الكتاب: الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون المؤلف: حسن علي الشاذلي الناشر: دار الكتاب الجامعي الطبعة: الثانية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون حسن علي الشاذلي الكتاب: الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون المؤلف: حسن علي الشاذلي الناشر: دار الكتاب الجامعي الطبعة: الثانية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول المقدمات الإفتتاحية: افتتاحية الطبعة الثانية ... افتتاحية الطبعة الثانية: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن نهج نهجه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد كانت -ولا تزال- رغبة أمتنا العربية والإسلامية تواقة ومتشوقة ومتطلعة إلى العودة إلى العمل بالشريعة الإسلامية، وتطبيقها في كل ربوع الحياة، والاستفادة بهديها في إصلاح عقائد الناس وأخلاقهم وتصرفاتهم وجميع علاقاتهم أفرادًا وجماعات. وهذه الرغبة أزكاها إيمانها الذي لا يتزعزع بأنها شريعة الله الذي يعلم مَن خلق ويعلم ما يصلحه في معاشه ومعاده، وثقتها التامة في أن الابتعاد عنها هو سبب انحطاط هذه الأمة وتأخرها، ووقوعها في براثن المستعمرين ومخالب الغزاة وتفكك عراها، وتشعب أغراض أفرادها، وتنافر أهدافهم وتباين مصالحهم. لكل ذلك وبعد تجربة قاسية مضى عليها زمن ليس باليسير عادت تنشد عودة العمل بشريعتها الغراء، وتطلبه على كل المستويات، مدركة أن ما هي فيه الآن من ابتعاد عن هذا المسلك الذي اختاره لها الله تعالى هو ابتعاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 عن حقيقتها وجهل بشخصيتها ونسيان لذاتها وانصهار في بوتقة الاستعمار واستبقاء لأثر من آثاره البغيضة. ومن ثم اتجه الباحثون في كل أرجاء العلاقات الإنسانية إلى دراسة التشريع الإسلامي، ومعرفة ما يحويه من حلول لمشكلات المجتمع خاصها وعامها، نفسيها وأخلاقيها وتشريعيها. ولما كان أكثر تراث أمتنا الإسلامية يحتاج إلى تقريب لأذهان غير المتمرسين على دراسته، وتبسط يلائم ما تعوده العصر من تقديم المعلومة في أبسط الأساليب وأقربها؛ لذلك كان واجب فقهاء علوم الشريعة أن يوجهوا جهودهم إلى أمرين: أولهما: إبراز هذا التراث في صورة تغذي بيسر سهولة عقول الراغبين في المعرفة على كل المستويات. وثانيهما: التصدي للجديد من مشكلات المجتمع وأحداثه ونظمه بوضع الحلول الملائمة لها والمنبثقة من شريعة الله تعالى التي أحاطت بكل شيء. وإنني في هذا المؤلَّف قد بذلت جُهْدي في إبراز جانب من جانب فقهنا العريق، متوخيًا في إبرازه الإحاطة بآراء فقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم، مع بسط لأدلة كل رأي، ومناقشة جميع الأدلة، وترجيح ما يرجحه الدليل، ثم عارضًا رأي الفقه الوضعي، ومبينًا ما احتوى عليه من ثالب ما جره هذا القانون على المجتمع من تفشي الجرائم وتقلص الأمن وزعزعة الطمأنينة. وقد أضفت في هذه الطبعة أبحاثًا جديدة منها "الجناية على الجنين، القسامة، انتفاع الإنسان بجسمه، أو جسم غيره: حيًّا أو ميتًا"، وكذلك بينت أحكام الجناية على ما دون النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وإنني لأرجو الله تعالى أن يتقبل مني هذا الْجُهْد المحدود، وأن يجعله شعاعًا على الطريق يهدي ويرشد، وأن يوفقنا إلى متابعة المسيرة، وأن يجنبنا الزلل. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . دكتور حسن علي الشاذلي رئيس قسم الفقه المقارن كلية الشريعة والقانون تحريرًا في: 19 من ذي الحجة 1397هـ الموافق: 29 من نوفمبر سنة 1977م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 افتتاحية الطبعة الأولى: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين. أما بعد: فقد أسعد الله البشرية بما ميزها به من العقل والتفكير، وكرمها أيما تكريم بإرسال الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- هداة ومصلحين ومرشدين الناس إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، وما فيه نجاتهم من الشرور في أولاهم وأخراهم، فهم رحمة الله المهداة، ونوره المبين، ورعايته التامة للخلق. ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تتابع رسالاتهم عبر القرون تتابعًا يتفق ونمو المجتمع الإنساني العقلي والاجتماعي، واتساع مداركه وأفكاره، وتشابك مصالحه وأغراضه، وتطور حضارته ومتطلباته. فكان لكل زمن تشريعه المناسب، ولما بلغ المجتمع الإنساني أشده، ووصل إلى درجة من النضج الفكري والحضاري تؤهله لتلقي التشريع تامًّا كاملًا أرسل الله -جل شأنه- محمدًا -عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام- خاتم النبيين بالتشريع التام الكامل الذي حوى تنظيمًا شاملًا لكل العلاقات: علاقة الفرد بربه، وعلاقة الفرد بالفرد، وعلاقة الفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالجماعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وعلاقة كل هؤلاء بالدولة، وعلاقة الدولة بهم، وعلاقة الدول بعضها ببعض في تشريع تام كامل {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1، يعلم ما يصلح حالنا فيأمرنا به، وما يفسد حياتنا فيحرمه علينا. ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يضع لنا تنظيمًا دقيقًا للعبادات، وأن يرسيَ لنا القواعد الكلية في المعاملات مبينة الحلال والحرام، وأن يترك لفقهاء الأمة الإسلامية المجتهدين النظر في كثير من الأمور الجزئية، ومن هنا كانت مرونة هذا التشريع وصلاحيته لكل زمان ومكان، وكان اختلاف الفقهاء في بعض المسائل، الكل رائده الوصول إلى الحق، والوصول إلى الحكم الشرعي، باذلًا في سبيل ذلك أقصى جُهْده وطاقته العلمية والفكرية، وما يهيئ لهما العمل السليم للوصول إلى حكم الله جل شأنه. وحسبنا اليوم في دراستنا لفقه الكتاب والسُّنة أن نبين بدقة وجهة كل منهم في استنباطه الحكم الشرعي، ثم نقارن بين هذه الآراء، وأخيرًا نرجح ما نراه راجحًا، عمادنا في ذلك ما وضعه لنا سلفنا الصالح من معايير وقواعد للترجيح. وقد وقع اختيارنا على أحد الموضوعات الهامة في الفقه الإسلامي؛ وهو: "أنواع الجنايات وحكم كل جناية"؛ لأن هذا الموضوع يمثل قسمًا هامًّا من الدراسات الفقهية والقانونية لم يظفر بمثل ما ظفر به غيره من الموضوعات من البحث في العصر الحديث، ويحتاج إلى مثابرة للدراسة ومتابعتها حتى ينكشف لفقهائنا المحدثين ما يحتوي عليه الفقه الإسلامي من رعاية لمصالح الأمة أفرادًا وجماعات، ودرء للمفاسد عنها صغيرها وكبيرها؛ وبذلك يتحقق -بمشيئة الله تعالى- ما يُرجى لهذه الدراسة من أهداف.   1 سورة فصلت الآية رقم "42". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ونجعل هذا الموضوع في تمهيد وبابين: التمهيد: ويحتوي على تعريف للجناية، ثم بيان لميزات العقوبات في الفقه الإسلامي. الباب الأول: ونبين فيه أنواع الجنايات على نفس الغير، والعقوبات المقررة لكل جناية. الباب الثاني: ونبين فيه أنواع الجنايات على ما دون النفس، وعقوبة كل جناية. وستكون دراستنا المقارنة -بإذن الله تعالى- شاملة للمذاهب الفقهية، كما سنقارن نتائج هذه الدراسة بالقانون الوضعي في مصر وغيرها. وإننا لنستعين بالله تعالى في دراستنا راجين أن يهبنا من هداه وتوفيقه وعونه ما ينير لنا الطريق إلى ما نصبو إليه من أهداف، وأن يرينا الحق حقًّا فنتبعه والباطل باطلًا فنجتنبه، وأن يكتب التوفيق لأبنائنا الدارسين حتى يكونوا نواة صالحة وبذرة طيبة لوطنهم ولأمتهم وللإنسانية جميعًا. والله ولي التوفيق. حسن علي الشاذلي مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون القاهرة في: 6 من شوال 1390هـ 5 من ديسمبر 1970م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 التمهيد : الجريمة والجناية في الفقه الإسلامي : الجريمة والجرائم لغة: الذنب، تقول منه جرم وأجرم وأجترم وجرم أيضًا: كسب، وبابهما ضرب. وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا} 1 أي: لا يحملنكم بغض قوم ... أو لا يكسبنكم ... وقوله تعالى: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} 2 أي: عما اكتسبنا. والإجرام مصدر أجرم، وهو اقتراف السيئة، قال تعالى: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} 3 أي: عقوبة إجرامي، أو جزاء جرمي وكسبي. فالجرم يستعمل بمعنى الذنب، ويستعمل بمعنى كسب الآثم. والجرائم في الشرع: هي محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير، ولها عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية، ولها عند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجبه الأحكام الشرعية4. والمحظورات الشرعية: هي عصيان أوامر الله تعالى ونواهيه، فعصيان النواهي جرائم إيجابية؛ لأنها فعل ما نهى الله تعالى عنه، كالقتل أو الزنا، وعصيان أوامره جرائم سلبية؛ لأنها امتناع عن أداء ما أوجبه الله سبحانه وتعالى، كترك الصلاة، ومنع الزكاة.   1 الآية 8 من سورة المائدة. 2 الآية 25 من سورة سبأ. 3 الآية 35 من سورة هود. 4 الأحكام السلطانية للماوردي ص219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر به؛ لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذرًا من ألم العقوبة، وخيفة من نكال الفضيحة؛ ليكون ما حظر من محارمه -جل شأنه- ممنوعًا، وما أمر به من فروضه متبوعًا، فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم، وتتحقق الرحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أي: في استنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة، وكفهم عن المعاصي، وبعثهم على الطاعة، وتحقيق مصالحهم الحقيقية في الدارين. والجريمة بهذا المعنى إنما تكون إذا شرع الله تعالى للمحظور عقوبة، وما لم يشرع له عقوبة لا يكون جريمة. إلا أن دائرة المحظورات التي شرعت لها عقوبة في الفقه الإسلامي أوسع بكثير من دائرة الجرائم في الفقه الوضعي. وذلك لأن التشريع الإسلامي جاء بأمور ثلاثة: إصلاح العقائد، وإصلاح الأخلاق، وإصلاح علاقات الإنسان بربه -جل شأنه- وبالمجتمع الذي يعيش فيه أفرادًا جماعات، أحياء أو أمواتًا، وبالكائنات الأخرى، وفي كل مجال من هذه المجالات أحكام إما أوامر توجب عملًا من الأعمال أو نواهي توجب تركًا من التروك أو تحظر فعلًا من الأفعال، وهي في كل ذلك تشرع للناس ما يحقق مصالحهم بجلب النفع لهم، ودرء الضر عنهم، حتى يعيش المجتمع آمنًا مطمئنًا مستقرًّا لا يعكر صفوه شاذ أو ناد، أو متهور أو أناني. أما القوانين فإنها وإن كان أساس التجريم فيها خلقي، وهو قصد تحقيق مصالح الناس، إلا أنها تقتصر على استيعاب دائرة الفقه الإسلامي تصورًا شنيعًا؛ لأنها لا تقوم على أساس الدين، الذي يرقق النفس البشرية ويترقَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بها ويصفيها من الأثرة والأنانية حتى يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه. ولكنها تقوم على أساس الواقع، وما تعارف الناس عليه من عادات وتقاليد، حتى ولو كان ذلك في الحقيقة والواقع مثلبة من المثالب، ونقيصة من النقائص، يرفضها العقل السليم والنفس السوية، فالزنا لا تعاقب عليه القوانين، إلا إذا أكره أحد الطرفين الآخر، أو كان الزنا بغير رضاه رضاء تامًّا، مع أن أيًّا من مشرعي هذه القوانين يأبَى هذه الجريمة لأمه أو لأخته أو لابنته -حتى لو كانت برضا الطرفين- كما لا يرضاها لابنه ولأخيه ولأبيه، ومن هنا وتحت ظل هذه القوانين انحط المستوى الأخلاقي إلى أدنى دركاته، فسيطر الهوى والغرائز والشهوات على كل التصرفات، وأصبح الصالحون هم الذي يسيرون على نهج ما يمليه عليهم دينهم أو ترشدهم إليه أسرتهم من تعاليم اقتبسوها من دينهم الحنيف، فأصبح الناس في الواقع يتجاذبهم قانونان: قانون وضعي غير راضين عنه، وتشريع سماوي يمتزج بقلوبهم وعقولهم رضًا ومحبة، إيمانًا واعتقادًا، علمًا وعملًا، خلقًا وفلسفة، فهم دائمًا في شوق إلى العمل به، حتى وإن شاءت الظروف إلى تجافيه في بعض الأمور، فإن الضمير والقلب يظل مذكرًا صاحبه حتى يعود إليه. أنواع الزواجر: والزواجر ضربان: حد أو تعزير. فأما الحدود: -وهي العقوبات المقدرة بالشرع- فهي ضربان: أحدهما ما كان من حقوق الله تعالى، وثانيهما ما كان من حقوق الآدميين، وكل واحد منهما إما أن يكون قد وجب الحد فيه لترك مأمور به أو لفعل محظور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 أ- فأما ما وجب بترك ما أمر الشرع به، فإما أن يكون حقًّا لله تعالى أو حقًّا للآدمي. فأما الأول -وهو ما كان حقًّا لله تعالى- فمثله تارك الصلاة، فإن تركها استنكارًا قتل كالمرتد، وإن تركها استثقالًا قتل عند بعض الفقهاء "الحنابلة وبعض أصحاب الحديث، وكذا الشافعية إذا لم يجد نصحه بعد استتابته، ويضرب عند أبي حنيفة في وقت كل صلاة حتى يؤديها" ومن تركها نسيانًا فليصلها إذا ذكرها. فأما الثاني -وهو ما كان من حقوق الآدميين- فمثله الديون وغيرها، فيؤخذ الدين جبرًا عن المدين إذا أمكن ذلك، ويحبس بها إذا تعذر، إلا أن يكون المدين بها معسرًا فينظر إلى ميسرته. ب- وأما ما وجب بارتكاب المحظورات فضربان: أحدهما: ما كان من حقوق الله تعالى، وهي: حد الزنا، وحد السرقة، وحد المحاربة، وحد الخمر. وثانيهما: ما كان من حقوق الآدميين، وهي: حد القذف والقصاص في الجنايات1.   1 ويرى الحنفية أن حد القذف قد اجتمع فيه الحقان "حق الله وحق العبد" وحق الله غالب. وأن القصاص اجتمع فيه الحقان، وحق العبد هو الغالب، وسيأتي بيان تقسيمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وأما التعزيز: فهو عقوبة غير مقدرة شرعًا، أو هو التأديب على ذنوب لم تشرع فيها حدود، ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله، فيوافق الحدود من وجه، وهو أنه تأديب استصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من ثلاثة وجوه: 1- أنه يتفاوت بتفاوت أحوال الناس، فذو الهيئة من أهل الصيانة تعزيره أخف من أهل البذاءة والسفاهة. 2- وأن الحد لا يجوز العفو عنه ولا الشفاعة فيه، وأما التعزيز فيجوز فيه ذلك إن تعلق بحق آدمي وعفا عنه، وأما إن تعلق بحق الله تعالى فقد اختلف في جوازه. 3- وأن الحد إذا ترتب عليه تلف يكون التلف هدرًا، وأما التعزير فإنه يوجب ضمان ما حدث عنه من التلف. التعريف بحق الله تعالى وحق الآدمي: ولما كانت العقوبات تدور حول الحفاظ على حقين: حق الله وحق العبد، فإنه يصبح من الضروري أن نبين رأي الفقهاء في التعريف بهما، وميزات العقوبة التي وضعها المشرع الحكيم جزاء لمن ينتهك حرمتها. أ- حق الله تعالى: المقصود بحق الله تعالى هو كل ما تعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بواحد معين من الناس، فالنفع في هذا الحق يعود على المجتمع كله والضرر من اقتراف المحظور فيه، أو الابتعاد عن المأمور به يعم الناس، وقد نسب هذا الحق إلى الله تعالى -مع أن الله غني عن العالمين- مع أن نفعه يعود على المجتمع تشريفًا لهذا النوع من الحق وتنبيهًا إلى أهميته وضرورة الحرص عليه، وبيانًا لشدة العقوبة على مكتسبه، حتى لا يتهاون الناس ولا يستخفون بآثاره، فيفسد حال المجتمع ويضطرب حال الأمن ويختل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 استقرارهم وتسوء حياتهم. وللفقهاء تقسيمات لهذا النوع من الحق عدها الحنفية ثمانية حقوق: 1- عبادات خالصة: كالإيمان بالله تعالى وما يتفرع عنه من العبادات كالصلاة والصيام. 2- عبادة فيها مؤنة: كصدقة الفطر، فإن من تحققت فيه الشروط اللازم توافرها لإخراج صدقة الفطر وجب عليه إخراجها عن نفسه وعمن يعوله ويتولى الإنفاق عليه، فجهة المؤنة فيها هي وجوبها على الإنسان بسب الغير -كالنفقة- وجهة العبادة فيها تسميتها صدقة وكونها طهرة للصائم، واشتراط النية في أدائها. 3- مؤنة فيها عبادة: كالعشر، وهو ما يؤخذ مما تخرجه الأرض العشرية المملوكة لمسلم. 4- عقوبات كاملة: كالحدود: حد الزنا، حد السرقة، حد شرب الخمر ... 5- عقوبات قاصرة: كحرمان القاتل من الميراث، فإن هذا الحرمان حق الله تعالى؛ لأنه لا نفع فيه للمقتول، وأنه عقوبة للقاتل لكونه غرما لحقه بجنايته؛ حيث حرم من الميراث مع وجود علة الاستحقاق، وهي القرابة، وهي عقوبة قاصرة؛ لأن القاتل لم يلحقه ألم في بدنه ولا نقصان في ماله، بل امتنع ثبوت ملكه في تركة المقتول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلًا فإنه لا يرثه وإن لم يكن له وارث غيره، وإن كان والده أو ولده، فليس لقاتل ميراث" رواه أحمد في مسنده. 6- مؤنة ليس فيها عبادة: كالخراج، وهو ما يؤخذ من الأرض الخراجية من ضريبة تقدر حسب قدرة الأرض على الإنتاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 7- حقوق دائرة بين العبادة والعقوبة: كالكفارات مثل: كفارة القتل، أو كفارة الفطر في رمضان. 8- حق قائم بذاته: وهو الحق الذي يثبت بذاته في شيء من الأشياء من غير أن يتعلق بذمة إنسان يؤديه بطريق الطاعة؛ كخمس الغنائم والمعادن والكنوز التي توجد في باطن الأرض. ب- حق العبد: أما حق العبد فيقصد به: ما تعلق به مصلحة خاصة لصحابه، وأمثلته كثيرة منها: الديون بأنواعها، والحقوق المكتسبة إثر بيع أو إجارة أو شركة، أورهن، أو حوالة، أو كفالة، والنفقات المستحقة لزوجة أو ولد أو قريب. وحق العبد وإن كان خالصًا له إلا أن فيه حق الله تعالى؛ إذ إن نفس الإنسان وماله وكل شئونه فيها حق الله تعالى، فليس له التصرف في شيء من ذلك إلا في حدود ما رسته الشريعة الإسلامية. فإن تجاوزها فكان ظالما وحق عليه العقاب، وكذلك حق الله تعالى فيه مصلحة للعبد؛ لأنه شرع لتحقيق مصالحه من جلب نفع أو دفع ضرر بالنسبة للأفراد والجماعات. ويضيف الحنفية قسمين آخرين للحقوق: ج- ما اجتمع فيه الحقان "حق الله، وحق العبد" وكان حق الله هو الغالب مثل حد القذف1، فلم يجوزوا العفو عنه، كما هو الحال في حق العبد.   1 وقد سبق أن عد هذا الحق عند بعض الفقهاء من حقوق الله تعالى، إلا أن ما غلب فيه حق الله كان حقا لله، ما غلب فيه حق العبد كان حقا للعبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 د- ما اجتمع فيه الحقان وكان حق العبد هو الغالب، مثل القصاص في الجنايات، ونظرا لما روعي فيه من المماثلة، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وماشرع فيه من جواز عفو ولي الدم عن الجاني. الآثار التي تترتب على هذا التقسيم: لا بد لكل تقسيم من فائدة وراءه وإلا لما كان هناك داعٍ إليه؛ ولذلك يلزمنا أن نوضح آثار هذا التقسيم، سواء من ناحية نوع العقوبة، أو الجزاء الذي وضع للجريمة في كل من الحقين، أو من ناحية مميزات كل من العقوبتين. أ- أما نوع الجزاء الذي وضع لمن انتهك حقا لله تعالى فهو: الحد، أو التعزير، أو الكفارة، أو الحرمان من الميراث، والأولان عقوبة بدنية، والأخيران عقوبة مادية، إلا أن الكفارة قد تؤدَّى بالصوم. ب- ميزات العقوبة في كلا الحقين: أ- تتميز عقوبة حق الله تعالى بما يأتي: 1- لا يجرى فيها عفو ولا صلح ولا إبراء؛ بل لا بد من تطبيق العقوب، ة وآية ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين شُفع إليه في المخزومية التي سرقت: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". 2- لا يجرى فيه التوارث، فلا يعاقب ورثة الجاني بما اقترفه؛ لقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1، وقوله جل شأنه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 2. 3- يفوض استيفاء العقوبة إلى الإمام أو نائبه؛ لأنه هو الذي نصب شرعًا لتنفيذ الأحكام ورعاية الأمة. 4- يجرى فيها التداخل، فإذا قذف شخص جماعة بكلمة أو كلمات متفرقة لا يقام عليه إلا حد واحد، وهذا الحكم إنما يكون إذا تكررت جناية معينة واحدة. 5- تتنصف العقوبة بالرق؛ لقوله تعالى في شأن الأرقاء: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 3. ب- كما تتميز عقوبة حق العبد بما يأتي: 1- يجرى فيها العفو والإبراء والصلح. 2- يجرى فيها التوارث بالنسبة لورثة المجني عليه أو وليه. 3- تتكرر العقوبة فيها بتكرار الجناية، فلو شج شخصًا وقطع آخر وقتل ثالثًا، أخذ بجميع ذلك. 4- لا تتنصف العقوبة فيها بالرق. 5- يفوض استيفاؤها إلى المجني عليه أو وليه4.   1 الآية 164 من سورة الأنعام. 2 الآية 38 من سورة المدثر، ويقول الله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} الآية 21 من سورة الطور. 3 الآية 25 من سورة النساء. 4 راجع لنا نظرية الحق في الفقه الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وإذا نظرنا إلى حقوق الله تعالى أو ما اجتمع فيه الحقان، وجدنا أنها تحيط بالعلاقات الثلاث التالية: 1- دائرة العبادات: وهي تنظم علاقة الإنسان بربه، فالإيمان بالله تعالى، وفروع الإيمان من صلاة وصيام وحج، يندرج تحت هذه الدائرة. 2- دائرة العقوبات: وهي تنظم علاقة الناس بعضهم ببعض، وما يجب عليهم من حفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل، وكل من خالف ذلك استحق العقوبة، حتى يسير المجتمع آمنا مطمئنا محققا أهدافه، وكل من عكر صفو هذا الاطمئنان استحق عقوبة تردعه وتزجره عن مثل هذا العمل، ورعاية لهذه المصلحة كانت دائرة العقوبات كلها حقوق الله تعالى؛ أي: لا يجوز أن يسقطها بإبراء أو عفو أو صلح ... كما بينا آنفا، وحتى ما اجتمع فيه الحقان، وكان حق العبد غالبا كالقصاص، نجد أنه إذا كان الشخص خطرا على الأمن، فإن حق الله تعالى يصبح هو الغالب، وننتزع هذا النوع من الحق ونجعله في دائرة حق الله تعالى، نحرم الجاني من التخفيف الذي جعله الشارع لمرتكب هذه الجناية، فيقتل الإمام الجاني القاتل حدا لا قصاصا، ولا يعتد بعفو المجني عليه أو ورثته، وسياتي تفصل ذلك. 3- دائرة الموارد المالية للدولة ومصارفها: وهي تنظم علاقة المواطن بدولته من حيث كفايتها المادية؛ فزكاة الأموال بأنواعها الواجبة على المسلمين، والخراج سواء كان خراجا على الفرد -الجزية- أم خراجا على الأرض المنتجة الواجب على غير المسلمين، وصدقة الفطر وخمس الغنائم، وما في الأرض من معادن وكنوز ... كل ذلك داخل في حق الله تعالى، وقد بين الله تعالى مصارف كل نوع منها، وذلك أيضا إنما وجب بهذه المثابة حفظا لأمن الدولة وصيانة لسيرها، وتعميرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 لمرافقها وتدعيما لمستقبلها، فالمال عصب حياة الفرد، وكذلك عصب حياة الدولة؛ إذ به تمحو الجهل والفقر والمرض، وتنشئ الجيوش وتدعمها، وتبني المرافق العامة وتشيدها، وتدعم أجهزة الدولة بالأَكْفَاء الذين يديرون شئونها التنظيمية والقضائية والتشريعية والاجتماعية، كل ذلك لا يقوم إلا بموارد مالية ثابتة؛ ولذلك كانت هذه الموارد حقا لله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الجناية: الجناية لغة: اسم لما يكتب من الشر، تسمية بالمصدر؛ إذ هي في الأصل مصدر جنَى يجني، ويسمى مكتسب الشر جانيا، والذي وقع الشر عليه مجنيا عليه. والجناية شرعًا: كل فعل محرم حل بالنفس أو غيرها. فكل فعل محرم من الشرع "سواء كان في صورته الإيجابية كارتكاب ما نهى عنه الشرع، أو في صورته السلبية كعدم الإيتان بما وجب الإتيان به" يصدر عن الإنسان يسمى جناية، سواء وقع هذا الفعل على آدمي، أو على أرض، أو على دين، أو على غير ذلك مما يعاقب عليه الشرع. إلا أن أكثر الفقهاء1 قد تعارفوا أن الجناية هي التعدي على   1 ويتضح هذا مما ورد في كثير من الكتب الفقهية. فقد جاء في تبيين الحقائق على الكنز للحنفية "ج7 ص97": "الجانية في الشرع اسم لفعل محرم سواء كان في مال أو نفس، لكن في عرف الفقهاء يراد بإطلاق اسم الجناية الفعل في النفس والأطراف". وجاء الشرح الكبير للدسوقي المالكي "ج2 ص242": "الجناية التي هي فعل الجاني الموجب للقصاص ... ". وجاء في حاشية البرماوي الشافعي ص380: "الجنايات جمع جناية أعم من أن تكون قتلا أو قطعا أو جرحا، ولا تدخل فيه الحدود؛ لأنها لا تسمى جناية عرفا، ولذلك لم يدخلها المصنف". وجاء في الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي الحنبلي "ج9، ص318": "الجنايات كل فعل عدوان على نفس أو مال؛ لكنها في العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان، وسموا الجنايات على الأموال غصبا، ونهبًا، وسرقة، وخيانة، وإتلافًا"، ومثله ما جاء في كشاف القناع "ج3، ص332". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الإنسان بما يوجب قصاصا أو مالا أو كفارة، وأما ما عدا ذلك من الجنايات فإنها تسمى حدودًا أو تعازير، وقد سبق بيان أنواعها. وتعارف هؤلاء الفقهاء على إطلاق "الجناية" على الاعتداء على النفس لم يمنع من استعمال بعضهم لفظ "الجناية" في كل ما فيه تعد، ولو على حق من حقوق الله تعالى هو عبادة خالصة، كجناية المحرم -بضم الميم وكسر الراء- على إحرامه باقترافه ما حرم عليه من أفعال؛ كلبس مخيط، أو وضع طيب، أو حلق شعر ... فقد عنون فقهاء الحنفية لهذا النوع من الأفعال بـ"الجنايات" مع إطلاقهم نفس الاسم على ما كان اعتداء على النفس، وقد شعر بعض فقهائهم بهذا التشابه في المسميات فأجاب الكمال بن الهمام على هذا بقوله: "الجناية فعل محرم، والمراد هنا -أي: في الحج- خاص منه، وما تكون حرمته بسبب الإحرام أو الحرم"، ويقول البابرتي في العناية: "الجناية اسم لفعل محرم شرعًا، سواء حل بمال أو نفس، ولكنهم -أعني الفقهاء- خصوها بالفعل في النفوس والأطراف، فأما الفعل في المال فسموه غصبا، والمراد هاهنا -أي: في الحج- فعل ليس للمحرم أن يفعله". والذي دعاء هؤلاء الفقهاء إلى التمييز بين بعض الجرائم وبعضها وإطلاق اسم الجنايات على ما كان على النفس ... ، وأما غيرها فقد عنونوا له بالحدود أو التعازير هو الخصائص المتغايرة بين العقوبتين؛ إذ الحدود لا يجرى فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 عفو ولا صلح ولا تورث -إلى آخر ما ذكرنا آنفا- وعكس ذلك القصاص؛ لأن حق العبد فيه غالب، كما يجرى هذا التغاير حتى في إثبات الجريمة، أو في تأثير التوبة فيها. ولقد أدرك بعض الفقهاء هذا اللبس؛ فبعضهم أدرج تحت "الجرائم" كل أنواع المحظورات المعاقب عليها، ثم قسمها، وخص ما كان على النفس "بالقود في الجنايات" كالماوردي وأبي يعلى1 أو "الجراح" كالشافعية والحنابلة والإباضية في مقابل "الحدود" و"التعزيرات"2. إلا أنك تدرك أن إطلاق الجراح أو الدماء عليها هو فضلا عن كونه لا يشمل ما كان من الجنايات بغير جرح وبغير إسالة دماء، كالقتل بالكهرباء أو السم أو الخنق أو المثقل، فهو أيضا لا يتلاءم مع ما يقابله من الجنايات وهو الحدود، لأن الحد هو العقوبة، والتعزير هو العقوبة، وأما الجرح أو الجناية فهو ذات الفعل غير المشروع. فإما أن يتفق المنهج في الكل من ناحية التسمية بنوع الفعل المحظور الذي ارتكب، أو من ناحية نوع العقوبة، حدا أو قصاصًا أو تعزيرًا، مع أن بعض الفقهاء قد صرح بأن القصاص حد من الحدود. والذي أرجحه في هذا المقام هو أن يظل الاصطلاح الشرعي للجناية على عمومه، فيندرج تحته كل أنواع الجنايات، سواء أوجبت قصاصا أو مالا أو كفارة، أو أوجبت حدا أو تعزيرا، ويمكن أن يبوب لكل جناية بما وقع الاعتداء عليه، فإن كانت على آدمي قلنا: "الجناية على الآدمي"، وإن كانت على العرض قلنا: "الجناية على العرض"، وإن كانت على المال قلنا: "الجناية على المال"، وهكذا حتى ما كان منها في دائرة العبادات مثل جناية المحرم قلنا: "الجناية على الإحرام"، وهذه التسمية هي التي أسلكها بمشيئة الله تعالى في هذا المؤلَّف.   1 الأحكام السلطانية للماوردي ص219، والأحكام السلطانية لأبي علي ص272. 2 يراجع: المغني لابن قدامة ج10 ص308، ومغني المحتاج على متن المنهاج ج4 ص1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الجريمة والجناية في الفقه الوضعي : عرف بعض فقهاء القانون الجريمة بأنها "الواقعة التي ورد بتحريمها نص جنائي -إذا أحدثها- في غير حالات الإباحة المقررة قانونا شخص مسئول جنائيا"1. وأما الجناية عندهم فهي أحد أقسام الجرائم؛ إذ الجرائم من حيث جسامة العقوبة المقررة لها، أو عدم جسامتها قسمها التقنين الجنائي المصري في المادة 9 إلى ثلاثة أقسام: جنايات، وجنح، ومخالفات2. وعرف الجنايات في المادة 10 بأنها "الجرائم المعاقب عليه ب العقوبات الآتية: الإعدام، الأشغال الشاقة المؤبدة، الأشغال الشاقة المؤقتة، السجن"3.   1 القانون الجنائي "النظريات العامة" للدكتور علي راشد ص106. 2 ومثله العراقي في المادة 6، الليبي في المادة 52، والسوري في المادة 178. أما التشريع السوداني فلم يأخذ بفكرة تقسيم الجرائم، وإنما اكتفى في القسم العام من قانون العقوبات بتعداد العقوبات المقررة فيه، ثم وضع لكل جريمة عقوبتها في القسم الخاص منه وذلك حسب جسامتها. 3 ويقابل هذه المادة في ق. ع المادة 7، وق. ل م 53، وق س م 37، 38، مع اختلاف بينهم في نوع العقوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ونص في المادة 11 على أن الجنح هي "الجرائم المعاقب عليها بالعقوبات الآتية: الحبس الذي يزيد أقصى مدته على أسبوع، الغرامة التي يزيد أقصى مقدارها على جنيه مصري"1. ونص في المادة 12 على أن المخالفات هي "الجرائم المعاقب عليها بالعقوبات الآتية: الحبس الذي لا يزيد أقصى مدته على أسبوع، الغرامة التي لا يزيد مقدارها على جنيه مصري"2. الفرق بين اصطلاحات الفقه الإسلامي والفقه الوضعي: تبين لنا مما سبق رأي الفقه الإسلامي في مدلول الجريمة والجناية، وأنهما مترادفان، وإن كان بعض الفقهاء تعارفوا إطلاق لفظ الجناية على الاعتداء على الآدمي، إلا أن الآخرين جعلوهما سواء في دلالتهما على ارتكاب فعل محظور شرعا وضع الشرع له عقوبة، إما مقدرة بنص أو باجتهاد من وكل إليه تقديرها الإمام أو نائبه. ومن هذا يتبين لنا التفاوت بين الفقهين: تفاوت يظهر في عدة جوانب: يظهر في أن التجريم والعقاب في الفقه الإسلامي هو من وضع الخالق جل شأنه، فلا تغيير ولا تبديل ولا نقصان، إلا في حدود ما رسمه وقدره   1 ويقابل هذه المادة في: ق، ع، م: 8، وق، ل، م: 54، ق، س، م: 39. 2 ويقابل هذه المادة في: ق، ع، م: 9، وق، ل، م: 55، وق، س، م: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وفي هذا المسلك ثابت واستقرار لفكرة التحريم والعقاب، وعكس ذلك القانون الوضعي. وفي أن كل الأفعال المحظورة شرعًا والمعاقب عليها هي جرائم وهي جنايات، سواء كانت عقوبتها جسيمة أو غير جسيمة؛ لأنها كلها متساوية في أنها انتهاك لحرمات الله تعالى. وإذا اتفق الفقهان في أن الهدف من تجريم بعض الأفعال ووضع العقوبات لها هو رعاية مصالح المجتمع، فإن الشريعة الإسلامية تتميز باتساع دائرة رعاية هذه المصالح، وربما تهدف إليه من تعميق جذور الصلة بين الإنسان وخالقه -جل شأنه- أولا، وبين الإنسان ومجتمعه ثانيا، وهذا ما تفتقده نظرة المجتمع إلى القوانين الوضعية، مما أدى إلى انتشار الجرائم، واعتياد الإجرام، وأدى هذا بدوره إلى إقلاق الأمن ووأد الطمأنينة في ظل هذه القوانين، وقد سبق أن أشرنا إلى هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 العقوبات : العقوبة لغة: هي ما وقع من جزاء على ذنب ارتكبه الإنسان. ولعل الوجه في تسميتها بهذا الاسم أنها تعقب اقتراف الإثم وتتلوه. وقد يطلق على العقوبة أنها الجزاء، فيقال: جزى فلان فلانا بما صنع، ويجزيه جزاء، ويقال: جازاه أيضا، إلا أن الجزاء قد يكون على الخير وقد يكون على الشر، أما العقوبة فلا تكون إلا على فعل محظور. فالعقوبة في اصطلاح الفقهاء: هي الجزاء الذي قرره الشرع لمصلحة الناس على عصيان شرعه. وتشريع العقوبات وإقامتها أمر توجبه مصلحة الأفراد والجماعات؛ لأن جميع البشر لا يختلفون في ضرورة وجودها، القوى منهم والضعيف، السيد منهم والمسود؛ لأنها حماية لهم من انتشار الفساد، وسد لأبواب المضار، ففي تشريعها جلب للمنافع، ودفع للمضار. فمفاسد القتل عدوانا لا يمكن حدها، ولا حصر نتائجها، من إزهاق روح؛ بل قد تتلوها أوراح، وضياع عائل ومعول، وذهاب حلقة من حلقات الفكر، أو الرأي، أو التطور المنوط بالبشر، وهدم للأمن والاستقرار. ومفاسد الزنا من ضياع الذرية وإماتتها معنى بسبب اشتباه النسب ... ، ومفاسد الشرب من زوال العقل، وإفساد الأعراض، وضياع الأموال والأهل والذرية ... ، ومفاسد أخذ المال عدوانا ضياع لجهد العاملين، وتقويض لآمالهم في إسعاد أنفسهم وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وقبح هذه الأمور جمعيها مستقر في العقول والفطر السليمة؛ ولذا لم تبح الأنفس والأديان والأموال والأعراض وزوال العقول في ملة من الملل؛ بل الكل أجمع على تحريمها، وقرر العقوبة على من يقترف شيئا من ذلك. وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتقرير العقوبة على من ينتهك حرمات الله، ويتجاوز حدوده. وحكمة تشريعها -كما ينقل الكمال بن الهمام عن بعض مشايخه- "أنها موانع قبل الفعل زواجر بعده" أي: أن العلم بشرعية العقوبة يمنع الإقدام على الفعل المحظور، وإيقاع العقوبة بعد ارتكاب المحظور "يمنع من العود إليه". ولذلك حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- على إقامتها فقال: "حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحًا" 1. وروي عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: "وحد يقام في الأرض بحقه أزكى من مطر أربعين صباحا"2. وقد سبق أن بينا أنواع العقوبات في الفقه الإسلامي، وأشرنا إلى سبب تميز بعضها عن بعض، ويجمل بنا هنا أن نبين الأسس العامة التي تقوم عليها العقوبة في الفقه الإسلامي:   1 رواه ابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة. 2 رواه الطبراني في الأوسط، وقد تأيد ما في الحديثين بما ورد في الصحيحين من قصة المخزومية التي سرقت، وأرادوا الشفاعة لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الأسس العامة التي تقوم عليها العقوبة: أولا: تطبيق الحدود الشرعية يحقق مصالح الناس: تبين لنا مما سبق أن الحدود إنما شرعت لتصون للناس وتحفظ عليهم دينهم ونفوسهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم؛ أي: لتحفظ عليهم مقومات حياتهم، ودعائم إنسانيتهم، والركائز الأساسية لتحقيق أمنهم، واستقرار مسيرة حياتهم، وتهيئة الجو الملائم لأعمال فكرهم، وإزكاء عوامل التقدم والتطور بين أفرادهم وجماعاتهم، وكل ذلك إنما يتحقق بإبعاد شبح الجريمة والمجرمين عنهم. فإن البشرية بطبائعها وغرائزها وشهواتها وانفاعلاتها وعواطفها -مائلة إلى قضاء الشهوة واقتناص الملذات، وتحصيل مقصودها، وكل محبب لديها من ال شرب، والزنا، والتشفي بالقتل، وأخذ مال الغير، والاستطالة على الآخرين بالسب والشتم والضرب، وبخاصة من القوي على الضعيف، ومن العالي على من دونه، فاقتضت الحكمة شرع هذه العقوبات حسما لمادة الفساد، وزجرا عن ارتكابه؛ ليبقى العالم على نظم الاستقامة، وعلى المنهج السوي؛ لأن إخلاء العالم عن إقامة الزواجر يؤدي إلى انحرافه واختلاله، وفيه من الفساد ما لا يخفى على عاقل مدرك. وكان من الضروري أن يكون شرع هذه العقوبات من الخالق جل شأنه؛ لأنه العالم بمن خلق، الخبير لما يكتنف مخلوقه من صفات، وما يؤثر فيه من عوامل متعددة، المحيط بما يؤثر تأثيرا فعالا في مخلوقه، فيبعده عن ارتكاب ما لا يحل، واقتراف ما لا يرضى. وإذا كانت هذه التشريعات صادرة من العليم الخبير، كانت علاجا حاسما وداء شافيا لكل نفس مريضة. ومع ذلك فقد نبه المشرع الحكيم إلى حكمة تشريع هذه العقوبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وما يعود على الخلق من منافع من تطبيقها، ففي بيان الحكمة من شرعية القصاص يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، فالقصاص في الظاهر موت للجاني؛ لكنه في الحقيقة والواقع أحياء لأنفس كثيرة بعد ذلك، ولا اعتداد بالجزء إذا ترتب عليه فساد الجسم كله. وفي بيان الحكمة من تحريم الخمر والميسر يقوله الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 1، وآثار العداوة والبغضاء على المجتمع لا يمكن حدها ولا حصرها؛ ولذلك سميت الخمر "أم الخبائث". كما أن الله -عز وجل- بعد أن بين عقبة الزنا والقذف يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2. فقد بين أن من اتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، والعقل والشرع لا يقبل أن يأمر إنسان بذلك، فيجب الابتعاد عنه. وإذا كانت هذه الحدود الشرعية محققة لمصالح الأفراد والجماعات كان من الواجب إقامتها، حتى لا يهلك الجميع، مصداقًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" رواه البخاري والترمذي.   1 الآية 91 من سورة المائدة. 2 الآية 21 من سورة النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ثانيًا: عدالة العقوبة في التشريع الإسلامي: لقد برزت العدالة في أجلى صورها في تقرير العقوبة، وفي تطبيقها، أما العدالة في تقرير العقوبة: فإنك تلحظها في القصاص؛ إذ إنه يقضي بأن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، وذلك قمة العدالة، ومثل ذلك في إتلاف الأموال {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . وفي حد الزنا عدالة، فإن الزنا إهدار النطفة وهدم لبنيان الأسرة، وإخلال بالأنساب، وتقويض للروابط الاجتماعية والحقوقية، وكل ذلك هدم لنظام المجتمع الاجتماعي والتشريعي، فكان الزنا قتلا معنى، فناسب ذلك أن تكون عقوبته للمحصن الرجم؛ لأنه ما كملت نعمته كلمت عقوبته، ولغير المحصن الجلد؛ لأنه لما قصرت نعمته قصرت عقوبته، وتلك عدالة تامة. وفي حد السرقة عدالة؛ لأن المال هو بمثابة اليد العاملة في حياتنا، وبه قوام الحياة والقدرة على النهوض بأعبائها فأخذه ظلما هو اجتثاث لهذه اليد وتلك القدرة، فكان جزاؤه من جنس العمل، وهو قطع يده، واجتثاث قدرته، وبخاصة أن السرقة قد تمت غالبا بواسطتها. وحد الحرابة فيه عدالة؛ لأن تنوع عقوبة المحاربة يوحي بأن لكل جناية ما يقابلها من العقاب حتى إن قلنا: إن الأمر بيد الإمام أو نائبه، فالواجب أن تشتد العقوبة وتضعف تبعًا لخطورة الجناية وعدم خطورتها. وأما عدالة التطبيق، فيكفي أن نشير هنا إلى ما روي عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: إن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِب رسول -صلى الله عليه وسلم- فكلمه أسامة، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله؟! " ثم قام فاختطب، فقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" 1. فالعقوبة إذا ثبتت وجب تطبيقها على من ثبتت عليه لا فرق بين شريف وضعيف، ولا فقير وغني، ولا قريب وبعيد، الكل أمام التشريع سواء. وصدق الله تعالى إذ يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول في حجة الوداع: "يأيها الناس، إن ربكم واحد،وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، وليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب". ثالثًا: استقرار التجريم والعقاب في الفقه الإسلامي: من مقتضيات العدالة ودواعي الرحمة والموضوعية أن يكون التجريم والعقاب مستقرا في المجتمعات، معروفا لدى الناس جميعا لا يتغير بتغير الأماكن وتوالي الأزمان، حتى ينهج الناس في حياتهم المنهج الذي يجنبهم الوقوع فيما يستوجب العقاب، ويحولوا فكرهم وعقولهم وتدبيرهم وكل أمور حياتهم نحو الأهداف المشروعة، نحو الأرض الطيبة التي تنبت لهم أحسن الزرع وتعطي أجمل الثمار.   1 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. 2 الآية 13 من سورة الحجرات، راجع لنا كتاب العلاقات الدولية في الإسلام ص32-42، في مبحث العدالة والمساواة في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وإذا لم يتحقق الاستقرار في تجريم الأفعال، وفي نوعية العقوبة، لترتب على ذلك اهتزاز ميزان العدالة؛ حيث يعاقب إنسان ما على جرم معين، وغدا لا يعاقب آخر بهذا الجرم نفسه، أو أن تطبق اليوم عقوبة ما على إنسان معين، وغدا تطبق على مثيله عقوبة أخف وطئا، أو أشد ثقلا وأثرا ... ومثل هذا يؤدي إلى زعزعة عقول الناس واضطراب أفكارهم ومناهج حياتهم وفقدان الإيمان بفكرة التجريم والعقاب مما يجعلهم يجترئون عليها ولا يحترمون ما يصدر من أحكام في هذا السبيل ... وبذلك تزكو الجريمة، وتنمو بذور الشر في المجتمع. إن الشريعة الإسلامية كانت وستظل علاجا قويا حكيما رحيما لكل هذه الأدواء؛ إذ قامت على أساس ثابت، وهو أن كل ما جاءت به من عند الله تعالى، فهو الذي حدد الحرام وبين الحلال، وحدد ما يعاقب عليه ما لا يعاقب. فالحق حق دائما، والباطل باطل دائما، والطيب طيب دائما، والخبيث خبيث دائما في كل مكان وفي كل زمان، وكذلك العقوبة المحددة لكل جرم لا يملك أحد تغييرها أو تبديلها بعد ثبوتها واستيفاء أركانها ... كما لا يملك أحد إسقاطها إلا بما فتحه المشرع من أبواب. وإذا كنا في تربيتنا لأبنائنا وطلابنا نوجب على المربين وحدة الكلمة وثباتها، وعدم التراجع فيما اتخذناه من قرارات في سبيل التقويم بعد دراستها ومعرفة حقيقتها، حتى يشب النشء على هذه الفضيلة فإن الأمم والشعوب أولى بهذه التربية؛ لأن بها ومنها ستنبثق فروع التربية المختلفة، وبهذا تستقر الأفكار، ويستتب الأمن، ويتحقق النظام المثالي للأمة الذي يبتغيه الإسلام. رابعا: الواقعية والموضوعية في تقرير نوع العقوبة: لقد جبل الإنسان على حب ذاته، وغيرته على نفسه، وخوفه من كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ما يصيبه بأي مكروه، أو يعرضه لأي أذى، حتى وإن أوقع الضرر بالآخرين.. وكل عقوبة توضع من أجل ردع الجاني تتناسى هذا الجانب النفسي والطبيعي والواقعي تضل هدفها، ولا تحقق غرضها، وتعود على المجتمع بنقيض مقصدها.. وقد أثبت صدق ما نقول أن كثيرا من الدول التي قررت وقف عقوبة الإعدام عادت إليها مرة أخرى حانية الرأس أمام هذا المبدأ إثر انتشار الجرائم تحت ظل هذه العقوبة وزعزعة الأمن وإقلاق المواطنين. ولكن الشريعة الإسلامية سجلت في هذا المجال -كغيره- عمق نظر، وواقعية متناهية فيما يصلح شأن البشر، فقررت جعل جل العقوبات بدنية، ومتجانسة مع الجرم؛ حيث يتأتَى التجانس، وسائره معه ارتفاعا وانخفاضا حتى يشعر الجاني بأن ما يصدر منه من مثالب سيعود عليه مرة أخرى، فكما اكتوى الغير بناره سيكتوي هو أيضا، وكما أضرب الغير سيقع الضرر عليه أيضا، وكما تعدى على حرمات الله، ونال من حقوقه سينال جسمه حقه من العقاب.. فإذا شعر الجاني بذلك راجع نفسه ألف مرة قبل الإقدام على جنايته، وحاسب نفسه حسابا عسيرا، وهذا ما يهدف إليه التشريع من تربية النفس وصقلها وشفافيتها، وإشعارها بأن أذى إنسان ما هو أذى للناس جميعا، وأن الرحمة والمودة لإنسان ما هي إلا رحمة ومودة للناس جميعا. وفي قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} 1 إشارة جلية وواضحة إلى أن الجناية في نظر الشريعة الإسلامية لا تقع   1 الآية 32 من سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 على المجني عليه فقط، وإنما تقع على المجتمع كله؛ لأنها تنتهك حرمته وتهدد مسيرته، وتقلق هدوءه، وتعوق تقدمه، وإذا كان ضررها عاما فإن العلاج الناجع ليس في ترك الفلسفات والأهواء التي تعمل عملها في درء العقوبة عن المجرمين لأسباب وتعليلات لا تستند إلى دليل مما يؤدي إلى إقلاق شأن الآمنين، وإنما في مجابهة مواطن الداء بكل حزم، تأمل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 1. لذلك كانت الواقعية والموضوعية والحزم في تقرير العقوبات في الفقه الإسلامي هي أكمل السبل وأتمها في تقرير نوعية العقوبة، وبهذا المسلك الحازم يبعد شبح الجريمة، وتصلح مسيرة الناس جميعًا، ويسود الأمن والاستقرار. فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقسُ أحيانا على من يرحم خامسا: العقوبات تكتنفها الرحمة: قد يظن البعض أن هذه العقوبات فيها شدة على الجناة، وعدم مراعاة لظروف ضعفهم والدوافع التي أحاطت بجريمتهم.. ولكن الدارس للفقه الإسلامي يجد أن رحمة الله بخلقه أصدق وأبقى وأشمل من كل ما يُدعى ويقال، ويكفي أن نشير هنا إلى بعض الجوانب التي تتجلى فيها الرحمة: 1- فقد وضع المشرع شروطا متعددة لإقامة الحد، بعضها في   1 الآية 2 من سورة النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الجاني، وبعضها في وسائل إثباتها في الإقرار بها، أو في الشهادة عليها، تنبثق منها آيات الرحمة، التي لا يحس بها إلا دارس هذا الفقه والعالِم به. فلا حد على قاصري العقل؛ لصغر أو عته أو جنون.. لانعدام المعنى المقصود من شرعية العقوبة تحت ظل هذا القصور العقلي، وهو ردع الجاني عن الجناية، ولأن الجناية تعتمد القصد الصحيح وهؤلاء لا قصد لهم.. ولا حد على مَن فقد إرادته بسبب يعذر فيه.. كجهل بالحرمة أو العقوبة إذا توافرت شروطه، أو نوم، أو إغماء، أو سكر بمباح. ولا حد على من فقد اختياره أو رضاه.. كالمكره.. ولا حد على مضطر.. ففي كل ذلك رحمة. وفي فتح باب العفو عن القصاص إلى الدية رحمة، ففي الوقت الذي استحقت فيه النفس فتح باب كبير لنجاتها، بل إن المشرع الحكيم قد حث على الانتفاع بهذا الباب في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ} ، وقال صلى عليه وسلم: "ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا" 1، وقال أنس: "ما رفع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو"2، وقد انعقد الإجماع على مشروعيته.   1 رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. راجع: نيل الأوطار ج7 ص29. 2 رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي وأحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 بل وفي جعل عقوبة الزنا للمحصن الرجم -لا القتل بالسيف- رحمة؛ لأن الرجم لا يصاحبه الموت فور حدوثه، وخاصة إذا لاحظنا أنه لا يكون بأحجار كبيرة. والتنفيذ بهذا المسلك يفتح بابا واسعا لتدارك ما قد يكون من خطأ، أو كذب، وقع فيه الشهود، أو ظروف أدت إلى الإقرار، وليكون وسيلة لسبر غور نفس الشاهد، أو المقر، فعساه قد رضي الشهادة زورا، أو أقدم على الاعتراف تحت ظروف جعلته ييئس من الحياة، فشهد الشاهد أو أقر المقر بما يوجب عقوبة الزنا. فسلك المشرع الحكيم مسلكا رائعا في الكشف عن النوايا؛ حيث أوجب أن يبدأ بالرجم الشهود وعددهم أربعة، ويشترط في كل منهم عدة شروط، سواء من حيث العدالة أو رؤية الحادثة أو ظروف الجناية، مما يتعذر حدوثه إلا في مجتمع بهيمي لا أخلاقي؛ ساعتئذ لا بد من انكشاف الحقيقة ولو من واحد منهم عند رؤية إنسان يهاجمه الموت دون وجه حق، فلو نطق بما يدرأ الحد كان تدارك النفس ممكنا، وهذا ما لا يتأتى مع تنفيذ الحد بالسيف، كما أوجب المشرع أن يبدأ القاضي أو من ينوب عنه برجم المعترف لنفس المعنى، خوفا من قصور في التحقيق، أو تهاون في تقصي الظروف المحيطة بما يثبت صحة الاعتراف، فلا تطيق نفس الحاكم الإقدام على التنفيذ إلا حيث وصلت إلى درجة التيقن باستيفاء كل سبل الإدانة، حتى يكون كل من الشاهد والقاضي مسئولا عن قتله إذا ثبت تواطؤ أو كذب أو تقصير متعمد، ومع هذا فلو ولي المحكوم عليه وهرب أثناء الرجم اعتبر ذلك رجوعا في الإقرار الصادر منه، وحينئذ لا يوالي عليه الرجم، وترفع عنه هذه العقوبة. فقد جاء فيما رواه أبو هريرة بشأن رجم ماعز الذي أقر بالزنا أربع مرات -أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه أثناء رجمه هرب، فتعقبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الراجمون، فلما ذكروا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه فر حين وجد مس الحجارة ومس الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلا تركتموه"، وفي رواية: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه" 1. وبهذا الحديث أخذ الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والعترة، والإمام مالك في رواية عنه أنه يقبل من المقر الرجوع عن إقراره ويسقط الحد عنه، مع العلم أن حد الزنا يندر أن يثبت بغير الإقرار، ولم يحدث في تاريخ الأمة الإسلامية أن ثبت الحد بغير الاعتراف. ومن هذا يتبين لنا أن تنفيذ عقوبة الزنا بالرجم فيها رحمة؛ لأنها تتيح للمتهم فرصة النجاة من الحد، إذا ما حدث رجوع عن شهادة، أو عدول عن إقرار أثناء تنفيذ الحد، وهذا ما لا يمكن حدوثه إذا كان التنفيذ بالسيف. وقبول توبة الجاني قبل القدرة عليه رحمة. ودر الحدود بالشبهات رحمة. إذن فالرحمة بالجاني في ظل تطبيق الحدود الشرعية متعددة الجوانب. وأيضا فإن في تطبيق هذه العقوبات على الجناة رحمة بالناس جميعا؛ لأنها تنفي عن المجتمع كل خبث، وتقتل الأفكار السيئة التي تعشعش في رءوس قلة جانحة من هذه الأمة لتنمو على إثرها الأفكار الطيبة وتترعرع، وتزهو زهور التقدم والتطور. وصدق القائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2.   1 رواه أحمد وابن ماجه والترمذي قال: حديث حسن. 2 الآية 107 من سورة الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فالمسلك الذي سلكته الشريعة الإسلامية في العقوبات في المواءمة والتعايش والتوافق بين الرهبة والرحمة، بين الخوف والرجاء، بين رعاية المجتمع ورعاية الجاني، هو مسلك فريد يدفع الأفراد إلى الخشية والخوف من الوقوع في الجرائم، ويدفع الناس جميعا إلى الابتعاد عن ارتكاب هذه الجناية، ويحول أنظارهم إلى الاتجاه إلا ما أحل الله، وبذلك ينقي المجتمع من الأدران، وتصان الأسر والأعراض من الهوان. سادسا: اقتران توقيع العقوبة بتطهير الذنب: لقد تميز التشريع الإسلامي بنصه على أن استيفاء العقوبة جابر للذنب الذي ارتكب، مطهر للجاني مما ارتكبه مقرب له من ربه، ويؤيد هذا ما روي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه"، فبايعناه على ذلك. وفي لفظ: "فلا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فعوقب به في الدنيا" أعم من أن تكون عقوبته حدا أو تعزيرا، وكذا إذا كان قصاصا -كما يرى بعض العلماء- لما روى الطبراني عن ابن مسعود أنه قال: "إذا جاء القتل محا كل شيء". ولما رُوي عن عائشة مرفوعًا: "لا يمر القتل بذنب إلا محاه، فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، وأي حق أعظم إليه من هذا؟ ولو كان حد القتل إنما شرع للردع فقط لم يشرع العفو عن القاتل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ومن هذا يتبين لنا التفسير الواضح لما كان يحرص عليه الجناة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من التقدم إليه طواعية طالبين توقيع عقوبة ما اقترفوه من ذنوب، ومصرين على توقيعها، بالإقرار عدة مرات كما حدث مع ماعز، وكما حدث مع الأسلمي حينما قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أقر بالزنا أيضا: "فما تريد مني بهذا القول؟ " قال: أريد أن تطهرني. والربط بين توقيع العقوبة وتطهير النفس في الشريعة الإسلامية يجعل الإنسان دائما في حساب مع نفسه بعد ارتكاب جرمه. إنه إن ستر ذنبه ظل الحق معلقا به، ولا ينفع معه التخفي والتستر؛ لأنه سيأتي اليوم الذي يلقى حسابه فيه ممن لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وحسابه -جل شأنه- لا يقارن بتطبيق العقوبة في الدنيا، فلأن يلقى الله نقي الصحيفة متطهرا من ذنوبه خير له من أن يلقاه مدنسا إياها بالأعمال السيئة. إذن فالعقوبة في ظل الشريعة الإسلامية مستوفاة إن عاجلا وإن آجلا، وإذا كانت على هذه المثابة فإنه لا تجدي محاولة الإنسان تبرئة نفسه من الجرائم بالاحتيال والتزوير والتمويه والتدبير؛ لأن المطلع والمحاسب الحقيقي لا تنفع أمامه كل هذه الأمور، فأولى به أن يترك الإجرام، وأن ينأى عن المعاصي، وساعتئذ يتحقق المعنى السامي الذي يهدف إليه التشريع؛ وهو القضاء على الجريمة، وبث الأمن والاستقرار في ربوع المجتمع. سابعا: تدرج العقوبات بتدرج نوعية الجرائم: لقد لاحظنا التدرج في العقوبة في الفقه الإسلامي بتدرج الجرم قوة وضعفا حسب تأثيره على مسيرة المجتمع، ومدى إخلاله بأمنه واستقراره وإعاقته لمعاني الخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 أ- ففي المقام الأول: وضع المشرع الحكيم أعلى العقوبات لأعلى الجرائم وأشدها خطرا على المجتمع. وسمى هذه الجناية "محاربة لله ولرسوله"؛ إظهارا لبشاعتها وشدة آثارها على المجتمع.. فقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. فالعقوبة المنصوص عليها في آية المحاربة هي المهيمنة على كل الجرائم التي تشكل خطورة على المجتمع، الجرائم التي تجاوزت الاعتبارات والظروف العادية، فجريمة أخذ المال خفية لها حد السرقة، وأما أخذه مكابرة وقهرا وغلبة، فيجب أن تكون له عقوبة أشد، وهي عقوبة المحاربة. وكذلك جريمة الزنا، لها حد مقرر في حالة الاختيار، وأما إذا تمت بالقهر والغلبة والقوة، فيجب أن تكون لها عقوبة أشد، وهي عقوبة المحاربة، فيُقتل الزاني "أو الزانية" مطلقا محصنا أو غير محصن عند جمع من الفقهاء. وكذلك من قتل عمدا عقوبته القصاص إذا رضي الأولياء؛ ولكن هذه الجريمة قد تكتنفها ظروف تدل على خطورة الجاني.. كما إذا تعود القتل بعد انتفاعه بالعفو الذي وضع رحمة به، فرد أثره للمجتمع غلظة وقسوة.. أو قتل غيلة، كما لو أسكر المجني عليه ثم قتله، أو أسقاه   1 الآية 33 من سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 سُمًّا فقتله، فقد اتخذ من غفلة المجني عليه أو ثقته به والاطمئنان إليه وسيلة للانقضاض عليه والفتك به، أو قتل شخصا له خطورته على الأمة كالإمام؛ إذ بقتله يختل صرح النظام، ويرتج بنيان الأمن وقد يودي بالأمة، ويُمكِّن أعداءها منها، في كل ذلك تطبق على الجاني آية المحاربة فيقتل حدا لا قصاصا عند بعض الفقهاء؛ ومن ثم لا عفو ولا صلح ولا إبراء. وفي المقام الثاني: وضع المشرع الحكيم بعد ذلك الحدود، فقدر عقوبة كل جرم ووضع الشروط اللازمة لتطبيقها، فكانت هذه الصورة هي صورة الجرائم في صورتها العادية. وفي المقام الثالث: وضع المشرع عقوبة التعزير؛ لتحافظ على حقوق الله وحقوق العباد التي نال منها الجاني، والتي لم تصعد لإحدى العقوبتين السابقتين؛ لعدم توافر الشروط اللازمة لتطبيق الحد، وجعل أمرها للإمام أو من ينوب عنه. وهذه العقوبة تناولها الفقهاء بالبحث، سواء من حيث مقدارها أو من حيث الجرم الذي تطبق فيه ونوعه، وهم وإن اختلفوا في شيء من ذلك فقد آثر المشرع ترك هذا الأمر لاجتهاد الإمام أو نائبه، وأعطاه هذه السلطة لكي تعالج مشكلة الجريمة في الجرائم غير الجسيمة التي تخضع لهذه العقوبة على ضوء حالة الجاني ونوعية الجناية. ولكن قد يكون من المفيد وضع ضوابط عامة تتناول نهاية العقوبة التعزيرية، وأرى ألا تصل إلى القتل أو إلى الحد المقرر لهذا الجرم حتى لا تتداخل العقوبات، وبخاصة وأن هذه العقوبة تقديرية، وللاجتهاد فيها مجال، ولأن يخطئ القاضي في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وبهذا يتبين لنا أن التشريع الإسلامي جعل العقوبة متمشية ومتعادلة مع حقيقة الجرم وأثره على المجتمع، وجعل العقوبة شاملة لكل أنواع الجرائم، وبهذا المسلك القويم سد التشريع الإسلامي كل الأبواب أمام الأفراد والطوائف التي تسول لها أنفسها النيل من حقوق الله أو حقوق العباد، كما أنه فتح لها الطريق وأنار لها السبيل نحو إعمال فكرها وعقلها نحو كل ما هو خير لهذا المجتمع. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1.   1 الآية 153 من سورة الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الباب الأول: جناية القتل مدخل ... الباب الأول: جناية القتل: ونجعل هذا الباب في تمهيد وثلاثة فصول، نبين في التمهيد حكم جناية الإنسان على نفسه أو على غيره، وفي الفصل الأول: القتل العمد، وفي الثاني: القتل شبه العمد، وفي الثالث: القتل الخطأ وما يجب فيه. تمهيد: أ- أول جناية قتل وقعت في التاريخ: لقد وجدت الجناية بوجود الإنسان نتيجة للصراع الذي يجري بين الرغبات والإمكانات المتاحة العاجزة عن تحقيق هذه الرغبات، وبين الآمال الضخمة والواقع الناكص عن تحقيق هذه الآمال، وبين الأنانية والمصلحة العامة. وقد كانت أول جريمة قتل وقعت في التاريخ1 هي تلك الجريمة التي   1 فقد سبق هذه الجناية عصيان إبليس أمر ربه؛ حيث أمره أن يسجد لآدم، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} الآية 34 من سورة البقرة، كما سبقها أيضا عصيان آدم وزوجه، قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} الآيتان 35، 36 من سورة البقرة، ثم تاب الله عليه، قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية 37 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 تحدث عنها القرآن الكريم، والتي وقعت بين ابني آدم عليه السلام نتيجة رغبة جامحة وشهوة عمياء، لم تعتد بنظم ولا شرائع.. فأرادت أن تحقق لنفسها ما لا يعطيه لها الحق والشرع عن طريق القتل، فكانت من الخاسرين. وذلك أن آدم عليه السلام -وهو أول البشر- كانت تلد لو زوجه "حواء" في كل بطن ذكرًا وأنثى، وكان يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر، ولا تحل لأخ توءمته، فولدت حواء مع "قابيل" أختا جميلة اسمها "إقليميا" ومع "هابيل" أختا اسمها "ليوذا" ليست جميلة، فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر، وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على التقرب إلى الله بأن يقدم كل منهما قربانا، ثم تقدم كل منهما بقربان، وكان قربان "قابيل" حزمة من سنبل -لأنه كان صاحب زرع- واختارها من أردأ زرعه.. وكان قربان "هابيل" كبشا -لأنه كان صاحب غنم- أخذه من أجود غنمه، فتقبل الله تعالى قربان "هابيل" لأنه كان مؤمنا، فقال له قابيل حسدا -لأنه كان كافرًا: "لأقتلنك" حتى لا يراك الناس أفضل مني، ثم قتله. وفي هذا يقص علينا القرآن الكريم بأسلوبه المعجز البليغ ما دار من حوار بين الأخوين، وما انتهى إليه أمرهما من قتل الأخ أخاه ثم ندمه وحسرته ومواراة رفاته التراب، فيقول جل شأنه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ1 قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} 2. وهذه الحادثة تمثل لنا حقيقة الصراع الدائر بين العقل والشهوات، بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، بين الخير والشر. ب- حكم الجناية على الإنسان: حرمت الشريعة الإسلامية الاعتداء على النفس الإنسانية كلا أو بعضا، سواء كان الاعتداء صادرًا من الإنسان على نفسه، أو منه على غيره، وقد أفاضت في ذلك نصوص الكتاب والسنة. 1- أما اعتداء الإنسان على نفسه، فقد نهى الله سبحانه وتعالى عنه، سواء كان إهلاكا للنفس، أو تعريضا لها للهلاك. قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 3. وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} 4.   طوعت له نفسه: أي سولت وسهلت نفسه عليه القتل وشجعته، وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل. 2 الآيات "27-31" من سورة المائدة. 3 الآية رقم 195 من سورة البقرة. 4 الآية رقم 29 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وأيضا فإن عموم النهي في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 1 يندرج تحته قتل الإنسان نفسه. فإن هذا البنيان الذي شيده الله -جل شأنه- وبعث فيه الحياة وميزه بالعقل؛ ليباشر مهامه في المجتمع، ويؤدي دوره في الحياة الدنيا.. لايرضى الله تعالى عمن يهدمه، أو يناله بأي أذى، سواء كان هذا الأذى واقعا على النفس أم على جزء منها، وسواء كان الجاني جانيا على نفسه أم على غيره، كل ذلك منهي عنه، وكل مرتكب لشيء من ذلك معاقب، حتى وإن قتل نفسه أو قتر عليها في الإنفاق، أو حجب العقل عن أن يباشر مهامه التي خلق من أجلها؛ لأن هذا البنيان هو بنيان الله لا يملكه أحد سواه، ولا يهدمه إلا مالكه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الإنسان بنيان الله ملعون من هدم بنيانه". ولذلك نجد أن عقوبة قاتل نفسه عقوبة متناهية في الشدة، أوضحها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدًا، ومن تحسى سُما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدًا فيها أبدًا" رواه البخاري ومسلم2. كما روي عن جندب البجلي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان ممن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا، فجز بها يده، فسال الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة" أخرجه البخاري ومسلم.   1 سورة الإسراء الآية 33. 2 راجع الترغيب والترهيب للمنذري ج3 ص300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 2- وأما اعتداء الإنسان على غيره فقد حرمه الله تعالى في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله -صلى الله علي وسلم- وأجمعت عليه الأمة. أما الكتاب الكريم: فقول الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} 1. وقوله تعالى في وصفه لعباد الرحمن: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 2. وقوله جل شأنه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 3.   1 سورة الإسراء الآية 33. 2 سورة لقمان الآيات من 68-70. 3 سورة النساء الآيتان 92، 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أما السُّنة النبوية الشريفة1: فروي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه الجماعة. وعن عائشة: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا من ثلاثة: إلا من زنى بعدما أحصن، أو كفر بعدما أسلم، أو قتل نفسا فقتل بها" رواه أحمد والنسائي ومسلم بمعناه. وفي لفظ: "لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زان محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلما متعمدا، ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله عز وجل ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض" رواه النسائي. وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة الإسلامية على تحريمه، فإن فعله إنسان متعمدا فسق أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له2. ويتضح لنا من هذه النصوص ما يأتي: أولا: حرمة قتل النفس بغير حق. ثانيا: قتل النفس بالحق يكون في الحالات التالية:   1 راجع: نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص5. وراجع أيضًا: سبل السلام للصنعاني ج3، ص302. 2 سيأتي إيضاح عقوبة القتل العمد وغيره في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 1- الزاني المحصن: فقد رجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماعزا والغامدية وكانا محصنين. 2- المرتد عن دينه: لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، وللأحاديث الواردة آنفا. 3- قتل نفس الغير عمدا: فإن من قتل غيره عمدا يقتل به، وهذا قتل بحق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ... } الآية1، وقوله جل شأنه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... } الآية2. 4- الخارجون على حكم الإمام "المحاربون" الذين حددت عقوبتهم الآية الكريمة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . 5- الحربيون: وهم الكفار الذين يحاربون المسلمين فإن قتلهم قتل بحق، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} .   1 سورة البقرة الآية 178. 2 سورة المائدة الآية 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الفصل الأول: القتل العمد وعقوبته المبحث الأول: حقيقة القتل العمد ... الفصل الأول: القتل العمد وعقوبته: ويشمل هذا الفصل خمسة مباحث، نوضح في الأول آراء الفقهاء في تحديد ما يتحقق به القتل العمد، وفي الثاني أركان الجريمة عمدا في الفقه الإسلامي، وفي الثالث أركانها عند فقهاء القانون الوضعي مع المقارنة بالفقه الإسلامي، وفي الرابع عقوبة القتل عمدا في الفقه الإسلامي، وفي الخامس عقوبة القتل عمدا في القانون مع مقارنتها بعقوبة في الفقه الإسلامي. المبحث الأول: حقيقة القتل العمد: العمد لغة: القصد، يقال "عمد" بفتحتين للشيء: قصد له أي: تعمد، وهو ضد الخطأ. العمد اصطلاحًا: قد بين القرآن الكريم لنا في الآيات المذكورة آنفا وصفين من صفات القتل؛ أحدهما: القتل عمدا، والثاني: القتل خطأ، كما بينت السنة وصفا ثالثا، وهو الجناية "شبه العمد" أي: الجناية التي يختلط فيها العمد والخطأ؛ أي: القصد وعدم القصد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط أو العصا، فيه مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها" رواه الخمسة إلا الترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لقد كان لذكر القرآن الكريم لوصفين فقط من أوصاف الجناية وعدم ذكره الوصف الثالث وهو "شبه العمد" أثر في اختلاف الفقهاء في القول بهذا الوصف، وتبعا لذلك اختلفوا في بيان حقيقة القتل العمد والقتل شبه العمد، ونوضح آراءهم فيما يلي كما وردت في كتب المذاهب مع تحليل رأي كل مذهب. القتل العمد عن الحنفية: يرى الإمام أبوحنيفة أن القتل العمد هو: ما تعمد فيه شخص ضرب آخر بسلاح كالسيف، أو ما أجرى مجرى السلاح في تفريق الأجزاء -كالمحدد من الرصاص أو الذهب أو الفضة أو الزجاج، وأمثال ذلك، وكالنار لأنها تعمل عمل السلاح- ولا يشترط الجرح في ظاهر الرواية1. وإنما اشترط الإمام ذلك في القتل العمد؛ لأن العمد هو قصد إزهاق الحياة، والقصد فعل القلب، وهو أمر لا يتوقف عليه؛ لأنه أمر باطني أقيم استعمال الآلة القاتلة غالبا مقامه تيسيرا، كما أقيم السفر مقام المشقة، والبلوغ مقام اعتدال العقل تيسيرا، والآلة القاتلة غالبا هي المحددة؛ لأنها هي المعدة للقتل، فيكون القصد إلى إزهاق الحياة بالسلاح عامل في الظاهر والباطن جميعا، وذلك بخلاف ما ليس بمحدد؛ لأنه غير معد للقتل، حتى لو ضرب بحجر كبير أو خشبة كبيرة كانت الجناية شبه عمد ولا يجب القصاص عنده. وقال الصاحبان "أبو يوسف ومحمد": العمد هو ما تعمد فيه شخص ضرب آخر بما يقتل غالبا، سواء كان بسلاح وما جرى مجرى السلاح، أم بغيرهما كحجر كبير أو خشبة كبيرة، وبهذا قال جمهور الفقهاء.   1 راجع: المبسوط للسرخسي ج26، ص59، وتكملة فتح القدير ج8، ص245، والزيلعي ج6، ص97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وتطبيقا لهذه القاعدة: "لو ألقى شخص آخر من جبل أو سطح أو غرقه في الماء أو خنقه حتى مات، كل ذلك شبه عمد عند الإمام أبي حنيفة، وعند الصاحبين عمد إن كان ذلك يقتل غالبا، وإن كان لا يقتل غالبا يكون خطأ العمد"، وفي رواية عن أبي حنيفة: إن غرز الإبرة في مقتل كان عمدا ويقتص منه، وإن لم يضعها في مقتل لا يكون عمدا1. ومن هذا التعريف يتضح لنا أن القتل العمد الموجب للقصاص عند الحنفية له أركان ثلاثة: 1- قصد الجاني ضر آدمي معين بغير حق، وفي بعض الكتب قالوا: العمد ما تعمد قتله بالحديد فصرحوا بأن يقصد الجاني القتل، ولكن عامة كتبهم صرحت بأن العمد هو "ما تعمد ضربه بسلاح"، جاء في الذخيرة أنه إن "قصد أن يضرب يد رجل فأصاب عنقه فهو عمد وفيه القود، ولوأصاب عنق غيره فهو خطأ"، قال في المجتبى: "وبهذا تبين أن قصد القتل ليس بشرط لكونه عمدا"2. اهـ. 2- استعمال السلاح أو ما جرى مجراه في تفريق الأجزاء عند الإمام أبي حنيفة "وعندهما استعمال ما يقتل غالبا، سواء كان سلاحا وما جرى مجراه أم غيرهما". 3- أن يكون القتل مباشرة، فإن كان بسبب لا يجب القصاص؛ لأن القتل بسبب لا يساوي القتل مباشرة، والجزاء قتل بطريق المباشرة3.   1 الاختيار ج3، ص158. 2 الزيلعي ج6، ص101. 3 وعلى هذا يخرج من حفر بئرا على قارعة الطريق فوقع فيها إنسان ومات، أنه لا قصاص على الحافر؛ لأن الحفر قتل سببا لا مباشرة. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ................................................................................................   = وكذلك يخرج شهود القصاص إذا رجعوا بعد قتل المشهود عليه، أو جاء المشهود بقتله حيا أنه لا قصاص عليهم، خلافا للشافعي ... وذلك لأن القتل تسبيبا لا يساوي القتل مباشرة؛ لأن القتل تسبيبا قتل معنى لا صورة، والقتل مباشرة قتل صورة ومعنى، والجزاء قتل مباشرة. بخلاف الإكراه على القتل؛ لأنه قتل مباشرة؛ لأنه يجعل المكرَه -بفتح الراء- آلة المكرِه -بكسرها- كأنه أخذه وضربه على المكره على قتله، والفعل لمستعمل الآلة، لا الآلة، فكان قتلا مباشرة، ويضمنون الدية لوجود القتل منهم، وهل يرجعون بها على الولي؟؟ خلاف في المذهب، قال أبو حنيفة: لا يرجعون، وقالا: يرجعون. ولو أوجره "أسقاه" سما فقتله، فهو مسبب، وموجبه الدية على العاقلة لا غير؛ لأنه لم يقتله مباشرة، ولا هو موضوع للقتل؛ ولهذا يختلف باختلاف الطبائع، وإن دفع السم إليه فشربه فلا شيء عليه ولا على عاقلته؛ لأن الشارب هو الذي قتل نفسه، فصار كما إذا تعمد الوقوع في البئر، إلا أن الدفع إليه خديعة فيعزر، يحبس ويضرب ويؤدب ويستغفر ربه؛ لأنه ارتكب جناية ليس لها حد مقدر، وهي الغرور والخديعة. ولو طين على أحد بيتا حتى مات جوعا أو عطشا لا يضمن شيئا عند أبي حنيفة وعندهما يضمن الدية، وجه قولهما أن الطين الذي عليه تسبب في إهلاكه؛ لأنه لا بقاء للآدمي إلا بالأكل والشرب، فالمنع عند استيلاء الجوع والعطش عليه يكون إهلاكا له، فأشبه حفر البئر على قارعة الطريق، ولأبي حنيفة أن الهلاك حصل بالجوع والعطش لا بالتطيين، ولا صنع لأحد في الجوع والعطش، بخلاف الحفر، فإنه سبب للوقوع، والحفر حصل عن الحافر، فكان قتلا تسبيبا ... "ولو غرق إنسانا فمات، أو صاح على وجهه فمات، فلا قود عليه، عند الحنفية، وعليه الدية" "البدائع ج7، ص234، الاختبار ج3، ص158، والزيلعي، ج6، ص101". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 القتل العمد عند المالكية: ويرى المالكية أن القتل1 العمد الموجب للقصاص نوعان؛ لأنه إما أن يباشر الجاني القتل بنفسه أو يفعل فعلا يكون سببا في القتل. فالنوع الأول "إتلاف مباشرة" لا بد فيه من توافر ثلاثة أمور: أولها: قصد المكلف ضرب شخص معصوم الدم، سواء قصد الشخص المضروب نفسه أو قصد أن يضرب شخصا عدوانا فأصاب غيره2، ولا يشترط قصد القتل3. ثانيها: أن يكون قصد الضرب بسبب عداوة أو غضب؛ أي: عدوانا، سواء قصد القتل أو لم يقصده، أما إن كان بقصد اللعب أو التأديب فإنه لا يكون عدوانا فلا يكون عمدا، بشرط أن تكون الآلة موضوعة لذلك   1 المراجع: الصاوي على الشرح الصغير ج3، ص355، والدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص245. 2 مواهب الجليل للحطاب ج6، ص240. 3 ويراجع: الدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 نحو السوط أو العصا، أما بنحو السيف فإنه يكون عمدا؛ لأنه غير مستعمل في هذا الغرض. فالمالكية بهذا يرون أن استعمال السلاح القاتل كالسيف لا يحتاج معه إلى التعرف على قصد الجاني القتل أو عدم قصده، قصده الاعتداء أو اللعب أو التأديب؛ وذلك لأن السلاح موضوع بطبيعته للقتل وليس لغير ذلك، فإذا استعمله أيا كان قصده كان متعديا فيكون عمدا، وهم بهذا يجعلون السلاح أمارة ظاهرة على إرادة القتل، لا حاجة معها للبحث عن الإرادة الباطنة. ثالثها: استعمال آلة تؤدي إلى القتل، سواء كانت مما يقتل غالبا كالآلات المحددة كالسيف وما جرى مجراه، وكالأشياء الثقيلة كالحجر الكبير والخشبة العظيمة، أم كانت مما لا يقتل غالبا كالسوط والعصا ونحوهما، وكذا إذا استعمل ما يؤدي إلى الموت دون ضرب كالخنق ومنع الطعام والشراب إذا قصد بذلك قتله1، وقيل: لا يشترط؛ بل إن فعل ذلك بقصد التعذيب فمات وجب القصاص. والنوع الثاني: "القتل بسبب": ومن أمثلته: أن يربط دابة بالطريق للإضرار بشخص معين. أو يضع في الطريق ما يؤدي إلى انزلاقه -مثل ماء أو قشر بطيخ- أو يتخذ كلبا عقورا -أي: شأنه العقر بلا سبب- بقصد الإضرار به. أو يحفر له بئرا ولو كان حفرها ببيته.   1 أما إن قصد بذلك مجرد التعذيب فالدية إلا أن يعلم أنه يموت، فعلم الموت ملحق بقصده، الشرح الصغير ج2، ص355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فإذا قتل الشخص المقصود بسبب من هذه الأسباب وجب القصاص، وإذا وجدت قيود ثلاثة: 1- أن يقصد الفاعل بفعله الضرر. 2- وأن يكون الشخص الذي قصد الإضرار به معينا. 3- وأن يهلك ذلك الشخص المعين بسبب ذلك. وإن لم يهلك الشخص المقصود المعين بل هلك غيره، أو قصد ضرر غير معين فهلك بها إنسان غيره كان خطأ، الواجب فيه الدية في الإنسان الحر على العاقلة، والقيمة في غيره. وإن لم يقصد ضررا فلا شيء عليه إن حفر البئر بملكه أو بأرض موات بقصد منفعة ولو لعامة الناس، أما أن حفرها بملك غيره بلا إذن، أو بطريق أو بأرض موات لا لمنفعة، فالدية في الحر والقيمة في غيره. القتل العمد عند الشافعية: يرى الشافعية أن العمد هو"أن يعمد الجاني إلى الاعتداء على شخص مقصود بالجناية بشيء يقتل غالبا". ثم أخرج فقهاؤهم محترزات هذا التعريف فقالوا: "أن يعمد الجاني إلى الاعتداء" خرج ما لو عمد إلى ضربه وكان ضربه مستحقا؛ أي: غير عدوان1.   1 حاشية الفرماوي ص370، وحاشية الباجوري ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 "الاعتداء على شخص" خرج ما لو زلقت رجله فوقع على شخص فمات فإنه خطأ. "شخص مقصود بالجناية" خرج ما لو رمى زيدا فأصاب عمرًا فهو خطأ أيضا. "بشيء يقتل غالبا" أي: بأي شيء يقتل غالبا كان ذلك محددا أم مثقلا أم غيرهما؛ كخنق أو إلقاء في بئر، أو تقديم طعام مسموم أو سحر، أو حبس دون طعام أو شراب، أو شهادة زور أدت إلى القتل. "يقتل غالبا" خرج ضربه بما يقتل نادرا، فإن هذا يكون شبه عمد، كما لو ضربه في غير مقتل بعصا صغيرة أو حجر صغير وما أشبه ذلك. وهل يشترط المذهب أن يكون الجاني قاصدًا قتل المجني عليه؟ الراجح في المذهب أنه لا يشترط ذلك، فالفعل الذي أدى إلى القتل إذا توافرت فيه الشروط المذكورة آنفا يكون عمدا موجبا للقصاص، قصد القتل أم لم يقصده بأن قصد الضرب دون القتل؛ لأن المذهب لما جعل العمد ما كان بآلة تقتل غالبا، أقام هذه الآلة معيارا أو دليلا على قصد القتل، فلا حاجة إلى التعرف حينئذ على إرادته الباطنة هل قصد القتل بذلك أم لا؟ خاصة وأن الآلة التي تقتل غالبا، لا تستعمل عادة في الضرب إلا بقصد القتل، فكانت دليلا ظاهرا على إرادته قتله. وفي رأي مرجوح في المذهب يشترط لكي تكون الجناية عمدا أن يقصد الجاني قتل شخص معين1.   1 مغني المحتاج ج4، ص3، 4، 5، حاشية البرماوي ص385، حاشية الباجوري على ابن القاسم ص8 ط المعاهد الأزهرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وواضح من هذا التحليل أن الشافعية يجعلون أركان القتل العمد ثلاثة: أولها: أن يقصد الجاني بجنايته شخصا معينا فيقتله بهذه الجناية، حتى إنه لو قصد ضرب عمرو فأصاب خالدًا، لم يكن القتل عمدا؛ بل يكون خطأ. ثانيها: أن يقصد الفعل، ولا يشترط قصد القتل على الراجح في المذهب. ثالثها: أن يرتكب الجاني جنايته بما يقتل غالبا، سواء كان ذلك بالمباشرة، أو التسبب؛ وذلك لأن الفاعل إما أن يقصد عين المجني عليه أو لا يقصده، فإن قصده بالفعل الذي يؤدي إلى الهلاك بلا واسطة فهو المباشرة، وإن أدى إليه بواسطة فهو السبب، وإن لم يقصد عين المجني عليه فهو الشرط، ونوضح كل نوع منهما فيما يلي: أولهما: أن يكون القتل مباشرة، ويقصد بالمباشرة كل فعل يؤثر في الهلاك ويحصله، ويكون القتل مباشرة إذا وقع بما يقتل غالبًا؛ كما لو ضربه بمجرد كالسلاح وما جرى مجراه في تفريق الأجزاء، أو بمثقل كحجر كبير ونحوه مما يقتل غالبا، وكذلك بما يقتل نادرا إذا وضع في مقتل كغرز إبرة في مقتل كالعين وأصل الأذن والحلق، وتكرار ضرب بعصا صغيرة ونحوها، وأيضا ضرب يقتل المريض دون الصحيح؛ لأن هذا يقتل مثله غالبا، وكذا لو حبسه ومنه الطعام والشراب، فمات جوعا أو عطشا بعد مضي مدة بموت مثله فيها غالبا، كل هذا عمد موجب القصاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الثاني: القتل بسبب؛ وهو أن يقصده بالفعل الذي يؤدي إلى الهلاك بواسطة، والسبب ينقسم إلى ثلاثة أضرب: الأول: سبب شرعي: كما لو شهد بقصاص، فقتل المشهود عليه، ثم رجعا وقالا: تعمدنا الكذب، لزمهما القصاص؛ لأنهما تسببا في إهلاكه بما يقتل غالبا، فأشبه ذلك الإكراه الحسي1. الثاني: سبب عرفي: كتقديم طعام مسموم لمن يأكله، وكما لو ترك المجروح علاج جرح مهلك له، فمات وجب القصاص جزاما على الجارح؛ لأن البرء غير موثوق به لو عولج، والجراحة في نفسها مهلكة، أما ما لا يهلك، كأن فصده فلم يعصب العرق حتى مات، فإنه لا ضمان؛ لأنه هو الذي قتل نفسه، وكذا لو ألقاه في ماء يعد مغرقا وكان لا يمكنه التخلص منه، ولو أمسكه فقتله آخر، أو حفر بئرا فراده فيها آخر، أو ألقاه من شاهق، فتلقاه آخر فقده، فالقصاص على القاتل في الصورة الأولى لحديث: "إذا أمسك الرجل الرجل حتى جاء آخر فقتله، قتل القاتل وحبس الممسك" رواه الدارقطني، وأيضا القصاص على المردي في الثانية تقديما للمباشرة؛ لأن الحفر شرط ولا أثر له مع المباشرة، وعلى القاد القصاص في الصورة الثالثة؛ لأن فعله قطع أثر السبب. الثالث: السبب الحسي: كما لو أكرهه على قتل شخص بغير حق فقتله، فعلى المكره -بكسر الراء- القصاص؛ لأنه أهلكه بما يقصد به الإهلاك غالبا، فأشبه ما لو رماه بسهم فقتله، وكذا يجب القصاص على المكره -بفتح الراء- في الأظهر؛ لأنه قتله عمدا عدوانا لاستبقاء نفسه، فأشبه ما لو قتله المضطر ليأكله بل أولى؛ لأن المضطر على يقين من التلف إن لم يأكل،   1 مغني المحتاج ج4، ص6-10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 بخلاف المكره، والثاني، لا قصاص على المكره -بكسر الراء- لأنه متسبب بل على المكره -بفتح الراء- لأنه مباشر، والمباشرة مقدمة. القتل العمد عند الحنابلة: عرف الحنابلة1 القتل العمد بـ"أن يقتل قصدا بما يغلب على الظن موت المقتول به عالما بكون المقتول آدميا معصوم الدم". فلا قصاص بما لا يقتل غالبا؛ لأن حصول القتل بما لا يغلب على الظن موته به يكون اتفاقا لسبب أوجب الموت غيره، وإلا لما تخلف الموت عنه في غير تلك الحال على الأكثر. وكذا لا قصاص إن لم يقصد قتله، أو قصد غير معصوم الدم2.   1 الروض المربع ج2، ص330. 2 ثم ذكر فقهاء المذهب أن قتل العمد الموجب القصاص بالاستقراء تسعة أقسام: أحدها: أن يجرحه بمحدد له مور -أي دخول وتردد في البدن- يقطع اللحم والجلد؛ كسكين وسيف وسنان وقدوم، أو يغرزه بماله سنان، أو ما في معناه مما يحدد ويجرح من حديد ونحاس ورصاص وذهب وفضة وزجاج وحجر وخشب وقصب وعظم جرحا ولو صغيرا كشرط حجام، فمات المجروح، ولو طالت علته منه، ولا علة به غير الجرح، ولو كان في غير مقتل كالأطراف؛ لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل بدليل ما لو قطع شحمة أذنه أو أنملته فمات، ولأن العمد لا يختلف مع "اتحاد الآلة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ...............................................................................................   = والفعل بسرعة الإفضاء وإبطائه، ولأن في البدن مقاتل خفية، وهذا له سراية ومور فأشبه الجرح الكبير. ثانيها: أن يشربه بمثقل كبير فوق عمود الفسطاط لا بمثل مثل عمود الفسطاط -عمود الفسطاط: هو خشبة فيها رقة ورشاقة يقيم عليها العرب بيوتهم المتخذة من الشعر- لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المرأة التي ضربت جارتها بعمود الفسطاط فقتلتها وجنينها قضى صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة وبدية المرأة على عاقلتها، والعاقلة لا تحمل العمد، فدل على أن القتل بعمود الفسطاط ليس بعمد، وأن العمد يكون بما فوقه. أو يضربه بما يغلب على الظن موته به كاللت -بضم اللام وتشديد المثناه فوق نوع من السلاح- والدبوس وعقب الفأس والكوذين -الخشبة الثقيلة التي يدق بها الدقاق الثياب- والسندان. أو يضربه بحجر كبير أو يلقى عليه حائطا أو سقفا أو صخرة أو خشبة عظيمة، أو يلقيه من شاهق. أو يكرر الضرب عليه بخشبة صغيرة أو حجر صغير؛ لأن ذلك كله مما يقتل غالبا. أيضربه بالخشبة الصغيرة أو الحجر الصغير مرة في مقتل ونحوه. أو يلكزه بيده في مقتل، أو في حال ضعف من قوة من مرض أو صغر أو كبر أو حر مفرط أو برد شديد ونحوه فمات فعليه القود؛ لأن ذلك الفعل يقتل غالبا. وإن ادعى جهل المرض في ذلك كله لم يقبل، وكذا إن قال لم أقصد قتله لم يصدق؛ لأن الظاهر خلافه. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ..............................................................................................   = وإن لم يكن الضرب بالخشبة الصغيرة أو الحجر الصغير أو اللكز باليد في مقتل في حال ضعف قوة ونحوه مما ذكر ففيه الدية؛ لأنه عمد الخطأ؛ لكونه لا يقتل غالبا. أما إن ضربه بشيء صغير جدا كالضربة بالقلم أو الإصبع في غير مقتل ونحوه، أو مسه بالكبير ولم يضربه به، فلا قود فيه ولا دية؛ لأن ذلك الفعل لا يتسبب عنه قتل. القسم الثالث: أن يجمع بينه وبين أسد أو نمر بمكان ضيق كزريبة ونحوها فيفعل الأسد ونحوه به ما يقتل بمثله فعليه القود؛ لأنه إذا تعمد الإلقاء فقد تعمد قتله بما يقتل غالبا. وإن فعل به الأسد ونحوه فعلا لو فعله الآدمي لم يكن عمدا فلا قود؛ لأن السبع صار آلة للآدمي، فكان فعله كفعله. ولو أنهشه كلبا أو سبعا مفترسا أو حية من القواتل، وكان هذا الفعل يقتل غالبا كان عمدا يقاد به، فإن لم يكن يقتل غالبا كثعبان صغير أو سبع صغير أو كلب صغير، أو كتفه وألقاه في أرض غير مسبعة فأكله سبع أو نهشته حية فمات فشبه عمد، فيضمنه بالدية على عاقلته والكفارة في ماله؛ لأنه فعل فعلا تلف به، وهو لا يقتل غالبا. القسم الرابع: ألقاه في ماء يغرقه، أو نار لا يمكنه التخلص منهما، إما لكثرتهما أو لعجزه عن التخلص لمرض أو ضعف أو صغر أو كان مربوطا أو منعه الخروج كونه في حفرة لا يقدر على الصعود منها، ونحو هذا فمات، فعمد؛ لأن الموت حصل بعد فعل يغلب على الظن إسناد القتل إليه، فوجب كونه عمدا. وإن ألقاه في ماء يسير أو في نار، وكان يمكنه التخلص، فليبث فيه اختيارًا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ..............................................................................................   = ولم يخرج حتى مات، فهدر؛ لأنه مهلك نفسه. القسم الخامس: خنقه بحبل أو غيره: وهو نوعان؛ أحدهما: أن يخنقه في عنقه ثم يعلقه في نحو خشبة، فيموت. فهو عمد سواء مات في الحال، أو بقي زمنا؛ لأن هذا جرت به عادة اللصوص والمفسدين، الثاني: أن يخنقه وهو على الأرض أو سد فمه أو أنفه أو عصر خصيتيه حتى مات في مدة يموت في مثلها غالبا، فعمد؛ لأنه يقتل غالبا، وإن كان ذلك في مدة لا يموت مثله فيها غالبا فشبه عمده، إلا أن يكون صغيرا إلى الغاية بحيث لا يتوهم الموت فيه فمات فهدر؛ لأنه لم يقتله. القسم السادس: حبسه ومنعه الطعام والشراب أو أحدهما أو منعه الدفء في الشتاء ولياليه الباردة حتى مات جوعا أو عطشا أو بردا في مدة يموت في مثلها غالبا، بشرط أن يتعذر عليه الطلب، فعمد؛ لأن الله تعالى أرى العادة بالموت عند ذلك، فإذا تعمده الإنسان فقد تعمد القتل، فإن لم يتعذر عليه الطلب، وتركه حتى مات، فهدر؛ لأنه المهلك لنفسه، كتركه شد موضع فصاده؛ لحصول موته بفعل نفسه وتسببه فيه. والمدة التي يموت فيها غالبا تختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال، فإذا عطشه في الحرمات في الزمان القليل، وعكسه في البرد، وإن كان حبسه مع منعه الطعام والشراب في مدة لا يموت فيها غالبا فهو عمد الخطأ، وإن شككنا في المدة التي يموت فيها غالبا لم يجب القود لعدم تحقق موجبه. القسم السابع: سقاه سُمًّا لا يعلم المقتول به، أو خلطه بطعام، ثم أطعمه إياه، أو خلطه بطعام أكله وهو لا يعلم به، فمات، فعليه القود إن كان ذلك السم مثله يقتل غالبا؛ لما روي أن يهودية أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- بشاة مسمومة، فأكل منها النبي -صلى الله عليه وسلم- وبشير بن العلاء، فلما مات بشير أرسل إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- فاعترفت فأمر بقتلها، رواه أبو داود. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ...............................................................................................   = وإن علم آكل السم به وهو بالغ عاقل فلا ضمان، كما لو قدم إليه سكينا فقتل نفسه بها. وإن كان الآكل غير مكلف بأن كان صغيرا أو مجنونا ضمنه واضع السم. وإن خلط السم بطعام نفسه فأكله إنسان بغير إذنه فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يقتله، وإنما هو قتل نفسه، أشبه ما لوحفر في داره بئرا ليقع فيها اللص إذا دخل يسرق منها، وسواء دخل بإذنه أو بغيره حيث لم يأذنه في الأكل. وإن سقاه سما لا يقتل غالبا، فقتله، فشبه عمد؛ لأنه قصد الجناية بما لا يقتل غالبا. القسم الثامن: أن يقتله بسحر يقتل غالبا فهو عمد، إذا كان الساحر يعلم ذلك، أشبه ما لو قتله بمحدد، وكذا المعيان الذي يقتل بعينه. القسم التاسع: أن يشهد اثنان فأكثر على شخص بقتل عمد أو ردة؛ حيث امتنعت التوبة -بأن شهدا أنه سب الله وروسله- أو يشهد أربعة فأكثر بزنا محصن، ونحو ذلك مما يوجب القتل؛ فقتل بشهادتهم، ثم رجعوا واعترفوا بتعمد القتل فعليهم القصاص؛ لما روى القاسم بن عبد الرحمن أن رجلين شهدا عند علي أنه سرق، فقطعه، ثم رجعا عن شهادتهما، فقال علي: لو أعلم أنكما عمدتما لقطعت أيديكما، ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا أشبه المكره. وكذلك الحاكم إذا حكم على شخص بالقتل عالما بكذب البينة متعمدا فقتل، واعترف الحاكم بذلك، فعليه القصاص؛ لأنه في معنى الشهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أركان القتل العمد عن الحنابلة: يبتين لنا من تحليل الحنابلة للقتل العمد أنه لا بُد فيه من توافر ما يأتي: أولا: أن يقصد بالقتل من يعلمه آدميا معصوما، وقصد القتل يظهر في بعض كتب الحنابلة مثل: كشاف القناع، والأحكام السلطانية لأبي يعلى، ولا يظهر في بعضها الآخر، مثل: المغني والشرح الكبير الذي عرفه بقوله: "فالعمد ما ضربه بحديدة أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله، أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة، أو فعل به فعلا الغالب من ذلك الفعل أنه يتلف"، وأيضا ما جاء في الروض المربع: "القتل العمد أن يقصد من يعلمه آدميا معصوما فيقتله بما يغلب على الظن موته به، فلا قصاص إن لم يقصد قتله، ولا إن قصده بما لا يقتل غالبا". ثانيا: أن يكون الفعل الذي أدى إلى القتل من الأفعال التي تقتل غالبا، سواء كان هذا الفعل بالمباشرة أم بالتسبب، وقد وضح المذهب آنفا بالتفصيل هذه الأفعال. ثالثا: أن يكون الفعل بقصد الاعتداء، أما لو كان بقصد التأديب فإنه لا يكون عمدا إذا لم يتجاوز الحد "فمن أدب ولده أو أدب امرأته في النشوز أو أدب المعلم صبيه، أو أدب السلطان رعيته، ولم يسرف الأب أو الزوج أو السلطان فأفضى التأديب إلى تلف المؤدَّب -بفتح الدال- لم يضمن المؤدِّب -بكسر الدال- لأنه مأذون فيه شرعا، فلم يضمن ما تلف به كالحد، وإن أسرف في التأديب بأن زاد فوق المعتاد، أو زاد على ما يحصل به المقصود، أو ضرب من لا عقل له -أي غير صالح للتأديب- من صبي غير مميز وغيره كمجنون ومعتوه ضمن؛ لأنه غير مأذون في ذلك شرعًا"1.   1 راجع: كشاف القناع ج4، ص96، والمغني والشرح الكبير ج9، ص320، والروض المربع ج 2، ص33، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 القتل العمد عند الزيدية: يرى الزيدية أن القتل العمد هو "أن تكون الجناية مباشرة من مكلف قاصد للمقتول بما مثله يقتل في العادة، أو قصد القتل بما مثله لا يقتل في العادة بالنظر إلى المجني عليه، فمن مات بذلك فإنه يقتل فاعله، وإن ظن الاستحقاق له بالمجني عليه؛ نحو أن يظنه قاتل أبيه فقتله فانكشف القاتل غيره، فإنه يلزمه القود ما لم يكن فعله بأمر الحاكم أو بإقرار المجني عليه فيكون خطأ؛ لأن الحاكم ألجأه، والمجني عليه غرر عليه، فيلزم القاتل الدية وتكون على عاقلته"1. تحليل أركان القتل العمد عند الزيدية: يتضح لنا من التعريف المتقدم أن الزيدية يرون أن القتل العمد الموجب للقصاص هو ما توافر فيه ما يأتي: أولا: أن يقصد بجنايته إنسانا معينا، فلو رمى زيدا فأصاب عمرًا كانت جنايته خطأ، ولا عبرة بظنه أن دم المجني عليه مستحق له، ثم ظهر خلاف ظنه. ثانيا: لا يشترط قصد القتل إلا إذا كان القتل بما لا يقتل عادة، فإن قصد إيلامه فقط بفعل لا يقتل عادة كانت الجناية خطأ، كما سيأتي إيضاحه في الجناية خطأ. أما في إن كانت الجناية بما مثله يقتل في العادة، فإنه لا يشترط قصد القتل، فمجرد مباشرة الجناية بذلك يكفي في جعل الجريمة عمدية موجبة للقصاص،   1 التاج المذهب ج4، ص261، 289، 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 سواء قصد القتل أم قصد التأديب؛ لأن مثل هذا الفعل لا يستعمل إلا في القتل عادة، فكانت مباشرة الجناية به دليلا ظاهرا على إرادته لا حاجة معه إلى التعرف على نيته وقصده؛ لأنها أمر باطني. ثالثا: الظن الخاطئ لا يخرج الجريمة عن كونها عمدا، فلو ظن أن دم المجني عليه مستحق له، نحو أن يظنه قاتل أبيه فقتله، ثم انكشف أن القاتل غيره، فإن قتله يكون عمدا موجبا للقصاص. رابعا: أن تكون الجناية من مكلف -بالغ عاقل- فأما الصبي والمجنون فعمدهما خطأ، وهذا القيد وإن صرح به الزيدية في تعريفهم للقتل العمد، فهو شرط لاستيفاء القصاص بإجماع الفقهاء كما سيأتي. خامسا: أن تكون الآلة مما يقتل عادة، سواء كانت بمحدد أم بغير محدد، بماشرة أم بسبب ولم يوجد من يتعلق به القتل إلا المسبب، أما إذا كانت بما لا يقتل عادة فإنه يجب أن يقترن بها قصد القتل كما ذكرنا آنفا1.   1 ونورد فيما يلي بعض الصور للجريمة العمدية التي تكشف وتثبت لنا ذلك: جاء في التاج المذهب ج4، ص286-288 ما يأتي: "رمى رجل ببندق قاصدا لإفزاع صبي لقَتْلِه، فمات قتل به، وإن قصد إفزاعه دون قتله، فإن كان يقتل مثلها في العادة فعمد يقتل به وإن لم يقصد القتل، وإن كان لا يقتل في العادة لزمته الدية وتكون على عاقلته، وإن رمى ولم يقصد فلا شيء عليه إن لم يعرف أنه يتولد منها جناية، وإلا ضمن ما تولد منها، وهكذا في كل صيحة تولدت منها جناية على الغير؛ بل يجب القود على من فعل سبب القتل، ولم يوجد من يتعلق به إلا المسبب، وهو الْمُعْرِي لغيره مما يقيه الحر أو البرد من الثياب ونحوها، والحابس له ولم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ...............................................................................................   = يمكنه التخلص، حتى مات جوعا أو عطشا أو بردا أو حرا، فإنه يقاد به؛ لأنه قاتل عمدا عدوانا، وإن لم يكن القتل فعله. ومثله من سرق طعام غيره أو ماءها ومركوبه في مفازة وليس معه سواه، حتى مات قتل به؛ لأنه قاتل عمدا. وكذا لو تركت المرضعة الصبي حتى مات، فتقاد به إن لم تكن من أصوله. ربط غيره بين يدي سبع فقتله السبع، أو في أرض مسبعة فقتله السباع فيلزم الدية؛ لأنه لم يوجد من يتعلق به الضمان، ولم يلجأ إليه إلا إذا جمع بينه وبينها في موضع ضيق؛ فقد ألجأها إليه فيلزمه القود. ركب نخلة ثم رأى المالك في صورة مفزعة له كجندي فسقط فمات، فإن المالك لا يقاد به، ولكن يضمن الدية لتعديه بالقصد لإفزاعه، وتجب الدية على عاقلته ولو قصد هلاكه ... بخلاف الصيحة كما سيأتي فإنها قاتلة بنفسها، فإن كان لا ينزجر إلا بها فلا ضمان، وإن كان ينزجر بدونها فإن كانت هذه الصيحة لا يقتل مثلها في العادة، فإن لم يقصد إلى قتله فعليه الدية، وإن قصد إلى قتله أو كان مثلها يقتل في العادة لزمه القود؛ لأن الصوت كالآلة الواقعة في الصماخ فيصدع لأجلها القلب فيهلك السامع". التاج ج4، ص387. ونظير السم ما لو أدنى من حاسة الشم سُمًّا قاتلا كمحلول النوشادر وأشمه الغير فمات فإنه يقاد به. "لو أمسك رجلا رجل أو صبره -أي حبسه- حتى جاء غيره ممن تضمن جنايته كالآدمي فقتله، فالقود على القاتل لا على الممسك والمصبر، وإنما عليهما التأديب، وأما لو كان ممن لا تضمن جنايته كالسبع أو نحوه فيضمن الممسك والمصبر الدية إذا لم يلجئه السبع، ويلزمه القود إذا ألجأه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 القتل العمد عند الإمامية: عرف الإمامية العمد فقالوا: "أن يتعمد الفعل والقصد، بمعنى أن يقصد الشخص المعين، وفي حكمه تعمد الفعل دون القصد إذا كان الفعل مما يقتل غالبا"1. فإذا قصد الجاني قتل إنسان معين فقتله كان عمدا، سواء كان ذلك بفعل يقتل غالبا أو يقتل نادرًا؛ لأن العمد يتحقق بقصد القتل من غير نظر إلى الآلة. وإذا لم يقصد القتل، ولكنه فعل به فعلا يقتل غالبا كان عمدا. وإذا لم يقصد القتل، ولكنه فعل به فعلا نادرًا ما يؤدي إلى القتل، فإنه لا يكون عمدا، وإن اتفق موته بهذا الضرب، كما لو ضربه بالعود الخفيف أو العصا الخفيفة في غير مقتل بغير قصد القتل؛ لانتفاء القصد إلى القتل، وانتفاء القتل بذلك عادة، فيكون القتل شبه الخطأ. وللشيخ2 قول بأنه هنا عمد، استنادًا إلى روايات ضعيفة أو مرسلة لا تعتمد في الدماء المعصومة. أما لو كرر ضربه بما لا يحتمل مثله الضرب به بالنسبة إلى بدنه؛ لصغره أو مرضه، أو زمانه لشدة الحر أو البرد فهو عمد؛ لأنه حينئذ يكن الضرب بحسب العوارض مما يقتل غالبا، ولا عبرة بكون الآلة مما لا تقتل إلا نادرًا. ومن هذا يتبين لنا أنه يلزم توافر ما يأتي؛ لكي تكون الجريمة عمدا عند الإمامية:   1 راجع الروضة البهية ج2، ص397، 410، 418. 2 إشارة إلى أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي المتوفَّى سنة 460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 أولا: أن يقصد الإضرار بشخص معين. ثانيا: لا يشترط توافر قصد القتل إذا كان الفعل مما يقتل غالبا؛ ولكن يشترط تعمد الفعل دون القصد القتل. أما إذا كان الفعل مما يقتل نادرا فإنه لا بد من توافر قصد القتل، فإن لم يتوافر قصد القتل لا يكون عمدا، ويعتبر تكرارًا لضرب بآلة تقتل نادرًا لشخص لا يحتمل مثله بمثابة الآلة التي تقتل غالبا، سواء كان عدم احتماله بسبب مرض أو صغر أو غيرهما كما ذكرنا آنفا. ثالثا: يسوي الإمامية بين الآلة التي تفرق الأجزاء والتي تقتل بثقلها، وكذا الخنق والنار، والماء، والسم، وكذا من يسبب الموت مثل حفر بئر في طريق ليقع فيها المجني عليه، أو أغرى به كلبا عقورا، أو إلقاه إلى أسد بحيث لا يمكنه الفرار منه1.   1 ونورد فيما يلي بعض الصور التي جاءت في كتبهم: "ويكون عمدا لو رماه بسهم أو بحجر غامز -أي كابس على البدن لثقله- أو خنقه بحبل ولم يرخ عنه حتى مات، أو بقي مخنوقا ضمينا -أي مزمنا- ومات بذلك، أو طرحه في النار فمات، إلا أن يعلم قدرته على الخروج بأدنى حركة فيترك؛ لأنه حينئذ قاتل نفسه، أو طرحه في اللجة فمات منها ولم يقدر على الخروج أيضا إلى آخره ... أو جرحه عمدا فسرى الجرح عليه ومات وإن أمكنه المداواة ... أو ألقى نفسه من علو على إنسان فقتله قصدا، أو كان مثله يقتل غالبا، ولو كان الملقي له غيره بقصد قتل الأسفل قيد به مطلقا بالواقع إن كان الوقوع مما يقتل غالبا وإلا ضمن دينه، أو ألقاه من مكان شاهق يقتل غالبا، أو مع قصد قتله، أو قدم إليه طعاما مسموما يقتل مثله كمية وكيفية ولم يعلمه بحاله، أو جعل الطعام المسموم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 القتل العمد عند الظاهرية: يرى الظاهرية أن الجريمة عمد أو خطأ ولا ثالث لهما، وأن القتل باعتبار أداة القتل نوعان: "أحدهما: ما تعمد به المرء مما قد يمات من مثله وقد لا يمات من مثله، قال أبو محمد رضي الله عنه: هذا عمد وفيه القود أو الدية كما في سائر العمد؛ لأنه عدوان، وقال عز وجل: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . والثاني: ما تعمد به المرء مما لا يموت أحد أصلا من مثله، فهذا ليس   = في منزله ولم يعلمه به، أما لو وضعه في طعام نفسه أو في ملكه فأكله غيره بغير إذنه فلا ضمان، سواء فقصد بوضعه قتل الكل -كما لو علم دخول الغير داره كاللص- أم لا، أو حفر بئرا بعيدة القعر في طريق أو في بيته بحيث يقتل وقوعها غالبًا، أو قصده ودعا غيره إلى المرور عليها مع جهالته بها، فوقع فمات، أما لو دخل بغير إذنه فوقع فيها فلا ضمان، وإن وضعها لأجل وقوعه، كما لو وضعها اللص، أو ألقاه في البحر فالتقمه حوت إذا قصد إلقام الحوت، أو كان وجوده والتقامه غالبا في ذلك الماء، وإن لم يقصد إلقامه ولا كان غالبا فاتفق ذلك ضمنه أيضا على قول؛ لأن الإلقاء كاف في الضمان، ولو أغرى به كلبا عقورا فقتله ولا يمكنه التخلص منه ... فلو أمكنه فلا قود؛ لأنه أعلن على نفسه بالتفريط، أو ألقاه إلى أسد بحيث لا يمكنه الفرار ... فقتله، أو أنهشه حية قاتلة فمات ... أو شهد عليه زورا بموجب القصاص، فاقتص منه، إلا أن يعلم الولي التزوير ويباشر القتل فالقصاص عليه؛ لأنه حينئذ قاتل عمدا بغير حق". الروضة البهية ج2، ص297-299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 قتل عمد ولا خطأ ولا شيء فيه إلا الأدب فقط"1. "وقال أبو محمد2: إن القصاص واجب في كل ما كان بعمد من جرح أو كسر لإيجاب القرآن ذلك في كل تعد وفي كل حرمة وفي كل عقوبة وفي كل سيئة، وورود السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومن هذا يتبين لنا أن الظاهرية يرون أن القتل العمد هو ما يتوافر فيه ما يأتي: 1- قصد ضرب المجني عليه عدوانا، ولا يشترط عندهم توافر قصد القتل. 2- أن يكون الفعل الذي أدى إلى الموت يمكن تصور حدوث الموت منه؛ أي: أنه كما عبروا "مما قد يمات من مثله وقد لا يمات من مثله". 3- أن يباشر الجاني الجناية؛ أي: أن تكون الجناية حادثة بفعل مباشر منه، سواء كان ذلك بقتله مباشرة، أو بدفع من لا إرادة له إلى قتله -كحيوان ومعتوه مثلا- أما لو دفعه إلى من له إرادة ليقتله فقتله كان المدفوع إليه هو القاتل، لا الأول حتى لو احتوى هذا الدفع على غش أو خداع، أو كان المدفوع إليه سما، فتناوله المجني عليه دون إكراه، فإنه لا يكون عمدا موجبا للقصاص. ومباشرة القتل يمكن أن تكون بفعل منه، أو بالامتناع عن تقديم ما تتوقف عليه حياة الشخص المجني عليه؛ كحبسه دون طعام أو شراب،   1 المحلى لابن حزم ج10 ص343، المسألة رقم 2018. 2 نفس المرجع ج10 ص403 أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أو الامتناع عن تقديمها أو أحدهما إليه، ولم يكن للمجني عليه سبيل يستطيع الحصول منه عليهما غير هذا السبيل؛ وهو طلبهما من هذا الشخص "الجاني" ... فإذا مات الطالب جوعا أو عطشا كان المانع لهما قاتلا عمدًا1.   1 ونتبين هذا بوضوح مما جاء في المحلى لابن حزم من مسائل متناثرة نذكر بعضا منها: جاء في المحلى ج11، ص11 مسألة رقم 2111: "ولو أن إنسانا هيج كلبا أو أطلق أسدًا، أو أعطى أحمق سيفا فقتل رجلا، كل من ذكرنا، فلا ضمان على المهيج، ولا على المطلق، ولا على المعطي السيف؛ لأنهم لم يباشروا الجناية، ولا أمروا بها من يطيعهم، فلو أنه أشلى الكلب على إنسان أو حيوان فقتله ضمن المال وعليه القود مثل ذلك، ويطلق عليه كلب مثله حتى يفعل به مثل ما فعل الكلب بإطلاقه؛ لأنه هنا هو الجاني القاصد إلى إتلاف ما أتلف الكلب بإغرائه. ولو أن امرأ حفر حفرة وغطاها أمر إنسانا أن يمشي عليها فمشى عليها ذلك الإنسان مختارا للمشي، عالما أو غير عالم، فلا ضمان على آمره بالمشي، ولا على الحافر، ولا على المعطي؛ لأنهم لم يمشوه ولا باشروا إتلافه، وإنما هو باشر شيئا باختياره، ولا فرق بين هذا وبين من غر إنسانا فقال: له طريق كذا آمن هو؟ فقال له: نعم هو في غاية الأمن، وهو يدري أن في الطريق المذكور أسدا هائجا، أو جملا هائجا، أو كلابا عقارة، أو قوما قطاعين للطريق يقتلون الناس، فنهض السائل مغترا بخبر هذا الغار له، فقتل وذهب ماله، وكذلك من رأى أسدا فأراد الهروب عنه، فقال له إنسان: لا تخف فإنه مقيد، فاغتر بقوله ومشى فقتله الأسد، فهذا كله لا قود على الغار، ولا ضمان أصلا في دم ولا مال؛ لأنه لم يباشر شيئا ولا أكره، فلو أنه أكره على المشي على الحفرة فهلك فيها أو طرحه إلى الأسد أو إلى الكلب فعليه القود، فلو طرحه إلى أهل الحرب أو البغاة فقتلوه فهم القتلة لا الطارح = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ..............................................................................................   = بخلاف طرحه إلى من لا يعقل؛ لأن من لا يعقل آلة للطارح، وكذلك لو أمسكه لأسد فقتله أو لمجنون فقتله، فالممسك هاهنا هو القاتل بخلاف إمساكه إياه لقتل من يعقل، وبالله تعالى التوفيق". 2- وجاء في نفس المرجع ج10، ص522 مسألة 2097: "ومن استسقى قوما فلم يسقوه حتى مات، قال علي: روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث عن الأشعث عن الحسن: أن رجلا استسقى على باب قوم فأبوا أن يسقوه فأدركه العطش فمات فضمنهم عمر بن الخطاب ديته. قال أبو محمد: القول في هذا عندنا -وبالله تعالى التوفيق- هو أن الذين لم يسقوه إن كانوا يعلمون أنه لا ماء له البتة إلا عندهم ولا يمكنه إدراكه أصلا حتى يموت، فهم قتلوه عمدا وعليهم القود بأن يمنعوا الماء حتى يموتوا كثروا أو قلوا، ولايدخل في ذلك من لم يعلم بأمره، ولا من لا يمكنه أن يسقيه، فإن كان لا يعلمون ذلك، ويقدرون أنه سيدرك الماء فهم قتله خطأ، وعليهم الكفارة، وعلى عواقلهم الدية ولا بد. برهان ذلك قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، وقال تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} . قال أبو محمد: وهكذا القول في الجائع والعاري ولا فرق، وكل ذلك عدوان، وليس هذا كمن تبعه سبع فلم يؤوه حتى أكله السبع؛ لأن السبع هو القاتل له، ولم يمت في جنايتهم، ولا مما تولد من جنايتهم، ولكن لو تركوه فأخذه السبع وهم قادرون على إنقاذه فهم قتلة عمد، إذا لم يمت من شيء إلا من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ...............................................................................................   = فعلهم، وهذا كمن أدخلوه في بيت ومنعوه حتى مات، ولا فرق، وهذا كله وجه واحد، وبالله تعالى التوفيق". 3- وجاء في نفس المرجع ج10، ص528 مسألة 2103: "الجرة توضع إلى باب، أو إنسان يستند إلى باب، فيفتح الباب فاتح فيفسد المتاع أو يقع الإنسان فيموت. قال علي: قال قوم بالتضمين في هذا، وأسقط قوم فيه الضمان، والظاهر عندنا وبالله تعالى التوفيق: أنه ضامن للمتاع، والدية على عاقلته والكفارة عليه؛ لأنه مباشر لإسقاط المتاع وإسقاط المسند قاصدا إلى ذلك وإن لم يعلم، بخلاف ما ذكرنا قبل مما لم يباشر الإتلاف فيه، ولو أنه فعل هذا عمدا لكان عليه القود. ولو أن امرأ رقد ليلا في طريق فداسه إنسان فقتله فإنه قاتل خطأ بلا شك، وكذلك لو دخل دار إنسان ليسرق فداسه صاحب المنزل فقتله فهو مباشر لقتله فعليه القود في العمد؛ لأنه لم يقتله محاربا له، والدية في ذلك والكفارة على العاقلة في غير العمد، وبالله تعالى التوفيق". 4- كما جاء في نفس المرجع ج11، ص25-27 مسألة رقم 2121: "من سم طعاما لإنسان ثم دعاه إلى أكله، فأكله فمات ... أنه لا قود عليه ولا دية عليه ولا على عاقلته؛ لأنه لم يباشر فيه شيئا أصلا، بل الميت هو المباشر في نفسه، ولا فرق في هذا بين من غر آخر فأراه طريقا أو دعاه إلى مكان فيه أسد فقتله. وقد صح الخبر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يوجب على التي سمته وأصحابه فمات من ذلك السم بعضهم قودًا ولا دية، فبطل النظر مع هذا النص، ووجه آخر وهو أنه لا يطلق على = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ..............................................................................................   = من سم طعاما لآخر فأكله ذلك المقصود فمات أنه قتله إلا مجازًا لا حقيقة، ولا يعرف في لغة العرب أنه قاتل، إنما يستعمل هذا العوام، وليس الحجة إلا في اللغة وفي الشريعة، وبالله التوفيق. وأما إذا أكرهه وأوجره "صبه في حلقه" السم، أو أمر من يوجره فهو قاتل بلا شك ومباشر لقتله، ويسمى قاتلا في اللغة وفي الأثر ... عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... ومن شرب سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ... "، فقد سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شرب السم ليموت به قاتلا لنفسه، فوجب أن يكون عليه القود، وظهر خطأ من أسقط هاهنا القود، وبالله تعالى التوفيق". وأيضًا قد استدل الظاهرية بما ورد في بعض الروايات أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل التي سمته؛ منها ما روي عن أنس بن مالك وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أمه أم مبشر: أنه لم يقتل المرأة التي سمت الشاة وأهدتها له، فأكل منها وأكل بعض أصحابه ومات بعض أصحابه الذين أكلوا منها. راجع المحلى لابن حزم ج11، ص25-26، فقد ذكر الروايات المختلفة في هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 المبحث الثاني: أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي أولاً: أن يكوت الأعتداء واقعًا على آدمي حي ... المبحث الثاني: أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي: يمكننا بعد هذا العرض المفصل لآراء الفقهاء في الجريمة العمدية الموجبة للقصاص أن نستخلص أركان هذه الجريمة في الفقه الإسلامي ونحددها فيما يلي: أولا: أن يكون الاعتداء واقعا على آدمي حي: فإذا كان الاعتداء واقعا على غير آدمي؛ كالجناية على الحيوانات وما شابهها، فإن له بحثا آخر1؛ إذ نخص بالبحث في هذا الباب الجناية على الأشخاص. ولا بد أن يكون الآدمي المعتدَى عليه حيا؛ لأنه لو لم يكن حيا، لما سميت الجريمة قتلا، لا لغة ولا اصطلاحا؛ لأن القتل -كما سبق أن عرفناه- هو إزهاق روح المجني عليه، فإذا لم يتحقق هذا الإزهاق بأن كان الاعتداء واقعا على إنسان ميت لا تسمى الجناية قتلا، ولكنها تصبح هتكا لحرمة الميت، وتعرضا لجسد لا روح فيه بما لا يرضى عنه الشرع ولا العقل، وبما تأباه النفس البشرية والطبيعية المستقيمة، ومثل هذه الجناية وضع الفقهاء لها ضوابط تبين ما يحل منها وما يحرم، ووضعوا لمن يقترف ما حرم عقوبة وهي التعزير.   1 أما البحث في الحنابلة على الحيوان، فإنه يندرج تحت مبحث ضمان الأموال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ولما كان هناك مرحلة تسبق الموت، وقد تطول وقد تقصر، فقد تعرض الفقهاء لما يكون منها له حكم الموت، فيكون الاعتداء عليه كالاعتداء على الميت، ومنها ما يكون له حكم الحياة، فيكون الاعتداء عليه كالاعتداء على الحي، وللفقهاء في ذلك تفصيل نرده فيما يلي: جاء في مغني المحتاج ج4، ص13: "أنه إن جنى شخص على آخر، ثم جنى شخص آخر على الشخص المجني عليه بعد الانتهاء لحركة المذبوح -أي: بعد وصوله إلى الدرجة التي يفقد فيها قدرته على التصرف والتفكير ولا يصبح بينه بين الموت إلا لحظات النزع الأخير- فالأول منهما قاتل؛ لأنه صيره إلى حالة الموت، ويعزر الثاني منهما لهتكه حرمة الميت، كما لو قطع عضوا من ميت". وقد حدد ابن حزم في المحلى "ج10، ص518، المسألة رقم 2094" الدرجة التي يكون الاعتداء فيها على الإنسان قتلا والتي لا يكون فقال: "فيمن قتل إنسانا يجود بنفسه للموت، قال علي: روينا من طريق أبي بكر بن شيبة، حدثنا يحيى بن أزهر، حدثنا زهير عن جابر عن الشعبي في رجل قتل رجلا قد ذهبت الروح من نصف جسده قال: يضمنه. قال علي: لا يختلف اثنان من الأئمة كلها في أن من قربت نفسه من الزهوق بعلة أو بحراحة أو بجناية بعمد أو خطأ، فمات له ميت فإنه يرثه. وأنه إن قدر على الكلام فأسلم وكان كافرًا وهو يميز بعد، فإنه مسلم يرثه أهله من المسلمين، وأنه إن عاين وشخص ولم يكن بينه وبين الموت إلا نفس واحد، فمات من أوصى له بوصية، فإنه قد استحق الوصية ويرثها عنه ورثته، فصح أنه حي بعد بلا شك؛ إذ لا يختلف اثنان من أهل الشريعة وغيرهم في أنه ليس إلا حي أو ميت، ولا سبيل إلى قسم ثالث؛ فإذ هو كذلك، وكنا على يقين من أن الله تعالى قد حرم إعجال موته، وغمه، ومنعه النفس، فبيقين وضرورة ندري أن قاتله قاتل نفس بلا شك، فمن قتله في تلك الحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 عمدا، فهو قاتل نفس عمدا، ومن قتله خطأ فهو قاتل خطأ، وعلى العامد القود أو الدية أو المفاداة، وعلى المخطئ الكفارة والدية على عاقلته، وكذلك في أعضائه القود في العمد، وبالله تعالى التوفيق". وفصَّل ابن قدامة في المغني بين أربع حالات من حالات الجناية على إنسان قارب الموت: الحالة الأولى: أن تتم الجناية من اثنين تكون جناية أحدهما لا تبقى معها الحياة، كما لو قطع مريئه أو قطع أحشاءه وأبانها منه، أو ذبحه، ثم جاء الثاني فضرب عنقه. ففي هذه الحالة يكون القاتل هو الأول؛ لأنه لا يبقى مع جنايته حياة للمجني عليه، فالقود عليه خاصة، وعلى الثاني التعزير، كما لو جنى على ميت، وإن عفا الولي إلى الدية، فهي على الأول وحده. الحالة الثانية: أن تكون جناية الأول يجوز معها بقاء الحياة، كما لو شق بطنه من غير إبانة أحشائه، أو قطع طرفه، ثم جاء الثاني فضرب عنقه، فالثاني هو القاتل؛ لأن الأول لم يخرج المجني عليه من حكم الحياة، فيكون الثاني هو المفوت لها، فعليه القصاص في النفس، والدية كاملة إن عفا الولي عنه، ثم ننظر في جناية الأول، فإن كانت موجبة للقصاص -كقطع طرف- فالولي مخير بين قطع طرفه، والعفو على ديته أو العفو مطلقا، وإن كان لا يوجب فعله القصاص -كالجانفة ونحوها- فعليه الأرش، وإنما كان عليه القصاص؛ لأن فعل الثاني قطع سراية جراحه، فصار كالمندمل الذي لا يسري، ويقول قدامة: هذا مذهب الشافعي، ولا أعلم فيه مخالفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الحالة الثالثة: أن تكون جناية الأول تفضي إلى الموت لا محالة، إلا أنه لا يخرج بها من حكم الحياة، وتبقى معه الحياة المستقرة بعض الوقت مثل: خرق المعي، أو أم الدماغ، ثم جاء الثاني فضرب عنقه، فالقاتل هو الثاني؛ لأنه فوت حياة مستقرة وقتل من هو في حكم الحياة، بدليل أن عمر -رضي الله عنه- لما جرح دخل عليه الطبيب فسقاه لبنا فخرج يصلد، فعلم الطبيب أنه ميت، فقال: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم، وأوصى، وجعل الخلافة إلى أهل الشورى، فقبل الصحابة عهده، وأجمعوا على قبول وصاياه وعهده، فلما كان حكم الحياة باقيا بعد الجناية الأولى، كان الثاني مفوتا لها، فكان الثاني هو القاتل، كما لو قتل عليلا لا يرجى برء علته. الحالة الرابعة: ألا يصل المجني عليه إلى حال اليأس من حياته بعد الجناية الأولى، ثم يدخل سبب ينهي حياته؛ أي: أنه قد اجتمع سببان للقتل؛ أولهما: لم يفض إلى النتيجة بسبب تدخل الثاني، وذلك كما إذا ألقى رجلا من شاهق، فتلقاه آخر بسيف فقتله، فالقصاص على من قتله؛ لأنه فوت حياته قبل المصير إلى حال ييئس فيها من حياته، فأشبه ما لو رماه إنسان بسهم قاتل فقطع آخر عنقه قبل وقوع السهم به، أو ألقى عليه صخرة فأطار آخر رأسه بالسيف قبل وقوعها عليه، ثم يذكر ابن قدامة أن هذا قول الشافعي: إن رماه من مكان يجوز أن يسلم منه، وإن رماه من شاهق لا يسلم منه الواقع ففيه وجهان: أحدهما -كقول الحنابلة المتقدم- أي: أن القصاص على من قتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 والثاني: الضمان عليهما بالقصاص والدية عند سقوطه؛ لأن كل واحد منهما سبب للإتلاف. وأيد الحنابلة وجهة نظرهم بأن الرمي سبب والقتل مباشرة، فانقطع حكم السبب؛ كالدافع مع الحافر، والجارح مع الذابح. "وهذا التفصيل الدقيق هو ما نرى رجحانه والأخذ به في مثل هذه الجناية؛ لأن القول بما قرره الظاهرية على إطلاقه يؤدي إلى عدم الاعتداد بجناية الجاني الأول إذا اعتدى جانٍ ثانٍ على المجني عليه هو يجود بنفسه.. مع خطورة هذه الجناية عن جناية الثاني من حيث الإقدام عليها وقدرة المجني عليه على المقاومة، وبالتالي خطورة الجاني". ولا بد أن تكون حياته ظاهرة ومؤكدة، فلو جنى شخص على جنين1 في بطن أمه لم تكن الجناية عمدا موجبا للقصاص عند جمهور الفقهاء -على تفصيل منا فيما بعد- فمن ضرب امرأة حاملا، فسقط جنينها ميتا كانت فيه الدية، فقد روي عن أبي هريرة أنه قال: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة ... الحديث2. وقد جاء في الفتح: "شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتا بسبب الجناية، فلو انفصل حيا ثم مات وجب فيه القود أو الدية كاملة"3. اهـ.   1 سُمي جنينا لاستتاره واختفائه، فإن خرج حيا فهو ولد، وإن خرج ميتا فهو سقط. وسيأتي لنا مبحث مستقل في الجناية على الجنين. 2 نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص69، 70. 3 نيل الأوطار ج7، ص72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ثانيا: أن يكون المجني عليه معصوم الدم : ومعنى كونه معصوم الدم ألا يكون دمه مباحا، فإن كان دمه مباحا -كما لو كان حربيا- لم يجب القصاص على قاتله عمدا؛ وذلك لأنه وإن كان اعتداء على آدمي حي عمدا، إلا أن ما صاحب هذا الآدمي من صفة المحاربة أهدرت دمه لشدة خطره على المسلمين وتوقع الشر من قبله. ولقد سبق أن أوضحنا أن الشريعة الإسلامية جعلت القتل الموجب للعقوبة القتل بغير حق، أما القتل بحق؛ كقتل الحربي والمرتد عن دينه، والبغاة، والزاني المحصن، وقاتل النفس عمدا، فإنه قتل لا يترتب عليه الإثم؛ لأنه قتل بحق؛ ولكن يعزر مقترف هذه الجريمة لافتياته على الإمام. فقد صرح الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية والظاهرية بأنه يجب أن يكون المقتول معصوم الدم، أما إن كان الشرع قد أباح دمه لكونه حربيا أو مرتدا، أو زانيا محصنا، أو قاطع طريق تحتم قتله، فإن قاتله لا يقتل به وإن كان بغير إذن من الحاكم، ولا يجب عليه دية ولا كفارة؛ لأنه مباح الدم في الجملة، وإن توقفت المباشرة على إذن الحاكم فيأثم بدونه خاصة، ويعزر قاتل هؤلاء لافتياته على الإمام. ولو قتل غير الولي شخصا وجب عليه قصاص قتل به "كما صرح الشافعية والحنابلة والإمامية"1؛ لأنه محقون الدم بالنسبة إلى غيره، أو بعبارة أخرى: لا يوجد سبب فيه يباح به دمه لغير ولي مقتوله، فإذا قتله اقتص منه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} فخص وليه بقتله، فدل على أن غير وليه لا سلطان له عليه. وسيأتي إيضاح شرط العصمة تفصيلا عند بيان شروط استيفاء القصاص من القاتل في كل مذهب من المذاهب الفقهية. وهذا الإنسان المعصوم الدم على التأبيد يتساوى فيه الكبير والصغير والصحيح والمريض، وكامل الجسم والحواس وناقص شيء منها، والعاقل والمجنون.   1 مغني المحتاج ج4، ص14-15، المغني أو الشرح الكبير ج9، ص351، وكشاف القناع ج3، ص346، الروضة البهية ج3، ص407-408. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ثالثا: أن يكون هذا الآدمي معينا : يرى جمهور الفقهاء "الحنفية والمالكية -في القتل بسبب- والشافعية والحنابلة -كما هو ظاهر كلامهم في تعريف العمد- والزيدية والإمامية": أنه لا بد أن يكون المعتدَى عليه إنسانا معينا؛ لكي تكون الجريمة عمدية، أما لو قصد إنسانا معينا "عمرًا" فأصاب آخر "خالدًا"، فإن الجناية عندهم تكون خطأ؛ لأنه لم يقصد قتل خالد هذا، وإنما قصد عمرًا فأصاب خالدًا خطأ، فتكون الجناية خطأ. وهم في هذا ينظرون إلى من وقعت عليه الجناية فعلا، هل كان قتله مقصودا أم غير مقصود؟ فإذا كان غير مقصود فإنه يكون خطأ وإن كان مقصودا كان عمدًا. ويرى المالكية "في القتل مباشرة" ورأي مرجح عند الحنابلة1 مروي عن الإمام أحمد أنه إن قصد عمرًا فأصاب خالدًا تكون الجناية عمدا؛ لأنه قصد قتل آدمي معصوم الدم، وما دام قد قصد قتل آدمي فلا يغير من وصف الجريمة بالعمدية كون المقتول إنسانا آخر غير الشخص الذي قصد قتله. وأرى رجحان رأي المالكية ومن وافقهم في عدم اشتراط قصد إنسان معين إذا كان القتل بالمباشرة؛ وذلك لأن النتيجة "القتل" قد حدثت فعلا، وكونه لم يردها لمن وقعت عليه أورادها للآخر، لا يغير من خطورته على المجتمع، والمجتمع كله وحدة واحدة، ويؤيد هذا قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} . وأما القتل بسبب فنظرا لاشتراك المجني عليه في وقوع الجناية؛ بسبب عدم تحرزه وقلة حيطته حتى سقط في البئر مثلا، أو اصطدم بما وضع له في طريقه؛ لذلك كان التشديد هنا باشتراط قصد إنسان معين ضروريا في جعل الجناية عمدية موجبة للقصاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 رابعًا: أن يكون قصد الجاني ضرب المجني عليه ... رابعا: أن يقصد الجاني ضرب المجني عليه: يرى جمهور الفقهاء أنه يكفي في اعتبار القتل عمدا موجبا للقصاص أن يقصد الجاني ضرب المجني عليه بما يقتل عادة، ولا يشترط قصد القتل، ويرى فريق من الفقهاء اشتراط قصد القتل؛ لكي تكون الجريمة عمدية موجبة للقصاص، وتوضح آراءهم فيما يلي: الرأي الأول: يرى بعض الفقهاء أنه لا بد في اعتبار الجريمة عمدية من أن يقصد الجاني قتل المجني عليه وهو رأي بعض الحنفية والشافعية والحنابلة؛ فقد صرح الكاساني من علماء الحنفية أنه يشترط أن يقصد الجاني قتل المجني عليه حتى تكون الجناية عمدا ... "فقال في البدائع عند ذكره لشروط إيجاب القصاص في القاتل بعد العقل والبلوغ: الثالث: أن يكون متعمدا في القتل قاصدًا إياه ... الرابع: أن يكون القتل منه عمدا محضا ليس فيه شبهة العدم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام شرط العمد مطلقا بقوله: "العمد قود"، والعمد المطلق هو العمد من كل وجه، ولا كمال مع شبهة العدم، ولأن الشبهة في هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الباب ملحقة بالحقيقة، وعلى هذا يخرج القتل بضربة أو ضربتين على قصد القتل أنه لا يوجب القود؛ لأن الضربة أو الضربتين مما لا يقصد به القتل عادة؛ بل التأديب والتهذيب، فتمكنت في القصد شبهة العدم، وعلى هذا يخرج قول أصحابنا -رضي الله عنهم- في الموالاة في الضربات أنها لا توجب القصاص خلافا للشافعي: "وجه" قوله: أن الموالاة في الضربات دليل قصد القتل؛ لأنها لا يقصد بها التأديب والتهذيب عادة، وأصل القصد من موجود فيتمخض القتل عمدا فيوجب القصاص. "ولنا" -أي للحنفية- أن شبهة عدم القصد ثابتة؛ لأنه يحتمل حصول القتل بالضربة والضربتين على سبيل الاستقلال من غير الحاجة إلى الضربات الأخر، والقتل بضربة أو ضربتين لا يكون عمدا، فتبين بذلك أنه لا يوجب القصاص، وإذا جاء الاحتمال جاءت الشبهة وزيادة"1. ومن كلامه يضتح لنا أنه يشترط أن يكون القاتل قاصدا القتل، كما يشترط أن يكون القتل منه عمدا محضا ليس فيه شبهة العدم، ويفسر الشرط الأخير بألا تكون الآلة أو الفعل مما يحتمل أن يكون غير قاتل بطبيعته، فإن كان غير محتمل لشبهة العدم كان عمدا موجبا للقصاص. ولا يفهم من كلامه "اشتراط قصد القتل" عند عامة فقهاء الحنفية، فقد سبق أن نقلنا عنهم ما ينفي بصورة قاطعة اشتراط ذلك، وجاء في الذخيرة إن "قصد أن يضرب يد رجل فأصاب عنقه، فهو عمد، وفيه القود، ولو أصاب عنق غيره فهو خطأ"2. قال في المجتبى: "وبهذا يتبين أن قصد القتل ليس بشرط لكونه عمدا".   1 البدائع ج7، ص234. 2 الزيلعي ج6، ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 كما صرح الماوردي -الشافعي- وأبويعلى -الحنبلي- في تعريفهما للقتل العمد الموجب للقصاص بـ"أن يتعمد قتل النفس بما يقطع بحده -كالحديد- أو بما يمور في اللحم مور الحديد، أو بما يقتل بنقله -كالحجارة والخشب"1. الرأي الثاني: رأي المالكية: يرى المالكية عدم اشتراط قصد القتل إلا من جنايتين: أ- في جناية الأصل على فرعه. ب- وفي الجريمة التي تتم بمنع الطعام والشراب عن آخر حتى مات جوعا أو عطشا، فإنه يكون قتلا عمدا موجبا للقصاص إذا قصد قتله، إما إذا قصد بذلك مجرد التعذيب فالواجب الدية، إلا أن يعلم الجاني أنه يموت بذلك، فإنه يكون عمدا موجبا للقصاص؛ لأن العلم ملحق بقصده، وقيل: لا يشترط قصد القتل، بل إن فعل ذلك بقصد التعذيب -لا القتل- فمات وجب القصاص. فالمذهب لم يصرح باشتراط قصد القتل لإيجاب القصاص من القاتل عمدا إلا في هاتين المسألتين، ومع هذا ففي المذهب رأيان في اشتراط قصد القتل في المسألة الأخيرة. الرأي الثالث: لا يرى اشتراط قصد القتل في اعتبار الجريمة عمدية ما دام قد قصد الجاني ضرب المجني عليه بما يقتل غالبا، وهو رأي جمهور الفقهاء "الحنفية2   1 الأحكام السلطانية للماوردي ص331، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص272. 2 مع مراعاة ما قاله أبو حنيفة من أن العمد ما كان بمحدد ونحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 -غير الكسائي- والشافعية -غير الماوردي- والحنابلة -غير أبي علي- والزيدية والإمامية والإباضية" وأما إذا قصد ضربه بما لا يقتل عادة فلا بد من توافر قصد القتل عند عامتهم1. أما الحنابلة، فإنهم وإن قالوا في تعريفهم للقتل العمد: إن يقتل قصدا بما يغلب على الظن موت المقتول به .... إلا أنهم في تحليل صور القتل العمد صرحوا بأنه لا يشترط قصد المثل، فقد جاء في كشاف القناع ج3، ص323: ومن صور القتل العمد أن "يلكزه بيده في مقتل، أو في حال ضعف قوة من مرض أو صغر أو كبر أو حر مفرط أو برد شديد أو نحوه، فمات فعليه القود؛ لأن ذلك الفعل مما يقتل غالبا، وإن ادعى جهل المرض في ذلك كله لم يقبل، وكذا إن قال: لم أقصد قتله لم يصدق؛ لأن الظاهر خلافه". فقد أقام المذهب من الفعل القاتل دليلا طاهرًا على قصد القتل، لا يقبل معه إنكاره عدم قصد القتل، أو جهله بحالة المجني عليه المرضية التي تجعل هذا الفعل قاتلا له، وإن لم يكن قاتلا لغيره، وبهذا يتضح لنا أن المذهب لا يشترط قصد القتل مع وجود الفعل الذي يؤدي إلى القتل غالبا. أما الزيدية والإمامية، فإنهم لا يشترطون أيضا قصد القتل إذا كانت   1 فقد جاء في شرح النيل ج3، ص118: "ومن تعمد ضربا بتعدية بما لا يتوهم منه قتل فقام عنه فإنه يقتل به، وقيل: يحط عنه وتلزمه الدية والإثم، وذلك مثل ريشة وليقة ونحوهما، وما يتوهم منه القتل وإن لم يستعمل له فإنه يقتل به ويأثم، وما لم يستعمل لقتل ولم تجر العادة بقصد القتل به فلا يقتل به ولزمت به الدية والإثم؛ كالضرب باليد والرجل والعصا، وما لا يتوهم منه القتل هو العمد الشبيه بالخطأ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الجناية قد تمت بما يقتل غالبا، أما إن تمت بما لا يقتل إلا نادرًا، فإنه لا بد من توافر قصد القتل في هذه الحالة. وهم في هذا يجعلون من الآلة أو الفعل الذي يقتل غالبا دليلا ظاهرا على قصد القتل لا حاجة معه إلى البحث عن قصد القتل، إما إذا كانت الجناية قد تمت بما يقتل نادرا، فإن الدليل الظاهر وهو هذه الآلة لا تثبت ولا تنبئ ولا تدل على قصد القتل؛ لأن مثلها لا يقتل إلا نادرًا، فهي تستعمل عادة في التأديب والتهذيب واللعب، فالقرينة الظاهرة تدل على عدم قصد القتل، فلا يعدل عن هذا الظاهر إلى الباطن إلا إذا ثبت أنه قد قصد القتل بهذه الآلة، فإن ثبت ذلك كان القتل عمدا موجبا للقصاص، وإلا كانت الجريمة شبه عمد عند الإمامية خطأ عند الزيدية. وبهذا يتبين لنا أن جمهور الفقهاء لا يشترطون قصد القتل مع وجود الفعل أو الآلة الدالة على أنه قصد القتل بها، وفي تعليل ذلك يقول الحنفية: "إن القصد أمر باطني؛ لأنه من عمل القلب، وإذا كان أمرًا باطنا فيعسر التعرف عليه والوصول إلى حقيقته؛ ولذا أقيم الفعل الذي يقتل غالبا مقام قصد القتل تيسيرًا، كما أقيم السفر مقام المشقة في إباحة الفطر في رمضان، وكما أقيم البلوغ مقام اعتدال العقل في مخاطبة الصبي بفروع الشريعة تيسيرا"، فكذلك يقام الفعل الذي يقتل غالبا مقام قصد القتل. وبذلك يكون استعمال ما يقتل غالبا دليلا ظاهرًا على توافر نية القتل وقصده لا حاجة معه إلى التعرف على الإرادة الباطنة والقصد الخفي.. وإلا لأدى هذا إلى إسقاط هذه العقوبة، وتفشي القتل بين الناس بمثل هذه الأفعال مع ادعاء عدم قصد القتل ومحاولة إثباته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 خامسا: أن يكون الضرب بقصد العدوان : وكذلك لكي تكون الجريمة عمدا لا بد أن يكون الجاني قد قصد الضرب بسب عداوة أو غضب "أي عدوانا"، وهو ما يعبر عنه بأنه قتل بغير حق؛ لأن القتل بحق لا يكون عدوانا، وإنما استيفاء لحقه، وقد نص كتاب الله تعالى على ذلك في قوله جل شأنه: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} 1. فالقتل الذي يكون عمدا هو ما يكون فيه المقتول مظلوما، والقاتل ظالما، وإنما يكون ظالما له باعتدائه عليه دون وجه حق، وذلك بسبب عداوة أو غضب أو شهوة قتل أو حب للدماء أو استهتار بأرواح الناس، كل ذلك يعتبر قتلا عدوانا. أما إن قصد التأديب والتهذيب، فإن الأمر يحتاج إلى تفصيل؛ نظرًا لأن هذا الضرب باعتبار مقصده مشروع. الضرب بقصد التأديب أو اللعب: إذا ضرب إنسان شخصا بقصد التأديب أو اللعب، فأدى فعله إلى القتل، فإن الحكم يختلف باختلاف الآلة المستعملة: هل هي موضوعة للقتل غالبا وعرفا، أو موضوعة للعب والتأديب؟ 2   1 سورة الإسراء الآية رقم 33، وراجع الآية رقم 68 من سورة لقمان. 2 ونعرض فيما يلي آراء الفقهاء في حكم ذلك: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ............................................................................................   = مذهب الحنفية: يقول الإمام الكساني في بدائعه ج7 ص234: "الرابع من شروط استيفاء القصاص: أن يكون القتل منه عمدا محضا ليس في شبهة العدم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام شرط العمد مطلقا بقوله: "العمد قود"، والعمد المطلق هو العمد من كل وجه، ولا كمال مع شبهة العدم، ولأن الشبهة في هذا الباب ملحقة بالحقيقة، وعلى هذا يخرج القتل بضربة أو ضربتين على قصد القتل أنه لا يوجب القود؛ لأن الضربة أو الضربتين مما لا يقصد به القتل عادة؛ بل التأديب والتهذيب فتمكنت في القصد شبهة العدم ... ". ومن هذا يتضح لنا أمران: أولهما: أنه لا بد من توافر قصد القتل -كما وهو واضح من الشرط الثالث- وقد سبق أن قرر المذهب أن توافر قصد القتل يكن موجودا إذا استعمل الجاني في جنايته آلة تقتل قطعا أو غالبا؛ كالمحدد عند أبي حنيفة، والمحدد والمثقل عند الصاحبين. ثانيهما: أنه إذا وجدت شبهة في كون القتل عمدا محضا؛ كما إذا ضربه ضربة أو ضربتين بآلة تقتل غالبا، فإنه لا تكون الجريمة عمدية موجبة للقصاص، حتى وإن قصد القتل؛ ولكنها تصبح جريمة "شبه عمد" فيها الدية مغلظة وليس فيها القود؛ لأن الشبهة قد وجدت هنا باستعمال آلة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 .......................................................................   = ليست موضوعة للقتل غالبا أوعرفا، وإنما هي آلة للتأديب والتهذيب، ومن هنا نقل المذهب وصف الجريمة من العمد إلى شبه العمد، حتى وإن صحب الضربة قصد القتل؛ لأن القصد أمر باطني يصعب التعرف على حقيقته، وأمامنا دليل ظاهر وهو استعمال آلة لا تقتل غالبا وعادة، فعارض الدليل الظاهر الدليل الباطن فنأخذ بالظاهر ونمنع القصاص؛ لتمكن الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، ومثلها القصاص. وبهذا يتبين لنا أن المذهب يجعل معياره في جعل الجريمة عمدا أو شبه عمد بعد توافر قصد ضرب شخص معين يدور مع استعماله الآلة أو الفعل المستخدم في القتل، فإن كان يقتل غالبا كان عمدا، وإلا كان شبه عمد، سواء قصد القتل أو التأديب، أما إن لم يقصد ضرب هذا الشخص بأن قصد هدفا فأصاب آدميا أو قصد خالدا فأصاب عمرا، فإن أثر القصد هنا يظهر في تحويل الجريمة من عمد أو شبه عمد إلى خطأ فيه الدية على العاقلة كما سيأتي إيضاحه. مذهب المالكية: جاء في تقرير المالكية لجريمة العمد أنه لا بد أن يكون قصد الضرب بسبب عداوة أو غضب -أي عدوانا- أما إن كان بقصد اللعب أو التأديب، فإنه لا يكون عدوانا فلا يكون عمدا، بشرط أن تكون الآلة موضوعة لذلك نحو السوط والعصا، أما إن كانت غير موضوعة لذلك كسيف ونحوه فإنه يكون عمدا. وبهذا ترى أن المالكية يجعلون الجريمة التي تتم بما يقتل قطعا دون = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ........................................................................   = قصد العدوان جريمة عمدية، أما التي تتم بآلة موضوعة للعب والتأديب، وأدى ضربه بها إلى الموت فإنه يكون خطأ؛ لأن المذهب يجعل للجريمة وصفين فقط العمد والخطأ، فإن لم تكن عمدا كانت خطأ. مذهب الشافعية: أما الشافعية فإن الفرق بين العمد وشبه العمد عندهم في نوع الآلة المستعملة في القتل مع توافر قصد الضرب، فإن كانت تقتل غالبا كانت الجناية عمدا -كما سبق إيضاحه تفصيلا- وإن كانت لا تقتل إلا نادرًا كالعصا الحفيفة كانت الجناية شبه عمد، ما لم يضعها في مقتل أو يوالي الضربات ... ففي هذه الحالة تصبح عمدا موجبا للقصاص، وقد سبق أن بينا أن المذهب لا يشترط على الراجح توافر قصد القتل؛ بل يكتفى بقصد الضرب، وفي الضرب للتهذيب وجد قصد الضرب، ومقتضى الرأي المرجوح الذي يشترط توافر قصد القتل في الجريمة العمدية يكون التهذيب شبه عمد -ولا يكون عمدا- إذا تم بآلة تقتل غالبًا. مذهب الحنابلة: وجاء في تقرير الحنابلة لجريمة شبه العمد "أنه إن قصد التأديب لشخص فأسرف فيه بما لا يقتل غالبا، ولم يجرحه بها، فيقتل المعتدى عليه -قصد قتله أو لم يقصده- كانت الجريمة شبه عمد". ويتضح من هذا أنه إن قصد التأديب بما يقتل غالبا فأدى هذا إلى قتل الشخص المؤدب كانت الجريمة عمدا. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ......................................................................   = مذهب الزيدية: جاء في التاج المذهب ج4، ص306: "فأما تأديب الصبي من المعلم أو الولي أو ضم له غير معتاد، فمباشر غير مسبب، مضمون، يجب القود إن كان يقتل مثله، ولو لم يقصد المعلم أو الولي القتل". أما إذا لم يكن مثله يقتل عادة فلا بد من توافر قصد القتل لتكون الجريمة عمدا، فإن لم يتوافر قصد القتل كما في هذه الصور، فإنه لا يكون عمدا موجبا القود؛ بل يكون خطأ تجب فيه الدية. مذهب الإمامية: أما الإمامية فإنهم قد جعلوا الضرب بما يقتل غالبا عمدا إن قصد إيقاع الفعل به، أما إن استعمل ما لا يقتل إلا نادرا كالضرب بالعصا الخفيفة فأدى ذلك إلى القتل فإنه لا يكون قتلا عمدا، إلا إذا وجد قصد القتل، أما إن لم يوجد قصد القتل بل وجد قصد الضرب فقط فإنه يكون قتلا شبه عمد فيه الدية. مذهب الظاهرية: وأما الظاهرية فقد سبق أن بينا "أنهم يجعلون الجريمة عمدا إذا تعمد المرء ضرب شخص مما قد يمات من مثله، وقد لا يمات". وقد سبق أن أوضحنا أنهم لا يشترطون في القتل العمد غير قصد الضرب، وكون الآلة مما قد يمات من مثلها وقد لا يمات، وأن تكون الجناية بالمباشرة. ومن هنا يتضح لنا أنهم يجعلون الجريمة عمدا موجبا للقود إذا توافرت هذه الشروط، سواء قصد الضرب للقتل أو للتأديب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 1- أما إن كانت الآلة المستخدمة في التأديب والتهذيب أو اللعب تقتل قطعًا أو غالبًا، فإن الجناية تكون عمدا عند جمهور الفقهاء "الحنفية1 والمالكية وكذا الشافعية والحنابلة -على الرأي الراجح- وكذا الزيدية والإمامية والظاهرية والإباضية". "أما من اشترط من الفقهاء ضرورة توافر قصد القتل، فإنه يرى أن هذه الجريمة شبه عمد"، وهو رأي لبعض فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة، وقد سبق إيضاحه. 2- أما إن كانت الآلة المستخدمة في التأديب والتهذيب لا تقتل إلا نادرًا فإن فقهاء "الحنفية والشافعية والحنابلة والإمامية" يجعلونها "شبه عمد" تجب فيه الدية ولا يجب فيه القصاص. أما المالكية والزيدية، فقد جعلوا هذه الجناية خطأ فيها الدية على العاقلة؛ وذلك لأن هذين المذهبين يجعلان الجريمة إما عمدا أو خطأ ولا ثالث لهما -كما سبق أن نوهنا- وسيأتي مناقشة ذلك تفصيلا في جناية شبه العمد. وأما الظاهرية -وهم من المنكرين لجريمة شبه العمد أيضا- فإنهم يجعلون هذه الجناية عمدا. والظاهر هو الرأي الأول الذي يجعل هذه الجريمة "شبه عمد"؛ لأنه قد اقترن قصد الفعل بعدم قصد القتل بقرينة استعمال الآلة التي لا تقتل إلا نادرا، أي اقترن العمد بالخطأ، وهذا ينفي كونها عمدا خالصا، كما ينفي كونها خطأ محضا، فكانت في مرتبة وسطى، وهي شبه العمد؛ حفظا لأرواح الناس من الإهدار، ورعاية لأسرة المقتول وورثته، وتأديبا للجاني.   1 مع مراعاة رأي أبي حنيفة في اشتراطه في القتل العمد الموجب للقصاص: أن يكون بما يقتل قطعا، وإلا كان شبه عمد، وقد تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وللحنفية تفصيل فيما يؤدي إليه ضرب التأديب، فقد نصوا على أنه لو ضرب امرأته للنشوز فماتت منه، يضمن؛ لأن المأذون فيه هو التأديب لا القتل، ولما اتصل به الموت تبين أنه وقع قتلا. ولو ضرب الأب أو الوصي الصبي للتأديب، فمات، ضمن، عند أبي حنيفة -رضي الله عنه- لأن التأديب اسم لفعل يبقى المؤدب حيا بعده، فإذا سرى تبين أنه قتل، وليس بتأديب، وهما غير مأذونين في القتل. ويرى الصاحبان "أبو يوسف ومحمد" عدم الضمان؛ لأن الأب والوصي مأذونان في تأديب الصبي وتهذيبه، والمتولد من الفعل المأذون فيه لا يكون مضمونا كما لو عزر الإمام إنسانا فمات. ولو ضربه المعلم أو الأستاذ فمات، فإن كان الضرب بغير أمر الأب أو الوصي يضمن؛ لأنه متعدٍّ في الضرب، والمتولد منه يكون مضمونا عليه، وإن كان بإذنه لا يضمن للضرورة؛ لأن المعلم إذا علم أنه يلزمه الضمان بالسراية، وليس في وسعه التحرز عنها يمتنع عن التعليم، فكان في التضمين سد باب التعليم، وبالناس حاجة إلى ذلك، فسقط اعتبار السراية في حقه لهذه الضرورة، ولم توجد في الأب؛ لأن لزوم الضمان لا يمنعه عن التأديب لفرط شفقته على ولده، فلا يسقط اعتبار السراية من غير ضرورة. والذي أرجحه هو الضمان في جميع الحالات؛ وذلك لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" عام في كل من قتل بمثل ذلك من الأدوات التي لا تؤدي إلى القتل قطعا أو غالبا. كما أن إيجاب الضمان هنا "أي في التأديب والتهذيب" يجعل المنوط به هذه الولاية في حذر بالغ من أن يؤدي فعله إلى عكس المطلوب، وهو ما لا يقصده المشرع من إباحة ذلك، وأما القول بأن الضمان سيغلق باب التأديب والتهذيب، فإنه يرده أن هذا النوع من الرعاية يجب ألا يصل إلى درجة الضرب، وإذا وصل مع أن حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وخيركم لا يضرب"، فيجب أن يكون المقصود به التنبيه لا الإضرار، وحسبنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لنا نوع ضرب الزوج الناشز إن لم ينفع الوعظ والهجر بقوله: "فاضربوهن ضربا غير مبرح"، قال ابن عباس: أي بعود السواك ونحوه؛ لذلك أرى وجوب الضمان في كل هذه الحالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 سادسًا: أن يكون الجاني قد أوقع على المجني عليه فعلا قاتلا: يتبين لنا مما تقدم أن الفعل الذي يؤدي إلى قتل المجني عليه إما أن يكون فعلا مباشرًا؛ أي: فعلا يؤثر في هلاكه ويحدثه دون واسطة؛ كأن يقتله بسلاح وما جرى مجراه مما يقتل غالبًا، أو يكون فعلا أدى إلى القتل تسببا؛ أي: أن الجاني قصد المجني عليه بفعل أدى إلى إهلاكه بواسطة؛ كأن يحفر الجاني بئرا في طريق يسلكه المجني عليه بقصد إهلاكه، أو يغري كلبا عقورا به، فيموت المجني عليه بسبب وقوعه في البئر، أو بسبب عقر الكلب له، فإن الأمر الذي يضاف القتل إليه مباشرة هو الوقوع في البئر، أو عقر الكلب، ولكن هذا السبب وإن كان مباشرا إلا أنه غير عامل في ذاته، ولكنه أصبح عاملا بفعل الجاني -وهو الحفر أو الإغراء بقصد إهلاكه- ففعل الجاني هنا تسبب في إحداث النتيجة وهي الموت، فأضيف الموت إلى المتسبب؛ لأنه لم يتخلل بين السبب والنتيجة ما يصلح أن يضاف القتل إليه، فظل السبب عاملا ومؤثرا في إحداث هذه النتيجة، ونوضح فيما يلي آراء الفقهاء في موجب القتل مباشرة وتسببا: القتل مباشرة: لقد أوضح الفقهاء -كما سبق تفصيله- أن القتل مباشرة قد يقع بسلاح وما جرى مجراه في تفريق الأجزاء، قد يقع بالمثقل ونحوه مما يقتل غالبا، وقد يقع بما لا يقتل غالبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ولقد أجمع الفقهاء على أن القتل الذي يتم بالنوع الأول يعتبر قتلا عمدا موجبا للقصاص؛ لأن استعمال السلاح وما جرى مجراه في تفريق الأجزاء أمارة ظاهرة ودليل واضح على قصد القتل وقرينة قاطعة على إرادة هذه النتيجة لا تحتمل الشك، وتكون العقوبة في هذه الحالة موافقة للجناية صورة ومعنى. كما أن جمهور الفقهاء "غير الإمام أبي حنيفة" اعتبروا القتل بما يقتل غالبا مما ليس بسلاح ولا ما جرى مجراه؛ كالحجر الكبير والعصا الكبيرة والتغريق والخنق.. وأمثال ذلك قتلا عمدا موجبا للقصاص. أما الإمام أبو حنيفة، فإنه يرى أن القتل بمثل ذلك يكون شبه عمد، وقد ذكرنا آنفا وجه قوله1. أما القتل بما لا يقتل غالبا كالعصا الصغيرة والحجر الصغير مما لا يقتل إلا نادرا، فإن جمهور الفقهاء جعلوا القتل بمثل ذلك "شبه عمد" وليس قتلا عمدا؛ لأن معنى العمد يتقاصر باستعمال ما يقتل غالبا؛ لأنه يقصد باستعمالها أمر آخر غير القتل كالتأديب ونحوه؛ لذلك كانت الجناية شبه عمد، إلا أنه إذا اقترن باستعمال ذلك ما يدل دلالة واضحة على قصد القتل؛ كتكرار الضرب بعصا صغيرة، أو وضعها في مقتل كأذن أو عين، أو كان الشخص لا يحتمل مثله الضرب بمثل ذلك لضعف بسبب صغر أو مرض أو حر شديد أو برد مفرط، إلى غير ذلك من الأسباب، فإنه يكون حينئذ قتلا عمدا موجبا للقصاص، كما صرح بذلك الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية. أما المالكية والظاهرية، فإنهم يرون أن القتل بمثل ذلك يعتبر قتلا عمدا موجبا للقصاص إذا توافرت الشروط الأخرى للقتل العمد عندهم.   1 راجع ص54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ونرجئ مناقشة هذه الآراء جميعها والأدلة التي استند إليها كل فريق إلى الفصل الثالث من هذا الباب، الخاص بتقحيق جريمة شبه عمد وبيان أركانها وعقوبتها، فيرجع إليه. القتل بسبب: والقتل بسبب قد يكون بفعل؛ كالأمثلة التي ذكرناها، وقد يكون بترك فعل كمنع طعام أو شراب عن شخص، ونوضح آراء الفقهاء في كلا النوعين. أما النوع الأول، فقد اختلف الفقهاء في اعتبار القتل بسبب جريمة عمدية موجبة للقصاص، ولهم في ذلك رأيان: أحدهما: أنها لا تكون جريمة عمدية. يرى الحنفية أن القتل بسبب لا يكون عمدا موجبا للقصاص؛ وذلك لأن القتل به لا يساوي القتل مباشرة؛ لأن القتل بسبب قتل معنى لا صورة -حيث لم يؤثر فعل الجاني في إحداث القتل إلا بواسطة- والقتل مباشرة قتل معنى وصورة -حيث إن فعل الجاني أثر في إهلاك المجني عليه دون واسطة- والجزاء الموضوع لهذه الجريمة هو قتل مباشرة، فكانت الجناية -بهذه الكيفية- والعقوبة غير متساويتين؛ لذلك قالوا: إن القتل بسبب لا يكون قتلا عمدا موجبا للقصاص؛ إذ القصاص هو المساواة، ولا مساواة في هذه الحالة. الثاني: أن ها تكون جريمة عمدية: يرى جمهور الفقهاء "المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية والظاهرية" أن القتل مباشرة والقتل بسبب متساويان، فكلا الجنايتين عقوبتها القصاص إذا كان القتل عمدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وأرى رجحان رأي الجمهور؛ لأن كلا من المباشر والمتسبب أدى فعله إلى إزهاق روح المجني عليه، فهما متساويان في النتيجة، وكون القتل بسبب حدث بفعل من الجاني أدى إلى ذلك بواسطة، لا يؤثر في أن الفعل هو الذي نسب إليه القتل؛ لأن الواسطة إذا كانت لا تصلح لإضافة الحكم إليها كانت لغوا -كما سنوضح ذلك بعد قليل- وأيضا فإننا لو قلنا بالفرق بين المباشرة والتسبب؛ لأدى هذا إلى انتشار الجرائم بهذه الكيفية التي تعفي الجاني من القصاص؛ وحيئنذ ينتشر التفاني بين الناس، وهذا يتنافى مع الحكمة التي شرع من أجلها القصاص التي نصت عليها الآية الكريمة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . ارتباط السبب بالنتيجة: ولقد قرر هؤلاء الفقهاء أنه يشترط لكي يكون القتل بسبب عمدا موجبا للقصاص ألا يفصل بين الفعل الذي أدى إلى النتيجة -وهي القتل- سبب آخر يصح إضافة النتيجة إليه، فإذا وجد مثل هذا السبب كان الثاني مباشرا للقتل، وانقطعت بذلك الرابطة بين السبب والنتيجة، حتى لو كان القاطع لهذه الرابطة المجني عليه نفسه، كما لو تراخى في إنقاذ نفسه، أو أهمل، وكان يمكنه ذلك، ولقد أوضحنا فيما تقدم بالتفصيل المسائل التي طبق فيها الفقهاء هذه القاعدة، ونبرز منها ما يلي: اشتراط المالكية لكي يكون القتل بسبب عمدا شروطا ثلاثة، كان ثالثها1: "وأن يهلك ذلك الشخص المعين بسبب ذلك" أي: أن يهلك الشخص المعين بسبب ذلك الفعل لا بسبب آخر؛ أي: ألا يكون هناك سبب آخر تترتب عليه النتيجة، وهو الموت، فلو أغرى به كلبا، فعقره، فإن   1 راجع ص95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 مات بسبب ذلك كان قتلا عمدا، أما إن تخلل بين العقر والموت سبب آخر؛ كأن تدخل شخص آخر فقتله، أو وقع في حفرة، أو هوى من فوق منزل فمات بسبب ذلك، كان هذا الفعل قاطعا لرابطة السببية بين الفعل الأول والنتيجة، ويضاف الحكم إلى الثاني لا الأول. وكذلك صرح الشافعية1 أنه لو أمسكه فقتله آخر، أو حفر بئرا فرداه فيها آخر، أو ألقاه من شاهق فتلقاه آخر فقده، فالقصاص على القاتل والمردي والقادر فقط. ثم وضحوا القاعدة فقالوا فيما لو أمسك شخص آخر فجاء ثالث فقتله: إنه يشترط أن يكون القاتل مكلفا، فلو أمسكه وعرضه لمجنون أو سبع ضار فقتله، فالقصاص عل الممسك قطعا؛ لأنه يعد قاتلا عرفا2؛ أي: أنه لا ينسب القتل عرفا للمجنون والسبع، وإنما ينسب إلى الممسك؛ لأنه هو المتسبب في القتل ولم يتخلل بين الإمساك والقتل فعل آخر يصح أن ينسب القتل إليه منفردا، أو بعبارة أخرى: لم يتخلل بينهما إرادة صحيحة؛ إذ هما يعتبران كالآلة في يد الممسك، كما يعتبر الممسك بإمساكه منفذا للقتل بواسطتهما، فكان هو القاتل لا هما. وقد قرر هذا الظاهرية أيضا كما وضحنا فيما سبق3. كما قرر الحنمابلة هذه القاعدة فقالوا: إن ألقاه في ماء يغرقه، أو نار لا يمكنه التخلص منها، إما لكثرتهما أو لعجزه عن التخليص لمرض أو ضعف أو صغر أو كان مربوطا أو منعه الخروج كونه في حفرة لا يقدر على الصعود منها، ونحو هذا فمات، فعمد؛ لأن الموت حصل بعد فعل يغلب على الظن إسناد القتل إليه, فوجب كونه عمدا.   1 راجع ص63. 2 مغني المحتاج ج4، ص9. 3 راجع ص75-97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أما إذا ألقاه في ماء يسيير أو في نار ويمكنه التخلص منهما، فلبث فيه اختيارا، ولم يخرج حتى مات فهدر؛ لأنه مهلك نفسه. ومن هذا يتضح لنا أنه لما تخلل بين الفعل والنتيجة سبب آخر؛ وهو إهمال المجني عليه وتراخيه عن إنقاذ نفسه من الهلاك الذي أوقعه فيه الجاني انقطعت العلاقة بين السبب الأول والنتيجة؛ لأنه قد وجد سبب آخر أضيفت النتيجة إليه؛ وهو إرادة الشخص إهلاك نفسه، وإذا انقطعت هذه العلاقة لا يضاف القتل إلى السبب؛ ولكن يضاف إلى المباشر. ومثل ذلك ما قاله الزيدية1: "يجب القود على من فعل سبب القتل" ولم يوجد من يتعلق به إلا المسبب، وهو المعري لغيره مما يقيه الحر أو البرد من الثياب ونحوها، والحابس له ولم يمكنه التخلص حتى مات جوعا أو عطشا أو بردا أو حرا فإنه يقاد به؛ لأنه قاتل عمدا عدوانا، وإن لم يكن القتل بفعله. ومثله من سرق طعام غيره أو ماءه أو مركوبه "دابته" في مفازة وليس معه سواه حتى مات قتل به؛ لأنه قاتل عمدا، فإن قولهم: "يجب القود على من فعل سبب القتل ولم يوجد من يتعلق به إلا المسبب" واضح تمام الوضوح في أنه لا بد من استمرار اتصال سبب القتل بالنتيجة وهي القتل؛ أي: ألا يتخلل بين السبب والمسبب ما يقطع هذه العلاقة بحيث يضاف القتل إليه، فإن وجد ما يقطع هذه العلاقة -أي وجد سبب جديد يضاف إليه القتل- لا يكون فاعل السبب الأول قاتلا عمدا. ويشترط أن يكون السبب الجديد مما يصح إضافة القتل إليه، فلو لم   1 التاج المذهب ج4، ص287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 يصح إضافة القتل إليه، كان فاعل السبب الأول هو القاتل عمدا، كما لو قتل بسبب الحر الشديد أو البرد الشديد، وكان السبب في تأثير ذلك فيه هو تعرية الشخص مما يقيه الحر والبرد كان القاتل هو المعري؛ لأن السبب الجديد وهو الحر والبرد لا يصح أن يضاف إليه القتل هنا مباشرة دون السبب الأول الذي أدى إلى تأثير السبب الثاني فيه. كما أنهم أشاروا إلى أن الشخص إذا كان يمكنه إنقاذ نفسه ولم يفعل كان مهلكا لنفسه، ولم يكن هلاكه بسبب ما أحدثه الجاني من فعل، كما أوضحنا ذلك عند الحنابلة. وقرر الإمامية هذه القاعدة أيضا فقالوا1: "لو أغرى به كلبا عقورا فقتله، ولا يمكنه التخلص منه، فلو أمكن بالهرب، أو قتله، أو الصياح به نحوه، فلا قود؛ لأنه أعان على نفسه بالتفريط، ولو ألقاه إلى أسد بحيث لا يمكنه الفرار منه فقتله ... " كان عمدا موجبا للقصاص، أما لو أمكنه الفرار ولم يفر، فإنه يكون قاتلا لنفسه بتراخيه. ومن هذا العرض والتحليل لما أورده جمهور الفقهاء يتضح لنا ما يأتي: أولا: أن القتل بسبب كالقتل مباشرة. ثانيا: أن القتل بسبب يشترط فيه لكي يكون كالقتل مباشرة أمران: أولهما: توافر رابطة السببية بين الفعل والنتيجة "وهي القتل". وثانيهما: استمرار هذه الرابطة حتى تتحقق النتيجة دون أن يتخلل   1 الروضة البهية ج2، ص893. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 بين السبب والنتيجة سبب آخر يصح أن يضاف القتل إليه، فإن وجد هذا السبب انقطع تأثير السبب الأول في النتيجة، وأصبح القتل مضافا إلى السبب الثاني الذي اتصلت به النتيجة. القتل بالترك: الخلاف الذي جرى في القتل مباشرة والقتل بسبب يجري أيضا في هذا النوع من الجريمة وهو "القتل بالترك؛ أي: الجريمة التي يكون سببها امتناع الجاني عن القيام بعمل من الأعمال يكون من شأنه لو عمله أن ينقذ حياة المجني عليه، فهي جريمة لا ترتكب بعمل إيجابي، وإنما بمظهر سلبي، وهو الامتناع عن تقديم ما ينقذ حياة الإنسان. وفي الفقه الإسلامي ثلاثة آراء في حكم الجريمة بالترك: الرأي الأول: وهو رأي الإمام أبي حنيفة -والذي أشرنا إليه فيما سبق1- أنه إذا حبس شخص آخر في منزل فمات المحبوس من الجوع والعطش ولا يعتبر الحابس قاتلا عمدا عند أبي حنيفة، بل ولا ضامنا لما تلف بسبب هذا الفعل؛ لأن الهلاك حصل بسبب الجوع والعطش لا بسبب إغلاق المنزل عليه، والجوع والعطش أمران لا صنع لأحد فيهما، فلا يكون الحابس قاتلا له، وإنما القاتل له هو الجوع والعطش. أي أن الإمام يرى أن رابطة السببية بين الحبس والموت غير موجودة؛ لأن الموت لم يحدث بسبب الحبس، وإنما حدث بسبب آخر وهو الجوع والعطش، فقد تخلل بين السبب الأول والنتيجة -وهي الموت- سبب جديد أضيف الحكم إليه، وانقطعت به الرابطة بين السبب الأول والنتيجة   1 ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فلا يكون صاحب السبب الأول معاقبا بعقوبة القتل المنصوص عليها في كتاب الله تعالى وسنة رسول -صلى الله عليه وسلم- وليس معنى هذا أنه غير معاقب أصلا، لا، بل إنه آثم؛ لما ترتب على فعله من الإضرار بالغير، وأيضا معاقب بعقوبة دنيوية غير مقدرة بنص، وهي عقوبة التعزير؛ أي: أن عقوبته الدنيوية تنتقل من عقوبة مقدرة بنص إلى عقوبة يقدرها الإمام بما يناسب الجرم الذي ارتكبه. الرأي الثاني: "وهو رأي أبي يوسف ومحمد ابن الحنفية" أنه يعتبر القتل بسبب الترك قتلا بسبب؛ لأن الترك هو الذي تسبب في إهلاك الشخص المحبوس؛ لأنه لا بقاء للآدمي إلا بالأكل والشرب، فالمنع عند استيلاء الجوع والعطش عليه يكون إهلاكا له، فأشبه حفر البئر على قارعة الطريق إذا وقع فيها إنسان فإن قتله يكون قتلا بسبب، وليس قتلا مباشرة، والقتل بسبب -عند الحنفية- يضمن فيه المتسبب دية المقتول، وإنما لم يعتبر عندهم القتل بسبب كالقتل مباشرة حتى يجب القصاص؛ لأن القتل بسببب قتل معنى فقط، والقصاص قتل معنى وصورة، فيكونان غير متساويين، والقصاص هو المساواة. الرأي الثالث: يرى جمهور الفقهاء "المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية والظاهرية والإباضية"1 أن القتل بالترك كالقتل مباشرة، لا فرق بينهما   1 جاء في شرح النيل ج15، ص119: "ومن العمد منع الطعام والشراب واللباس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 في العقوبة ما دام القصد الجنائي متوافرا، وسواء كانت هذه الجريمة ناتجة عن عمل مادي باشره الجاني قبل المجني عليه بغير حق أدى إلى وقوع القتل بالترك كما إذا حبسه في منزل ونحوه، وتركه فمات جوعا أو عطشا، أو كانت ناتجة عن الامتناع عن أداء واجب أوجبه المشرع أو أوجبه الشخص على نفسه، كما إذا منع فضل مائه مسافرا، عالما بأنه لا يحل له1 منعه، وأنه يموت إن لم يسقه، ثم مات هذا الشخص، فإنه يقتل به، وكما إذا منعت الأم عن طفلها اللبن حتى مات، فإن المالكية يرون أنها إن قصدت قتله بذلك قتلت به، وإن لم تقصد قتله فالدية على عاقلتها. وكما إذا امتنعت المرضعة عن إرضاع الطفل الذي التزمت بإرضاعه2، فإنها تقتل به إذا مات بسبب هذا المنع؛ وذلك لأن المنع   1 أخرج أبو داود أنه قال رجل: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الماء"، قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحمل منعه؟ قال: "الملح". وعن عائشة قالت: يا رسول الله، ما الشيء الذي لا يحمل منعه؟ قال: "الملح والماء والنار". راجع نيل الأوطار ج5، ص306. 2 جاء في الدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص242: " ... من منع فضل مائه مسافرا عالما بأنه لا يحل له منعه، وأنه يموت إن لم يسقه قتل به، وإن لم يل قتله بيده". اهـ. فظاهره أنه يقتل به سواء قصد بمنعه قتله أو تعذيبه، "ومن ذلك الأم إذا منعت عن طفلها اللبن حتى مات، فإن قصدت موته قتلت، وإلا فالدية على عاقلتها"، وقد سبق توضيح رأي المذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 في كل هذه الصور هو السبب في حدوث الموت، ولم يفصل بين السبب والنتيجة -وهي الموت- سبب آخر يصح إضافة الحكم إليه، ولأن الله تعالى قد أجرى الموت عند حدوث ذلك، فإذا تعمده الإنسان فقد تعمد القتل، وقد سبق أن نقلنا النصوص الفقهية الدالة على ذلك1، ومنها ما قاله المالكية آنفا2 وما قاله الحنابلة أنه إن "حبسه ومنعه الطعام والشراب أو أحدهما أو منعه الدفء في الشتاء ولياليه الباردة حتى مات جوعا أو عطشا أو بردا في مدة يموت في مثلها غالبا، بشرط أن يتعذر الطلب، فعمد؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بالموت عند ذلك، فإذا تعمده الإنسان فقد تعمد القتل". وما قاله الزيدية أنه "يجب القود على من فعل سبب القتل ولم يوجد من يتعلق به إلا المسبب، وهو المعري لغيره مما يقيه الحر أو البرد من الثياب ونحوها، والحابس له، ولم يمكنه التخلص حتى مات جوعا أو عطشا أو بردا أو حرا فإنه يقاد به؛ لأنه قاتل عمدا عدوانا، وإن لم يكن القتل بفعله ومثله من سرق طعام غيره أو ماءه أو دابته في مفازة وليس معه سواه، حتى مات قتل به؛ لأنه قتل عمدا، وكذا لو تركت المرضعة الصبي حتى مات، فتقاد به إن لم تكن من أصوله"3. وما قاله الظاهرية من أن من استسقى قوما فلم يسقوه حتى مات، أنهم إن كانوا يعملون أنه لا ماء البتة إلا عندهم، ولا يمكنه إدراك الماء أصلا حتى يموت، فهم قتلوه عمدا، وعليهم القود.. ولا يدخل في ذلك من لم يعلم بأمره ولا من لم يمكنه أن يسقيه، فإن كانوا يعلمون ذلك، ويقدرون أنه سيدرك الماء فهم قتلة خطأ، وعليهم الكفارة، وعلى عواقلهم الدية ولا بد، برهان ذلك قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا   1 راجع ص58، 79. 2 راجع ص107. 3 راجع ص70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، وقال تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} ، قال أبو محمد: وهكذا القول في الجائع والعاري ولا فرق1. ومن هذا يتبين لنا أن جمهور الفقهاء يعتبرون أن جريمة القتل بالترك جريمة عمدية موجبة للقصاص؛ ولكنهم وضعوا قيودا لتوقيع عقوبة القتل العمد: أولها: أنه لا بد من ثبوت عدم تمكن المجني عليه من الخلاص مما أوقعه فيه الجاني، فإن ثبت عدم تمكنه من الخلاص مما أوقعه فيه، بأن كان في استطاعته طلب الطعام أو الشراب، ولم يطلبه فإنه يكون قاتلا لنفسه فيكون هدرًا. ثانيها: أن يكون الجاني متعديا في امتناعه عن تقديم ما كان المجني عليه محتاجا إليه مما أدى إلى موته بسبب هذا الامتناع، بشرط ألا يتخلل بين الامتناع والنتيجة سبب جديد يصح إضافة النتيجة إليه، فإن لم يكن متعديا فإنه لا يكون قاتلا عمدا، وقد بينا فيما سبق الجزاء الذي يلحق الجاني في كل من الحالتين. ثالثها: أن تكون مدة المنع كافية لقتل الشخص غالبا، وهذا القيد هو أحد أركان الجريمة العمدية كما سبق أن أوضحنا؛ إذ لا بد وأن تكون الجناية قد ارتكبت بما يقتل غالبا أو عادة حتى تكون عمدا. ومن هذا يتبين لنا رأي الفقه الإسلامي في الجريمة بالترك أو الجريمة السلبية، من ناحية العقوبة الدنيوية. وأما العقوبة الأخروية، فإنها تشمل هذه الصور كما تشمل الصور الأخرى التي لا تتوافر فيها أركان الجريمة عمدا، فالشريعة الإسلامية قائمة على جلب المصلحة ودفع الضرر، فكل ما يجلب   1 راجع النص ص77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المصلحة مطلوب شرعا، وكل ما يؤدي إلى المضرة منهي عنه شرعا، وعكس ذلك ترك المصلحة منهي عنه شرعا؛ لأنه يصبح كإيقاع الضرر، فلو أن إنسانا رأى آخر يوشك على الغرق وكانت ظروفه تمكنه من إنقاذه -كما لو كان متعلما السباحة- دون خوف على حياته، فإن لم ينقذه كان آثما، والإثم له عقوبة أخروية يحاسبه الله تعالى عليها على قدر الدوافع والظروف التي ثبطت همته عن القيام بمثل هذا العمل لينقذ إنسانا من الموت أو من الوقوع في ضرر محقق أو غالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 المبحث الثالث: آراء فقهاء القوانين في تحليل القتل العمد ورأي الفقه الإسلامي في هذه الآراء : نعرض بإيجاز تعريف القتل عمدا عند فقهاء القانون، وأركان هذا النوع من القتل1، ونبين أثناء هذا العرض رأي الفقه الإسلامي على ضوء التحليل التفصيلي الذي أوردناه في المبحثين الأول والثاني من هذا الفصل. تعريف القتل العمد عند فقهاء القانون: لقد أغفل المشرع المصري تعريف القتل العمد؛ ولكنه نص على عقوبته فقال في المادة "230" ع: "كل من قتل نفسا عمدا مع سبق الإصرار والترصد يعاقب بالإعدام"، وفعل مثل هذا المشرع العراقي مادة 212 ع: "كل من قتل نفسا قصدا مع سبق الإصرار على ذلك يعاقب بالإعدام ... "، والمشرعي الليبي مادة 386ع: "كل من قتل نفسا عمدا مع سبق الإصرار على ذلك أو الترصد يعاقب بالإعدام"، والمشرع السوري في المادة 353ع. ولكن فقهاء القانون عرفوا القتل عمدا بأنه: "القتل المقترن بنية إعدام المجني عليه"، ثم بينوا أركان هذه الجريمة.   1 راجع شرح قانون العقوبات للأستاذ أحمد أمين ص306، وجرائم الاعتداء على الأشخاص للدكتور رءوف عبيد ص14، وتعليقات على قانون العقوبات للأستاذ سيد البغال ص481. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 أركان القتل العمد: جعل فقهاء القانون أركان جريمة العمد ثلاثة: الأول: أن يكون المجني عليه إنسانا على قيد الحياة. الثاني: أن يقع القتل بفعل من الجاني من شأنه إحداث الموت. الثالث: أن يكون الجاني قد قصد إحداث الموت. الركن الأول: أن يكون المجني عليه إنسانا على قيد الحياة. وهذا أمر بدهي؛ لأنه لا يتصور القتل إلا إذا كان المجني عليه حيا عند ارتكاب جريمة القتل، فمن أطلق عيارًا ناريًّا على ميت بنية قتله لا يعد قاتلا ولا شارعا في قتله لاستحالة الجريمة. وقد سبق أن أوضحنا رأي الفقه الإسلامي في ذلك1، وبهذا لا يخرج ما قرره فقهاء القانون عما قرره فقهاء الفقه الإسلامي. الجناية على الجنين في بطن أمه: إذا أعدم شخص جنينا في بطن أمه فإنه لا يعد قاتلا بالمعنى المقصود هنا؛ لأن قتله يكون جريمة قائمة بذاتها، وهي جريمة إسقاط الحمل، ويعاقب عليها القانون بعقاب آخر غير عقاب القتل العمد "م260-264ع". وقد سبق أن بينا2 أيضا أن الجناية على الجنين في الفقه الإسلامي لها عقوبة خاصة غير عقوبة القتل عمدا عند جمهور الفقهاء، وهذا يدل على أن الجناية عليه تختلف عن الجناية على إنسان مولود موجود على ظهر الأرض حيا.   1 راجع ص80. 2 سيأتي بحث هذا النوع من الجريمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 كما نص شراح القانون على أنه "يعد الاعتداء على الحياة قتلا معاقبا عليه بالمادة 230ع. م مهما كانت جنسية المجني عليه، أو نوعه أو سنه أو حالته الصحية، فلا يقبل من الجاني الاعتذار بأن المجني عليه كان مصابا بمرض قاتل في ذاته، ولا بأنه كان محكوما عليه بالإعدام، ويعد الطبيب قاتلا إذا أعطى مريضه جرعة من السم ليعجل بموته، ويخلصه من أسقام وأوجاع كانت ستؤدي به إلى الوفاة حتما"1. والفقه الإسلامي يوافق على ذلك في جملته، غير أنه بالنسبة لبعض الأشخاص ذوي الجرائم الخطرة على المجتمع الإسلامي لا يعتبر الفقهاء الجناية عليهم موجبة للقصاص؛ لأن دمهم مستحق، وحياتهم مهدرة، وهؤلاء هم: الحربيون، وهم الكفار المحاربون لدار الإسلام، والبغاة، وهم الخارجون على طاعة الإمام، والزاني المحصن، والمرتد عن دينه. وقد سبق أن أوضحنا أن دماء هؤلاء غير معصومة، وبينا النصوص التي أباحت دمهم؛ حماية للدولة من عبث العابثين وإفساد المفسدين، إلا أن الذي له حق الاستيفاء هو الإمام، فإن قتل شخص واحدا من هؤلاء عزر لافتياته على الإمام، وتجاوزه الحد، كما بينا. أما من استحق القصاص فإن دمه مباح في حق ولي الدم فقط، أما في حق غيره فهو معصوم الدم، فإن قتله شخص غير ولي الدم اقتص منه، وقد بينا هذا آنفا2. وإن قتله ولي الدم عزر لافتياته على حق الإمام في الاستيفاء.   1 راجع شرح ق. ع للأستاذ أحمد أمين ص307. 2 راجع الركن الثاني من أركان الجريمة العمدية عند الفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الركن الثاني: فعل القتل: الجريمة تستدعي وجود فعل من الجاني من شأنه إحداث الموت، ولا يهم بعد هذا نوع الوسيلة التي استخدمها الجاني لإحداث الموت، كما لا يشترط أن يكون القتل حاصلا بيد الجاني مباشرة، كما لو ضربه بسلاح أو بجسم ثقيل، أو بضربة في مقتل، أو بالخنق، بل يكفي أن يكون الجاني قد أعد وسائل الموت وهيأ أسبابه، حتى ولو بقي الموت بعد ذلك معلقا على حكم الظروف، فيعد قاتلا من يضع للمجني عليه في طعامه مواد قاتلة، ومن يسلط على المجني عليه تيارا من غاز الكربون، ومن يحفر لآخر حفرة في طريقه، ومن يقطع جسرا يعلم أن المجني عليه سيعبره، ومن يرمي غيره في البحر، قاصدا بكل ذلك قتله إذا وقع الموت فعلا1. وإنما يشترط فقط أن يكون الفعل في ذاته من شأنه إحداث الموت، وأن يكون بين الفعل والموت الحادث رابطة السببية، فإذا لم يكن من شأن الفعل إحداث الموت كان فعل الجاني من قبيل الجرائم المستحيلة ولا عقاب عليه، بل ولا محل لاعتباره شروعا في قتل؛ لأن الشروع لا يعاقب عليه "على الأقل عند أصحاب نظرية الجريمة المستحيلة" إلا إذا كان الفعل من شأنه إحداث الجريمة المقصودة إذا تم التنفيذ، فالذي يصوب سلاحا ناريا فارغا لا يمكن أن يرتكب جريمة القتل، ولا يعاقب على فعله باعتباره شروعا، كذلك لا يعد قاتلا من يستخدم السحر والتعازيم بنية إحداث القتل؛ لأن هذه الوسائل ليس من شأنها في نظر العلم أن تؤدي إلى الموت، ولو مات المجني عليه عقب ذلك مصادفة واتفاقا، بل ولا يعد الجاني في هذه الحالة شارعا في قتل؛ وذلك لأن الجريمة تكون تصورية أو وهمية (Put Atif) لا وجود لها إلا في مخيلة مرتكبها دون أن يحس من عداه بعنصرها المادي المكون لها، والذي لا خطر منه على المجني عليه ولا ضرر.   1 راجع شرح قانون العقوبات للأستاذ أحمد أمين ص308. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وتحديد رابطة السببية التي يشترط وجودها بين فعل الجاني وحادث القتل اختلف فيه شراح القانون في فرنسا وإنجلترا وألمانيا ومصر ... ، والرأي السائد في مصر وفي فرنسا يميل إلى مساءلة الجاني على نتائج فعله ولو كانت غير مباشرة، وما دامت تلتئم والسير العادي للأمور، وبعبارة أخرى: أنه إذا تداخلت عوامل أجنبية عن فعل الجاني في تحقيق النتيجة التي يعاقب عليها القانون؛ فإنها لا تنقطع علاقة السببية بين فعله والنتيجة إلا إذا كانت شاذة غير متوقعة، ولا تلتئم مع السير العادي لها. ومن أمثلة العوامل المألوفة التي لا تقطع علاقة السببية مرض المجني عليه أو شيخوخته إو إهماله في العلاج إهمالا عاديا، أو خطأ الجراح خطأ عاديا فيه، ومن أمثلة العوامل الشاذة التي تقطع -على العكس مما تقدم- رابطة السببية بين فعل الجاني ووفاة المجني عليه: إهمال المجني عليه إهمالا فاحشا في حق نفسه، أو امتناعه عن العلاج دون عذر مقبول، أو عدم امتثاله لأمر الطبيب بملازمة الفراش، أو خطأ الجراح خطأ جسيما في معالجته أو وفاته من اصطدام عربة الإسعاف أثناء نقلها إياه، أو من شبوب حريق بالمستشفى الذي نقل إليه، أو من إصابته بمرض معد، أو من اعتداء لاحق عليه غير الاعتداء الأول1. موقف الفقه الإسلامي مما قرره شراح القانون: لقد أوضحنا فيما تقدم2 أن الفقهاء يقسمون فعل القتل باعتبار تأثيره تأثيرا مباشرا في إحداث النتيجة أو تأثيره بواسطة إلى قسمين: القتل مباشرة والقتل بسبب، وبينا آراءهم في كل قسم منهما وفي الوسائل المستخدمة، ورجحنا أن كلا منهما مساوٍ للآخرة في الحكم كما هو رأي جمهور الفقهاء.   1 جرائم الاعتداء على الأشخاص للدكتور رءوف عبيد ص36، 37. 2 راجع ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ويمكننا بالمقارنة بين الفقهين أن نقول: إن شراح القانون لم يخرجوا عما نص عليه فقهاء الفقه الإسلامي، فقد قرروا: 1- أن القتل مباشرة كالقتل بسبب، كل منهما يعتبر قتلا عمدا إذا توافرت في الجريمة الأركان الأخرى، ذلك ما قرره شراح القانون. 2- أن الوسائل المستخدمة في القتل كلها متساوية ما دامت تقتل عادة، وهذا ما قاله شراح القانون. 3- أنه لا بد من قيام رابطة السببية بين الفعل والنتيجة، فأما إن كان القتل مباشرة، فقد صرح الفقهاء جميعا بأنه لا بد من اتصال الفعل بالنتيجة -وهي الموت- ولا عبرة في هذه الحالة بطول المدة أو قصرها ما دام تأثير الفعل مستمرا لم ينقطع ببرء أو بفعل آخر يجعل بالنتيجة، فإذا جرحه جرحا فاستمر زمانا ومتألما منه مدة -طالت أم قصرت- حتى مات، كان قاتلا عمدا إذ لم تحدث له علة أخرى غير الجرح؛ لأن العمد لا يختلف مع اتحاد الآلة والفعل بسرعة الإفضاء إلى النتيجة أو إبطائه، ولأن في البدن مقاتل خفية، وهذا له سراية فأشبه الجرح الكبير1، وكذلك لا عبرة بجسامة الفعل أو ضآلته ما دام مثله يقتل هذا الشخص الذي وقع عليه الفعل عادة، فلو ضرب إنسان ضعيفا بيده فقتله، وكانت هذه الضربة لا تقتل الصحيح كان قتلا عمدا، كما نقلنا آنفا عن الشافعية والحنابلة والإمامية2، بل إن الحنابلة صرحوا بعدم سماع دعوى الجاني أنه كان لا يعلم أن هنا الشخص مريض.   1 كما صرح بذلك الحنابلة والإمامية ص26-36، وأيضا نص على ذلك الشافعية فإنهم قد اعتبروا من القتل عمدا ما لو غرز إبرة "مثلا" في مقتل أو غيره وتألم حتى مات. حاشية البرماوي ص380. 2 راجع ص61، 64، 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أما إن كان القتل بسبب فقد بينا أن الفقهاء قد اشترطوا ألا يفصل بين الفعل والنتيجة سبب آخر يصح إضافة الحكم إليه؛ كي يكون القتل عمدا موجبا للقصاص، وقد وضحنا بالأمثلة الأفعال التي يمكن أن تقطع الرابطة بين الفعل والنتيجة، والتي لا تقطع1. وهذا ما نص عليه شراح القانون. 4- أن يكون الفعل من الأفعال التي تقتل عادة، وقد وضح الفقهاء أنه إذا لم يكن الفعل مما يقتل غالبا وعادة فإنه لا يكون عمدا، وإنما يكون شبه عمد إن كان مما يقتل نادرًا، ومصادفة قدر إن كان لا يعقل كونه قاتلا لا غالبا ولا نادرًا، كما لو ضربه بشيء صغير جدا كالضرب بالقلم أو الإصبع في غير مقتل ونحوه، أو مسه بشيء كبير -مما يقتل غالبا- مسا، ولم يضربه به2. وما قرره الفقهاء في هذا الشأن لم يخرج عنه شراح القانون إلا في اعتبار السحر عند بعض الفقهاء من الأفعال التي تؤثر في إحداث القتل كما صرح الشافعي والحنابلة فيما تقدم3، ومسألة السحر للعلماء فيها رأيان4:   1 راجع ص11. 2 راجع الفصل الثالث من هذا الباب، الخاص بجريمة شبه العمد، فقد وضحنا فيه أنواع الآلات المستخدمة في القتل وحكم كل نوع منها. 3 راجع ص60، 67. 4 للعلماء رأيان في السحر؛ أحدهما: أن للسحر حقيقة، وأنه تقتدر به النفوس البشرية على التأثير في عالم العناصر، إما بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية، وإلى هذا ذهب جمهور من علماء أهل السنة. الثاني: أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو خداع وتمويه وتخيل، وإلى هذا ذهب المعتزلة وبعض أهل السنة ومنهم أبو جعفر الاستبرابادي من الشافعية، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وابن حزم الظاهري، وطائفة من العلماء لمعرفة أدلة الطرفين. يراجع القرطبي ج2، ص46، وأحكام القرآن للجصاص ج1، ص46 ط. أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 رأي يرى أن له تأثيرا ماديا، ورأي آخر لا يرى السحر إلا خداعا وتمويها وليست له حقيقة، وعلى الرأي الأول إذا تعمد الساحر قتل شخص بسحره، فقد قيل: يقتل حدا؛ لأنه مفسد في الأرض، وقيل: يقتل قصاصا1. ولكن علينا أن نتساءل بعد ذلك: لو أن شخصا ممن يدعون السحر أثر في إنسان ضعيف الإرادة وهيأ له من الأمور، وجسم له من الخيالات ما يفزعه ويقلقه ويجعله في حالة ذعر دائم حتى قضى عليه، ألا يكون مثل هذا العمل مسئولا عنه صاحبه مسئولية تستوجب معاقبته؟ لا شك أنه مسئول، وما الفرق بين هذا وبين ما نص عليه شراح القانون -أثناء عرضهم لبعض وسائل القتل- أنه يعتبر قاتلا عمدا إذا ألقى نبأ مؤلما بغتة على شيخ مريض بقصد قتله2، أو وضع طفلا صغيرا في حالة ذعر للقضاء عليه؟ لافرق بينهما؛ لأن حالة المجني عليه في كل هذه الصور تسمح بتأثير هذا العمل فيه تأثيرا يحدث هلاكه، إلا أنه يلزمنا أن نثبت العمل المادي الذي قام به الجاني إزاء المجني عليه، وما إذا كان هذا العمل مما يقتل مثل هذا الشخص غالبا، كما إذا كان مريضا بمرض لا يحتمل معه القلق والاضطراب النفسي الذي أحاطه به هذا الساحر! فإذا ثبت هذا كان مسئولا عن عمله مسئولية تستوجب عقابه.   1 راجع كشاف القناع للحنابلة ج3، ص336. 2 راجع جرائم الاعتداء على الأشخاص للدكتور رءوف عبيد ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 القتل بالترك: يختلف شراح القانون في الجريمة التي ترتكب بالترك أو بالامتناع عن القيام بعمل، كما لو امتنعت الأم عمدا عن إرضاع طفلها قاصدة قتله: الرأي الأول: يذهب فريق من شراح القانون إلى عدم إمكان ارتكاب الجرائم بالترك؛ وذلك لأن الترك عدم، والعدم لا ينشئ إلا العدم، فلا يكن أن يبنى موجود على معدوم، أي أنه لا يمكن أن يكون العدم سببا لنتيجة إيجابية، فالمسئولية والعقاب لا محل لهما في هذه الحالة لانعدام رابطة السببية بين الترك والجريمة الواقعية. مقارنة هذا الرأي بالفقه الإسلامي: هذا الرأي يكاد يقترب من رأي الإمام أبي حنيفة في الجريمة بالترك -كما سبق أن أوضحنا1- من حيث إسقاط عقوبة القتل العمد، وهي القصاص فقط؛ لأن القتل تم بسبب آخر غير الترك، فلا يكون الترك قتلا عمدا، ولكن الإمام يجعل العقوبة في مثل ذلك هي التعزير -وهي عقوبة يقدرها القاضي المجتهد بما يناسب الجرم والمرتكب- فضلا عن أنه آثم وله عقابه الأخروي، ومن هنا يفترق هذا الرأي عن رأي الإمام. والرأي الثاني: يرى شراح القوانين في إنجلترا وألمانيا والكثيرون في فرنسا وبلجيكا أن القتل بالامتناع يعاقب عليه كالقتل بفعل إيجابي سواء بسواء؛ وذلك لأن الترك نفسه يصلح سببا للجريمة؛ لأن الفعل والترك كلاهما من صور الإرادة الإنسانية العاملة، غير أنهم يشترطون لمساءلة الجاني   1 راجع رأي الإمام تفصيلا ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 في هذه الحالة أن يكون على الممتنع التزام قانوني أو تعاقدي بالتدخل لإنقاذ المجني عليه، أي أنه يجب أن يكون مكلفا بالعمل بادئ ذي بدء، وأن يكون ما يقع منه من الامتناع أو الترك مخالفا لواجب يقضي به القانون أو اتفاق خاص، فالذي يحبس شخصا بغير حق ويمنع عنه الطعام والشراب قاصدا قتله يعاقب على القتل إذا مات السجين جوعا، وكذلك الأم التي تمتنع عمدا عن تغذية ابنها إلى أن يموت جوعا تعد قاتلة وتعاقب بعقوبة القتل عمدا، والممرضة التي تمتنع عمدا عن العناية بمريضها إلى أن يموت تعتبر قاتلة عمدا، وهكذا. فالقاتل بالامتناع يعد قاتلا عمدا طالما توافر لديه تصد القتل، ويعد قاتلا بإهمال إذا انتفى ذلك القصد. أما إذا كان التارك أو الممتنع غير مكلف بالعمل قانونا أو بمقتضى اتفاق، ولا سيما إذا كان العمل يقتضي تضحية أو بذلا من جانب الممتنع، فإنه لا يكون في مثل هذه الحالة محلا للمسئولية والعقاب؛ كالشخص الذي يرى غريقا مشرفا على الهلاك، أو إنسانا تحيط به النار، أو إنسانا مشرفا على الموت جوعا، ولم يتقدم لمعونته، لا يصح اعتباره قاتلا ولو أراد حدوث ذلك؛ لأن القانون لا يمكن أن يفرض على الناس الشجاعة أو الإحسان. كذلك يكون يكون الحكم ولو لم يقتض العمل تضحية ولا بذلا، كمن يرى منزل جاره يحترق ولا يناوله سلما ليهبط عليه إلى الأرض، ولا يعد قاتلا، ولا يعاقب ولو كان راغبا في احتراق جاره لعداوة بينهما. وقد رجح الأستاذ أحمد أمين -ومعه كثير من شراح القانون في مصر- هذا الاتجاه غير أنه قيده بشرط أن يكون الشخص الذي وقع منه الامتناع أو الترك هو المحدث الأول لأسباب القتل، أي أن يكون الأمر الذي تسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عنه الموت منسوبا إليه وصادرا عن إرادته، أما إذا كان غير صادر عن إرادته، وكل ما ينسب إليه هو امتناعه عن تدارك أمر أو حالة لم يكن له دخل في حلولها فلا محل للمساءلة والعقاب، فالخفير الذي يمتنع عن مساعدة شخص يقتله لصوص على مرأى منه لا يعاقب ولو كان مريدا للنتيجة؛ لكن الواجب معاقبة عامل الإشارات "المحولجي" الذي يمتنع عمدا عن تحويل خط السكة الحديدية قاصدا بذلك إحداث الموت، فينشأ عن امتناعه تصادم يؤدي بحياة المسافرين1. مقارنة هذا الرأي بالفقه الإسلامي: لقد سبق أن أوضحنا تفصيلا رأي جمهور الفقهاء في الجريمة بالترك، وبينا مساواتها للجريمة بعمل إيجابي في العقوبة، وبينا الحكم إذا كان الترك يمثل امتناعا عن الوفاء بحق أوجبه الشرع أو أوجبه العقد، أو تقضي به المروءة، كما بينا الفرق بين نظرة الشريعة ونظرة القوانين، فيرجع إليه2. الركن الثالث: القصد الجنائي؛ وهو وجود نية القتل عند الجاني: يجعل شراح القانون في مصر من أركان الجريمة عمدا نية القتل عند الجاني؛ إذ إنه بدون هذه النية يختلط القتل العمد مع الضرب المفضي إلى الموت، أو الشروع فيه مع الضرب المفضي إلى عاهة مستديمة، ويكون القصد الجنائي متوافرا ما دام للفاعل قد ارتكب الفعل بنية إحداث الموت لغيره عالما بأن هذا الفعل مميت. ويستوي في هذا كون القصد محددا، كما لو نوى إزهاق روح شخص   1 راجع شرح قانون العقوبات للأستاذ أحمد أمين ص314. 2 راجع ص105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 معين بالذات، أو غير محدد؛ كإرهابي يلقي قنبلة على قطار قاصدًا قتل من يقتل من راكبيه، أو كون الفعل قد حدث بينة الإضرار به، أو يقصد إراحة القتيل من آلامه، ففي الحالتين يكون القتل عمدا، ولو وقع برضا المجني عليه. ولا عبرة بالباعث على الجناية، وهو المصلحة التي يبغي الجاني تحقيقها من وراء جنايته، أو الشعور الذي يدفعه إليه؛ إذ يستوي في هذا أن يكون الباعث راقيًا كقتل المجني عليه إنقاذا له من داء قتال، أو كان خبيثا كالطمع في ماله أو الثأر منه، ففي الحالتين يكون القتل عمدا غير أن أثر الباعث إنما يظهر في كونه داعيا من دواعي تخفيف العقوبة أو تشديدها حسب حقيقة هذا الباعث. إثبات قصد القتل عند شراح القانون: يقول شراح القانون: إن قصد القتل حالة ذهنية لا تثبت عادة بشهادة الشهود، وإنما تستنتج من القرائن، وبخاصة من الوسيلة المستعملة وكيفية استعمالها ومكان إصابة المجني عليه، وظروف الاعتداء ونفسية الجاني وعلاقته بالمجني عليه ونوع الباعث، إلى غير ذلك من الاعتبارات التي يخضع تقديرها لسلطة قاضي الموضوع، وله فيها القول الفصل دون رفض من محكمة النقض إلا في الحدود العامة التي تراقب فيها المسائل الموضوعية، ومن أحكام القضاء في صدد استنتاج قصد القتل: أن استعمال أداة قاتلة ليس بشرط، فقد يثبت قصد القتل رغم استعمال أداة غير قاتلة بطبيعتها كعصا مثلا، إذا استعملت بطريقة تقطع بوجوده كما إذا كرر الجاني الضربات على الرأس حتى تهشمت. وقد يستفاد قصد القتل لدى الجاني، ولو لم يستعمل سلاحا ما، إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ارتكب القتل بطريق الخنق أو الضغط باليد أو الرجل على جسم المجني عليه، ولا يشترط أن تكون الإصابة في مقتل ما دام من الثابت أن الوفاة ترجع إلى الإصابات التي أحدثها الجاني متعمدا1. مقارنة هذا الرأي بما يراه الفقه الإسلامي: إذا تتبعنا آراء فقهاء الفقه الإسلامي في كون القصد الجنائي "وهو وجود نية القتل عند الجاني" ركنا من أركان القتل عمدا، نجد أنهم يفرقون بين أمرين رئيسين: أن يقصد وقوع الضرر بالمجني عليه ظلما وعدوانا، أو يقصد التأديب أو اللعب، وفي كل إما أن يستعمل آلة تؤدي إلى القتل غالبا، أو نادرا، ونوضح آراء الفقهاء في كل حالة: قصد الضرر بآلة تقتل غالبا: إذا قصد الجاني إيقاع الضرر بالمجني عليه بآلة تقتل غالبا، فإن للفقهاء رأيين في اشتراط قصد القتل: الرأي الأول: هو رأي جمهور الفقهاء2 أنه لا يشترط عند استعمال آلة تقتل قطعا أو غالبا وجود نية القتل لكي يكون القتل عمدا، بل يكفي فقط مع هذا وجود قصد الضرب عدوانا، سواء قصد القتل أم لم يقصده.   1 الجرائم على الأشخاص الدكتور رءوف عبيد ص36، وراجع شرح قانون العقوبات للأستاذ سيد البغال ص484. 2 تقدم شرح آراء الفقهاء تفصيلا في اشتراط قصد الضرب عدوانا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ولا يحتاج إثبات الجريمة عمدا في هذه الحالة إلى البحث عن نية القاتل، هل قصد القتل أم لم يقصده؟ لأن قصد الضرب بآلة كهذه يكون دليلا واضحا وظاهرا على قصد القتل، ومثل هذا الدليل يغنينا عن البحث عن نيته؛ لأنها أمر باطني يصعب الوصول إليه، وإذا كان كذلك كانت القرينة الظاهرة والواضحة -وهي استعمال آلة تقتل قطعا أو غالبا- كافية في إثبات القتل عمدا. وهذا يقربنا من القول بأن الفقه الإسلامي يرى أنه ما دامت النتيجة "وهي القتل" غالبة الوقوع بقرينة استعمال الآلة التي تقتل غالبا، فحينئذ يكون الجاني قاتلا عمدا، ولا يقبل منه الاعتذار بأنه لم يكن يريد القتل أولم يكن يتوقعه؛ لأنه يكون من واجبه حينئذ أن يتوقع هذه النتيجة، فإذا قصر في ذلك، فلا يمنع تقصيره من تحمله النتيجة التي وقعت كما لو كان قد أرادها فعلا. وهذا ما فسر به شراح القانون نظرية القصد الاحتمالي. وهذا الرأي وإن كان لا يشترط مع وجود الآلة القاتلة عادة التعرف على وجود قصد القتل، وإنما يكتفى بوجود قصد الضرر بالمجني عليه، فإنه بذلك يضع حدا للجرائم التي ترتكب بمثل هذه الآلات؛ لأنها لا يقصد بها عادة غير إيقاع الموت بالشخص، ومن هنا اكتفى الفقهاء بالنظر إلى حقيقة الآلة المستعملة في القتل دون التصريح باشتراط القتل؛ إذ إن نوع الآلة المستخدمة كشف عن قصده وإرادته. والقول بهذا ليس تسرعا في سفك دم آخر، ولكنه حماية لأرواح كثيرة قد تزهق بمثل هذه الآلات مع ادعاء عدم قصد القتل، وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فإن الحياة ستكتب لكثيرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 من أفراد المجتمع بنبذ مثل هذه الجرائم التي تتم بآلات قاتلة غالبا، والبعد عنها خوفا من عقوبة القصاص، ويقرب من هذا الرأي القانون الإنجليزي؛ لأن هذا القانون يأخذ بنظرية القصد الاحتمالي ولا يشترط في القتل العمد "MuRpeR" توفر إرادة القتل عند القاتل؛ بل يعتبر محدث القتل قاتلا عمدا متى كان يعلم، أو كان في استطاعته أن يعلم أن فعله يمكن أن يترتب عليه الموت، بغض النظر عما إذا كان قد أراد هذه النتيجة أو لم يردها في الواقع. وبهذا الرأي أخذ قانون العقوبات السوداني إذا جاء بالمادة "227" منه ما يأتي: "القتل الجنائي يكون قتلا عمدا إذا حصل الفعل الذي تسبب عنه الموت بقصد تسبب الموت، أو إذا علم فاعل الفعل، أو كان له داع أن يعلم أن الموت ربما يكون النتيجة المحتملة للفعل، أو لأي ضرر جسدي كان القصد أن يسببه الفعل"1. الرأي الثاني: "وهو رأي الكاساني من الحنفية، والماوردي من الشافعية، وأبي يعلى من الحنابلة" يرى أنه لا بد أن يكون الجاني قد قصد القتل بما يقتل غالبا حتى يكون القتل عمدا، فإن لم يقصد القتل لا تكون الجريمة عمدا. وهذا الرأي أخذ به شراح القانون في مصر؛ حيث قالوا بضرورة وجود نية القتل عند الجاني، فإذا لم توجد هذه النية، لا يكون القتل عمدا، وإنما يكون القتل شبه عمد، أو ضربا أفضى إلى   1 راجع شرح قانون العقوبات للأستاذ أحمد أمين ص319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الموت عند شراح القانون، وإن كان القانون يأخذ في بعض الجرائم بالنظرية الأولى؛ ولكن هذا على سبيل الاستثناء وبنص صريح. قصد الضرر بآلة تؤدي إلى القتل نادرًا: أما إذا استعمل الجاني آلة لا تؤدي إلى القتل عادة كعصا صغيرة أو حجر صغير، فإن القرينة الظاهرة والواضحة وضوحا تاما أنه لم يكن يريد القتل؛ لأن مثل هذه الآلة لا تستعمل عادة لإحداث القتل، فالقرينة الظاهرة التي تثبت وجود نية القتل غير متوفرة. ولذلك اختلف الفقهاء في تكييف الجناية التي تتم بمثل هذه الآلة هل هي عمد أو شبه عمد؟ وإذا كانت عمدا فهل يشترط فيها وجود قصد القتل أم لا؟ إلى ثلاثة آراء: الرأي الأول: "هو رأي المالكية والظاهرية والإباضية" أن القتل بمثل هذه الآلة يكون عمدا إذا قصد ضربه عدوانا، سواء قصد القتل أو لم يقصده، فلا يشترطون قصد القتل لكي تكون الجريمة عمدا، سواء كانت الآلة مما يقتل غالبا أو نادرًا. ولعل هذا الرأي مبني على سد الذارئع؛ حتى لا ينتشر بين الناس الاعتداء والقتل بمثل هذه الأفعال التي لا تؤدي إلى القتل إلا نادرًا، ما دام الجاني سيفلت من القصاص إذا قتل بمثل ذلك. الرأي الثاني: "وهو رأي الزيدية والإمامية" أنه إذا قتل الجاني المجني عليه بآلة تقتل مثله نادرًا، فإنه لا يكون القتل عمدا إلا إذا اقترن ذلك بقصد القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وذلك لأن هذه الآلة نادرا ما تقتل المجني عليه، فإذا ترتب عليها القتل كان لا بد من توافر دليل آخر يفيد أنه قصد القتل بها؛ لأن مثلها يتقاصر عن إثبات القتل عمدا. الرأي الثالث: "وهو الحنفية والشافعية والحنابلة" يرى هؤلاء الفقهاء أن الجاني إذا ارتكب بمثل هذه الآلة جنايته تكون شبه عمد، ولا عبرة بقصد القتل أو عدمه؛ لأن هذه الآلة نادرا ما تؤدي إلى القتل، وبمثلها يتقاصر معنى العمدية ولا يتكامل، ومن ثم تكون الجناية شبه عمد، وأيضا فإن استعمال مثل هذه الآلة يورث شبهة في إثبات قصد القتل والحدود تدرأ بالشبهات، والقصاص كذلك. غير أنه إذا اقترن استعمال هذه الآلة ظروف آخرى جعلتها تكشف عن قصد الجاني قتل المجني عليه، فإن الجناية تكون في هذه الحالة عمدا. ومن هذه الظروف ما لو كرر الضرب بالعصا الصغيرة، أو وضعها في مقتل كعين أو أذن أو فرج، وبشرط ألا يشتد الألم منها ويبقى إلى الموت، وألا يجرحه بها ثم يسري الجرح حتى الموت. وكذا يعتبر عمدا إذا كان المجني عليه مريضا أو صغيرا لا يحتمل مثل هذه الآلة، أو كان الجو حارا أو باردا مما يعين على الهلاك بمثلها -كما سبق أن أوضحنا هذا تفصيلا1- وبهذا يتقارب الرأي الثاني والثالث؛ لأن توافر قصد القتل غالبا ما يكون بمثل هذه القرائن التي ذكرت.   1 راجع المبحث "سادسا" من أركان الجريمة العمد في الفقه الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 قصد التأديب بآلة تقتل غالبا أو نادرا: سبق أن بينا آراء الفقهاء تفصيلا في التأديب الذي يؤدي إلى القتل1، وقلنا: إنه إن تم بآلة تستخدم عادة في التأديب كان القتل شبه عمد عند جمهور الفقهاء، بشرط ألا يتجاوز حدود المألوف في التأديب، أما إذا تجاوز ذلك كما لو كرر الضربات، أو وضع هذه الآلة في مقتل، فإن القتل حينئذ يكون عمدا، وإن تم التأديب بآلة تقتل قطعا أو غالبا كان قتلا عمدا؛ لأن استعمال هذه الآلة قرينة ظاهرة على إرادته القتل تنفي الادعاء بأنه لم يرد القتل. وسبق أن ذكرنا أن رأيا في الفقه الإسلامي يشترط مع استعمال الآلة القاتلة قطعا أو غالبا توافر قصد القتل2. الحيدة في الهدف والخطأ في الشخصية: والحيدة في الهدف يفسرها شراح القانون بأن يعمد الجاني إلى قتل زيد من الناس، فيخطئه ويصيب بكرا الذي يقف إلى جواره. وأما الخطأ في شخصية المجني عليه، فهو أن يعمد الجاني إلى قتل زيد فيخطئ في شخصيته ويصيب بكرا باعتبار أنه هو المقصود بالقتل؛ نظرا إلى حالة الظلام أو للتشابه بينهما. والصورة الأولى تفترض وجود شخصين أمام الجاني، وأما الثانية فتفترض وجود شخص واحد فقط. وإجماع الفقه والقضاء3 على أن الحيدة عن الهدف والخطأ في   1 راجع ص92. 2 راجع ص77. 3 الجرائم على الأشخاص للدكتور رءوف عبيد ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الشخصية أمران لا تأثير لهما على مسئولية الجاني بوصفه قاتلا للشخص الذي أصابه الفعل إذا مات، أو شارعا في قتله إذا نجا من الموت؛ وذلك لأن هذا الخطأ في صورتيه لا ينفي توافر جميع أركان القتل العمد: من فعل ومحل وقصد جنائي، ولا أهمية بعد ذلك في نظر القانون لأن يكون القتيل يدعى بكرا من الناس أو زيدا، ودون حاجة إلا الاستعانة بنظرية القصد الاحتمالي. مقارنة هذا الرأي بما يراه الفقه الإسلامي: وقد بينا في البند "ثالثا"1 من أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي أن من أركان هذه الجريمة أن يقصد إنسانا معينا، وهو رأي جمهور الفقهاء، خلافا للمالكية في القتل مباشرة، وبعض الشافعية وبعض الحنابلة، الذين يرون أنها تكون عمدا؛ لأن الشخص الجاني قد قصد قتل آدمي معصوم الدم، ولا يهم بعد هذا أن يكون المراد بالحنابلة عمرا؛ ولكنه أخطأ وأصاب خالدا، سواء كان هذه لظلام لم يتبين منه المراد قتله أو لخطأ في التوجيه. ويجب أن يكون في اعتبارنا أن الفقه الإسلامي حين يقضي بأن هذه الجريمة يست عمدا، فإن معنى هذا سقوط القصاص؛ ولكن تجب الدية في القتل شبه العمد والخطأ، وكذلك الكفارة كما سيأتي إيضاحه تفصيلا فيما بعد، فضلا عن العقاب الأخروي والتعزير.   1 راجع ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الباعث على الجناية: أما الباعث على الجناية هو المصلحة التي يبغي الجاني تحقيقها من وراء جنايته، أو الشعور الذي يدفعه إليها، فإنا نبين هنا مرتبة الباعث في العملية الإرادية التي تبدأ بالعلم وتنتهي بالعمل، ثم أثر هذا الباعث على الأعمال جميعها من طاعات، أو مباحات، أو معاص، وأخيرًا نبين أثر الباعث على العقوبات. أ- مرتبة الباعث في العملية الإرادية: وأقصد بالعملية الإرادية الحالة العقلية أو القلبية السابقة والمصاحبة للتعبير عن إرادة الإنسان بأي مظهر من مظاهر هذا التعبير: قول أو فعل، حركة أو سكون، فالعملية الإرادية عملية باطنية لا تنكشف حقيقتها إلا إذا تجسمت في صورة محسوسة ملموسة، ولا تناط الأحكام الشرعية إلا بالأمور الظاهرة المنضبطة، ومن ثم لم يعاقب من هم بسيئة ولم يفعلها، بل كتبت له حسنة؛ جزاء نزوعه عن الشر وعدم إقدامه عليه. والنية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد، وهو حالة وصفة للقلب، يكتنفها أمران: علم وعمل، العلم يقدمه؛ لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه؛ لأنه ثمرته وفرعه؛ وذلك لأن كل عمل -أعني كل حركة وسكون- اختياري، فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة؛ لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه، فلا بد وأن يعلم، ولا يعمل ما لم يرد، فلا بد من إرادة، ومعنى الإرادة: انبعاث القلب إلى ما يراه موافقا للغرض إما في الحال أو في المآل، فقد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور، ويلائم غرضه، ويخالفه بعض الأمور، فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه، ودفع الضار المنافي عن نفسه، فافتقر بالضرورة إلى معرفة وإدراك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الشيء المضر والنافع حتى يجلب هذا ويهرب هذا ... فخلق الله الهداية والمعرفة وجعل لها أسبابا، وهي الحواس الظاهرة والباطنة. فلو أبصر الإنسان الغذاء، وعرف أنه موافق له، فلا يكفيه ذلك للتناول ما لم يكن فيه ميل ورغبة فيه، وشهوة له، باعثة عليه؛ إذ المريض يرى الغذاء ويعلم أنه موافق، ولا يمكنه التناول لعدم الرغبة والميل، ولفقد المداعية المحركة إليه فخلق الله تعالى الميل والرغبة والإرادة -وأعني به نزوعا في نفسه إليه وتوجها في قلبه إليه- ثم ذلك لا يكفيه، فكم من مشاهد طعاما راغب فيه مريد تناوله عاجز عنه لكونه زمنا عاجزا، فخلقت له القدرة والأعضاء المتحركة حتى يتم به التناول، لا يتحرك إلا بالقدرة، والقدرة تنتظر الداعية الباعثة، والداعية تنتظر العلم والمعرفة، أو الظن والاعتقاد، وهو أن يقوي في نفسه كون الشيء موافقا له، فإذا جزمت المعرفة بأن الشيء موافق ولا بد وأن يفعل، وسلمت عن معارضة باعث آخر صارف عنه انبعثت الإرادة وتحقق الميل، فإذا انبعثت الإرادة وانتهضت القدرة لتحريك الأعضاء، فالقدرة خادمة الإرادة، والإرادة تابعة لحكم الاعتقاد والمعرفة. فالنية عبارة عن الصفة المتوسطة، وهي الإرادة وانبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ما هو موافق للغرض، إما في الحال وإما في المال. فالمحرك الأول هو الغرض المطلوب، وهو الباعث، والغرض الباعث هو المقصد المنوي، والانبعاث هو القصد والنية، وانتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء هو العمل، أو بعبارة أخرى: الباعث هو الغرض المطلوب تحقيقه أو المقصد المنوي، والانبعاث هو القصد والنية بعد جزم المعرفة بأن الشيء موافق ولا بد وأن يفعل، والعمل وهو انتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء، والعمل يقترن به الحساب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ب- أقسام الأعمال وأثر النية فيها: إن الأعمال وإن انقسمت أقساما كثيرة من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفكر وذكر، وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه واستقصاؤه، فهي ثلاثة أقسام: طاعات ومعاص ومباحات؛ أما القسم الأول وهو المعاصي: وهي لا تتغير عن موضعها بالنية، فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات"، فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنية كالذي يغتاب إنسانا مراعاة لقلب غيره، أو يطعم فقيرا من مال غيره، أو يبني مدرسة أو مسجدا أو رباطا بمال حرام وقصده الخير فهذا كله جهل، والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلما وعدوانا ومعصية؛ بل قصده الخير بالشر على خلاف مقتضى الشرع شر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله؛ إذ "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، والخيرات إنما يعرف كونها خيرات بالشرع، فيكف يمكن أن يكون الشر خيرا!! هيهات!! القسم الثاني: الطاعات، وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها، وفي تضاعف فضلها، أما الأصل فهي أن ينوي بها طاعة الله لا غير، فإن نوى الرياء صارت معصية، وأما تضاعف الفضل فبكثرة النيات الحسنة، فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة، فيكون له بكل نية ثواب. القسم الثالث: المباحات وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات.. هذا في مباح محض لا يشوبه كراهة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "حلالها حساب وحرامها عقاب"1   1 إحياء علوم الدين للغزالي ج4، ص461 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ج- أثر الباعث على الجناية: لا أثر للباعث في إسقاط القصاص الواجب في التمثل العمد أو تحفيفه في الفقه الإسلامي، فإذا وقع القتل عدوانا وظلما على الوجه الذي بيناه كان الباعث عليه راقيا، كالطبيب الذي يشفق على مريض يعرف أنه ميت حتما ويريد ألا يطيل فترة آلامه فيقتله، أو كان الباعث خبيثا "كالذي يقتل غيره" حقدا وكرها أو عداوة وغضبا.. كلا الاثنين يعتبر قاتلا عمدا ما دامت شروط هذا القتل قد توافرت فيه. وكذلك لا أثر له في الحدود؛ لأنها عقوبة مقدرة شرعا، ويجب تطبيقها كما وجبت عند استيفاء شروطها، ولا يملك قاض أو غيره أن يخففها أو يسقطها إلا بما فتحه المشرع من أبواب يتحقق فيها ذلك، وليس من بينها الباعث على ارتكابها. ويمكن أن يعتد بالباعث والغاية في عقوبة التعزير؛ لأنها عقوبة ترك تقديرها للإمام على ضوء حالة الجاني، وظروف الجناية، والباعث على ارتكابها، وما تحققه العقوبة من ردع وزجر، سواء وجب التعزير في جناية لها حد مقرر لم يستوف شروطه، أو في جناية على النفس عمدا في حالة سقوط القصاص بسب عفو أو غيره. فتقدير هذه العقوبة يمكن أن يؤثر فيه الباعث على الجناية كما وكيفا، بخلاف العقوبات المحددة من قبل الشرع. ومسلك الفقه الإسلامي في هذا الاتجاه هو مسلك فريد؛ حيث إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 جعل بعض الجرائم الخطرة على المجتمع غير خاضعة للتغيير أو التبديل، أوالزيادة أو النقصان لرقي باعث أو خبثه؛ حفظا لمقومات حياتهم، وتحقيقا لمصالحهم، ومن حفظ دين أو نفس أو مال أو عرض أو عقل، كما جعل بعض الجرائم غير الخطرة على المجتمع قابلة للتأثر بالباعث على ارتكاب الجريمة، زيادة أو نقصانا؛ لأن آثارها على المجتمع أخف وطأة وأقل تأثيرا. أما القوانين الوضعية فبعضها يجعل البواعث من الظروف القضائية، فيجيز للقاضي أن يقدر العقوبة الملائمة من بين الحدين الأعلى والأدنى المنصوص عليهما للعقوبة، وله في كثير من الأحوال أن يختار إحدى العقوبتين، فيقدر كمها طبقا لما يرى أن الجاني يستحقه، مراعيا في تقديره ظروف الجريمة والمجرم والبواعث التي دفعت لارتكابها، فيخفف العقوبة إذا رأى الجاني يستحق التخفيف، ويغلظها إذا رآه يستحق التغليظ، وبهذا يكون للباعث أثره العملي على العقوبة، وهذه هي طريقة القانون الفرنسي والقانون المصري. وهناك بعض القوانين التي تجعل البواعث من الأعذار القانونية كالقانون الإيطالي واليوناني والإسباني، فتجعل من الباعث ظرفا مخففا أو مشددا للعقوبة، ويلزم القاضي مراعاة هذا الباعث عند تقدير العقوبة، وهذه القوانين وإن كانت تعترف بأن للباعث أثرا قانونيا على العقوبة إلا أنها من الوجهة العملية لا تصل إلى أكثر من النتائج التي تصل إليها القوانين التي لا تعترف بالباعث من الوجهة النظرية؛ لأن القاضي لا يستطيع عملا أن يتخلى دائما عن تقدير العقوبة، سواء اعتبر الشارع البواعث أو لم يعتبرها. وكل ما يعيب هذه الاتجاهات القانونية أنها سوت بين جميع الجرائم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فكلها خاضعة لاعتبار الباعث إما من الناحية العملية أو الناحية القانونية، أو من ناحية تكييف الجريمة.. ويترتب على هذه الاتجاهات ضياع المصلحة العامة وإهدار الأمن.. أما الفقه الإسلامي فقد أغلق هذا الباب في الجرائم الخطرة، وفتحه في الجرائم غير الخطرة، وجعل تطبيقه منوطا بالمصلحة، فما تقتضيه المصلحة العامة يجب على القاضي أن يقرره كما وكيفا، فالقاضي له حرية الاختيار في ذلك، إلا أنه ملزم بما يحقق مصالح الناس، ويدفع الشرور عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 المبحث الرابع: عقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي المطلب الأول: الجزاء الآخروي ... المبحث الرابع: عقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي: بينت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة عقوبة القتل عمدا، وجعلت للقاتل عمدا جزاءين رئيسيين؛ أحداهما: أخروي، والثاني: دنيوي، ونبحث كلا منهما فيما يأتي: المطلب الأول: الجزاء الأخروي: القاتل عمدا إما أن يقتل نفسه، أو يقتل غيره، ولكل منهما جزاؤه الأخروي، ونبين هنا عقوبة كل منهما، مقدمين عقوبة قاتل غيره على عقوبة قاتل نفسه؛ تيسيرا للمقارنة، ولندرة وقوعها. "الجزاء الأخروي لقاتل غيره عمدا": الأصل في الجزاء قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 1. فقد حدد الله -جل شأنه- في هذه الآية العقوبة الأخروية لمن يقتل مؤمنا متعمدا، وهي خلوده في النار، وحلول غضب الله عليه ولعنته، وإعداد العذاب العظيم له.   1 الآية 93 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ولقد استدل الفقهاء بهذه الآية على أن هذه العقوبة جزاء لكل من يقتل إنسانا معصوم الدم، سواء كان المقتول مسلما أو ذميا، أو كان القاتل مؤمنا أو غير مؤمن، ولقد أثار الفقهاء بعض الاعتراضات على الاستدلال بهذه الآية على المدعى، نوضحها والرد عليها فيما يلي: أ- قد اعترض بأن هذا الدليل خاص بقتل المؤمن، والمدعى عام وهو أن كل قاتل تكون هذه العقوبة جزاء له مسلما كان أم ذميا؛ لأن موجب القتل العمد "المأثم والقصاص" وهو يعم المسلم والذمي لما سيجيء من أن المسلم يقاد بالذمي عند الحنفية، ولا شك أن وجوب القود لا ينفك عن لزوم الإثم، والآية المذكورة مخصوصة بقتل المؤمن. وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأن الآية وإن أفادت المأثم في قتل المؤمن عمدا بعبارتها، إلا أنها تفيد المأثم في قتل الذمي عمدا أيضا بدلالتها، بناء على ثبوت المساواة في العصمة بين المسلم والذمي؛ نظرا إلى التكليف -حيث إنه مخاطب، بدليل دعوته إلى الإيمان- أو إلى إقامته في دار الإسلام بمقتضى عقد الذمة، ويؤيد هذا الأحاديث الشريفة، ومنها ما روي عن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما" رواه البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجه، وما روي عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا من قتل نفسا معاهدة لها ذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد أخفر ذمة الله، ولا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفا" رواه ابن ماجه والترمذي وصححه. ب- الآية تدل على أن القاتل مطلقا -مؤمنا كان أم غير مؤمن- مخلد في النار، مع أن المذهب عند أهل السنة والجماعة أن المؤمن لا يخلد في النار وإن ارتكب كبيرة ولم يتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وقد أجيب عن هذا الاعتراض بعدة أجوبة: 1- قد أجمع على أن الآية نزلت في مقيس بن صبابة، وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن صبابة، فوجد هشاما قتيلا في بني النجار، فأخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه، وأرسل معه رجلا من بني فهر، فقال بنو النجار: والله لا نعلم له قاتلا، ولكنا نؤدي الدية، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة، فعدا مقيس على الفهري، فقتله بأخيه، وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا، وجعل ينشد: قتلت به فهرًا، وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع حللت به وتري وأدركت ثورتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أؤمنه في حل ولا حرم"، وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة". فإذا ثبت هذا فلا ينبغي أن تحمل على المسلمين، ويكون التخليد حينئذ للقاتل غير المسلم. 2- وإذا قلنا: إن سبب النزول لا يخصص عموم الأية فيمكن أن يجاب بأن المراد بـ"من يقتل" في الآية "المستحل للقتل" بدلالة قوله تعالى: {خَالِدًا فِيهَا} ؛ فقد روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} أي: "متعمدا مستحلا لقتله"، واستحلال القتل يؤدي إلى الكفر إجماعًا1، وبذلك التفسير يكون القتل بدون الاستحلال خارجا عن مدلول الآية، فلا يخلد المؤمن القاتل في النار؛ لأنه غير مستحل للقتل.   1 القرطبي ج5، ص334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 3- ويمكن أن يجاب بأنا لا نسلم ظهور كون المراد بـ"من يقتل" "المتسحل"؛ لجواز أن يكون المراد بالخلود المذكور في الآية المكث الطويل، وقد بين هذا المفسرون. جاء في القرطبي ج1، ص241: الخلود البقاء، ومنه جنة الخلد، وقد تستعمل مجازا فيما يطول، كما جاء فيه أيضا ج5، ص335: والخلود لا يقتضي الدوام، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ، وقال تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} . وقال زهير: الا لا أرى على الحوادث باقيا ... ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وهذا كله يدل على أن الخلود يطلق على غير معنى التأبيد، فإن هذا يزول بزوال الدنيا، وكذلك العرب تقول: "لأخلدن فلانا في السجن"، والسجن ينقطع ويفنى، وكذلك المسجون، ومثله قولهم في الدعاء: "خلد الله ملكه وأبد أيامه" أي: طوله. ولئن سلم كون المراد بمن يقتل المستحل -كما ذكر في الكتب الكلامية وفي التفاسير أيضا- فالآية دالة على عظم تلك الجناية، كما تدل على تحقيق الإثم في قتل المؤمن عمدا بدون الاستحلال أيضا، وإلا لما لزم من استحلاله الخلود في النار. ومما يدعم القول بعظم جناية القتل العمد من المؤمن أو غيره ما جاء في الأحاديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس الدماء ". وروى إسماعيل بن إسحاق عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس أنه سأله سائل فقال: يا أبا العباس، هل للقاتل توبة؟ فقال له ابن عباس كالمتعجب من مسألته: ماذا تقول؟ مرتين أو ثلاثا، ثم قال ابن عباس: ويحك وأنَّى له توبة!! سمعت نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه، متلببا قاتله بيده الأخرى، تشجب أوداجه دما حتى يوقفا، فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى: رب هذا قتلني، فيقول الله تعالى للقاتل: تعست، ويذهب به إلى النار". وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نازلت ربي في شيء ما نازلته في قتل المؤمن فلم يجبني" 1. ومن هنا يتبين لنا عظم جناية القتل عمدا. ج- قبول توبة القاتل: يرى المعتزلة أن آية النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ... } نسخت آية الفرقان: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الآيات: 68-71] كما خصصوا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ   1 القرطبي ج5، ص332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 بالقتل عمدا، فقالوا: التقدير "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا القتل عمدًا". والصحيح -وهو مذهب أهل السنة- أن الله تعالى يقبل توبة القاتل إذا تاب للأدلة الآتية: لقوله تعالى: {الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} 2، وقوله: {هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} 3، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4، فجعله داخلا في المشيئة، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 5. وأما آية النساء فهي مطلقة، وآية الفرقان مقيدة بالتوبة، والمطلق يحمل على المقيد، فيكون المعنى: "فجزاؤه جنهم خالدا فيها.. إلا من تاب"، لا سيما وقد اتحد الموجِب للعقاب، وهو القتل، والموجَب وهو التواعد بالعذاب في الآيتين. والأخبار تؤيد هذا؛ منها حديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه: "تابعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن أصاب شيئا من ذلك فهو كفارة، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه" أخرجه الصحيحان.   1 الآية 116 من سورة النساء. 2 الآية 114 من سورة هود. 3 الآية 25 من سورة الشورى. 4 الآية 48 من سورة النساء. 5 الآية 53 من سورة الزمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رجلا قتل مائة رجل ظلما، ثم سأل: هل له من توبة؟ فدل على عالم، فسأله، فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة، ولكن اخرج من قرية السوء إلى القرية الصالحة فاعبد الله فيها، فخرج تائبا فأدركه الموت في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فبعث الله إليهم ملَكا، فقال: قيسوا ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب فاجعلوه من أهلها، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر فجعلوه من أهلها" 1 أخرجه مسلم، ولأن التوبة تصح من الكفر فمن القتل أولى. الجزاء الأخروي لقاتل نفسه عمدا: الأصل في هذا الجزاء ما ورد في السنة النبوية، ومنها: ما روي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدًا" الحديث. وما روي في حديث جندب البجلي من قوله الله تعالى على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- في رجل قتل نفسه: "قال الله تعالى: بادرني عبدي، حرمت عليه الجنة" وقد تقدم نص الحديثين. فقد نصت السنة على أن عقوبة قاتل نفسه عمدا هي الخلود الأبدي في النار وتحريم الجنة عليه، وإذا قارنا هذه العقوبة بعقوبة قاتل غيره عمدا، تبين لنا الفارق الكبير بين العقوبتين؛ إذ عقوبة قاتل غيره هي الخلود في النار، دون أن ينص على تأبيد خلوده فيها، مما فتح بابا للرجاء في أن يبقى بها المدة التي يشاؤها الله تعالى ثم يدخل الجنة، عند جمهور العلماء -كما بينا   1 المغني والشرح الكبير ج9، ص230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 آنفا- أما قاتل نفسه فقد أوصد أمامه هذا الباب؛ لأنه يئس من رحمة الله تعالى وقنط، ودل على جهله وغفلته عن الله الذي يفرج الكروب، ويفك العسر، وينقذ الملهوف، واليائس، والقانط، يقول الله جل شأنه بشأنهما: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 1. ويقول: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} 2. ويقول تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3. وهذا يفسر لنا ما روي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عدم صلاته عليه، فقد روي عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- أن رجلا كانت به جراحة فأتى قرنا له4 فأخذ مشقصا5 فذبح به نفسه، فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، رواه ابن حبان في صحيحه. كما أنه قد لوحظ أن عقوبته في الآخرة -بعد خلوده في النار أبدا- هي أن يفعل بنفسه في النار مثلما فعل بها في الدنيا -وهو تعريف القصاص كما سيأتي- فمن قتل نفسه ترديا أو بسكين أو بسم، أو خنق، أو ضرب نفسه برصاص -وهكذا من الأفعال التي يأباها الدين ويقبحها العقل- فقد جعل   1 الآية 87 من سورة يوسف. 2 الآية 56 من سورة الحجر. 3 الآية 53 من سورة الزمر. 4 القرن: بفتح القاف والراء جَعْبة النشاب. 5 المشقص: بكسر الميم وسكون الشين المعجمة فتح القاف: سهم فيه نصل عريض، وقيل: هو النصل العريض، وقيل: سهم فيه نصل طويل يرمى به الوحش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الله نوع عقابه من جنس فعلته الشنعاء، فيخلق الله له نفس الآلة المستخدمة في الدنيا يستخدمها في نار جهنم، ويحس بعذابها آنًا بعد آنٍ خالدا مخلدا فيها أبدًا1.   1 وجاء في شرح صحيح مسلم للنووي ج2، ص313 ط الشعب: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فهو في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا"، فقيل فيه أقوال: أحدها: أنه محمول على من فعل ذلك مستحلا مع علمه بالتحريم، فهذا كافر وهذه عقوبته. والثاني: أن المراد بالخلود طول المدة، والإقامة المتطاولة، لا حقيقة الدوام، كما يقال: خلد الله ملك السلطان، ويضعف هذا أن التأبيد يتنافى معناه لغة مع هذا التفسير، وأن تحريم الجنة عليه يمنع هذا الفهم شرعا. والثالث: أن هذا جزاؤه؛ ولكن تكرم الله سبحانه وتعالى فأخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي : لقد وضعت الشريعة الإسلامية عقوبة دنيوية توقع على القاتل عمدا، منها ما هو بدني، وهو القصاص أو التعزير، ومنها ما هو مالي، وهو الدية في حالة سقوط القصاص والكفارة عند بعض الفقهاء والحرمان من الميراث، ونتناول كل نوع منها في مبحث مستقل، سواء كانت الجناية من الإنسان على نفسه أو على غيره، إلا أن مبحث القصاص لا يكون إلا في قاتل غيره. النوع الأول: القصاص: تعريف القصاص: القصاص لغة: مأخوذ من قص أثره: أي تتبعه، ومنه قوله تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا} 1، وهذا المعنى يتحقق في القصاص؛ لأن المجني عليه -أو ولي الدم- يتبع الجاني حتى يقتص منه، وقيل: مأخوذ من القص بمعنى القطع، يقال: قص شعره: أي قطعه، وهذا المعنى يلائم القصاص أيضا؛ لأن المجني عليه -أو ولي الدم- يتبع الجاني حتى يقتله أو يجرحه -كما فعل- وفي كل قطع، كما أن القصاص ينبئ عن المساواة؛ لأن في كلا المعنيين اللغويين توجد المساواة.   1 الآية 64 من سورة الكهف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والقصاص اصطلاحا: هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، فإن قتل قتل، وإن جرح جرح1، إذا توافرت الشروط التي وضعها الفقه الإسلامي لذلك. مباحث القصاص: نضع مباحث هذا النوع من العقوبة في سبعة مقاصد: المقصد الأول: الأدلة التي ثبت بها القصاص في القتل العمد. المقصد الثاني: عقوبة القتل العمد، هل هي القصاص عينا، أم القصاص أو الدية، ويكون ولي الدم بالخيار بينهما. المقصد الثالث: العفو وأثره. المقصد الرابع: شروط استيفاء القصاص. المقصد الخامس: استيفاء القصاص "من له حق المطالبة به، طريقة الاستيفاء". المقصد السادس: الظروف المبيحة أو المخففة للعقوبة في الفقه الإسلامي. المقصد السابع: الظروف المشددة للعقوبة في الفقه الإسلامي. المقصد الأول: الأدلة التي ثبت بها القصاص في القتل العمد: لقد ثبتت عقوبة القصاص بأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والقياس:   1 ويقال للقصاص: القود بفتحتين؛ لأنهم يقودون الجاني بقيد أو غيره لاستيفاء القصاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 أما الكتاب فقد قال جل شأنه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1. وقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2. ووجه الاستدلال بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} -مع أن ظاهر الآية يوجب القصاص أينما وجد القتل، سواء كان عمدا أم خطأ- أن الله تعالى ذكر في آية أخرى أن موجب القتل الخطأ الكفارة والدية، قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 3 الآية، فتعين أن يكون القصاص المذكور في الآية فيما هو ضد الخطأ، وهو العمد. 2- السنة: ويضاف إلى هذا أن السنة قيدت إطلاق الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود" أي: موجبة القود، وهو حديث مشهور تلقته الأمة بالقبول، ووجه الاستدلال به "كما بينه الحنفية بناء على رأيهم في موجب القتل العمد" أن الألف وللام في قوله: "العمد" للجنس؛ إذ   1 الآية رقم 45 من سورة المائدة. 2 الآيتان 178، 179 من سورة البقرة. 3 الآية 92 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لا معهود ينصرف إليه، ففي الحديث تنصيص على أن حكم جنس العمد القود، قال صاحب الكفاية: لا يقال إن قوله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود" لايوجب التقييد؛ لأنه تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه؛ لأنا نقول: لو لم يوجب هذا الخبر تقييد الآية لم يكن القود موجب العمد فقط، فلا يكون لذكر لفظ العمد في الحديث فائدة. القياس: الجناية تتكامل بالعمد، وكلما تكاملت الجناية كانت حكمة الزجر عليها أكمل، وحكمة الزجر تكون أكمل بالعقوبة المتناهية، والعقوبة المتناهية هي القصاص، فكان القصاص موجب القتل العمد، وأيضا لأن العقوبة المتناهية لا تشرع إلا عند تكامل الجناية، وتكاملها هنا لا يكون إلا بالعمد. المقصد الثاني: عقوبة القتل العمد: للفقهاء في موجب القتل العمد رأيان: أحدهما: يرى أن موجبه القصاص عينا، ويترتب على ذلك أن لا يكون لولي الدم أن يلزم الجاني الدية جبرا عنه، وإنما له أن يقتص، أو يعفو مجانا. ثانيهما: يرى أن موجب القتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية، فيكون للولي أن يقتص -إن شاء- أو يأخذ الدية ولو لم يرض الجاني، ونوضح أدلة كل فيما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أدلة الرأي الأول: استدل القائلون بأن موجب القتل العمد القصاص عينا "وهم الحنيفية والمالكية، وأحد قولي الشافعي1، والإمامية، وهو قول إبراهيم النخعي وابن شبرمة، وأبي الزناد، وسفيان الثوري، والحسن بن حي" بالكتاب الكريم والسنة الشريفة والقياس: أما الكتاب: فإن الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} نصت على أن الواجب بالقتل القصاص، ولم تذكر الدية، وإذا تعين هذا موجبا للقتل العمد لا يمكن العدول عنه إلى غيره؛ لئلا تلزم الزيادة على النص بالرأي. وأما قوله تعالى في هذه الآية: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فقد فسروه بما يأتي: قال أبو حنيفة: إن معنى "عفي" بذل، والعفو في اللغة البذل؛ ولهذا قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} أي: ما سهل2، فكأنه قال: من بذل له من القاتل شيء من الدية فليقبل ما بذل له، وليتبع بالمعروف، وليؤد إليه القاتل بإحسان، والأمر هنا للندب لا للوجوب، فندب الله تعالى لولي الدم أن يأخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة المائدة: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 3 فندب جل شأنه فيها إلى رحمة العفو والصدقة، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية   1 مغني المحتاج ج4، ص48. 2 جاء في مختار الصحاح: {خُذِ الْعَفْوَ} أي: خذ الميسور من أخلاق الرجال ولا تستقصي عليهم، قال: ويقال: أعطاه عفو ماله يعني: أعطاه بغير مسألة. 3 الآية رقم 45 من سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي بالاتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان. ويدل أيضا على أن الأمر هنا للندب أن المعروف والإحسان يدلان على التفضيل لا الوجوب كما تقتضيه عبارة النص؛ لأن الوجوب يقتضي العقاب على الترك، والمعروف والإحسان لا يقتضيان العقاب على الترك، بدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} . وقد فسره بذلك الإمام مالك فقال: معنى "عفي" يسر -بالبناء للمفعول فيهما- لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل والشيء هو الدية، أي: أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه، فمرة تيسر، ومرة لا تيسر1. أي أن الجاني مخير في أن يقبل دفع الدية لولي الدم مقابل إسقاط القصاص عنه، أو لا يقبل، ولا يكون لولي الدم حينئذ إلا القصاص أو العفو مجانا. واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 2، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 3، فقالوا: ليس مثل القتل إلا القتل، فلا مدخل للدية هاهنا إلا برضاهما معا. كما استدلوا بقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} 4، قالوا: فلم يذكر الله عز وجل إلا القتل فقط.   1 القرطبي ج2، ص254. 2 سورة النحل الآية 136. 3 سورة البقرة الآية 194. 4 سورة الإسراء الآية 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود". أي: أن جنس القتل العمد موجبه القود عينا؛ وذلك لأن الألف واللام في "العمد" للجنس؛ إذ لا معهود ينصرف إليه حتى يمكن أن تكون للعهد. ففي الحديث تنصيص على أن حكم الجنس العمد القصاص، وليس فيه ذكر للدية، فمن عدل عنه إلى غيره زاد عن النص بالرأي، وذلك لا يجوز. وقد أورد هذا الحديث صاحب مغني المحتاج على متن المنهاج ج4، ص48 بلفظ: "من قتل عمدا فهو قود" رواه أبو داود والنسائي وغيرهم بإسناد صحيح، وهو يدل أيضا على أن موجب القتل العمد القصاص عينا؛ لأن ما بعد الفاء يدل على أنه كل الموجب، وإلا لذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- معه الدية. كما احتجوا بما روي عن أنس أن الربيع1 عمته كثرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو، فأبوا، فعرضوا الأرش، فأبوا، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبوا إلا القصاص، فامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس، كتاب الله القصاص" فرضي القوم، فعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"، رواه البخاري والخمسة إلا الترمذي2. ووجه الاستدلال: أنه لما حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقصاص قال: "كتاب الله القصاص"، ولم يخير المجني عليه بين القصاص   1 بنت النضر. 2 نيل الأوطار ج7، ص23، 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 والدية، فثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله وسنة رسوله في العمد القصاص عينا1. وعن عمر بن الخطاب قال: لا يمنع السلطان ولي الدم أن يعفو إن شاء، أو يأخذ العقل إن اصطلحوا عليه، ولا يمنعه أن يقتل إن أبَى إلا القتل بعد أن يحق له القتل في العمد. كما استدل الإمامية بما روي عن الصادق "ع" قال: "من قتل مؤمنا متعمدا قيد به إلا أن يرضى أولياء المقتول أن يقبلوا الدية، فإن رضوا بالدية وأحب ذلك القاتل فالدية" 2. القياس: إنا القود بدل شيء متلف، فتعين أن يكون بدله من جنسه كسائر المتلفات، وجنس المتلف هنا هو القياس، والدية أو الأرش بدل عند سقوط القصاص بعفو أو غيره، كموت الجاني3. أدلة الرأي الثاني: قال الحنابلة، وبعض الشافعية، والظاهرية والزيدية والإباضية "وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور": إن ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل، أي: أن   1 القرطبي ج5، ص253. 2 الروضة البهية ج2، ص414. 3 مغني المحتاج ج4، ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 موجب العمد أحد شيئين القصاص أو الدية، والخيار في ذلك لولي الدم، وليس عفو ولي الدم عن القصاص وسكوته عن ذكر الدية مسقطا للدية، بل هي واجبة للولي وإن لم يذكرها، إلا أن يعفو عن الدية أيضا، ويجوز لولي الدم والقاتل أن يصطلحا على ما يرضيهما في مقابل إسقاط القود، فهذا فقط الذي يشترط فيه رضاهما، وقد استدلوا بما يأتي1: 1- بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية، فقد روي عن ابن عباس في تفسيرها قوله: كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الآية، {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بالمعروف: يتبع الطالب بمعروف، ويؤدى إليه المطلوب بإحسان، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} فيما كتب على من كان قبلكم. رواه البخاري والنسائي والدارقطني. فقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} "من" يراد بها القاتل، و"عفي" تتضمن شخصا يعفو عن القصاص، وهو ولي الدم، و"أخيه" هالشخص المقتلو، و"شيء" هو الدم الذي يعفي عنه، ويرجع إلى أخذ الدية، وهذا قول قتادة أيضا، وجماعة من العلماء، والعفو في هذا القول على بابه الذي هو "الترك". والمعنى أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله، وأسقط القصاص، فإنه يأخذ الدية، ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان.   1 راجع: القرطبي ج5، 253، نيل الأوطار ج7، ص8، المحلى لابن حزم ج10، ص260، المغني لابن قدامة ج9، ص232، مغني المحتاج ج4، ص48، شرح النيل ج15، ص95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وأما عدم ذكر الدية في الآية فإن هذا لا يستلزم عدم الذكر مطلقا، فإن الدية قد ذكرت في الأحاديث. وأيضا فإن تقدير الآية: "فمن اقتص فالحر بالحر ... ومن عفي لهمن أخيه شيء فالدية"، ويدل على هذا تفسير ابن عباس المذكور آنفا. وظاهر الحديث أيضا أن الولي إذا عفا عن القصاص لم تسقط الدية، بل يجب على القاتل تسليمها. 2- ومن السنة: ما روي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفتدي وإما أن يقتل" رواه الجماعة، ولكن لفظ الترمذي: "إما أن يعفو وإما أن يقتل". وما روي عن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أصيب بدم أو خبل -والخبل الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا1 على يديه" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وعن وائل بن حجر قال: كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جيء بقاتل في عنقه النسعة، فقال صلى الله عليه وسلم لولي المقتول: "أتعفو؟ " قال: لا، قال: "أتأخذ الدية؟ " قال: لا، قال: "أفتقتل؟ " قال: نعم. فقد جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الخيار لولي المقتول في العفو أو الدية أو القود دون أن يستشير القاتل أو يلتفت إلى رضاه.   1 أي: أنه إذا أراد زيادة على القصاص أو الدية أو العفو فامنعوه، ومن ذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . نيل الأطار ج7، ص7، 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 3- ويؤيد هذا ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب في امرأة قتلت رجلا: "إن أحب الأولياء أن يعفوا عفوا، وإن أحبوا أن يقتلوا قتلوا، وإن أحبوا أن يأخذوا الدية أخذوها وأعطوا امرأته ميراثها من الدية". وعن معمر عن قتادة قال: كان يجبر القاتل على إعطاء الدية، فإن اتفقوا على ثلاث ديات فهو جائز، إنما اشتروا به صاحبهم، وهو قول سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، والأوزاعي، والشافعي، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي سليمان، وأصحابهم، وجمهور أصحاب الحديث1. الرد على أصحاب الرأي الأول: قد أخذ أصحاب الرأي الأول بما قلنا به فيما إذا عفا واحد من الأولياء فأكثر دون الآخرين، فقالوا: إن الدية واجبة للباقين، أحب القاتل أم كره. وكذلك عندهم إذا بطل القود بأي وجه من الوجوه؛ كالأب إذا قتل ابنه2 أو نحو ذلك، وجبت الدية، فأي فرق بين امتناع القود بهذا الوجه وبين امتناعه بعفو الولي؟ وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، فإن هذا الاحتجاج حق، وأيضا قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:   1 المحلى لابن حزم ج10، ص361. 2 عند من يقول بذلك، وسيأتي تفصيل الحكم فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 "إما أن يقاد وإما أن يودي" أي: يدفع الدية -حكم زائد على تلك الآيات، وأحكام الله عز وجل وأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها حق، يضم بعضها إلى بعض، فيجب القصاص بتلك، وتجب الدية بهذه، ولا تنافي. وأما قوله عز وجل: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} فحق، وبه نقول: إذا اختار ولي الدم القصاص، فليقتل قاتل وليه، ولا يحل له أن يسرف فيقتل غير قاتله، وليس هاهنا ذكر للدية التي قد ورد حكمها في نص آخر. الترجيح: والذي يظهر لنا أن الرأي الثاني هو الرأي الراجح، وذلك لما يأتي: 1- أن الآية بناء على تفسير العفو بمعنى الترك تؤيد هذا الرأي، ويكون استعمال اللفظ هنا على بابه، فإن معنى "عفي" لغة ترك، ووقد فسرها بذلك ابن عباس وجمهور من الفقهاء، فلا داعي إلى ترك المعنى الحقيقي للفظ ما دامت الأحاديث تقرر هذا المعنى. 2- أن الأحاديث أثبتت أن الواجب بالعمد أحد الأمرين القصاص أو الدية، وقد ذكرنا طائفة منها، وإذا ثبت ذلك كان لزاما علينا الأخذ به. وقد روى الربيع عن الشافعي، قال: أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال: حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري1 عن أبي شريح الكعبي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عام الفتح: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخذ للعقل، وإن أحب فله القود".   1 المقبري: بضم الميم وسكون القاف، وضم الباء، وكسر الراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فقال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري، وصاح علي صياحا كثيرًا، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: أتأخذ به! نعم آخذ به، وذلك الفرض علي، وعلى من سمعه، إن الله عز وجل ثناؤه اختار محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من الناس فهداهم به، وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت1. 3- وأيضا فإنه من طريق النظر والمصلحة: أن الدية إنما لزمت القاتل بغير رضاه؛ لأنه من المفروض عليه أن يحيي نفسه ويحرم عليه أن يهلكها، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، وقال: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وقد أتيحت له فرصة النجاة بنفسه، فيجب عليه أن يقبلها، وهذا الوجوب يمليه الشرع والعقل.   1 القرطبي ج2، ص353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 المقصد الثالث: العفو عن القصاص أو المصالحة عليه: لما كان العفو عن القصاص فيه حقن للدماء، وإحياء للنفوس، وتطبيق لقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1، فتحت الشريعة الإسلامية باب العفو، وجعلته في يد صاحب الحق في استيفاء القصاص من الجاني، وهو ولي الدم. وقد أجمع العلماء على إجازته، وأنه أفضل من القصاص، غير أنهم اختلفوا في الآثار التي تترتب عليه في بعض الصور، ونوضح فيما يلي: ركنه وشرائطه، وأدلة مشروعيته، وحكم العفو مجانا، أو مع السكوت، وحكم المصالحة على إسقاط القصاص بمقابل. أ- أما ركن العفو، فهو أن يقول العافي: عفوت أو أسقطت أو أبرأت وما يجري هذا المجرى. وأما شرائط الركن، فمنها أن يكون العفو من صاحب الحق؛ لأنه إسقاط للحق، وإسقاط الحق ولا حق محال، فلايصح العفو من الأجنبي لعدم الحق، ومنها أن يكون العافي بالغا عاقلا، فلا يصح العفو من الصبي والمجنون، وإن كان الحق ثابتا لهما؛ لأن العفو من التصرفات المضرة المحضة فلا يملكانه كالطلاق والعتاق والهبة ... ب- أدلة مشروعية العفو عن القصاص وأفضليته: استدل الفقهاء على إجازة العفو عن القصاص، وعلى أنه أفضل من القصاص بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى في سياق آية القصاص2: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ   1 سورة فصلت الآية رقم 34. 2 سورة البقرة الآية 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ، فقد أجازت الآية العفو وجعلته تخفيفا ورحمة من الله للناس. وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 1 أي: من تصدق بالقصاص، أو عفا عنه، فإن العفو يكون كفارة للجاني بعفو صاحب الحق عنه، وكفارة للعافي؛ لأنه قد تصدق به عليه. وأما السنة: فمنها ما روي عن أنس بن مالك قال: "ما رفع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو" رواه الخمسة إلا الترمذي، وعن أبي الدراداء قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من رجل يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه خطيئة" رواه ابن ماجه والترمذي2، ومنها حديث أنس بن النضر في قصة "الربيع بنت النضر" حين كسرت ثنية جارية، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقصاص، فعفا القوم، وقد تقدم نصه3. وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جواز العفو ولم يختلفوا في مشروعيته. ج- العفو مجانا: أجمع العلماء على جواز العفو مجانا، ولم يختلفوا في ذلك، وإنما وقع   1 سورة المائدة الآية رقم 45. 2 راجع نيل الأوطار ج7، ص29. 3 راجع ص146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الخلاف فيما هو الأولى للمظلوم: هل الأولى العفو عن ظالمه أو الترك؟ فريق من العلماء رجح الأول، وفريق رجح الثاني. ووجه ترجيح الأول: أن الله تعالى لا يندب عباده إلى العفو إلا ولهم فيه مصلحة راجحة على مصلحة الانتصاف من الظالم، فالعافي له من الأجر بعفو عن ظالمه فوق ما يستحقه من العوض عن تلك المظلمة من أخذ أجر ووضع وزر لو لم يعف عن ظالمه. ومن رجح الثاني قال: إنا لا نعلم هل عوض المظلمة أنفع للمظلوم، أم أجر العفو؟ ومع التردد في ذلك لا يكون هناك طريق إلى القطع بأولية العفو، فيكون الترك هو الراجح. والراجح عندي هو الرأي الأول؛ لأن عدم الجزم بأولية العفو يقابله أنه لا جزم بأولية الترك أيضا، ثم الدليل قائم على أولوية العفو؛ لأن الترغيب من الشارع الحكيم في شيء يستلزم رجحانه1، ويؤيد هذا الأحاديث -المذكورة آنفا- التي جعلت موجب العفو رفع درجات العافي وحط خطيئته. وما ورد من أن الله يزيده به عزا، فقد روي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا" رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه2.   1 نيل الأوطار ج7، ص30. 2 وما رواه عبد الرحمن بن عوف من قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفا عليهن: لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله عز وجل إلا زاده الله بها عزا يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر" رواه أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 5- العفو المقترن بسكوت ولي الدم عن المطالبة بعوض: إذا صدر العفو من ولي الدم عن الجاني دون أن يقترن عفوه بمقابل من مال أو غيره، فإن الفقهاء قد اختلفوا فيما يجب في هذه الحالة، واختلافهم هنا هو فرع اختلافهم الذي قررناه آنفا، وهو هل موجب القتل العمد القصاص عينا، أم أن ولي الدم مخير بين القصاص والدية؟ فمن قال بالثاني قال بوجوب الدية إذا صدر العفو دون أن يقترن بمقابل؛ لأن الواجب أحد الشيئين، فإذا أسقط أحدهما وجب الآخر دون الحاجة إلى بيان، ومن قال بالأول أسقط القصاص عن الجاني في هذه الحالة، وليس لولي الدم شيء آخر؛ لأن موجب العمد القصاص عينا، وقد أسقطه، فلا شيء له بعد ذلك؛ إلا أن هناك حالات يترتب عليها الدية بعد العفو عن القصاص، ونورد هذا التفصيل فيما يأتي من مذهب الحنفية الآخذين بهذا الرأي. آثار العفو المطلق عند القائلين بوجوب القصاص عينا: فصل الكاساني الحنفي في بدائعه هذه الآثار تفصيلا دقيقا فقال: وأما حكم العفو، فالعفو في الأصل لا يخلو إما أن يكون من الولي، ,إما أن يكون من المجروح، فإن كان من الولي لا يخلو أن يكون منه بعد الموت، أو قبل الموت بعد الجرح، فإن كان بعد الموت فإما أن يكون الولي واحدا وإما أن يكون أكثر. فإن كان الوالي واحدا بأن كان القاتل والمقتول واحدا فعفا عن القاتل، وكان هذا العفو بعد الموت سقط القصاص.. ولا ينقلب إلى مال عند من قال بأن الواجب القصاص عينا. وأما إذا كان ولي الدم اثنين أو أكثر فعفا أحدهما سقط القصاص عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 القاتل؛ لأنه سقط نصيب العافي بالعفو، فيسقط نصيب الآخر ضرورة أنه لا يتجزأ؛ إذ القصاص قصاص واحد، فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض، وينقلب نصيب الآخر مالا بإجماع الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم؛ فإنه روي عن عمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهم- أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء الذين لم يعفوا نصيبهم من الدية، وذلك بمحضر من الصحابة -رضي الله عنهم- ولم ينقل أنه أنكر أحد منهم فيكون إجماعا1. وقيل: إن قوله تبارك وتعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} نزلت في دم بين شركاء يعفو أحدهم عن القاتل، فللآخرين أن يتبعوه بالمعروف في نصيبهم؛ لأنه قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، وهذا العفو عن بعض الحق، ويكون نصيب الآخر، وهو نصف الدية في مال القاتل؛ لأن القتل عمد، إلا أنه تعذر استيفاء القصاص لما ذكرنا، والعاقلة لا تعقل العمد. أما إذا كان لكل واحد منهما قصاص كامل قبل القاتل، بأن قتل واحد رجلين فعفا أحدهما عن القاتل لا يسقط قصاص الآخر؛ لأن كل واحد منها استحق عليه قصاصا كاملا، ولا استحالة له في ذلك؛ لأن القتل ليس تفويت الحياة ليقال: إن الحياة الواحدة لا يتصور تفويتها من اثنين، بل هو اسم لفعل مؤثر في فوات الحياة عادة، وهذا يتصور من كل واحد منهما في محل واحد على الكمال، فعفو أحدهما عن حقه وهو القصاص لا يؤثر في حق   1 وسيأتي أن بعض الفقهاء قد خالف في هذا الحكم، فجعل القصاص حقا لكل واحد من أولياء الدم، وسنوضحه بمشيئة الله تعالى في القصد الخامس. راجع: بدائع الصنائع ج7، ص247-248، والدسوفي على الشرح الكبير ج4، ص261، ومواهب الجليل ج6، ص254، والمغني لابن قدامة ج، 3، ص465، والمحلى لابن حزم ج10، ص484. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 صاحبه، بخلاف القصاص الواحد المشترك1. وأما إذا عفا الولي عن القاتل بعد الجرح وقبل الموت، فالقياس ألا يصح عفوه؛ لأن العفو عن القتل يستدعي وجود القتل، والفعل لا يصير قتلا إلا بفوات الحياة عن المحل، ولم تفت الحياة عن المحل حتى الآن، فالعفو لم يصادف محله، وإذا لم يصادف العفو محله لا يصح. وفي الاستحسان يصح عفوه، وللاستحسان وجهان؛ أحدهما: أن الجرح متى اتصلت به السراية تبين أنه وقع قتلا من حين وجوده، فكان عفوا عن حق ثابت، والعفو عن الحق الثابت يصح، فكذا هذا؛ ولهذا لو كان الجرح خطأ فكفر بعد الجرح قبل الموت، ثم مات، جاز التكفير، والثاني: أن القتل إن لم يوجد للحال فقد وجد سبب وجوده، وهو الجرح المفضي إلى فوات الحياة، والسبب المفضي إلى الشيء يقام مقام ذلك الشيء في أصول الشرع؛ كالنوم مع الحدث، والنكاح مع الوطء، وغير ذلك؛ لأنه إذا وجد سبب وجود القتل كان العفو تعجيل الحكم بعد وجود سببه، وأنه جائز كالتفكير بعد الجرح قبل الموت في قتل الخطأ. عفو المجروح قبل موته: وأما إن عفا المجني عليه عن الجاني بعد الجرح وقبل الموت ثم مات، فللفقهاء في حكم ذلك رأيان: أحدهما: قال الحنفية والمالكية والحنابلة والأوزاعي وطاوس والحسن وقتادة وهو أحد قولي الشافعي2: يسقط القصاص ولا شيء لأولياء   1 بدائع الصنائع ج7، ص248. 2 المراجع: بداية المجتهد لابن رشد ج2، ص395، والمغني لابن قدامة ج9، ص472، والمحلى لابن حزم ج10، ص486-489. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الدم بعد ذلك، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والاستحسان: أما الكتاب فقد قال تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} 1. وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} 2. وكل هذه الآيات تفيد أن للمجني عليه أن يعفو عن الجاني، وإذا ثبت ذلك له وجب أن يكون للعفو أثره، وأثره هو سقوط القصاص، ولا شيء لولي الدم بعد ذلك. وأما السنة فقد روي عن قتادة أن عروة بن مسعود الثقفي دعا قومه إلى الله ورسوله، فرماه رجل منهم بسهم، فمات، فعفا عنه، فدفع ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجاز عفوه، وقال: "هو كصاحب ياسين" 3. وعن عمران بن ظبيان عن عدي بن ثابت قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق به"، فقد دل الحديثان على جواز عفو المجني عليه دلالة ظاهرة. وقالوا أيضا: إنه قد أجاز ذلك ابن عمر والصحابة متوافرون، ولم يعرف له مخالف.   1 سورة الشورى الآية رقم 40. 2 سورة النحل الآية رقم 126. 3 هو حبيب النجار، فإنه حينما دعا قومه إلى الإيمان بالله تعالى رجموه بالحجارة، وفيه قال الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} الآية 20 من سورة يس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 كما قالوا: إن الذي عفا هو المجني عليه، فهو أولى بنفسه، ولأن من بعده يكون نائبا عنه في المطالبة بدمه أو ديته، فكيف يقبل من نائبه ولا يقبل منه؟!! كما قال الحنفية: إن القياس يقضي بألا يصح عفو المجني عليه، ولكن الاستحسان يقضي بصحته، ووجه القياس والاستحسان ما بيناه آنفا. الرأي الثاني: قال أبو ثور وداود وهو قول الشافعي بالعراق: لا يلزم عفوه وللأولياء القصاص أو العفو، واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والقياس: أما الكتاب فقد قال تعالى في القتل خطأ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 1، وقال جل شأنه في القتل العمد: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} 2. ويبين ابن حزم وجه الاستدلال فيقول: فصح أن الدية في الخطأ فرض أن تسلم إلى أهله، فإذ ذلك كذلك فحرام على المقتول أن يبطل تسليمها إلى من أمر الله تعالى بتسليمها إليهم، وحرام على كل أحد أن ينفذ حكم المقتول في إبطال تسليم الدية إلى أهله، فهذا بيان لا إشكال فيه3. وصح بنص كلام الله تعالى -في الآية الثانية- وحكمه الذي لا يرد أن الله تعالى جعل لولي المقتول سلطانا، وجعل إليه القود، وحرم عليه أن يسرف   1 سورة النساء الآية رقم 92. 2 سورة الإسراء الآية رقم 33. 3 المحلى ج10، ص489-492. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 في القتل فمن الباطل المتيقن أن يجوز للمقتول حكم في إبطال السلطان الذي جعله الله تعالى لوليه، ومن الباطل البحت إنفاذ حكم المقتول فيما يخالف حكم الله تعالى. وأما السنة فقد سبق أن بينا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جعل الخيار لأهل المقتول في القود أو الدية أو العفو1، وهذا يثبت أيضا أنه لا يصلح للمقتول أن يبطل الخيار الذي جعله الله ورسوله لأهله بعد موته. ثم قال ابن حزم: ولم يأتِ قط نص من الله تعالى ولا من رسوله -صلى الله عليه وسلم- على أن للمقتول سلطانا في القود في نفسه، ولا أن له خيارا في دية أو قود، وبهذا يكون قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} إنما هو فيما جنى عليه فيما دون النفس، وفيما عفا عنه من جعل الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- العفو إليه، وهم الأهل بعد موت المقتول. وبرهان آخر: أن الدية عوض عن القود بلا شك في العمد، وعوض عن النفس في الخطأ بيقين، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن المقتول ما دام حيا فليس له الحق في القود، فإذ لا حق له في ذلك فلا عفو له ولا أمر فيما لا حق له فيه، وكذلك من لم تذهب نفسه بعد؛ لأن الدية في الخطأ عوض عنها، فلم يجب له بعد شيء، فلا حق له فيما لم يجب بعد. أما قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} فإنه جاء بعد قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وهذا كله كلام مبتدأ بعد تمام قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ   1 راجع نص الحديث ص155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، فإنما جاء النص على الصدقة بالجروح لا النفس1. وأما قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} فذلك إنما هو فيما دون النفس، لا في النفس؛ لأن المخاطب فيها بأن يعاقب بمثل ما عوقب به هو الشخص الذي عوقب نفسه، وليس في الآية جواز العفو عن النفس أصلا، وإنما فيها جواز العفو عن أن يعاقب بمثل ما عوقب به فقط. وأما قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فهي عامة يدخل فيها العفو عن النفس وما دونها وعفو المجني عليه وعفو الولي أيضا. وأما حديث عروة بن مسعود "ض" فإنما قام يدعو قومه إلى الإسلام وهم كفار حربيون، فرموه فقتلوه، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا قود على قاتله إذا أسلم ولا دية. وأما حديث عدي بن ثابت فضعيف، وكذا ما روي عن ابن عمر2. القياس: ويستدل لهذا الرأي أيضا بالقياس وقد بينا آنفا وجهه3. ويضاف إلى ما تقدم أنه من ناحية النظر إلى أولياء الدم وتحقيق المصلحة لهم، فإن القول بأن عفو المجني عليه لا يسقط حقهم في القصاص أو الدية يهدئ من ثائرتهم ويطفئ ثأر العداوة التي تتأجج بعد موت المجني عليه بين أسرة الجاني وبينهم، فضلا عن أن ولي الدم قد يتأثر بموت المجني عليه الذي   1 المحلى لابن حزم ج10، ص487. 2 نفس المرجع. 3 ص161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 أن يرعاه وينفق عليه وحينئذ فصيرورة الأمر إليه في اختيار القصاص أو الدية أو العفو يعطيه فرصة يتمكن خلالها من موازنة أموره واختيار ما يناسبه. هـ- المصالحة على الدم: أجاز الفقهاء أن يصطلح القاتل وأولياء المقتول عن القصاص على مال أخذه في مقابل دم وليه، فإذا اصطلحا سقط القصاص ووجب المال المسمى مالا، قليلا أو كثيرا زائدا على مقدار الدية1؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . قال ابن عباس والحسن والضحاك ومجاهد: نزلت الآية في الصلح، وهو موافق للام، فإن عفا إذا استعمل باللام كان معناه البدل، أي: فمن أعطى من جهة أخيه المقتول شيئا من المال بطريق الصلح فاتباع بالمعروف، أي: فمن أعطى -وهو ولي القتل- مطالبة ببدل الصلح عن مجاملة وحسن معاملة؟؟؟ 1، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن شاءوا قادوا وإن شاءوا أخذوا الدية"، وقد فسروه بأن أخذ المال إنما يكون برضا القاتل، ولأنه حق ثابت للورثة يجري فيه الإسقاط عفوا، وكذا تعويضا لاشتماله على إحسان الأولياء وإحياء القاتل، فيجوز بالتراضي القليل والكثير فيه سواء؛ لأنه ليس فيه نص مقدر فيفوض إلى اصطلاحهما الخلع وغيره.   1 العناية هامش فتح القدير ج8، ص275، الزيلعي ج6، ص112. وراجع للمالكية الشرح الكبير ج4، ص240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 المقصد الرابع: شرط استفياء القصاص: بعد أن تبينا حقيقة القتل العمد الموجب للقصاص في الفقه الإسلامي نوضح فيما يلي آراء الفقهاء1 في الشروط التي يلزم توافراها في الجاني والمجني عليه لاستفياء القصاص من الجاني، مقدمين الشروط التي اتفقوا عليها على الشروط المختلف فيها، ومرجحين ما تقضي الأدلة برجحانه:   1 آراء الفقهاء في شروط استيفاء القصاص: لقد تناول الفقهاء هذه الشروط، ونظرا لاختلافهم في بعضها نورد فيما يلي رأي كل مذهب على حدة: أ- مذهب الحنفية: اشترط الحنفية لاستيفاء القصاص من الجاني شروطا بعضها يرجع إلى الجاني، وبعضها يرجع إلى المجني عليه. ما يشترط في القاتل: يشترط من الجاني أمران: أحدهما: التكليف، ومعناه أن يكون القاتل بالغا عاقلا، فإن كان صبيا أمجنونا لا يجب القصاص منه؛ لأن القصاص عقوبة وهما ليسا من أهل العقوبة؛ لأن العقوبة لا تجب إلا بالجناية وفعلهما لا يوصف بالجناية لعدم القصد الصحيح، ولأن العمد يترتب على العلم، والعلم لا يكون إلا بالعقل والمجنون عديم العقل، والصبي قاصر العقل، فأنَّى يتحقق منهما القصد؟!! = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 .......................................................................   = فصار في جنايته كالنائم، أي: أن جناية كل منهما تكون خطأ، وقد روي عن علي -رضي الله عنه- أنه جعل دية المجنون على عاقلته، وقال: عمده وخطؤه سواء، ولأن الصبي مظنة المرحمة، وقد استحق العاقل القاتل خطأ التخفيف حتى وجبت الدية على العاقلة، والصبي -وهو أعذر- أولى بهذا التخفيف. الثاني: أن يكون القاتل مختارا اختيار الإيثار، فالمكره على القتل لا يتوفر لديه هذا الاختيار، فإذا أكره شخص على قتل آخر، فإن كان الإكراه تاما فلا قصاص عليه عند أبي حنيفة ومحمد؛ ولكن يعزر ويجب القصاص على المكره، وقال زفر: يجب القصاص على المكرَه دون المكرِه. وأما ذكورة القاتل وحريته وإسلامه، فليس من شرائط وجوب القصاص عند الحنفية. ما يشترط في المقتول: يشترط في المجني عليه ثلاثة أمور: أحدها: ألا يكون جزء القاتل، فإذا قتل الأب ابنه لا قصاص عليه، كذلك الجد أب الأب وأب الأم وإن علا، وكذلك إذا قتل الرجل ولد ولده وإن سفلوا، وكذا الأم إذا قتلت ولدها، أو أم الأم أو أم الأب إذا قتلت ولد ولدها، والأصل فيه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: $"لا يقاد الوالد بولده"، واسم الوالد والولد يتناول كل والد وإن علا، وكل ولد وإن سفل، ولو كان في ورثة المقتول ولد للقاتل أو ولد ولده فلا قصاص؛ لأنه تعذر إيجاب القصاص للولد في نصيبه، فلا يمكن إيجاب القصاص للباقين؛ لأنه لا يتجزأ، وتجب الدية للكل. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 .....................................................................   = ويقتل الولد بوالده لعمومات الأدلة المثبتة للقصاص في القتل العمد من غير فصل، إلا أنه خص منها الوالد بالنص الخاص، فبقي الولد داخلا تحت العموم. الثاني: ألا يكون المقتول ملكا للقاتل، ولا له فيه شبهة الملك، فلا يقتل المولى بعبده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقاد الوالد بولده، ولا السيد بعبده"، وكذا إذا كان يملك بعضه، ثم قتله، لا قصاص عليه؛ لأنه لا يمكن استفياء بعض القصاص دون بعض؛ لأنه غير متجزئ، وكذا إذا كان له فيه شبهة الملك كالمكاتب إذا قتل عبدا من كسبه؛ لأن للمكاتب شبهة الملك في اكتسابه، والشبهة في باب القصاص ملحقة بالحقيقة. الثالث: أن يكون معصوم الدم مطلقا، فلا يقتل مسلم ولا ذمي بالكافر الحربي ولا بالمرتد؛ لعدم العصمة أصلا ورأسا، لا بالحربي المستأمن في ظاهر الرواية؛ لأن عصمته لم تثبت مطلقة بل مؤقتة إلى غاية مقامه في دار الإسلام؛ لأن المستأمن من أهل دار الحرب، وإنما دخل دار الإسلام لا لقصد الإقامة بل لعارض حاجة يدفعها ثم يعود إلى وطنه الأصلي، فكانت في عصمته شبهة العدم، وروي عن أبي يوسف أنه يقتل المسلم والذمي بالمستأمن قصاصا؛ لقيام العصمة ووجودها قبل القتل. ولا تشترط المساواة بين الجاني والمجني عليه في غير العصمة عند الحنفية، فلا يشترط أن يكون المقتول مثل القاتل في كمال الذات، وهو سلامة الأعضاء، ولا أن يكون مثله في الشرف والفضيلة فيقتل سليم الأطراف بمقطوعها وبالأشل، ويقتل العالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، والعاقل بالمجنون، والبالغ بالصبي، والذكر بالأنثى، والحر بالعبد، والمسلم بالذمي، وتقتل الجماعة بالواحد قصاصا، والواحد بالجماعة قصاصا اكتفاء، ولا يجب مع القود شيء من المال. "فتح القدير ج8، ص259، 323، وبدائع الصنائع ج7، ص234". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ........................................................................   = ب- المالكية: حدد المالكية الشروط التي يلزم توافرها في كل من الجاني والمجني عليه لإيجاب القصاص من الجاني فيما يأتي: ما يشترط في الجاني: يشترط في الجاني ثلاثة شروط: أحدها: التكليف: أي أن يكون الجاني بالغا عاقلا، فإن كان الجاني صبيا أو مجنونا فلا يقتص منهما؛ لأن عمدهما وخطأهما سواء؛ لأنه لا عمد للمجنون؛ ولذا لو كان يفيق أحيانا، وجنى حال إفاقته اقتص منه حال إفاقته، فإن جن بعد الجناية انتظرت إفاقته، فإن لم يفق فالدية في ماله. والسكران بحلال حكمه حكم المجنون، وإن سكر بحرام كان كالبالغ العاقل. وسواء كان الجاني المكلف ذكرا أو أنثى، حرا أو رقيقا، مسلما أو كافرًا. الثاني: أن يكون الجاني معصوم الدم، والعصمة تكون بالإسلام أو عقد الأمان من السلطان أو غيره، ويشمل ذلك عقد الذمة. أي: أنه يشترط أن يكون الجاني غير حربي، مسلما كان أم ذميا؛ لأن الحربي لا يقتل قصاصا، بل يهدر دمه؛ ولذا لو أسلم أو دخل دار الإسلام بأمان لم يقتل. الثالث: المكافأة: أي أنه يجب ألا يكون أزيد من المجني عليه بإسلام أو حرية، أو بعبارة أخرى: أن يكون الجاني مماثلا للمجني عليه أو أنقص منه. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ........................................................................   = وتطبيقا لذلك: يقتل الحر المسلم بمثله، والعبد بالعبد إذا كانا متساويين في الدين أو كان المقتول مسلما والقاتل ذميا، ولا تشترط المماثلة في الذكورة والأنوثة، فتقتل الأنثى بالأنثى، وبالذكر المماثل لها -إسلاما وحرية- وعكسه، ويقتل العبد بالحر والذمي بالمسلم ولو رقيقا؛ لأن خيرية الدين أفضل من الحرية، ولا يقتل المسلم بالذمي. ويشترط أن يكون الجاني متصفا بهذه الصفات حين القتل: ما يشترط في المجني عليه: يشترط في المجني عليه أمران: أولهما: العصمة وقت التلف، خرج الحربي والمرتد، فلا قصاص على قاتلهما لعدم العصمة. ثانيهما: المكافأة للجاني، أو الزيادة عليه، فإذا كان المجني عليه أنقص من الجاني لم يقتص من الجاني، فلا يقتل حر مسلم برقيق مثلا. "الشرح الكبير للدسوقي ج4، ص237، والشرح الصغير ج2، ص353، والخرشي ج 5، ص245". ج- الشافعية: حدد الشافعية الشروط التي يلزم توافرها في الجاني والمجني عليه لإيجاب القصاص ونوضحها فيها يلي: ما اشترط في الجاني: يشترط في الجاني ثلاثة أمور: أحدها: التكليف: أي البلوغ والعقل، فإذا كان القاتل صبيا أو مجنونا فلا قصاص عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: $"رفع القلم عن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ...................................................................   = ثلاثة: عن النائم حتى يستقيط، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق". ومحله في المجنون أن يكون الجنون مطبقا، أما الجنون المتقطع فينظر إن كانت الجناية في زمن إفاقته، فهو كالعاقل الذي لا جنون به، وإن كانت في زمن جنونه فهو كالمجنون الذي لا إفاقة له. ويستثنى من شرط العقل جناية السكران المتعدي بسكره على الغير، فإن المذهب يقضي بوجوب القصاص عليه في هذه الحالة؛ لأنه مكلف، ولئلا يؤدي عدم وجوبه عليه إلى ترك القصاص؛ لأن من رام القتل لا يعجز أن يسكر حتى يقتص منه، وألحق به من تعدى بشرب دواء مزل للعقل؛ أما غير المتعدي فهو كالمعتوه فلا قصاص عليه. الثاني: مكافأة القاتل للقتيل، وهي أن يكون مساويا له لا يفضله بإسلام أو أمان أو حرية أو سيادة، وتعتبر المساواة في ذلك حال الجناية. الثالث: ألا يكون أصلا للمقتول، فإن كان أصلا له لا يقتل به. فلا يقتل والد بولده وإن سفل لخبر البيهقي: "لا يقاد للابن من أبيه" لرعاية حرمته، ولأنه كان سببا في وجوده فلا يكون سببا في عدمه، والوالد شمل الأب والأم والأجداد والجدات وإن علوا من قبل الأم والأب جميعا؛ لأن الحكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه من ذكر كالنفقة، ويقتل الولد بوالديه وإن علوا، بل أولى، وتقتل المحارم بعضهم ببعض. ما يشترط في المجني عليه: يشترط فيه أمران: أحدهما: أن يكون المجني عليه معصوما؛ والعصمة تكون بالإسلام = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 .....................................................................   = أو الأمان، أما الإسلام فلقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". كما تكون بالأمان: بعقد ذمة أو عهد أمان مجرد؛ لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} الآية 29 من سورة التوبة. وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} الآية 6 من سورة التوبة. الثاني: ألا يكون صائلا ولا قاطع طريق لا يندفع شره إلا بالقتل، فإن كان كذلك كان دمه غير معصوم في تلك الحالة وإن كان مسلما. وبناء على ما تقدم لا يقتل مسلم بذمي، ولا ذمي بمرتد، ولا حر بمن فيه رق وإن قل. "مغني المحتاج ج4، ص18، وحاشية البرماوي". د- الحنابلة: يشترط لاستيفاء القصاص عند الحنابلة ما يأتي: يشترط في الجاني أن يكون مكلفا؛ لأن القصاص عقوبة، وغير المكلف ليس محلا لها، فأما الصبي والمجنون وكل زائل العقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمغمى عليه والسكران كرها فلا قصاص عليهم؛ لأن التكليف من شروطه وهو معدوم، قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة" الحديث تقدم نصه، ولأن القصاص عقوبة مغلظة، فلم تجب على الصبي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 .....................................................................   = وزائل العقل كالحدود، ولأنه ليس لهم قصد صحيح فهم كالقاتل خطأ. وأما من زال عقله بسبب لا يعذر فيه كمن سكر طوعا فإنه إذا قتل اقتص منه؛ لأن الصحابة أوجبوا عليه حد القذف، وإذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى؛ لأن عدم إيجاب القصاص منه يفضي إلى أن يكون عصيانه سببا لإسقاط العقوبة عنه!! ويشترط في المجني عليه ثلاثة شروط: الأول: أن يكون المقتول معصوما؛ لأن القصاص إنما شرع حفظا للدماء المعصومة، وزجرا عن إتلاف البنية المطلوب بقاؤها، وذلك معدوم في غير المعصوم، فلا يجب قصاص ولا دية ولا كفارة بقتل حربي؛ لأنه مباح الدم على الإطلاق؛ لقوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . وكذلك لا يجب قصاص ولا دية ولا كفارة بقتل زان محصن؛ لأنه مباح الدم، متحتم قتله فلم يضمن كالحربي. وكذلك لا يجب ذلك بقتل محارب -قاطع طريق- تحتم قتله، بأن قتل وأخذ المال، ولأنه مباح الدم. ويعزر قاتل هؤلاء لافتياته على الإمام، والقاتل معصوم الدم لغير مستحق دمه؛ لأنه لا سبب فيه يباح به لغير ولي مقتوله. الثاني: أن يكون المجني عليه مكافئا للجاني، وهو أن يساويه في الدين والحرية أو الرق؛ لأن المجني عليه إذا لم يكافئ الجاني كان أخذه به أخذا لأكثر من الحق، فلا يفضل القاتل المقتول بإسلام أو حرية أو ملك، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 .......................................................................   = الثالث: ألا يكون المقتول من ذرية القاتل، فلا يقتل والد -أبا كان أو أما- وإن علا بولده وإن سفل من ولد البنين أو البنات؛ لحديث ابن عباس مرفوعا: "لا يقتل والد بوالده" رواه ابن ماجه والترمذي من رواية إسماعيل بن مسلم المكي، ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه من رواية حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد، حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته تكلفا. وقال عليه الصلاة والسلام: "أنت ومالك لأبيك"، فمقتضى هذه الإضافة تمكينه إياه، فإذا لم تثبت حقيقة الملكية أثبتت الإضافة شبهة في إسقاط القصاص؛ لأنه يدرأ بالشبهات، ولأنه كان سببا في إيجاده فلا يكون سببا في إعدامه، وتؤخذ من حرية المقتول كما تجب على الأجنبي لعموم أدلتها، ولا تأثير لاختلاف الدين ولا اختلاف الحرية كاتفاقهما. "المغني والشرح الكبير ج9، ص35، 356، 371، وكشاف القناع ج3، ص345". هـ- شروط استيفاء القصاص عند الزيدية: يشترط لاستفياء القصاص من الجاني أمران: أحدهما: أن يكون الجاني مكلفا فلا قصاص فيما جناه الصبي أو المجنون أو المغمى عليه، أو النائم، وأما السكران فيقتص منه، ولا يعتبر أن يكون المقتص منه مكلفا حال القصاص كحال الجناية، بل يقتص منه ولو كان حال القصاص زائل العقل. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ........................................................................   = الثاني: المكافأة للمقتول في الدين والحرية، وذلك بأن يكون القاتل مساويا للمقتول أو أقل منه في ذلك، فإن كان أفضل منه فلا قصاص، فلا يقتل مسلم بكافر، ويقتل الكافر بالكافر وإن اختلفت العلة، ولا يقتل حر بعبد، ولا يقتل حر ذمي بعبد مسلم، والعكس؛ لأن في كل منهما مزية تمنع القصاص، ولا يقتل الذمي بمرتد، ويقتل المرتد بالذمي. ويشترط في المجني عليه ألا يكون المقتول أو ولي الدم فرعا للقاتل، فلا يجب القصاص لفرع من النسب على أصل له، فلا يقتل أب ولا جد وإن علا، ولا أم ولا جدة وإن علت، بفرع لهم إن سفل، وأما الفرع من الزنا فيثبت له القصاص على الأب وأصوله من جهة الزنا. وكذلك لا يقتل الولد أمه بأبيه ونحوه، فإذا قتلت المرأة زوجها أو ابن ابنها أو أخاه أو عمه، وولاية لقصاص أو بعضه إلى ابنها لم يكن لولدها أن يقتلها بأصله، وهو أبوه ونحوه، وهو أخوه وابنه وعمه، وكذلك لا يقتص من الأطراف، وكذلك لا يجوز لأب المقتول أن يقتل أم المقتول التي قتلت ولدها، فإذا قتلت الأم ولدها لم يكن لأبيه أن يقتلها به ونحوه. وضابطه: أنه إذا كان المقتول أو ولي الدم فرعا، فلا يجب القود نحو أن تقتل الأم ابن ابنها بعد أن مات ابنها، فليس للأب أن يقتل الأم بابن ابنها وإن سفل. وحيث لا قصاص على الأصل في نفس ولا طرف تجب عليه الدية ونحوها من أروش الأطراف والجراحات، أو قيمة العبد؛ إذ لا موجب لسقوطها ويلزم الأصل فقط مع الدية الكفارة للقتل؛ لأن عمده خطأ؛ لأنه صلى = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ...................................................................   = الله عليه وسلم أوجبها على الأصل مع الدية، أما قاتل العبد والكافر فلا كفارة عليهما، كما لا كفارة في قتل العمد. "التاج المذهب ج4، ص261". و شروط استفياء القصاص عند الإمامية: يشترط لاستفياء القصاص عند الإمامية خمسة شروط، نوردها كما وردت بكتبهم: أولا: التساوي في الحرية أو الرق: فيقتل الحر بالحر، سواء كان القاتل ناقص الأطراف، عادم الحواس، والمقتول صحيح الأطراف أم العكس لعموم الآية، سواء تساويا في العلم والشرف والغنى والفقر والصحة والمرض، والقوة والضعف والكبر والصغر أو تافوتا، حتى وإن أشرف المريض على الهلاك أو كان الطفل مولودا في الحال. ويقتل الحر بالحرة مع رد وليها عليه نصف ديته؛ لأن ديته ضعف ديتها، وبالخنثى مع رد ربع الدية، والخنثى بالمرأة مع رد الربع عليه كذلك. وتقتل الحرة بالحرة ولا رد إجماعا، وتقتل الحرة بالحر ولا يرد أولياؤها على الحر شيئا "على الأقوى" لعموم النفس وخصوص صحيحتي الحلبي وعبد الله بن سنان عن الصادق "ع" الدالتين على ذلك صريحا وأن الجاني لا يجني على أكثر من نفسه. ويقتل العبد بالحر والحرة، وبالعبد وبالأمة، وتقتل الأمة بالحر والحرة وبالعبد والأمة مطلقا. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 .....................................................................   = ولا يقتل الحر بالعبد إجماعا؛ عملا بظاهر الآية وصحيحة الحلبى وغيره عن الصادق "ع": "لا يقتل الحر بالعبد"، ورواه العامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وادعى في الخلاف إجماع الصحابة عليه. ولو قتل المولى عبده كفر كفارة القتل وعزر، ولا يلزمه شيء غير ذلك على الأقوى، وقيل: تجب الصدقة بقيمته، وقيل: إن اعتاد ذلك قتل كما لو اعتاد قتل غير مملوكه. الشرط الثاني: التساوي في الدين: فلا يقتل مسلم بكافر -حربيا كان الكافر أم ذميا أم معاهدا- ولكن يعزر القاتل بقتل الذمي والمعاهد لتحريم قتلهما، يغرم دية الذمي. وقيل: إن اعتاد قتل أهل الذمة اقتص منه بعد رد فاضل ديته، ومستند هذا القول مع الإجماع المذكور رواية إسماعيل بن الفضيل عن الصادق "ع" قال: سألته عن دماء اليهود والنصارى والمجوس هل عليهم على من قتلهم شيء إذا غشوا المسلمين وأظهروا لهم العداوة؟ قال: لا، إلا أن يكون معتادا لقتلهم. قال: وسألته عن المسلم هل يقتل بأهل الذمة وأهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال: لا، إلا أن يكون معتادا لذلك لا يدع قتلهم، فيقتل وهو صاغر وأنه مفسد في الأرض بارتكاب قتل من حرم الله قتله. الثالث: انتفاء الأبوة: فلا يقتل الوالد وإن علا بابنه وإن نزل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: $"لا يقاد لابن من أبيه". والبنت كالابن إجماعا، أو بطريق الأولى. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ......................................................................   = ويعزر الوالد بقتل الولد، ويكفر، وتجب الدية لغيره من الورثة. ويقتل باقي الأقارب بعضهم ببعض كالولد بوالده وهو شامل للأنثى، والأم بابنها، والأجداد من قبلها، وإن كانت لأب، والجدات مطلقا والأخوة والأعمام والأخوال وغيرهم. ولافرق في الوالد بين المساوي لولده في الدين والحرية والمخالف، فلا يقتل الأب الكافر بولده المسلم، ولا الأب العبد بولده الحر للعموم، ولأن المانع شرف الأبوة. نعم لا يقتل الولد المسلم بالأب الكافر، ولا الحر بالعبد لعدم التكافؤ. الرابع: كمال العقل فيهما، فلا يقتل المجنون بعاقل ولا مجنون، سواء كان الجنون دائما أم أدوارا، إذا قتل حال جنونه، والدية ثابتة على عاقلته لعدم قصده القتل، فيكون كخطأ العاقل، ولصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر "ع" قال: كان أمير المؤمنين "ع" يجعل جناية المعتوه على عاقلته خطأ كان أو عمدًا. وكما يعتبر العقل في طرف القاتل كذا يعتبر في طرف المقتول، فلو قتل العاقل مجنونا لم يقتل به، بل الدية إن كان القتل عمدا أو شبهه وإلا فعلى العاقلة. نعم لو صال المجنون عليه لم يمكنه دفعه إلا بقتله فهدر. ولا يقتل الصبي ببالغ ولا صبي، بل تثبت الدية على عاقلته بجعل عمده خطأ محضا إلى أن يبلغ وإن ميز لصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله "ع" قال: عمد الصبي وخطؤه واحد، وعنه أن عليا "ع" كان يقول: عمد الصبيان خطأ تحمله العاقلة. واعتبر في التحرير مع البلوغ الرشد ليس بواضح. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ..................................................................   = ويقتل البالغ بالصبي على أصح القولين لعموم "النفس بالنفس"، وأوجب أبو الصلاح في قتل البالغ الدية كالمجنون؛ لاشتراكهما في نقصان العقل، ويضعف بأن المجنون خرج بدليل خارج، وإلا كانت الآية متناولة له، بخلاف الصبي مع أن الفرق بينهما متحقق. ولو قتل العاقل -من يثبت عليه بقتله القصاص- ثم جن أي العاقل القاتل اقتص منه، ولو حالة الجنون؛ لثبوت الحق في ذمته عاقلا فيستصحب كغيره من الحقوق. الخامس: أن يكون المقتول محقون الدم -أي غير مباح القتل شرعا- فمن أباح الشرع قتله لزنا أو لواط أو كفر لم يقتل به قاتله وإن كان بغير إذن الإمام؛ لأنه مباح الدم في الجملة، وإن توقفت المباشرة على إذن الحاكم فيأثم بدونه خاصة. ولو قتل غير الولي من وجب عليه قصاص قتل به؛ لأنه محقوق الدم بالنسبة إلى غيره. "الروضة البهية ج2، ص401". ز- شروط استيفاء القصاص عند الظاهرية: أولا: أن يكون الجاني مكلفا -أي بالغا عاقلا- فلا قصاص على مجنون فيما أصاب في جنونه، ولا على من لم يبلغ، ولا على سكران فيما أصاب في سكره المخرج من عقله، وليس على واحد منهم دية ولا ضمان، وهؤلاء كالبهائم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث ... " الحديث. ثانيا: المكافأة بين الجاني والمجني عليه في الإسلام، فإن قتل مسلم عاقل بالغ ذميا أو مستأمنا عمدا أو خطأ فلا قصاص عليه ولا دية ولا كفارة؛ ولكن يؤدب في العمد خاصة، ويسجن حتى يتوب كفا لضرره؛ لأن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} جاءت في قتل المؤمن خاصة، ولا ذكر في هذه الآية لذمي أصلا ولا لمستأمن؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر". "المحلى ج10، ص344، 347". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الشروط التي اتفقوا عليها: لقد اتفق الفقهاء على اشتراط ثلاثة شروط لاستيفاء القصاص، بعضها في الجاني، وبعضها في المجني عليه، فإن لم تتوافر هذه الشروط سقط القصاص إما لا إلى بدل، أو إلى بدل عن القصاص؛ كالدية والتعزير، ونذكر هذه الشروط هنا بإيجاز؛ لأننا سنتناول بحثها تفصيلا في المقصد السادس من هذا النوع "الخاص بالظروف المبيحة أو المخففة لعقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي". الشرط الأول: أن يكون الجاني مكلفا، فإن كان صبيا أو مجنونا فلا يجب القصاص منه؛ لأن القصاص عقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة؛ لأن العقوبة لا تجب إلا بالجناية، وفعلهما لا يوصف بالجناية لعدم القصد الصحيح، ولأن العمد يترتب على العلم، والعلم لا يكون إلا بالعقل، والمجنون عديم العقل، والصبي قاصر العقل، فأنَّى يتحقق منهما القصد فصار في جنايته كالنائم؛ أي: أن جناية كل منهما تكون خطأ عند جمهور الفقهاء "على ما يأتي بيانه" فقد روي عن علي -رضي الله عنه- أنه جعل دية المجنون على عاقلته، وقال: عمده وخطؤه سواء، ولأن الصبي مظنة الرحمة، وقد استحق العاقل القاتل خطأ التخفيف حتى وجبت الدية على العاقلة، والصبي -وهو أعذر- أولى بهذا التخفيف. الشرط الثاني: أن يكون الصبي المجني عليه معصوم الدم، وعصمة الدم إما أن تكون بالإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" رواه مسلم، أو تكون بدار الإسلام، والإقامة بدار الإسلام لغير المسلمين إما أن تكون بعقد ذمة أو عقد أمان، فإن كانت بعقد ذمة، فالأصل فيه قوله جل شأنه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 صَاغِرُونَ} 1 فقد جعلت الآية الكريمة نهاية القتال قبولهم إعطاء الجزية، فإذا قبلوها فقد عصموا دماءهم وأموالهم، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة: "فإن هم أبوا -أي الإسلام- فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم" رواه مسلم. وقد روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا. وإن كانت العصمة بعقد أمان، فالأصل فيه قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} 2 فقد أباحت الآية للمسلمين السماح لغير المسلمين بدخول دار الإسلام لتحقيق غرض مشروع، ثم أمرت بأن يحافظ على المستأمن خلال فترة إقامته؛ حتى يصل إلى وطنه الذي جاء منه آمنا، فلا يباح الاعتداء على نفسه ولا على ماله ولا على عرضه، وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، هم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم". فإن كان المجني عليه غير معصوم كما لو حربيا، أو مرتدا، أو زانيا محصنا، أو مستحقا القصاص في حق ولي الدم، فإن دمه هدر؛ لأنه مستحق للقتل، وقدسبق أن بينا الأدلة التي أهدر بها دم هؤلاء3. وكذلك إن كان الجاني غير معصوم الدم، فإن قتله لا يكون قصاصا؛ لأن دمه مهدر، إما لكونه محاربا أو مرتدا أو زانيا محصنا. الشرط الثالث: ألا يكون المجني عليه صائلا على الجاني، فإذا كان الجاني في حالة دفاع عن النفس أو العرض أو المال فإنه لا يكون مسئولا عما   1 الآية 29 من سورة التوبة. 2 الآية 6 من نفس السورة. 3 راجع ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 أحدثه بمن أراد الاعتداء عليه ما دام لم يتجاوز الحد، وسيأتي تفصيل ذلك في الظروف المبيحة. "الشروط المختلف فيها": لما كان القصاص هو المساواة، فقد اختلف الفقهاء في اشتراط المكافأة بين الجاني والمجني عليه؛ بمعنى أن يكون الجاني مساويا للمقتول أو أقل منه في الإسلام، أو الحرية، أو الذكورة، وكذلك في العدد -كجماعة تقتل واحدا، أو واحد يقتل جماعة- أما إن كان الجاني أفضل فيسقط القصاص، وتجب الدية، ولما كانت دراسة هذه الأمور من الأهمية بمكان، فإننا نتناولها بالبحث -مع الترجيح- فيما يلي: أولا: اشتراط المكافأة في الدين: لا خلاف أنه إذا قتل مسلم مسلما أو ذمي ذميا قتل به، وكذلك إذا قتل واحد من هؤلاء مسلما قتل به، أما إذا قتل مسلم ذميا أو مستأمنا، فإن الفقهاء يختلفون في قتله به، فريقا يرى أنه لا يقتل به، وفريقا يرى قتله به، ونوضح ما استند إليه كل فريق. الرأي الأول: لا يقتل المسلم بالذمي والمستأمن: قال جمهور الفقهاء "المالكية، الشافعية، الحنابلة، الزيدية، الإمامية، الظاهرية، الإباضية"1 وهو قول عمر بن عبد العزيز، وعطاء، والحسن، وعكرمة، والزهري، وابن شبرمة، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر: لا يقتص من المسلم إذا قتل ذميا أو مستأمنا، وقد استدلوا بالسنة والقياس.   1 شرح النيل ج15، ص118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 أما السنة: فقد روي عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر، رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود والترمذي. فقد نهى عليه الصلاة والسلام عن أن يقتل مسلم بكافر، وهو بعمومه يشمل كل كافر ذميا كان أم مستأمنا. وعن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" رواه أحمد والنسائي وأبو داود وأخرجه الحاكم وصححه. وجه الاستدلال: أن الحديث ينهى عن قتل المؤمن بالكافر كالحديث المتقدم، وأما جملة: "ولا ذو عهد في عهده" فإنها جملة مستأنفة وردت لمجرد النهي عن قتل المعاهد؛ أي: أن الحديث احتوى على عدة أحكام "المكافأة بين دماء المؤمنين، يصح عقد الذمة من أدناهم، عدم قتل المسلم بالكافر، عدم قتل المعاهد خلال مدة عهده". وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه: أن مسلما قتل رجلا من أهل الذمة، فرفع إلى عثمان، فلم يقتله، وغلظ عليه الدية. قال ابن حزم: هذا غاية في الصحة، فلا يصح عن أحد من الصحابة شيء غير هذا إلا ما رويناه عن عمر أنه كتب في مثل ذلك أن يقاد به، ثم ألحقه كتابا فقال: لا تقتلوه، ولكن اعتقلوه1.   1 نيل الأوطار ج7، ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وأما القياس: فقد قالوا: إن القصاص يعتمد المساواة بين الجاني والمجني عليه وقت الجناية، ولا مساواة بين المسلم والذمي في هذا؛ لأن الكافر ناقص بكفره، والمسلم كامل بإيمانه، فلا يقتل المسلم به. وأيضا الذمي كافر، والكفر مبيح لدمه؛ لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 1 فقد أمر الله تعالى بقتالهم دفعا لفتنة الكفر، وهذا يدل على إباحة دمهم، فكون الذمي كافرا يورث شبهة الإباحة، والشبهة تسقط الحد، وبالأولى تسقط القصاص. الرأي الثاني: يقتل المسلم بالذمي: يرى الحنفية والشعبي والنخعي: أنه يقتل المسلم بالذمي، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والقياس. أما الكتاب: فعموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يوجب قتل المسلم بالذمي. وأما السنة: فقد استدلوا أيضا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود"، وبحديث علي رضي الله عنه -المذكور أنفا- وفيه: "ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده". ووجه الاستدلال بهذا الحديث: أن قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا ذو عهد في عهده"، معطوف على قوله: "مؤمن" فيكون التقدير: ولا ذو عهد في عهده بكافر، كما في المعطوف عليه. فالمراد بالكافر المذكور في المعطوف هو الحربي فقط، بدليل جعله   1 الآية 192 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 مقابلا للمعاهد؛ لأن المعاهد يقتل بمن كان معاهدا مثله من الذميين إجماعا. فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي كما قيد في المعطوف؛ لأن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقا، فيكون التقدير: لا يقتل مؤمن بكافر حربي ولا ذو عهد في عهده بكافر حربي. قال الطحاوي: ولو كانت فيه دلالة على نفي قتل المسلم بالذمي لكان وجه الكلام أن يقول: "ولا ذي عهد في عهده" وإلا لكان لحنا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يلحن، فلما لم يكن كذلك علمنا أن ذا العهد هو المعني بالقصاص، فصار التقدير: لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، قال: ومثله في القرآن الكريم: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فإن التقدير: اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن1. وقال الطحاوي أيضا: ولا يصح حمله على الجملة المستأنفة -كما فهم أصحاب الرأي الأول- لأن سياق الحديث فيما يتعلق بالدماء التي يسقط بعضها ببعض؛ لأن في بعض طرقه: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم"، ولأن جعله كلاما تاما في نفسه يؤدي إلى ألا يقتل ذو عهد مدة عهده حتى وإن قتل مسلما، وليس هذا بصحيح بالإجماع، فيقدر: ولا ذو عهد في عهده بكافر، على طريقة قوله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} . فالحديث يدل بمنطوقه على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربي، وكذلك لا يقتل ذو العهد بالكافر الحربي، ويدل بمفهومه على أن المسلم يقتل بالذمي2.   1 الآية 4 من سورة الطلاق ويراجع فتح الباري ج12، ص212، ط أولى. 2 نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص8 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فإن قيل: ما كيفية قتل المسلم بالحربي حتى صح نفيه بالحديث وقتلهم واجب؟ فالجواب من جهتين: إحداهما: أنه إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان فقتل كافرا حربيا، فقتله حرام، ولكن لا يقتص منه. والثانية: أن يقتل المسلم من لا يحل قتله من أهل دار الحرب كالنساء والصبيان فقتهلم حرام، ولكن لا يقتص منه أيضا، وبهذا يظهر أن للنص على ذلك في الحديث فائدة ظاهرة. كما استدلوا بما أخرجه الطبراني أن عليا أُتي برجل من المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة، فقامت عليه البينة، فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال: إني قد عفوت، قال: فلعلهم هددوك، وفرقوك، وقرعوك1، قال: لا، ولكن قتله لا يرد علي أخي، وعرضوا لي، ورضيت، قال: أنت أعلم، من كان له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا2. وهذا الأثر واضح في دلالته على عصمة دماء أهل الذمة، وأنه إذ قتل مسلم واحدا منهم قتل به. كما استدلوا بما روى محمد بن الحسن عن إبراهيم -رحمهما الله- أن رجلا من المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة، فرفع ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أنا أحق من وفى بذمته"، ثم أمر به فقتل. ورد عليهم بأن مدار هذا الحديث على ابن البيلماني، وهو ضعيف، قال صالح بن محمد الحافظ رحمه الله: ابن البيلماني حديثه منكر، روى عنه ربيعة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل مسلما بمعاهد، وهو مرسل منكر، وقال الدارقطني:   1 فرقوك: مأخوذ من الفَرَق -بفتحتين- الخوف، وقرعوك: أي عنفوك، وشددوا عليك. 2 نيل الأوطار ج7، ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ابن البيلماني لا يقوم به حجة إذا وصل فيكف إذا أرسل1. وقد أجابوا عن ذلك بأن الطعن بالإرسال والطعن المبهم من أئمة الحديث غير مقبول كما عرف في الأصول2. كما استدلوا بالقياس فقالوا: إن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، والنفس أعظم حرمة من المال، فإذا قتله المسلم اقتص منه. وأيضا فإن القصاص يعتمد المساواة في العصمة، وهي ثابتة؛ نظرا إلى التكليف؛ لأنه مخاطب عن الشافعية، أو دار الإسلام، عند الحنفية فيثبت القصاص.   1 الحديث المرسل: هو ما سقط منه الصحابي بأن رفعه التابعي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- صريحا أو كناية، وقيل غير ذلك، واختلفوا في الاحتجاج به؛ فذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وأبو حنيفة وأتباعهم من الفقهاء والأصوليين والمحدثين إلى الاحتجاج به في الأحكام وغيرها، وذهب أكثر أهل الحديث إلى أن المرسل ضعيف، نعم إذا اعتضد المرسل بمسند يجيء من وجه آخر صحيح أو حسن أو ضعيف أو بمرسل آخر أرسله من روى عن غير شيوخ راوي المرسل الأول بحيث يظن عدم اتحادهما، فهو حجة مقبولة عند الجميع، كما إذا اعتضد بموافقة قول بعض الصحابة أو بفتوى عوام أهل العلم، ويعتضد أيضا بالقياس وفعل الصحابي وعمل أهل العصر، وكل ما اعتضد به المرسل فهو دال على صحة مخرجه فيحتج به، لا يحتج بما لم يعتضد، والحديث المنكر هو الذي لا يعرف متنه من غير جهة راويه. 2 العناية هامش فتح القدير ج8، ص256، وراجع فتح الباري ج12، ص213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وأما قولهم: إن مطلق الكفر مبيح للقتل، فغير مسلم؛ لأن المبيح كافر المحارب، قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية1، فقد جعل الله تعالى إقرارهم بالجزية منهيا لقتالهم فإذا أعطوها عصموا دماءهم إلا بحقها، كما وضح هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أجابوك -أي قبلوا إعطاء الجزية- فاقبل منهم وكف عنهم" 2، ولو كان المبيح لقتلهم مجرد الكفر لحل لنا قتل نساء الكفار المحاربين وصبيانهم وكهنتهم غير المشتركين في الحرب، أما وقد حرم الله قتل هؤلاء فإن هذا يكون دليلا على أن المبيح لقتلهم كفر المحارب لا مطلق الكفر. وأما قولهم: إن الكفر يورث شبهة الإباحة، فإن هذا القول ينفيه القول بقتل الذمي بالذمي إجماعا، فإن في ذلك دليلا على أن كفر الذمي لا يورث الشبهة؛ إذ لو أورثها لما جرى القصاص بينهما، كما لا يجرى بين الحربيين. الترجيح: واستنادا إلى ما استدل به القائلون بقتل المسلم بالذمي من عموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وقوله صلى الله عليه سلم: "العمد قود"، وتفسير الحديث: "ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"، والأخبار التي ذكرناها آنفا، ثم القياس، تيضح لنا قوة هذا الرأي، ويضاف إلى ذلك أن عدم قتله به قد يؤدي إلى أن يثأر أهل المقتول من القاتل، باذلين جهدهم في إخفاء جنايتهم حتى لا يقتص منهم، كما أنه قد يؤدي إلى أن بعض الحمقى من المسلمين قد يقدمون على قتل أهل الذمة، ويؤدي هذا إلى تتابع القتلى، وهذا لا يحقق الغرض الذي شرع من أجله القصاص {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، كما أنه ينشر الفساد بين الناس   1 الآية 29 من سورة التوبة. 2 راجع نيل الأوطار ج7، ص230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وأيضا فإن عقد الذمة هو طريق فتحه الإسلام لغير المسلمين؛ لكي يتعرفوا على سماحة الإسلام عن كثب، ويلمسوا عدالته عن قرب، ويعرفوا حقيقة هذا الدين، فإذا تحققوا من ذلك اعتنقوه، فإذا كان عقد الذمة طريقا إلى الإسلام كان القول بإيجاب القصاص على من قتل ذميا -مسلما كان القاتل أو غير مسلم- محققا لهذا الغرض تحقيقا تاما، ومبينا أن الإسلام دين العدالة، ودين الإنسانية الذي كرم الإنسان لذاته؛ لأنه بنيان الله، ولعن من هدمه، وحذر من قتله، ولقد سبق أن روينا تحذير الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قتل المعاهد بقوله: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما" رواه البخاري. قتل المسلم بالمستأمن: يرى جمهور الفقهاء -ومنهم الحنفية، عدا الإمام أبي يوسف- ألا يقتل المسلم بالمستأمن؛ وذلك لأن عصمة دمه لم تثبت مطلقة كما ثبتت لمن اكتسبها بعقد الذمة؛ لأن عقد الذمة عقد أبدي؛ بل ثبتت مؤقتة إلى غاية مقامه في دار الإسلام؛ لأن المستأمن من أهل دار الحرب؛ وإنما دخل دار الإسلام لا لقصد الإقامة؛ بل لعارض حاجة يدفعها ثم يعود إلى وطنه الأصلي، فيصبح محاربا كما كان، فكان في عصمته شبهة، والشبهة تسقط الحد، فكذلك القصاص. ويرى الإمام أبو يوسف أن المسلم يقتل بالمستأمن قصاصا؛ وذلك لأنه بعقد الأمان قد اكتسب العصمة، والعصمة قائمة وموجودة وقت القتل1، فكانا متساويين في العصمة، وإذا تساويا في ذلك كان القصاص   1 بدائع الصنائع ج7، ص232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ثانيا: التكافؤ في الحرية: اتفق الفقهاء على أن العبد يقتل بالحر؛ لأن العبد أنقص من الحر. أما قتل الحر بالعبد، فإنهم اختلفوا فيه إلى ثلاثة آراء: رأي يرى أنه لا يقتل به مطلقا، وآخر يرى قتله بعبد غيره دون عبده، وثالث يرى قتله به مطلقا، ولكل أدلته. الرأي الأول: لا يقتل الحر بالعبد: يرى جمهور الفقهاء "الشافعية والمالكية والحنابلة والزيدية والإمامية والإباضية1، وحكي في البحر عن علي وعمر وزيد بن ثابت وابن الزبير والعترة جميعا، وحكاه صاحب الكشاف عن عمر بن عبد العزيز والحسن عطاء وعكرمة" أنه لا يقتل الحر بالعبد، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والقياس. أما الكتاب: فيما يفيده قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} 2 فإن تعريف المبتدأ بـ"أل" يفيد الحصر؛ أي: أن الحر لا يقتل إلا بالحر، والعبد لا يقتل إلا بالعبد، وهذا يفيد أنه لا يقتل بغير الحر. وأيضا فإن مقابلة الحر بالحر   1 جاء في شرح النيل ج15، ص75: "ولا يقتل حر بعبد، وقال بعض قومنا: يقتل، وقال بعض منهم: إن كان القتل حرابة أو غيلة قتل به وإلا فلا، والمذهب ألا يقتل حر بعبد؛ لأنه مال". 2 الآية 187 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 والعبد بالعبد مقابل الجنس بالجنس، ومن ضرورة المقابلة ألا يقتل الجنس بغير جنسه. ولأنه تعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} والقصاص هو المساواة، وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} تفسير للمساواة، ولا مساواة في قتل الحر بالعبد؛ لأن الحر مالك والعبد مملوك، والمالكية أمارة القدرة، والمملوكية أمارة العجز، قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ... } الآية1، فلا مساواة بينهما، ولأن لحرية حياة والرق موت حكما بدليل أنه إذا أعتقه مولاه نسب إليه بالولاء. وأما قوله تعالى في سورة المائدة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 2 فمطلق، وهذه الآية مقيدة ومبينة، والمطلق يحمل على المقيد، كما أنه آية البقرة صريحة لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، وآية المائدة سيقت في أهل الكتاب وشريعتهم، وإن كانت شريعة من قبلنا شريعة لنا؛ لكنه وقع في شريعتنا التفسير بالزيادة والنقصان كثيرا، فيقرب أن هذا التقييد من ذلك وفيه مناسبة؛ إذ فيه تخفيف ورحمة، وشريعة هذه الأمة أخف من شرائع من قبلها، فإنه وضع عنهم الآصار التي كانت على من قبلهم3. والقول بأن آية المائدة نسخت آية البقرة لتأخرها مردود بأنه لا تنافي بين الآيتين؛ إذ لا تعارض بين عام وخاص، ومطلق ومقيد حتى يصار إلى النسخ، ولأن آية المائدة متقدمة حكما، فإنها حكاية لما حكم الله تعالى به في التوارة، وهي متقدمة نزولا على القرآن.   1 الآية 75 من سورة النحل. 2 الآية 45 من سورة المائدة. 3 سبل السلام ج3، ص305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وأما السنة: فقد استدلوا منها بما يأتي: روي عن إسماعيل بن عياش عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلا قتل عبده صبرا متعمدا، فجلده النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة جلدة ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده به، وأمره أن يعتق رقبة. وإسماعيل بن عياش فيه ضعف إلا أن الإمام أحمد قال: ما روي عن الشاميين صحيح، وما روي عن أهل الحجاز فليس بصحيح "والأوزاعي من الشاميين". كما أخرج ابن أبي شيبة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد". وأخرج البيهقي من حديث علي رضي الله عنه: "من السنة ألا يقتل حر بعبد"، وفي إسناده جابر الجعفي، ومثله عن ابن عباس، وفيه ضعف. فهذه الأخبار جميعها تدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد. وأما القياس: فقد قالوا: إنه لا يقطع طرف الحر بطرف العبد عند جمهور الفقهاء1، مع أن الطرف أهون وأقل حرمة لكونه تبعًا للنفس، فلأن لا يجب القصاص في النفس -وهي أعظم حرمة- أولى، بخلاف العكس "قتل العبد بالحر"؛ لأنه تفاوت إلى نقصان فلا يمتنع، كما في المسلم والمستأمن.   1 هذا القياس لا يكون حجة إلا على من قال بألا يقطع طرف الحر بطرف العبد، فهو قياس على أمر مختلَف فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وقالوا أيضا: إن الرق أثر للكفر، فيوجب شبهة الإباحة كحقيقته فصار كالمستأمن1. وإذا سقط القصاص عن الحر القاتل للعبد وجب على من قتله قيمته بالغة ما بلغت ولو تجاوزت دية الحر. الرأي الثاني: يقتل الحر بعبد غيره لا بعبده: يرى الحنفية "وحكاه صاحب الكشاف عن سعيد بن المسيب والنخعي وقتادة والثوري" أنه يقتل الحر بالعبد، إلا إذا كان القاتل للعبد سيده، فإنه لايقاد به، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة. أما الكتاب: فقد استدلوا بعموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فإن الآية اضحة الدلالة في إيجاب قتل النفس بالنفس مطلقا، حرا كان القاتل أم عبدا، ذكرا أم أثنى. وأيضا فإن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية، يقتضي وجوب القصاص بسبب كل قتل إلا ما قام الدليل على تخصيصه من هذا الحكم. ولا يعارض قوله تعالى في الآية: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} ، قوله في آية المائدة: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ؛ لأن المقابلة في الأولى مقيدة، وفي هذه مطلقة فلا يحمل المطلق على المقيد. ولا حجة لهم في الآية أيضا؛ لأن فيها أن قتل الحر بالحر، والعبد بالعبد   1 سبق بيان أن أبا يوسف من علماء الحنفية يرى عصمة دم المستأمن خلال فترة أمانه. راجع ص193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قصاص، وهذا لا ينفي أن يكون قتل الحر بالعبد قصاصا؛ لأن التنصيص لا يدل على التخصيص، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة". ثم البكر إذ زنى بالثيب وجب الحكم الثابت بالحديث، فدل على أنه ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم به. فما نصت عليه الآية ليس إلا ذكر بعض ما شمله عموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} على موافقه حكمه، وذلك لا يوجب تخصيص ما بقي مما لم تنص عليه، ويدل على ذلك أنه قابل "الأنثى بالأثنى والذكر بالذكر"، ولا يمنع هذا من مقابلة الذكر بالأنثى في القصاص، وكذلك لا يمنع من مقابلة العبد بالحر حتى يقتل العبد بالحر بالإجماع، فكذا العكس إذ لو منع ذلك لمنع العكس أيضا. أيضا فإن في مقابلة الأنثى بالأنثى دليلا على جريان القصاص بين الحرة والأمة. وفائدة مقابلة "الحر بالحر والعبد بالعبد" في الآية ما نقل عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: كانت المقابلة بين بني النضير وبين بني قريظة، وكانت بنو النضير أشرف، وكانوا يعدون بني قريظة على النصف منهم، فتواضعوا على أن العبد من بني النضير بمقابلة الحر من بني قريظة، والأنثى منهم بمقابلة الذكر من بني قريظة، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم، وبيانا أن الحر بمقابلة الحر، والعبد بمقابلة العبد، والأنثى بمقابلة الأنثى من القبيلتين جميعا، فكانت اللام لتعريف العهد لا لتعريف الجنس. أما السنة: فقد استدلوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود"، فهو يدل على أن موجب القتل العمد القصاص، سواء كان القاتل حرا أم عبدا، ذكرا أم أنثى، مسلما أم غير مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ... " الحديث1، ويدل على أن دماء المسلمين متساوية لا فرق بين حر وعبد. وروي عن عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: "يقتل الحر بالعبد". الرد على أدلة أصحاب الرأي الأول: أما قولهم: إن الحر والعبد غير متساويين، فإن المساواة المعتبرة هنا هي المساواة في العصمة؛ لأن العصمة إما أن تكون بالدين أو بالدار، وهي متوافرة فيهما، فيجري القصاص بينهما حسما لمادة الفساد، وتحقيقا لمعنى الزجر، ولو اعتبرت المساواة في غير العصمة لما جرى القصاص بين الذكر والأنثى. والقصاص يجب باعتبار أن العبد آدمي، ولم يدخل في الملك من هذا والوجه؛ بل هو مبقي على أصل الحرية من هذا الوجه؛ ولهذا يقتل العبد بالعبد، وكذا يقتل العبد بالحر، ولو كان مالا لما قتل، وكذا عجز العبد عن التصرف وبقاء أثر كفره -وهو الرق- إنما هو أمر حكمي، فلا يؤثر ذلك في سقوط العصمة ولا يورث شبهة، ولو أورث شبهة لما جرى القصاص بين العبيد بعضهم ببعض. كما أجابوا عن القياس على عدم جريان القصاص بين طرف الحر والعبد، فقالوا: وجوب القصاص في الأطراف يعتمد المساواة في الجزء المبان بعد المساواة في العصمة؛ ولهذا لا تقطع الصحيحة بالشلاء، وفي النفس لا يشترط ذلك حتى يقتل الصحيح بالزمن وبالمفلوج، ولا مساواة بين   1 تقدم نص الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أطراف الحر والعبد إلا في العصمة، فأظهرنا أثر الرق فيها دون النفس؛ لما أن العبد من حيث النفس آدمي مكلف خلق معصوما. عدم قتل السيد بعبده: كما استدل أصحاب هذا الرأي على أن السيد لا يقاد بقتل عبده، بما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده" أخرجه البيهقي، إلا أنه من رواية عمر بن عيسى، يذكر عن البخاري أنه منكر الحديث، كما أخرج البيهقي أيضا من حديث ابن عمرو في قصة زنباع لماجب عبده، وجدع أنفه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من مثل بعبده وحرق بالنار فهو حر، وهو مولى الله ورسوله"، فأعتقه -صلى الله عليه وسلم- ولم يقتص من سيده، إلا أن فيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف، ورواه عن الحجاج بن أرطاة من طريق آخر لا يحتج به. الرأي الثالث: يقتل الحر بالعبد مطلقا: يرى النخعي والثوري وابن أبي ليلى وبعض الإباضية أنه يقتل الحر بالعبد مطلقا، سواء كان المقتول عبدا للقاتل أم عبدا لغيره، ويرى هذا الظاهرية أيضا، كما يرون أنه يقتص من الحر للعبد في كل ما يستطاع القصاص فيه من الأعضاء والجراحات1، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة "مع مراعاة أن جميع الأدلة التي استدل بها أصحاب الرأي الثاني هي أدلة لهم عدا ما اختلفوا فيه معهم، وهو عدم قتل السيد بعبده". أما الكتاب: فعموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ   1 روى ابن رشد في بداية المجتهد ج2، ص398 عن الإمام مالك أنه يقتص من الأعلى الحر للأدنى العبد في النفس والجرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} حيث لم تفرق الآية بين حر وعبد، ولا بين عبد لنفسه وعبد لغيره. وأما السنة: فقد استدلوا أولا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافا دماؤهم ... "، فإنه يدل على عدم التفرقة في الحكم بين دماء المسلمين، وكذلك عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "العمد قود" يقضي بإيجاب القصاص على من قتل عمدا دون تفرقة بين حر وعبد مملوك للغير أو مملوك للقاتل. كما استدلوا ثانيا بما روي عن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه" رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري عن سمرة1. وفي رواية أبي داود والنسائي بزيادة: "ومن خصي عبده خصيناه"، وصحح الحاكم هذه الزيادة. وقد ضعف ابن العربي هذا الحديث قائلا: "ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه. ورووا حديث سمرة، وهو حديث ضعيف، ودليلنا قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} والولي هاهنا هو السيد، فكيف يجعل له سلطان على   1 قد اختلف في سماع الحسن البصري عن سمرة على ثلاثة أقوال: قال ابن معين: لم يسمع الحسن منه شيئا، وإنما هو كتاب، وقيل: سمع منه حديث العقيقة، وأثبت ابن المديني سماع الحسن من سمرة "سبل السلام ج3، ص304". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 نفسه، وقد اتفق الجميع على أن السيد إذا قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال". وقد رد عليه القرطبي مؤكدا صحة هذا الحديث فقال: "قلت: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح؛ أخرجه النسائي وأبو داود، وقال البخاري عن علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بهذا الحديث، وقال البخاري: وأنا أذهب إليه، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان، وحسبك بهما"1. الترجيح: والذي يظهر لنا هو رجحان الرأي الأخير لما يأتي: أولا: أن الأدلة التي استند إليها أصحاب الرأي الثاني "القائلون بالقصاص بين الحر والعبد في النفس"2 من الكتاب والسنة تؤيد عدم التفرقة بين الحر والعبد المملوك للقاتل وغير المملوك له. وحديث سمرة واضح الدلالة على إيجاب القصاص بين الحر وعبده في النفس وما دونها، وهذا الحديث يرد على قولهم: إن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال؛ لأن القياس لا يقوى على معارضة النص. ثانيا: أن قولهم: إن الحر يساوي العبد في العصمة؛ لأنها إما أن تكون بالإسلام أو بالإقامة في دار الإسلام، وعلى كلا الأمرين وجدت العصمة في العبد، وإذا كان معصوما كان مساويا للحر، فيقتص له منه إن قتله عمدا، وهذا المعنى متحقق في العبد المملوك لقاتله، أو المملوك لغيره، فإن الرق   1 الجامع لأحكام القرآن ج2، ص249. 2 راجع ص146، 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 أمر عارض لا يؤثر على آدميته1، وإنما يؤثر على بعض تصرفاته، فمن ناحية آدميته فهو مساو له تماما، أما الأمور العارضة فلا مدخل لها في الجنا على الآدمي؛ لأنها هدم لبنيان الله تعالى الذي لعن من يهدمه، وتوعده بالعذاب الشديد، أيا كان القاتل مسلما أم ذميا، حرا أم عبدا، ذكرا أم أنثى, أيا كان المقتول مسلما أم ذميا، حرا أم عبدا، مملوكا لقاتله أو مملوكا لغيره، ذكرا أم أنثى. ثالثا: أن القول بعدم القصاص بين الحر والعبد يساعد على تفشي الجرائم وقتل السادة العبيد دون أن تقع عليهم عقوبة رادعة لهم وزاجرة لغيرهم عن مثل هذا العمل المحرم، وهذا يتنافى مع حكمة مشروعية القصاص؛ وهي إحياء النفوس، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، ومع عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".   1 فقد جاء في البدائع ردا على من يقول: إن العبد آدمي من وجه ومال من وجه: "قلنا: لا بل آدمي من كل وجه؛ لأن الآدمي اسم لشخص على هيئة مخصوصة منسوب إلى آدم عليه الصلاة والسلام، والعبد بهذه الصفة، فكانت عصمته مثل عصمة الحر، بل فوقها، على أن نفس العبد في الجناية له لا لمولاه، بدليل أن العبد لو أقر على نفسه بالقصاص والحد يؤخذ به، ولو أقر عليه مولاه بذلك لا يؤخذ به، فكان نفس العبد في الجناية له لا للمولى، كنفس الحر للحر" ج7، ص138. 2 الآية 13 من سورة الحجرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ثالثا: التكافؤ في الذكورة والأنوثة: اختلف الفقهاء في اعتبار مكافأة الجاني للمجني عليه في الذكورة والأنوثة إلى خمسة أقوال1: الرأي الأول: قال الليث بن سعد: إذا جنى الرجل على امرأته وجبت عليه ديتها، ولم يتقص منه؛ وذلك لأن النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج. ويفهم من هذا أن ما عدا جناية الزوج على زوجه يكون فيه القصاص بين الرجل والمرأة عند الليث. ولعل الشبهة التي يراها الليث هنا مردها أن عقد النكاح قد أجاز للزوج في الحالات التي لا يجدي فيها العظة أو الهجر أن يضرب زوجه، قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ... } 2. فالضرب مباح، ولكن النتيجة غير مباحة، ومثل هذه الجناية لا تكون عمدًا. إلا أنه قد فات الليث بن سعد أن نوع الضرب قد حددته السنة؛ فقد روي على الرسول صلى الله عليه وسلم: "اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح".   1 المراجع: القرطبي ج2، ص249، ونيل الأوطار ج7، ص16، 17، وأحكام القرآن للجصاص ج1، ص162، والتاج المذهب ج4، ص266. 2 الآية 34 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 قال عطاء: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالسواك ونحوه1. وقد وضح الفقهاء -كما سبق بيانه- أن الضرب للتأديب لا بد من أن يكون بآلة وضعت له عرفا وعادة، وهي لا تقتل قطعا ولا غالبا، فإن كان بآلة تقتل قطعا أو غالبا كانت الجناية عمدا موجبا القصاص، سواء أراد التأديب أو لم يرد، عند جمهور الفقهاء. الرأي الثاني: قال الحسن وعثمان البتي: إذا قتلت امرأة رجلا قتلت به وأخذ من مالها نصف الدية، وكذلك إن أصابته بجراحة، وأما إن كان الرجل هو الذي قتل المرأة أو جرحها فعليه القود، ولا يرد عليه شيء. وهذا القول أيضا يرده ظاهر الآيات الموجبة للقصاص اكتفاء دون زيادة، والقول به يوجب حكما زائدا على النص، وهذا لا يكون إلا بنص، ولا يوجد نص. الرأي الثالث: قال الزيدية والإمامية والإباضية2: إذا قتل الرجل المرأة خير ولي الدم بين أن يقتص ويدفع نصف الدية لورثة الرجل، أو يعفو ويأخذ الدية؛ وذلك لما روي عن عطاء والشعبي والحسن البصري أن عليا -رضي الله عنه- قال في الرجل يقتل المرأة عمدا:   1 راجع القرطبي ج5، ص173. 2 جاء في شرح النيل ج15، ص73: "وإن قتل رجل امرأة قتل بعد أن يردوا لورثته نصف ديته إلا إن قتلها فتكا فإنهم يقتلونه بلا رد"، كما جاء في نص 95: "وصح القود إن قد أحدهما صاحبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 "إن شاءوا قتلوه وأدوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل". وأما إذا قتلت المرأة رجلا أو رجالا قتلت بهم، ولا مزيد على ذلك؛ لئلا يلزمها غرامة في مالها وبدنها، قاله الزيدية. الرأي الرابع: قال جمهور الفقهاء: الحنفية "في جناية القتل لا الجراحات" والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول جمهور كبير من الفقهاء1: يقتص من الرجل للمرأة، ومن المرأة للرجل في النفس وما دنها، دون الرجوع بشيء، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة وما يقارب الإجماع والقياس. أما الكتاب: فالآيات الكريمة الموجبة للقصاص في الأنفس بين الجمع دون تفرقة بين حر وعبد، توجب القصاص أيضا في النفس وما دونهما بين الرجل والمرأة. ومنها قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ... } الآية.   1 أخرج البيهقي عن أبي الزناد أنه قال: كان من أدركته من فقهاء الذين ينتهى إلى قولهم؛ منهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، في مشيخة جلة من سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل أن المرأة تقاد من الرجا عينا بعين، وأذنا بأذن، وكل شيء من الجراح على ذلك، وإن قتلها قتل بها، ورويناه عن الزهري وغيره، وعن النخعي والشعبي وعمر بن عبد العزيز، وهو رأي ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ... } الآية. وقد ناقش الفقهاء ما يستفاد من ظاهر الآية الثانية من اعتبار الموافقة بين الجاني والمجني عليه في الحرية والذكورة والأنوثة، وبينوا أنه ليست الآية الثانية ناسخة للأولى، أو مخصصة لعمومها، أو مقيدة لإطلاقها، كما أوضحنا هذا فيما تقدم1، فلا داعي لإعادته. وقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ... } الآية. وأما السنة: فمنها ما روي عن أنس: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان أو فلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومأت برأسها، فجيء به فاعترف، فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فرض رأسه بين حجرين. رواه الجماعة. فالحديث يدل على أنه يقتل الرجل بالمرأة كما هو رأي جمهور الفقهاء، وحكى ابن المنذر الإجماع عليه إلا رواية عن علي وعن الحسن وعطاء2. وأيضا فقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث أنس بن النضر حينما كسرت الربيع ثنية جارية أن: "كتاب الله القصاص" 3. كما روي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن كتابا، وكان في كتابه: " ... إن الرجل يقتل بالمرأة ... " رواه النسائي، وقد صححه جماعة من أئمة الحديث4   1 راجع ص147. 2 نيل الأوطار ج7، ص16، 17. 3 تقدم نص الحديث. 4 منهم الإمام أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي، وصححه من حيث الشهرة لا الإسناد الشافعي. وقال ابن عبد البر: "ويستغنى بشهرته عن الإسناد؛ لأنه أشبه المتواترة ... " نيل الأوطار ج7، ص17، 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإن قتلت -أي المرأة- فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلها" رواه الخمسة إلا الترمذي. فالأحاديث تدل على أن الواجب في قتل الرجل المرأة القصاص من الرجل، ولو وجب مع القصاص مال يدفع لورثة الرجل لصرح به. واختلف عن علي -رضي الله عنه- في المسألة، فروى ليث عن الحكم عن علي وعبد الله قالا: "إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود". وروى عطاء والشعبي والحسن البصري أن عليا قال: "إن شاءوا قتلوه وأدا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل". وقد ناقش أبو بكر الجصاص ما روي عن علي -رضي الله عنه- فقال: "ما روي عن علي من القولين في ذلك مرسل؛ لأن أحدا من رواته لا يسمع من علي شيئا، ولو ثبتت الروايتان كان سبيلهما أن تتعارضا وتسقطا، فكأنه لم يرو عنه في ذلك شيء. وما رواه الحكم عن علي في إيجاب القود دون المال أولى لموافقتها "أي هذه الرواية" لظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، كما أن سائر الآيات الموجبة للقود ليس في شيء منها ذكر الدية، وغير جائز أن يزيد في النص إلا بالنص مثله "لأن الزيادة في النص توجب النسخ ... ". وأما دعوى الإجماع: فالأصل فيه ما روي عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قتل نفرا من صنعاء بامرأة "واحدة" أقادهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 بها، قالوا: ولم يظهر خلاف من أحد من نظرائه مع استفاضة ذلك، وشهرته عنه، ومثله يكون إجماعا، وأيضا فقد حكى ابن المنذر الإجماع عليه كما ذكرنا آنفا. وأما القياس: فإن قتل الرجل بالمرأة دون اعتبار لعدم المساواة بينهما -عند جمهور الفقهاء- في الذكورة والأنوثة يقاس على قتل العاقل بالمجنون، والرجل بالصبي1، والصحيح بالأشل، ففي المقيس عليه لم يظهر لعدم المساواة بين الجاني والمجني عليه فيما ذكرنا أثر في إيجاب القصاص من الجاني، فكذلك لا يظهر هذا الأثر في قتل الرجل بالمرأة اكتفاء، دون إيجاب بدل مالي؛ لأن "النفس بالنفس". الرأي الخامس: قال الحنفية "وهو قول حماد بن أبي سليمان وابن شبرمة والشعبي وإبراهيم": يقتص من الرجل للمرأة في النفس دون الرجوع بشيء، وأما فيما دون النفس فلا يقتص منه لها، وأدلتهم على إيجاب القصاص في النف فقد قالوا في تعليله: إن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال؛ لأنها خلقت وقاية للأنفس كالأموال، فالواجب أن يعتبر التفاوت المالي مانعا مطلقا من القصاص فيها؛ وذلك لأنه لا مماثلة بين طرف الذكر وطرف الأنثى للتفاوت بينهما في القيمة "الدية" بتقويم الشارع؛ إذ إن دية الرجل مختلفة عن دية   1 تقدم ص182 ذكر رأي للإمامية يقضي بأنه يشترط لاستيفاء القصاص كمال العقل في الجاني والمجني عليه، فلا يقتل عاقل بمجنون ولا بصبي على أصح القولين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الأنثى1، والقصاص في الأطراف "عند الحنفية" لا يجري إلا بين مستوى الدية. الترجيح: والذي يظهر لنا مما تقدم هو رجحان الرأي الرابع الذي يقضي بإيجاب القصاص من الرجل للمرأة، ومن المرأة للرجل في النفس وما دونها دون الرجوع بشيء؛ وذلك لما يأتي: أولا: قوة الأدلة التي استندوا إليها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والإجماع والقياس، وعدم تفريق هذ الأدلة في القصاص بين الرجل والمرأة، وبين النفس وما دونها، مما يؤثر على رأي المخالفين لهذا الرأي جميعا. ثانيا: أن اشتراط المكافأة في الذكورة والأنوثة لاستيفاء القصاص في النفس وما دونها لا يتفق والحكمة من مشروعية القصاص التي هي حقن الدماء وحياة النفوس، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ... } لأن ترك القصاص بينهما يؤدي إلى إتلاف نفوس الإناث، لأمور أشار إليها الإمام الشوكاني: منها: مخافة توريثهن. ومنها: مخافة العار، لا سيما عند ظهور أدنى شيء منهن لما بقي في القلوب من حمية الجاهلية التي نشأ عنها وأد البنات. ومنها: كونهن مستضعفات لا يخشى من رام قتلهن أن يناله من المدافعة   1 المسألة خلافية، راجع نيل الأوطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ما يناله من الرجال؛ لأن المرأة بطبيعتها ضعيفة التكوين، مما يسهل -غالبا- قهر الرجل لها وإيقاعه الضرر بها. فلا شك أن الترخيص في ذلك من أعظم الذرائع المفضية إلى هلاك النفوس، ولا سيما في مواطن الأعراب المتصفين بغلظ القلوب وشدة الغيرة والأنفة اللاحقة بما عليه أهل الجاهلية1. رابعا: المساواة في العدد: ومن المسائل التي تبدو مخالفة لمبدأ المكافأة والمساواة بين القاتل والمقتول قتل الجماعة واحدا، وعكسه قتل الواحد جماعة، وقد اختلف الفقهاء في الحكم إذا وقعت مثل هذه الجناية، ونعرض فيما يلي آراءهم مشفوعة بأدلتها: أ - قاتل الجماعة بالواحد: اختلف الفقهاء في قتل الجماعة بالواحد إلى طائفتين: طائفة لا ترى قتل الجماعة بالواحد، وأخرى ترى قتلهم به. الرأي الأول: عدم قتل الجماعة بالواحد: يرى فريق من الفقهاء عدم قتل الجماعة بالواحد، إلا أن فريقا منهم يرى إيجاب الدية فقط، وقد حكي هذا عن الإمام أحمد في رواية، وهو قول ابن الزبير والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وربيعة وداود بن المنذر، وحكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس. ويروى عن معاذ بن جبل وابن الزبير وابن سيرين والزهري أنه يقتل واحد منهم ويؤخذ من الباقين حصصهم من الديات.   1 نيل الأوطار الشوكاني ج7، ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 قد استدلوا على عدم قتل الجماعة بالواحد بالكتاب والقياس: أما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى شرط المساواة بين القاتل والمقتول بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ... } وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، والقصاص هو المساواة، ولا مساواة بين الجماعة والواحد بداهة وعقلا، فإذا قتلت جماعة واحدا لا يقتلون به؛ لما فيه من الظلم على المعتدين؛ لأن الواحد منهم مماثل للمقتول، فكيف يكون جميعهم مساوين له!! وأيد هذا قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... } فإنه يدل على أن النفس الواحدة تقتل بالنفس الواحدة، ولا تقتل الجماعة بالواحد، وإلا لما كانت نفس بنفس، بل نفوس بنفس، وهذا يخالف النص، فلا يصح. وأما القياس: فوجهه أن التفاوت بالأوصاف يمنع القصاص، بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد1، فالتفاوت في العدد أولى بأن يمنع القصاص. وأيضا فإن كل واحد من الجناة مكافئ المقتول، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد. ولم نعثر على أدلة للقائلين بقتل واحد من الجماعة فقط وأن يؤخذ من الباقين حصصهم من الدية، ولعلهم يجعلون هذا الحق لولي الدم، فهو الذي يختار من يقتص منه، ثم يأخذ من الباقين حصصهم من الدية، إلا أن هذا تحكم يحتاج إلى دليل، ولا دليل، فإن الكل قد اشتركوا في الجناية، فإما أن نوجب عليهم القصاص جميعا، أو نسقطه عنهم جميعا، والوسيلة إلى إسقاطه هي ما شرعه الله من العفو ببدل أو بغير بدل، ويكون هذا الحق بقسميه ثابتا لولي الدم ابتداء بالنسبة لجميعهم؛ لأنهم متساوون في الفعل الموجب لهذا الحكم.   1 هذا يتمشى مع رأي القائلين بعدم إيجاب القصاص من الحر للعبد، ولا يتمشى مع رأي المخالفين، كما سبق أن بينا هذا ص200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الرأي الثاني: تقتل الجماعة بالواحد: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية والإمامية والإباضية1، وهو المروي عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور": أن الجماعة إذا قتلت واحدا قتلت به قصاصا، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. أما الكتاب: فقد نص القرآن الكريم على أن العقوبة الأخروية لقاتلي نفس واحدة عقوبة متساوية تلحقهم جميعا، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ... } الآية. وقال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ... } الآية.   1 المراجع: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج2، ص251، وأحكام القرآن للجصاص ج1، ص169، وما بعدها، وللفقهاء تفصيلات كثيرة يمكن الرجوع إليها عند الحاجة -نظرا لأن المقام هنا لا يتسع لذكرها- في كتب المذاهب. "ومنها: فتح القدير ج8، ص278 وما بعدها، والزيلعي ج6، ص114، والاختيار ج3، ص162، والدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص245، ومغني المحتاج على متن المنهاج ج4، ص267، 268، والروضة البهية ج2، ص115، والمحلى لابن حزم ج10، ص501، وشرح النيل ج15، ص125، وهذا بجانب ما سنذكر من مراجع أثناء عرض الموضوع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ولا خلاف في أن هذا الوعيد لاحق بمن شارك غيره في القتل، وأن عشرة لو قتلوا رجلا عمدا لكان كل واحد منهم داخلا في الوعيد قاتلا للنفس المؤمنة، وكذلك لو قتل عشرة رجلا خطأ كان كل واحد منهم قاتلا في الحكم للنفس يلزمه من الكفارة ما يلزم المنفرد بالقتل، ولا خلاف أن ما دون النفس1 لا يجب فيه كفارة، فيثبت أن كل واحد في حكم من أتلف جميع النفس، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} 2 فدلت الآية على أن النفس كالنفوس، فالجماعة إذا اجتمعت على قتل رجل فكل رجل واحد منهم في حكم القاتل للنفس؛ ولذلك قتلوا به جميعًا3. وأيضا مثل هذا جاء في السنة الشريفة: جاء في الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار" رواه الترمذي وقال فيه: حديث غريب. نص هذا الحديث على أن الجماعة التي تشترك في قتل شخص تشترك في العقاب الأخروي بصفة متساوية، كما لو قتله شخص واحد، وذلك دليل على أن كل واحد منهم كالقاتل لنفس واحدة.   1 أي: أنه لوكان كل واحد من العشرة مثلا متلفا لجزء من النفس لما وجبت على كل واحد منهم كفارة، ولكن وجوب الكفارة على كل واحد دليل على أن كل واحد منهم يعتبر متلفا لجميع النفس. 2 سورة المائدة الآية رقم 32. 3 أحكام القرآن الكريم للجصاص ج1، ص169، 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وقد روي عن الصحابة -رضوان الله عليهم- قتل الجماعة بالواحد؛ فقد روى الدارقطني في سننه: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قتل سبعة برجل بصنعاء، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به جميعا، كما رَوَى أيضا أن عليا -كرم الله وجهه- قتل الحرورية -جماعة من الخوارج1- بعبد الله بن خباب، فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فما ذبحوا عبد الله بن خباب كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال: الله أكبر، نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه "خرج الحديثين الدارقطني في سننه"2. وعن ابن عباس أنه قتل جماعة بواحد. وإما الإجماع: فقد قالوا: إنه قد ثبت لنا قتل الجماعة بالواحد عن عمر وعلي رضي الله عنهما، ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف، فكان ذلك إجماعا3. وأما القياس فمن وجوه: قال الحنابلة: إن القصاص من الجماعة للواحد يقاس على حد القذف؛ لأن القصاص عقوبة تجب للواحد على الواحد، فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف، ولا يصح قياس ذلك على الدية لوجود الفارق بينهما؛ حيث إن الدية تتبعض والقصاص لا يتبعض.   1 نسبوا إلى حروراء: موضع قريب من الكوفة؛ لأن أول مجتمعهم وتحكيمهم فيها. 2 القرطبي ج2، ص25. 3 المغني ج9، ص361-367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقال الحنفية: إن زهوق الروح لا يتجزأ، واشتراك الجماعة فيما لا يتجزأ يوجب التكامل في حق كل واحد منهم، فيضاف إلى كل واحد منهم متكاملا، كأنه ليس معه غيره؛ كولاية الإنكاح في باب النكاح؛ حيث تثبت هذه الولاية لكل واحد من الأولياء المتساوين في الدرجة على سبيل الكمال، فإذا تولى العقد واحد منهم كان العقد صحيحا نافذا ليس لأحد من الباقين حق الاعتراض؛ لأن الولاية حق واحد لا يتجزأ1. ويضاف إلى ما تقدم أن القصاص لو سقط بالاشتراك لأدى هذا إلى أن يسارع مريد والقتل إلى التعاون على ارتكاب جناياتهم بالاشتراك، فيؤدي هذا إلى إسقاط حكمة مشروعية القصاص، وهي الردع والزجر الذي يمنع تفشي القتل بين الناس؛ لكي تكتب الحياة لنفوس كثيرة، ويمنع اختلال الأمن واضطرابه حتى يتذوق الناس طعم حياتهم، ويشعروا بوجودها {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . ومما يؤيد هذا أن الغالب في جرائم القتل أن ترتكب بالاشتراك؛ خوفا من تغلب المجني عليه على الجاني إذا كان منفردا، واحتياطا من وصول غوث قد يعرقل تنفيذ جريمتهم، وإذا كان القتل بهذه الكيفية هو الغالب فالزاجر إنما يشرع فيما يغلب وقوعه لا فيما يندر، فشرعية القصاص في هذه الحالة من باب أولى. لقد أثار فقهاء الحنفية عدة اعتراضات على ما استدل به جمهور الفقهاء، وما استدلوا به وأجابوا عنها، ومنها:   1 المغني والشرح الكبير ج9، ص366، والاختيار شرح المختار ج3، ص162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أنه إذا قتل جماعة واحدا، فإن القياس يقضي بألا يلزمهم القصاص؛ لأن المعتبر في القصاص المساواة؛ لما في الزيادة من الظلم على المعتدي، وفي النقصان من البخس بحق المعتدى عليه، ولا مساواة بين الجماعة والواحد، هذا شيء يعلم ببداهة العقل، فالواحد من الجماعة يكون مساويا ومماثلا للواحد المقتول، فكيف تكون الجماعة مماثلة للواحد؟! وأيد هذا القياس قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وذلك ينفي مقابلة النفوس بالنفس. الجواب: أجاب الحنفية عن ذلك بقولهم: إنهم قد أخذوا بالاستحسان وزكوا العمل بالقياس في هذه المسألة بما روي عن: عمر، وعلي، وابن عباس -رضي الله عنهم- من قتلهم الجماعة بالواحد -كما ذكرنا آنفا- وكان الصحابة -رضي الله عنهم- متوافرين، ولم ينكر عليهم أحد فحل محل الإجماع. ولقد اعترض على الأخذ بالاستحسان بأن القياس مؤيد بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وذلك ينفي مقالة النفوس بنفس؛ فعلى ذلك يلزم من ترك هذا القياس ترك العمل بمدلول الآية المذكورة بما روي عن عمر -رضي الله عنه- وذلك لا يجوز؛ لأن عمر إما أن يكون منفردا في ذلك أو انضم إليه إجماع الصحابة، فإن كان منفردا في قضائه قله المذكورين آنفا، فظاهر عدم جوازه؛ لأن قول صحابي واحد وفعله لا يصلحان للمعارضة لكتاب الله تعالى، فضلا عن الرجحان عليه، وإن انضم إليه إجماع الصحابة؛ حيث كانوا متوافرين، ولم ينكر عليه أحد منهم فحل محل الإجماع -كما صرح به في العناية وغيرها- فكذلك لا يجوز؛ إذ تقرر في علم أصول الفقه أن الإجماع لا يكون ناسخا للكتاب ولا للسنة كما لا يكون القياس ناسخا لشيء منهما. وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأن قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، لا ينافي ما قالوا في هذه المسألة؛ إذ لا دلالة فيه على اعتبار الوحدة في النفس، بل فيه مجرد مقابلة جنس النفس بجنس النفس كما ترى، والمقصود منه الاحتراز عن أن يقتص النفس بغير النفس، كما في قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} ونحوهما، وأما أنه هل تتحقق المماثلة المعتبرة في القصاص عند تعدد النفس في جانب القاتل أو المقتول، فإذا يستفاد ذلك من دليل آخر، ألا ترى أن العين اليمنى لا تقتص بالعين اليسرى، وكذا العكس، مع أن قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} لا يدل عليه نظرا إلى ظاهر إطلاقه، بل إنما يستفاد ذلك من دليل آخر، فكذا هنا والدليل موجود وهو ما روي أن عمر قتل الجماعة بالواحد، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعا على قتل الجماعة بالواحد، فدل ذلك على عدم اعتبار المماثلة من هذه الناحية1. كما أجاب الفقهاء أيضا عما يفهم من قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أن الله سبحانه وتعالى شرط المساواة، ولا مساواة بين الجماعة والواحد، بأن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة؛ افتخارًا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر الله سبحانه وتعالى بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل2. وبهذا التحليل الدقيق نرى رجحان ما استدل به الجمهور على قتل الجماعة بالواحد قصاصا.   1 فتح القدير ج8، ص279. 2 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج2، ص351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 أحكام أخرى تتفرع عن القول بقتل الجماعة بالواحد: اختلف الفقهاء القائلون بقتل الجماعة بالواحد في أنه هل يجب على ولي الدم شيء إذا استوفى القصاص من الجماعة القاتلة؟ إلى ثلاثة آراء: الرأي الأول: قال جمهور الفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة": إن لولي الدم أن يقتص من الجماعة القاتلة لواحد دون أن يتبع ذلك شيء آخر؛ لأن القصاص من الجماعة كالقصاص من الواحد، وإذا سقط القصاص لأي سبب، فالواجب دية واحدة عليهم جميعا لولي الدم، مع مراعاة ما سبق أن حررناه من أن الواجب في القتل العمد هل هو القصاص عينا أو أن الواجب أحد أمرين القصاص أو الدية؟ 1 فمن قال: الواجب أحد الأمرين فعنده إذا سقط القصاص بعفو أو غيره وجبت دية واحدة؛ لأن القتل واحد، فلا يجب أكثر من دية، كما لو قتلوه خطأ2، وإن عفا ولي الدم عن بعضهم، فعلى المعفو قسطه من الدية؛ لأن الدية بدل المحل، وهو واحد، فتكون ديته واحدة، سواء أتلفه واحد أو جماعة ... ولأن الواجب بدل المتلَف، ولا يختلف باختلاف المتلِف ... 3. أما من قال: إن موجب القتل العمد القصاص عينا، فإنه إن عفا عنهم سقط القصاص ولا شيء له، ويجوز له أن يعفو عن البعض ويصالح البعض ويقتص من البعض4.   1 راجع ص149. 2 كشاف القناع ج3، ص340. 3 الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي ج9، ص394، ط. أ. 4 جاء في الخرشي ج4، ص225: "وإن قتل جماعة رجلا أو رجالا عمدا، أو قطعوا يدا واحدة أو أيدي، ويثبت ذلك ببينة أو اعتراف، فإن ولي الدم يجوز له أن يصالح البعض -أي بعض القاتلين أو القاطعين- ويعفو عن البعض، ويجوز له أن يصالح كلا ويعفو عن كل مجانا، وأضاف العدوي في شرحه لذلك قوله: "جاز صلح كل" أي: أو القصاص أو العفو عن البعض والقصاص عن الباقين، أو صلحه أو صلح بعض والعفو عن بعض والقصاص من بعض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الرأي الثاني: يرى الزيدية أنه تقتل الجماعة بالواحد إذا اجتمعوا على قتله، وكذلك تقطع أيديهم إذا قطعوا يده1، ويجب على كل واحد من القاتلين للواحد دية كاملة لورثة القتيل إن طلبت الدية، وعفا الوارث عن القصاص، أو سقط القصاص بأي وجه، وكذلك الحكم في قطع اليد يلزم كل واحد من الجانبين دية كاملة إن سقط القصاص بأي وجه، وأما في قتل الخطأ لو اشترك فيه جماعة فلا يلزمهم إلا دية واحدة لورثته؛ لأن القصاص في الخطأ ساقط من الأصل، فهي عوض عن دم المقتول. الرأي الثالث: يرى الإمامية قتل الجماعة بالواحد إلا أنه يلزم ولي الدم إذا اختار القصاص من الجماعة أن يرد عليهم ما فضل عن ديته، فيأخذ كل واحد من   1 وقد وضعوا لذلك شروطا في الحالتين نحيل الباحث إليها ومنها في قتل الجماعة للواحد، وأن يموت بمجموع فعلهم، ولذلك ثلاث حالات إما مباشرة أو سراية أو بالانضمام. يراجع توضيح كل حالة في التاج المذهب ج2، ص267، 268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 القتلة ما فضل من ديته عن جنايته، وله قتل البعض فيرد الباقون من الدية بحسب جنايتهم، فإن فضل للمقتولين فضل عما رده شركاؤهم قام به الولي، فلو اشترك ثلاثة في قتل واحد واختار وليه قتلهم أدى إليهم ديتين يقتسمونهما بينهم بالسوية، فيصيب كل واحد منها ثلثا الدية ويسقط ما يخصه من الجناية وهو الثلث الباقي، ولو قتل اثنين أدى الثالث ثلث الدية عوض ما يخصه من الجناية، ويضيف الولي إليه دية كاملة ليصير كل واحد من المقتولين ثلثا دية وهو فاضل ديته عن جنايته، ولأن الولي استوفى نفسين بنفس فيرد دية نفس، ولو قتل واحدا أدى الباقيان إلى ورثته ثلثي الدية، ولا شيء على الولي، ولو طلب الدية كانت عليهم بالسوية إن اتفقوا على أدائها، وإلا فالواجب تسليم نفس القاتل، هذا مع اتحاد ولي المقتول، أو اتفاق المتعدد على الفعل الواحد، ولو اختلفوا فطلب بعضهم القصاص وبعض الدية قدم مختار القصاص بعد رد نصيب طالب الدية منها، وكذا لو عفا البعض إلا أن الرد هنا على القاتل1. ب- قتل الواحد بالجماعة: اتفق الفقهاء على أن الواحد إذا قتل جماعة عمدا كان لأولياء القتلى الحق في أن يقتصوا منه؛ ولكنهم اختلفوا في كون القصاص منه هو كل العقوبة؛ أي: أنه ليس لأولياء القتلى شيء آخر بعد القصاص، أم أن القصاص يقع عن إحدى جرائمه، وللآخرين الديات في تركته إلى ثلاثة آراء: الرأي الأول: ليس لأولياء القتلى شيء سوى القصاص إذا طلبوه. يرى الحنفية "والمالكية"2 أنه إذا قتل واحد جماعة فحضر أولياء   1 الروضة البهية ج2، ص399، ولم يذكر المذهب أدلة. 2 جاء في الخرشي ج4، ص225: إذا تعدد المقتولون واتحد القاتل فروى يحيى عن ابن القاسم: من قتل رجلين عمدا، وثبت ذلك عليه فصالح أولياء أحدهما على الدية وعفوا عن دمه، وقام أولياء الآخر بالقصاص، فلهم القصاص، فإن اقتصوا بطل الصلح ويرجع المال إلى ورثته؛ لأنه إنما صالحهم على النجاة من القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 المقتولين وطلبوا القصاص قتل لجماعتهم، ولا شيء لهم غير ذلك، فإن حضر واحد منهم قتل له وسقط حق الباقين، وقد استدلوا بالقياس، وذلك من وجهين: 1- قالوا: إنه إذا اقتص من الواحد للجماعة كان كل واحد من أولياء القتلى مقتصا بوصف الكمال، فحصل التماثل والتساوي كما حصل التماثل والتساوي في قتل الجماعة بالواحد؛ إذ إنه لو لم يوجد ذلك لما وجب القصاص من الجماعة للواحد؛ لأن المثل اسم مشترك، فمن ضرورة كون أحد الشيئين مثلا للآخر أن يكون الآخر مثلا، كاسم الأخ والزوج، فوجوب القصاص من الجماعة للواحد دليل على أنها مثل له؛ إذ القصاص لا يجب في كل موضع يتعذر فيه اعتبار المماثلة -ككسر العظم- أو يتوهم فيه عدم المماثلة -كالجائفة- فإذا كانت الجماعة مماثلة للواحد، كان الواحد مماثلا للجماعة، فإذا اقتصوا منه، أو اقتص منه أحدهم، لم يكن لهم، أو للباقين شيء آخر. 2- ولأن القصاص شرع مع المنافي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "الآدمي بنيان الرب، معلون من هدم بنيان الرب"؛ لتحقيق الإحياء، وتحقيق الإحياء قد حصل بقتل القاتل، فاكتفى به، ولا شيء لهم غير ذلك1.   1 العناية هامش فتح القدير ج8، ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الرأي الثاني: القصاص يقع عن واحد وللباقين الديات: قال الشافعية: إذا قتل واحد جماعة فإنه قتلهم مرتبا قتل بأولهم، وإن قتلهم دفعة قتل بواحد منهم بالقرعة، وللباقين الديات في تركته لتعذر القصاص لهم عليه، وإنما تجب القرعة في المعية عند التنازع، فإن رضوا بتقديم واحد منهم من غير قرعة جاز، ولهم الرجوع إلى القرعة قبل القصاص، ولو قتلوه كلهم دفعة واحدة أساءوا ووقع القتل موزعا عليهم، ولكل منهم ما بقي من دية مورثه، فلو كانوا ثلاثة حصل لكل منهم ثلث حقه، ويرجع بثلثي الدية والعبرة بدية المقتول لا القاتل1. وجه قول الشافعي: أن المماثلة مشروطة في باب القصاص، ولا مماثلة بين الواحد الجماعة، فلا يجوز أن يقتل الواحد بالجماعة على طريق الاكتفاء به، فيقتل الواحد بالواحد وتجب الديات للباقين، كما لو قطع واحد يميني رجلين، فإنه لا يقطع بهما اكتفاء، بل يقطع بإحداهما وعليه أرش الآخر لمماثلتها، كذا هذا. وأما قتل الجماعة بالواحد فقد كان ينبغي ألا تقتل الجماعة بالواحد قصاصا لعدم المساواة، إلا أنا عرفنا ذلك بإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- غير معقول، أو معقولا بحكمة الزجر والردع لما يغلب من وجود القتل بصفة الاجتماع ... فيجعل كل واحد منهم قاتلا على الكمال كأن ليس معه غيره تحقيقا للزجر، وقتل الواحد الجماعة لا يغلب وجوده بل يندر، فلم يكن   1 راجع: مغني المحتاج ج4، ص22، وحاشية الباجوري على شرح أبي القاسم، ط المعاهد الأزهرية ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 في معنى ما ورد الشرع به فلا يلحق به1. ولأنه لما كان لكل واحد منهم الحق في استيفاء القصاص، فاشتراكهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق، فكما أن الحقوق لا تتداخل فكذلك هذا. ويقاس أيضا على القتل خطأ، فكما وجب عليه في القتل خطأ دية كل، فكذلك يجب عليه في القتل العمد دية كل. الرأي الثالث: القصاص كاف عند اتفاقهم عليه، وإلا فللباقين الديات. ويرى الحنابلة والزيدية: أنه إذا قتل واحد جماعة قتل بها اكتفاء إن اجتمع أولياء القتلى على قتله، وإن لم يجتمعوا قتل بواحد منهم والباقين دياتهم في مال القاتل، ونظرا لأن لكل مذهب تفصيلاته، فإننا نعرض الرأيين بقدر، ثم نتبع ذلك بالأدلة. مذهب الحنابلة: يرى الحنابلة2 أنه إذا قتل واحد اثنين -مثلا- فاتفق أولياؤهما على قتله بهما قتل بهما، وإن أراد أحدهما القود والآخر الدية، قتل لمن أراد القود، وأعطى أولياء الثاني الدية على ماله، سواء كان المختار للقود الثاني أو الأول، وسواء قتلهما دفعة واحد أو دفعتين، فإن بادر أحدهما فقتله وجب للآخر الدية في ماله أيهما كان، وإن طلب كل ولي قتله بوليه مستقلا من غير مشاركة قدم الأول؛ لأن حقه أسبق، ولأن المحل صار   1 بدائع الصنائع ج7، ص239. 2 الشرح الكبير ج9، ص405-407. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 مستحقا له بالقتل الأول، فإن عفا ولي الأول فلولي الثاني قتله، وإن طالب ولي الثاني قبل طلب الأول بعث الحاكم إلى ولي الأول فأعلمه، وإن بادر الثاني فقتله أساء وسقط حق الأول إلى الدية، وإن كان ولي الأول غائبا أو صغيرا أو مجنونا انتظر، وإن عفا أولياء الجميع إلى الديات فلهم ذلك وإن قتلهم دفعة واحدة وتشاحوا في المستوفى أقرع بينهم، فقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم، وإن بادر غيره فقتله استوفى حقه، ويسقط حق الباقين إلى الدية، وإن قتلهم متفرقا وأشكل الأول، وادعى كل ولي أنه الأول، ولا بينة لهم، فأقر القاتل لأحدهم قدم بإقراره، وإن لم يقر أقرعنا بينهم لاستواء حقوقهم. مذهب الزيدية: أما الزيدية فيرون أن قتل الجماعة إن كان واحدا فليس لهم عليه سوى القتل، ولا شيء عليه من الديات لتعدد القتلى، وسواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى أو خنثى أو عبدا، وسواء كان قتله للجماعة في حالة واحدة أم حالات، وليس لأولياء أحد القتلى أن يقتله قصاصا عن مقتوله قبل حضور أولياء الآخرين، فإن فعل أثم ولا شيء عليه ويلزم ديات الباقين في مال القاتل؛ ولهذا يجب على القاتل أن يحفظ نفسه حتى يجتمع أولياء دم القتلى جميعا فيقتصوا أو يوكلوا مع حضورهم؛ لأنه قد تعلق بذمته حق لورثة كل واحد ممن قتله، فلا يجوز له أن يمكن من قتل نفسه ورثة أحد القتلاء دون الآخرين، وله المدافعة ولو بالقتل إذا أراه أحد الأولياء قتله؛ لأن فعله محظور قبل حضور جميع أولياء القتلاء، فإن حضروا وطلب بعضهم القود وبعضهم الدية وجب الكل. أما من قلع أعين جماعة فليس كالقتل لهم، فالقصاص لازم لهم في عينه يجتمعون على قلعها أو يوكلون واحدا يقتلعها، ويستحقون عليه ديات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الأعين الباقيات التي لم تستوف القصاص، تقسم بينهم على السواء، فلو اقتص أحدهم بالعين دون الآخرين استحق الآخرون الديات دون المقتص، والفرق بين النفس والأطراف أن النفس لا يمكن تبعيضها، وسائر الأطراف يمكن تبعيضها1. الأدلة: لقد استدل الحنابلة بالسنة والقياس، كما ناقضوا الأدلة التي استدل بها أصحاب الرأي الأول والثاني. أما السنة: فقد استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ... فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وأحبوا أخذوا العقل"، فظاهر هذا الحديث أن أهل كل قتيل يستحقون ما اختاروه من القتل أو الدية، فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم، وإن اختار بعضهم الدية وجب له بظاهر الخبر؛ فيكون هذا الحديث حجة على الحنفية والمالكية. وأما القياس: فقد قالوا: إن الجنايتين إذا كانتا خطأ لا تتداخلان، وكذلك إذا كانت إحداهما خطأ والأخرى عمدا، فلم يتداخلا في العمد قياسا على ذلك كالجنايات على الأطراف، وقد سلم الحنفية بذلك. وقالوا على قول الشافعية: "إن حقوقهم لا تتداخل كسائر الحقوق"، إن محل الجناية محل تعلق به حقان لا يتسع لهما معا، فإن رضي المستحقان   1 التاج المذهب ج4، ص271-372 "يراجع عند الحاجة إلى معرفة التفاصيل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 به عنهما فيكتفى به، كما لو قتل عبد عبدين خطأ فرضي بأخذه عنهما، ولأنهما رضيا بدون حقهما فجاز، كما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء، أو ولي الحر بالعبد. وفارق القتل العمد ما إذا كان القتل خطأ، فإن الجناية الخطأ تجب في الذمة، والذمة تتسع لحقوق كثيرة. كما ردوا على قول الحنفية والمالكية "بالتماثل بين قتل الجماعة بالواحد والواحد بالجماعة" بأن التماثل غير صحيح، فإن الجماعة قتلوا بالواحد؛ لئلا يؤدي الاشتراك إلى إسقاط القصاص؛ تغليظًا للقصاص، ومبالغة في الزجر، وفي مسألتنا ينعكس هذا، فإنه إذا علم أن القصاص واجب عليه بقتل واحد، وأن قتل الثاني والثالث لا يزاد به عليه حق، بادر إلى قتل من يريد قتله وفعل ما يشتهي فعله، ويصير هذا كإسقاط القصاص عنه ابتداء مع الدية. والترجيح: ويتضح لنا مما تقدم رجحان الرأي الثالث للأدلة التي ذكرها وهي قوية وواضحة، وأيضا فإن هذا الرأي محقق للمصلحة العامة؛ حيث يسد باب التفاني، ويحقق حكمة الإحياء، ويحقق المصلحة الخاصة؛ حيث يجبر دم القتلى الآخرين بالديات التي تدفع لأولياء القتلى إن أراد أحد منهم أخذها، أما إن اكتفوا بالقصاص فهذا حقهم، ولهم إسقاطه فرادى، فكذا إذا كانوا جماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 خلاصة المقصد الرابع: بعد دراستنا لشروط استيفاء القصاص، هذه الدراسة التحليلية تبين أننا نرجح أن المكافأة المعتبرة هي المكافأة في العصمة، والعصمة تكون بالإسلام أو بدار الإسلام، فكل من اكتسب هذه العصمة مسلما كان أم ذميا، حرا أم عبدا، ذكرا أم أنثى، صغيرا أم كبيرا، عاقلا أم مجنونا، كان قتله عمدا موجبا القصاص، إلا إذا أسقط الشارع هذه العقوبة عنه بسبب صغر أو جنون -كما سيأتي إيضاحه في الظروف المبيحة أو المخففة للعقوبة في المقصد السادس من النوع الأول من العقوبة الدنيوية- وقد كان عمادنا في الترجيح رجحان الأدلة التي استند إليها القائلون بذلك. استيفاء القصاص في الحرم: إذا أردنا أن نعرف حكم استيفاء القصاص في الحرم، فعلينا أن نفرق بين حالتين: حالة ارتكاب الجناية داخل الحرم، وحالة ارتكابها خارجه. الحالة الأولى: إذا اقترف الجاني جنايته في الحرم -سواء كانت على النفس أو على ما دونها- أخذ بجنايته، وأقيم عليه ما يستحقه من قتل أو غيره باتفاق أهل العلم1، فإن الله -جل شأنه- فرق بين الجاني في الحرم، والجاني في غيره إذا لجأ إليه؛ حيث أباح قتل من قاتل   1 أحكام القرآن للجصاص ج، ص25، ولكن ذكر الشوكاني في نيل الأوطار ج7، ص43: أن بعض المعتزلة قالوا: يخرج من الحرم ويقام عليه الحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 في الحرم، ولم يبح قتل من لم يقاتل، بدلالة قوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} 1. ويؤيد هذه التفرقة أن الجاني في الحرم هاتك لحرمته، بخلاف من جنى ثم التجأ إلى الحرم، فإنه لا يوجد منه هتك لحرمته، ولا اعتداء على قدسيته، وأيضا لو قلنا بترك الحد والقصاص على كل شخص يفعل ما يوجب ذلك في الحرم لعظم الفساد في الحرم وانتشر، وهذا يتنافى مع مكانته. الحالة الثانية: أما إذا ارتكب الجاني جنياته خارج الحرم ثم لاذ بالحرم، فإن للفقهاء رأيين في إقامة العقوبة عليه: الرأي الأول: قال مالك والشافعي2: يقتص منه في الحرم في النفس وما دونها3، استنادا إلى عمومات الأدلة القاضية بالقصاص؛ كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ... } .   1 سورة البقرة الآية رقم 191. 2 راجع الشرح الصغير ج2، ص364، ومغني المحتاج ج4، ص43. 3 وقد روى قتادة عن الحسن أنه قال: لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه. قال: وكان الحسن يقول: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} كان هذا في الجاهلية، ولو أن رجلا حر "اقترف" كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم، فأما الإسلام فلم يزده إلا شدة، من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد، إلا أن هذه الرواية عارضتها رواية أخرى؛ فقد روى هشام عن الحسن وعطاء قالا: إذا أصاب حدا في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم، أخرج عن الحرم، حتى يقام عليه. وعن مجاهد مثله، وهذا يحتمل أنه يريد بإخراجه اضطراره إلى الخروج بترك مجالسته وإيوائه ومبايعته ومشاراته. وقد روي ذلك عن عطاء مفسرا. أحكام القرآن للجصاص ج2، ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... } وقوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} حيث إن هذه الأدلة بعمومها تفيد استيفاء القصاص في النفس وما دونها في كل زمان ومكان، وخصوصا ما روي عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر1، فلما نزعه جاءه رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة2، قال: "اقتلوه" متفق عليه3. فالرسول -عليه الصلاة والسلام- قد أمر بقتله وهو في داخل الحرم، فدل ذلك على جواز إقامة الحد والقصاص فيه، سواء كان الجاني قد ارتكب جنايته داخل الحرم أم خارجه ثم لجأ إليه. الرأي الثاني: قال جمع من الفقهاء الحنفية والحنابلة، وروي عن ابن عباس وابن عمر، وعبيد الله بن عمير، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي، والعترة: لا يقتص ممن جنى خارج الحرم، ثم لاذ بالحرم؛ ولكن لا يبايع ولا يؤاكل، ولا يجالس، ولا يؤوى، حتى يضطر إلى الخروج عن الحرم، فإذا خرج أقيم عليه الحد والقصاص، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة.   1 المغفر: على وزن المبضع؛ هو: زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة. 2 ابن خطل رجل من بني تميم بن غالب قتله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان قد ارتد عن الإسلام، وقتل مسلما كان يخدمه، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسبه، وكان له قينتان "رقيقتان" تغنيان بهجاء المسلمين. 3 نيل الأوطار ج7، ص40-43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} 1 يقتضي أن من دخل الحرم كان آمنا على نفسه، سواء جنى قبل دخوله الحرم، أو جنى بعد دخوله، فالآية تأمرنا -وإن كانت في صورة الخبر- بتأمين من دخل الحرم، وحظر دمه، والنهي عن قتله، وذلك إذا كان دمه مستحقا بفعل فعله استوجب قتله، وإلا لما كان لتخصيصه بالحرم فائدة؛ لأننا مأمورون بتأمين جميع من يحمل رعوية الدولة الإسلامية في الحرم وغيره من ظلم أو قتل غير مستحق. إلا أن الدلالة قد قامت من اتفاق أهل العلم على أنه إذا قتل في الحرم قتل، استنادا إلى ما ذكرنا آنفا من الأدلة2. وأما السنة: فقد وردت عدة أحاديث: منها ما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام، حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة" متفق عليه. ومنها ما روي عن عبد الله بن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:   1 سورة آل عمران، الآية رقم 57. 2 ذكر أبو بكر الجصاص أن نظير هذه الآية قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} سورة العنكبوت الآية رقم 67، وقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا} سورة القصص الآية رقم 57، وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} سورة البقرة الآية رقم 125، إلا أنه قد عبر جل شأنه تارة بالبيت وتارة بالحرم "فدل على أن الحرم في حكم البيت في باب الأمن، ومنع قتل من لجأ إليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 "إن أعدى1 الناس على الله عز وجل من قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول2 الجاهلية" رواه أحمد3. وظاهر الأحاديث يقتضي حظر قتل اللاجئ إلى الحرم مطلقا، إلا أن الجاني في الحرم خارج باتفاق العلماء. وأما أنه لا يبايع ولا يشارى ولا يجالس، فلما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسكن مكة سافك دم، ولا آكل ربا، ولا مشاء بنميمة"، وهذا يدل على أن القاتل إذا دخل الحرم لم يؤو، ولم يجالس، ولم يبايع، ولم يشار، ولم يطعم، ولم يسق، حتى يخرج، وروى طاوس عن ابن عباس قال: "إذا دخل القاتل الحرم لم يجالس ولم يبايع، ولم يؤو، واتبعه طالبه يقول له: اتق الله في دم فلان واخرج من الحرم". وأما جنايته على ما دون النفس، فإنه يؤخذ بها مطلقا، سواء كانت الجناية في الحرم أو خارجه ثم لجأ إليه، وهذا باتفاق العلماء4؛ لأنه لو كان عليه دين فلجأ إلى الحرم حبس به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لي   1 أعدى: أي أشدهم في التعدي على الله، وفي رواية: "إن أعتى الناس" أي: أشدهم تجبرا. 2 الذحول: جمع ذحل، وهو الثأر والعداوة، والمراد هنا: طلب من كان له دم في الجاهلية بعد دخوله في الإسلام. 3 وفي الباب أحاديث عن أبي هريرة وعن أبي شريح الخزاعي وغيرهما، أوردها الشوكاني في نيل الأوطار ج7، ص40، 41. 4 أحكام القرآن للجصاص ج2، ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"، والحبس في الدين عقوبة، وهي عقوبة فيما دون النفس، فكل حق وجب فيما دون النفس يؤخذ به وإن لجأ إلى الحرم، قياسا على الحبس في الدين. الترجيح: والرأي الثاني أرجح؛ لقوة الأدلة التي استندوا إليها، ووضوحها في إفادة الحكم، أما ما استند إليه أصحاب الرأي الأول من "أن عمومات الآيات قاضية بالقصاص في كل مكان وزمان"، فقد أجيب عنه بجوابين: أولهما: أن الآيات ليس فيها ما يدل على عمومها لكل مكان وكل زمان؛ لعدم التصريح بهما. وثانيهما: أننا لو سلمنا بعمومها لذلك فهي مخصصة بالأحاديث التي ذكرناها؛ لأنها قاضية بمنع ذلك في مكان خاص، وهذه الأحاديث متأخرة، فإنها في حجة الوداع بعد شرعية الحدود. كما أجابوا عن حديث أنس بأنه لا يصلح للاستدلال؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل ابن خطل في الساعة التي أحل الله له فيها القتال بمكة، وقد أخبرنا بأنها لا تحل لأحد قبله، ولا لأحد بعده، وأخبرنا بأن حرمتها قد عادت بعد تلك الساعة كما كانت. وأيضا فإن هذا الرأي فيه تكريم لهذا المكان المقدس، وتنزيه عن أن يكون مكانا لتنفيذ العقوبات على الجرائم التي ارتكبت خارجه، وميزة أخرى له يمتاز بها عن غيره من الأماكن، وهذا الرأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 لا يؤدي إلى إسقاط عقوبة عن جان؛ لأن عدم تقديم مقومات الحياة إليه من مأكل ومشرب ومأوى، وعدم التعامل معه وعدم مخالطته، كل هذا يدفعه ويضطره إلى أن يخرج من الحرم، وإلا فإن الموت في هذه الحالة يكون نهاية له، إلا أنه موت مضاف سببه إليه، فيكون قاتلا لنفسه، وعقوبته الأخروية التخليد في النار -كما سبق أن بينا- أما إذا خرج فقد يعفو عنه ولي الدم، وإن قتله قصاصا يرجى أن يكون ذلك جبرا لذنبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 المقصد الخامس: استيفاء القصاص: ونتناول في هذا المقصد ثلاثة موضوعات: من له حق استيفاء القصاص، فإذن الإمام بالاستيفاء، ثم كيفية القصاص. الفرع الأول: مَن له حق استيفاء القصاص: اتفق الفقهاء على أنه إذا كانت الجناية على ما دون النفس، فإن المستحق القصاص يكون هو المجني عليه؛ لأنه هو صاحب الحق، ولا يتصور أن يكون الحق لغير صاحب الحق. وأما إن كانت الجناية على النفس، فإننا إذا تتبعنا آراء الفقهاء وجدنا أن الولي الذي يكون له حق استفياء القصاص أولا هو القريب -على اختلاف في حقيقته- فمولى العتاقة فمولى الموالاة -على اختلاف بينهم في القول بإعطائهما هذا الحق- ثم الإمام أن لم يوجد أحد ممن يستحق هذه الولاية ممن ذكرنا، ونبين هنا آراءهم في سبب الاستحقاق الأول "القرابة" لأهميته وأصالته، وندع هذه المقارنة بالنسبة لباقي الأسباب؛ نظرا لأن مولى العتاقة ومولى الموالاة مما لا يكاد يوجد الآن، ولاتفاقهم على أنه إن لم يوجد مستحق كان هذا الحق للإمام أو نائبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 آراء الفقهاء في إثبات هذه الولاية للأقارب: للفقهاء خمسة آراء في نوع القرابة التي تثبت بها هذه الولاية: الرأي الأول: يرى الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية1: أن ولاية   1 نورد فيما يأتي آراء فقهاء الحنفية والحنابلة بإيجاز نظرا لأهمية تحليلاتهم: أ- مذهب الحنفية: يرى الحنفية أن ولاية استيفاء القصاص تثبت بأسباب أربعة إن كان المقتول حرا، وإلا فبسبب واحد، فمن أسباب الحالة الأولى: 1- الوراثة، فإن كان للمقتول وراث، فالمستحق للقصاص هو الوارث، كالمستحق للمال؛ لأنه حق ثابت، والوارث أقرب الناس إلى الميت، فيكون له. 2- فإن لم يكن له وارث، وكان له مولى العتاقة، وهو المعتق، كان هو المستحق للقصاص؛ لأنه آخر العصبات. 3- فإن لم يكن له ملى العتاقة وله مولى الموالاة كان المستحق للقصاص هو مولى الموالاة؛ لأنه آخر الورثة، فجاز أن يستحق القصاص كما يستحق المال. 4- فإن لم يكن له وارث ولا مولى العتاقة ولا مولى الموالاة -كاللقيط ونحوه إذا قتل- كان المستحق للقصاص هو السلطان في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: ليس للسلطان أن يستوفي إذا كان المقتول من أهل دار الإسلام، وله أن يأخذ الدية، وإن كان من أهل دار الحرب = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ..................................................................   = ودخل دار الإسلام مسلما فله أن يستوفي القصاص وله أن يأخذ الدية. أما إن كان المقتول عبدا فالمستحق للقصاص هو المولى؛ لأن الحق قد ثبت، وأقرب الناس إلى العبد مولاه، ثم إن كان المولى واحدا استحق كله، وإن كان جماعة استحقوه "بدائع ج7، ص242-245". ب- مذهب الحنابلة: يرى الحنابلة أن استيفاء القصاص يكون لوارث المقتول، فإن لم يوجد وراث فالإمام، ففي الحالة الأولى يرث القصاص كل من ورث المال على قدر ميراثه فيه، حتى الزوجان وذوو الأرحام، وذلك بثلاثة شروط؛ أحدها: أن يكون مستحق القصاص مكلفا؛ لأن غير المكلف ليس أهلا للاستيفاء إلا بعد تكليفه، بدليل أنه لا يصح إقراره ولا تصرفه، فإن كان مستحق القصاص صغيرا أو مجنونا لم يجز لآخر أن يستوفيه. والثاني: اتفاق المستحقين للقصاص على استيفائه؛ لأن الاستيفاء حق مشترك لا يمكن تبعيضه، فلم يجز لأحد التصرف فيه بغير إذن شريكه، فإن كان أحدهم غائبا انتظر قدمه وجوبا. والثالث: أن يؤمن في الاستيفاء التعدي إلى غير الجاني؛ لقوله تعالى {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} ، وإذا أدى إلى التعدي كان فيه إسراف. وإذا لم يوجد وارث فالإمام ولي من ولا ولي له، إن شاء اقتص وأن شاء عفا إلى دية كاملة فأكثر؛ لأنه يفعل ما يرى فيه المصلحة للمسلمين وليس له العفو مجانا، ولا على أقل من الدية؛ لأنها للمسلمين ولا مصلحة لهم في ذلك "كشاف القناع ج3، ص357-361". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 استيفاء القصاص في النفس حق لمن ورث مال المقتول، ذكورا كانوا أو إناثا، ذوي قرابة نسبية أو سببية، وعللوا ذلك: بأن القصاص حق ثابت، وإذا كان حقا ثابتا فإنه يورث كما يورث المال، والوارث أقرب الناس إلى الميت، فيكون هذا الحق له. الرأي الثاني: يرى المالكية أن استيفاء القصاص في النفس يكون للعاصب الذكر، يقدم الأقرب، فالأقرب؛ كترتيب الولاء، فيقدم الابن، فابنه، فأب، فأخ، فابن أخ، فجد، فعم، فابنه ... ، إلا الجد الأدنى، والإخوة فإنهما متساويان في القتل والعفو. ولا يكون الاستيفاء للنساء إلا بثلاثة شروط: 1- أن يكن وارثات فليس للعمة والخالة ونحوهما حق الاستيفاء. 2- ولم يساوهن عاصب في الدرجة كأن لم يوجد عاصب أنزل منهن؛ كعم مع بنت أو أخت. 3- وأن يكن عصبة لو كن ذكورًا، فلا حق للجدة من الأم، والأخت لأم والزوجة، فإن كن وارثات مع عاصب غير مساو فلهن وله القود، فمن طلبه من الفريقين أجيب له، ولا يعتبر عفوا إلا باجتماع الفريقين، أو بواحد من كل فريق، كالبنات مع الإخوة، فإن لم يكن أحد من هؤلاء كان استيفاء القصاص للمولى الأعلى ثم السلطان. الرأي الثالث: يرى الإمامية أن حق استيفاء القصاص يكون لوارث المال مطلقا إلا الزوجين، وقد استدلوا بعموم قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 1، وقد خرج الزوجان منها بالإجماع، فيبقى الباقي، ولأن الزوجية ترتفع بالموت.   1 الآية 75 من سورة الأنفال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وقد نقل عن ابن أبي ليلى قوله: "لكل وارث عفو إلا الزوج والزوجة، فلا عفو لهما". الرأي الرابع: يرى ابن شبرمة والليث والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز، ورأي في مذهب الإمامية: أن حق استيفاء القصاص لا يكون للنساء مطلقا، وربما استدلوا بأن النساء لا يرثن الولاء، ولا الولاية في عقد النكاح، فكذلك لا يرثن القصاص. الرأي الخامس: يرى الظاهرية أن هذه الولاية هي لأهل المقتول، وهم الذين يعرف المقتول بالانتماء إليهم، سواء كان ذكرا أم أنثى، ذا قرابة نسبية أو سببية؛ كالابن والابنة، والأخت والأخ، والأم، والزوج، والزوجة، وابن العم وبنت العم، والعمة، فمن أراد من هؤلاء القود فالقود واجب، ولا يلتفت إلى عفو من عفا ممن هو أقرب أو أبعد أو أكثر في العدد، فإن اتفق الورثة كلهم على العفو فلهم الدية حينئذ ويحرم الدم1. الترجيح: والذي نرى رجحانه هو الرأي الأول الذي يقضي بأن حق استيفاء القصاص يكون لوارث المال مطلقا -ذكرا أو أنثى- وذلك لما ذكروا من أدلة، ولما يأتي: 1- روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله   1 المحلى لابن حزم ج10، ص482. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 صلى الله عليه وسلم قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثوا منها إلا ما فضل عن ورثتها. وإن قتلت1 فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلها، رواه الخمسة إلا الترمذي، ووجه الاستدلال به أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل لورثة المرأة أن يقتلوا قاتلها، فجعل القصاص حقا للورثة جميعا من الرجال والنساء. 2- كما روي عن عائشة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة" رواه أبو داود والنسائي، وأراد بالمقتتلين أولياء المقتول الطالبين القود، وينحجزوا: أي ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كان امرأة، وقوله: الأول فالأول: أي الأقرب فالأقرب، ذكر الشوكاني أن أبا داود قد فسره بما ذكر2. 3- وقد وردت آثار عن الصحابة -رضوان الله عليهم- تؤيد أن القصاص حق لجميع ورثة المال، منها ما روي عن زيد بن وهب أن عمر بن الخطاب رفع إليه رجل قتل رجلا، فجاء أولياء المقتول فأرادوا قتله، فقالت أخت المقتول -وهي امرأة القاتل: قد عفوت عن حصتي من زوجي، فقال عمر: عتق الرجل من القتل، ولم يظهر مخالف لرأيه والصحابة متوافرون. كما روي عن إبراهيم أنه قال: عفو كل ذي سهم جائز3.   1 "قتلت" بالبناء للمجهول. 2 نيل الأوطار ج7، ص29. 3 المحلى لابن حزم ج10، ص478. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وبهذا يتضح لنا رجحان القول بأن ورثة المال هم الذين لهم حق استيفاء القصاص. وأما القول بأن الزوجين يخرجان من الولاية؛ لأن الزوجية ترتفع بالموت، فقد يرد على هذا بأن القصاص شرح لحفظ الدماء والزوج أقرب الناس إلى زوجته، وهو المتأثر بالقتل -غالبا- أكثر من غيره فاندفاعه إلى استيفاء القصاص وحرصه عليه لا يقل عن غيره من الورثة، ويرد عليه أيضا بما روي عن عمر آنفا. وإذا ثبت هذا للزوجة، فثبوته للنساء الوارثات بسبب القرابة أولى، وقد كان ما قاله إبراهيم النخعي نصا في الموضوع، فكل ذي سهم في التركة يكون له حق استيفاء القصاص، وأيضا فإن جعل هذا الحق لجميع الأهل -أي من ينتمي إليهم المقتول- فيه إحالة إلى مجهول؛ إذ الأهل دائرتهم متسعة فقد يكونون مائة، وقد يكونون ألفا، وقد يكونون أكثر، وقد يكونون أقل، حسب ظروف كل أسرة، ومثل هذا العدد ارتباطهم بالمقتول متفاوت وشعورهم نحوه لا يتجه في طريق واحد، ومن هنا قد تضيع دماء كثيرة؛ لذلك فإن جعل هذا الحق في يد ورثة المال فيه حصر للدائرة التي تتعاطف مع المقتول، وتتصل به اتصالا وثيقا، وحسبنا أن الشارع قد أعطاها نصيبا حقوقه وأمواله بعد موته، وهذا حق من الحقوق كما أن فيه رعاية وصونا لدم المقتول عن الإهدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ما يشترط فيمن لهم ولاية الاستيفاء: أثار الفقهاء عدة أمور، قال البعض باشتراطها، وآخرون بعدم اشتراطها، ومنها: 1- اشتراط التكليف: لما كان حق استيفاء القصاص حقا ثابتا للإنسان، حقا يورث كالحقوق المالية، فإنه ينبغي أن يثبت للورثة، الصغير منها والكبير، كما يثبت الميراث إلا أنه حق يحتاج إلى توافر أهلية الأداء الكاملة التي بها يتمكن صاحب الحق من التعبير عن إرادته في استيفاء حقه، وهو هنا القصاص أو تركه في مقابل الدية أو ما يصالح عليه، أو العفو مجانا، وأيضا فإن لمصلحة تقتضي أن يعرف القاتل مصيره، ومن هنا وجدنا خلافا فقهيا يجري في ثبوت هذا الحق للصغير والمجنون. حكم ما إذا كان احد الورثة صغيرا أو مجنونا: قال أبو حنيفة والمالكية والظاهرية1: إنه إذا كان أحد الورثة صغيرا أو مجنونا، فإنه لا ينتظر بلوغه أو إفاقته، وقد استدل أبو حنيفة لرأيه بأمرين؛ أولهما: أن هذا الحق يثبت لكل واحد من الورثة على سبيل الكمال؛ لأنه حق لا يتجزأ، والشركة فيما لا يتجزأ محال، كولاية النكاح. وثانيهما: ما روي أنه لما جرح ابن ملجم -لعنه الله- عليا -كرم الله وجهه- قال للحسن رضي الله عنه: إن شئت فاقتله، وإن شئت فاعف عنه، وإن   1 المحلى لابن حزم ج10، ص484. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 تعفو خير لك، فقتله الحسن، وكان في ورثة علي -رضي الله عنه- صغار، فالإمام على خير الحسن بين القتل والعفو من غير تقييد ببلوغ الصغار، كما أن الحسن قتل ابن مجلم ولم ينتظر بلوغ الصغار، وكل ذلك كان بمحضر من الصحابة -رضي الله عنهم- ولم ينقل إنكار أحد منهم عليهما، فكان إجماعا1. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية: يجب أن ينتظر حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون، ثم يبدي رأيه في القصاص. وقد استدلوا على ذلك بأن هذه الولاية تثبت لهم على سبيل الشركة كالمال الموروث عن المقتول، وتجري في القصاص سهام الورثة كما تجري في المال، ومن قضية الشركة أن ينتظر حتى يبلغ فيبدي رأيه، إلا أن الإمامية أضافوا إلى ذلك أنه إذا اقتضت المصلحة تعجيل القصاص يعجل لأن مصالح الطفل والمجنون منوطة بنظر الولي، ولأن التأخير ربما استلزم تفويت القصاص. كما قال الشافعية والحنابلة: إنه إذا كان المجنون فقيرا فإنه يجوز لوليه أن يعفو على الدية، بخلاف الصبي؛ لأن للصبي غاية تنتظر وهي البلوغ، أما المجنون فإنه لا يعرف متى يفيق. حبس الجاني أثناء انتظار بلوغ الصبي وإفاقة المجنون: ولما كان الانتظار قد يؤدي إلى فرار الجاني، فإنهم قالوا بحبسه حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون، وذلك لأن في حبسه مصلحة للقاتل بتأخير   1 بدائع الصنائع ج7، ص242-245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 قتله، ومصلحة للمستحق بإيصاله إلى حقه، ولأن القاتل يستحق إتلاف نفسه وإتلاف منفعته، فإذا تعذر استيفاء للنفس لأمر عارض بقي إتلاف المنفعة سالما عن المعارض، وقد حبس معاوية هدية بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل، فلم ينكر ذلك عليه، وكان في عصر الصحابة. 2- اشتراط اتفاق المستحقين جميعا على استيفاء القصاص: يشترط لاستيفاء القصاص اتفاق جميع المستحقين على استيفائه عند جمهور الفقهاء، استنادا إلى ما روي عن عمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء للذين لم يعفوا نصيبهم من الدية، وذلك بمحضر من الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- ولم ينقل إنكار أحد منهم فكان إجماعا. وقد قيل إن قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} نزلت في دم بين شركاء يعفو أحدهم عن القاتل، فللآخرين أن يتبعوه بالمعروف في نصيبهم، وقد سبق إيضاح ذلك. وأيضا فإن حرص المشروع على إحياء الأنفس يجعلنا نرجح جانب العفو عن بعض النفس التي أراد مستحقها لها الحياة بعفوه، على جانب إرادة الولي المشارك في استيفاء القصاص، ضرورة أن القصاص لا يتجزأ؛ إذ القصاص قصاص واحد، فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض، وينقلب نصيب الآخر مالا تغليبا لجانب الحياة. وقد خالف في هذا الظاهرية -كما سبق بيانه1- والإمامية في رأي مشهور   1 ويراجع رأي المالكية، وقد تقدم آنفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 عندهم يقضي بأنه لو صالح بعض الأولياء على الدية لم يسقط القصاص عنه للباقين، وقد استدلوا على ذلك بما روي عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل قتل، وله أب وأم وابن، فقال الابن: أنا أريد أن أقتل قاتل أبي، وقال الأب: أنا أعفو، وقالت الأم: أنا آخذ الدية، قال: فليعط الابن لأم المقتول السدس من الدية، ويعطي ورثة القاتل السدس الآخر حق الأب الذي عفا وليقتله، إلا أنه روي في مذهب الإمامية روايات بسقوط القصاص في هذه الحالة وثبوت الدية، لرواية زرارة عن الباقر "ع" وهذه الروايات تتفق مع رأي جمهور الفقهاء. حكم غيبة أحد الأولياء: إذا كان أحد الأولياء غائبا فإن الفقهاء يختلفون في القول بانتظاره إلى فريقين: الرأي الأول: يوجب انتظاره حتى يعود؛ إذ إنه ربما اختار العفو عن القاتل، فلا يكون قتله حيئذ مستحقا للورثة الباقين، قال بهذا جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، وهو قول الليث بن سعد، وحماد بن أبي سليمان" إلا أن رأيا لبعض المالكية يفرق بين الغيبة القريبة والغيبة البعيدة؛ حيث يوجب انتظاره في الأولى دون الثانية. الرأي الثاني: قال الظاهرية: لا ينتظر قدوم الغائب؛ لأن القول عندهم قول من دعي إلى القصاص، فللكبير وللحاضر العاقل أن يقتل ولا ينتظر بلوغ الصغير، ولا إفاقة المجنون، ولا قدوم الغائب، فإن عفا الحاضرون البالغون لم يجر ذلك على الصغير، ولا على الغائب، ولا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 المجنون، بل هم على حقهم في القود، حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون، فإذا كان ذلك فإن طلب أحدهم القود قضي له به، وإن اتفقوا كلهم على العفو جاز ذلك حينئذ1. الترجيح: وأرى أن رأي الظاهرية هنا فيه تشدد واضح على القاتل ففي حالة القصاص يأخذ برأي الحاضرين فقط، وفي حالة العفو لا يأخذ به، إلا أن المسألة يجب أن تبحث على أساس ثبوت الحق لهؤلاء، أو عدم ثبوته، فإن ثبت لهم جميعا كان من الواجب انتظارهم، وإلا لا ينتظرون؛ ولذلك ترى رجحان رأي جمهور الفقهاء، كما نرى رجحان التفريق بين الغيبة البعيدة والغيبة القريبة، فإن كانت الغيبة قريبة ينتظر الغائب وإلا فلا داعي إلى الانتظار؛ لأن ذلك قد يفوت على الحاضرين حقهم كما لو مات الجاني، وأيضا فإن الانتظار مدة طويلة يفوت الفائدة من الردع والزجر التي شرع القصاص من أجلها إحياء للنفوس، ويترك تحديد بعد الغيب وقربها إلى اجتهاد ولي الأمر؛ لأن ذلك مما يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. وإذا قلنا بانتظار حضور الغائب، فإن الجاني يحبس حتى يحضر، كما يحبس أن يبلغ الصبي ويفيق المجنون، كما أوضحنا آنفا. 3- اشتراط كون القصاص مأمون التعدي: اشتراط الفقهاء لتنفيذ القصاص أو الحد أن يكون التنفيذ مأمون   1 المحلى لابن حزم ج1، ص484. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 التعدي، فإذا كان الجاني امرأة حاملا، فإن تنفيذ القصاص فيها قبل الوضع يؤدي إلى قتل جنينها؛ لذلك أجمع على أنه لا بد من إرجاء تنفيذ العقوبة حتى تضع، ويستغنى عنها ولدها، وقد استدلوا بقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} وإذا أدى القصاص إلى قتل الجنين كان تعديا وإسرافا. وبما روي عن بريدة قال: جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا، فوالله إني لحبلى، قال: "إما لا، فاذهبي حتى تلدي"، قال: فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: "اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه"، فلما فطمته أتته بالصبي وفي يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا رسول الله، قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، رواه مسلم وأحمد وأبو داود واللفظ لمسلم. وبما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قتلت المرأة عمدا فلا تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها، وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها، وحتى تكفل ولدها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الفرع الثاني: إذن الإمام بالاستيفاء: اشترط جمهور الفقهاء إذن الإمام باستيفاء القصاص؛ وذلك لعظم وخطر هذه العقوبة، ولأن إيجاب القصاص يفتقر إلى اجتهاد؛ نظرا لاختلاف الفقهاء في شرائط وجوب القصاص واستيفائه، إلا أنهم جعلوا عقوبة من يخالف ذلك ويقتص بنفسه التعزير؛ لافتياته وتعديه على سلطة الإمام، والتعزير عقوبة يقدرها الإمام حسب اجتهاده1. وخالف في هذا الزيدية والإمامية، فجعلوا لولي الدم أن يقتص وإن لم يحكم الحاكم فيما كان مجمعا عليه، أو ثبت بالتواتر، أو بالإقرار؛ لقوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} ، ولأنه حقه2. إلا أن جعل هذا الحق بيد ولي الدم مباشرة يؤدي إلى انتشار القتل بين الناس؛ لأن أهل المقتول لا يفرقون بين أمر مجمع عليه أو غير مجمع عليه؛ بل إنهم سيسارعون إلى قتله دون تحقيق ومعرفة تامة بظروف الحادث. ولقد رأينا صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذون القاتل إليه، وبعد أن يوضح لهم عليه السلام الحكم، يباشرون التنفيذ، وحسبك في ذلك ما نقلناه فيما تقدم عن الربيع عمة أنس بن النضر، وما روي عن وائل بن حجر، قال: إني لقاعد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء رجل يقود آخر   1 راجع كشاف القناع ج3، ص311، ومغني المحتاج ج4، ص41، وللفقهاء تفصيلات يرجع إليها عند الحاجة. 2 التاج المذهب ج4، ص279، والروضة البهية ج2، ص415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 بنسعة1، فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقتلته؟ " فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، قال: نعم قتلته، قال: "كيف قتلته؟ " قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني، فأغضبني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك من شيء تؤديه عن نفسه؟ " قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي، قال: "فترى قومك يشترونك"، قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فرمى إليه بنسعته، وقال: دونك صاحبك ... الحديث2. والذي نأخذه من هذا أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يتوجهون إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجناة لمعرفة الحكم، وبعد التحقيق كان الرسول -عليه السلام- يصدر حكمه ثم ينفذ الحكم، وهذا ما نأخذ به صيانة للأرواح وحفظا للأمن.   1 النسعة: هي سير تشد به الرجال، على هيئة أعنة البغال. 2 راجع نصه في نيل الأوطار ج7، ص30، ومثل ذلك ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع اليهودي الذي رض رأس جارية بين حجرين ... وسيأتي نص الحديث في الجناية شبه العمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الفرع الثالث: كيفية استيفاء القصاص: للفقهاء في الفعل الذي يستوفى به القصاص رأيان: أحدهما: يرى المالكية والشافعية والظاهرية: أن القصاص لا يكون إلا بفعل مماثل للفعل الذي تم به القتل؛ لأن المماثلة معتبرة في استبقاء القصاص؛ لعموم قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 1، وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 2، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 3. ولما روي في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رض رأس يهودي بين حجرين، وكان قد قتل جارية بذلك. وروى البيهقي مرفوعا: "من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه"، ولأن المقصود من القصاص التشفي، وإنما يكمل التشفي إذا قتل القاتل بمثل ما قتل به، كما ردوا على حديث "النهي عن المثلة" بأنه محمول على من وجب قتله لا على وجه المكافأة؛ كمن وجب قتله حدا، أو في الحرب. فمن قتل شخصا أو جرحه بمحدد -كسيف ونحوه- أو بمثقل -كحجر نحوه- أو ختق، أو تجويع، أو إلقاء في ماء أو نار، أو إلقاء من شاهق ... كان لولي الدم أن يقتص بمثل هذه الطريقة إذا أراد، فإن   1 سورة النحل الآية رقم 126. 2 سورة الشورى الآية رقم 40. 3 سورة البقرة الآية رقم 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 عدل إلى السيف كان له ذلك، رضي الجاني أو لم يرض؛ لأنه أسهل وأولى للخروج من الخلاف. إلا أنهم استثنوا من ذلك أمورا قالوا: إن القتل فيها لا يكون إلا بالسيف، منها: إذا تمت الجريمة بفعل محرم؛ كالخمر واللواط، أو كان الفعل مما يطول في قتله؛ كالضرب بالعصا والحجر، أو كان القتل بقسامة عند المالكية1، ففي هذه الحالات يكون القتل بالسيف لا غير. الرأي الثاني: ويرى الحنفية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، والإباضية2، والشعبي، والنخعي: أن القصاص لا يكون إلا بالسيف في العنق، فإن تعذر فكيفما أمكن بلا تعذيب، وقد استدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" أخرجه الخمسة إلا البخاري، وإحسان القتل لا يحصل بضربه بغير السيف، وإنما يحسن بضرب العنق بالسيف؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يأمر بضرب عنق من أراد قتله، حتى صار ذلك هو المعروف   1 مغني المحتاج ج4، ص44، والشرح الصغير ج2، ص365. 2 يراجع للإباضية شرح النيل ج15، ص264، فقد جاء فيه أن القاتل يقتل بسيف، كخنجر وموس من السلاح لا بنار أو دخان، أو سم، أو خناق، ولو قتل الجاني غيره بها، أو امتنع "أي تحصن وصعب نيله"، ثم ذكر رأيا آخر فقال: "وجوز أن يقتل الجاني بنار أو نحوها إن قتل بها لقوله صلى الله عليه وسلم: "المرء مقتول بما قتل" رواه أبو داود، أو امتنع، بل يقتل بذلك وبكل ما أمكن أن امتنع، وتعقر له دابته إن امتنع ويضرب في ثيابه جزافا إن امتنع ويهدم قصدا إليه بيت أو نحوه منع نفسه فيه وإن كان البيت ونحوه لغيره، ويغرم ذلك البيت من بيت المال، وإن لم يكن فمن بيت الهادم، ولا يغرم بيت الجاني الممتنع فيه ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 في أصحابه، فإذا رأوا رجلا يستحق القتل قال قائلهم: يا رسول الله، دعني أضرب عنقه، حتى قيل: إن القتل بغير ضرب العنق بالسيف مثلة، وقد ثبت النهي عن المثلة1، كما ثبت نهيه عن التعذيب بالنار بقوله: "لا يعذب بالنار إلا رب النار". كما استدلوا بحديث النعمان بن بشير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا قود إلا بالسيف"، وقد روي هذا الحديث من طرق مختلفة2، وإن كانت لا تخلو من ضعف، إلا أن وروده من عدة طرق يقويه، كما يؤيده حديث: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ... ". وقد أجابوا عن حديث أنس الخاص باليهودي الذي رض رأس جارية بأنه فعل، فإنه نصه: "فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فرض رأسه بين حجرين"، والفعل لا يعارض ما ثبت من أقوال الرسول -عليه السلام- في الأمر بإحسان القتلة، والنهي عن المثلة، وحصر القود في السيف، كما أجابوا عن قوله: "من حرق حرقناه ... " بأن البيهقي قال: في إسناده بعض من يجهل؛ وإنما قاله زياد في خطبته.   1 ففي حديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدورا، لا تمثلوا ... " رواه مسلم في صحيحه. 2 رواه ابن ماجه والبزار والطحاوي والطبراني والبيهقي من هذا الطريق، وأخرجه ابن ماجه أيضا والبزار والبيهقي من حديث أبي بكرة، وأخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة ... "راجع نيل الأوطار ج7، ص2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وإذا ثبتت هذه الأحاديث كانت مخصصة لعموم الآيات التي استدلوا بها، وخاصة وأن الاعتداء بالمثل ليس واردا في كل الأمور، ففي بعضها يقع الجزاء بغير جنس الفعل كالقذف فإن جزاءه الجلد، لا القذف مثل ما قذف به، وكذا لو شتمه بما دون القذف كان عليه التعزير، وأيضا فإنه يمكن أن تفسر مثلية الجزاء في الآيات بالمثلية في نوع العقوبة، لا في استيفائها، فإن كان الاعتداء قتلا كان الجزاء قتلا، وإن كان شجا كان الجزاء شجا. وأما كيفية تنفيذ العقوبة فيستفاد من أدلة أخرى. ومن هذا يتضح لنا رجحان هذا الرأي، وبخاصة أننا إذا نظرنا إلى ما قاله أصحاب الرأي الأول وجدنا أنهم لم يستطيعوا القول بذلك في كل أنواع الجنايات؛ إذ اضطروا إلى إخراج بعضها من عموم ما استدلوا به دون دليل يقضي بهذا التخصيص ... ولكن أدلة الرأي الثاني كانت واضحة، ومتفقة مع ما تحرص عليه الشريعة الإسلامية من الإبقاء على المعاني الإنسانية في تنفيذ أي عقوبة من العقوبات. وهنا في دائرة القتل علينا أن نتساءل: ما المقصود باستيفاء القصاص؟ المقصود بالقصاص أمران: أولهما: وهو أهمهما هو إزهاق روح الجاني كما أزهق روح المجني عليه، وإزهاق الروح يتحقق بأي وسيلة من وسائل الإزهاق، وتتساوى في هذا المعنى كل الوسائل، إلا أن الوسيلة السريعة أقرب إلى روح الشريعة، التي تدعو إلى الإحسان حتى مع الحيوان. وثانيهما: إذاقة الجاني الألم الذي أذاقه للمجني عليه، والشعر بالألم والإحساس به أمر متفاوت، فهو يختلف من شخص إلى شخص، فالاعتداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 به في هذا المجال هو اعتداد بأمر باطني يصعب كشف حقيقته وتقدير مداه حتى تأتي المساواة في هذا المجال. وإذا صعب ذلك كان المعنى الأول -وهو إزهاق الروح- هو المقصود باستيفاء القصاص، وإذا كان هو المقصود به فما كان من الوسائل مزهقا للروح كان محققا لهذا المعنى. ووسائل إزهاق الروح كثيرة، وقد ورد الخبر أنه: "لا قود إلا بالسيف"، وقد تميز السيف من بين هذه الوسائل بالسرعة في الإزهاق، فهل غيره من الوسائل التي تتفق معه في هذا المعنى -أو تزيد عليه- تقاس عليه؟ لا مانع من قياس هذه الوسائل على السيف، وحينئذ يصح استيفاؤه بكل وسيلة يتحقق فيها ما يتحقق في السيف من سرعة الإزهاق بأقل ألم1. رأي القانون: اختلفت الدول في الوسائل التي تنفذ بها حكم الإعدام، فبعضها تنفذه عن طريق الشنق، مثل: إنجلترا، وفرنسا، والبلاد العربية2، وبعض الدول   1 أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر رأيها في ذلك فنصت على أنه "لا مانع شرعا من استيفاء القصاص بالمقصلة والكرسي الكهربائي وغيرهما مما يفضي إلى الموت بسهولة وإسراع، ولا يتخلف الموت عنه عادة، ولا يترتب عليه تمثيل بالقاتل، ولامضاعفة تعذيبه، أما المقصلة فلأنها من قبيل السلاح المحدد، وأما الكرسي الكهربائي فلأنه لا يتخلف الموت عنه عادة مع زيادة السرعة، وعدم التمثيل بالقاتل دون أن يترتب عليه مضاعفة التعذيب". 2 فقد نصت قوانين العقوبات في الدول العربية على تنفيذ عقوبة الإعدام بالشنق، ففي مصر المادة "13" وفي العراق المادة "12" وفي سوريا المادة "43" وفي ليبيا المادة "19". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 اتخذت وسائل أخرى مثل أمريكا التي تستعمل التيار الكهربائي. وعلى ضوء ما قررناه في الفقه الإسلام يتضح لنا سمو فقهنا ومرونته، وأنه يمكن تنفيذ القصاص بالأجهزة السريعة الإزهاق، ومع هذا فالباب مفتوح للعمل بالرأي الأول في بعض صور الجنايات ذات الطابع الخاص؛ كمن تعود القتل بنوع خاص من أدوات القتل -كماحدث مع اليهودي الذي رض رأس الجارية بين الججرين- وقد قيل: إنه تعود1 القتل بهذه الوسيلة، فتعوده ذلك يدل على خطورته، وأن جناياته لم تكون في صورتها العادية، فلزم التشديد عليه، وهذا يقتضي عدم استحقاقه الإحسان المطلوب في تنفيذ القصاص فيه؛ ردعا له، وزجرا لغيره.   1 وسيأتي لنا بحث العود في القتل في الظروف المشددة للعقوبة، وهل يطبق على العائد القصاص أو الحد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 المقصد السادس: الظروف المبيحة للقتل أو المخففة للعقوبة في الفقه الإسلامي: قد تحيط بالجناية بعض الظروف التي تبيح القتل أو تخفف من هذه العقوبة، ونوضح فيما يلي آراء الفقهاء في ذلك مقارنة بالقانون، ثم آراءهم في توقيع عقوبة بدنية على من سقط عنه القصاص بعفو أو صلح. الفرع الأول: الظروف المبيحة للقتل: قد يعرِّض الإنسان المعصوم نفسه لظروف تبيح قتله، وذلك في حالة صياله على الغير، أو في حالة عدم التزامه بحدود الله تعالى واقترافه محارمه أو ترك ما أمر به. ويطلق الفقهاء على الحالة الأولى "الصيال" وعلى الثانية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونبين آراء الفقهاء في كلتا الحالتين: دفع الصائل أو الدفاع الشرعي الخاص: تناول الفقه الإسلامي الظروف التي قد يتعرض لها الإنسان فيخشى على نفسه أو ماله أو عرضه، أو نفس الغير أو ماله أو عرضه، من اعتداء إنسان -عاقلا كان أو مجنونا، صغيرا أو كبيرا- أو اعتداء حيوان مملوك للغير على شيء من ذلك فأجاز أو أوجب "على تفصيل سيأتي" رد الاعتداء ودفعه ولو أدى ذلك إلى قتل الصائل. الصيال لغة: مأخوذ من: صال عليه بمعنى استطال، أو وثب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 والمصاولة: المواثبة، وكذا الصيال وسؤال البعير "بالهمز من باب ظرف" إذا صار يقتل الناس ويغير عليهم. والأصل في ذلك هو قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" رواه أبو داود والترمذي وصححه. وما روي عن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه"، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "فقاتله"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: فإن قتلته؟ قال: "هو في النار" رواه البخاري ومسلم. فهذه النصوص تدل على أن للإنسان أن يدفع من يعتدي عليه، ولو أدى دفعه إلى قتله، وأن هذا الدفاع والقتال هو أمر مشروع، مثل المدافع فيه كمثل من يجاهد في سبيل الله، فإن مات أثناء مدافعته مات شهيدا، وإن مات الصائل أثناء رده ودفعه كان مصيره مصير الظالمين في نار الحجيم. كذلك له أن يدافع عن نفس الغير وماله عرضه، والأصل فيه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمنين يتعاونون على الفتان" أي: الشيطان، وقوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما، ونصرة الظالم رده عن مظلمته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وجوب الدفاع أو جوازه: لا خلاف بين الفقهاء في مشروعية الدفاع عن كل ما ذكرنا، ولكن هل يجب على الإنسان هذا الدفاع بحيث يكون آثما إذا تركه؛ لأن هذا الدفاع أمر يمليه الشرع ويفرضه، أم أنه يجوز له ولا يجب عليه، فيكون من حقه المدافعة، إن شاء قام بها وإن شاء تركها؛ لأنه حق من حقوق العبد، ومن خصائص حق العبد حريته في الانتفاع به واختياره، أو بعبارة أخرى: هل مدافعة المعتدين هي من قبيل المواجبات أم قبيل الحقوق، أو من قبيل حق الله أو من قبيل حق العبد؟ وللإجابة عن ذلك يلزمنا أن نفرق بين الحالات التالية: الحالة الأولى: حالة الدفاع عن العرض: اتفق الفقهاء على أن الدفاع عن العرض واجب يأثم تاركه، فإذا أراد رجل امرأة على نفسها، وكان واجبا عليها الدافع عن نفسها بكل ما يمكنها من ذلك، ولو أدت المدافعة إلى قتله، فإذا قتل كان دمه هدرًا، استنادا إلى ما تقدم من النصوص، وبخاصة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتال من يريد أخذ مال الغير ظلما، والأمر للوجوب، وإذا وجب هذا في المال الذي يجوز بذله وإباحته فدفع المرأة عن نفسها وصيانتها عن الفاحشة التي لا تباح بحال أولى، ولأن التمكين منها محرم، وفي تركها الدفاع عن نفسها نوع تمكين، فيحرم عليها ترك الدفاع. ولقد روى الزهري عن القاسم بن محمد عن عبيد بن عمير: أن رجلا أضاف ناسا من هذيل فأراد امرأة على نفسها، فرمته بحجر فقتلته، فقال: عمر: "والله لا يودى أبدًا"1. وكذلك يجب الدفاع عن زوجه، وما أصاب في ذلك من دم فهو هدر، لا قصاص فيه ولا دية، فقد روي أن عمر بن الخطاب بينما هو يتغدى يوما   1 أي: لا تدفع ديته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 إذ جاءه رجل يعدو، وفي يده سيف ملطخ بالدم، ووراءه قوم يعدون خلفه، فجاء حتى جلس مع عمر، فجاء الآخرون فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر: ما يقولون؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته، فقال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة، فأخذ عمر سيفه فهزه، ثم دفعه إليه، قال له: إن عادوا فعد، رواه سعيد في سننه1. والناظر في حقيقة وجوب المدافعة هنا يجد أنها قد قارنت حق الله؛ وهو الحفاظ على الأعراض، الذي شرع من أجله "حد الزنا" وحد الزنا خالص حق الله تعالى، فتكون مدافعة المعتدي هنا هي نوع من حماية حقوق الله تعالى، وحمايتها واجب على الجميع؛ لأن ضررها يمس المجتمع كله، سواء من كان يراد الاعتداء عليه أو غيره، ولأن وسيلة الوصول إلى الاستمتاع مقررة ومحددة شرعا، فالوصول إليها من غير هذا الطريق هو هدم لشرع الله، وانتهاك لحرماته، فكان التصدي لذلك مفروضا، وترك التصدي لذلك حراما يستوجب الإثم والعقوبة2. الحالة الثانية: الدفاع عن النفس: اختلف الفقهاء في كون الدفاع عن النفس واجبا أم جائزا إذا كان الصائل معصوم الدم. فيرى الحنابلة والشافعية -على الأظهر- أن الدافع هنا جائز وليس بواجب؛ وذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفتنة: "اجلس في بيتك،   1 راجع المغني والشرح الكبير ج10، ص350، ومغني المحتاج ج4، ص195، والبدائع ج7. 2 المغني ج9، ص336. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك"، وفي لفظ: "فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل"، ولخبر أبي داود: "كن خير ابني آدم" يعني: قابيل وهابيل "وقد تقدمت قصتهما". وعلى ذلك اعتمد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- على أحد الأقوال في ترك القتال، عندما هوجم في داره مع إمكان قتال المعتدين وردهم؛ حيث منع عبيده، وكانوا أربعمائة يوم الدار، وقال: من ألقى سلاحه فهو حر. واشتهر ذلك في الصحابة -رضي الله عنهم- ولم ينكر عليه أحد، ولأنه تعارضت مفسدة أن يقتل الصائل، أو أن يمكن من القتل. والتمكين من المفسدة أخف مفسدة من مباشرة المفسدة نفسها، فإذا تعارضتا سقط اعتبار المفسدة الدنيا بدفع المفسدة العليا، فكان الصبر جائزا1. ويرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية -في رأي ثان- والحنابلة2، والزيدية والإمامية" وجوب دفعه ورده، ولو أدى ذلك إلى قتله. وقد استدلوا على وجوب ذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ   1 للإمامية تفصيل حيث قالوا: إن الدفاع عن النفس والمال والحريم جائز مع عدم ظن العطب، وواجب في الأول والأخير بحسب القدرة، ومع العجز يجب الهرب مع الإمكان. وأما الدفاع عن المال فلا يجب إلا مع اضطراره إليه، وكذا يجوز الدفاع عن غير من ذكر مع القدرة، والأقرب وجوبه مع الضرورة وظن السلامة. الروضة البهية ج2، ص294. 2 جاء في الروض المربع ج2، ص353: "ويلزمه الدفع عن نفسه في غير فتنة وعن حرمته وحرمة غيره؛ لئلا تذهب الأنفس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 1، فأمر الله بقتال الفئة الباغية، ولا بغي أشد من قصد إنسان بالقتل بغير استحقاق، فاقتضت الآية قتل من قصد قتل غيره بغير حق. وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فأخبر أن في إيجابه القصاص حياة لنا؛ لأن القاصد لغيره بالقتل متى علم أنه يقتص منه كف عن قتله، وهذا المعنى موجود في حال قصده لقتل غيره؛ لأن في قتله إحياء لمن لا يستحق القتل. وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 2 فأمر بالقتال لنفي الفتنة، ومن الفتنة قصده قتل الناس بغير حق. ويدل على الوجوب أيضا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد الخدري: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذاك أضعف الإيمان" فأمر بتغيير المنكر باليد، وإذا لم يمكن تغييره إلا بقتله فعليه أن يقتله بمقتضى ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم. ولا نعلم خلافا في أن رجلا لو شهر سيفه على رجل ليقتله بغير حق أن على المسلمين قتله، فكذلك الحكم للمقصود بالقتل. وأما الاستدلال بقصة ابني آدم الواردة في قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} فقد قال ابن عباس: معناه   1 الآية 9 من سورة الحجرات. 2 الآية 193 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 لئن بدأتني بقتل لم أبدأك به، ولم يرد: أني لا أدفعك عن نفسي إذا قصدت قتلي، فروي أنه قتل غيلة، بأن ألقى عليه صخرة وهو نائم، فشدخه بها. ولو ثبت صحة ما روي عن الحسن ومجاهد أنه كتب عليهم -أي على آدم وبنيه- إذا أراد رجل قتله أن يتركه ولا يدفعه عن نفسه، قال أبو بكر: وجائز في العقل ورود العبادة بمثله1، فإذا ثبت هذا كان منسوخا لا محالة بشريعة نبينا -صلى الله عليه وسلم- بما ورد من الآيات والسنة واتفاق المسلمين على أن على سائر الناس دفعهم عنه، وإن أتى ذلك الدفع على نفس الصائل. وأما حديث أبي ذر الذي فيه: "وإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف" فإنما عَنَى به ترك القتال في الفتنة وكف اليد عند الشبهة، فأما قتل من استحق القتل فمعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينفه بذلك. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "كن كخير ابني آدم" فإنما عنَى به ألا تبدأ بالقتل، وأما دفع القاتل عن نفسه فلم يمنعه. فإن احتجوا بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس"، فقد قصر حل القتل على هؤلاء ونفاه عن غيرهم، وحينئذ فلا يجوز قتل الصائل قبل أن يقتل، فإنه يقال لهم: إن القاصد لقتل غيره ظلما داخل في هذا الخبر؛ لأنه أراد قتل غيره، فإنما قتلناه بنفس من قصد قتله لئلا يقتله، فأحيينا نفس المقصود بقتلنا للقاصد، ولو حظر قتل من قصد قتل غيره ظلما لوجب مثله في سائر المحظورات.   1 كما شرعت التوبة بقتل النفس في شريعة موسى عليه السلام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية 54 من سورة البقرة، وقد نسخ هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 فإذا أراد الفاجر الزنا أو أخذ المال أمسكنا عنه حتى يفعلها، فيكون في ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستيلاء الفجار وغلبة الفساق والظلمة. ثم إن العقل يقضي، والنفس تلزم الإنسان إذا كان قادرا على الدفاع عن نفسه أو ماله أو عرضه أن يفعل ذلك، وتراخيه في هذا المجال فتح لأبواب الشرور، وتزكية للأشرار، فيجب أن تغلق، وإغلاقها يكون بإيجاب الدفع على المصول عليه وعلى من رأى ذلك من الناس أجمعين. الحالة الثالثة: الدفاع عن مال نفسه: واضح من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- المتقدمة في صدر هذا المبحث الأمر بالدفاع عن المال، ومما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "فقاتله" وهو أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ومثله ما روي عن قابوس بن أبي المخارق عن أبيه قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل يأتيني يريد مالي؟ قال: "ذكره الله" قال: فإن لم يذكر؟ قال: "استعن عليه من حولك من المسلمين" قال: فإن لم يكن حولي منهم؟ قال: $"فاستعن عليه السلطان" قال: فإن نأى عني السلطان؟ قال: "قاتل دون مالك حتى تمنع مالك أو تكون شهيدا في الآخرة" وهو أسلوب أمر أيضا. وقد روى محمد عن أبي حنيفة أنه قال في اللص ينقب البيوت: يسعك قتله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد"، ولا يكون شهيدا إلا وهو مأمور بالقتال إن أمكنه، فقد تضمن كل ذلك إيجاب قتله إذا قدر عليه، كما ذكره الجصاص الحنفي في أحكام القرآن1.   1 أحكام القرآن للجصاص ج1، ص488. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ويرى المالكية والإمامية أنه إذا خاف بتلف المال هلاك نفسه، أو أهله أو شدة أذى، وجب عليه الدفاع عن ماله، ولو أدت المدافعة إلى قتل الصائل، فإن لم تكن هناك ضرورة إلى ذلك جاز الدفع، وأدلتهم هي نفس الأدلة التي سقناها في بداية هذا البحث من الآيات والأحاديث. وأما الشافعية، فقد فصلوا في الحكم بين الأموال التي فيها روح والتي لا روح فيها، وبين الأموال التي تعلق بها حق الغير، والتي لم يتعلق بها هذا الحق، فأما ما فيه روح من الأموال فيجب الدفع عنه إذا قصد إتلافه -ما لم يخش على نفسه أو عرضه- لحرمة الروح، حتى لو رأى أجنبي شخصا يتلف حيوان نفسه إتلافا محرما وجب عليه دفعه على الأصح في أصل الروضة. وكذلك يجب الدفع عن الأموال التي تعلق بها حق الغير، كرهن وإجارة، وقال الغزالي: وإن كان مال محجور عليه أو وقف أو مال مودع وجب على من بيده الدفع عنه، فأما غير ذلك من الأموال فيجوز الدفع عنه ولا يجب؛ لأن هذه الأموال يجوز إباحتها للغير بخلاف الأموال التي سبق ذكرها لمكان الروح منها، أو تعلق حق الغير بها. وأرى رجحان الرأي القاضي بوجوب الدفاع عن المال مطلقا؛ لأن الأدلة لم تفرق بين مال فيه روح ومال لا روح فيه، ولا بين مال تعلق به حق الغير ومال لم يتعلق به هذا الحق، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك واضح؛ حيث عبر في حديث أبي هريرة بصيغة الأمر بقوله: "فقاتله"، وفي الحديث الذي رواه قابوس بقوله: "قاتل دون مالك ... "، وقوله فيما رواه أبو داود: "من قتل دون ماله فهو شهيد". فالأدلة جميعها عامة في كل صور المال، لا فرق بين مال ومال، وأيضا فإن الأموال جميعها فيها حق لمالكها، وفيها حق للغير، وحق للمجتمع؛ إذ الأموال هي ثروة المجتمع ونتاج جهوده بالتعاون والتآزر والعمل، كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 في ميدانه، فهدمها هدم له، وصيانتها صيانة له، ومن هنا كان الدفاع عنها واجبا، كانت للإنسان أم كانت لغيره. الصائل غير المكلف: هذا إذا كان الصائل مكلفا، فأما إذا كان غير مكلف بأن كان صبيا أو مجنونا، أو كان حيوانا، فإنه يجب دفعه، ولو أدى إلى قتله، غير أنه يثور خلاف بين الفقهاء حول وجوب ضمانه. فيرى الحنفية -غير أبي يوسف- أنه لا ضمان في قتل الصائل المكلف، وأما غير المكلف فإنه تجب دية الصبي والمجنون في مال القاتل؛ لأنه قتل نفسا معصومة، وكذلك تجب قيمة الدابة في ماله؛ لأنه أتلف مالا معصوما حقا للمالك؛ لأن الفعل من هذه الأشياء غير متصف بالحرمة، فلم يقع بغيا، فلا تسقط العصمة به لعدم الاختيار الصحيح، وبعبارة أخرى: إن فعل الدابة لا يصلح مسقطا للضمان، وكذا فعلهما لا يصلح مسقطا للدية، وإن كانت عصمة المجنون والصبي حقهما؛ لأن سقوط عصمتهما بفعلهما إنما يكون إذا كان هناك اختيار صحيح منهما بارتكاب الجريمة، وهما معدوما الاختيار الصحيح؛ ولهذا لا يجب القصاص عليهما إذا فعلا ما يوجبه، خلاف العاقل البالغ؛ لأن له اختيارا صحيحا، ولم يجب القصاص في قتل المجنون والصبي لوجود المبيح، وهو دفع الشر، وإذا لم يجب القصاص تجب الدية، أو بعبارة أخرى: إنهم يرون أن الضمان يتبع كون الصيال غير مصحوب بالقصد الصحيح، فإن كان مصحوبا به -كصيال المكلف- لا يكون هناك ضمان، ويقاس الضمان هنا على تضمين المضطر ما أكله من العام مملوك للغير، فإنه يباح له ذلك إنقاذا لحياته، ويضمن المال احتراما من المالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ويرى أبو يوسف أنه يجب الضمان في الدابة، ولا يجب في الصبي والمجنون؛ وذلك لأن فعل الصبي أو المجنون معتبر في الجملة؛ ولهذا إذا أتلفا مالا أو نفسا، وجب عليهما الضمان، أما فعل الدابة فإنه غير معتبر أصلا، حتى لا يعتبر في حق وجوب الضمان؛ لأن العجماء جبار، وكذلك فإن عصمة المجنون والصبي لحقهما، وعصمة الدابة لحق مالكها، فكان فعلهما مسقطا لعصمتهما فلا يضمنان، وتضمن الدابة. ويرى جمهور الفقهاء "المالكية والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، والزيدية، والإمامية، وإسحاق" أنه لا ضمان فيما يترتب على دفع الصائل من قتل أو جرح أو إتلاف سواء كان مسلما أو كافرا، عاقلا أو مجنونا، صغيرا أو كبيرا، قريبا أو أجنبيا، آدميا أو غيره، فلا قصاص ولا دية ولا كفارة ولا قيمة ولا إثم؛ لأنه مأمور بدفعه، والأمر بالدفع يتنافى مع الضمان، أو لأن المصول عليه وجب عليه -أو أجيز له- الدافع عن نفسه فكان فعله مطلوبا شرعا أو مباحا، ولا يترتب على شيء من ذلك ضمان. وأيضا فإن غير المكلف يقاس على المكلف في عدم الضمان، ولأنه قتله لدفع شره، وإذا قتله لدفع شره كان الصائل هو القاتل لنفسه، فأشبه ما لو نصب حربة في طريقه فقذف نفسه عليها فمات بها. وأما قولهم: إنه يقاس على المضطر إلى أكل طعام غيره في الضمان، فهو قياس مع الفارق؛ لأن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه، ولم يصدر منه ما يزيل عصمته، كما حدث هنا في الحيوان أو غير المكلف. ولهذا لو قتل المحرم صيدا لصياله لم يضمنه، ولو قتله لا ضطراره إلى أكله ضمنه، وأما قولهم: إن الصائل غير المكلف يجوز قتله ويضمنه؛ لأنه لا يملك إباحة نفسه، فإن المكلف لا يملك إباحة دمه، ولو قال: أبحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 دمي لم يبح، على أنه إذا صال فقد أبيح دمه بفعله، فيجب أن يسقط ضمانه كالمكلف. الترجيح: وأرى رجحان رأي جمهور الفقهاء؛ لأن الصيال أمر غير مشروع أوجب المشرع دفعه، وإذا كان دفع الشر واجبا، كان القائم على دفعه غير ضامن؛ لأنه يؤدي أمرا مشروعا يحفظ على المجتمع عناصره الحية الفعالة، والتفريق بين المكلف وغيره، يتنافى مع مشروعية الدفاع، ومع حقيقة ما قصد إليه المشرع من حماية الناس من الصيال ... فيجب أن يناط الحكم بالصيال، فإذا وجد وجب دفعه ولو أدى إلى القتل أو الإتلاف أيا كان الصائل. رأي القوانين الوضعية في جناية غير المكلف: يرى شراح هذه القوانين أنه يجوز استعمال حق الدفاع الشرعي ضد المجنون أو الطفل، ولو أن كليهما معفي من العقاب؛ لأن الدفاع الشرعي ليس عقابا يقع على المعتدي، وإنما هو دفع لعدوانه، وهذا يتفق مع ما يراه أكثر الفقهاء، كما سبق إيضاحه. واختلف شراح القوانين فيما إذا كان هجوم الحيوان يمكن دفعه استنادا إلى حق الدفاع الشرعي، أو استنادا إلى حالة الضرورة، فرأى البعض ما يراه فقهاء الحنفية من أن الحيوان الأعجم لا يمكن اعتباره معتديا أو مرتكبا لجريمة، وأن حالة الضرورة هي التي تبيح قتل الحيوان، وبهذا يأخذ القانون المصري م"246"، ورأى البعض الآخر تطبيق نظرية الدفاع الشرعي بالنسبة للحيوان، وهو يتفق مع ما يراه جمهور الفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الدفاع عن عرض الغير ونفسه وماله: لا يختلف الحكم هنا عنه في دفاع الإنسان عن عرضه أو نفسه أو ماله، بل يزداد تأكيدا؛ إذ إن للإنسان الحق في الإيثار بحق نفسه دون حق غيره، وحقوق الغير هي حقوقه؛ لأن المجتمع الإسلامي يمثل خلية واحدة تتعاون في كل ما هو خير، وتدرأ كل ما هو شر عن نفسها أو غيرها، يدل على ذلك الكثير من الآيات والأحاديث، ونعرض فيما يلي موقف الفقه الإسلامي من الدفاع عن الغير: أما الدفاع عن عرض الغير، فلا خلاف في وجوبه، كما وجب في دفاع الإنسان عن عرضه وأهله؛ لأنه لا سبيل إلى إباحته، وسواء كان الصيال على البضع، أو مقدماته -كما صرح الشافعية والإمامية- وذلك لأن مدلول كلمة: "من قتل دون أهله فهو شهيد" يشمل كل تهجم لنيل ما حرم الله تعالى عليه نيله، وقد حرم عليه البضع ومقدماته، وحسبنا في ذلك إهدار الرسول -صلى الله عليه وسلم- دم من تلصص بالنظر إلى حرمات الغير، فقد روي عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح" رواه مسلم، وعن سهل بن سعد الساعدي "ص" أن رجلا اطلع في حجر باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدري يحك بها رأسه، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به عينك"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإذن من أجل النظر" رواه مسلم. وأما الدفاع عن نفس الغير، فحكمه حكم دفاع الإنسان عن نفسه، فجمهور الفقهاء يرونه واجبا، حتى إن الشافعية الذين رأوا أن دفاع الإنسان عن نفسه جائز وليس بواجب أوجبوا -في رأي ثان لهم- الدفاع عن الغير، فجاء في مغني المحتاج: "وقيل: يجب الدفع عن غيره قطعا؛ لأن له الإيثار بحق نفسه دون حق غيره"، وبه جزم البغوي وغيره، وروي في مسند أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 "من أذل عنده مسلم فلم ينصره، وهو قادر أن ينصره، أذله الله على رءوس الخلائق يوم القيامة"، كما أن الحنابلة قالوا: إنه يلزم الدفع عن غيره في غير فتنة، أما في الفتنة فقد أجازوا ذلك، ومستندهم في هذا هو نفس الأدلة التي سأقوها في الدفاع عن النفس، وقد رأينا رجحان رأي من رأى وجوب الدفاع عن النفس هناك؛ لما ساقوه من أدلة، وأما الفتنة فإنما قصد بالحديث الوارد بشأنها ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة، فأما من استحق القتل بصياله على نفس الغير أو حريمه أو ماله، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم ينفه بذلك الحديث. وأما الدفاع عن مال الغير، فقد اختلف الفقهاء في وجبه، فيرى الحنابلة والشافعية جوازه، غير أن الغزالي أوجبه على القادر على ذلك؛ حيث قال: "مهما قدر على حفظ مال غيره من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في ماله، أو نقصان في جاهه، وجب عليه، وهو أقل درجات حقوق المسلم، وهو أولى بالإيجاب من رد السلام"، وكذلك يرى جمع من الفقهاء وجوبه -ومنهم الحنفية والمالكية- كما هو ظاهر تعميمهم الحكم، فإنهم لم يفرقوا في الحكم بين دفاع الإنسان عن عرضه ونفسه وماله، أو عرض الغير ونفسه وماله، فأوجبه الحنفية والمالكية -وكذا الإمامية- عند الضرورة. ويرى الزيدية أن دفعه واجب، وقتله جائز إذا لم يندفع بغيره؛ لعموم قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية 194 من سورة البقرة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، والصائل ظالم فيمنع من ظلمه، وذلك نصره. وجاء في تبيين الحقائق عن محمد عن أبي حنيفة في رجل شهر على المسلمين سيفا، قال: حق على المسلمين أن يقتلوه، ولا شيء عليهم؛ وذلك لأنه لما شهر عليهم السيف وقصد قتلهم صار حربا عليهم، فكان كالباغي فبطلت عصمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 دمه للمحاربة، قال تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} الآية، فجاز للمسلمين الذين شهر عليهم السف أن يقتلوه، وفي قوله: "عليهم أن يقتلوه" إشارة إلى أنه وجب عليهم أن يقتلوه دفعا للشر عن أنفسهم؛ لأن دفع الشر واجب، وجاز لغيرهم أن يعينوهم على ذلك حتى يدفعوا الشر عنهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" يعني: إذا كان ظالما تمنعه من الظلم، وإذا كان مظلوما تمنع الظلم عنه1. وأيد هذا ما جاء في رد المحتار من أنه يجب دفع الضرر، فإن لم يندفع إلا بالقتل قتله. تكييف القوانين الوضعية للدفاع الشرعي: اختلف تكييف القوانين الوضعية للدفاع الشرعي باختلاف الأزمنة، فقديما كانوا يرون أنه حق مستمد من القانون الطبيعي، لا القانون الوضعي، وفي العصور الوسطى اعتبر الدفاع حالة لا تمنع من العقوبة؛ ولكنها تؤهل للعفو عن العقوبة. وفي القرن الثامن عشر فسر الدفاع بأنه حالة ضرورة تبيح للمرء أن يدافع عن نفسه بنفسه، وتنشأ الضرورة من عدم وجود حماية حاضرة من الهيئة الاجتماعية. وفي القرن التاسع عشر كيف الدفاع بأنه حالة من حالات الإكراه؛ لأن الخطر المحدق بالمدافع يجعله عديم الاختيار، ولأن الجاني يندفع بغريزته للمحافظة على حياته، وقد أخذ على هذا التكييف بأنه لا يعلل الدفاع عن الغير ولا عن المال، وأنه يؤدي إلى تبرير الدفاع عند استعمال الحق أو أداء الواجب.   1 الخرشي ج5، ص352، والتاج المذهب ج4، ص315، وتبيين الحقائق ج6، ص110، ورد المحتار ج5، ص481. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وأحدث الآراء اليوم في القوانين الوضعية أن الدفاع استعمال لحق إباحة القانون الوضعي، بل أداء لواجب؛ لأن من حق كل إنسان -بل ومن واجبه- أن يُعنَى بالمحافظة على حياته، وأن يدافع عن نفسه وأهله وماله، فضلا عن أن الجماعة لا مصلحة لها في العقاب، والناظر في هذا التطور القانوني يجد أنه في نهاية مطافه قد انتهى في القرن العشرين إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية في القرن السابع، فالدفاع يكيف في الشريعة بأنه واجب في جميع الحالات -على رأي الجمهور- وواجب في أكثرها حق في بعضها -على رأي بعض الفقهاء- وهو يكيف اليوم في القوانين الوضعية بأنه حق إن لم يكن واجبا1. شروط دفع الصائل: تناول الفقهاء بالبحث ما يلزم من شروط لاعتبار المصول عليه في حالة دفاع شرعي نبينها فيما يلي: أولا: أن يكون هناك اعتداء واقع فعلا، أو متوقع الحدوث، فإذا كان الفعل مشروعا في ذاته لم يبح دفعه، كالأفعال الصادرة بإذن الإمام أو نائبه، وتنفيذ الأحكام في المجرمين، وكالتأديب والتهذيب أو التعليم، إذا تم بما يصلح لذلك -كما سبق إيضاحه- وسواء حل الاعتداء بالنفس أو بالعرض أو بالمال، وسواء كان من نفس الإنسان على نفسه أو على عرضه أو على ماله، أو على نفس الغير أو عرضه أو ماله، وسواء كان صادرًا من إنسان مكلف أو غير مكلف، أو من حيوان -على نحو ما بيناه آنفا- فيصال أي من هؤلاء يبيح دمه، ويظل المصول عليه معصوم الدم ما دام الاعتداء قائمًا.   1 التشريع الجنائي الإسلامي للمرحوم عبد القادر عودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ولقد أوضح الفقهاء أن توقع الاعتداء كالاعتداء يعطي للمصول عليه حق الدفاع، والعبرة في ذلك هو تقدير المصول عليه المبني على أسباب معقولة، فلا يصح أن يقدم إلا مع العلم أو الظن بأنه يقصده بالاعتداء لا التوهم، فإذا تحقق ذلك أمكنه أن يبدأ متدرجا في الأساليب، حتى ولو أدى ذلك إلى قتله، أما لو اندفع الاعتداء كأن فر أو وقع في ماء أو نار أو انكسر رجله أو حال بينهما حائل من جدار أو نحوه، فإنه يعود معصوما كما كان قبل العدوان، وكذا إذا لم يكن هناك توقع للاعتداء. ثانيا: أن يرد المصول عليه الاعتداء بأخف الأضرار، وأول هذه المراحل وأسلمها أنه إذا كان الصائل مكلفا ناشده الله ثلاثا أن يكف عن الاعتداء؛ لما رواه النسائي عن أبي هريرة: "أن يناشد صاحب المال اللص بالله تعالى -ثلاثا- قبل قتاله" تذكيرا وإنذارا؛ لكي يبتعد ويكف عن الاعتداء، فإن لم يرتدع كان للمعتدَى عليه أن يرده عن اعتدائه1، بادئا بأخف ما يمكن دفعه به، فإن أمكن دفعه بكلام أو استغاثة بالناس حرم الدفع بالضرب، وإن أمكن بيد حرم بسوط، وإن بسوط حرم بعصا، وإن أمكن بجرح حرم قطع عضو، وإن بقطع حرم القتل؛ لأن ذلك أبيح للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، فلا ضرورة في الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل، فإذا خالف المصول عليه وعدل إلى رتبة أعلى مع إمكان الاكتفاء بالأدنى كان ضاما لما أتلف من نفس أو دونها، ووجب القصاص إذا كان عمدا2.   1 الخرشي ج5، ص354، والقرطبي ج6، ص157، والروضة البهية ج2، ص394. 2 مغني المحتاج ج4، ص156، والمغني والشرح الكبير ج19، ص353، الروض المربع ج2، ص353، الروضة البهية ج2، ص394 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 والمقياس في تقدير ما يندفع به الصائل من أعمال يرجع إلى ظن المدافع وتقديره المبني على أسباب معقولة. فلو أنه لم يجد في يده إلا السلاح، وكان الصائل ممن يمكن رده بضرب السوط أو العصا، كان له استخدام السلاح. وكذا لو التحم الصائل والمصول عليه في القتال، واشتد الأمر عن الضبط سقط اعتبار الترتيب في رده، أو كان الصائلون جماعة، فإن التحم بأحدهم نفذ الباقون كان له الرد بما يراه دافعا لشرهم، أو كان الصائل يباشر الزنا فعلا، كما حدث مع الشخص الذي قتل رجلا وجده يزني بامرأته ورفع أمره إلى عمر فأهدر دم المقتول. فالمقياس الصحيح للتدرج في دفع الصائل يرجع إلى تقدير المصول عليه المبني على أسباب معقولة يراعي فيه نوع الجناية التي قصدها أو باشرها الصائل. كما تناول الفقهاء بالبحث رد العدوان بهرب المصول عليه إلا ما يحميه من الاعتداء، فيرى بعض الفقهاء وجوبه وتحريم القتال، كما وجب عليه الأكل في المخمصة، ولأنه مأمور بتخليص نفسه بالأهون فالأهون، والهرب أخف أسهل من غيره، فلا يعدل إلى الأشد، فإذا لجأ إلى الأشد كان ضامنا، فيقتص منه، وقال البغوي: تجب الدية، وسواء كان المقصود نفسه أو ماله أو عرضه ما دام يمكنه إنقاذ المال والعرض معه ومنع العدوان عليهما، وإلا لم يجب ويلزمه أن يثبت ويدافع. ويرى بعض الفقهاء أنه لا يجب عليه الهرب؛ لأن إقامته في هذا الموضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 حق له، وجائزة، فلا يكلف الانصراف إلى مكان آخر، أو لأنه دفع عن نفسه، والدفع عن النفس عند من يقول بجوازه وعدم وجوبه -على خلاف ما رجحناه- يقتضي ألا يلزم الهرب. والرأي الذي أرى رجحانه هنا هو أنه إذا كان المصول عليه غير قادر على الدفع، ويخشى على نفسه أو عرضه أو ماله، ويتيقن من نجاة نفسه أو عرضه أو ماله بواسطة الهرب، حينئذ يلزمه الهرب. أما إذا كان قادرا على الدفع، فإنه يلزمه الدفع، ولا يجوز له أن يهرب درءا للعدوان وتقليصا للإجرام، وكذلك الحكم إذا لم يتيقن نجاته بالهرب أو نجاة عرضه أو ماله، فإنه حينئذ يجب عليه الدفع بكل ما أوتي؛ إذ إن الأحاديث الواردة في هذا الباب كلها أمرت بالمدافعة ورد الاعتداء: "فقاتله" و "قاتل دون مالك"، وقياسه على الجهاد يلزمه الثبات؛ لأن المجاهد يجب عليه ألا يفر إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة، أو متيقنا أن ترك القتال أكثر تحقيقا للمصلحة العامة. ثالثا: أن يتم دفع الصائل حال قيام الاعتداء أو توقعه، أما إذا لم يكن هناك اعتداء أو توقع اعتداء فإنه لا يكون هناك سبب يبيح له الاعتداء عليه؛ إذ هو معصوم الدم لم يوجد ما يؤثر في عصمته. وكذلك إذا ارتدع الصائل وعدل عن اعتدائه عادت إليه عصمة دمه فور حدوث ذلك، ولا يحل للمصول عليه الاعتداء عليه، فإن فعل كان مسئولا عن فعله مسئولية كاملة، فإن قتله اقتص منه، ولأنه لما اندفع اعتداؤه وشره لم تعد هناك حاجة ولا ضرورة إلى قتله، فعادت عصمته، فإذا قتله قتل نفسا معصومة ظلما فيقتص منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ويعتبر اعتداء الصائل قائما إذا استولى على مال أو غيره وولى به هربا؛ حيث يكون للمصول عليه استرداده، ويعتبر في حالة دفاع إلى أن يتم له ذلك؛ لقول عليه الصلاة والسلام: "قاتل دون مالك" أي: لأجل مالك، فله المقاتلة حتى استرداد المال؛ لأن له أن يمنعه من أجل ماله بالقتل ابتداء، فكذا له أن يسترده بالقتل انتهاء إذا لم يقدر على أخذه منه إلا به. ولو علم أنه لو صاح به يطرح ماله ويلقيه فلم يفعل ذلك وقتله مع ذلك يجب القصاص عليه؛ لأنه قتله بغير حق، وهو بمنزلة المغصوب منه إذا قتل الغاصب حيث يجب عليه القصاص؛ لأنه يقدر على دفعه بالاستعانة بالمسلمين والقاضي، فلا تسقط عصمته1. رابعًا: أن يثبت المصول عليه أنه كان في حالة دفاع شرعي عن النفس أو المال أو العرض، كأن يأتي ببينة على أنه قبله أو أصابه دفعا عن نفسه أو عرضه أو أنه دخل منزله يكابره على ماله فلم يقدر على دفعه إلا بذلك، فإن لم يثبت ذلك لزمه القصاص، وسواء وجد في دار القاتل أو في غيرها، أو وجد معه سلاح أو لم يوجد؛ لما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه سئل عمن وجد مع امرأته رجلا فقتله، فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته، ولأن الأصل عدم ما يدعيه فلا يثبت بمجرد الدعوى، وإن اعترف ولي الدم بذلك فلا قصاص عليه ولا دية. ولما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يوما يتغدى إذ جاء رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بالدم، ووراءه قوم يعدون خلفه، فجاء حتى جلس مع عمر، فجاء الآخرون فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر: ما يقولون؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته، فقال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه ضرب   1 رد المحتار ج5، ص482، وتبيين الحقائق ج6، ص111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة، فأخذ عمر سيفه فهزه، ثم دفعه إليه، وقال: إن عادوا فعد، رواه سعيد في سننه. وكذلك إذا قامت القرائن على صدق مدعاه كأن دخل عليه منزله شاهرا سلاحه مقبلا عليه يريد نفسه أو أهله أو ماله. وكما نحتاج إلى البينة في إثبات الاعتداء نحتاج إليها أيضا في إثبات أنه كان لا يرتدع إلا بهذا النوع الأشد من الدفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الدفاع الشرعي العام: المعروف هو: ما أمر الله به، أو هو كل قول وفعل وقصد حسَّنه الشرع وأمر به، والمنكر هو: ما نهى الله عنه، أو هو كل قول وفعل وقصد قبحه الشرع ونهى عنه. مما تميزت به الشريعة الإسلامية أنها جعلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا من واجباتها، وفرضا من فروضها؛ تنقية للمجتمع من الأدران، وإبعادا له عن مخالفة ما شرعه الله، وحماية للمجتمع من عبث العابثين، ومن تهجم المتهجمين، وتوجيها لأفراده وجماعاته إلى عمل الخير، وفعل المأمور به، وترك المنهي عنه، والالتزام بحدود الله جل شأنه وبشريعته، وقد أمر بذلك في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: فمن الكتاب قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الآية 104 من سورة آل عمران، وقوله جل شأنه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} الآية 71 من سورة التوبة، وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية 110 من آل عمران1.   1 الآيات في ذلك كثيرة: راجع الآيات: 13، 14 من آل عمران، و2، 78، 79 من المائدة، و41 من الحج، و114 من النساء، و9 من الحجرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ومن السنة: ما روي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم. وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" رواه مسلم. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض ثبت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} الآية 105 من المائدة، فقد روي عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر على المنبر يقول: يأيها الناس، إني إراكم تأولون هذه الآية، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا، أوشك أن يعمهم الله بعقابه"، فأخبر أبو بكر أن هذه الآية لا رخصة فيها في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا يضر ضلال من ضل إذا اهتدى هو بالقيام بفرض الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وروي عن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: يا أبا ثعلبة، كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ؟ فقال: أما والله لقد سألت بها خبيرا، سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه كقبض على الجمر، للعامل فيهم مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله" قال: وزادني غيره: قال: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم". وهذا يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كانت الحال على ما ذكر؛ لأن ذكر تلك الحال تنبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة، وفرض النهي عن المنكر في هذه الحال إنكاره بالقلب. صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لا خلاف بين الفقهاء في أنه فرض، إلا أن فريقا من الفقهاء يرى أنه فرض عين، على كل أحد في نفسه أن يقوم به على قدر استطاعته، كفريضة الحج، فلا يسقط عنه لقيام غيره به، حكومة، أو جماعة، أو أفرادا، علماء أو جهالا، بل لا بد من أن يباشره كل فرد من أفراد المسلمين إذا كان قادرًا، وحينئذ تكون الآية: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ... } قد خرجت مخرج الخصوص مجازًا، كقوله تعالى: {يَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} ومعناه ذنوبكم؛ أي: أنه يجب أن تدعو الأمة إلى هذا وتقوم به جميعها. ويرى فريق آخر أنه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد أثم الناس جميعا كفريضة الجهاد؛ لأن "من" في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} حقيقة في التبعيض، وذلك يقتضي قيام البعض به دون البعض، فدل ذلك على أنه من فروض الكفاية، وهذا هو الظاهر. ولقد أفاض الفقهاء في بيان الشروط التي يلزم توافرها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء من حيث الآمر أو الناهي -كاشتراط التكليف، والإيمان، والقدرة، والعدالة، وإذن الإمام- أو من حيث ما يلزم توافره في المنكر -كاشتراط وجوده في حال النهي وظهوره- أو من حيث منهج دفع مقترفه. ولما كانت الإفاضة في ذلك تنقلنا إلى مبحث "الحسبة" في الفقه الإسلامي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وهو مبحث خاص1، وتخرجنا عن موضوعنا؛ لذلك آثرت أن أكتفي بهذا التعريف الموجز، منوها بأن منهج الدفاع هنا يجب أن يتم طبقا لما قررناه بالنسبة للصائل سواء بسواء. والفرق بين دفع الصائل، ودفع المقترف لمنكر هو أن الأول يصدر عنه اعتداء وهجوم على النفس أو المال أو العرض، أما الثاني فإنه قد لا يكون منه هجوم على نفس الغير أو ماله أو عرضه؛ إذ يكون باقترافه أمرا لا يستدعي ذلك؛ كشرب الخمر، أو زنا بالرضا، أو إقدامه على قتل نفسه أو إهلاك ماله أو مال غيره برضا، وما إلى ذلك من الأفعال التي لا يوجد فيها صيال؛ ولكن يوجد فيها انتهاك لحرمة الشرع وتعد على حدوده.   1 راجع: إحياء علوم الغزالي ج5، ج7، وأحكام القرآن للجصاص ج2، ص34، 591، وتفسير القرطبي، والكشاف، والمنار للآية الكريمة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ... } والحسبة في الأحكام السلطانية للماوردي لأبي يعلى، ولفضيلة الشيخ إبراهيم الشهاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الفرع الثاني: الظروف المسقطة للقصاص أو المخففة للعقوبة: قد تقترن الجناية بظروف طبيعية أو عارضة تجعل توافر القصد الجنائي فيها أمرا غير مقطوع به، إما لفرط الصلة وقوة الرابطة بين الجاني والمجني عليه مما يبعد هذا القصد، كما في جناية الأب على ابنه، أو لضعف في العقل أو قصور في الإدراك، طبيعيا كان كما في جناية الصبي والمجنون، أم عارضا كما في جناية السكران، أو كان عدم القصد ناشئا عن أن الجاني كان مسلوب الإرادة وقت ارتكابه الجناية بفعل قاهر كالإكراه، ولقد تأول الفقهاء هذه الظروف جميعها، وبينوا أثرها على العقوبة، ونوضح آراءهم كما نبين موقفهم من رضا المجني عليه بالجناية مع مقارنتها بالقانون. جناية الأب على ابنه: يتبين لنا مما ذكرناه في شروط استيفاء القصاص1 أن للفقه الإسلامي في جناية الوالد عن ولده ثلاثة آراء: الرأي الأول: يرى الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، والإباضية: أن الأب لا يقتل بابنه؛ لما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يقاد للوالد بالولد" 2.   1 راجع ما تقدم من النصوص، كما يراجع للإباضية شرح النيل ج15، ص56. 2 رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه ابن الجارود والبيهقي، وقال الترمذي: إنه مضطرب والعمل عليه عند أهل العلم ... وقال الشافعي: طرق هذا الحديث كلها منقطعة، وقال عبد الحق: هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصلح فيها شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وأيضا فإن قوله عليه الصلاة والسلام: "أنت ومالك لأبيك" يقتضي عدم إيجاب القصاص؛ وذلك لأن مقتضى إضافة الابن إلى الأب تمكينه من ابنه، فإذا لم تثبت حقيقة الملكية ثبتت بالإضافة شبهة الملكية، الشبهة تسقط القصاص، ولأنه لما كان الأب سببا في إحياء الابن، فلا يكون الابن سببا في موته، ولا يخشى من أن القول بذلك يؤدي إلى انتشار قتل الآباء للأبناء؛ لأن ما أودعه الله تعالى في قلوبهم من فرط الشفقة والمحبة لأبنائهم يحول دون ذلك؛ لأن الوالد يحب ولده لمعنى في ذات الولد، وهو كونه ولده، غير مرتبط هذا الحب بشائبة مصلحة ظاهرة؛ إذ الابن يأخذ والأب يعطي غالبا، وكذلك يحبه لأن في حياته امتداد ذكره، وتخليد اسمه، واتصال آماله، وفي كل هذه المعاني ما يقف حائلا دون قصد القتل. وقالوا: إن هذا الحكم يشمل الأصل وإن علا، أبا أو أما، والابن وإن نزل ابنا أو بنتا، ولم يخالف في هذا غير الإمامية والإباضية في رأي لهم؛ حيث تمسكوا بمنطوق الحديث فجعلوه قاصرا على الوالد وإن علا والابن وإن نزل، فتقتل الأم بابنها والأجداد من قبلها يقتلون مثلها، وكذلك الجدات مطلقا. الرأي الثاني: يرى المالكية التفريق "في قتل الأب ابنه" بين أمرين؛ أولهما: أن يقصد قتله بآلة قاتلة قطعا كالسيف ونحوه، فإنه يكون قاتلا عمدا ويقتص منه؛ لأن هذا الفعل عمد حقيقة لا يحتمل غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ثانيهما: أن يقتله بغير ذلك، كما لو ضربه بعصا ونحوها، فإنه لا يقتص منه؛ لأن مثل هذه الآلة موضوعة للتأديب، وقد شرع للأب أن يؤدب ابنه. الرأي الثالث: يرى عثمان البتي أنه يقاد الوالد بالولد مطلقا؛ لعموم آيات القصاص، ومنها قول تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} . الترجيح: وإذا صح الحديث المروي عن عمر فإنه يكون مخصصا لعموم الآية، وهو بعمومه يدل على ألا يقتل الأب بابنه مطلقا، سواء قتله بسيف ونحوه، أو قتله بعصا ونحوها. وقد قال ابن عبد البر في هذا الحديث: "حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته تكلفا"، وقد قضى عمر بن الخطاب في قصة المدلجي الذي رمى ابنه بالسيف فقتله بألا يقتص منه، وألزم الأب الدية، ولم يعطه منها شيئا، وقال: "ليس لقاتل شيء" فلا يرث من الدية إجماعا، ولا من غيرها عند الجمهور، ومثل الأب الأم؛ لأن المعنى فيهما واحد، بل إن شفقة الأم وحنانها قد تفوق شفقة الأب؛ لذلك أرى رجحان الرأي الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 جناية الصبي: تميز الفقه الإسلامي عن غيره من كل التشريعات والنظم بأنه قد تناول بالتحليل والدراسة حياة الإنسان منذ علوقه في بطن أمه حتى وفاته وبعد فاته، وبين ما يكون للإنسان من حقوق وما عليه من واجبات في كل مرحلة من مراحل حياته، وجعل له أهلية: أهلية وجوب -بها يكون صالحا للإلزام والالتزام، أو تحمل الحقوق وأداء الواجبات- وأهلية أداء -بها يكون صالحا لأن تصدر منه الأقوال والأفعال على وجه يعتد به شرعا- وجعل الأهلية الأولى مقرونة بالحياة أو بالذمة، وجعل الثانية مقرونة بالعقل، فإذا نضج العقل وكمل كلمت هذه الأهلية، وإذا كان ناقصا بسبب صغر أو جنون أو عته نقصت هذه الأهلية، وهذا النوع من الأهلية -وهو أهلية الأداء- هو الذي ترتبط به وتتصل به المسئولية من الأقوال، وكذا الأفعال، وبخاصة ما كان منها ضارا. ولما كان بحثنا هنا خاصا بالجناية على النفس؛ لذلك نقصر حديثنا عن جنايته على هذا الدائرة من أفعاله، وتيسيرا لمعرفة آراء الفقهاء نقسم مراحل حياة الإنسان إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: هي ما دون السابعة، لقد ميز الفقهاء هذه المرحلة من غيرها؛ لأن الغالب فيها عدم التمييز، ونقصد بالتمييز أن يفهم كلام العقلاء ويحسن الإجابة عنه؛ ولذلك سمي بالصبي غير المميز؛ أي: أن الغالب في هذه المرحلة أن يكون على هذه الصفة، وإن شذ بعض أفراده؛ لأن الغالب حكم الكل، والشاذ لا حكم له، كما أن تحديدها بالسابعة قد استأنس الفقهاء فيه بقوله صلى الله عليه وسلم: "مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا، واضربوهم إذا بلغوا عشرا". أما قبل السابعة فليس هناك أمر؛ لأن الأمر والنهي يناطان بوجود العقل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وهو قبل السابعة يغلب عليه عدم وجود التمييز، الذي هو أول مراحل النمو العقلي، وإذا كان الأمر على هذه الصفة فإذا وقعت منه جناية على إنسان فهل توقع عليه عقوبة أو يلزمه جزاء؟ أجمع الفقهاء على أنه لا عقوبة عليه في هذه السن؛ لأن المعنى الذي شرعت من أجله العقوبة لا يتحقق في الصبي؛ لانعدام عقله أو قصوره قصورا بينا؛ ولكن هل تكون العاقلة مسئولة عن جنايته، فتدفع الدية قياسا لها على الجناية خطأ، وكما سيتضح لنا فيما بعد أن تحمل العاقلة لبعض الديات هو نوع من المواساة لأسرة المقتول، ومعاونة لهم، وتعاونا مع من وقعت منه الجناية، وقد يكون أيضا فيه نوع من المسئولية عن تعويض بعض الأضرار التي تقع ممن لا يعقلون منهم حتى يحتاطوا في تربيتهم ويبعدوهم عن موجبات الضمان، وللفقهاء رأيان في هذا: الرأي الأول: أن جنايته هدر، لا شيء فيها من عقوبة أو دية أو غيرهما، وهو رأي الظاهرية وربيعة1؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الغلام حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق"، ولما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "لا قود ولا قصاص ولا حد ولا جراح ولا قتل ولا نكال على من لم يبلغ الحلم، حتى يعلم ما له في الإسلام وما عليه". الرأي الثاني: أن جنايته كالخطأ، تجب فيها الدية على العاقلة، كما تجب في الخطأ، وهو   1 روي عن ربيعة أنه إذا كان الصبي صغيرا جدا، فلا شيء على عاقلته إلا في ماله، وإن كان يعقل فالدية على عاقلته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 رأى جمهور الفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية، وهو قول الزهري وحماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي وقتادة" وذلك لما روي عن علي بن أبي طالب: أن ستة صبيان تغاطوا في النهر، فغرق أحدهم، فشهد اثنان على ثلاثة، وشهد الثلاثة على الاثنين، فجعل على الاثنين ثلاثة أخماس الدية، وجعل على الثلاثة خمس الدية. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم" فإن المرفوع هنا هو الإثم والذنب1 لا الدية. المرحلة الثانية: وهي مرحلة الصبي المميز، وهو من بلغ السابعة ولم يصل إلى سن البلوغ، والخلاف الذي ورد في المرحلة السابقة هو بعينه ما ورد هنا، غير أن رأيا ثالثا ظهر معنا هنا، وهو ما ورد عن الشافعية أنهم قالوا: "عمد الصبي عمد إذا كان لو نوع تمييز"، وهو الأظهر في المذهب، والظاهر أنهم لا يوجبون عليه القصاص، وإنما يوجبون الدية مغلظة في ماله2. المرحلة الثالثة: وهي مرحلة ما بعد البلوغ، وبه تكمل المسئولية وتتم   1 المرفوع في الحديث إنما هو الإثم فقط؛ لأنه من باب خطاب التكليف، وأما الضمان فهو غير مرفوع؛ لأنه من باب خطاب الوضع، وخطاب التكليف هو الأحكام الخمسة "الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة"، ويشترط فيه علم المكلف وقدرته، وخطاب الوضع، وهو الخطاب بكثير الأسباب والشروط والموانع، لا يشترط فيه علم المكلف ولا قدرته، ولا كونه من كسبه، فيضمن النائم ما أتلفه في حال نومه من الأموال في ماله، ويضمن ما أتلفه من الدماء، فإن أتلف نفسا كانت فيها الدية على عاقلته. 2 راجع: مغني المحتاج ج4، ص10، والأشباه للسيوطي ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الأهلية، فقد جعل المشرع البلوغ أمارة على تكامل العقل؛ لأن الاطلاع على تكامل العقل متعذر؛ لأنه أمر خفي، فأقيم البلوغ مقامه؛ لأن البلوغ به تتكامل القوى الجسمانية، وتتم التجارب والإدراكات التي هي مراكب للقوى العقلية، ولأن البلوغ أمارة ظاهرة منضبطة يمكن أن تعلق الأحكام بها حتى تصدر على نسق واحد، ولا يضطرب التكليف؛ إذ إن للبلوغ علامات ظاهرة في الذكر والأنثى، فإذا وجدت هذه العلامات حكم ببلوغه. وإذا لم توجد كان البلوغ بالسن، وقد اختلف الفقهاء في تقديره، فيرى جمهور الفقهاء "أبو يوسف ومحمد ابن الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والإمامية، ورأي عند المالكية" تقديره بخمس عشرة سنة؛ وذلك لأنه المعتاد الغالب، ولما روي عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: عرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، وعرضت عليه في السنة الثانية فأجازني، ويقصد من عرضه على الرسول -صلى الله عليه وسلم- تقديمه للاشتراك في القتال، وقد أجيز اشتراكه في سن الخامسة عشرة. ويرى المالكية تقديره بثماني عشرة سنة للفتى والفتاة، ويوافقهم أبو حنيفة في الفتى ويجعله للفتاة سبع عشرة سنة لسرعة بلوغها، وقد استدلوا على ذلك بما روي عن ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال: "حتى يبلغ أشده" أي: ثماني عشرة سنة1. ولما كان البلوغ في بلادنا يغلب في سن الخامسة عشرة؛ بل يندر التأخر عن هذه السن بالنسبة للفتى، أما الفتاة فهي أسبق من ذلك بكثير؛ لذلك   1 وللمالكية خمسة أقوال، ففي رواية ثمانية عشر، وقيل: سبعة عشر، وزاد بعض شراح الرسالة ستة عشر، وروى ابن وهب خمسة عشر؛ لحديث ابن عمر. نظرية الحق للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 أرجح رأي جمهور الفقهاء، وإذا تم لنا هذا كان بلوغ سن الخامسة عشرة هو الحد الفاصل بين مرحلة انعدام المسئولية الجنائية ومرحلة قيام هذه المسئولية، ومن ثم يعاقب البالغ بالعقوبة المقررة على الجرم الذي يقترفه. الترجيح: وأرى أن رأي جمهور الفقهاء -الذي يقتضي بإيجاب الدية على عاقلة الصبي، سواء كان مميزا أو غير مميز- هو الراجح؛ لما ذكروه من أدلة، ولما فيه من النظر إلى كل من القاتل وأسرة المقتول، أما بالنسبة للأول فقد روعت حالة قصوره وضعفه العقلي المستدعي التخفيف عقلا وشرعا، وانعدام قصده الصحيح، ومن ثم كانت جنايته كجناية المخطئ في إيجاب الدية. وأما بالنسبة للثاني فلأن أسرة المقتول في حاجة إلى تعويض عن دم المقتول، فكان إيجاب الدية لهذه الأسرة على عاقلة الجاني جبرا للنقص الذي أصابها، والرزء الذي حل بها، وكذلك فإن في إيجابها على العاقلة تنبيها لها وتوجيها لنظرها إلى رعاية أطفالها وصبيانها وتربيتهم التربية المناسبة حتى لا يقعوا في مثل ذلك مرة أخرى. وأما إن كان للصبي نوع تمييز -كما قال شافعية- فإن في عقوبة التعزير كفاء، وحسبنا في ذلك ما أشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتقدم: "واضربوهم إذا بلغوا عشرا"، والضرب يكون بيد لا بخشبة. ولقد نص ابن حزم الظاهري على وجوب تثقيفهم لكف أذاهم فيقول: "إلا أن من فعل هذا من الصبيان أو المجانين أو السكارى في دم أو جرح أو مال ففرض ثقافه في بيت ليكف أذاه حتى يتوب السكران ويفيق المجنون ويبلغ الصبي؛ لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وتثقيفهم تعاون على البر والتقوى، وإهمالهم تعاون على الإثم والعدوان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 جناية المجنون: الجنون هو اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة والأمور القبيحة والمدركة للعواقب؛ بحيث يؤدي هذا الاختلال إلى منع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادرًا. والجنون يزيل أهلية الأداء؛ وذلك لأنها منوطة بالعقل والتمييز، وعقل المجنون وتمييزه مختل، فلا تثبت له هذه الأهلية بنوعيها "الناقصة والكاملة"1. وينقسم الجنون من حيث استمراره وعدم استمراره إلى قسمين: جنون مطبق "أي ممتد" وهو الجنون الذي يمتد بصاحبه ولا تصاحبه فترات إفاقة، وجنون غير مطبق "أو منقطع" وهو الجنون الذي لا يمتد بصاحبه، بل تتخلله فترات إفاقة وصحو ثم يعود إلى صاحبه، كما ينقسم من حيث إصابة الإنسان به قبل بلوغه عاقلا أو بعد بلوغه عاقلا إلى قسمين أيضا؛ جنون أصلي: وهو أن يبلغ مجنونا، ومثله لم يتمتع بأهلية الأداء مطلقا، وجنون طارئ: وهو أن يبلغ عاقلا ثم يجن، ومثله يكون قد تمتع بأهلية الأداء إلى أن أصيب بالجنون، وفي كل الحالات تسقط أهلية الأداء عن المجنون أثناء فترة جنونه، سواء كان جنونه مطبقا أو غير مطبق، أصليا أو طارئا، فلا يصح من المجنون حينئذ تصرف أصلا خلالها، أما إذا كان   1 أهلية الأداء الناقصة تبدأ من السابعة إلى ما قبل البلوغ عاقلا، والكاملة تبدأ من البلوغ عاقلا، ولكل نوع منها حقوق تثبت بها. راجع نظرية الحق للمؤلف ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 جنونه غير مطبق فأفاق في بعض الأوقات وعاد عقله إليه فإن أهلية الأداء تعود إليه خلال هذه الفترة وتصح تصرفاته؛ لأن مناط هذه الأهلية هو العقل، وقد عاد إليه فتعود إليه أهلية الأداء، والحكم بعودة عقله إليه ينبي على ما يصدر عن أهل الخبرة من الأطباء الذين يقررون ذلك، ومن ثم يمكن أن يحاسب على تصرفاته. والمجنون في كل حالاته له أهلية وجوب؛ لأن هذه الأهلية تناط بالذمة، والإنسان بحكم إنسانيته له ذمة، فتثبت له، ومقتضى هذه الأهلية اكتساب الحقوق وتحمل الواجبات، أما تصرفاته من قول أو فعل فهي تدخل في دائرة أهلية الأداء التي بيناها آنفا. تصرفات المجنون: يعتبر الفقه الإسلامي المجنون كالصبي غير المميز -أي: ما دون السابعة- فلا اعتداد بما يصدر عنه من أقوال، سواء كانت نافعة نفعا محضا كقبول الهبة، أو ضارة ضررا محضا كهبته للغير، أو مترددة بين النفع والضرر كالبيوع وما شاكلها. وأما أفعاله: فإن كانت نافعة ولم يشترط الشرع فيها توافر الإرادة والاختيار صحت واستتبعت أحكامها، كما لو وضع يده على شيء مباح؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى مباح فهو له"، أما ما لم يكن بهذه الصفة كقبضه الأموال الخاصة به من المدين، فإنها لا تصح، فإن هلكت هلكت على المدين، وأما إن كانت ضارة كالاعتداء على الأشخاص قتلا أو جرحا، وهذا هو موضوعنا هنا، فإن الفقهاء قد اختلفوا في جنايته كما اختلفوا في جناية الصبي غير المميز. فيرى الظاهرية أن جنايته هدر؛ وذلك للحديث: "رفع القلم"، فلا يتبع هذه الجناية إثم لعدم العقل، ولا ضمان لانعدام التمييز والقصد والاختيار؛ إذ إنه كالعجماء "والعجماء جبار" بنص الحديث، أي جنايتها هدر1.   1 وإن كان الظاهرية قد استحسنوا أن تدفع دية المجني عليه من بيت المال، كما أوجبوا منعه من أذى الناس بوضعه في بيت ونحوه. ومسلك الظاهرية في هذا هو ما أخذ به فقهاء القانون في مصر وفرنسا، إلا أنهما يختلفان عنهم في أنهما حملا المسئولة المدنية الشخص المكلف برعاية المجنون وملاحظته باتبار أنه أهمل في ملاحظته، وإن كانت القاعدة العامة تجعل للمسئول عن غيره الحق في أن يرجع على هذا للغير بما ضمنه بسبب فعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ويرى جمهورالفقهاء1 "وهم من ذكرناهم آنفا في جناية الصبي غير المميز" أن جنايته كالخطأ، ولا يقصد بقولهم: "حكمها حكم الخطأ" أنها خطأ، كما فهم بعض الكتاب المحدثين، بدليل أنهم لم يوجبوا على هؤلاء كفارة، مع أن نص القرآن يوجبها في الخطأ، وإنما هم يعطونها حكم الخطأ في إيجاب الدية على العاقلة فقط، والوجه في اعتبارها كالخطأ. إن الجناية من حيث وقوعها على المجني عليه لم تكن مقصودة ولا مرادة، ففي الخطأ لم يكن هناك قصد ولا إرادة وقوع الجناية على هذا الإنسان المعصوم مع صلاحية الجاني لأن يريد ذلك، وهنا جناية الصبي والمجنون لم يصاحبها قصد ولا إرادة وقوع الجناية على هذا الإنسان، لا لأنه لم يوجه الفعل الضار إليه؛ بل لأن إرادته وقصده غير صحيح شرعا، فهو كلا إرادة ... ، وفي الخطأ نوع من عدم التحرز وعدم الحيطة الكافية، وفي جناية هذين لا يتأتى هذا، ومن ثم فليست جنايتهما خطأ تماما، وإنما حكمها حكم الخطأ في إيجاب الدية على العاقلة2. وإيجاب الدية هنا على العاقلة استند فيه إلى آثار عن بعض الصحابة منها   1 ولا يراد ما قاله الشافعية هنا من قولهم: إنه إذا كان له نوع تمييز فعمده عمد وخطؤه خطأ؛ لأن المجنون اصطلاحا فاقد هذا التمييز، فربما قصد به المعتوه. 2 راجع ما كتبه المرحوم عبد القادر عوده في كتابه "الجنايات" ج1، ص594. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه جعل عقل المجنون على عاقلته، وقال: عمده وخطؤه سواء، وما روي أن مروان كتب إلى معاوية في مجنون قتل رجلا، فكتب إلى معاوية: اعقله ولا تقد منه "أي: لا تقتص منه" وما روي عن محمد بن جعفر بن الزبير من أن "جناية المجنون على عاقلته". ويرى بعض التابعين أن جناية المجنون في ماله، فقد روي عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار "على المجنون العقل"، ويرى أن مجنونا على عهد ابن الزبير دخل البيت بخنجر فطعن ابن عمه فقتله، فقضى ابن البير بأن يخلع من ماله ويدفع إلى أهل المقتول، وروي عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أن عبد الله بن الزبير قال: جناية المجنون من ماله، والظاهر لي أن هؤلاء الفقهاء قد اعتبروا هذه الجناية كالجناية على الأموال، فإن جمهور الفقهاء يعتبرون جناية المجنون أو الصبي ولو غير مميز على الأموال موجبة للضمان في مقاله، فيدفع من مالهما كل تعويضات الأضرارا الناشئة من فعلهما؛ وذلك لأنهم يعتبرون أن سبب الضمان هو الإتلاف، فإذا وجد السبب وجد المسبب "وهو الضمان" أيا كان محدث هذا السبب، صغيرا أو كبيرا، عاقلا أو مجنونا1.   1 طبق القانون الألماني والقانون السويسري هذا المسلك الذي قرره الفقه الإسلامي في الأموال، وعبروا عنه بنظرية الخطر التي مقتضاها أن المجنون يسأل مدنيا عن تعويض الأضرار التي أحدثها من ماله الخاص، بل إن هذين القانونين يذهبان إلى مسئولية المجنون جنائيا ومدنيا إذا كان الفعل الذي أتاه من الأفعال التي يعاقب فيها على الإهمال أو عدم التبصر، كأن يكون جنونه ناشئا عن عادات سيئة كتعاطي المسكرات أو ناشئا عن فساد الأخلاق؛ وذلك لأنه يوجد في هذه الحالة خطأ أصلي يصح أن ينسب إلى الفاعل، ويكفي لتبرير مسئوليته. الموسوعة الجنائية ج3، ص629- عبد القادر عوده ج1، ص596. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 إلا أنه يرد على هذا الرأي أن الجناية على النفس غير الجناية على الأموال بدليل أن الشرع خصها بأحكام معينة مغايرة في جملتها وتفصيلها ما أوجبه في الجناية على الأموال، ففي الثانية يجب مثلها، فإن لم يوجد فقيمتها، عمدا كانت الجناية أو خطأ أو شبه عمد "إذا صح هذا التقسيم في الأموال". أما في النفس، فقد اختلف الحكم في العمد عنه في شبه العمد عنه في الخطأ، وفي الأخير أوجب كفارة، وأوجب دية محددة لا تتفاوت، بل أوجب حرمانا من الميراث كما يرى بعض الفقهاء؛ لذلك كان قياس جناية المجنون أو الصبي غير المميز على الجناية على الأموال قياس مع الفارق، فضلا عن أن هذا سيؤدي إلى استئصال كل أمواله نظرا لجسامة مقدار الدية، ويصبح عالة على الغير، وهو في حالة تحتاج إلى الإنفاق عليه؛ لذلك كان إيجاب الدية على العاقلة رعاية له، ورعاية لأسرة المجني عليه، وتحقيقا للتكافل الاجتماعي والترابط والتعاون على البر والتقوى. جناية المعتوه: العته هو "آفة توجب خللا في العقل، فيصير صاحبه مختلط الكلام، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء، وبعضه كلام المجانين، وكذا سائر أموره". ولما كان المعتوه بهذه المثابة من التردد بين العقل والجنون في أقواله وأفعاله جعل الفقهاء حكمه كحكم الصبي المميز -وهي المرحلة التي تبدأ من السابعة وتنتهي بالبلوغ عاقلا- وقد سبق أن بينا حكمه فيها1.   1 جاء في كشف الأسرار للبزدوي مجلد4 ص1394: فكما أن الجنون يشبه أول أحوال الصبا في عدم العقل يشبه العته آخر أحوال الصبا في وجود أصل العقل مع تمكن خلل فيه، فكما ألحق الجنون بأول أحوال الصغر في الأحكام ألحق العته بآخر أحوال الصبا في جميع الأحكام أيضا ... كما جاء في الأشباه لابن نجم ص321: أحكام المعتوه أحكام الصبي العاقل فتصح = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 هذا هو الرأي السائد في حكم المعتوه في الفقه الإسلامي1، وإن كان بعض الكتاب المحدثين قد ذكر أن بعض الفقهاء جعل المعتوه على درجتين: مميز غير مميز، وأن الثاني كالمجنون في الأحكام، والأول كالصبي المميز، إلا أنني أرى أن الأولى أن يميز في الاصطلاح بين الدرجتين، فغير المميز يكون مجنونا؛ لاختلال قوة التمييز عنده -وهي العقل كما سبق أن بينا- ويكون حينئذ حكمه حكم الصبي غير المميز، والمميز يكون معتوها، وحكمه يكون كحكم الصبي المميز فيما ذكرنا من الأحكام.   = العبادات منه، ولا تجب، وقيل: هو كالمجنون، وقيل: هو كالبالغ العاقل، وهو كما ترى قد حكى القولين الأخيرين بقيل مما ينبئ عن ضعفهما وقوة الرأي الأول، وقد أخذت بهذا مجلة الأحكام العدلية فنصت في المادة "955" على أن المعتوه هو الذي اختل شعوره؛ بحيث يكون فهمه قليلا، وكلامه مختلطا، وتدبيره فاسدا، كما نصت في المادة "987" على أن المعتوه في حكم الصغير المميز، أما القانون المدني المصري فقد جعل حكم الجنون والعته واحدا فنص في مادته "114" على أنه يقع باطلا تصرف المجنون والمعتوه إذا صدر التصرف بعد تسجيل قرار الحجر، أما إذا صدر قبل تسجيل قرار الحجر فلا يكون باطلا إلا إذا كانت حالة الجنون والعته شائعة وقت التعاقد، أو كان الطرف الآخر على بينة منها. 2 وقد أشار البزدوي في ص1395 إلى أنه قد وردت مسألة عن الإمام محمد بن الحسن تدل على أن حكم المعتوه حكم المجنون، ثم رد على هذا بقوله: "قلنا: المراد منه -أي من المعتوه- المجنون، فإن سياق الكلام في تلك المسألة ونظائرها يدل عليه، وقد يطلق المعتوه على المجنون؛ لأن العته يشابه الجنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 جناية السكران: السُّكْر هو حالة تعرض لعقل الإنسان بسبب تناوله بعض الأسباب المؤثرة في تعطيل عقله واختلال تمييزه بين الأمور الحسنة والأمور القبيحة. والطريق المفضي إلى السكر قد يكون مباحا: كسكر المضطر إلى شرب الخمر، والسكر من الأدوية -كالبنج نحوه- وقد يكون حراما: كسكر من شرب الخمر اختيارا عالما بحرمتها. وحكم السكران بمباح حكم المغمَى عليه والنائم في أقواله وأفعاله، وحكم جناية هذين حكم الجناية خطأ، أو ما يعبر عنه الحنفية عند تقسيمهم للجنايات بأنه "ما جرى مجرى الخطأ". وأما السكران بمحرم فإن السكر لا ينافي الأهلية، أما أهلية الوجوب فظاهر حكمها؛ لأنها ترتبط بوجود الإنسان وذمته، وهو موجود وله ذمة، فلا أثر للسكر عليها، وأما أهلية الأداء فلأن السكر لا ينافي أهلية الخطاب؛ لقوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فهو خطاب لهم حال صحوهم بألا يقربوا الصلاة حالة السكر، فيلزم من ذلك كونهم مخاطبين بذلك حال السكر، فلا يكون السكر منافيا لتعلق الخطاب، ووجوب الانتهاء عما نهى عنه، وإذا كان السكر غير مناف لأهلية الخطاب لزمت السكران الأحكام الشرعية كلها من صلاة وصيام وغيرهما. وبعد تقرير هذه القاعدة وجدنا أن الفقهاء يختلفون في الاعتداد بأقواله وبأفعاله الصادرة عنه أثناء سكره بمحرم، فأما أقواله فيكفي أن نشير إلى أن المالكية والشافعي في قول له وأبو الحسن الكرخي والطحاوي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الحنفية، والزيدية، والمنقول عن عثمان -رضي الله عنه- يرون أن تصرفات السكران بمحرم غير صحيحة؛ لأن غفلته فوق غفلة النائم، فإن النائم يتنبه إذا نبه، والسكران لا يتنبه، فالأخير أولى بتطبيق الحكم عليه من الأول وهو النائم، وخالفهم في هذا المسلك الحنفية والشافعي في قول له والحنابلة، استنادا إلى أنه مخاطب. وقد رجحت في كتابي "نظرية الحق" الرأي الأول، ولا أرى الإفاضة في أقوال السكران؛ لأن الذي نعنيه هنا هو أفعاله، وبخاصة جناياته. جنايات السكران بمحرم: إذا جنى السكران جناية تستوجب القصاص أو حدا من الحدود، فيرى جمهور الفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية، وهو قول الزهري وربيعة" أن موجب فعله يلزمه، فيقتص منه إذا قتل، ويلزمه الحد إذا فعل ما يوجبه؛ لأن مثله لا يستحق التخفيف، وقد روي أن معاوية أقاد من السكران. قال ابن أبي الزناد: وكان القاتل محمد بن النعمان الأنصاري، والمقتول عمارة بن زيد بن ثابت. كما روي عن علي بن أبي طالب أن سكارى تضاربوا بالسكاكين، وهم أربعة فجرح اثنان ومات اثنان، فجعل على دية الاثنين المقتولين على قبائلهما وعلى قبائل اللذين لم يموتا، وقاص الحيين من ذلك بدية جراحهما. وأن الحسن بن علي رأى أن يقيد الحيين للميتين؛ ولم ير على ذلك، وقال: لعل الميتين قتل كل واحد منهما الآخر، وبهذا يتضح أن رأي علي في جناية السكران القصاص، وأنه إنما نفاه عن الحيين لعدم ثبوت قتلهما لهما، واحتمال أن يكون كل منهما قتل الآخر، فمبدأ القصاص منهما مقرر في هذه الجناية عن علي وعن الحسن رضي الله عنهما، ولأنه لو درأ الحد أو القصاص عن السكران لأدى هذا إلى أن كل من أراد جناية سكر ثم اقترفها، وبذلك تنتشر الجرائم، فضلا عن أن مثله لا يستحق التخفيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ويرى الظاهرية والشافعي في قول له: أن جناية السكران هدر، ولا يلزمه موجب أفعاله؛ لعدم قصده، ولأنه يشبه المجنون في انعدام عقله، والمجنون رفع عنه القلم بنص الحديث، وقد صح عن عثمان بن عفان أن السكران لا يلزمه طلاق فصح أنه عنده بمنزلة المجنون، ثم ضعف ابن حزم ما استند إليه جمهور الفقهاء من آثار. والذي أرجح الأخذ به هو رأي جمهور الفقهاء؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى شرور كثيرة، فضلا عن أنه يزكي السكر ويفشيه؛ لأنه قد اعتد به وسيلة لإسقاط العقوبة، ولأن الصحابة أوجبوا حد القذف على السكران وحق الله فيه غالب -أو حق العبد فيه غالب على الخلاف- فيقاس عليه القصاص وغيره من الحقوق ما كان حقا لله أو حقا للعبد، وأيضا فإن القول بأنه ستجتمع عليه عقوبتان -عقوبة الشرب وعقوبة القصاص- غير وارد؛ لأن الممنوع أن تكون عقوبتان لجرم واحد، أما ارتكاب جرمين مختلفين فإنه يستوجب عقوبتين عقلا وشرعا. الإكراه: الإكراه هو حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته لو خلي ونفسه. وحادثة الإكراه يعتبر فيها: معنى في المكره "الدافع"، ومعنى في المكره "الفاعل"، ومعنى في المكره عليه، ومعنى فيما أكره به. 1- فالمعتبر في المكره "الدافع" تمكنه من إيقاع ما هدده به، فإذا لم يكن متمكنا من ذلك فإكراهه هذيان. 2- والمعتبر في المكره "الفاعل" أن يصير خائفا على نفسه من جهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 المكره في إيقاع ما هدده به عاجلا؛ لأنه لا يصير ملجأ محمولا ومدفوعا على الفعل إلا بذلك. 3- والمعتبر في المكره به أن يكون متلفا نفسا، أو مزمنا، أو متلفا عضوا، أو موجبا غما ينعدم الرضا باعتباره. 4- والمعتبر فيما أكره عليه هو أن يكون المكره "الفاعل" ممتنعا عن القيام به قبل الإكراه، وذلك إما لحقه، أو لحق إنسان آخر، أو لحق الشرع، وبحسب اختلاف هذه الأحكام يختلف الحكم. وهذا النوع يعدم الرضا، ويفسد الاختيار؛ لأنه يلجئ الإنسان ويضطره طبعا إلى فعل ما أكره عليه1. الثاني: إكراه غير ملجئ أو ناقص، وهو أن يهدده بالحبس أو القيد أو الضرب الذي لا يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه. وهذا النوع يعدم الرضا فقط، ولا يفسد الاختيار؛ لأنه لا يجلئ الإنسان   1 الاختيار هو: القصد إلى أمر متردد بين الوجود والعدم داخل في قدرة الفاعل بترجيح أحد جانبيه على الآخر، والاختيار إما صحيح وهو أن يكون الفاعل في قصده إلى ذلك مستبدا، وإما فاسد وهو أن يكون اختياره مبنيا على اختيار الآخر، فإذا اضطر إلى مباشرة أمر بالإكراه كان قصده في مباشرة الفعل هو دفع الإكراه حقيقة، فيصير الاختيار فاسدا، لابتنائه على اختيار الدافع "المكره" وإن لم ينعدم اختياره أصلا؛ لأنه اختار أخف الضررين. والرضا هو: امتلاء الاختيار وبلوغه نهايته؛ بحيث يظهر أثره على الظاهر: من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها، كما يفضي أثر الغضب على الظاهر من تقضيب الوجه وحملقة العينين واحتقان الوجه، فالرضا ضد الغضب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ولا يضطره إلى مباشرة ما أكره عليه؛ لأن الفاعل يتمكن معه من الصبر من غير خشية على نفسه ولا على عضو من أعضائه1. أما جمهور الفقهاء فإنهم جعلوا الإكراه كله نوعا واحدا2. حكم الإكراه: الإكراه بنوعيه لا يؤثر على الأهلية بنوعيها؛ لأن ذمته قائمة، وعقله كامل؛ ولكنه يؤثر على إرادة الإنسان؛ حيث يدفعه إلى القيام بتصرف لم يكن يرضي عن مباشرته ولا يختاره لو خلي ونفسه كما ذكرنا. ولقد اختلف الفقهاء في موجب أقوال المكره وأفعاله؛ حيث انفرد الحنفية بتحليل لأثر الإكراه بنوعيه على الإرادة "الاختيار والرضا". ونكتفي هنا بذكر أثره على الأفعال، ونحيل من أراد أثره على الأقوال إلى نظرية الحق للمؤلف. إذا أكره شخص إنسانا على قتل غيره أو جرحه، فللفقهاء أربعة آراء:   1 وذكر البزدوي في كشفه ص1530 أن هناك نوعا ثالثا؛ وهو نوع لا يعدم الرضا، وبالضرورة لا يفسد الاختيار؛ لأن الرضا لا يستلزم صحة الاختيار، ولا العكس، وهو أن يهدده بإيقاع فعل بغيره يجلب له غما أو هما كحبس أبيه أو ولده أو زوجه، وكذا كل ذي رحم محرم منه. ثم بين أن الاستحسان يقضي أن يكون ذلك إكراها؛ لأن أثر هذا الإكراه على نفسه لا يقل عن إيقاع الفعل عليه إن لم يزد. 2 يراجع الأشباه للسيوطي ص229، فقد نقل عن النووي أنه فرق بين إكراه وإكراه بما يقارب مذهب الحنفية، وهو بحث قيم شمل كل ما يتعلق بالإكراه من أحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الرأي الأول: يرى أبو حنيفة ومحمد أن الفعل لا ينسب إلى الفاعل، ولكن ينسب إلى الدافع، فيلزمه موجب الجناية، فيكون القصاص في القتل العمد عليه وليس على الفاعل. وليس معنى هذا أن ينجو الفاعل من العقاب، فإن على الحاكم أن يوقع عليه عقوبة التعزير "كالجلد أو الحبس ... " لأنه ارتكب أمرا لا يحل له ارتكابه، وكلاهما "الدافع والفاعل" آثم؛ لأن قتل النفس محرم، وهذه الحرمة لا تسقط بالإكراه ولا تدخلها الرخصة؛ لأن دليل الرخصة خوف الهلاك، والقاتل والمقتول سواء في الهلاك، وإذا كانا سواء لا يحل للفاعل قتل غيره ليخلص نفسه. وقد استدل الإمام وصاحبه بعدة أدلة منها: 1- ما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "عفوت عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، والعفو عن الشيء عفو عن موجبه، فكان موجب المستكره عليه معفوا بظاهر الحديث. 2- ولأن القاتل هو الدافع من حيث المعنى؛ لأنه هو الذي أراد القتل واتخذ أسبابه، وإنما الموجود من المباشر صورة القتل فقط، فأشبه المباشر الآلة في يد الدافع؛ لأنه لم يكن يختار القتل ولا يريده لو خلي وشأنه، والقتل مما يمكن اكتسابه بآلة الغير كإتلاف المال ... ثم يتابع تأييد رأيه فيقول: ألا ترى أنه إذا أكره الإنسان شخصا على أن يقطع يد نفسه فقطعها، فإنه يكون له أن يقتص من الذي أكرهه "الدافع" ولو كان المباشر هو القاطع حقيقة لما اقتص ممن أكرهه. الرأي الثاني: يرى زفر من عماء الحنفية، والزيدية، والإمامية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 والظاهرية: وجوب القصاص على الفاعل دون الدافع؛ وذلك لأن القتل وجد منه حقيقة وحسا ومشاهدة، وإنكار المحسوس مكابرة، فوجب اعتبار القتل منه، دون الدافع؛ إذ الأصل اعتبار الحقيقة، ولا يجوز العدول عنها إلا بدليل، وأيضا فإنه قد ابتلي فليصبر، ولا يدفع الظلم عن نفسه بظلم غيره. الرأي الثالث: يرى أبو يوسف أنه لا قصاص على واحد منهما؛ لأن القصاص يندرئ بالشبهات، وقد تحققت الشبهة في حق كل واحد منهما، أما الفاعل فهو محمول على القتل، وأما الدافع فلأنه لم يباشر القتل ولكنه كان سببا في قتله، وجاء القاتل تسبيبا، في مذهب الحنيفة الدية، فتجب عليه. الرأي الرابع: يرى المالكية والشافعية والحنابلة: أنه يجب القصاص عليهما على الدافع والفاعل؛ وذلك لأن القتل اسم لفعل يفضي إلى زهوق الحياة عادة، وقد وجد في كل واحد منهما، إلا أنه حصل من الفاعل بطريق المباشرة وحصل من الدافع بطريق التسبيب1.   1 ويقصد بالمباشرة: كل فعل يؤدي إلى الهلاك بلا واسطة، كما لو قتله بيده، ويقصد بالتسبيب: كل فعل يؤدي إلى الهلاك بواسطة، كما لو حفر له حفرة فوقع فيها فأن الحفر سبب في السقوط، والسقوط هو العلة في القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الترجيح: والذي أراه راجحا هو رأي أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن، وجه الترجيح أنه إذا نظرنا إلى هذه الآراء وجدنا أن الرأيين الأول والثالث يعتدان بأثر الإكراه على إرادة المباشر، فيسقطان القصاص عنه، غير أن الثالث يسقطها أيضا عن الدافع؛ لأنه قتل تسبيبا وليس قتلا مباشرة، وهذا مبني على اشتراط الحنفية أن الجناية العمد الموجبة للقصاص لا بد وأن تكون بفعل مباشر، أما الرأي الأول فإنه يوجب القصاص على المكره -بكسر الراء- وأرى رجحان هذا الرأي، للحديث الذي استدلوا به، ولأن القصد الجنائي الكامل غير موجود من المباشر؛ لأنه أصبح بالإكراه كالآلة في يد الجاني الحقيقي -وهو من أكرهه على ارتكابها- إذ الإنسان إذا انعدم رضاه وفسد اختياره بالإكراه أصبح طوع من أكرهه، فينسب الفعل في الحقيقة إلى المكره لا المباشر، وفي الصورة إلى المباشر، إلا أن مثله كمثل السكين المستعملة في القتل، وحسبنا للدلالة على أن قصده الجنائي غير متوافر أننا لو رفعنا عنه هذا المؤثر الخارجي القاهر له -وهو الإكراه- لما ارتكب هذه الجريمة، بل ولما فكر فيها ولا أرادها.. لذلك كان أهم أركان الجناية -وهو قصد إيقاع الفعل عدوانا- غير موجود، وإذا انعدم هذا القصد سقط عنه القصاص. وينتج عن هذا التحليل أن القصاص يجب على المكره -بكسر الراء- لأن قصده القتل عمدا عدوانا موجود ومتوافر، والفعل القاتل موجود، وهو فعل من أكرهه وسلب إرادته حتى أصبح طوع أمره كالآلة في يده، وأما القول بأنه يقتص منهما فإن فيه تشددا واضحا في جانب المباشر، وإزهاقا لروح إنسان في جريمة لم يردها، ولئن قيل: إنه إنسان قد ابتلي وعليه أن يصبر حتى لو أدى صبره إلى قتله.. فإن للقهر سلطانا يهز الإرادة وينهى مراحل الصبر، ويعدم الرضا ويفسد الاختيار، فإن لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ذلك واضحا في إسقاط أهم أركان الجريمة، فلا أقل من أنه يورث شبهة، والشبهة تسقط القصاص، وكذلك فإن في القول بعدم إيجاب القصاص عليهما تخفيفا في جانب المكره -بكسر الراء- قد يؤدي إلى أن يحترف المجرمون هذه الطريقة للإفلات من القصاص، فيتفشى القتل بين الناس، وهذا ما يجب علاجه إحياء للنفوس، وكذلك فإن القول بإيجاب القصاص على المباشر لا الدافع فيه تشديد على من سلبت إرادته -وقد أوضحنا آنفا وجهه- وفيه تخفيف عن المجرم الحقيقي، وهذا المنهج تأباه العدالة. رضا المجني عليه بالجناية: آثار الفقهاء صورة من صور الجنايات يرتكب فيها لجاني جنايته بأمر المجني عليه، أو برضاه، كما لو كان المجني عليه يعاني من مرض خطير، أو أزمة من الأزمات دفعته إلى أن يفضل الموت على الحياة، فيطلب من إنسان أن يقتله، فإذا قتله، فهل يعتبر رضاه بالقتل ظرفا من الظروف المخففة يسقط القصاص عن الجاني، أم أن الجاني يظل مسئولا عن القتل حتى لو رضي المجني عليه بهذه الجناية؟ للفقهاء رأيان: الرأي الأول: قال الحنفية "غير زفر والشافعية": لا قصاص على الجاني في هذه الحالة؛ لأنه لما أذن له في قتله تمكنت في عصمة دمه شبهة الإباحة، والشبهة في باب القصاص لها حكم الحقيقة. وإذا قيل بسقوط القصاص فهل تجب الدية على القاتل عندهم؟ الأظهر عند الشافعية أنه لا تجب، وهو رواية عن أبي حنيفة، وقول أبي يوسف ومحمد؛ لوجود الإذن بقتله؛ أي: أن دمه بناء على ذلك يكون هدرًا، ويرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 أبوحنيفة -في رواية صححها فقهاء المذهب- أنه تجب الدية في القتل لا القطع "وفي رأي عند الشافعية تجب الدية فيهما"؛ وذلك لأن القصاص قد سقط لوجود الشبهة والشبهة تمنعه؛ ولكنها لا تمنع وجوب المال، فتجب الدية. الرأي الثاني: يرى المالكية وزفر والزيدية والظاهرية: وجوب القصاص على الجاني، ولا عبرة برضا المجني عليه؛ لأن الحق بعد الموت انتقل إلى ورثة المجني عليه، ولأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فقد روي عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عل المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة"، وعن علي بن أبي طالب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الطاعة في المعروف"، فإذا أمره بقتله أو قطع عضو منه لا يحل له أن يفعل، وإن فعل اقتص منه في النفس عندهم جميعا، وإن كانت الجناية على ما دون النفس اقتص منه عند الزيدية والظاهرية. وإيجاب القصاص في الجميع هو الذي نراه راجحا؛ لأن أمره لا يحل ما حرم الله للحديث: "المؤمن حرام دمه وماله وعرضه"، وإذا كان الله تعالى قد شدد عقوبة قاتل نفسه، وهو حين يقتل إنما يقتل نفسه، فكيف نعتد بأمره للغير بالاعتداء عليه، وهو لا يملك من نفسه شيئا؛ ولذلك عوقب بحنايته عليها. رأي القانون المصري في هذه الظروف المخففة: اعتبر القانون أن الصبي والمجنون والسكر قهرًا أو جهلًا من الظروف المخففة للعقوبة، فقد نصت المادة 62 من قانون العقوبات المصري على أنه "لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وفي ارتكاب الفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 إما لجنون أو عاهة في العقل، وإما لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة، أيا كان نوعها إذا أخذها قهرا عنه، أو على غير علم منه بها". فبينت المادة أنه لا عقاب على المجنون ولا على صاحب عاهة عقلية، وأما السكران فتفرق فيه بين حالتين: حالة تناول الجاني عقاقير مخدرة قهرا عنه، أو على غير علم منه بحقيقة أمرها، وحينئذ فلا عقاب ولا مسئولية جنائية بنص المادة إذا ارتكب الجناية وقت سكره، والحالة الثانية: حالة من يتناول مادة مخدرة أو مسكرة مختارا، وعالما بحقيقة أمرها، فإنه يفهم من المادة أنه يكون مسئولا عن الجرائم التي تقع منه وهو تحت تأثيرها. فالقانون في هذه الحالة يجري عليه حكم المدرك التام الإدراك ما ينبني عليه توفر القصد الجنائي لديه، وهذا ما استقر عليه قضاء محكمة النقض في تفسيرها لهذه المادة. ورأي القانون في رفع العقوبة البدنية عن المجنون موافق لرأي جميع الفقهاء غير أن جمهورالفقهاء جعلوا جنايته خطأ تجب فيها لدية على العاقلة خلافا للظاهرية، ولا شك أن رأي جمهور الفقهاء فيه مراعاة للطرفين الجاني وأسرة المجني عليه، للأسباب التي أوضحناها آنفا، وكذلك رأي القانون بالنسبة للسكران موافق لرأي جمهور الفقهاء؛ إذ فرقوا في الحكم بين الحالتين -كما سبق أن أوضحنا- غير أن القانون يجعل المسئولية المدنية عن الأضرار الناشئة عن عمل المجنون الإجرامي قائمة في مواجهة الشخص المسئول عن المتهم، أي المكلف برعايته، فإن لم يوجد المسئول عنه أو تعذر الحصول منه على التعويض ألزم المجنون بتعويض عادل. وأما الصبي، فقد فرق قانون العقوبات بين أربع مراحل من حياته، وجعل لكل مرحلة حكما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 المرحلة الأولى: وهي التي تقل سنه فيها عن سبع سنوات، وفيها لا يكون مسئولا جنائيا، ولا تقام الدعوى الجنائية عليه"المادة 64". المرحلة الثانية: التي يزيد عمره فيها عن سبع سنوات ويقل عن اثنتي عشرة سنة، وفيها إذا ارتكب جناية أو جنحة يأمر القاضي باتخاذ وسيلة من وسائل الملاحظة والتربية، كدفعه لوالده أو ولي أمره على أن يكون مسئولا عن حسن سيره في المستقبل، أو إرساله إلى مدرسة إصلاحية "المادة 65". المرحلة الثالثة: التي يزيد سنه فيها عن اثنتي عشرة سنة ويقل عن خمس عشرة سنة، وفيها إذا راتكب جناية عقوبتها السجن أو الأشغال الشاقة المؤقتة تبدل هذه العقوبة بعقوبة الحبس مدة لا تزيد على ثلث الحد الأقصى المقرر لتلك الجريمة قانونا، وإذا ارتكب جناية عقوبتها الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة تبدل هذه العقوبة بعقوبة الحبس مدة لا تزيد على عشر سنين "مادة 16" كما قضت المادة "67" بأنه يجوز للقاضي بدل الحكم عليه بالعقوبة التي نصت عليها المادة السابقة "66" أن يأمر القاضي باتخاذ وسيلة من وسائل الملاحظة والتربية كما أوضحته المادة "65". المرحلة الرابعة: وهي التي يزيد عمر الجاني فيها على خمس عشرة سنة، ولم يبلغ سبع عشرة سنة كاملة، فإنه في هذه الحالة لا يحكم القاضي عليه بالإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، وإنما يجب عليه أن يبين أولا العقوبة الواجب تطبيقها بقطع النظر عن هذا النص مع ملاحظة موجبات الرأفة إن وجدت، فإن كانت تلك العقوبة هي الإعدام، أو الأشغال الشاقة المؤبدة يحكم بالسجن مدة لا تنقص عن عشر سنين، وإن كانت الأشغال الشاقة المؤقتة يحكم بالسجن "المادة 72". وبهذا يتبين لنا أن القانون جعل الصبي من الأعذار المخففة للعقوبة، بل إنه رفع المسئولية الجنائية عن الصبي حتى السابعة، إلا أن هذا لا يمنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 من أن تقام الدعوى المدنية بطلب التعويضات عن الأضرار الناشئة عن عمله في مواجهة الشخص المسئول عنه، فإن لم يوجد أو تعذر ذلك أمكن إلزام الصغير ذاته بتعويض عادل "م164 /2مدني". وفي المبدأ العام يلتقي القانون مع رأي جمهور الفقهاء الذين يعتبرون جنايته كالخطأ، غير أن الفقهاء يوجبون الدية على عاقلة الصبي القاتل للأسباب والاعتبارات التي ذكرناها آنفا. أما وجوه الملاحظة والتربية، فإن الفقه الإسلامي لا يأباها، بل إن وجوب الدية على العاقلة فيه نوع من إلزام العاقلة هذه الرعاية، وأما الحبس في المرحلة الثالثة، فهو نوع من التعزير، لا يرفضه الفقه الإسلامي إذا حقق مصلحة، وأما تخفيف عقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة بنوعيها على المتهم الذي زاد عمره على خمس عشرة سنة، ولم يبلغ سبع عشرة سنة "م72" أو ثمان عشرة سنة حسب التعديل الأخير الذي يبحث الآن الرجوع عنه، فإن الفقه الإسلامي يجعل الحد المسقط للقصاص هو ما دون البلوغ، وسن البلوغ يمكن لكل دولة تحديدها حسب ظروفها الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية؛ لأن سن البلوغ في المناطق الباردة غيره في المناطق الحارة، في البدو غيره في الحضر، وفي الدول المنتعشة اقتصاديا وثقافيا غيره في الدول المتخلفة، وأنسب سن للبلوغ عندنا هو الخامسة عشرة، وهو رأي جمهور الفقهاء. وأما بالنسبة للإكراه، فقد نصت المادة "61 -ع-م" على أنه "لا عقاب على من ارتكب جريمة ألجأته إلى ارتكابها ضرورة وقاية نفسه أو غيره، من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به، أو بغيره، ولم يكن لإرادته دخل في حلوله، ولا في قدرته منعه بطريقة أخرى"، وقد بين شراح القانون أن الإكراه المعنوي يدخل في حالة الضرورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 المنصوص عليها، كما بينوا أن الإكراه المعنوي يشمل عند المكره حالة الإرادة، ويذهب بقيمتها من حيث القدرة على الاختيار؛ حيث يجعله لا يختار في هذا الموقف إلا اتجاها واحدا دائما هو الإفلات من الخطر المحدق عن طريق ارتكاب الجناية؛ ولذلك كان سببا مانعا من المساءلة الجنائية للمباشر، وقد ضربوا لذلك أمثلة لم يكن من بينها حالة القتل الواقع تحت إكراه، إلا أننا نرى أنه ما دام تأثير الإكراه قد وصل إلى هذه المرحلة من التأثير على الإرادة فيجب أن يكون ظرفا مخففا للعقوبة عن المكره؛ لأنه كان كالآلة في يد المكره -كما قال أبو حنيفة ومحمد- وأن توقع عقوبة القتل العمد على المكره. كما بين شراح القانون أن رضا المجني عليه لا يمحو الجريمة، ولا يرفع العقاب؛ لأن العقاب في المسائل الجنائية من حق المجتمع لا من حق الفرد، فمن يقتل آخر أو يجرحه يعاقب على قتله، وهذا هو حكم القانون المصري، إلا أن بعض الشرائع كالقانون الألماني تخفف العقاب في هذه الحالة. وبهذا تبين لنا أن آراءهم لا تخرج عما قرره الفقه الإسلامي كما بينا آنفا. الفرع الثالث: عقوبة عامة لمن سقط عنه القصاص: تبين لنا مما تقدم أنه قد يسقط القصاص بسبب عفو المجني عليه، أو الصلح، أو كون المقتول جزء القاتل، وغير ذلك من الأسباب، فإذا سقط القصاص فهل لولي الأمر أن يوقع على الجاني عقوبة أخرى تكون حقا لله تعالى لا يجوز فيها صلح أو إبراء ... للفقهاء ثلاثة آراء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وإسحاق بن راهويه، وسائر أصحاب الحديث" أنه ليست عليه عقوبة أخرى، وقد احتجوا بأن آية القصاص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} جعلت الموجب هو القصاص أو الدية -على الخلاف المتقدم- ولم توجب عقوبة أخرى، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: "لا جلد ولا نفي على القاتل المعفو عنه"، وكذلك فإن حديث وائل بن حجر فيه أنه قد عفا عن القاتل وتركه، ولم ينقل أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جلده أو نفاه. الرأي الثاني: يرى الشافعية وجوب تعزيره؛ لأنه لما سقط القصاص أصبح القتل العمد خاليا عن الزجر والردع، فأوجبوا فيه التعزير، ومقداره متروك للإمام. الرأي الثالث: يرى المالكية "وهو قول الأوزاعي والليث" جلده مائة سوط، وحبسه سنة من غير تغريب، وقد استدلوا بقوله تعالى: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} فقد جمع الله تعالى بين القتل والزنا، وجعل الإثم ومضاعفة العذاب على كل منهما، والزنا عقوبته القتل رجما على المحصن، والجلد مائة والنفي سنة على غير المحصن1، فالواجب على من قتل عمدا القصاص، فإن سقط عنه   1 قال جمع من الفقهاء "منهم الشافعية والحنابلة ... ": يجلد الزاني غير المحصن مائة ويغرب عاما؛ لقوله عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام". وقال الإمام مالك والأوزاعي: يغرب الرجل دون المرأة خوفا من الفتنة، ولم يقل الحنفية بالتغريب؛ لأن الله تعالى قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ... } ولم يأمر بالتغريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 القصاص بعفو أو صلح كان عليه جلد مائة ونفي سنة، مثل عقوبة الزنا. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل قتل عبده متعمدا، فجلده مائة ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده به. وأرى أن القياس في العقوبات غير مسلم على إطلاقه، وهذا يضعف رأي المالكية، وأن القول بعدم توقيع عقوبة على من سقط عنه القصاص مطلقا لا يتمشى مع حقيقة كون الاعتداء قد وقع على حق من حقوق الله؛ وهو صيانة الأنفس من الإهدار، والزجر والردع عن ارتكاب مثل هذه الأفعال، وهذا يضعف الرأي الأول، ويقوى عندي الأخذ برأي الشافعية؛ وهو وجوب توقيع عقوبة تعزيرية عليه، وهذه العقوبة أرى أن تضعها السلطة الشورية على الوجه الذي يدرأ الجريمة والمجرمين عن المجتمع، كما أرى ألا تصل إلى القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 المقصد السابع: الظروف المشددة للعقوبة في الفقه الإسلامي: أوضحنا فيما تقدم عقوبة القصاص، وبينا بأي شيء تجب، وبأي شيء تسقط، وقد تبين لنا أن لولي الدم الحق في العفو أو الصلح أو الإبراء، وتلك هي مميزات حقوق العباد؛ ولكننا نبحث هنا الظروف التي تنقل عقوبة الاعتداء عمدا من دائرة حقوق العباد إلى دائرة حقوق الله تعالى؛ أي: أن يكون موجب الجناية الحد لا القصاص، والحدود لا يجرى فيها عفو ولا صلح ولا إبراء، ويكون أمر استيفائها للإمام، ولا يجوز له العفو عنها، وهذا يستدعي أن نبحث هنا -بإيجاز كبير- آية المحاربة، مبينين آراء الفقهاء في تفسيرها، وفي أركان جريمة المحاربة، وبعض الجرائم التي أدرجت فيها ثم عقوبتها، وما يسقط هذه العقوبة، وذلك لنوضح أن بعض الجرائم التي صاحبتها ظروف معينة تكون عقوبتها الحد لا القصاص، ونقارن ذلك بجرائم القتل التي جعل القانون عقوبتها الإعدام. الفرع الأول: آية المحاربة وآراء الفقهاء في فهمها: قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.   1 سورة المائدة الآيتان رقم "33، 34". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 اختلف في سبب نزول هذه الآية1، غير أنه لا خلاف بين أهل العلم أن الآية بينت حكم المحاربين ومن يسعون في الأرض فسادا من أهل دار الإسلام، إلا أنه لما كانت محاربة الله تعالى لا يمكن أن تكون حقيقة؛ لأن   1 فقد قيل: نزلت في المرتدين، وقيل: في أهل الكتاب الناقضين للعهد، وقيل: في المشركين، وقيل: في أهل دار الإسلام المحاربين. أ- روي عن ابن عمر والهادي أنها نزلت في العرنيين، وهم قوم من عرينة، قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاجتووا المدينة -أي مرضوا من جوها- فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ألبانها وأبوالها"، ففعلوا، فصحوا، ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام، وساقوا ذود "إبل" رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك سنة ست من الهجرة. وقد حكى أهل التاريخ والسير أنهم قطعوا أيدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتا، وكان اسمه "يسار" وكان نوبيا، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرهم من أول النهار فأرسل في إثرهم، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم، فأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يفعل بهم مثل ما فعلوا بالراعي. ب- وروي عن ابن عباس والضحاك: أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين الرسول -عليه الصلاة والسلام- عهد، فنقضوا العهد، وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض. ج- وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال: نزلت في المشركين، فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه، وهو قول عكرمة والحسن. د- وقال مالك والشافعي وأبو ثور والحنفية والظاهرية والمؤيد بالله = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الله تعالى يستحيل محاربته؛ إذ الله تعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد؛ لذلك كان في قوله جل شأنه: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} استعارة ومجاز، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يراد بالمحاربين الذين يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق؛ وذلك لأنهم بمنزلة من حاربوا غيرهم من الناس، فسميت هذه الطائفة بالمحاربين لخروجها ممتنعة بأنفسها لمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك الحريم وإظهار السلاح. ثانيهما: أن يراد بالذين يحاربون الله الذين يحاربون عباد الله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} والمعنى: يؤذون أولياء الله، أو عبيد الله، فعبر بنفسه العزيزة عن عباده إكبارًا واستعظامًا لأذيتهم، كما عبر بنفسه عن الفقراء في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} حثا على العطف، ويصح إطلاق المحاربة لله وللرسول على من عظمت جريرته، فقد روي أن عمر بن   = وحكي في البحر عن ابن عباس: أنها نزلت فيمن يخرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد. وهذا الرأي هو الراجح؛ لأن القول بأنها نزلت في المشركين يرده قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ، وقوله صلى الله عليه سلم: "الإسلام يَجُب ما قبله"، وقال أبو ثور: إن في الآية دليلا على أنها نزلت في غير أهل الشرك، وهو قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فاسلموا أن دماءهم تحرم. وأيضا القول بأنها نزلت في المرتدين قد استبعده الفقهاء؛ نظرا لأن عقوبة المرتد قد تقررت بقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، فعقوبة المرتد القتل، فلا يصلب ولا تقطع يده ورجله من خلاف، ولا ينفى من الأرض، كما أن توبته قبل القدرة عليه أو بعد القدرة عليه تسقط عنه عقوبة القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الخطاب رأى معاذا يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اليسير من الرياء شرك، من عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة"، فمن حارب مسلما ليأخذ ماله أو يعتدي على عرضه أو نفسه فهو معادٍ لعباد الله تعالى، محارب لله تعالى بهذا الفعل. وروى زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين: "أنا حرب لمن حاربتم، سلم لمن سالمتم"، فاستحق من حاربهم اسم المحارب لرسول الله، مسلما كان أم غير مسلم. وبهذا يتضح لنا أن المحاربة لله ورسوله، يمكن أن تطلق على المجاهرين بإظهار السلاح للإرهاب أو قطع الطرق؛ كما يمكن أن تطلق على من عظمت جريرته، وإن كان مسلما، ولا مانع من إرادة المعينين؛ لأن الأصل هو الأخذ بعموم ما يدل عليه النص ما لم يرد ما يخصصه، فإذا خصت بعض الجرائم بأحكام معينة كانت خارجة من حكم هذه الآية، كما في جناية السرقة، والزنا، والقتل العمد، ويبقى ما عداها داخلا تحت حكمها. الفرع الثاني: أركان جريمة المحاربة: لقد أثار الفقهاء عدة أمور، اتفقوا على اعتبار بعضها ركنا في جريمة المحاربة، واختلفوا في بعضها الآخر، ونتناول بالإيضاح من هذه الأمور: قصد المحاربة، تحقق الإرهاب، مكان ارتكاب جريمة المحاربة، الباعث عليها، المجاهرة بها، وكون المحارب فردا أو جماعة، ثم نحدد من هو المحارب، متوخين في ذلك الإيجاب وعدم الدخول في التحليلات الفقيهة قصدا إلى ترك هذا إلى محله من مباحث الجنايات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 أ- قصد ارتكاب جريمة المحاربة: نص الفقهاء على أنه لا بد من أن يقصد المحارب المحاربة والإفساد في الأرض، فقد اشترط الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية أن يكون المرتكب لهذه الجريمة مكلفا -بالغا عاقلا- إذ التكليف أمارة القصد الصحيح الذي هو ركن أساسي في إيجاب العقوبة، فإذا لم يتوافر القصد الصحيح، كما لو كان الجاني صبيا أو مجنونا، لم تكن الجريمة جريمة محاربة، وإنما يكون حكمها حكم الجريمة خطأ، التي لم يقترن بها ظرف مشدد، وقد تقدم بيانه. ب- تحقق الإرهاب: كما اشترط الفقهاء في المحارب أن يكون ممتنعا ومتحصنا بما يحدث الإرهاب والفزع في نفوس من يريد الإيقاع بهم والانقضاض عليهم، سواء كان معه آلة قاتلة قطعا؛ كالسلاح ونحوه، أو كان معه آلة قاتلة غالبا؛ كحجر أو خشب أو ما شبههما1، أو كان هذا الأثر يحدث بقوته الشخصية؛ كما لو كان قوي الجسم بدرجة تمكنه من التغلب على أكثر من واحد، ولو باللكز والضرب بجميع الكف2 وما ماثل ذلك؛ وذلك لأن المشترط في هذا الباب هو إحداث الرعب في نفس الغير، بالمتعة والقدرة على التغلب   1 نسب ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية" لأبي حنيفة أنه يشترط أن تتم بسلاح ونحوه، إلا أن كتب المذهب لم تصرح بمثل ذلك، بل اعتبرت جميع الآلات متساوية في إحداث هذا الأثر سلاحا كان أم غيره. 2 مغني المحتاج ج4، ص180، والتاج المذهب ج4، ص252، والمحلى لابن حزم ج11، ص307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 فكل ما يحقق هذا الغرض يؤدي إلى اعتبار الجريمة جريمة محاربة يستحق صاحبها الحد لا القصاص، أما إذا لم يكن لديه شيء من ذلك كله فإنه لا يكون محاربا بالاتفاق. ولا يختلف في جريمة المحاربة أن يكون المحدث للإرهاب مباشرًا أم متسببا، ولقد سبق أن بينا أن جمهور الفقهاء يرون أن القتل عمدا -دون محاربة- يوجب القصاص على القاتل، سواء كان القتل بالمباشرة أو التسبيب، ولم يخالف في هذا سوى الحنفية؛ حيث فرقوا بين جريمة القتل عمدا التي تتم بالمباشرة، فيجعلونها موجبة للقصاص، وبين التي تتم بالتسبيب فيجعلونها موجبة للدية؛ ولكنهم في جريمة المحاربة لا يفرقون بين المباشر والمتسبب، كما لا يفرقون بين آلة وآلة، فسواء تمت الجناية بمباشرة الكل، أو بالتسبيب من البعض بالإعانة والأخذ، فالكل محاربون؛ لأن الجريمة تتم بالكل كما في السرقة، ولأن من عادة قطاع الطرق أن يقوم البعض بالمباشرة والبعض بالإعانة والتربص والدفع عنهم، فلو لم يلحق التسبيب بالمباشرة في سبب وجوب الحد لأدى هذا إلى انفتاح باب قطع الطريق واسنداد حكمه، وهذا قبيح؛ ولهذا ألحقوا التسبيب بالمباشرة. وقد خالف في هذا الشافعية والإمامية؛ حيث فرقوا بين المحارب المباشر، وبين ما يعاونه بمراقبة الطريق، أو الإتيان له بما يحتاج إليه من غير أن يباشر واحد منهما المحاربة، فإنهما لا يعتبران محاربين، ويعزران، فإن باشارا كانا محاربين. والذي نرى رجحانه هو ما قاله جمهور الفقهاء، فإن الكل متواطئ متكاتف متعاون في ارتكاب الجريمة؛ لأن هؤلاء الأعوان قد مهدوا للجاني طريق الجناية وأمنوه خلال ارتكابها، فهم شركاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ج- المكان الذي تتحقق فيه المحاربة: يجب أن نفرق أولا بين جريمة تقع في دار الإسلام، وأخرى تقع في دار الحرب، أما الثانية فلا يجب فيها الحد عند بعض الفقهاء؛ لانعدام الولاية على المكان الذي ارتكبت فيه الجناية؛ لأن الذي يقيم الحد هو الإمام أو نائبه، وولايته لا تتجاوز حدود ما ولي عليه، والذي ولي عليه هو دار السلام، أما دار الحرب فلا ولاية له عليها؛ لأن سبب وجوب الحد هو ارتكاب جناية على أرض للإمام ولاية عليها، فإذا انعدمت هذه الولاية لم ينعقد سبب وجوب الحد، وإذا لم ينعقد سبب وجوبه لا يستوفي الحد في دار الإسلام لجناية ارتكبت خارجه1. أما إذا ارتكبت جريمة المحاربة في دارالإسلام، فإنه يلزمنا أن نفرق بين ارتكابها خارج المصر، وبين ارتكابها داخل المصر، فإنه ارتكبها خارج المصر، فقد اتفق الفقهاء على اعتبار مرتكب هذه الجريمة محاربا، ويقصد بخارج المصر كون المكان نائيا لا يصل إليه الغوث بسرعة، ويكون بعيدا عن حفظة الأمن للتابعين للدولة، كما لو كان مسرح الجريمة الصحراء. أما إن ارتكبها داخل المصر فللفقهاء رأيان في تكييف هذه الجريمة: أحدهما: يرى أبو حنيفة ومحمد، والخرقي من الحنابلة، والثوري، وإسحاق، والزيدية: أن من يقصد قطع الطريق في المصر لا يكون محاربا؛ ذلك لأن من في المصر إذا تعرض له أحد يمكنه الاستغاثة، ويلحق به   1 قد أخذت بهذا المبدأ التشريعات الحديثة في العالم؛ لأن التشريع الجنائي من التشريعات المتعلقة بسيادة الدولة على إقليمها، وقد نص على هذا المبدأ في المادة الأولى من قانون العقوبات المصري، وهي "تسري أحكام القانون في كل من يرتكب في القطر المصري جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الغوث غالبا، فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون بهذا العمل مختلسين أو منتهبين، والمختلس والمنتهب ليس بقاطع طريق، فلا يجب عليه حد المحاربين. والثاني: يرى جمهور الفقهاء "أبو يوسف، والمالكية، والشافعية، والكثير من الحنابلة والإمامية والظاهرية، والليث وأبو ثور والأوزاعي والناصر والإمام يحيى" أنه يكون محاربا، فكل من ارتكب هذه الجريمة في المصر أو في غيره، في المنازل أو في الطريق؛ فهو محارب توقع عليه عقوبة المحاربين، وقد استدلوا على ذلك بأن آية المحاربة عامة، فعمومها يتناول كل محارب، سواء كان المحارب قد باشر جريمته في المصر أو في غيره، ولأن هذه الجريمة إذا تمت في المصر كانت أعظم خطرا وأشد ضررا فكانت بذلك أولى. ونرى رجحان هذا الرأي؛ لأن من يعتدي داخل المصر لا بد وأن يكون له من المنعة، سواء كانت بالسلاح أو الأعوان أو القوة الذاتية، مايفوق من يعتدي خارج المصر، وأن يكون له من السطوة والتأثير والتدبير ما يفوق من يبغي ذلك خارج المصر، ولأن أقدامهم على هذه الجريمة في البنيان الذي هو محل الأمن والطمأنينة، ومحل تناصر الناس وتعاونهم، يدل على شدة محاربتهم ومغالبتهم. ويؤيد هذا أنه قد روي أن أبا حنيفة أجاب عن رأيه الذي يقضي بأن المحاربة تكون خارج المصر: بأن أهل زمانه كانوا يحملون السلاح في الأمصار، فلم تكن المحاربة ميسورة ولا ممكنة في الأمصار؛ لأن الناس جميعا جنود للمستغيث والمظلوم؛ ولكن لما ترك الناس حمل السلاح أمكن أن تقع المحاربة في داخل المصر، ومن هذا يتبين لنا أن الاختلاف إنما هو اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 د- الباعث على ارتكاب جريمة المحاربة: لا يقصر الفقهاء الباعث على جناية المحاربة على غرض دون غرض من الأغراض التي تدفع الإنسان إلى اقتراف هذه الجريمة، فمن كانت بغيته أخذ المال بهذه الكيفية فهو محارب، وكذلك إذا كانت بغيته قتل نفس أو هتك عرض، أو إرهاب المواطنين وإزعاجهم1، والكل محاربون ومفسدون في الأرض يستحقون العقوبة المقررة في آية المحاربة. هـ- المجاهرة بالمحاربة: اختلف الفقهاء في اعتبار المجاهرة شرطا من شروط جريمة المحاربة، فقد صرح جمهور الفقهاء "الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية" بأنه لا بد من أن يكون المحارب مجاهرًا بمحاربته، ولعل مرد هذا الشرط هو كون المحاربة، وهي مفاعلة من الجانبين لا تتم إلا بالمجاهرة، غير أن المالكية وبعض الحنابلة لم يشترطوا هذا الشرط، فجعلوا الجرائم   1 جاء في مغني المحتاج ج4، ص180: قطع الطريق هو: البروز لأخذ مال أو لقتل أو إرعاب، مكابرة اعتمادا على الشوكة مع البعد عن الغوث، كما قال القرطبي "ج6، ص154" بشأن بيان حكم هتك العرض: إنه إذا أراد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج، فهذا أفحش المحاربة وأقبح من أخذ الأموال، وقد دخل في معنى قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} . وقال الإمام مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة ولا ذحل ولا عداوة، القرطبي ج6، ص151، كما جاء في الموازية: "من خريج لقطع السبيل لغير مال فهو محارب كقوله: لا أدع هؤلاء يخرجون إلى الشام أو غيرها. الحطاب ج6، ص314، ويراجع المحلى لابن حزم ج11، ص308. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 التي تنم بالخدعة والغش، والتي تتم سرا داخلة في المحاربة؛ وذلك لأن المحاربة فيها أشد؛ حيث يؤخذ الآمنون على غرة، وأبرز هذه الجرائم القتل غيلة، وسنذكر فيما بعد بعض الجرائم التي يدرجها بعض الفقهاء في جريمة المحاربة لخطورتها على المجتمع. و المحارب قد يكون واحدا أو جماعة: لم يشترط الفقهاء لتطبيق عقوبة المحاربة كون الجاني فردا أو جماعة، فما دام ترويع المواطنين وإزعاجهم قد وجد وقعت العقوبة على فاعلها، سواء كان الفاعل لذلك فردا أو جماعة. الترجيح: ومن هذا العرض لبعض ما أثاره الفقهاء من اشتراطات في هذه الجناية نرى رجحان أن المستحق لعقوبة المحاربة هو المكابر، المخيف للناس، المفسد في الأرض، سواء بسلاح أو بلا سلاح، ليلا أو نهارًا، في مصر أو في الصحراء، في المدن أو في القرى، في المنازل أو في غيرها، واحدا كان أو أكثر. فكل من حارب وأخاف السبيل بقتل نفس، أو أخذ مال، أو بجراحة، أو انتهاك فرج، فهو محارب عليه أو عليهم -كثروا أو قلوا- حكم المحاربين المنصوص عليه في الآية الكريمة؛ لأن الله تعالى لم يخص من هذه الوجوه شيئا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الفرع الثالث: جرائم أدرجها بعض الفقهاء في جريمة المحاربة: حدد الفقهاء جريمة المحاربة على النهج الذي أوضحناه آنفا؛ لكننا نبرز هنا بعض الجرائم ذات الصبغة الخاصة التي قد تميزها عن جرائم المحاربة، والتي رأى بعض الفقهاء أن آية المحاربة تتناولها لشدة خطورتها على المجتمع وخالفه في هذا غيرهم، ومنها القتل غيلة، واقتران جريمة المحاربة بجريمة أخرى، وقتل الإمام، والعود في الجريمة. القتل غيلة: الغيلة -بكسر الغين- لغة: هي الاغتيال، يقال: قتله غيلة -بالكسر- وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فيقتله فيه. واصطلاحا: هي أن يخدع الجاني المجني عليه بأي وسيلة من وسائل الخداع ليقتله أو يأخذ ماله أو يهتك عرضه. ولقد ذكر الفقهاء عدة وسائل للخداع بعضها يعتمد على فعل مادي يجعل المجني عليه غير قادر على الاستعانة أو المقاومة، إما لأن الفعل قاتل بطبيعته ولا يمكن للمجني عليه أن يدركه أو يلحظه كما في السم، أو لأنه غير قاتل بطبيعته ولكنه يسهل ارتكاب الجناية، كما لو أسقاه شرابا مسكرًا ثم قتله، أو اعتمد الجاني على مهارته وثقة الغير فيه ثم اتخذ من هذا الستار منفذا لاستدراج الضحايا إلى حيث يريد من الأماكن المهيأة لجريمة القتل1. وللفقهاء فيما يوجبه القتل غيلة رأيان:   1 ونبرز فيما يلي بعض صور القتل غيلة: جاء في الخرشي ج5، ص347: ومن سقى شخصا ما يسكره لأجل أخذ ماله المحترم فهو محارب أو يشبه المحارب؛ لأنه ليس معه قطع الطريق، وكذلك من خدع صغيرًا أو كبيرا فأدخله موضعا فقتله وأخذ ماله فإنه يكون محاربا؛ لأنه أخذ منه المال على وجه يتعذر معه الغوث = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية والزيدية والإمامية" أن القتل غيلة وغيره سواء في إيجاب القصاص وصحة عفو الولي أو صلحه؛ وذلك لعموم قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأهله بين خيرتين"، لأنه قتيل في غير محاربة، فكان أمره إلى وليه كسائر القتلى. الرأي الثاني: يرى المالكية وابن تيمية من الحنابلة أن القتل غيلة يوجب الحد لا القصاص، فلا يشترط فيه ما يشترط عندهم في القصاص، فيقتل المؤمن بالكافر، والحر بالعبد؛ لأن القاتل غيلة بمنزلة المحارب؛ لأنه خدعه وغشه ليرتكب جنايته على وجه لا يمكن معه الغوث، كما لو أسقاه سما، أو أسكره، أو استدرجه إلى مكان ملائم لتنفيذ جنايته، ففي كل هذه الحالات   = ويسمى هذا قتل غيلة، وكذلك من دخل دارًا في ليل أو نهار، أو دخل زقاقا في ليل أو نهار لأجل أخذ المال، فإن علم به فقاتل عليه حتى أخذه فهو محارب، قاله مالك. وجاء في السياسة الشرعية لابن تيمية: "وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال، مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل، فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم، أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله، وهذا القتل يسمى غيلة، فإذا كان لأخذ المال فهل هم كالمحاربين، أو يجري عليهم حكم القود؟ فيه قولان للفقهاء: أنهم كالمحاربين؛ لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه؛ بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدري به، والثاني: أن المحارب هو المجاهر بالقتال، وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم، والأول أشبه بأصول الشريعة؛ بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدري به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وما شابهها لا يتمكن المجني عليه من الاستغاثة، فيكون الجاني محاربا أو كالمحارب..، أيضا احتجوا بقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في الذي قتل غيلة: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به"، فقد نسب تنفيذ العقوبة إلى نفسه، لا إلى ولي الدم، وهذا يدل على أنه جعل عقوبتهم الحد لا القصاص. وبهذا يتبين لنا أن المذهب المالكي ومن وافقه من الفقهاء يفرق في جريمة القتل العمد بين حالتين: حالة القتل التي تتم إثر ضغينة أو ثورة، فيجعل عقوبتها القصاص، وبين حالة القتل أو أخذ المال أو هتك العرض إذا ارتكبت هذه الجناية بحيث لا يمكن معها الغوث؛ بسبب منعة الجاني، أو بسب غش وخداع يجعل المجني عليه لا يتمكن من الغوث، ففي هذه الحالة تكون عقوبة الجريمة الحد لا القصاص، أي أن المذهب جعل هذا الظرف من الظروف المشددة للعقوبة. ويتضح لنا من الصور التي ذكرها الفقهاء للقتل غيلة أنه قد توافر فيها قصد الجاني قتل النفس، أو هتك العرض، أو أخذ المال، وفي سبيل الوصول إلى جنايته بسهولة ويسر دبر كيفية التنفيذ؛ بحيث لا يتنبه إليه أحد، سواء كان المجني عليه أو غيره، فقدم إليه السم، أو المسكر، أو استدرجه إلى مكان ملائم لتنفيذ الجريمة، كل هذا يدل على أن الجاني مجرم عريق في إجرامه، وأنه قد فكر ودبر قبل الإقدام على جنايته، وأنه يرتكب جنايته وهو هادئ النفس، لم تثره ثائرة، ولم تدفعه إليها أحقاد أو ضغائن يمكن إدراك المجني عليه لها، بدليل أن المجني عليه تناول ما قدمه له من طعام أو شراب مسموم، أو مادة مسكرة، أو سار معه إلى حيث يريد من الأماكن وهو مطمئن إليه تمام الاطمئنان، ولو أن المجني عليه راوده شك في أن هذا الشخص كان يبغي به شرا لما طاوعه في كل ذلك. فالجاني في هذه الصور يعتبر محاربا مفسدا في الأرض يستحق أن تطبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 عليه عقوبة المحاربين حتى يرتدع غيره ويزدجر، ويأمن الناس في غدوهم ورواحهم على أنفسهم وأموالهم1. ب- العود في القتل: ينظر الفقهاء إلى من يعود في جريمته نظرة أشد؛ إدراكا منهم إلى أن الجريمة أمر يتنافى والسلوك السوي للفرد؛ إذ هي بطبيعتها أمر غير مرغوب فيه، ينفر منه الفرد كما ينفر منه المجتمع، فإذا أقدم إنسان على جريمة كان ذلك دليلا على ما يعانيه من صراع نفسي وفكري وعقلي نتيجة عدم وصوله إلى ما كان يهدف إليه من أغراض مشروعة أو غير مشروعة، فتحول بسبب ذلك من دائرة السلوك السوي إلى دائرة السلوك الإجرامي، عساه يطفئ بالإجرام جذوة هذا الصراع المتقدة أو يخفف من اشتعالها، إلا أن إطفاؤها بالجريمة يلتهم ويهدد حقوق الآخرين ويقضي على حياتهم الآمنة المستقرة. ومن ثم كان لزاما أن ينال الجاني العقاب الملائم لجريمته؛ حتى يتوب إلى رشده، ويعود إلى صوابه، ويعرف هو ومن شاكله أن له حقوقا محددة، وعليه واجبات محددة، لا يتعداها، وإلا اختل هذا الجهاز الكبير الذي نعيش في رحابه.. فإذا عاد في الإجرام مرة أخرى دل ذلك على أن الإجرام قد تأصل في نفسه، وأنه أصبح عادة وهواية، وبذلك يصبح عضوا فاسدا في المجتمع لا بد من ردعه؛ زجرا للآخرين وحماية للأمة.   1 ويراجع على ضوء هذا ما نصت عليه المادة "230" من قانون العقوبات من أن "كل من قتل نفسا عمدا مع سبق الإصرار على ذلك، أو الترصد يعاقب بالإعدام"، كما تراجع المادة "231" التي شرحت معنى الإصرار السابق، والمادة "132" التي وضحت المقصود بالترصد، ثم المادة "223" الخاصة بجعل عقوبة القتل بالسم الإعدام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ولقد أدرك الفقهاء هذه الحقيقة فشددوا العقوبة في حالة العود إلى الجناية.. فإذا ارتكب شخص جناية قتل عمدا، وموجبها القصاص، ثم عفا عنه ولي الدم.. أو لم يكن ممن استوفوا شروط القصاص، فنجا من هذه العقوبة ثم عاد إلى القتل مرة أخرى.. فإن الفقهاء يرون في هذه الحالة أنه يكون للإمام الحق في نقل العقوبة من دائرة القصاص إلى دائرة الحد؛ أي: أنه يقتل حدا لا قصاصا؛ لأنه بالعود في الجريمة صار من الساعين في الأرض فسادا، وتلك عقوبة أمثالهم كما بينتها آية المحاربة. فقد ذكر الحنفية في الحديث الذي ورد بشأن اليهودي الذي رض رأس الجارية بين حجرين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قتله حدا لا قصاصا؛ لأنه كان عادته قتل الصبيان، فهو من الساعين في الأرض بالفساد، وكذلك قال أبو حنيفة: إن من خنق رجلاحتى قتله كانت الدية على عاقلته، فإن خنق في المصر غير مرة قتل به؛ لأنه صار ساعيا في الأرض بالفساد، فيدفع شره بالقتل ... وكذلك قال أبو حنيفة فيمن اعتاد اللواط -ورأيه أن عقوبته التعزير أول الأمر- يقتله الإمام محصنا كان أو غير محصن سياسة1. وكذلك قال الإمامية: إذا اعتاد الحر قتل الأرقاء، كانوا ملكا له أم لا، أو اعتاد مسلم قتل غير المسلمين "والمذهب عندهم عدم قتل الحر بالعبد والمسلم بغير المسلم، على خلاف ما رجحنا" أنهما يقتلان، وقد اعتمدوا في هذا القول على ما ورد عن الصادق "ع" عند سؤاله عمن يتعود قتل غير المسلمين قال: "يقتل وهو صاغر، وأنه مفسد في الأرض بارتكاب قتل من حرم الله قتله"2.   1 سبل السلام ج3، ص310، والزيلعي ج6، ص106، وفتح القدير ج4، ص274. 2 الروضة البهية ج2، ص402. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 العود في الجرائم: كما جاء في الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص259 ومثلها للماوردي: أنه يجوز للأمير فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجر عنها بالحدود أن يستديم حبسه إذا استضر الناس بجرائمه حتى يموت، بعد أن يقوم بقوته وكسوته من بيت المال؛ ليدفع ضرره عن الناس وإن لم يكن ذلك للقضاة. ج- قتل الإمام: لما كان للإمام صفتان: صفة شخصية باعتباره فردا من أفراد الدولة، وصفة اجتماعية باعتباره إمام المسلمين؛ فقد اختلف الفقهاء فيما يوجبه قتله عمدا؛ كقتلة علي وقتلة عثمان -رضي الله عنهما- فيرى الإمام أحمد في رواية عنه وبعض الفقهاء أن عقوبة قاتل الإمام القصاص، بناء على هذا يكون حق المطالبة باستيفاء القصاص لولي الدم ... وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد وهو قول بعض الفقهاء: أن قاتل الإمام يعتبر محاربًا؛ لأن في قتله فسادا، فتطبق عليه عقوبة المحاربين1، هذا ما نؤيده.   1 السياسة الشرعية لابن تيمية ص101، ولقد كان نص المادة 86 من قانون العقوبات ينص على أن وقوع القتل على الملك أوالملكة أو ولي العهد ... معاقب عليه بالإعدام، وقد ألغيت هذا المادة بعد إسقاط الحكم الملكي، وترك عقاب هذه الجرائم إذا وقعت على رئيس الجمهورية للقواعد العامة في العقاب على الجرائم التي تقع على غيره من المواطنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 د- اقتران جريمة المحاربة بجريمة أخرى: اعتبر الفقه الإسلامي أن ترويع المواطنين، وإزعاجهم، وبث الرعب في نفوسهم بإظهار الشوكة والمنعة والقوة للنيل من أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، أو بخداع وغش كما قال المالكية -محاربة لله ولرسوله، فهو في حد ذاته جريمة، يستحق فاعلها العقاب، وهو النفي من الأرض، ولكن إذا اقترن بها جريمة أخرى؛ كقتل نفس بغير حق، أو أخذ مال محترم معصوم، أو هتك عرض.. ففي هذه الحالة تشدد العقوبة، وتشديدها يظهر في الاختلاف بين عقوبة القتل عمدا وعقوبة القتل حرابة، ففي الأولى القصاص، وفي الثانية القتل حدا، وبين عقوبة السارق وعقوبة المحارب الآخذ للمال، ففي الأول قطع اليد اليمنى وفي الثانية قطع اليد والرجل من خلاف، وبين عقوبة الزاني وعقوبة الزاني المحارب، ففي الأولى الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن، وفي الثانية يقتل محصنا كان أو غير محصن، وسيأتي إيضاح آراء العلماء في عقوبة المحاربين1.   1 ولقد اعتبر قانون العقوبات المصري من الظروف المشددة لعقوبة القتل العمد اقتران جناية القتل بجناية أخرى المادة "234" سواء تقدمتها أو اقترنت بها أو تلتها جناية أخرى ... ، فجعل العقوبة حينئذ الإعدام ويستوي في هذا أن تكون الجناية المعاصرة للقتل جناية قتل مثلها أو شروعا فيه أو أن تكون من طبيعة أخرى كسرقة بإكراه "مادة 314" أو سرقة توافرت لها الظروف المشددة التي تجعلها معدودة من الجنايات "المواد: 313، 315، 316" أو من الشروع فيها، أو إسقاط امرأة حبلى بالضرب ونحوه "مادة 26" أو هتك عرض إنسان بالقوة أو بالتهديد "مادة 268". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الفرع الرابع: عقوبة جريمة المحاربة: حددت آية المحاربة عقوبة جريمة المحاربة1 والإفساد في الأرض، ونوضح فيما يلي آراء الفقهاء في عقوبة المحارب، فمعنى النفي من الأرض، ثم أثر توبة المحارب على الجنايات التي ارتكبها، وعلى العقوبة: أولا: آراء الفقهاء في عقوبة المحارب: للفقهاء رأيان في العقوبة التي توقع على المحاربين والمفسدين في الأرض، وسبب الخلاف أن "أو" الواردة في الآية بين كل عقوبة والتي بعدها: هل هي للتخيير أم للترتيب؟ الرأي الأول: يرى بعض الفقهاء "الحنفية والشافعية والحنابلة، والزيدية، وعطاء الخراساني" أن عقوبة المحارب توقع عليه بقدر فعله؛ أي: أن العقوبات مرتبة حسب الجناية؛ إذ المحارب إما أن يروع الآمنين فقط، أو يأخذ مالا فقط، أو يقتل ويأخذ المال. فإن روع الآمنين فقط نُفي من الأرض "وسيأتي بيان معنى نفيه". وإن قتل فقط قتل حدا لا قصاصا، سواء كان المقتول مسلما أم ذميا. وإن أخذ المال فقط قطعت يده ورجله من خلاف، يده اليمنى جزاء أخذ المال، ورجله اليسرى جزاء حرابته، سواء كان المال لمسلم أم ذمي، وقد اشترط للقطع أن يخص كل واحد منهم مقدار النصاب، وقيل: لا يشترط.   1 تقدم نص الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وإن قتل وأخذ المال اختلف الفقهاء في عقوبته؛ فيرى الشافعية والحنابلة والزيدية قتله ثم صلبه، ويرى الحنفية أن الإمام مخير بين أن يقطع يده ورجله من خلاف، ثم يقتل ويصلب، وبين أن يقتل فقط، وبين أن يصلب، ويرى محمد -صاحب أبي حنيفة- أن الإمام مخير بين أن يقتل أو يصلب ولا يقطع، كما روي عن أبي يوسف والأوزاعي: أنه يصلب أولا ثم يقتل، ولا يقطع؛ لأن القتل يأتي على كل شيء، وحكي عن الشافعي قوله: "أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المثلة". الرأي الثاني: يرى المالكية والإمامية والظاهرية، وروي عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والحسن وعطاء بن أبي رباح، والضحاك والنخعي: أن الإمام مخير في الحكم على المحاربين بأي حكم من الأحكام التي أوجبها الله تعالى في آية المحاربة، وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا؛ وذلك لأن "أو" في الآية للتخيير، قال ابن عباس: ما كان في القرآن "أو" فصاحبه بالخيار، وقال النحاس: "إن هذا القول أشعر بظاهر الآية، فإن أهل القول الأول الذين قالوا: إن "أو" للترتيب -وإن اختلفوا- فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون على المحارب حدين، فيقولون: يقتل ويصلب، ويقول بعضهم: يصلب ويقتل، ويقول بعضهم: تقطع يده ورجله وينفى ... وليس كذلك الآية، ولا معنى "أو" في اللغة. وأيضا فإن قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} يدل على أن الفساد في الأرض بمنزلة قتل النفس من حيث وجوب قتله، والمحاربون مفسدون في الأرض بخروجهم وامتناعهم وإخافتهم السبيل وإن لم يأخذوا مالا ولم يقتلوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وقد ذكر أصحاب الرأي الأول أن قتل المحارب الذي لم يقتل منفي بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس". وقد أجيب عن هذا بأنه قد روي عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، ورجل قتل رجلا فقتل به، ورجل خرج محاربا لله ولرسوله فيقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض". محل الخيار للإمام: بين أصحاب هذا الرأي محل الخيار للإمام إذا لم يصدر من المحارب قتل، أما أن صدر منه قتل فإنه يقتل وجوبا، ولو كان الشخص المقتول كافرا، أو عبدا، أو كان للمحارب، عفا الولي أم لم يعفُ. الخيار أساسه تحقيق المصلحة: الخيار الذي أعطي للإمام في توقيع أي عقوبة من هذه العقوبات على المحارب ليس حقا مطلقا للإمام يرى فيه ما يرى؛ وإنما هذا الخيار مرده إلى تحقيق المصلحة العامة، فإذا كانت المصلحة تحتم توقيع إحدى العقوبات لم يكن للإمام مخالفتها، ولا توقيع غيرها، فهو خيار في أول الأمر؛ ولكنه إيجاب لإحدى العقوبات التي توجبها المصلحة في نهاية الأمر. الترجيح: ونرجح الأخذ بالرأي الثاني لرجحان أدلته، ولأنه يحقق المصلحة العامة؛ إذ إنه يمكن للدولة من تحديد العقوبة التي تلائم هذه الطائفة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 المفسدين طبقا للظروف المحيطة بهم في كل عصر وفي كل مكان، قتلا كانت أم صلبا، أم قطعا، أم حبسا، فقد تكون عقوبة ما تناسب مجرما في وقت معين أو مكان محدد، ولا تناسب مجرما آخر في وقت آخر أو مكان آخر؛ إذ إن الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية لها أثر بالغ في تكييف العقوبة وتحديدها؛ بحيث تحدث الأثر المقصود من شرعية العقوبة، وهو ردع المجرمين وزجر الآخرين عن ارتكاب مثل هذا العمل؛ لكي يسود الأمن، وتطمئن النفوس، كما أن عقوبة ما قد تناسب جرما ما في زمان معين أو مكان معين، ولا تناسب نفس الجرم في زمان آخر أو مكان آخر، فجعل ذلك في يد الإمام مقيدا بالمصلحة يفتح الباب لتكييف الجرم وعقوبته في كل زمان ومكان في حدود ما نصت عليه الآية الكريمة بما يحقق الحكمة من شرعية العقوبة. ثانيا: معنى النفي من الأرض: بينت آية المحاربة أن إحدى العقوبات التي توقع على المحاربين هي النفي من الأرض، ولقد اختلف الفقهاء في تفسيره، فيروى عن ابن عباس والحسن والزهري: أن النفي هو تشريدهم عن الأمصار والبلدان، فلا يتركون يأوون بلدا1، ويروى عن ابن عباس أيضا: أنه ينفى من بلده إلى بلد آخر كنفي الزاني، وقال مالك: ينفى من البلد الذي ارتكب في جنايته إلى بلد آخر، يحبس فيه كالزاني، وقال الحنفية2 وهو رواية عن إبراهيم   1 أما الإمامية فقد قالوا: ينفى عن بلده إلى غيرها، ويكتب لكل بلد يصل إليه بالمنع من مجالسته ومؤاكلته ومبايعته وغيرها من المعاملات إلى أن يتوب أو يموت، ويمنع من دخول دار الشرك. 2 ويقرب من هذا الشافعية حيث قالوا: للإمام أن يعزره بحبس أو غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 النخعي: النفي هو السجن في المكان الذي يراه الإمام؛ لأن النفي من جميع الأرض محال، وكذلك نفيه إلى دار الحرب يؤدي إلى ردته وصيرورته حربا على دار الإسلام، فيكون المراد بالنفي حبسه في البلد الذي يراه الإمام، وهو نفي أيضا؛ لأنه نفي من سَعَة الدنيا إلى ضيقها، نفي من الأرض إلا من موضع سجنه، ولقد قال بعض أهل السجون في هذا المعنى: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا قلنا جاء هذا من الدنيا وقد حكى مكحول أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أول من حبس في السجون، وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم، وهذا ما نرجحه. ثالثا: أثر التوبة على العقوبة: أعطت الشريعة الإسلامية للمحاربين والمفسدين في الأرض فرصة يتمكنون بها من الخلاص من عقوبة جريمة المحاربة، وتتمثل هذه الفرصة في توبتهم قبل القدرة عليهم، قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فقد بينت الآية أن العقوبة تسقط عن المحارب إذا تاب، وكانت توبته قبل القدرة عليه؛ أي: قبل التمكن من القبض عليه، والمقصود بالتوبة رجوعه عما فعل وإقراره بخطيئته وندمه عليها وعزمه على ألا يفعل مثلها في المستقبل ورد الحقوق إلى أصحابها، فإذا كانت التوبة على هذا النحو كانت دليلا على عدول المجرم عن سلوكه الإجرامي، وتفاعله مع المجتمع الذي يعيش فيه واندماجه معه في البحث عن الرزق بالوسائل المشروعة، والوصول إلى الغايات بالطرق المباحة، خاصة وأن هذه التوبة قد تمت قبل القبض عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 أي: قبل أن تكون التوبة مشوبة برغبة في الخلاص من عقوبة وشيكة الوقوع والإفلات من تنفيذها؛ أي: بعد القدرة عليه، فإن تنفيذ العقوبة المقررة أصبح واجبا على الجميع، لاحقا لله تعالى لا يملك أحد إسقاطه أو العفو عنه، فإذا تاب حينئذ كانت توبته نابعة من الخوف من العقوبة، وليست نابعة من تحول في السلوك أو تعديل في مجراه؛ أي: أن الدوافع إليها ليست دوافع منبثقة عن اقتناع ذاتي بخطأ هذا المسلك الإجرامي الذي سلكه، وتعديل له بالاتجاه في الطريق الصحيح؛ ولذلك لم يجعل المشرع لهذه التوبة الحادثة بعد القبض عليه أثرا في إسقاط العقوبة؛ لأن المستثنى من العقوبة هو التائب قبل القدرة عليه، أما في غير هذه الحالة فإن الحكم باقٍ في حق الكل، والمشرع الحكيم بفتح هذا الباب يتيح للجناة فرصة العودة إلى الحياة الطبيعية بكل نعيمها واطمئنانها دون أي شائبة، والابتعاد عن التمادي في الإجرام وموالاته، وبذلك تقل الجرائم ويتوب المجرمون إلى رشدهم، إلا أن أثر هذه التوبة يظهر بالنسبة لبعض الحقوق دون بعضها الآخر. أثر هذه التوبة على الحقوق: عرفنا أن الحقوق باعتبار كون نفعها عاما أو خاصا قسمان رئيسيان: حق الله تعالى: وهو ما يتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد، فينسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه، ويندرج تحت هذا القسم من العقوبات الحدود، ومنها حد الحرابة. وحق العبد: وهو الذي تتعلق به مصلحة خاصة للعبد، ويندرج تحت هذا القسم القصاص وضمان الأموال، فإذا تاب المحارب قبل القدرة عليه فقد أفتى الفقهاء على إسقاط عقوبة المحاربة عنه قتلا أم صلبا أم قطعا أم حبسا؛ لأنها حق لله تعالى، وقد بين سبحانه وتعالى في الآية أن التائبين قبل القدرة عليهم مستثنون من هذه العقوبة كما قال جمهور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 للفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والإمامية"1 أن حقوق العباد لا تؤثر التوبة في إسقاطها؛ بل يؤخذون بها، فيكون لولي الدم حق استيفاء القصاص -أو العفو- إن قتلوا أو جرحوا، وغرموا المال والدية فيما ليس فيه قصاص، ولصاحب المال أخذ عين ماله إن كان قائما، وتضمينه إن كان هالكا، وله أن يتنازل عنه، ويلاحظ في كل حالة القواعد الأساسية لاستيفاء هذا الحق، فيلاحظ مثلا في القتل كونه عمدا أو شبه عمد أو خطأ، وكون   1 وخالف في ذلك الزيدية؛ حيث قالوا: إن التوبة قبل القدرة تسقط كل الحقوق، سواء كانت لله تعالى أم لعباده، قتلا أو جرحا أو مالا "التاج المذهب ج4، ص255" وهذا ما لا نوافقهم عليه، ضمانا لحقوق الآخرين، ودرأ للجريمة، وجاء في المغني والشرح الكبير "ج10ص15" أنه إن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة، فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة؛ لأنها حدود لله تعالى، فتسقط بالتوبة كحد المحاربة إلا حد القذف، فإنه لا يسقط؛ لأنه حق آدمي، ولأن في إسقاطها ترغيبا في التوبة ويحتمل ألا تسقط؛ لأنها لا تختص المحاربة، فكانت في حقه كهي في حق غيره. وإن أتى حدا قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة عليه لم يسقط الحد الأولى؛ لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذي تاب منه دون غيره، وما ذكره القاضي من سقوط حدود الزنا وشرب الخمر والسرقة يحتاج إلى تفصيل؛ لأنه إن زنَى تحت قوة السلاح، فهذا أشد أنواع المحاربة، فتطبق عليه عقوبتها، فيقتل محصنا كان أو غير محصن "كما صرح المالكية والإمامية" وإن جاء تائبا قبل القدرة عليه، عاد تكييف الجناية إلى حالتها العادية، فيجلد إن كان كان غير محصن، ويرجم إن كان محصنا، وكذلك الحال في شرب الخمر، وفي السرقة، كما هو في القذف، وهو الرأي الثاني الذي ذكره ابن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الآلة المستعملة في الجناية قاتلة قطعا أو غالبا أو نادرا، وكون الجاني مكلفا أو غير مكلف، أبا للمجني عليه أو غير أب، إلى ما فصلناه فيما تقدم في أركان الجريمة العمد، وشروط استيفاء القصاص. وكذلك الأمر بالنسبة للجراح لا بد من التحقق من كونه عمدا أم خطأ، وكون الجرح من الجراح التي يقتص منها أو لا يقتص منها؛ أي: أن حقوق العباد يرجع في أحكامها إلى قواعدها الأساسية، كما لو لم تكن جريمة المحاربة موجودة إطلاقا، ومعنى هذا أن المشرع الحكيم قد رفع عن الجاني التائب قبل القدرة عليه الآثار المترتبة على الظروف المشددة التي أحاطت بالجريمة فنقلتها من دائرة حقوق العباد إلى دائرة حقوق الله تعالى، وبذلك عادت الجريمة إلى دائرة الجريمة العادية؛ أي: إلى مجموعة الجرائم التي منح المشرع الحكيم للعبد فيها سلطانا، وإذا عادت الجريمة إلى حالتها الأولى عدنا إلى تكييف الجناية حسب القواعد المقررة لها، فإذا تم تكييفها ترتب على ذلك منح صاحب الحق كل الحقوق التي قررها المشرع لكل من يعتدي على حقه بهذه الكيفية. وبهذا يتبين لنا أن هذه التوبة ليست عفوا شاملا لكل آثار الجريمة؛ ولكنها عفو عن بعض آثارها، وهو الجانب الذي يتعلق به حق العامة، وليس معنى هذا أن القصاص لا يتعلق به حق العامة، بل يتعلق به، ولكن   = قدامه في مقابلة رأي القاضي، ولئن قيل: ما الفائدة حينئذ من توبته قبل القدرة عليه؟ قلنا: إن الفائدة واضحة، وهي أنه أصبح غير مطارد ولا مطلوب قضاء، وأنه ينتفع بكل ما جاء من تخفيف في إيجاب هذه الحدود، سواء من حيث إثباتها، أو من حيث مقدارها، وإن تساوت النتيجة وهي القتل، كما لو كان زانيا محصنا تحت الإكراه "فإن مثله لا يستحق التخفيف" فنرجو أن تكون توبته رافعة لإثم فعلته في الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 غلب المشرع فيه حق العبد في الأحوال العادية؛ حيث جعل له حق العفو عنه أو الصلح، أما إذا كان الجاني خطرا على المجتمع، فإنه يتغلب حينئذ حق الله، فإن قتل قتل، حتى وإن عفا عنه ولي الدم. النوع الثاني: الدية: عرفنا مما تقدم أن القتل العمد قد يكون موجبه القصاص أو الدية، فالدية أحد موجبي هذا النوع من القتل، وهي إحدى العقوبات الدنيوية المالية التي شرعت بدلا عن استيفاء القصاص في النفس أو ما دونها، فإذا تم القصاص فلا دية، وإذا لم يتم لسبب من الأسباب المسقطة للقصاص، كما في الظروف المخففة للعقوبة، أو عفو ولي الدم عن القصاص إلى الدية1 -كان الواجب الدية، وما كان بحث الدية يمثل قسما مستقلا في كل جناية عمدا كانت أم شبه عمد أم خطأ، وقعت الجناية على النفس أو على ما دونها، فإننا نتناول هنا بعض الجوانب التي تناسب المقام بإيجاز، فنبين حقيقة الدية فآراء العلماء فيمن يتحملها وأصنافها ومقدارها. أولا: تعريف الدية: الدية لغة: مصدر ودى يدي، كما في "وعد، يعد، عدة" يقال: ودى القاتل المقتول، إذا أعطى ولي الدم المال الذي هو بدل النفس، ويقال   1 راجع ص107-116، ص202-208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 للمال المدفوع: "دية" تسمية للمفعول بالمصدر، كالخلق بمعنى المخلوق، والدية اصطلاحا: اسم للضمان المالي الذي يجب بالجناية على الآدمي أو على طرف منه، وقد سمي هذا الضمان بالدية؛ لأنها تؤدي عادة إلى المجني عليه أو وليه، وقلما يرجى فيها العفو لعظم حرمة الآدمي. ثانيا: من تجب الدية في ماله وكيفية أدائها: لقد اتفق الفقهاء على أن دية القتل العمد تجب في مال القاتل دون سواه؛ وذلك لما روي عن ابن عباس مرفوعا قال: "لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا"، ولم يعرف له في الصحابة مخالف فيكون كالإجماع، وكذلك روي عن عمر قال: مضت السُّنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن تشاء، رواه مالك، ولأن الدية بدل متلف، وبدل المتلف يجب على المتلف كقيمة المتاع، وأرش الجناية يجب على الجاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجني جان إلا على نفسه"، وقال لبعض أصحابه حين رأى معه ابنه: "ولدك هذا؟ " قال: نعم، قال:"أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه"، ولأن موجب الجناية أثر فعل الجاني فيجب أن يختص الجاني بضررها كا يختص بنفعها، فإنه لو كسب شيئا كان كسبه له دون غيره، وقد ثبت حكم ذلك في الجنايات والأكساب، وإنما خولف هذا الأصل في قتل الخطأ؛ لأنه معذور، وهو من قبيل المواساة والتعاون بسبب العذر الذي صاحب الجناية -وهو الخطأ- أما القاتل عمدا فإنه غير معذور، فيلزم ألا يواسَى ولا يساعد حتى لا يؤدي هذا إلا تكرار القتل منه، وبذلك يتفشى الفساد. كيفية أدائها: أداء الدية إما أن يكون حالا أو مؤجلا منجما أو غير منجم، وللفقهاء ثلاثة آراء: الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية -إذا كانت عن صلح- والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية" أنها تجب في مال القاتل حالة، غير مؤجلة ولا منجمة؛ وذلك لأن ما وجب بالقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 العمد كان حالا كالقصاص فإنه يجب حالا. الرأي الثاني: يفرق الحنفية بين الدية التي تجب بالصلح فيجعلونها حالة في مال القاتل، وبين التي تجب بسقوط القصاص بشبهة، كما إذا قتل الأب ابنه عمدا، فإنها تجب في مال القاتل في ثلاث سنين، وذلك قياسا على القتل الخطأ وشبه العمد من حيث إن الدية في كل وجبت بنفس القتل، والقتل خطأ أو شبه عمد فيه الدية مؤجلة فكذلك القتل عمدا. الرأي الثالث: يرى الإمامية أن دية العمد يجب أداؤها في سنة واحدة، ولا يجوز تأخيرها عنها بغير رضى المستحق، ولا يجب عليه المبادرة إلى أدائها قبل تمام السنة. ونرى رجحان الرأي الأول -وهو رأي جمهور الفقهاء- لرجحان أدلته، ولأن في تنجيم الدية أو تأجيلها تخفيفها على القاتل عمدا، وهو لا يستحق مثل هذا التخفيف الذي استحقه القاتل خطأ؛ لأن القاتل خطأ واضح العذر، والقاتل شبه عمد أيضا معذور؛ لأن قصد القتل غير متكامل في شبه العمد؛ إذ إنه ضربه بما لا يقتل غالبا، فأفضى هذا الضرب إلى قتله من غير اختيار منه فأشبه الخطأ. ثالثا: أجناس الدية ومقاديرها: لقد وردت الآثار بأجناس من الأموال التي تدفع دية -وهي: الإبل، والذهب، والفضة، والبقر، والغنم، والملابس- ولقد اختلف الفقهاء في كون الإبل أصلا في الدية والباقي بدلا عنها، أم أن الكل أصل فيها. أما الإبل: فقد أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل في الدية، وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل، وقد دل على هذا الأحاديث الواردة ومنها حديث عمرو بن حزم الذي فيه: "وإن في النفس الدية مائة من الإبل ... " 1.   1 ونورد الحديث هنا تاما لأهميته في باب الديات: عن عمرو بن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 أما الذهب والفضة والبقر والغنم والحلل: فقد اختلف الفقهاء في كونها أصلا أو بدلا عن الأصل إلى رأيين: الأول: قال أبو حنيفة: إن الدية من ثلاثة أجناس: الإبل والذهب والفضة، وقال الشافعي في قول له: إن الدية من الإبل بنص الحديث، ومن النقدين "الذهب والفضة" تقويما للإبل؛ إذ إن المتلفات تقوم بالنقدين وما سوى النقدين من البقر والغنم صلحا. الرأي الثاني: يرى جمع من أهل العلم "عمر بن الخطاب، وعطاء، وطاوس، وفقهاء المدينة السبعة، والثوري وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، والزيدية" أن أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والورق "الفضة" والبقر والغنم، وقد استدلوا بما ورد في كتاب عمرو بن حزم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار"، وما روي عن ابن عباس: أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي -صلى   = حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن كتابا، وكان في كتابه: "إن من اعتبط -قتل بغير حق- مؤمنا قتلا عن بينة، فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وإن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وإن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار" رواه النسائي "نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص57". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الله عليه وسلم- ديته اثني عشر ألفا1؛ أي: من الدراهم، وهي من الفضة، وبما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن من كان عقله "ديته" في البقر، على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان عقله في الشاء "الغنم" ألفي شاه، رواه الخمسة إلا الترمذي2، وأضاف بعض الفقهاء أن الدية في الحلل مائتا حلة؛ لما ورد في حديث عطاء بن أبي رباح بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرض على أهل الحلل مائتي حلة، رواه أبو داود. الترجيح: والرأي الثاني أرجح؛ لأن الأحاديث صريحة في جعل الدية من عدة أجناس، طبقا لما اشتهر به أهل كل منطقة، فمن كثرت عندهم الإبل حددت الدية عليهم من جنسها، ومن كثرت عندهم البقر حددت الدية، وكذلك أهل الذهب والفضة، وهذا الرأي يساير جميع البلدان والأزمان، فكل دولة لا يمكن أن تخلو من صنف من هذه الأصناف، وعلى ضوء ذلك يمكن تحديد الدية في كل دولة بسهولة ويسر.   1 وقد نقل الشوكاني اختلاف الفقهاء في الفضة؛ فذهب الهادي والمؤيد بالله إلى أنها عشرة آلاف درهم، وذهب مالك والشافعي في قوله له: إلى أنها اثنا عشر ألف درهم، وقال زيد بن علي والناصر: أو مائتا حلة -إذا كانوا من أهل الحلل- والحلة إزار ورداء أو قميص وسراويل "راجع نيل الأوطار ج7، 58-79". 2 الدينار وهو من الذهب يزن 241 و4 جرامات، والدرهم: وهو من الفضة يزن 85 و2 جراما، على ضوء هذا يمكن تقويم الدية حسب السعر اليومي للذهب والفضة في كل دولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 تغليظ دية العمد: لما كان مقدار الدية واحدا، سواء كان القتل عمدا أم شبه عمد أم خطأ، غير أنها في العمد تجب في مال القاتل حالة أو منجمة -على الخلاف الذي ذكرنا- إلا أن الفقهاء قد اختلفوا في تغليظ الدية في القتل العمد وشبه العمد، بالنسبة لجنس واحد من أجناس الدية وهو الإبل إلى رأيين: الرأي الأول: يرى الحنفية والمالكية ورواية عن الإمام أحمد والزهري وربيعة وسليمان بن يسار: أنها أرباع؛ لما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: كانت الدية على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرباعا: خمسا وعشرين جذعة، وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنت لبون، وخمسا وعشرين بنت مخاض، وهذا ما قاله ابن مسعود أيضا. والرأي الثاني: يرى عطاء ومحمد بن الحسن والشافعية وأحمد -في رواية عنه- وهو مروي عن عمر وزيد وأبي موسى والمغيرة: أنها أثلاث؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم" "رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب"1.   1 بنت المخاض: هي أنثى الإبل التي دخلت في السنة الثانية من عمرها، وبنت لبون: هي التي دخلت في الثالثة من عمرها، والحقة: هي التي دخلت في الرابعة، والجذعة: هي التي دخلت في الخامسة، والخلفة: الحامل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 النوع الثالث: الكفارة: من حقوق الله تعالى الكفارة، وهي عقوبة فيها معنى العبادة، وشرعت تكفيرا للمذنب، ومحوا للجرم، وتقربا إلى الله تعالى، وهذا النوع من العقوبة بالنسبة لجريمة القتل جعله الله ماليا أولا، وهو إعتاق رقبة مؤمنة، وعتق هذه الرقبة ملائم للجريمة، ومناسب لتكفير الذنب؛ لأنه لما كان الرق موتا والحرية حياة كان إعتاق الرقبة إحياء لنفس أخرى عوضا عن النفس المقتولة، فإن لم يجد هذه الرقبة لضيق ذات اليد أو لعدم وجودها كان عليه أن يصوم شهرين متتابعين، كما نص على ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 1 إلا أنه لما كان النص قد أوجب هذه الكفارة في القتل الخطأ ولم يوجبها في القتل العمد، اختلف الفقهاء في إيجابها في القتل العمد إلا ثلاثة آراء: الرأي الأول: يرى الشافعية والإمامية إيجاب الكفارة في القتل العمد وشبه العمد والخطأ، سواء كان القاتل مكلفا، أو صبيا، أو مجنونا، حرا أو عبدا، مسلما أو ذميا، واحدا أو جماعة، وسواء كان المقتول مسلما أو ذميا، حرا أو عبدا لنفسه أو لغيره، أو جنينا، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والقياس. أما الكتاب: فبقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . وأما السنة: فبخبر واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبي -صلى الله عليه وسلم- في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال: "اعتقوا عنه رقبة يعتق الله   1 سورة النساء الآيتان رقم "92، 93" وقد تقدم نصهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 بكل عضو منها عضوا منه من النار" "رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره"1، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- قد أمرهم بأن يعتقوا رقبة عن هذا للقاتل الذي استحق النار بالقتل، واستحقاقه للنار لا يكون إلا بالقتل العمد، فدل هذا على إيجاب الكفارة في القتل العمد. وأما القياس: فقالوا: إنها تجب في القتل العمد قياسا على القتل الخطأ؛ لأن الحاجة إلى التكفير في العمد أمس منها إليه في القتل الخطأ؛ لأن الكفارة لستر الذنب، والذنب في العمد أعظم، ومثل العمد القتل شبه العمد. الرأي الثاني: يرى المالكية أن الكفارة تندب للحر المسلم إذا قتل جنينا أو قتل شخصا عمدا ولم يقتل به لعفو أو لعدم مكافأة. الرأي الثالث: يرى الحنفية والحنابلة والزيدية والثوري وأبو ثور: أنه لا تجب الكفارة في القتل العمد، سواء كان موجبا للقصاص أو غير موجب له "خلافا للزيدية في القتل غير الموجب للقصاص"، واستدلوا بالكتاب والقياس. أما الكتاب: فقد بين الله تعالى عقوبة القتل الخطأ بقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، كما بين عقوبة القتل العمد بقوله جل شأنه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وقد خصص الإجماع عقوبة القصاص بالقتل عمدا، فلما كان كل واحد من القتيلين -في العمد والخطأ- مذكورا بعينه ومنصوصا علي حكمه لم يجز لنا أن نتعدى ما نص الله تعالى عليه فيهما؛ إذ إنه لا يجوز قياس المنصوصات بعضها على بعض، فلا يصح أن نوجب في القتل العمد كفارة قياسا على القتل الخطأ.   1 مغني المحتاج ج4، ص107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وأما القياس: فوجهه أن الكفارة دائرة بين العبادة والعقوبة، فلا بد من أن يكون سببها أيضا دائرًا بين الحظر والإباحة؛ لتعلق العبادة بالمباح والعقوبة بالمحظور، وقتل العمد كبيرة محضة، وما كان كبيرة محضة لا يكون سببا لشيء فيه معنى العبادة، فلا تناط به، والكفارة كسائر الكبائر مثل الزنا والسرقة والربا واليمين الغموس. الرد على أدلة الرأي الأول: كما ردوا على أدلة الرأي الأول فقالوا: إن حديث واثلة يرد عليه بثلاثة ردود؛ أولها: أن قوله: "استجوب النار بالقتل" تأويل من الراوي؛ لأن في بعض رواياته لم يذكر أنه أوجب النار بالقتل، وثانيها: أنه لو أراد كفارة القتل لذكر رقبة مؤمنة، فلما لم يشرط لهم الإيمان في الرقبة دل على أنها ليست من كفارة القتل، وثالثها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرهم بأن يعتقوا عنه رقبة، ولا خلاف أنه ليس عليهم عتقها عنه، وإنما الذي يعتقها هو القاتل بنفسه، وأيضا فإن عتق الغير عن القاتل لا يجزيه عن الكفارة. وأما قولهم: إن الكفارة في العمد أوجب؛ لأنه أغلظ، فقد أجابوا عنه بأن الكفارة في الخطأ ليست مستحقة بالمأثم حتى يعتبر عظم المأثم فيها؛ لأن المخطئ غير آثم، فاعتبار المأثم في هذه الكفارة ساقط، وأيضا فإن تعين الكفارة في الشرع لدفع الذنب الأدنى -وهو الخطأ- لا يدل على تعينها لدفع الذنب الأعلى -وهو العمد- فإن سجود السهو يلزم الساهي ولا يلزم المتعمد، فلا يمكن قياس القتل العمد على القتل الخطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 النوع الرابع: الحرمان من الميراث: من العقوبات التي قررتها الشريعة الإسلامية على القاتل عمدا عدوانا الحرمان من الميراث، فمن قتل شخصا حرم من ميراثه؛ لأنه بيده الآثمة قطع ما أمر الله به أن يوصل، فباعتدائه عليه قطع رابطة القرابة التي بها يستحق الميراث، إلا أنه لما كان القتل تارة يكون عمدا، وتارة يكون خطأ.. فقد اختلف الفقهاء في كون هذه الأنواع من القتل مانعة من الميراث كلها أو بعضها خلافا كبيرا، ونرى إرجاء تفصيل آرائهم إلى أن ننتهي من بيان أنواع القتل وعقوباتها، ونفرد للحرمان من الميراث مبحثا مستقلا في نهاية الفصل الثالث الخاص بالقتل خطأ، إلا أننا نشير هنا إلى أن للفقهاء رأيين في حرمان القاتل عمدا عدوانا من الميراث: الرأي الأول: حكي عن سعيد بن المسيب وابن جبير أنهما ورثاه من تركة المجني عليه، هو رأي الخوارج، وقد استدلوا على ذلك بأن آيات المواريث بعمومها تتناول هذا القاتل فيجب العمل بها. الرأي الثاني: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنابلة، الزيدية، الإمامية" أنه يحرم من ميراث المجني عليه، وقد استدلوا على ذلك بما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس للقاتل شيء"، رواه مالك في موطئه وأحمد في مسنده. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فإنه لا يرثه، وإن لم يكن له وارث غيره، وإن كان والده أو ولده، فليس للقاتل ميراث" رواه أحمد في مسنده. وقد روي أن عمر أعطى دية ابن قتادة المذحجي لأخيه دون أبيه القاتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وكان قد حذفه بسيفه فقتله، واشتهرت القصة بين الصحابة -رضي الله عنهم- ولم تنكر فكان إجماعا. ولأن الوارث ربما استعجل موت مورثه بالقتل المحظور ليأخذ أمواله، وإذا استعجل الإنسان شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه، معاملة له بنقيض مقصوده، ولأنا إذا قلنا بالتوريث مع القتل أدى هذا إلى تفشي قتل الورثة مورثيهم، وهو فساد يجب إغلاق بابه؛ لأن الله لا يحب الفساد. وهذا الرأي هو الصحيح لصحة أدلته، قد أخذ به قانون المواريث بجمهورية مصر العربية رقم 77 لسنة 1943، وقد نص على ذلك في المادة الخامسة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 المبحث الخامس: عقوبة القتل العمد في القانون : جعل القانون عقوبة القتل العمد هي الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة "م 234/ 1ع". وإذا اقترن القتل العمد بظروف مشددة كانت عقوبته الإعدام، والظروف المشددة التي أخذ بها المشرع المصري ستة: سبق الإصرار والترصد، والقتل بالسم، واقتران القتل بجناية، وارتباطه بجنحة1، ووقوع القتل أثناء الحرب على الجرحى حتى من الأعداء. ونظرا إلى أننا قد بينا آنفا رأي الفقه الإسلامي في عقوبة القتل العمد، وفي أثر الظروف المخففة للعقوبة والمشددة لها، وذكرنا بعض الجرائم التي قال الفقهاء: إن عقوبتها الحد لا القصاص، وأشرنا آنذاك إلى ما يقابلها في القانون، فلا داعي للإعادة هنا مرة أخرى، إلا أن ما نود الإشارة إليه هنا هو أن الفقه الإسلامي يرى أن موجب القتل العمد القصاص عينا، أو أحد أمرين القصاص أو الدية، كما سبق أن بينا بجانب العقوبات الأخرى كالكفارة -عند من يقول بها- والحرمان من الميراث. أي: أن القتل العمد المحض المجرد عن أية ظروف أخرى إذا كان عدوانا يوجب القصاص في الفقه الإسلامي، إلا أن القصاص يمكن أن يسقط بعفو ولي الدم.. فإن عفا سقط القصاص إلى الدية إن أراد، بل له أيضا أن يعفو عن الدية.. ولكن العقوبات الأخرى تظل قائمة، ومن هنا يفترق الفقه الإسلامي عن القانون، فالقانون يرى في هذه الحالة أن العقوبة هي الأشغال   1 تراجع المواد: 230ع، 233، 234/ 2/ 25103 مكررة ع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، بينما يرى الفقه الإسلامي أن عقوبته هي القصاص الذي يكون لصاحبه الحق في العفو عنه، على التفصيل الذي بيناه. ولا شك أن رأي الفقه الإسلامي أنجع في علاج الجرائم من علاج القانون؛ وذلك لأن السجن عقوبة لا تلائم نوع الجناية التي ارتكبت، فإن الجناية أفظع وأشد، إنها قتل نفس بغير حق، فإذا أوجبنا فيها هذه العقوبة ما كان ذلك محققا لعدالة العقاب؛ وبالتالي لا يشفى غليل أهل المجني عليه، ومن هنا يتكاثر ارتكاب الجرائم ويتفشى. وهذا ما عالجته الشريعة الإسلامية، فمن حيث عدالة العقاب أوجبت القصاص حتى يذوق الجاني نفس الكأس الذي أذاقه لغيره، ويتجرع المرارة التي جرعها لغيره، ولا شك أن هذا المسلك في العقوبة أكثر ردعا وزجرا؛ إذ به تتحقق الحياة لنفوس كثيرة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . ومن حيث شفاء غليل أهل المجني عليه جعل المشرع الحكيم لهم الحق في استيفاء القصاص أو العفو عنه إلى الدية أو مجانا، أما العقوبات الأخرى فإنها لا تتعلق على رضاهم، وهذا المسلك هو خير طريق لإزالة الأحقاد من النفوس، وجعل الجروح تندمل على خلايا صحيحة، فإنهم إن عفو عنه إلى الدية كان منة وفضلا يطوق عنق الجاني وأهله طيلة حياتهم، وإن عفوا عن الدية أيضا كانت المنة أكثر والفضل مضاعفا ... وكأن الجاني في حقيقة الأمر قد ولد من جديد، وكأن أهله هم أهل المجني عليه.. إذن فالعقوبة في الشريعة الإسلامية قد روعي فيها جانب العدالة مع جانب الرحمة والرأفة، مع جانب تنمية العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية بين الناس جميعا في آن واحد.. فمن استوفى حقه كان غير ملام؛ لأن هذا المنطق هو منطق العدل، ومن عفا كان متفضلا مشكورا، والمتفضل له أجره في الدنيا والآخرة، وبهذا المسلك الخالد في وضع العقوبة تزول الرواسب التي تفسد العلاقة بين الجاني وأهله والمجني وأهله، وبذلك يتم أفضل لقاء وأعدل علاج.. إلا أنه مع هذا فإن الشريعة الإسلامية جعلت للدولة -ممثلة في الإمام- حقا آخر تباشره قِبَل القاتل الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 عفا عنه ولي الدم.. وهذا الحق يجعله الفقه في صورتين؛ الأولى: صورة من كانوا خطرا على المجتمع، وهؤلاء للدولة أن توقع عليهم عقوبة القتل، عفا عنهم أولياء الدم أو لم يعفوا، والصورة الثانية: صورة القتل في الأحوال العادية، وقد بينا فيما سبق أن بعض الفقهاء يرى إيجاب عقوبة أخرى على القاتل، وهي التعزير -وسيأتي بحثه بمشيئة الله تعالى في نهاية هذا الباب- أو جلد مائة وحبس سنة كما قال المالكية. وبهذا يتبين لنا أن الفقه الإسلامي قد عالج ما يترتب على العفو من آثار؛ إذ قد يكون مصدر العفو خوف ولي الدم من الجاني، أو أي اعتبار آخر يؤثر على إرادته، فإذا صدر العفو كان للدولة الحق في إيقاع العقوبة التي تراها ملائمة لكل قاتل حسب ظروفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الفصل الثاني: القتل شبه العمد وعقوبته المبحث الأول: آراء الفقهاء في القول بشبه العمد ... الفصل الثاني: القتل شبه العمد وعقوبته: نتناول في هذا الفصل النوع الثاني من الجريمة، وهو "شبه العمد"، ونجعل هذا الفصل في ثلاثة مباحث، نوضح في الأول آراء الفقهاء في إثبات هذا النوع من الجريمة، وفي الثاني أركانها عند القائلين بها، وفي الثالث عقوبتها مع مقارنة ذلك بالقانون. المبحث الأول: آراء الفقهاء في القول بشبه العمد: اختلف الفقهاء في إثبات وصف ثالث لجريمة القتل بجانب وصفها بالعمد والخطأ، وهو الجريمة التي يختلط فيها العمد والخطأ، فلا هي عمد محض، ولا هي خطأ محض، وإنما هي مزيج من العمد والخطأ، كأن يقصد الضرب بآلة لا قتتل عادة -مثل الحجر الصغير والعصا الصغيرة- فإن الضرب مقصود، والقتل غير مقصود؛ لأن مثل هذه الآلة لا تستعمل في القتل ولا تؤدي إليه عادة، ومن هنا وجد الخطأ؛ أي: عدم قصد القتل، فسماها بعض الفقهاء "شبه العمد أو عمد الخطأ أو خطأ العمد" للدلالة على اختلاط الأمرين فيها، ولم يقل بها آخرون، ونبين كلا الرأيين فيما يلي: الرأي الأول: يرى المالكية والزيدية والظاهرية وهو رأي الليث بن سعد والهادي والناصر والمؤيد بالله وأبي طالب: أن الجريمة إما عمد أو خطأ، ولا ثالث لهما، وقد استدلوا على ذلك بأن كتاب الله تعالى لم يرد فيه إلا الخطأ والعمد، قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 إِلَى أَهْلِهِ ... } الآية، وقال جل شأنه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية1، وإذا كان كتاب الله تعالى لم يرد فيه سوى هذين النوعين، فلا يكون هناك نوع ثالث. الرأي الثاني: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية ورواية عن الإمام مالك والشافعية والحنابلة والإمامية، وهو المروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وإليه ذهب زيد بن علي والأوزاعي والثوري والشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة وسفيان الثوري وإسحاق وأبو ثور"2 أن الجناية ثلاثة أنواع: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وقد استدلوا على إثبات جريمة شبه العمد بالسنة والإجماع. أما السنة: 1- فبما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة، ولا حمل سلاح" رواه أحمد وأبو داود3. 2- وما روي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط أو العصا، فيه مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها" رواه الخمسة إلا الترمذي4، ولهم من حديث ابن عمر مثله.   1 سورة النساء الآيتان "92، 93". 2 المراجع: الجامع لأحكام القرآن الكريم ج5، ص329، ونيل الأوطار ج7، ص31، والمغني والشرح الكبير ج9، ص220. 3 جاء في نيل الأوطار: "حديث عمرو بن شعيب في إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وقد تكلم فيه غير واحد، ووثقة غير واحد". 4 الحديث أخرجه البخاري في التاريخ، وساق اختلاف الرواة فيه، وأخرجه الدارقطني في سننه، وساق أيضا اختلاف الرواة فيه، وقد صححه ابن حبان، وقال ابن القطان: هو صحيح ولا يضره الاختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 فقد دل الحديثان على أن هناك نوعا من جرائم القتل يسمى شبه عمد، وهو ما كان ناتجا عن آلة لا تقتل غالبا كالسوط أو العصا، وأن عقوبته هي الدية لا القصاص، وأن هذه الدية مغلظة مثل دية القتل العمد، وليست كدية القتل خطأ، وبذلك تكون السنة قد جاءت ببيان حكم القتل شبه العمد، بجانب ما أثبته كتاب الله تعالى من بيان حكم القتل عمدا والقتل خطأ. وأما الإجماع: فقد نقل السرخسي في مبسوطه اتفاق الصحابة -رضوان الله عليهم- على القول بشبه العمد؛ حيث أوجبوا فيه الدية مغلظة مع اختلافهم في صفة التغليظ، وسيأتي بيان ذلك في عقوبة شبه العمد. الترجيح: وبهذا يتبين لنا صحة هذا الرأي ورجحانه؛ لأنه من المنطقي عقلا وشرعا أن يكون هناك تفاوت في العقوبة بين جريمة من يتعمد القتل بأسبابه التي تؤدي إليه قطعا أو غالبا، وبين جريمة من يقصد الضرب لا القتل بأسباب لا تؤدي إلى القتل قطعا أو غالبا؛ إذ الأول أخطر فيجب أن يردع، وردعه يكون من جنس فعله الذي قصده، أما الثاني فإن خطره محدود جدا؛ لأنه ما كان يقصد القتل، وإنما حدث القتل خروجا عن المعتاد والمألوف، فكان من الواجب أن تكون عقوبته متكافئة مع قصده، وخير مقياس لهذه المكافأة بين جريمته وعقوبته هو ما وضعه الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- من إسقاط القصاص منه وتغليظ الدية عليه، وما يتبع ذلك من عقوبات أخرى -سيأتي إيضاحها- لأنه قصد الضرب عدوانا.. وقد صحح الإمام القرطبي هذا الرأي قائلا: "هو الصحيح، فإن الدماء أحق ما احتيط لها؛ إذ الأصل صيانتها في أهلها، فلا تسبتاح إلا بأمر بين لا إشكال فيه، وهذا -أي شبه العمد- فيه إشكال؛ لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد، فالضرب مقصود، والقتل غير مقصود، وإنما وقع بغير قصد فيسقط القود وتغلظ الدية، وبمثل هذا جاءت السنة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 المبحث الثاني: أركان جريمة شبه العمد : إن ما سبق أن قررناه في أركان جريمة القتل العمد يغنينا1 عن العودة إلى بيان هذه الأركان؛ إذ إن الجريمتين يشتركان في أنه لا بد أن يكون الاعتداء واقعا على إنسان حي، معصوم الدم، معين "عند الجمهور"، وأن يكون الفعل الذي أدى إلى القتل مقصودا، مباشرة كان أم تسبيبا "عند الجمهور". أما كون الفعل قد قصد به الاعتداء أو قصد به التأديب والتهذيب، فقد بينا بالتفصيل آراء الفقهاء فيما يكون منه عمدا وما يكون شبه عمد -فلا داعي لإعادته2- والذي نحب أن نبرزه هنا هو أن مصدر اختلاف الفقهاء في اعتبار بعض الأفعال التي تؤدي إلى القتل عمدا، وبعضها شبه عمد، فهم في بعض الأحاديث الواردة في هذا الباب، وشدة احتياط، خوفًا من إيجاب القصاص في قتل لا يتوافر فيه قصد القتل، وهذا أمر بالغ الخطورة؛ لذلك كان للفقهاء رأيان نعرضهما فيما يلي: الرأي الأول: يرى الإمام أبو حنيفة والحسن البصري والشعبي والنخعي   1 راجع ص80. 2 راجع ص92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 أن شبه العمد هو أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح ولا ما أجرى مجرى السلاح، سواء كان الهلاك به غالبا كالعصا الكبيرة، أم لم يكن كالعصا الصغيرة، وقد احتجوا على ذلك بالسنة: 1- منها قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا" "تقدم نصه آنفا" فقد جعل الحديث قتيل السوط والعصا مطلقا شبه عمد، فلم يفرق بين العصا الصغيرة والكبيرة، فتخصيص شبه العمد بالعصا الصغيرة إبطال للإطلاق، وهو لا يجوز، ولأن العصا الكبيرة والصغيرة تساويا في كونهما غير موضوعتين للقتل ولا مستعملتين له؛ إذ لا يمكن الاستعمال على غرة من المقصود قتله، وبالاستعمال على غرة يحصل القتل غالبا، وإذا تساويا والقتل بالعصا الصغيرة شبه عمد، فكذا القتل بالكبيرة يكون شبه عمد. 2- ومنها ما روي عن أبي هريرة قال: اقتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر قتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقضى "أن دية جنينها غرة -عبد أو وليدة- وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معه" "متفق عليه"، فقد دل الحديث على أن القتل بالمثقل -كالحجر ونحوه- يكون شبه عمد فيه الدية، وليس فيه قصاص. 3- ومنها ما أخرجه البيهقي من حديث النعمان بن بشير مرفوعا: "كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش"، وفي لفظ: "كل شيء سوى الحديدة خطأ، وكل خطأ أرش". الرأي الثاني: يرى جمهور الفقهاء "أبو يوسف ومحمد، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، الإمامية" التفريق بين ما يقتل غالبا -كالعصا والحجر الكبيرين- وبين ما لا يقتل إلا نادرًا -كالعصا والحجر الصغيرين- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 فالأول يكون القتل به عمدا، والثاني يكون شبه عمد، وقد استدلوا بالكتاب والسنة والقياس: أما الكتاب: فإن الأدلة الكلية القاضية بوجوب القصاص من الكتاب {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وردت مطلقة غير مقيدة بمحدد أو غيره، فتكون كل آلة تؤدي إلى القتل غالبا محددة أو غير محددة موجبة للقصاص ما دام القتل عمدا. أما السنة: فبما روي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: إن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها: من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فأقر، فأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرض رأسه بين حجرين، رواه الجماعة، واللفظ لمسلم، وفي رواية لمسلم: "وأن يهوديا قتل جارية على أوضاح1 لها فقتلها بحجر". وجه الاستدلال: أن هذا اليهودي قد قتل الجارية بحجر، والحجر ليس بمحدد كالسيف ونحوه مما يفرق الأجزاء، بل هو مما يقتل بثقله، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتل اليهودي قصاصا؛ لأنه قتل عمد، ولم يعتبره شبه عمد، فيكون هذا الحديث دليلا على أن القتل بالمثقل يوجب القصاص. وأيضا بما روي عن حمل بن مالك قال: كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- في جنينها   1 أي: حلي لها من فضة، ذكر أهل اللغة أن الفضة تسمى وضحا -بفتحتين- لبياضها، ويجمع على أوضاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 بغرة، وأن تقتل بها،1 رواه الخمسة إلا الترمذي. كما وردت أحاديث تفيد أن القتل بما لا يقتل غالبا يكون شبه عمد فيه الدية، ومنها ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة "الحديث الثاني الذي استدل به أصحاب الرأي الأول"، وما جاء فيه أيضا عن المغيرة بن شعبة قال: ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط، وهي حبلى، فقتلتها، قال: وإحداهما لحيانية "من بني لحيان، وهو ضرب من هذيل"، قال: فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دية المقتولة على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها. فتبين بذلك أن القتل بحجر صغير أو خشبة صغيرة مثل عمود الفسطاط2 يكون شبه عمد فيه الدية على العاقلة وليس فيه قصاص؛ لأنه لا يقصد به القتل بحسب الأغلب.   1 ذكرالشوكاني أن هذا الحديث أصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة والمغيرة بن شعبة، ولكن بدون زيادة "وأن تقتل بها" التي هي موضع الاستدلال من الحديث، قال النضر بن شميل: المسطح هو الصولج، والصولج هو الذي يرقق به الخبز، وقال أبو عبيد: هو عود من أعواد الخباء. 2 الفسطاط "بضم الفاء وكسرها": ضرب من الخيام، وعموده خشبة يتخذها الأعراب لبيوتهم فيها دقة وخفة؛ لتلائم تنقلهم وتحركهم أثناء بحثهم عن المرعى، ولا يثقل حملها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وقد ردوا على أدلة الرأي الأول بما يأتي: 1- أما قولهم بأن الحديث "الأول" لم يفرق بين العصا الصغيرة والكبيرة، فقد رد عليه ابن المعتز قائلا: "إن الحديث حجة عليهم لا لهم؛ وذلك لأن العصا لا يطلق إلا على ما لا يقتل غالبا، ولا تسمى الخشبة الكبيرة عصا، بل جذعا وأسطوانة ونحوهما، وعملها يفوق عمل العصا، فلا يلحق به"، وأيضا يمكننا أن نضيف إلى ذلك أن اقتران السوط بالعصا ينبئ عن المماثلة في الاستعمال، والسوط ليس موضوعا للقتل ولا مما يقتل غالبا. 2- وأما استدلالهم بحديث أبي هريرة "الثاني" فقد قالوا: إن الحجر إذا كان صغيرا لا يقصد به القتل غالبا. 3- وأما الحديث: "كل شيء خطأ إلا السيف" فقد ضعفه أهل الحديث، فقال الشوكاني: "هذا الحديث يدور على جابر الجعفي، وقيس بن الربيع، ولا يحتج بهما، وأيضا هذا الدليل أخص من الدعوى، فإن أبا حنيفة يوجب القصاص بالمحدد، ولو كان حجرا أو خشبا، ويوجبه أيضا بالمنجنيق لكونه معروفا بقتل الناس، وبالإلقاء في النار". الترجيح: والذي نرى رجحانه هو الرأي الثاني؛ وذلك لما استدلوا به، وأما ما ورد في الأحاديث فإنه متفق مع وجهة نظر هذا الرأي، فإن ما جاء في حديث أنس أن يهوديا رض رأس جارية.. يدل على أنه قتلها بمثقل؛ لأن كلمة "رض" تدل على القتل بالمثقل ... ولذلك اقتص منه، والأحاديث الأخرى لا تعارض هذا؛ لأن حديث المرأة التي رمت الأخرى بحجر فقتلتها، يدل على أنها ضربتها بما لا يقتل غالبا، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 لأن الذي يفهم من كونها "رمتها" أي: قذفتها بحجر، وأن الحجر كان صغيرا وإلا لما استطاعت وهي امرأة رميه. وأما حديث المغيرة، وفيه أنها ضربتها بعمود فسطاط، فإنهم قد فسروا هذا العمود بأنه عمود فيه خفة ورشاقة؛ أي: أنه من الميسور حمله ونقله بسهولة، فهو يشبه العصا، والعصا لا تعتبر من المثقل، فالضرب بها لا يكون عمدا، بل شبه عمد فيه الدية لا القصاص بنص الحديث. وأما حديث حمل بن مالك الذي ورد فيه: "وأن تقتل بها" فإن المنذري قال بشأنها: إن هذه الزيادة لم تذكر في غير هذه الرواية، وجميع روايات الحديث في الصحيحين أنه قضى فيها بالدية ... كما بينا آنفا. فهذه لا تقوى على معارضة الروايات الأخرى المتعددة الطرق. فالذي نرجحه هو التفريق بين ما يقتل غالبا وبين ما يقتل نادرا، فالأول يكون القتل به عمدا، والثاني يكون القتل به شبه عمد، أما إذا كان الضرب الذي أدى إلى القتل قد وقع بشيء تافه لا ينسب القتل إليه عادة، فإنه يكون موافقة قدر، كما لو ضربه بحصاة وما أشبهها، لا يوجب قصاصا ولا دية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 المبحث الثالث: عقوبة القتل شبه العمد المطلب الأول: الجزاء الآخروي ... المبحث الثالث: عقوبة القتل شبه العمد: للقتل شبه العمد في الفقه الإسلامي عقوبتان: إحداهما أخروية، والثانية دنيوية، ونوضح كلا منهما فيما يأتي، كما نوضح عقوبته في القانون، ثم نقارن بين العقوبتين. المطلب الأول: الجزاء الأخروي: إن الجزاء الأخروي جزاء عادل، يتناسب دائما مع نية الجاني وقصده؛ لأن العمد الصادر من الإنسان قد تصحبه نية -خيرة كانت أم شريرة- وقد لا تصاحبه هذه النية كالعمل الصادر من مخطئ أو نائم، ففي الحالة الثانية لا يكون الإنسان أمام الله -جل وعلا- مسئولا عما صار منه إلا بقدر تفريطه أو عدم احترازه في توقي ما يصدر عنه. أما الحالة الأولى: وهي حالة مصاحبة النية للعمل، فقد قرر الحديث الشريف قاعدة الثواب والعقاب، فقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ... " متفق عليه. فالعمل عند الله مقوم بالنية، وجزاؤه مقدر بها إن خيرا وإن شرا1، فإن كان القاتل قاصدا القتل بآلة لا تقتل إلا نادرًا، وهو القتل شبه العمد، كانت عقوبته الأخروية هي عقوبة القتل العمد، وقد أوضحتها آية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ... } كما سبق إيضاحه، وإن لم يكن قاصدا القتل، حتى وإن استعمل آلة قاتلة قطعا وغالبا، فإنه لا يعاقب بعقوبة القتل العمد في الآخرة، وإنما يعاقب بقدر همه إلى الإيذاء، واندفاعه إلى الاعتداء، وإيقاعه ما قصد إيقاعه بنفسه أو بالمجني عليه؛ ولذلك فإننا نقول: إن القتل شبه العمد يوجب عقوبة أخروية بقدر ما صاحب الفعل الجنائي من نية، وتقدير هذا الجزاء موكول إلى المطلع على النوايا والمقاصد، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الذي يضع الموازين القسط ليوم القيامة، جل شأنه وعلا. ولقد صرح فقهاء الحنفية بأن القتل شبه العمد يأثم صاحبه؛ لأنه قد ارتكب أمرا محرما في دينه قاصدا له.   1 وفي حديث أبي بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟!!! قال: "لأنه أراد قتل صاحبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي للقتل شبه العمد : للقتل شبه العمل جزاء دنيوي أيضا، وهو جزاء مالي، يتمثل في الدية، والكفارة، والحرمان من الميراث، وقد يكون بدنيا كالتعزير، وللفقهاء آراء في هذه العقوبات نوردها فيما يأتي: النوع الأول: الدية في القتل شبه العمد: عرفنا فيما تقدم الدية، وبينا جنس المال الذي تدفع منه، ومقاديرها، وتغليظها، ونبين هنا آراء الفقهاء فيمن يتحمل دية القتل شبه العمد، وكيفية أدائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 المقصد الأول: المتحمل للدية في شبه العمد: للفقهاء القائلين بهذا النوع من الجناية رأيان فيمن يتحمل الدية في شبه العمد: أحدهما: يرى ابن سيرين والزهري والحارث العكلي وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور، واختاره أبو بكر من الحنابلة، ورأي للإمامية: أن الدية في شبه العمد تجب في مال القاتل قياسا على القتل عمدا؛ وذلك لأن الدية موجب فعل قصده الجاني، ولا شك أنه قصد الفعل الجنائي كما في القتل عمدا، وإذا كان كذلك لا تتحمل العاقلة الدية هنا كما لا تتحمله في القتل عمدا، وأيضا فإنه الدية الواجبة في شبه العمد هي دية مغلظة فأشبهت دية العمد، ودية العمد لا تتحملها العاقلة، فكذا هذه. الثاني: يرى الحنفية والشافعية، وظاهر مذهب الحنابلة، والشعبي والنخعي والحكم والثوري وإسحاق وابن المنذر: وجوب الدية في شبه العمد على العاقلة، وقد استدلوا على ذلك بالسنة والقياس: أما السنة: فقد روي عن أبي هريرة أنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن دية جنينها عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها" متفق عليه، وفي الباب أحاديث أخر تقدمت نصوصها1، وكلها   1 يراجع أحاديث حمل بن مالك، وأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، تقدمت آنفا في أركان شبه العمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 تنص على أن الرسل -صلوات الله وسلامه عليه- قضى بالدية على العاقلة في هذه الجناية -وهي جناية شبه عمد، وليست خطأ- فدل ذلك على وجوبها على العاقلة في شبه العمد بنص الأحاديث. وأما القياس: فقد قاسوا القتل شبه العمد على القتل خطأ، ووجه ذلك أن القتل شبه العمد قتل لا يوجب القصاص، فكان كالقتل خطأ من هذا الوجه، ولما وجب في القتل خطأ الدية على العاقلة يجب كذلك في شبه العمد على العاقلة قياسا عليه. وأيضا فإن القتل شبه العمد يخالف العمد المحض؛ لأن العمد يغلظ من كل وجه، لقصد الجاني الفعل وإرادته القتل، وأما شبه العمد فإنه يغلظ من وجه، وهو قصد الجاني الفعل، ويخفف من وجه، وهو كونه لم يرد القتل، فاقتضى تغليظها من وجه تغليظ الدية، واقتضى تخفيفها من وجه تحمل العاقلة للدية وتأجيلها، على ما سنذكره في الفقرة التالية. الترجيح: ونرى رجحان هذا الرأي "الثاني"؛ وذلك لصحة الأحاديث التي أثبتت أن العاقلة هي التي تتحمل الدية في هذا النوع من الجناية، ولأن القاتل منا معذور؛ لأنه لم يكن يقصد القتل، فكان ذلك مدعاة للتخفيف عنه، ومظهر هذا التخفيف هو أن تتحمل العاقلة هذه الدية أو لأن النتيجة وهي القتل في شبه العمد قد وقعت دون قصد، فهي شبيهة بالنتيجة التي حدثت في القتل خطأ. فالقتل في كلا الجنايتين غير مقصود، وإذا تساويا في هذا تساويا في أن تتحمل العاقلة دية هذه النفس في شبه العمد كما تتحملها في الخطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 المقصد الثاني: كيفية أداء دية شبه العمد: قد اختلف أيضا هؤلاء الفقهاء في كيفية أداء دية شبه العمد إلى ثلاثة آراء: الرأي الأول: قال ابن قدامة1: قد حكي عن قوم من الخوارج أنهم قالوا: الدية تجب في شبه العمد حالة "فورا"؛ لأنها بدل متلف -بفتح اللام- وبدل المتلف يجب حالا، كقيمة المتاع، فكذا هذا. الرأي الثاني: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وهو المروي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وأبو هاشم، وعبد الله بن عمر، وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر" أن دية شبه العمد تجب على العاقلة في ثلاث سنين، وقد استدلوا بما روي أن عمر وعليا -رضي الله عنهما- قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعا، ولأن المروي عنهما كالمروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه مما لا يعرف بالرأي. الرأي الثالث: اتفق الإمامية مع الرأي الثاني في التأجيل غير أنهم خالفوهم في مقداره؛ حيث أوجبوا أداءها في سنتين، في آخر كل حول منهما يجب أداء النصف.   1 المغني ج1، ص492، ط أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الترجيح: والذي نرى رجحانه هو الرأي الثاني؛ لورود آثار عن الصحابة -رضوان الله عليهم- تقضي بذلك، ولأن هذا الرأي فيه تخفيف نسبي عن العاقلة التي لم ترتكب هذه الجناية، وهذا التخفيف يتلاءم مع وضع العاقلة التي تتحمل هذا المال مساعدة ومعاونة ومواساة، ولم تكن مسئولة مسئولية جنائية عما حدث، وهذا ما يدعونا إلى ترجيح جانب التخفيف عن العاقلة في الأداء، والتخفيف عنها يكون أبرز وأظهر إذا قلنا بإيجاب هذه الدية في ثلاث سنين على أن تؤدي في كل سنة ثلثها. النوع الثاني: الكفارة: بينا فيما تقدم المقصد من مشروعية الكفارة1، وما تؤدَّى به، ونوضح هنا آراء الفقهاء في إيجاب هذا النوع من العقوبة في القتل شبه العمد، وللفقهاء القائلين بهذا النوع من الجريمة ثلاثة آراء: أحدها: أنه لا تجب كفارة في القتل شبه العمد، وهو رأي لأبي حنيفة في غير ظاهر الرواية، ويوافق هذا الرأي رأي الزيدية والظاهرية؛ لأنهم لا يقولون بالكفارة في القتل العمد، والعمد عندهم يعم العمد وشبه العمد، وقد بينت كتب الحنفية وجه هذا الرأي، فقالوا: إن الإثم في جريمة شبه العمد كامل متناه فهي جناية مغلظة، بدليل أن المؤاخذة فيها ثابتة، وتناهي الإثم يمنع شرعية الكفارة؛ لأن شرعيتها من باب التخفيف   1 راجع ص342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وهو لا يستحق التخفيف، فلا يجب بالقتل شبه العمد كفارة كما لا يجب في القتل العمد، ولا يصح قياسه على الخطأ؛ لأنه لا إثم فيه. الرأي الثاني: يندب أداء الكفارة، وهذا الرأي للمالكية؛ ذلك لأنهم لا يفرقون بين القتل عمدا أو شبه عمد، فالكل عمد، وفي العمد يندب أداء الكفارة عندهم كما سبق أن بينا1. الرأي الثالث: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية -في ظاهر الرواية- والشافعية، والحنابلة، والإمامية" إيجاب الكفارة في القتل شبه العمد، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والقياس: أما الكتاب: فبقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ... } وذلك لأن القتل شبه العمد هو قتل خطأ بالنظر إلى الآلة المستخدمة؛ حيث إنه لم يقصد القتل وإن قصد الضرب، وإنما حدث القتل خطأ، وإذا كان كذلك وجبت الكفارة في القتل شبه العمد بالآية؛ إذ إنها قد جعلت الكفارة واجبة في القتل خطأ. وأما القياس: فقد قالوا بقياس شبه العمد على الخطأ في إيجاب الكفارة؛ وذلك لأن كلا منهما وجد فيه خطأ في القتل. وقد اعترض على هذا الاستدلال بأن تعين الكفارة لدفع الذنب الأدنى في الشرع لا يعينها لدفع الذنب الأعلى؛ إذ لا شك أن شبه العمد أعلى ذنبا من الخطأ المحض، فإن الجاني في شبه العمد قاصد الضرب، بخلاف الخطأ؛ ولهذا أثم في الأول دون الثاني. وقد أجيب عن هذا بأن الكفارة ثبتت بالآية في القتل خطأ، والقتل   1 راجع ص343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 في جريمة شبه العمد وقع خطأ، كما بينا آنفا، فانتظمت الآية وجوبها فيهما، فلا حاجة إلى الاستدلال بالقياس. أما قول أصحاب الرأي الأول: "إن الإثم في جريمة شبه العمد متناه ... "، فقد أجيب عنه بأن الإثم في شبه العمد هو إثم الضرب؛ لأن الجاني قد قصد الضرب، لا أنه إثم القتل؛ لأنه لم يقصد القتل، وهذه الكفارة تجب بالقتل وهو فيه مخطئ، ولا تجب بالضرب، ألا ترى أنها لا تجب بالضرب بدون القتل، وبعكسه تجب، فكذلك عند اجتماعهما يضاف وجوب الكفارة إلى القتل دون الضرب. الترجيح: ونرى رجحان الرأي الثالث "رأي جمهور الفقهاء"؛ وذلك لرجحان ما استندوا إليه، فإن القتل في شبه العمد خطأ، وإلا لوجب القصاص، وإذا كان خطأ فإن الآية أوجبت على من يقتل خطأ كفارة. النوع الثالث: الحرمان من الميراث: سبق أن بينا آراء الفقهاء في حرمان القتل عمدا بغير حق من ميراث مقتوله1، ونورد هنا آراءهم في أثر جريمة شبه العمد على هذا النوع من العقوبة، على النحو التالي: أولا: أن من قالوا فيما تقدم "سعيد بن المسيب وابن جبير": إن القاتل عمدا لا يحرم من الميراث، فإنهم بطريق الأولى يقولون ذلك هنا.   1 راجع حرمان القتل عمدا من الميراث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 ثانيا: أن من لم يفرق بين العمد وشبه العمد -وهم المالكية والزيدية والظاهرية- يجعلون بعض أنواع القتل شبه العمد عمدا موجبا للقصاص1، وإذا كان عمدا فإنه يكون مانعا من الميراث. ثالثا: أما الفقهاء الذين فرقوا بين العمد وشبه العمد -وهم الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والإمامية- فإنهم قالوا: إن القتل شبه العمد مانع من الميراث أيضا كالقتل عمدا للأدلة التي ذكرت في حرمان القاتل عمدا من الميراث؛ وذلك لأن الحرمان من الميراث عقوبة للقتل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل شيء"، والشبهة التي وجدت في جريمة شبه العمد شبهة تؤثر في سقوط القصاص ولا تؤثر في حرمان الميراث. الترجيح: ونرى رجحان هذا الرأي الذي يقضي بحرمان القاتل قتلا شبه عمد من الميراث إذا كان الضرب عدوانا؛ وذلك لعموم الأحاديث التي أثبتت حرمان القاتل من الميراث، ولما في ذلك من تحقيق مصلحة راجحة هي: أن يكف الأقارب عن الاعتداء بعضهم على بعض، ويتوخون تدعيم علاقتهم -لا فصلها وقطعها- بمثل هذه الأعمال التي تؤدي إلى القتل؛ فإن صلة الرحم   1 سبق أن بينا أن المالكية والزيدية يجعلون الضرب عدوانا بآلة لا تقتل غالبا عمدا موجبا للقصاص، بينما يرى جمهور الفقهاء أنه شبه عمد، أما إن كان الضرب بقصد اللعب أو التأديب وأفضى إلى الموت، وكان بآلة موضوعة للتأديب أو اللعب يكون خطأ موجبا للدية عند المالكية والزيدية، لا عمدا موجبا للقصاص، أما الظاهرية فقد اعتبروه عمدا، وأما جمهور الفقهاء فقد خالفوا المذاهب الثلاثة فجعلوا الضرب بقصد اللعب أو التأديب بآلة موضوعة لذلك إذا أفضى إلى الموت قتلا شبه عمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 مطلوبة شرعا وعقلا، فإذا خالف الإنسان، وارتكب مع قريبه ما يترتب عليه قطع هذه الصلة، فإنه من المناسب شرعا وعقلا ألا يستفيد القاتل ممن قتله، مالا أو غيره، جزاء ما اقترف؛ ولذلك فإن المشرع الحكيم رتب على هذه الجريمة قطع الصلة التي بها يرث قريبه، وهي القرابة؛ إذ إنه بالاعتداء عليه يكون قد قطع هذه القرابة، فوقع الشرع على المعتدي عقوبة أخرى من جنس ما أدت إليه جريمته، فما أحكم شرع الله وما أعدله!! حيث جعل الجزاء متناسبا مع العمل. النوع الرابع: التعزير: ستناول هذا النوع من العقوبة في مبحث مستقل بعد استيفاء أبحاث الجناية على النفس وما دونها، وسنبين أن لولي الأمر أن يضع العقوبة التي يراها، وهي عقوبة التعزير، على بعض الجرائم، ومنها هذا النوع، وأن يحدد نوعها حبسا أو جلدا أو غيرهما، وأن يقدرها بالمقدار الذي يتلاءم مع الجناية والجاني والمجتمع، ويتحقق الغرض من العقوبة، متوخيا في كل ذلك تحقيق المصلحة العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 المطلب الثالث: عقوبة الضرب المفضي إلى الموت في القانون : نوجز في هذا المطلب رأي القانون في هذا النوع من الجريمة إيجازا يتلاءم مع مقصدنا من هذه الدراسة الفقهية على النحو التالي: أولا: ركن هذه الجريمة: بيَّن شراح القانون أن جريمة الضرب المفضي إلى الموت تتطلب توافر ركنين: أحدهما: مادي، وهو يقوم على ثلاثة عناصر: 1- فعل الضرب أو الجرح أو إعطاء مواد ضارة. 2- ثم موت المجني عليه. 3- وقيام رابطة السببية بين الفعل والنتيجة "الموت"1. وثانيهما: معنوي، وهو يقوم على أمرين: أحدهما إيجابي، والآخر سلبي: أما الأول: فهو أن يكون لدى الجاني قصد ارتكاب الضرب. وأما الثاني: فهو ألا يكون الجاني قد قصد ارتكاب القتل. ونظرا إلى أننا قد أفضنا عند بيان أركان جريمة القتل العمد في تحليل هذه الأمور، وبينا موقف الفقه الإسلامي منها، فإننا نكتفي بما أوردناه هناك، وننتقل إلى العقوبة في القانون. ثانيا: عقوبة الضرب المفضي إلى الموت: إن الضرب المفضي إلى الموت باعتباره عملا غير مشروع يترتب عليه مسئوليتان كغيره من الأعمال غير المشروعة؛ الأولى: المسئولية الجنائية، وجزاؤها العقوبة، والثانية: المسئولية المدنية، وجزاؤها التعويض: أ- جزاء المسئولية الجنائية لهذه الجناية:   1 نصت المادة "236/ ع/ م" على أن "كل من جرح أو ضرب أحدا عمدا، أو أعطاه موادا ضارة ولم يقصد من ذلك قتلا، ولكنه أفضى إلى الموت يعاقب بالأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلى سبع، أما إذا سبق ذلك إصرار أو ترصد فتكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 لقد قضى القانون في المادة "236/ ع/ م" بأن عقوبة هذا النوع من الجناية الأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلى سبع، هذا إذا لم يصاحب هذه الجناية ظرف سبق الإصرار أو الترصد، فإن صاحبها هذا الظرف كانت العقوبة الأشغال المؤقتة أو السجن؛ أي: من ثلاث سنوات إلى خمس عشرة سنة. ب- جزاء المسئولية المدنية لهذه الجناية: كما قضت المادة "164/ 1/ مدني مصري" على أن "الشخص يكون مسئولا عن أعماله غير المشروعة متى صدرت منه وهو مميز، فالعمل غير المشروع باعتباره مصدرا من مصادر الالتزام يؤدي إلى أنه يثبت لمن وقع الضرر عليه حق المطالبة بالتعويض العادل عما أصابه من أضرار بسبب الفعل غير المشروع الواقع عليه". ولا نريد أن نطيل في بيان الفرق بين المسئوليتين، ويكفي أن نبين أن جزاء المسئولية الجنائية يكون حق المطالبة به للنيابة العامة باعتبارها ممثلة للمجتمع، أما المسئولية المدنية فإن هذا الحق يكون لمن وقع عليه الضرر، كما أنه لا يجوز الصلح ولا التنازل في الأولى؛ لأن الحق فيها عام للمجتمع، ويجوز ذلك في الثانية؛ لأن الحق فيها خاص للفرد1، وهناك فروق أخرى يرجع إليها في كتب شرح القانون.   1 وهذا التقسيم مأخوذ من تقسيم الفقه الإسلامي للحقوق -باعتبار عموم النفع وخصوصه- إلى قسمين رئيسيين: حقوق الله، وهي كل ما يتعلق به النفع العام من غير اختصاص بأحد، فينسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه، والثاني: حقوق العباد، وهي كل ما يتعلق به مصلحة خاصة لصاحبه، وقد يختلط حق الله وحق العبد، فإن كان حق الله هو الغالب كان نوعا ثالثا، وإن كان حق العبد هو الغالب كان نوعا رابعًا، إلا أن هذين النوعين يردان إلى القسمين السابقين باعتبار ما غلب فيهما. "راجع ما سبق أن بيناه في مقدمة هذا المؤلَّف من التعريف بهذه الحقوق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 المطلب الرابع: المقارنة بين العقوبتين : يتبين لنا مما تقدم أن الفقه الإسلامي جعل عقوبة القتل شبه العمد مادية بصورها المتقدمة، ثم إن هذا الفقه لا يأبَى إيقاع عقوبة التعزير على القاتل في هذه الجناية إذا رأى الإمام مصلحة في ذلك، وهذا المنهج في العقوبة أعدل من منهج القانون من وجوه: أولا: نترك العقوبة البدنية التي نص عليها القانون، فإنه يمكن إدخالها في عقوبة التعزير في الفقه الإسلامي بصورتها العادية أو المشددة، فلا مجال حينئذ للكلام في هذه الناحية سوى أنه يجب أن يراعى في تقديرها تحقيق مصلحة المجتمع. ثانيا: العقوبة المادية، وهي تتمثل في الفقه الإسلامي في: الدية والكفارة والحرمان من الميراث. ويمكن أن نقول: إن هذا النوع من العقوبة -وخاصة الدية- يقابلها في القانون التعويض المدني -مع بعض التجاوز في تكييف كل من العقوبتين- إلا أن الفقه الإسلامي في هذا المجال -كما في غيره- يعلو على كل علاج لسد باب الجريمة وردع الجناة وزجر الآخرين، وذلك من وجوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الأول: أن الدية التي يجب دفعها إلى ولي الدم -على التفصيل الذي ذكرناه فيما تقدم- هي مقدار من المال حدده المشرع الحكيم على أساس موضوعي، لا يتفاوت بين إنسان وآخر بالعوارض الصحية أو الجسمانية أو الاجتماعية من كثرة كسب أو قلته، وبعكس هذا جعل القانون أساس التعويض ذاتيا وليس موضوعيا، ويتفاوت التعويض عندهم من شخص إلى شخص آخر باعتبار الظروف التي تحيط بمن وقع عليه الضرر طبقا لحالته الشخصية والصحية والجسمانية، وكذا المالية باعتبار كثرة كسبه أو قلته. وبهذا المعيار الذي قرره القانون يتأصل التفاوت بين الناس تفاوتا لا يمكن حصره ولا ضبطه مما يتيح فرصة للتباين بين تقدير وتقدير، وحكم وحكم، وشخص وشخص، باعتبارات لا حصر لها. وهذا ما عالجه الفقه الإسلامي علاجا موضوعيا؛ إذ إنه قد نظر إلى النفس البشرية، لا بهذه الاعتبارات، بل باعتبار إنسانيتها، وكونها كائنا حيا وقع عليه اعتداء، أحس بهذا الاعتداء الفقير والغني بإحساس واحد، ووقع عليهما ألم واحد، وفقد كل منهما ما فقده الآخر، ومن هنا كان موجب الجناية واحدا، فإن الأمور والاعتبارات التي قررها شراح القانون تعتبر عرضا لا جوهرا، والعرض من خاصيته التغير والتبدل، فقد يكون صحيحا اليوم ومريضا غدا -لا بسبب- وقد يكون غنيا في هذه اللحظة وفقيرا في اللحظة التي تليها، وقد يكون خامل الذكر آنًا ثم يعلو شأنه بعد قليل.. فهذه صفة العرض. أما النظر إلى الجوهر وإلى الموضوع فهو أعدل وأدق، وهذا ما توخته الشريعة الإسلامية. وأما كون الدية على القاتل، أو على العاقلة -كما رجحنا1 آنفا- فإن   1 راجع المقصد الأول من المطلب الثاني من هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ما نود أن نشير إليه هو أن الفقه الإسلامي يجعل هذا الحق واجب الأداء إلى ولي الدم، أيا كان المتحمل لهذا المال، فإنه في حالة عجز المتحمل عن الأداء، فإن بيت المال هو الذي يقوم بسداد الدية إلى ولي الدم؛ لأن بيت المال هو الذي يرث من لا وارث له، فيجب أن يدي من لا يمكن أداء ديته؛ لأن الغنم بالغرم، وليس في الإسلام دم يهدر، إلا ما أهدره المشرع الحكيم لحكمة رآها ومصلحة قدرها، فإذا كان الشخص معصوما، واعتدي عليه، فإن دمه لا يضيع بأي سبب من الأسباب.. وهذا تقدير رفيع وسمو في التشريع لا يدانيه تقدير، ولا يلحقه تشريع، يوثق الروابط بين الفرد والمجتمع، بين الفرد ودولته، ويجعل حرص الفرد والجماعة على الدولة لا يدانيه إلا حرص الدولة على الفرد والجماعة؛ نظرا للتكافل التام بين الاثنين، وهذا بالإضافة إلى ربط الفرد بعاقلته رباطا يجعلها دائما تحرص على توجيه النصح والإرشاد لأفرادها، والتحذير والتأديب لمن يشذ من بينهم؛ نظرا لما يلحقهم جميعا من الغرامة، وسنبحث في فقرة مستقلة نظام العاقلة في الفقه الإسلامي في مبحث الجريمة خطأ. أما التعويض المدني في القانون، فإنه منظور إليه على أنه حق شخصي يتعلق بذمة من يتسبب فيه، ومن شأن الحقوق الشخصية أنه إذا وجد له مال أمكن الوفاء بالتعويض، وإن لم يوجد له مال حتى موته ضاع حق صاحب الحق، وأصبحت أسرة المجني عليه في حالة يُرثى لها. وهذا المسلك فضلا عن أنه يغري العاطلين وحثالة الناس على الإجرام -وهذا خطر كبير- فإنه يفتح مجالا للتهرب من مثل هذه الحقوق قبل وجوبها، في المرحلة التي تسبق الإعداد للجريمة، طالما أن ذلك يضيع حتى أصحاب الحق، مما يفتت الترابط والتعاطف بين الدولة والأفراد. والثاني: أنه بجانب الدية أوجب الفقه الإسلامي عقوبتين أخريين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أولاهما: الكفارة، وهي حق من حقوق الله تعالى، يجب في ذمة القاتل وفي ماله، وقد سبق أن بينا نوعها في القتل العمد1. وثانيتهما: حرمان القاتل من ميراث مقتوله؛ سدا لباب الطمع، في الوصول إلى ماله قبل أن يئون أوانه2. ولعلنا بهذا ندرك عدالة العقوبة في الفقه الإسلامي وإحاطتها وشمولها وعلاجها لكل الجوانب التي تسد باب الجريمة وتوثق الروابط بين الجميع.   1 راجع مبحث الكفارة "النوع الثالث من المطلب الثاني من الفصل الأول". 2 راجع مبحث الحرمان من الميراث "النوع الثاني من المطلب الثاني من الفصل الثاني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الفصل الثالث: القتل الخطأ وموجبه المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي ... الفصل الثالث: القتل الخطأ وموجبه: نفرد هذا الفصل للنوع الثالث من الجريمة؛ وهو القتل خطأ، ونجعله في أربعة مباحث؛ نبين في الأول: حقيقته عند الفقهاء، وفي الثاني: أركان الجريمة الخطأ في الفقه الإسلامي، وفي الثالث: موجبه، وفي الرابع: حقيقته وموجبه في القانون مع المقارنة بالفقه الإسلامي. المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي: الأصل في هذا الفصل هو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1. سبب نزول هذه الآية: لقد نزلت الآية بسبب أن عياش بن ربيعة قتل الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري لحنة2 كانت بينهما؛ إذ إنه   1 سورة النساء الآية رقم 92. 2 الحنة والإحنة: الحقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 لما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه، فلما أخبر "بإسلامه" أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنه قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، ولم أشعر بإسلامه حتى قتلته، فنزلت الآية. معنى الآية: ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، فقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} ليس على النفي، وإنما هو على التحريم والنهي، ولو كانت للنفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط، فإن ما نفاه الله لا يجوز وجوده؛ كقوله تعالى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا. وقال قتادة: المعنى ما كان له ذلك بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول، وهو الذي يكون فيه "إلا" بمعنى "لكن"، التقدير: ما كان له أن يقتله البتة، لكن إن قتله خطأ فعليه كذا، هذا قول سيبويه والزجاج رحمهما الله. وقيل: هواستثناء متصل؛ أي: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ولا يقتص منه إلا أن يكون خطأ فلا يقتص منه؛ ولكن فيه كذا وكذا "وفي الآية وجوه أخرى فنكتفي منها بذلك". معنى الخطأ: الخطأ اسم من أخطا خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد، فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء، يقال لمن أراد شيئا ففعل غيره: أخطأ، ولمن فعل غير الصواب: أخطأ1. ونقصد بالخطأ هنا: كل ما يصدر عن الإنسان بإرادته، فيؤدي إلى إلإضرار بإنسان أو بغيره ممن لم يرد وقوع الفعل به. فالمخطئ أراد الفعل وقصده؛ ولكنه لم يرد وقوعه بالصفة التي وقع بها؛ نظرا لخطأ في الفعل أو في القصد أو فيهما، أو بعبارة أخرى: نظرا لحدوث ظروف أدت إلى خلل في القصد أو في التوجيه أو فيهما.   1 قال أبو عبيد: خطئ وأخطأ بمعنى، ومصدر خطئ خطأ، ومصدر أخطأ إخطاء، والخطأ والإخطاء هو ما لم يصنع عن تعمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ومن هنا فإن الخطأ لا يوصف بالخطر ولا بالإباحة، ولا بالحل ولا بالحرمة، ونوضح فيما يلي أنواع الجناية خطأ، ثم ما في معنى الخطأ. أنواع الخطأ: الخطأ يتنوع بتنوع أركان العمل الذي أدى إليه، وأي عمل من الأعمال يحتاج إلى أمرين: أولهما: القصد، وهو أمر باطني؛ لأنه عمل من أعمال القلب لا يمكن معرفته إلا بالقرائن والظروف المحيطة بالعمل. وثانيهما: فعل الجارحة، وهو ما صدر عن الإنسان من عمل -إيجابي أو سلبي- أدى إلى هذه النتيجة "الموت أو الجرح ... " كالرمي والضرب ونحوهما من الأفعال، فإن اتصل الخطأ بالأول كان خطأ في القصد، وإن اتصل بالثاني كان خطأ في الفعل، وإن اتصل بهما كان خطأ فيهما: 1- الخطأ في القصد: ومثاله أن يرمي شخصا يظنه صيدا فإذا هو آدمي، أو يظنه حربيا فإذا هو مسلم، فإن الخطأ هنا واقع في القصد؛ لأن الفعل كان موجها إلى شيء معين فأصاب هذا الشيء، ولم يحدث خطأ في التوجيه كفعل مادي بحت، ولكن الخطأ قد حدث في القصد، فإنه كان يظنه صيدا؛ أي: مباح الدم، فتبين أنه إنسان؛ أي: أنه غير مباح الدم. فالخطأ في القصد يتحقق حينما يكون الفعل من حيث التوجيه والإصابة بعيدا عن الخطأ، أو نقول: إن الفعل الذي أدى إلى الجناية من حيث كونه عملا ماديا قد تم دون خطأ؛ ولكن الخطأ وقع في القصد والإرادة؛ فقد أراد شيئا مباحا؛ ولكن الظروف خارجة عن إرادته لم يتبين حقيقة ما وجه إليه الرمية فأصاب إنسانا لا يحل له قتله أو الاعتداء عليه. 2- الخطأ في الفعل: ومثاله أن يرمي صيدا فيخطئ في التوجيه فيصيب آدميا كان قريبا من الصيد، فهنا الفعل كان موجها إلى غرض مباح، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 صيد حيوان أو طائر، فصدر منه خطأ في الفعل، أدى إلى اتجاه الرمية بعيدا عن هذا الغرض، فأصابت آدميا معصوم الدم. فالخطأ في الفعل: هو أن يقصد فعلا فيصدر منه فعل آخر. 3- الخطأ في القصد والفعل: ومثاله ما لو رمى آدميا يظنه صيدا، فأخطأ فأصاب غيره من الناس، فإن الرمية كانت موجهة إلى هدف يظنه صيدا، ولكنه كان في الحقيقة آدميا، فلو أنه أصابه لكان خطأ في القصد ولكن الرمية لم تصبه وأصابت شخصا آخر معصوم الدم، فحدث خطأ في الفعل أيضا؛ إذ إنه قصد فعلا فصدر منه فعل آخر، فتبين لنا بهذا أن الخطأ وقع في القصد وفي الفعل1.   1 ونعرض فيما يلي آراء الفقهاء في الجريمة خطأ: أولا: مذهب الحنفية: جاء في بدائع الصنائع ج7، ص234، ص271-274: "وأما القتل الخطأ، فالخطأ قد يكون في نفس الفعل، وقد يكون في ظن الفاعل، أما الأول فنحو أن يقصد صيدا فيصيب آدميا، أو أن يقصد رجلا فيصيب غيره، فإن قصد عضوا من رجل فأصاب عضوا آخر فهذا عمد وليس بخطأ، وأما الثاني فنحو أن يرمي إلى إنسان على ظن أنه حربي أو مرتد فإذا هو مسلم ... وأما الذي في معنى القتل الخطأ فنوعان: نوع هو في معناه من كل وجه، وهو أن يكون على طريق المباشرة، ونوع هو في معناه من وجه، وهو أن يكون على طريق التسبيب، أما الأول فنحو النائم ينقلب على إنسان فيقتله، فهذا القتل في معنى القتل الخطأ من كل وجه لوجوده لا عن قصد؛ لأنه مات بثقله، فترتب عليه أحكامه ... وأما الثاني فنحو جناية الحافر ومن في معناه ممن يحدث شيئا في الطريق أو المسجد، وجناية السائق والقائد وجناية الناخس وجناية الحائط ... ". ثانيا: مذهب المالكية: أما المالكية فقد جاء في الشرح الكبير ج4 ص215: "أن للقتل الخطأ نوعين "إذا قصد ضرب شيء معتقدا أنه غير آدمي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وهذا التقسيم هو ما قرر الفقهاء بإجماع اعتباره خطأ.   = أو أنه آدمي غير محترم لكونه حربيا أو زانيا محصنا، فتبين أنه محترم فلا قصاص ولو مكافئا له وهو من الخطأ فيه الدية.. والثاني أن يقصد الضرب على وجه اللعب فهو خطأ على قول ابن القلعم.. ومثله إذا قصد به الأدب الجائز بأن كان بآلة يؤدب بها، وأما إن كان الضرب للتأديب والغضب فالمشهور أنه عمد يقتص منه". ثالثا: مذهب الشافعية: الخطأ عندهم أنواع؛ لأنه إما ألا يقصد أصل الفعل، أو يقصده ولا يقصد الشخص، أو لا يقصدهما، مثال الأولى: ما لو صاح على صيد فاضطرب صبي كان على طرف سطح فسقط ومات، فهنا لم يقصد القتل. ومثال الثاني: ما لو رمى شجرة أو دابة فأصاب شخصا فمات، فهنا قصد الفعل ولم يقصد الشخص، ومثال الثالث: ما لو زلق فوقع على شخص فمات، فهنا لم يقصد الفعل ولا الشخص "مغني المحتاج ج4، ص4". ويأخذ حكم القتل الخطأ القتل بسبب كحافر البئر في غير ملكه بغير إذانه بشروط: 1- أن يستمر العدوان إلى السقوط فيها. 2- وألا يوجد هناك مباشرة بأن رداه في البئر غير حافرها. 3- أن يتجرد التردي للإهلاك، فلو تردى ولم يتأثر بذلك، وبقي أياما ثم مات جوعا أو عطشا فلا ضمان على الحافر. رابعا: مذهب الحنابلة: وقد جعل الحنابلة أيضا الخطأ نوعين: خطأ في القصد؛ كأن يرمي ما يظنه صيدا فيقتل إنسانا، أو أن يقتل بدار الحرب من يظنه حربيا فيبين مسلما، وخطأ في الفعل؛ كأن يرمي صيدا فيصيب آدميا معصوما لم يقصده، أو ينقلب وهو نائم ونحو ذلك؛ كمغمى عليه على إنسان فيموت، ومن قتل بسبب كحفر بئر فإن لم يقصد الجناية فهو خطأ لعدم القصد "كشاف القناع ج3 ص240". خامسًا: مذهب الزيدية: جعل الزيدية الجناية خطأ في حالات: 1- ألا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ب- أنواع الجنايات التي هي في معنى الخطأ: على ضوء ما قرره الفقهاء في تكييف جناية الخطأ رأينا الجمهور منهم يلحقون بهذه الجناية بعض الجنايات التي تتقارب معها من كل وجه أو بوجه من الوجوه؛ وذلك لأن هذه الجرائم الملحقة بالخطأ تتميز بعدم وجود عنصر من عنصري الخطأ، وهو القصد، أما الفعل -وهو العنصر الثاني- فإما أن يكون موجودا ولكن وجوده كان بدون اختيار وكسب مع أنه كان بالمباشرة، أو يكون وجوده باختيار الجاني؛ ولكن لم يكن مباشرا؛ بل تسبب في قوعها، ونبين حكم كل فيما يلي:   = يقصد المجني عليه، بل قصد غيره غير متعد، كأن يرمي صيدا فيصيب رجلا، أو كان يقصد تعديا كأن يقصد زيدا فيصيب عمرًا. 2- ألا يقصد الفاعل القتل، بل يقصد إيلامه فقط فقتل، فإنه يكون خطأ إذا كانت الجناية بما مثله لا يقتل في العادة باعتبار المجني عليه. 3- إذا وقعت الجناية بسبب وكان متعديا في هذا السبب بأن وضع في حق عام أو في ملك الغير بغير إذنه حجرا أو نارا أو ماء أو غير ذلك "التاج المذهب ج4، ص289-290". سادسا: مذهب الإمامية: جعل الإمامية أيضا الخطأ إما أن يكون في القصد أو في الفعل أو فيهما، ولا تخرج الأمثلة عما ذكرناه، كما جعلوا جناية النائم خطأ؛ لأنه -كما قالوا- مخطئ في فعله وقصده، وقيل: إنه يضمن الدية في ماله، والأقوى الأول "الروضة البهية ج2، ص419-422". سابعا: مذهب الظاهرية: وكذلك جعل الظاهرية القتل الخطأ إما أن يكون الخطأ واقعا في القصد أو في الفعل أو فيهما، أو قتل وهو نائم إنسان معصوم الدم "المحلى ج10، ص343-474، وج11، ص19". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 النوع الأول: فعل غير إرادي يؤدي إلى جناية: إذا صدر من الشخص فعل غير إرادي فأدى إلى جناية، كما لو كان نائما أو مغمى عليه ونحو ذلك، فانقلب على شخص فقتله، فإن هذه الجناية ليست خطأ، ولكنها تأخذ حكم الخطأ، ويجري عليها ما يجري على الخطأ من أحكام. أما أنها ليست خطأ، فلأن النائم والمغمى عليه لا يوصف فعله بالعمد والخطأ؛ لأن ذلك الوصف فرع الإرادة والقصد، والنوم حالة طبيعية تعتري الإنسان يفقد أثناءها وعيه وإحساسه وإرادته وإدراكه وقصده بصفة مؤقتة، فما يصدر منه من أفعال لا يوصف بالعمد ولا بالخطأ. وأما أن هذه الجناية تأخذ حكم الخطأ؛ فذلك لأن هذه الجناية -وإن لم يصاحبها القصد- فقد تمت بثقل جسمه، فكان جسمه مباشرا للقتل، وكان أداة له، فكأنه مات بفعله، فكان هذا القتل في معنى القتل الخطأ، وإذا كان كذلك كان ما أورده الشرع من أحكام في الخطأ واردًا هنا دلالة. إلا أنه يجب التأكد من أن موته قد تم من هذا الفعل، فإن حدث شك في أنه هل مات بفعله أم بسبب آخر؟ فإن الإمام ابن حزم ذكر في امرأة نامت بقرب ابنها فوُجد ميتا أنه في حالة الشك "لا دية في ذلك ولا كفارة؛ لأننا على يقين من براءتها من دمه، ثم على شك أمات من فعلها أم لا؟ والأموال محرمة إلا بيقين، والكفارة إيجاب شرع، والشرع لا يجب إلا بنص أو إجماع، فلا يحل أن تلزم غرامة ولا صياما، ولا أن تلزم عاقلتها دية بالظن الكاذب"1.   1 المحلى لابن حزم ج10، ص474. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 النوع الثاني: القتل بسبب: القتل بسبب: هو أن يفعل الإنسان فعلا يؤدي إلى تلف إنسان أو غيره بواسطة؛ كما لو حفر بئرا، أو أوقد نارا، أو وضع حجرا، فتلف به إنسان أو غيره1، فإن التلف لم يحدث بفعل الجاني مباشرة، وإنما حدث بسبب   1 ولما كان لكل مذهب رأيه في القتل بسبب، وشروطه الخاصة التي تبين المعيار الذي يصبح فيه القتل بسبب عمدا، أو شبه عمد، أو خطأ، فإننا نورد فيما يلي موجزا لآراء المذاهب في القتل بسبب: أ- مذهب الحنفية: يرى الحنفية "أن القتل بسبب كحافر البئر، وواضع الحجر في غير ملكه، فيه الدية على العاقلة لا الكفارة، أما وجوب الدية به فلأنه سبب التلف وهو متعد فيه بالحفر، فجعل كالدافع الملقى فيه، فتجب فيه الدية صيانة للأنفس، فتكون على العاقلة؛ لأن القتل بهذا الطريق دون القتل بالخطأ فيكون معذورًا، فيجب على العاقلة تخفيفا عنه كما في الخطأ، بل أولى؛ لعدم القتل مباشرة؛ ولهذا لا تجب الكفارة فيه ولا يحرم من الميراث" الزيلعي ج6، ص102. ب- مذهب المالكية: يرى المالكية "أنه إذا فعل الإنسان فعلا يؤدي إلى تلف شيء لا يقصد تلفه، كما لو حفر بئرا بقصد الإضرار بشخص معين، وإن كان ببيته فأصاب غيره، أو هلك بها شيء، ففيه الدية على العاقلة والقيمة في غيره، وكذلك الحكم لو قصد الإضرار بشخص معين. فإن حفرها ولم يقصد ضررا فهلك بها إنسان أو غيره، إن كان بملكه أو بموات لنفعه ولو لعامة الناس لا شيء عليه، وإن حفرها بملك غيره بلا إذن أو بطريق أو بموات لا لمنفعة فالدية على العاقلة والقيمة في غيره". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ......................................................................   = ج- مذهب الشافعية: جاء في مغني المحتاج ج4، ص82، 83: "ويضمن شخص بحفر بئر عدوان: كحفرها بملك غيره بغير إذنه، أو بملك مشترك بغير إذن شريكه، أو في شارع ضيق أو واسع لمصلحة نفسه بغير إذن الإمام، فيضمن ما تلف فيها من آدمي حر أو غيره، لكن الآدمي يضمن بالدية إن كان حرا، أو بالقمية إن كان رقيقا، على عاقلة الحافر حيا كان أو ميتا. ويشترط أن: 1- يستمر العدوان إلى السقوط فيها، فلو رضي المالك إبقاءها زال الضمان في الأصح، وكذا لو ملك البقعة. 2- وألا يوجد هناك مباشرة بأن رداه في البئر غير حافرها، وإلا فالضمان على المردي لا على الحافر. 3- وأن يتجرد التردي للإهلاك، فلو تردت بهيمة في بئر لم تتأثر بالصدمة وبقيت فيها أياما، ثم ماتت جوعا أو عطشا فلا ضمان على الحافر ... "، ولا يضمن بحفر بئر في ملكه لعدم تعديه بشرط أن يعرفه أن هناك بئرا، أو كانت مكشوفة والداخل متمكن من التحرز، فأما إذا لم يعرفه والداخل أعمى فإنه يضمن ... ولا يضمن بحفر بئر في موات للتملك أو الارتفاق "لعدم تعديه" فإنه كالحفر في ملكه وعليه يحمل خبر مسلم البئر جرحها جبار؛ أي: غير مضمون. د- مذهب الحنابلة: جاء في كشاف القناع ج3، ص340: "ومن قتل بسبب كحفر بئر ونصب سكين أو حجر ونحوه تعديا فلا يخلو: إما أن قصده جناية فهو شبه عمد؛ لأنه بالنظر إلى القصد كالعمد، وبالنظر إلى المباشرة خطأ، وإن لم يقصد جناية فهو خطأ لعدم قصد الجناية، وقيل: سبيله سبيل الخطأ؛ لأنه يشارك الخطأ في الإتلاف، وإنما لم يجعل خطأ لعدم القصد في الجملة ... ". هـ- مذهب الزيدية: جاء في التارج المذهب ج4، ص301، 289، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فعله وبواسطته؛ حيث أدى وضع الحجر مثلا إلى اصطدامه به واصطدامه به أدى إلى سقوطه، وسقوطه أدى إلى تلفه ... فالفعل أدى إلى التلف بواسطة، ولم يؤد إليه مباشرة، فإذا حدث التلف بسبب هذا الفعل، فإن   = 290: "واعلم أن المسبب المضمون هو جناية ما وضع بتعد في وضعه كحجر وماء وبئر بأن يكون قد وضعه في حق عام أو ملك الغير بغير إذنه فيتعثر به متعثر، فكلما وقع بهذه الموضوعات من الجنايات فهو مضمون على عاقله الواضع غالبا، وقوله: غالبا احترازا مما جرت به العادة من وضع الحجارة والأخشاب ونحوها في حق عام أو ملك الغير أو في ملك الواضع حال العمارة لترفع قريبا فلا ضمان" ولو أمكن المجني عليه دفع السبب الذي ليس بمهلك في العادة فلم يفعل حتى هلك سقط القصاص والدية. و مذهب الإمامية: جاء في الروضة البهية ج2، ص245: "أما القتل بسبب كما لو أجج نارا أو وضع ماء أو حفر في ملك غيره فتلف بها إنسان أو غيره، ضمن الأنفس والأموال -مع تعذر التخلص- في ماله، ولو قصد الإتلاف فهو عامد يقاد في النفس مع ضمان المال، أما لو أجج نارا في ملكه في ريح معتدلة أساكنة ولم يزد النار عن قدر الحاجة التي أضرمها لأجلها فلا ضمان؛ لأن له التصرف في ملكه كيف يشاء". ز- مذهب الظاهرية: جاء في المحلى لابن حزم ج11، ص19: "من شق نهرا فغرق قوما، أو طرح نارا أو هدم بناء، فإن كان شقه لمنفعة أو لغير منفعة وهو لا يدري أنه لا يصيب به أحدا، فما هلك به فهو قاتل خطأ، والديات على عاقلته والكفارة عليه، لكل نفس كفارة، يضمن في كل ذلك ما تلف من المال، وهكذا القول فيمن ألقى نارا أو هدم بناء ولا فرق ... وإن فعل ذلك في ملكه فلا شيء عليه" راجع المحلى ج11، ص10، 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 الأمر لا يخلو من أن يكون الجاني متعديا في فعله أو غير متعد، ومن أن يكون قاصدا الجناية أو غير قاصد لها، ويتفرع عن هذا أربع صور؛ لأنه إما أن يوجد التعدي مع قصد الجناية، أو يوجد التعدي مع عدم قصدها، أو لا يوجد أي منهما، أو لا يوجد التعدي مع وجود التقصير، ونوضح آراء الفقهاء في كل صورة من هذه الصور: الصورة الأولى: أن يوجد التعدي في الفعل مع قصد الجناية: ولما كانت هذه الصورة التي توافر فيها التعدي في الفعل، كما توافر فيها قصد الجناية هي إحدى صور القتل العمد، وقد سبق أن فصلنا آراء الفقهاء في الجريمة العمدية التي يتم فيها إزهاق روح المقتول بواسطة أي فعل غير مباشر "القتل بسبب ص58-64" فلا داعي للإعادة. الصورة الثانية: أن يوجد التعدي في الفعل مع عدم قصد الجناية: وذلك كما لو حفر بئرا في غير ملكه، فتلف به إنسان أو حيوان، فإن الفاعل لذلك يعتبر متعديا؛ لأنه قد أحدث هذا الفعل في مكان لا يحق له أن يفعله فيه، فإذا لم يصاحب هذا التعدي قصد الجناية، فهل تعتبر الجريمة خطأ؟ للفقهاء آراء ثلاثة: أولها وأشدها: هو رأي الإمامية: أنها تعتبر شبه عمد، فتجب الدية في ماله، إن كان التالف نفسا، والضمان إن كان مالا، وذلك بشرط ألا يتمكن المجني عليه من الخلاص، فإن تمكن من الخلاص مما وقع فيه، ولم يخلص نفسه لا يجب على الفاعل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الرأي الثاني: أنها تعتبر خطأ، وهو رأي جمهور الفقهاء -المالكية، والشافعية، ورأي عند الحنابلة، والزيدية- وإذا كانت خطأ، فيكون موجبها موجب القتل الخطأ من الكفارة والدية على العاقلة، وإنما كانت الجناية هنا خطأ؛ لأن الفاعل لم يقصد بفعله الجناية، فعدم توافر هذا القصد يجعل الجناية خطأ. معيار التعدي: يعتبر الإنسان بفعله متعديا إذا توافر في فعله ما يأتي: أولا: أن يكون هذا القتل قد تم في مكان لا يباح له أن يفعله فيه، وذلك كما لو كان في ملك غيره بغير إذنه، أو في ملك عام كالطريق ونحوه، وإن كان في أرض موات فلا بد أن يكون فعله لمنفعة ولو لعامة الناس، وإلا كان متعديا في فعله "وهذا رأي جمهور الفقهاء"1. ثانيا: ألا يتعود الناس هذا الفعل في مثل هذا المكان، فلو تعود الناس فعله سقطت المسئولية عن فاعله، ولم يضمن ما تلف بسبب فعله من نفس أو مال "كمال صرح الشافعية والزيدية". ثالثا: أن تظل صفة التعدي مصاحبة للفعل إلى حين التلف، فلو رضي المالك بإبقاء الفعل، أو ملك الفاعل البقعة زال الضمان "كما صرح الشافعية والحنفية". رابعا: أن يتصل السبب بالنتيجة؛ بحيث لا يقطع هذا الاتصال أمر آخر يحدث النتيجة؛ كما لو ألقى إنسان شخصا في هذه الحفرة، فإن العقوبة تقع على الملقِي دون الحافر. وكذا لو تمكن الواقع في الحفرة من الخلاص ولم يخلص نفسه، فإن هذا   1 ذكر ابن قدامة في الشرح الكبير ج9، ص366: "أنه إن حفرها في أرض موات فلا ضمان عليه؛ لأنه غير متعد بحفرها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 التمكن يقطع الصلة بين السبب والنتيجة، ويصبح قاتلا لنفسه, وليس على الحافر شيء "وهذا ما صرح به الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية". وكذا لو كان الوقوع غير مؤثر؛ ولكنه بقي في الحفرة أياما ثم مات جوعا أو عطشا، فلا ضمان على الحافر "كما صرح الحنفية والشافعية". وكذا لو قصد المجني عليه إيقاع نفسه فيها انتفت المسئولية وسقط الضمان؛ لأنه يعتبر هو القاتل لنفسه. الرأي الثالث: أن هذه الجناية تجري مجرى الخطأ وليست خطأ -وهو رأي الحنفية، ورأي بعض الحنابلة- وذلك لأن الخطأ والقتل بسبب يختلفان في بعض الوجوه ويتفقان في بعضها؛ فإنهما يختلفان في: 1- أن الفعل الذي أدى إلى الجناية كان فعلا مباحا في ذاته، سواء كان الخطأ في الفعل أو في القصد أو فيهما، أما الفعل الذي أدى إليها في "القتل بسبب" فإنه غير مباح؛ لأنه قام به في مكان لا يحق له أن يفعله فيه، فهو متعد بفعله. 2- أن الفاعل في القتل الخطأ متهم؛ لاحتمال أنه قصد القتل في الباطن، وأما في القتل بسبب فإنه ليس بقاتل ولا متهم؛ وذلك لأن شبهة التهمة في القتل الخطأ قائمة؛ لأن ادعاء الخطأ مسألة تحتمل القبول والرفض، والبحث والاجتهاد في تعريف حقيقة الفعل الذي أدى إلى القتل أهو خطأ أم عمد؟ لأن النوايا مسألة خفية يتعرف عليها بالمظاهر الخارجية. أما القتل بسبب فإن شبهة التهمة فيه بعيدة؛ لأن حافر البئر لا علم له بأن هذا الشخص سيمر من هذا المكان، وأنه إذا مر سيقع في هذه الحفرة، ولا ينتبه إلى وجودها في طريقه، أما إذا كان يعلم بذلك فإن القصد الجنائي يكون موجودا، وهذه هي الصورة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 والذي يتفقان فيه: هو أن الفاعل في كل من الخطأ والقتل بسبب لم يقصد الجناية بالفعل الذي أدى إليها. ولما كان بينهما هذا الاختلاف والاتفاق قالوا: إن هذه الجناية ليست خطأ؛ وإنما تجري مجرى الخطأ؛ فأوجبوا فيها الدية على العاقلة، ولم يوجبوا فيها كفارة ولا حرمانا من الميراث، كما سيأتي إيضاحه تفصيلا في موجب الجناية خطأ. وقد وافقوا على الشروط التي وضعها أصحاب الرأي الثاني لاعتبار هذه الجناية خطأ، فإذا اختل شرط منها انتفت المسئولية، وسقط الضمان1. الصورة الثالثة: ألا يوجد التعدي في الفعل، وألا يوجد قصد الجناية، وذلك كما لو حفر البئر في ملكه، فمر إنسان أو حيوان فوقع فيها، فإن المالك له الحق في الانتفاع بملكه كيفما شاء، سواء حفر أم بنى في حدود المشروع، فإذا عمل ذلك فإن فعله لا يوصف بالتعدي؛ وإنما الذي يوصف بالتعدي هو ذلك الذي اقتحم عليه ملكه وسار فيه فتردى في البئر أو عطب في الأحجار التي وضعها المالك فيه.. فعنصر التعدي هنا غير موجود، وكذلك في صورتنا، فإن صورتنا هذه لا بد أن يثبت أن قصد الجناية غير موجود، فإذا كان كذلك فإن الفقهاء قد اتفقوا على نفي المسئولية عن الحافر أو واضع الأحجار وما شابه ذلك من الأفعال، وإذا انتفت المسئولية فإنه لا يكون عليه ضمان لا للأنفس ولا للأموال. الصورة الرابعة: انعدام التعدي في الفعل مع وجود التقصير: وقد لا يكون التعدي مصاحبا للفعل كما لو حفر بئرا في ملكه، ولكن   1 فتح القدير ج8، ص331-335، 336، 337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وجد تقصير من الفاعل أدى إلى الجناية، ففي هذه الحالة يكون التقصير أساسا لنشوء المسئولية، وإذا وجدت المسئولية وجب الضمان. فقد صرح الشافعية بأنه لو حفر شخص بئرا واستدعى إلى المنزل شخصا، لا بد وأن يمر في هذا المكان، ولم يعلمه بذلك، أو كان أعمى، فتردى فيها، فإنه يضمن1. كما جاء في الشرح الكبير لابن قدامة "الحنبلي" ج9، ص591: "فإن حفر إنسان في ملكه بئرا فوقع فيها إنسان أو دابة فهلك به، وكان الداخل بغير إذنه، فلا ضمان على الحافر؛ لأنه لا عدوان منه، وإن دخل بإذنه، والبئر بينة مكشوفة، والداخل بصير يبصرها، فلا ضمان أيضا؛ لأن الواقع هو الذي أهلك نفسه، فأشبه ما لو قدم إليه سيفا فقتل به نفسه، وإن كان الداخل أعمى، أو كانت البئر في ظلمة لا يبصرها الداخل، أو غطى رأسها، فلم يعلم الداخل بها حتى وقع فيها فعليه ضمانه". وبهذا قال شريح والشعبي والنخعي وحماد ومالك، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي.   1 مغني المحتاج ج4، ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 المبحث الثاني: أركان الجريمة خطأ : على ضوء ما أوردناه آنفا في المبحث الأول يمكننا أن نستخلص الحقائق الآتية: أولا: أننا نقصد بالجناية هنا الجناية على إنسان حي معصوم الدم بإزهاق روحه أو المساس بجسمه أو صحته، كما سبق أن قررنا هذا في أركان الجريمة عمدا وشبه عمد. ثانيا: أن ما يميز الجريمة خطأ عن الجريمة عمدا أو شبه عمد هو عدم وجود قصد جنائي؛ لأن الجاني هنا لم يقصد بفعله قتل المجني عليه أو إيقاع الضرر به، وإنما حدث ذلك نتيجة خطأ في الفعل أو في القصد أو فيهما.. قد يكون نتيجة إهمال أو تقصير أو عدم حيطة وقلة حذر. ثالثا: الفعل الذي أدى إلى وقوع الجناية: إذا نظرنا إلى ما أورده الفقهاء آنفا من صور الخطأ نجد أن هذه الجناية قد تكون نتيجة عمل إرادي، أراده الفاعل وإن لم يرد نتيجته، أو عمل غير إرادي، صدر عن الإنسان أثناء فقد وعيه وإدراكه وإرادته فقدانا طبيعيا، فأدى هذا إلى قتل أو جرح أو إتلاف، والجناية التي تتم بفعل إرادي إما أن تتم بالمباشرة، بأن لم يتخلل بين الفعل الذي أدى إلى الإتلاف والإتلاف واسطة، أو بغير المباشرة، بأن تكون هناك واسطة بين الفعل والنتيجة. ونوضح ذلك فيما يلي: أ- جناية تتم بعمل مباشر إرادي: إن كانت الجناية بفعل إرادي مباشر، سواء كانت نتيجة خطأ في الفعل أو في القصد أو فيهما، فإنه لا يشترط عند جمهور الفقهاء أن يكون العمل في ذاته والنتيجة التي يريدها مشروعين، فلو رمى إنسانا معصوم الدم قاصدا قتله أو الاعتداء عليه، فأخطأ فأصاب إنسانا آخر بهذه الصفة كانت جنايته خطأ؛ لعدم قصد قتل هذا الشخص بالذات، وقد خالف في هذا الحكم المالكية وبعض الحنابلة؛ حيث يرون هذه الجريمة جريمة عمدية لوجود القصد الجنائي نحو آدمي حي معصوم الدم، ولا يهم بعد هذا كونه زيدا أو عمرا من الناس، فوجود القصد الجنائي في ذاته نحو معصوم أيا كان هذا المعصوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 كاف لجعل الجريمة عمدية. وقد سبق أن أوضحنا هذا الخلاف في أركان الجريمة عمدا1. ب- جناية تتم بعمل مباشر غير إرادي: وإن كانت الجناية ناتجة عن عمل مباشر غير إرادي؛ كما لو انقلب نائم على طفل فقتله، فإنها تكون خطأ عند جمهور الفقهاء؛ لوجود المباشرة وانعدام القصد، وخالف في هذا الحنفية وبعض الحنابلة، فجعلوا هذا النوع يجري مجرى الخطأ، وليس خطأ؛ وذلك لأن النائم لا يوصف فعله بالعمد ولا بالخطأ، إلا أنه يعتبر كالخطأ في الأحكام؛ لأن المقتول مات بثقل جسمه، فكأنه مات بفعله؛ حيث يضاف القتل إليه في الظاهر، فيأخذ حكم الخطأ، فيجب فيه ما يجب في الخطأ من الدية -كما أوضحنا فيما سبق- فالخلاف في التكييف لا في الحكم2. مصدر هذا الخطأ ومنشأ المسئولية: يمكننا أن نرد الخطأ الحادث في هذين النوعين من الجناية إلى عدم احتياط الجاني الاحتياط الكافي، وعدم حذره الحذر المطلوب عقلا، وقد يكون لرعونته وإهماله، سواء بدا هذا فيما صدر منه من أعمال إرادية، حيث لم يحط بالأبعاد التي يمكن أن يصيب بها طلقه الناري من مخلوقات أو أشياء غير الصيد الذي كان يقصده، وهذا أمر يختلف من شخص إلى شخص؛ ولكن الفقه الإسلامي لا يفرق في عقوبة القتل الخطأ بين شخص وشخص، أو ظهر هذا مما حدث منه من عمل مباشر غير إرادي؛ حيث   1 راجع الركن الثالث من أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي. 2 وما يصدر عن الصبي والمجنون من أفعال تؤدي إلى جريمة اعتبر خطأ عند جمهور الفقهاء، اعتمادا على ما صاحب إرادته من ضعف أو فقد بسبب صغر أو مرض، يتمشى مع هذا التكييف؛ حيث إن الإرادة هنا غير موجودة بسبب النوم وهو ظاهرة طبيعية، وقد أوضحنا فيما تقدم آراء الفقهاء تفصيلا، راجع جناية الصبي والمجنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 لم تحتط الأم أو الحاضنة مثلا في نومها بعيدا عن الطفل، أو تضع الطفل في مكان فيه من حدوث مثل هذا، كل هذا تترتب عليه مسئولية الفاعل، ومن ثم لزمته العقوبة. ج- جناية تتم بعمل إرادي غير مباشر: وقد تقع الجريمة خطأ بعمل إرادي غير مباشر، وهو "القتل بسبب" كما لو أحدث شيئا في ملك الغير أو في الطريق، فأدى إلى إتلاف نفس أو غيرها، فإن الجاني لم يباشر الجناية بنفسه، وإنما حدثت بسبب ما فعله وكانت نتيجة له. ولقد وضع الفقهاء شروطا لمسئولية الفاعل عما فعله، وهي كما بيناها آنفا: 1- أن يكون متعديا في فعله؛ أي: باشره في مكان لا يصح له أن يباشره فيه. 2- أن يستمر هذا التعدي إلى أن يحدث التلف. 3- وأن يكون فعله مما لم يتعود الناس فعله في مثل هذا المكان. 4- وألا تنقطع الصلة بين السبب والنتيجة، أو ألا يحدث ما يقطع اتصال السبب بالنتيجة، كأن لم يبادر إلى إنقاذ نفسه، وقد كان في إمكانه ذلك، أو أن يتعدى عليه شخص فيقتله بعد وقوعه في الحفر حيا، أو يدفعه شخص في الحفرة ... ، فهنا تنقطع الرابطة بين السبب والنتيجة، ويضاف الإتلاف إلى السبب المباشر، فيعتبر هو قاتلا لنفسه في المثال الأول، ويعتبر المباشر هو القاتل في المثالين الأخيرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 مصدر هذا الخطأ ومنشأ المسئولية: واضح من أمثلة "القتل بسبب خطأ" أن الفاعل أو الجاني يقوم بعمل غير مشروع، فيترتب على هذا العمل آثار غير مقصودة، فحفر بئر في ملك الغير بغير إذنه عمل غير مباح؛ لأن كل إنسان مسلط على ماله، وله وحده الحق في الانتفاع به دون غيره من الناس إلا بإذنه، وكذا لو وضع حجرا في الطريق، كان أيضا عمله غير مشروع؛ لأن حق العامة في سلامة الطريق يمنع أن يحدث فيه مثل هذا العمل، فإذا أحدث شيئا لا يحل له أن يحدثه كان مسئولا عن كل النتائج التي تترتب على فعله. ولقد اشترط الفقهاء لضمان الفاعل في القتل بسبب أن يكون الفعل مما يمكن التحرز عنه، فإن كان مما لا يتحرز عنه يسقط الضمان، وقد صرح بهذا القيد فقهاء الحنفية عندما تعرضوا للجناية التي يرتكبها السائق الدابة أو الراكب لها، والتي يمكن أن تطبق على حوادث السيارات وغيرها من المواصلات الحديثة التي حلت محل الدواب؛ حيث نصوا على أن الراكب لدابة في الطريق ضامن لما أصابت خطأ بيدها أو رجلها أو رأسها، أو كدمت أو خبطت، وكذا إذا صدمت، ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها، والأصل في ذلك أن المرور في طريق المسلمين مباح؛ ولكنه مقيد بشرط السلامة؛ لأنه يتصرف في حقه من وجه وفي حق غيره من وجه؛ لكونه مشتركا بين كل الناس. أما أنه يتصرف في حقه، فلأن الإنسان لا بد له من طريق يمشي فيه لترتيب مهماته، فالحجر عن ذلك حرج، والحرج مدفوع، وأما أنه يتصرف في حق غيره، فلأن غيره فيه كهو في الاحتياج، فبالنظر إلى حقه يستدعي الإباحة مطلقا، وبالنظر إلى حق غيره يستدعي الحجر مطلقا، فقلنا بإباحة مقيدة بشرط السلامة عملا بالوجهين، ويعتدل النظر من الجانبين، ثم إنما يتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه، ولا يتقيد بها فيما لا يمكن التحرز عنه؛ لما فيه من المنع عن التصرف وسد بابه، وهو مفتوح، والاحتراز عن الإبطاء وما يضاهيه ممكن، فإنه ليس من ضرورات التيسيير، فقيدناه بشرط السلامة عنه. والنفحة بالرجل والذنب ليست مما يمكنه الاحتراز عنه مع السير على الدابة فلم يتقيد به. فإن أوقفها في الطريق ضمن النفحة أيضا؛ لأنه يمكنه التحرز عن الإيقاف، وإن لم يمكنه عن النفحة، فصار متعديا في الإيقاف، وشغل الطريق به فمضمنه1، ولقد خصص الفقهاء باب الجناية البهيمة والجناية عليها، ووضعوا قاعدة للضمان وعدمه، وهي كون الفاعل متعديا في فعله، وكون الفعل مما لا يمكن التحرز عنه.   1 فتح القدير ج8، ص345، 346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 المبحث الثالث: عقوبة القتل الخطأ مدخل ... المبحث الثالث: عقوبة القتل خطأ: قد قررنا فيما سبق أن عقوبة القتل العمد تكون أخروية كما تكون دنيوية، أما القتل خطأ فإن عقوبته الأخروية مرفوعة؛ لأن الخطأ لا يوصف بالحل وبالحرمة، ولا بالحظر ولا بالإباحة، وقد قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} 1. وروي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" حديث مشهور، فالقرآن والحديث يثبت أن الخطأ كله معفو عنه، لا جناح على الإنسان فيه، ولا يجب على الإنسان حكم في الجناية خطأ، إلا أن يوجب ذلك نص صريح أو إجماع متيقن.. وقد أثبت كتاب الله تعالى وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- عقوبة دنيوية للقتل خطأ، وذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ... } الآية2، وأحاديث الرسول كثيرة سيأتي نصها في بيان مقدار الدية، فبقي ما عدا ما نص عليه القرآن والحديث مرفوعا، وهو الإثم وما يتبعه من عقوبة أخروية، وإن كان الخطأ لا يعرى عن الإثم من حيث ترك العزيمة، والمبالغة في التثبت في حال الرمي؛ إذ إن شرع الكفارة يؤذن باعتبار هذا المعنى، ونكتفي بهذا، ثم نوضح العقوبة الدنيوية من دية وكفارة وحرمان من الميراث والوصية.   1 سورة الأحزاب الآية رقم 5. 2 تقدم نصها، سورة النساء الآية رقم 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 النوع الأول: الدية : بينت الآية الكريمة: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً ... } أن في الجناية خطأ الكفارة والدية، ولكنها لم توضح جنس المال الذي تدفع منه الدية، ومقداره، ومن يجب عليه دفعها، وكيفية أدائها، ولكن السنة النبوية الشريفة بينت كل ذلك، وقد أوضحنا فيما تقدم معنى الدية1، وبينا جنس المال الذي تدفع منه، ونبين هنا مقدارها ومن يتحملها وكيفية أدائها. الفرع الأول: مقدار الدية في الخطأ ونوعها: الدية في الخطأ مائة من الإبل، كالدية في العمد وشبه العمد، إلا أن الفقهاء يختلفون في نوع الإبل التي تؤدَّى في الجناية خطأ إلى رأيين:   1 راجع مبحث الدية في القتل العمد، وفي القتل شبه العمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الرأي الأول: أنها أرباع كدية العمد، وهذا مروي عن علي والحسن والشعبي والحارث العكلي وإسحاق "خمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون حقه، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون بنت مخاض"، وقد استدلوا بما ذكره الأمير الحسين في الشفاء عن السائب بن زيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دية الإنسان خمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض"، وقد أخرجه أبو داود موقوفا على علي -رضي الله عنه- من طريق عاصم بن ضمرة قال: "في الخطأ أرباعا" فذكر الحديث، وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود موقوفا من طريق علقمة والأسود1. وعن زيد: أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض. وقال طاوس: إنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون بنت مخاض، وعشرة بني لبون، مستدلا بما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور، رواه الخمسة إلا الترمذي2. الرأي الثاني: أنها أخماس، وذلك هو قول جمهور الفقهاء "عبد الله بن   1 قال الشوكاني في نيل الأوطار: "ولم أجد هذا الحديث مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في كتاب حديث، فلينظر فيما ذكره صاحب الشفاء". 2 وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، وقال المنذري: في إسناده عمرو بن شعيب، ومن دون عمرو بن شعيب ثقات إلا محمد راشد المكحولي، وقد وثقه أحمد وابن معين والنسائي وضعفه ابن حبان وأبو زرعة، وقال الخطابي: هذا الحديث لا أعرف أحدا قال به من الفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 مسعود والنخعي والزهري وعكرمة والليث والثوري وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية" إلا أن ابن مسعود والنخعي والحنفية والحنابلة يرونها كما جاءت في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض ذكرا" رواه الخمسة، وقال ابن ماجه في إسناده عن الحجاج: حدثنا زيد بن جبير، قال أبو حاتم الرازي: الحجاج يدلس عن الضعفاء، فإذا قال: حدثنا فلان، فلا يرتاب به1. ويرى الفقهاء الآخرون أنها أخماس أيضا إلا أنهم جعلوا مكان بني مخاض بني لبون، استنادا إلى ما روي في بعض طرق هذا الحديث أنها عشرون بنو لبون مكان قوله: عشرون ابن مخاض، وإلى ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة القسامة أنه ودى قتيل خيبر بمائة من إبل الصدقة، وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض2. وقال ابن قدامة في ترجيح الأخذ بحديث ابن مسعود "رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، ولأن ابن لبون يحب على طريق البدل عن ابنة   1 راجع: سبل السلام ج3، ص328، ونيل الأوطار، فقد أفاض في تخريج الحديث ج7، ص77، وانتهى إلى صحة وقفه على ابن مسعود رضي الله عنه. 2 وهذا الحديث أخرجه أيضا البزار والبيهقي، وأخرجه الدارقطني وقال: "عشرون بنو لبون" مكان قوله: "عشرون ابن مخاض"، ورواه من طريق أبي عبيدة موقوفا على عبد الله بن مسعود "أبيه" وقال: هذا إسناد حسن، وضعف الأول من أوجه عديدة، وتعقبه البيهقي قائلا: إن الدارقطني وهم فيه، والجواد قد يعثر، وإن جعله لبني اللبون غلط منه، ثم قال: والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن مسعود، والصحيح عن عبد الله أنه جعل أحد أخماسهما بني المخاض لا كما توهم شيخنا الدارقطني رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 مخاض في الزكاة إذا لم يجدها، فلا يجمع بين البدل والمبدل في واجب، ولأن موجبهما واحد فيصير كأنه أوجب أربعين ابنة مخاض، ولأن ما قلناه "أي دفع ابن مخاض لابن لبون" هو الأقل "لأن ابن المخاض ما دخل في الثانية من عمره، وابن اللبون ما دخل في الثالثة"، فالزيادة عليه لا تثبت إلا بتوقيف يجب على من ادعاه الدليل، فأما دية قتيل خبير فلا حجة لهم فيه؛ لأنهم لم يدعوا على أهل خيبر قتله إلا عمدا، فتكون ديته دية العمد، وهي من أسنان الصدقة، والخلاف في دية الخطأ"1. الفرع الثاني: العاقلة: العقل لغة: الحجر -أي المنع- والنُّهى -بضم الميم مع تشديدها جمع نهية- أي أداة التفكير التي تميز الإنسان عن الحيوان، والعقل أيضا: الدية، وعقل القتيل: أعطى ديته، وعقل له دم فلان: إذا ترك القود للدية، وعقل عن فلان: غرم عنه جنايته، وذلك إذا لزمته دية فأداها عنه "وباب الكل: ضرب". والعاقلة: جمع عاقل، وهو دافع العقل أي الدية، وسمي دافعو الدية بالعاقلة، إما لأنهم يعقلون "يقيدون" الإبل -المقدمة دية- بفناء ولي المقتول، أو لأنهم يمنعون عن القاتل الأضرار من قصاص أو دية. من تجب عليه الدية في القتل الخطأ: للفقهاء رأيان فيمن تجب عليه هذه الدية: أولهما: يرى جمهور الفقهاء أن دية الخطأ على العاقلة، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة، ومنها   1 الشرح الكبير ج9، ص496 ط1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ما روي عن أبي هريرة أنه قال: "قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة، عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها، وما روي عن ابن عباس في قصة حمل ابن مالك قال: فأسقطت غلاما قد نبت شعره ميتا، وماتت المرأة، فقضى على العاقلة بالدية"1. ولا شك أن إيجاب الدية هنا على العاقلة جاء على خلاف قياس الأصول في الغرامات وضمان المتلفات؛ حيث يقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 2، وقال أيضا: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 3، وإنما وجب هنا على العاقلة لا لأن وزر القاتل عليهم، ولا تغليظا وتشديدا عليهم، ولكنه من قبيل المواساة المحضة لإنسان أخطأ، ولم يقصد جناية4.   1 راجع نيل الأوطار ج7، ص69. 2 سورة المدثر الآية رقم 38. 3 سورة الأنعام الآية رقم 164. 4 وأجمع أهل العلم على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة واختلفوا في الثلث إلى رأيين؛ الأول: يرى جمهور العلماء "الحنفية والمالكية والحنابلة والزيدية والإمامية" أن العاقلة لا تحمل عمدا ولا صلحا ولا اعترافا، ولا تحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث، وما وجب من الدية وكان دون الثلث فهو في مال الجاني. والثاني: يرى أن عقل الخطأ على عاقلة الجاني، قلت الجناية أو كثرت؛ لأن من غرم الأكثر غرم الأقل، كما أن فعل العمد في مال الجاني قل أو كثر "وهذا قول الشافعي". وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام، وكانوا يتعاقلون بالنصرة، ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل عمر الديوان، واتفق على رواية ذلك والقول به. وأجمعوا على أنه لم يكن في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس أو جعل أهل كل ناحية يدا واحدة، وجعل عليهم قتال من يليهم من عدوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وثانيهما: حكي في البحر عن الأصم وابن علية وأكثر الخوارج: أن دية الخطأ في مال القاتل ولا تلزم العاقلة، وقد يستدل لهم بقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه" رواه النسائي، وقال أبي رمثة حين دخل عليه ومعه ابنه: "إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه"، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} رواه أحمد وأبو داود، والعقل أيضا يمنع أخذ الإنسان بذنب غيره. الترجيح: والرأي الأول هو الصحيح لورود آثار كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في إيجاب دية الخطأ على العاقلة -وقد ذكرنا بعضا منها آنفا- وأما قوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فلا دلالة فيه على نفي وجوب الدية على العاقلة؛ لأن الآية إنما نفت أن يؤخذ الإنسان بذنب غيره، وليس في إيجاب الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني إنما الدية "عند الحنفية وكذا الشافعية على الأصح" على القاتل، وأمر هؤلاء القوم بالدخول معه في تحملها على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته.. وكان ذلك مما يعد من جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فهذا فعل مستحسن في العقول، مقبول في الأخلاق والعادات. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 أخيه" "ولا يجني عليك ولا تجني عليه" فإنه لا ينفي وجوب الدية عن العاقلة على هذا النحو الذي ذكرناه من معنى الآية من غير أن يلام على فعل الغير، أو يطالب بذنب سواه. وقد أضاف الكاساني وجها لطيفا في الجمع بين النصوص فقال: وأما قوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فنقول بموجبها، لكن لم قلتم: إن الحمل على العاقلة أخذ بغير ذنب؟ فإن حفظ القاتل واجب على عاقلته، فإذا لم يحفظوا فقد فرطوا، والتفريط منهم ذنب، ولأن القاتل إنما يقتل بظهر عشيرته، فكانوا كالمشاركين له في القتل1. وأيضا فإن وجوب الدية على العاقلة له وجوه سائغة مستحسنة في العقل: أحدهما: أنه جائز أن يتعبد الله تعالى بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان منه، كما أوجب الصدقات في مال الأغنياء للفقراء. والثاني: أن وضع الدية على العاقلة إنما هو على النصرة والمعونة؛ ولذلك أوجبها الحنفية على أهل ديوان القاتل دون أقربائه؛ لأنهم أهل نصرته، ألا يرى أنهم يتناصرون على القتال والحماية والذود عن الحريم، فلما كانوا متناصرين في القتال والحماية أمروا بالتناصر والتعاون على تحمل الدية؛ ليتساووا في حملها كما تساووا في حماية بعضهم بعضا. الثالث: أن في إيجاب الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذا كانت قبل ذلك، وهو داعٍ إلى الألفة وزوال ذات البين، ألا ترى أن رجلين ولو كانت بينهما عداوة فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحقه لأدى ذلك إلى زوال العداوة وإلى الألفة. والرابع: أنه إذا تحمل عنه جنايته حمل   1 البدائع ج7، ص255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 القاتل أيضا عنه جنايته إذا جنى، فلم يذهب حمله للجناية ضياعا. والخامس: أن جنايات الخطأ تكثر بين الناس، ودية الآدمي كثيرة، فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به، وقد يستأصل كل أمواله، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل، والإعانة له تخفيفا عنه إذا كان معذورا في فعله "وينفرد هو بالكفارة" وبهذا فارق ضمان المال فإنه لا يكثير عادة، فلا تقع الحاجة إلى التخفيف، وما دون نصف عشر الدية حكمه حكم ضمان الأموال1. من تجب عليه الدية في الجناية خطأ ابتداء: اختلف الفقهاء أيضا فيمن تجب عليه الدية في الجناية خطأ ابتداء، كما اختلفوا في اشتراك الجاني مع العاقلة في دفع الدية، ونوضح آراءهم في كلا النقطتين: أ- من تجب عليه الدية ابتداء: للفقهاء رأيان فيمن تجب عليه الدية ابتداء: أولهما: يرى الحنفية والشافعية "على الأصح" أن دية الخطأ تجب ابتداء على القاتل، واستدلوا بأن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} معناه: فليحرر رقبة وليؤد دية، وهذا الخطاب موجه إلى القاتل لا إلى العاقلة، وهذا يدل على أن الوجوب على القاتل ابتداء، وأيضا لأن سبب الوجوب هو القتل، وأنه وجد من القاتل لا من العاقلة، فكان الوجوب عليه لا عليها، وإنما العاقلة تتحمل دية واجبة على القاتل.   1 أحكام القرآن للجصاص ج1 ص272-274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وثانيهما: يرى كثير من الفقهاء "الشافعية في مقابلة الأصح" والحنابلة والظاهرية والإمامية وهو قول الأوزاعي والحسن بن حي وأبو سليمان: أن الدية تجب على العاقلة ابتداء، ولا تجب على القاتل؛ وذلك لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حكم بالدية على عصبة القاتلة، كما في حديث أبي هريرة: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة، ثم إن التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها. ومن طريق مسلم بسنده عن المغيرة بن شعبة وذكر الحديث، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسجع كسجع الأعراب" وجعل عليهم الدية، ثم يقول ابن حزم: فهذا نص حكم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ببراءة الجانية من الدية جملة، وأن ميراثها لزوجها وبنيها، لا مدخل للغرامة فيه، والدية على عصبتها، وهي ليست عصبة لنفسها، لا في شريعة ولا في لغة، فصح يقينا أنه لا يغرم الجاني من دية النفس ولا من الغرة شيئا. ب- اشتراك الجاني مع العاقلة: وللفقهاء ثلاثة آراء في ذلك: أولها: يرى الحنفية والمالكية اشتراك الجاني مع العاقلة من الابتداء إلى الانتهاء؛ وذلك لأن العاقلة إنما أمرت بالدخول مع القاتل في تحمل الدية على سبيل المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب الجناية -كما بينا آنفا- فلا أقل من أن يشاركهم في أدائها. ثانيها: يرى الشافعية "على الأصح" والزيدية: أنها تجب على الجاني في الانتهاء، وذلك أنه عند فقد العاقلة -عند الزيدية- تكون في مال الجاني، وعند فقد العاقلة وعدم وجود بيت المال أو عدم انتظامه تكون في مال الجاني -عند الشافعية- لكن قبل ذلك لا يشترك في أدائها مع العاقلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ثالثها: يرى الحنابلة والشافعية "في مقابل الأصح" والإمامية والظاهرية: أنها لا تجب عليه ابتداء، وكذا انتهاء، مستدلين بالأدلة التي ذكرناها في الرأي الثاني "فيمن تجب عليه الدية" وقالوا أيضا: إن الجاني خطأ لم تلزمه الدية فلا يلزمه بعضها، كما لو أمره بالإمام بقتل رجل يعتقد أنه قتل بحق فبان مظلوما، فلا يلزمه شيء فكذا هنا، ولأن الكفارة تلزم القاتل في ماله، وذلك يعدل قسطه من الدية وأكثر منه، فلا حاجة إلى إيجاب شيء من الدية عليه. الترجيح: ونرى رجحان الرأي الأول في كلا النقطتين لعدة وجوه: أولها: أن الآية الكريمة أوجبت في القتل خطأ تحرير رقبة وتقديم الدية، والخطاب هنا موجه إلى القاتل، بدليل أن الكفارة تلزمه وتجب عليه هو فكذلك الدية، والكفارة تجب في ماله فكذا الدية، إلا أن السنة أضافت إلى ذمته ذمة العاقلة مواساة له وإعانة ورفقا بحاله ونظرا إليه. وثانيها: أن التعاون والتآزر بين أفراد العاقلة يكون أتم إذا اشترك الجاني معهم في دفع الدية، ويتحقق التعاطف والمواساة بين الجانبين. وثالثها: أن الدية تعويض عن المجني عليه وعقوبة، وهذه العقوبة وإن خففت عن القاتل لعدم قصده إلا أنه ليس من المقبول عقلا إسقاطها عنه جميعها وتكليف غيره بأدائها دونه، مما يؤدي إلى إيغار صدور العاقلة عليه وتغير شعورهم نحوه، وما لا يقبل عقلا يبعد أن يكون مقبولا شرعا. الفرع الثالث: حقيقة العاقلة: اختلف الفقهاء في تحديد مدلول العاقلة إلى رأيين: الرأي الأول: يرى الحنفية أن عاقلة الحر هم أهل ديوانه إذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 من أهل الديوان، وقد وافقهم المالكية في إحدى الروايتين "وأهل الديوان هم المقاتلة "الجيش" من الرجال الأحرار البالغين الذين كتبت أسماؤهم في الديوان، والديوان هو السجل الذي تدون فيه أسماء المحاربين" تؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين، ومن لم يكن من أهل الديوان فعاقلته قبيلته الأقرب فالأقرب على ترتيبت العصبات: الإخوة ثم بنوهم ثم الأعمام ثم بنوهم؛ لأن نصرته بهم، وهي المعتبرة في التعاقل، فإن لم تتسع القبيلة ضم إليهم أقرب القبائل نسبا، وضم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات: الإخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام ثم بنوهم. الدليل: وقد استدل الحنفية على أن العاقلة هم أهل الديوان بإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على ذلك، فإنه روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانت الديات على القبائل فلما وضع عمر -رضي الله عنه- الدواوين جعلها على أهل الدواوين، وكان ذلك بمحضر من الصحابة -رضي الله عنهم- من غير نكير منهم. فإن قيل: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالدية على العاقلة من النسب، فكيف يقبل قول عمر -رضي الله عنه- على مخالفته فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟!! ولا نسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالجواب: أنه ليس بنسخ، بل هو تقرير للنص معنى؛ لأنه لو كان عمر -رضي الله عنه- فعل ذلك وحده لكان الواجب حمل فعله على وجه لا يخالف فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن فعله كان بمحضر من الصحابة -رضي الله عنهم- ولا يظن من عموم الصحابة مخالفة فعله -عليه الصلاة والسلام- فدل هذا على أنهم فهموا أن فعله -صلى الله عليه وسلم- كان معلولا بالنصرة، ولما صارت النصرة في زمانهم بالديوان، نقلوا العقل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الديوان، فلا تتحقق المخالفة، وإنما هو تقرير معنى للنص الوارد، ووجهه أن التحمل من العاقلة كان للتناصر، وقبل وضع الديوان كان التناصر بالقبيلة، كما كان بالحلف وبالولاء وبالعد، وهو أن يعد الرجل من قبيلة، وبعد أن وضع عمر الديوان صار التناصر بالديوان، فصارت عاقلة الرجل أهل ديوانه، وأيضا فإنه لا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين والرقيق1 الدية؛ لأنهم ليسوا من أهل النصرة، مما يؤكد أن فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- معلول بالنصرة، وقد أصبحت النصرة بالديوان2 فيكون أهل الديوان هم العاقلة، فإن لم يكن القاتل ديوانا، كانت عاقلته قبيلته على حسب ما أوردناه آنفا. الرأي الثاني: قال جمهور الفقهاء "الشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية والظاهرية وكذا المالكية في أحد الرأيين": إن العاقلة هم العصبة، وهم القرابة من قبل الأب، الذكور البالغون العقلاء، الأقرب فالأقرب. وقد استدلوا بأحاديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- منها ما روى جابر -رضي الله عنه- قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل بطن عقولة"، ثم كتب: "إنه لا يحل أن يتولى مولى رجل مسلم بغير إذنه" رواه مسلم وأحمد والنسائي. والحديث يدل على تحريم أن يتولى رجل ما مولى رجل آخر، وليس المراد بقوله: "بغير إذنه" أنه يجوز3 ذلك مع الإذن، بل المراد التأكيد،   1 سيأتي بيان حكم اشتراك كل طائفة من هؤلاء مع العاقلة عند الفقهاء، وقد اتفقوا على عدم اشتراكهم مع العاقلة، عدا ما قاله الظاهرية من اشتراك الصبيان والمجانين. 2 بدائع الصنائع ج7، ص256. 3 راجع نيل الأوطار ج7، ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 كقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . وعن أبي هريرة أنه قال: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة، ثم إن التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها "رواه مسلم". كما روي عن المغيرة بن شعبة أنه قال: ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط، وهي حبلى، فقتلتها، وإحداهما لحيانية، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دية المقتولة على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل ولا نطق واستهل فمثل ذلك بطل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسجع كسجع الأعراب"، قال: وجعل عليهم الدية "رواه مسلم"1. فوجب أن نبدأ في العقل بالعصبة، كما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألا نتجاوز البطن كما حد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انعدام العصبة النسبية: فإن لم توجد العصبة النسبية، فقال الشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية "خلافا للظاهرية": تكون على العصبة السببية فالمعتق -بكسر التاء- ثم عصبته يتحملون الدية؛ وذلك لما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب"، ولأنهم عصبة يرثون المال إذا لم يكن وارث أقرب منهم فيدخلون في الدية كالقريب، ولا يعتبر أن يكونوا وراثين في الحال، بل متى كانوا يرثون -لولا الحجب- عقلوا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-   1 المحلى لابن حزم ج11ص44، ونيل الأوطار ج7، ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 "قضى بالدية بين عصبة المرأة، لا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثتها"1، ولأن الموالي من العصبات فأشبهوا العصبة النسبية. الترجيح: نرى رجحان الرأي الأول؛ للأدلة التي ذكروها ولما يأتي: أولا: لقد كان التناصر في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين الأفراد بعد العقيدة بالقبيلة، والتناصر في القبيلة كان بقرابة الأب، هم العصبة، ولما فتحت بلاد كثيرة ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأصبحت دولة الإسلام تمنح الرعوية الإسلامية لكل من اعتنق الإسلام وبها يباح له التنقل والعيش في المكان الذي يختاره، رحل العرب إلى الأمصار المختلفة ليعملوا ويرشدوا، ورحل العجم إلى بلاد العلم ليغترفوا من تعاليم الإسلام وينموا مواردهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وكانت الأمصار محط رحال الجميع، فأصبحت الأمصار تجمع من المواطنين جموعا لا تربطهم روابط النسب، وإنما تربطهم روابط وعلاقات مختلفة، وهذه العلاقات وتلك الروابط لا يمكن حصرها ولا ضبطها، فمنهم أهل العلم، ومنهم أهل التجارات، ومنهم أهل الحرف ... ولما كانت تنظيمات الدولة الإسلامية تقضي بتكوين وحدات إدارية، تتحمل كل وحدة منها تبعات ما يلحق بعض أفرادها، فإن جنى شخص منهم جناية خطأ تحملت هذه الوحدة معه دية المقتول، كما سبق أن أوضحنا تخفيفا عنه ومواساة لأهل المقتول، وكانت هذه الوحدة هي "عصبة الرجل"، أيام أن كان القبيلة لا زالت متجمعة في مكان معين   1 مغني المحتاج ج4، ص96، والشرح الكبير ج9، ص516، والتاج المذهب ج4، ص244، والروضة البهية ج2، ص446، المحلى ج11، ص58، وقد أفاض في الأدلة ومناقشتها بما لا يتسع المقام لبسطه هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 أما بعد حدوث هذا الانفتاح على الأقطار والشعوب المختلفة، وضعف الترابط بالقبيلة، فقد رأى عمر -رضي الله عنه- أن يضع الدواوين فوضعها، وربط الجماعة التي تعيش في مكان واحد، أو تعيش على بقعة معينة من الأرض برباط دفاعي؛ حيث جعل للمقاتلين منهم سجلا تدون به أسماؤهم وجعل لهم مرتبات وعطايا ورباط اجتماعي؛ حيث جعلهم يتعاقلون الجنايات التي تقع من بعض أفرادهم خطأ، أو شبه عمد، على ما رآه بعض الفقهاء1. ومن هنا عالج عمر -رضي الله عنه- هذا الوضع على أساس من فهم في النص الوارد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو أنه معلول بالنصرة، فهذا المعنى كان موجودا في عصر الرسالة في العصبة، أما في عصره فقد أصبح التناصر بالديوان. ثانيا: أن عمر -رضي الله عنه- حين وضع الدواوين وحددها -كما ذكرنا- فإنه لم يهدم فكرة العصبة، بل إنه اعتد بها، طالما كانوا يعيشون في مكان واحد، وضم إليهم غيرهم ممن اقتضت ظروف حياتهم أن يعيشوا معهم، وأن يساكنوهم تلك البقعة من الأرض "الديوان" فكانت هذه المعاشرة رباطا جديدا به تضعف صلته بقرابته الأصلية التي تعيش في مكان بعيد لا تراه ولا يراها، ولا تأخذ على يده إن إراد شرا، ولا يأخذ على يد أحد منهم كذلك، وأصبح الآن في مكان يرتبط فيه مع الآخرين برباط العقيدة أولا، ثم رباط السكنى والمعاشرة ثانيا، ثم الرباط الثالث الذي قرره الشرع -كما فسره عمر- وهو رباط التناصر. إذن فقول عمر لم يهدم فكرة العصبة نهائيا، وإنما أقام فكرة الديوان لتحتوي العصبة، كما تحتوي من يعاشرونها معاشرة دائمة من الأشخاص   1 تقدم الإيضاح في عقوبة الجريمة شبه العمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 غير الأقارب؛ لأن رباط التناصر جمع بينهم، ومن هنا نرى رجحان ما ذهب إليه عمر -رضي الله عنه- ومن تبعه من الفقهاء ومنهم الحنفية والمالكية في أحد الرأيين. ذوو الأرحام والزوج والأصل والفرع: إذا وجبت الدية على العصبة -إذا لم يكن القاتل ديوانيا بناء على الرأي الأول، أو كانت العاقلة هي العصبة بناء على الرأي الثاني- فهل يدخل في العاقلة ذوو الأرحام والزوج، وكذا الأصل والفرع؟ اختلف الفقهاء في دخول هؤلاء، ونوضح رأيهم فيما يلي: أولا: ذوو الأرحام والزوج: اختلف الفقهاء في دخولهم في العاقلة إلى رأيين: الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء أن غير العصبات من الإخوة لأم وسائر ذوي الأرحام والزوج، وكل من عدا العصبات ليسوا من العاقلة، ولعلهم يستندون في هذا إلى أن مدلول العصبة معلوم لغة وفقها1، وإذا كان   1 عصبة الرجل لغة: أبوه وبنوه وقرابته لأبيه، وسموا عصبة لأنهم عصبوا بنسبه؛ أي: أحاطوا به حماية ودفعا عنه، من عصب القوم بفلان: إذا أحاطوا به ... وهو جمع لا مفرد له من لفظه وقياسه عاصب، مثل طلبة وطالب، قال في المغرب: وكأنه جمع عاصب وإن لم يسمع به من العرب، ثم سمي به "أي بالعصبة" الواحد والجمع والمذكر والمؤنث تغليبا، وقالوا في مصدرها: العصوبة. وتطلق العصبة في اصطلاح الفقهاء على الأقارب من جهة الأب وتسمى عصبة نسبية، وتطلق أيضا على صاحب القرابة الحكمية والتي جاءت بسبب الإعتاق وتسمى عصبة سببية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 معلوما فلا يمكن تجاوزه، ولقد قال ابن قدامة في الشرح الكبير: إنه لا خلاف بين أهل العلم على هذا1، غير أننا وجدنا رأيا مرجوحا للإمامية وهو: الرأي الثاني: يرى الإمامية -في رأي مرجوح- أن العاقلة هي الورثة لمال القاتل لو قتل، ولا يلزم من لا يرث ديته شيئا مطلقا؛ وقيل: هم المستحقون لميراث القاتل من الرجال العقلاء من قبل أبيه وأمه2. ومن هذا يتضح لنا أن ذوي الأرحام قد يكونون من العاقلة -بناء على هذا الرأي- إذا كانوا وارثين، أو ممن يستحقون الإرث. الترجيح: ونرى رجحان الرأي الأول؛ لأن العصبة لا تطلق "كما قلنا" على هؤلاء لا لغة ولا اصطلاحا، وليس للرأي الثاني دليل يستند إليه. ثانيا: اختلف الفقهاء في الأصل والفرع؛ أي: الآباء والأبناء، هل هم من العاقلة أم لا؟ إلى رأيين: الرأي الأول: قال أبو حنيفة في رواية عنه ومالك وأحمد في رواية عنه، والإمامية "على غير المشهور": الأصل والفرع يدخلون في العصبة فيكونون من العاقلة؛ وذلك لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عقل المرأة بين عصبتها: من كانوا لا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها" رواه أبو داود. فقد جعل الحديث الدية على العصبة، وعرفهم بأنهم الذين لا يرثون   1 الشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص514، 515، والمحلى لابن حزم ج11، ص63. 2 الروضة البهية ج2، ص446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 من الميت إلا ما فضل عن أصحاب الفروض، وهذا يعم الأصل والفرع. ولأن الأب والابن عصبة فأشبهوا الإخوة فيعقلون معهم، ويؤكد ذلك أن العقل موضوع على التناصر، وهم من أهله، ولأن العصبة في تحمل العقل كهم في الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب، وآباؤه وأبناؤه أحق العصبات بميراثه، فكانوا أولى بتحمل عقله. الرأي الثاني: قال الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، والإمامية على المشهور: ليس الآباء والأبناء من العاقلة؛ وذلك لما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى فقتلتها، فاختصموا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معه، رواه أبو داود والنسائي. وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال: فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دية المقتولة على عاقلتها وبرأ زوجها وولدها، قال: فقال: عاقلة المقتولة ميراثها لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ميراثها لزوجها وولدها" رواه أبو داود. قالوا: فإذا ثبت هذا في الأولاد قسنا عليه الوالد؛ لأنه في معناه، ولأن مال ولده ووالده كماله؛ ولهذا لم تقبل شهادتهما له ولا شهادته لهما، ووجب على كل واحد منهما الإنفاق على الآخر إذا كان محتاجا والآخر موسرا، وعتق عليه إذا ملكه، فلا تجب في ماله دية كما لم يجب في مال القاتل1. الترجيح: والرأي الثاني هو الراجح لصحة الأحاديث المروية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي تثبت أنه لم يحمل عقل المرأة الهزلية لزوجها وولدها، وحمله عصبتها، فدل هذا على أنهما لا يدخلان في العاقلة، وكذا الوالد قياسا، ولعل الحكمة في ذلك أنه نظرا لاختلاط المنافع بين هؤلاء، يكون تحميلهم الدية فيه إجحاف بهم، وتشديد عليهم، والجناية خطأ قد   1 الشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص516. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 روعي فيها التخفيف، وليس من التخفيف أن يتحمل الجاني -كما هو رأي بعض الفقهاء1- وأن يتحمل أبناؤه وأبوه والزوج الدية مع العاقلة، وهم أسرة واحدة؛ لأن هذا سيؤدي إلى أن يتحملوا مقدارا كبيرا من الدية قد يثقل عليهم، وهذا لا يتناسب مع ما قصد إليه المشرع الحكيم من التخفيف عن الجاني. تحمل بيت المال عند انعدام العاقلة: إذا لم يوجد أحد من العاقلة فهل تسقط الدية أم تجب على بيت المال أم على الجاني في ماله؟ ثلاثة آراء: الرأي الأول: قال جمهور الفقهاء "أبو حنيفة في ظاهر الرواية، والمالكية والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وكذا الإمامية إذا لم يوجد ضامن الجريرة، وهو مذهب الزهري": تجب في بيت المال، وقد استدلوا بما يأتي: ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ودى الذي قتل بخيبر؛ أي: دفع ديته. ما روي أن رجلا قتل في زحام في زمن عمر بن الخطاب، فلم يعرف قاتله، فقال علي بن أبي طالب لعمر رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين، لا يطل دم امرئ مسلم "أي لا يهدر" فأدى عمر ديته من بيت المال. وأيضا لأن بيت المال وارث من لا وارث له، فيجب فيه دية من لا عاقلة له؛ لأن الغرم بالغنم.   1 سيأتي بيان هذا، وترجيح أن يتحمل الجاني مع العاقلة فيما أوجبته جنايته من الدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وبناء على هذا الرأي، فإن بيت المال يؤدي الدية كلها عند عدم وجود العاقلة، وكذا يؤدي الباقي إن كان له عاقلة لا تحمل الجميع. ويؤدي بيت المال هذه الدية دفعة واحدة على الأصح1؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أدى دية الأنصاري دفعة واحدة، وكذلك عمر رضي الله عنه، ولأن الدية بدل متلف فيجب كله في الحال كسائر بدل المتلفات، وإنما أجل على العاقلة تخفيفا عنهم، ولا حاجة إلى ذلك بالنسبة لبيت المال2. الرأي الثاني: يريد الزيدية أنه إذا لم يكن للجاني عاقلة، أو كانت ولم تف الدية لقلتهم، أو كثرة اللازم، كانت الدية في ماله إن كان له مال يملكه، ثم إذا لم يكن له مال، أو كان له مال ولم يف، لزمت من بيت المال منجمة في ثلاث سنين، ثم إذا لم يكن ثمة بيت مال عقل عنه المسلمون في ثلاث سنين المقيمون في ناحيته، وإلا انتقل إلى أقرب جهة إليها3. ولم يستدل المذهب لرأيه بأي دليل. الرأي الثالث: ذكر ابن حزم أن طائفة قالت: إنه لم يكن للجاني عاقلة فإنه لا شيء في جنايته، واستدلوا بما روي عن ابن جريج قال: زعم عطاء أن سائبة من سيب مكة أصابت إنسانا فجاء إلى عمر بن الخطاب، فقال له عمر: ليس لك شيء "قال" أرأيت لو شججته؟ قال: آخذ له منك حقه "قال" ولا تأخذ لي منه، قال: لا، قال: هو إذا الأرقم إن يتركني ألقم وإن يقتلوني أنقم، قال عمر: فهو الأرقم4.   1 وقيل: تؤدى في ثلاث سنين على حسب ما يؤخذ من العاقلة. 2 الشرح الكبير ج9، ص524-252. 3 التاج المذهب ج4، ص345. 4 الأرقم: هو الحية التي فيها سواد وبياض، الأراقم حي من تغلب، وهم جشم. المحلى ج11، ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الترجيح: والرأي الأول -وهو رأي جمهور الفقهاء- هو الراجح؛ لما ذكرنا من الأدلة التي استند عليها من السنة ومن الأثر ولما يأتي: 1- أن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا ... } الآية، أوجب الكفارة والدية في كل قتل وقع خطأ، ولم تبين الآية أن الدية إنما تجب عند وجود العاقلة، ولا تجب عند عدمها، بل جعلت الدية واجبة التسليم مطلقا لأهل المقتول خطأ، سواء وجدت العاقلة أو لم توجد. 2- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد قضى في الجنين بغرة، عبد أو أمة، أو عشر من الإبل، أو مائة شاة، وقد وقع هذا أيضا مجملا ولم يخص حالة دون حالة، فوجب أن تكون الدية حقا لأهل المقتول في جميع الحالات، وجدت العاقلة أم لم توجد. 3- أن الأحاديث التي نظمت دفع الدية في القتل الخطأ مكملة لبعضها ومكونة لحكم تشريعي واحد، فقد وردت أحاديث تبين أن الدية هنا على العاقلة -كما أوضحنا فيما تقدم- كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دفع دية الأنصاري الذي قتل بخيبر من بيت المال، وذلك حيث لم يعرف قاتله. وكذا قول علي لعمر -رضي الله عنهما- في الرجل الذي قتل في الزحام: "لا يطل دم امرئ مسلم" لا يكون إلا عن مسند ثبت عنده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولقد أخذ به عمر، وأدى الدية إلى أهل المقتول من بيت مال المسلمين، بل إن عمر -رضي الله عنه- قد كتب إليه أبو موسى الأشعري يستفتيه في الرجل يموت بيننا ليس له رحم، ولا مولى، ولا عصبة، فكتب إليه عمر بن الخطاب: إن ترك رحما فرحم وإلا فالمولى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وإلا فلبيت مال المسلمين، يرثونه، ويعقلون عنه1. فقد صرح عمر في هذا النص بأن بيت المال كما يكون وارث من لا وارث له، كذلك يقوم بدفع دية من لا عاقلة له؛ إذ الغرم بالغنم. فإن لم يوجد بيت المال أو تعذر الوصول إليه فيمكن أن نأخذ بقول المالكية والشافعية على الأصح: إنها تجب على الجاني في ماله وتنجم عليه على الظاهر؛ لأن القتل خطأ، فهو في هذه الحالة قائم مقام العاقلة "الشرح الكبير للدسوقي ج4، ص251". مظاهر التخفيف في دفع العاقلة الدية: راعَى المشرع الحكيم ظروف الجناية من حيث كونها وقعت خطأ، فخفف عن الجاني عبثها وأشرك معه العاقلة، كما راعى ظروف العاقلة؛ حيث إنها لم ترتكب جناية ولم يكن لها اشتراك فعلي في اقتراف الجاني لها فخفف عنها، وقد بدأ التخفيف واضحا في عدة مظاهر: أولا: إعفاء من لا تمكنهم ظروفهم الطبيعية أو الاجتماعية من دفع الدية: العاقلة -سواء كانت هي أهل الديوان أم العصابات- قطعة من المجتمع يوجد فيها القوي والضعيف، والصغير والكبير، والقادر والعاجز؛ ولذلك رأينا الفقهاء يتناولون بالبحث من اكتنفتهم بعض مظاهر الضعف، طبيعيا كان الضعف أم اجتماعيا، أم ماليا، أم صحيا؛ نظرا لأن حالتهم تستدعي أن يواسوا ويساعدوا لا أن يواسوا غيرهم ويساعدوه2، ونوضح ذلك فيما يلي:   1 المحلى لابن حزم ج21، ص63. 2 فتح القدير ج8، ص407، والشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص532. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 أ- مظاهر الضعف الطبيعية كالصبي والجنون والأنوثة: اتفق الفقهاء على أن المرأة لا تعقل عن غيرها، واختلفوا في الصبي والمجنون إلى رأيين: الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية" أن الصبي الذي لم يبلغ والمجنون والمرأة لا يشتركون مع العاقلة في دفع الدية؛ وذلك لقول عمر رضي الله عنه: لا يعقل مع العاقلة صبي ولا امرأة -والمجنون حكمه حكم الصبي لاشتراكهما في الضعف العقلي- ولأن العقل "الدية" إنا يجب على أهل النصرة، والناس لا يتناصرون بالصبيان والمجانين؛ ولهذا لا توضع عليهم الجزية إذا كانوا ذميين؛ لأن الجزية بدل النصرة، وأيضا لأن هذا الضمان صلة وتبرع والصبيان والمجانين ليسوا من أهل التبرع. الرأي الثاني: يرى الظاهرية أن الصبي والمجنون يدخل في العاقلة يتحمل ما يتحملونه من الدية؛ وذلك لأن اسم العصبة يقع عليهم، والأحاديث قد جعلت الدية على العصبة، وليس هناك نص يخرجهم ولا إجماع، وأيضا فإن الغرامات المالية كزكاة الأموال- عند من يقول بإيجابها عليهم- وكزكاة الزروع والثمار عند الجميع، وكالنفقات التي تجب عليهم للأولياء والأمهات1، لا تسقط عنهم فكذلك الدية. الترجيح: ولما كان الرأي الأول يستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث" الحديث وقد تقدم"، وإلى ما روي عن عمر -رضي الله عنه- في ذلك، وهو نص في المسألة، فإنهما يكونان خارجين بهذا النص، وأما قياسها على الزكاة والنفقات فيرد عليه بأنه لا قياس مع النص.   1 المحلى لابن حزم ج11، ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 هذا فضلا عن الصبي والمجنون ممن يحتاج إلى الرعاية والعناية والمواساة، ويحتاج إلى المحافظة على أمواله وعدم تسربها، وبخاصة أنه مهما بلغت رعاية الولي لها إلا أنها لا تصل إلى رعاية الإنسان لماله بنفسه؛ ولهذا حذر القرآن الكريم في سورة النساء1 من ينالونها بغير وجه حق؛ نظرا للطمع الذي يسيطر على النفس البشرية أمام مال الغير، أيا كان هذا الغير. ب- مظاهر الضعف الاجتماعية، وهي الرق: وكذلك لا يعقل الرقيق عن غيره ولو كان مكاتبا؛ لأن هذا الضمان -كما قلنا- صلة وتبرع بالإعانة، والمملوك ليس من أهل التبرع؛ لأنه لا يملك؛ لأن "العبد وما ملكت يداه لسيده" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أوجبنا عليه كان هذا إيجابا على السيد، فيجتمع على السيد واجبان، ما يدفعه عن نفسه وما يدفعه عن عبده، وفي هذا تثقيل يتنافى مع التخفيف المراعى في إيجابة الدية. ج- مظاهر الضعف المالية الفقر: للفقهاء في إيجاب الدية على الفقير رأيان: الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة -غير رواية أخرى عن الإمام أحمد- والإمامية" أن الفقير لا يعقل عن أحد؛ لأن العاقلة إنما تحمل الدية مواساة منها للقاتل، والمواساة لا تلزم الفقير كما لا تلزمه الزكاة؛ إذ هو في حاجة إلى مواساة، ولأنها وجبت على العاقلة تخفيفا عن القاتل، فلا يجوز التثقيل بها على من   1 سورة النساء الآيات 2، 6، 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 لا جناية منه، وفي إيجابها على الفقير تثقيل عليه وتكليف له ما لا يقدر عليه "ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، ولأن الفقهاء قد أجمعوا على أنه لا يكلف أحد من العاقلة ما يثقل عليه ويجحف به، وتحميل الفقير شيئا منها يثقل عليه ويجحف بماله، وربما كان الواجب عليه جميع ماله أو أكثر منه، أو لا يكون له شيء أصلا، وهذا تكليف بما لا يطاق1. الرأي الثاني: يرى الزيدية، والإمام أحمد في رواية ذكرها أبو الخطاب: أن الفقير يتحمل في الدية كالغني؛ لأن المحمول شيء يسير وما لزمه يكون من جملة الديون التي عليه، ويبقى في ذمته، وقد نص الزيدية على أنه إن تعذر عليه الدفع فلا شيء عليه. الترجيح: يتضح مما تقدم أن الرأي الأول هو الراجح؛ وذلك لقوة الأدلة التي استند عليها، وأيضا لأن في إيجابها على الفقير ضياعا وإهدارًا لما شرعت له الدية؛ لأنهاشرعت مواساة ومساعدة لأسرة المقتول وتعويضا لهم عما فقدوه بفقدان عائلهم، فإذا وكل دفعها إلى الفقراء، وقد لا تتيسر حالتهم في المستقبل، أدى هذا إلى عدم أدائها إليهم، وهو ضد النص الكريم القائل: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . د- مظاهر الضعف الصحية كالمرض والعمى: ذكر ابن قدامة أن المريض يعقل عن الجناية إذا لم يبلغ حد الزمانة، وكذا الشيخ إذا لم يبلغ حد الهرم؛ لأنهما من أهل النصرة والمواساة. أما الزمن والشيخ الفاني ففي اشتراكهما وجهان:   1 راجع: بدائع الصنائع للكاساني ج7، ص256، الشرح الكبير للدسوقي ج4، ص250، والشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص523، ومغني المحتاج ج4، ص99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 أحدهما: لا يعقلان؛ لأنهما ليسا من أهل النصرة؛ ولهذا لا يجب عليهما الجهاد، ولا يقتلان إذا كانا من أهل الحرب، وكذلك يخرج على هذا الوجه الأعمى؛ لأنه مثلهما في هذا المعنى. والثاني: يعقلان؛ لأنهما من أهل المواساة؛ ولهذا تجب عليهما الزكاة، وهذا التوجيه ينتقض بالصبي والمجنون؛ إذ تجب عليهما الزكاة عند جمهور من الفقهاء ولا يدفعان الدية "وخالف في إيجاب الزكاة عليهما الحنفية وجمع من الصحابة والتابعين وأتباعهم"1. ثانيا: تحمل كل فرد قدر طاقته: يراعي التشريع الإسلامي دائما أن يكون التكليف بما يطاق، أما ما لا يطاق، فإنه لا يكلف الله به أحدًا، قال تعالى: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} وقد راعى الفقهاء هذا في تحديدهم مقدار ما يدفعه كل فرد في العاقلة، إلا أنهم اختلفوا في طريقة التحديد إلى طائفتين: الطائفة الأولى: وهم المالكية والحنابلة والإمامية والظاهرية يرون أن يترك التحديد للاجتهاد، فيوضع على كل فرد بقدر طاقته، كما يوضع على العاقلة بقدر طاقتها، فلا يحد مقدار معين؛ وذلك لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف ولا يثبت بالرأي والتحكيم، ولا نص في هذه المسألة، فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات. الطائفة الثانية: وهم الحنفية والشافعية والزيدية، ورواية أخرى عن الإمام أحمد: يرون تحديد ما يجب على كل فرد من العاقلة   1 راجع الشرح الكبير لابن قدامة ج2، ص943، وج9 ص523، 524. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 بمقدار معين في حدود ما يطيق.. وقد اختلفوا في المقدار1. أما الحنفية فقد قدروا على كل فرد ما لا يزيد عن ثلاثة أو أربعة دراهم في الثلاث سنوات في كل سنة درهم، أو درهم وثلث2. وأما الشافعية -ورواية عن الإمام أحمد- فقد ضربوا على الغني من العاقلة "وهو من يملك فاضلا عما يبقى له في الكفارة عشرين دينارا3 أو قدرها، اعتبارا بالزكاة" نصف دينار على أهل الذهب، أو قدره دراهم على أهل الفضة، وهو ستة دراهم؛ لأن ذلك أول درجة المواساة في زكاة النقد، والزيادة عليه لا ضابط لها. كما أوجبوا على المتوسط من العاقلة "وهو من يملك فاضلا عما ذكرناه آنفا دون العشرين دينارًا، أو قدرها، وفوق ربع دينار؛ لئلا يبقى فقيرًا" ربع دينار أو ثلاثة دراهم؛ لأنه واسطة بين الفقير الذي لا شيء عليه، والغني الذي عليه نصف دينار. وقال الزيدية: يجب على كل واحد من عاقلة الجاني، غنيا كان أم فقيرا، دون عشرة دراهم. الترجيح: ونرى رجحان الأول الذي يقضي بترك التحديد لاجتهاد الحاكم؛ وذلك لأمور ثلاثة: أولها: أنه لم يرد نص ولا خبر، بتحديد ما يتحمله الفرد في العاقلة من   1 راجع: الشرح الكبير للدسوقي ج4 ص452، الشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص520، والمختصر النافع 327. 2 فتح القدير ج8، ص403. 3 تقدم توضيح وزن الدينار والدرهم بالجرامات في مبحث الدية في القتل العمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 الدية، وفي هذا يقول الإمام النووي معقبا على ما قاله الشافعية من التحديد: "وكون الغني عليه نصف دينار، والمتوسط ربع لا يعرف في ذلك أثر ناص ولا خبر؛ لكنهم راعوا معنى المواساة". ثانيها: أنه لما لم يكن هناك نص ولا خبر، فإن الفقهاء اختلفوا في قياس هذه المسألة، فالرأي الأول قاسها على النفقات، فكما أن الأمر متروك في النفقات لاجتهاد الحاكم أو من أنابه عنه اتفاقا، فللحاكم أن يقدر النفقة على حسب حالة الشخص الواجبة عليه النفقة يسرا وعسرا، فكذلك الأمر هنا يترك لاجتهاد الحاكم حسب حالة الشخص.. وأما الشافعية فقد قاسوها على الزكاة، حتى أنهم جعلوا الغني هو من يملك نصابا، وأوجبوا عليه نصف دينار.. إلا أنهم لم يلتزموا بذلك، بل أوجبوا على من لم تجب عليه الزكاة وهو من يملك دون العشرين دينارا وأكثر من ربع دينار، وهو المتوسط، ربع دينار، فلم يطرد القياس في المسألة.. أما من حدد من الفقهاء بقدر معين دون قياس، بل راعى في ذلك التخفيف عن العاقلة، وقدر هذا التخفيف بمقدار معين كالحنفية والزيدية.. فإن مرجع التحديد عندهم هو الاجتهاد؛ وذلك لأنهم قالوا: إن هذا الأمر يسهل تحمله ولا يشق على من يجب عليه أداؤه.. ومن هنا كان هذا الرأي لا يختلف كثيرا عن رأي من قال بترك الأمر لاجتهاد الحاكم؛ لأنه عند الجميع يكون مصدره الاجتهاد. وإذا كان الأمر كذلك فإننا نرى رجحان قياس هذه المسألة على تقدير النفقة، فيترك الأمر فيه لاجتهاد الحاكم أو من يقوم مقامه؛ وذلك لأن النفقة حق من حقوق العباد، والدية أيضا حق من حقوق العباد، فيصح لمن له هذا الحق التنازل عنه، أو الصلح عليه، أو الإبراء، وكذلك يكون له حق الاستيفاء.. إلى آخر ما نعلمه من خواص حقوق العباد، أما الزكاة فهي حق من حقوق الله تعالى، وحقوق الله تعالى لا يصح فيها إبراء ولا صلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ولا تنازل وحق استيفائها يكون للإمام.. وإذا كان الحقان -حق النفقة وحق استيفاء الدية- متفقين في هذا ناسب قياس الأخير على الأول، فضلا عن كون القياس على الزكاة، لم يطرد فيما أوجبوه، كما سبق أن أوضحنا. ثالثها: أن في ترك أمر التحديد لاجتهاد الحاكم ليضع على كل فرد بقدر طاقته اعتدادا بما يكتنف المجتمع من تطورات اقتصادية، قد ترتفع حينا وقد تنخفض حينا آخر، وهذه التطورات لها آثار على قدرة الفرد على الأداء ارتفاعا وانخفاضا، فما يخف تحمله في زمن يثقل تحمله في زمن آخر، والعكس كذلك صحيح، وضمانا لمراعاة ظروف المجتمع وكل من المتحمل والمتحمل له، وتحقيقا لعدالة التحمل وعدالة الأداء ما دام القيد الذي التزمنا به مطبقا، وهو أن يضع على كل فرد بقدر طاقته. رابعها: إذا قلنا بترك الأمر لاجتهاد الحاكم، فإنني لا أرى أن يترك التحديد للاجتهاد الفردي للفضاء بحيث يحكم كل بما يراه.. بل أرى أن يكون التحديد بواسطة الدراسة الجماعية للمجتهدين لكل ظروف العصر ثم ما يرونه ويقرونه يطبقه الجميع -وهذا ما قرره الفقهاء الذين حددوا، كما رأينا فيما تقدم- ولا يتغير هذا التحديد إلا بدراسة أخرى على نفس المستوى مبنية على تغيرات في المجتمع استدعت هذه المراجعة، وفي هذا ضمان تام للحقوق واستقرار شامل للأحكام. طروء الإعسار أو الموت على أحد أفراد العاقلة: إذا أعسر أو مات أحد أفراد العاقلة فهل يسقط ما وجب عليه؟ اختلف الفقهاء في ذلك، ونبين آراءهم فيما يأتي: أولا: الإعسار: إذا أعسر أحد أفراد العاقلة بعد الحكم عليه فإما أن يكون إعساره قبل وجوب الأداء أو بعده، فإن كان إعساره قبل الوجوب فللفقهاء رأيان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الرأي الأول: يرى المالكية أنه لا يسقط عن المعسر ما تقرر عليه بقدر طاقته، يحل محل بإعساره، ويصبح دينا في ذمته، وحينئذ ينظر إلى ميسرة، ويحبس لثبوت عسره لأجل الإنظار. الرأي الثاني: يرى الشافعية والحنابلة أنه لا شيء عليه؛ لأنه أصبح بالإعسار غير أهل للمواساة، أو لأنه مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة، فأشبه الزكاة، والزكاة لا بد فيها من توافر شروط وجوبها في آخر الحول. أما إن كان الإعسار بعد الحكم وبعد حلول الأجل، فإن فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة قالوا: لا يسقط الواجب عنه ويصبح دينا في ذمته. ثانيا: الموت: إذا مات أحد أفراد العاقلة بعد الحكم، فإما أن يموت قبل حلول أجل الأداء أو بعده، فإن مات قبل حلول أجل الأداء فللفقهاء رأيان: الرأي الأول: يرى المالكية: أنه لا يسقط عنه ما وجب عليه ويحل عليه الواجب بموته، ويستوفى من تركته؛ لأنه أصبح دينا في ذمته. الرأي الثاني: يرى الشافعية والحنابلة والزيدية: أنه لا شيء عليه، ويسقط بموته؛ لعدم وجوبه عليه؛ لأنه إنما يجب عليه آخر الحلول، وفي آخر الحلول لم يكن موجودًا. وإن مات بعد الحكم وبعد حلول الأجل، فللفقهاء رأيان أيضا: الرأي الأول: يرى المالكية والحنابلة والزيدية: أنه لايسقط عنه؛ لأنه حين الوجوب كان موجودا، ووجب عليه، وإذا وجب عليه أصبح دينا في ذمته، فيستوفى من تركته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الرأي الثاني: نقل ابن قدامة في الشرح الكبير عن أبي حنيفة أنه يسقط بالموت؛ لأنه خرج عن أهلية الوجوب فأشبه ما لو مات قبل الحول. الترجيح: أرى رجحان القول بأنه إذا أعسر أو مات أو جن قبل حلول الأجل، وهو آخر الحلول، لا شيء عليه، وحينئذ يحل غيره من العاقلة محله، فإن لم يوجد ضم إلى العاقلة من يقوم بهذا الواجب حسب الأولويات التي قررها الفقهاء، فإن لم يوجد قام بالدفع بيت المال، كما هو رأي الشافعية والحنابلة. وذلك لأن في القول بإيجابه عليه مع عسره أو بعد موته إجحافا به وضياعا لحق ولي المقتول. كما أرى رجحان القول بأنه إذا حدث هذا بعد حلول الأجل أنه لا يسقط عنه ما قدر عليه؛ وذلك لأن الحق قد استقر في ذمته، وإذا ثبت في ذمته وجب عليه أداؤه فإن أعسر انتظر يسره، وإن مات أخذ من تركته، وإن جن أخذ من ماله. ثالثا: تحديد عدد العاقلة: ويثير هذا البحث سؤالا: هل للعاقلة عدد محدود وضحه الفقهاء؟ وللإجابة عنه نقول: إن بعض الفقهاء حدد عددا معينا للعاقلة، والبعض الآخر لم يحدد، ونوضح ذلك فيما يلي: الرأي الأول: حدد المالكية عددا معينا للعاقلة فقالوا: إن أقل عدد للعاقلة يلزم ألا ينقص عنه حتى لا يضم إليها غيرهم هو 700 سبعمائة. وقيل: أقل حدها أن تزيد على ألف زيادة بينة كعشرين وقيل أربعة. فإذا وجدنا هذا العدد في أهل الديوان فلا يضم إليه عصبة الجاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وإن لم يبلغ أهل الديوان هذا العدد ضم إليهم العصبة، فإن لم يكن الجاني من أهل ديوان، وقلنا: إن العصبة يعقلون عنه، فإذا وجد هذا العدد في العشيرة، فلا يضم إليهم الفصيلة، وإلا ضمت إليهم.. وهكذا. وفي المذهب قول ثالث، وهو: أنه لا حد للعاقلة، وإنما ذلك يترك للاجتهاد، وظاهر كلام ابن عرفة أنه المذهب. الرأي الثاني: أما المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية والزيدية، فلم تحدد عددا؛ لأنه لما حددت ما يجب على كل فرد لم تحتج لمثل هذا التحديد؛ لأنه إذا زاد الواجب عن المقدار المحدد لكل شخص عندهم يضم إليهم من يليهم حسب الترتيب الذي أورده كل مذهب. وإذا كنا قد رجحنا فيما تقدم أن يترك التحديد على كل فرد للاجتهاد، فإنه على ضوء هذا الاجتهاد سيتحدد عدد العاقلة؛ لأننا إذا أوجبنا عن طريق الاجتهاد على كل فرد نصف دينار في السنة والدية ألف دينار، مقسمة على ثلاث سنين، وجب ألا يقل عدد العاقلة عن ثلثي الألف وهو "667" تقريبا، حتى يمكن أن يحصل منهم في كل عام ثلث الدية، ويصح أن يزيد عددها فيقل الواجب على كل فرد. رابعًا: المدة التي تتحمل العاقلة فيها الدية: اختلف الفقهاء في تأجيل الدية في القتل الخطأ إلى رأيين: أولهما: ما أورده في نيل الأوطار من أنه حكي في البحر عن بعض الناس أن الدية تكون حالة؛ وذلك لأنه لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تأجليها. ثانيهما: وهو رأي جمهور الفقهاء أنها تكون مؤجلة، ولهم في مقدار الأجل قولان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 الأول: ما روي عن ربيعة أنها تكون مؤجلة لمدة خمس سنوات. الثاني: وهو رأي الأكثر "الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنابلة، الزيدية، الإمامية" أنها تكون مؤجلة لمدة ثلاث سنوات، وقد استدلوا على هذا بما يأتي: 1- ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، وقد قال هذا أيضا علي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما. 2- وقد عزاه الإمام الشافعي في المختصر إلى قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم1. 3- الإجماع، وذلك أنه لما قضى عمر بهذا كان بمحضر من الصحابة رضوان الله عليهم، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا، وقد نقل الإجماع الرافعي، والترمذي في جامعه، وابن المنذر. وتقسم الدية على هذه السنوات الثلاث، في كل سنة ثلث الدية. وتجب في آخر السنة، وقد قال الرافعي في تعليل هذا: إنه "كان سبب هذا أن الفوائد كالزروع والثمار تتكرر في كل سنة، فاعتبر مضيها ليجتمع عندهم ما يتوقعونه فيواسون عن تمكن". كما قال الحنفية: إنها تؤخذ من ثلاث عطايا إن كان القاتل من أهل الديوان "وهم المقاتلة من الرجال الأحرار البالغين العاقلين"؛ لأنهم لهم في كل   1 قال الرافعي: تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك، فمنهم من قال: ورد ونسبه إلى رواية علي عليه السلام، ومنهم من قال: ورد أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وأما التأجيل فلم يرد به الخبر، وأخذ ذلك من إجماع الصحابة رضي الله عنهم. راجع نيل الأوطار ج7، ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 سنة عطية، فإن عجلت العطايا الثلاث في سنة واحدة يؤخذ الكل في سنة واحدة، وإن تأخرت يتأخر حق الأخذ، وإن لم يكن من أهل الديوان تؤخذ منه، ومن قبيلته من النسب، في ثلاث سنين. خامسا: لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا، ولا ما دون أرش الموضحة: هذه الصور منها ما اتفق الفقهاء عليه ومنها ما اختلفوا فيه، ونوضح فيما يلي آراءهم في كل مسألة متوخين الإيجاز، وحصر الموضوع فيما تتحمله العاقلة دون غيره: أ- القتل العمد أو شبه العمد: قد أوضحنا فيما تقدم أن الدية في القتل العمد "سواء تصالحوا عليها أو وجبت بعد العفو عن القصاص" على قول من رأى أن الواجب أحد الشيئين القصاص أو الدية، أو في الصور التي وجبت فيها الدية، كقتل الوالد ولده ... " هذه الدية تجب في مال القاتل ولا تتحمل العاقلة منها شيئا1. أما الجناية شبه العمد، فإن الفقهاء قد اختلفوا في تحمل العاقلة الدية الواجبة فيها، وقد أضحنا فيما تقدم آراءهم وأدلتهم، ورجحنا أن تتحمل العاقلة هذه الدية2. ب- موقف العاقلة من جناية العبد على غيره، أو جناية الغير عليه خطأ: اختص الفقهاء جناية العبد على الغير، أو جناية الغير عليه بأبحاث   1 راجع التفصيل والأدلة في مبحث الدية في القتل العمد. 2 راجع التفصيل والأدلة في مبحث الدية في القتل شبه العمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 موسعة، ونكتفي هنا ببحث موقف العاقلة من هاتين الجنايتين إذا كانت الجناية خطأ بإيجاز: 1- جناية العبد على غيره خطأ: إذا ارتكب العبد جناية خطأ على غيره فإن للفقهاء رأيين في تحمل العاقلة دية المجني عليه: أولهما: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية" ألا تتحمل العاقلة دية المجني عليه "وإنما تتعلق الجناية برقبته، كما صرح الشافعية والحنابلة. أو يخير المولى بين أن يدفعه بالجناية أو يفديه، كما قال الحنفية والزيدية" وقد حكى البيهقي الإجماع على ألا تتحمل العاقلة هذه الجناية، إلا أن هذا الإجماع لم يسلم؛ لما سيأتي إيضاحه في الرأي الثاني، وقد استدلوا لهذا الرأي بدليلين: الأول: ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة" رواه الدارقطني، وقد فسروا هذا الخبر بأن المراد به أن العاقلة لا تعقل الجناية عمدا ولا جناية العبد على غيره، كما يدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس: "لا تحمل العاقلة عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما جنى المملوك" فإن هذا الخبر نص في عدم تحمل العاقلة جناية المملوك. الثاني: قالوا: إن المعنى المعقول من تحمل العاقلة عن أحد أفرادها هو التناصر، ولا تناصر بالعبد، فلا تتحمل العاقلة عنه. وأيضا فإن تحمل العاقلة جناية الحر جاء على خلاف الأصل؛ أي: أنه جاء على خلاف القياس "فإن القياس أن يتحمل الجاني جنايته لا أن يتحملها غيره"، وما جاء على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الرأي الثاني: يرى الظاهرية أن تتحمل عاقلة العبد جنايته على غيره خطأ -سواء كان عبدا أم مدبرا، أم أم ولد، أم مكاتبا- وقد استدلوا بعموم ما قضى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إيجاب الدية على العصبة، فقد قضى أن الدية والغرة على عصبة الجاني، وقوله صلى الله عليه وسلم: "على كل بطن عقولة" ولم يخص حرا من عبد، فلو أراد صلى الله عليه وسلم أن يخص حرا من عبد لبينه، فكل ما لم يبينه عليه الصلاة والسلام فهو باطل.. وقد حكم عليه الصلاة والسلام بأن على كل بطن عقولة، والبطون هي الولادات، أبا بعد أب، وهو في العجم كما هو في العرب، وفي الأحرار كما هو في العبيد، فيجب أن تكون الدية على عصبة العبد الجاني إن كان يعرف له نسب وكان له عصبة. فإن اعترض بأنهم لا يرثونه، أجيب بأن الدية على العصبة لا على الورثة بنص حكم النبي صلى الله عليه وسلم. ولعل هذا الرأي أيضا يقول: إن الأخبار المستدل بها موقوفة، ولا حجة إلا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم1.   1 نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص85، وبدائع الصنائع ج7، ص258، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص214، ومغنى المحتاج ج4، ص100، والشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص51، والتاج المذهب ج4، ص342، ص317، والروضة البهية ج2، ص447، والمحلى لابن حزم ج11، ص62، 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 2- الجناية على العبد: أما الجناية على العبد خطأ فقد اختلف الفقهاء في تحمل العاقلة موجب هذه الجناية إلى رأيين: الرأي الأول: يرى المالكية والحنابلة "وهو قول ابن عباس، والشعبي والثوري، ومكحول، والنخعي، والليث، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبي ثور" أن العاقلة لا تحمل العبد، فإذا قتل شخص عبدا، وجبت قيمته في مال القاتل لا شيء على عاقلته خطأ كان أم عمدا. وقد استدلوا بما روي عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ... " وقالوا: إنه قد روي عن ابن عباس موقوفا عليه، ولم نعرف له في الصحابة مخالفا، فيكون إجماعا، ولأن الواجب في العبد القيمة، والقيمة تختلف باختلاف صفاته، فلم تحمله العاقلة كسائر القيم ... الرأي الثاني: يرى الحنفية والشافعية في الأظهر "الجديد" وهو قول الحكم وحماد، والزيدية والإمامية، والظاهرية: أن تحمل العاقلة ديته "قيمته"؛ لأنه آدمي يجب بقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر1. الترجيح: الذي يظهر لنا هو رجحان الرأي الثاني لما يأتي: أولا: أن ما روي عن عمر "فيما نقلنا في الفقرة السابقة" قال الحافظ: هو منقطع "وفي إسناده عبد الملك بن حسين، وهو ضعيف، قال البيهقي: والمحفوظ أنه عن عامر الشعبي من قوله"، وأيضا أثر ابن عباس أخرجه البيهقي، وقد روي موقوفا.   1 نيل الأوطار ج7، ص85، المحلى لابن حزم ج11، ص50، 51، فتح القدير ج8، ص413، والشرح الكبير ج9، ص503، والتاج المذهب ج4، ص342، الروضة البهية ج2، ص447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وقد أجيب عن هذه الآثار بأن المراد أن العاقلة لا تعقل الجناية الواقعة من العبد على غيره، كما يدل على ذلك قول ابن عباس الذي ذكرناه في الفقرة السابقة: "لا تعقل العاقلة عمدا ولا صلحا لا اعترافا ولا ما جنى المملوك". ثانيا: روي عن عكرمة عن ابن عباس أن مكاتبا قتل "بالبناء للمجهول" على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر عليه السلام أن يودى ما أدى دية الحر، وما لا دية المملوك، والمعنى أن المكاتب إن كان قد أدى نصف ما عليه من مال الكتابة مثلا، وبقي عليه النصف، فإن النصف تدفع ديته دية الحر والنصف الآخر تدفع ديته دية المملوك. وقد روي عن يحيى بن كثير أنه قال: إن علي بن أبي طالب ومروان كانا يقولان في المكاتب: إنه يؤدي منه دية الحر بقدر ما أدى، وما رق منه دية العبد. فقد سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يؤدى في قتل العبد دية، وسماه دية أيضا علي بن أبي طالب، وهو حجة في اللغة، وإذا سمي دية، فالدية في قتل النفس خطأ على العاقلة، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ج- اعتراف الجاني بالجناية: إذا اعترف الجني بارتكابه الجناية، فإن أقر على نفسه بارتكابها، فإما أن تكون الجناية عمدا، أو شبه عمد، أو خطأ. فإن كانت عمدا أخذ بها وعوقب بعقوبتها: من قصاص أو دية أو غيرهما كما سبق توضيحه. وإن كانت شبه عمد فقد سبق أن أوضحنا خلاف الفقهاء في وجوب الدية في شبه العمد على العاقلة. وإن كانت الجناية خطأ وأقر بها الجاني ولم تثبت بالبينة ولم تصدقه العاقلة فهل تتحمل العاقلة الدية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 اختلف الفقهاء في وجوب الدية على العاقلة إذا أقر الجاني بالجناية إلى أربعة أقوال: الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية والمالكية على المعتمد، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، وهو قول ابن عباس والشعبي والحسن، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وسليمان من موسى، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق" أنه تجب الدية على الجاني المقر بالجناية في ماله ولا تحمل العاقلة معه شيئا. الدليل: وقد استدلوا بالحديث المروي عن ابن عباس -الذي ذكرناه آنفا- ولأنه لو وجب عليهم دفع الدية لوجب بإقرار غيرهم عليهم، ولا يقبل إقرار شخص على غيره. ولأن الجاني يتهم في هذا الإقرار، وموضع التهمة أنه قد يواطئ من يقر له بالجناية؛ ليأخذ الدية من عاقلته، فيقاسمه إياها1. الرأي الثاني: قال أبو ثور، وابن عبد الحكيم: لا يلزم المقر شيء، ولا يصح إقراره؛ لأنه مقر على غيره، لا على نفسه؛ لأنه لما لم يثبت موجب إقراره -وهو تحمل العاقلة الدية- كان إقراره باطلا، كما لو أقر على غيره. الرأي الثالث: يرى الظاهرية أن الاعتراف بالقتل الخطأ لا يلزم العاقلة تحمل الدية؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، وكذلك لأن المقر بقتل الخطأ ليس مقرا على نفسه؛ لأن الدية فيما أقر به على العاقلة، لا عليه، وإذا كان غير مقر على نفسه، فيجب ألا يصدق على العاقلة، إلا أنه كان عدلا حلف أولياء   1 الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي ج9، ص505، وفتح القدير ج8 ص523، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص250، والمختصر النافع ص327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 القتيل معه، واستحقوا الدية على العاقلة، فإن نكلوا فلا شيء لهم، فلو أقر اثنان عدلان بقتل خطأ، وجبت الدية على عواقلهما بلا يمين؛ لأنهما شاهدا عدل على العاقلة. الرأي الرابع: يرى الطخيخي من المالكية1 أنه إن كان المقر بالقتل خطأ مأمونا ثقة، وليس بذي قرابة للمقتول، ولا صديقا ملاطفا له، ولم يهتم في إغناء ورثة مقتوله، ولا رشوة منهم على إقراره، فإن إقراره لوث يحلف بسببه أولياء المقتول خمسين يمينا، وتحمل الدية العاقلة، فيكون حمل العاقلة للدية سببه القسامة مع اللوث، لا لمجرد إقراره. الترجيح: ونرى رجحان الرأي الأول، وهو رأي جمهور الفقهاء، وذلك لما يأتي: 1- أن موجب القول الثاني إهدار الاعتراف الصادر من شخص عاقل، مع أنه يجب صون كلام العقلاء عن العبث، ويترتب على إهدار إقراره عدم وجوب صون كلام العقلاء عن العبث، ويترتب على إهدار إقراره عدم وجوب دية المقتول على أحد، وعدم تسليمها إلى أهل المجني عليه، وفي هذا تعطيل لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، وهذا الشخص قد قتل، واعتراف بالقتل، إلا أ Results النوع الأول: الدية القتيل معه، واستحقوا الدية على العاقلة، فإن نكلوا فلا شيء لهم، فلو أقر اثنان عدلان بقتل خطأ، وجبت الدية على عواقلهما بلا يمين؛ لأنهما شاهدا عدل على العاقلة. الرأي الرابع: يرى الطخيخي من المالكية1 أنه إن كان المقر بالقتل خطأ مأمونا ثقة، وليس بذي قرابة للمقتول، ولا صديقا ملاطفا له، ولم يهتم في إغناء ورثة مقتوله، ولا رشوة منهم على إقراره، فإن إقراره لوث يحلف بسببه أولياء المقتول خمسين يمينا، وتحمل الدية العاقلة، فيكون حمل العاقلة للدية سببه القسامة مع اللوث، لا لمجرد إقراره. الترجيح: ونرى رجحان الرأي الأول، وهو رأي جمهور الفقهاء، وذلك لما يأتي: 1- أن موجب القول الثاني إهدار الاعتراف الصادر من شخص عاقل، مع أنه يجب صون كلام العقلاء عن العبث، ويترتب على إهدار إقراره عدم وجوب صون كلام العقلاء عن العبث، ويترتب على إهدار إقراره عدم وجوب دية المقتول على أحد، وعدم تسليمها إلى أهل المجني عليه، وفي هذا تعطيل لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، وهذا الشخص قد قتل، واعتراف بالقتل، إلا أنه لما كان متهما في هذا الإقرار كان موجب الجناية عليه هو، لا على العاقلة. 2- أنه يقاس إقراره هنا على إقراره بإتلاف المال، ووجهه أنه إذا أقر على نفسه بإتلاف مال، أو بجناية لا تحمل العاقلة ديتها صح إقراره ولزمه ضمان ذلك، فكذلك يصح إقراره هنا قياسا عليه.   1 وهو رأي ضعيف في مذهب المالكية، وهناك آراء أخرى نص عليها في الشرح الصغير؛ منها: أنه يجب على العاقلة بشرط ألا يتهم المقر في إغناء ورثة المقتول، ومنها: أنها تجب على العاقلة إن كان المقر عدلا، ومنها: أنها تقسم دية على المقر وعلى العاقلة فما يليه يلزم، ويسقط ما عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 3- ولأن محل الجناية مضمون، فيضمن إذا اعترف به كسائر المحال المضمون، وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق "وهو حالة البينة" لتحمل العاقلة للدية بالنص، فإذا لم تتحملها وجبت عليه كجناية المرتد. 4- وأما قول للظاهرية "وكذا قول الطخيخي": إنه غير مقر على نفسه فيجب ألا يصدق على العاقلة إلا أنه إذا كان عدلا حلف أولياء القتيل معه، واستحقوا الدية. هذا القول لنا عليه اعتراضان؛ أولهما: أنه لا يمتنع عقلا أن يكون هناك تواطؤ وأنهم قد يحلفون كذبا، وثانيهما: أن المقر ليس مقرا على غيره، بل هو مقر على نفسه؛ إذ إنه حين يقر إنما يقر بما فعله هو، وهي الجناية، وأما وجوب الدية فهو أمر يرتبه المشرع الحكيم على أثر وقوع الجناية فيجعله إما على الجاني أو على العاقلة، وإذا كان مقرا على نفسه، فحينئذ يكون هو الملزم بما يترتب على إقراره من آثار.. وقد وردت الآثار المبينة لإلزامه بالدية وعدم إلزام العاقلة بها، وهذه الآثار يقويها أنها تتمشى مع القواعد العامة في ضمان إتلاف الأموال وغيرها من المحال المصونة كما ذكرنا آنفا. إلا أن العاقلة إن صدقته في إقراره كانوا متحملين للدية؛ لأنه في هذه الحالة تنتفي التهمة ويبعد الشك. د- الصلح عن الجناية: إذا صالح الجاني ولي الدم على مال، فإما أن يصالحه عن دمه العمد، أو عن غيره، وقد نص الحديث المتقدم على أنه: "لا تحمل العاقلة عمدا ... ولا صلحا" فهل الصلح هو الصلح عن دم العمد، أم الصلح عن غير العمد؟ للفقهاء تفسيرات: التفسير الأول: فسره القاضي ابن أبي يعلى الحنبلي بأن يصالح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 الأولياء عن دم العمد إلى الدية، ويراجع ما نص عليه الحنفية والظاهرية والزيدية1. التفسير الثاني: وقد فسر ابن عباس والزهري والشعبي والنووي والليث والشافعي والإمامية كون العاقلة لا تحمل الصلح، بأن يدعي عليه القتل فينكره ويصالح المدعى عليه المدعي على مال يدفعه إليه، فإن هذا المال المصالح عليه لا تحمله العاقلة؛ لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره فلم تحمله العاقلة كالذي ثبت بإقراره واعترافه، ولأنه لو حملته العاقلة أدى إلى أن يصالح الشخص بمال غيره ويوجب على الغير حقا بقوله. وقد رجح ابن قدامة المقدسي "الحنبلي" التفسير الثاني، قال: "إنه الأولى؛ لأن التفسير الأولى عمد فيستغنى عنه بذكر العمد"؛ أي: أنه يريد أن يقول: ما دام القتل عمدا فإن العمد لا تحمله العاقلة بنص الأثر: "لا تحمل العاقلة عمدًا ... " أي: لا تحمل ما وجب بالقتل العمد، وحينئذ فقوله: "ولا صلحا" تكون واردة في غير ذلك، وهو ما قلنا. هـ- ما تحمله العاقلة من الدية: لما كان الواجب بالجناية من الديات تارة يكون كل الدية، وأخرى يكون نصفها أو أقل أو أكثر حسب كون الجناية واقعة على النفس أو على ما دونها، فهل تتحمل العاقلة ما وجب من الدية قليلا كان أم كثيرًا أم لا؟ اختلف الفقهاء في ذلك إلى أربعة آراء: الرأي الأول: قال سعيد بن المسيب، وعطاء، ومالك، وإسحاق وعبد العزيز، وعمر بن أبي سلمة: لا تحمل العاقلة ما دون ثلث الدية. الدليل: وقد استدلوا بما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قضى في الدية   1 الشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص504، فتح القدير ج8، ص413، والزيلعي ج6، ص113، المحلى لابن حزم ج11، ص50، والتاج المذهب ج4، ص343، والمختصر النافع ص327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ألا يحمل منها شيء حتى تبلغ عقل المأمومة. ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني؛ لأن الضمان موجب جنايته ويدل ما أتلفه، فكان عليه كسائر المتلفات والجنايات، وإنما خولف في الثلث فصاعدا تخفيفا عن الجاني؛ لكونه كثيرا يجحف به، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سأله سعد بن أبي وقاص عما يوصي به: "الثلث والثلث كثير ... " 1، ففيما دونه يبقى على الأصل، ومقتضى الدليل. فقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الثلث كثيرًا، وإذا كان كثيرا فلا تتحمله العاقلة وتتحمل ما دونه. الرأي الثاني: قال الزهري: إن العاقلة لا تحمل الثلث فما دونه. الرأي الثالث: قال الثوري والحنفية والزيدية والإمامية على الأشهر: لا تحمل العاقلة أقل من نصف عشر الدية، وتتحمل نصف العشر فصاعدا. وقد استدلوا بما يأتي2: 1- بما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- موقوفا ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعقل العواقل عمدا، ولا عبدا، ولا صلحا، ولا اعترافا، ولا ما دون أرش الموضحة"، وأرش الموضحة نصف عشر بدل النفس.   1 روي أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: جاءني النبي -صلى الله عليه وسلم- يعودني من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا" قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا" قلت: فالثلث، قال: "الثلث، والثلث كثير، أو كبير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". 2 العناية هامش فتح القدير ج8، ص412. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 2- قد روى الإمامية أن الإمام محمد الباقر قال: قضى أمير المؤمنين -رضي الله عنه- أنه لا يحمل على العاقلة إلا الموضحة فصاعدا. 3- ولأن تحمل العاقلة للتحرز عن للإجحاف ولا إجحاف في القليل، وإنما هو الكثير، والتقدير الفاصل عرف بالسمع. وهذا التحديد إنما يكون حينما تكون الجناية فيما دون النفس، فأما بدل النفس فتتحمله العاقلة، وإن كان الواجب على العاقلة أقل من نصف العشر، ألا ترى أن القتلة إذا كانوا مائة كانت الدية على عواقلهم، وإن كان نصيب كل واحد منهم مائة درهم؛ لأنها بدل النفس، وكذلك من قتل عبدا قيمته مائة وخمسون درهما، فإنه تتحمله العاقلة. الرأي الرابع: نقل ابن قدامة المقدسي أن الصحيح عن الشافعي أن العاقلة تحمل الكثير والقليل؛ لأن من حمل الكثير حمل القليل كالجاني في العمد. وقد يضاف إلى هذا أن الأدلة التي أثبتت تحمل العاقلة الدية عامة ولم تفصل. الترجيح: ونرى رجحان الرأي الثالث؛ وذلك لما يأتي: أولا: أن التقدير الذي اعتمد عليه الرأي الأول هو تقدير مبني على استنتاج من النص الوارد في الوصية، أخذ منه اعتبار الثلث كثيرا، وإذا كان كثيرا لا تتحمله العاقلة، وهذا الاستدلال قد يكون قويا إذا لم يرد أثر، وقد ورد هذا الأثر وهو ما روي عن ابن عباس بزيادة: "ولا ما دون أرش الموضحة"، وإن كان الأثر ضعيفا فقد قوي بأمرين؛ أولهما: ما روي عن الإمام محمد الباقر رضي الله عنه، وثانيهما: أنه يحقق المقصود من تحمل العاقلة الدية، وهو التخفيف عن الجاني؛ لأن الثلث -بنص الحديث- كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ثانيا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ثبت عنه أنه: جعل الغرة في الجنين على العاقلة، وقيمة الغرة نصف عشر الدية1، وإذا ثبت هذا كان هو الحد الأدنى لما تتحمله العاقلة، وأما ما دونه، فإنها لا تتحمله؛ لأنه ليس فيه أرش مقدر. عاقلة غير المسلم: اتفق الفقهاء على أنه لا يعقل مسلم عن غير مسلم، ولا غير مسلم عن مسلم؛ وذلك لأنه لا موالاة بينهم ولا توارث، فلا مناصرة، وإذا كان الشأن كذلك، فهل تعقل عنه عاقلته؟ للفقهاء رأيان: الرأي الأول: يرى الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة -على إحدى الروايتين- والزيدية: أنه تعقل عن غير المسلم عاقلته، كما تعقل عن المسلم عاقلته، إلا أنهم اختلفوا هل يعقل اليهودي عن النصراني والعكس؟ بهذا قال الحنفية -عدا أبي يوسف- والشافعية؛ لأن الكفر كله ملة واحدة. وقال أبو يوسف والمالكية ورأي ثان في مذهب الشافعية والحنابلة: لا يعقل أحدهما عن الآخر؛ نظرا لوجود عداوة بين الاثنين بها ينقطع التناصر. الرأي الثاني: يرى الإمامية -ورواية في مذهب الحنابلة- أن غير المسلمين لا يتعاقلون؛ لأن المعاقلة تثبت في حق المسلم على خلاف الأصل تخفيفا عنه ومعونة له فلا يلحق به غير المسلم، إذا كانوا لا يتعاقلون فإن الجاني يدفع الدية، فإن عجز فالإمام2 الترجيح: الذي نراه راجحا هو رأي جمهور الفقهاء؛ لأنهم إذا قبلوا عقد الذمة كان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإذا ثبت حق المواساة والمعونة للمسلم على المسلم ثبت هذا الحق أيضا لغير المسلم على غير المسلم، كما ثبت حق التوارث بين كل3.   1 تقدم نص الحديث وتقدم أن الغرة "عبد أو أمة أو عشر من الإبل، أو مائة شاة"، وسيأتي إيضاح حقيقة الغرة في الجناية على الجنين. 2 راجع: فتح القدير ج8، ص309، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص351، ومغني المحتاج ج4، ص99، والشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص507، والتاج المذهب ج4، ص345، والروضة البيهة ج2، ص447. 3 لم أتعرض لبيان آراء الفقهاء في تقدير الديات بالنسبة لحالة المقتول من حيث: إسلامه، أو حريته، أو ذكورته، أو إقامته في دار الإسلام، أو ضد هذا ... ويمكن الرجوع إليه عند الحاجة في باب الديات في كل مذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 النوع الثاني: الكفارة : الكفارة لغة: الكفارة على وزن فعالة "بتشديد العين" مأخوذة من الكَفر "بفتح الكاف" بمعنى التغطية والستر، وكل شيء غطى شيئا فقد كفره؛ أي: ستره. الكفارة اصطلاحا: هي ما أوجب الشرع فعله بسب حنث في يمين أو ظهار أو قتل ... والمعنى اللغوي متحقق في المعنى الاصطلاحي؛ لأنها شعرت تكفيرا للذنب، وسترا له كما أنها قربة، تقرب الإنسان من ربه، فتعتبر بمثابة التوبة إلا أنها توبة بفعل معين، وقد حدد المشرع الأفعال التي تؤدى بها، فهي عقوبة فيها معنى العبادة، وهي حق من حقوق الله تعالى1.   1 راجع ما سبق أن تعرضنا له بالإيضاح بالنسبة لإيجاب القتل العمد وشبه العمد للكفارة في المبحثين الخاصين بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ونوضح حقيقة هذا النوع من العقوبة في أربعة مسائل: الأولى: من يتحمل الكفارة، الثانية: شروط وجوبها، الثالثة: وجوبها على كل المشاركين في القتل، الرابعة: نوع الكفارة. المسألة الأولى: من يتحمل الكفارة: اتفق الفقهاء على أن الكفارة تجب في مال القاتل، وقد استدلوا بما يأتي: 1- قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية. 2- ولأن القاتل قد سلمت له الحياة في الدنيا، وهي من أعظم النعم ورفعت عنه المؤاخذة في الآخرة، مع جواز المؤاخذة؛ وذلك لأنه كان في وسع الخاطئ في الجملة حفظ نفسه عن الوقوع في الخطأ، وهذا أيضا نعمة فكان وجوب الشكر لهذه النعمة موافقا للعقل، فبين الله تعالى مقداره وجنسه بهذه الآية؛ ليقدر العبد على أداء ما وجب عليه من أصل الشكر بتعضيد العقل. 3- ولأن فعل الخطأ جناية، ولله تعالى المؤاخذة عليه بطريق العدل؛ لأنه مقدور الامتناع عن الوقوع فيه بالتكلف والجهد، وإذا كان جناية فلا بد لها من التكفير والتوبة، فجعلت الكفارة توبة عن القتل الخطأ بمنزلة التوبة الحقيقة في غيره من الجنايات، إلا أنه جعل التحرير أو الصوم توبة له دون التوبة الحقيقة لخفة الجناية بسبب الخطأ؛ إذ الخطأ معفو في الجملة، وجائز العفو عن هذا النوع، فخفت توبته لخفة في الجناية، فكان تحرير الرقبة في هذه الجناية بمنزلة التوبة في سائر الجنايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 المسألة الثانية: شروط وجوب الكفارة: لإيجاب الكفارة على القاتل شروط، بعضها يرجع إلى القاتل، وبعضها يرجع إلى المقتول، وثالثها يرجع إلى الفعل القاتل، ونوضح كل هذا فيما يأتي: أولا: الشروط التي يلزم توافرها في القاتل: اختلف الفقهاء في الشروط التي يلزم توافرها في القاتل حتى يجب عليه أداء الكفارة، ونورد هذه الشروط مشفوعة بآراء الفقهاء: 1- اشتراط التكليف "البلوغ والعقل": اختلف الفقهاء في اشتراط أن يكون القاتل بالغا عاقلا حتى تجب عليه الكفارة إلى رأيين: أولهما: يرى الحنفية والزيدية: أنه يشترط لإيجاب الكفارة على القاتل خطأ أن يكون بالغا عاقلا، فلا تجب على الصبي والمجنون؛ لأن الكفارة عبادة، والصبي والمجنون لا يخاطبان بالشرائع أصلا، فلا تجب الكفارة عليهما كما لا تجب الصلاة والصيام. ثانيهما: يرى المالكية والشافعية والحنابلة والإمامية: أنه لا يشترط بلوغ القاتل أو عقله، فتجب الكفارة على القاتل صبيا كان أم مجنونا؛ لأن الكفارة حق مالي يتعلق بالقتل، وقد وجد القتل منهما فتتعلق بهما، كما تعلقت الدية. وقد أجابوا عن أدلة الرأي الأول بأن الكفارة تفارق الصلاة والصيام؛ لأن الصلاة والصيام عبادتان بدنيتان، والكفارة عبادة مالية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 فأشتبهت نفقات الأقارب، ونفقات الأقارب تجب على الصبي والمجنون، كذا الكفارة. وكذلك كفارة اليمين تفارق كفارة القتل؛ لأن كفارة اليمين لا تجب على الصبي والمجنون؛ لأنها تتعلق بالقول، ولا قول لهما، وكفارة القتل تتعلق بالفعل، وفعلهما متحقق، وقد أوجب الضمان عليهما ويتعلق بالفعل لا يتعلق بالقول1. ب- اشتراط إسلام القاتل: اختلف الفقهاء في اشتراط إسلام القاتل في وجوب الكفارة عليه إلى رأيين: أولهما: يرى الحنفية والمالكية والزيدية: أنه يشترط إسلام القاتل في إيجاب الكفارة؛ لأن غير المسلم غير مخاطب بشرائع هي عبادات، والكفارة عبادة، فلا يخاطب بها، ولأن الكفارة قربة، وهو ليس من أهل القرب. وثانيهما: يرى الشافعية والحنابلة والإمامية: أنه لا يشترط إسلام القاتل في إيجاب الكفارة، فإن كان القاتل غير مسلم لزمته الكفارة، كما تلزمه الدية؛ لأنه ما دام في أرض دار الإسلام فإنه ملتزم بأحكام هذه الدار، ومن أحكامها أن تلزم الكفارة القاتل، فتجب عليه. ولما كانت الكفارة كما هو في نص الآية الكريمة: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا   1 بدائع الصنائع ج7، ص252، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص454، ومغني المحتاج ج4، ص108، والشرح الكبير لابن قدامة المقدسي ج10 ص38، والتاج المذهب ج4، ص308، والروضة البهية ج2، ص248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 خَطَأً ... } هي تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن القائلين بإيجابها على غير المسلم يواجهون أمرين؛ أولهما: كيف يتصور أن يعتق رقبة مسلمة؟ وقد أجاب الشافعية عن هذا بأنه يتصور إعتاق عبد مسلم في صور؛ منها: أن يسلم العبد في ملكه، أو يرثه، أو يقول لمسلم: أعتق عبدك عن كفارتي، فإنه يصح على الأصح، وإن لم يتيسر له إعتاق عبد مسلم فهل يصوم؟ وهذا هو الأمر الثاني: قال القاضي الحسين: لا يكفر بالصوم؛ لأنه ليس من أهله. ج- اشتراط حرية القاتل: اختلف الفقهاء أيضا في اشتراط حرية القاتل في وجوب الكفارة إلى رأيين أيضا: أولهما: يرى المالكية: أنه يشترط حرية القاتل لإيجاب الكفارة عليه؛ ذلك لأن العبد لا يصح عتقه، والكفارة إعتاق رقبة مؤمنة ... ثانيهما: يرى الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية: أنه لا يشترط لإيجاب الكفارة كون القاتل حرا؛ بل تجب وإن كان عبدا؛ لأن موجب الجناية التي يرتكبها العبد يتعلق به؛ إذ لو كان موجبها القصاص أو الضمان فإنهما يتعلقان به، فكذلك تتعلق الكفارة به. ولما كان النوع الأول من الكفارة وهو الإعتاق لا يتمكن منه العبد -لعدم مالكيته أو قصور يده عن التملك؛ لأنه وما ملكت يداه لسيده- لذلك قالوا: إنه يكفر بالصوم. الترجيح: والذي أرجحه هو عدم اشتراط كون القاتل عاقلا بالغا، مسلمًا، حرًّا، بل كل من قتل وجبت عليه الكفارة، كما وجبت الدية؛ لما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 1- لأن الدية تجب في جميع هذه الأحوال سواء كان القاتل بالغا عاقلا أم لم يكن، مسلما أم معاهدا، حرا أم غير حر، وقد جمعت الآية الكريمة بين الدية والكفارة، وجعلتهما موجب هذه الجناية، فلا نملك إسقاط أي عقوبة منهما باشتراط هذه الشروط. 2- أنه وإن كان في الكفارة معنى العبادة، ففيها أيضا معنى العقوبة، ومعنى العقوبة يظهر لنا ويرجح أثناء عدم ظهور معنى العبادة كوسيلة للتنبيه والتحذير من الوقوع في مثل هذا العمل مرة أخرى. وهي أيضا حق مالي يجب بنفس الفعل، وإذا كان حقا ماليا أمكن أن نتصور تحمل الصبي والمجنون إياه كالنفقات. وعلى هذا فكل من قتل وجبت عليه الكفارة، فإن أمكن أداؤها بالعتق كان العتق، وإلا كان بالصيام، وسنتناول ما تؤدَّى به الكفارة في المسألة الرابعة. ثانيا: الشروط التي تشترط في المقتول: هذا النوع من الشروط منه ما اتفق عليه ومنه ما اختلف فيه، ونوضح هذه الشروط: أ- اشتراط عصمة المقتول: اتفق الفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة1" على أنه يشترط إيجاب الكفارة على القاتل خطأ أن يكون المقتول معصوما، فلو قتل شخص إنسانا غير معصوم الدم، والعصمة تكون بالإسلام2، أو بدار الإسلام   1 لم يصرح الزيدية والإمامية بما ينافي هذا أو يعارضه. 2 فمن قتل في دار الحرب مسلما يعتقده كافرا، أو رمى إلى صف المحاربين فأصاب فيهم مسلما فقتله فعليه الكفارة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} راجع: القرطبي ج5، ص323، والمغني والشرح الكبير ج10، ص38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وبألا يقترف الإنسان جرما يستحق عليه القتل، كما لو قتل مرتدا، أو زنديقا، أو حربيا، أو باغيا، أو صائلا، أو زانيا محصنا، أو مستحق القصاص بالنسبة لولي الدم، فإن هؤلاء جميعا دمهم مباح، فلا تجب بقتل أحد منهم كفارة؛ لأن قتلهم مأمور به من المشرع الحكيم؛ نظرا لما ارتكبوه من جرائم، والكفارة لا تجب لمحو المأمور به. ب- اشتراط إسلام المقتول: اختلف الفقهاء في اشتراط كون المقتول مسلما لإيجاب الكفارة على القاتل على رأيين: أولهما: يرى المالكية والإمامية وهو قول الحسن: أنه يشترط لإيجاب الكفارة على القاتل كون المقتول مسلما، ودليلهم أن الله تعالى يقول: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} فمفهومه أنه لا كفارة في غير المؤمن. ثانيهما: يرى الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية: أنه لا يشترط في إيجاب الكفارة على القاتل كون المقتول مسلما، بل تجب الكفارة على القاتل، مسلما كان المقتول أو معاهدا، ذميا أم مستأمنا. وقد استدلوا بما يأتي: 1- قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ... } الآية1، والمعاهد -ذميا كان أم مستأمنا- له ميثاق، وبمنطوق الآية يكون على قاتله الدية والكفارة، وهذا المنطوق يقدم   1 سورة النساء الآية رقم "92". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 على مفهوم قوله تعالى في صدر الآية: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} . 2- أن المقتول آدمي قتل ظلما، فوجبت الكفارة بقتله كالمسلم. الترجيح: وأرى رجحان الرأي الثاني؛ لما ذكر من أدلة. ج- اشتراط حرية المقتول: إذا قتل شخص إنسانا حرا وجبت الكفارة عليه إذا توافرت الشروط الأخرى، وذلك باتفاق الفقهاء، أما إذا قتل عبدا، فهل تجب في قتله الكفارة سواء كان عبد غيره أم عبد نفسه؟ اختلف الفقهاء في إيجابها إلى ثلاثة آراء: الرأي الأول: يرى المالكية: أنه إذا قتل الحر المسلم رقيقا مملوكا لنفسه أو لغيره فإنه يندب له دفع الكفارة. الرأي الثاني: يرى الشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية: أنه يجب على من قتل عبدا لنفسه أو لغيره دفع الكفارة، وذلك لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} من غير فصل بين حر وعبد. الرأي الثالث: يرى الحنفية: أنه لو قتل عبد غيره خطأ وجب عليه إخراج الكفارة لعموم الآية، وأما إن قتل عبد نفسه فجنايته هدر1. الترجيح: وأرى رجحان الرأي الثاني؛ لأنه قاتل نفس خطأ، وعلى قاتل النفس بنص الآية الكفارة، ولم تفصل الآية بين كون المقتول حرا أم عبدا، عبدا لنفسه أم عبدا لغيره.   1 بدائع الصنائع ج7، ص258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 د- اشتراط كون المقتول ظاهر الحياة: اختلف الفقهاء في إيجاب الكفارة على من ضرب امرأة فألقت جنينا ميتا إلى رأيين: الرأي الأول: يرى الحنفية والزيدية: أنه لا تجب الكفارة على من ضرب امرأة فألقت جنينا ميتا؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يوجب الكفارة حين أوجب الغرة في المرأة التي ألقت جنينا1، ولأن الكفارة فيها معنى العقوبة؛ لأنها شرعت زاجرة، وفيها معنى العبادة؛ لأنها تتأدى بالصوم، وقد عرف وجوبها في النفوس المطلقة فلا يتعداها إلى ما لا يعتبر نفسا كاملة، بدليل أنه لا تجب فيه الدية، وإنما تجب فيه غرة؛ لأن العقوبة لا يجري فيها القياس، إلا أنه إذا تبرع بالكفارة كان أفضل له ويستغفر ربه مما صنع؛ لأنه ارتكب محظورا يستدعي التقرب إلى الله تعالى. الرأي الثاني: يرى المالكية: أنه يندب لقاتل الجنين أن يؤدي الكفارة. الرأي الثالث: يرى الحسن، وعطاء، والزهري، والحكم، والشافعية، والحنابلة، والإمامية: أنه تجب الكفارة في قتل الجنين كما تجب الغرة، قد استدلوا على ذلك بما يأتي: 1- قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً ... } الآية، وهذا الجنين إن كان من قوم مؤمنين، أو كان أحد أبويه مؤمنا، فهو محكوم بإيمانه تبعا، يرثه ورثته المؤمنون ولا يرث الكافر منه شيئا، وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، وفي قتل أي من هؤلاء الكفارة، فكذلك في قتل هذا الجنين الكفارة.   1 تقدم نص الحديث أكثر من مرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 2- ولأنه نفس مضمونة بالدية "الغرة" فوجبت في قتلها الكفارة كالكبير. الرد على أدلة الرأي الأول: وقد ردوا على ما استدل به أصحاب الرأي الأول بأن ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر الكفارة لا يمنع وجوبها؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "في النفس مائة من الإبل" 1، فذكر الدية في مواضع ولم يذكر الكفارة ... وإنما لم يذكرها لأن الآية أغنت عن ذكر الكفارة فاكتفى بها. 3- كما ذكر الشافعية أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قضى بإيجاب الكفارة في قتل الجنين2. الترجيح: والرأي الثاني هو الذي أراه راجحا؛ للأدلة التي ذكرت له، ولأن الكفارة وجبت بدلا عن تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل، فإن كان له في نفسه حق، وهو التنعم بالحياة، والتصرف فيما حل له تصرف الأحياء، وكان لله سبحانه فيه حق، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من اسم العبودية -صغيرا كان أو كبيرا، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو ذميا- ما يتميز به عن البهائم والدواب، ويرتجى مع ذلك أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه، فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا، والمعنى الذي وصفنا، فلذلك ضمن القاتل الكفارة. هـ- اشتراط وقوع الجناية على نفس الغير: رأينا فيما تقدم أن الفقهاء تناولوا بالبحث الجناية إذا وقعت على نفس الغير، أما إذا وقعت من الإنسان على نفسه، فسيأتي بحث ذلك في موضعه.   1 تقدم حديث عمرو بن حزم في مبحث الدية في القتل العمد. 2 مغني المحتاج ج4، ص108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 ثالثا: ما يشترط في الفعل القاتل: سبق أن بحثنا موجب القتل العمد وشبه العمد، وبينا آراء الفقهاء في إيجاب الكفارة في هذين النوعين من الجناية، ونبين هنا آراءهم في القتل الخطأ، ولما كان للفقهاء تقسيمات لهذا النوع من الجناية -كما سبق أن أوضحنا- وهي: الخطأ المحض، وما جرى مجرى الخطأ، والقتل بسبب، والأولان يعتبران من القتل بالمباشرة، وأما الأخير فيعتبر قتلا بواسطة، وليس قتلا بالمباشرة؛ لذلك رأينا الفقهاء يختلفون في إيجاب الكفارة في النوع الأخير إلى رأيين: الرأي الأول: يرى الحنفية والزيدية والإمامية: أنه تجب الكفارة إذا تم القتل بالمباشرة كما في الخطأ المحض، وما جرى مجراه، كالنائم ينقلب على غيره، أما القتل بالتسبيب، كحفر البئر في غير ملكه فلا تجب عليه الكفارة؛ لأن الكفارة تجب بالقتل، والقتل معدوم منه حقيقة؛ لأن الحفر ليس بقتل أصلا، وإذا كان كذلك فلا يترتب عليه دية ولا كفارة ولا حرمان من الميراث؛ إلا أنه ألحق بالقتل في حق الضمان "الدية" على خلاف القياس؛ صيانة للدماء عن الهدر، فيبقى في حق وجوب الكفارة والحرمان من الميراث على الأصل1. الرأي الثاني: يرى المالكية والشافعية والحنابلة: أنه تجب الكفارة في القتل الخطأ، سواء كان بالمباشرة أم بالتسبيب، وذلك قياسا لها على الضمان، فكما أنه يجب الضمان بكليهما، كذلك تجب الكفارة، ولأن هذا الفعل   1 راجع: بدائع الصنائع ج7، ص274، وفتح القدير ج8، ص253، والتاج المذهب ج4، ص309، والروضة البهية ج2، ص448. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 القاتل سبب لإتلاف الآدمي، وهذا السبب تعلق به ضمانه فتعلقت به الكفارة. وكذلك قالوا: إن القتل بسبب تجب به الكفارة وذلك كما في المكره، فإنه إذا أكره إنسانا على قتل فإن الكفارة تجب عليه من غير مباشرة، وكذلك من أمر من لا يميز بأن يقتل إنسانا فقتله، كانت على الآمر الكفارة، وكذا لو شهد اثنان زورا على إنسان بأنه قتل عمدا، فاقتص منه، فإن الشهود تلزمهم الكفارة. الترجيح: ونرى رجحان الرأي الثاني؛ لما ذكروه من أدلة، وأيضا فإن السبب الذي أدى إلى القتل هو فعل غير مشروع قام به الجاني خطأ؛ إذ حفره في غير ملكه يشكل تعديا على حق الناس في المرور سالمين، ومن هنا فإن موقفه لا يقل عن النائم ينقلب على غيره، بل يزيد، وقد قالوافي هذه الحالة: إنه تجب الكفارة فكذلك تلك، وقد سبق أن رجحنا أنه لا فرق بين القتل مباشرة أو تسبيبا في إيجاب القصاص وسائر العقوبات المقدرة للجناية عمدا، فكذلك هنا في القتل الخطأ لا نفرق بين الحالتين فتجب الكفارة في القتل مباشرة وتسبيبا1. المسألة الثالثة: وجوبها على كل من اشترك في القتل خطأ: إذا اشترك جماعة في قتل شخص خطأ، فهل يلزم كل واحد منهم كفارة، أو يشتركون في كفارة واحدة؟ للفقهاء رأيان:   1 مغني المحتاج ج4، ص107، 108، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص216، والشرح الكبير لابن قدامة ج10، ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 الرأي الأول: يرى أكثر أهل العلم "ومنهم الحسن وعكرمة، والنخعي والحارث العكلي، والثوري، والحنفية، والمالكية، والشافعية في الأصح، والحنابلة": أنه يلزم كل واحد منهم كفارة؛ لأن الكفارة لا تتبعض، وهي من موجب قتل الآدمي، فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص. الرأي الثاني: يرى أبو ثور، والأوزاعي فيما حكي عنه، وعلى الصحيح في مذهب الشافعية، ورواية حكاها أبو الخطاب عن الإمام أحمد: أن على الجميع كفارة واحدة؛ وذلك لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} و"من" يتناول الواحد والجماعة، ولم يوجب النص إلا كفارة واحدة ودية واحدة، والدية لا تتعدد فكذلك الكفارة، ولأنها كفارة قتل، فلم تتعدد بتعدد القاتلين مع اتحاد المقتول، ككفارة الصيد في الحرم. وقد أجيب عن أدلة الرأي الثاني بما يأتي: 1- لا يصح قياس الكفارة على الدية في التبعيض؛ لأن الدية بدل عن النفس، وهي واحدة، والكفارة لتكفير القتل، وكل واحد قاتل، ولأن في الكفارة معنى العبادة، والعبادة الواجبة على الجماعة لا تتبعض، فلا تتبعض الكفارة. 2- وأيضا فإن الكفارة هنا تخالف كفارة الصيد، فإن كفارة الصيد تجب بدلا عن الصيد؛ ولهذا تجب في أبعاضه. وقد وضح من هذا رجحان هذا الرأي وبخاصة أن الكفارة هي لجبر ما قد يقع الإنسان فيه من تقصير، وما يترتب عليه من ذنب وإثم، وأنها وسيلة إلى إصلاح عَلاقة الإنسان بربه، ومثل ذلك يحرص عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 المسألة الرابعة: ما تؤدى به الكفارة: قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ... } فقد نصت الآية على أن الكفارة هي تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. إلا أنه يبقى بعد هذا أن نتساءل عن الحكم فيما إذا لم يستطع تحرير رقبة مؤمنة، ولم يستطع صيام شهرين متتابعين؟ اختلف الفقهاء في الحكم في هذه الحالة إلى رأيين: الرأي الأول: يرى الحنفية والمالكية، والأظهر في مذهب الشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة، والزيدية والإمامية: أنه يثبت الصيام في ذمته، ولا يجب الإطعام كما يجب في كفارة الظهار؛ لأن الله تعالى لم يذكره، ولو وجب لذكره، ولأنه من المقادير، والمقادير لا تعرف إلا سماعا، ولأن المذكور كل الواجب؛ لوقوع الفاء في الجواب، أو لكونه كل المذكور. الرأي الثاني: روي عن الإمام أحمد "رواية أخرى" والشافعية "في الظاهر": أنه يطعم ستين مسكينا ككفارة الظهار والفطر في رمضان، وهذا التقدير وإن لم يكن في هذه الآية التي بينت عقوبة القتل خطأ فقد ذكر ذلك في نظيره، وهوكفارتا الظهار والفطر في رمضان، فيقاس هذا عليهما. وعلى هذا الرأي إن عجز عن الإطعام أيضا ثبت الإطعام في ذمته حتى يقدر عليه1. الترجيح: ونرجح الأخذ بالرأي الثاني أخذا بالقياس على كفارتي الظهار والفطر في رمضان؛ لأن في الأخذ به تحقيق المعنى المقصود من شرعية الكفارة، فحيث يتعذر الإعتاق، ويتعذر الصيام، لأي سبب كان من الأسباب المعتد بها شرعا، فحينئذ إما أن تسقط هذه العقوبة، وفي هذا بعد عما قصده المشرع الحكيم من تطبيقها، وإما أن نقيسها على الكفارات الأخرى، وقد نص فيها على أنه إن لم يتمكن فإطعام ستين مسكينا، وحينئذ تنفيذ عليه العقوبة بصورة اعتد بها المشرع الحكيم في جبر جرم آخر ارتكب، خاصة وأن القول بذلك يؤدي إلى إمكان أن يتحمل غير المسلم الكفارة، على الرأي الذي رجحناه فيما تقدم؛ حيث إنه قد لا يتيسر له إعتاق رقبة مؤمنة، ولا يتأتى منه الصيام، فيمكن حينئذ أن نوجب عليه الإطعام كعقوبة مالية، حتى تصبح العقوبة واحدة بالنسبة للجميع.. ويكون من الممكن أداؤها.   1 الزيلعي ج6، ص118، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص254، ومغني المحتاج ج4، ص108، والشرح الكبير لابن قدامة ج10، ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 النوع الثالث: الحرمان من الميراث : يترك المقتول للورثة شيئين؛ أولهما: المال الذي يملكه حتى موته، وثانيهما: ديته التي تؤخذ من القاتل ومن عاقلته، فهل القاتل خطأ يحرم من ميراث كليهما، أو من ميراث أحدهما، أو لا يحرم؟ للفقهاء ثلاثة آراء: أحدها: يرى الإمامية "في رأي مرجوح": أن القاتل خطأ يرث مطلقا من المال ومن الدية، واستدلوا بما روي عن عبد الله بن سنان عن جعفر الصادق -رضي الله عنه- في رجل قتل أمه: أيرثها؟ قال: إن كان خطأ ورثها، وإن كان عمدا لم يرثها، وقالوا: إن ترك التفصيل دليل العموم فيما تركه مطلقا ومما تركه الدية، فتورث الدية كما يورث المال إن كان للقتل خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 إلا أن ما استدلوا به هو أثر عن جعفر الصادق -رضي الله عنه- وهو لا يعارض الأحاديث الصحيحة والواردة في الباب، والتي سيأتي ذكرها في الرأي الثاني والثالث. الثاني: يرى المالكية، والنخعي، والزيدية، والإمامية على أظهر الأقوال: أن القتل الخطأ لا يمنع القاتل من ميراث مال المقتول، ولكن يمنعه من أن يرث من ديته، وقد استدلوا بما يأتي: 1- روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في خطبته يوم فتح مكة: "لا توارث بين أهل ملتين مختلفتين، والمرأة ترث من دية زوجها وماله، وهو يرث من ديتها ومالها، ما لم يقتل أحدهما صاحبه عمدا، فإن قتل أحدهما صاحبه عمدا لم يرث من ماله ولا من ديته، وإن قتله خطأ ورث من ماله ولم يرث من ديته" رواه الدارقطني من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص1. وقال الإمامية: إن هذا القول جامع بين النصين، ولأن الدية يجب على القاتل دفعها إلى الوارث؛ لقوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . فلو قلنا: إنه يرث من الدية، فحينئذ لا تدفع الدية كاملة إلى أهله؛ حيث إنه سيستحق بعض الدية باعتباره وارثا، فيدفع إلى الورثة نصيبهم، ويدفع إلى نفسه نصيبه ودفع القاتل إلى نفسه لا يعقل؛ إذ إنه يؤدي إلى أن توجب الجناية دفع شيء إلى الجاني، والمعقول أن توجب دفع شيء إلى المجني عليه2. الرأي الثالث: يرى الحنفية "مع مراعاة أن الحنفية يجعلون القتل بسبب   1 في التعليقات على البحر الزخار ج5، ص367. 2 راجع الروضة البهية ج2، ص297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 غير مانع من الميراث وسيأتي "إيضاحه" والشافعية.. ورأي مرجوح للإمامية وهو قول أكثر أهل العلم: أنه لا يرث العاقل خطأ من ميراث مقتوله ولا من ديته. وقد استدلوا بأحاديث وآثار بعضها عام في الدلالة على حرمان القاتل من الميراث، وبعضها خاص بالجناية خطأ. أما الأول: فمنها ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يرث القاتل شيئا" رواه أبو داود1. وما روي عن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه سلم يقول: "ليس لقاتل ميراث" رواه مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه2. فهذان الحديثان يدلان على حرمان القاتل من الميراث مطلقا عمدا كان القتل أم خطأ، كان الميراث مال المقتول أم ديته.   1 جاء في نيل الأوطار ج6، ص75 بشأن سند هذا الحديث أنه قد أخرجه النسائي وأعله، والدارقطني وقواه ابن عبد البر. 2 كما جاء في نفس المرجع بشأن هذا الحديث أيضا أنه قد أخرجه الشافعي وعبد الرزاق والبيهقي، وهو منقطع، قال البيهقي: رواه محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده مرفوعا، قال الحافظ: وكذا أخرجه النسائي من وجه آخر عن عمر، وقال: إنه أخطأ، وأخرجه ابن ماجه والدارقطني من وجه آخر عن عمر أيضا. وفي الباب عن ابن عباس عند الدارقطني بلفظ: "لا يرث القاتل شيئا"، وفي إسناده كثير بن مسلم" وهو ضعيف". وعن ابن عباس أيضا حديث آخر عند البيهقي بلفظ: "من قتل قتيلا فإنه لا يرثه، وإن لم يكن له وارث غيره "، وفي لفظ: "وإن كان والده أو ولده". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وأما الثاني: 1- فما روي عن عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي -عند الطبراني في قصة- أنه قتل امرأته خطأ فقال صلى الله عليه وسلم: "اعقلها ولا ترثها". 2- وما روي عن عدي الجزامي -نحو الحديث المتقدم- أخرجه الخطابي، ولفظه في سنن البيهقي: أن عديا كانت له امرأتان اقتتلتا فرمى إحداهما، فماتت، فلما قدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أتاه فذكر له ذلك فقال له: "اعقلها ولا ترثها". 3- وأخرج البيهقي أيضا أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فماتت من ذلك فأراد نصيبه من ميراثها فقال له إخوته: لا حق لك، فارتفعوا إلى علي -رضي الله عنه- فقال له: حقك من ميراثها الحجر، وأغرمه الدية، ولم يعطه من ميراثها شيئا. وأخرج البيهقي أيضا عن جابر بن زيد أنه قال: "أيما رجل قتل رجلا أو امرأة عمدا أو خطأ فلا ميراث له منها، وأيما امرأة قتلت رجلا أو امرأة عمدا أو خطأ فلا ميراث لها منهما". وقد قضى بذلك عمر بن الخطاب وعلي وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين. وقالوا أيضا: إن جناية قتل المورث تضمنت تهمة استعجال القاتل ميراث مقتوله، والقتل الخطأ يتضمن هذا؛ لاحتمال أنه قصد قتله إلا أنه أظهر الخطأ من نفسه، فالتهمة موجودة؛ لأن الفرق بين العمد والخطأ إنما هو في قصد القتل وعدمه، والقصد أمر باطني لا اطلاع لأحد عليه، وإنما يستدل بالقرائن، وقد يقصد الوارث قتل المورث، وخوفا من موجب القتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 العمد يحكم جنايته إحكاما تاما؛ بحيث تظهر في صورة الخطأ، فالتهمة في القتل الخطأ موجودة. اختلافهم في القتل بسبب: سبق أن بينا أن القتل الخطأ وما يأخذ حكمه أنواع، فالخطأ إما خطأ في القصد أو في الفعل أو فيهما، وما يأخذ حكمه، هو ما جرى مجرى الخطأ، كالنائم يتقلب على غيره فيقتله، وكذا القتل بسبب كحفر بئر في الطريق أو إلقاء حجر، والقتل في الأوليين تم بالمباشرة، وفي الأخير تم بالتسبيب. ولقد اتفق هؤلاء الفقهاء -أصحاب الرأي الثالث- على أن القتل بالمباشرة يمنع من الميراث، واختلف الحنفية مع الشافعية في كون القتل بالتسبيب مانعا من الميراث، فقال الشافعية: إنه يمنع من الميراث كالقتل بالمباشرة. وقال الحنفية: إنه غير مانع من الميراث؛ وذلك أن حرمان الميراث يتعلق بالقتل حقيقة، والتسبيب ليس قتلا حقيقة؛ لأن القتل ما يحل في الحي فيؤثر في إزهاق الروح، والتسبيب ليس كذلك؛ لأنه فعل في غيره تعدى أثره إلى هذا الإنسان الحي، كما أوقد نارا في داره فأحرق دار جاره فإنه لا ضمان عليه. فالمتسبب ليس بقاتل حقيقة ولا متهم؛ لأنه لا يعلم أن مورثه يقع في البئر، وهو متهم في الخطأ وما جرى مجراه لاحتمال أنه قصد ذلك في الباطن1، فيمنع الميراث فيما ترد فيه التهمة لا يمنعه فيما لا ترد فيه التهمة.   1 وقد سبق أن بينا وجه الفرق بين هذه الأنواع في صدر هذا الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 ما أخذ به قانون المواريث المصري: نص قانون المواريث المصري رقم 77 لسنة 1943م في المادة الخامسة على أنه "من موانع الإرث قتل المورث عمدا، سواء أكان للقاتل فاعلا أصليا أم شريكا أم كان شاهد زور أدت شهادته إلى الحكم بالإعدام وتنفيذه، إذا كان القتل بلا حق ولا عذر، وكان القاتل عاقلا بالغا من العمر خمس عشرة سنة، وبعد من الأعذار تجاوز حق الدفاع الشرعي". ومن هنا يتبين لنا أن القانون مأخوذ من الرأي الأول الذي يجعل القاتل خطأ يرث مطلقا من مال المقتول أو من ديته؛ لأنه لم يجعل القتل الخطأ مانعا من ميراث أي منهما. نظرة على عقوبة القتلى الخطأ في الفقه الإسلامي: رأينا فيما تقدم أن عقوبة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي جمعت بين الدية التي تدفع لورثة المقتول وهي حق من حقوق العباد -على الطريق الذي فصلناه -وبين الكفارة، وهي حق من حقق الله تعالى، وبين الحرمان من الميراث "أو الوصية" على الخلاف الذي تقدم- وهو حق من حقوق الله تعالى أيضا، ولا يأبى الفقه الإسلامي العقوبة التعزيرية إذا وجدت دواع راجحة لتوقيعها على المرتكب جناية خطأ، حتى يتخذ الجاني من وسائل الحيطة والحذر ما يجنبه ويجنب غيره الوقوع في مثل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 موقف قانون العقوبات من القتل خطأ: نص قانون العقوبات المصري في المادة 238 على أن: "من تسبب خطأ في موت شخص بأن كان ذلك ناشئا عن إهماله، أو رعونته، أو عدم احتراسه، أو عدم مراعاته القوانين والمقررات واللوائح والأنظمة يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر بغرامة لا تقل عن عشرين جنيها ولا تجاوز مائتي جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين. وتكون عقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن ست سنين، وغرامة لا تقل عن خمسين جنيها ولا تجاوز أربعمائة جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني بما تفرضه عليه أصول مهنته أو حرفته، أو كان عند ارتكابه الخطأ الذي نجم عنه الحادث متعاطيا عقاقير مخدرة أيا كان نوعها، أو كان في حالة سكر بين، أو لم يقدم المساعدة وقت الحاديث لمن وقعت عليه الجريمة، أو لم يطلب هذه المساعدة مع تمكنه من ذلك. وتكون العقوبة الأشغال الشاقة لمدة لا تزيد على خمس سنين إذا نشأ عن الخطأ وفاة أكثر من خمسة أشخاص. فإذا توافر ظرف آخر من الظروف المشددة الواردة في الفقرة الثانية تكون العقوبة بالأشغال الشاقة المؤقتة". ومن هذا النص يتقين لنا أن قانون العقوبات جعل عقوبة القتل خطأ عقوبة تعزيرية، سواء تمت بالحبس أو بالأشغال الشاقة أو بالغرامة، وهذا النوع من العقوبة سبق أن بينا أنه نوع من العقوبات التعزيرية في الفقه الإسلامي الذي يترك أمر تقديرها لاجتهاد الحاكم أو من يقوم مقامه. ونضيف إلى ذلك أنه بجانب هذه العقوبة التي قررها قانون العقوبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 نصت المادة 524 من القانون المدني على أنه: "كل خطأ سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض". وقد سبق أن ناقشنا الفرق بين التعويض الذي يقرره القانون وبين الدية التي تفرضها الشريعة، وبينا الآثار العميقة للفرد والمجتمع في الأخذ بالشريعة، وآثار ذلك على منع الجريمة، فضلا عن عدم ضياع دية المقتول عند إعسار القاتل أو عاقلته أو موته. العقوبة الدنيوية لقاتل نفسه "عمدا، أو شبه عمد، أو خطأ": بينا فيما تقدم عقوبة قاتل غيره عمدا أو شبه عمد أو خطأ، ونبين هنا العقوبة الدنيوية لقاتل نفسه كذلك. أما العقوبة الأخروية له فقد سبق أن بيناها عند بيان هذه العقوبة لقاتل غيره، والباحث في الفقه الإسلامي يجد أن عقوبته تدور بين أمرين لا ثالث لها؛ هما: الدية والكفارة، أما القصاص والتعزير فلا يتأتى تطبيق شيء منهما لفوات محل تطبيق العقوبة البدنية، ولا يراد الحرمان من الميراث بداهة، ونبين آراء الفقهاء في إيجاب الدية والكفارة في الجنايات الثلاث: أولا: أما إن قتل نفسه عمدا فقد اتفق الفقهاء على أنه لا تجب عليه دية لا في ماله ولا على عاقلته، أما أنه لا تجب عليه دية فلأنه لا معنى لإيجابها في ماله، ثم ردها إلى ورثته؛ لأنه على كلا الحالتين المال كله مآله إلى الورثة فإيجابها في هذا المال لا معنى له، ولا يحقق فائدة، وما كان على هذه المثابة فإنه لا يشرع، ثم إن الدية إنما تجب بدلا عن القصاص الواجب، فهي عوض عن إيحاء النفس، والنفس هنا قد فاتت وذهبت بفعل صاحبها ظاهرا فلا تجب الدية، وأما أنها لا تجب على العاقلة فلأن العاقلة لا تحمل عمدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 بنص الحديث "كما تقدم"، ولأنه لا عذر للقاتل في القتل العمد، وإذا لم يكن له عذر فإنه لا يستحق التخفيف، والعاقلة إنما تحمل عن الجاني ما يستدعي التخفيف عنه؛ لأنها تتحمل عنه مواساة ومعاونة وتآزرا معه فيما وقع فيه خطأ ودون قصد.. أما ما كان عمدا فإنه لا يتلاءم مع المعنى الذي يهدف إليه المشرع من وراء معنى العاقلة وما تتحمله. وأما الكفارة، فقد اختلف الفقهاء في إيجابها على من قتل نفسه عمدا، فيرى جمهور الفقهاء أنها لا تجب وبخاصة من يرون عدم إيجاب الكفارة في قتل الغير عمدا، وهم "الحنفية والحنابلة والزيدية والثوري وأبو ثور" للأدلة التي سبق النص عليه، ويرى الشافعية إيجاب الكفارة في القتل العمد أو شبهه أو الخطأ، سواء قتل نفسه أو غيره، فقد جاء في مغني المحتاج: "وتجب الكفارة بقتل مسلم ولو بدار الحرب وذمي وجنين، وعبد نفسه، وبقتل نفسه؛ لأنه قتل نفس معصومة، فتجب فيه كفارة لحق الله تعالى، فتخرج من تركته، أما إذا لم تكن نفسه معصومة بأن كانت مهدرة، فينبغي -كما قال الزركشي- ألا تجب، وفي قتل نفسه وجه: أنه لا يجب لها الكفارة كما لا يجب ضمانها بالمال". ثانيا: وأما إن قتل نفسه قتلا شبه عمد، فإنه يلزمنا أن نذكر بعض الأمثلة التي أوردها الفقهاء لمثل هذا القتل، ثم نتبعها ببيان ما يجب فيه من دية أو كفارة، أما الأولى فمن صوره: إمساك الحية مع الظن أنها لا تقتل، أو أن يأكل كثيرا حتى يبشم، أو المشي على الحبال في الهواء، والجري في المواضع البعيدة مما يفعله أرباب البطالة والشطارة، وكل ذلك يعتبر قتلا شبه عمد إذا لم يقصد بشيء من ذلك قتل نفسه؛ لأن هذه الأفعال تقتل غالبا، ويمكن أن يقاس على ذلك الألعاب التي يغلب فيها ذلك كالمصارعة والملاكمة. وأما ما يجب فيه من دية أو كفارة، فأما الدية فقد اختلف الفقهاء في إيجابها، فيرى البعض إيجابها على العاقلة "في رأي للشافعية -غير المشهور- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 ورأي للحنابلة" معتبرين أن هذه الجناية تساوي جناية الإنسان على غيره خطأ أو شبه عمد، فكما وجبت على العاقلة دية قاتل غيره خطأ أوشبه عمد، فكذلك تجب هنا في الحالتين. ويرى جمهور الفقهاء أنه لا تجب الدية في هذه الجناية؛ لأنه لا عذر له في اقترافه الفعل الموجب لها؛ إذ لم يكن معذورا، فإنه يشبه العمد المحض، والعمد المحض لا تجب فيه الدية، فكذلك هنا. وهو رأي الحنفية والمالكية والشافعية "المشهور" والحنابلة. والناظر إلى هذين الرأيين على ضوء التطور الصناعي في هذا العصر يجد أن كثيرا من الناس يباشرون بعض الأعمال التي تكتنفها بعض المخاطر؛ كعمال المناجم، ومصانع الحديد والصلب، وما شاكل ذلك من الصناعات والأعمال؛ طلبا لرزقهم، وسدا لحاجتهم، وتنمية لاقتصاد دولتهم. وقد يترتب على مباشرتهم لهذه الأعمال ذهاب أرواحهم أو أعضائهم أو حدوث أضرار جسمانية، فما الموقف من هؤلاء في ظل الفقه الإسلامي؟ إنني أرى أن هذا العمل الذي يقوم به العامل والذي يحتاج إليه الفرد والدولة لا بد من أن يكون محاطا ببعض الضمانات الكفيلة بسد الثغرات التي تنتج عن استمرار العمل والإنتاج، وهذه الضمانات هي إيجاب الدية لمن قتل منهم أثناء تأديته عمله، وتكون هذه الدية على العاقلة؛ لأنه قتل شبه عمد؛ إذ العمل قد يؤدي إلى القتل، والقتل غير مقصود، وفي شبه العمد الدية على العاقلة، فكذلك هنا. فإن لم تكن له عاقلة كانت ديته من بيت المال، ولا يمكن قياس هذا القتل على القتل العمد، حتى لا تجب الدية على العاقلة؛ لأن العمد أن يقصد الفعل ... ويقصد به القتل، وقد سبق أن بينا مدلول العاقلة في الفقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 الإسلامي، ويمكن اعتبار كل العاملين في مصنع من المصانع عاقلة، كل منهم يعقل عن الآخر إذا ما توافرت شروط العاقلة فيهم وفي كل فرد منهم. وأما إيجاب الكفارة فيرى بعض الفقهاء "الحنابلة" إيجابها في ماله، وقد يستدل لهذا الرأي بأن القتل هنا قد وقع خطأ؛ لأنه لم يرد قتل نفسه، والله تعالى يقول: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وهو قد وقع قتله لنفسه خطأ، بينما يرى جمهور الفقهاء عدم إيجابها عليه؛ وذلك لانعدام خطابه بها بسبب موته، وإذا انعدم خطاب الشرع له بها -بسبب الموت- لم تجب عليه كسائر الأحكام. ثالثا: وأما إن قتل نفسه خطأ أو قطع عضوا من أعضائه، فقد اختلف في إيجاب الدية والكفارة أيضا: فإما إيجاب الدية على العاقلة -كما هو الشأن في الجناية خطأ على الغير- فيرى بعض الحنابلة "القاضي" أن على عاقلته ديته لورثته إن قتل نفسه، أو أرش جرحه إذا كان أكثر من الثلث، وهو قول الأوزاعي وإسحاق؛ وذلك لما روي أن رجلا ساق حمارا فضربه بعصا كانت معه، فطارت شظية ففقأت عينه، فجعل عمر ديته على عاقلته، وقال: "هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد"، ولم نعرف لعمر مخالفا في عصره، ولأنها جناية خطأ، فكان عقلها على عاقلته كما لو قتل غيره، فعلى هذا الرأي إن كانت العاقلة الورثة لم يجب شيء؛ لأنه لا يجب للإنسان شيء على نفسه، وإن كان بعضهم وارثا سقط عنه ما يقابل نصيبه، وعليه ما زاد على نصيبه، وله ما بقي إن كان نصيبه من الدية أكثر من الواجب عليه. ويرى أكثر أهل العلم "الحنفية والمالكية والشافعية وقول للحنابلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وربيعة والثوري" أن جنايته هدر؛ وذلك لأن عامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبر فرجع سيفه على نفسه، فمات ولم يبلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى فيه بدية، ولا غيرها، ولو وجبت لبينه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولأنه جنى على نفسه فلم يضمنه غيره كالعمد، ولأن وجوب الدية على العاقلة إنما كان مواساة للجاني وتخفيفا عنه، وليس على الجاني هاهنا شيء يحتاج إليه الإعانة والمواساة فيه، فلا وجه لإيجابه، ويفارق هذا ما إذا كانت الجناية على غيره، فإنه لو لم تحمل العاقلة موجب الجناية خطأ على الغير لأجحف به وجوب الدية لكثرتها. وأما الكفارة، فيرى الحنفية والمالكية ووجه عند الشافعية: أنه لا يجب هنا في النفس كفارة، كما لا يجب ضمانها بالمال. ويرى الشافعية والحنابلة: أن من قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} الآية، ولأنه آدمي مؤمن مقتول خطأ فوجبت الكفارة على قاتله، كما لو قتله غيره. الترجيح: رجح ابن قدامة المقدسي "الحنبلي" الرأي الأول قائلا: "إنه الأقرب إلى الصواب إن شاء الله، فإن عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأ، ولم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه بكفارة، وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} إنما أريد بها إذا قتل غيره، بدليل قوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وقاتل نفسه لا تجب فيه دية بدليل قتل عامر بن الأكوع. ولكن ما ذكره من الأثر يمكن الرد عليه، بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قضى في الجنين بغرة، ولم يقض بالكفارة، وقد سبق أن قيل: إن الغرة ثابتة بالحديث، والكفارة ثابتة بالقرآن، وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي وضحت الديات لم تذكر الكفارة اعتمادا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 هذا، ومن هنا يمكن أن نقول: إنه إذا قتل إنسان نفسه تجب في ماله الكفارة. إلا أن المعاني التي شرعت من أجلها الكفارة، إن كانت عبادة وتقربا، فلا بد من وجود الشخص؛ لأنه لا عبادة بدون النية، وإن كانت زجرا وتنبيها إلى التحرز عن الوقوع في الخطأ، فإن كان هذا بالنسبة للشخص نفسه، لقد فات المحل الذي يمكن أن يستجيب لذلك، وإن كان هذا بالنسبة للغير، فإن المحل موجود، ويمكن أن يتحقق بالنسبة له هذا الغرض، فيعلم الإنسان القاتل لنفسه أن عليه حين يرتكب هذه الجناية خطأ كفارة تؤخذ من ماله كما تؤخذ بقية الحقوق. ولعل النظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "الآدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنيانه" يجعلنا ننظر إلى نفس الإنسان المعتدَى عليه، على أنه غير، سواءكان المعتدى عليه هو نفس هذا الإنسان المعتدي أم غير نفسه، ويؤيد هذا أنه معاقب على اقتراف هذا الجرم في الآخرة على كلا الحالين، بل بعقوبة أشد في الحالة الأولى كما سبق أن أوضحنا1. ومن هنا نرى ترجيح الرأي الثاني، خاصة وأن حق الأرقاء في الحرية حق يتشوف الشرع إلى تحقيقه، وهو حق للغير، يلزم الوفاء به كسائر الحقوق، وكذلك حق المحتاجين في الإطعام. وبعد، فهذا ما وفقنا الله تعالى إلى إخراجه من هذا المؤلَّف، وإننا لنحمده ونشكره على ما وهب، ونسأله جل شأنه أن يعيننا على إخراج الجزء الثاني منه في وقت قريب ... إنه نعم المولى ونعم النصير، د. حسن علي الشاذلي   1 راجع ما أوضحناه في هذا ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الفهرس : الصفحة الموضوع 4 الافتتاحية 11 التمهيد 12 الجريمة 14 أنواع الزواجر ما كان منها حقا لله وما كان حقا للعبد 16 التعريف بحق الله وحق العبد وميزات كل 23 وميزان كل الجناية لغة وشرعا 26 الجريمة والجناية في الفقه الوضعي 29 العقوبات 31 الأسس العامة التي تقوم عليها العقوبة 31 أولا: تطبيق الحدود يحقق مصالح الناس 33 ثانيا: عدالة العقوبة 34 ثالثا: استقرار التجريم والعقاب 35 رابعا: الواقعية والموضوعية في تقرير نوع العقوبة 37 خامسا: العقوبات تكتنفها الرحمة 41 سادسا: اقتران توقيع العقوبة بتطهير الذنب 42 سابعا: تدرج العقوبات بتدرج نوعية الجرائم 46 الباب الأول: جناية القتل 46 أول جناية قتل وقعت في التاريخ 48 حكم الجناية على الإنسان 53 الفصل الأول: القتل العمد وعقوبته 54 المبحث الأول: حقيقة القتل العمد في الفقه الإسلامي تفصيلا 80 المبحث الثاني: أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي 80 أولا: الاعتداء على آدمي حي 85 ثانيا: معصوم الدم 86 ثالثا: معين 87 رابعا: قصد الضرب 92 خامسا: قصد العدوان 99 سادسا: الفعل القاتل 99 القتل مباشرة 101 القتل بسبب 106 القتل بالترك 112 المبحث الثالث: آراء فقهاء القانون في تحليل القتل العمد ورأي الفقه الإسلامي في هذه الآراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 الصفحة الموضوع 112 تعريف القتل العمد عند فقهاء القانون 113 وأركان هذه الجريمة 131 الباعث على الجناية في الفقه الإسلامي 131 مرتبة الباعث في العملية الإرادية 133 أقسام الأعمال وأثر النية فيها 134 أثر الباعث على الجناية 137 المبحث الرابع: عقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي 137 المطلب الأول: الجزاء الأخروي 141 قبول توبة القاتل 143 الجزاء الأخروي لقاتل نفسه عمدا 146 المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي 146 النوع الأول: القصاص "تعريفه لغة واصطلاحا" 147 المقصد الأول: الأدلة التي ثبت بها القصاص في القتل العمد 149 المقصد الثاني: عقوبة القتل العمد 159 المقصد الثالث: العفو عن القصاص أو المصالحة عليه 170 المقصد الرابع: شروط استيفاء القصاص 170 شروطه عند الفقهاء تفصيلا 184 الشروط التي اتفقوا عليها 186 الشروط المختلف فيها 186 أولا: التكافؤ في الدين 194 ثانيا: التكافؤ في الحرية 204 ثالثا: التكافؤ في الذكورة والأنوثة 211 رابعا: المساواة في العدد 211 قتل الجماعة بالواحد 221 قتل الواحد بالجماعة 228 استيفاء القصاص في الحرم 235 المقصد الخامس: ولاية استيفاء القصاص 235 الفرع الأول: من له حق الاستيفاء 243 ما يشترط فيمن لهم هذه الولاية 243 اشتراط التكليف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الصفحة الموضوع 244 اشتراط اتفاق المستحقين 246 اشتراط كون القصاص مأمون التعدي 248 الفرع الثاني: إذن الإمام بالاستيفاء 250 الفرع الثالث: كيفية استيفياء القصاص 256 المقصد السادس: الظروف المبيحة للقتل أو المخففة للعقوبة في الفقه الإسلامي 256 الفرع الأول: الظروف المبيحة للقتل 256 الدفاع الشرعي الخاص 258 الدفاع عن العرض 259 الدفاع عن النفس 263 الدفاع عن مال نفسه 265 الصائل غير المكلف 268 الدفاع عن عرض الغير أو نفسه أو ماله 270 تكييف القوانين الوضعية للدفاع الشرعي 277 الدفاع الشرعي العام 281 الفرع الثاني: الظروف المسقطة للقصاص أو المخففة للعقوبة 281 جناية الأب على ابنه 284 جناية الصبي 289 جناية المجنون 293 جناية المعتوه 295 جناية السكران 297 جناية المكره 303 رضا المجني عليه بالجناية 304 رأي القانون المصري في الظروف المخففة 308 الفرع الثالث: عقوبة عامة لمن سقط عنه القصاص 311 المقصد السابع: الظروف المشددة للعقوبة في الفقه الإسلامي 311 الفرع الأول: آية المحاربة وآراء الفقهاء في فهمها 314 الفرع الثاني: أركان جريمة المحاربة 321 الفرع الثالث: جرائم أدرجها بعض الفقهاء في جريمة المحاربة 321 أ- القتل غيلة 324 ب- العود في القتل 326 ج- قتل الإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الصفحة الموضوع 327 د- اقتران جريمة المحاربة بجريمة أخرى 328 الفرع الرابع: عقوبة جريمة المحاربة 328 آراء الفقهاء في عقوبة المحاربة 331 معنى للنفي من الأرض 332 أثر التوبة على العقوبة 333 أثر التوبة على الحقوق 336 النوع الثاني: الدية 336 أولا: تعريفها 337 ثانيا: من تجب عليه وكيفية أدائها 338 ثالثا: أجناسها ومقاديرها 342 النوع الثالث: الكفارة وآراء الفقهاء في إيجابها على القاتل عمدا 345 النوع الرابع: الحرمان من الميراث 347 المبحث الخامس: عقوبة القتل العمد في القانون مع مقارنتها بعقوبته في الفقه الإسلامي 350 الفصل الثاني: القتل شبه العمد وعقوبته 351 المبحث الأول: آراء الفقهاء في القول بشبه العمد 353 المبحث الثاني: أركان جريمة شبه العمد 358 المبحث الثالث: عقوبة القتل شبه العمد 359 المطلب الأول: الجزاء الأخروي 359 المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي 359 النوع الأول: الدية في القتل شبه العمد 361 المقصد الأول: المتحمل للدية 363 المقصد الثاني: كيفية أدائها 365 النوع الثاني: الكفارة 366 النوع الثالث: الحرمان من الميراث 368 النوع الرابع: التعزير 368 المطلب الثالث: عقوبة الضرب المفضي إلى الموت في القانون 371 المطلب الرابع: المقارنة بين العقوبتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الصفحة الموضوع 375 الفصل الثالث: القتل الخطأ وموجبه 375 المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي 377 أ- أنواع الخطأ 380 ب- أنواع الجنايات التي هي في معنى الخطأ 381 الأول: فعل غير إرادي يؤدي إلى جناية الثاني: القتل بسبب 389 المبحث الثاني: أركان الجريمة خطأ 394 المبحث الثالث: عقوبة القتل خطأ 395 النوع الأول: الدية 395 الفرع الأول: مقدارها ونوعها 398 الفرع الثاني: العاقلة 398 آراء الفقهاء فيمن تجب عليه الدية في القتل الخطأ 402 من تجب عليه الدية في الجناية خطأ ابتداء 404 الفرع الثالث: حقيقة العاقلة 410 ذوو الأرحام والزوج والأصل والفرع 413 تحمل بيت المال عند انعدام العاقلة 416 مظاهر التخفيف في دفع العاقلة الدية 416 أولا: إعفاء من لا تمكنهم ظروفهم من دفعها 417 أ- مظاهر الضعف الطبيعية 418 ب- مظاهر الضعف الاجتماعية 418 ج- مظاهر الضعف المالية 419 د- مظاهر الضعف الصحية 420 ثانيا: تحمل كل فرد قدر طاقته 423 طروء الإعسار والموت على أحد أفراد العاقلة 425 ثالثا: تحديد عدد العاقلة 426 رابعا: المدة التي تتحمل العاقلة فيها الدية 428 آراء الفقهاء فيما روي: "لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا .... " الحديث 428 أ- الدية في العمد وشبه العمد 429 ب- جناية العبد على غيره أو جناية الغير عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 الصفحة الموضوع 432 ج- اعتراف الجاني بالجناية 435 د- الصلح على الجناية 436 هـ- ما تحمله العاقلة من الدية 439 عاقلة غير المسلم 440 النوع الثاني: الكفارة 440 تعريف الكفارة لغة واصطلاحا 441 المسألة الأولى: من يتحمل الكفارة 442 المسألة الثانية: شروط وجوب الكفارة 442 أولا: ما يشترط في القاتل 445 ثانيا: ما يشترط في المقتول 445 أ- العصمة 446 ب- الإسلام 447 ج- الحرية 448 د- الحياة 449 هـ -اشتراط وقوع الجناية على الغير 445 ثالثا: ما يشترط في الفعل القاتل 451 المسألة الثالثة: وجوبها على كل من اشترك في القتل خطأ 453 المسالة الرابعة: ما تؤدَّى به الكفارة 454 النوع الثالث: الحرمان من الميراث 458 اختلاف الفقهاء في القتل بسبب ما أخذ به قانون المواريث المصري 459 نظرة عل عقوبة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي 460 موقف قانون العقوبات من القتل الخطأ 461 العقوبة الدنيوية لقاتل نفسه عمدا أو شبه عمد أو خطأ 461 أولا: عقوبة قاتل نفسه عمدا 462 ثانيا: عقوبة قاتل نفسه قتلا شبه عمد 464 ثالثا: عقوبة قاتل نفسه خطأ 466 الفهرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472