث: 1- الصحيح المخرَّج في الصحيحين. 2- الصحيح الذي هو على شرطهما، ولم يخرجاه. 3- أحاديث معلولة بين علتها النسائي. وقد أورد النسائي هذا القسم الأخير في كتابه، كما فعل أبو داود والترمذي؛ لأن قومًا رووه واحتجوا به، فأورده وبيَّن سقمه وعلله1 لنزول الشبهة، وذلك إذا لم يجد طريقًا غيره، فهو أقوى عنده من رأي الرجال. ولهذا قال بعض النقاد: إن شرط أبي عبد الله النسائي في هذا الكتاب أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه من الرواة، وعقب بعضهم على ذلك بأنه مذهب متسع. ولكن كيف نفهم هذه العبارة مع ما عرف عن النسائي من تشدده في الرجال حتى قيل: إن شرطه أشد من شرطي البخاري ومسلم؟ الواقع أن هؤلاء الأئمة ينظرون إلى الأحاديث ورجالها بهدفين، الهدف الثاني هو النظر إلى ما يمكن أن يعمل به في نظر بعض الفقهاء، أو بعض المحدثين، وهذا ما كانوا يتساهلون فيه ويدونونه في كتبهم وسننهم. ولهذا فقد حكم النسائي على حديث عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر لصهيب: ما لي أرى عليك خاتم الذهب؟ قال: قد رآه من هو خير منك، فلم يعبه، قال: من هو؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. حكم على هذا الحديث بأنه منكر، ومع هذا فقد أورده في السنن الكبرى، وفي السنن الصغرى1. وأغفل الحكم عليه وترجم له باب "الرخصة في خاتم الذهب للرجال" ليشير إلى أن من رخص في ذلك استند إلى هذا الحديث2.   1 سنن النسائي "8/ 92، 93". 2 سنن النسائي "8/ 164، 165". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وقد كان أبو عبد الرحمن النسائي كذلك، فقد كان يتشدد في الحكم على الرجال، وعلى الأحاديث عندما يكون هدفه وغايته تمييز الصحيح من غيره، ولم يكن يفعل ذلك إلى حد ما عندما يدون كتابًا في السنن، كبيرًا أو صغيرًا؛ ليعرف الناس الأحاديث التي استقى منها الفقهاء الأحكام، أو يمكن أن يستقي الناس منها ذلك. على أنه يجب ألا تفهم عبارة: "من لم يجمع على تركه"، و"أن مذهبه متسع" على إطلاقها، فإنه أراد بذلك إجماعًا خاصًّا، وذلك أن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط، فمن الأولى شعبة وسفيان الثوري، وشعبة أشد منه، ومن الثانية يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى أشد من عبد الرحمن، ومن الثالثة يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، ويحيى أشد من أحمد، ومن الرابعة أبو حاتم والبخاري، وأبو حاتم أشد من البخاري، قال النسائي: لا يترك الرجل عندي حتى يجتمع على تركه، فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه يحيى مثلًا فإنه لا يترك؛ لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقد، قال الحافظ ابن حجر: وإذا تقرر ذلك ظهر أن الذي يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع ليس كذلك، فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي تجنب النسائي إخراج حديثه، بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين. ويقول النسائي نفسه: لما عزمت على جمع السنن استخرت الله في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشيء فوقعت الخيرة على تركهم، فتركت جملة من الحديث أعلم أنها عنهم1 2. - منهج النسائي في المجتبَى: اقتصر النسائي على أحاديث الأحكام إلا قليلًا، ورتبها ترتيبًا فقهيًّا، كما فعل أبو داود تقريبًا.   1 مقدمة زهر الربى على المجتبى، للسيوطي "1/ 10". 2 كتب السنة، القسم الثاني "مخطوط بالآلة الكاتبة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 والنسائي يرتب أبوابه الأول فالأول بحسب ترتيبها في الشرع، بحيث لو جمعت تراجم من الغسل من الجناية مثلا لكانت أشبه شيء حيئنذ بمتون الفقه حيث تجمع المسائل مجردة عن دليلها، وها هي ذي أبواب الغسل من الجنابة: "ذكر غسل الجنب يديه قبل أن يدخلها الإناء، باب عدد غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، باب إزالة الأذى عن جسده بعد غسل يديه، باب إعادة الجنب غسل يديه بعد إزالة الأذى عن جسده، باب تحليل الجنب رأسه، باب ذكر ما يكفي الجنب من إفاضته الماء على رأسه، باب ذكر العمل في الغسل من الحيض، باب ترك الوضوء من بعد الغسل، باب غَسْل الرجلين في غير المكان الذي يغتسل فيه، باب ترك المنديل بعد الغسل". ويمتاز كتاب النسائي عن كتب السنن الأخرى بأنه ليس فيه تعقيبات فقهية، ولا يذكر آراء الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب، ويكرر الحديث الواحد تحت عدة تراجم مثل ما رواه من قوله صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس ... " الحديث، فقد روى هذه الحديث بطرق مختلفة تنتهي كلها إلى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وهذا يذكرنا بما كان يفعله الإمام البخاري. والنسائي يبين غريب بعض الألفاظ حينًا1، ويشير إلى الأحاديث الضعيفة والمنكرة أحيانًا، ويحرص على التفريق بين طرق التحمل، وخاصة بين السماع، والقراءة، واختلاف ألفاظ الرواة2. - مقارنة بين "السنن الكبرى" و"المجتبَى" للنسائي3: السنن في عرف المحدثين هي: الكتاب الذي يُصنَّف مرتبًا على الأبواب الفقهية: الإيمان، والطهارة، والصلاة، والزكاة، والحج ... إلخ. وهذا متحقق في الكبرى والصغرى "المجتبَى" للنسائي.   1 سنن النسائي "7/ 253". 2 راجع المصدر السابق "8/ 73 وما بعدها". 3 من كلمة محقق النسائي، تحقيق مكتب التراث الإسلامي، دار المعرفة، بيروت "بتصرف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وقد سُميت السنن الكبرى "بديوان النسائي"، كما جاء هذا الاسم صريحًا في ختام النسخة الموجودة في الخزانة الملكية بالرباط تحت رقم "5952" وهي في مجلدين كبيرين، جاء في ختامها ما نصه: "كمل السطر الثالث وبتمامه كمل ديوان النسائي رحمه الله تعالى". والديوان هو: مجتمع الصحف المكتوبة1. وهذه التسمية صحيحة ودقيقة، فهذا المصنف مجتمع هذه الصحف التي كتبها الإمام النسائي، فهي "ديوان". أما الصغرى، فقد سميت المجتبَى -بالباء- وبعضهم قال: المجتنَى -بالنون- والمجتبى معناه: المجموع على جهة الاصطفاء كما قال الله تعالى: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} [القلم: 50] ، وإجتباء الله تخصيصه إياه بنعم من غير كسب2، وهذه التسمية للسنن الصغرى صحيحة؛ لأنه اصطفاه من كتابه الكبير، وخص به أمير الرملة دون تعب منه ولا جهد. - وتمتاز السنن الكبرى عن الصغرى "المجتبَى" بعدة أمور: 1- يوجد في الكبرى زيادة كتب ليست موجودة في المجتبى منها: كتاب السير، المناقب، النعوت، الطب، الفرائض، الوليمة، التعبير، فضائل القرآن، العلم ... إلخ، ولا تنقص الكبرى عن المجتبى من الكتب سوى الإيمان وشرائعه، والصلح. 2- يدخل في الكبرى كتب ألفت مستقلة، ثم ضمها إليها مصنفها، ووضعها في المكان الذي يناسبها مثل كتاب فضائل القرآن، فقد نص الزركشي المتوفَّى "794هـ" في كتابه البرهان في علوم القرآن أنه ألفه مستقلًّا3.   1 انظر: القاموس المحيط "4/ 224"، وانظر: المصباح المنير "1/ 219"، وتهذيب الأسماء واللغات "2/ 1 / 106". 2 انظر: المفردات للراغب الأصبهاني "ص85". 3 انظر: البرهان "1/ 432"، والسيوطي في الإتقان "1/ 151" وقد طبع بتحقيق د. فاروق حمادة، فانظر مقدمته "ص25" وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 أما كتابه "خصائص علي" فهو مشهور جدًّا أنه ألفه مستقلًّا ثم ضمه إلى الكبرى مع فضائل الصحابة الذي ألفه بعد ذلك. ومثله كتاب "التفسير"، فقد نص الذهبي على أنه مستقل، وقد رُوِيَ مع الكبرى1. أما "اليوم والليلة" فقد رويت عن طريق أبي محمد الباجي عن ابن الأحمر، وابن سيار مع الكبرى، ومن طريق بقية الرواة مستقلًّا. 3- تزيد الكبرى عن المجتبى بعدد الأبواب، ومن ثم بعدد الأحاديث، وعلى سبيل المثال كتاب الصوم نجد فيه أبوابًا كثيرة ليست في المجتبى منها: صيام يوم الأربعاء، تحريم صيام يوم الفطر ويوم النحر، صيام يوم عرفة والفضل في ذلك، إفطار يوم عرفة بعرفة، التأكيد في صوم عاشوراء، صيام ستة أيام من شوال، صيام الحي عن الميت، صيام المحرم، صيام شعبان، اغتسال الصائم، السواك للصائم، القبلة في شهر رمضان، ما يجب على من يجامع امرأته ... إلخ. وهكذا تزيد الكبرى عن الصغرى بأربعة وستين بابًا، ويبدو أن هذا الكتاب أكثر الكتب زيادات على المجتبى. 4- يستتبع ذلك زيادة في تعليل الأحاديث وذلك حين يوردها مبينًا ما فيها من العلل والوقف والإرسال وغير ذلك غير قليل في الكبرى، وقد تفنن في هذا تفننًا عجيبًا، ومع هذا فقد نجد في المجتبى كلمة موضحة، أو لفظة زائدة في الإسناد، أو في المتن، ولا نجدها في الكبرى، وإن كان هذا قليلًا مع وجود أحاديث في المجتبى ليست في الكبرى. 5- من الملاحظ في "المجتبى" أنه يستعمل في مطلع إسناده لفظ "أخبرنا"   1 تفسير القرآن الكريم: ذكره ابن خير الإشبيلي "ص58"، ضمن كتب التفسير التي رواها، ورواه عن طريق حمزة بن محمد الكناني، من مقدمة "عمل اليوم والليلة" "ص35". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وأحيانًا "أخبرني"، وهذا مما امتاز به عن بقية الستة، أما في الكبرى فيتوسع حتى إنه يستعمل أحيانًا البلاغات منها قوله: بلغني عن ابن وهب، عن مخرمة بن بُكير، عن أبيه قال: سمعت سليمان بن يسار أنه سمع الحكم بن الزرقي يقول: حدثتني أمي أنهم كانوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى، فسمعوا راكبًا يصرخ يقول: ألا يصومن أحد، فإنها أيام أكل وشرب، قال أبو عبد الرحمن: ما علمت أحدًا بايع تابع مخرمة على هذا الحديث، الحكم الزرقي، والصواب: مسعود بن الحكم. 6- في المجتبى زيادة تراجم وأبواب واستنباطات لا توجد في الكبرى كما في ترجمته لكتاب الطهارة في الكبرى: النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند الحاجة، والأمر باستقبال المشرق والمغرب، وساق تحته حديثين عن أبي أيوب الأنصاري، وجعل هذه الترجمة في المجتبى ثلاث تراجم: النهي عن استقبال القبلة عند الحاجة، النهي عن استدبار القبلة عند الحاجة، الأمر باستقبال المشرق والمغرب عند الحاجة، وأضاف في المجتبى حديثا ليس في الكبرى، ولهذا نظائر كثيرة مبثوثة في ثنايا المجتبى لا سيما الكتب الأولى من: الطهارة، والصلاة، الحج، والصوم ... 7- أما رجاله ومنهجه في الانتقاء فهو واحد تقريبًا في الكتابين، وإن كان في الكبرى بعض رجال ليسوا في المجتبى، فهذا تبع لسعة الكتاب وزياداته، ولا يخرجون عن الإطار العام الذي ينتقي به النسائي رجاله. - عناية الأمة بالسنن "المجتبَى": الملاحظ أن كتاب "السنن الكبرى" لم ينل العناية الكبيرة التي نالها الصحيحان وسنن أبي داود والترمذي، وأكثر ما كانت العناية بالمجتبى ضمن إطار الكتب الستة، وفيما يلي أهم الأعمال التي تناولت المجتبَى مع بقية الكتب الستة. أ- من ناحية المتن: 1- التجريد للصحاح والسنن، لرزين العبدري السرقطي، المتوفى بمكة سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 "535هـ" جمع في كتابه متون الأصول الستة، وفيه زيادات لم توجد فيها. 2- جامع الأصول في أحاديث الرسول لأبي السعادات ابن الأثير الجزري "ت 606هـ". 3- مختصرات جامع الأصول وأهمها: تيسير الوصول إلى جامع الأصول من أحاديث الرسول لابن الديبع الشيباني "عبد الرحمن بن علي" المتوفَّى "944هـ". 4- أنوار الصباح في الجمع بين الكتب الستة الصحاح، لأبي عبد الله محمد بن عتيق به علي التجيبي الغرناطي المتوفَّى في حدود "646هـ"1. 5- الجمع بين الكتب الستة، للحافظ الزاهد عبد الحق الإشبيلي صاحب الأحكام المتوفَّى "582هـ"2. 6- "جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن" يجمع بين الأصول الستة، ومسانيد: أحمد، والبزار، وأبي يعلى، والمعجم للطبراني، لإسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير الدمشقي المتوفَّى "774هـ"، رتبه على حروف المعجم، ويذكر كل صحابي له رواية، ثم يورد في ترجمته جميع ما وقع له في هذه الكتب، وهو كتاب مشهور. 7- "جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد" يجمع كتاب "جامع الأصول المتقدم" لابن الأثير مع كتاب "مجمع الزوائد" للهيثمي، جمع الشيخ محمد بن سليمان الروداني "نسبة إلى تارودانت مدينة في جنوب المغرب الأقصى" المتوفى "1094هـ". 8- كتاب "التاج الجامع للأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم" للشيخ منصور   1 انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي "4/ 1436"، والرسالة المستطرفة للكتاني "ص175"، والذيل والتكملة "6/ 430". 2 انظر: الرسالة المستطرفة، للكتاني "ص180". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 علي ناصف، من العلماء المعاصرين، فإنه ضم النسائي وبقية الستة، وأضاف أحيانًا أحاديث من غيرها، وقد اعتمد على الكتب المطبوعة، وبالتالي عول على المجتبى، ونص على ذلك1. ب- من ناحية الإسناد والرجال: ينقسم هذا الجانب إلى قسمين: قسم الأطراف، وقسم الرجال، وإن كان قسم الأطراف ينضوي تحت المتون إلا أنه بالإسناد ألصق. أما كتب الأطراف، فهي التي يُقتصر فيها على ذكر طرف الحديث الدال على بقيته مع الجمع لأسانيده2، وأهم الكتب فيه: 1- الأطراف لأبي الفضل بن طاهر "محمد بن طاهر بن علي" "448-507هـ" قال أبو القاسم بن عساكر: جمع أطراف الكتب الستة، فرأيته يخطئ فيها خطأ فاحشًا3، وابن طاهر هو أول من ضم ابن ماجه إلى الخمسة وعده سادسًا. 2- كتاب الإشراف على الأطراف، للحافظ الكبير الإمام أبي القاسم بن عساكر "499-571هـ" صاحب تاريخ دمشق، فقد جمع بين أطراف الكتب الأربعة: أبي داود، وجامع الترمذي، والنسائي، وابن ماجه4. واعتمد في أطراف النسائي على رواية ابن حيوية، وهي من الكبرى كما نص ابن حجر في تهذيب التهذيب5. 3- ثم جاء بعده الإمام الحافظ أبو الحجاج المزي "جمال الدين يوسف"   1 انظر: كتابه "1/ 13". 2 انظر: الرسالة المستطرفة للكتاني "ص167"، ومقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري "ص37". 3 انظر ترجمته في: لسان الميزان لابن حجر "5/ 207"، وميزان الاعتدال للذهبي "3/ 75"، وابن خلكان "1/ 489". 4 انظر: سنن أبي داود باختصار المنذري، وتهذيب ابن القيم، ومعالم السنن للخطابي "8/ 132". 5 تهذيب التهذيب "1/ 189". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 "645-742هـ"، فألف كتابًا سماه "تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف" قال في مقدمته: "إني عزمت على أن أجمع في هذا الكتاب أطراف الكتب الستة التي هي عمدة أهل الإسلام، وعليها مداد غاية الأحكام: صحيح محمد بن إسماعيل البخاري، وصحيح مسلم بن الحجاج النيسابوري، وسنن أبي داود السجستاني، وجامع أبي عيسى الترمذي، وسنن أبي عبد الرحمن النسائي، وسنن أبي عبد الله بن ماجه، وما يجري مجراها في مقدمة كتاب مسلم، وكتاب المراسيل لأبي داود، وكتاب العلل للترمذي، وهو الذي في آخر الجامع له، وكتاب الشمائل له، وكتاب عمل اليوم والليلة للنسائي معتمدًا في ذلك على كتاب أبي مسعود الدمشقي، وكتاب خلف الواسطي في أحاديث الصحيحين، وعلى كتاب أبي القاسم بن عساكر في كتب السنن، وما تقدم ذكره معه، ورتبته على ترتيب أبي القاسم، فإنه أحسن الكتب ترتيبًا، وكثيرًا ما استدركت على الحافظ أبي القاسم رحمه اله تعالى". 4- الكشاف في معرفة الأطراف1، للحافظ شمس الدين أبي المحاسن محمد بن علي بن الحسن بن حمزة الدمشقي المتوفى سنة "765هـ". 5- أطراف الكتب الخمسة "البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي" لأبي العباس أحمد بن ثابت بن محمد الطرقي نسبة إلى طرق، قرية من أعمال أصبهان، ذكرت ياقوت في معجمه2، ولم يذكر وفاته، وقال الذهبي في الميزان: صدوق كان بعد الخمسمائة، وذكره الحافظ ابن حجر في لسان الميزان، كما اقتبس منه في مواضع في فتح الباري. 6- ثم العارف بالله العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي المتوفى بدمشق "1143هـ" في كتابه "ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث"، وهو مطبوع متداول، وقد بنى كتابه على المجتبى، ويقول في ذلك: "وجعلت   1 المصدر السابق "8/ 133". 2 انظر: الرسالة المستطرفة للكتاني "ص169"، والميزان "1/ 143"، ومعجم البلدان "4/ 30". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 مكان سنن النسائي الكبرى، حيث قل وجودها في هذه الأعصار سننه الصغرى المسماة المجتبى من سنن النبي المختار"1. وقد وضع الحافظ ابن حجر على أطراف المزي حاشية لطيفة سماها: "النكت الظراف على الأطراف". جمع فيه بعض أوهام المزي2، وقد سبقه إلى ذلك شيخه الحافظ أبو الفضل العراقي "والنكت الظراف مطبوع بهامش تحفة الأشراف". - وأما قسم الرجال، فقد صنف فيه بغية الجرح والتعديل، ومن هذه المصنفات: 1- الكمال في معرفة الرجال، لعبد الغني بن عبد الواحد بن سرور الجماعيلي المقدسي، الحافظ الزاهد "541-600هـ"3، وقد اشتمل كتابه على رجال الصحيحين، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. 2- المعجم المشتمل على أسماء الشيوخ النبل، لأبي القاسم ابن عساكر "499-571هـ". 3- التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد، للحافظ محمد بن عبد الغني بن أبي بكر معنى الدين "ابن نقطة" الحنبلي المتوفى "629هـ" جمع في كتابه كل من علمه روى شيئًا في الكتب الستة، والموطا، وصحيح ابن حبان، وكتب السير، والتاريخ، وغيرها4. وقد ذيل عليه تقي الدين محمد بن أحمد الحسيني الفاسي المكي المالكي المتوفَّى "832هـ".   1 انظر "1/ 14". 2 وقد اختصر كتاب تحفة الأشراف غير واحد من العلماء: اختصرها الحافظ شمس الدين الذهبي "ت 748هـ". والحافظ شمس الدين محمد بن علي بن حمزة الدمشقي. 3 انظر: الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب الحنبلي "2/ 1905". 4 انظر: السُّنة قبل التدوين، لمحمد عجاج الخطيب "ص270"، ويقول: إنه يوجد بدار الكتب المصرية تحت رقم "20886". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 4- كتاب "رجال العشرة" لأبي إسحاق الصريفيني تقي الدين إبراهيم بن محمد المتوفى "641هـ" أحد الحفاظ الثقات وأوعية العلم الفضلاء، ذكره له السخاوي في الإعلان بالتوبيخ "ص617"، والحافظ في تعجيل المنفعة "ص19"، وغيرهما. 5- الكمال في أسماء الرجال، لابن النجار "محمد بن محمود البغدادي" صاحب تاريخ بغداد المتوفى "643هـ"، وقد جمع فيه رجال الكتب الستة. 6- تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ أبي الحجاج المزي، هذَّب فيه كتاب المقدسي المتقدم، ورتب تهذيبه على حروف المعجم، ثم ذكر أسماء النساء، واستدرك عليه -ما فاته- الحافظ علاء الدين مغلطاي "690 -762هـ" وسماه إكمال التهذيب. وقد اختصر التهذيب، وأضاف عليه محمد بن علي الحسيني. 7- ثم جاء محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي "628-748 هـ" فاختصر تهذيب الكمال وسماه "تذهيب تهذيب الكمال"، ثم اختصره في كتاب آخر سماه: "الكاشف عن رجال الكتب الستة"، واقتصر فيه على مَن له رواية ووضع لهم رموزًا. 8- رجال السنن الأربعة، للهكاري أحمد بن الحسن بن موسى "ت 763هـ" أحد الحفاظ. 9- التذكرة برجال العشرة، لمحمد بن علي بن حمزة الحسيني الدمشقي "ت 765هـ" جمع فيه تهذيب الكمال للمزي، وزاد عليه الموطأ، ومسند الشافعي، ومسند أحمد، ومسند أبي حنيفة. 1- وجاء بعد هؤلاء النفر العلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي أمير المؤمنين في الحديث، المولود "773هـ"، والمتوفى "852هـ" فوضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 كتابه "تهذيب التهذيب"، لخص فيه تهذيب الكمال للمزي، وزاد عليه فوائد كثيرة من الذين استدركوا، أو اختصروا الكتاب قبله، خصوصًا مغلطاي، ومن غيرها. ثم اعتمد عليه الحافظ ابن حجر في تصنيف كتابه "تقريب التهذيب" الذي يعتبر ثورة في علم الجرح والتعديل، فجعل الرواة على طبقات، ولخص ما قيل في كل راوٍ من جرح وتعديل في كلمة أو كلمتين، أو كلمات معدودات. قال الحافظ ابن حجر نفسه في مقدمة هذا الكتاب: "إنني أحكم على كل شخص منهم بحكم يشمل أصح ما قيل فيه، وأعدل ما وُصف به بألخص عبارة، وأخلص إشارة ... وباعتبار ما ذكرتُ انحصر لي الكلام على أحوالهم في اثنتي عشرة مرتبة". فهو كما قال السخاوي في "الجواهر والدرر" "ق 156 / ب": "عجيب الوضع". 11- وللإمام الحافظ محدِّث الأندلس أبو محمد عبد الله بن سليمان الأنصاري الحارثي "ت 612هـ" كتاب ذكر فيه شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي، نزع فيه منزع أبي نصر الكلاباذي؛ لكنه لم يكمله، وكان كثير الأسفار فضاعت الأصول1. 12- رجال الكتب الستة "البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسوي، والترمذي، وابن ماجه" لمحمد بن أحمد بن عيسى بن حجاج اللخمي الإشبيلي "ت 654هـ" قال عنه ابن عبد الملك المراكشي: معرفًا أحوالهم وتواريخهم، وما ينبغي أن يذكروا به، فجاء من أعظم ما ألف في بابه جدوى وأغزره فوائد، على اختصاره النبيل يكون في خمسة أسفار متوسطة، وأثنى على المؤلف ثناء طيبًا2. 13- "شيوخ أبي داود، والترمذي، والنسوي، وغيرهم" للإمام محمد بن إسماعيل بن خلفون الأونبي المتوفى "636هـ"، قال المراكشي: أربعة مجلدات3.   1 انظر: تذكرة الحفاظ الذهبي "4/ 1398". 2 انظر: الذيل والتكملة "6/ 18، 19". 3 انظر: الذيل والتكملة "6/ 130". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 14- كتاب "خلاصة تذهيب تهذيب الكمال" للحافظ صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري، وقد ألفه سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة، واستمده من كتب الذهبي بشكل رئيسي، ومن تقريب الحافظ ابن حجر، وإكمال ابن ماكولا وغيرها، وطبع وصور مرات عديدة، وهو نافع في بابه على وجازته، يركز على شيوخ المترجم وتلامذته. - الدراسات المقصورة على "سنن النسائي" وحدها1: أ- من ناحية المتن: 1- شرح "سنن النسائي" أبو العباس أحمد بن أبي الوليد بن رشيد المولود "436هـ" والمتوفى "563هـ"، ووصف شرحه بأنه حفيل للغاية2. 2- وشرح معاصر له هو: أبو الحسن علي بن عبد الله بن النعمة، ولد بعد التسعين وأربعمائة، وتوفي سنة "567هـ"، ودفن "بقرطبة" وسماه "الإمعان في شرح مصنف النسائي عبد الرحمن" قال ابن الأبار: كان عالمًا حافظًا للفقه والتفسير ومعاني الآثار، مقدَّمًا في علم اللسان، فصيحًا مفوهًا، ورعًا فاضلًا، دمث الأخلاق، وقال محمد بن عبد الملك المراكشي: بلغ فيه الغاية من الاحتفال وحشد الأقوال، وما أرى أن أحدًا تقدمه في شرح كتاب حديثي إلى مثله، توسعًا في فنون العلم، وإكثارًا من فوائده، وقد وقفت على أسفار منه مدمجة بخطه3، وقد ذكره له كثيرون، ومنهم ابن الأبار في معجم أصحاب الصدفي "ص298"، والسخاوي في فتح المغيب "3/ 51". ولا نعلم عن المصنَّفَيْنِ السابقين شيئًا، ولا ندري هل كتاب الإمعان شرح السنن الصغرى أو الكبرى. 3- شرح الشيخ سراج الدين عمر بن علي الملقن الشافعي المتوفَّى "804 هـ"،   1 من كلمة محقق سنن النسائي "المجتبى" طبعة دار المعرفة، بيروت "بتصرف". 2 انظر السنن الأبين لابن رشيد السبني، المقدمة "ص14". 3 انظر: الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة "5/ 1/ 229". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 لكنه تناول بالشرح فقط زوائده على الصحيحين، وأبي داود، والترمذي، وغالب الظن أنه زوائد المجتبى. 4- "زهر الرُّبَى على المجتبَى" لجلال الدين السيوطي المتوفى" 911هـ" تعليقة لطيفة حد فيها بعض ألفاظه، ولم يتعرض بشيء للأسانيد، وقد طبعت مع المجتبى مرارًا، ولهذه التعليقة مختصر باسم "عرف زهر الربى" لعلي بن سليمان الدمناتي الباجمعاوي المغربي المتوفى "1306هـ" "مطبوع بالقاهرة 1299هـ". 5- حاشية لأبي الحسن محمد بن عبد الهادي السندي، المتوفى بالمدينة المنورة "1136هـ"، مطبوعة مع "زهر الربى" والسنن، وهي أبسط من تعليق السيوطي في بعض المواضع. 6- وهناك مختصر التقط فيه رباعيات النسائي "الرباعيات من كتاب السنن المأثورة" في تشستر بيتي "3849/ 1" من 4-24 من القرن السادس الهجري1. 7- تأليف لأبي عبد الرحمن محمد بنجابي، ومحمد عبد اللطيف، طبع في دلهي عام "1898م" مع شرح مجمع من السيوطي والسندي وغيرهما2. 8- روض الربَى عن ترجمة المجتبى، تأليف مولاي وحيد الزمان، طبع في لاهور عام "1886م" مع ترجمة هدوستانية3. 9- وفي ذيل طبقات الحفاظ لجلال الدين السيوطي "ص365" أن الحافظ شمس الدين أبا المحاسن محمد بن علي بن الحسن بن حمزة الدمشقي "715-765هـ" شرع في شرح سنن النسائي. ب- من ناحية الإسناد والرجال: 1- فأول من اعتنى برجال النسائي هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن أسد الجهني "أندلسي"، وقد تلقى السنن عن تلامذة النسائي الأندلسيين، وله "تسمية   1-3 انظر: تاريخ التراث العربي، لفؤاد سزكين "ص425/ 1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 شيوخ أبي عبد الرحمن النسائي"، ذكر ذلك ابن خير الإشبيلي في فهرسته "ص221"، والراجح أن يكون هذا الكتاب مبنيًّا على الكبرى؛ لأنه رواها عن تلامذة المصنف. 2- وتبعه على ذلك أبو علي الحسين بن محمد الجياني، المولود "427-498هـ" الحافظ الإمام الثبت، محدث الأندلس، فصنع كتاب شيوخ النسائي، ولا نعلم كيف بنى كتابه هذا. 3- رجال النسائي، لأبي محمد الدورقي، قال الكتاني في الرسالة المستطرفة: رجال الترمذي ورجال النسائي لجماعة من المغاربة منهم الحافظ أبو محمد الدورقي، فإن له في رجال كل منهما كتابًا منفردًا1. 4- "شيوخ النسائي" في سفر، لأبي بكر محمد بن إسماعيل بن محمد بن خلفون الأونبي الأزدي، المتوفى "636هـ"، كان أحد حفاظ الرجال المتقنين المصنفين، وذكر له كتابه هذا أبو الحسن الرعيني الإشبيلي المتوفى "636هـ" في برنامج شيوخ2.   1 انظر: مقدمة السنن الأبين لابن رشيد السبتي. 2 انظر "ص218". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 سادسًا: ابن ماجه "209-273هـ" هو: أبو عبد الله محمد بن يزيد الرَّبَعِي القزويني. ذكره الحافظ أبو علي الخليل بن عبد الله الخليلي القزويني في رجال قزوين، وقال فيه: "ثقة كبير، متفق عليه، محتج به، له معرفة بالحديث وحفظٌ، وله مصنفات في السنن، والتفسير، والتاريخ". وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء "13/ 279": "الحافظ الكبير، الحجة، المفسر، مصنف "السنن"، و"التاريخ" و"التفسير"، وحافظ قزوين في عصره". وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: "أحد الأئمة، حافظ، صنف السنن والتفسير والتاريخ"1. - سنن ابن ماجه: منهجه وشروطه: المتقدمون من أهل الحديث وكثير من محققي المتأخرين عدوا أصول كتب الحديث الخمسة: الصحيحين، وسنن النسائي، وأبي داود، والترمذي، وخالفهم بعض المتأخرين، فعد الأصول ستة، بإضافة ابن ماجه إلى الخمسة المذكورة؛ وذلك لأنهم رأوا كتابه مفيدًا عظيم النفع في الفقه. وأول من أضافه إلى الخمسة الحافظ أبو الفضل بن طاهر المقدسي المتوفَّى سنة "507" في أطراف الكتب الستة له، وكذلك في كتابه شروط الأئمة الستة، ثم الحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه "الإكمال في أسماء الرجال" -أي: رجال الكتب الستة- وهو الذي هذبه الحافظ المزي، وتبعهما على ذلك أصحاب الأطراف والرجال، ولما كان ابن ماجه قد أخرج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث قال بعضهم: ينبغي أن يجعل السادس كتاب الدارمي، فإنه قليل الرجال الضعفاء، نادر الأحاديث المنكرة والشاذة، وإن كانت فيه أحاديث   1 راجع ترجمته في: تهذيب الكمال "27/ 40- 42"، تهذيب التهذيب "9/ 530- 532"، تقريب التهذيب "ص514" ترجمة رقم "6409"، خلاصة الخزرجي "2/ ترجمة رقم 6770"، شذرات الذهب "2/ 64"، تذكرة الحفاظ "2/ 636"، سير أعلام النبلاء "13/ 277"، العبر "2/ 51"، الوافي بالوفيات "5/ 22، وفيات الأعيان "4/ 279"، النجوم الزاهرة "3/ 70"، طبقات الحفاظ "ص287- 279"، طبقات المفسرين "2/ 272"، البداية والنهاية "11/ 52". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 مرسلة وموقوفة، فهو مع ذلك أولى منه، وجعل آخرون الموطأ هو السادس لصحته وجلالته، كرزين السرقسطي المتوفَّى سنة "535هـ" في كتابه "تجريد الصحاح"، وتبعه ابن الأثير في جامع الأصول، وكذا غيره1. وكتاب السنن لابن ماجه مصنَّف على الكتب والأبواب، كالسنن الثلاثة السابقة، وقد اشتمل على سبعة وثلاثين كتابًا. وقد بدأه ابن ماجه بالمقدمة التي اشتملت على أربعة وعشرين بابًا: 1- باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- باب تعظيم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتعظيم على من عارضه. 3- باب التوقي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4- باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5- باب من حدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا وهو يرى أنه كذب. 6- باب اتباع سُنة الخلفاء الراشدين المهديين. 7- باب اجتناب البدع والجدل. 8- باب اجتناب الرأي والقياس. 9- باب في الإيمان. 10- باب في القدر. 11- باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 12- باب في ذكر الخوارج. 13- باب فيما أنكرت الجهمية. 14- باب من سن سنة حسنة أو سيئة. 15- باب من أحيا سنة قد أميتت. 16- باب فضل من تعلم القرآن وعلمه.   1 الحديث والمحدثون، لمحمد محمد أبو زهر "ص418، 419". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 17- باب فضل العلماء والحث على طلب العلم. 18- باب من بلغ علمًا. 19- باب من كان مفتاحًا للخير. 20- باب ثواب معلم الناس الخير. 21- باب من كره أن يوطأ عقباه. 22- باب الوصاة بطلبة العلم. 23- باب الانتفاع بالعلم والعمل به. 24- باب من سئل عن علم فكتمه. ثم رتب كتابه على الكتب الفقهية، كما صنع أصحاب السنن الثلاثة السابقة: 1- كتاب الطهارة. 2- كتاب الصلاة. 3- كتاب الأذان والسنة فيها. 4- كتاب المساجد والجماعات. 5- كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها. 6- كتاب الجنائز. 7- كتاب الصيام. 8- كتاب الزكاة. 9- كتاب النكاح. 10- كتاب الطلاق. 11- كتاب الكفارات. 12- كتاب التجارات. 13- كتاب الأحكام. 14- كتاب الهبات. 15- كتاب الصدقات. 16- كتاب الرهون. 17- كتاب الشفعة. 18- كتاب اللقطة. 19- كتاب العتق. 20- كتاب الحدود. 21- كتاب الديات. 22- كتاب الوصايا. 23- كتاب الفرائض. 24- كتاب الجهاد. 25- كتاب المناسك. 26- كتاب الأضاحي. 27- كتاب الذبائح. 28- كتاب الصيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 29- كتاب الأطعمة. 30- كتاب الأشربة. 31- كتاب الطب. 32- كتاب اللباس. 33- كتاب الأدب. 34- كتاب الدعاء. 35- كتاب تعبير الرؤيا. 36- كتاب الفتن. 37- كتاب الزهد. وهناك اتفاق من المتخصصين على أن سنن ابن ماجه دون السنن السابقة في الدرجة، ويرجع ذلك إلى كثرة الأحاديث الضعيفة الموجودة فيه إذا قورنت بالأحاديث الضعيفة في السنن السابقة، كما أنه انفرد بإخراج أحاديث عن رواة متهمين بالكذب؛ ولكن ابن ماجه نفسه صرح بأن أبا زرعة الرازي أثنى على سننه، وذكر أن فيه نحوًا من ثلاثين حديثًا ضعيفًا، فقال ابن ماجه فيما نقله الذهبي في السير: "عرضت هذه السنن على أبي زرعة، فنظر فيه، وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع، أو أكثرها، ثم قال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثًا مما في إسناده ضعف أو نحو ذا"1. ونقل الحافظ المزي نحوه في تهذيب الكمال نقلًا عن الحافظ أبي القاسم بن عساكر. وقال الحافظ الذهبي في السير أيضًا: "قد كان ابن ماجه حافظًا صادقًا، واسع العلم، وإنما غض من رتبة "سننه" ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات، وقول أبي زرعة -إن صح- فإنما عَنَى بثلاثين حديثًا: الأحاديث المطروحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة -أي بذاتها- فكثيرة، لعلها نحو الألف"2. وحصر الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني الهندي في كتابه: ما تمس إليه   1 سير أعلام النبلاء "13/ 278". 2 سير أعلام النبلاء "13/ 278، 279". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الحاجة لمن يطالع سنن ابن ماجه1، حصر أحاديث ابن ماجه التي ذكرها ابن الجوزي، في كتابه "الموضوعات" حديثًا حديثًا، فبلغت أربعة وثلاثين حديثًا، وذكر ما في أسانيدها من مقال، ثم أورد سبعة أحاديث حكم عليها بعض الحفاظ غير ابن الجوزي بالوضع، وذكر ما قيل في أسانيدها، وقال: "وفي سنن ابن ماجه أحاديث كثيرة ضعيفة بعضها أشد في الضعف من بعض، ولو جمعها أحد من علماء هذا الشأن لجاء من مجلد لفيف". وقال السيوطي في شرحه على مجتبى النسائي المسمى بزهر الربَى: "إن كتاب ابن ماجه قد تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث، وبعض تلك الأحاديث لا تُعرف إلا من جهتهم؛ مثل: حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك، والعلاء بن زيد، وداود بن المحبر، وعبد الوهاب بن الضحاك، وإسماعيل بن زياد الكوفي، وعبد السلام بن يحيى بن أبي الجنوب، وغيرهم". قال: "وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زرعة الرازي أنه نظر فيه فقال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثًا مما فيه ضعف، فهي حكاية لا تصح لانقطاع سندها، وإن كانت محفوظة، فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة للغاية، أو كان ما رأى من الكتاب إلا جزءًا منه فيه هذا القدر، وقد حكم أبو زرعة على أحاديث كثيرة منها بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب العلل لأبي حاتم". اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: "إنه انفرد بأحاديث كثيرة، وهي صحيحة، فالأولى حمل الضعيف على الرجال، وقد ألف الحافظ أحمد بن أبي بكر البوصيري كتابًا في زوائده على الخمسة نبه فيه على غالبها". ونقل العلامة علي القاري في "المرقاة شرح المشكاة" عن الحافظ ابن حجر قوله: "السبيل لمن أراد الاحتجاج بحديث من السنن الأربعة، لا سيما سنن ابن ماجه، ومصنف ابن أبي شيبة، ومصنف عبد الرزاق مما الأمر فيه أشد، أو بحديث   1 "ص38-44". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 من المسانيد؛ لأن هذه لم يشترط جامعوها الصحة والحسن: إنه كان أهلًا للنقل والتصحيح، فليس له أن يحتج بشيء من القسمين حتى يحيط به، وإن لم يكن أهلًا لذلك، فإن وجد أهلًا لتصحيح أو تحسين قلده، وإلا فلا يقدم على الاحتجاج كحاطب ليل، فلعله يحتج بالباطل، وهو لا يشعر". وجملة أحاديث سنن ابن ماجه "4341" حديثًا. منها "302" حديثًا أخرجها الشيخان، وأصحاب السنن الثلاثة السابقة. فتكون الزوائد "1339" حديثًا، منها الصحيح، والحسن، والضعيف وغيره. صحيحة الإسناد منها عددها "428" حديثًا. وحسنة الإسناد عددها "199" حديثًا. وضعيفة الإسناد عددها "613" حديثًا. ويبقى "99" حديثًا واهية الإسناد، أو منكرة، أو مكذوبة. ولا يوجد حديث مما أخرجه في الأحكام فيه راوٍ متهم بالوضع أو الكذب؛ وإنما ذلك في الفضائل بلا استثناء. - شروحه 1: 1- شرح محمد بن موسى الدميري المتوفَّى سنة "808هـ"، يُسمى "الديباجة" في خمسة مجلدات، ومات قبل تحريره. 2- شرح جلال الدين السيوطي، يسمى "مصباح الزجاجة على سنن ابن ماجه". 3- شرح إبراهيم بن محمد الحلبي، المتوفى سنة "841هـ". 4- شرح السندي، وهو مطبوع2.   1 انظر: مقدمة السندي لشرح سنن ابن ماجه، مقدمة السيوطي لشرح سنن النسائي، وشروط الأئمة الستة "ص16، 17"، الرسالة المستطرفة "ص10، 11"، توجيه النظر "ص153"، مفتاح السنة "ص101"، كشف الظنون "1/ 477"، قواعد التحديث "ص233". 2 مخطوطة بدار الكتب المصرية "برقم 1894ب"، "حديث تيمور 538"، "حديث س11". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 سابعًا: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل "164-241هـ" 1 هو: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي، ثم البغدادي "164- 241هـ"، وهو من ولد شيبان بن ذهل، لا من ولد ذهل بن شيبان، يلتقي نسبه بنسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نزار. خُرج به من مرو حملًا، وولد ببغداد، ونشأ بها، ومات بها، وطاف البلاد في طلب العلم، ودخل الكوفة، والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام، والجزيرة، والمغرب، والجزائر، والعراق، وفارس، وخراسان، وغيرها. ومناقبه أكثر من أن تُحصى أو تُستقصى، ويكفي أن الشافعي عده من عجائب الزمن، وعلل ذلك بأنه كان صغيرًا، وكلما قال شيئًا صدقه الكبار. - ومن تصانيفه: "المسند"، وهو بزيادة ابن عبد الله أربعون ألف حديث إلا أربعين حديثًا، و"التفسير"، وهو مائة ألف وعشرون ألفًا، وقيل: بل مائة ألف وخمسون ألفًا، و"الزهد"، وهو نحو مائة جزء، و"الناسخ والمنسوخ"، و"المقدم والمؤخر في القرآن" و"المنسك الكبير"، و"المنسك الصغير"، و"الصيام والفرائض"، و"حديث شعبة"، و"فضائل الصحابة"، و"فضائل أبي بكر"، و"فضائل الحسن والحسين"، و"التاريخ"، و"الأسماء والكنى"، و"الرسالة في الصلاة"، و"رسائل في السنة   1 راجع ترجمته في: "تهذيب الكمال "1/ 437- 470"، سير أعلام النبلاء "11/ 177- 358"، طبقات ابن سعد "7/ 354- 355"، التاريخ الكبير "2/ 5"، التاريخ الصغير "2/ 375"، الجرح والتعديل "1/ 292- 313"، "2/ 68- 70"، حلية الأولياء "9/ 161- 233"، تاريخ بغداد "4/ 412- 423"، طبقات الحنابلة "1/ 4 - 20"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 110 - 112"، وفيات الأعيان "1/ 63- 65"، تذكرة الحفاظ "2/ 431"، العبر "1/ 435"، تذهيب التهذيب "1/ 22"، الوافي بالوفيات "6/ 363- 369"، طبقات الشافعية للسبكي "2/ 27- 37"، البداية والنهاية "10/ 325- 343"، النجوم الزاهرة "2/ 304 - 306"، طبقات الحفاظ "ص186"، شذرات الذهب "2/ 96- 98"، طبقات المفسرين "1/ 70"، التذكرة بمعرفة رجال الكتب العشرة "1/ 69 - 71". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 والأشربة"، و"جوابات وأسئلة، و"طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم"، و"الرد على الزنادقة والجهمية وأهل الأهواء في متشابه القرآن"، وغير ذلك. ومشايخه أعيان السلف، وأئمة الخلف، وأصحابه خلق كثير لا يحصيهم عدد ولا يحويهم بلد، وقيل: مائة ألف أو يزيدون، وروى الفقه عنه أكثر من مائتي نفس، أكثرهم أئمة أصحاب تصانيف، وروى عنه الحديث أكابر؛ كعبد الرزاق، وابن عُلية، وابن مهدي، ووكيع، وقتيبة، وابن المديني، وخلق غيرهم، وما من مسألة في الفروع والأصول إلا له فيها قول أو أكثر نصًّا أو إيماء. - مسند الإمام أحمد: "المسند" للإمام أحمد بن حنبل أعظم كتب الحديث، وقد شهد المحدثون وغيرهم قديمًا وحديثًا بأنه أجمع المصنفات في الحديث الشريف، وأوعاها لكل ما يحتاج إليه المسلم في أمور الدين والدنيا. ومن مسماه يتبين أنه جمع الأحاديث المسندة أو المرفوعة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه اهتم بجمع أحاديث كل صحابي على حدة، دون أن يهتم بالترتيب الموضوعي أو الفقهي. كما أنه جمع بين الصحيح والضعيف بحيث يصعب على أهل عصرنا -سوى القليل من المتخصص منهم- التمييز بين أسانيد هذه الأحاديث، ولم تكن هذه الصعوبة لدى أهل عصره؛ لحفظهم وضبطهم وخبرتهم. - عدد أحاديثه: اشتمل على أربعين ألفًا بالمكرر1 وثلاثين ألفًا بدون المكرر، وهو كغيره من مصنفات الحديث لم يستوعب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.   1 قال ذلك الحسيني في كتابه التذكرة في رجال العشرة، كما حكاه السيوطي في التدريب "1/ 213". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 قال الحافظ ابن كثير: "لا يوازي مسند أحمد كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته، وقد فاته أحاديث كثيرة جدًّا، بل قيل: إنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريبًا من مائتين"1. وقال عبد الله بن أحمد: خرَّج أبي المسند في سبعمائة ألف حديث2. - أقسام المسند من حيث الرواية: المسند المطبوع ليس كله من رواية الإمام أحمد؛ ولكن أضاف إليه ابنه عبد الله زيادات ليست من رواية أبيه، وكذلك فعل أبو بكر القطيعي راوي المسند عن عبد الله بن أحمد. قال الأستاذ المحدث أحمد البنا الشهير بالساعاتي في مقدمة الفتح الرباني: بتتبعي لأحاديث المسند وجدتها تنقسم إلى ستة أقسام: قسم رواه أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه سماعًا منه وهو المسمى بمسند الإمام أحمد، وهو كبير جدًّا يزيد عن ثلاثة أرباع الكتاب. وقسم سمعه عبد الله من أبيه، ومن غيره، وهو قليل جدًّا. وقسم رواه عن غير أبيه، وهو المسمى عند المحدثين بزوائد عبد الله، وهو كثير بالنسبة للأقسام كلها عدا القسم الأول. وقسم قرأه "عبد الله" على "أبيه"، ولم يسمعه منه، وهو قليل. وقسم لم يقرأه ولم يسمعه؛ ولكنه وجده في كتاب أبيه بخط يده. وقسم رواه الحافظ أبو بكر القطيعي عن غير عبد الله وأبيه -رحمهما الله تعالى- وهو أقل الجميع.   1 نقلًا عن: تدريب الراوي "1/ 213"، طبع مؤسسة الرسالة، بيروت. 2 التذكرة بمعرفة رجال العشرة "1/ 70" لأبي المحاسن محمد بن علي العلوي الحسيني "715- 765هـ"، الناشر، مكتبة الخانجي القاهرة، تحقيق أ. د. رفعت فوزي عبد المطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 فهذه ستة أقسام، وكل هذه الأقسام من المسند، إلا الثالث فإنه من زوائد عبد الله، والسادس من زوائد القطيعي1. سمع المسند من الإمام أحمد أولاده الثلاثة: صالح، وعبد الله، وحنبل. قال عثمان بن السباك: حدثنا حنبل قال: جمعنا أحمد بن حنبل: أنا، وصالح، وعبد الله، وقرأ علينا المسند، وما سمعه غيرنا، وقال لنا: هذا الكتاب جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألفًا، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فارجعوا إليه، فإن وجدتموه، وإلا فليس بحجة2. - درجة أحاديث المسند: للعلماء في درجة أحاديث المسند أقوال: القول الأول: إن ما فيه من الأحاديث حجة، وهو ظاهر عبارة الإمام السابقة التي رواها ابن السباك عن حنبل عن الإمام، وفي معناه ما روى أبو موسى المديني عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث فقال: انظروه فإن كان في المسند وإلا فليس بحجة، وما قاله أبو موسى المديني أيضًا في كتابه "خصائص المسند"3 قال: وهذا الكتاب أصل كبير، ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتُقي من حديث كثير ومسموعات وافرة، فجعله صاحبه إمامًا ومعتمدًا، وعند التنازع ملجأ ومستندًا، قال: ولم يخرج إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته دون من طعن في أمانته. قال: ومن الدليل على أن ما أودعه الإمام أحمد -رحمه الله- مسنده قد احتاط فيه إسنادًا ومتنًا ولم يورد فيه إلا ما صح عنده -ما رواه القطيعي. قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا زرعة يحدث عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:   1 مقدمة الفتح الرباني "ص19 وما بعدها". 2 المصدر السابق "ص8". 3 السابق "ص27". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 "يهلك أمتي هذا الحي من قريش" قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "لو أن الناس اعتزلوهم". قال عبد الله: قال لي أبي في مرضه الذي مات فيه: اضرب على هذا الحديث، فإنه خلاف الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني قوله: "اسمعوا وأطيعوا". فهذا الحديث مع ثقة رجال إسناده حين شذ لفظه عن المشاهير أمر بالضرب عليه فقال عليه ما قلنا، وفيه نظائر له. قال الأستاذ المحدِّث الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا: هذا مثال لشدة احتياط الإمام أحمد في المتن، وأما احتياطه في السند، فقد روى القطيعي قال: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا علي بن ثابت الجزري، عن ناصح أبي عبد الله، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأن يؤدب الرجل ولده -أو أحدكم ولده- خير له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع" قال عبد الله: وهذا الحديث لم يخرجه أبي في مسنده من أجل ناصح؛ لأنه ضعيف في الحديث، وأملاه عليَّ في النوادر1. اهـ. القول الثاني: إن فيه الصحيح والضعيف والموضوع، فقد ذكر ابن الجوزي في الموضوعات تسعة وعشرين حديثًا منه، وحكم عليها بالوضع، وزاد الحافظ العراقي عليه تسعة أحاديث حكم عليها بالوضع وجمعها في جزء، قال العراقي ردًّا على من قال: إن أحمد شرط في مسنده الصحيح: لا نسلم ذلك والذي رواه عنه أبو موسى المديني أنه سئل عن حديث فقال: انظروه فإن كان في المسند، وإلا فليس بحجة، فهذا ليس بصريح في أن كل ما فيه حجة؛ وإنما هو صريح في أن ما ليس فيه ليس بحجة، قال: على أن ثَمَّ أحاديث صحيحة مخرجة في الصحيحين وليست فيه، منها حديث عائشة في قصة أم زرع، قال: وأما وجود الضعيف فيه فهو محقق؛ بل فيه أحاديث موضوعة جمعتها في جزء، ولعبد الله ابنه فيه زيادات فيها الضعيف والموضوع2.   1 مقدمة الفتح الرباني "ص9". 2 تدريب الراوي "1/ 212" طبع مؤسسة الرسالة، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وقد صوَّر لنا ابن الجوزي استغراب معاصريه من أن يكون في "المسند" ما ليس بصحيح، فقال: كان قد سألني بعض أصحاب الحديث: هل في "مسند الإمام أحمد" ما ليس بصحيح؟ فقلت: نعم. فعظم ذلك جماعة ينتسبون إلى المذهب، فحملت أمرهم على أنهم عوام، وأهملت فكر ذلك، وإذا بهم قد كتبوا فتاوى، فكتب فيها جماعة من أهل خراسان منهم أبو العلاء الهمذاني، يعظمون هذا القول ويردونه، ويُقبحون قول من قاله، فبقيت دَهِشًا متعجبًا، وقلت في نفسي: واعجبًا، صار المنسبون إلى العلم عامة أيضًا! وما ذاك إلا أنهم سمعوا الحديث، ولم يبحثوا عن صحيحه وسقيمه، وظنوا أن من قال ما قلته قد تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد، وليس كذلك، فإن الإمام أحمد روى المشهور والجيد والرديء، ثم هو قد رد كثيرًا مما روى ولم يقل به، ولم يجعله مذهبًا له، ومن نظر في كتاب "العلل" الذي صنفه أبو بكر الخلال رأى أحاديث كثيرة كلها في "المسند"، وقد طعن فيها أحمد1. وقال الحافظ السخاوي في "شرح الألفية"2: والحق أن في مسند أحمد أحاديث كثيرة ضعيفة، وبعضها أشد في الضعف من بعض حتى إن ابن الجوزي أدخل كثيرًا منها في موضوعاته؛ ولكن قد تعقبه في بعضها الحافظ العراقي في جزء له، وفي سائرها الحافظ ابن حجر، وحقق نفي الوضع عن جميع أحاديثه، وأنه أحسن انتقاء وتحريرًا من الكتب التي لم تلتزم الصحة في جمعها. اهـ. القول الثالث: إن فيه الصحيح والضعيف الذي يقرب من الحسن، ومن ذهب إلى ذلك من الحفاظ: أبو عبد الله الذهبي، وابن حجر العسقلاني، وابن تيمية، والسيوطي، وإليك أقوالهم في ذلك: قال الحافظ السيوطي في خطبة الجامع الكبير ما لفظه: "وكل ما كان في مسند أحمد فهو مقبول؛ فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن"، وقال الحافظ ابن حجر في كتابه "تعجيل المنفعة في رجال   1 صيد الخاطر "ص245، 246". 2 شرح الألفية "1/ 89". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الأربعة": "ليس في المسند حديث لا أصل له إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة، منها حديث عبد الرحمن بن عوف: "أنه يدخل الجنة زحفًا"، والاعتذار عنه أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه، فترك سهوًا، أو ضرب وكتب من تحت الضرب". وقال ابن تيمية في كتابه "منهاج السُّنَّة": "شرط أحمد في المسند ألا يروي عن المعروفين بالكذب عنده، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف قال: ثم زاد عبد الله بن أحمد زيادات على المسند ضمت إليه، وكذلك زاد أبو بكر القطيعي، وفي تلك الزيادات كثير من الأحاديث الموضوعة، فظن مَن لا علم عنده أن ذلك من رواية أحمد في مسنده"1. وقال الحافظ الذهبي: "ولو أنه -يعني عبد الله بن الإمام أحمد- حرر ترتيب المسند وقربه وهذبه لأتى بأسنى المقاصد، ولعل الله -تبارك وتعالى- أن يقيض لهذا الديوان السامي من يخدمه، ويبوب عليه، ويتكلم على رجاله، ويرتب هيئته ووضعه، فإنه محتوٍ على أكثر الحديث النبوي، وقل أن يثبت حديث إلا وهو فيه". قال: "وأما الحسان فما استوعبت فيه؛ بل عامتها -إن شاء الله تعالى- فيه، وأما الغرائب وما فيه لين، فروى من ذلك الأشهر وترك الأكثر مما هو مأثور في السنن الأربعة ومعجم الطبراني الأكبر والأوسط، ومسندي أبي يعلى والبزار، وأمثال ذلك قال ومن سعد مسند الإمام أحمد قل أن تجد فيه خبرًا ساقطًا"2. قال محمد أبو زهو تحت عنوان: "الجمع بين أقوال العلماء في مسند أحمد": "يمكن إرجاع القولين الأولين إلى القول الثالث، وبذلك لا يكون هناك خلاف في درجة أحاديث المسند، فمن حكم على بعض أحاديثه بالوضع نظر إلى ما زاده فيه أبو بكر القطيعي وعبد الله بن الإمام أحمد، والقول بحجية ما فيه من الأحاديث   1، 2 منهاج السُّنة لابن تيمية "ص37". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 لا ينافي القول بأن فيه الضعيف، فإن الضعيف فيه دائر بين الحسن لذاته والحسن لغيره، وكلاهما مما يحتج به عند العلماء"1. قلت: ولا يغض من قيمة المسند ما جاء فيه من أحاديث ضعيفة؛ فإنها صالحة للترقي إلى درجة الحسن لغيره بما لها من متابعات وشواهد. كما أن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يأخذ بالضعيف ويعمل به، ويقدمه على القياس، بشرط ألا يكون ضعفه شديدًا، وألا يكون في الباب غيره، فقد قال لابنه عبد الله: لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب ما يدفعه2. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية3: إن تعدد الطرق مع عدم التشاعر والاتفاق في العادة يُوجب العلم بمضمون المنقول، وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول، والسيئ الحفظ، وبالحديث المرسل، ونحو ذلك؛ ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث، ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره. قال الإمام أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره. وقال شيخ الإسلام أيضًا4: وقد يروي الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم لاتهام رواتها بسوء الحفظ، ونحو ذلك؛ ليعتبر بها ويستشهد بها، فإنه قد يكون لذلك الحديث ما يشهد أنه محفوظ، وقد يكون له ما يشهد بأنه خطأ، وقد يكون صاحبها كذابًا في الباطن ليس مشهورًا بالكذب؛ بل يروي كثيرًا من الصدق، فيُروى حديثه، وليس كل ما رواه الفاسق يكون كذبًا؛ بل يجب التبيُّن في خبره كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فيروى لتُنظر سائر الشواهد هل تدل على الصدق أو الكذب.   1 الحديث والمحدثون "ص375" لمحمد محمد أبو زهو، طبع دار الكتاب العربي، بيروت، 1404 هـ-1984م. 2 خصائص المسند "ص27". 3 مقدمة أصول التفسير "ص30". 4 منهاج السُّنَّة "4/ 15". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وقال -رحمه الله- أيضًا: وليس كل ما رواه أحمد في "المسند" وغيره يكون حجة عنده؛ بل يروي ما رواه أهل العلم، وشرطه في "المسند" ألا يروي عن المعروفين بالكذب عنده، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف1. وقال الإمام الذهبي عن "المسند": فيه جملة من الأحاديث الضعيفة مما يسوغ نقلها، ولا يجب الاحتجاج بها2. وكذلك قال الحافظ العراقي فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في "القول المسدَّد": إن في "المسند" أحاديث ضعيفة كثيرة3. وقال الحافظ ابن حجر: "ومسند أحمد" ادَّعى قوم فيه الصحة، وكذا في شيوخه، وصنَّف الحافظ أبو موسى المديني في ذلك تصنيفًا، والحق أن أحاديثه غالبها جياد، والضعاف منها إنما يوردها للمتابعات، وفيه القليل من الضعاف الغرائب الأفراد، أخرجها، ثم صار يضرب عليها شيئًا فشيئًا، وبقي منها بعده بقية4. ومما يجب التنبيه عليه، فإن تحسين الحديث الضعيف بتعدد طرقه وشواهده مذهب درج عليه الأئمة المتقدمون من حفاظ الحديث وخبراء العلل نحو: الإمام أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وأبي زرعة الرازي، وأبي حاتم، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ويحيى بن معين، وأمثالهم، وارتضاه المتأخرون وساروا عليه وأخذوا به مثل: الحافظ المنذري، والعراقي، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، وابن كثير الدمشقي، والزيلعي، وغيرهم. وقال الحافظ ابن حجر في نُكَتِه على ابن الصلاح5: وأما علي بن المديني فقد   1 المصدر السابق "4/ 27". 2 سير أعلام النبلاء "11/ 329". 3 القول المسدد في الذب على المسند "ص3". 4 تعجيل المنفعة "ص6". 5 النكت على ابن الصلاح "1/ 426". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 أكثر من وصف الأحاديث بالصحة والحسن في "مسنده"1 وفي "علله"، وظاهر عبارته أنه قصد المعنى الاصطلاحي، وكأنه الإمام السابق لهذا الاصطلاح، وعنه أخذ البخاري ويعقوب بن شيبة وغير واحد، وعن البخاري أخذ الترمذي. فمن ذلك ما ذكره الترمذي في "العلل الكبير"2 أنه سأل البخاري عن أحاديث التوقيت في المسح على الخفين، فقال: حديث صفوان بن عسَّال صحيح، وحديث أبي بكرة -رضي الله عنه- حسن. وذكر الترمذي في سننه أنه سأل البخاري عن حديث شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح، عن رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته"، وهو من أفراد شريك عن أبي إسحاق، فقال البخاري: هو حديث حسن3. وقال في "العلل"4 بعد أن أورد حديث عثمان من طريق عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخلل لحيته. قال محمد -يعني البخاري: أصح شيء عندي في التخليل حديث عثمان.   1 وقد نقل الحافظ ابن كثير في "مسند عمر" قول علي بن المديني في جملة أحاديث: حديث حسن، أو إسناد حسن، أو صالح الإسناد، أو إسناد جيد، انظرها في "مسند عمر" "1/ 111 و 132 و 277 و 288 و 307 و 333 و 357 و 512 و 526 و 544 و 605". 2 "1/ 175" وحديث صفوان الذي أشار إليه موجود في شرائط الصحة، وحديث أبي بكرة رواه ابن ماجه "556" من رواية المهاجر أبي مخلد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه، والمهاجر قال فيه وهيب: إنه كان غير حافظ، وقال ابن معين: صالح، وقال الساجي: صدوق، وقال أبو حاتم: لين الحديث، يُكتب حديثه، فهذا على شرط الحسن لذاته. 3 سنن الترمذي "حديث رقم 1366" وتفرد شريك يحول دون الاحتجاج بما تفرد به؛ لكنه اعتضد بحديث عقبة بن الأصم عن عطاء عن رافع -رضي الله عنه- الذي رواه الترمذي أيضًا في نفس الموضع "في حديث 1366" فوصفه بالحسن. 4 العلل للترمذي "1/ 112". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 قلت "أي الترمذي": إنهم يتكلمون في هذا الحديث، فقال: هو حسن. وفي الصحيحين أحاديث في أسانيدها رواة تنزل درجتهم عن رتبة أهل الضبط التام، مما يقال في أسانيد رواياتهم بأنها حسنة. وقال الإمام الذهبي في "الموقظة"1 أعلى مراتب الحسن: 1- بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده. 2- وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. 3- ومحمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. 4- وابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، وأمثال ذلك. وهو قسم متجاذب بن الصحة والحسن، فإن عدة من الحفاظ يصححون هذه الطرق، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح. وقال الإمام الحافظ العلامة سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني المتوفَّى سنة 805هـ في "محاسن الاصطلاح"2: قد أكثر يعقوب بن شيبة تلميذ علي بن المديني من تحسين الأحاديث في كتابه، وفي مواضع كثيرة يجمع بين الحسن والصحة، وجمع أبو علي الطوسي شيخ أبي حاتم الرازي في كتابه "الأحكام" بين الحسن والصحة والغرابة إثر كل حديث، وكان معاصرًا للترمذي. هذا، وقد صرح الإمام الذهبي بأن في المسند أحاديث قليلة جدًّا شديدة الضعف، فقال في كلامه عن "المسند" في "السير": "وفي أحاديث معدودة شبه موضوعة؛ ولكنها قطرة في بحر"3. وقد صنفها بعض النقاد في الموضوعات، فبلغت ثمانية وثلاثين حديثًا، ناقش   1 الموقظة للذهبي "ص32". 2 محاسن الاصطلاح "ص109". 3 سير أعلام النبلاء "11/ 329". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 معظمها الإمام الحجة شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب سماه: "القول المسدد في الذب عن المسند"، وقال في خطبة هذا الكتاب النفيس: "ذكرت في هذه الأوراق ما حضرني من الكلام على الأحاديث التي زعم بعض أهل الحديث أنها موضوعة، وهي في مسند أحمد؛ ذبًّا عن هذا التصنيف العظيم الذي تلقته الأمة بالقبول والتكريم، وجعله أمامهم حجة يرجع إليه ويعول عند الاختلاف عليه"، ثم سرد الأحاديث التي جمعها العراقي في جزء وحكم عليها بالوضع، وهي تسعة وأضاف إليها خمسة عشر حديثًا أوردها ابن الجوزي في الموضوعات، وهي فيه، وأجاب عنها حديثًا حديثًا. قال السيوطي: وقد فاته أحاديث أخر أوردها ابن الجوزي، وهي فيه، وجمعتها في جزء سميته "الذيل الممهد"، وعدتها أربعة عشر حديثًا1. قال الشوكاني: وقد حقق الحافظ نفي الوضع عن جميع أحاديثه، وأنه أحسن انتقاء وتحريرًا من الكتب التي لم يلتزم مصنفوها الصحة في جميعها، وليست الأحاديث الزائدة فيه على الصحيحين بأكثر ضعفًا من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي. - عناية الأمة بمسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: اهتم العلماء في كافة الأمصار والأعصار بمسند الإمام أحمد، وضربوا لسماعه أكباد الإبل، فقد حوى معظم الحديث النبوي الشريف، والذي جمعه الإمام وانتقاه ليكون مثابة للناس وإمامًا، كما صرح هو نفسه بذلك، فقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: لِمَ كرهت وضع الكتب، وقد عملت المسند؟ فقال: عملت هذا الكتاب إمامًا، إذا اختلف الناس في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رُجِعَ إليه"2، فكان له   1 تدريب الراوي "1/ 212" طبع مؤسسة الرسالة، بيروت. 2 التذكرة بمعرفة رجال الكتب العشرة "1/ 70" في الترجمة رقم "240" لأبي محاسن محمد بن علي العلوي الحسيني "715-765هـ"، الناشر مكتبة الخانجي بالطاهرة، تحقيق أ. د. رفعت فوزي عبد المطلب. وانظر: خصائص المسند لأبي موسى المديني "ص22" في مقدمة الجزء الأول من المسند، تحقيق الشيخ أحمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ذلك، وقد تجلت عناية علماء الأمة به من خلال حرصهم على سماعه، وقراءته، وحفظه، وشرح غريبه، واختصاره، وترتيبه. قال الحافظ أبو موسى المديني: إن مما أنعم الله علينا أن رزقنا سماع كتاب "المسند" للإمام الكبير إمام الدين أبي عبد الله أحمد1. ويصور الحافظ أبو موسى ما كان يجده المحدث في نفسه من غبطة وفخر إذا وقع له جزء من أجزاء هذا "المسند" فيقول2: ولعمري إن مَن كان من قبلنا من الحفاظ يتبجحون بجزء واحد يقع لهم من حديث هذا الإمام الكبير. ويستشهد أبو موسى المديني لقوله هذا بذكر ما قاله أبو محمد المزني -وهو "بشهادة المديني" من الحفاظ الكبار المكثرين- لرجل قدم عليه من بغداد كان أقام بها على كتابة الحديث، إذ سأله أبو محمد المزني، وذلك في سنة ست وخمسين وثلاثمائة، عن فائدته ببغداد، وعن باقي إسناد العراق، فقال في جملة ما ذكر: سمعت "مسند" أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- من أبي بكر بن مالك في مائة وخمسين جزءًا، فعجب أبو محمد المزني من ذلك، وقال: مائة وخمسون جزءًا من حديث أحمد بن حنبل! كنا ونحن بالعراق إذا رأينا عند شيخ من شيوخنا جزءًا من حديث أحمد بن حنبل قضينا العجب من ذلك، فكيف في هذا الوقت هذا "المسند" الجليل! ثم ذكر المديني كيف أن الحاكم لم يبدأ بتأليف كتابه "المستدرك على الصحيحين" إلا بعد أن أقام في بغداد أشهرًا، وسمع جملة "المسند" من أبي بكر مالك القطيعي. وسئل الشيخ الإمام الحافظ أبو الحسين علي ابن الشيخ الإمام الحافظ الفقيه محمد اليونيني -رحمهما الله تعالى- فيما رواه ابن الجزري3: أنت تحفظ الكتب   1، 2 خصائص المسند "ص20". 3 المصعد الأحمد "ص32"، مقدمة الجزء الأول للمسند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الستة؟ فقال: أحفظها وما أحفظها، فقيل له: كيف هذا؟ فقال: أنا أحفظ "مسند" أحمد، وما يفوت "المسند" من الكتب الستة إلا قليل، أو قال: وما في الكتب هو في "المسند" يعني إلا قليل، وأصله في "المسند"، فأنا أحفظها بهذا الوجه. وفي كشف الظنون: جمع غريبه أبو عمر محمد بن عبد الواحد المعروف بغلام ثعلب في كتاب، وتوفي سنة "345"، واختصره الشيخ الإمام سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن الشافعي المتوفى سنة "805هـ" خمس وثمانمائة، وعليه تعليقه للسيوطي في إعرابه سماها: الزبرجد، وقد شرح المسند أبو الحسن بن عبد الهادي السندي، نزيل المدينة المنورة المتوفى سنة "1139هـ" شرحًا كبيرًا نحوًا من خمسين كراسة كبار، واختصره الشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي1. وقال الحافظ ابن الجزري: أقام الله تعالى لترتيبه شيخنا خاتمة الحفاظ أبا بكر محمد بن عبد الله بن المحب الصامت، فرتبه على معجم الصحابة، ورتب الرواة كذلك كترتيب الأطراف، تعب فيه تعبًا كثيرًا، ثم إن شيخنا الإمام مؤرخ الإسلام وحافظ الشام عماد الدين أبا الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير -رحمه الله تعالى- "ت 774هـ" أخذ هذا الكتاب المرتب من مؤلفه، وأضاف إليه أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي، وجهد نفسه كثيرًا، وتعب فيه تعبًا عظيمًا، فجاء لا نظير له في العالم وأكمله إلا بعض مسند أبي هريرة، فإنه قبل أن يكمله كف بصره ومات، وقال رحمه الله تعالى: لا زلت أكتب فيه في الليل والسراج ينونص حتى ذهب بصري معه، ولعل الله أن يقيض له من يكمله مع أنه سهل. فإن معجم الطبراني الكبير لم يكن فيه شيء من مسند أبي هريرة رضي الله عنه. واسم هذا الكتاب الذي ألفه ابن كثير "جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم   1 كشف الظنون "2/ 265". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 سنن"، ويوجد منه في دار الكتب المصرية ثمانية أجزاء1، وقد رتب المسند على الأبواب بعض الحفاظ الأصبهانيين، وكذا الحافظ ناصر الدين بن رزيق وغيره، ورتبه على حروف المعجم الحافظ أبو بكر محمد بن أبي محمد عبد الله المقدسي الحنبلي2، وقد رتب المسند على الأبواب ترتيبًا متقنًا مهذبًا الشيخ المحدث العلامة أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا الشهير بالساعاتي، وجعله سبعة أقسام: قسم التوحيد وأصول الدين، وقسم الفقه، وقسم التفسير، وقسم الترغيب، وقسم الترهيب، وقسم التاريخ، وقسم القيامة وأحوال الآخرة، على هذا الترتيب، وكل قسم من هذه الأقسام السبعة يشتمل على جملة كتب، وكل كتاب يندرج تحته جملة أبواب، وبعض الأبواب يدخل فيه جملة فصول، وفي أكثر تراجم الأبواب ما يدل على مغزى أحاديث الباب، وسمى هذا الكتاب "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني"، ثم شرح كتابه هذا وخرج أحاديثه في كتاب آخر سماه "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني" جعله معه. ويكفي لتعليل هذه العناية الكبرى التي لقيها هذا "المسند" أن نذكر ما قاله فيه ابن الجزري3 حين وصفه فقال: هو كتاب لم يُروَ على وجه الأرض كتاب في الحديث أعلى منه.   1 مقدمة الفتح الرباني، وطبع "جامع المسانيد والسنن" في بيروت، دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع. 2 الرسالة المستطرفة "15، 16". 3 المصعد الأحمد "ص29، 30". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الفصل الثاني: مناهج المحدثين في القرن الرابع الهجري ابن خزيمة ... الفصل الثاني: مناهج المحدثين في القرن الرابع الهجري كانت السمة الغالبة على علماء هذا القرن وما بعده جمع ما تفرق في كتب السابقين، أو اختصار مصنفاتهم، أو تهذيبها، أو ترتيبها، أو شرحها، أو الجمع بينها. كما وجد من بين علماء هذا القرن طائفة كبيرة كان لها دور في تدوين الحديث، وبطريقة استقلالية على نمط التدوين في القرن السابق، ومن هؤلاء: ابن خزيمة: هو: الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري "223-311هـ". يذكر أبو عبد الله الحاكم أن مؤلفات ابن خزيمة تزيد على مائة وأربعين، ولا نعلم في الوقت الحاضر إلا كتاب التوحيد الذي طُبع من قبل، وهذا الجزء المتبقي من صحيحه، وكتاب آخر له باسم: "شأن الدعاء وتفسير الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومن عادة ابن خزيمة أنه يحيل كثيرًا إلى مؤلفاته ويذكرها في ثنايا كتبه، كما هو واضح في كتابيه: التوحيد، وصحيحه: 1- كتاب الأشربة1. 2- كتاب الإمامة2. 3- كتاب الأهوال3. 4- كتاب الإيمان4. 5- كتاب الأيمان والنذور5. 6- كتاب البر والصلة6.   1 التوحيد "ص235". 2 التوحيد "ص78"، صحيح ابن خزيمة "1/ 231، 262، 263، 276". 3 التوحيد "184". 4 التوحيد "ص38، 117، 224، 227، 249"، صحيح ابن خزيمة "1/ 21، 160". 5 التوحيد "ص232". 6 التوحيد "235". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 7- كتاب البيوع1. 8- كتاب التفسير2. 9- كتاب التوبة3. 10- كتاب التوكل4. 11- كتاب الجنائز5. 12- كتاب الجهاد6. 13- كتاب الدعاء7. 14- كتاب الدعوات8. 15- كتاب ذكر نعيم الجنة9. 16- كتاب ذكر نعيم الآخرة10. 17- كتاب الصدقات11. 18- كتاب الصدقات من كتابه الكبير12. 19- كتاب صفة نزول القرآن13. 20- كتاب المختصر من كتاب الصلاة14. 21- كتاب الصلاة الكبير15. 22- كتاب الصلاة16.   1 صحيح ابن خزيمة "1/ 105". 2 التوحيد "ص134"، صحيح ابن خزيمة "1/ 226". 3 التوحيد "ص51". 4 التوحيد "ص97". 5 التوحيد "ص12، 79، 242". 6 التوحيد "ص29، 153، 239". انظر أيضًا: تذكرة الحفاظ "724". 7 التوحيد "ص5، 10، 80، 107". 8 التوحيد "ص25". 9 التوحيد "ص71". 10 التوحيد "ص207، 208". 11 التوحيد "ص43". 12 التوحيد ص104" 13 التوحيد "ص98". 14 التوحيد "ص227". 15 التوحيد "ص200، 249، 312". 16 التوحيد "ص25، 78، 245". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 23- كتاب الصيام1. 24- كتاب الطب والرقى2. 25- كتاب الظهار3. 26- كتاب الفتن4. 27- كتاب القراءة خلف الإمام5. 28- فضل علي بن أبي طالب6. 29- كتاب القدر7. 30- كتاب الكبير8. 31- كتاب اللباس9. 32- كتاب معاني القرآن10. 33- كتاب المناسك11. 34- كتاب الورع12. 35- كتاب الوصايا13. قال الأعظمي: "وبعد تقصي أسماء هذه الكتب من كتابي ابن خزيمة يعترضني تساؤل: ترى هل ألَّف ابن خزيمة هذه الكتب، وسماها بهذه الأسماء، وكل منها كتاب مستقل قائم بذاته، أم أنها في الواقع أسماء لأجزاء صغيرة تكوِّن -مجتمعة- كتابًا واحدًا كبيرًا، أم البعض منها كتب كبيرة والبعض الآخر أجزاء من كتاب كبير؟ ولعل الاحتمال الأخير هو الأرجح، والذي دفعنا لهذا أننا نرى أسلوب المحدثين في كتبهم على هذه الشاكلة، كل كتاب منها يشتمل على عديد من الكتب، فمثلًا كتاب صحيح البخاري يشتمل على:   1 التوحيد "ص9". 2 التوحيد "ص109". 3 التوحيد "ص32، 82". 4 التوحيد "ص32، 115". 5 انظر: السنن الكبرى للبيهقي "2/ 170". 6 التوحيد "ص23". 7 التوحيد "ص4، 38، 39، 40، 55". 8 صحيح ابن خزيمة "ص1/ 290، 342". 9 صحيح ابن خزيمة "1/ 382". 10 التوحيد "ص185، 199، 238"، صحيح ابن خزيمة "1/ 249، 251". 11 التوحيد "ص154". 12 التوحيد "ص232". 13 التوحيد "ص13". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 1- كتاب الإيمان. 2- كتاب العلم. 3- كتاب الوضوء. 4- كتاب الغسل. 5- كتاب الحيض. 6- كتاب التيمم. 7- كتاب الصلاة. وهلم جرًّا، وابن خزيمة لا بد أنه سلك هذا الطريق، ويتقوى هذا الظن بمقارنة كتاباته بعضها ببعض، فمثلًا: 1- يقول ابن خزيمة في كتاب التوحيد "ص42": " ... عن سعيد بن يسار أبي الحباب أنه سمع أبا هريرة بهذا الحديث موقوفًا ... خرجت هذا الباب في كتاب الصدقات أول باب من أبواب صدقة التطوع". والحديث المذكور أعلاه نجده في الورقة "246ب" من صحيح ابن خزيمة، جماع أبواب صدقة التطوع، باب في فضل الصدقة. 2- ذكر ابن خزمية في كتاب التوحيد "ص78" شهود الملائكة صلاة العصر وصلاة الفجر، فقال: "خرجت هذا الباب بتمامه في كتاب الصلاة وكتاب الإمامة". والحديث المشار إليه موجود بتمامه في كتاب الصلاة من صحيح ابن خزيمة، الحديث رقم "321، 322"، وأشار إلى هذا الحديث في كتاب الإمامة، فقال: "أمليت في أول كتاب الصلاة". 3- وفي كتاب التوحيد "ص9"، ذكر حديثًا في فضائل الصيام، وقال: "قد أمليت أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ... بعضه في كتاب الصيام وبعضه في كتاب الجهاد"، ونجد الحديث ذاته موجودًا في صحيح ابن خزيمة ورقة "217ب". إذن من المحتمل أن بعض هذه الكتب التي أوردت أسماءها في قائمة مؤلفات ابن خزيمة أجزاء من كتبه الكبيرة1.   1 مقدمة صحيح ابن خزيمة لمحمد مصطفى الأعظمي "1/ 14، 15"، طبع المكتب الإسلامي، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 الطحاوي: هو: أبو جعفر بن أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك، الأزدي، المصري، الطحاوي "239-321هـ". نشأ في بيت علم وفضل، وكان شافعيًّا، ثم تحول بعد سن العشرين إلى المذهب الحنفي، وكان ذا علم وفقه، عارفًا بالقراءات، واسع المعرفة بطرق الحديث ومتونه وعلله وأحواله ورجاله. - من مصنفاته في الحديث وعلومه: "شرح معاني الآثار": وسبب تأليفه أن بعض أصحاب طلب منه أن يصنف كتابًا في الآثار المأثورة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأحكام التي يتوهم أهل الإلحاد والزندقة أن بعضها ينقض بعضًا لقلة علمهم بناسخها ومنسوخها، فصنف هذا الكتاب وجعله أبوابًا، وذكر في كل باب ما فيه من الناسخ والمنسوخ وتأويل العلماء وشرحه ابن قطلوبغا "ت 879هـ" في كتاب "الإيثار برجال معاني الآثار". وأيضًا شرحه العيني "ت 855هـ". وله أيضًا: "مشكل الآثار"، و"صحيح الآثار"، و"سنن الشافعي"، و"الرد على كتاب المدلسين"، و"جزء في التسوية بين حدثنا وأخبرنا"، وقد لخصه ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله"2، ونقل العيني بعضها في "نخب الأفكار"   1 جامع بيان العلم وفضله "2/ 177-180" الطبعة الأولى بالمطبعة المنيرية، بمصر. 2 نخب الأفكار في تنقيح معاني الآثار "ق 1/ أ" مخطوط بدار الكتب تحت رقم "526" حديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 عند شرحه لكلمة الآثار في أول الكتاب1، و"شرح الآثار" لمحمد بن الحسن، الذي ذكر فيه ما رُوي عن أبي حنيفة من الآثار، و"المشكاة".   1 كشف الظنون "2/ 1830" وله مصنفات أخرى منها في العقيدة: الرسالة المشهورة المسماة "عقيدة الطحاوي" أو "بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة"، وكتاب في النحل وأحكامها وصفاتها وأجناسها وما ورد فيها من خبر، "في نحو أربعين جزءًا". وله في القرآن: "أحكام القرآن" "في نحو عشرين جزءًا"، ونقل صاحب كشف الظنون عن القاضي عياض في الإكمال أن للطحاوي نوادر في القرآن "في نحو ألف ورقة"، ولعل "أحكام القرآن" و"نوادر القرآن"، و"تفسير القرآن" له، لعلها جميعًا أسماء لكتاب واحد. وله في الفقه: "المختصر الكبير" في الفروع، و"المختصر الصغير" في الفروع، و"اختلاف العلماء"، و"الشروط الكبير" و"الشروط الأوسط" و"الشروط الصغير" أو "مختصر الشروط" و"شرح الجامع الكبير لمحمد بن الحسن"، و"شرح الجامع الصغير" له أيضًا، و"النوادر الفقهية" "في عشرة أجزاء"، وجزء في "حكم أرض مكة"، وجزء في "قسم الفيء والغنائم"، وجزء في "الرزية" وجزآن في "الرد على عيسى بن آبان"، وجزآن في "اختلاف الروايات على مذهب الكوفيين"، وكتاب "الأشربة"، و"المحاضر والسجلات"، و"الوصايا والفرائض"، والخطابات" في الفروع. وله في التاريخ "التاريخ الكبير"، و"أخبار أبي حنيفة وأصحابه"، أو "مناقب أبي حنيفة"، و"النوادر والحكايات" "في نحو عشرين جزءًا" و"الرد على أبي عبيد فيما أخطأ فيه في كتاب الأنساب". فهذه هي مصنفات العلامة الطحاوي كما أحصاها المؤرخون، وهي تربو على الثلاثين كتابًا، وللأسف لم يطبع منها إلا القليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الدارقطني : هو: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن دينار بن عبد الله الحافظ "ت 385هـ" إمام عصره في الجرح والتعديل، وحسن التأليف، واتساع الرواية. - ومن مصنفاته1: 1- "الإلزامات على صحيحي البخاري ومسلم" جمع فيه ما وجده على شرط الشيخين من أحاديث لم يذكرها الشيخان، وألزمهما ذكرها، ورتبه على المسانيد "مطبوع في مجلد لطيف مع كتابه التالي" وهو: 2- التتبع: انتقد فيه عليهما أحاديث رأى خروجها على شرطيهما، وفي تتبعه على الشيخين نظر، وقد رد عليه الحافظ ابن حجر في هدى الساري، والإمام النووي في شرح صحيح مسلم. 3- العلل "طبع بعضه". 4- السنن: "وهو مطبوع أكثر من طبعة، وصنيعه فيه يدل على تمكنه من الفقه ومعرفته بالاختلاف في الأحكام. 5- الغرائب والأفراد "مخطوط". 6- أحاديث الصفات، أو الصفات "مطبوع". 7- أحاديث النزول "مطبوع". 8- كتاب الأسخياء "مخطوط". 9- "عشرون حديثًا من كتاب الصفات". 10- كتاب الرؤيا "مطبوع".   1 راجع مصنفات الدارقطني في تاريخ التراث العربي، لفؤاد سزكين "1/ 511-515"، وكشف الظنون لحاجي خليفة "55". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 11- كتاب غريب الحديث. 12- كتاب الفوائد المنتقاة الحسان لابن معروف. 13- كتاب الفوائد المنتخبة أو المنتقاة. 14- كتاب الفوائد المنتقاة من الغرائب الحسان. 15- ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايته من الثقات عند البخاري. 16- أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايته عند مسلم "مطبوع". 17- كتاب أسماء الصحابة التي اتفق فيها البخاري ومسلم، وما انفرد به أحدهما عن الآخر. 18- كتاب رجال البخاري ومسلم. 19- "بيان ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وما انفرد به أحدهما عن الآخر" رسالة صغيرة. 20- ذكر قوم أخرج لهم البخاري ومسلم في صحيحهما، وضعفهم النسائي في كتاب الضعفاء. 21- المؤتلف والمختلف "مطبوع". 22- الأحاديث التي خُولف فيها الإمام مالك. 23- سؤالات أبي ذر عبد بن أحمد الهروي للدارقطني. 24- سؤالات الحاكم النيسابوري للدارقطني "مطبوع". 25- سؤالات عبد الغني بن سعيد الأزدي له. 26- سؤالات حمزة بن يوسف السهمي له "مطبوع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 27- سؤالات أبي نعيم له "مخطوط بدار الكتب المصرية". 28- السؤالات لأبي عبد الرحمن السلمي له. 29- أخبار عمرو بن عبيد. 30- كتاب في بيان نزول الجبار كل ليلة في رمضان، وليلة النصف من شعبان، ويوم عرفات إلى السماء الدنيا. 31- "الإخوة والأخوات" "مطبوع". 32- كتاب فيه أربعون حديثًا من مسند بريد بن عبد الله بن أبي بردة. 33- الأحاديث الرباعيات. 34- تصحيف المحدثين، ذكره ابن خير الإشبيلي في فهرسة ما رواه عن شيوخه "ص481". 35- الْمُدَبَّج" في المصدر السابق. 36- "الجهر بالبسملة في الصلاة" أشار إليه الفخر الرازي في كتابه أحكام البسملة، والسيوطي في تدريب الراوي "1/ 336". 37- حديث أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المزكي النيسابوري عن شيوخه. 38- المستجاد من الحديث. 39- الضعفاء والمتروكين "مطبوع". 40- الجرح والتعديل، نسبه له ابن حجر في التهذيب "2/ 14"، "5/ 267، 268". 41- غرائب مالك، ذكره ابن حجر في لسان الميزان "4/ 60، 77". 42- الذيل على التاريخ الكبير للبخاري، ذكره السخاوي في "الإعلان بالتوبيخ" "ص220، 222". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 43- ذكر من روى عن الشافعي، ذكره أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء "ص103"1. فالدارقطني بهذه المصنفات القيمة المكتبة الإسلامية، وأثرى جانب الحديث خاصة فيها.   1 وله أيضًا: "فضائل الصحابة ومناقبهم"، و"القراءات"، ذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد "12/ 34"، وقال عنه: سمعت بعض من يعتني بعلوم القرآن يقول: "لم يسبق أبو الحسن إلى طريقته التي سلكها في عقد الأبواب المقدمة من أول القراءات، وصار القراء بعده يسلكون طريقته في تصانيفهم، ويحذون حذوه". فالدارقطني -كما قال ابن الجوزي- "اجتمع له -مع معرفة الحديث- العلم بالقراءات، والنحو، والفقه، والشعر، مع الأمانة، والعدالة، وصحة العقيدة" "التاريخ لابن كثير 11/ 317". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 الطبراني : هو: أبو القاسم سليمان بن أحمد "ت 360هـ"، إمام كبير، وحافظ جليل، واسع الرواية، كثير الشيوخ. - من مصنفاته: المعاجم الثلاثة: الكبير، والأوسط، والصغير "مطبوعة". المعجم الكبير: جمع فيه مسانيد الصحابة مرتبين على حروف المعجم، ما عدا مسند أبي هريرة، فإنه أفرده في مصنف، يقال: جمع فيه "520.000" خمسمائة وعشرين ألف حديث، وإذا أُطلق المعجم في كلام العلماء فالكبير هو المراد. المعجم الأوسط: صنفه مرتبًا على أسماء شيوخه، وبلغوا نحو ألفي رجل، فأتى عن كل شيخ بما له من الغرائب والعجائب، فهو نظير كتاب الأفراد للدارقطني، ويقال: فيه ثلاثين ألف حديث، وقد تعب في تصنيفه جدًّا، فكان يقول: "هذا الكتاب روحي". قال الذهبي: "وفيه كل نفيس: عزيز ومنكر". المعجم الصغير: جمع فيه نحو ألف وخمسمائة حديث عن ألف شيخ. - ومن مصنفاته أيضًا: كتاب الدعاء" "مطبوع". كتاب "السنة". كتاب "حديث الشاميين" "مطبوع". كتاب "الطوالات" "طبع مع المعجم الكبير". كتاب "النوادر". كتاب "مسند سفيان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 كتاب "الأوائل". وكتاب في "التفسير". كتاب "مسند شعبة". كتاب "مسند العبادلة". كتاب "مسند أبي هريرة". كتاب "أخبار عمر بن عبد العزيز". كتاب "عشرة النساء" "مطبوع". كتاب "فضل رمضان". كتاب "الفرائض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ابن حبان : هو: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد، أبو حاتم البستي التميمي الحافظ "ت 354هـ". قال فيه الحاكم: "كان من أوعية العلم، والفقه، والحديث، واللغة، والوعظ، من عقلاء الرجال". وقال ابن السمعاني: إمام عصره، رحل فيما بين الشاش والإسكندرية. - ومن مصنفاته المطبوعة: المسند الصحيح: واسمه الكامل كما سماه ابن حبان: "المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قَطْع في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقليها". قال الخطيب البغدادي: كان ثقة نبيلًا، وله التصانيف الكثيرة منها: المسند الصحيح المسمى: الأنواع والتقاسيم، قال فيه: لعلنا كتبنا عن ألف شيخ ما بين الشاش والإسكندرية. وكتابه هذا على ترتيب مخترع، فلا هو على الأبواب، ولا هو على المسانيد، رتَّبه على خمسة أقسام؛ وهي: الأوامر، والنواهي، والأخبار، والإباحات، وأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- ونوَّع كل واحد من هذه الخمسة إلى أنواع؛ لذا كان الكشف في كتابه عسيرًا جدًّا. وقد رتبه بعض المتأخرين؛ وهو: علاء الدين علي بن بَلْبَاز الفارسي المتوفَّى سنة "937هـ" على الأبواب، وسماه: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان". قالوا: وأصح مَن صنَّف في الصحيح المجرد بعد الشيخين ابن خزيمة فابن حبان، وقد نسبوا إليه التساهل في التصحيح، إلا أن تساهله أقل من تساهل الحاكم. قال الحازم: "ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم"1.   1 وانظر هذه المسألة بالتوضيح في: طبقات الشافعية "2/ 141"، لسان الميزان "5/ 112 وما بعدها"، توجيه النظر "ص140، 325"، الرسالة المستطرفة "ص16 وما بعدها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ومن مصنفاته المطبوعة أيضًا: "مشاهير علماء الأمصار"، و"الثقات"، و"معرفة المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين"، و"روضة العقلاء ونزهة الفضلاء". وقال شعيب الأرناءوط في مقدمته لكتاب "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" للأمير علاء الدين علي بن بلباز الفارسي "ت 739هـ" طبع مؤسسة الرسالة "1/ 28، 29": "إن الناظر في تآليف ابن حبان يجد أنه لم يكن حاطب ليل، ولا ناقلًا للنصوص من هنا وهناك لجمعها في مكان واحد فحسب؛ وإنما يلحظ من خلال تآليفه عقلًا محققًا، وفكرًا عميقًا، ونظرًا ثاقبًا، كان يشبع المسائل بحثًا وتمحيصًا، ودراسة واستقصاء واستنباطًا، وتصانيفه تشهد على تلك الحدود العظيمة، والمعاناة الشديدة التي بذلها لإخراج مصنفاته تنبض بالأصالة والإبداع، وهذا ما دعا ياقوت إلى القول كما سبق: أخرج من علوم الحديث ما عَجَزَ عنه غيره، وشهد بذلك أيضًا تلميذه الحاكم، فقال: صنَّف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يسبق إليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ابن السكن : أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن، البغدادي، نزيل مصر، والمتوفَّى بها "353 هـ"، حافظ كبير، وأحد الأئمة، سمع بالعراق، والشام، والجزيرة، وخراسان، وما رواء النهر، وكان ثقة حجة، تُوفي عن تسع وخمسين سنة. - من مصنفاته: "الصحيح المنتقى"، ويُسمى أيضًا: "السنن الصحاح المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم"، ألفه على الأبواب الفقهية، وضمنه ما صح عنده من السنن المأثورة مع حذف الأسانيد قال: وما ذكرته في كتابي هذا مجملًا فهو مما أجمعوا على صحته، وما ذكرته بعد ذلك -مما يختاره أحد من الأئمة الذين سميتهم- فقد بينت حجته في قبول ما ذكره، ونسبته إلى اختياره دون غيره، وما ذكرته مما ينفرد به أحد من أهل النقل للحديث بينت علته، ودللت على انفراده دون غيره1.   1 كشف الظنون "1/ 510"، الرسالة المستطرفة "ص20، 21". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الحاكم النيسابوري "321-405هـ": هو: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد، المعروف بالحاكم النيسابوري، أحد الحفاظ الكبار المعدودين، برع في معرفة الحديث وفنونه وصنف التصانيف الكبيرة، وهو ثقة حجة. - من مصنفاته: المستدرك على الصحيحين، والعلل، والأمالي، وفوائد الشيوخ، وأمالي العشيات، ومعرفة علوم الحديث، وغيرها من المصنفات التي بلغت "1500" ألفًا وخمسمائة جزء1.   1 تاريخ ابن كثير "11/ 355"، مفتاح السُّنَّة "ص71". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 - وأحاديثه في "المستدرك على الصحيحين" على قسمين: ق0. سم أودع فيه الأحاديث التي رأى أنها على شرط الشيخين، أو أحدهما، ولم يخرجاه، وقسم أودع فيه الأحاديث التي يرى أنها صحيحة الإسناد. فأما القسم الأول: فهو الذي يقول فيه: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، أو "صحيح على شرط البخاري "أو مسلم" ولم يخرجاه". وأما القسم الثاني: فهو الذي يقول فيه: "صحيح الإسناد"، دون أن يذكر أنه على شرطهما، أو على شرط أحدهما، وقد يورد في القسم الثاني ما لم يصح عنده منبهًا عليه. وقد عرف الحاكم بالتساهل في الحكم على الأسانيد؛ ولذا لخص الذهبي "ت 748هـ" المستدرك، وتعقبه في العديد من أحاديثه، وبيَّن أسباب ضعفها؛ ولكنه وافقه في التصحيح على معظمه. وزعم أبو سعد الماليني بأنه ليس في المستدرك حديث على شرط الشيخين، وهذا زعم باطل، رد عليه الحافظ الذهبي مبينًا أن في المستدرك جملة كبيرة من الأحاديث على شرط الشيخين، وأخرى كبيرة على شرط أحدهما، ويبلغ مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه الربع مما صح سنده، وإن كان فيه علة، وبقي الربع الأخير الذي فيه المناكير والواهيات، وما حكم عليه بعضهم بالوضع "مثل ابن الجوزي الذي ذكر في الموضوعات نحو ستين حديثًا". وقد اعتذر الحافظ ابن حجر العسقلاني عن التساهل الواقع في مستدرك الحاكم فقال: إنما وقع للحاكم التساهل؛ لأنه سود الكتاب لينقحه، فعاجلته المنية، ولم يتيسر له تحريره وتنقيحه قال: وقد وجدت قريبًا من نصف الجزء الثاني من تجزئة ستة من المستدرك: "إلى هنا انتهى إملاء الحاكم"1.   1 نقلًا عن تدريب الراوي "1/ 132" طبع مؤسسة الرسالة، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ثم قال -أي الحافظ ابن حجر: "وما عدا ذلك من الكتاب لا يؤخذ عنه إلا طريق الإجازة" ... ثم قال: "والتساهل على قدر المملي قليل جدًّا بالنسبة إلى ما بعده"1. وقد علل السخاوي وجود الأحاديث الضعيفة، وعدة موضوعات في المستدرك، بأن الذي حمل الحاكم على ذلك تعصبه لما رُمي به من التشيع، وقد يكون السبب أنه صنفه في أواخر عمره، وحُكي أنه حصل للحاكم تغير في آخر عمره، وأصابته غفلة أثناء تأليفه المستدرك2. وأرى أن الأحاديث التي صححها الحاكم ووافقه على تصحيحها الحافظ الذهبي صحيحة؛ لأن الحاكم إمام في الحديث له مكانته التي لا يعترض عليها معتدل، وكون الذهبي يوافقه على التصحيح، فهذا يجعلنا نطمئن إلى صحة الحديث الذي يوافقه على تصحيحه، ويؤكد لنا الحاكم أنه لم يكن متساهلًا فيه، خاصة وأن الذهبي حجة في هذا الباب، فإن وجد حديث صححه الحاكم، وسكت عنه الذهبي، ولم نجد إمامًا وافق الحاكم على تصحيحه، "إن لم يكن من قبيل الصحيح، فهو من قبيل الحسن يحتج به ويعمل به؛ إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه" كما قال الحافظ ابن الصلاح3؛ وذلك لأن إمامة الحاكم في علوم الحديث -مع عدم تعقب الحافظ الذهبي عليه بالتضعيف- كفيل بقبول الحديث، خاصة إذا كان هذا الحديث لم يتناوله أحد من الأئمة المعتمدين في الحكم على الحديث الشريف، أما صنيع المنتسبين لعلوم الحديث من المتأخرين فلا يلتفت إليهم، ولا يؤخذ بأحكامهم؛ لضعفهم وقلة تخصصهم وعدم خبرتهم وسوء فهمهم من جهة، ولتسرعهم في الأحكام من جهة أخرى4.   1 المصدر السابق "1/ 132". 2 راجع: فتح المغيث "1/ 40، 41"، مكتبة السنة بالقاهرة - الطبعة الأولى "1415هـ-1995م". 3 راجع: المقدمة "ص11" في النوع الأول. 4 كما صنع الألباني وأمثاله في التجني على المئات الأحاديث النبوية الشريفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الفصل الثالث: منهج التصنيف في القرن الخامس إلى السقوط الخلافة العباسية [من عام "400هـ" حتى عام "656هـ"] الجمع بين الصحيحين ... الفصل الثالث: منهج التصنيف في القرن الخامس إلى سقوط الخلافة العباسية "من عام 400هـ حتى عام 656هـ" كان القرن الرابع امتدادًا للقرن الثالث من حيث وجود الأئمة والحفاظ الذين كانوا في علوم السُّنة، والذين كانوا يدونون كتبهم من محفوظاتهم ومسموعاتهم عن شيوخهم. وبمطلع القرن الخامس أصبح العمل قاصرًا على الجمع، أو الترتيب، أو التهذيب لكتب السابقين، ومن ذلك: أ- الجمع بين الصحيحين: ام بعض العلماء بالجمع بين أحاديث صحيحي البخاري ومسلم في مصنف واحد، ومن العلماء الذين جمعوا بينهما: 1- إسماعيل بن أحمد، المعروف بابن الفرات "ت 414هـ". 2- محمد بن نصر الحميدي الأندلسي "ت 488هـ". ويقال: إنه زاد عليهما زيادات. 3- الحسين بن مسعود البغوي "ت 516هـ". 4- محمد بن عبد الحق الإشبيلي "ت 582هـ". 5- أحمد بن محمد القرطبي المعروف بابن أبي حجة "ت 642هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ب- الجمع بين الكتب الستة "الصحيحين، والموطأ، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي": 1- جمع بينها أحمد بن رزين بن معاوية العبدري السرقسطي "ت 535هـ" في كتابه "تجريد الصحاح"، لكنه لم يحسن في ترتيبه وتهذيبه، وترك بعضًا من حديث الستة، ولما جاء أبو السعادات المبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري الشافعي "544 -606 هـ" هذب كتابه، ورتب أبوابه، وأضاف إليه ما فاته من الأصول، وشرح غريبه، وبيَّن مشكل إعرابه، وخفيَّ المعنى وحذف أسانيده، ولم يذكر إلا راوي الحديث من صحابي أو تابعي، كما ذكر المخرج له من الستة، ولم يذكر من أقوال التابعين إلا النادر، ورتب أبوابه على حروف المعجم وسماه: "جامع الأصول لأحاديث الرسول"1، فجاء كتابًا عظيمًا سهل العسير وقرب البعيد، وهو بدار الكتب المصرية في عشرة أجزاء متوسطة. وقام بتحقيقه وعزو أحاديثه عبد القادر الأرناءوط، صدر عن دار الفكر ببيروت في أحد عشر مجلدًا بفهارسه. 2- وجمع بينها أيضًا عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي، والمعروف بابن الخراط "ت 582هـ".   1 اختصر جامع الأصول كثير من العلماء منهم محمد بن نصر المروزي "ت 682هـ"، وهبة الله بن عبد الرحيم الحموي "ت 718هـ"، وعبد الرحمن بن علي المعروف بابن الدبيع الشيباني الزبيدي "ت 944هـ"، وكتابه أحسن المختصرات، وهو مطبوع بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ج- الجمع بين أحاديث من كتب مختلفة : 1- "مصابيح السنة" للإمام حسين بن مسعود البغوي "ت 516هـ" جمع فيه "4484" من الأحاديث الصحاح والحسان، وهو يريد بالصحاح ما أخرجه الشيخان أو أحدهما، وبالحسان ما أخرجه1 أبو داود والترمذي وغيرهما، وما كان فيها من ضعيف أو غريب بيَّنه، ولا يذكر ما كان منكرًا أو موضوعًا، وقد اعتنى العلماء بهذه المصابيح عناية عظيمة، فشرحوها شروحًا كثيرة، وهذبها محمد بن عبد الله الخطيب، وذيل أبوابها، فذكر الصحابي الذي روى الحديث والكتاب الذي أخرجه، وزاد على كل باب من الصحاح والحسان فصلًا ثالثًا عدا بعض الأبواب، وكان ذلك سنة "737هـ"، وسمى كتابه هذا "مشكاة المصابيح"، وقد شرح المشكاة كثيرون منهم القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي سنة "685هـ".   1 هذا اصطلاح خاص به، وإلا ففي السنن الصحيح والحسن والضعيف. انظر: كشف الظنون "2/ 272". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 2- جامع المسانيد والألقاب، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي "ت 597هـ" جمع فيه بين الصحيحين، ومسند أحمد، وجامع الترمذي، وقد رتبه العباس أحمد بن عبد الله المكي المعروف بالمحب الطبري "ت 964هـ"1. 3 - "بحر الأسانيد" للإمام الحافظ الحسن بن أحمد السمرقندي "ت 491هـ" فيه مائة ألف حديث رتبة وهذبه، ويقال: إنه لم يقع في الإسلام مثله2.   1 المصدر السابق "1/ 295". 2 المصدر السابق "1/ 144". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 د- كتب منتقاة في أحاديث الأحكام والمواعظ، ومنها : 1- كتاب "منتقى الأخبار في الأحكام": للحافظ مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني، المعروف بابن تيمية، الحنبلي، في سنة "652هـ"، انتقاه من: صحيحي البخاري، ومسلم، ومسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، والسنن للنسائي، وأبي داود، وابن ماجه، واستغنى بالعزو إلى هذه الكتب عن الإطالة بذكر الأسانيد، وهو كتاب جليل الفائدة لولا إطلاقه العزو إلى الأئمة دون بيان درجة الحديث. وقد بيَّن ذلك محدث اليمن محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة "1250هـ" في كتابه "نيل الأوطار" الذي شرح به منتقى الأخبار، وهو مطبوع بمصر في ثمانية أجزاء. 2- السنن الكبرى للبيهقي: أحمد بن حسين المتوفَّى سنة "458هـ"، وهو مطبوع أكثر من طبعة، في عشرة مجلدات، وزيد في بعض الطبعات مجلد للفهارس. قال ابن الصلاح: ما تم كتاب في السُّنة أجمع للأدلة من كتاب "السنن الكبرى" للبيهقي، وكأنه لم يترك في سائر أقطار الأرض حديثًا إلا وقد وضعه في كتابه، وقد طبع في الهند، وعمل له في آخره فهرس بأسماء الصحابة والتابعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ومسانيدهم ومروياتهم، وللبيهقي أيضًا السنن الصغري، قيل: إنه لم يصنف في الإسلام مثلها "مطبوع حديثًا في أربعة مجلدات"1. 3- الأحكام الصغرى: للحافظ أبي محمد عبد الحق الإشبيلي، المعروف بابن الخراط "ت 582هـ" قال فيها: "جمعت في هذا الكتاب متفرقًا من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في لوازم الشرع وأحكامه وحلاله وحرامه، وفي ضروب من الترغيب والترغيب أخرجتها من كتب الأئمة وهداة الأمة، أبو عبيد الله مالك بن أنس، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، وبقية الكتب الستة، وفيها أحاديث من كتب أخرى"2. 4- عمدة الأحكام: للإمام الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد، المقدسي، الدمشقي، المتوفى سنة "600هـ" جمع فيها أحاديث الأحكام التي اتفق عليها البخاري ومسلم، وقد شرحها شرحًا وسطًا ابن دقيق العيد، وقد طبعت بمصر مع الشرح في أربعة أجزاء صغيرة. 5- الترغيب والترهيب: للحافظ الحجة عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله، المنذري، المتوفى سنة "656هـ"، وهو من أحسن الكتب في جمع الحديث،   1 ومن مصنفات البيهقي أيضًا: "معرفة السنن والآثار" "مطبوع في سبعة مجلدات"، و"القراءة خلف الإمام" "مطبوع في جزء"، و"الأسماء والصفات" "مطبوع في مجلدين"، و"المعتقد" "مطبوع في مجلد"، و"الزهد" "مطبوع في مجلد"، و"الخلافيات" "مطبوع في ثلاثة مجلدات"، و"نصوص الشافعي" "مطبوع في مجلدين"، و"البعث" "مطبوع في مجلد"، و"الترغيب والترهيب" "مطبوع في مجلد"، و"الدعوات" "مطبوع في مجلد"، و"دلائل النبوة" "مطبوع في أربعة مجلدات"، و"شعب الإيمان" "مطبوع في مجلدين، وطبعته دار الكتب العلمية في تسع مجلدات، منها اثنان للفهارس"، و"المدخل إلى السنة" "مطبوع في مجلد، وطبعته دار الكتب العلمية في تسع مجلدات، منها اثنان للفهارس"، و"المدخل إلى السنة" "مطبوع في مجلد"، و"الآداب" "مطبوع في مجلد"، و"فضائل الأوقات" "مطبوع في مجلد صغير"، و"الأربعين الكبرى" "مطبوع في مجلد صغير"، و"الأربعين الصغرى" و"الرؤية" "جزء مطبوع"، و"مناقب الشافعي" "مطبوع في مجلد"، و"مناقب أحمد" "مطبوع في مجلد"، و"فضائل الصحابة" "مطبوع في مجلد"، و"المبسوط في الفروع الشافعية" "مطبوع في عشرين مجلدًا". 2 كشف الظنون "1/ 45". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 هـ- كتب الأطراف : اهتم بعض العلماء بعمل ما يُسمى بكتب الأطراف، وطريقتهم فيها أن يذكروا طرفًا من الحديث يدل على بقيته، ثم هم يجمعون أسانيده إما على وجه الاستيعاب، وإما مقيدة بكتب مخصوصة، ومن هذه الكتب: 1- أطراف الصحيحين: للحافظ إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي، المتوفى سنة "400هـ". 2- وأطراف الصحيحين: لأبي محمد خلف بن محمد الواسطي سنة "401هـ"، قال الحافظ ابن عساكر: وكتاب خلف أحسنهما ترتيبًا ورسمًا وأقلهما خطأ ووهمًا، ويوجد بدار الكتب المصرية في أربعة مجلدات. 3- وأطرافهما أيضًا لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني سنة "430هـ". 4- أطراف السنن الأربعة: لأبي القاسم علي بن الحسن، المعروف بابن عساكر الدمشقي "571هـ" في ثلاثة مجلدات مرتبًا على حروف المعجم، واسمه "الأشراف على معرفة الأطراف". 5- أطراف الكتبة الستة1: لمحمد بن طاهر المقدسي "ت 507هـ"، ولكثرة أوهامه وترتيبه المختل، لخصه الحافظ شمس الدين محمد بن علي بن الحسين الحسيني الدمشقي "765هـ"، ورتبه أحسن ترتيب2.   1 وهي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه. 2 كشف الظنون "1/ 85، 92". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 الفصل الرابع: منهج التصنيف من سقوط الخلافة العباسية إلى عصرنا الحاضر المبحث الأول: السنة من عام 656هـ حتى عام 911 هـ مدخل ... الفصل الرابع: منهج التصنيف من سقوط الخلافة العباسية إلى عصرنا الحاضر وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: السُّنَّة من عام 656هـ حتى عام 911هـ ـ بعد سقوط الخلافة العباسية على أيدي التتار سنة "656هـ"، وبعد هزيمة التتار على أيدي المصريين في "عين جالوت" أصبحت القاهرة عاصمة الخلافة العباسية، وإن كانت السلطة الحقيقة في أيدي المماليك، وقبل نهاية القرن السابع الهجري أصبح الأتراك مسيطرين على جميع المماليك الإسلامية ما عدا البلاد المغربية التي كانت تخضع لبرابرة المغرب، وفي مستهل القرن الثامن الهجري بدأ ظهور العثمانيين في آسيا الصغرى "وتشمل تركيا الآن"، وأخذت الدولة العثمانية تتسع رقعتها وتستولي على ما جاورها من الممالك والدويلات حتى فتحوا القسطنطينية في منتصف القرن التاسع الهجري، واتخذوها عاصمة لهم، ثم فتحوا مصر، وأزالوا الخلافة العباسية، ولقبوا ملوكهم بالخلفاء، ومن هذا الوقت انتقلت الخلافة الإسلامية إلى القسطنطينية، وأصبحت مصر ولاية عثمانية، فضاع مركزها السياسي والعلمي. وسقطت دولة الأندلس، وانطفأ نور الإسلام في هذه البلاد بعد أن مكث بها نحوًا من ثمانية قرون. ثم أخذت دول أوربا الغاشمة تعمل جهدها على إضعاف المسلمين منتهزة غفلتهم واختلافهم، فأوقعت بينهم الفتنة حتى مزقت شمل الدولة الإسلامية، وقضت على الخلافة العثمانية، وعبثوا بحقوق المسلمين، وحجروا عليهم واستعبدوهم. وانعدمت الرحلة بين العلماء، وانقطع الاتصال العلمي بين سكان البلدان الإسلامية المختلفة بعدما كانت مثابة للناس وآمنًا -وخاصة العلماء- لنشر الدين، واللُّقْيَا، والاستفادة العلمية. وفيما يلي توضيح لمنهج العلماء وطريقتهم في خدمة السُّنَّة في هذه الفترة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 أولًا: منهج العلماء في خدمة السُّنَّة في هذه الفترة: نتيجة للأحداث التاريخية الخطيرة التي مرت بها الأمة الإسلامية خلال هذه الفترة، ضعفت همم العلماء عن الرحلة إلى الأقطار، فانقرضت الرواية الشفاهية، وحل محلها الإجازة والمكاتبة، اللهم إلا على أيدي أفراد قلائل جدًّا كانوا يرحلون إلى الأقطار، ويجلسون للإملاء، ويكتب عنهم أتباعهم وتلاميذهم الأمالي، ومن هؤلاء: - الإمام الكبير أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي الأثري "725-806هـ" حافظ العصر، وصاحب المصنفات النفيسة في الحديث الشريف، ومجالسه للإملاء تزيد على أربعمائة مجلس، قال تلميذه ابن حجر: "شرع في إملاء الحديث من سنة "796هـ" فأحيا الله به السُّنَّة بعد أن كانت داثرة، فأملَى أكثر من أربعمائة مجلس غالبها من حفظه متقنة، مهذبة، محررة، كثيرة الفوائد الحديثية". ومن مصنفاته: "المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" "مطبوع"، و"إكمال شرح الترمذي" لابن سيد الناس، و"طرح التثريب في شرح التقريب" أكمله بعده ولده ولي الدين العراقي "مطبوع"، و"التقييد والإيضاح" مطبوع"، و"ألفية الحديث وشرحها" "مطبوع"، و"المستخرج على المستدرك للحاكم" "مطبوع"، وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 - ومنهم الحافظ ابن حجر العسقلاني: وهو: شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن علي بن حجر الكناني، العسقلاني، أبو الفضل "ولد بمصر 773هـ"، ونشأ يتيمًا حيث توفي أبوه سنة "779هـ" في رجب، واهتم أولًا بالأدب والشعر حتى بلغ فيه الغاية، ثم طلب الحديث سنة "794هـ" فسمع ورحل، وبرع في الحديث، ولقد لازم في الحديث شيخه أبا الفضل العراقي، ولازم في الفقه والعربية شيخه الشمس بن القطان، ولازم في الفقه: الإبناسي، والبلقيني، وابن الملقن. واجتهد في حفظ الحديث الشريف ومعرفة العلل حتى صار سيد الحفاظ والمحدثين والمحققين، قال عنه الإمام السيوطي: "وختم به الفن"، وقال غيره: انتهت إليه الرحلة والرياسة في الحديث في الدنيا بأجمعها، فلم يكن في عصره حافظ سواه، ألف كتبًا كثيرة، وأملى أكثر من ألف مجلس، وأملى في خانقاه بيبرس نحوًا من عشرين سنة، وباشر القضاء في مصر في عهد الملك الأشرف. وتوفي ليلة السبت الموافق الثامن والعشرين من ذي الحجة، سنة "852هـ"، وله تصانيف جمة وكلها نفيسة؛ لأهميتها الكبيرة وفائدتها العظيمة، ومن هذه التصانيف: 1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، بدأ تصنيفه سنة "817هـ"، وانتهى منه في أول يوم من رجب سنة "842هـ" "مطبوع". 2- الإصابة في تمييز الصحابة "مطبوع". 3- لسان الميزان "مطبوع". 4- تهذيب التهذيب "مطبوع". 5- تقريب التهذيب "مطبوع". 6- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة "مطبوع". 7- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة "مطبوع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 8- شرح نخبة الفكر "مطبوع". 9- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه "مطبوع". 10- تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس "مطبوع". 11- القول المسدد في الذب عن المسند للإمام أحمد "مطبوع". 12- تغليق التعليق "مطبوع". 13- الوقوف على ما في صحيح مسلم من الموقوف "مطبوع". 14- ردع المجرم عن سب المسلم "مطبوع". 15- النكت على ابن الصلاح "مطبوع". 16- تخريج أحاديث الرافعي والهداية والكشاف "مطبوع". 17- تسديد القوس على مسند الفردوس "مطبوع". 18- نزاهة الألباب في الألقاب "مطبوع". 19- التشويق إلى وصل التعليق. 20- المقترب في المضطرب. - ومنهم: تلميذ الحافظ ابن حجر العسقلاني، وهو: الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي القاهري الشافعي1 "ولد في ربيع الأول 831هـ"، وتوفي بالمدينة يوم الجمعة 17 من ذي القعدة سنة "902هـ". جَدَّ في الرحلة، واهتم بملازمة شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وسمع منه الكثير من الحديث، وكان أكثر الآخذين عنه والمستفيدين منه، حتى حمل عنه ما لم يشاركه فيه غيره.   1 راجع ترجمته في: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع "8/ 2- 32"، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع "2/ 184"، الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة "1/ 53، 54"، شذرات الذهب في أخبار من ذهب "8/ 15- 17"، فهرس الفهارس "2/ 335- 338"، تاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشر "ص18- 23"، ونظم العقيان في أعيان الأعيان، للسيوطي "ص152، 153"، وثبت أبي جعفر أحمد بن علي البلوي "ص375"، وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 قال الشوكاني في "البدر الطالع"1: "وبالجملة فهو من الأئمة الكبار، حتى قال تلميذه جار الله بن فهد: ... والله العظيم لم أرَ في الحفاظ المتأخرين مثله، ويعلم ذلك كل من اطلع على مؤلفاته، أو شاهده، وهو عارف بفنه، منصف في تراجمه، ورحم الله جدي حيث قال في ترجمته: إنه انفرد بفنه، وطار اسمه في الآفاق به، وكثرت مصنفاته فيه وفي غيره، وكثير منها طار شرقًا وغربًا، شامًا ويمنًا، ولا أعلم الآن من يعرف علوم الحديث مثله، ولا أكثر تصنيفًا ولا أحسن، وكذلك أخذها عنه علماء الآفاق من المشايخ والطلبة والرفاق، وله اليد الطولى في المعرفة بأسماء الرجال، وأحوال الرواة، والجرح والتعديل، وإليه يُشار في ذلك، وقد قال بعض العلماء: لم يأتِ بعد الحافظ الذهبي مثله، سلك هذا المسلك، وبعده مات فن الحديث، وأسف الناس على فقده، ولم يخلف بعده مثله". وقد سمع الكثير جدًّا على المسندين والشام والحجاز، وانتقى وخرَّج لنفسه ولغيره. وقال السخاوي في كتابه "فتح المغيث": "أمليت بمكة وبعدة أماكن من القاهرة وبلغ عدة ما أمليته من المجالس إلى الآن نحو الستمائة والأعمال بالنيات". وقد بدأ السخاوي التصنيف قبل بلوغه التاسعة عشر من عمره. ذكر أبو جعفر البلوي في "ثبته"2 أن علي بن عياد البكري أخبره أن السخاوي كتب له إجازة عامة وأحاله على فهرسته، وأخبر أن له مائة وستين تأليفًا، وأن بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة رجال في الحديث. ونص السخاوي في "الضوء اللامع"3 أن ذلك كان سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة، وظل يواصل التصنيف حتى بلغت مصنفاته عند وفاته نيفًا وأربعمائة، كما ذكر الكتاني في "فهرس الفهارس"4.   1 البدر الطالع "2/ 185". 2 "ص375". 3 "5/ 273". 4 "2/ 335". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ومن مصنفاته المطبوعة: "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، و"الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ"، و"المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة"، و"فتح المغيث شرح ألفية الحديث"، و"القول البديع في أحكام الصلاة على الحبيب الشفيع، و"التحفة اللطيفة في أخبار المدينة الشريفة، و"الابتهاج بأذكار المسافر والحاج"، و"تخريج أحاديث العادلين"، و"الفخر المتوالي فيمن انتسب للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الخدم والموالي". - ومنهم: الإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر محمد بن سابق الدين، الخضيري، السيوطي "849-911هـ" "الإمام، والحافظ، والمحدث، والمؤرخ، والأديب، والمفسر .... ". لما حج السيوطي شرب من ماء زمزم ليصل في الفقه إلى رتبة الحافظ سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر العسقلاني، وكان يقول: "لو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفًا بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية ومداركها ونقوضها وأجوبتها لقدرت على ذلك من فضل الله". ولما بلغ أربعين سنة اعتزل الناس، وخلا بنفسه في روضة المقياس على النيل منزويًا عن الناس، فألف أكثر كتبه، وكان الأغنياء والأمراء يزورونه ويعرضون عليه الأموال والهدايا فيردها، وطلبه السلطان مرارًا فلم يحضر إليه، وأرسل إليه هدايا فردها، وبقي على ذلك إلى أن مات. وقد أحصيت مصنفاته في أحد الفهارس فبلغت "725" مؤلفًا، منها الكتاب الضخم، ومنها الرسالة الصغيرة. - ومنهم: أبو عبد الله ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي السعدي الصالحي "569هـ-643هـ" سمع من الدمشقيين، والبغداديين، والأصفهانيين، والنيسابوريين، والهرويين، وكتب عن أكثر من خمسمائة شيخ، وكتب، وصنف، وصحح، وجرح، ووثق وعدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 قال تلميذه عمر بن الحاجب: "شيخنا أبو عبد الله، شيخ وقته، ونسيج وحده في الرواية، مجتهدًا في العبادة". وقال الحافظ المزي: "الضياء أعلم بالحديث والرجال من الحافظ عبد الغني". روى عنه الحافظ ابن نقطة، وابن النجار، والبرزالي، وعمر بن الحاجب، وتوفي سنة "643هـ"، وله مصنفات في أكثر العلوم، وأجلها مصنفات في علم الحديث، ومنها كتابه المشهور "الأحاديث المختارة" التي صحح فيها ما لم يُسبق إلى تصحيحه وسُلِّم له قوله فيها. وذكر ابن تيمية والزركشي أن تصحيحه أعلى مزية من تصحيح الحاكم، وأنه قريب من تصحيح الترمذي وابن حبان. - ومنهم الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل عماد الدين بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير، القرشي "ت 774هـ" كانت له الرياسة في التفسير، والحديث، والتاريخ. ومن مصنفاته: جامع المسانيد، وعلوم الحديث، والتكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، والاجتهاد في طلب الجهاد، والبداية والنهاية، وتفسير القرآن العظيم. ومن الملاحظ أن هذه الفترة المشار إليها لم تكن طريقة الرواية بالمشافهة والإملاء منتشرة فيها مثل العصور الأولى، ولم يهتم بها إلا القلائل من أمثال الحافظ ابن حجر، ومن قبله الحافظ زين الدين العراقي، وكان جل علماء الحديث في هذا الدور يعكفون على كتب الأولين بالجمع، والشرح، والاختصار، والتخريج، ونحو ذلك، ثم انعدمت العناية بالحديث وعكف بعض العلماء على الفروع إلا قلائل في مختلف الأقطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ثانيًا: طريقة العلماء في خدمة الحديث الشريف في هذه الفترة عكف علماء الحديث في هذه الفترة على كتب السابقين، فتناولوها بالترتيب، والانتقاء، والتخريج، والتهذيب، والجمع بين الكتب، وعمل الأطراف، وإخراج الزوائد، وإليك توضيح ذلك: أولًا: تخريج أحاديث بعض المصنفات والمؤلفات المختلفة معظم العلماء لم يهتموا بتخريج الأحاديث التي تشتمل عليها مصنفاتهم في التفسير، أو العقيدة، أو الفقه، أو التصوف، ونحوها، وأيضًا لم يهتموا ببيان درجتها من صحة أو ضعف، فاهتم بعض العلماء في هذه الفترة بجمع أحاديث بعض هذه المصنفات في مصنف مستقل وبيَّن درجتها، ومن أمثلة ذلك: 1- تخريج أحاديث تفسير الكشاف: للحافظ جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي نسبة إلى زيلع "ميناء على ساحل البحر الأحمر"، الحنفي، المتوفى بالقاهرة سنة "762هـ"، استوعب ما في الكشاف من الأحاديث المرفوعة التي يذكرها الزمخشري على سبيل الإشارة، ولم يتعرض غالبًا للآثار الموقوفة، وهو غير الزيلعي عثمان بن علي بن محمد شارح الكنز في فقه الحنفية المتوفى سنة "743هـ". كان جمال الدين الزيلعي هذا مرافقًا لزين الدين العراقي في مطالعة الكتب الحديثية لتخريج الكتب التي كانا قد اعتنيا بتخريج أحاديثها، فالعراقي خرج أحاديث الإحياء للغزالي، والأحاديث التي يشير إليها الترمذي في كل باب، والزيلعي خرج أحاديث الكشاف وأحاديث الهداية في فقه الحنفية. 2- الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف: للحافظ ابن حجر العسقلاني، لخصه من تخريج الزيلعي، وزاد عليه ما أغفله من الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة، وهذا الكتاب مطبوع مع آخر جزء من الكشاف. 3- تخريج أحاديث المختصر: لابن الحاجب في الأصول لابن حجر، وابن الملقن، ومحمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي المتوفى سنة "724هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 4- تخريج أحاديث الهداية في فقه الحنفية: لجمال الدين الزيلعي المتقدم سماه "نصب الراية لأحاديث الهداية" وهو مطبوع بمصر، ومنه استمد كثير ممن جاء بعده من شُرَّاح الهداية، كما استمد منه الحافظ ابن حجر في تاريخه كثيرًا، وهو شاهد على تبحر جمال الدين الزيلعي في الحديث، وأسماء الرجال وسعة نظره في فروع الحديث، وللحافظ ابن حجر "الدراية في منتخب تخريج أحاديث الهداية" مطبوع بدهلي سنة "1350هـ". 5- تخريج أحاديث الإحياء للغزالي: لزين الدين العراقي، وله عليها تخريجان: كبير وصغير، والأخير هو المتداول المطبوع من كتاب الإحياء بمصر. 6- تخريج أحاديث الأذكار للنووي، والأربعين له، وأحاديث المصابيح، والمشكاة: للحافظ ابن حجر، ولم يكمل تخريج الأذكار، وسمى تخريج المصابيح والمشكاة "هداية الرواة إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة". 7- تخريج أحاديث "الشفاء للقاضي عياض": للحافظ السيوطي سماه "مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا". 8- تخريج أحاديث "منهاج الأصول للبيضاوي": لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي "727-771هـ". كما خرَّجه أحاديثه أيضًا ابن الملقن الحافظ والمحدث عمر بن علي أبو الحسن بن أحمد بن محمد الأنصاري الشافعي، الملقب بسراج الدين، الأندلسي الأصلي ثم المصري "723-804هـ"، والحافظ زين الدين العراقي "725-806هـ". هذا وكتب التخاريج كثيرة جدًّا، وهي رمز صادق لأعمال المحدثين وجهودهم في الكشف عن قيمة الأحاديث المتناثرة في كتب العلوم المختلفة حتى لا يغتر الناس بما يجدونه منها؛ بل ينبغي لهم الرجوع إلى تلك التخاريج ليعلموا الصحيح منها من العليل1.   1 الرسالة المستطرفة "ص139، 140". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ثانيًا: تخريج أحاديث اشتهرت على الألسنة يدور على ألسنة الناس في كل زمان أحاديث يذكرونها على سبيل الأمثال والحكم، بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها موضوع مكذوب، وأكثر ما يروج هذا على ألسنة العامة، ومن لا علم عندهم من الخاصة، ولم يهمل هذا النوع من الأحاديث أهل الحديث وحفاظ الأمة، فصنفوا فيها كتبًا، وبينوا درجتها، ومن ذلك كتاب: "المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة" للحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي "831-902هـ"، وقد اختصر المقاصد تلميذ السخاوي عبد الرحمن بن الديبع الشيباني وسمى مختصره: "تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على الألسنة من الحديث". ثالثًا: كتب الأطراف وهي الكتب التي تهتم بذكر طرف من الحديث يدل على بقيته، وغالبًا تكون مقيدة بكتب مخصوصة، ومنها: 1- كتاب "إتحاف المهرة بأطراف العشرة" للحافظ ابن حجر العسقلاني، والعشرة هي: الموطأ، مسند الشافعي، مسند أحمد، مسند الدارمي، صحيح ابن خزيمة، منتقى ابن الجارود، صحيح ابن حبان، مستدرك الحاكم، مستخرج أبي عوانة، شرح معاني الآثار، سنن الدارقطني، وإنما زاد العدد واحدًا؛ لأن صحيح ابن خزيمة لم يوجد منه سوى قدر ربعه. 2- أطراف مسند الإمام أحمد لابن حجر أيضًا، أفرده من "كتاب إتحاف المهرة"، ويسمى "أطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي". 3- أطراف الأحاديث المختارة للضياء المقدسي لابن حجر العسقلاني. 4- أطراف مسند الفرودس لابن حجر العسقلاني أيضًا. 5- أطراف صحيح ابن حبان لأبي الفضل العراقي. 6- أطراف المسانيد العشرة لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن أبي بكر الكناني البوصيري الشافعي نزيل القاهرة، المتوفى سنة "840هـ"، ويريد بالمسانيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 العشرة: مسند أبي داود الطيالسي، ومسند أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، ومسند مسدد بن مسرهد، ومسند محمد بن يحيى بن عمر العدني، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند أبي بكر بن أبي شيبة، ومسند أحمد بن منيع، ومسند عبد بن حميد، ومسند الحارث بن محمد بن أبي أسامة، ومسند أبي يعلى الموصلي1. رابعًا: كتب الزوائد لا يوجد مصنف في الحديث الشريف استوعب جميع الأحاديث النبوية، مهما كانت ضخامة المصنف أو كبر حجمه؛ وإنما جمع كل مصنف في كتابه ما تيسر له، أو ما رآه على شرطه، فجاء المتأخرون وأخرجوا الأحاديث الزائدة في كتاب على آخر في مصنفات خاصة لهم، وسموا ذلك بكتب الزوائد، ومن أشهر هذه الكتب ما يأتي: 1- كتاب زوائد سنن ابن ماجه على الكتب الخمسة. 2- كتاب إتحاف المهرة بزوائد المسانيد العشرة "أي: على الكتب الستة" والمسانيد العشرة هي: مسند أبي داود الطيالسي، والحميدي، ومسدد، وابن أبي عمر، وإسحاق بن راهويه، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، وعبد بن حميد، والحارث بن محمد بن أبي أسامة، وأبي يعلى الموصلي. 3- كتاب زوائد السنن الكبرى للبيهقي، على الكتب الستة أيضًا، ويسمى فوائد المنتقى لزوائد البيهقي. وهذه الكتب الثلاثة للحافظ شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن سليم البوصيري المتوفَّى سنة "840هـ". 4- كتاب المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر   1 الرسالة المستطرفة "ص126، 127". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 "773-852هـ" على الكتب الستة، والمسانيد الثمانية هي: مسند ابن أبي عمر العدني، ومسند أبي بكر الحميدي، ومسند مسدد، ومسند الطيالسي، ومسند ابن منيع، ومسند ابن أبي شيبة، ومسند عبد بن حميد، ومسند الحارث. وله أيضًا زوائد مسند البزار، ومسند أحمد على الكتب الستة. 5- كتاب "زوائد مسند أحمد على الكتب الستة" وكتاب "زوائد مسند البزار على الكتب الستة" ويسمى "البحر الزخار في زوائد مسند البزار"، وكتاب "زوائد مسند أبي يعلى الموصلي على الكتب الستة"، وكتاب "زوائد المعجم الكبير للطبراني على الكتب الستة"، واسمه "البدر المنير في زوائد المعجم الكبير"، وكتاب "زوائد المعجم الأوسط والأصغر" للطبراني على الكتب الستة واسمه "مجمع البحرين في زوائد المعجمين"، وهذه الكتب كلها للحافظ نور الدين أبي الحسين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي "بالمثلثة" المصري المتوفى سنة "807هـ"، وهو رفيق أبي الفضل العراقي في سماع الحديث وصهره وتلميذه، ثم إنه جمع هذه الكتب كلها في كتاب عظيم سماه "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" مع حذف الأسانيد والتمييز بين الصحيح والحسن والضعيف، فهو كتاب نفيس "مطبوع"، وللهيثمي أيضًا كتاب زوائد صحيح ابن حبان على الصحيحين في مجلد سماه "مورد الظمآن إلى زوائد ابن حبان"، وكتب الزوائد كثيرة جدًّا، وفي هذا القدر كفاية1. خامسًا: الجوامع وهي الجمع بين عدة مصنفات حديثية في مصنف واحد، ومنها: 1- كتاب "جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن" للحافظ إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي المعروف بابن كثير "ت 774هـ" جمع فيه بين الصحيحين،   1 كشف الظنون "1/ 38"، "2/ 230"، والرسالة المستطرفة "ص128، 129". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وسنن النسائي، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، ومسانيد: أحمد، والبزار، وأبي يعلى، والمعجم الكبير للطبراني. 2- جمع الجوامع للحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفَّى سنة "911هـ" جمع فيه بين الكتب الستة وغيرها، وقد قصد في كتابه هذا جميع الأحاديث النبوية بأسرها، وقال المناوي: إنه مات قبل أن يتمه، ولقد اشتمل على كثير من الأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة، وقد هذب ترتيبه علاء الدين علي بن حسام الهندي "ت 975هـ" في كتابه "كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال"، ثم اختصر كنز العمال في كتاب أسماه "منتخب كنز العمال"، وقد طبع المنتخب مع مسند أحمد بمصر، كما طبع كنز العمال بالهند، وقد اختصر السيوطي كتابه هذا، وسمى المختصر "الجامع الصغير في حديث البشير النذير"1. - كتب جامعة لأحاديث الأحكام: من ذلك ما يأتي: 1- كتاب "الإلمام في أحاديث الأحكام" لابن دقيق العيد المتوفى سنة "702هـ"، جمع فيه متون الأحكام مع حذف الأسانيد، وشرحه في كتابه الإمام، لكن لم يكمل شرحه، ويقال: إن شرحه هذا لم يؤلف أعظم منه في بابه لما فيه من الاستنباطات والفوائد2. 2- كتاب "تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد" للحافظ زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي "725-806هـ"، جمع فيه أحاديث الأحكام لابنه أبي زرعة، قال في خطبته: "وبعد، فقد أردت أن أجمع لابني أبي زرعة مختصرًا في أحاديث الأحكام يكون متصل الأسانيد بالأئمة الأعلام، فإنه يقبح بطالب الحديث ألا يحفظ بإسناده عدة من الأخبار يُستغنى بها عن حمل الأسفار في الأسفار، وعن مراجعة الأصول عند المذاكرة والاستحضار.   1 انظر: كشف الظنون "1/ 288"، والرسالة المستطرفة "ص137"، ومفتاح السُّنة "ص112". 2 انظر: كشف الظنون "1/ 113". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ولما رأيت صعوبة حفظ الأسانيد في هذه الأعصار لطولها، وكان قصر أسانيد المتقدمين وسيلة لتسهيلها رأيت أن أجمع أحاديث عديدة في تراجم محصورة، وتكون تلك التراجم فيما عد من أصح الأسانيد، إما مطلقًا على قول من عممه، أو مقيدًا بصحابي تلك الترجمة". ثم أخذ يبين طريقته في نقله عن الكتب وعزوه إليها، وهو كتاب عظيم في بابه، وقد شرح تقريب الأسانيد هذا مؤلفه نفسه، وقد بدأ الشرح بمقدمة في تراجم رجال إسناده، وضم إليهم من وقع له ذكر في أثناء الكتاب لعموم الفائدة حتى ترجم لولده أبي زرعة الذي ألف الكتاب من أجله، قال: "تقدم في خطبة هذا الشرح أني أترجم كل من ذكر فيه، فلم أرَ أن أخل بذكر من ألف له الكتاب، ولم أرَ إدخاله في رجال الكتاب لصغر سنه عن الشيوخ، فرأيت أن أذكره هنا، وأبين وقوع أحاديث الكتاب له عالية لاحتمال أن يطول عمره فيحدث به". ثم أخذ في ذكر ترجمته، ولكنه لم يكمل هذا الشرح، بل شرح منه عدة مواضع، وقد أكمله ابنه أبو زرعة المذكور المتوفى سنة "826هـ"، واسم هذا الشرح: "طرح التثريب في شرح التقريب" "مطبوع"، وهو كتاب حافل بالفوائد والأبحاث، جرى فيه مؤلفه على البحث العلمي الحر دون تعصب لمذهب من المذاهب وإن كان مذهبه، مما رفع من شأن هذا الكتاب، أضف إلى ذلك ما شحنه به من النكت الفقهية والفوائد الحديثية. 3- كتاب "بلوغ المرام من أحاديث الأحكام" لخاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة "852هـ"، اشتمل على ألف وأربعمائة حديث في الأحكام "مطبوع"، وقد شرحه خلق كثير منهم القاضي شرف الدين الحسين بن محمد المغربي، ومنهم محمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة "1182هـ" في كتاب سماه "سبل السلام" "مطبوع"، ومنهم الفاضل صديق خان سنة "1307هـ" في كتاب سماه "فتح العلام" "مطبوع". هذه هي أهم أعمال العلماء فيما يتعلق بجمع الحديث وترتيبه في هذا الدور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وما وراء ذلك فشروح ومختصرات لبعض كتب الحديث، ومع ذلك فهي لا تتجاوز في الغالب أهل القرن الحادي عشر الهجري وبعض الثاني عشر، أما فيما بعد ذلك إلى عصرنا فقد فترت الهمم حتى عن قراءة كتب الحديث فضلًا عن القيام بأعمال التدوين1.   1 راجع: الحديث والمحدثون، لمحمد أبو زهو "ص443-452". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 المبحث الثاني: دور العلماء في خدمة السُّنَّة بعد عام "911هـ" حتى آخر القرن الرابع عشر الهجري تعتبر هذه الفترة امتدادًا للفترة السابقة من حيث عكوف العلماء على كتب السابقين، للانتقاء منها، أو اختصارها، أو تهذيبها، أو الجمع بينها، أو تخريجها، أو عمل الأطراف والفهارس لها، أو إخراج الزوائد، أو شرحها، ونحو ذلك. - ومن أمثلة تخريج أحاديث بعض الكتب العلمية: 1- تخريج أحاديث البيضاوي، للشيخ عبد الرءوف المناوي. 2- تخريج أحاديث البيضاوي، للشيخ محمد همات زاده بن حسن همات زاده، المحدث المتوفى سنة "1175هـ" كتاب سماه "تحفة الراوي في تخريج أحاديث البيضاوي". 3- تخريج أحاديث شرح معاني الآثار للطحاوي، لبعض العلماء، سماه الحاوي في بيان آثار الطحاوي، عزا فيه كل حديث إلى الكتب المشهورة وبيَّن الصحيح من الضعيف. - أمثلة في تخريج أحاديث اشتهرت على ألسنة الناس: 1- "تسهيل السبل إلى كشف الالتباس، عما دار من الأحاديث بين الناس" للشيخ عز الدين محمد بن أحمد الخليلي المتوفى سنة "1075هـ". 2- "كشف الخفاء ومزيل الإلباس، عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" للحافظ إسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى سنة "1162هـ"، وهو كتاب كثير الفوائد لخص فيه المقاصد الحسنة للسخاوي، وضم إليه كثيرًا مما في الكتب الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 - أمثلة في شروح بعض كتب الحديث الشريف: 1- المسوى شرح الموطأ: لولى الله الدهلوي "1114-1176هـ". 2- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: لأبي العلي محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري "1283-1353هـ". 3- بذل المجهود في حل سنن أبي داود: لخليل أحمد السهارنفوري، بالهند "ت 1346هـ". 4- فيض الباري على صحيح البخاري: للشيخ أحمد أنور الكشميري الديوبندي "1352هـ". 5- فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد "للبخاري": لفضل الله الجيلاني. - أمثلة في الجوامع العامة: التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، للشيخ منصور على ناصف الحسيني، من علماء الأزهر الشريف، وعليه: غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول، جمع فيه أحاديث الصحيحين، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي. صدر طبعة منه سنة 1406هـ-1986م، عن دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع. - ومن أمثلة الاختصارات لبعض الكتب: خلاصة تذهيب التهذيب: للخزرجي صفي الدين أحمد بن عبد الله الأنصاري "ت 923هـ". - ومن أمثلة الشروح لبعض المصنفات في علوم الحديث: 1- "توضيح الأفكار" للصنعاني الأمير محمد بن إسماعيل الحسني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 "ت 1182هـ"، وهو شرح لكتاب "تنقيح الأنظار" لابن الوزير أبي عبد الله السيد محمد بن إبراهيم "ت 840هـ". - ومن المصنفات في الموضوعات: تذكر الموضوعات: لمحمد طاهر بن علي الهندي الفتني "ت 986هـ"، وفي ذيلها: الموضوعات والضعفاء له. - ومن المصنفات في الرواة: شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لأبي الفلاح عبد الرحمن بن العمادي الحنبلي "ت 1089هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 المبحث الثالث: دور أشهر الممالك التي كان لها أثر ملموس في خدمة السُّنَّة في هذا العصر - دور مصر في العناية بالسُّنَّة وعلومها: في هذه الفترة من الزمان -أي: بعد سقوط بغداد- كانت مصر محكومة لدولتي المماليك البحرية والبرجية، ويحدثنا التاريخ عما كان عليه هؤلاء السلاطين من حب للعلم وتقدير للعلماء، ومن أجل ذلك شيدوا الجامعات والمدارس الحديثية، واستقدموا لهذا الغرض العلماء من الأقطار البعيدة، وحبسوا الأموال الطائلة على تلك المؤسسات الدينية والعلمية، وها هي آثارهم الخالدة ماثلة للعِيَان، تحدث عما كان للقوم من عناية بعلوم الشريعة والسُّنَّة. هذا ولم يقف الأمر عند حد المعاونة بالمال أو السلطان؛ بل لقد انغمر السلاطين في حلبة الدروس مع المتعلمين وتتلمذوا للعلماء، وأئمة الحديث، وتحملوا السنة بأسانيدها الصحيحة حتى صار بعضهم حافظًا يتلقى عنه الحديث، ويسمع منه الصحيح، فهذا هو "الظاهر برقوق" يتفقه على الإمام أكمل الدين "البابرتي"، ويشارك المحدثين في رواية الصحيحين، ويستقدم المسندين أمثال "ابن أبي المجد" من الأقطار النائية، رغبة منه في إعلاء الإسناد لدى المتعلمين بمصر، لسماعهم الحديث من أصحاب الأسانيد العالية، وهذا هو "المؤيد" يروي الصحيح عن السراج "البلقيني" حتى أن الحافظ ابن حجر يسمع الحديث من "المؤيد"، ويترجم له في عداد مشايخه في "المعجم المفهرس"، وقد استقدم "المؤيد" إلى مصر العلامة "شمس الدين الديري" المحدِّث العظيم صاحب كتاب "المسائل الشريفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة"، وهذا هو "الظاهر جقمق" يسمع الصحيح من ابن الجزري، ويستقدم كبار المسندين إلى مصر ليتلقى عنهم المتعلمون مروياتهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 السُّنَّة من الصحاح والمسانيد، ويجعل من القلعة المصرية مجمعًا علميًّا للعلماء، وناديًا يؤمه طلاب الحديث يتلقون المرويات عن الحفاظ المتقنين والمحدثين النابهين، وبهذه العناية من السلاطين والأمراء كان مصر دار حديث وفقه وأدب طيلة هذه القرون الثلاثة الأولى من هذا الدور، وكانت أسعد بلاد الإسلام حظًّا بالحديث وعلومه، وها هي كتب التاريخ قد اكتظت بتراجم لرجال نبهاء، وفطاحل علماء، انجبتهم مصر في تلك القرون الذهبية، وكانت لهم مؤلفات كثيرة جدًّا في علوم شتى، بحيث يعدون بحق مفخرة الإسلام، وإن مآثرهم المحفوظة في خزانات العالم ومكتباته لمما يشهد لمصر بالمجد التالد والشرف الرفيع. استمرت النهصة العلمية بمصر -على ما وصفنا- إلى أوائل القرن العاشر الهجري؛ إذ بانقراض دولة المماليك البرجية في أوائل هذا القرن، أخذ النشاط العلمي يتضائل ويضمحل، وطفق يرحل شيئًا فشيئًا إلى بلاد أخرى، ألا وهي البلاد الهندية التي أفسحت صدرها للحديث وعلومه، وسهرت على خدمته، فكانت أسعد بلاد المسلمين بعلوم السُّنَّة إلى يومنا هذا1. ولا يمكن إغفال دور الأزهر الشريف في خدمة السُّنَّة حيث الكليات والأقسام المتخصصة التي تخرج فيها الكثيرون من مصر والعالم العربي والإسلامي، فضلًا عن الدراسات العليا التي منحت -ولا زالت تمنح- الكثيرين درجتي الماجستير والدكتوراه "العالمية" في الحديث الشريف وعلومه، ما بين الدراسات التحليلية والتحقيقات العلمية، ولم يقتصر هذا الدور على أبناء مصر وحدها، بل شمل العالم العربي والإسلامي عامة.   1 الحديث والمحدثون، لمحمد أبو زهو "ص439، 440". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 - دور علماء الهند في العناية بالسُّنَّة: كان للبلاد الهندية حظ كبير في خدمة السُّنَّة بعد أن كان الهنود قبل منتصف القرن العاشر الهجري منصرفين إلى العلوم النظرية، والأحكام الفقهية المجردة، فمن هذا الوقت أخذوا يعكفون على دراسة الحديث وعلومه، ويعنون برواية السُّنة وبحث الروايات، وانتقاد الأسانيد، ولو ذهبنا نستعرض ما لهؤلاء الأعلام من همة عظيمة في علوم الحديث -في الوقت الذي قعدت فيه الهمم عن خدمة السُّنة- لوقع ذلك موقع الإعجاب والشكر البليغ، فكم لعلماء الهند من شروح ممتعة، وتعليقات نافعة على الأصول الستة وغيرها، وكم لهم من مؤلفات كبيرة في أحاديث الأحكام، وكم لهم من أيادٍ بيضاء في نقد الرجال، وبيان علل الحديث، وشرح الآثار، وكم لهم من مؤلفات في شتى فنون الحديث وما يتصل به1. ومما هو جدير بالتقدير والإعجاب أن هؤلاء القوم لم تفتتهم المدنية الغربية عن دينهم؛ بل إنها زادتهم تمسكًا به وتعصبًا له، فكثيرًا ما ألفوا الكتب في الرد على القساوسة والمستشرقين، وكثيرًا ما كانت تقام مجالس للمناظرة أمام الحكام الإنجليز فينتصر حق المسلمين على باطل المستشرقين، وكثيرًا ما كان يفر هؤلاء القُسس من مجالس المناظرة قبل أن تتم فصولها يجرون أذيال الخيبة، ويتعثرون في أثواب الهزيمة. هذا ومما يدل على حرص هؤلاء القوم على السُّنَّة وحدبهم على نشر علومها أن بعض المبعوثين منهم إلى جامعات أوربا كان يشتغل بطبع كتب الحديث، وها هو "الدكتور السيد معظم حسين" الذي كان يتلقى دروسه بجامعة أكسفورد بإنجلترا يأخذ في طبع كتاب "معرفة علوم الحديث" للحاكم أبي عبد الله النيسابوري، ويعتني بتصحيحه، ويقدم له مقدمة عظيمة يذكر فيها ترجمة المؤلف، ونُبْذَة قيمة عن تاريخ تدوين الحديث، ونشأة علم المصطلح، وقد رحل في سبيل نشر هذا الكتاب إلى بلدان عديدة من أوربا، وتردد على مكتباتها العامة في عواصمها المختلفة، وقابل ما كتبه على نسخ خطية كثيرة كان منها ما هو محفوظ في مكتبة المتحف البريطاني بلندن، كما رحل إلى عدة مكتبات في بلاد الشرق؛ كمصر، والشام، وإستانبول، ثم طبع الكتاب وأخرجه للناس في غاية من الضبط والإتقان، إنها لهمة عالية من هؤلاء القوم، فلله درهم وبورك جهادهم2.   1 عن مقالات العلامة المرحوم الشيخ محمد زاهد الكوثري "ص71" وما بعدها بتصرف. 2 "الحديث والمحدثون" لمحمد أبو زهو "ص441، 442". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 - دور المملكة العربية السعودية في خدمة السُّنَّة: قامت المملكة العربية السعودية بجهد ملحوظ في نشر الكتب الإسلامية عامة، وكتب السُّنَّة خاصة، وتوزيعها كهدايا للعلماء والمتخصصين، ولها جهود أخرى في خدمة السُّنَّة، وأكبر شاهد على ذلك إنشاء مركز السُّنَّة في المدينة المنورة الذي نشر بعض أمهات الكتب نحو كتاب "إتحاف المهرة" لابن حجر العسقلاني، وأيضًا نشر "مسند الإمام أحمد بن حنبل" محققًا في خمسين جزءًا، بالإضافة إلى الجهود الكبيرة التي قامت -وتقوم بها- جامعة أم القرى الإسلامية بمكة المكرمة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فإن لهما دورًا كبيرًا في خدمة العلوم الإسلامية عامة والحديث الشريف وعلومه خاصة؛ حيث تخرج فيهما -ولا زال يتخرج- العديد من أبناء الأمة الإسلامية الذين تخصصوا في مختلف علوم الدين الحنيف، وخاصة علوم الحديث الشريف، هذا بالإضافة إلى الجهود القائمة على تحقيق ودراسة الكثير من كتب التراث المتخصصة في الحديث الشريف وعلومه على وجه الخصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 المبحث الرابع: جهود علماء المسلمين في خدمة السُّنَّة في العصر الحاضر هناك جهود فردية، وأخرى جماعية، وجهود قام بها علماء متخصصون، وأخرى قام بها غير المتخصصين، ويمكن القول بأن هذه الجهود تناولت عدة جوانب، وكلها تخدم السُّنَّة المطهرة، ويمكن حصر هذه الجهود فيما يلي: 1- جهود اتجهت إلى الدلالة على الأحاديث من طريق بعض ألفاظها، ومن ذلك: "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي عن الكتب الستة، وعن مسند الدارمي، وموطأ مالك، ومسند أحمد بن حنبل" رتبه ونظمه لفيف من المستشرقين. 2- جهود اتجهت إلى فهرسة كتب الحديث الشريف، عن طريق حصر أطراف الأحاديث وترتيبها أبجديًّا، ومنها: فهارس لصحيح البخاري، وفهارس لصحيح مسلم، وفهارس مصنف عبد الرزاق، وفهارس مصنف ابن أبي شيبة، وغيرها. وهناك فهارس لعدة مصنفات مجتمعة مثل: "موسوعة أطراف الحديث"، حاول فيها مصنفها حصر أطراف الأحاديث الموجودة في "150" كتابًا منها كتب الحديث الشريف، وأخرى في التفسير وغيرها، وهي محاولة متواضعة جدًّا تحتاج إلى مزيد من الدقة في الحصر والترتيب والعزو. 3- جهود اتجهت إلى الجمع بين عدة مصنفات حديثية مثل "المسند الجامع" جاء في اثنين وعشرين مجلدًا، منها مجلدان للفهارس، وهو من إعداد لجنة عددها خمسة، جمعوا فيه بين أحاديث الكتب الستة "صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه"، ومؤلفات أصحابها، بالإضافة إلى موطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، وصحيح ابن خزيمة، وسنن الدارمي، ومسانيد الحميدي، ومسند عبد بن حميد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وصدرت الطبعة الأولى منه سنة "1413هـ-1993م"، ونشرته دار الجيل، ببيروت، والشركة المتحدة بالكويت. وهو عمل جيد، ولكن يؤخذ على مصنفيه العزو إلى صفحات طبعات خاصة لبعض هذه المصنفات ليست في حوزة كثير من الباحثين، مثل صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وكان ينبغي عليهم إثبات أرقام الأحاديث في هذه المصنفات التي جمعوا بين أحاديثها. 4- وهناك جهود اتجهت لعمل موسوعات للأحاديث الصحيحة، وكذلك في الأحاديث الضعيفة، كما فعل الشيخ محمد ناصر الدين الألباني؛ حيث صنف سلسلة الأحاديث الصحيحة، وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والسلسلتان لم تُكتملا. ويؤخذ عليه في السلسلة الصحيحة حشوها بالتخريجات المسرفة التي ترهق القارئ، ولا تضيف لخدمة الحديث الصحيح شيئًا، فضلًا عن الأوهام الكثيرة التي تعقبها العديد من الباحثين والمشتغلين بالحديث الشريف. ويؤخذ عليه في السلسلة الضعيفة -بالإضافة إلى الإسراف غير المقبول علميًّا في التخريجات- التجاوزات الكثيرة في الأحكام على أحاديث كثيرة بالضعف أو الوضع، وهي لا تقل عن درجة الحسن، أو على الأقل تتقوى، وتصير حسنة لغيرها بما لها من متابعات وشواهد، بالإضافة إلى أن جل هذا العمل مصنف في كتب الموضوعات ونحوها. وقد تعقبه على هذه السلسلة وسائر أعماله الكثير من أهل العلم المتخصصين والباحثين والمشتغلين بالحديث الشريف، الأمر الذي يجعلنا نؤكد على أهمية إعادة النظر في كل أعماله بلا استثناء، ومع هذا فجهوده لا تنكر في الكشف عن صحة كثير من الأحاديث وضعف كثير منها. وذلك باستثناء تمزيق بعض الحديث من الأصول كأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه؛ حيث أفرد ما رآه صحيحًا منها في مصنفات وما رآه ضعيفًا منها في مصنفات أخرى، فقد جانبه الصواب في ذلك؛ لأن كثيرًا من الأحاديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 الضعيفة فيها تتقوى بشواهد، ومتابعات، وعمل لبعض الصحابة، أو للصحابة كلهم بها، وقد تصدى بعض الباحثين لهذا العمل. 5- جهود اتجهت لحصر زوائد بعض كتب الحديث الشريف مثل: "زوائد السنن على الصحيحين" "سنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه، وسنن الدارمي" جمع وترتيب: صالح أحمد الشامي، صدر عام "1418هـ-1998م" عن دار القلم بدمشق، ودار النفائس بالرياض. ومثل: زوائد سنن النسائي على صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن ابن ماجه، نال بها باحث درجة الماجستير بكلية دار العلوم جامعة القاهرة. 6- جهود اتجهت لتحقيق وتخريج أحاديث بعض المصنفات الحديثية، وبيان درجة ما فيها من أحاديث مثل: "مسند الإمام أحمد" عمل لجنة بإشراف شعيب الأرناءوط، صدر عن مؤسسة الرسالة ببيروت "في خمسين مجلدًا"، و"شرح مشكل الآثار" للطحاوي، قام بتحقيقه وعزو أحاديثه والحكم عليها: شعيب الأرناءوط، صدر في "ستة عشر مجلدًا"، منها جزء للفهارس، طبع مؤسسة الرسالة "1415هـ-1994م"، و"مسند أبي يعلى" الإمام الحافظ أحمد بن علي بن المثنى التميمي "210-307هـ"، صدر عن دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى من سنة "1404هـ-1984م"، و"جامع الأصول في أحاديث الرسول" للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري "544-606هـ"، صدر عن دار الفكر، ببيروت، في أحد عشر مجلدًا. 7- جهود اتجهت لتحقيق بعض المصنفات الحديثية، والاكتفاء بإخراج النص المخطوط إلى مطبوع؛ ليسهل الاطلاع عليه والاستفادة منه، مثل "المعجم الأوسط" للطبراني، صدر في عشرة مجلدات بالإضافة إلى مجلد للفهارس، وصدرت الطبعة الأولى منه "1405هـ-1985م" عن مكتبة المعارف بالرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 و"إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة"1 للإمام أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني "773 -852هـ"، و"إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة" للإمام أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري "ت 840هـ" حققته لجنة عددها أربعة، وصدر عن مكتبة الرشد بالرياض، و"السنن الكبرى" للإمام أحمد بن شعيب النسائي "ت 303هـ"، صدر عن دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى، سنة "1411هـ-1991م"، و"السنن الكبرى" للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي "ت 458هـ"، صدر عن دار الكتب العلمية، ببيروت، الطبعة الأولى سنة "1414هـ-1994م". و"المصنف في الأحاديث والآثار" للحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة "ت 235هـ"، صدر عن الدار السلفية بالهند، الطبعة الثانية سنة "1399هـ-1979م"، و"المصنف" لعبد الرزاق للحافظ أبي بكر عبد الرزاق همام الصنعاني "126-211هـ"، صدر عن المكتب الإسلامي، ببيروت، الطبعة الثانية "1403هـ-1983"، وغيرها. وهذه المصنفات على الرغم من الجهود الكبيرة في إخراج نصوصها المخطوطة إلى مطبوعة، إلا أنها في حاجة إلى تحقيق يتبين من خلاله درجة الأحاديث والآثار. 8- وهناك جهود اتجهت لتحقيق بعض المصنفات الحديثية وتخريج أحاديثها مثل: كتاب "لمحات الأنوار ونفحات الأزهار، وري الظمآن لمعرفة ما ورد من الآثار في ثواب قارئ القرآن" للإمام محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم الغافقي "549-619هـ" تحقيق أستاذنا الدكتور/ رفعت فوزي عبد المطلب، وصدر عن دار البشائر الإسلامية "1418هـ-1997م" في ثلاثة مجلدات كبيرة. 9- وهناك جهود اتجهت إلى تحقيق بعض المصنفات الخاصة بالرواة مثل:   1 المسانيد العشرة هي: مسند أبي داود الطيالسي، ومسند الحميدي، ومسند مسدد، ومسند ابن أبي عمر، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند أبي بكر بن أبي شيبة، ومسند أحمد بن منيع، ومسند عبد بن حميد، ومسند الحارث بن محمد بن أبي أسامة، ومسند أبي يعلى الموصلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للحافظ المتقن جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي "654-742هـ"، تحقيق د/ بشار عواد معروف، صدرت الطبعة الأولى منه سنة "1413هـ-1922م"، في "35" مجلدًا، مؤسسة الرسالة، ببيروت. وكتاب "التذكرة بمعرفة رجال العشرة" لأبي المحاسن محمد بن علي العلوي الحسيني "715-765هـ" تحقيق: أستاذنا الدكتور/ رفعت فوزي عبد المطلب، صدرت الطبعة الأولى في أربعة مجلدات، عن مكتبة الخانجي بالقاهرة سنة "1418هـ-1997م". 8- وهناك جهود اتجهت لخدمة السُّنَّة عن طريق الكمبيوتر، فهناك الأسطوانات التي تحمل الموسوعات الحديثية الضخمة، والتي اشتملت على عشرات المصنفات في الحديث وعلومه، وهذه الجهود التي أعدتها مؤسسات خاصة عديدة في بعض البلاد العربية وغيرها، لا شك أنها قربت السُّنَّة لقطاع كبير من الناس، ولكنه لا ينبغي التعويل عليها كلية واعتبارها عمدة للتحقيق والتخريج؛ لعدم الدقة في نقل النصوص، بالإضافة إلى أخطاء الكمبيوتر المعروفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 قائمة بأسماء المصادر والمراجع : 1- القرآن الكريم. 2- إبراهيم النخعي: أ. د/ محمد عبد الهادي سراج - رسالة ماجستير بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة. 3- أبو هريرة راوية الإسلام: لمحمد عجاج الخطيب - العدد "23" من سلسلة أعلام العرب - طبع وزارة الثقافة المصرية. 4- الاتجاهات الفقهية عند المحدثين في القرن الثالث الهجري: أ. د/ عبد المجيد محمود - مكتبة الخانجي "1400هـ-1980م". 5- إتحاف ذوي الرسوخ بمن رُمي بالتدليس من الشيوخ: للشيخ حماد بن محمد الأنصاري - مكتبة الملا - الكويت. 6- الإجابة لإيراد ما استدركته السيدة عائشة رضي الله عنها على الصحابة: للإمام بدر الدين الزركشي "745-794هـ" تحقيق أ. د/ رفعت فوزي - مكتبة الخانجي بالقاهرة - الطبعة الأولى "1421هـ-2001م". 7- الإحكام في أصول الأحكام: لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم "ت 456هـ" - طبع دار الآفاق الجديدة - بيروت - ط الأولى "1400هـ-1980م". 8- اختصار علوم الحديث: لابن كثير "701-774هـ" - "وعليه الباعث الحثيث لأحمد شاكر" - طبع دار إحياء التراث العربي - بيروت. 9- أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني: عبد الكريم بن محمد - طبعة ليدن "1912م". 10- الأدب المفرد: للإمام البخاري "194-256هـ" الطبعة السلفية بالقاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 11- إرشاد الساري لشرح صحيح الإمام البخاري "وبهامشه صحيح مسلم بشرح النووي": لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني "ت 923هـ" طبع دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان "1323هـ". 12- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني "ت 1255هـ" - طبع دار المعرفة - بيروت "1399هـ-1979م". 13- الإرشاد في معرفة علماء البلاد: للخليلي - مكتبة الرشد - الرياض. 14- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: لمحمد ناصر الدين الألباني - طبع المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة الأولى "1399هـ-1979م". 15- الأسامي والكنى: للإمام أحمد بن حنبل - تحقيق/ عبد الله الجديع - طبع الأقصى - الكويت - ط الأولى "1406هـ". 16- الاستذكار: للإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي "368-463هـ" تحقيق الأستاذ/ علي نجدي ناصف - مطابع الأهرام التجارية. 17- الاستيعاب: لابن عبد البر أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي المالكي "363-463 هـ" مطبوع على هامش الإصابة - الطبعة الأولى "1328هـ" - مكتبة المثنى - لبنان. 18- أسد الغابة في معرفة الصحابة: لعز الدين بن الأثير أبي الحسن علي بن محمد الجزري "555-630هـ" - تحقيق/ محمد إبراهيم البنا، ومحمد أحمد عاشور - مطبعة الشعب. 19- أسماء المدلسين: للحافظ ابن حجر العسقلاني "773-852هـ" - تحقيق د/ محمد زينهم محمد عزب - دار الصحوة للنشر - ط الأولى "1407هـ-1986م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 20- الإصابة في تمييز الصحابة: للحافظ ابن حجر العسقلاني - طبع إحياء التراث العربي - الطبعة الأولى "1328هـ". 21- الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار: للحازمي الإمام الحافظ أبي بكر محمد بن موسى بن حازم الهمداني "ت 584هـ" - تحقيق/ راتب حاكمي - مطبعة الأندلس - حمص - الطبعة الأولى "1386هـ-1966م". 22- الأعلام: لخير الدين الزركلي - دار العلم - بيروت - لبنان - الطبعة السادسة "1984م". 23- إعلام الموقعين عن رب العالمين: لابن القيم أبي عبد الله محمد بن أبي بكر "751هـ" - إدارة الطباعة المنيرية. 24- أعلام النساء: لعمر رضا كحالة - طبعة مؤسسة الرسالة - بيروت - وطبع دار الحديث- القاهرة. 25- الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب: للأمير الحافظ ابن ماكولا "ت 475هـ" - تحقيق/ الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - طبع - بيروت - لبنان. 26- الإلزامات والتتبع: للدارقطني "306-385هـ" - تحقيق/ أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي - طبع دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الثانية "1405هـ-1985م". 27- الأم: للإمام الشافعي - بتحقيق أ. د/ رفعت فوزي - دار الوفاء بمصر. 28- الإمام البخاري وصحيحه: للدكتور/ عبد الغني عبد الخالق - دار المنارة للنشر - السعودية - جُدَّة - الطبعة الأولى "1405هـ-1985م". 29- الأموال: لأبي عبيد القاسم بن سلام - بتحقيق/ محمد حامد الفقي - القاهرة "1353هـ-1934م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 30- الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: مالك والشافعي وأبي حنيفة- لابن عبد البر- مطبعة المعاهد بمصر- الناشر: مكتبة القدس. 31- الأنساب: للإمام أبي سعيد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني "506-562هـ" تحقيق/ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني- طبعة الهند "1382-1401هـ". 32- أنساب الأشراف: للبلاذري أحمد بن يحيى- تحقيق: د/ حميد الله- القاهرة "1959م". 33- البارع الفصيح في شرح الجامع الصحيح: لأبي البقاء الأحمدى الشافعي- مخطوط بدار الكتب المصرية. 34- الباعث الحثيث "في اختيار علوم الحديث لابن كثير": لأحمد محمد شاكر- طبع دار إحياء التراث العربي- بيروت. 35- البداية والنهاية: لابن كثير الدمشقي "ت 774هـ"- طبع دار الفكر العربي- ط الثانية "1387 هـ". 36- بذل المجهود في حل أبي داود: تأليف خليل أحمد السهارنفوري "رئيس الجامعة الشهيرة بمظاهر العلوم في سهارنفور بالهند" طبع دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان. 37- البيان والتوضيح لمن أخرج له في الصحيح ومُسَّ بضرب من التجريح: للحافظ أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين العراقي "م 826هـ"- تحقيق/ كمال يوسف الحوت- طبع دار الجنان- بيروت- لبنان- الطبعة الأولى "1410هـ-1990م". 38- بيان الوهم والإيهام: للحافظ ابن القطان الفاسي أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الملك "ت 628هـ"- طبع دار طيبة- السعودية- ط الأولى "1418هـ-1997م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 39- بين الإمامين مسلم والدارقطني: الدكتور/ ربيع بن هادي عمير المدخلي- طبع المكتبة السلفية- الهند. 40- تاريخ ابن معين "رواية الدقاق يزيد بن الهيثم"- تحقيق/ أحمد محمد نور سيف- جامعة أم القرى. 41- تاريخ الأدب العربي: تأليف بروكلمان- ترجمة: الدكتور عبد الحليم النجار- طبعة دار المعارف بالقاهرة "1962م". 42- تاريخ أسماء الثقات ممن نقل عنهم العلم: لابن شاهين الحافظ أبي حفص عمر بن أحمد بن عثمان "297-385هـ" طبع: دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان "1406هـ- 1986م" تحقيق الدكتور/ عبد المعطي أمين قلعجي. 43- تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام: للحافظ الذهبي- طبعة القاهرة "1948- 1950م". 44- تاريخ بغداد: للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي "ت 463 هـ"- طبع المكتبة السلفية- المدينة المنورة- الطبعة الأولى "1349هـ- 1931م". 45- تاريخ التراث العربي: لفؤاد سزكين- طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب "1977م". 46- تاريخ الثقات: للعجلي- دار الكتب العلمية - بيروت. 47- تاريخ جرجان: للسهمي "ت 427هـ" - طبع عالم الكتب- بيروت- الطبعة الأولى "1401هـ - 1987م". 48- تاريخ الخلفاء: للإمام السيوطي "911هـ"- مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى "1371هـ-1952م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 49- تاريخ دمشق: لأبي زرعة الدمشقي- تحقيق/ شكر الله قوجاني- مجمع اللغة العربية- دمشق. 50- تاريخ الرسل والملوك: للطبري "224- 310هـ"- تحقيق/ محمد أبو الفضل إبراهيم- طبع دار المعارف- الطبعة الثانية. 51- التاريخ الصغير: للإمام محمد بن إسماعيل البخاري "194- 256هـ" دار الوعي- حلب- مكتبة دار التراث- تحقيق/ إبراهيم زايد- وطبعة دار الكتب العلمية- ببيروت. 52- تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي "280هـ" عن يحيى بن معين: تحقيق/ الدكتور أحمد محمد نور سيف- طبع دار المأمون للتراث. 53- التاريخ الكبير: للإمام محمد بن إسماعيل البخاري "194- 256هـ"- طبع دار الكتب العلمية- مصورة عن الطبعة الهندية "1361- 1362هـ". 54- تاريخ مدينة دمشق: لابن عساكر الإمام الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي "ت 571هـ"- طبعة دار صادر- بيروت. 55- تجريد أسماء الصحابة: لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي "748هـ"- تصحيح: صالحة شرف الدين - طبع الهند "1389هـ". 56- تحذير الخواص من أكاذيب القصاص: جلال الدين السيوطي- تحقيق/ محمد الصباغ- المكتب الإسلامي- بيروت "1392هـ-1972م". 57- تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف: للإمام الحافظ جمال الدين أبي الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي "654- 742هـ"- تحقيق/ عبد الصمد شرف الدين- طبع الدار القيمة بالهند. 58- تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل: لأبي زرعة العراقي أحمد بن أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي- بتحقيقنا- الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة- الطبعة الأولى "1420هـ-2000م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 59- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: للحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي "849- 911هـ"- طبع مؤسسة الرسالة- بيروت- تحقيق الدكتور/ عزت علي عطية، وموسى محمد علي. 60- تذكرة الحفاظ: للإمام أبي عبد الله شمس الدين الذهبي "748هـ- 1347م"- طبع دار إحياء التراث العربي- بيروت. 61- التذكرة بمعرفة رجال الكتب العشرة- لأبي المحاسن محمد بن علي الحسيني "715- 765هـ"، بتحقيق أ. د/ رفعت فوزي- مكتبة الخانجي بالقاهرة. 62- التراتيب الإدارية: للكتاني عبد الحي- الرباط "1347هـ". 63- ترتيب القاموس المحيط: طبع عيسى الحلبي- ط الثانية. 64- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة مذهب مالك: لأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي "544هـ-1149م"، تحقيق د/ أحمد بكير محمود - مكتبة الحياة- بيروت - لبنان. 65- تعجيل المنفعة بزوائد الأئمة الأربعة: للحافظ ابن حجر العسقلاني- طبع دار المحاسن- القاهرة- تحقيق/ السيد عبد الله هاشم يماني المدني. 66- التعديل والتجريج: للباجي- طبع دار اللواء- الرياض. 67- التعريف بأمير المؤمنين في الحديث أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري "ت 256هـ"- المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- لجنة إحياء كتب السنة- مطبعة الشعب "1387هـ". 68- تغليق التعليق على صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر العسقلاني "ت 852هـ"- تحقيق/ سعيد عبد الرحمن موسى القزقي- طبع المكتب الإسلامي- الطبعة الأولى "1405هـ- 1985م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 69- تقريب التهذيب: للحافظ ابن حجر العسقلاني "ت 852هـ"- تحقيق: محمد عوامة- طبع دار الرشيد- سوريا- ط أولى "1406هـ"، وطبعة دار المعرفة بيروت- بتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. 70- تقريب النواوي "بشرح تدريب الراوي"- طبع دار الكتب الحديثة- القاهرة- ط الثانية "1385هـ- 1966م". 71- تقييد العلم: لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي "463هـ"- تحقيق د/ يوسف العش، دمشق- الطبعة الأولى "1949م". 72- التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح: للحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي "725- 806هـ"- تصحيح وتعليق: محمد راغب الطباخ- المطبعة العلمية- حلب- ط أولى "1350هـ". 73- التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: للحافظ ابن حجر العسقلاني "ت 852هـ"، طبعة المدينة المنورة- الحجاز "1384هـ- 1964م"، وطبعة مؤسسة قرطبة "1416هـ-1995م". 74- تلخيص صحيح مسلم: للإمام أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي "598هـ - 656 هـ"- تحقيق: للأستاذ الدكتور/ رفعت فوزي عبد المطلب، وأحمد محمود الخولي- طبع دار السلام- ط الثانية "1414هـ- 1993م". 75- تلقيح فهوم الأثر: لابن الجوزي- مكتبة الآداب بالقاهرة. 76- تهذيب سنن أبي داود: لابن قيم الجوزية، "مع مختصر سنن أبي داود للمنذري"، مكتبة السنة المحمدية بالقاهرة. 77- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: للإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي "368-463هـ"- تحقيق: سعيد أحمد أعراب- طبع الهند- الطبعة الأولى "1401هـ-1981م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 78- تنبيه المسلم إلى تعدي الألباني على صحيح مسلم: لمحمود سعيد ممدوح- الطبعة الأولى "1408هـ-1987م"، "بدون ذكر الناشر أو المطبعة". 79- التنقيح: لابن عبد الهادي "705-744هـ"- على كتاب التحقيق في اختلاف الحديث لابن الجوزي "510- 597هـ"- تحقيق / محمد حامد الفقي - مطبعة السنة المحمدية- الطبعة الأولى "1373هـ- 1954م". 80- تنوير الحوالك "على موطأ الإمام مالك": للإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي "849- 911هـ"- مطبعة دار إحياء الكتب العربية- مصر "1343هـ". 81- تهذيب الأسماء واللغات: لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي "ت 676هـ" طبع دار الكتب العلمية- بيروت. 82- تهذيب التهذيب: للحافظ ابن حجر العسقلاني "852هـ"- طبع دار صادر- بيروت- مصورة عن الطبعة الأولى- بالهند "1326هـ". 83- تهذيب الكمال في أسماء الرجال: للحافظ المزي "654- 742هـ"- طبع مؤسسة الرسالة- بيروت- الطبعة الأولى. 84- توجيه النظر إلى أصول الأثر: لطاهر بن صالح الجزائري "338هـ"- طبع دار المعرفة- بيروت. 85- توثيق السنة في القرن الثاني الهجري أسسه واتجاهاته: أ. د/ رفعت فوزي عبد المطلب- مكتبة الخانجي بالقاهرة- الطبعة الأولى "1400هـ-1981م". 86- التوضيح الأبهر لتذكرة ابن الملقن في علم الأثر: للحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي "831- 902هـ" تحقيق/ حسين بن إسماعيل- مكتبة التوعية الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 87- توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار: محمد بن إسماعيل الأمير الحسني الصنعاني "1182هـ"، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد- مكتبة الخانجي "1366هـ". 88- الثقات: للإمام محمد بن حبان بن أحمد بن أبي حاتم التميمي البستي "354هـ-965م"- الطبعة الأولى- بالهند. 89- جامع الأصول: لابن الأثير- طبعة دار الفكر للطباعة والنشر- بتحقيق/ عبد القادر الأرناءوط، ط 2 "1403هـ-1983م". 90- جامع بيان العلم وفضله: للإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي الأندلسي "368- 463هـ"- إدارة الطباعة المنيرية- مصر، ودار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، والمطبعة السلفية، الطبعة الثانية "1388هـ-1968م". 91- جامع التحصيل في أحكام المراسيل: للحافظ صلاح الدين أبي سعيد خليل العلائي "694- 761هـ" تحقيق/ حمدي عبد المجيد السلفي- الطبعة الأولى "1398هـ- 1978م"- الدار العربية- العراق- الطبعة الثانية عالم الكتب- بيروت- الطبعة الثالثة- دار الكتب الإسلامية- القاهرة. 92- الجامع الصحيح: للإمام محمد بن إسماعيل البخاري "194- 256هـ" وعليه فتح الباري لابن حجر العسقلاني- المطبعة السلفية- الطبعة الأولى "1400هـ" ترقيم/ محمد فؤاد عبد الباقي، وطبعة السلفية المرقمة بدون شرح، وطبعة الشعب. 93- الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير: للإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي "849- 911هـ" طبع دار الفكر- بيروت- لبنان- الطبعة الأولى "1401هـ- 1981م". 94- الجامع الكبير: للإمام السيوطي- مخطوط بدار الكتب المصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 95- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي "392- 463هـ" تحقيق الدكتور/ محمد الطحان- مطبعة المعارف- الرياض "1403هـ". 96- الجرح والتعديل: لأبي لبابة حسين- منشورات دار اللواء للنشر والتوزيع- الرياض- ط. الأولى "1399هـ- 1979م". 97- الجرح والتعديل: للإمام أبي محمد بن عبد الرحمن الرازي الحافظ ابن الإمام أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر "240- 327هـ"- طبعة دار الكتب العلمية- بيروت- مصورة عن الطبعة الأولى بالهند. 98- الجمع بين رجال الصحيحين: لابن القيسراني- طبع الهند. 99- جمهرة أنساب العرب: لأبي محمد علي بن سعيد بن حزم الأندلسي "ت 456هـ" تحقيق: اليفي بروفنسال- طبعة دار المعارف- مصر. 100- جمهرة نسب قريش وأخبارها: تحقيق/ محمود محمد شاكر- القاهرة "1381هـ". 101- جوامع السيرة: لابن حزم الأندلسي "ت 456هـ"- تحقيق: ناصر الدين الأسدي بالقاهرة "1956م"، وطبعة كراتشي، مكتبة التراث الإسلامي بالقاهرة. 102- حاشية الأجهوري على شرح الزرقاني على المنظومة البيقونية: لعطية الأجهوري- مطبعة مصطفى الحلبي- القاهرة "1368هـ". 103- الحديث والمحدثون: لمحمد محمد أبو زهو- طبع دار الكتاب العربي- بيروت. 104- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني- مطبعة السعادة، ومكتبة الخانجي. 105- خصائص المسند "مسند الإمام أحمد": لأبي موسى المديني- تحقيق/ أحمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 105- خطط تقي الدين المقريزي: طبعة بولاق "1270هـ". 106- خلاصة تهذيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال: للإمام صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري "ت 923هـ"- مكتبة المطبوعات الإسلامية- بيروت- الطبعة الثانية "1391هـ- 1971م". 107- دراسات في السنة: للدكتور/ إسماعيل سالم عبد العال- دار الجامعة للطباعة والنشر- مكتبة الملك فيصل الإسلامية بالهرم. 108- دور المرأة في خدمة الحديث في القرون الثلاثة الأولى: رسالة ماجستير لآمال قِرْدَاش بنت الحسين، العدد رقم "70" من كتاب الأمة. 109- دلائل التوثيق المبكر للسنة والحديث: للدكتور/ امتياز أحمد، بجامعة كراتشي، ونقله إلى العربية د/ عبد المعطى أمين قلعجي- الطبعة الأولى "1990م" دار الوفاء. 110- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب: لابن فرحون إبراهيم بن علي- القاهرة "1329هـ". 111- ذكر أسماء التابعين: للدارقطني- تحقيق/ كمال يوسف الحوت- طبع مؤسسة الكتب الثقافية- بيروت- ط أولى "1406هـ". 112- رجال صحيح البخاري: للإمام أبي نصر أحمد بن الحسين البخاري الكلاباذي "323- 398هـ"- تحقيق/ عبد الله الليثي- طبع دار المعرفة- بيروت- لبنان. 113- رجال صحيح مسلم: للإمام أبي بكر أحمد بن منجويه الأصبهاني "347 - 428هـ"- تحقيق/ عبد الله الليثي- طبع دار المعرفة- بيروت- لبنان. 114- الرسالة للإمام الشافعي- تحقيق: أحمد محمد شاكر- القاهرة "1938م". 115- الرفع والتكميل في الجرح والتعديل: لأبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي "1264- 1304هـ" تحقيق/ عبد الفتاح أبو غدة- مكتبة المطبوعات الإسلامية- حلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 116- الروض الداني إلى المعجم الصغير للطبراني- تحقيق/ محمد شكور الحاج أمرير- طبع المكتب الإسلامي- بيروت، ودار عمان: عمان- الطبعة الأولى "1405هـ- 1985م". 117- الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة: ليحيى العامري اليمني- طبعة الهند "1303هـ". 118- زاد المعاد في هدى خير العباد: لابن قيم الجوزية- المطبعة المصرية. 119- زهر الربى على المجتبَى: للسيوطي- "وهو مطبوع بهامش سنن النسائي: المجتبى" "راجع: سنن النسائي". 120- سنة الرسول صلى الله عليه وسلم: لمحمد الحافظ التيجاني، مجمع البحوث الإسلامية، الكتاب السابع "1389هـ- 1969م". 121- السُّنة قبل التدوين: د/ محمد عجاج الخطيب- الطبعة الأولى- مكتبة وهبة بالقاهرة "1383هـ-1963م". 122- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: د/ مصطفى السباعي. 123- سنن ابن ماجه: للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني بن ماجه "207- 257هـ"- تحقيق/ محمد فؤاد عبد الباقي- مطبعة الحلبي. 124- سنن أبي داود: للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي "202- 275هـ". ومعه معالم السنن للخطابي "319- 388هـ"- تحقيق/ عزت الدعاس، وعادل السيد- طبع دار الحديث- حمص- سورية- ط الأولى "1393هـ- 1973م". 125- سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة "209- 297هـ"- طبع مصطفى الحلبي- الطبعة الأولى "1382هـ- 1962م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 126- سنن الدارقطني "306- 385هـ" وبذيله التعليق المغني على الدارقطني: لأبي الطيب محمد شميس الحق العظيم آبادي- تحقيق/ السيد عبد الله هاشم يماني- المدينة المنورة- الحجاز "1386هـ- 1966م". 127- سنن الدارمي: لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي "ت 255هـ"- تحقيق/ السيد عبد الله هاشم يماني المدني- المدينة المنورة "1386هـ- 1966م" شركة الطباعة الفنية بالدراسة- طبع دار إحياء التراث، ودار الريان للتراث- ط الأولى "1407هـ-1987م"، وطبعة دار المعرفة- بيروت- ط. "1" "1411هـ-1991م". 128- سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية الإمام السندي: تحقيق/ عبد الفتاح أبو غدة- الطبعة الأولى المفهرسة- بيروت "1406هـ- 1986م". 129- السنن الكبرى: للإمام النسائي- تحقيق: د/ عبد الغفار سليمان البنداري وسيد حسن- طبع دار الكتب العلمية- بيروت- ط الأولى "1411هـ- 1991م". 130- السنن الكبرى: للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي "ت 458هـ"- وفي ذيله الجوهر النقي: لعلاء الدين بن علي بن عثمان المارديني الشهير بابن التركماني "ت 745هـ"- طبع الهند- حيدر آباد الدكن- الطبعة الأولى "1346هـ". 131- سير أعلام النبلاء: للإمام الحافظ شمس الدين محمد بن عثمان الذهبي "748هـ- 1374م"- طبع مؤسسة الرسالة- بيروت- الطبعة الثالثة "1405هـ- 1985م". 132- سيرة الإمام البخاري: تأليف/ عبد السلام المباركفوري- طبع الدار السلفية بالهند- الطبعة الثانية "1407هـ- 1987م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 133- السيرة النبوية: لابن هشام- دار الجيل. 134- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: للإمام أبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي "1089هـ"- طبع دار الفكر. 135- شرح السنة: للإمام أبي محمد الحسين بن سعود الفراء البغوي "436- 516هـ"- تحقيق/ شعيب الأرناءوط ومحمد زهير الشاويش- طبع المكتب الإسلامي- بيروت. 136- شرح صحيح مسلم: للإمام النووي- دار القلم- بيروت- لبنان- الطبعة الأولى "1407هـ-1987م". 137- شرح العقيدة الطحاوية: طبع المكتب الإسلامي- بيروت. 138- شرح علل الترمذي: لابن رجب الحنبلي- تحقيق الدكتور/ صبحي السامرائي- طبع عالم الكتب- بيروت- وتحقيق الدكتور/ همام سعيد- مكتبة المنار بالأردن- الطبعة الأولى "1407هـ". 139- شرح معاني الآثار: للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك الطحاوي "229- 321هـ"- تحقيق/ سيد جاد الحق- طبع دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان- ط. الأولى "1399هـ - 1979م". 140- شرح المواهب اللدنية: للزرقاني- المطبعة الأزهرية "1325هـ". 141- شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الحديث: للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني "773- 852هـ"، مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة. 142- شرف أصحاب الحديث: للخطيب البغدادي- تحقيق: محمد سعيد خطيب- مطبعة جامعة أنقرة "1971م". 143- شروط الأئمة الخمسة: للحافظ أبي بكر محمد بن موسى الحازمي- دار الكتب العلمية- بيروت - لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 144- شروط الأئمة الستة: للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي- دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان. 145- صحيح مسلم: للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري "206- 261هـ" طبع دار إحياء الكتب العربية- الطبعة الأولى "1375هـ- 1955م"- ترقيم/ محمد فؤاد عبد الباقي. 146- صحيح ابن حبان: للإمام محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي "354هـ"- تحقيق/ كمال يوسف الحوت- طبع دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان- ط. الأولى "1407هـ- 1987م". 147- صحيح ابن خزيمة: للإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري "223- 311هـ" تحقيق الدكتور/ محمد مصطفى الأعظمي- طبع المكتب الإسلامي- بيروت. 148- صحيفة همام بن منبه: بتحقيق أ. د/ رفعت فوزي، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة. 149- صفة الصفوة: لابن الجوزي "510- 597م"، طبعة حيدر آباد "1355هـ". 150- صفة الفتوى والمفتي والمستفتي: لأحمد بن حمدان الحراني الحنبلي "603- 695هـ"- طبعة المكتب الإسلامي- بيروت. 151- صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط: لأبي عمرو بن الصلاح "ت 643هـ"- تحقيق/ موفق بن عبد الله بن عبد القادر - طبع دار الغرب الإسلامي- لبنان. 152- الضعفاء الكبير: لأبي جعفر محمد بن موسى بن حماد العقيلي المكي- تحقيق/ عبد المعطي قلعجي- طبعة دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الأولى "1404هـ- 1984م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 153- الضعفاء والمتروكين: لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي "ت 303هـ"- طبع دار المعرفة- بيروت. 154- الطبقات: للإمام أبي عمرو خليفة بن خياط العصفري "ت 240هـ"- "رواية أبي عمران موسى بن زكريا التستري"- تحقيق الدكتور/ أكرم ضياء العمري- طبع دار طيبة- الرياض. 155- طبقات الحفاظ: للسيوطي "849- 911هـ"- طبع دار الكتب العلمية- بيروت- ط. الأولى "1403هـ - 1983م". 156- طبقات الحنابلة: للقاضي أبي الحسن محمد بن أبي يعلى- مطبعة السنة المحمدية "1371هـ- 1952م". 157- طبقات الشافعية الكبرى- لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي "727- 771هـ"- طبعة الحلبي- الطبعة الأولى "1383هـ - 1964م"- تحقيق/ عبد الفتاح محمد الحلو، ومحمود محمد الطناحي. 158- الطبقات الكبرى: لمحمد بن سعد كاتب الواقدي- طبع دار صادر- بيروت، وطبع دار التحرير- القاهرة "1388هـ - 1968م"، وطبعة الخانجي بالقاهرة "2001م". 159- طرح التثريب في شرح التقريب: لعبد الرحيم بن الحسين العراقي "806هـ" بالاشتراك مع ولده أبي زرعة العراقي "826هـ"- مطبعة جمعية النشر الأزهرية "1353هـ"، ومطبعة دار المعارف- حلب- سوريا. 160- العبر في خبر من غبر: للإمام الحافظ الذهبي- تحقيق/ صلاح الدين المنجد، وفؤاد السيد الكوبي- طبع "1960م". 161- العقد الفريد: لأحمد بن محمد بن عبد ربه- تحقيق: محمد سعيد العريان، مطبعة الاستقامة بالقاهرة- الطبعة الثانية "1372هـ-1953م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 162- العلل: للإمام الترمذي أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة "206- 279هـ"- آخر الجزء الخامس من السنن "راجع: سنن الترمذي". 163- علل الحديث: للإمام أبي محمد بن عبد الرحمن الرازي الحافظ ابن الإمام أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر "240- 327هـ"- مكتبة المثنى ببغداد "1343هـ". 164- العلل ومعرفة الرجال: للإمام أحمد بن حنبل- تحقيق/ طلعت قوج بيكت، وإسماعيل أوغى- طبع أنقرة. 165- العلم: لأبي خيثمة: زهير بن حرب "234هـ"- بتحقيق/ الألباني- المطبعة العمومية- دمشق. 166- علوم الحديث: لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري الشهير بابن الصلاح "577- 643هـ"- طبع دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان "1398هـ- 1978م". 167- عمدة القاري بشرح صحيح البخاري: للإمام بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني "762- 855هـ"- طبع دار الفكر "1399هـ- 1979م"- طبع الحلبي- ط. الأولى "1392هـ-1972م". 168- عمل اليوم والليلة- للإمام أحمد بن شعيب النسائي "ت 303هـ"- تحقيق الدكتور/ فاروق حمادة- طبع مؤسسة الرسالة- بيروت- ط. الثالثة "1407هـ- 1987م". 169- عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير: لفتح الدين أبي الفتح محمد بن عبد الله بن محمد "ابن سيد الناس" الشافعي "734هـ"- مكتبة القدسي "1356هـ". 170- غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة- للحافظ أبي الحسين يحيى بن علي بن عبد الله القرشي الشهير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 برشيد الدين العطار "584-662هـ"، تحقيق/ محمد خرشافي- دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان- الطبعة الأولى "1417هـ-1996م"، توزيع مكتبة عباس أحمد الباز- مكة المكرمة. 171- غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام: لمحمد بن داود بن محمد اليازني "925هـ- 1519م". 172- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر العسقلاني "773- 852هـ"- ترقيم/ محمد فؤاد عبد الباقي- المطبعة السلفية- بالقاهرة- وطبعة دار الريان للتراث- بالقاهرة- الطبعة الثانية "1987م". 173- فتح الباري شرح صحيح البخاري: للحافظ زين الدين أبي الفرج بن رجب الحنبلي "736- 795هـ"- الناشر: مكتبة الغرباء الأثرية بالمدينة المنورة- الطبعة الأولى "1417هـ-1996م"- مؤسسة الرسالة. 174- فتح المغيث بشرح ألفية الحديث: للإمام الحافظ زين الدين الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي "725- 806هـ" مطبعة وكالة النخلة- القاهرة - ط. الأولى- ومكتبة السنة. 175- فتح المغيث شرح ألفية الحديث: للإمام شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي "902هـ"، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة- الطبعة الثانية "1388هـ-1968م"، والطبعة الهندية "1952م". 176- الفهرست في أخبار العلماء المصنفين من القدماء والمحدثين وأسماء كتبهم: لمحمد بن إسحاق النديم، المعروف بأبي يعقوب الوراق- تحقيق/ رضا تجدد. 177- "فهرسة ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنفة في ضرب من ضروب العلم وأنواع المعارف": لأبي بكر محمد بن خير بن عمر بن خليفة الأموي الإشبيلي "502- 575هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 178- فيض الباري على صحيح البخاري: للشيخ/ محمد أنور الكشميري "1352هـ"- مطبعة حجازي- القاهرة- ط. الأولى "1357هـ". 179- فيض القدير شرح الجامع الصغير- لمحمد عبد الرءوف المناوي، طبع دار المعرفة- بيروت- ط "2"، "1391هـ-1972م"، وطبع المكتبة التجارية بمصر. 180- قواعد في علوم الحديث: لظفر أحمد العثماني التهانوي- تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة- دار السلام للطبع والنشر- الطبعة السادسة "1417هـ-1996م"- القاهرة. 181- الكاشف: للذهبي- طبع دار الكتب العلمية- بيروت. 182- الكامل في التاريخ: لابن الأثير الجزري علي بن محمد عز الدين- المطبعة المنيرية بالقاهرة "1348هـ". 183- الكامل في ضعف الرجال: للإمام أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني "277- 365هـ" طبع دار الفكر بيروت- لبنان "1404هـ- 1984م". 184- كتب السنة دراسة توثيقية - الجزء الأول: أ. د/ رفعت فوزي عبد المطلب- مكتبة الخانجي- ط. الأولى "1399هـ- 1979م" "والجزء الثاني مخطوط بالآلة الكاتبة". 185- كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة: للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي "735- 807هـ"- تحقيق/ حبيب الرحمن الأعظمي- طبع مؤسسة الرسالة- ط. الأولى "1399هـ- 1979م". 186- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: لإسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي "ت 1162هـ"- تحقيق/ أحمد القلاش- مكتبة التراث الإسلامي- حلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 187- كشف الظنون من أسامي الكتب والفنون: لملا كاتب الجلبي مصطفى بن عبد الله المعروف بحاجي خليفة "ت 1067هـ"- طبع دار الفكر- بيروت. 188- الكفاية في علم الرواية: لأحمد بن علي الخطيب البغدادي "463هـ"- طبع دار الكتب العلمية- بيروت- وطبع دار الكتاب الحديثة بالقاهرة "1410هـ-1990م"، وطبعة الهند، وطبعة دار الكتاب ببيروت- الطبعة السادسة "1986م" بتحقيق أ. د/ أحمد عمر هاشم. 189- الكمال في أسماء الرجال: للإمام ولي الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب- مات بعد سنة "737هـ". 190- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: للعلامة علاء الدين علي المنتقى به حسام الدين الهندي البرهان فوري "ت 975هـ"- مكتبة التراث الإسلامي- حلب. 191- الكنى: للإمام البخاري- وهو الجزء التاسع من كتاب التاريخ الكبير "مطبوع من المجلد الثامن"- طبع الهند. 192- الكنى والأسماء: للإمام مسلم بن الحجاج- تحقيق/ عبد الرحيم محمد أحمد القشيري- الجامعة الإسلامية- المدينة المنورة- الطبعة الأولى "1404هـ- 1984م". 193- الكنى والأسماء: لأبي بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي "224-310هـ"- طبع دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان- الطبعة الثانية "1403هـ- 1983م". 194- اللباب في تهذيب الأسماء: لابن الأثير- طبع دار صادر- بيروت "1400هـ- 1980م". 195- لسان العرب: للإمام أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري "630- 711هـ"- دار المعارف- القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 196- لسان الميزان: للحافظ ابن حجر العسقلاني- طبع دائرة المعارف العثمانية- بالهند "1329هـ". 197- مباحث في علم الجرح والتعديل: لقاسم علي سعد- طبع دار البشائر الإسلامية- بيروت- لبنان- الطبعة الأولى "1408هـ- 1988م". 198- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي "ت 807هـ"- طبع دار الكتاب العربي- بيروت- لبنان- الطبعة الثالثة "1402هـ- 1982م". 199- المجموع "شرح المهذب للشيرازي": للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي- تحقيق/ محمد نجيب المطيعي- مكتبة الإرشاد- جُدَّة- السعودية. 200- مجموع فتاوى ابن تيمية "جمع وترتيب" عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، وابنه محمد- طبع السعودية- ط. الثانية "1398هـ"- مصورة عن الطبعة الأولى. 201- محاسن الاصطلاح "مع مقدمة ابن الصلاح": لسراج الدين البلقيني- تحقيق/ عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ"- مطبعة دار الكتب "1974م"- الهيئة المصرية العامة للكتاب- مركز تحقيق التراث. 202- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي: للرامهرموزي- تحقيق/ محمد عجاج الخطيب- طبع دار الفكر- بيروت- ط. الأولى "1971م"، والنسخة المخطوطة "نسخة كوبريللي رقم 397 في إستانبول". 203- المحلى: لأبي محمد بن أحمد بن سعيد بن حزم "ت 456هـ"- طبع دار الفكر. 204- مختصر سنن أبي داود: للإمام عبد العظيم بن عبد القوي، زكي الدين، أبي محمد، المنذري "581- 656هـ"، مكتبة السنة المحمدية، بالقاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 205- مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول: لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل "أبو شامة" "1328هـ". 206- المدخل إلى توثيق السنة وبيان مكانتها في بناء المجتمع الإسلامي: أ. د/ رفعت فوزي عبد المطلب- مطبعة السعادة- مكتبة الخانجي- الطبعة الأولى "1398هـ- 1978م". 207- المدخل إلى الصحيح: لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري "ت 405هـ"- تحقيق/ ربيع المدخلي- طبع مؤسسة الرسالة- الطبعة الأولى "1404هـ". 208- المدخل إلى معرفة الصحيحين: لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري "ت 405هـ"- رسالة ماجستير لإبراهيم بن علي بن محمد الكليب- جامعة الإمام محمد بن سعود- كلية أصول الدين بالرياض- قسم السنة وعلومها. 209- المدخل في أصول الحديث: للحاكم "ت 405هـ" المطبعة العلمية- حلب "1351هـ". 210- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: للإمام علي بن سلطان محمد القاري المعروف بملا علي القاري "ت 1014هـ"- طبعة دار إحياء التراث العربي- بيروت "1309هـ". 211- مروج الذهب: لأبي الحسن علي بن حسين بن علي المسعودي- تحقيق/ محمد محيي الدين عبد الحميد- الطبعة الثالثة بالقاهرة "1377هـ-1958م". 212- مرويات الإمام البخاري في غير الصحيح: جمع وترتيب ودراسة "رسالة ماجستير"- د/ علي عبد الباسط مزيد- كلية دار العلوم- جامعة القاهرة. 213- المستدرك على الصحيحين في الحديث: لأبي عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري "ت: صفر 405هـ" وفي ذيله تلخيص المستدرك: للإمام الذهبي "ت 748هـ"- طبع دار الفكر- بيروت "1398هـ- 1987م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 214- مسند الإمام أحمد بن حنبل: طبع المكتب الإسلامي- بيروت- ط. الرابعة "1403هـ- 1983م" بالإضافة إلى الأجزاء التي حققها الأستاذ/ أحمد محمد شاكر، بالقاهرة. 215- المسند: للإمام أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي "ت 219هـ" - طبع عالم الكتب- بيروت- ومكتبة المتنبي- بالقاهرة. 216- مسند الإمام الشافعي: أبي عبد الله محمد بن إدريس "150- 204هـ" دار الريان للتراث. 217- المسند: لأبي داود الطيالسي سليمان بن داود بن الجارود الفارسي البصري "ت 204هـ"- طبع دار المعرفة- بيروت- لبنان. 218- مسند أبي يعلى الموصلي: للإمام أحمد بن علي بن المثنى التميمي "210- 307هـ"- تحقيق: حسين سليم أسد- طبع دار المأمون للتراث- دمشق- ط. الأولى "1404هـ- 1984م". 219- مشاهير علماء الأمصار: للإمام محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي "354هـ"- طبع بيروت- لبنان. 220- المشتبه في الرجال أسمائهم وأنسابهم: لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي "748هـ"- تحقيق: علي محمد البجاوي- طبع دار إحياء الكتب العربية "الحلبي"- ط. الأولى "1962م". 221- مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: للشهاب أحمد بن بكر البوصيري "762-840هـ" تحقيق: موسى محمد علي- والدكتور/ عزت علي عطية- مطبعة حسان- القاهرة- الناشر دار الكتب الحديثة بالقاهرة. 222- المصنف: لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني "126- 211هـ"، ومعه كتاب الجامع: للإمام معمر بن راشد الأزدي، رواية الإمام/ عبد الرازق الصنعاني- تحقيق/ حبيب الرحمن الأعظمي- طبع المكتب الإسلامي- بيروت- الطبعة الثانية "1403هـ- 1983م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 223- المصنف في الأحاديث والآثار: لعبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان أبي بكر بن أبي شيبة الكوفي العبسي "ت 235هـ"- تحقيق/ مختار أحمد الندوي- الهند- الطبعة الأولى "1403هـ- 1983م"، وطبع مطبعة العلوم الشرقية- بالهند- الطبعة الأولى "1349هـ- 1971م". 224- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: لابن حجر العسقلاني "773- 852هـ" بتحقيق/ حبيب الرحمن الأعظمي. 225- معالم السنن للخطابي "319- 388هـ" على هامش سنن أبي داود- طبعة دار الحديث: حمص- سوريا "1393-1973م". 226- المعجم الأوسط: للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني "260- 360هـ"- تحقيق/محمود الطحان- مكتبة المعارف بالرياض- الطبعة الأولى "1405هـ- 1985م". 227- المعجم الكبير: للطبراني "260- 360هـ" مطبعة الدار العربية- ببغداد- الطبعة الأولى- تحقيق/ حمدي عبد المجيد السلفي. 228- المعجم المشتمل على ذكر أسماء الشيوخ النبل: لابن عساكر- تحقيق/ سكينة الشهابي- طبع دار الفكر- سوريا. 229- المعجم المفرس لألفاظ الحديث النبوي: تأليف لفيف من المستشرقين- مطبعة بريل في مدينة ليدن "1936م". 230- المعجم المفرس لألفاظ القرآن الكريم: للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي- طبع دار الشعب. 231- المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية- الطبعة الثالثة. 232- معرفة السنن والآثار: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي "384- 458هـ"- تحقيق: السيد أحمد صقر، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 233- المعرفة والتاريخ: لأبي يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي "277هـ"- تحقيق/ أكرم العمري- طبع مؤسسة الرسالة- بيروت. 234- معرفة الثقات من رجال أهل العلم والحديث: للعجلي- تحقيق/ عبد العظيم البستوي- مكتبة الدار- المدينة المنورة- الطبعة الأولى "1405هـ-1985م". 235- معرفة علوم الحديث: للإمام أبي عبد الله الحاكم النيسابوري "321- 405هـ" مطبعة دار المعارف العثمانية- بالهند- الطبعة الثانية "1385هـ"، وطبعة دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الثانية "1977م". 236- المغني: لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة "ت 620هـ"- "على مختصر الإمام أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي، ويليه الشرح الكبير على متن المقنع": لأبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي- طبع دار الكتب العلمية- بيروت. 237- مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة: للإمام جلال الدين السيوطي "819هـ"، المكتبة السلفية بالقاهرة. 238- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم- للإمام أبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي "578- 656هـ"- طبعة دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب بدمشق "بيروت"- الطبعة الأولى "1417هـ-1996م". مقدمة ابن الصلاح. راجع: علوم الحديث "سبق". 239- مكانة الصحيحين: للدكتور/ خليل إبراهيم ملا خاطر- المطبعة العربية الحديثة- العباسية- الطبعة الأولى- "1402هـ". 240- الملل والنحل: لأحمد الشهرستاني- طبعة القاهرة "1381هـ-1961م". 241- من اتهم بالبدعة وهو موثق: للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي "ت 748هـ"- طبع عمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 242- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: لابن الجوزي "510- 597هـ"- طبع دائرة المعارف العثمانية بالهند "1358هـ". 243- منهج الإمام مسلم في ترتيب كتابه الصحيح ودحض شبهات حوله: للدكتور/ ربيع بن هادي المدخلي- مكتبة المنار- المدينة المنورة. 244- المنهل العذب المورود- للشيخ محمود خطاب السبكي. 245- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي- تحقيق/ محمد عبد الرزاق حمزة- المطبعة السلفية- القاهرة. 246- الموضوعات: لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي القرشي "510- 597هـ" طبعة المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. 247- الموطأ: للإمام مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي "93- 179هـ" تحقيق/ محمد فؤاد عبد الباقي- طبع دار إحياء الكتب العربية "الحلبي". 248- المؤتلف والمختلف: لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني البغدادي "ت 385هـ"- تحقيق الدكتور/ موفق بن عبد الله بن عبد القادر- طبع دار الغرب الإسلامي- بيروت- لبنان- الطبعة الأولى "1406هـ- 1986م". 249- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: للذهبي "ت 748هـ"- تحقيق/ علي محمد البجاوي- طبع دار المعرفة - بيروت، وطبع دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى "1382هـ - 1963م". 250- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: لجمال الدين أبي المحاسن يوسف الأتابكي بن تغري بردي "ت 874هـ"- طبع دار الكتب "1929- 1956م". 251- نخبة الفكر: للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني "852هـ"- تعليق: محمد الصباغ- مكتبة الغزالي - دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 252- نشأة علوم الحديث ومصطلحه: للدكتور/ محمد عجاج الخطيب- رسالة دكتوراه بكلية دار العلوم. 253- نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية: للحافظ جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي "ت 762هـ"- طبعة المكتب الإسلامي- بيروت- الطبعة الثانية "1393هـ". 254- النكت على كتاب ابن الصلاح: للحافظ ابن حجر العسقلاني "852هـ" الطبعة الأولى "1404هـ- 1984م"- المجلس العلمي لإحياء التراث الإسلامي- المدينة المنورة- الطبعة الأولى. 255- النكت الظراف على الأطراف: للحافظ ابن حجر العسقلاني "852هـ" على تحفة الأشراف للمزي "742هـ"- تحقيق/ عبد الصمد شرف الدين- طبعة الدار القيمة - بالهند. 256- النهاية في غريب الحديث والأثر: لمجد الدين أبي السعادات المبارك محمد الجزري بن الأثير "544- 606هـ"- تحقيق/ طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي- طبع دار إحياء الكتب العربية- الحلبي- الطبعة الأولى- "1383هـ- 1963م". 257- هدى الساري مقدمة فتح الباري شرح صحيح البخاري: العسقلاني "773- 852هـ" طبعة بولاق. 258- الوافي بالوفيات: للصفدي- سلسلة النشرات الإسلامية- بجمعية المستشرقين الألمانية. 259- وفيات الأعيان: لابن خلكان- تحقيق/ إحسان عباس- طبع بيروت. 260- لامع الدراري على جامع البخاري: طبع كراتشي- باكستان، والمكتبة الإمدادية- باب العمرة- مكة المكرمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الفهرس : الموضوع الصفحة المقدمة 7 التمهيد الفصل الأول: منكرو السُّنَّة والرد عليهم 13 المبحث الأول: مزاعم منكري السُّنَّة قديمًا والرد عليها 13 المبحث الثاني: منكرو السُّنَّة حديثًا، وتفنيد مزاعمهم 23 الفصل الثاني: مكانة السُّنَّة في التشريع الإسلامي 29 الباب الأول: مناهج المحدثين في القرن الأول الهجري الفصل الأول: مظاهر اهتمام الصحابة بالسُّنَّة 37 الفصل الثاني: كتابة السُّنَّة في العهد النبوي 39 الفصل الثالث: أشهر الصحف والكتابات في العهد النبوي 45 الفصل الرابع: الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن حزم 51 الفصل الخامس: بواعث كتابة الحديث الشريف في القرن الأول الهجري 59 الفصل السادس: مظاهر احتياط الصحابة في قبول الحديث الشريف 63 الفصل السابع: منهج الصحابة في رواية الحديث الشريف 75 الفصل الثامن: الصحابة المكثرون لرواية الحديث الشريف 91 الفصل التاسع: أسباب تفاوت الصحابة في رواية الحديث الشريف 173 الفصل العاشر: دور أمهات المؤمنين في خدمة الحديث الشريف 174 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 الفصل الحادي عشر: أسباب تفاوت أمهات المؤمنين في الرواية 205 الباب الثاني: مناهج المحدثين في القرن الثاني الهجري الفصل الأول: المستجدات في هذا العصر 207 الفصل الثاني: التدوين الشامل للسُّنة في هذا العصر، ومنهج العلماء في التصنيف 209 الفصل الثالث: جهود التابعين في توثيق السُّنَّة وحفظها وتدوينها في النصف الأول من القرن الثاني الهجري 213 الفصل الرابع: أشهر الصحف والكتابات في القرن الثاني الهجري 217 الفصل الخامس: ضوابط الرواية عند التابعين 221 الفصل السادس: التصنيف في القرن الثاني وبداية الثالث الهجريين 223 الفصل السابع: الأئمة الأربعة، وأثرهم في علوم الحديث 227 الباب الثالث: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري وحتى عصرنا الحاضر الفصل الأول: مناهج المحدثين في القرن الثالث الهجري 249 المبحث الأول: أهم المشكلات التي واجهت المحدثين في القرن الثالث الهجري 249 المبحث الثاني: تدوين الحديث وعلومه في القرن الثالث الهجري 255 المبحث الثالث: مناهج العلماء في تدوين الحديث في القرن الثالث الهجري 257 المبحث الرابع: أئمة القرن الثالث الهجري، ومناهجهم، وفيه: الإمام البخاري، والإمام مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد بن حنبل 261 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الفصل الثاني: مناهج المحدثين في القرن الرابع الهجري 409 الفصل الثالث: منهج التصنيف في القرن الخامس وحتى سقوط الخلافة العباسية 427 الفصل الرابع: منهج التصنيف من سقوط الخلافة العباسية حتى عصرنا الحاضر 433 المبحث الأول: السُّنَّة من عام "656هـ" حتى عام "911هـ" 433 المبحث الثاني: دور العلماء في خدمة السُّنة بعد عام "911هـ" وحتى آخر القرن الرابع عشر الهجري 449 المبحث الثالث: دور أشهر الممالك التي كان لها أثر ملموس في خدمة السنة في هذا العصر 453 المبحث الرابع: جهود علماء المسلمين في خدمة السنة في العصر الحاضر 457 المصادر والمراجع 463 الفهرس العام للموضوعات 491 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493