الكتاب: اللغة العربية معناها ومبناها المؤلف: تمام حسان عمر الناشر: عالم الكتب الطبعة: الخامسة 1427هـ-2006م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- اللغة العربية معناها ومبناها تمام حسان الكتاب: اللغة العربية معناها ومبناها المؤلف: تمام حسان عمر الناشر: عالم الكتب الطبعة: الخامسة 1427هـ-2006م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمات ملابسات هذا البحث ... بسم الله الرحم الرحيم تقديم : ظهر هذا الكتاب أول مرة سنة 1973 ضمن مطبوعات الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم أعادت الهيئة طبعة سنة 1979, ولقد قلت في التقديم لهذا الكتاب: "ولو أنّ جمهور الدارسين أعطى هذا الكتاب ما يسعى إليه من إثارة الاهتمام, فإنه ينبغي لهذا الكتاب أن يبدأ عهدًا جديدًا في فهم العربية الفصحى -مبناها ومعناها, وأن يساعد على حسن الانتفاع بها لهذا الجيل وما بعده من أجيال". وظل القراء أعوامًا طوالًا لا يجيبون هذه الدعوة حتى رأيناهم فجأة يتناولون الكتاب بالنقد مدحًا وقدحًا, فكنت سعيدًا بالأمرين على السواء: 1- فقد تناوله الأستاذ عبد الوارث مبروك سعيد في كتابه: "في إصلاح النحو العربي" مشيرًا به من صفحة 175 إلى 184. 2- وتناوله الدكتور حلمي خليل في كتابه: "العربية وعلم اللغة البنيوي" ناقدًا وموضحًا أهمية الكتاب, ومظهرًا اعتراضه على بعض ما جاء به. 3- وخصصت له مقالات في عدد من المجلات العلمية في العالم العربي مثل: أ- حوليات الجامعة التونسية - العدد السابع عشر 1979. ب- حوليات الجامعة التونسية - العدد الخامس والعشرون 1986. جـ- مجلة "عالم الكتب" - السعودية - العدد الثالث سبتمبر 1986. د- مجلة مجمع اللغة العربية الأردني - العدد 36 - كانون الثاني 1989. 4- وثلبه أحد القراء في مقال له عنوانه: "مزاعم لتجديد في النحو العربي" بمجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات, التابعة لجامعة الأزهر بالمنصورة - العدد الأول 1988. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 كل ذلك وغيره كان إجابة لرغبتي السابقة أن يثير هذا الكتاب اهتمام القراء خدمة للغة العربية واهتمامًا بها, ومن هنا كان سروري بمن مدح ومن ثلب. والآن نظهر الطبعة الثالثة ضمن منشورات عالم الكتب, برغبة كريمة من صاحب هذه المؤسسة الناجحة الأستاذ أشرف يوسف عبد الرحمن, ولقد كان لهذه المؤسسة من قبل فضل إظهار كتابي "البيان في روائع القران", و"النص والخطاب والإجراء" الذي تَمَّت ترجمته أخيرًا عن اللغة الإنجليزية. والآن أتقدم بهذه الطبعة الجديدة لكتاب "اللغة العربية - معناها ومبناها" إلى القارئ العربي الكريم, وأرجو أن يصادف عنده القبول كما صادفه من قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تقديم : هذا البحث نتاج زمن طويل من إعمال الفكرة ومحاولة إخراجها في صورة مقبولة، فأول عهدي بفكرة هذا البحث ما كان من ورودها على الخاطر سنة 1955, عند ظهور كتابي "مناهج البحث في اللغة", فقد جاء ذلك الكتاب في حينه ليقدِّم إلى القارئ العربي ما اصطنعه الغربيون من منهج وصفي، وليعرض هذا المنهج عرضًا مفصَّلًا, آخذًا أمثلته ووسائل إيضاحه من الفصحى حينًا, ومن العاميات حينًا, ومن لغات أجنبية ثالثًا، فلم يكن بحثًا خالصًا للفصحى بقدر ما كان عرضًا للمنهج الوصفي، ولكنه مسَّ موضوع هذا الكتاب مسًّا خفيفًا على أي حال، وحين كنت أتولى تدريس علم الأصوات اللغوية لطلبة السنة الثانية بكلية دار العلوم بالقاهرة -فيما بين عامي 1953 و1959- كان الاتجاه العام بين أساتذة الكلية في ذلك الحين هو إلى التشكيك في قيمة الدراسات اللغوية الحديثة, ولا سيما عند تطبيق منهجها وأفكارها على دراسة اللغة الفصحى، وكان هؤلاء يرون أن المنهج الوصفي إن صادف أيّ قدر من القبول في نفوسهم, فماكان لهذا القبول أن يتعدى تطبيق هذا المنهج على اللهجات العامية، أما الفصحى فهيهات! لأن الأول ما ترك للآخر شيئًا, حتى إن النحو قد نضج حتى احترق، لهذا كله كنت أقدم لدراسة الأصوات اللغوية كل عام بموضوع يمتّ إلى هذا البحث بأوثق صلة يستغرق محاضرتين, جعلت عنوانه: "تشقيق المعنى", وكنت أبيِّن في تدريس هذا الموضوع ما تتطلبه الفصحى من إعادة النظر في منهجها وطريقة تناولها، وفي سنة 1959 تحولت عن قسم الدراسات اللغوية بكلية دار العلوم ", وهو القسم الذي يعنى أساسًا بالمناهج الحديثة في دراسة اللغة" إلى قسم النحو والصرف والعروض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وهو المقابل التقليدي للقسم السابق الذكر، وكان من بين الدهاقين الذين يعيبون هذا الجديد كبار رجال هذا القسم، ولقد أشفقت أول الأمر على ما يدور في رأسي من أفكار المنهج الوصفي أن تهب عليها رياح اللوائح والسلطة الرسمية ومطالب تنشئة الطلاب في النحو العربي التقليدي تنشئة تؤهلهم بعد قليل لأن يعلِّموا هذا النحو في مدارس الدولة على الطريقة التي ألفتها هذه المدارس منذ نشأت في ظل التقاليد. من هنا آثرت أن أبتعد بأفكار المنهج الوصفي عن طلبة السنوات الأربع التي تنتهي بالدرجة الجامعية الأولى، ولكنني أكدت وجود هذه الأفكار وأصررت عليها بالنسبة لطلبة الدراسات العليا, فلم أقبل الإشراف على طالب من هؤلاء يسعى مثلًا إلى كتابة ترجمة لنحوي, أو تحقيق كتاب أو بحث لا يتناول فكرة منهجية نقدية ترمي إلى تطعيم أفكار النحاة القدماء بأفكار المنهج الوصفي الحديث. وهكذا وردت أفكار هذا البحث مع كل رسالة علمية أشرفت عليها, وكان من بينها العناوين الآتية: ابن مضاء ومنهج النحاة القدماء في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة "ماجستير". اسم الفاعل بين الاسمية والفعلية "ماجستير". الصواب والخطأ عند النحاة الأقدمين في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة "دكتوراه". وسائل أمن اللبس في النحو العربي "دكتوراه". الزمن في النحو العربي "ماجستير". الوحدات الصرفية ودورها في تكوين الكلمة العربية "ماجستير". تقسيم الكلام العربي "دكتوراه". وفي سنتي 1965 و1966 تقدَّمت على الترتيب ببحثين إلى الندوة التي يقيمها الأساتذة في دار العلوم يناقشون بها بحوثًا يتقدَّم بها أفراد منهم, وكان موضوع البحث الأول: "نقد منهج النحاة العرب", وموضوع البحث الثاني: "أمن اللبس ووسائل الوصول إليه في اللغة العربية", فكان في هذين البحثين عود إلى موضوع هذا الكتاب في ذلك الوقت، ثم دعاني الصديق الكريم الأستاذ محمد خلف الله أحمد عميد معهد الدراسات العربية, التابع لجامعة الدول العربية إلى تدريس موضوع خاص لطلبة هذا المعهد, فاخترت لذلك "مشكلة المعنى", وعدت بذلك إلى موضوع هذا الكتاب, ثم جرت إعارتي في 1967 إلى قسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم, فقمت بتدريس بعض ما يشتمل عليه هذا البحث من موضوعات لطلبة الدراسات العليا بالقسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وهكذا تعددت روافد هذا البحث, وطال الأمد على إعداده حتى قُدِّرَ له آخر الأمر أن يدوّن ويُعَدّ للطبع وأنا لا أزال معارًا لقسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم. ومجال هذا البحث هو اللغة العربية الفصحى بفروع دراستها المختلفة، فليس هذا الكتاب كَتْبًا في فرعٍ معينٍ من فروع هذه الدراسات, ولكنه يجول فيها, ويأخذ من كل فرع منها ما يراه بحاجة إلى معاودة العلاج على طريقة تختلف اختلافًا عظيمًا أو يسيرًا عن الطريقة التي ارتضاها القدماء, ثم ينتهي أخيرًا إلى نتيجة مختلفة أيضًا. وإذا كان مجال هذا الكتاب هو الفروع المختلفة لدراسة اللغة العربية الفصحى, فلا بُدَّ أن يكون المعنى هو الموضوع الأخص لهذا الكتاب؛ لأن كل دراسة لغوية -لا في الفصحى فقط, بل في كل لغة من لغات العالم- لا بُدَّ أن يكون موضوعها الأول والأخير هو المعنى وكيفية ارتباطه بأشكال التعبير المختلفة، فالارتباط بين الشكل والوظيفة هو اللغة وهو العرف وهو صلة المبنى بالمعنى. وهذا النوع من النظر إلى المشكلة يمتد من الأصوات إلى الصرف إلى النحو إلى المعجم إلى الدلالة, ويتم ذلك أحيانًا بإطراء القديم والإشادة به، وأحيانًا أخرى باستبعاده والاستبدال به, وأحيانًا بالكشف عن الجديد الذي لم يشر إليه القدماء مع وضوحه أمام أنظارهم، وأحيانًا نجمع الظواهر المتفرقة المترابطة التي لم يعن القدماء بجمعها في نظام واحد. كل أولئك هو مجال هذا البحث, ومن ثَمَّ تصبح اللغة العربية كلها مجالًا له, ويصبح على ضآلة حجمه قد جعل كل تفكير لغوي سبقه في متناول نقده، إما على صورة مباشرة أو غير مباشرة. وهذه العبارة الأخيرة ربما صلحت لأن تكون تلخيصًا لأبعاد هذا البحث من وجهة النظر السلبية، أما إيجابًا فقد كشف هذا الكتاب عن أنظمة اللغة العربية, ووضَعَها لأول مرة في مقابل مشاكل التطبيق، ففسر بهذه الطريقة بعض ما كان يعتبر من ظواهر الشذوذ في التركيب اللغوي, وربط هذه الظواهر بالواقع، وأضاف إليها غيرها مما لم يدرس من قبل، وبيّن ارتباط هذه الظواهر بالمعنى على مستوياته المختلفة. فلقد بيَّنَ هذا الكتاب كيف ينبني كل نظام من أنظمة اللغة العربية على طائفة من المقابلات, أي: أنواع التخالف, أي: القيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الخلافية, وهي قيم عدمية شكلية ووظيفية, إن صحَّ أن يقوم عليها نظام ساكن صامت لم يصح أن يقوم عليها سياق متحرك منطوق, وهذا التقابل بين النظام والسياق هو الذي سميته: مشاكل التطبيق, أي: مشاكل وضع النظام في مجال عمل وحركة مع ما يقود إليه ذلك من تعارض مطالب السكون ومطالب الحركة. ولقد جاءت حلول مشاكل التطبيق على الأنظمة جميعًا في صورة حلول صوتية، وقد سميتها جميعًا ظواهر موقعية, ووضعتها جميعًا في ذيل الأنظمة اللغوية الثلاثة لتوقف المعاني الصرفية والنحوية عليها في الأعم الأغلب. وبيَّن هذا الكتاب النظام الصرفي للغة المبني على قيم خلافية شكلية ووظيفية, ويمكن لهذا النظام كما أمكن للنظام الصوتي من قبله أن يمثَّل في صورة جدول تتشابك فيه العلاقات طولًا وعرضًا, حتى يبدو النظام كلًّا مترابطًا, وفي صورة وحدة عضوية مفردة. ومثل ذلك أمر النظام النحوي للغة كما يمكن أن يرى في موضعه من هذا الكتاب. أما المعجم فهو إن كان جزءًا من اللغة فليس نظامًا, وإنما هو قائمة من الكلمات ذات المعاني المتباينة غير المتقابلة بالضرورة. وأما المعنى الاجتماعي الدلالي فينبئ على فكرة المقام الذي يجري فيه الكلام ويتوقف فهمه عليه, ولا يستغني عن التحليل اللغوي للمقال, أي: الجملة المنطوقة أو المكتوبة. وهذا المقام تحدده التجربة الاجتماعية, وتتعدد المقامات الاجتماعية بحسب إطار الثقافة, ولكن المقامات حتى في هذا الإطار لا تسلك في نظام ثابت لأن الثقافة تتطور. والغاية التي أسعى وراءها بهذا البحث أن ألقي ضوءًا جديدًا كاشفًا على التراث اللغوي العربي كله, منبعثًا من المنهج الوصفي في دراسة اللغة. وهذا التطبيق الجديد للنظرة الوصفية في هذا الكتاب يعتبر -حتى مع التحلي بما ينبغي لي من التواضع- أجرأ محاولة شاملة لإعادة ترتيب الأفكار اللغوية تجري بعد سيبويه وعبد القاهر. أقول: أجرأ محاولة, لأنني أعرف أنها كذلك, ولا أقول أخطر محاولة؛ لأنني لا أعلم ما يترتّب عليها من آثار, ولو أن جمهور الدارسين أعطى هذا الكتاب ما يسعى إليه من إثارة الاهتمام، فإنه ينبغي لهذا الكتاب أن يبدأ عهدًا جديدًا في فهم العربية الفصحى مبناها ومعناها, وأن يساعد على حسن الانتفاع بها لهذا الجيل وما بعده من أجيال. والله أسأل أن يوفقنا جميعًا إلى سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 مقدمة : لم يكتب للدراسات اللغوية العربية أن تنمو فيما بعد القرن الخامس الهجري, فلقد كان كل جهد يبذل بعد ذلك القرن, إما في سبيل الشرح, وإما في سبيل التعليق, وإما في سبيل التحقيق والتصويب. أما العمل المبتكر والذهن المبدع فقد قضى عليهما ظهور العنصر التركي على مسرح السياسة, واستبداده بأمر الخلافة, وضيق أفقه في الفكر, وقلة حماسه للعلم, وتلك ظاهرة ظلت تتضح في العالم العربي والإسلامي يومًا بعد آخر, وتستشري باطِّراد حتى انتهت آخر الأمر بما سموه: إقفال باب الاجتهاد. وكان معنى ذلك إضفاء الشرعية على التقليد, والتماس النجاة في ظلّ أعواده اليابسة التي غرسها الشؤم في صحراء الجهل ويبابه، كيف لا ومن قلد عالمًا لقي الله سالمًا! ولم تعد البصرة والكوفة وبغداد ومكة والمدينة والقاهرة ودمشق والقيروان من عواصم الابتكار في الخلافة تنبض بالحياة كما كانت في أيامها الخوالي, حين كان العالم المتحضر في ذلك الوقت يرى في هذه العواصم قبلةً للفكر الخلاق, وكان النحاة واللغويون من بين هؤلاء العلماء أرفعهم صوتًا وأجرأهم عقلًا وآصلهم فكرًا وأثبتهم على الطريق قدمًا. ولكن الظروف التي دعت إلى نشأة الدراسات اللغوية العربية كانت العامل الرئيسي في تحديد مسار هذه الدراسات وفلسفة منهجها, فلقد نشأت دراسة اللغة العربية الفصحى علاجًا لظاهرة كان يخشى منها على اللغة وعلى القرآن, وهي التي سمَّوها "ذيوع اللحن", وعلى الرغم من أن تسمية هذه الظاهرة المذكورة لا تشير إلّا إلى الخطأ في ضبط أواخر الكلمات بعدم إعطائها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 العلامات الإعرابية الملائمة, أشعر بميل شديد إلى الزعم بأن الأخطاء اللغوية التي شاعت على ألسنة الموالي, وأصابت عدواها ألسنة بعض العرب, لم تكن مقصورة على هذا النوع من أنواع الأخطاء. فأكبر الظنّ أن هذا الذي سموه لحنًا كان يصدق على أخطاء صوتية؛ كالذي يشير إليه مغزى تسمية اللغة العربية الفصحى "لغة الضاد", ويفصله ما يروى من نوادر الموالي كأبي عطاء السندي1 وسعد الزندخاني2 وغيرهما. كما كان يصدق على الخطأ الصرفي الذي يتمثل في تحريف بنية الصيغة أو في الإلحاق أو الزيادة، وعلى الخطأ النحوي الذي كان يتعدّى مجال العلامة الإعرابية أحيانًا إلى مجالات الرتبة والمطابقة وغيرهما. وعلى الخطأ المعجمي الذي يبدو في اختيار كلمة أجنبية دون كلمة عربية لها المعنى نفسه, ويصدق على جميع هذه الأنواع من الخطأ أنها أخطاء في المبنى أولًا وأخيرًا, ولو أدت في النهاية إلى خطأ في المعنى لم يكن نتيجة خطأ في القصد. من هنا اتسمت الدراسات اللغوية العربية بسمة الاتجاه إلى المبنى أساسًا, ولم يكن قصدها إلى المعنى إلّا تبعًا لذلك وعلى استحياء، وحين قامت دراسة "علم المعاني" في مرحلة متأخرة عن ذلك في تاريخ الثقافة العربية, كانت طلائع القول في هذه الدراسة كما كانت في بداية دراسة النحو من قبلها تناولًا للمبنى المستعمل على مستوى الجملة, لكن لا على مستوى الجزء التحليلي كما في الصرف, ولا على مستوى الباب المفرد كما في النحو. ومن هنا رأينا عبد القاهر في دلائل الإعجاز يتكلم في النظم والبناء والترتيب والتعليق, وكلها أمور تتصل بالتراكيب أكثر مما تتصل بالمعاني المفردة. وسنحاول فيما يلي أن ننظر عن كثبٍ في طابع منهج النحاة, وفي طابع منهج البلاغيين, لنرى صلة كلٍّ منهما بالآخر، ثم ننظر من بعد في صلتهما بمنهج المعجميين إجمالًا, لنصل من وراء كل ذلك إلى تقويم الدراسات العربية من حيث صلاحيتها للكشف عن المعنى.   1 الأغاني جـ16 ص79, 80 -84. 2 الفهرست ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 لقد ذكرت من قبل أن الظروف التي دعت إلى نشأة الدراسات اللغوية عند العرب كانت العامل الرئيسي في تحديد مسار هذه الدراسات, ونزيد هنا "أن الغاية التي نشأ النحو العربي من أجلها, وهي ضبط اللغة وإيجاد الأداة التي تعصم اللاحنين من الخطأ، فرضت على هذا النحو أن يتَّسم في جملته بسمة النحو التعليمي لا النحو العلمي, أو بعبارة أخرى: أن يكون في عمومه نحوًا معياريًّا لا نحوًا أو صفيًا, ولعل أحسن تلخيص لموقف النحو العربي من هذه الناحية المعيارية هو قول محمد بن مالك في ألفيته: فما أبيح أفعل ودع ما لم يبح1 ولقد تعلقت الإباحة وعدمها بقواعد معيارية تفرض نفسها على الاستعمال وعلى المسموع, وكان توصل النحاة إلى هذه القواعد نتيجة نشاط استقرائي تحليلي للغة, سواء في ذلك مفرداتها وتراكيبها, ولكنهم بعد وصولهم إلى ما ارتضوه من قواعد جعلوا هذه القواعد "أحكامًا", فكانت في نظرهم أولى بالاعتبار مما خالفها من المسموع, ومن ثَمَّ أعملوا فيما خالف قواعدهم من النصوص حيل التخريج والتأويل والتعليل, فإذا لم يتأتّ لهم ذلك قالوا في المسموع: "يحفظ ولا يقاس عليه". وهذا موقف من النحاة يفترض في العربي الأول أنه كان على بصر بأقيستهم وعللهم, وقد ورد عن بعض أساطين النحاة ما يؤيد دعوى هذا الافتراض. والذي يرضاه المنهج الحديث في دراسة اللغة أن يتوافر لموضوع الدراسة الشرطان الآتيان: 1- أن يتناول لهجة واحدة من لهجات لغة ما، فلا يخلط في دراستها بينها وبين لهجة أخرى من اللغة نفسها. 2- أن يعنى في هذه الدراسة الوصفية بمرحلة زمنية واحدة من مراحل تطور هذه اللهجة. والغاية التي يسعى الشرط الأول إلى تحقيقها: ألّا يخلط في دراسة المعنى على المستوى التحليلي الوصفي بين لهجة وبين لهجة أخرى؛ لأن كل واحدة   1 منهج النحاة العرب - بحث قدمه المؤلف إلى ندوة أساتذة دار العلوم 1965. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 منهما تمثل نظامًا متكاملًا مستقلًّا من أنظمة الرمز العرفي؛ بحيث ترمز كل علامة فيه إلى معنى معين يختلف عمّا في اللهجة الأخرى لسبب بسيط جدًّا, وهو أن العرف ذاته يختلف في أيّ مجتمع عنه في المجتمع الآخر مهما ضيقنا مدلول كلمة "مجتمع", ولا شك أن الخلط بين نظامين عرفيين من أي نوع سيؤدي في النهاية إلى عدم تمييز أي من النظامين، وهل يمكن لامرئ أن يفهم تقاليد مجتمع وقد خلط بينها وبين تقاليد مجتمع آخر؟ وأما الغاية التي يسعى الشرط الثاني إلى تحقيقها: فهي الفصل بين أي طورين مختلفين من أطوار نمو لهجة واحدة بعينها في دراسة يرجى لها أن تكون وصفية لا تاريخية. فدراسة الأطوار المتعاقبة هي دراسة تاريخية, وهي تكون مطلوبة لذاتها عند إرادة دراسة تاريخ تطور اللهجة, ولقد حمدنا لأصحاب تاريخ الأدب أن يقوموا بدراسة تاريخية لنتاج لغوي ما؛ لأن العنصر التاريخي هنا مقصود لذاته. أما الدراسة الوصفية فإنها تتطلّب حالة يزعمها الباحث ثابتة؛ ليكون وصفه إياها مقبولًا من الناحية المنهجية, على الرغم من أن التطور اللغوي لا يشتمل على حالات ثابتة كتلك التي يزعمها الباحث في اللغة على المستوى الوصفي. والمعروف أن النحاة العرب درسوا لهجات عربية متعددة ليستخرجوا منها نظامًا نحويًّا موحدًا، وأنهم فوق ذلك درسوا هذه اللهجات في أطوار متعددة من نموها، فلم يفطنوا إلى ضرورة الفصل بين مرحلة ومرحلة أخرى من تطور اللغة كما فعل أصحاب تاريخ الأدب بتطور التعبير اللغوي الجميل. فلقد اعترف مؤرخو الأدب بعصر جاهلي وآخر إسلامي ثم أموي فعباسي وهلم جرّا، ولكن النحاة أخذوا شواهدهم من فترة لغوية دامت أكثر من خمسة قرون كاملة, "والذين عنهم نقلت العربية, وبهم اقتدي, وعنهم أخذ اللسان العربي من قبائل العرب؛ هم قيس وتميم وأسد, فإن هؤلاء الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه, وعليهم اتُّكِلَ في الغريب وفي الإعراب والتعريف, ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين"1.   1 الاقتراح السيوطي 19-20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ومعنى اقتصار النحاة على هذه القبائل دون غيرها, ودون سائرها, أن النحاة وضعوا لأنفسهم معيارًا خاصًّا للانتقاء، فإنه لم يؤخذ عن حضري قط, ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم"1. ولقد كان لهذا الموقف التلفيقي من قِبَل النحاة أثره في المعنى النحوي والصرفي, سواء ما كان من ذلك متصلًا بالرواية أو بالاستشهاد أو بالسماع والقياس أو بالتمرينات القياسية التي كانت تأخذ صورة تراكيب لم تسمع عن العرب, أو بموقفهم من التصويب والتخطئة2. والمعنى التحليلي الوظيفي الذي درسه النحاة وجعلوه حقل تخصصهم ذو ثلاث شعب: 1- الشعبة الأولى: دراسة الأصوات العربية, وقد فصّل النحاة القول في وصف مخارجها وصفاتها فرادى, ثم تناولوا بالدراسة ما رأوه منها داخلًا في حيز الإدغام كما فهموه, وذلك مثل إدغام المتماثلين مخرجًا, والمتقاربين مخرجًا, والمشتركين في طرف اللسان, ثم الإدغام بالصفة مثل: إدغام المجهور والمهموس معًا بأن يصيرا معًا إلى الجهر أو إلى الهمس, وبعض أمثلة القلب, وبعض الأمثلة الشاذة. 2- والشعبة الثانية: دراسة الصرف التي عنوا فيها بالأصول والزوائد, وبيان المشتق والجامد, وتحديد أشكال الصيغ, وحصر اللواحق وأماكن إلحاقها, والزيادات وأماكن زيادتها, ثم ما يلحق الصيغ من إعلال أو إبدال أو قلب أو حذف. وهذه الشعبة من دراسة اللغة وإجادة القول فيها أفردت الصرفيين العرب بمكانٍ لا يدانيه أيّ مكان آخر في عالم اللغويين قديمًا أو حديثًا, ولا يزال كشفهم عن النظام الصرفي العربي موضع الإعجاب والاحترام, وسيظل دائمًا كذلك في نظر اللغويين في مختلف أنحاء العالم.   1 المرجع نفسه. 2 ذلك كله مدروس بالتفصيل في البحث الذي سبق أن أشرت إليه تحت عنوان: "منهج النحاة العرب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 3- والشعبة الثالثة: دراسة النحو, وقد حاولوا فيها تقسيم الكلام وبيان علامات كل قسم, ثم كشفوا عن المعرب والمبني من هذه الأقسام, وشرعوا بعد ذلك في بيان الأبواب النحوية في داخل الجملة, وما يمتاز به به كل باب من علامات يعرف بها, وبينوا بعض المعاني الوظيفية التي تؤديها العناصر اللغوية؛ كالتذكير والتأنيث, والتعريف والتنكير, والإفراد والتثنية والجمع, والتكلم والحضور والغيبة, وكالصرف وعدمه, والعلامة الإعرابية, وهلم جرّا. والمعروف أن هذا الجانب التحليلي من دراسة النحو لا يمسّ معنى الجملة في عمومه, لا من الناحية الوظيفية العامة كالإثبات والنفي والشرط والتأكيد والاستفهام والتمني ... إلخ, ولا من ناحية الدلالة الاجتماعية التي تنبني على اعتبار المقام في تحديد المعنى, وإن كانت تمس ناحية من نواحي الترابط بين أجزاء الجملة بروابط مبنوية أو معنوية ذكروها فرادى ولم يعنوا بجمعها في نظام كامل كالذي فعلته في هذا البحث تحت عنوان التعليق. والذي نريد أن نخلص إليه هنا أن دراسة النحو كانت تحليلية لا تركيبة, أي: إنها كانت تعنى بمكونات التركيب, أي: بالأجزاء التحليلية فيه أكثر من عنايتها بالتركيب نفسه. أقصد أنهم لم يعطوا عناية كافية للجانب الآخر من دراسة النحو وهو الجانب الذي يشتمل على طائفة من المعاني التركيبية والمباني التي تدل عليها, فمن ذلك مثلًا: معنى الإسناد باعتباره وظيفة, ثم باعتباره علاقة, ثم تفصيل القول في تقسيمه إلى إسناد خبري وإسناد إنشائي, وتقسيم الخبري إلى مثبت ومنفي ومؤكد، وتقسيم الإنشائي إلى طلبي وغير طلبي.. إلخ, مما يتصل بتحديد التركيب المناسب لكل إسناد من حيث الأداة والرتبة والصيغة والعلاقة. وللتعليق وسائله المختلفة؛ معنوية كانت كعلاقات الإسناد ذاته, وكالتخصيص والنسبة والتبعية, أو لفظية للتعبير شكليًّا عن هذه العلاقات؛ كالعلامة الإعرابية والربط والمطابقة والصيغة والرتبة والأداة والنغمة, وذلك مع تحديد مجالات المطابقة في العلامة الإعرابية، والنوع والعدد والشخص والتعيين على نحو ما سنراه بالتفصيل عند تناول القرائن اللفظية في دراسة التعليق في موضعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 من هذا الكتاب, مع العناية الواجبة في كل ذلك بالمعالم السياقية باعتبارها ظواهر لا تبدو إلّا في التركيب. ولقد كان على النحاة من حيث المبدأ أن ينظروا إلى التحليل باعتباره طريقًا للوصول إلى التركيب, ذلك بأن المادة المدروسة تصل إلينا حين تصل في صورتها المركبة, ولكن الاعتبارات العملية لدراسة هذه المادة تفرض على هذا السياق المركّب أن ينحلّ إلى أصغر مكوناته وعناصره حتى يمكن الوصول إلى الخصائص التحليلية لهذه العناصر. والنتائج التي يوصل إليه بواسطة التحليل تحمل في طيها زعمًا اعتباطيًّا بصدقها واطرادها حتى في السياق, ولكن هذا ليس أكثر من زعم, وكان على النحاة أنفسهم أن يدركوا ذلك, وأن يعلموا أن هذا الزعم لا مبرر له إلّا الاعتبارات العملية للبحث, وأن نتائج النظر إلى السياق تفرض عناصر جديدة على المكونات التحليلية, هي حلول لما قد يكون بين النظام وبين السياق من تضارب، أو هي بعبارة أخرى معالم سياقية, أو ظواهر موقعية لا وجود لها إلّا في السياق المنطوق وبسببه. ولكن النحاة لم يفطنوا إلى طبيعة التعارض الممكن حدوثه بين النظام ومطالب السياق, أو بعبارة أخرى: التعارض بين مطالب التحليل ومطالب التركيب, فوقعوا في أخطاء منهجية, كان من أخطرها ما سنشير إليه فيما بعد عند دراسة الزمن النحوي, من أن النحاة درسوا زمن الأفعال على المستوى الصرفي وهي في عزلتها عن التراكيب, ولم يختبروا نتائج دراستهم إلّا في تركيب الجملة الخبرية البسيطة, فرأوا الماضي ماضيًا دائمًا, والمضارع حالًا أو استقبالًا دائمًا, فوضعوا بذلك قواعدهم الزمنية, ثم اصطدموا بعد ذلك بأساليب الإنشاء والافصاح, فنسبوا وظيفة الزمن إلى الأدوات وهي منه براء, وإلى الظروف وهي تفيده معجميًّا لا وظيفيًّا, وسنرى ذلك مفصلًا في مكانه من هذا الكتاب. كذلك لم يفطن النحاة إلى أهمية بقية الظواهر السياقية في تحديد المعنى النحوي على نحو ما سنرى فيما بعد. وإذا كان النحو على الصورة التي شرحتها هو تقعيد أبواب المفردات, فقد كانت الحاجة معه ماسَّة إلى دراسة أبواب الجمل, ولما ظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الاتجاه البلاغي إلى دراسة المعنى, كان من طلائع كتبه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة للعلامة عبد القاهر الجرجاني, الذي أعترف لآرائه الذكية بقدرٍ غير يسير من الفضل على الجزء الخاصّ بتناول المعنى النحوي والدلالي من هذا الكتاب, حيث جرى الانتفاع أحيانًا بعبارات هذا العلامة, وأحيانًا أخرى بإشاراته. ولقد اتجهت عناية البلاغيين بالمعنى في النهاية ثلاثة اتجاهات مطابقة لتقسيم علوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع, فأما في دراسة "المعاني" فقد كان التركيب هو موضوع الدراسة, فتناول البلاغيون أنواع التراكيب من إثباتٍ إلى نفي إلى استفهام وهلم جرّا, لا على طريقة النحاة من التركيز على الأدوات والمكونات الأخرى ونسبة المعنى إليها, وإنما على طريقة النظر في التركيب نفسه من جهة أسلوب وصفه وطرق التعبير به, وما فيه من إيجاز وإطناب ومساواة, وما فيه من فصل ووصل وقصر وتقديم وتأخير, مما اعتبره النحاة -وما أصابوا- خارج مجال اهتمامهم. والواقع أن هذه الدراسة للمعنى -وهي دراسة معانٍ وظيفية في صميمها- تبدو أكثر صلة بالنحو منها بالنقد الأدبي, الذي أريد بها خطأ أن تكونه. ومن هنا نشأت هذه الفكرة التي تتردد على الخواطر منذ زمن طويل, أن النحو العربي أحوج ما يكون إلى أن يدعي لنفسه هذا القسم من أقسام البلاغة الذي سمي علم المعاني, حتى إنه ليحسن في رأيي أن يكون علم المعاني قمّة الدراسة النحوية أو فلسفتها إن صح هذا التعبير. ولقد كانت مبادرة العلامة عبد القاهر -رحمه الله- بدراسة النظم وما يتصل به من بناء وترتيب وتعليق, من أكبر الجهود التي بذلتها الثقافة العربية قيمة في سبيل إيضاح المعنى الوظيفي في السياق أو التركيب1. ومع قطع النظر عن رأيي الشخصي في قيمة البلاغة العربية بعامّة من حيث كونها منهجًا من مناهج النقد الأدبي, وعن صلاحيتها أو عدم صلاحيتها في هذا المجال, أجدني مدفوعًا إلى المبادرة بتأكيد أن دراسة عبد القاهر للنظم وما يتصل به تقف بكبرياء كتفًا إلى كتفٍ مع أحدث النظريات اللغوية في الغرب, وتفوق معظمها في مجال فهم طرق التركيب اللغوي, هذا مع الفارق الزمني الواسع   1 دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الذي كان ينبغي أن يكون ميزة للجهود المحدثة على جهد عبد القاهر. ولكن هذا الطابع الذي اتسم به علم المعاني من بين علم البلاغة جعل هذا العلم نحوًا من النحو, وصيَّره كالنحو صناعةً مضبوطة Exact System لا منهجًا ذوقيًّا للنقد الأدبي. وأما علم البيان فأكثر صلة بالدراسة المعجمية منه بالقواعد التي تبحث في المعاني الوظيفية, فمجال علم البيان كمجال المعاجم, هو النظر في العلاقة بين الكلمة وبين مدلولها, ولقد كان البيانيون دائمًا على ذكر من الطبيعة العرفية لوضع الكلمة, ومن تخصيص كل كلمة بمعنى تدل عليه بحسب الوضع, فلا تكون أوسع منه ولا أضيق في الدلالة. وكما يختلف التحليل والتركيب في صناعة النحو على مثال ما ذكرنا من قبل يختلف معنى الوضع كذلك عن معنى الاستعمال في دراسة البيان, فالواضع يضع اللفظ لمعنى مطابق, فتكون دلالته على هذا المعنى من باب الحقيقة", ولكن اللغة -أي لغة في العالم- أضيق في مجالها الفظي التي ترد على أخيلتهم, ومنها تصبح المعاني العرفية -أي: الحقيقية- للألفاظ قاصرة عن الوفاء بمطالب التعبير اللغوي, وفي مجال الأفكار المجردة والصورة والظلال بوجه خاص. ومن هنا يصبح التعبير اللغوي بحاجة إلى جواز الحقيقة العرفية إلى استعمالٍ آخر للفظ يسمى المجاز, وإذا نظرنا إلى المعاني المتعددة للفظ الواحد في أحد المعاجم فسنجد أحدها يفهم من اللفظ بطريق الحقيقة العرفية, ونجد بقيتها مجازات عن هذه الحقيقة, فإما أن يتضح فيها الطابع المجازي في وقتنا هذا, وإما أن يكون طول استعمالها في مجازٍ ما قد أحكم الربط بينها وبين هذا المجاز, حتى ليظنه غير الخبير به استعمالًا حقيقيًّا آخر للكلمة. وطرق المجاز معروفة مشهورة, فمن شاء فليرجع إليها في علم البيان, ولكن الذي لا بُدَّ أن نشير إليه هنا هو أن العناية في علم البيان إذ تتجه إلى دراسة اللفظ في دلالته على معناه العرفي "المطابقي", أو للدلالة على "بعض معناه", أو على "لازم معناه", تجعل علم البيان قمة علم المعجم, كما كان علم المعاني قمة علم النحو. ومن هنا يصبح علم البيان في إطار الثقافة العربية هو النظرية الوحيدة التي تصلح نواة لغرس علم جديد في تربة هذه الثقافة, يسمَّى علم المعجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 Lexicology يتناول بالدراسة والتحليل والنقد والتأريخ والمقارنة تلك الطرق والمناهج التي استخدمها المعجميون العرب في جمع معاجمهم, موصيًا بأحسن الطرق التي وصلت إليها المناهج العلمية في هذا المجال في مختلف لغات العالم, ولعل لفظ "البيان" ومعناه "الشرح" يذكرنا بأن عمل المعاجم هو بيان دلالة الألفاظ واختلاف هذه الدلالة بحسب الاستعمال. وأما الفرع الثالث من فروع البلاغة وهو علم البديع, فقليل من ظواهره ما يتصل بالمعنى كالجناس والتورية ونحوهما, وإن الجناس التام ليحمل بعض عناصر الشبه بالمشترك اللفظي؛ حيث يتحد اللفظ ويختلف المعنى, على أن جمهرة الظواهر البديعية ليست أكثر من محسنات لفظية -وكذلك سماها الأولون - فلا تدخل في دراسة المعنى العرفي دخولًا مباشرًا؛ لأن معناها أي: المقصود منها هو "التحسين", وهو فني لا عرفي. وإذا علمنا أن علم المعاني يتناول المعنى الوظيفي, وأن علم البيان يتناول المعنى المعجمي, وأن علم البديع يتناول صنعة فنية لا يتحتم فيها أن تتصل بالمعنى, علمنا أن البلاغة العربية لا تتناول المعنى الاجتماعي تناولًا مقصودًا, ولكنا على الرغم من ذلك قدمت لدراسة المعنى الاجتماعي أو المعنى الدلالي كما أسميه في هذا البحث, فكرتين تعتبارن اليوم من أنبل ما وصل إليه علم اللغة الحديث في بحثه عن المعنى الاجتماعي الدلالي, وأولى هاتين الفكرتين فكرة "المقال" Speech event, والثانية فكرة "المقام" Context of situation, وأنبل من ذلك أن علماء البلاغة ربطوا بين هاتين الفكرتين بعبارتين شهيرتين أصبحتا شعارًا يهتف به كل ناظر في المعنى: العبارة الأولى "لكل مقام مقال", والعبارة الثانية "لكل كلمة مع صاحبتها مقام". فأما العبارة الأولى فتؤكد أن استخراج المعنى من المقال فحسب, لا بُدَّ أن يشتمل على إغفال معيب لأهم عنصر من عناصر المعنى وهو "المقام", أو الظرف الذي حدث فيه "المقال", وسوف يتضح لنا فيما بعد عند دراسة المعنى الدلالي خطر هذا العنصر الاجتماعي "عنصر المقام" من عناصر المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وأما العبارة الثانية فتلخص الصلة بين ظاهرة التضام Collocation في اللغة العربية وبين المعنى اللغوي الدلالي الاجتماعي, وهي ظاهرة سنقوم بدراستها كذلك عند النظر في المعنى الدلالي في هذا الكتاب. وسيتضح من هذه الدراسة أن أقسام المقامقت الاجتماعية ترتبط بتعبيراتٍ يتمّ فيها التضام بين الكلمات مختلفًا باختلاف المقام, فهاتان العباراتان مما خلَّفه البلاغيون في تراثهم الثمين تعتبران من نتائج المغامرات الفكرية في دراسة اللغة في الغرب المعاصر. وفي فرع آخر من فروع الثقافة العربية هو أصول الفقه, دراسة للمعنى على مستوى استنباط الأحكام الفقهية من النصوص, وهو أمر يثير في الذهن مقابلة فكرية بين هذا وبين استنباط الأحكام المنطقية من القضايا, مما يبرر دعوى وجود منهج فكري إسلامي مغاير للمنهج الآخر الإغريقي لاستنباط الأحكام والنتائج من النصوص. ولكن المعنى في الحالتين -حالة الأصوليين وحالة المناطقة- "حكم" أي: إنه ليس عرفيًّا ولا اجتماعيًّا, وإنما هو عقلي فني لا صلة له بالعرف العام, وإن اتصل بعرف خاصٍّ هو عرف الأصوليين أو عرف المناطقة. وكما نظر المناطقة في المطابقة والتضمن واللزوم والماجرى والماصدق والحد والمقولة والجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض, وفي المقدمة الصغرى والكبرى, وفي الكلية والجزئية, وفي السالبة والموجبة, نظر الأصوليون في مفاهيم اقتضاها منهجهم, سواء من حيث العلاقة بين الكلمة ومدلولها, أو من ناحية القواعد الأصولية العامة, أو من ناحية طريقة الحكم. فأما من حيث دلالة الكلمة فقد قسَّموها باعتبارات مختلفة هي: الوضع والاستعمال والوضوح والقصد, ولكن اختلف نظر الحنفية عن نظر الشافعية بالنسبة لدلالة القصد, كما يبدو من التخطيطين التاليين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ومثل القواعد الأصولية في استخراج الأحكام؛ مثل الترتيبات الشكلية للقضايا المنطقية, وكما يكون الحكم المنطقي بالصواب أو الخطأ يكون الحكم الأصولي بالوجوب أو الإباحة أو التحريم, فالمعنى الأصولي إذًا من قبيل المعاني العقلية لا العرفية, ومن الفنية لا الاجتماعية, ومع ذلك ينبغي لنا أن نشير هنا إلى أن الأصوليين قد أبلوا بلاء حسنًا في تحديد المعنى على طريقتهم, وأنهم أثناء تقسيمهم لدلالة الكلمة قدَّموا لنا نوعًا سلبيًّا هامًّا جدًّا من هذه الدلالة, اصطلحوا على تسميته: "مفهوم المخالفة". ولهذا المفهوم قيمة خاصة لدينا الآن عند الكلام عن "القيم الأخلاقية" التي تتكّون منها الأنظمة اللغوية على نحو ما سنرى بعد قليل, وكلاهما يذكرنا بفكرة الخلاف التي قال بها الفراء من النحاة. والذي تقدَّم يحكي قصة موقف التراث العربي والإسلامي من قضية المعنى, أما الغربيون من الناظرين في المعنى فقد تعددت هوياتهم ومشاربهم, فقد نظر في المعنى كثير من فروع الدراسات الإنسانية كالفلسفة والمنطق وعلم النفس والأنثروبولوجيا والأدب واللغة وغيرها. ولقد اختلفت النظرة إلى المعنى باختلاف هذه الفروع وبحسب اهتمام كل فرع منها بجانب خاصٍّ من جوانب المعنى, فأما الفلاسفة فيتناولون دراسة المعنى في كلامهم عن "الأبيتستيمولوجيا", وهي فرع من الفلسفة يدور حول نظرية المعرفة, وهم يدخلون إلى الكلام في مشكلة المعنى من مدخل العلاقة بين الدوالّ والمدلولات1, ويستطيع من يشاء النظر في ذلك أن يطّلع على كتاب The Meaning of Meaning الذي ألفه العالمان الإنجليزيان l A Richards CZ Menging, وقد حدّد موضوعه في عنوانه بأنه A Study of the lnfluence of Langugage Upon Thought and of the Science of Symbolism. ولقد عالجا في هذا الكتاب موضوعات فلسفية على جانب عظيم من الأهمية كما يتضح من عناوين فصوله التي نكتفي بإيرادها هنا عن استعراض الكتاب نفسه.   1 Ogden and Richards The Meaning of Meaning الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 1- Thoughts Words and Things ويدرسان به العلاقة بين الفكرة والكلمة والشيء. 2- The Power of Words ويوضحان به أهمية الكلمات واللغة وارتباطهما بالمعتقدات البدائية. 3- Sign Situations ويعالجان فيه الارتباط بين نظرية المعنى ونظرية الرمز. 4- Signs in Perception ويهتمان فيه بعلاقة الرمز بالإدراك. 5- canons of Symbolism ويعددان به قوانين الرمز, وهي الوحدة والتحديد والتوسيع والفعلية والتلاقي والفردية. 6- Definition ويحاولان به بيان حدود الرموز. 7- The Meaning of Beauty وفيه تطبيق على حد الجمال واختلاف الفلاسفة فيه وانتقاد لموقف اللغويين من المشكلة واعتذار عنهم. 8- The Meaning of Philosophers وفيه نقد لموقف الفلاسفة من المعنى. 9- The Meaning of Meaning ويأتيان فيه باستعراض لستة عشر تعريفًا للمعنى مقسَّمَة إلى أربعة أقسام رئيسية. 10- Symbol Situations وبه نظر في كنه الدلالة وتركيب الرموز وطريقة الرمز وتعدد وظائف اللغة والآثار الاجتماعية والعلمية لفهم اللغة بوضوح. وربما كان من المستَحْسَن أن ننبه هنا إلى أن طريقة الفلاسفة في علاج المعنى لا تفيد الدراسات اللغوية منها إفادة مباشرة؛ لأن الفلاسفة يهتمون بالعلاقات الذهنية على حين يهتم اللغويون بالعلاقات العرفية التي تربط بين المبني والمعنى، وإذا اهتمّ الفيلسوف بكنه العلاقة اهتمّ اللغوي بشكل العلاقة بين الرمز وبين مدلوله. ويهتم اللغيو فوق ذلك بنوع من المعاني ينسب إلى الأجزاء التحليلية يسمى المعنى الوظيفي، كم يربط بين المقام وبين المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ربطا مقصودًا, وهما أمران لا يهتم بهما الفيلسوف كثيرًا، لأن التأملات الفلسفية عودت نفسها في الغالب على الاتجاه إلى الشق المعجمي من المعنى, وهذا الشق خاص بالكلمات المفردة فقط. وأما المناطقة -وقد سبقت إشارة سريعة إليهم عند الكلام عن الأصوليين- فقد انشغلوا بالمعنى على مستوى المنطق الشكلي الأرسطي الذي لم يفصل فيه بين المنطق وبين اللغة من وجهة النظر الدراسية. فلقد خلط أرسطو أول الأمر بين هاتين الدراستين, فتكلم في اللغة كلامًا منطقيًّا, وتكلَّم في المنطق كلامًا لغويًّا، واختلط في ذهن المناطقة الشكليين النظر إلى الموضوع, والمحمول بالنظر إلى المسند إليه والمسند، وبنى المنطق قضاياه العقلية من جمل لغوية, وخلط بين القواعد النحوية والنتائج المنطقية, فسمّى كلتيهما "أحكامًا", وأصبحت قواعد النحو من ثَمَّ "أحكامًا" نحوية, فوقع الفكر في أسر اللغة كما وقعت اللغة في أسر المنطق. وكان من الخير لكلٍّ منهما أن يستقلّ بطريقة علاجه لقضاياه؛ لأن منطق اللغة ومقولاتها يختلفان تمامًا عن منطق الفكر ومقولاته, واللغة آخر الأمر نمطية صياغية لا تخضع للفكر, وإنما تخضع لمقتضيات الرمز العرفي الاعتباطي, فليس في الفكر ما يبرر تقسيم الأشياء بين التذكير والتأنيث حتى الجمادات منها, وليس فيه ما يبرر تقسيم العدد النحوي إلى "مفرد" للفرد, و"مثنى" للاثنين, ثم شمول كل عدد بعد الاثنين تحت عنوان موحد هو "الجمع". وليس في الفلك ما يسمح بدلالة "فَعَلَ" على المستقبل في نحو قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} وهلم جرّا، والمعروف أن اللغة أضيق من الفكر، وهذه دعوى تتضح عند التصدي للترجمة من لغة إلى لغة أخرى. فلا شك في أن المترجم العربي يجد صعوبة في ترجمة كلمة أجنبية مثل Standardization أو كلمة Monads أو كلمة transendental, كما لا أشك في أن المترجم الإنجليزي يجد صعوبة في ترجمة بعض الكلمات العربية مثل: "المدبر" و"المكاتب" و"الجذعة" و"الظعينة" و"الحيزبون" و"أهل الخطة". والمغزى الواضح لذلك أن كل لغة في العالم إنما تسمّي تجارب مجتمعها, وتقصر دون تسمية تجارب المجتمعات الأخرى, وبذا تضيق عن أن تشمل مجالات الفكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الإنساني في عمومه, بل لا تشمل فكر الأفراد أنفسهم؛ حيث يقف الفرد أحيانًا ولديه فكرة دقيقة يريد أن يعبر عنها فيتخلف به عدم الكلمات عن بلوغ غايته, وبهذا يظهر لنا أن الفكر أوسع من اللغة, وأن في ربط المنطق واللغة برباط واحد ظلمًا لهما جميعًا. ولقد تعددت وجهة نظر المناطقة إلى المعنى من حيث هو معنى كلمة واحدة مفردة, أو معنى قضية, أو نتيجة منطقية تؤخذ من مقدمات؛ فالمعنى في نظرهم يبدو تارةً في صورة الماجري والماصدق, وتارةً أخرى في صورة المطابقة والتضمن واللزوم, وتارةً ثالثة في صورة التعريف, ورابعة في صورة الحكم في صورة علاقات رياضية يعبر عنها برموز جبرية تقصد بها كميات أو مدلولات غير محددة, ولكنها صالحة للتحديد كرموز الجبر تمامًا. ومن هنا نرى المعنى المنطقي محدد الدلالة أحيانًا كالتعريف, أو غير محددها كالرمز الجبري, وواضح أن المعنى بالنسبة للمنطق كما كان بالنسبة للأبيستيمولوجيا معنى ذهني غير عرفي, أي: إنه حكم يحدده الفكر الفردي للفيلسوف أو المنطقي, وليس علاقة عرفية اعتباطية يحددها المجتمع كما سنرى في المعنى اللغوي. والفئة الثالثة التي نظرت في المعنى هي فئة علماء النفس, سواء في ذلك الميتافيزيقيون منهم والتجريبيون والتحليليون. والمعنى في نظر هؤلاء أيضًا غير عرفي ولا اجتماعي, ولكنه خاضع للتكوين النفسي للفرد, فيخضع تارة للغرائز, وتارة أخرى لغريزة واحدة بعينها تعتبر أهم هذه الغرائز, وقد يخضع للعقل الظاهر أو العقل الباطن, وقد يخضع للحاجات العضوية أو غير العضوية مما يحسّه الفرد, وقد يرتبط بظرف معين فيصاحبه وجودًا وعدمًا بطريقة تولدية1 آلية على مثال تجربة بافلوف. أما علماء الرمز فقد حاولوا أن يقسِّموا معنى الرمز إلى طبيعي وذهني وعرفي, فقالوا: إن المعنى الذي يدركه المرء من النغمة الموسيقية معنى ناشئ   1 أقصد بالتولد هنا: رد الفعل renction على طريقة استخدام الكلمة في مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 على طبيعة النغمة نفسها, فإذا كانت على صورةٍ ما أفهمت الحزن, وإذا كانت على صورةٍ أخرى أفهمت الفرح مثلًا، وكذلك يدل البرق والرعد على احتمال المطر والصواعق, كما تدل الخضرة على وجود الماء. أما المعنى الذي يفهم من الأثر الذي يدل على سالك الطريق, وكذلك دلالة آثار المجرم على شخصه, فهي معنى ذهني, وأما دلالة الكلمة بالوضع على ما تستعمل له فدلالة عرفية. والأدباء والنقاد يهتمون بالمعنى الفني الجمالي لا بالمعنى العرفي, بل إن بعض أصحاب المذاهب الأدبية جاهروا بعدائهم للمعنى العرفي في الأدب, ونادوا بالعدول عنه إلى معنى آخر فني جمالي طبيعي يتصل أشد الاتصال بمعنى النغمة الموسيقية الذي تكلمنا عنه منذ قليل, هؤلاء هم الرمزيون، وهم بهذا يدخلون في تقويم المعنى بمقاييس مما وراء منهج اللغة, بل مما وراء المنهج السائد في النقد. وللدراسات اللغوية الحديثة اهتمام خاص بدراسة المعنى, يقويه ويدعمه أن المعنى في نظر الدراسات صدًى من أصداء الاعتراف باللغة كظاهرة اجتماعية, ونتيجة لتشابك العوامل المختلفة في إطار سياق الثقافة الشعبية من عاداتٍ وتقاليد وفلكلور وأغانٍ ومناهج عمل وطرق معيشة وهلم جرّا. فاللغة أداة اجتماعية يوجدها المجتمع للرمز إلى عناصر معيشته وطرق سلوكه, ولذا يحدد طرق هذه اللغة واستعمالاتها, ويضعها موضع الظاهرة الاجتماعية, فيصدق عليها ما يصدق على كل ظاهرة اجتماعية أخرى من الخضوع لظروف التعارف وللتصويب والتخطئة بحسب هذا التعارف. ولقد كانت العناية بهذا الجانب الاجتماعي للغة سببًا في اعتبار "المقال" عنصرًا واحدًا من عناصر الدلالة لا يكشف إلّا عن جزء من المعنى الدلالي, وينقصه أن يستعين بالمقام الاجتماعي الذي ورد فيه المقال حتى يصبح المعنى مفهومًا في إطار الثقافة الاجتماعية, أو بعبارة أخرى: ثقافة المجتمع. ومن هنا أيضًا دعت الحاجة المنهجية إلى تشقيق المعنى إلى ثلاثة معانٍ فرعية, أحدها: المعنى الوظيفي, وهو وظيفة الجزيء التحليلي في النظام أو في السياق على حد سواء. والثاني: المعنى المعجمي للكلمة, وكلاهما متعدد ومحتمل خارج السياق, وواحد فقط في السياق, والثالث: المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الاجتماعي أو معنى المقام, وهو أشمل من سابقيه, ويتصل بهما على طريق المكامنة1؛ لأنه يشملهما ليكون بهما وبالمقام معبرًا عن معنى السياق في إطار الحياة الاجتماعية على نحو ما سنرى بعد قليل. وهذا التشقيق هو ما أسهمت به الدراسات اللغوية الحديثة في محاولة الكشف عن المعنى اللغوي, وسنحاول في هذا الكتاب أن نطبقه على اللغة العربية الفصحى, مع تسليط أضواء المنهج الحديث على النتائج الباهرة المشرّفة التي توصل إليها علماؤنا الأقدمون في حقل الكشف عن المعنى, والتي وصلتنا في كنوز التراث العربي, ومع محاولة الإفادة من الأفكار والمصطلحات الصالحة للاستعمال في الحاضر من هذا التراث لنرصّع بها هذه الدراسة للمعنى, معترفين طول الوقت بالفضل لأعظم رجلين من رجال الدراسات اللغوية في الثقافة العربية, وهما سيبويه وعبد القاهر, ويبدو فضل أولهما في حقل التحليل, كما يبدو فضل ثانيهما في حقل التركيب. وآمل أن يرى القارئ من خلال هذا البحث الخصائص التركيبية المختلفة للغة العربية, مما يتضح منه علاقاتها الداخلية, وعبقريتها في الصياغة, وأسرار جمالها وكفاءتها, وهي التي نبهت أذهان الكثيرين من الدراسين قديمًا وحديثًا, فحاول كلٌّ منهم من جانبه أن يستعرض هذه النواحي تحت عنوانات مختلفة منها "الخصائص" و"أسرار العربية" و"أسرار اللغة" و"عبقرية اللغة العربية" و"فلسفة اللغة العربية", وذلك إلى جانب ما اشتملت عليه فصول كتب فقه اللغة من دراسات في هذا الحقل تحت عنوانات مختلفة, فأثمر بعض هذه المحاولات رطبًا جنيًّا, وأثمر بعضها الآخر حصر ما, ولكن ما أثمر وما لم يثمر كانا جميعًا صدًى لإدراك شخصي من قِبَل المؤلفين لوجود خصائص تركيبية دقيقة للغة العربية. وهذه الخصائص مبانٍ للمعاني, والمعاني غايات لها. ومن أمثلة صور احتباك تركيب السياق في اللغة العربية وكفاءة طرقها التركيبية ما يبدو في الجهاز الصرفي وفي التعليق النحوي, وفي حقل الظواهر الموقعية السياقية؛ لأن كل هذه الظواهر مناط للمعاني الوظيفية كما يتضح في الفصول التالية من هذا الكتاب.   1 انظر شرح المقصود بمعنى اصطلاح "المكامنة، مقالات الإسلاميين للأشعري, جـ2, ص23-24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الكلام واللغة : في كتابي "مناهج البحث في اللغة" كلام مطول عن الفرق بين الكلام واللغة يستغرق ما يقرب من ثلاثين صفحة كاملة, وفي كتابي "اللغة بين المعيارية والوصفية" اشتملت مقدمة الكتاب على عبارات تفرِّق بين طابع عمل المتكلم وبين طابع عمل اللغوي يمكن أن نوردها فيما يلي: "اللغة إذًا بالنسبة للمتكلم معايير تراعى, وبالنسبة للباحث ظواهر تلاحظ, وهي بالنسبة للمتكلم ميدان حركة, وبالنسبة للباحث موضوع دراسة, وهي بالنسبة للمتكلم وسيلة حياة في المجتمع, وبالنسبة للباحث وسيلة كشف عن المجتمع. المتكلم يشغل نفسه بواسطتها, والباحث يشغل نفسه بها, ويحسن المتكلم إذا أحسن القياس على معاييرها, ويحسن الباحث إذا أحسن وصف نماذجها. اختلاف الأساليب في استخدامها اختلاف في الجمال والفن والتطبيق, واختلاف الطرق في بحثها اختلاف في الدقة والتناول والبحث, والنص على لسان الأديب موضوع للتذوق, ولكنه في يد الباحث موضوع للدارسة, وأخيرًا اللغة في خدمة المجتمع والمنهج في خدمة اللغة". ولست أجد لديّ الآن ما أعار به هذا الذي قلته في سنتي 1955 و1958, ولكن الأغراض العملية لهذا الكتاب تتطلب مني أن أخوض في موضوع التفريق بين الكلام وبين اللغة من زاوية جديدة عير الزاوية المنهجية البحتة, تلك هي زاوية طبيعة كلٍّ منهما وتكوينه. فالكلام عمل واللغة حدود هذا العمل, والكلام سلوك واللغة معايير هذا السلوك, والكلام نشاط واللغة قواعد هذا النشاط, والكلام حركة واللغة نظام هذه الحركة, والكلام يحس بالسمع نطقًا والبصر كتابة واللغة تفهم بالتأمل في الكلام. فالذي نقوله أو نكتبه كلام، والذي نقول بحسبه ونكتب بحسبه هو اللغة, فالكلام هو المنطوق وهو المكتوب, واللغة هي الموصوفة في كتب القواعد وفقه اللغة والمعجم ونحوها. والكلام قد يحدث أن يكون عملًا فرديًّا, ولكن اللغة لا تكون إلا اجتماعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وإذا كان الكلام لا يدرس منفصلًا عن اللغة إلّا عند اعتباره عملًا صوتيًّا بحتًا مقطوع الصلة بالمعنى, كما يحدث عند فحص المرضى بالحصر والعيوب النطقية والنفسية الأخرى, واختبار أصوات المغنين والمذيعين وقبولهما في الإذاعة، فإن الدراسة اللغوية للكلام تجعله -حتى على هذا المستوى الصوتي- على صلة باللغة, ولا بُدَّ أن يكون كذلك من حيث قصد به أن يدل على معنى, ودراسة أصوات الكلام "المفيد الدال على معنى" إذا اقتصرت على ملاحظة المخارج والصفات وتسجيلها فحسب, فهي مقدمة لدراسة اللغة, ولكنها ليست من صلب دراسة اللغة, أو بعبارة أخرى: هي دراسة للكلام وليست دراسة للغة, ذلك بأن هذه الملاحظات والتسجيلات لا تتصل باللغة إلّا حين يتمّ تنظيمها والربط بينها في نظام صوتي كاملٍ تعرف فيه علاقات المخارج وعلاقات الصفات إيجابًا وسلبًا, وتعرف فيه الظواهر الموقعية التي يتطلبها ورود هذه الأصوات المدروسة في السياق. ونريد الآن أن نشرح ما تردد من قبل من أن اللغة منظّمة من مجموعة من الأنظمة؛ منها: النظام الصوتي, والنظام الصرفي, والنظام النحوي, فما المقصود بالنظام هنا؟ المعروف أن الجسم الإنساني جهاز حيوي واحد ذو وظيفة معينة, ربما صحَّ أن نسميها "تحقيق الوجود البيولوجي" للإنسان, ولكن هذا الجهاز الحيوي مركَّب من أجهزة فرعية كالجهاز الهضمي والعصبي والإفرازي والدوري والتنفسي وغير ذلك. وهذه الأجهزة جميعًا تقوم بوظائف يمكن فهم كلٍّ منها على حدة إذا نظرنا إلى الجهاز الذي يؤديها مستقلًّا عن بقية الأجهزة, ولكن هذه الأجهزة لا يستقلّ أحدها عن بقيتها من الناحية العملية؛ إذ يجري بينها نوع من تنسيق الوظائف والتكافل في نطاق الجهاز الحيوي الأكبر ولصالحه. وكما أنّ جسم الإنسان جهاز أكبر مكون من أجهزة فرعية نجد اللغة جهازًا أكبر مكونًا من أجهزة فرعية, والخلاف الوحيد بين هذا الجهاز الأكبر وذاك أن الجسم جهاز حيوي وأن اللغة جهاز رمزي عرفي. وكما أنّ المرء يستطيع فهم الأجهزة الفرعية في الجسم مستقلًّا بعضها عن بعض في الذهن لا في الحقيقة, يمكن أن يفهم المرء الأجهزة الفرعية في اللغة فرادى، مع أنَّ وظائفها لا تتحقق عمليًّا إلّا والأجهزة متناسقة متكاملة متكافلة في إطار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 اللغة، فلا يقوم جهاز منها مستقلًّا عن بقيتها إلّا في مقام الوصف والتحليل. وكما أن وظيفة الجسم الإنساني هي تحقيق الوجود البيولوجي للفرد, نجد وظيفة اللغة تحقيق الوجود الاجتماعي للفرد نفسه. فاللغة إذن منظمة عرفية للرمز إلى نشاط المجتمع, وهذه المنظمة تشتمل على عدد من الأنظمة -وقد سميناها من قبل بالأجهزة- يتألف كل واحد منها من مجموعة من "المعاني" تقف بازائها مجموعة من الوحدات التنظيمية أو "المباني" المعبرة عن هذه المعاني، ثم من طائفة من "العلاقات" التي تربط ربطًا إيجابيًّا، والفروق "القيم الخلافية" التي تربط سلبيًّا -بإيجاد المقابلات ذات الفائدة- بين أفراد كل من مجموعة المعاني أو مجموعة المباني, وكما أن "المعاني" الصرفية غير المعاني النحوية على نحو ما سنرى بعد قليل, نجد "المباني" تتنوع بين فرعٍ وآخر من فروع الدراسات اللغوية. فالمباني المأخوذة من النظام الصوتي حروف phonemes, وهي في النظام الصرفي وحدات صرفية morphemes, ويعتمد النحو في التعبير عن معانيه وعلاقاته السياقية على هذين النوعين من المباني كالحركات والحروف والزوائد واللواصق والصيع. وأما "العلاقات" الرابطة، و"القيم الخلافية" المفرقة فهي عناصر هامة جدًّا في نظام اللغة بعامة, على أن "القيم الخلافية" وهي المقابلات, أو نواحي الخلاف بين المعنى والمعنى, أو بين المبنى والمبنى, أهم بكثير جدًّا من العلاقات الرابطة؛ لأنها أقدر من تلك العلاقات على تحقيق أمن اللبس, وهو الغاية القصوى للاستعمال اللغوي، فإنه ليمكن الزعم أن كل نظام لغوي ينبني أساسًا على مجموعة من القيم الخلافية التي يدونها لا يكون اللبس مأمونًا ولا الكلام مفهومًا. وقد كان ابن مالك محقًّا حين لخَّص هذه القضية في شطرة واحدة من ألفيته تقول: "وإن بشكل خيف لبس يجتنب". فالجهاز الصوتي أو النظام الصوتي للغة يدرسه علم "الصوتيات" phonology مستخدمًا في دراسته العناصر الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 1- معطيات علم الأصوات phonetics، وقد ذكرنا من قبل أن معطيات علم الأصوات هي أوصاف للحركات العضوية التي يقوم به الجهاز النطقي أثناء النطق, وكذلك الآثار السمعية المصاحبة لهذه الحركات, ويقوم هذا الوصف على الملاحظة الذاتية أو الخارجية من قِبَل الباحث, وقد تدعَّم هذه الملاحظة بوسائل آلية في معمل الأصوات اللغوية مثل: الحنك الصناعي والكيموكرافيا والاسيكتروجراف والأوسيلوجراف وصور الأشعة الثابتة أو المتحركة وهلم جرّا. ويستعين الباحث على تسجيل مادته تسجيلًا مسموعًا بالأشرطة والأسطوانات, وعلى تسجيلها تسجيلًا منظورًا بواسطة الكتابة الصوتية العالمية lntirnational phonetic Alphabet, وتوصف الحركات العضوية دائمًا منسوبة إلى الجهاز النطقي, كما توصف الآثار السمعية دائمًا منسوبة إلى الأذن. وهكذا يكون المتكلم والسامع هما طرفي حركة النشاط الموصوف، كما يكون النشاط الموصوف هو "الكلام", وهذا الكلام لا يتمّ إلّا وهو مشروط عرفيًّا بمجموعة من الشروط تسمَّى "اللغة". 2- طائفة من العلاقات العضوية الإيجابية, وطائفة أخرى من المقابلات "القيم الخلافية" للتفريق بين أي صوت وصوت آخر ولو من جهة واحدة على الأقل, وقد تكون من أكثر من جهة، وذلك "كالعلاقة" بين الباء والميم إذ تشتركان بالعلاقة العضوية في المخرج الشفوي والجهر, وتفارق إحداهما الأخرى بالقيمة الخلافية إذ تكون بينهما "مقابلة" من حيث الأنفية وعدمها, والشدة وعدمها. وقديمًا أدرك الكوفيون قيمة "المقابلة" في إيضاح المعنى, فسموها: "الخالف", كما أشرنا من قبل إلى اعتداد الأصوليين بما سموه: "مفهوم المخالفة". فمعطيات علم الأصوات والعلاقات والقيم الخلافية هي العناصر التي يتكوّن منها النظام الصوتي للغة, ويقوم علم الصوتيات على هذه الأسس بواسطة استخدام هذه العناصر بالكشف عن هذا النظام الصوتي. وأما النظام الصرفي للغة فهو مكوّن من ثلاثة دعائم هامة: 1- مجموعة من "المعاني" الصرفية التي يرجع بعضها إلى "التقسيم", الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 كالاسمية والفعلية والحرفية، ويرجع بعضها الآخر إلى "التصريف" كالإفراد وفروعه, والتكلم وفروعه, وكالتذكير والتأنيث, والتعريف والتنكير، ويرجع بعضها الثالث إلى مقولات الصياغة الصرفية كالطلب والصيرورة والمطاوعة والألوان والأدواء والحركة والاضطراب, أو إلى العلاقات النحوية كالتعدية والتأكيد, وهلم جرا. 2- طائفة من "المباني" morphemes تتمثل في الصيغ الصرفية, وفي اللواصق والزوائد والأدوات, فتدل هذه المباني على تلك المعاني أحيانًا بوجودها إيجابًا, وأحيانًا بعدمها سلبًا, وهو ما يسمونه zero morpheme, ويسميه النحاة "الدلالة العدمية", وهي نفسها دلالة الحذف والاستتار والتقدير والمحل الإعرابي عندهم. 3- طائفة من العلاقات العضوية الإيجابية, وأخرى من المقابلات أو القيم الخلافية بين المعنى والمعنى, وبين المبنى والمبنى, كالعلاقة الإيجابية بين "ضرب" و"شهم" من حيث تشابها في الصيغة، فهي "فَعْل" فيهما, وكالمقابلة التي تتمثل في القيمة الخلافية بين أحدهما والآخر من جهة المعنى, فأولهما "مصدر" وثانيها "صفة مشبهة". وتفرق اللغة بين الكلمة وصاحبتها بمثل هذه المقابلات كاعتبار التجرد في مقابل الزيادة, والصيغة في مقابل الصيغة الأخرى, والتكلم في مقابل الخطاب والغيبة, والاسمية في مقابل الفعلية, والتذكير في مقابل التأنيث, وكالمذكر في مقابل المؤنث, والمتكلم في مقابل المخاطب والغائب، والاسم في مقابل الفعل، فالمقابلة كما تكون بين المعنى والمعنى كالتذكير والتأنيث مثلًا, تكون بين المبنى والمبنى كالمذكر والمؤنث. وهذه المقابلات هي عصب النظام الصرفي, فلا يتصوّر نظام بدونها. وأما النظام النحوي للغة فيتكون مما يأتي: 1- طائفة من المعاني النحوية العامة كالخبر والإنشاء, والإثبات والنفي والتأكيد, وكالطلب وفيه الأمر والنهي والاستفهام والدعاء والتمني والترجي والعرض والتحضيض, وكالشرط والقسم والتعجب والمدح والذم.. إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 2- مجموعة من المعاني النحوية الخاصة, أو معاني الأبواب المفردة كالفاعلية والمفعولية والحالية إلخ. 3- مجموعة من العلاقات التي تربط بين المعاني الخاصة, وتكون قرائن معنوية عليها, حتى تكون صالحة عند تركيبها لبيان المراد منها, وذلك كعلاقة الإسناد والتخصيص والنسبة والتبعية. 4- والعنصر الرابع من عناصر النظام النحوي هو ما يقدمه علما الصرف والصوتيات لعلم النحو من المباني الصالحة للتعبير عن معاني الأبواب, وتلك الصالحة للتعبير عن العلاقات، فليس للنحو من المباني إلّا ما يقدمه له الصرف, ومن هنا ندرك مدى الترابط بين العلمين, حتى ليصبح التفريق بينهما صناعيًّا لا يبرره إلّا الرغبة في التحليل. 5- وأخيرًا تأتي القيم الخلافية أو المقابلات بين أحد أفراد كل عنصر مما سبق وبين بقية أفراده؛ كأن نرى الخبر في مقابل الإنشاء, أو الشرط الإمكاني في مقابل الشرط الامتناعي، أو المدح في مقابل الذم, أو المتقدم رتبة في مقابل المتأخر, أو الاسم المرفوع في مقابل الاسم المنصوب, أو المتعدي في مقابل اللازم وهلمّ جرا. وهكذا يمكننا التفريق بين المفعول لأجله وبين المضاف إليه مثلًا بما يعبران عنه من علاقة, فأولهما للسبية وثانيهما للنسبة "الإضافة", ثم نفرق بينهما من حيث الصيغة الصرفية؛ إذ يلزم في أولهما أن يكون مصدرًا ولا يلزم ذلك في الثاني, ثم من حيث الحركة الإعرابية؛ فالأول منصوب والثاني مجرور, ولا يغرنَّك أن كليهما على معنى اللام؛ لأن لام الأول للسبية ولام الثاني للملكية أو عموم الملابسة. هذه المقابلات "القيم الخلافية" ضرورية لفهم المعنى "وأمن اللبس", ولا يمكن أن نتصور أداء اللغة لوظيفتها بدونها, وهي أهم بكثير من العلاقات الرابطة؛ لأن هذه العلاقات تعبر عن تشابه, و"خوف اللبس" يأتي عند التشابه. هذه هي الأنظمة الثلاثة التي تشتمل عليها اللغة باعتبارها منظمة كبرى مكونة من أنظمة, ومما تقدَّم نستطيع أن ندرك إلى أيِّ حد يعتمد النحو على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الصرف من جهة, وعلى الأصوات من جهة أخرى, وإلى أي حد يعتمد الصرف على الأصوات, ثم إلى أي حد تترابط هذه الأنظمة في مسرح الاستعمال اللغوي, فلا يمكن الفصل بينها إلّا صناعة, ولأغراض التحليل فقط. لقد أشرنا في ثنايا الكلام إلى المبنى الصرفي ومدى أهميته في فهم المعاني الصرفية والمعاني النحوية على السواء, بل للمعاني المعجمية أيضًا, ونودّ أن نوضِّح هنا مكان المبني في مجال خطة الكشف عن المعنى. ونبدأ ذلك بتأكيد وضعية ثلاثية في الاصطلاح لا بُدَّ من الإحاطة بها, وهي تبدو على النحو التالي: والملاحظ هنا أن المباني تجريدات لا منطوقات ولا مكتوبات, أي: إنها أقسام شكلية ينطوي تحت كل منها ما لا حصر له من العلامات المنطوقة في استعمال المتكلمين, والمخطوطة في استعمال الكاتبين, وهذه الأقسام جزء من اللغة شأنها شأن المعاني ذاتها, على حين نجد العلامات جزءًا من الكلام بشقيه المنطوق والمكتوب. وفائدة اعتبار المبني في أنظمة اللغة وفي تحليلها في ضوء هذه الأنظمة, أن اللغة لا يمكن أن تكون نظامًا من المعاني التي لا مباني لها؛ لأن المباني رموز المعاني, ولا غنى عن الرمز في نظام كاللغة هو في أساسه نظام "رمزي". ولولا المباني وهي تجريدات وتقسيمات شكلية تندرج تحتها العلامات المنطوقة أو المكتوبة, ما كان من الممكن للباحث أن يعبر عن حقائق البحث اللغوي مستقلة عن الاستعمال الفعلي للكلام، ولأصبح الباحث في عجزه عن التبويب والتقسيم في تيهٍ لا ينتهي مداه من مفردات الاستعمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 والمعاني التي في هذه الأنظمة الثلاثة "الصوتي والصرفي والنحوي" هي في حقيقتها وظائف تؤديها المباني التي تشتمل عليها وتنبني منها هذه الأنظمة. وقد رأينا من قبل كيف كان الوقف وظيفة السكون ونحوه, وكيف كان التخلص وظيفة الكسر, وكيف كانت الفاعلية وظيفة الاسم المرفوع, وكيف كانت المطاوعة وظيفة الانفعال. من هنا يكون "المعنى" وظيفة "المبنى", ويكون "المبنى" عنوانًا تندرج تحته "العلامة". ومن ثَمَّ أطلق الباحثون على هذا المعنى الذي تكشف عنه المباني التحليلية للغة اسم "المعنى الوظيفي" functional meaning, واضعين إياه بازاء المعنى المعجمي Lexical meaning أو المعنى المقامي Contextual meaning, أي: المعنى الذي لا يكتفي بتحليل تركيب المقال ولا بمعنى كلماته المفردة, وإنما يراه فوق ذلك في ضوء المقام Context of situation. وليس المعجم نظامًا من أنظمة اللغة, فهو لا يشتمل على شبكة من العلاقات العضوية والقيم الخلافية, ولا يمكن لمحتوياته أن تقع في جدول يمثل احتباك هذه العلاقات على نحو ما سنرى في أنظمة الأصوات والصرف والنحو. فالمعجم بحكم طابعه, والغاية منه ليس إلّا قائمة من الكلمات التي تسمَّى تجارب المجتمع أو تصفها أو تشير إليها. ومن شأن هذه الكلمات أن تحمل كل واحدة إلى جانب دلالتها بالأصالة والوضع "الحقيقة" على تجربة من تجارب المجتمع, أن تدل بواسطة التحويل "المجاز" على عدد آخر من التجارب, فإذا وضعنا كلمة "المعاني" بدل "التجارب" صحّ لنا أن نقول: إن الكلمة المفردة "وهي موضوع المعجم" يمكن أن تدل على أكثر من معنى وهي مفردة, ولكنها إذا وضعت في "مقال" يفهم في ضوء "مقام" انتفى هذا التعدد عن معناها, ولم يعد لها في السياق إلّا معنى واحد؛ لأن الكلام وهو مجلى السياق لا بُدَّ أن يحمل من القرائن المقالية "اللفظية" والمقامية "الحالية" ما يعيِّن معنًى واحدًا لكل كلمة. فالمعنى بدون المقام "سواء أكان وظيفيًّا أم معجميًّا" متعدد ومحتمل؛ لأن المقام هو كبرى القرائن، ولا يتعيّن المعنى إلّا بالقرينة, ولقد سبق أن أشرت إلى أن علم البيان "وهو علم دلالات المفردات" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 يمكن أن يمثل الجانب النظري من "علم المعجم", فيبين كيف تخرج الكلمة عن معناها الحقيقي الوضعي إلى معانٍ أخرى مجازية, ويستمد مادته من تاريخ الاستعمال في اللغة العربية, بل يحسن في هذا الجانب النظري للمعجم أيضًا دراسة أصل الدلالة الحقيقية نفسها بواسطة النظر في طرق العرف والوضع بالارتجال والاقتراض والتعريب ونحوها, مع العناية بوجهة النظر التاريخية التي تبحث في أصول الكلمات المستعملة فعلًا من ناحية البنية, وفي تطور دلالتها على مر العصور. ذلك هو الجانب النظري للمعجم, وهو موزع بين علم البيان وعلم الصرف وعلم المتن وبحوث فقه اللغة وتاريخ الأدب, ولكنه قد آن له الأوان أن يتوحد في علم واحد يسمَّى "علم المعجم", ويتخذ موضوعًا أساسيًّا له طرق المعاجم ومادتها, والمعنى المعجمي -ذلك المتعدد المحتمل. المعجم إذًا جزء من اللغة, ولكنه ليس نظامًا من أنظمة اللغة. هو من اللغة لأنه سجّل لكلماتها ولمعاني هذه الكلمات, وهذه الكلمات ساكنة صامتة بالفعل ولكنها صالحة بالقوة لأن تصير ألفاظًا مسموعة, أو خطوطًا مكتوبة مقروءة في سياق كلام, فالمعجم إذن معين صامت ساكن هادي مستعمل بالقوة لا بالفعل, شأنه في ذلك شأن اللغة كلها؛ حيث عبر عنها أحد العلماء بقوله: إنها1 Silent reservoire وهذا المعين الاستاتيكي إذا وضع في حالة استعمال وحركة وديناميكية أصبحت النتيجة كلامًا لا لغة. فكلمة "رجل" مثلًا موجودة مختزنة في تجربة الجماعة صامتة صالحة لأن يستعملها الفرد عند الإرادة, فإذا لم يستعملها ظلت صامتة ساكنة هادئة, وهي في هذه الحالة جزء من اللغة لا من الكلام, فإذا نطقها الفرد أو كتبها أخرجها من مجال القوة إلى مجال الفعل, وجعلها جزءًا من الكلام الذي هو نشاط وسلوك. واللغة العربية بهذا مكونة من ثلاثة أنظمة, وقائمة من الكلمات التي لا تنتظم في جهاز واحد, وهذه الأنظمة والقائمة تكون معينًا صامتًا, فإذا أردنا أن نتكلم أو أن نكتب نظرنا في هذا المعين الصامت فوضعنا محتوياته في حالة عمل وحركة, فأخذنا منه الكلمات ورصفناها على شروط الأنظمة, أي: بحسب قواعد   1 انظر كتاب ديسوسور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 اللغة, وخرجنا من دائرة الصمت اللغوي إلى دائرة النطق الكلامي, أي: من حيز السكون إلى حيز الحركة, ومن حيز الإمكان إلى حيز التطبيق. وحاصل جمع "المعنى الوظيفي" التحليلي, و"المعنى المعجمي" الذي للكلمات, لا يساوي أكثر من "معنى المقال" أو "المعنى اللفظي" للسياق, أو معنى ظاهر النص كما يقول الأصوليون, ولا يزال السياق حتى بعد الوصول إلى هذا المعنى اللفظي بحاجة إلى "معنى المقام" أي: المعنى الاجتماعي الذي يضم القرائن الحالية إلى ما في السياق من قرائن مقالية, وبهذا يتمّ الوصول إلى "المعنى الدلالي". وسنرى فيما بعد أن "المقام" هو حصيلة الظروف الواردة relevant طبيعية كانت أو اجتماعية أو غير ذلك, في الوقت الذي تَمَّ فيه أداء المقال speech event, أما الظروف غير الواردة irrelevant فلا ضرورة لإرباك خطة تحليل المعنى بذكرها وشرحها, وما دام المعنى على إطلاقه مركبًا على هذا النحو الذي يبدو من تشقيقه, فإنَّ أيّ شق من المعنى لا يكفي بمفرده للإفادة والفهم, فلا يكفي مجرد فهم النظام الصوتي للغة ما لأن نفهم مقالّا بهذه اللغة, بل لا يكفي لذلك حتى فهمنا للنظام الصرفي أو النحوي للغة المذكورة، بل لا يكفي أيضًا أن نفهم المعنى المعجمي لحشدٍ كبير من كلمات هذه اللغة أيضًا لأن نفهم المعنى فهمًا كاملًا ما دام "المقام" غير مفهوم. ويقع في تجاربنا أحيانًا أن نرى اثنين يعمدان إلى التخصص في لغة أجنبية, فيتخصص أحدهما في اللغة ذاتها, ويتخصص الثاني في أدبها, فأما الذي تخصّص في اللغة فقد طلب موضوعًا يخضع للتقعيد, ومن ثَمَّ للفهم السريع وللتحصيل السريع أيضًا, فينجح في مهمته بيسر نسبي, وأما الذي تخصَّص في الأدب فسيجد نفسه وجهًا لوجهٍِ مع التحدي الهائل الذي يفرضه فهم المقامات المختلفة التي تقع في إطار ثقافة أجنبية عنه بما تشتمل عليه هذه المقامات من علاقات اجتماعية وعقلية وذوقية وعاطفية دقيقة متشعبة لا يفهمها وينفعل بها إلّا أبناء البيئة ذاتها, ولا يمكن الحصول على بعضها من مجرد قراءة تاريخ هذا المجتمع ولا أدبه، ذلك بأن إطار الثقافة الاجتماعية لكلِّ أمة يفرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 من تلك العلاقات والارتباطات بالمواقف وبالموضوعات ما لا يفهمه تمامًا إلّا الناشئون في المجتمع ذاته والثقافة ذاتها, ولو أن المتخصص الأجنبي تمكّن من تحصيل فهم الارتباطات العقلية أو حتى الاجتماعية بالموضوعات والمواقف, فكيف يتسنَّى له مهما حاول أن يفهم الارتباطات الذوقية والعاطفية في المجتمع. وهل يجد غير المسلم وغير العربي في نفسه ما يجده العربي المسلم من فهمٍ وانفعالٍ وارتباطٍ بالقرآن أو الحديث عند قراءتهما مثلًا, فلا شكَّ أن المعنى دون ملاحظة هذه الارتباطات التي يتضح بها المقام ناقص كل النقص. وهذه المقامات الاجتماعية هي نسيج الثقافة بمعناها الأنثربولوجي الأعمِّ لا بمعناها التربوي الأخص, أي: إنها هي نسيج العادات والتقاليد والأعمال اليومية والفولكلور الشعبي والذاكرة الشعبية, ثم الإحساسات والعواطف الشعبية, ومن ثَمَّ لا تخضع هذه المقامات للتقعيد والضبط كما يخضع تقعيد الأنظمة اللغوية, ولكن الباحث مع ذلك يستطيع أن يصل إلى أنواع منها, وأن يرصد ما يستعمل من "مقال" في كل "مقام" بحسب العادة دون أن يدعى لارتباط هذا المقال بما نسب إليه من مقام أي نوع من أنواع الحتمية؛ لأن المقامات والمقالات جميعًا من عمل الإنسان, والإنسان أكثر شيء استعصاء على الضبط والتقعيد, ويكفي للدلالة على ذلك ما ورد في الأثر من قوله: "اتق شر من أحسنت إليه", فلو خضع الإنسان لقاعدة لتوقع المحسن ممن أحسن إليه الخير, ولم يتق منه الشر. بقي أن نشير إلى أن النظر في المعنى الدلالي نظر في معنى الكلام "لفظًا أو كتابة" بواسطة علمي اللغة والاجتماع, ذلك بأن المعنى الذي ننظر فيه هنا معنى مقالٍ جرى استعماله فعلًا في مقام ما, بالنطق أو بالكتابة, والاستعمال هو الأداء, وهو الكلام بنوعية السمعي النطقي والبصري الكتابي. هذا هو تشقيق المعنى, وقد رأينا أنه ينبني على تشقيق اللغة نفسها, وعلى النظر إلى كل شقٍّ منها باعتباره فرعًا من فروع البحث في المعنى, مما يؤدي في النهاية إلى أن تكون اللغة في عمومها نظامًا عرفيًّا يشرح العلاقة الاعتباطية بين الرمز وبين المعنى من حيث عرفيتها واطرادها. أما تحليل المعنى على المستويات المختلفة فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 يشغل كل ما يتلو ذلك من صفحات هذا الكتاب, فسننظر أولًا في الطبيعة العملية للدراسة الصوتية, وفي الصلة بين علم الأصوات وبين الدراسات اللغوية, مقدِّمين بذلك لدراسة الفروع التي تتناول المعنى على مستوياته المختلفة؛ كالصوتيات والصرف والنحو, وهي الفروع التي تدرس المعنى الوظيفي, موضحين بعد ذلك طبيعة المعنى المعجمي, ثم معنى المقام, واصلين من كل ذلك إلى المعنى الدلالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الأصوات : سبق أن فرَّقنا في الفهم بين الكلام واللغة, وبينَّا أن الكلام أداء فردي في إطار اجتماعي ما، وهذا الإطار الاجتماعي هو اللغة, وحين يتكلّم الفرد يتم كلامه في إحدى صورتين شهيرتين: إما النطق وإما الكتابة. وليس يدخل في غايتنا هنا أن نشرح كيف تتمّ الكتابة, ولا أن نقوم بدراسة تحليلية لمنحنيات الرموز الكتابية وزواياها, ولا أن نلقى ضوءًا أيًّا كان على الرموز الكتابية التي يستعملها "المتكلم", فذلك أمر تهتم به دراسات من نوع آخر, ولكننا مع كل التأكيد لا نستطيع أن نتخلَّى بنفس القدر من اللامبالاة عن العمل النطقي الذي يقوم به الإنسان الفرد, وذلك للأسباب الآتية: 1- إن تقاليد السماع في الكلام بحكم قِدَمِها, وحداثة تقاليد الكتابة جعلت الكلام المسموع يبدو أكبر أهميةً من الكلام المنظور, ذلك لأنه أدخل في الحياة من الكتابة, وأوغل في سلوك الفرد والمجتمع, حتى لقد زعم بعض العلماء أن التفكير لا يتمّ بدون الكلمات, ولعله قصد بالكلمات هنا ما قصده المتنبي بقوله: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جُعِلَ اللسان على الفؤاد دليلا 2- إن اعتماد الكلام المنطوق على أساسين أحدهما حركيّ يسمَّى المخارج, والثاني سمعي يسمى الصفات, قد عدد أسس الاختلاف بين الأصوات المنطوقة, فأمكن لهذه الأسس وما بينها وما في خلالها من مقابلات أو قيم خلافية أن تكون منطلقًا مناسبًا للسعي إلى إنشاء نظام صوتي لغوي تستخدم فيه هذه القيم الخلافية بين المخرج والمخرج, وبين الشدة والرخاوة مثلًا, وبين الجهر والهمس, وبين التفخيم والترقيق. أما الحركات الكتابية فلا تتعدد فيها الأسس على هذا النحو, ومن ثَمَّ لا يمكن أن يكون للنظام الكتابي من التركيب والتنوع ما للنظام الصوتي منهما. 3- إن الكلام المسموع يتَّسِمُ أحيانًا بطابع التضارب بينه وبين الأنظمة اللغوية "أي القواعد" صوتية كانت أو صرفية أو نحوية, وعند ظهور مشاكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 تطبيق الأنظمة على الكلام المنطوق تعمد اللغة إلى تقديم طائفة من الحلول تسمَّى الظواهر الموقعية1 أو المعالم السياقية, وإنَّ اختصاص النطق دون الكتابة بهذه الظواهر يجعل الكلام المسموع أغنَى وأكثر تنوعًا من الكلام المكتوب. 4- إن وجود النَّبر والتنغيم بالذات -من بين الظواهر المذكورة- في الكلام المسموع دون المكتوب يجعل الأول أقدر في الكشف عن ظلال المعنى ودقائقه من الثاني, ولقد حاولت الكتابة أن تستعيض عن التنغيم بالترقيم, ولكنها لن تعوض النَّبر بوسيلة أخرى, ولم يحاول الكاتبون ذلك. لهذا كانت دراسة الكلام المنطوق المسموع مقدمة لا بُدَّ منها لدراسة الأنظمة -القواعد- اللغوية, أو بعبارة أخرى: لدراسة اللغة نفسها، وأصبح علم الأصوات تمهيدًا بالملاحظة الحسية لإنشاء علم الصوتيات الذي هو تخطيط عقلي لقواعد الأصوات, بناءً على هذه الملاحظة الحسية. إذا رأى أحدنا سائق سيارة يصدم أحد المارة وتطوَّع بالشهادة أمام شرطة المرور, فإنه قد يقتصر على وصف الحركة التي أدَّت إلى المصادمة فيقول: "إن السيارة كانت مسرعة على الجانب الفلاني من الطريق, وعبر هذا الشخص الطريق في الوقت الذي كان النور الأخضر فيه مضاءً أمام السيارة, وحاول السائق أن يتوقَّف قبل بلوغ هذا الشخص, ولكنه لم يتمكن". في هذه الحالة يكون وصفه للأحداث غير مختلط بتفسيرها في ضوء قواعد المرور, ولكنه إذا جاء في كلامه بما كان ينبغي لهذا أو ذاك أن يفعله حسب ما تقضي به قوانين المرور, فقد بدأ يتخطَّى مجرد الوصف الحسي إلى ذكر قواعد معينة تُرَاعَى في العادة. وحين كان هذا الشاهد يقصر كلامه على وصف الحركات التي لاحظها فحسب, كان موقفه شبيهًا بموقف الباحث في أصوات اللغة, فهو يلاحظ ما يقوم به الجهاز النطقي لدى المتكلم من حركات, وما يصاحب هذه الحركات من آثار سمعية فيسجل ذلك ويكتفي به. وحين كان الشاهد المذكور يفسِّر موقف السائق وموقف الماشي في ضوء نظام المرور كان عمله   1 انظر الفصل الذي يتناول هذه الظواهر في هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 شبيهًا بعمل صاحب الصوتيات الذي يهتم من الحركات والآثار النطقية بما لكلٍّ منهما من وظائف, وبما بين كل واحدة منها وبين الأخرى من علاقات, ويضعها جميعًا في إطار فهم معين. فعالم الأصوات مسجل, وعالم الصوتيات مفسِّر ومنظم, وأولهما يلاحظ والثاني يُقَعِّدُ. فعلم الأصوات دراسة عملية لموضوع مدرَكٍ بالحواس؛ لأن حاسة النظر ترى من حركات الجهاز النطقي حركة الشفتين والفك الأسفل وبعض حركات اللسان, ثم ترى كذلك بعض الحركات المصاحبة التي تقوم بها عضلات الوجه, وحاسَّة السمع تدرك الآثار السمعية المصاحبة لهذه الحركات العضوية, فتميز انحباس الهواء وتسريحه بعد انحباسه, واحتكاكه بأعضاء الجهاز النطقي بسبب تضييق المجرى عند نقطة معينة من هذا الجهاز, وحرية مرور الهواء عند عدم الحبس والتضييق, واختلاف قيمة الصوت عند اختلاف شكل حجرة الرنين, وكون النطق مجهورًا حينًا ومهموسًا حينًا آخر, وهلم جرا مما تستطيع الحواس أن تدركه, سواء أكان الشخص الذي يدرك هذ المحسوسات على معرفة باللغة التي يستعملها المتكلم أم لا. ولا شك أن كل واحد منَّا قد جرّب ذات مرة أن يستمع إلى متكلمٍ بلغة غير مألوفة له أنه لاحظ حركات المتكلم وسمع صوته وما يعرو كلًّا منهما من تغير تدركه الحواس, حتى إنه قد يسلي نفسه أحيانًا بتقليد أصوات هذه اللغة غير المفهومة التي تعتَبر بالنسبة إليه "رطانة". هذا بالنسبة لمن لا خبرة له بعلم الأصوات, فإذا كان له تدريب في الاستماع والملاحظة والتسجيل والوصف, فإن موقفه -ولو كان يجهل اللغة المسموعة أيضًا- لا بُدَّ أن يلحقه بعض التغيير, وإنه لا يقنع في هذه الحالة بتسلية نفسه بمحاولة تقليد الرطانة, وإنما يصغي إلى ما يسمعه من كلام فيسجّل أصواته بالكتابة الصوتية, ثم يعيد سماعه من شريط تسجيل أو أسطوانة, فيكرر الاستماع إلى الجملة مرات متعددة ليتحقق بذلك من حسن ملاحظته ودقة تسجيله, ثم يصف الأصوات التي سمعها وصفًا علميًّا من الناحيتين الحركية والسمعية, وقد يستخدم في توثيق ملاحظته منهجًا آليًّا مما يستخدم في معمل الأصوات, ولكنه لا يحاول أن ينظم هذه الأصوات في مجموعات تقوم كل مجموعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 -حرف- منها بوظيفة معينة في نظام صوتي؛ لأنه إذا بدا يفعل ذلك فقد تخطَّى علم الأصوات إلى علم الصوتيات, ولكنه يستطيع أن يضع جدولًا للأصوات بحسب مخارجها وصفاتها دون أن يقسمها إلى حروف, أو أن يضع أيّ واحد منه موضعًا تنظيميًّا خاصًّا خارج إطار الملاحظة الخالصة. حتى الجدول الذي وضعه للأصوات لا يعتبر محاولة للتنظيم اللغوي -لأنه كما ذكرنا لا يعرف اللغة- وإنما يعتبر تلخيصًا لعلاقات بين مدركات حسية صوتية تظل تنتظر من يبوبها ويقسمها ويجعل كل قسم منها حرفًا من حروف النظام الصوتي للغة, أو بعبارة أخرى: تنتظر من يرتِّبها في جدول تنظيمي يحكي ما يربطها من علاقات عضوية, أو يفرق بينها من قيم خلافية؛ إذ لا يمكن للأصوات أن تعتبر جزءًا من اللغة إلّا من خلال هذ العلاقات والمقابلات. ومن هنا يتحتّم على من يتصدى لتنظيم الأصوات وتقسيمها إلى حروف أن يكون على قدر من المعرفة باللغة في عمومها أو بمفرداتها على الأقل, وسوف يبدو لنا السبب في اشتراط هذا القدر من المعرفة عند الكلام عن طريقة استنباط هذا النظام الصوتي من المادة الحاضرة, وهي الأصوات المدرَكَة الموصوفة؛ حيث يتمّ الاستنباط بواسطة الاستبدال والحذف والإضافة على نحو ما سنرى. فإذا كان الأمر كذلك, فكيف كان موقف النحاة العرب من دراسة الأصوات العربية؟ لست أشك لحظة واحدة في أنّ هؤلاء العلماء الأجلاء قد استطاعوا بالملاحظة فقط -ومعها كل الصعوبات التي تواجه الطليعة في العادة- أن يصلوا إلى وصف دقيق للأصوات العربية دون أن يكون لهم من الوسائل الآلية التي يستخدمها المحدثون ما يستطيعون بواسطته توثيق نتائج مدركاتهم الحسية, ولقد بينوا مخارج الأصوات وصفاتها, واشتمل ذلك عند الكثيرين منهم على أصوات غير عربية شاعت في البيئة العربية في القرن الثاني الهجري, وقد سمَّى سيبويه بعض هذه الأصوات الأجنبية وشبهها أصواتًا عربية مشهورة, ووصف ذلك بأنه "غير مستحسن ولا كثير في لغة من ترضى عربيته, ولا يستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر1".   1 كتاب سيبويه "باب الإدغام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ويظهر أن سيبويه كان على وعي تامٍّ بأن دراسة الأصوات مقدمة لا بُدَّ منها لدراسة اللغة، وأن النظام الصوتي ضروري لمن أراد دراسة النظام الصرفي, بل لعله كان يرى في النظام الصوتي جزءًا لاحقًًا، أو من دراسة الصرف نفسها, حتى إنه حين وضع الدراسات الصوتية تحت عنوان: "باب الإدغام" قد كشف عن وجهة نظره هذه من جهة, وقيد دراسة الأصوات وضيَّق مجالها من جهة خرى. وتأتي دعوى تضييق سيبويه لمجال دراسة الأصوات من أن الإدغام ليس جزءًا من النظام الصوتي, وإنما هو ظاهرة موقعة سياقية ترتبط بمواقع محدَّدة يلتقي في كلٍّ منها صوتان؛ السابق منهما ساكن والتالي متحرك, فإذا تحقَّقت صفات خاصة في الصوتين جميعًا تحققت بذلك ظاهرة الإدغام كما فهمها سيبويه. ولكن سيبويه مهَّد لدراسة الإدغام بدراسة الأصوات العربية تحت العنوان نفسه: "باب الإدغام", فتناول هذه الأصوات بالوصف من حيث المخرج وطريقة النطق والجهر والهمس والتفخيم والترقيق, ناظرًا إلى الصوت في حالة عزلة عن السياق, تاركًا سلوك الصوت في السياق إلى دراسة الإدغام نفسه, ناهجًا في ذلك كله نهج النحاة -وهو من كبار أئمتهم- عندما درسوا الزمن النحوي؛ حيث نسبوا للصيغة في عزلتها زمنًا صرفيًّا, ولكنهم حين رأوا لها في السياق زمنًا آخر قد لا يطابق الزمن الصرفي جعلوا ينسبون الزمن إلى عناصر غير الأفعال وما جرى مجراها, فقد نسبوه إلى الأدوات وإلى بعض الجهات كالقلب والتنفيس وإلى بعض الظروف كذلك. ولقد اتجه سيبويه وأصحابه عند النظر في استنباط الحروف من الأصوات اتجاهًا عكس ما يراه المحدثون، فسوف نرى في دراسة الصوتيات أن اتجاه البحث الحديث إنما يكون من الأصوات إلى الحروف؛ إذ ينظم الباحث ما لديه من أصوات جرت ملاحظتها ووصفها فيبوبها إلى مجموعات تسمى كل مجموعة منها حرفًا, وذلك كأن يجمع الأصوات المختلفة الدالة على النون مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 اختلاف المخارج بين هذه الأصوات فيجعلها تحت عنوان واحد هو "حرف النون", ولكن سيبويه وأصحابه حين تصدَّوا لتحليل الأصوات العربية كان بين أيديهم نظام صوتي كامل معروف ومشهور للغة العربية, وكانت الحروف التي يشتمل عليها هذا النظام قد جرى تطويعها للكتابة منذ زمن طويل, فكان لكل حرفٍ منها رمز كتابي يدل على الحرف في عمومه دون النظر إلى ما يندرج تحته من أصوات, فارتضى سيبويه وأصحابه هذا النظام الصوتي المشهور, واتخذوه نقطة ابتداء في دراستهم للأصوات العربية, ومن هنا رأينا الأصوات العربية التي تحت كل حرف من هذا النظام لا تعدو أن تكون صفة لهذا الحرف, كأن تكون إدغامًا له أو إقلابًا أو إخفاءً أو إمالةً وهلم جرا. وهكذا جاء منهج النحاة في دراسة الأصوات من حيث اتجاه الحركة عكس المنهج الحديث. ولقد رأى سيبويه -وهو رأي شيوخه وأصحابه كذلك- أن أصول حروف العربية -يقصد الأصوات الرئيسية لحروفها- تبلغ في عددها تسعة وعشرين حرفًا هي: 1- الهمزة ورمزهاء 2- الألف ورمزها ا 3- الهاء ورمزها هـ 4- العين ورمزها ع 5- الحاء ورمزها ح 6- الغين ورمزها غ 7- الخاء ورمزها خ 8- الكاف ورمزها ك 9- القاف ورمزها ق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 10- الضاد ورمزها ض 11- الجيم ورمزها ج 12- الشين ورمزها ش 13- الياء ورمزها ي 14- اللام ورمزها ل 15- الراء ورمزها ر 16- النون ورمزها ن 17- الطاء ورمزها ط 18- الدال ورمزها د 19- التاء ورمزها ت 20- الصاد ورمزها ص 21- الزاي ورمزها ز 22- السين ورمزها س 23- الظاء ورمزها ظ 24- الذال ورمزها ذ 25- الثاء ورمزها ث 26- الفاء ورمزها ف 27- الباء ورمزها ب 28- الميم ورمزها م 29- الواو ورمزها وثم يضيف سيبويه إلى ذلك ستة فروع أصلها من التسعة والعشرين, وهي كثيرة -يقصد كثة ورودها في الكلام frequency- يؤخذ بها, وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 30- النون الخفية: والذي في كتاب سيبويه هو وصفها بلفظ "الخفيفة", والمعروف أن النون الخفية غير النون الخفيفة؛ فالخفية هي نون الإخفاء قبل حروف الفم وهي التاء والثاء الجيم والدال والذال والزاي والسين والشين والصاد والضاد والطاء والظاء والفاء والقاف والكاف, وأما الخفيفة فهي إحدى نوني التوكيد، ولها أحكام في الوقف تفردها بطابعٍ خاصٍّ حيث تصير في الوقف ألفًا نحو قفا = قفن. 31- الهمزة التي بين بين: وهي همزة متحركة تكون بعد ألف أو بعد حركة, فتصير في النطق مجرد خفقة صدرية لا يصاحبها إقفال للأوتار الصوتية نحو: "أأنت قلت للناس", فإذا كانت الهمزة مفتوحة مكسورًا ما قبلها قلبت ياء, أو مضمومًا ما قبلها قلبت واوًا. 32- الألف الممالة إمالة شديدة: والمقصود به الألف الجانحة نحو الياء, وهي التي يقرأ بها القراء مثلًا قوله تعالى: {وَالضُّحَى, وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} فيجعلون صوت الألف الأخيرة في "الضحى" و"سجى" كصوت الياء في نطق العامة في مصر لكلمة "بيت". 33- ألف التفخيم بلغة أهل الحجاز: وهي ألف تستدير في نطقها الشفتان قليلًا مع اتساع الفم نتيجة لحركة الفك الأسفل, ويرتفع مؤخر اللسان قليلًا فيصير الفم في مجموعه حجرة رنين صالحة لإنتاج القيمة الصوتية التي نسميها التفخيم على لغة أهل الحجاز, وهو أوغل في بابه من تفخيم القبائل الأخرى, حتى إن بعض الألفات المفخَّمة على لغة الحجازيين في مثل كلمتي: الصلاة والزكاة, لما جاورت أصواتًا غير مطبقة, فخشي مدونوا القرآن على تفخيم الألف، فلهذا السبب كتبوها في صورة الواو ليعلم القارئ أن هذه الألف مفخمة. 34- الشين التي كالجيم: وهي الشين المجهورة التي تشبه صوت الجيم في اللهجة السورية واللبنانية, فكان الناطقون بهذه الشين من العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 يجعلون كلمة أشدق كأنها أجدق, ومثل هذا ما نسمعه في لهجة القاهريين في كلمات مثل الأشغال والأشجار. 35- الصاد التي كالزاي: وهي صاد مجهورة مفخَّمة تشبه نطق العامة في مصر للظاء في كلمة "ظالم" مثلًا, والقاهريون ينطقون هذه الصاد المجهورة في كلمة "مصدر" كما كان العرب ينطقونها قديمًا, ولكن العرب كانوا ينطقونها من أجل الصاد في مثل: الصقر والصراط كذلك. ثم يضيف سيبويه إلى ذلك "حروفًا" ثمانية أخرى غير مستحسنة ولا كثيرة frequent في لغة من تُرْتَضَى عربيته, ولا تستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر, ولم يحدد سيبويه بالنسبة لهذه الثمانية ما إذا كانت قاصرة على الكلمات المعرَّبة من اللغات الأجنبية دون الكلمات الأصيلة في العربية, أو أنها كانت توجد في الكلمات الأصيلة كذلك، ولم يذكر سيبويه أيضًا ما إذا كانت هذه الأصوات لحنًا مما أصاب ألسنة العرب بسبب مخالطتهم الموالي, أو أنها وردت على ألسنة الموالي فقط, ثم إنه لم يشر إلى تقدير ما زعمه من كثرة الكثير وقِلَّة القليل في كل ما أورده, وهذ الأصوات الثمانية هي: 36- الكاف التي بين الجيم والكاف: ولم يمثِّل سيبويه لهذا الصوت, ولكن ابن عصفور في كتابه المقرب1 قال: إن الفعل الماضي "كمل" يصير عند النطق على طريقة هذ الكاف "جمل", ولكن التمثيل الخطَّي بصورة الجيم غير دقيق؛ لأن الجيم مجهورة, وهذا الصوت من أصوات الكاف لم يفقد همسه وإن أصبح معطشًا كتعطيش الجيم, وهذا الصوت هو الذي يصفه النحاة باصطلاح الكشكشة, وهو شبيه لما في نطق العراقيين لكلمة "كيف". ويسمع المرء مثل هذه الكاف في كلام بعض سكان المنطقة التي تقع على الحدود بين محافطتي الشرقية والدقهلية في شرق الدلتا.   1 ذكر إدغام المتقاربين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 37- الجيم التي كالكاف: ولم نجد في كلام سيبويه تمثيلًا لهذه الجيم, ولكن ابن عصور جاء بمثال لها في المقرب أيضًا, إن كلمة "رجل" تصير بهذه الجيم إلى "ركل" ragul, وهو بهذا يجعل هذه الجيم أختًا للجيم القاهرية ومطابقة لها تمامًا. 38- الجيم التي كالشين: ولم يمثل لها سيبويه, ولكن الواضح أن هذه المشبهة للشين كانت صوتًا من أصوات الجيم لا يرد إلّا في موقع خاصٍّ هو موقعه قبل تاء الافتعال, وقد مثَّل ابن عصفور له بكلمة "اجتمعوا" التي تصير إلى "اشتمعوا", ونحن نعرف أن الكلمة الفصيحة "اجتر" قد أصبحت بفضل هذا الصوت من أصوات الجيم على صورة "اشتر", وهكذا شاعت على ألسنة الفلاحين في ريف مصر شمالًا وجنوبًا. 39- الضاد الضعيفة: ولسنا نجد تمثيلًا لها في كتاب سيبويه, ولم نر فيه شرحًا لطابع ضعفها, ولكننا نعرف أن الضاد الفصيحة كانت تنطق بواسطة احتكاك هواء الزفير المجهور بجانب اللسان والأضراس المقابلة لهذا الجانب, ومن ثَمَّ يكون صوت الضاد الفصيحة من بين أصوات الرخاوة, مثله في ذلك مثل الثاء. ومن هناء وجدنا بعض العرب حين ينطقون كلمة تشتمل على صوت الثاء متلوًّا بحرف مفخم مجهور يحدث في نطق الثاء شيء من عدوى التفخيم والجهر الضعيفة, فتصير الثاء بذلك ضادًا ضعيفة, وقد مثَّل ابن عصفور لها بكلمة "أثر" التي تعتبر "أضر", مع ملاحظة ما سبق من وصف نطق الضاد. 40- الصاد التي كالسين: ومع أن سيبويه لم يمثل لهذه الصاد لا نجد صعوبة في تصوّر المراد من هذا الشبه؛ إذ أن الصاد والسين تشتركان في المخرج وفي الصفات كلها إلّا التفخيم والترقيق, فالصاد مفخَّمة والسين مرقَّقة, وهذا هو الفارق الوحيد بينهما, ومن ثَمَّ فإن إحداهما إذا أشبهت الأخرى فلا بُدَّ أن يكون معنى ذلك مشاركتها في الصفة الوحيدة التي فارقتها من جهتها, فإذا أشبهت الصاد السين فإن معنى أن تترك الصاد تفخيمها إلى ترقيق السين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقد مثَّل ابن عصفور لهذا الصوت من أصوات الصاد بكلمة "صابر" التي تصير "سابر", ومثل هذه الصاد ما نسمعه اليوم على ألسنة النساء ولا سيما المتشبهات منهن بالأجنبيات. 41- الطاء التي كالتاء: ولم يمثِّل سيبويه لهذه الطاء أيضًا, ولكن كلامًا شبيهًا بما قيل في وجه الشبه بين الصاد والسين يمكن أن يقال هنا أيضًا في وجه الشبه بين الطاء والتاء, فالمعروف أن التفخيم والترقيق هو أوضح ما يفرق بين الطاء والتاء الآن, فإذا أشبهت الطاء التاء فقدت تفخيمها, وقد مثَّل ابن عصفور1 لهذا الصوت بكلمة "طال" التي تصير إلى صورة "تال", ونحن نسمع من النساء السابق ذكرهن مثل هذه الطاء في وقتنا الحاضر. 42- الظاء التي كالثاء: ولم نر مثالًا لها في كتاب سيبويه, ولكن النظر إلى الفارق بين الظاء والثاء يوضح أنهما يختلفان من وجهتين؛ أولاهما: الجهر والهمس, والثانية: التفخيم والترقيق, فإذا أشبهت الظاء الثاء فسيكون معنى ذلك أنها فقدت إما الجهر وإما التفخيم وإما هما معًا. ولقد جاء ابن عصفور بمثال لهذا الصوت فقال: إن كلمة "ظالم" تصير "ثالم", ونحن قادرون على أن نفهم من مثاله هذا أن الظاء فقدت جهرها وهمست كهمس الثاء, أما التفخيم فمن الصعب في هذا المثال أن نقرر أن الظاء فقدته أو احتفظت به؛ لأن الكتابة العربية لا تصطنع رموزًا للدلالة على التفخيم والترقيق, ومن ثَمَّ لا نستطيع الجزم بأن "ثالم" السابق ذكرها مفخَّمة "الظاء" أو مرققتها. 43- الباء التي كالفاء: لقد فهمت من كلام سيبويه في هذا الصوت أن الباء التي يعنيها هي ما يسمونه الباء الفارسية, وهي باء مهموسة مثل صوت "P" في اللغات الأجنبية, والمعروف أن العرب كانوا يعربون هذه الباء بقلبها فاء, ومن ثَمَّ أصبحت كلمة "برزده" عند تعريبها "فرزدق", وكلمة "بالوزه" فالوذج, ولكن ابن عصفور يزعم أن هذه الباء "على ضربين   1 المقرب, ذكر إدغام المتقاربين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أحدهما لفظ الباء أغلب عليه من لفظ الفاء, والآخر بالعكس نحو بلح". فهل يقصد بالأول ما يشبه صوت "V", وبالثاني صوت "P"؟ لعله كذلك. ومن الواضح أن سيبويه مع تفريقه بين أصول الحروف وفروعها لم يكن يفرّق بين اصطلاحي "الحرف" و"الصوت" على نحو ما يفرّق علم اللغة الحديث بين اصطلاحي phoneme و sound أو allophone, فالحرف لديه يشمل كل ذلك. ومن الواضح أيضًا أن سيبويه جعل الكثير من الأعضاء الثانوية أو الفروع المختلفة للحروف على حد تعبيره أوصافًا تعرو العضو الرئيسي -أو كما يسميه: الأصل, وسمَّى الأوصاف ولم يعدد الأصوات, وكان من بين ما سماها به الإدغام والإقلاب والإخفاء ونحوها, فوصف العضو الرئيسي بأنه مقلب أو مدغم أو مخفي, ولم تعدد الأعضاء الفرعية. ومن الواضح كذلك أن هذه الأعضاء الفرعية يختلف بعضها عن بعض كما تختلف جميعًا عن العضو الرئيسي, إما من حيث المخرج, وإما من حيث طريقة النطق, أو من حيث واحدة أو أكثر من الصفات, وقد أشرنا إلى ذلك عند كلامنا عن النون الخفيفة قبل قليل. وأحصى سيبويه لمخارج التي تخرج منها الأصوات العربية فعدَّها خمسة عشر مخرجًا هي: 1- ما بين الشفتين. 2- باطن الشفة السفلى وأطراف الأسنان. 3- طرف اللسان وأطراف الثنايا. 4- طرف اللسان وفويق الثنايا. 5- طرف اللسان وأصول الثنايا. 6- ما بين طرف اللسان وفويق الثنايا. 7- ما بين طرف اللسان وفويق الثنايا أدخل في ظهر اللسان. 8- حافة اللسان إلى الطرف وما فوقهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 9- أول حافّة اللسان وما يليه من الأضراس. 10- وسط اللسان ووسط الحنك الأعلى. 11- مؤخر اللسان وما يليه من الحنك الأعلى. 12- أقصى اللسان وما يليه من الحنك الأعلى. 13- أدنى الحلق. 14- وسط الحلق. 15- اقصى الحلق. والملاحظ أن طرف اللسان يرد ذكره في المخارج الخمسة ذوات الأرقام 3، 4، 5، 6، 7, وكذلك ترد معه الثنايا مع تباين الجزء الذي يتصل به طرف اللسان منها, ولقد ورد ذكر حافة اللسان في المخرجين 8، 9, وورد ذكر وسط اللسان في رقم 10, ومؤخره في 11, وأقصاه 12, وورد ذكر الحلق في 13، 14، 15 أي: أدناه ووسطه وأقصاه. أما الصفات فقد قسمها على النحو الآتي: 1- الشدة والرخاوة وما بينهما, واللين والهوى. 2- الجهر والهمس. 3- التفخيم والترقيق. وجعل الشداد أربعة أقسام: أ- ما يمتنع معه النفس. ب- المنحرف. جـ- الأنفي. د- المكرر. وذلك على نحو ما يبدو في الجدول التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 سكنر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ولقد كان قراءة سيبويه -ولا يزالون- يجدون صعوبة في فهم مصطلحات سيبويه التي استعملها في تحليله للأصوات العربية, إما لأنهم لا يرون لهذه الاصطلاحات عنصر الأطراد في الدلالة, وإما لأنهم يخلطون بين معناها المعجمي ومعناها الاصطلاحي, وإما لأسباب أخرى, ولكن الأمر الذي لا شك فيه أن كل مَنْ تحدثت إليهم من قراء سيبويه سواء منهم أصحاب الثقافة العربية التقليدية الخالصة, ومن خلطوا بين هذه الثقافة وبين الثقافة الحديثة, يجدون في أنفسهم أشياء من مصطلحات سيبويه في باب الإدغام, حتى ذهب بعضهم إلى أن سيبويه فهم النحو والصرف فهمًا تامًّا عن شيوخه, ولكنه لم يفهم عنهم الأصوات, ومن ثَمَّ لم يستطع أن ينقلها واضحة للناس. ولقد حاولت أن أنظر على مهل في مصطلحات سيبويه التي يستعملها في دراسة الأصوات, فوجدتني أهتدي فيها إلى فهمٍ لعله يكون صائبًا, وسأعرض هذا الفهم فيما يلي: يستعمل سيبويه طائفة من المصطلحات منها ما لا لبس فيه كالتفخيم والترقيق والأنفي والمكرر والمنحرف وهلم جرا، ومنها ما يعتوره اللبس إما لأنه لا يسمَّى ظاهرة يمكن ضبطها كالإشباع والاعتماد والاستعلاء والاستفال, وإما لأنه يسمّى ظاهرة يمكن ضبطها, ولكنه لا يحددها تحديدًا شافيًا كالجهر والهمس والصوت والنفس والإطباق والانفتاح. وفيما يلي محاولة لاستشفاف ما يقصده سيبويه بهذه المصطلحات, يقول سيبويه: "فالمجهور حرف أشبع الاعتماد في موضعه, ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد عليه ويجري الصوت, فهذه حال المجهورة في الحلق والفم إلّا النون والميم قد يعتمد لهما في الفم والخياشيم فتصير فيهما غنة", ثم يقول: "وأما المهموس فهو حرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه, وأنت تعرف ذلك إذا اعتبرت فرددت الحرف مع جري النفس", وينبغي لنا هنا أن نسجل الملاحظات الآتية: 1- يظهر أن الإشباع والإضعاف كما يبدو من المقابلة بينهما ووضوح معنى الثاني منهما -إذ أن معنى الإضعاف سلب القوة- يمكن فهمهما على النحو التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الإشباع = التقوية Strengtheing الإضعاف = إزالة القوة Weekening 2- يظهر من إسناد الإشباع والإضعاف إلى "الاعتماد", واتفاق منع جري الصوت مع إشباع الاعتماد وجري النفس مع إضعاف الاعتماد أن: الاعتماد = الضغط Pressure 3- يظهر من استعمال سيبويه لكلمة "موضعه" دون كلمة "مخرجه" في النص السابق, أن المقصود بهذه الكلمة غير المقصود بالأخرى, ويتبع ذلك: أ- إن الاعتماد له موضع ولا يوصف بأنه له مخرج؛ لأن المخارج عند سيبويه للحروف فقط. ب- إن الاعتماد يكون من موضعه -والضمير للاعتماد- واقعًا على مخرج الحرف ضاغطًا عليه, فمنشأ الاعتماد وموضعه هو الحجاب الحاجز الضاغط على الرئتين لإفراغ ما فيهما من هواء وهو -أي: الاعتماد أوالضغط- واقع على مخرج الحرف, أي: المكان الذي يتمّ نطقه فيه, ولا يطعن في هذا الفهم قوله عن الميم والنون: "قد يعتمد لهما في الفم والخياشيم فتصير فيهما غنة"؛ لأن حروف الجر يحل بعضها محل بعض, والحرف "في" هنا حلَّ محل "على". أو يكون الاعتماد واقعًا "من" الحجاب الحاجز "على"المخرج الذي يوجد "في" الفم والخياشيم. فإعادة الضمير في كلمة "موضعه" على الاعتماد أولى بأن تجعل المعنى مستقيمًا. 4- يظهر من عبارة سيبويه القائلة: "ومنع النفس أن يجري معه ..... ويجري الصوت" أن هناك نوعًا من التقابل بين النفس وبين الصوت يمكن إيضاحه كما يأتي: النفس يرتبط بالهمس breath الصوت يرتبط بالجهر voice 5- يظهر مما تقدَّم من عبارات سيبويه ومحاولة فهمها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أ- أن سيبويه لم يكن يعرف وظيفة الأوتار الصوتية في الجهر والهمس, بل لم يكن يعرف حتى تركيب الحنجرة بدليل تسميته إياها أقصى الحلق, واعتباره إياها جزءًا قصيًّا من الحلق. ب- أنه رأى الجهر نتيجة لتقوية الضغط, كما رأى الهمس نتيجة لإضعافه. جـ- أن سيبويه مع أحساسه بهذا الضغط "الاعتماد", لم يكن يعرف مصدره ولا طريقته, ومن ثَمَّ يكون الربط بين هذا وبين الحجاب الحاجز تفسيرنا نحن للظاهرة, وليس تفسير سيويه. د- أن الجهر مظهره "الصوت", وأن الهمس مظهر النفس. فإذا أعدنا تعبير سيبويه مشروحًا على طريقة شراح المتون, أو معبَّرًا عنه بعبارتنا نحن, التي تستعمل مصطلحات حديثة بدت عبارة سيبويه السابقة على النحو التالي. "فالمجهور صوت شدد الضغط في الحجاب الحاجز معه, ولم يسمح للهواء المهموس أن يجري معه حتى ينتهي الضغط عليه, ولكن يجري الصوت أثناء نطقه, فهذه حال الأصوات المجهورة في الحلق والفم إلّا النون والميم, فقد يتمّ الاعتماد فيهما على مخرجهما في الفم والخياشيم, فتصير فيهما غنة أي: أثر صوتي أنفي مجهور. وأما المهموس فهو صوت أضعف الضغط في موضع الضغط أثناء نطقه حتى جرى الهواء المهموس معه, وأنت تعرف ذلك إذا اعتبرت فرددت الصوت بنطقه مع جري النفس, فإنك لا تسمع له جهرًا". وهكذا يختلف فهم سيبويه للجهر والهمس عن فهم المحدثين. ثم يقول سيبويه في معرض الكلام عن الإطباق والانفتاح: "ومنها المطبقة والمنفتحة, فأمّا المطبقة فالصاد والضاد والطاء والظاء, والمنفتحة كلّ ما سوى ذلك من الحروف؛ لأنك لا تطبق لشيء منهنّ لسانك من مواضعهن إلى ما حاذى الحنك الأعلى من اللسان ترفعه إلى الحنك, فإذا وضعت لسانك فالصوت محصور فيما بين اللسان والحنك إلى موضع الحرف". ثم يقول: "فهذه الأربعة لها موضعان من اللسان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ويؤخذ من كلام سيبويه هنا الإشارات الآتية: 1- الإطباق ضد الانفتاح. 2- الحروف المطبقة هي: ص ض ط ظ. 3- الحروف المنفتحة كل ما عدا ذلك ومنها: خ غ ق. 4- إن الأطباق يتم برفع اللسان إلى الحنك الأعلى1. 5- إن الإطباق يحصر الصوت -ومعناه الأثر السمعي- بين اللسان والحنك, وكأن سيبويه يوشك أن يقول: "وبذلك تتكون حجرة رنين لها شكل معين ينتج عنها أثر سمعي معين هو الذي نسميه التفخيم". 6- إن اللسان حين يرتفع إلى الحنك الأعلى يكون لهذه الحروف "موضعان من اللسان", أحدهما: موضع المخرج وهو طرف اللسان, وثانيهما: موضع التفخيم وهو مؤخّر اللسان المرتفع إلى الحنك الأعلى. 7- التفخيم يلازم الإطباق كما في ص ض ط ظ, ولكنه لا يتوقف عليه كما في خ غ ق2. وهذه الملاحظات السبع تتفق اتفاقًا تامًّا مع وجهة النظر الحديثة في العملية النطقية الحركية للتفخيم, ومن شاء أن يطّلع على دراسة الأصوات العربية من وجهة النظر هذه فليرجع إليها في كتابنا "مناهج البحث في اللغة" وسيجدها مفصلة في ذلك الكتاب.   1 يقول ابن عصفور في المقرب: "والإطباق أن ترفع لسانك إلى الحنك الأعلى مطبقًا له". 2 "فهي تشارك الحروف المطبقة في الاستعلاء, وهو تصعد اللسان إلى الحنك الأعلى انطبق أو لم ينطبق" ابن عصفور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 النظام الصوتي: علم الصوتيات ينبغي قبل البدء في دراسته النظام الصوتي للغة أن ننبه مرة أخرى إلى الفرق بين الصوت وبين الحرف على نحو ما فرقنا بينهما من قبل أثناء الكلام في التفريق بين الكلام واللغة, فالصوت عملية حركية يقوم بها الجهاز النطقي وتصحبها آثار سمعية معينة تأتي من تحريك الهواء فيما بين مصدر إرسال الصوت وهو الجهاز النطقي ومركز استقباله وهو الأذن، ولا بُدَّ لدراسة هذه العمليات النطقية والآثار المصاحبة من أن تكون ملاحظة حسية, وأحيانًا معملية, للباحث فيها فضل الملاحظة والتسجيل. وقد رأينا منذ قليل كيف كان سيبويه أمينًا في نقل صورة الأصوات المستعملة في أيامه, مع أن بعضها لا يعتبر من بين أصوات اللغة العربية التي كانت مرمى دراسته وحافزها الأكبر. وتتم هذه الدراسة الحسية بالملاحظة والتسجيل قبل محاولة أي تفكير تجريدي يرمي إلى استنباط العلاقات التي تجمع أو تفرق الأصوات التي جرت ملاحظتها في إطار نظام لغوي ما, ومن ثَمَّ تعتبر دراسة الأصوات مقدمة لا بُدَّ منها لدراسة النظام الصوتي والنُّظُم اللغوية الأخرى, ولكنها لا تعتبر بحالٍ جزءًا من دراسة اللغة, ويمكن بعبارة أخرى أن نقول: إن دراسة الأصوات تعتبر ملاحظة للكلام ولا تعتبر دراسة للغة، أي: إنها تقع خارج دائرة الدراسات1 القاعدية بالمعنى الضيق, ومن هنا كان الكشف عن النظام الصوتي للغة من عمل الباحث في علم الصوتيات لا من عمل الباحث في الأصوات. ولكن الذي يحدث عادة أن الباحث الذي يبدأ دراسة الأصوات يكون مؤهلًا لأن يقوم هو نفسه بدراسة الصوتيات, ومن هنا كانت الرسائل العلمية التي تحمل عنوان " ... The Phonetics of" مشتملة على دراسة تشمل " ... The Phonetics and Phonology of", وأحيانًا ينص العنوان عليهما معًا كما في الحالة الثانية. ويحرص الأساتذة المشرفون على الرسائل العلمية دائمًا على مراقبة عمل الطلاب حتى لا يخلطوا في رسائلهم   1 كلمة قاعدية هنا تساوي الكلمة الإنجليزية Grammar لأن Grammatical وهو القواعد" على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 بين هذين المستويين من مستويات التفكير أثناء عرضهم لحقائق البحث, فيقوم الطالب على المستوى الصوتي بالملاحظة, ويقوم على مستوى الصوتيات بالتجريد والتنظيم والتبويب والتقسيم. لقد سبق لنا أن ذكرنا في الفصل الأول من هذا الكتاب أن علم الصوتيات ينبني على دعامتين رئيسيتين هما: 1- معطيات علم الأصوات, أي: مجموعة الملاحظات المسجَّلة التي تقرر أن اللغة المدروسة تشتمل على عدد معين من الأصوات لكلٍّ منهما وصفه العضوي والسمعي. 2- طائفة من المقابلات بين الأصوات من حيث المخارج والصفات والوظائف, وهذه المقابلات هي جهات الاختلاف بين كل صوت وكل صوت آخر, إما من حيث المخرج فقط, أو الصفة فقط, أو هما معًا, وتسمَّى "القيم الأخلاقية". ونود الآن أن نشرح كيف يقوم الباحث بتكوين النظام الصوتي للغة, ثم نثني بعد ذلك بشرح طبيعة تكوين النظام الصوتي للغة العربية الفصحى. بعد أن يكتمل وصف الأصوات التي تَمَّت ملاحظتها وحصرها, يقوم الباحث بمحاولة استقراء القيم الخلافية التي تفرق بين كل صوت منها وبين الصوت الآخر, وسيرى أن هذا العدد الكبير من الأصوات يتوزَّعه عدد من المخارج, ومن ثَمَّ يمكن تقسيم هذا العدد بواسطة هذه المخارج إلى أقسام بعددها, وقد رأينا أن سيبويه قسَّم الأصوات خمسة عشر قسمًا, يشترك كل قسم منها في مخرج خاص. فتقع الباء والميم والواو مثلًا في مخرج واحد, وتقع الظاء والذال والثاء في مخرج واحد أيضًا, وتقع الهمزة والهاء في مخرج واحد كذلك. ومعنى ذلك بالضرورة أن كل مجموعة من الأصوات مشتركة في مخرج واحد تظل بحاجة إلى أساس آخر يفرق بين كل واحد منها وبين الآخر في نطاق المخرج الواحد, وهنا يأتي دور الصفات التي تتصف بها الأصوات, والتي تعتبر الأساس السمعي للتفريق بينها وهذه الصفات نفسها, تختلف من حبث الأساس الذي تنبني عليه, فقد يكون التبويب مبنيًّا على أساس طريقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 التدخل في مجرى الهواء الرئوي الذي يعتبر المادة الأولى للكلام, فإما أن يقفل مجراه ثم يسرح الهواء بسرعة, وإما أن يقفل ويسرح الهواء ببطء, وإما أن يضيق, وإما أن يترك مجرى الهواء كما هو دون إقفال أو تضييق, فالأساس هنا إذًا هو طريقة النطق, ويمكن أن يشتمل كل مخرج من هذه المخارج التي ذكرناها بحسب طريقة النطق هذه على أصوات شديدة أو رخوة أو مركبة أو متوسطة أو غير ذلك مما تختص به لغة ما. وقد يكون الأساس هو وجود اهتزاز في أوتار الحنجرة, أو كما نسميها الأوتار الصوتية أثناء نطق الصوت, أو عدم وجود هذا الاهتزاز, والتبويب على هذا الأساس يكون إلى صوت مجهور وآخر مهموس. وقد يكون الأساس هو شكل حجرات رنين الصوت أثناء النطق, مما يتسبب عن وضع مؤخر اللسان ارتفاعًا أو انخفاضًا، وهذا الأساس يعطينا التفريق بين المفخَّم والمرقَّق من الأصوات. المسألة إذًا مسألة تبويب, والتبويب تفريق, والتفريق رصد فروق قد تكون على أسس متعددة كما رأينا, والفروق مقابلات, وهذه الفروق أو المقابلات هي القيم الخلافية التي تعتبر عنصر أساسيًّا من عناصر النظام الصوتي, أو أي نظام آخر في اللغة, ومن أهم القيم الخلافية في أيّ نظام لغوي اختلاف الوظيفة التي تؤديها كل واحدة من وحدات النظام, وهي التي نطلق عليها "المعنى الوظيفي". وفي حالة النظام الصوتي العربي بالذات تقوم الوظيفة أو المعنى الوظيفي أولًا وقبل كل شيء بالتفريق بين طائفتين متباينتين من الأصوات؛ إحداهما الصحاح والأخرى العلل. ومعنى ذلك أن للصحاح وظيفة تختلف عن وظيفة العلل في نظام اللغة العربية, فما وظيفة كلٍّ منهما؟ من وظائف الصحاح في اللغة العربية ما يأتي: 1- إنها تكون أصولًا للكلمات العربية من حيث الاشتقاق, فتكون فاء الكلمة أو عينها أو لامها, أي: تكون حروف مادتها من وجهة نظر المعجم ولا تكون العلل "المد والحركة" كذلك, أما الواود والياء من بين الصحاح فإنهما قد تكونان حرفي لين لهما هذه الوظيفة التي للصحاح, وقد تكونان حرفي مد فتعتبران من العلل ولا تقومان بهذه الوظيفة, وسنرى التفريق بين اللين والمد فيما بعد. غير أننا نستطيع هنا أن نقول: إن الواو في قول لينة وفي غيور حرف مد, وكذلك الياء في بيع وقتيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 2- إن الحروف الصحيحة تكون بدايةً للمقطع في اللغة العربية, ولا تكون العلل كذلك, فإذا اعتبرنا "ص" دالة على كلمة "صحيح", و"ح" دالة على "حركة", و"م" دالة على "مد", استطعنا أن نقرر أن تراكيب المقاطع العربية كما يأتي: أ- ص: وهو المقطع الأقصر الذي يمثل حرفًا صحيحًا مشكلًا بالسكون مثل لام التعريف وسين الاستفعال, ولا بُدَّ في هذا الحرف الذي يكون مقطعًا كاملًا أن يكون مشكلًا بالسكون متلوًّا بحرف متحرك, وأن يكون في بداية الكلمة حتى يصدق عليه أنه حين يمتنع الابتداء به تسبقه همزة الوصل. ب- ص ح: وهو المقطع القصير الذي يمثله الحرف المتحرك المتلوّ بحرف آخر متحرك, أو كان آخرًا في قافية شعرية ونحوها, وذلك كما في حروف كتب التي تمثل ثلاثة مقاطع هي: كـ ت ب. جـ- ص م: وهي المقطع المتوسط المفتوح الذي يمثله الحرف الذي يعقبه مد مثل "ما" النافية, و"في" الجارة. د- ص ح ص: وهو المقطع المتوسط المقفل الذي يمثله الحرف المتحرك المتلوّ بحرف آخر ساكن نحو "لم" النافية, و"قم" فعل أمر. هـ- ص م ص: وهو المقطع الطويل بالمد والإسكان مثل: قال, باع, ساكنة الآخر, وتتكون كلمة ضالين ساكنة الآخر من مقطعين من هذا النوع. و ص ح ص ص: وهو المقطع الطويل بالتقاء الساكنين, ويكثر في الوقف كما في قبل وبعد ساكنتي الآخر بالوقف, ويأتي في غير الوقف كما في تصغير دابة مثلًا حيث يصير دويبة, فهو ممثل في جزء من الكلمة هو "ويب"، وكذلك الأمر في حويقة وطويمة تصغير حاقّة وطامّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وفي كل هذه المقاطع نرى في بداية المقطع حرفًا صحيحًا, ولا نرى في البداية علة أبدًا. وهذا معنى أن من وظائف الحرف الصحيح يكون بداية للمقطع, أما نهاية المقطع فقد تكون حرفًا صحيحًا أو حرف علة "مدًّا وحركة". 3- إن الحروف الصحيحة تقبل التحريك والإسكان, أما حروف العلة فلا تقبل تحريكًا ولا إسكانًا, وتتفرع عن ذلك أمور: أ- إن الياء والواو تحتسبان حرفي لين في نظام الأصوات العربية, وهذه الكلمة قريبة الدلالة جدًّا من الاصطلاح الغربي Seme-vowels. ب- إن هذه التسمية لا تنفي أن اعتبارهما في التحليل قد يختلف بين اللين أحيانًا وبين المد أحيانًا أخرى, فحين تكونان موضع إعلال فتبدو أن في صورة الألف أو الواو أو الياء تعتبران لينًا, ولكنهما حين تكونان من زيادات الصيغة كما في واو مفعول, وياء فعيل, فإنهما تعتبران حرفي مد مثلهما في ذلك مثل الألف من كتاب, وهما في هذه الحالة من قبيل الحركات الطويلة, ولعل الشكل الآتي يوضح ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 جـ- إن الصرفيين حين نسبوا السكون إلى حرف المد عند الكلام عن التقاء الساكنين كما في "الضالين" و"مدهامتان" لم يقصدوا أن حرف المد مشكل هنا بالسكون؛ لأن المد والحركة لا يقبلان السكون ولا الحركة, وإنما قصدوا به شيئًا شبيهًا باعتبار العروضيين أن حرف المد يساوي من حيث الكمية الإيقاعية حركة متلوة بسكون. 4- الجهة الرابعة من جهات الفرق من حيث الوظيفة بين الصحاح والعلل: أن الجهر والهمس باعتبارهما قيمتين خلافيتين يفرقان بين الصحيح والصحيح, ولا يفرقان بين العلة والعلة؛ لأن العلل جميعًا مجهورة في اللغة العربية الفصحى, وإن حدث أحيانًا أن يهمس بعضها في الكلام كما سنرى فيما يسمونه اختلاس الحركة والروم والإشمام وهلم جرا, مما يعتبر من إجراءات الأداء لا من نظام اللغة. 5- إن الحروف الصحيحة إذا طالت كميتها "أي: شددت" دلت إما على المقاطع أو على الوقف, فإذا قلنا مثلًا: "علَّم", فإن التشديد يدل هنا على تعدد المقطع؛ لأن الكلمة مكونة من مقطعين هما على "ص ح ص" لم "ص ح ص", وإذا قلنا: "يا رب", فإن إسكان المشدد في الآخر يدل على الوقف. أما حروف العلة فإن طول الكمية -المد- فيها لا يدل على تعدد المقطع ولا يدل بالضرورة على الوقف. هذه هي الوظائف التي يؤديها الحرف الصحيح في اللغة العربية الفصحى والتي لا يؤديها حرف العلة. وهناك وظائف تؤديها حروف العلة في اللغة ولا تؤديها الحروف الصحيحة, يمكن أن نجملها على النحو الآتي: أ- إن حروف العلة تؤدي مهمة جليلة في اللغة العربية؛ حيث تعتبر أساسًا لقوة الأسماع Sonority في هذه اللغة الراسخة القدم في تاريخ المشافهة, وهذه الخاصية بعينها هي التي لاحظ الدكتور طه حسين بحق أنها طابع الأدب العربي, وسماها الطابع الإنشادي في الأدب. ونزيد على ذلك أنها كانت طابع العلم العربي أيضًا حيث تواتر بواسطة الرواية حتى عصر التدوين, أو بعد هذا العصر بقليل. ولقد لاحظ العروضيون أهمية حروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 العلة للعروض, فعنوا برصدها في موازين الشعر, واعتبروها على عكس ما فعله الصرفيون أهم من الحروف الصحيحة. 2- وإذا كانت الحروف الصحيحة تنفرد بأنها أصول في الكلمات العربية, وهي من ثَمَّ أساس للتفريق بين مادة ومادة أخرى من المعجم, فإن حروف العلة تعتبر مناطًا لتقليب صيغ الاشتقاق المختلفة في حدود المادة الواحدة, فالفرق بين قَتَل وقَتْل وقُتِل وقَتِيل وقَتُول وهلم جرا من مشتقات "ق ت ل" فرق يأتي عن تنوع حروف العلة لا الحروف الصحيحة, ومن هنا تتحمّل حروف العلة بالتعاون مع حروف الزيادة وموقعية الكمية -التشديد والمد- أخطر الوظائف في تركيب الصيغ الاشتقاقية العربية. 3- إن حرف العلة إن كان لا يبدأ بها المقطع فهي لا شك مركز المقطع العربي, حتى لتبدو من خلالها صلات معينة بين الكمية وبين النبر والتنغيم, ومن ثَمَّ تعتبر حروف العلة من العناصر الضرورية في بناء نظامي النبر في الصرف والتنغيم في النحو. 4- إن حرف العلة -حركة كان أو مدًّا- يصلح "بمفرده" أن يكون علامة إعرابية, فيكون مفيدًا إيجابيًّا بالذكر, وسلبًا بالحذف, ولا يكون الحرف الصحيح كذلك إلّا ما رآه النحاة من أن النون تكون علامة رفع المضارع. من هنا تفرق الوظيفة بين قيمتين خلافيتين هامَّتين في النظام الصوتي للغة العربية الفصحى, وهما الصحة والعلة. وتنقسم الحروف العربية بحسبهما إلى قسمين هما: الصحاح والعلل, فما كان من الأصوات العربية واقعًا موقع الصحاح مؤديًّا وظيفتها في السياق نُسِبَ إلى حرف صحيح, وما كان من هذه الأصوات واقعًا موقع العلل مؤديًا وظيفتها نُسِبَ إلى حرف علة. والحروف الصحيحة هي: ء ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ص ض ط ظ ع غ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ف ق ك ل م ن هـ وي, وحرف العلة هي: الفتحة والكسرة والضمة, ثم الألف والياء والواو التي للمد. الوظائف والقيم الخلافية ومعطيات علم الأصوات إذًا هي الوسيلة للكشف عن النظام الصوتي للغة, ويتم الكشف عن هذا النظام بواسطة العمل على تبويب العدد الكبير من الأصوات المسموعة الملاحظة المسجلة إلى أقسام بحسب مخارجها وصفاتها, ولكن التشابه أو التخالف في المخرج أو الصفة أو فيهما معًا لا يصلح وحده أساسًا لتحديد الحروف, فقد يتفق الصوتان في كل شيء حتى يخفى على غير ذي الخبرة حين يسمعهما أن يفرق بينهما, وذلك كاتفاق صوتي الميم والنون مخرجًا وصفة في كلمتي "ينفع" و"هم فيها" وكذلك في "أكرم به" و"ينبح", ومن هنا يصبح من الضروري أن تدخل القيمة الخلافية الوظيفية في الطريقة التي تحدد بها حروف النظام الصوتي بحسب الوظيفة, وتستخدم هذه القيمة الخلافية في التقسيم بواسطة النظر في الوظيفة التي تتجلّى في إمكان التداخل في الموقع, والتخارج فيه بالنسبة لكل الأصوات التي بين أيدينا, والتي نريد أن نبوبها في صورة حروف. والحروف وحدات من نظام, وهذه الوحدات أقسام ذهنية لا أعمال نطقية على نحو ما تكون الأصوات, والفرق واضح بين العمل الحركي الذي للصوت وبين الإدراك الذهني الذي للحرف, أي: بين ما هو مادّي محسوس, وبين ما هو معنوي مفهوم. يقول الأشعري1: "وقال آخرون: الكلام حروف, والقراءة صوت, والصوت عندهم غير الحرف". وواضح أنه يقصد بالكلام الكلمات غير المنطوقة, أي: الكلام النفسي الذي ينتظم بنظم عبد القاهر, ويكون في الفؤاد على حد عبارة المتنبي, وهو أيضًا المعين الصامت بين دفتي المعجم, ونعني بالقراءة: نطق هذه الكلمات وجعلها ألفاظًا؛ فالصوت   1 مقالات الإسلاميين, جـ2, ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ينطق فيكون نتيجة تحريك أعضاء الجهاز النطقي وما يصاحب هذا التحريك من آثار سمعية, ولكن الحرف لا ينطق, وإنما يفهم في إطار نظام من الحروف يسمَّى النظام الصوتي للغة. ومثل الأصوات والحروف في علاقة كلٍّ منهما بالآخر مثل الطلاب والصفوف, فالطالب حقيقة مادية والصف وحدة تقسيمية. وكما أنني أستطيع أن أنطق الصوت وأحرك به لساني, أستطيع أن أصافح الطالب وأحرك بمصافحته يدي, وكما أنني لا يمكن أن أمد يدي فأصافح صفًّا من الصفوف التي يتكون منها معهد من المعاهد, لا أستطيع أن أنطق حرفًا من الحروف التي يتكوّن منها نظام صوتي ما, ولكنني أصافح الطالب الواحد من طلاب الصفِّ, وأنطق الصوت المعين من أصوات الحرف؛ لأن الحرف عنوان على عدد من الأصوات, والصف مثله عنوان على عدد من الطلبة, أي: إن الصوت والطالب حقيقتان ماديتان, والحرف والصف قسمان من نظام يضم غيرهما من الأقسام, والقسم في الحالتين وحدة ذهنية لا حقيقة مادية, وهذه الفكرة الذهنية تضم تحتها مجموعة من الحقائق, فالصف يضم خالدًا أو عمرًا وبكرًا وزيدًا, والحرف يضم عددًا من العمليات النطقية تربط آحاده علاقة ما. وكما أن الصف يسمَّى باسم معين كالصف الأول أو الثاني أو الثالث, يسمَّى الحرف باسم معين كالألف أو الباء أو الجيم. وآخر الفروق بين الصوت والحرف, أن الصوت جزء من تحليل الكلام, وأن الحرف جزء من تحليل اللغة, وقد سبق لنا أن فرقنا بين الكلام واللغة. وبعد أن عرفنا الفرق بين الصوت والحرف ينبغي لنا أن ننظر في الطريقة التي يمكن بها أن نكشف عن النظام الصوتي للغة ما بواسطة استخدام القيم الخلافية التي تتمايز بها وظائف الأصوات في الكلمات, وينبغي هنا أن نذكر أن هذه أول خطوة نرفع بها الأصوات المنطوقة إلى مستوى التجريد اللغوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ويتضح ذلك من العبارة التي سبقت هذ الجملة مباشرة والتي تقول: "بواسطة استخدام القيم الخلافية التي تتمايز بها وظائف الأصوات في الكلمات". ذلك بأن القيم الخلافية والوظائف والكلمات كلها أجزاء من اللغة لا من الكلام, وهي الآن وهنا تتخذ أداة التجريد اللغوي, أي: لتقسيم الأصوات إلى حروف. ويتم هذا التقسيم بواسطة اختبار بسيط يجري على الأصوات في الألفاظ التي تتحقق بها الكلمات ليظهر سلوكها من حيث التداخل والتخارج في الموقع المعين من الكلمة, ومعنى التداخل: أن يصح أن يحل أحد الصوتين محل الآخر في اللفظ فيتغير معنى الكلمة بحلوله, ومعنى التخارج: أن يتعذّر على أحد الصوتين أن يحل من اللفظ محل الصوت الآخر, ولو أجبرنا الموقع على قبوله لبدت الكلمة على صورة لا تعترف بها اللغة. فالصوت الذي يحل محل صوت آخر لا بُدَّ أن ينتمي إلى حرف غير الذي ينتمي الأخير إليه, والصوتان اللذن لا يحل أحدهما محل الآخر ينتميان إلى حرف واحد بعينه, وهكذا يخضع كل صوت من أصوات الكلام للاختبار بوضعه بإزاء كل صوت آخر على حدة, واعتباره مما ينتمي إليه أو لا ينتمي إليه هذا الصوت الآخر, حتى نصل في النهاية إلى تحديد انتماءات الأصوات كلها. وهذه الطريقة تسمى "الاستبدال". وسنرى فيما يلي تطبيقا لاستخدام هذه الطريقة في الكشف عن النظام الصوتي للغة. خذ مثلًا لفظ "طاب" أي: صار طيبًا, وهو يشتمل على أصوات ثلاثة, أولها صحيح وثانيها معتل وثالثها صحيح, فإذا استبدلنا بالصوت الأول وهو "ط" صوتًا آخر مثل "ش", أمكن أن يحل هذ الصوت محل الصوت الأول, ويتغير معنى الكلمة تبعًا لعملية "الاستبدال", فإذا استبدلنا بصوت "ب" الذي في آخر الكلمة صوتًا آخر مثل "ل" مثلًا, تغيِّر المعنى مرة أخرى إذ صار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 اللفظ "طال", فإذا استبدلنا بصوت "ا" الذي في الوسط صوت "ل" صار اللفظ "طلب", وتغيّر المعنى أيضًا. والمغزى في كل حالة أن الصوت ما دام يحل محل صوت آخر فلا يمكن أن ينتمي إلى الحرف الذي ينتمي هذا الصوت الآخر, فالحرف الذي ينتمي إليه الصوت الأول من "طاب" غير الحرف الذي ينتمي إليه الصوت الأول من "شاب", والحرف الذي ينتمي إليه الصوت الأخير من "طاب" غير الحرف الذي ينتمي إليه الصوت الأخير من "طال", والحرف الذي ينتمي إليه الصوت الأوسط من "طاب" غير الحرف الذي ينتمي إليه الصوت الأوسط من "طلب". ولكننا لو أردنا مثلًا أن نستبدل بالصوت المفخَّم الذي ينتمي إلى حرف الألف في وسط "طاب" صوتًا آخر مرقَّق نزعمه من الألف أيضًا لعزَّ ذلك على ذوق اللغة العربية, ولتنافى مع طريقتها في مصاقبة الأصوات؛ لأن الطاء المفخَّمة لا تتلوها ألف مرققة في عرف العربية الفصحى, فهذا الموقع بعد الطاء مباشرة يتطلب الألف المفخمة, ويتأبَّى على المرققة. ومعنى ذلك ببساطة أن الصوتين المفخَّم والمرقَّق اللذين أبى أحدهما أن يحلَّ محل الآخر ينتميان إلى حرف واحد هو حرف الألف, ويسمَّى أولهما "الألف المفخمة", ويسمَّى ثانيهما "الألف المرققة". وهكذا نرى أن التداخل في الموقع يعني اختلاف الانتماء إلى الحرف, وأن التخارج في الموقع معناه الانتماء إلى حرف واحد بعينه. كل ذلك يحكي قصة عملية الاستبدال واستخدامها في تحديد الحروف, أي: في تكوين الجهاز الصوتي للغة. والحرف الذي يحل محل الآخر يسمَّى "مقابلًا استبداليًّا" أو Substitution counter لهذا الحرف الآخر, ذلك بأنه تسبَّب بحلوله محل الحرف الآخر في تغيير معنى الكلمة, ومن ثَمَّ أصبح يحمل على عاتقه "بضعة" من تبعه المعنى الجديد. وهذه أول بضعة من المعنى الوظيفي يمكن الكشف عنها في اللغة, وهي وظيفة الحرف باعتباره مقابلًا استبداليًّا, أي: باعتباره صالحًا للحلول محل واحد أو أكثر من الحروف الأخرى في النظام الصوتي نفسه. فإذا نظرنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 إلى الباء في "طاب" وجدنا أنها تدل على معنى معين هو صلاحيتها للحلول محل عدد من الحروف الأخرى, وقد عددنا منها "اللام", ونضيف هنا الراء في "طار", والفاء في "طاف", والشين في "طاش", كما أن الطاء تدل على معنًى معين هو أنها مقابل استبدالي للتاء في "تاب", والثاء في "ثاب", والخاء في "خاب", والذال في "ذاب", والراء في "راب", والسين في "ساب", والشين في "شاب", والعين في "عاب", والغين في "غاب", والنون في "ناب", والهاء في "هاب", فمعناها أنها صالحة للحلول محل أي واحد من هذه الحروف جميعًا, وهذه البضعة من المعنى التي تنسب إلى الحرف بضعة سلبية, فمعنى الطاء في طاب أنها ليست تاء ولا ثاء ولا خاء ولا ذالًا إلخ. ومثل "الاستبدال" في تغيير معنى الكلمة, وإثبات قدرة الحرف على حمل جرثومة المعنى مثل عمليتي "الإضافة" و"الاستخراج", فإذا أضفنا الميم في أول كلمة "قاعد" تغيّر المعنى وأصبحت الكلمة "مقاعد", وأصبح للميم معنى من حيث إنها جلبت إلى الكلمة معنى جديدًا. فإذا "استخرجنا" الميم من كلمة "مقاعد" تغيّر المعنى بسبب استخراجها من جمع مقعدًا إلى اسم الفاعل من قعد, وبهذا يمكن أن تدعى أن كل حرف من حروف الكلمة يحمل جرثومة من المعنى من جهتين؛ الأولى: إيجابية, هي دلالة صوته على بيئته من الكلمة, والثانية: سلبية, هي كونه مقابلًا استبداليًّا لعدد من الحروف الأخرى وهي الأهم. والعلاقة بين المقابلات الاستبدالية بعضها وبعض, كالعلاقة بين القيم الخلافية بعضها وبعض من حيث كون المعنى المقصود هو المقابلة السلبية هنا وهناك, وعلينا الآن أن نشرح دور القيم الخلافية في خلق نظام صوتي للغة, ولقد سبق أن تحدثنا بالتفصيل عن قيمتين خلافيتين هما: الصحة والعلة, من حيث تقف كلّ منهما في مقابل الأخرى, وينتج عن تقابلهما قسط من المعنى؛ فمعنى الحرف الصحيح غير حرف العلة, وقد سبق أن شرحنا ذلك, وسمعنا المعاني الوظيفية للصحاح ووظائف الصحاح, والمعاني الوظيفية للعلل ووظائف العلل. وسبق أيضًا أن قلنا: إن كل لغة من اللغات تتخذ لنفسها طائفة من المخارج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقد قَرَّرَ سيبويه أن مخارج اللغة العربية خمسة عشر مخرجًا, ومعنى ذلك أن كل مخرج من هذه "يفهم" في مقابل أربعة عشر مخرجًا آخر, وكونه "يفهم" معناه أنه في مقابلته لغيره من المخارج يحمل جرثومة سلبية من المعنى باعتباره قيمة خلافية يتميز بها الحرف من غيره, أي: يختلف بها عن غيره من حيث المعنى الوظيفي, أي: من حيث يصلح أن يكون مقابلًا استبداليًّا له. وإذا تصورنا النظام الصوتي للغة في صورة جدول كالذي نظمنا به عمل سيبويه من قبل, فسنجد أن مجموع القيم الخلافية المتصلة بالمخارج تمثل البعد الرأسي من أبعاد هذا الجدول, وفي الوقت نفسه نجد الشدة والرخاوة ونحوهما من طرق النطق تمثل مجموعة من القيم الخلافية تفهم كل واحدة منها في مقابل مجموع الأخريات, وبهذا تعطى قسطًا سلبيًّا من المعنى على نحو ما سبق شرحه, ومثل ذلك يقال عن الجهر في مقابل الهمس, وعن التفخيم في مقابل الترقيق. وهذه الصفات جميعًا تمثل البعد الأفقي للنظام الصوتي حين يوضع في جدول كالذي سبق لنا أن رأيناه ونظّمنا به عمل سيبويه, فجدول لحروف إذا يعتبر إيضاحًا مناسبًا للعلاقات التي تفرق بين كل حرف وكل حرف آخر في نظام اللغة, وهذا التفريق بواسطة القيم الخلافية من حيث المخارج أو من حيث الصفات هو أهمّ ما تحرص عليه اللغة لتصل به إلى أمن اللبس. وملخّص ما سبق أن النظام الصوتي للغة يقسم الأصوات اللغوية إلى حروف phonemes بوساطة اعتبار القيم الخلافية للوظائف, أي: المعاني التي ترصد للأصوات في استعمالها في الألفاظ التي تتحقق بها الكلمات, وبوساطة التقسيمات العضوية والصوتية التي تعتبر حقلًا آخر من حقول هذه القيم الخلافية, ويعتبر الحرف مقابلًا استبداليًّا لكل حرف يمكن أن يحل محله, فيحمل بذلك جرثومة سلبية من المعنى الوظيفي, وهكذا نجد القيم الخلافية من أهم مقومات التنظيم الصوتي في اللغة, وتحرص اللغة على مراعاتها محافظة على وضوح المعنى. وفيما يلي جدول يشرح النظام الصوتي للغة العربية الفصحى يوضح ما بين كل حرف وكل حرف آخر من قيم خلافية يمتاز بها كل منهما في إطار النظام الصوتي كما يقوم في وقتنا الحاضر لدى قراء القرآن في مصر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 النظام الصرفي : أولًا: كيف يتألف هذا النظام؟ 1 ذكرنا في الفصل الأول أن النظام الصرفي للغة العربية الفصحى ينبني على ثلاث دعائم هامة هي: 1- مجموعة من المعاني الصرفية التي يرجع بعضها إلى تقسيم الكلم, ويعود بعضها الآخر إلى تصريف الصيغ. 2- طائفة من المباني بعضها صيغ مجردة, وبعضها لواصق, وبعضها زوائد, وبعضها مباني أدوات, وقلنا: إنه قد يدل على المبني دلالة عدمية بالحذف أو الاستتار حيث تغني القرينة في الحالتين عن الذكر. 3- طائفة من العلاقات العضوية الإيجابية, وهي وجوه الارتباط بين المباني وطائفة أخرى من القيم الخلافية أو المقابلات, وهي وجوه الاختلاف بين هذه المباني. ولقد ذكرنا ما قبل أيضًا أن المباني الصرفية morphemes تعبِّر عن المعاني الصرفية الوظيفية التي أشرنا إليها, وأن هذه المباني نفسها أبواب تندرج تحتها الصرفية الوظيفية التي أشرنا إليها, وأن هذه المباني نفسها أبواب تندرج تحتها علامات تتحقق المباني بوساطتها لتدل بدورها على المعاني. فالمعاني الصرفية والمباني من نظام اللغة, ولكن العلامات المنطوقة أو المكتوبة تنتمي إلى الكلام, وسنضرب لذلك أمثلة تتضح بها الصلة بين المعاني والعلامات النطقية كما يأتي:   1 انظر الجدول في آخر الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وإذا نظرنا في هذ المباني الصرفية وجدنا أنّ من بينها ما يعبر عن معاني التقسيم كصيغة الاسم إذ تعبر عن الاسمية, وصيغة الفعل إذ تعبر عن الفعلية, وكصورة الضمير التي تعبر عن معنى الإضمار, وهذه الطائفة من المباني التي تعبر عن معان تقسيمية هي حجر الزاوية في النظام الصرفي للغة العربية الفصحى, وهذه المباني أبواب الكلم, وقد سماها النحاة: أقسام الكلام أو ما يتألف منه الكلام, فإذا تصورنا النظام الصرفي في صورة جدول تتشابك فيه العلاقات والمقابلات, فإن هذه النوع من المباني سيمثل البعد الرأسي لهذا الجدول, أما المباني التصريفية, أي: المباني التي يتم التصريف على أساسها كالمتكلم وفرعيه, والمفرد وفرعيه, وكالمذكر والمؤنث, والمعرفة والنكرة, فهي التي تمثّل البعد الأفقي لجدول النظام الصرفي. وهذه المباني التصريفية هي المسئولة عن التفريع الذي يتم داخل المباني التقسيمية, كأن ننظر إلى الأنواع المختلفة لتصريفات الاسم, ولإسنادات الفعل, ولفصل الضمائر ووصلها, وذكرها وحذفها واستتارها, وهلم جرا مما لا يمكن ضبطه إلّا بواسطة مباني التصريف. ولهذا كانت مباني التصريف هي المسرح الأكبر للقيم الخلافية بين الصيغ المختلفة التي تعتبر فروعًا على مباني التقسيم, بهذا يمكن أن نضع الصورة على النحو التالي: 1- مباني التقسيم: وتندرج تحتها الصيغ الصرفية المختلفة التي ينصبّ في قالبها كل قسم من أقسام الكلم, فكل الصيغ الصرفية التي للأسماء بأنواعها والصفات والأفعال, تندرج تحت مباني التقسيم, وتكون فروعًا على هذه الأقسام, وتشبهها في ذلك صور الضمائر والإشارات والموصولات والظروف والخوالف والأدوات حين ننظر إلى هذه الصور على إطلاقها. ومعنى ذلك أن معاني الصيغ كالمطاوعة والطلب والصيرورة والتفضيل والمبالغة التي نراها في انفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 واستفعل والأفعل وفعّال على التريب هي فروع على معاني التقسيم, وأن مبانيها فروع على مباني التقسيم. 2- مباني التصريف: وتندرج تحتها أوجه الاتفاق بين المباني, وأوجه الاختلاف بينها, وأقصد بأوجه الاتفاق العلاقات, وبأوجه الاختلاف المقابلات, ففي داخل المطاوعة نجد صيغة الفعل كانفعل وينفعل وانفعل, ونجد صيغة الاسم كانفعال, فتكون المطاوعة علاقة تربط بين كل هذه الصيغ, ولكن اللغة تعمد عند اتفاق المباني إلى إيجاد أنواع المقابلات بينها, فيكون إيجاد المقابلات بواسطة مباني التصريف, فتسند الأفعال إسنادات مختلفة بحسب التكلُّم والخطاب والغيبة, وبحسب الإفراد والتثنية والجمع, وبحسب التذكير التأنيث, وتتصرف الأسماء تصريفات مختلفة باختلاف الإفراد والتثنية والجمع, والتذكير والتأنيث, والتعريف والتنكير, فتكون معاني التصريف على هذا مجالًا للقيم الخلافية التي تفترق الصيغ على أساسها. ومقتضى هذا أننا إذا نظرنا في الأمثلة السابقة التي سقناها لإيضاح الصلة بين المعنى والمبنى والعلامة, وجدنا ما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 تلك هي العلاقة بين معاني التقسيم ومبانيه, وبين معاني التصريف ومباينه أيضًا في النظر إلى الكلمات في التركيب, وفيما يلي جدول يبين النظام الصرفي والعلاقة بين معاني التقسيم ومباني التصريف في حدود الجدول, وسنرى في هذا الجدول أن التكلم والخطاب والغيبة تولد القيم الخلافية بين الضمائر والأفعال, فتكون أساس اختلاف صور هذه وإسناد تلك, ولا تفعل ذلك بين الأسماء؛ لأن الظاهر دائمًا في قوة ضمير الغائب كما يقولون, ولا بين الصفات ولا الخوالف ولا الظروف ولا الأدوات, ثم إن الإفراد والتثنية والجمع تولد القيم الخلافية بين صيغ الأسماء والصفات وصور الضمائر, وليس بين الأفعال والخوالف والظروف والأدوات, ثم إن التذكير والتأنيث يولدان القيم الخلافية بين صيغ الأسماء والصفات وصور الضمائر, ولا تتصل بالأفعال إلّا لمعنى المطابقة للاسم أو الضمير, وأما التعريف والتنكير فيولدان القيم الخلافية بين الأسماء, وربما الصفات دون البواقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ثانيا: أقسام الكلم مدخل ... ثانيًا: أقسام الكلم لقد رأينا أن النظام الصرفي للغة العربية الفصحى يمكن أن يوضع في صورة جدول بعده الرأسي مباني التقسيم, وهي الاسم ومعناه الاسمية, والصفة ومعناها الوصفية, والفعل ومعناه الفعلية, والضمير ومعناه الإضمار, والخالفة ومعناها الإفصاح, والظرف ومعناه الظرفية, والأداة ومعناها معنى التعليق بيا. ورأينا كذلك أن البعد الأفقي لهذا الجدول هو مباني التصريف, وهي التكلم ومعناه التكلم, والمخاطب ومعناه الخطاب, والإضمار للإشارة ومعناها الإشارة, والغائب ومعناه الغيبة, والموصول ومعناه الوصل, والمفرد ومعناه الإفراد, والمثنى ومعناه التثنية, والمجموع ومعناه الجمع, والمذكر ومعناه التذكير, والمؤنث ومعناه التأنيث, والمعرف ومعناه التعريف, والمنكر ومعناه التنكير. وعرفنا كذلك أن مباني التقسيم تتفرع إلى صيغ وصور مطلقة, وأن مباني التصريف تتفرع إلى لواصق وزوائد كالضمائر المتصلة وكعلامات التثنية والجمع والتأنيث والتعريف, وكالسين والتاء في الاستفعال, وكالنون في الانفعال, والتاء في الافتعال, وهلم جرا. وإذا كان النحاة العرب قد قدموا لدراسة النحو ببابٍ صرفيٍّ هو "الكلام وما يتألف منه", وهو مبحثنا هذا الذي نعالجه في الصفحات التالية, فإن صنيعهم هذا يشير إلى أن النحو لا يفتأ يستخدم معطيات الصوتيات والصرف المختلفة في عرض الأغلب الأعمّ من تحليلاته, وفي الرمز لعلاقاته وأبوابه، حتى إننا لنجد القرائن اللفظية الدالة على أبواب النحو المختلفة هي في جملتها عناصر تحليلية مستخرجة من الصوتيات والصرف، من ذلك مثلًا اشتراط صيغة صرفية ما لتكون مبنى لباب نحوي ما, أي: قرينة لفظية على ذلك الباب, كاشتراط المصدر للمفعول المطلق والمفعول لأجله, وكالقول بالجمود للتمييز, ثم بالاشتقاق للحال والنعت الحقيقي, وكاطراد صيغة المبني للمفعول في الإسناد إلى نائب الفاعل, وهلم جرا. ومن هذا القبيل أيضًا التعبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 عن الإسنادات المختلفة بإلصاق الضمائر المتصلة بالأفعال, ثم ما يتصل بذلك من إجراءات صوتية كالتحريك أو الإسكان, أو صرفية كالحذف أو النقل أو غير ذلك. ولقد قسَّم النحاة الكَلِمَ إلى ثلاثة أقسام: يقول ابن مالك: واسم وفعل ثم حرف الكلم ثم حاولوا راشدين عند إنشاء هذا التقسيم أن يبنوه على مراعاة اعتباري الشكل والوظيفة, أو بعبارة أخرى: المبنى والمعنى؛ إذ ينشئون على هذين الأساسين قيمًا خلافية يفرقون بها بين كل قسم وقسم آخر من الكلم في لغة ما, ويتضح نظرهم إلى المبنى والمعنى في تقسيمهم للكلم من قول ابن مالك مثلًا: بالجر والتنوين والندا وأل ... ومسند للاسم تمييز حصل بتا فعلت وأتت ويا افعلي ... ونون أقبلنّ فعل ينجلي سواهما الحرف كهل وفي ولم ... ............................. كما يتضح أيضًا قول النحاة الآخرين: "الاسم ما دلَّ على مسمَّى, والفعل ما دلَّ على حدث وزمن, والحرف ما ليس كذلك". ومن الواضح أن أبيات ابن مالك فرّقت بين أقسام الكلم تفريقًا من حيث المبنى, وأن الموقف الذي لخصَّناه عن النحاة الآخرين قد فرّق بين هذه الأقسام تفريقًا من حيث المعنى، وأن التفريق على أساس من المبنى فقط أو المعنى فقط ليس هو الطريقة المثلى التي يمكن الاستعانة بها في أمر التمييز بين أقسام الكلم, فأمثل الطرق أن يتم التفريق على أساسٍ من الاعتبارين مجتمعين, فيبنى على طائفة من المباني ومعها -جنبًا إلى جنب فلا تنفك عنها- طائفة أخرى من المعاني على نحو ما نرى فيما يلي: أ- المباني ب- المعاني الصورة الإعرابية التسيمة الرتبة الحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 أ- المباني ب- المعاني الصيغة الزمن الجدول التعليق الإلصاق المعنى الجملي التضام الرسم الإملائي وسنحاول فيما يلي أن نلقي ضوءًا على استخدام ما ذكرنا من المباني والمعاني في التفريق بين أقسام الكلم. وأول ما نبدأ به أننا نجد التقسيم الذي جاء به النحاة بحاجة إلى إعادة النظر, ومحاولة التعديل بإنشاء تقسيم آخر جديد مبني على استخدامٍ أكثر دقة لاعتباري المبنى والمعنى اللذين ذكرناهما وفصلنا القول في كلٍّ منهما, وسنجد في التقسيم الجديد مكانًا متسقلًّا لقسم جديد هو الصفة, يمكن له أن يقف جنبًا إلى جنب مع الاسم والفعل دون أن يكون جزءًا من أولهما, ولا متحدًا مع ثانيهما, وسنرى أن الصفة تختلف مبنًى ومعنًى عن الأسماء, على رغم ما رآه النحاة من أنها منها, كما تختلف على الأساس نفسه عن الأفعال. وسنجد كذلك مكانًا مستقلًّا لقسم جديد هو الضمير, وقد عدَّ النحاة الضمائر بين الأسماء أيضًا عند تقسيمهم للكلم, ولكننا سنرى بعد قليل أن إفراد الضمائر بقسم مستقل له ما يبرره, سواء من حيث المبنى أو من حيث المعنى. وهذ الضمائر التي أفردناها بقسم خاصٍّ هي أعمّ من أن تكون ضمائر شخصية فقط؛ كأنا وأنت وهو وفروعها. وسنجد في تقسيمنا الجديد مكانًا مستقلًّا ثالثًا للخوالف, وهي عناصر معينة وزعها لنحاة بين أقسام الكلم لاختلاف مبنى كلٍّ منها عن مباني الأخريات, واختلاف معنى كلٍّ منها عن معناهن, ولكنهم غفلوا عمّا يجمع بينها جميعًا من عناصر يرجع بعضها إلى المبنى نفسه, ويرجع بعضها الآخر إلى المعنى. فهي جميعًا تستعصي على الدخول في جدول إسنادي أو تصريفي ما, وهي جميعًا تستعمل في الأسلوب الإفصاحي الإنشائي التأثري الانفعالي الذي يسمونه affective language وتلك هي الإخالة والصوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 والتعجب والمدح والذم, وربما ألحقنا به على المستوى النحوي لا الصرفي أساليب أخرى كالندبة والاستغاثة من النداء. ولقد استعرت اسم الخالفة لأدلَّ به على هذه العبارات مما رواه الأشموني1 عن الفرّاء, من أنه كان يسمي اسم الفعل "خالفة", وإن كان بعض المحدثين قد تعودوا نسبة ذلك إلى ابن جابر الأندلسي. والظرف كذلك بحاجة إلى مكانٍ خاصٍّ بين أقسام الكلم لأسباب تعود من ناحية إلى مباني الظرف, أي: صورها المطلقة وتضامها مع الكلمات والتراكيب, ومن ناحية أخرى إلى معانيها التي تختلف عن التسمية والحدث والزمن الذي هو جزء معنى الفعل؛ لأننا سنرى أن دلالة الظروف إنما هي دلالة على علاقات زمانية بالوظيفة, وليست دلالة زمنية بالتضمن كالزمن في الأفعال, وسنرى كذلك أن أسماء الزمان والمكان كاليوم والساعة وأمام ووراء قد تطرح معانيها المعجمية وتتخذ لنفسها معنى وظيفيًّا هو معنى الظرف فتعدّ "بالنقل" بين الظروف معنًى, وإن اختلفت عنها في المبنى؛ لأنها أسماء في الأصل وليست ظروفًَا. وسنتوسع في فهمنا للأدوات, فنرى الحروف منها أدوات أصلية, ونرى غيرها أدوات محوّلة كالظروف التي تتصدَّر جملة الشرط أو الاستفهام, وكالأسماء النكرات التي تستعمل لإبهامها استعمال الحرف, وكالنواسخ الآتية على صور الأفعال, ولكنها تستخدم لنقصها استخدام الحروف, وهلم جرا. والمعاني التقسيمية والتصريفية على السواء تعتبر من العموم والاتساع والشمول في إطار اللغة؛ بحيث يصدق عليها هي وطائفة أخرى من المعاني العامة المشاهبة كالإثبات والنفي والتأكيد والاستفهام والشرط إلخ أنها "مقولات لغوية Linguistic ctegories تشبيهًا لهذه المعاني اللغوية العامة في اتساعها وشمولها بالمقولات المنطقية Logical categories, وهي الأجناس العليا التي لا توجد أجناس أعلى منها أو أعمّ. ولقد ذكرنا من قبل أن معاني التقسيم يعبَّر عنها بمبانٍ هي صيغ ما تصرف من أنواع الكلم والصور المطلقة لما لم يتصرّف منها, وأن معاني التصريف يعبر   1 في باب أسماء الأفعال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 عنها بمباني اللواصق والزوائد كالضمائر المتصلة وعلامتي التثنية والجمع وتاء التأنيث ولام التعريف. فإذا قلنا: إن المبني هو المتكلم أو المثنى أو المؤنث أو المعرفة, فإن الذي نقصده أن اللاحقة أو الزائدة التي خصصتها قواعد نظام الصرف للتعبير عن هذا المعنى قد تحققت بعلامتها إيجابًا بالذكر, أو سلبًا بالحذف أو الاستتار بمعونة القرينة اللفظية أو المعنوية, على نحو ما سنرى في دراسة القرائن المذكورة في مكانها من الكلام عن النظام النحوي إن شاء الله. ومن هنا يتضح أن الأقسام السبعة التي ارتضيناها للكلم موضحين بها مواطن الضعف في التقسيم الذي ارتضاه النحاة من قبل هي كما يأتي: الاسم - الصفة - الفعل - الضمير - الخالفة - الظرف - الأداة. وسنحاول فيما يلي أن نفرق بين كل واحد من هذه الأقسام وبين الأقسام الأخرى من حيث المبنى, "أي: من حيث الصورة الإعرابية أو الرتبة أو الصيغة أو الجدول أو الإلصاق أو التضام أو الرسم الإملائي" ومن حيث المعنى "أي: من حيث التسمية أو الحدث أو الزمن أو التعليق أو المعنى الجملي", على أنه ينبغي لنا أن ننبه قبل كل شيء إلى أنه ليس معنى إيراد هذه المباني والمعاني جميعًا أن كل قسم من الكلم لا بُدَّ أن يتميز من قسيمه من هذه النواحي جميعًا؛ إذ يكفي أن يختلف القسم عن القسم في بعض هذه المباني والمعاني. فالمهم ألا يكون التفريق من حيث المباني فقط وإن تعددت, أو المعاني فقط وإن تعددت أيضًا؛ إذ لا بُدَّ من أن يتضافر اعتبار المبنى واعتبار المعنى في التفريق بين قسم بعينه وبين بقية الأقسام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أ- الاسم : يشتمل الاسم على خمسة أقسام: الأول: الاسم المعين, وهو الذي يسمي طائفة من المسميات الواقعة في نطاق التجربة؛ كالأعلام وكالأجسام والأعراض المختلفة, ومنه ما أطلق النحاة عليه اسم الجثة وهو المعنى بما ورد في قول ابن مالك: ولا يكون اسم زمان خبرًا ... عن جثة وإن يفد فأخبرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الثاني: اسم الحدث وهو يصدق على المصدر واسم المصدر واسم المرة واسم الهيئة, وهي جميعًا ذات طابع واحد في دلالتها, إما على الحدث أو عدده أو نوعه, فهذه الأسماء الأربعة تدل على المصدرية وتدخل تحت عنوان اسم المعنى. الثالث: اسم الجنس, ويدخل تحته أيضًا اسم الجنس الجمعي؛ كعرب وترك ونبق وبجع, واسم الجمع كإبل ونساء. الرابع: مجموعة من الأسماء ذات الصيغ المشتقة المبدوءة بالميم الزائدة, وهي اسم الزمان واسم المكان واسم الآلة, ويمكن أن نطلق على هذه المجموعة أسماء يشملها هو قسم "الميميات", وليس منها المصدر الميمي على رغم ابتدائه بالميم الزائدة؛ لأنه إن اقترب من هذه الثلاثة صيغة فإنه يتفق مع المصدر من جهة دلالته على ما يدل عليه المصدر, فإذا نظرنا إليه في ضوء تعدد أبنية المصادر لم نجد صعوبة تحول دون عده واحدًا من هذه الأبنية لا واحدًا من الميميات. الخامس: الاسم المبْهَم, وأقصد به طائفة من الأسماء التي لا تدل على معين؛ إذ تدل عادة على الجهات والأوقات والموازين والمكاييل والمقاييس والأعداد ونحوها, وتحتاج عند إرادة تعيين مقصودها إلى وصف أو إضافة أو تمييز أو غير ذلك من طرق التضام. فمعناها معجمي لا وظيفي, ولكن مسماها غير معيّن, وذلك مثل: فوق وتحت وقبل وبعد وأمام ووراء وحين ووقت وأوان إلخ, ويمكن للتخطيط التالي أن يوضح علاقة كلٍّ من الأقسام بالآخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 هذه هي الأنواع الداخلة تحت مفهوم الاسم, فلم نعد منها الصفات ولا الضمائر ولا أسماء الأفعال وأسماء الأصوات ولا الإشارات والموصولات والظروف, لأسباب سنعرفها إن شاء الله بعد قليل. وللاسم بجميع أقسامه المذكورة سمات تدل عليه, سواء من حيث المبنى أو من حيث المعنى, فيمتاز بهذه السمات عمَّا عداه من أقسام الكلم, ويمكن تلخيص ذلك على النحو الآتي: 1- من حيث الصورة الإعرابية: الاسم يقبل الجر لفظًا, ولا تشاركه في ذلك من أقسام الكلم إلّا الصفات, أما الأفعال والخوالف والأدوات فلا يدخل عليها حرف الجر, وأما الضمائر والظروف فيجر محلها لا لفظها؛ لأن جميع الضمائر وجميع الظروف من المبنيات إلّا ما شذَّ من مثنى الإشارة والموصول. 2- من حيث الصيغة الخاصة: قال ابن مالك: ومنتهى اسم خمس إن تجردا ... وإن يزد فيه فما سبعا عدا وغير آخر الثلاثي افتح وضم ... واكسر وزد تسكين ثانيه تعم وفعل أهمل والعكس يقل ... لقصدهم تخصيص فعل بفعل وكذلك حدَّد النحاة أبنية المصادر وصيغتي المرة والهيئة وصيغ الزمان والمكان والآلة, فالاسم يمتاز بهذه الصيغ عمَّا عداه من أقسام الكلام, ويمتاز كذلك عن الصفة بأقسامها الخمسة "الفاعل والمفعول والمشبهة والمبالغة والتفضيل" بواسطة الرجوع إلى الجدول, كما سنرى في الكلام عن الصفة. 3- من حيث قابلية الدخول في جدول: الجداول ثلاثة أنواع: - جدول إلصاق: كأن تحاول أن نعرف ما يلحق بالكلمة من الصدور والأحشاء والأعجاز ذات المعنى الصرفي, فنكشف بالجدول ما تقبله الكلمة وما لا تقبله من اللواصق. - جدول تصريف: كأن نعمد إلى الفعل الماضي من مادة ما, فننظر فيما إذا كان له مضارع وأمر أو لم يكن, وكأن نعمد إلى صفة الفاعل فنرى ما إذا كان لها صفة مفعول أو مشبهة أو تفضيل أو مبالغة أو لم يكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 جدول إسناد: وذلك أن نعمد إلى الفعل الماضي أو المضارع أو الأمر فنسنده بحسب الضمائر "وهي تعبر عن معاني التصريف التي سبق شرحها", فتكون له ثلاث عشرة صورة إسنادية بحسب هذه الضمائر: ويسمى النوع الأول: morphological scatter ويسمى النوع الثاني: Conjugation table ويسمى النوع الثالث: predication table فالأسماء تقبل الدخول في النوع الأول من هذه الجداول, فلا يدخل النوع الثاني منه إلّا اسم الحدث والميميات, أما الصفات الخمس فتدخل في النوعين الأول والثاني دون الثالث, وأما الأفعال الثلاثة فتدخل في الأول والثاني والثالث على حدٍّ سواء. فالأسماء تستقلّ بالاقتصار على النوع الأول من الجداول لا تشاركها في ذلك الاقتصار الصفات ولا الأفعال. 4- من حيث الرسم الإملائي: يمتاز الاسم والصفة من هذه الناحية بقبول التنوين إملائيًّا بالضمتين في حالة الرفع, وبالألف والفتحتين في حالة النصب, وبالكسرتين في حالة الجر, فإذا وجدت هذه السمات في كلمةٍ فأما أن تكون هذه الكلمة اسمًا أو صفةً, ولا تكون غير ذلك إلّا إذا أدّت معنًى بتنوينها غير معاني التنوين في الأسماء "التمكين", وفي الصفات "سلب معنى الصلة والنسبة". وذلك كالتنوين الذي في خالفة الإخالة "صهٍ" فلهذا التنوين معنًى وظيفي هو التعميم وعدم التعيين, فيشبه التنوين الذي يلحق الفكرة غير المقصودة في النداء نحو: يا رجلًا أقبل, والذي يلحق المصدر النائب عن فعل الأمر نحو: "ضربًا زيدًا", إذ المعنى: يا رجلًا أيًّا كان, وضربًا أيّ نوع من الضرب, وعلى ذلك يكون معنى "صهٍ" أمسك عن أي نوع من أنواع الكلام تحاوله, فإذا أردت كلامًا معينًا أسكنت الهاء في الوصل. وهذه المعاني التي يساق التنوين من أجلها هنا ليست شبيهة بتنوين التمكين الذي للأسماء المصروفة. 5- من حيث اتصاله باللواصق وعدمه: قلنا: إن الأسماء -فيما عدا اسم الحدث والميميات- لا تقبل الدخول في جدول غير الجدول الإلصاقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وفي هذا الجدول نجد الأسماء تقبل أنواعًا خاصة من اللواصق كأداة التعريف وضمائر الجر المتصلة وتاء التأنيث وعلامتي التنثية والجمع, فالأسماء تتصل بهذه اللواصق سواء منها اسم المعنى والميميات وغيرهما, ولا يشارك الاسم في هذه السمات إلّا الصفات, ولكن معنى بعض اللواصق مع الأسماء غير معناها مع الصفات, فالأداة مثلًَا مع الأسماء معرّفة, ومع الصفات موصولة, والإضافة إلى ضمائر الجر المتصلة مع الأسماء محضّة, ومع الصفات لفظية. 6- من حيث التضام وعدمه: المقصود بالتضام هنا غير اتصال اللواصق بالكلمة, فاتصال اللواصق ضم جزء كلمة إلى بقية هذه الكلمة, أما التضامّ فهو تطلُّب إحدى الكلمتين للأخرى في الاستعمال على صورة تجعل إحداهما تستدعي الأخرى, فياء النداء كلمة مستقلة وليست جزء كلمة, والعلاقة بينها وبين المنادى علاقة التضامّ لا علاقة الإلصاق, والمضاف إليه كلمة غير المضاف, ولكن العلاقة بين الكلمتين أنَّ إحداهما تستدعي الأخرى ولا تقف بدونها, ويكفي أن نتذكّر هنا أن بعض الأسماء المبهمة مفتقرة إلى الإضافة, وأن بعض الظروف تتطلّب ضمائر معينة؛ كحيث وإذ وإذا ومذ ومنذ ولما وأيان وأين ومتى وأنى, وكذلك تتطلب واو القسم مقسمًا به, وحرف الجر مجرورًا, وحرف العطف معطوفًا, وهلم جرا. وللأسماء حالات من التضامّ لا يشاركها فيها غيرها إلّا على التوسع, فمن ذلك مجيئها بعد أداة النداء, فإذا جاءت صفة بعدها فإن النحاة يجعلونها على حذف موصوف, وإذا جاء ضمير المخاطب ضمَّنوه معنى يا مخاطب, وإذا جاء ضمير الإشارة كان عندهم مضمنًا معنى يا مشارًا إليه, وهذا هو معنى التوسع المذكور, كذلك الأمر مع واو القسم والإضافة المحضة حيث يكون الاسم في مكان المضاف وهو مكان لا يحل فيه الضمير أبدًا, ولا تحل فيه الصفة إلّا على معنى الإضافة اللفظية, ومن قبيل الكشف عن الاسم بواسطة التضامّ افتقار الميميات إلى التمييز على نحو ما سنرى بعد قليل. 7- من حيث الدلالة على مسمّى: لقد وجدنا الصفة في كلّ ما سبق من السمات تشارك الاسم على صورةٍ ما, فيما يتميز به عن باقي أقسام الكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 أما هنا فيفترق الاسم والصفة, فيمتاز الاسم عن جميع الأقسام الأخرى بأنه يدل على مسمَّى, فالاسم المعين مسمَّاه هو المعين, واسم الحدث مسماه هو الحدث, واسم الجنس مسماه الجنس, والميميات مسماها زمان الحدث أو مكانه أو آلته, والاسم المبهم يدل على مسمَّى غير معين. أما الصفة فلا تدل على مسمَّى -وإنما تدل على موصوف- بالحدث, وأما الفعل فلا يدل على مسمى, وإنما يدل على "اقتران حدث وزمن", وأما الضمير فلا يدل على "مسمى", وإنما يدل على مطلق "حضور أو غيبة" على نحو ما سنرى بعد قليل, وأما الخالفة فإنها تدل على الإفصاح, وأما الظرف فإنه يدل على "الظرفية", والإفصاح والظرفية من المعاني العامة لا من قبيل المسمى, وأما الأدوات فإنها تدل على علاقات لا على مسميات, فبهذا يمتاز الاسم عن بقية أقسام الكلم فلا يشابه واحدًا فيها من حيث المعنى. 8- من حيث الدلالة على حدث: ذكرنا أن من أقسام الاسم ما يسمَّى "اسم الحدث", وهو يضم أنواع المصادر المختلفة, فهذه المصادر تدل على الحدث أو عدده أو نوعه, وقد لخص ابن مالك تعريف المصدر بقوله: المصدر اسم ما سوى الزمان ... من مدلولي الفعل كأمن من أمن والمعروف أن الفعل يدل على حدث وزمن, والذي سوى الزمن من هذين المدلولين هو الحدث, ومن ثَمَّ يكون ابن مالك كأنه قد عرَّف المصدر بأنه "اسم الحدث", ولكن دلالة المصدر على الحدث لا تجعله من الصفات, فهي تدل على "موصوف بالحدث", ولا من الأفعال, فهي تدل على "اقتران الحدث والزمن". فالصلة بين الاسم وبين معنى الحدث تختلف عن صلة الصفة والفعل كليهما بهذا المعنى فصلة الاسم به صلة الاسم بالمسمى, أما مدلول الصفة فهو "الموصوف", وأما مدلول الفعل فهو "الاقتران", وهما غير "الحدث" نفسه. 9- من حيث التعليق: العلاقات النحوية هي الإسناد والتخصيص والنسبة والتبعية, وتحت كلٍّ فروع. فأما من جهة الإسناد فإن الاسم بكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أنواعه يقع موقع المسند إليه, ولكن المصادر "اسم الحدث" منه تقع أحيانًا في موقع المسند بواسطة إضافة معنى الزمن إليها, فإذا أضيف هذا المعنى إلى ما يدل عليه المصدر من الحدث جاء "اقتران الحدث والزمن" الذي هو المدلول الأساسي للفعل, ومن هنا يقع المصدر مسندًا كما يقع الفعل تمامًا. وأما من جهة التخصيص: فإن الأسماء تقع معبرة عن هذه العلاقة فتكون منصوبة على معنى التعدية أو السبية أو المعية أو الظرفية أو التوكيد أو بيان النوع أو العدد أو الحالية أو التمييز أو الإخراج أو الخلاف, والأفعال لا تقع هذا الموقع, ولكن الصفات والضمائر والظروف تقعه. وأما من حيث النسبية: فإن الأسماء تجر على هذا المعنى إما باقترانها بالحروف الجارة أو بالإضافة, وتشاركها أيضًا الصفات والضمائر والظروف. وأما التبعية: فإن الأسماء لا تقع نعوتًا إلّا على التوسع, ولا تقع توكيدًا معنويًّا منها إلّا النفس والعين وكل, ولكنها تقع توكيدًا لفظيًّا, وهي جميعها تقع معطوفة ومعطوفًا عليها كسائر الأقسام, وتقع بيانًا وبدلًا، وهذا المعنى الأخير مما تمتاز به الأسماء ولا سيما البيان. والاسم الظاهر بصورة عامة يقع من حيث التعليق في موقع ضمير الغائب المتصل والمنفصل، المرفوع والمنصوب والمجرور, إلّا في النداء, فربما كان الأجود فيه أن يعتبر واقعًا موقع ضمير المخاطب بقرينة نداء ضمير المخاطب دون غيره من الضمائر في "يا أبجر ابن أبجر يا أنتا". مما تقدَّم عرفنا أن الأسماء ذات سمات تشترك فيها مع الصفات أحيانًا, ومع الضمائر أحيانًا أخرى, ومع الظروف في بعض الحالات, مما قد يثير التساؤل حول جدوى إفرادها بقسم خاصٍّ ليست الصفات منه ولا الضمائر ولا الخوالف ولا الظروف, ولكننا رأينا تحت رقم 2 أن الأسماء تمتاز بصيغ خاصة, وتحت رقم7 أنها تنفرد بالدلالة على "مسمّى", وسنرى في الكلام عن الأقسام الأخرى مبررات أخرى لعزل الأسماء عن هذه الأقسام. وقبل أن أنهي الكلام في سمات الاسم التي تميزه عن بقية أنواع الكلم, أحب أن أوضِّح ما أقصده من مقابلة الاسم المعيّن والاسم المبهم, وأن أمثِّل لكلٍّ منهما مع تفصيل التمثيل لأنواع المبهمات. والمقصود بالاسم المعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 أسماء الذوات كرجل وكتاب وجبل وبيت وأرض وسماء, وبالاسم المبهم ما دلّ على مسمّى غير معين فيحتاج في تعيينه إلى ضميمة من الوصف أو الإضافة أو التمييز, ومن ذلك: - الأعداد كواحد واثنين وثلاثة, وينزاح إبهام هذا النوع من المبهمات بتمييز العدد. - الموازين كأوقية ورطل وقنطار, وينزاح إبهامها بالتمييز أيضًا, أو بالوصف كرطل مصري أو إنجليزي. - المكاييل كقدح ومدٍّ وصاعٍ, ويزول إبهامها بواسطة التمييز أو الوصف كذلك. - المقاييس كشبر وباعٍ وذراعٍ وفدانٍ وميلٍ وفرسخٍ, ويزول إبهامها بالتمييز كما سبق. - الجهات كفوق وتحت وأمام ووراء ويمين وشمال وخلف وإثر, ويزول إبهامها بالإضافة. - الأوقات كحين ووقت وساعة ويوم وشهر وسنة وعام وزمان وأوان, ويزول إبهامها بالإضافة أيضًا أو بالوصف, كقولك: وقت طيب, وساعة مباركة, ويوم أغرّ, وشهر مبارك, إلخ. - أسماء صالحة لمعنى الجهات والأوقات على السواء, فلا يزيل هذا الإبهام عنها إلّا الإضافة إلى جهة, فتصير بمعنى الجهة, أو إلى وقت, فتصير بمعنى الوقت, كعند ولدن وقبل وبعد. والملاحظ أن الجهات والأوقات قد يتوسّع فيها فتنقل عن اسميتها, وتستعمل استعمال الظروف من قبيل تعدد المعنى الوظيفي, فتكون الجهات كظروف المكان, وتكون الأوقات كظروف الزمان, من حيث الوظيفة, ولكن هذا لا يخرجها عن اسميتها ولا يجعلها ظروفًا من "قسم الظرف"؛ لأن تحوّل معناها من الاسمية إلى الظرفية شبيه بما يأتي من أنواع تعدد المعنى الوظيفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 - تناسي وصفية الصفة ونقلها إلى العلمية, كطاهر وشريف وأشعب وحسن. - تناسي الاسمية في المصدر وإنابته عن الفعل بعد إشرابه معنى الزمن, مثل: ضربًا زيدًا. - تناسي الفعلية في الفعل ونقله إلى معنى اسم العلم, مثل: يشكر ويزيد. - تناسي معنى الظرفية في الظروف واستعمالها أدوات للشرط أو الاستفهام, مثل: متى وأين وحيث. - تناسي الإشارة المكانية في كلمات, مثل: هنا وثَمَّ, واستخدامها بمعنى الظروف. - تناسي معنى الحرفية في حرف الجر "مذ ومنذ", واستخدامهما استخدام الظرف بإيرادهما مع الجمل, مع أن معناهما ابتداء الغاية, ويكونان ظرفين من قبيل تعدد المعنى الوظيفي. - تناسي معنى الموصول في "من وما", واستعمالهما في الشرط والاستفهام وغير ذلك من المعاني. كل ذلك من قبيل النقل و"تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الصرفي الواحد", وهو موضوع واسع الأطراف في دراسة اللغة العربية الفصحى, ولنا عود إليه في مناسبة مقبلة عند دراسة "المبنى" في هذا الكتاب إن شاء الله, وسيتضح بالأمثلة خطر هذه الظاهرة -ظاهرة التعدد والاحتمال في المعنى الوظيفي- في طرق تركيب اللغة العربية وأساليبها المتنوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ب- الصفة : ذكر الأشموني تحت عنوان: "الصفة المشبهة باسم الفاعل"1, أن الشارح عرَّف الصفة المشبهة بقوله: "ما صيغ لغير تفضيل من فعل لازم لقصد نسبة الحدث إلى الموصوف به دون إفادة معنى الحدوث". وواضح أن المقصود بالحدث هنا معنى المصدر, وأن المراد بالحدوث الوقوع, فإذا أضفنا إلى ذلك أنه عرَّف اسم الفاعل بأنه الصفة الدالة على فاعل, وعرَّف اسم المفعول بأنه ما دلَّ على الحدث ومفعوله, وأن مدلول صيغ المبالغة هو المبالغة والتكثير, وأن معنى اسم التفضيل هو التفضيل, أدركنا أن الصفة -والمقصود هنا صفة الفاعل أو المفعول أو المبالغة أو المشبهة أو التفضيل- لا تدل على مسمَّى بها, وإنما تدل على موصوفٍ بما تحمله من معنى الحدث -أي معنى المصدر, وهي بهذا خارجة عن التعريف الذي ارتضاه النحاة للاسم حين قالوا: الاسم ما دلَّ على مسمى, والصفات كما ذكرنا خمس هي: - صفة الفاعل - صفة المفعول - صفة المبالغة - الصفة المشبهة - صفة التفضيل وتختلف كل صفة منها عن الأخريات مبنًى ومعنًى, فأما من حيث المبنى فلكل صفة منها صيغ خاصة بها, وأما من حيث المعنى فقد رأينا كيف فرَّق الأشموني بين معانيها في العبارات التي أوردناها منذ قليل, ولكننا مع ذلك يجب أن نصف اختلافها في المعنى على طريقتنا نحن, وألا نقنع بما ساقه الأشموني. فصفة الفالع تدل على وصف الفاعل بالحدث منقطعًا متجددًا, وصفة المفعول تدل على وصف المفعول بالحدث كذلك على سبيل الانقطاع والتجدد, وصفة المبالغة تدل على وصف الفاعل بالحدث على طريق المبالغة, والصفة المشبهة تدل على وصفه به على سبيل الدوام والثبوت, وصفة التفضيل تدل على وصفه به أيضًا على سبيل تفضيله على غيره ممن يتصف بالحدث على طريقة أي من الصفات السابقة. مما سبق يمكن أن نرى أن القيم الخلافية المتعلقة بالمعنى, والتي تفرق بين صفة وأخرى من الصفات السابقة هي: الانقطاع في مقابل الاستمرار أو الدوام, ثم التجدد في مقابل الثبوت, ثم المبالغة في مقابل مجرد الوصف, ثم التفضيل في مقابل كل ما عداه من الصفات. ولا شكّ أن الانقطاع والاستمرار, أو الدوام والتجدد والثبوت والمبالغة والتفضيل, مما يمكن عدَّه من "معاني الجهة", وهي معانٍ نرجئ القول فيها إلى مكانه من الكلام في نظام الزمن النحوي. على أن الصفة المشبهة من بين هذه تتعدد صيغها تعددًا يجعلها صالحة للبس من حيث المبنى مع كل واحدة من الصفات الأخرى لولا أن معناها يختلف -من حيث هو الدوام والثبوت- عن معاني الصفات, فيوضح أن هذه الصيغة المعرَّضة للإلباس تنجو منه بفضل ما يفهم منها من معنى الثبوت والدوام   1 شرح الأشموني على ألفية ابن مالك, تحقيق: محي الدين عبد الحميد, ص355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فالصفة المشبهة تشبه في مبناها صيغة الفاعل كطاهر, والمفعول كموجود -صفة من صفات الله, أو المبالغة كوقح, أو التفضيل كأبرص وأشدق. فالمعنى يفرق بين كل واحدة من هذه الصفات وبين الأخريات إذا اتفقت الصيغة في أيّ اثنين منها, وإنما أفردنا هذه الصفات بقسمٍ خاصٍّ من أقسام الكلم لما تتميز به في مجموعها عن بقية الأقسام من سماتٍ يتصل بعضها بالمبنى, وبعضها الآخر بالمعنى على النحو التالي: 1- من حيث الصورة الإعرابية: تشارك الصفات الأسماء في قبول الجر لفظًا, أو في ظهور حركة الكسرة على آخرها لإفادة حالة الجر "أي: إفادة علاقة النسبة"1, وتوكيدًا لهذه المشاركة أيضًا تأبي الصفات ما يأباه الاسم من الجزم والإسكان في غير الوقف, وبهذا تتميز الصفات عن الأفعال والخوالف والأدوات على نحو ما تميزت الأسماء عنها أيضًا, ولكن الصفات بهذا تفارق الضمائر والظروف التي لا تقبل الجر لفظًا, وإنما تقبله محلًّا فقط. 2- من حيث الصيغة: تمتاز الصفات عن بقية أقسام الكلم بصيغ خاصة مشتقة من أصولها لتكون أوصافًا, فإذا اتفقت صيغة الصفة وصيغة الاسم2. كما في: الصيغة الاسم الصفة فعل فلس سهل فعل فرس بطل فعل كبد حذر فعل عضد يقظ فعل عدل نكس فعل عنب قيم أي: قَيِّم {دِينًا قِيَمًا} . فعل إبل أتان إبد أي: ولود. فعل قفل حلو فعل صرد حطم فعل عنق جنب   1 انظر معنى "علاقة النسبة" في موضعه من هذا الكتاب. 2 مأخوذ من الأشموني: باب التصريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 كان الجدول عونًا في تحديد ما كان من الأمثلة اسمًا أو صفة, فما كان له فعل من مادته, أو كان صالحًا لذلك, فهو صفة, وما لم يكن له فعل من مادته فهو اسم, على أن هذه النقطة هي موضوع المناقشة في الفقرة التالية. 3- من حيث الجدول: ذكرنا تحت رقم2 أن الذي يعين على نسبة الصيغة إلى الاسم أو إلى الصفة عند اتفاقهما, إنما هو الجدول التصريفي الذي يحكي قصة العلاقات الاشتقاقية بين الصيغة والصيغة الأخرى من خلال المثال, فإذا أخذنا كلمة فلس مثلًا, لم نجد تحت مادتها فعلًا ثلاثيًّا ماضيًا ولا مضارعًا ولا أمرًا ولا صفة فاعل ولا مفعول ولا مبالغة ولا تفضيل, ومن ثَمَّ نعزف عن أن نعتبرها صفة مشبهة, كما نعتبر الكلمة التي تقف بإزائها "سهل". أما سهل: فإن مادتها الاشتقاقية تمتد على صيغ فعلية ووصفية أخرى مثل: سهل ويسهل وأسهل من غيره, ومن ثَمَّ تكون الكلمة صفة لا اسمًا, وهذا هو المعنى الذي قصدنا إليه عند الكلام عن الأسماء حين ذكرنا أن الأسماء تقبل الدخول في الجدول الإلصاقي ولا تقبل الدخول في الجدول التصريفي على عكس الصفات فهي تقبل الدخول فيهما جميعًا, ويمكن إيضاح هذا الكلام بالشكل التالي: وهكذا تمتاز الصفة عن الاسم والفعل من جهة الجدول. 4- من حيث الإلصاق وعدمه: لا فرق بين الأسماء والصفات من جهة ما يلصق بهما, فكلاهما يقبل الجر والتنوين وأل والإضافة إلى ضمائر الجر المتصلة, وهما يمتازان معًا هنا عن بقية أجزاء الكلم، ولكننا سنرى أنهما مع اتفاهما مبنًى سيفرق معنى الإلصاق بينهما, وذلك تحت العنوان "رقم 5" التالي مباشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 5- من حيث التضام: ذكرنا أن الأسماء والصفات تتشابه من حيث الإلصاق؛ حيث نجد القسمين يقبلان الجر والتنوين وأل والإضافة، ولكن التنوين في الأسماء للتمكين, أي: الخلوّ مما يمنع من الصرف، وأما التنوين في الصفات فهو لتفريغ الصفة لإحدى علاقتي الإسناد والتخصيص1؛ حيث يتبعها المرفوع مع العلاقة الأولى, والمنصوب مع العلاقة الثانية, أو أن التنوين في الصفة حين يفهم عن طريق الدلالة العدمية وهو أفضل وأدق, يكون معناه سلب الصلة والإضافة. فالصلة حين تكون الصفة مع أل والإضافة حين يتلوها المضاف إليه اللفظي. معنى هذا أن الصفة من حيث التضام تلتقي مع الاسم من ناحية ومع الفعل من ناحية أخرى, فتقبل كما يقبل الاسم النداء, وأن تكون مسندًا إليه, وأن تكون مضافًا أو مضافًا إليه، وتقبل كما تقبل الأفعال أن تكون مسندًا, وكذلك تكون متعدية أو لازمة, فتضام المفعول به مباشرة أو بواسطة الحرف, فمشابهتها للأسماء تنفي عنها أن تكون فعلًا، ومشابهتها للأفعال تنفي عنها أن تكون اسمًا. وإذا لم تكن الصفة اسمًا من الأسماء, ولا فعلًا من الأفعال, فلا بُدَّ لها أن تكون قسمًا قائمًا بذاته من أقسام الكلم. 6- من حيث الدلالة على الحدث: تدل الصفة على الموصوف بالحدث, فلا تدل على الحدث وحده كما يدل المصدر, ولا على اقتران الحدث والزمن كما يدل الفعل, ولا على مطلق مسمّى كما تدل الأسماء, فهي بهذا أيضًا تختلف عن بقية أقسام الكلم جميعها. 7- من حيث الدلالة على الزمن: إذا كان الفعل يدل على الزمن دلالة صرفية بحكم مبناه حتى وهو خارج السياق، فإن الصفات لا تدل دلالة صرفية على الزمن, وإنما تشرب معنى الزمن النحوي في السياق من باب تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد بعينه, كما سنشرحه بعد قليل. ومعنى هذا أن زمن الفعل يكون صرفيًّا في الإفراد, ونحويًّا في السياق, ولكن ما ينسب إلى الصفة من معنى الزمن لا يمكن أن ينسب إليها مفردة خارج السياق, وإنما يكون الزمن وظيفة للصفة في السياق فقط, أي: إن زمن الصفة نحوي ولا يكون صرفيًّا   1 انظر المقصود بهاتين العبارتين تحت عنوان: "النظام النحوي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أبدًا. وبهذا تمتاز الصفة بقبولها معنى الزمن عن الأسماء, فالزمن ليس جزءًا من معنى الأسماء, وتمتاز برفضها أن تدل عليه بصيغتها الصرفية عن الأفعال التي تعتبر الزمن جزءًا من معناها على جميع المستويات. 8- من حيث التعليق: ذكرنا من قبل أن الاسم يكون مسندًا إليه فقط "إلّا مع النقل وتعدد المعنى الوظيفي في حالة المصدر", وأن الفعل يكون مسندًا فقط، أما الصفات فتقبل أن تكون مسندًا فتؤدي وظيفة شبيهة بوظيفة الفعل في التعليق؛ حيث تطلب مسندًا إليه أو منصوبًا أو تكون خبرًا لمبتدأ, ثم هي كذلك تقبل أن تكون مسندًا إليه, فتكون فاعلًا أو نائب فاعل أو مبتدأ, نحو: خير منك يفعل هذا، وجاء الحسن وجهه، وحُمِدَ المصون شرفه, فالحسن في الجملة الثانية, والمصون في الجملة الثالثة, كان من قبيل المسند إليه باعتبار ما قبله, ومن قبيل المسند باعتبار ما بعده. وإذا كانت الأسماء من حيث التخصيص تخصص الإسناد بواسطة التعدية أو السببية أو المعية إلخ, ولا يخصصها غيرها, وكانت الأفعال باعتبارها أحداثًا مسندة إلى غيرها تقبل التخصيص ولا تخصص هي شيئًا، فإن الصفات تخصص غيرها كالأسماء ويخصصها غيرها كالأفعال, فتكون الصفة مثلًا مفعولًا به ويكون لها مفعول به. هذه الخاصة من خواص الصفات تجعل من المقبول أن نتكلم عن "جملة وصفية" تقابل الجملتين الاسمية والفعلية, وتكون هذه الجملة أصلية كما في "أقائم المؤمنون للصلاة", وتكون فرعية نحو: "رأيت إمامًا قائمًا تابعوه للصلاة", ونلاحظ هنا أن الصفات كالأفعال في أنها لا تطابق الفاعل إفرادًا وتثنية وجمعًا. وهي بهذا تمتاز عن الأسماء والأفعال وبقية أقسام الكلم, ويحق لها أن تكون قسمًا من الكلم قائمًا بذاته. وإذا أردنا أن نحصي السمات التي تتسم بها الصفات فتبرر إفرادها في قسم خاصٍّ من أقسام الكلم وجدناها تحت أرقام 2، 3، 5، 6 7، 8, أي: إن هناك ستة مبررات تدعو إلى أن تكون الصفات قسمًا خاصًّا من الكلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 جـ- الفعل : عرَّف النحاة الفعل بأنه ما دلَّ على حدث وزمن, ودلالته على الحدث تأتي عن اشتراكه مع مصدره في مادة واحدة، والمعروف أن المصدر اسم الحدث, فما شاركه في مادة اشتقاقه كالفعل والصفة والميميات لا بُدَّ أن يكون على صلة من نوعٍ ما بمعنى الحدث؛ كالدلالة على اقتران الحدث بالزمان, أو على موصوف بالحدث, أو على مكان الحدث أو زمانه أو آلته. وأما معنى الزمن فإنه يأتي على المستوى الصرفي من شكل الصيغة, وعلى المستوى النحوي من مجرى السياق، ومعنى إتيان الزمن على المستوى الصرفي من شكل الصيغة أنَّ الزمن هنا وظيفة الصيغة المفردة, ومعنى أن الزمن يأتي على المستوى النحوي من مجرد السياق أن الزمن في النحو وظيفة السياق وليس وظيفة صيغة الفعل؛ لأن الفعل الذي على صيغة فعل قد يدل في السياق على المستقبل، والذي على صيغة المضارع قد يدل فيه على الماضي. فقول النحاة: "والزمن جزء منه" قول مقبول على مستوى الصرف فقط, ويمكن من الناحية الصرفية أن نمثِّل العلاقة بين الحدث والزمن على النحو الآتي: والفعل من حيث المبنى الصرفي ماضٍ ومضارع وأمر, فهذه الأقسام الثلاثة تختلف من حيث المبنى وهي فوق ذلك تختلف من حيث المعنى الصرفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الزمني أيضًا، فأما من حيث المبنى: فلكلٍّ منها صيغته الخاصة ما بين مجرَّدة أو مزيدة من الثلاثي أو الرباعي, كما أن كل واحد منها يمتاز عن صاحبه بسمات خاصة, فالماضي يستبين بقبول تاء الفاعل وتاء التأنيث, والمضارع يبدأ بأحد حروف المضارعة, ويقبل لام الأمر ونوني التوكيد والإناث, ويضامّ السين وسوف ولم ولن, والأمر يضام النونين دون غيرهما من هذه القرائن. وأما من حيث المعنى: فإن هذه الأفعال الثلاثة تختلف في دلالتها بصيغها على الزمن على النحو التالي: هذا هو النظام الزمني الصرفي في اللغة الفصحى, ومنه يبدو أن صيغة فعل ونحوها مقصورة على الماضي, وأن صيغتي يفعل وأفعل ونحوهما, إما أن يكونا للحال أو للاستقبال, فلا يتحدد لأيٍّ منهما أحد المعنيين إلّا بقرينة السياق، لأن السياق يحمل من القرائن اللفظية والمعنوية والحالية ما يعين على فهم الزمن في مجال أوسع من مجرد المجال الصرفي المحدود. وهكذا يكون نظام الزمن جزءًا من النظام الصرفي، وأما الزمن السياقي النحوي: فإنه جزء من الظواهر الموقعية السياقية؛ لأن دلالة الفعل على زمنٍ ما تتوقف على موقعه وعلى قرينته في السياق, وتتضح العلاقة بين هذين النوعين من أنواع الزمن من الشكل الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وللأفعال في جملتها سمات من المبنى والمعنى يمكن تمييزها بها عن غيرها، ومن ثَمَّ تكون قسمًا مستقلًّا من أقسام الكلم في العربية الفصحى, ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي: 1- من حيث الصورة الإعرابية: يختص الفعل بقبول الجزم "وهو المضارع من بين الأفعال", فلا يشاركه فيه قسم آخر من أقسام الكلم, والمعروف أن الجزم حالة إعرابية تختلف عن البناء على السكون, وهذا البناء على السكون ليس سمة خاصّة لأي قسم من أقسام الكلم, وإذا كان الماضي لا يجزم لفظًا فإنه يجزم محلًّا حين يكون شرطًا, ولا جزم لفعل الأمر من أي نوع. 2- من حيث الصيغة الخاصة: هناك صيغ محفوظة قياسية مبوبة إلى ستة أبواب للفعل الثلاثي, وهناك صيغ أخرى محفوظة قياسية للأفعال مما زاد على الثلاثة, ثم هناك صيغ من كل ذلك لما بني للمعلوم, وصيغ أخرى لما بني للمجهول, ومن هنا يمكن لنا أن نميز الفعل بهذه الصيغ من غيره من أقسام الكلم بمجرد معرفة الصيغة, وبهذا تمتاز الأفعال عن بقية الأقسام. 3- من حيث الجدول: الأفعال تقبل الدخول في جميع أنواع الجداول, فإذا وصفنا الفعل في جدول إلصاقي فإننا نستطيع أن نخبر بهذا الجدول مدى تقبل الفعل للتاءين أو لحروف المضارعة أو النونين أو ما يلصق به أي نوع من الإلصاق؛ كالضمائر المتصلة وسين التنفيس وهلم جرا. وإذا وضعنا الفعل في الجدول التصريفي أمكننا أن نعرف ما إذا كان الفعل متصرفًا أو غير متصرف, وما إذا كان المتصرف منه تامّ التصرف أو ناقص التصرف, أما إذا وضعنا الفعل في جدولٍ إسنادي فإننا سنتعلم من الجدول طريقة إسناد الفعل إلى الضمائر المختلفة, وما يترتب على ذلك في بعض الإسنادات من إعلال أو إبدال أو نقل أو حذف أو غير ذلك, ولا يقبل الدخول في جميع أنواع الجداول على هذا النحو إلّا الفعل, وبذا يمتاز الفعل عن بقية أقسام الكلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 4- من حيث الإلصاق وعدمه: تمتاز الأفعال من هذه الناحية بقبول طائفة من اللواصق التي لا تلصق بغيرها, ومنها الضمائر المتصلة في حالة الرفع, والسين ولام الأمر وحروف المضارعة وتاء التأنيث, وقد أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة قبل قليل. 5- من حيث التضام: تختص الأفعال بقبول التضامّ مع قد وسوف ولم ولن ولا الناهية, وحين يكون الفعل لازمًا يكون وصوله إلى المفعول به بواسطة ضميمة مختارة من حروف الجر. 6- من حيث الدلالة على الحدث: تدل الأفعال على الحدث دلالة تضمنية، لأن الحدث جزء معناها, فهي تدل إلى جانبه على الزمن, فتختلف عن الأسماء التي تدل على مسمى, وعن المصدر من بين الأسماء من حيث تكون دلالة المصدر على الحدث دلالة مطابقة لا تضمن، فالحدث هو كل معنى المصدر ولكنه جزء معنى الفعل, وكذلك يختلف الفعل بهذا عن الصفة التي تدل على موصوف بالحدث لا على الحدث نفسه. 7- من حيث الدلالة على الزمن: سبق أن ذكرنا أن الأفعال تدل على الزمن بصيغتها دلالة وظيفية صرفية مطَّردة, وبهذا يختلف الفعل عن الصفة التي لا تتصل بمعنى الزمن إلّا من خلال علاقات السياق, فدلالة الصفة على الزمن وظيفة السياق لا وظيفة الصفة، وكذلك تختلف الأفعال في دلالتها على الزمن عن الأدوات الفعلية الناسخة مثل: كان وكاد وأخواتهما؛ لأن الزمن وحده هو معنى هذه النواسخ, فلا يقترن فيها بمعنى الحدث, وإذا اقترن بشيء من المعاني الأخرى، فإنه يقترن ببعض معاني الجهة كالمقاربة والشروع والاستمرار وهلم جرا. 8- من حيث التعليق: يبدو الفعل في السياق في صورة المسند, ولا يكون مسندًا إليه أبدًا, فهو بذلك عكس الاسم تمامًا, ومختلف عن الصفة, كما يبدو من الشكل الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 تؤخذ اسكنر بهذا عرفنا أن الفعل يمتاز عن كل ما عداه من أقسام الكلم، من حيث استقلاله بصيغ معينة، ومن حيث استقلاله بقبول الجزم لفظًا أو محلًّا، ومن حيث استقلاله بقبول الدخول في جدول إسنادي، ومن حيث تفرّده بقبول إلصاق ضمائر الرفع المتصلة به، ومن حيث التضام مع كلمات أو عناصر لا تضام غير الأفعال، ثم من حيث اقتصاره على أداء وظيفة المسند في السياق, وقصوره عن أداء وظيفة المسند إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 د- الضمير : لا يدل الضمير على مسمى كالاسم, ولا على موصوف بالحدث كالصفة, ولا على حدث وزمن كالفعل، لأن دلالة الضمير تتجه إلى المعاني الصرفية العامة التي أطلقنا عليها معاني التصريف, والتي قلنا: إنها يعبَّر عنها باللواصق والزوائد ونحوها. والمعنى الصرفي العام الذي يعبر عنه الضمير هو عموم الحاضر أو الغائب دون دلالة على خصوص الغائب أو الحاضر, وهذا هو المقصود بقول ابن مالك: وما لذي غيبة أو حضور ... كأنت وهو سمّ بالضمير والحضور قد يكون حضور تكلم كأنا ونحن, وقد يكون حضور خطاب كأنت وفروعها, أو حضور إشارة كهذه وفروعها، والغيبة قد تكون شخصية كما في هو وفروعه، وقد تكون موصولية كما في الذي وفروعه, وتتبين العلاقة بين هذه الأقسام من الشكل الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ومعنى ذلك أن الضمائر في اللغة العربية الفصحى تنقسم إلى ثلاثة أقسام: - ضمائر الشخص. - ضمائر الإشارة. - ضمائر الموصول. وهذه الضمائر جميعًا دلت على معانٍ صرفية عامَّة مما يقول النحاة عنه: إنه "حقه أن يؤدي بالحرف" ولذلك فإن الضمائر لهذا السبب تشبه الحرف شبها معنويا بالإضافة إلى الشبه اللفظي الذي يظهر في بعضها. فلا فارق في الطابع بين معنى الحضور والغيبة. وبين معاني التأكيد والنفي والاستفهام والشرط وابتداء الغاية والمعية والمجاوزة والسببية والظرفية، وغيرها من المعاني التي تؤديها الحروف والأدوات المسماة بأسماء هذه المعاني العامة ومن هنا لا يمكن وصف الضمير بالتعريف أو التنكير في النظام وإنما يكون معرفة حين تعين على ذلك قرائن السياق1. وبهذا تختلف الضمائر من حيث المعنى عن الأسماء والصفات والأفعال. أما من حيث المبنى فالمعروف أن الضمائر ليست ذات أصول اشتقاقية فلا تنسب إلى أصول ثلاثة ولا تتغير صورها التي هي عليها كما تتقلب الصيغ الصرفية بحسب المعاني ثم هي لا تبقى على صورة واحدة في الأماكن المختلفة من السياق وإنما يلحقها بعض الظواهر الموقعية من الإشباع والأضعاف واختلاف الحركة بحسب مناسبة الحركة التي بجوارها وذلك كالفرق بين له وبه، ولهم وبهم ومنهم وعليهم الخ. ثم إن الضمائر جميعا من المبنيات التي لا تظهر عليها حركات الإعراب ولا تقبل بعض علامات الأسماء كالتنوين ولا تقع موقع المضاف وإن صح فيها أن تقع موقع المضاف إليه والضمائر جميعا مفتقرة إلى القرائن باعتبارها شرطا أساسيا لدلالتها على معين فضمير المتكلم والمخاطب والإشارة قرينتها الحضور وأما ضمير الغائب فقرينته المرجع المتقدم إما لفظا أو رتبة أو هما معا فهذا المرجع هو القرينة التي تدل على المقصود   1 قرينة الحضور بالنسبة للمتكلم والمخاطب والمشار إليه وقرينة المرجع بالنسبة للغائب والمرجع أو الصلة بالنسبة للموصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 بضمير الغائب، وأما الموصول فقرينته جملة الصلة التي تشرح المقصود به وترتبط به بواسطة ضمير فيها يعود عليه, فافتقار الضمائر على هذه الصورة إلى الحضور مرة, والمرجع مرة أخرى, والوصل مرة ثالثة, تبرر إفراد الضمير بقسمٍ خاصٍّ من أقسام الكلم. وهذه السمات في دلالة الضمائر وصورها هي التي دعت برتراند رسل إلى أن يسميها خواص مركزية ذاتية1 Ego Centric particulars وتمتاز هذه الضمائر عن بقية الأقسام من حيث المبنى والمعنى بالسمات الآتية: 1- من حيث الصورة الإعرابية: كلها مبنيات لا تظهر عليها الحركات, وإنما تنسب إلى محلها الإعرابي. 2- من حيث الصيغة: كل الضمائر لا تنتمي إلى أصول اشتقاقية ولا تتصل أسبابها من ثَمَّ بصيغ أخرى, وهذه السمة في الضمائر تقرب بها من حيث المبنى من طابع الظروف2 والأدوات. 3- من حيث الرتبة: ذكرنا منذ قليل أن الضمائر تكون ذات مراجع متقدمة عليها في اللفظ أو في الرتبة أو فيهما معًا، والأغلب في هذا المرجع أن يكون اسمًا ظاهرًا محدد المدلول، ومن هنا يكون تحديد دلالة هذا الظاهر قرينة لفظية تعيّن الإبهام الذي كان الضمير يشتمل عليه بالوضع؛ لأن معنى الضمير وظيفي وهو الحاضر أو الغائب على إطلاقهما, فلا يدل دلالة معجمية إلّا بضميمة المرجع, وبواسطة هذا المرجع يمكن أن يدل الضمير على معين، وتقدَّم هذا المرجع لفظًا أو رتبةً أو هما معًا ضروري للوصول إلى هذه الدلالة. أما ضمير الموصول فقد يصف اسمًا ظاهرًا متقدِّم الرتبة واللفظ, فيكون الظاهر مرجعًا له، وقد لا يصف ظاهرًا فتكون الصلة أيضًا للمقصود بالموصول فهي تحدده، كما تحدد الصفة الموصوف أي كما يتحدد المنعوت بالنعت على نحو ما رأينا في الكلام عن الاسم المبهم. 4- من حيث الإلصاق: كما تكون الضمائر المنفصلة مباني تقسيم   1 B Russel Human Knowledge 2 انظر ص119 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 تكون الضمائر المتصلة مباني تصريف, فتقوم بدور اللواصق التي تلصق بغيرها من الكلمات, سواء أكان الضمير مرفوعًا أم منصوبًا أم مجرورًا، أما إلصاق غيرها بها فيتمثل في حرف الإشباع وهاء التنبيه ولام البعد وكاف الخطاب، كما نرى الإشارة والموصول في التثنية يتقبلان الألف والنون رفعًا والياء والنون نصبًا وجرًّا, وقد يقع ضمير الشخص حشوًا في اسم الإشارة فتنفصل به هاء التنبيه عن ضمير الإشارة نفسه, كما يرى في الجدول الآتي: هأنذا هأنت ذا ها هو ذا ها نحن أولاء هأنت ذي ها هي ذي هأنتما ذان ها هما ذان ها أنتماتان ها هما تان ها أنتم أولاء ها هم أولاء هأنتن أولاء ها هن أولاء وبهذا يختلف الضمير عن الأسماء والصفات, فلا يمكن عدَّه اسمًا من الأسماء, وإنما ينبغي له أن يكون قسمًا قائمًا بذاته من أقسام الكلم يتعدد معناه بين التقسيم والتصريف. 5- من حيث التضام: الضمائر تضام الأدوات في حالة النداء والقسم والنسخ وفي الاستفهام والتوكيد وهلم جرا، وهي كذلك تضام حروف الجر والعطف والاستثناء إلخ. ولقد رأينا كيف يحتاج الضمير إلى ضميمة توضحه من مرجع أو صلة, ويكون الضمير مضافًا إليه فيضام المضاف, ولكنه لا يكون هو مضافًا أبدًا, فتفترق الضمائر بهذه السمة الأخيرة عن الأسماء والصفات ومن ثَمَّ لا تكون منها وتصبح بذاتها قسمًا مستقلًّا. 6- من حيث الرسم الإملائي: الضمائر المتصلة لواصق لا تستقل في الكتابة عمَّا لصقت به فهي من وجهة النظر الكتابية المحضة أجزاء كلمات لا كلمات، وهي بذلك تشارك الأدوات في سمة من سماتها حين تكون الأداة على حرف واحد, فإنه تلتصق بالكلمة وتصير كالجزء منها, وذلك نحو باء الجر ولامه وباء القسم وفاء العطف وفاء الجواب ولام القسم وهلم جرا، وبهذا تمتاز الضمائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 عن بقية الأقسام إلّا الأداة، لأن فعل الأمر مثلًا حين يصير على حرف واحد لا يلتصق بالكلمة التي تجاوزه, وإنما يظل كلمة قائمة بذاتها نحو: "ق نفسك", وبهذا تصبح الضمائر ذات طابع كتابي خاص يبعد بها عن بقية الأقسام. 7- من حيث المسمَّى: ذكرنا أن الضمائر تدل دلالة وظيفية على مطلق غائب أو حاضر, فهي لا تدل على مسمَّى كما تدل الأسماء، فإذا أريد لها أن تدل عليه فتنقلب دلالتها من وظيفية إلى معجمية كان ذلك بواسطة المرجع, فدلالتها على المسمَّى لا تتأتي إلّا بمعونة الاسم. 8- من حيث التعليق: لا شكَّ أن الضمائر تلعب دورًا هامًّا جدًّا في علاقة الربط, فعودها إلى مرجع يغني عن تكرار لفظ ما رجعت إليه, ومن هنا يؤدي إلى تماسك أطراف الجملة, ومن المعروف أن الضمير يعود مثلًا من جملة الخبر على المبتدأ, ومن جملة الحال على صاحب الحال, ومن جملة النعت على المنعوت, ومن جملة الصلة على الموصول, فيجعل الجملة في كل حالة من هذه واضحة الوظيفة غير معرضة للبس. من هذه السمات التي تمتاز بها الضمائر عن بقية أقسام الكلم يمكننا أن نرى لماذا استحقت الضمائر بمختلف أنواعها أن تفرد بقسم خاص في إطار مباني التقسيم في الصرف العربي, بعد أن جعلها النحاة في عداد الأسماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 هـ الخوالف : الخوالف كلمات تستعمل في أساليب إفصاحية، أي: في الأساليب التي تستعمل للكشف عن موقف انفعالي ما والإفصاح عنه, فهي من حيث استعمالها قريبة الشبه بما يسمّونه في اللغة الإنجليزية Exclamation وهذه الكلمات ذات أربعة أنواع: 1- خالفة الإخالة ويسميها النحاة: "اسم الفعل", ويقسِّمونها اعتباطًا ودون سند من المبنى أو المعنى إلى اسم فعل ماض كهيهات, واسم فعل مضارع كوي, واسم فعل أمر كصه, وسنرى بعد قليل بعد ما بين هذه الأفعال وتلك الخوالف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 2- خالفة الصوت ويسميها النحاة "اسم الصوت", ولا يقوم دليل على اسميتها لا من حيث المبنى ولا من حيث المعنى, فهي لا تقبل علامات الأسماء "إلّا على الحكاية شأنها في ذلك شأن الأفعال والجمل". وذلك نحو: هلَّا لزجر الخيل, وكخ للطفل, وعاه للإبل, وهج للغنم, وحشر للحمار, وبس للقطة, وكذلك أصوات دعوة الحيوان, وحكاية الأصوات مثل: هأ هأ لحكاية الحك, وطاق للضرب, وطَقْ لوقع الحجر, وهلم جرا. 3- خالفة التعجب ويسميها النحاة صيغة التعجب, وليس هناك من دليل على فعليتها، بل إن هناك ما يدعو إلى الظنّ أن خالفة التعجب ليست إلّا أفعل تفضيل تُنُوسِيَ فيه هذا المعنى وأدخل في تركيب جديد لإفادة معنى جديد يمت إلى المعنى الأول بصلة, وليس المنصوب بعد إلّا المفضَّل الذي نراه هنا بعد صيغة التفضيل, ولكنه في تركيب جديد وبمعنى جديد, وليست العلاقة بين الصيغة وبينه علاقة التعدية, وقد سبق لنا أن ذكرنا أمر نقل الصفة إلى علم, والفعل إلى علم "ومن العلم ما ينقل", ونقل الظروف إلى أدوات, والإشارة المكانية إلى الظرفية, وبعض حروف الجر إلى الظرفية, فلا جرم أننا نزعم هنا أن صيغة التعجب هي صيغة التفضيل منقولة إلى معنى جديد في تركيب جديد, ولا سيما لأنها ورد تصغيرها كما يصغَّر التفضيل, وإن شروط صياغتهما واحدة. صغ من مصوغ من للتعجب ... أفعل للتفضيل وأب اللِّذْ أبى وما به إلى تعجب وصل ... لمانع به إلى التفضيل صل ولكن هذه الصيغة في تركيبها الجديد أصبحت مسكوكة لا تقبل الدخول في جدول إسنادي كما تدخل الأفعال, ولا في جدول تصريفي كما تدخل الأفعال والصفات, ولا في جدول إلصاقي كما يدخل هذان ومعهما الأسماء, ولعل فيما يأتي ما يوضح بعض الفهم الذي خطر لي بالنسبة لتركيبي التعجب: ما= أداة تعجب أفعل= خالفة منقولة عن التفضيل زيدًا= المفضل وقد أصبح متعجبًا منه التركيب كله مسكوك idiomatic كالأمثال التي لا تتغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أَفْعِلْ= صورة أخرى من أفعل التفضيل بـ= مضمَّنة معنى اللام زيد= المفضَّل وقد أصبح متعجبًا منه والمعنى ما أشد عجبي له, والتركيب مسكوك ثابت الصورة, والمعنى في الحالتين على الإفصاح "أي: التعبير عن الانفعال والتأثر". 4- خالفة المدح أو الذم, ويسميها النحاة: "فعلي المدح والذم", ولكنهم اختلفوا حول المعنى التقسيمي لهاتين الخالفتين, فرآها بعضهم أفعالًا ورآها آخرون أسماء1, وذهب كل من الفريقين يلتمس القرائن المؤيدة لرأيه, فأما القائلون بالفعلية فقالوا: إنها ترفع الاسم الظاهر وضميره, وتقبل التاء الساكنة كالأفعال, وأما القائلون بالاسمية فقالوا: إن حرفي الجر والنداء يدخلان عليها, فالنضام الذي بينها وبينهما قرينة على اسمتيها, وغفل الأوّلون عن أنّ هذين اللفظين لا يقبلان من علامات الأفعال إلّا هذه التاء الساكنة, أما تاء فعلت وياء افعلي ونون أقبلن والتصرف إلى مضارع وأمر, بل التصرف في داخل الإسناد فيما عدا قبول تلك التاء, فلا يقبل شيئًا منه, وكل ذلك يطعن في فعليتهما, وغفل الآخرون عن أن حرف الجر يدخل على الجملة المحكيّة حين يقصد لفظها, فليس في دخول الباء على نعم في "والله ما هي بنعم الولد" ما يؤكد اسميتها, ولا سيما إذا نظرنا إلى إبائها قبول بقية علامات الأسماء, زد على ذلك أن هذين اللفظين ليس معناهما الفعل الماضي كما زعم القائلون بذلك، وإنما معناهما الإفصاح عن تأثر وانفعال دعا إلى المدح أو الذم, بل إن ابن جني في اللمع يقول: إن معناهما "المبالغة" في المدح والذم, وتعبيره بالمبالغة يتَّجه اتجاه تعبيري بالإفصاح, وفي كلا التعبيرين إشارة إلى ما هو أكثر من مجرد المدح أو الذم. والذي يقال في نعم وبئس يقال أيضًا في حبذا ولا حبذا, فلا صلة لهما بمعنى مشتقات مادة "ح ب ب", وإنما يقوم التعبير بهذه الخوالف الأربع جميعًا مقام التعبيرات المسكوكة كما سبق في التعجب, فالتعبير هنا بكلماتٍ لا تتغيّر صورتها ولا يتغير ما تقرر لها من الرتبة, فهي على حد تعبير الأشموني جارية مجرى الأمثال2, أو كما قال ابن مالك: فهو يضاهي   1 الأشموني: باب نعم وبئس. 2 انظر الأشموني والمقرب لابن عصفور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 المثلا" انظر مثلًا إلى الرتب التي تتضح من وضع بعض الكلمات بالنسبة للبعض الآخر: نعم الرجل زيد حبذا الرجل زيد زيد نعم الرجل نعم رجلًا زيد حبذا رجلًا زيد نعم زيد رجلًا حبذا زيد رجلًا وخير إعراب لهذه الخوالف أن يعتبر المخصوص مبتدأ غير محفوظ الرتبة؛ إذ قد يتقدَّم أو يتأخر, وما سواه في التعبير خبر, فإذا نظرنا إلى هذا الخبر وجدناه يشتمل على الخالفة وضميمتها التي تعتبر دائمًا أعمّ من المخصوص, ويعتبر المخصوص من جنسها, ولذلك تقف دائمًا منه موقف التفسير, وهذه الضميمة قد تلحق فيها الألف واللام فترفع, وقد تتجرَّد منها فتنصب, وبين الخالفة وهذه الضميمة رتبة محفوظة فلا تتقدم الضميمة على الخالفة. والقسط المشترك في معاني هذه الخوالف جميعًا ما ذكرناه من أن لها طبيعة الإفصاح الذاتي عمَّا تجيش به النفس, فكلها يدخل في الأسلوب الإنشائي, وتبدو شديدة الشبه بما يسميه الغربيون affective language, وجميعها يحسن بعده في الكتابة أن نضع علامة تأثر"! ", فالفرق بين "شتان زيد وعمرو" وبين "افترق زيد وعمرو", هو فرق ما بين الإنشاء والخبر, فلا تصلح الثانية لشرح الأولى؛ إذ لا تساويها في المعنى, ومثل ذلك الفرق بين "أوه" وبين "أتوجع", فلو أنك أحسست بألم مفاجئ فقلت: "أوه" لحق على الناس أن يسرعوا إلى نجدتك, ولكنك لو قلت في هذا الموقف نفسه: "أتوجع" لسألك السامع: ممَّ تتوجع؟ ولم يخف إلى نجدك لأنّ ما قلته "خبر" مجمل يحتاج إلى تفسير, ويحتمل بعده استفهامًا، وليس إنشاء يتطلب استجابة عملية سريعة، ومثل ذلك يقال عن خوالف الأصوات كزجر الحيوان وإغرائه, وعن خوالف المدح والذم والتعجب, ولك أن توازن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 بين ما يأتي: أمدح زيدًا} أذم عمرًا} أخبار أعجب لزيد أخبار} نعم زيد رجلًا} بئس عمرو رجلًا} إفصاحات ما أحسن زيدًا إفصاحات} ولربما كان من المستسحن أن يضمَّ إلى هذه الأساليب الإفصاحية الندبة والاستغاثة والتحذير والإغراء, ولكنَّ ضم هذه الأساليب إلى ما ذكرنا لا يتمّ على المستوى الصرفي؛ لأن هذه الأساليب الأخيرة لا يعبر عنها بالخوالف, فلها مثل الإفصاح المذكور, لكن على مستوى النحو لا مستوى الصرف. وتمتاز هذه الخوالف مبنى ومعنى عن بقية أقسام الكلم الفصيح، وهاك جوانب امتيازها بالتفصيل: 1- من حيث الرتبة: الملاحظ أن جميع هذه الخوالف تأتي مع ضمائم معينة, وأن الرتبة بين الخالفة وبين ضميتها محفوظة, كما يتضح من الرتبة بين نعم وضميمتها المصغرة للمخصوص, والرتبة بين خالفة التعجب وبين الأداة, وكذلك بينها وبين المتعجب منه, وكالرتبة بين "أفعل" وبين ما لحقت به الباء بعده, وكالرتبة بين الإخالة وما يأتي معها إلخ. 2- من حيث الصيغة: جميع هذه الخوالف صيغ مسكوكة ldioms, ومن هنا كانت محفوظة الرتبة كما سبق, مقطوعة الصلة بغيرها من الناحية التصريفية, وذلك هو قول الأشموني في صيغة التعجب1: "ليكون مجيئه على صورة واحدة أدلّ على ما يراد به", على أن هناك صيغًا قياسية تأتي على معنى خوالف الإخالة, ولا تعد منها مثل: نزال ودراك, فهي بالنسبة للخوالف إذ تأتي بمعناها كالمصدر بالنسبة للفعل حين يأتي بمعناه نحو: "فندلًا زريق المال" فكما أننا لا نعتبر المصدر فعلًا حين يؤدي وظيفة الفعل فكذلك لا نعتبر هذه الصيغ القياسية خوالف لأدائها وظيفة الخوالف, والأَوْلَى بهذه الصيغ القياسية أن تلحق بقسم المصارد من أقسام الكلم.   1 شرح الأشموني: باب التعجب ص365, تحقيق: محي الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 3- من حيث الإلصاق: تلحق نون الوقاية بصيغة واحدة من هذه الخوالف هي "ما أفعل", كما تلصق بهذه الصيغة ضمائر النصب المتصلة, وتلصق تاء التأنيث بنعم وبئس, كما تلصق ضمائر الجر المتصلة "بإيا" حين تستعمل استعمال الخوالف نحو: "إياك", ومن هذا نرى أن الخوالف تشارك من حيث الإلصاق الأفعال حينًا, والأسماء والصفات حينًا, والأدوات حينًا ثالثًا, ولكنها لا تعد واحدة من أيّ قسم منها. 4- من حيث التضام: ذكرنا تحت رقم1 هنا أن الخوالف تأتي مع ضمائم معينة من الأدوات والمرفوعات والمنصوبات والمجرورات, وبقي أن نشير إلى أن بعض هذه الضمائم مما يفتقر إليه الخوالف افتقارًا متأصلًا كافتقار خالفة التعجب إلى "ما" أو"باء الجر". 5- من حيث الزمن: على الرغم مما نسبه النحاة إلى الخوالف من معنى الزمن, فجعلوا خوالف المدح والذم والتعجب على معنى المضي, وقسموا خوالف الإخالة بين المضي والحالية والاستقبال, فإن هذه الخوالف لا ترتبط بمعنى زمني خاص, ولا تتصرف تصرف الأفعال. 6- من حيث التعليق: تقوم الخوالف بدور المسند دون دور المسند إليه, ولعل هذا هو الذي جعل النحاة يعدون معظمها أفعالًا, ولكن الذي يفرّق بينها وبين الأفعال أنها لا توصف بتعدٍّ ولا لزوم بالنسبة لما يصاحبها من المنصوبات, ولا تدخل في علاقة النسبة مع ما يصاحبها من المجرورات. 7- من حيث المعنى الجملي: ذكرنا أن جميع الجمل المركبة من الخوالف وضمائمها جمل إفصاحية إنشائية, وبهذا تختلف الخوالف عن بقية أقسام الكلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 و الظرف : أوّل ما أبدأ به هنا أن النحاة توسَّعوا في فهم الظرف بصورة جعلت الظرفية تتناول الكثير من الكلمات المتباينة معنى ومبنى, والظروف كما أراها مبانٍ تقع في نطاق المبنيات غير المتصرفة, فتتصل بأقرب الوشائج بالضمائر والأدوات, ويمكن التمثيل لها على النحو الآتي: ظرف زمان ظرف مكان إذا أين إذا أني إذا حيث لما أيان متى ولكن النحاة رأوا بعض الكلمات تستعمل استعمال الظروف على طريقة ما أسلفنا فيه من تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد, فعدوا طائفة عظيمة من الكلمات المستعملة استعمال الظروف ظروفًا, فكما أن الصفة والفعل قد ينقل معناهما إلى العلمية, وكما أن المصدر ينوب عن الفعل, وكما أنَّ من وما وأي الموصولة يتعدد معناها الوظيفي فتترك الموصولية إلى الاستفهام أو الشرط, نجد مجموعات من الكلمات ذات المعاني المختلفة والمباني المختلفة أيضًا قد نسبها النحاة إلى الظرفية وما هي بظروف من حيث التقسيم, ومن ذلك: 1- المصادر نحو: آتيك طلوع الشمس, ومنها: قط, عوض الملازمان للقطع عن الإضافة والمعروف أن المصادر أسماء لا ظروف. 2- صيغتا اسمى الزمان والمكان نحو: آتيك مطلع الشمس, وأقعد مقعد التلميذ, والصيغتان من المميميات التي سبق أن ذكرنا أنها أسماء لا ظروف. 3- بعض حروف الجر نحو: مذ ومنذ؛ لآن معناهما ابتداء الغاية, وهما يجران ما بعدهما, ولكنهما يستعملان استعمال الظروف عندما يردان مع الجمل, فتكون الظرفية فيهما من قبيل تعدد المعنى الوظيفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 4- بعض ضمائر الإشارة إلى المكان نحو: هنا وثَمَّ, أو إلى الزمان نحو: الآن وأمس, وهي ليست ظروفًا في الأصل. 5- بعض الأسماء المبهمة ومنها: أ- ما دلَّ على مبهم من المقادير نحو: "كم". ب- ما دلَّ على مبهمٍ من العدد حين يميزه ما يفيد الزمان أو المكان نحو: خمسة أيام وثلاث ليال. جـ- ما دل على مبهم من الجهات وهو: فوق وتحت وأمام ووراء ويمين وشمال وخلف وإثر. د- ما دل على مبهم من الأوقات وهو: حين ووقت وساعة ويوم وشهر وسنة وعام وزمان وأوان. هـ- بعض المبهمات المفتقرة إلى الإضافة والمفيدة لعلاقة بين أمرين صالحة لمعنى الزمان أو معنى المكان بحسب ما تضاف إليه, وذلك هو: قبل وبعد ودون ولدن وبين وسط وعند. 6- بعض الأسماء التي تطلق على مسميات زمانية معينة كسحر وسحرة وبكرة وضحوة وليلة ومساء وعشية وغدوة حين يقصد بها وقت بعينه, فقد نابت هذه الأسماء عن الظرف ومنعت التصرف لتقرب مع طابع مبنى الظرف, والمتصرّف من مادتها باقٍ على أصله, فليس يُعَدُّ فيما عومل معاملة الظروف. فالمصادر وصيغتا اسمي الزمان والمكان والمبهمات بأقسامها, وما أطلق على مسمياتٍ زمانية معينة كلها أسماء من الأسماء, ولكنها حين عوملت معاملة الظروف فأدَّت وظائفها, ولا ينبغي لهذا أن يضللنا عن أصالتها في باب الأسماء, وأما مذ ومنذ, فهما من حروف الجر مثلهما في الجر مثل "من"؛ لأن معناهما كمعناها -ابتداء الغاية, غير أن خروج من عن ابتداء الغاية إنما يكون إلى السببية أو التبعيض أو نحوهما, وتلتزم التضامّ مع الأسماء المجرورة, وأما مذ ومنذ، فإن خروجهما عن ابتداء الغاية يكون إلى معاملتهما معاملة الظرف مع جواز التضامّ بينهما وبين الجمل, وربما كان ذلك على حذف "أن" كما تحذف من خبر عسى الناسحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وأما هنا وثَمَّ والآن وأمس, فمكانها الذي يفرضه مبناها ومعناها هو بين ضمائر الإشارة, فهي ضمائر إشارة ولكنها عوملت معاملة الظروف الظرفية كبقية ما عومل من الكلمات معاملتها. ليس في اللغة العربية الفصحى مما ينبغي أن يوضع في قسم مستقلٍّ من أقسام الكلم يسمَّى "الظرف" إلّا تلك الكلمات التي عددناها في بداية القول في الظرف, وهي: إذ وإذا وإذا ولما وأيان ومتى وهي للزمان, ثم أين وأنَّى وحيث وهي للمكان. وهذه الظروف تتميّز عن بقية أقسام الكلم بالسمات الآتية: 1- من حيث الصورة الإعرابية: هي جميعًا من المبنيات, والمعروف أن البناء مما يقرب السلمة من الحروف, ومن هنا كان البعد الكبير بين طابع الظرف وطابع الاسم, حتى إن بعض الأسماء التي تفيد معينًا حين تعامل معاملة الظرف تمنع التصرف كما رأينا تحت رقم6 منذ قليل. 2- من حيث الرتبة: الظروف رتبتها التقدّم على مدخولها, سواء أكان مفردًا أم جملة, ولكنها تكون حرة الرتبة في الجملة عامة. 3- من حيث الصيغة: هذه الظروف كلها من غير المشتقات مثلها مثل الضمائر والأدوات, ومن هنا لا تكون لها صيغ معينة, ولا تتصرّف إلى صيغ غير صيغها, ولعل هذا أيضًا مما يباعد بينها وبين الأسماء ويقارب بينها وبين الحروف. 4- من حيث الجدول: ما دامت هذه الظروف غير متصرفة, فإنها لا تدخل في علاقات جدولية مع غيرها أيًّا كان نوع هذه العلاقات. 5- من حيث التضامّ: بعض هذه الظروف قد يسبقه الحرف نحو منذ: متى, ومن أين, وإلى أين، ومن حيث, وإلى حيث, والظروف ذات افتقار إلى مدخولٍ لها يعيّن معناها الزماني المبهَم, والضمائم التي بعد هذه الظروف إمّا أن تكون كلًّا من المفرد والجملة كما في أيان ومتى وأين وأني, وإما أن تكون الجمل فقط كما في حيث وإذا وإذ ولما, وبعض الظروف تتبعه ما, وهو إذ وإذا ومتى وأين وحيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وهذه الصورة من صور التضامّ تفرد الظروف بطابع خاصٍّ لا تشاركها فيه الأسماء، ولا الصفات ولا الأفعال ولا الضمائر. 6- من حيث التسمية: هذه الظروف لا تسمَّى شيئًا معينًا, وهي من ثَمَّ لا تدل على مسمَّى وليس معناها معجميًّا, وإنما هو معنى وظيفي قريب الشبه من معنى الأدوات, فهذه الظروف تؤدي وظيفة الكناية عن زمانٍ أو مكانٍ مع اختلاف بين كل واحد منها وبين الآخر من حيث التضام, كما رأينا تحت رقم4, ثم من حيث ظلال المعنى كالفرق بين أيان ومتى, والفرق بين أين وأني والفرق بين إذ وإذا. 7- من حيث الزمن: الفرق بين ما يدل عليه ظرف الزمان وبين الزمن الذي للفعل هو: - الزمن يستفاد من الظرف بالمطابقة ومن الفعل بالتضمن. - الزمن في الفعل مضى أو حالية أو استقبال, ولكنه في الظرف كناية عن زمان اقتران حدثين, والفرق بين الزمن في الصفة وزمان الظرف أنَّ زمان الظرف معنى للظرف وهو مفرد, وأن زمن الصفة وظيفة لها في السياق دون الإفراد؛ لأن معناها وهي مفردة هو -كما سبق- الدلالة على موصوف بالحدث. أما الأسماء فليس الزمن جزءًا من دلالتها, وإذا دلَّ بعضها على زمان فإنه يدل من طريق التسمية, فالزمن هو مسمَّى الاسم كالليل والنهار لتسمية الوقتين المذكورين, أو عن طريق معاملته معاملة الظرف مثل ليلًا ونهارًا حين يكون الوقتان وعاء لحدث ما. 8- من حيث التعليق: الظروف في اللغة العربية تعبيرات عن معنى الجهة شأنها في ذلك شأن كل ما أفاد علاقة التخصيص كالمفعولات والحال والتمييز والمستثنى, ومن هنا كان وضع الظروف في السياق وضع المفعول فيه, ومن هنا أيضًا يقال للظرف: إنه متعلق بالفعل؛ لأنه يفيد تقييد إسناد الفعل بجهة معينة من جهات فهمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ز- الأداة : الأداة مبنى تقسيمي يؤد ي معنى التعليق, والعلاقة التي تعبر عنها الأداة إنما تكون بالضرورة بين الأجزاء المختلفة من الجملة, وتنقسم الأداة إلى قسمين: - الأداة الأصلية، وهي الحروف ذات المعاني كحروف الجر والنسخ والعطف إلخ. - الأداة المحولة، وقد تكون هذه: ظرفية؛ إذ تستعمل الظروف في تعليق جمل الاستفهام والشرط. أو اسمية؛ كاستعمال بعض الأسماء المبهمة في تعليق الجمل مثل: كم وكيف في الاستفهام والتكثير والشرط أيضًا. أو فعلية؛ لتحويل بعض الأفعال التامة إلى صورة الأداة بعد القول, بنقصانها مثل: كان وأخواتها وكاد وأخواتها. أو ضميرية؛ كنقل من وما وأي إلى معاني الشرط والاستفهام والمصدرية الظرفية والتعجب إلخ. والتعليق بالأداة أشهر أنواع التعليق في اللغة العربية الفصحى, فإذا استثنينا جملتي الإثبات والأمر بالصيغة "قام زيد، وزيد قام، وقم", وكذلك بعض جمل الإفصاح, فإننا سنجد كل جملة في اللغة الفصحى على الإطلاق تتكل في تلخيص العلاقة بين أجزائها على الأداة, ويمكن أن يتضح ذلك من الشكل الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فالأدوات هنا تلخص معاني النفي والتأكيد والاستفهام والأمر باللام والعرض والتحضيض والتمني والترجي والنداء والشرط والنداء الامتناعي والشرط الإمكاني والقسم والندبة والا ستغاثة والتعجب. كل ذلك بالإضافة إلى ما للأداه من وظيفة الربط بين الأبواب المفردة في داخل الجملة؛ كالذي نجده في حروف الجر والعطف والاستثناء والمعية وواو الحال, أو من وظيفة أداء معنى صرفي عام كالذي نراه في أداة التعريف. وتشترك الأدوات جميعًا في أنها لا تدل على معانٍ معجمية, ولكنها تدل على معنى وظيفي عام هو التعليق, ثم تختص كل طائفة منها تحت هذا العنوان العام بوظيفة خاصة كالنفي والتأكيد وهلم جرا، حيث تكون الأداة هي العنصر الرابط بين أجزاء الجملة كلها, حتى يمكن للأداة عند حذف الجملة أن تؤدي لمعنى كاملًا كالذي نراه في عبارات مثل: لم، عمَّ، متى، أين، ربما، وإن، لعل، ليت، لو ... إلخ. فيكون المعنى الذي تدل عليه هذه الأدوات هو معنى الجملة كاملة وتحدده القرينة بالطبع, وحين أراد النحاة أن يعبروا عمَّا فهموه بوضوح من أن معاني الأدوات هي وظائفها أي: أن معناها وظيفي لا معجمي قالوا في تعبيرهم عن هذا الفهم: إن هذه "معانٍ حقها أن تُؤَدَّى بالحرف", أي: إن المعاني الوظيفية يكشف عنها في مظانِّها الأصلية وهي كتب القواعد, وهذه المعاني من الناحية النظرية تقع خارج اهتمام المعجم, ولكن المعاجم للفائدة العملية ترى من الأصلح إيراد هذه الأدوات بين كلماتها المشروحة, وإذا كان هذا المعنى الوظيفي قد أمكن الوصول إليه باسم أو فعل أو ظرف أو ضمير على نحو ما رأينا منذ قليل, فإن الكلمة التي تؤدي هذا المعنى توصف في هذه الحالة بأنها أشبهت الحرف شبهًا معنويًّا, وربما أصبحت هي ذاتها أداة محوّلة لهذا السبب نفسه. وللأدوات سمات من حيث المبنى ومن حيث المعنى تميزها عن بقية أقسام الكلم، ويمكن أن نورد هذه المميزات فيما يأتي: 1- من حيث الرتبة: الأدوات أشد تأصلًا في حقل الرتبة من الضمائر, ومن ثَمَّ تعتبر مجالًا خصبًا لدراسة ظاهرة الرتبة في اللغة الفصحى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ولقد رأينا منذ قليل أن معظم الجمل في اللغة العربية تتخذ أدوات خاصة تلخّص العلاقة بين أجزائها, ونضيف هنا أن رتبة أدوات الجمل جميعًا هي الصدارة, كما أن رتبة حرف الجر هي التقدم على المجرور, ورتبة حرف العطف هي التقدم على المعطوف, ويتقدم حرف الاستثناء على المستثنى, وواو المعية على المفعول معه, وواو الحال على جملة الحال, فكل أداة في اللغة الفصحى تحتفظ برتبة خاصة, وتعتبر الرتبة هنا قرينة لفظية تعين على تحديد المعنى المقصود بالأداة, فالصدارة هنا هي الفارق الوحيد في الرتبة بين الأداة وبين الظرف؛ لأن الظرف يتقدّم على مدخوله نحو: "أزورك متى أهلَّ رمضان", ولكن هذا الظرف إذ تعدَّدَ معناه الوظيفي فأصبح أداة شرط لزم الصدر في الجملة فتصير الجملة الشرطية: "متى أهل رمضان أزرك", ولا تكون متى في الشرط إلّا في هذا الموضع, فهذه إحدى السمات التي تميز الأداة من الظرف ومن غيره من أقسام الكلم. 2- من حيث التضام: الأدوات جميعًا ذات افتقار متأصِّل إلى الضمائم؛ إذ لا يكتمل معناها إلّا بها, فلا يفيد حرف الجر إلّا مع المجرور, ولا العطف إلّا مع المعطوف, حتى أدوات الجمل مفتقرة إلى ذكر الجملة كاملة بعدها, ولا تحذف الجملة حين تحذف وتبقى الأداة بعدها إلّا مع القرينة التي يمكن بها فهم المراد, فتحل القرينة في إيضاح معنى الأداة محل الجملة. 3- من حيث الرسم الإملائي: الأدوات كالضمائر منها المنفصل ومنها المتصل, فإذا كانت الأداة على حرف واحد كانت أداة متَّصلة بما يأتي بعدها من ضميمة مثل: باء الجر في "بمحمد", ولامه في "لمحمد", وكذلك في "به" و"له", أما إذا جاءت الأداة على أكثر من حرف واحد فإنَّ النظام الإملائي يفصلها في الكتابة عن ضميمتها مثل: "عن محمد" و"على محمد", فأمَّا "منه" و"عنه" و"عليه" فالوصل هنا للضمير لا للأداة, فإن الضمير حين أصبح على حرف واحد لحق بما قبله, وأما في "به" و"له" فإن كل واحد منهما لحق بالآخر لاحتياج كلّ منهما إلى الاتصال, وقد سبق لنا أن قلنا: إن هذه الخاصية لا تتسم بها الأفعال؛ لأن فعل الأمر مثلًا قد يصبح على حرف واحد, ومع ذلك يكتب مستقلًّا نحو: "ق نفسك" و"ع درسك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ولا ينبغي لنا عند وصل الأداة أن نعتبرها إحدى اللواصق؛ لأن الفرق بين الأداة المتصلة وبين اللاصقة أن الأداة إذا حذفت بقي بعدها ما اتصلت به دالًا على معناه الذي كان له, وأما اللاصقة فإذا فصلناها عمَّا لصقت به فإن زوال الإلصاق يزيل معنى صرفيًّا أو نحويًّا كان عند وجود الإلصاق؛ كالتثنية أو الجمع أو التكلم أو الخطاب أو الغيبة أو التأنيث. ولو أزلنا حرف المضارعة عن المضارع ما ظلَّ مضارعًا, ولو أزلنا التاء المبنية على الضم من صيغة الماضي لزال معنى التكلم منه, ولو أزلنا الألف والنون من المثنى لزال منه معنى التثنية, أم الفعل الماضي في "ما قام زيد" فإنه يبقى على فعليته ومضيه عند زوال "ما", ولكن الذي يتأثّر بزوال "ما" هو معنى النفي, وهو معنى الجملة كلها لا معنى الماضي فقط. 4- من حيث التعليق: سبق أن ذكرنا أن المعاني التي تؤديها الأدوات جميعًا هي من نوع التعبير عن علاقات في السياق, وواضح أن التعبير عن العلاقة معنى وظيفي لا معجمي. فلا بيئة للأدوات خارج السياق؛ لأن الأدوات كما ذكرنا ذات افتقار متأصّل إلى الضمائم, أو بعبارة أخرى: ذات افقتار متأصل إلى السياق, وسنرى عند دراسة النظام النحوي أن الأدوات من أهم وسائل التعليق في اللغة, وقد أشرنا إلى ذلك منذ قليل أيضًا. ولم يكن النحاة على خطأ حين أصروا على تعيين متعلق خاصّ للجار والمجرور في الإعراب, بل إنهم لما رأوا الظروف تسلك مسالك الأدوات أحيانًا قالوا بتعليق الظرف أيضًا, أما من وجهة نظرنا فإن التعليق لا يقتصر على الظرف والجار والمجرور, وإنما هو وظيفة الأدوات جميعًا. فالعاطف والمعطوف متعلق بالمعطوف عليه وواو المعية ومتبوعها متعلقان بالمصحوب وهلم جرا. وحين يكون الربط بين أجزاء الجملة كلها يكون معنى الأداة هو ما يسمونه "الأسلوب", كحين يتكلمون عن أسلوب النفي أو الشرط أو الاستفهام, فالربط هنا بما تحمله الأداة من وظيفة الأسلوب, ومن هنا تكون الأداة إحدى القرائن اللفظية شأنها شأن الرتبة والصيغة والمطابقة وغير ذلك مما سنراه عند الكلام عن نظام النحو. فإذا عرفنا أنَّ التعبير عن العلاقة لا يأتي بواسطة الاسم ولا الصفة ولا الفعل ولا الخالفة, عرفنا أيضًا أن الأداة تنتمي إلى طائفة الكلمات التي يعبّر بها عن المعاني العامة, إما مباشرة أو بصورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 غير مباشر؛ كالضمائر المتصلة التي تفيد المطابقة وكالظروف التي تفيد الاقتران الزماني والمكاني. 5- من حيث المعنى الجملي: سبقت الإشارة إلى ذلك فيما ذكرنا في الفقرة السابقة تحت رقم4, ونود أن نضيف هنا أن الأداة حين تحمل تلخيص أسلوب الجملة قد تحمله إيجابيًّا بوجودها أو سلبيًّا بعدمها, حين تقوم القرينة على المعنى المراد مع حذف الأداة, وذلك كالاستغناء عن أداة الاستفهام أو العرض عند الاتكال على قرينة النغمة؛ كما سيأتي ذكره تحت عنوان التنغيم في نهاية الفصل الخاص بالظواهر الموقعية. وذلك كأن تقول لرجل رآك تأكل تمرًا مثلًا: "تأكل؟ بنغمة العرض, والمعنى: ألا تأكل؟ " فهنا حيث تغني النغمة عن الأداة, فيصبح معنى الأداة قد تحقق على رغم حذفها بواسطة ما يسمّى "الدلالة العدمية" أي: دلالة عدم وجود الأداة "وهو الحذف" على المعنى الذي يكون عند وجودها. وسنرى أن الحذف والاستتار هما طريقا الإفادة العدمية في اللغة العربية, وذلك ما تعبر عنه الدراسات اللغوية الحديثة بعبارة "zero morpheme". ولقد ورد في كلامنا عن الأوقات أن النواسخ جميعًا أدوات، وأن بعضها محوّل عن الفعلية, وأن هذا البعض لا يزال يحتفظ بصورته بين الأفعال التامَّة نحو: كان ودام وزال وبرح, إلى آخر ما هنالك, وأنه حين أصبح بين النواسخ زال عنه معنى الحدث وهو سمة التمام, فاتخذ بدلًا عنه في بعض الحالات معنى آخر من معاني الجهة, واكتفى في بعضه بمعنى الزمن دون غيره, يقول ابن جني في اللمع1": وهي كان وصار وأمسى وأصبح وظل وبات وأضحى وما دام وما زال وما أنفك وما فتئ وما برح وليس, وما تصرّف منهن, وما كان في معناهن مما يدل على الزمان المجرد من الحدث", وقد أضاف ابن عصفور في المقرب2. غدا وراح وآض, فإذا علمنا أن كاد وأخواتها وهي كرب وأخذ وجعل وطفق وأوشك وعسى واخلولق تنسخ أيضًا كما تنسخ كان وأخواتها, أمكن أن نبين معاني هذه الأدوات على النحو الآتي:   1 حققه الدكتور أبو الفضل والدكتور محمود حجازي وهو تحت الطبع. 2 حققه يعقوب الغنيم في رسالة ماجستير بكلية دار العلوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 من هذا نرى أن جميعها يفيد الزمن ولا يفيد واحد منها معنى الحدث, وأن جميعها إلّا كان يضيف إلى معنى الزمن أحد معاني الجهة, وأن بعضها لا يتصرف أبدًا شأنه شأن بقية الأدوات, وأما ما تصرّف منها فإنه ناقص التصرف, فقد يستعمل منه المضارع فقط, أو المضارع والأمر, أو هما واسم الفاعل, أو هن والمصدر, ولكننا لا نجد واحدًا منها يتصرف كما يتصرف الفعل التام. والوظيفة الأساسية التي تؤديها هذه الأدوات هي النسخ, والمعروف أن للجملة الاسمية إسنادًا لا على معنى الزمن, فهي نسبة الخبر إلى المبتدأ على طريق الوصف, فإذا أردنا أن نشرب الجملة الاسمية معنى الزمن خالصًا من دون الحدث, فإن السبيل إلى ذلك أن ندخل الناسخ عليها, فنزيل عنها طابعها الأصلي وهو الخلو من الزمن وهذا هو معنى النسخ. ومع خلو الجملة الأسمية حينئذ من معنى الحدث, فإن الناسخ قد يعطيها معنى جهة ما من جهات الفهم كما أوضحنا, يقول ابن عصفور1: "وكان إذا كانت زائدة للدلالة على اقتران الجملة بالزمان، وإن كانت ناقصة فكذلك أو بمعنى صار". ولقد ذكرنا أن هذه الأدوات محوَّلة عن الفعلية, ونحن نعلم أن السمات التي تتميّز بها الأفعال منها ما يتصل بالمبنى, ومنها ما يتَّصل بالمعنى, فمما يتَّصل بالمبنى أن يكون للفعل صيغة صرفية معينة, وبعض هذه النواسخ ليس على صيغة ما مثل: "ليس", فهذه تخرج من الأفعال بعدم مجيئها على صورة الفعل, كما تخرج بعدم تصرفها إلى صيغ أخرى وإبائها الدخول في جدول تصريفي ما, ومما يشاركها في إباء الدخول في جدول تصريفي ما دام وراح وآض وكرب وأخذ وجعل وطفق وعسى واخلولق. وأما كان وبات وصار وأمسى وأصبح وظل فإنها يأتي منها المضارع والأمر واسم الفاعل, ولكن   1 المقرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 خلوها من المعنى الحدث يحول بينها وبين أن تكون لها مصادر إلّا كان, وأما ما زال وما فتئ وما برح وما انفك وكاد وأوشك وغدا, فيأتي منها المضارع فقط, وربما جاء اسم الفاعل من بعضها, ومن هذا يتَّضح نقص التصرّف في جميعها. ومما يعضد اعتبار هذه الكلمات بين الأدوات أنها تدخل على الأفعال كما تدخل الأدوات, فتقول: كان يفعل, وأمسى يفعل, وليس يفعل, وما فتئ يفعل, وكا يفعل, وعسى يفعل "والأكثر أن يفعل", وذلك شبيه بدخول الأدوات الأصلية على الأفعال في نحو: سوف يفعل, وقد يفعل, وإن يفعل, ولم يفعل, مع فارق واحد هو أن الفصل جائز في الحالة الأولى وغير جائز في الثانية, وهذا أمر يعود إلى طبيعة التضام بين الكلمتين. وربما كان من المستحسن هنا أن أشير إلى أن بعض النحاة كالمبرد وابن الأنباري والزجاجي وابن مضاء كانوا يميلون إلى اعتبار هذه النواسخ أدوات, كما يبدو من أقوالهم في المقتضب وأسرار العربية وما يرويه عنهم همع الهوامع. وليس بين هذه الأدوات ما يسلك سلوك الأفعال من حيث الإسناد والتعدي أو اللزوم, فما دامت هذه أدوات فلا يصح وصفها بذلك, ويقول الأشموني1 في تعدي الفعل ولزومه: "تنبيه: هذه الهاء "أي: هاء كأنه" تتصل بكان وأخواتها, والمعروف أنها واسطة, أي: لا متعدية ولا لازمة". لقد عدَّ النحاة ظنَّ وأخواتها بين النواسخ لسبب واحد هو أن مفعوليها يصلحان بدونها أن يكونا جملة من مبتدأ وخبر, ولكن ذلك وحده لا يصلح   1 الأشموني ص195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مبررًا لاعتبار هذه الأفعال من بين النواسخ, ولماذا نهتم إلى هذا الحدّ بما يمكن أن يصير إليه المفعولان بعد الحذف, ثم لا نهتم بالشبه القوي بين ظنَّ وأخواتها, وأعطى وأخواتها, ولو صحَّ أن صلاحية ما بعد الفعل لأن يصير جملة تبرر اعتبار الفعل ناسخًا لصارت "جاء" من قولنا: "جاء زيد يركب فرسه" ناسخة؛ لأن صاحب الحال والحال هنا صالحان معًا لأن تتكون منهما جملة من مبتدأ وخبر. أضف إلى ذلك أن هناك اعتبارات أخرى هامّة تدعو إلى اعتبار ظنَّ وأخواتها من الأفعال التامة غير الناسخة, ومن ذلك ما يأتي: 1- إن العلاقة بين ظنَّ وأخواتها وبين المفعولين علاقة يتضح فيها معنى التعدية, وهو معنى لا يمكن فهمه منها عند اعتبار علاقة النسخ, وقد سبق أن اقتبسنا من شرح الأشموني ما يفيد أن النواسِخَ لا توصف بتعدٍّ ولا بلزوم. 2- إن ظنَّ وأخواتها أفعال متصرفة, وقد سبق أن أشرنا إلى أنَّ النواسخ تشترك في طابع عام هو نقص التصرف أو عدم التصرف أصلًا. ومن ثَمَّ تكون ظنَّ وأخواتها أفعالًا تتعدى إلى مفعولين وليست أدوات ناسخة, ويصدق القول نفسه على أعلم وأرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ثالثا: المبنى مدخل ... ثالثًا: المبنى قدمنا عند بداية الكلام عن النظام الصرفي للغة العربية الفصحى أن هناك نوعين من المباني هما: 1- مباني التقسيم: وهي الاسم والصفة والفعل والضمير والخالفة والظرف والأداة, وذكرنا أن ما يرجع من هذه المباني إلى أصول اشتقاقية فإنه يتفرّع إلى مبانٍ فرعية يضمها المبنى الأكبر, وكل مبنى من هذه المباني الفرعية هو قالب تصاغ الكلمات على قياسه يسمَّى الصيغة الصرفية, ومن هنا رأينا طائفة من الصيغ تقع مباني متفرعة عن المبنى الأكبر وهو الاسم, وطائفة تقع فروعًا على المبنى الأكبر وهو الصفة, وطائفة ثالثة تقع فروعًا على المبنى الأكبر الثالث وهو الفعل. وكل صيغة من هذه الصيغ الفروع تعبر عن معنى فرعي منبثق عمَّا يفيده المبنى الأكبر من معنى تقسيمي عام كالاسمية والوصفية والفعلية. أما ما لا يرجع إلى أصول اشتقاقية من مباني التقسيم وهو الضمير وأكثر الخوالف والظرف والأدة, فمبانيها هي صورها المجرَّدة إذ لا صيغ لها, فإذا قلنا: "ضمير المفرد المذكر الغائب" فقد وصفنا مبنى مجردًا يصدق من ذلك على الضمير في حالة الرفع والانفصال والاتصال والاستتار, وفي حالة النصب والانفصال والاتصال, وفي حالة الجر والاتصال, وكل حالة من هذه الحالات الست تعتبر فرعًا على العنوان الأول, وتتحقق بعلامة مختلفة عمًّا تتحقق به الأخريات. فالعنوان الأولى مبنى أكبر وما تفرَّع منه مبانٍ فروع ولا نجد العلامة إلّا في النص المنطوق أو المكتوب. 2- مباني التصريف: وهي تمثل في صور التعبير عن المعاني الآتية: 1- الشخص: والمقصود به التكلم والخطاب والغيبة. ب- العدد: والمقصود به الإفراد والتثنية والجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 جـ- النوع: والمقصود به التذكير والتأنيث. د- التعيين: والمقصود به التعريف والتنكير. وهذه المعاني لا يعبر عنها بالصيغ الصرفية ولا بالصور الشكلية المختلفة, ولكنها يُعَبَّر عنها بواسطة اللواصق والزوائد, فالتكلم والخطاب والغيبة يعبَّر عنها في الفعل الماضي بالضمائر المتصلة, وفي المضارع بحروف المضارعة, وليس في صيغة الأمر إلّا معنى المخاطب. والإفراد والتثنية والجمع يعبر عنها في الأسماء بألف التثنية وواو الجمع وعدمهما, وكذلك بالألف والتاء, وفي الأفعال بألف الاثنين وواو الجماعة وعدمهما, والتذكير والتأنيث يعبَّر عنهما في الأسماء بتاء التأنيث وألف القصر وهمز المد, وفي الأفعال بتاء التأنيث وتاء المؤنثة ونون النسوة, والتعريف والتنكير يفرق بينهما بالألف واللام اللذين يفيدان التعريف, فالضمائر المتصلة جميعًا, وحروف المضارعة الأربعة, وألف الاثنين وألف التثنية وواو الجمع وواو الجماعة والألف والتاء وتاء التأنيث وألف القصر وهمزة المد وتاء المؤنثة ونون النسوة والألف والألف واللام, كل أولئك وسائل شكلية للتعبير عن معاني التصريفية التي ذكرناها تحت الأرقام أ، ب، ج، د منذ قليل, ومن ثَمَّ يصدق عليها أنها مبانٍ تصريفية, أو أنها بعبارة أخرى من "مباني التصريف". 3- مباني القرائن اللفظية: السياق كالطريق لا بُدَّ له من معالم توضحه, ولا شك أن مباني التقسيم وما تبدو فيه من صيغ صرفية وصور شكلية, وكذلك مباني التصريف مع ما تبدو له من لواصق مختلفة تقدم قرائن مفيدة جدًّا في توضيح منحنيات هذا الطريق, ولكن السياق حتى مع وضوح الصيغ واللواصق يظل بحاجة إلى الكثير من القرائن الأخرى التي تتضح بها العلاقات العضوية في السياق بين الكلمات. فمن هذه المباني ما تتضح به الأبواب من حركات إعرابية أو رتبة أو مطابقة في الحركة أو مطابقة في مبنى تصريفيٍّ ما، أو ربط بصورة من الصور التي تترابط بها الكلمات كما سنرى بعد قليل, أو همز أو تضعيف يفيد معنى التعدية, أو غير ذلك من المباني المعبرة عن العلاقات, وهي التي سندرسها بالتفصيل تحت عنوان: "القرائن اللفظية" عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 مناقشة النظام النحوي إن شاء الله, ومع أن هذا النوع الثالث من المباني لا يساق لبيان معنى صرفي وإنما يساق لبيان علامة نحوية يعتبر في جملته خارجًا عن نظام الصرف, ولكنه هدية الصرف إلى نظام النحو؛ إذ أن النحو نظام من المعاني والعلاقات التي لا تجد تعبيرًا شكليًّا عنها إلّا فيما يقدمه الصرف لها من المباني والقرائن اللفظية. عند هذا الحد أكون قد وضَّحت الأقسام الثلاثة التي تنقسم إليها المباني, فوصلت إلى نقطة يحسن فيها أن أعد بذاكرة القارئ إلى ما سبق من إيضاح الصلة بين المعنى والمبنى والعلامة, وحين قال ابن مالك: فعل قياس مصدر المعدى من ذي ثلاثة كرد ردّا عرض علينا المقابلة الآتية بين المفاهيم الثلاثة: المعنى المبنى العلامة مصدر الثلاثي المتعدي فَعْل ردّ وحين قال: نونًا تلي الإعراب أو تنوينًا مما تضيف احذف كطور سينا عرض المقابلة على النحو التالي: المعنى المبنى العلامة الإضافة حذف التنوين طور سينا والمبنى في المثال السابق من النوع الأول, وفي المثال الأخير من النوع الثالث, على أن هذا المبنى في المثال الأخير واحدة من قرائن لفظية متعددة يتَّضح بها معنى الإضافة, منها الرتبة المحفوظة بين المضاف والمضاف إليه, ومنها العلامة الإعرابية التي في آخر المضاف إليه, ومنها أن طرفي الإضافة اسمان وهلم جرا، وكل هذه القرائن مبانٍ مما سبق شرحه, وحيث وضعنا المباني بإزاء ما تعبِّر عنه من المعاني وما تحقق به من العلامات, كان علمنا أن ندرك أن المبنى ما دام لا يرد في النطق ولا يجري به القلم في الكتابة؛ لأن النطق والكتابة مجال العلامة فلا بُدَّ أن يكون المبنى جزءًا من النظام, وإن القواعد كلها ليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أكثر من تفصيل قصة الصلة بين المعاني والمباني, وأن القواعد لا تستخدم العلامات إلّا في الأمثلة والشواهد حيث تكون مسبوقة بكاف التشبيه. فوضوح المقصود بالمبنى يتوقف إذًا على إدراك الفرق بين المبنى وبين العلامة, فنون التوكيد على إطلاقها مبنى, ولكن هذه التي في قولنا "لنقومن" علامة, أي: إنها على عمومها مبنى وعلى خصوصها علامة, وهذا هو الفرق بين كل مبنى وكل علامة, كالذي سبق في فهم صيغة "فَعْل" في عمومها, وكلمة "ردّ" في خصوصها, وكذلك حذف التنوين في عمومه وحذفه في طور سينا على الخصوص وهلم جرا. ولهذا السبب كان المبنى بإفادته العموم جزءًا من النظام, أي: من اللغة, وكانت العلامة بخصوصها جزءًا من الكلام, ولهذا السبب أيضًا كانت الصلة في داخل النظام بين المعنى والمبنى صلة لا تنفك من حيث إن المعاني بحاجة إلى المباني, سواء أكانت دلالة المبنى على المعنى وجودية بالذكر, أم عدمية بالحذف أو الاستتار. وسنحاول فيما يلي أن نلقي ضوءًا على طبيعة الأنواع الثلاثة من المباني كلًّا على حدة, فنتكلم من النوع الأول عن الصيغة ودورها في الصرف, ومن النوع الثاني عن اللواصق, ومن النوع الثالث عن الزوائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الصيغة : ذكرنا منذ قليل أن الصيغ الصرفية مبانٍ فرعية, وأن أصولها هي المباني التقسيمية الثلاثة: الاسم والصفة والفعل دون غيرها من أقسام الكلام, فلا صيغة للضمير ولا للخوالف في عمومها ولا للظروف ولا الأدوات الأصلية. وكذلك أوضحنا من قبل أن للأسماء صيغًا وللصفات غيرها, وللأفعال صيغ تختلف عن هذين النوعين, ولقد أوردنا في صيغ الأسماء الثلاثية قول ابن مالك1: وغير آخر الثلاثي افتح وضم ... واكسر وزد تسكين ثانيه تعم وفِعُلٌ أهمل والعكس يقل ... لقصدهم تخصيص فِعْلٍ بفُعِلْ   1 الألفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فإذا اتفق الاسم مع الصفة في واحدة من هذه الصيغ أرجعنا المثال إلى الجدول التصريفي, فإذا اشتمل تصريف المادة على صيغ خاصّة بالأفعال, فالمثال صفة, وإذا لم يشتمل فالمثال اسم, والخماسي والسداسي من الأسماء ذوا صيغ مشهورة لا تشاركهما فيها الصفات، أم المصادر من الأسماء وأسماء الزمان والمكان والآلة فصيغها محددة أيضًا, وارجع في ذلك إلى باب أبنية المصادر في ألفية ابن مالك وهو يبدأ بقوله: فعل قياس مصدر المعدّى ... من ذي ثلاثة كردَّ ردا وينتهي بقوله: وفَعْلَةٌ لمرة كَجَلْسَةٍ ... وفِعْلَةٌ لهيئة كَجِلْسَه في غير ذي الثلاث بالتا المرة ... وشذَّ فيه هيئة كالخمرة وفي أبنية أسماء الزمان والمكان يقول: نحو الجهات والمقادير وما ... صيغ من الفعل كمرمى من رمى وشرط كون ذا مقيسًا أن يقع ... ظرفًا لما في أصله معه اجتمع أما ما زاد على الثلاثة من الأسماء فقد حصره ابن مالك بقوله: لاسم مجرد رباع فَعْلَلُ ... وفِعْللٌ وفِعْلَل وفُعْلَل ومعْ فِعَلِّ فُعْلَلٌ وإن علا ... فمع فَعَلَّلٍ حوى فَعْلَلِلَا كذا فُعَلِّلٌ وفِعْلَلٌ وما ... غاير للزيد أو النقص انتمى وللصفة أيضًا صيغ محفوظة محددة المعالم تدل كل صيغة منها على معنى وظيفي خاص كالفاعل والمفعول والمبالغة إلخ, وفي ألفية ابن مالك أيضًا باب خاص بأبنية أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة بها يبدأ بقوله: كفاعل صغ اسم فاعل إذا ... من ذي ثلاثة يكون كغذا وباب خاص بعلاقات واحدة بذاتها من هذه الصفات المشبهة, وهي المشبهة باسم الفاعل بخصوصها يقول فيه: وصوغها من لازم لحاضر ... كطاهر القلب جميل الظاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ويقول في صيغ المبالغة: فعال أو مفعال أو فعول ... في كثرة عن فاعل بديل فتستحق ماله من عمل ... وفي فعيل قل ذا وفَعِل ويسوقا بابًا خاصًّا بمبنى التفضيل يبدأ بقوله: صغ من مصوغ منه للتعجب ... أفعل للتفضيل وأب اللذ أبى وللأفعال أيضًا صيغ خاصة ما كان منها ثلاثيًّا أو فوق الثلاثة, فللثلاثي ستة أبواب للصيغ هي: 1- فعل يفعَل مثل سحب يسحب. 2- فعل يفعِل مثل ضرب يضرب. 3- فعل يفعُل مثل نصر ينصر. 4- فَعِلَ يفعَل مثل سمع يسمع. 5- فَعِلَ يفعِل مثل حسب يحسب. 6- فَعُلَ يفْعُل مثل كرم يكرم. وللرباعي1 سبع صيغ أحصاها الصرفيون على النحو الآتي: 1- فَعْلَلَ مثل جلبب 5- فَعَيْلَ مثل شريف 2- فَوْعَلْ مثل جورب 6- فَعْلَى مثل سلقى 3- فَعْوَلَ مثل رهوك 7- فَعْنَلْ مثل قلنس 4- فَيْعَمَل مثل بَيْطَر وقد يزاد الثلاثي بواسطة لواصق وزوائد تدل على معانٍ صرفية معينة منها: 1- الهمزة تسبق فاء الكلمة كأكرم, ومعناها الغالب التعدية والصيرورة. 2- الألف بين الألف والعين كقتل, ومعناها الغالب المشاركة والموالاة. 3- تضعيف عين الثلاثي مثل كرَّم, ومعناها الغالب التعدية والإزالة. 4- النون الساكنة قبل الفاء مثل انكسر ومعناها "المطاوعة.   1 للمؤلف في كتاب مناهج البحث في اللغة رأي في الصيغ الرباعية يرد به على الصرفيين فلينظر في ذلك الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 5- التاء بين الفاء والعين مثل اجتمع, ومعناها الغالب الاتخاذ والاضطراب. 6- تضعيف اللام مثل أحمرَّ, ومعناها الغالب الألوان والعيوب. 7- التاء قبل الفاء مع تضعيف العين مثل تعلم, ومعناها الغالب المطاوعة والاتخاذ. 8- التاء قبل الفاء مع الألف بعدها مثل تباعد, ومعناها الغالب المطاوعة والمشاركة. 9- السين والتاء قبل فاء الكلمة مثل استخرج, ومعناها الغالب المطاوعة والمشاركة. 9- السين والتاء قبل فاء الكلمة مثل استخرج, ومعناها الغالب الطلب والصيرورة. 10- تكرار العين مع توسط الواو بين شطريها مثل اغدودن, ومعناها الغالب صار ذا كذا. 11- زيادة ألف بين العين واللام مع تكرار اللام مثل احمارّ, ومعناها الغالب التحول. 12- زيادة ألف بين العين واللام مثل اجلوّذ, ومعناها الغالب التحرك. وقد يزاد الرباعي أيضًا بواسطة لواصق وزيادات ليؤدي معاني صرفية مختلفة عمَّا يؤديه منها الرباعي المجرَّد, وذلك كما يأتي: 1- زيادة التاء في أول فَعْلَلَ لتصير تَفَعْلَلَ نحو: تدحرج. 2- زيادة النون العين واللام المكررة الأصلية, افعنلل, نحو: احرنْجَم, مع إسكان الفاء وتحريك العين فيها. 3- تضعيف اللام الأخيرة من فعلل فتصير: افعلل, نحو: اقعشرَّ مع إسكان الفاء وتحريك العين فيها. 4- زيادة التاء في أول فَعْلَلَ فتصير: تَفَعْلَلَ, تجلبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 5- زيادة التاء في أول فَعْوَلَ فتصير تَفَعْوَلَ نحو: ترهوك. 6- زيادة التاء في أول فَيْعَلَ فتصير تَفَيْعَل نحو: تشيطن. 7- زيادة التاء في أول فَوْعَل فتصير تَفَوْعَل نحو: تجورب. 8- زيادة التاء في أول فَعْلَى فتصير تَفَعْلَى نحو: تسلقى. 9- زيادة التاء في أول مَفْعَلَ فتصير تَمَفْعَلَ نحو: تمنطق وتمسكن. ويحلق بهذه الصيغ وزنان آخران هما: 10- افعنلل نحو: اقعنسس, واللام هنا زائد لا أصلية. 11- افعنلى نحو: اسلنقى. على أننا يمكن أن ننظر إلى الأمر من زاوية أخرى نتناول بها المعاني الصرفية الشهيرة وما يرصده الصرف لكلٍّ منها من المباني التي تشتمل داخل كل مادة على جميع ما تصرَّف من هذه المادة؛ كالمصدر بأنواعه والميميات والصفات من الأفعال, فكل هذه التصريفات يفترض فيها أن تفيد هذا المعنى كل من زاويته الخاصة, فالمصدر يفيد المعنى من زاوية الحدث, والميميات تفيد المعنى نفسه من زاوية مكانه أو زمانه أو آلته, والصفات تفيده هو أيضًا من زاوية دلالتها على موصوف بالحدث, والأفعال تفيده من زاوية الاقتران بين زمنه وحدثه, ولكن القسط المشترك بين هذه التصريفات جميعًا أنها تشتمل على حروف بعينها مرتبة في جميعها ترتيبًا موحدًا, فتتفق في هذه الحروف وفي ترتيبها وفي الأصل والزائد منها, وسنورد هنا أشهر المعاني الصرفية وما يمكن أن يوضع بإزاء كلٍّ منها من الصيغ مكتفين في كل صيغة بإيراد صورة الفعل الماضي المسند إلى المفرد والغائب, وستتكفل خيال القارئ بتصور بقية تصريفات المادة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فهل يمكن بعد هذا أن ننظر إلى المبنى هنا "في كل ما أوردناه من المباني ذات المعاني" على أن الصيغة بأكملها "الأصول والزوائد", فيكون المبنى فرعًا على مباني التقسيم كما ذكرنا, أو أن نعتبر الأصول الثلاثة "فاء الكلمة وعينها ولامها" لا دخل لها في اختلاف المعنى "لاتفق وجودها في جميع المباني", وبذا يكون المعنى للزوائد من دونها, ومن ثَمَّ يكون هذا المبنى فرعًا على مباني التصريف أو العلاقات؟ إن كلا الاعتبارين ممكن, وإن الصرفيين قد آثروا أن ينسبوا المعاني مرة إلّا الصيغ ومرة أخرى إلى ما سموه "حروف الزيادة", وصار من الممكن لهم في الحالتين أن يعبِّروا عن حقائق المباني الصرفية دون قصور. أما نحن فلاعتبارات عملية تفضل أن ننسب الطلب أو الصيرورة إلى الاستعمال كله لا إلى السين والتاء والمطاوعة إلى الانفعال كله لا إلى النون النساكنة, وبذلك نكون قد وصلنا إلى قرار بشأن المبنى الدال على كل واحد من هذه المعاني الصرفية, فاعتبرنا مبنى الصيغة فرعًا على مباني التقسيم: وهي الاسم "وتحته صيغ", والصفة "وتحتها صيغ", والفعل "وتحته صيغ أيضًا". عند هذا الحد نودّ أن نفرق بين أمرين أرى أن التفريق بينهما هامّ للغاية, لقد عرفنا الآن أن الصيغة جزء من التحليل الصرفي, وأنها باعتبارها مبنى صرفيًّا لا بُدَّ من النظر إليها على أنها تلخيص شكلي لجمهرة من العلامات لا حصر لها ترد على ألسنة المتكلمين باللغة الفصحى كل يوم, بل في كل ثانية من دقيقة من ساعة من يوم, والناس ينطقون العلامات ولا ينطقون هذه التلخيصات الشكلية, والعلامات التي ترد في النطق قد تخضعها ظروف القواعد التي تحكم تأليف الأصوات وتجاورها في اللفظ لمغايرة بنية الصيغة, ظروف القواعد التي تحكم تأليف الأصوات وتجاورها في اللفظ لمغايرة بنية الصيغة مغايرة ترجع إلى ظواهر الإعلال أو الإبدال أو النقل أو الحذف, وهي من "الظواهر الموقعية" التي سنتكلم عنها تحت عنوانها المذكور, وعندما تخضع العلامة لمغايرة بنية الصيغة لا يكون بينهما التوازي المتوقع من حيث عدد الحروف ونسق الحركات, فلو أردنا والحالة هذه أن نقابل أصواتها الصحيحة بحروف صحيحة وأصوات حركاتها وعللها بحركات وعلل لوصلنا إلى تصوير هيكل الكلمة تصويرًا قد يختلف عن مبنى الصيغة. مثال ذلك: إن صيغة الأمر من باب ضرب "فَعَلَ يَفْعِلُ" هي "افعِل", ولكننا إذا أخذنا الفعل "وقى" وهو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أفعال هذا الباب, وأردنا أن نصوغ فعل الأمر منه على مثال "افعل", لوجدنا هذا الفعل يئول إلى "ق", فإذا أردنا أن نقابل الحرف الوحيد الموجود من هذا الفعل بنظيره في الصيغة لوجدنا أن ما يقف بإزائه من حروف الصيغة هو العين المكسورة "عِ", فإذا سألنا أنفسنا من أيّ الصيغ هذا الفعل "قِ" لقلنا دون تردد: إن صيغته هي صيغة "أَفْعِلْ", فإذا سألنا: فما بال هذه العين المكسورة تقف عنَّا بإزاء الفعل في صورته النهائية, فإن الجواب هو أنَّ هذه العين المكسورة تمثل "الميزان" ولا تمثل "الصيغة". فالتفريق بين الصيغة وهي "مبنى صرفي" وبين الميزان وهو "مبنى صوتي" تفريق هام جدًّا له من الأهمية ما يكون منها للتفريق بين علمي الصرف والأصوات, وقد يتفق هيكل الصيغة في صورته مع هيكل الميزان, فالفعل "ضرب" صيغته "فَعَل" وميزانه "فَعل" أيضًا, ولكنهما قد يختلفان كما رأينا في فعل الأمر "ق", على أن الصرفيين علقوا أمر اختلاف الصيغة والميزان على النقل والحذف, فأبانوا ما يرد من ذلك في الميزان مع التذكير دائمًا بأن الصيغة تحكي قصة أخرى, أما مع الإعلال والإبدال فإن علماء الصرف لم يحفلوا بالفروق بين شكل الصيغة وشكل المثال؛ بحيث إنهم زعموا في "قال" وهو ينتمي إلى صيغة فَعَلَ أنه على وزن "فَعَلَ" أيضًا, وليس على وزن "فَالَ", وما إصرار علماء الصرف هنا على وحدة الصيغة والميزان بمجد فتيلًا بالنسبة للأغراض العملية للتحليل الصرفي, بل من الأجدى أن نلقي على عاتق الصيغة بيان المبنى الصرفي الذي ينتمي إليه المثال, وأن ننوط بالميزان أمر بيان الصورة الصوتية النهائية التي آل إليها المثال, ولو اتحد هذا وذاك لغاب من تحليلنا أحد هذين الأمرين الهامَّين, ومن هنا اقترح أن التحليل الصرفي كما راعى النقل والحذف في الميزان ينبغي له أن يراعي الإعلال والإبدال أيضًا على النحو الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 إن المباني الصرفية الماضية لم تتناول مباني الضمائر والخوالف والظروف والأدوات؛ لأن ما سبق من المباني صيغ, ولا صيغ لهذه الأقسام المذكورة لأنها غير متصرفة. ومن هنا أجد من الضروري أن أشرح طبيعة مباني هذه الأقسام وصلتها بالعلامات التي تتحقق هي بواسطتها, ومفتاح الكلام في هذا الموضوع هو فكرة العموم والخصوص, أو بعبارة أخرى: فكرة الإطلاق والتقييد, فضمير الرفع للمفرد المتكلم "أنا" على إطلاقه هو المبنى, وأما العلاقة التي يتحقق بها هذا المبنى في "أنا" من قولي "أنا أكتب" فلفظ "أنا" بخصوصه في هذه الجملة علامة تتحقق بها "أنا" على إطلاقها, أي "أنا" الموصوفة بأنها ضمير الرفع للمفرد المتكلم, والمفهومة من هذا العنوان, والتي لا تنطق لأنها مطلقة وتندرج تحتها ملايين العلامات. ومثل ذلك يقال في "هيهات" على إطلاقها, و"هيهات" من قول الشاعر: فهيهات هيهات العقيق ومن به فالأولى مبنى والثانية علامة لأنها واردة في نص بخصوصه, ومثله أيضًا يقال في "حيث" على إطلاقها, فهي تعتبر مبنى لهذا الظرف, و"حيث" التي في قول الشاعر: إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم وهي هنا علامة لورودها في نص بعينه, وكذلك الأمر في "من" المطلقة التي تعتبر مبنى لحرف الجر المذكور و"من" التي في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} فهي بخصوصها في هذه الآية علامة تحقق بها في النطق ذلك المبني الصرفي المذكور. وما دامت المباني الصرفية تعبر عن معانٍ صرفية أو تتخذ قرائن لفظية على معانٍ نحوية, فلا بُدَّ أن يكون أمن اللبس بين المبنى والمبنى غاية كبرى تحرص عليها اللغة في صياغتها للمباني الصرفية, ولا بُدَّ لضمان أمن اللبس على المستوى الصرفي أن تقوم القيم الخلافية بدور التفريق بين المباني من ناحية الشكل ليكون هناك فارق بين المعنى الصرفي وأخيه, أو بين الباب النحوي وأخيه "وأقصد بالباب هنا المعنى النحوي كالفاعل ونائبه إلخ", وقد تكون القيمة الخلافية مقابلة الحركة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 بالمد أو مقابلة الإفراد بالتشديد, أو مقابلة التجرد بالزيادة, وهلم جرّا. فالفرق بين "فَعَلَ" وفَاعَلَ" يأتي عن قيمة خلافية تعود إلى الكمية هي مقابلة فتحه الفاء في فعل بالألف بعد الفاء في "فاعل", ومثل ذلك يقال عن الفرق بين "فعل" وبين "فعل"؛ حيث تكون المقابلة بين الإفراد والتشديد, وبين "فعل" و"فعيل" المقابلة في الكمية, أما بين "فَعَلَ" و"اسْتَفْعَل" فالمقابلة بين التجرد والزيادة. وهذه المقابلات "أو القيم الخلافية بحسب اصطلاحنا" هي مناط أمن اللبس؛ إذ بدونها تتشابه الصيغ ويصبح التفريق بين المتشابهات أمرًا غاية في الصعوبة كالذي يحدث في النصوص التي تساق للإلغاز. وبدون هذه القيم الخلافية لا يمكن أن يقوم تحليل لغوي ولا تقسيم ولا تبويب ولا نشاط في البحث في اللغة من أيّ نوع, ذلك بأن التقسيم والتبويب ينبنيان على أساس إدراك جهات الشركة بين المفردات, ووضع كل طائفة منها تشترك في خصائص معينة, وتختلف في خصائص أخرى عن غيرها من الطوائف في قسم بعينه أو باب بعينه. فإذا كانت القيم الخلافية مناط التقسيم والتبويب, وكان التقسيم والتبويب مظهر النشاط العلمي, فإن استخدام القيم الخلافية يكون مناط النشاط العلمي ومظهره. ولكن قد يحدث أحيانًا أن تتشابه صيغتان في النظام مع اختلاف معناهما, فحين لا نجد اختلافًَا بينهما نلجأ إلى القرائن نستبين بها معنى كلٍّ منهما. انظر مثلًا إلى الأمثلة الآتية: 1- صيغة فاعِلْ: عند النظر إلى هذه الصيغة باعتبارها مبنى غير منطوق وغير موضوع في سياق متصل بالطبع؛ لأن السياق لا يتكوّن من صيغ سنرى أنها صالحة لمعنيين: أ- اسم الفاعل من فَعَلَ. ب- الأمر من فَاعَلَ. بل إننا لو نظرنا إلى الكلمة المفردة "قاتلْ" ساكنة الآخر بالوقف, فسنجدها لا تزال "وهي كلمة لا صيغة" صالحة للمعنيين جميعًا, وإذا كان الأمر كذلك فلا بُدَّ أن نبحث عن القرائن التي تحدد استعمال الكلمة بأحد المعنيين دون الآخر, وهذه القرائن يمكن العثور عليها في مظانّ مختلفة منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الجدول الإلصاقي والجدول التصريفي والجدول الإسنادي ومنها السياق, فأما على مستوى الجدول الإلصاقي فإن الكلمة إذا قبلت الألف واللام فهي اسم فاعل, وإذا قبلت نون النسوة فهي فعل أمر, وأما على مستوى الجدول التصريفي فإذا انحازت الكلمة إلى قَاتَلَ يقاتِل فهي فعل أمر, وإذا انحازت إلى مقتول وقتّال وقتيل فهي اسم فاعل، وأما على مستوى الجدول الإسنادي فإذا قبلت الكلمة الإسناد إلى ضمائر الخطاب فهي فعل أمر وإلّا فلا, وأما التفريق بالسياق لتوضحه المقابلة بين: القاتل يقتل وقاتل من قاتلك. 2- صيغة فَعْل: وهي صيغة صالحة للاسم المعين كبيت, وللمصدر كضرب, وللصفة كشهم, فالمبنى على هذه الصورة لا ينصرف إلى واحد من هذه المعاني إلّا بالقرينة, وكما سقنا من قبل كلمة "قاتل" بالنسبة لصيغة "فاعل", نسوق هنا كلمة "عدل" فنراها صالحة للمصدر والصفة المشبهة على السواء, ومعنى ذلك أننا إذا أردنا تحديد معناها فلا بُدَّ من اللجوء إلى القرائن، وإذا بحثنا عمَّا يقدمه الجدول الإلصاقي من القرائن ما وجدنا من القرائن ما يعيننا فيه, فكلا المعنيين يمكن أن يفهم من الكلمة مع إلصاق "أل" ولاصقة التثنية وضمائر الجر المتصلة فلا يمكن للجدول الإلصاقي, والحالة هذه أن يعيننا في الكشف عن معنى الصيغة - لا بل عن معنى الكلمة. أما من ناحية الجدول التصريفي فسنرى أن أحد المعينين يسمح بدخول الكلمة في هذا الجدول إذ تنحاز فيه إلى فريق الصفات فتكون صفة مشبهة, وأما المعنى الآخر فيحول بينها وبين هذا الجدول؛ لأن الأسماء لا تدخل الجداول التصريفية على نحو ما رأينا من قبل. وأما من حيث الجدول الإسنادي فإن هذا الجدول يتأبى على هذه الكلمة في كلتا حالتيها سواء إذا كانت مصدرًا أو صفة مشبهة, يبقى بعد ذلك أن نلجأ إلى قرية السياق, وهي كبرى القرائن اللفظية, وسنرى هذا السياق يسعفنا في التفريق بين المعنيين على نحو ما نرى فيما يلي: العدل أساس الملك "الكلمة تفيد المصدر". هو الحكم العدل اللطيف الخبير "الكلمة تفيد الصفة المشبهة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 3- صيغة المضارع المسندة إلى المخاطب وإلى الغائبة: وهذه تأتي على "تفعل" في الحالتين, فأنت تسمع وهي تسمع, وأنت تضرب وهي تضرب, وأنت تكتب وهي تكتب, ولا يعين على تحديد المعنى هنا إلّا السياق, وأخص ما يعيننا على تحديد المعنى هنا قرينة الربط, فإذا عاد الضمير المستتر على مخاطبٍ فالإسناد للمخاطب, وإذا عاد على غائبة فالإسناد إلى غائبة. 4- تفاعلا وأخواتها: صالحة للماضي المسند إلى ألف الاثنين والمضارع المجزوم المسند إليها والأمر المسند إليها أيضًا, ويتضح ذلك عند النظر فيما يأتي: إن تقابلا تنازعا: الفعلان في الجملة صالحان للماضي والمضارع. إن تقابلا فتنازعا: الأول صالح لهما, والثاني أمر بقرينة الفاء الجوابية, ولو جعلنا الفاء عاطفة لصلح الفعل بعدها للماضي والمضارع, وصارت جملة الشرط بحاجة إلى جواب. والذي قيل في "تفاعلا" هنا يقال مثله في "تفاعلوا1" و"تفاعلن" و"تفعلا" و"تفعلوا" و"تفعلن", وكذلك "تفاعل" و"تفعل" كما يتضح من الجدول الآتي2: أنا تقاتل إن أتقاتل. نحن تقاتلنا إن نتقاتل. أنت تقاتلت 1 إن تقاتل -بحذف تاء الزيادة 1 تقاتل. أنتِ تقاتلت 2 إن تقاتلي -بحذف تاء الزيادة2 تقاتلي. أنتما تقالتما 3 إن تقاتلا -بحذف تاء الزيادة 3 تقاتلا. أنتم تقاتلتم 4 إن تقاتلوا -بحذف تاء الزيادة 4 تقاتلوا. أنتن تقاتلن 5 إن تقاتلن -بحذف تاء الزيادة 5 تقاتلن. هو تقاتل إن يتقاتل. هي تقاتلت 1 إن تقاتل بحذف تاء الزيادة.   1 قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} أن تقاسموا يحتمل الأمر والخبر على معنى الحال بإضمارٍ قد أدَّى قالوا متقاسمين. 2 كل الأمثلة التي تحمل رقمًا بعينه تحمل وجه شبه فيما بينها، والمضارع في كل ذلك على حذف إحدى التاءين كما في {وَلا تَنَازَعُوا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 هما "مذكر" 3 تقاتلا إن يتقاتلا. هما "مؤنث" تقاتلنا 3 إن تقاتلا بحذف تاء الزيادة. هم 4 تقاتلوا إن يتقاتلوا. هن "5" تقاتلن إن يتقاتلن. ففي هذا الجدول خمس حالات من التشابه, ويرى مثلها في الجدول الآتي: أنا تزينت إن أتزين. نحن تزينا إن نتزين. أنتَ تزينت 1 إن تزين -مع حذف تاء الزيادة 1 تزين. أنتِ تزينت 2 إن تزيني -مع حذف تاء الزيادة 2 تزيني. أنتما تزينما 3 إن تزينا -مع حذف تاء الزيادة 3 تزينا. أنتم تزينتم 4 إن تزينوا -مع حذف تاء الزيادة 4 تزينوا. أنتن تزينتن 5 إن تزين -مع حذف تاء الزيادة 5 تزين. هو تزين إن يتزين. هي تزينت 1 إن تزين -مع حذف تاء الزيادة. هما "مذكر" 3 تزينتا إن يتزينا. هما "مؤنث" تزينتا 3 يتيزنا -مع حذف تاء الزيادة. هم 4 تزينوا إن يتزينوا. هن 5 تزينّ إن لم يتزين. 5- كذلك نستطيع تأمل العبارات التالية: نحن نخطب قعودًا أو وقوفًا مصدر قعد ووقف, أو جمع قاعد وواقف. نحن نخطب قيامًا أو جلوسًا, مصدر قام وجلس, أو جمع قائم وجالس. نحن نريد حلولًا مصدر حَلَّ يَحِلّ أو جمع حَلّ. نحن ننشد حضورًا مصدر حضر أو جمع حاضر. وفي هذه الحالة بالذات لا نستطيع حتى بمعونة هذا السياق أن نصل إلى معنى الكلمة بل الصيغة, ومن هنا يصبح الرجوع إلى المقام وهو منبع القرائن الحالية أمرًا لا غنى عنه, فبالمقام نعم ما إذا كانت هذه الكلمات مصادر أو جموعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 هنا أودّ أن أشير إلى أن الصيغة الصرفية هي وسيلة التوليد والارتجال في اللغة، فإذا أردنا أن نضيف إلى اللغة كلمة جديدة عن أحد هذين الطريقين فإننا ننظر فيما لدينا من صيغ صرفية وفيما تدل عليه كل صيغة من المعاني، ثم نقيس المعنى الذي نريد التعبير عنه على المعاني التي تدل عليها الصيغ, فإذا صادفنا الصيغة المرادة صغنا الكلمة الجديدة على غرارها توليدًا أو ارتجالًا، ولما كانت الأسماء والصفات والأفعال هي وحدها صاحبة الصيغ الصرفية كانت هي أيضًا مجال التوليد. أما الضمائر والخوالف والظروف والأدوات فلا توليد فيها لأنَّ بناءها لا يكون على مثال الصيغ الصرفية؛ ولأن معانيها وظيفية ومحدودة ومقصورة على السماع في الوقت نفسه، ولا تتطلّب اللغة الجديد من المعاني الوظيفية, ولكنها تتطلب الجديد من المعاني المعجمية، فلا يكون إثراء اللغة بإضافة الجديد من الضمائر والخوالف والظروف والأدوات إلى ما يوجد فيها فعلًا, وإنما يكون بإضافة الأسماء والصفات والأفعال ذات الصيغ؛ لأن الصيغ هي مجال التوليد والارتجال كما ذكرنا. ومعنى ما تقدَّم أن العناصر القابلة للتحول والتطور في اللغة هي المفردات ذات الصيغ "أي: العناصر ذات الصيغ الاشتقاقية", وأن العناصر الأخرى التي لا تخضع للصياغة الاشتقاقية إنما هي مبانٍ تنتمي إلى نظام اللغة, فمعانيها وظيفية وصورها محفوظة مسموعة, فتطور اللغة دائمًا يأتي عن طريقة إضافة حروف أو ظروف أو ضمائر جديدة إلى اللغة, ولا يأتي كذلك عن طريق إضافة صيغ صرفية جديدة إلى النظام الصرفي للغة الفصحى؛ لأن هذه الصيغ أيضًا محددة, وقد أحصينا معظمها منذ قليل، فهل معنى هذا إذًا أننا إذا أردنا إثراء اللغة عن طريق إضافة صيغ جديدة كنّا كمن يكلف الأشياء ضد طباعها؟ إذا كان السؤال متجهًا إلى العرف اللغوي العام فالجواب نعم، أما إذا كان متجهًا إلى العرف الخاص فالجواب لا. وإليك التفصيل: لقد استطاع الناس دائمًا أن يخلقوا اللغات لأنفسهم وأشهر ما نعرفه من ذلك اللغات السرية بين اللصوص والماسونيين والجواسيس وغير السرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 مثل لغة الرياضة والجبر منها بصفة خاصة, ولغة الاسبرانتو التي يراد بها أن تكون عالمية وأن تقضي على الحواجز اللغوية بين الإنسان والإنسان على مستوى العالم كله, ولكن الاسبرانتو لا تزال لغة خاصة، وكذلك اللغات المهنية والسرية أيضًا, وأشهر لغات العرف الخاصّ في عالمنا المعاصر هي لغة المصطلحات العلمية, وهي تتراوح بين الرمز الجبري مجهول المعنى, فلا يوصل إلى معناه إلّا بنيجة المعادلة, وبين المصطلح العلمي المحوّل عن معناه العرفي العام "لغة" إلى المعنى العرفي الخاص "اصطلاحًا". ولغة العلم من صنع العلماء, وفي كل لغة حية من لغات العالم يصطلح العلماء كل يوم على الجديد من الكلمات والمصطلحات, ويتفنَّنون في عملية الإلصاق لعناصر من لغة إلى عناصر من لغة أخرى قديمة أو حديثة حية أو ميتة. واللغة العربية في حاجة ماسة إلى أن تَثْرَى في حقل المصطلحات العلمية والفنية والحضارية, ولكن اللغة العربية بطبعها وذوقها وطرق صياغتها تأبى عملية الإلصاق على الطريقة الغربية, وتلجأ إلى طريقة أخرى هي طريقة الاستعانة بالصيغ الصرفية ذات المعاني كما سبق أن شرحنا. ولكن الصيغ الصرفية كما رأينا منذ قليل محدودة العدد، والمعاني الصرفية العربية من مطاوعة إلى تعدية إلى طلب محدودة العدد أيضًا، والنشاط العلمي يشمل من مقولات التحول من قبل, لا بُدَّ إذًا من أن نبحث عن وسيلة جديدة لإثراء اللغة غير طريقة خلق المفردات على مثال الصيغ المتاحة؛ لأن هذه المفردات الاصطلاحية ستصل إلى حد من الكثرة "وقد وصلت الآن إلى هذا الحد تقريبًا", يجعل الإضافة إليها أمرًا عسيرًا, فليجأ العلماء عند إحساسهم بعسر هذا الأمر إلى التقريب الذي يتنافى في ظروف كثيرة مع ذوق اللغة العربية لأسباب كثيرة منها ما ذكرناه من أن المصطلحات الأجنبية يتمّ معظمها بواسطة إلصاق العناصر المختلفة بعضها ببعض, والإلصاق في التسمية لا يتناسب مع ذوق اللغة العربية. فما الحل إذًا؟ أعتقد أنني سأحتاج إلى الكثير من شجاعة الرأي لتحديد معالم هذا الحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 والحل يكمن في عبارة قصيرة: ما دام البحث عن الكلمات الجديدة على قياس الصيغ المتاحة يبدو عسيرًا أحيانًا فلنحلق نحن صيغنا الجديدة. لقد رأينا عند حصر صيغ الرباعي المزيد كيف ألحقنا صيغة اقعنس بصيغة احرنجم على رغم زيادة اللام في إحداهما وأصالتها في الأخرى، ومعنى ذلك ببساطة أن باب الإلحاق مفتوح وسيظل مفتوحًا في اللغة العربية إذا أريد لهذه اللغة أن تحيا وتتطور، والعرف العلمي عرف خاص ذو لغة عرفية خاصة كاللغات التي أشرنا إليها منذ قليل، وهي لغة يصنعها العلماء العرب أنفسهم دون غيرهم, وليس لهم أن ينتظروا أن يعلمهم الله الأسماء كله كما علَّم آدم, فهذا الوحي "إن كان هذا التعليم قد تَمَّ جدلًا عن طريق الوحي" قد انقطع، ومن ثَمَّ أصبح على علماء العربية أن يطوروا أداة تفكيرهم وهي اللغة العربية الفصحى بوسائلهم الخاصة, ويستطيع العلماء العرب أن يضيفوا إلى الصيغ العربية العرفية العامة صيغًا جديدة عرفية خاصة. فما وسيلة ذلك؟ ينبغي قبل التفكير في الوسيلة أن نزعم أن حروف الزيادة في اللغة الفصحى ليست قاصرة عند حروف "سألتمونيها", فكل حرف في اللغة العربية صالح من الناحية العملية لأن يكون زائدًا لمعنى, ولنا أن نسوق الأمثلة الآتية للتدليل على هذا الزعم: دحرج ذات صلة بالثلاثي درج والمزيد الحاء. زغرد ذات صلة بالثلاثي غرد والمزيد الزاي. شقلب ذات صلة بالثلاثي قلب والمزيد الشين. عربد ذات صلة بالثلاثي عرد والمزيد الباء. وليس واحد من هذه الحروف الأربعة المزيدة يُعَدّ في حروف سألتمونيها, فإذا أبحنا لأنفسنا زيادة الحروف دون قيد للتعبير عن مقولات التحولات العلمية المختلفة استطعنا في النهاية أن نخلق صيغًا جديدة للثلاثي المزيد تصلح كل صيغة منها باعتبارها معنى صرفيًّا لأن تضم تحتها العدد الكبير من العلامات, أي: المفردات الاصطلاحية العلمية أسماء وصيغًا وأفعالًا على السواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 والأماكن التي تزاد فيها الحروف هي ما قبل الفاء, كأن يكون لدينا صيغة مثل "دَفْعَلَ" تخصص لمعنى كلي من المعاني العلمية تندرج تحته معانٍ فرعية؛ كأن نقول مثلًا: "دَسْخَنَ" إذا تَمَّ التسخين على طريقة تندرج تحت هذا المعنى العلمي الكلي, ويمكن أن يكون الحرف الزائد بين الفاء والعين فتكون الصيغة "فَدْعَلَ", أو بين العين واللام فتكون "فَعْدَل" أو في آخر الصيغة فتكون "فعلد" ولك صورة مشتقاتها من المضارع والأمر والصفات الخمس والميميات, كما يكون لها مصدر وهلم جرّا مما تحمل فيه زيادة الدال في كل موضع جديد معنى كليًّا جديدًا, فإذا كانت الدال وحدها قادرة حين تزاد في أماكن مختلفة أن توجد الآلاف المؤلفة من المصطلحات الجديدة, فتصور إذًا ما تحمله الحروف كلها "ما عدا حروف سألتمونيها بالطبع" من إمكانات؛ لأن كل صيغة من الصيغ الجديدة تحمل في طيها طاقة خلق مفردات لا حصر لها. إن للصيغة باعتبارها مبنًى صرفيًّا من الارتباط بحقائق التحليل اللغوي ما يمكنها هي بذاتها قبل أمثلتها أن تدخل جميع أنواع الجدول, سواء ما كان إلصاقيًّا وما كان تصريفيًّا وما كان إسناديًّا. فإذا أخذنا صيغة "مفعول مثلًا فإننا نستطيع مع فهمنا إياها كما يفهم المبنى لا كما يفهم المثال أن نلصق بها كل ما يمكن إلصاقه بكلمة "مضروب" أو "مقتول", وأن نفهم العلاقة بينها وبين بقية صيغ الصفات مثل "فاعل" و"فعول" و"فعيل" و"فعال" كما نفهم العلاقة بين "مقتول" وبين "قاتل" و"قتول" و"قتيل" و"قتال". وبهذا نصل إلى حقائق التحليل من الصيغة دون أن نضطر إلى استخدام الأمثلة, وهذه هي القيمة الحقيقية لاعتبار المبنى في التحليل اللغوي؛ لأن المباني محدودة العدد سهلة التناول, أما العلامات أي: الأمثلة فلا حصر لها. ويتضح ذلك بصورة أفضل إذا عرفنا أن الصيغة وهي مطلقة يمكن أن تدخل في الجدول الإسنادي كما يدخل الفعل بخصوصه, ويمكن أن نمثل لذلك بما يأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الضمير الماضي المضارع الأمر أنا فاعلت أفاعل نحن فاعلنا نفاعل أنت فاعلت تفاعل فاعل أنت فاعلت تفاعلين فاعلي أنتما فاعلتما تفاعلان فاعلا أنتم فاعلتم تفاعلون فاعلوا أنتن فاعلتن تفاعلن فاعلن هو فاعل يفاعل هي فاعلت تفاعل هما "مذكر" فاعلا يفاعلان هما "مؤنث" فاعلتا تفاعلان هم فاعلوا يفاعلون هن فاعلن يفاعلن وهكذا نصل إلى حقائق التحليل الإسنادي من صيغة "فاعل" دون أن نضطر إلى التماسها في أي فعل بذاته مثل: "قاتل" وهذه -كما قلت- هي القيمة الحقيقية لاستخدام المباني دون الأمثلة في التحليل الصرفي, فذلك أفضل بسبب قلة المباني وكثرة الأمثلة, فنحن نستطيع أن نتعلّم من وضع الصيغة هكذا في توزيع الجدول عدة معانٍ صرفية منها: 1- الفعلية. 2- الزمن. 3- التجرد أو الزيادة. 4- كون الكلمة رباعية أو ثلاثية. 5- التكلم أو الخطاب أو الغيبة. 6- الإفراد أو التثنية أو الجمع. 7- التذكير أو التأنيث. 8- الإعراب أو البناء. كما يمكن أن نتعلم طريقة الإلصاق ونوع اللواصق المختلفة, كل ذلك من الصيغة على إطلاقها دون الاضطرار إلى خصوص أمثلتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ولكن استخدام الصيغة دون المثال سيقف بنا عند فهم المعاني الوظيفية التي سجلناها منذ لحظة, فلا يمكننا من فهم أي معنى معجمي؛ لأن المعاني المعجمية يمكن استخراجها من الأمثلة فقط, ولا يمكن استخراجها من المباني على إطلاقها مهما فصلنا القول في إلصاقها وتصريفها وإسنادها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الإلصاق : هناك عدة معانٍ صرفية عامة تؤدي بواسطة اللواصق, وهذه المعاني منها: 1- الشخص "التكلم والخطاب والغيبة". 2- العدد "الإفراد والتثنية والجمع". 3- النوع "التذكير والتأنيث". 4- التعيين "التعريف والتنكير". 5- المضارعة. 6- التوكيد. 7- النسب. فأما الشخص فتعبّر عنه ضمائر الرفع المتصلة في الفعل الماضي وحروف المضارعة في المضارع, وأما فعل الأمر فجميعه لشخص واحد هو المخاطب مع اختلاف في العدد والنوع, فلا حاجة بالأمر إلى لواصق لبيان الشخص, ومع الاعتراف الكامل لضمائر الرفع المتصلة بصلاحيتا للدلالة على معاني الضمائر أرى أنها لم تسق هنا لتكون ضمائر مستقلة الدلالة كالضمائر المنفصلة, وإنما سيقت هنا لتكون لواصق ووسائل من وسائل بيان الشخص لينتفع بهذا البيان في تحديد القرائن اللفظية كالمطابقة والربط بعود الضمير, وأظن النحاة كانوا يفهمون هذا من طبيعة هذه اللواصق، ولذلك سموا عدم وجوها استتارًا ولم يسموه حذفًا؛ لأن الاستتار على تقدير الوجود, والحذف على تقدير عدمه, فهم قالوا بوجودها مختفية لتكون المطابقة والربط بها مكفولين؛ إذ لا بُدَّ من ضمان توفير القرائن التي تدل على المعنى، ولو قالوا بحذفها لكانت هي نفسها في حال الحذف بحاجة إلى قرينة تدل عليها؛ إذ لا حذف بدون قرينة. وأما حروف المضارعة فإن دلالتها معينة بالنسبة للهمزة والنون, فالهمزة تعين المتكلم والنون تعين المتكلمين, أما التاء فإن لم يشاركها غيرها عند الخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فإنها هي نفسها تشارك الياء في الغيبة, وبذا تصحب الياء أقوى على تعيين الغائب من التاء على تعيينٍ لمخاطب. وأما العدد فيدل عليه بالضمائر في الأفعال, وباللواصق الحرفية في الصفات والأسماء, فأما مع الماضي فإن الدلالة على العدد تتضح داخل التكلّم من الفرق بين التاء المضمومة للمتكلم الواحد وضمير المتكلمين "نا", وفي داخل الخطاب تتضح من الفرق بين تَ، وتما، وتم, وفي الغيبة ن الفرق بين الاستتار وبين ألف الاثنين وواو الجماعة, وأما في المضارع والأمر فإن فروق العدد تتضح في مقابلة الاستتار في الخطاب بألف الاثنين وواو الجماعة، وكذلك تقع المقابلة بين ذلك في الغيبة في المضارع، أما في التكلم في المضارع فالضمائر مستترة, ولذلك يتوقّف تحديد العدد في التكلم على حرف المضارعة, وفي الصفات والأسماء يعبّر عن العدد بالواو والنون أو الياء والنون للجمع, وبالألف والنون أو الياء والنون للمثنى, وبعدم ذلك للإفراد, وبالألف والتاء لجمع المؤنث حيث يمكن لهذه العلامات بالمقابلة بينها أن تدل على النوع أيضًا. وأما النوع فإنه يعبر عنه في أفراد الأسماء بإلصاق التاء بالمؤنث, وكذلك الألف المقصورة والهمزة بعد الممدودة, وبعدم ذلك للمذكر, وفي الجمع بالألف والتاء للمؤنث في مقابل علامات أخرى يعرف بها الجمع في حالة التذكير. أما في الأفعال فبتاء التأنيث ونون النسوة. وأما التعيين فلا يكون إلّا للأسماء, فإذا وردت أل مع الصفات فهي ضمير موصول وليست أداة تعريف, ويرجع ذلك إلى طبيعة دلالة الصفة لا إلى "أل" نفسها, فالصفات تدل على موصوف بالحدث فتكون ذات صلة بالحدث من نوع ما, وهذه الصلة بين الصفات ومعنى الحدث توجد جهة شركة بين الصفات والأفعال من حيث تدل الأفعال على حدث وزمن, ومن هنا توصف الصفات بالتعدي واللزوم ويتعلق بهذا الظرف والجار والمجرور, كما يتعلقان بالأفعال. وهذا نفسه هو الذي يسوغ للمصدر أن يدخل في مثل هذه العلاقات السياقية. فالفرق بين النكرة من الأسماء في حالة التنكير وبينها في حالة التعريف هو إلصاق "أل" بها في حالة التعريف. على أن معاني "أل" تتعدد بين التعريف والموصولية على النحو التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أما التعريف كظاهرة عامة فهو أوسع من أن يقتصر على دلالة "أل" بمفردها, ويتضح ذلك مما نظمه بعض النحاة في قوله: إن المعارف سبعة تشفي العلل ... أنا صالح ذا ما الفتى ابني يا رجل من هذا يتضح أن أوسع اللواصق مجالًا هي الضمائر المتصلة؛ لأنها يمكن أن يستفاد منها ثلاثة معانٍٍ هي الشخص والعدد والنوع, ثم حروف المضارعة؛ لأنها يستفاد منها الشخص والعدد ولواصق التثنية والجمع حيث يستفاد منها العدد والنوع أيضًا, ثم لواصق التأنيث وهي تفيد النوع عند مقابلتها بصيغ المذكر, وتفيد العدد عند مقابلة التاء بالنون, وأضيق اللواصق مجال تطبيق هي أداة التعريف. لقد رأينا منذ قليل أن حروف المضارعة تشارك الضمائر في الدلالة على الشخص والعدد, ونحب أن نضيف هنا أن هذه المشاركة ذات صلة قوية جدًا بتطبيق فكرة استتار الضمير, لقد رأى النحاة أن يعبروا عن الضمير المطَّرد الاستتار فلا يظهر أبدًا بعبارة "مستتر وجوبًا", وعن الضمير غير المطَّرد الاستتار فيظهر أحيانًا بعبارة "مستتر جوازًا". فإذا أردنا أن نفهم الفرق بين هذين النوعين من الاستتار في المضارع, فإن مما يعيننا على الوصول إلى فهم صحيح لهذا الفرق هو النظر إلى العلاقة التي بين حروف المضارعة وضمائر الرفع المتصلة؛ فحيث تكون دلالة حرف المضارعة على الشخص مطَّردة بمعنى أنه لا يشاركه في الدلالة عليه حرف مضارعة آخر، فإن وجود المضارعة يكون حاسمًا في الدلالة على الشخص، ومن ثَمَّ يكون استتار الضمير واجبًا، فالهمزة مثلًا تدل على المتكلم المفرد, ومن ثَمَّ يستتر الضمير وجوبًا في "أقوم", والنون تدل على المتكلمين ولا يشاركها في ذلك غيرها، ومن ثَمَّ يكون استتار الضمير واجبًا في "نقوم", وليس يبدأ المضارع في حالة الخطاب إلّا بالتاء, ومن ثَمَّ تدل التاء على الخطاب دلالة محددة, ويستتر الضمير وجوبًا في "نقوم" مسندًا للمخاطب, أما في حالة الغيبة فليست الياء ولا التاء نصًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 في معناها, ومن هنا كان استتار الضمير جوازًا في "يقوم -وتقوم مسندًا إلى الغائبة" ومن حيث يطرد معنى الخطاب في الأمر يستتر الضمير معه وجوبًا في نحو: "قم", ولست بهذ محاولًا أن ألج فيما ولج فيه النحاة من التعليل الغائي, ولكنني ألجأ إلى كبرى الوظائف اللغوية وهي: "أمن اللبس" لأفسّر الظواهر اللغوية "صرفية كانت أو غيرها" في ضوئها, فإذا كانت الحاجة داعية أحيانًا إلى إبراز الضمير كان استتاره جوازًا, وإذا لم تكن داعية فإن استتار الضمير في هذه الحالة يكون واجبًا. أما التوكيد والنسب فلأولهما النونان ولثانيهما الياء, "وأحكامها" مفصَّلة في المتون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الزيادة : عندما تكلمت في تفصيل الصيغ الصرفية قلنا: إن الفرق بين كل صيغة منها وبين الأخرى إنما يكمن في أمرين: 1- توزيع الحركات والعلل, بمعنى أن كل حرف من الحروف الأصلية يصلح من الناحية النظرية الفرضية لأن يكون مرفوعًا أو منصوبًا أو مجرورًا أو ساكنًا, وهذا المبدأ هو الذي أشار إليه ابن مالك عند كلامه في صيغ الأسماء بقوله: وغير آخر الثلاثي افتح وضم واكسر وزد تسكين ثانيه تعم ولكن الجزم لا يكون للأسماء, والجر لا يكون للأفعال, وهذا النوع من توزيع الحركات والسكنات مسئول عن توليد الصيغ الثلاثية المختلفة. 2- زيادة حرف واحد أو حرفين أو ثلاثة في أول الكلمة أو وسطها كالألف التي في "فاعل", والواو التي في "فوعل", والنون التي في "انفعل", والتاء التي في "افتعل", والسين والتاء اللتين في "استفعل", وهلم جرا. وهذه الزيادة هي الموضوع الذي نريد مناقشته الآن. يتكلم النحاة أحيانًا عن أن معنى التاء في "افتعل" هو الافتعال, ويسمونها "تاء الافتعال", وعن أن معنى السين والتاء في "استفعل" هو الطلب مما يشير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 إلى أن هؤلاء يعلقون معنى ما بحروف الزيادة, فيجعلون حروف الزيادة لواصق لا زوائد, ولكننا نرى النحاة في الوقت نفسه يفردون بابًا خاصًّا يسمونه: "معاني صيغ الزوائد" مع إضافة كلمة "صيغ" إلى الزوائد, وبذا يجعلون المعاني الوظيفية التي هي فروع على معاني التقسيم مما تفيده الصيغ لا الزوائد, وهذا في رأيي هو المنهج الأمثل لعلاج الموضوع لسببين: 1- أننا لو أسندنا هذه المعاني الوظيفية إلى الزوائد لخرجنا بها عن طابع الزيادة إلى طابع الإلصاق؛ لأن العنصر الوحيد من عناصر ما دون الصيغة الذي ينفرد بالدلالة على معنًى وظيفي عام هو اللاصقة1, أما الزوائد فلا يمكن أن ننسب إليها بمفردها معاني صرفية عامة, وغاية ما يمكن أن ننسبه إليها هو الدلالة على معنى الجهة في الحدث. 2- إن استخلاص الزائد وعزله عن الكلمة إن كان مقبولًا في السين والتاء وفي تاء الافتعال فليس مقبولًا في عناصر أخرى كالتضعيف والتكرار الذي يصعب منه نسبة الزيادة إلى أحد المكررين وهلم جرا. ومن هنا لا تستقل هذه العناصر بمعاني مستقلة, وإنما تكون جهات لفهم معنى الحدث كما ذكرنا منذ قليل. لذلك كان المنهج السليم أن ننسب المعنى الوظيفي الصرفي للصيغة إلى الصيغة المزيدة كلها لا إلى زوائدها. ولقد حدَّد النحاة حروف الزيادة في اللغة العربية الفصحى بحروف "سألتمونيها" وزعموا أن أي حرف من غير هذه الحروف لا ينبغي أن يعدَّ زائدًا في أيّ ظرف من الظروف, ودعاهم هذا إلى القول بأصالة الحروف الأربعة في الكلمات الرباعية والخماسية التي يكون ما صلح منها للزيادة غير مُنْتَمٍ إلى تلك الحروف المعينة للزيادة. ولم يفسر النحاة لنا الصلة القائمة بين عدد من الثلاثيات وبين عدد آخر مما زاد على الثلاثة, واعتبرت حروفه جميعًا أصلية, على حين يشترك الثلاثي وما يقابله مما زاد على الثلاثة في المعنى على صورة ما. انظر مثلًا إلى المقابلات الآتية:   1 انظر هذه الدلالة تحت عنوان: "الزمن والجهة" في هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 قلب شقلب درج دحرج غرد زغرد عرد عربد فقع فرقع بثر بعثر وكذلك: زل زلزل رق رقرق نم نمنم عمس عسعس أفلا توحي هذه المقابلات بأن حروف الزيادة ليست قاصرة عند حد "سألتمونيها", وإنما يصبح كل حرف من حروف العربية صالحًا للزيادة؟ وقد عني الصرفيون1 في تحديد مواضع حروف الزيادة وقرائن زيادتها, فعدوا من بين هذه القرائن أمورًا منها: 1- سقوط بعض الكلمة من أصلها كألف ضارب تسقط من الضرب, وهو عندهم أصل الاشتقاق. 2- سقوط بعض الكلمة من فرع كسقوط نون سنبل من أسبل ونون حنظل, والماضي عندهم فرع على المصدر. 3- لزوم خروج الكلمة على أوزان نوعها لو اعتبر الزائد فيها أصليًّا كنون نرجس وهندلع لعدم وجود هذه الأوزان في الرباعي المجرد. 4- استعمال الرباعي في صورة الثلاثي أحيانًا مع إسقاط الزائد نحو: أيطل وإطل بمعنى واحد. 5- لزوم عدم النظير في الكلمة لو اعتبرنا الزائد أصليًّا مثل تتفل؛ إذ لا نظير لتتفل -بفتح التاء- في أوزان الكلمات المجردة في العربية. 6- كون الحرف الزائد دالًّا على معنى كهمزة التعدية. 7- كونه يلزم الحكم بزيادته في المشتقات كورنتل, فالنون تعتبر زائدة هنا؛ لأنها لو حلت في كلمة مشتقة لحكم بزيادتها كجحفل من الجحفلة. 8- وقوعه من الكلمة في موضع لو حل به في المشتق لكان زائدًا كنون حنطأو وكنتأو سندأو, فالنون زيدت في فعل. 9- كون الحرف في موضع تغلب زيادته فيه مع المشتق كهمزة أرنب وأفكل؛ لأنهما يشبهان أحمر, بهذا نعلم الفرق بين اللواصق والزوائد.   1 انظر شذا العرف للحملاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد: عند هذا الحد أودّ أن أشير إلى فكرة هامة يتوقف عليها فهم طبيعة عناصر التركيب العربي, وهي المباني التي يتكوّن منها ويتوقف عليها فهم الإطار العام للصرف والنحو العربيين، لقد مرَّ بنا طوال هذا الفصل أن الصرف يتكوّن من نظام من المعاني التي تعبِّر عنها المباني, وأن هذه المباني تتحقّق بدورها بواسطة العلامات, فمن المعاني والمباني تكون اللغة, ومن العلامات يكون الكلام, ونضيف هنا ما سبق أن أشرنا إليه إشارة عابرة من أن النحو لا يستعمل من المباني المعبرة عن معانيه إلّا ما يقدمه له الصرف من مباني التقسيم, وتحتها الصيغ, ومن مباني التصريف وتحتها اللاواصق, ومن مباني القرائن وتحتها العلامات الإعرابية والرتبة, وزوائد العلاقة كالهمز والتضعيف للتعدية, وكأدوات العلاقات وكالتضام وأدوات الربط, وهلم جرّا مما يعبر عن معانٍ نحوية صرف. والفكرة الهامة التي أردت أن أسجلها تحت هذا العنوان أن المعاني الوظيفية التي تعبر عنها المباني الصرفية هي بطبيعتها تتَّسم بالتعدد والاحتمال, فالمبنى الصرفي الواحد صالح لأن يعبر عن أكثر من معنى واحد ما دام غير متحقق بعلامة ما في سياق ما, فإذا تحقق المعنى بعلامة أصبح نصًّا في معنى واحد بعينه تحدده القرائن اللفظية والمعنوية والحالية على السواء. ويصدق هذا الكلام على كل أنواع المباني التي سبق ذكرها سواء في ذلك مباني التقسيم, ومنها الصيغ ومباني التصريف, ومنها اللواصق ومباني القرائن, والمقصود بها ما ذكرناه منذ قليل مما يسمَّى القرائن اللفظية, وكذلك مباني بعض التراكيب, وإليك البيان: لقد مَرَّ بنا في شرح أقسام الكلم أن مباني الأقسام قد تتعدَّد معانيها كالمصدر من الأسماء ينوب عن الفعل نحو: ضربًا زيدًا, ويؤكد الفعل كضربته ضربًا, ويبين سببه كضربته تأديبًا له, وينوب عن اسم المفعول نحو {بِدَمٍ كَذِب} واسم الفاعل مثل: {أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} , ويكون بمعنى الظرف نحو آتيك طلوع الشمس, وهلم جرا, وكاسمي الزمان والمكان يتعدد معناهما الوظيفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 بأن يكونا ظرفين أو داخلين في علاقة إسناد, وكالأسماء المبهمة من المقادير والأعداد والجهات والمكاييل والموازين حين تخرج عن معنى الاسمية إلى معنى الظرفية, وكالصفات تستخدم لمجرد الوصف وينوب بعضها عن بعض كما ينوب فعيل عن فاعل ومفعول, وتستخدم أعلامًا وتدخل في علاقات سياقية مع المنصوبات, وتكون أحوالًا ونعوتًا, وتدخل في علاقة إسنادية, وهلمَّ جرا, وكالأفعال يتحوّل معناها إلى العملية كيزيد ويشكر, وكالضمائر تستعمل استعمال الأدوات كما في الإغراء والتحذير, وتنفصل فتؤدي معنى تقسيميًّا كما أنها تتصل فتؤدي معنى تصريفيًّا بدلاتها على معاني التصريف, وتكون وسيلة ربط لعودها على متقدِّم لفظًا ورتبةً, وكالظروف تكون للظرفية المحضة, كما تتحول إلى أدوات للشرط أو الاستفهام أو التعليل1, وكالأدوات تكون الواحدة منها لعدد من المعاني مثل: "ما" تكون موصولة ونافية وكافة ومصدرية ظرفية واستفهامية وتعجيبة وشرطية, ومثل: "إن" تكون شرطية ونافية وزائدة ومخففة من الثقيلة المؤكدة, وإن شئت أن تنظر في تعدد المعاني الوظيفية للأداة فارجع إلى كتاب "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب"2 وسترى ذلك مفصلًا فيه أروع تفصيل. والصيغ أيضًا صالحة لهذا التعدد والاحتمال, ويكفي أن تنظر في معنى صيغة مثل "أفعل" لتجد أن معناها يكون التعدية ومصادفة الشيء على صفة والسلب والإزالة وصيرورة الشيء ذا شيء والدخول في شيء والاستحقاق والتعريض والتمكين, كما أنك ستجد "فعّل" للتكثير, ونسبة الشيء إن أصل الفعل والتوجه إلى الشيء وقبول الشيء, ونجد كل ذلك مفصلًا في دراسة الصيغة. وأما مباني التصريف: فإذا أخذنا التاء مثلًا وجدناها مرة للتأنيث ومرة للوحدة ومرة للمبالغة, وإذا نظرنا إلى الألف والنون وجدناها مرة للمثنى الحقيقي ومرة للمطابقة, كما تكون الألف للاثنين والنون بعدها للرفع كما تمتد   1 مغي اللبيب لابن هشام. 2 انظر قوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 تاء المضارعة على بداية عدد من الإسنادات تتجاوز المخاطب إلى بعض إسناد الغائب وهلم جرا. وأما مباني القرائن: فيكفي أن تعلم ن الاسم المرفوع مبنى صالح لأن يكون فاعلًا أو نائب فاعل, أو اسمًا لكان أو خبرًا لأن, أو مبتدأ أو خبرًا, أو تابعًا مرفوعًا, وأن الاسم المنصوب صالح لأن يكون أيّ واحد من المفعولين, أو حالًا أو تمييزًا أو مستثنى, أو منادى مضافًا, أو منصوبًا على الاختصاص, أو مشتغلًا عنه, أو تابعًا منصوبًا, أو منزوع الخافض, كما أن رتبة الصدراة تكون لأداة الاستفهام أو الترجي أو التمني أو العرض أو التخصيص أو القسم أو التعجب, وأن صيغة المصدر تكون للمفعول المطلق والمفعول لأجله وللمصدر النائب عن فعله وللمبتدأ والخبر والفاعل, ولكل معنى نحوي يؤدى بالأسماء, وأن المطابقة تكون لمعنى الحال, والنعت الحقيقي والخبر المفرد والفعل بعد المبتدأ, وأن الربط باللام يكون في جواب القسم, وفي جواب الشرط الامتناعي, وفي خبر إن, كما يكون الربط بالفاء في جواب الشرط, وفي خبر المبتدأ الدالّ على العموم, ولا سيما حين يكون المبتدأ اسمًا موصولًا نحو: الذي يأتيني فله درهم, والتضام الافتقاري يكون بين الموصول وصلته, والجار والمجرور والنواسخ والمنسوخات, وإلا والمستثنى وحرف العطف والمعطوف. وهذا التعدد والاحتمال نلحظه في مباني الجمل؛ فمبنى الجملة المثبتة يكون للإثبات نحو: قام محمد, ويكون للدعاء نحو: رحمه الله, ويكون لصلة الموصول وصفة الموصوف وخبر المبتدأ وضميمة للظرف وحالًَا ومقولًا للقول. كما يكون مبنى الجملة الاستفهامية للاستفهام ولصدر جملة الشرط, وللإنكار والتقرير ومقول القول, وصفة على معنى التشبيه, فقوله: هل رأيت الذئب قط, معناه: كالذئب. فالمبنى الواحد متعدد المعنى, ومحتمل كل معنى مما نسب إليه, وهو خارج السياق. أما إذا تحقق المبنى بعلامة في سياق فإن العلامة لا تفيد إلّا معنًى واحدًا تحدده القرائن اللفظية والمعنوية والحالية, وهذا التعدد والاحتمال في المعنى الوظيفي يقف بإزائه تعدد واحتمال في المعنى المعجمي أيضًا, وسوف نتناول ذلك في حينه إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 نقطة أخيرة نحب أن نضيفها إلى ما أسلفنا من قول في المبنى, هي أن مصطلح النحاة قد درج عند تسمية المبنى أن يجعل معناه مضافًا إليه, كأن تقول: تاء التأنيث أو نون التوكيد إذ المضاف إليه فيهما هو المعنى والمضاف هو المبنى, وقد يجعلون المعنى هو النعت, والمبنى هو المنعوت, نحو: ما النافية وإن المؤكدة, وقد يجعلون المعنى صيغة نسبة, والمبنى موصوفًا بها, نحو: ما الاستفهامية وأن الشرطية وما التعجبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الاشتقاق : قد تقوم بين الكلمات التي جاءت على صيغٍ مختلفة صلة رحم معينة قوامها اشتراك هذه الكلمات المختلفة الصيغة في أصول ثلاثة معينة, فتكون فاء الكلمة وعينها ولامها فيهنّ واحدة, هذه الصلة تدرس في الصرف تحت اسم "الاشتقاق", وفي المعجم تحت اسم "الاشتراك في المادة", ولم يكن الاختلاف بين الصرفيين والمعجميين منصبًّا على تسمية الظاهرة فحسب, وإنما تعدَّى ذلك إلى المنهج وطريقة النظر. فأمَّا الصرفيون فقد نظروا إلى المسألة من وجهة نظر المعنى الوظيفي من ناحية, ثم وجهة نظر التجرد والزيادة من ناحية أخرى, فأما المعنى الوظيفي الذي تشترك فيه المشتقات جميعًا فهو صلتها بمعنى الحدث, فهذا المعنى يوجد في أصفى صورة في المصدر, ويكفي لمعرفة ذلك أن نقرأ قول ابن مالك فيه: المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأَمْن من أَمِنَ فإذا كان الفعل دالًّا على مدلولين هما الحدث والزمن, كان تعريف المصدر في نظر ابن مالك هو أنه "اسم الحديث" الذي وصف بأنه "ما سوى الزمان", ومعنى الحدث مشترك بين جميع المشتقات, ولكن كل مشتق منها يضم إلى الحدث معنًى آخر كالزمن في الفعل, وفاعل الحدث في صفة الفاعل, ومفعول الحدث في صفة المفعول, وهلم جرا. وأما المصدر فهو اسم الحدث فقد؛ إذ لا يدل على معنى آخر إلى جانب الحدث, ولذلك رآه البصريون أصلًا للاشتقاق حين نظروا من هذه الزواية, وأردوا في تدعيم مناقشات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 طويلة ليس هنا محل إيرادها. وأما وجهة النظر الكوفية فقد نظرت إلى المشكلة من ناحية التجرد والزيادة, فالمجرد من بين الصيغ هو في فهم أصحاب هذه النظرة أقرب إلى الأصالة من المزيد, وقد نظروا في صيغ الكلام فلم يجدوا أكثر تجردًا من الفعل الماضي الثلاثي المجرد المسند إلى المفرد الغائب نحو "ضرب", فقالوا: إن أصل المشتقات هو الفعل الماضي, وأورد هؤلاء أيضًا في تدعيم نظرتهم مناقشات إضافية لا محل هنا لروايتها كذلك. تلك كانت وجهة النظر الصرفية إلى المسألة, وهي وجهة نظر تجعل بعض الصيغ أصلًا, وتجعل الصيغ الأخرى فروعًا عليه, وتفترض أن كل مادة من مواد اللغة بدأت في صورة المصدر أو في صورة الفعل الماضي, ثم عكف الناس عليها يشتقون منها ويفرعون عليها, حتى تصل اللغة إلى مرحلة تستنفد فيها حاجتها إلى المزيد من مشتقات هذه المادة, أو تتوقف عن الاشتقاق لأنها فرغت من الصياغة على مثال كل المباني الصرفية الممكنة. وليس شيء أبعد من طبيعة نشأة اللغة وتطورها من هذا الافتراض، والمعروف أن بعض المواد يتَّسع لعدد من الصيغ الاشتقاقية أكثر ما يتَّسع البعض الآخر, أو بعبارة أخرى قد توجد صيغة مستعملة في مادَّة ومهجورة في مادة أخرى, فصيغة "فعل" توجد من مادة "وق ع" ولا توجد من مادة "ود ع", وقد تتحقق المطاوعة من "كسر" بصيغة "انفعل", ولا تتحقق بهذه الصيغة من "ركب"؛ لأن هذه الصيغة وتلك مهجوران في المادتين "ودع" و"رك ب" على الترتيب. والواقع أن الصعوبات تقوم فعلًا دون الاقتنتاع برأي البصريين أو برأي الكوفيين على حد سواء. فأم للرد على البصريين فأنا أسألهم عن "كان" الناقصة, "وهي عندهم "فعل" ألها مصدرًا أم لا مصدر لها. إن مذهبهم يقول: إنَّ كان الناقصة لا مصدر لها, ومع ذلك يعتبرونها مشتَّقة, فما أصل اشتقاقها؟ وأما للرد على الكوفيين فإنَّ "يدع" و"يذر" في رأيهم لا ماضي لهما وهما مشتقان على رغم ذلك, فما أصل اشتقاقهما إذًا؟ أما المعجميون فليست لعبتهم الصيغ؛ لأن هذه الصيغ قد تتحقق بكلمات, وقد تظل احتمالًا نظريًّا صالحًا للتحقق بصياغة الكلمة المناسبة على مثالها عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الحاجة إليها. لا! إن لعبة المعجميين هي الكلمات نفسها لا صيغها, مع أنهم في منهج تناولهم للكلمات لا يغفلون الهوية الصرفية للكلمة, كما سنرى ذلك بعد قليل عند الكلام عن المعجم. حقًّا إن بعض الكلمات التي أصبحت عربية بالتعريب قد لا تكون مناسبة لإحدى صيغ الصرف العربي كما في كلمة "أرثماطيقا" مثلًا, أو كلمة "اسطرلاب" ومع ذلك يوردها المعجم "أو ينبغي له أن يوردها" بين كلماته دون نظر إلى مناسبتها للصيغ الصرفية العربية. وعندما يعبّر المعجميون عن صلة الرحم بين الكلمات لا يقنعون بالمباني الصرفية التي ظهر وجه قصورها عن الوفاء بمطالب المعجم, وإنما يلجئون إلى وسيلة أخرى تتصل بروابط الكلمات لا بتنوع الصيغ, أو بعبارة أخرى تتصل بالمتن لا بالبنية, وهذه الوسيلة هي أصول المادة يجعلونها رحمًا تربط بالقرابة أفراد أسرة واحدة, ويجعلون حروف المادة مدخلًا إلى شرح معاني هذه الكلمات المفردات, ولكنم لا ينسبون إلى حروف المادة معنًى معينًا, بل إنهم يعترفون بإمكان تعدد المعاني بين الكلمات التي تشترك في هذه الأصول كالحل والحل والحلول تتفق مادة وتختلف معنى. والذي نحب أن نشير إليه هنا ونؤكد ضرورة اعتباره عند التفكير في هذه المسألة أن المعجميين لم يروا في الأصول الثلاثة أكثر من ملخص علاقة أو رحم قربى بين المفردات التي تترابط معجميًّا بواسطتها, ولذلك كان الإجراء المفضَّل عندهم في معاجمهم أن يفصلوا في الكتابة بين أصول المادة حتى لا تفهم منها كلمة ما. على أن أحد الصرفيين "ابن جني" كان عند كلامه عن الاشتقاق الصغير والكبير والأكبر أكثر طموحًا من بقيتهم حين ينسب معنى إلى هذه الأصول عند اجتماعها مرتبة ترتيبًا معينًا, كما نسب المعنى إلى ما ينتج عن تشويش حروفها, والعبث بترتيبها, ومن شاء أن يرى ما قاله ابن جني فلينظر في "الخصائص". والذي أراه أجدى على دراسة هذه المشكلة "مشكلة الاشتقاق" أن يعدل الصرفيون بها عن طريقتهم إلى طريقة المعجميين, بل أن يجعلوا دراستها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 في إطار علم الصرف حسبة لوجه علم المعجم, مبتعدين بها عن شكلية الصيغ والزوائد والملحقات ذات المعاني الوظيفية, جانحين بها في اتجاه المعجم بحيث يكون "الاشتقاق" حدودًا مشتركة بين المنهجين, وإذا صحَّ لنا أن نوجد رابطة بين الكلمات فينبغي لنا ألّا نجعل واحدة منها أصلًا للأخرى, وإنما نعود إلى صنيع المعجميين بالربط بين الكلمات بأصول المادة, فنجعل هذا الربط بالأصول الثلاثة أساس منهجنا في دراسة الاشتقاق, وبذلك نعتبر الأصول الثلاثة أصل الاشتقاق, فالمصدر مشتق منها والفعل الماضي مشتق منها كذلك. وبهذا لا نستطيع أن ننسب إلى هذه الأصول الثلاثة أي معنى معجمي على نحو ما صنع ابن جني, وإنما نجعل لهذه الأصول معنى وظيفيًّا هو ما تؤديه من دور تلخيص العلاقة بين المفردات. وحين نرى الأصول الثلاثة وهي فاء الكلمة وعينها ولامها أصلًا لاشتقاق الكلمة وذوات رحمها, نحب أن ننبِّه إلى أن هذا الاعتبار يقتضي أن تكون كلمات اللغة العربية جميعها فيما عدا الضمائر والظروف والأدوات وبعض الخوالف مشتقة, وأن الكلمات الصلبة الوحيدة في اللغة هي هذه الضمائر والظروف والأدوات والخوالف. ويصبح الاشتقاق مع ذلك الفهم دراسة صرفية مسوقة لخدمة المعجم كما كانت المباني والزيادات والملحقات دراسة صرفية مسوقة لخدمة النحو. ويتبع هذا الفهم الجديد للاشتقاق أمر آخر هو تقسيم الكلمات المشتقة حسب هذا الفهم إلى متصرفة وجامدة, فأما الأولى فهي التي تتضح الصلات بين بعضها وبعض بواسطة تقليب حروف مادتها على صيغ مختلفة كالأفعال والصفات, وأما الثانية: فهي التي لا يمكن فيها ذلك كرجل وفرس وكتاب. ويكون المصدر بهذا الفهم مشتقًّا متصرفًا لأن صيغته تعتبر إحدى الصيغ التي تتقلب عليها أصول المادة, وكذلك يعتبر الفعل الماضي مشتقًّا متصرفًا. وتصبح الصورة العامة للمشتقات والصلاب على النحو التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 النبر : سبق لنا أن شرحنا بنية المقاطع العربية وبينَّا أن هذه المقاطع ستة تختلف من حيث الكمية والصورة, ونود الآن أن نبدأ في شرح نظام النبر الذي لا يمكن شرحه إلّا بمعونة البنية المقطعية في نظام الصرف من جهة, وفي الكلام العربي من جهة أخرى؛ فالفرق ما بين النبر في الصرف والنبر في الكلام هو فرق ما بين مقررات القاعدة ومطالب السياق. وبهذا يصبح النبر في الكلام هو الظاهرة الموقعية؛ لأنه نبر الجمل المستعملة فعلًا, وهي ميدان الظواهر الموقعية, أما النبر في نظام الصرف فهو نبر الكلمة المفردة أو الصيغة المفردة على الأصح, وهو نبر صامت صمت القاعدة نفسها وصمت اللغة من بعدها. والنبر بحكم التعريف ازدياد وضوح جزء من أجزاء الكلمة في السمع عن بقية ما حوله من أجزائها, وما دام النبر بحسب هذا التعريف وضوحًا سمعيًّا, فإن نسبته إلى الكلمات والصيغ خارج السياق نسبة إلى نظام الصرف اقتضاها التحليل؛ حيث لا يمكن ادّعاء وضوح سمعي في كلمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وصيغ صامتة. ومرجع هذا الوضوح السمعي إلى عنصرين يرتبط أحدهما بظاهرة علوِّ الصوت وانخفاضه, وهي ترتبط بدورها بحركة الحجاب الحاجز في ضغطه على الرئتين ليفرغ ما فيهما من هواء, فتؤدي زيادة كمية الهواء إلى اتساع مدى ذبذبة الأوتار الصوتية فيكون من ذلك علوّ الصوت. ويرتبط العنصر الآخر بتوتر التَّمَاس بين أعضاء النطق في مخرج الصوت, أو بعبارة أخرى: يأتي النبر من التوتر والعلوّ في الصوت اللذين يتَّصف بهما موقع معين من مواقع الكلام. وقد رأينا من قبل أثناء الكلام في النظام الصرفي للغة أن طبيعة الصياغة العربية للكلمات قد مكَّنت الصرفيين العرب من أن يعبروا تعبيرًا ذكيًّا عن قواعد هذه الصياغة, فأوجدوا للكلمات العربية صيغًا صرفية وموازين صرفية, فتتفق صيغة الكلمة وميزانها أحيانًا كما في "ضَرْب", وتختلف الصيغة عن الميزان أحيانًا أخرى كما في "استقامة", ولكنهما يقفان من اللفظ دائمًا موقف الشبح من الجسم, أو القالب من العجينة التي تصب فيه, ولهذا السبب بالذات أصبح من الممكن في دراسة اللغة العربية -دون غيرها من اللغات على ما يبدو- أن نتكلم عن نبر الصيغ الصرفية, ونكتفي به عن دراسة نبر الكلمات أي الأمثلة. ومن هنا يكون النبر على مستوى الصيغة والكلمة ذا وظيفة صرفية هي تقديم القيم الخلافية التي تفرق مع الكمية بين معنًى صرفي ومعنًى صرفي آخر, ويمكن بواسطتهما مثلًا أن نفرق بين طوائف من الصيغ مثل فَعِلَ - فَعَّل - فاعل - فعيل؛ حيث يفرق بين الكلمات الأربع بالكمية, وبين الثلاث الأولى وبين الرابعة بالنبر, فيقع النبر في الكلمات الثلاث الأولى على المقطع الأول, وفي الرابعة على الثاني. ومع ذلك يحسن في دراسة النبر الأبنية على نظام الصيغ, وأن نعدل عن ذلك إلى بنائه على ترتيب المقاطع في الصيغ؛ لأن عدد المقاطع -وهي ستة كما رأينا- أقل بكثير جدًّا من عدد الصيغ الصرفية, فيؤدي استعمال المقاطع في تحديد قواعد النبر إلى أن يكون عدد القواعد قليلًا, وأن يكون الكلام فيها مختصرًا, وقلة القواعد وسهولة ضبطها مرغوب فيهما على أي حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 عرفنا إذًا أن ثمة نوعين من النبر: 1- نبر القاعدة أو نبر النظام الصرفي الذي نسبناه إلى الصيغة الصرفية المفردة والكلمة التي تأتي على مثال هذه الصيغة, وهذا النبر صامت. 2- نبر الاستعمال أو نبر الكلام والجمل المنطوقة, وهذا النبر أثر سمعي يرجع إلى أسباب عضوية محددة وقد شرحناها في بداية الكلام عن النبر. وسنحاول أن نشرح نبر النظام الصرفي, أو بعبارة أخرى: قاعدة النبر في البداية, ثم نحاول عند الكلام عن الظواهر الموقعية بعد ذلك أن نذكر الفروق بين قاعدة النبر وبين النبر في السياق المتحرك, مع فهم أن قاعدة النبر فيما عدا هذه الفروق متفقة مع نبر الاستعمال. وينقسم النبر بحسب "القاعدة" من حيث القوة والضعف إلى قسمين: 1- النبر الأولي: ويكون في الكلمات والصيغ جميعًا لا تخلو منه واحدة منها. 2- النبر الثانوي: وهو يكون في الكلمة أو الصيغة الطويلة نسبيًّا؛ بحيث يمكن لهذه الكلمة أن تبدو للأذن كما لو كانت كلمتين, أو بعبارة أكثر دقة: عندما تشتمل الكلمة على عدد من المقاطع يمكن أن يتكون منه وزن كلمتين عربيتين, فكلمة "مستحيل" مثلًا يمكن في مقاطعها أن نكون وزن كلمتين عربيتين هما "بعد, ميل" ومن ثَمَّ تشتمل على نبر أولي على المقطع الأخير, ونبر ثانوي على المقطع الأول منها, ويبقى المقطع الأوسط وهو ما يقابل الدال المفتوحة دون نبر. ولكلٍّ من النبر الأولي والنبر الثانوي قواعده الخاصة به التي تنسجم مع وظيفته الإيقاعية في حدود الصيغة أو الكلمة, وفيما يلي قواعد النبر الأولي: القاعدة الأولى: يقع النبر على القطع الأخير في الكلمة أو الصيغة إذا كان هذا المقطع طويلًا "أي: على صورة ص م ص أو ص ح ص ص" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 نحو: "استقال" و"استقلّ", فإذا كانت الكلمة ذات مقطع وحيد وقع عليه النبر أيًّا كانت كميته مثل: "ق" و"قم" و"ما" و"قال" و"قلَّ". القاعدة الثانية: يقع النبر على المقطع الذي قبل الآخر في الحالات الآتية: 1- إذا كان ما قبل الآخر متوسطًا والمقطع الأخير أ- قصيرًا نحو: أخرجت - حذار - استاق. ب- متوسطًا نحو: علم - قاتل - معلم - مقاتل -استوثق "بسكون الآخر". 2- إذا كان ما قبل الآخر قصيرًا في إحدى الحالتين الآتيتين: أ- بدئت به الكلمة نحو: كتب - حسب - صور - قفا. ب- سبقه المقطع الأقصر ذو الحرف الوحيد الساكن الذي يتوصّل إلى النطق به بهمزة الوصل نحو: انحبس - انطلق - ارعو - اخرجي - ابتغ - امضيا. 3- إذا كان ما قبل الآخر طويلًا اغتفر فيه التقاء الساكنين, ولم يكن الأخير طويلًا آخر نحو: أتحاجوني - دوبية. القاعدة الثالثة: يقع النبر على المقطع الثالث من الآخر إذا كان: 1- قصيرًا متلوًّا بقصيرين: نحو: علمك - لن يصيل - أكرمك. 2- قصيرًا متلوًّا بقصير ومتوسط نحو: علمك -لم يصل - أكرمك. 3- متوسطًا متلوًّا بقصيرين نحو: بيتك -لم ينته - أُخْرِجَ. 4- متوسطًا متلوًّا بقصير ومتوسط نحو: بينكم - مصطفى - أُخْرِجُوا - مُفَكِّرٌ -نَظْرَةٌ - ابْتِسَامَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 القاعدة الرابعة: يقع النبر على المقطع الرابع من الآخر إذا كان الأخير متوسطًا والرابع من الآخر قصيرًا وبينهما قصيران نحو: بَقَرَةٌ - عِجْلَةٌ - وَرَثَةٌ - كَلِمَةٌ - يرثني - يَعِدُهم - وَسِعَهُ - ضربها - نَكِرَهُم. ويغلب في المقطع الأخير في هذه الحالة أن يكون تنوينًا أو إضمارًا أو إشباعًا. ولا يقع النبر على مقطع يسبق هذا الرابع من الآخر. وكما احتسبنا النبر الأولي من نهاية الكلمة متجهين بقواعد صوب بدايتها سيكون حسابنا للنبر الثانوي من النقطة التي وقع عليها النبر الأولي, متجهين الاتجاه نفسه إلى بداية الكلمة في اتجاه معاكس لمجرى ترتيب الكلمة في الحالتين, وفيما يلي قواعد النبر الثانوي. القاعدة الأولى: يقع النبر الثانوي على المقطع السابق للنبر الأولي مباشرة إذا كان هذا المقطع السابق طويلًا "ص م ص أو ص ح ص ص" نحو: الصافات - الضالين - أتحاجوني. القاعدة الثانية: يقع النبر الثانوي على المقطع الثاني قبل النبر الأولي إذا كان هذا المقطع والذي يليه فيقع بينه وبين النبر الأولي, يكونان أحد النماذج الآتية: 1- متوسط + متوسط نحو: مُسْتَبْقِين - يَسْتَخْفُون -عَاشَرْنَاهم. 2- متوسط + قصير نحو: مُسْتَقِيم - مُسْتَعِدَّة - قَاتِلُوهُمْ. 3- طويل + قصير نحو: مُدْهَامَّتَانْ. القاعدة الثالثة: يقع النبر على المقطع الثالث قبل النبر الأولي إذا كان هذا المقطع المذكور يكون مع اللذين يليانه, فقعان بينه وبين النبر الأولي أحد النماذج الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 1- متوسط + قصير + متوسط نحو: يَسْتَقِيمُون- مُسْتَجِيبُون - مُسْتَطِيلَانْ. 2- متوسط + قصير + قصير نحو: مُنْطَلِقُونَ - يَسْتَبِقُونَ -مُحْتَرَمُونْ. 3- قصير + قصير + قصير نحو: بَقَرَتَان -كَلِمَتَان -ضَرَبْتَاهْ. ولا يقع النبر على سابق على ما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 النظام النحوي مدخل ... النظام النحوي قلنا من قبل: إن النظام النحوي للغة العربية الفصحى ينبني على الأسس الآتية: 1- طائفة من المعاني النحوية العامة التي يسمونها معاني الجمل أو الأساليب. 2- مجموعة من المعاني النحوية الخاصة أو معاني الأبواب المفردة كالفاعلية والمفعولية والإضافة إلخ. 3- مجموعة من العلاقات التي تربط بين المعاني الخاصة حتى تكون صالحة عند تركيبها لبيان المراد منها, وذلك كعلاقة الإسناد والتخصيص "وتحتها فروع", والنسبة "وتحتها فروع", والتبعية "وتحتها فروع أيضًا", وهذه العلاقات في الحقيقة قرائن معنوية على معاني الأبواب الخاصة كالفاعلية والمفعولية. 4- ما يقدمه علما الصوتيات والصرف لعلم النحو من قرائن صوتية أو صرفية كالحركات والحروف ومباني التقسيم ومباني التصريف, وما اصطلحنا من قبل على تسميته مباني القرائن اللفظية. 5- القيم الخلافية أو المقابلات بين أحد أفرد كل عنصرمما سبق وبين بقية أفراده. ولقد أشرنا من قبل إلى أنَّ النحو لا يتخذ لمعانيه مباني من أي نوع إلّا ما يقدمه له الصرف1 من المباني, وهذا هو السبب الذي جعل النحاة يجدون في أغلب الأحيان أنه من الصعب أن يفصلوا بين الصرف والنحو فيعالجون كلًّا منهما علاجًا منفصلًا, ومن هنا جاءت متنون القواعد مشتملة على مزيج من هذا وذاك يصعب معه إعطاء ما للنحو وما للصرف للصرف. يقول ابن مالك مثلًا: وتاء تأنيث تلي الماضي إذا ... كان لأنثى كأبت هند الأذى   1 الصرف يستعين بالأصوات أيضًا, ثم يقدِّم العناصر الصوتية إلى النحو باعتبارها عناصر صرفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وهذا الكلام يفهم على وجهين أحدهما صرفي والآخر نحوي, ويمكن لنا أن نضع خطة الفهم الصرفي على النحو الآتي: المعنى المبنى العالمة التأنيث التاء على إطلاقها التاء في أبت فالتأنيث معنًى صرفي من معاني التصريف على نحو ما أسلفنا, ففهم بيت الألفية على هذا النحو فهم صرفي, ولكننا نستطيع أن نفهم هذا البيت أيضًا من زاوية النحو وهي زاوية العلاقات السياقية, ويكون ذلك كما يأتي: المعنى المبنى العلامة المطابقة في التأنيث بين الفعل والفاعل التاء على إطلاقها التاء في أبت ويبدو أن ابن مالك أحسَّ ضرورة وزن الشعر فجعل كلمة "أنثى" في مكان كلمة "التأنيث" أو حتى "المؤنث", فالتأنيث هو المعنى والمؤنث مبنًى له, ولكن تحته فروعًا هي مبانٍ فرعية أيضًا, فقد يعبر عن المؤنث بالتاء أو بالألف المقصورة أو الممدودة, أمًّا الأنثى فلا علاقة لها بكل ذلك؛ لأن معناها الأكبر هو "الأنوثة" وليس التأنيث, والأنوثة ضد الذكورة وهما في الطبيعة, والتأنيث ضد التذكير وهما في اللغة. أما قول بن مالك في مكان آخر: "أو مفهم ذات حر" فليس مردّه إلى ضرورة وزن الشعر كما كان الاحتمال هنا, وإنما مرده إلى الخطأ الموروث من تفكير النحاة, ويتضح الفرق بين التأنيث والأنوثة من أن "الأرض" مؤنثة وليست أنثى. والذي يبدو من هذا التصوير للصلة بين المعنى النحوي والمبنى الصرفي والعلامة المنطوقة أو المكتوبة ما يأتي: 1- إن جميع ما نسميه المعاني النحوية هو وظائف للمباني التي يتكوّن منها المبنى الأكبر للسياق. 2- إن المباني المتعددة في السياق هي مفاهيم صرفية لا نحوية. 3- إن العلامة المنطوقة أو المكتوبة ليست جزءًا من نظام الصرف أو نظام النحو, ولكنها جزء من الكلام, ويمكن توضيح ذلك كما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 المعنى المبنى العلامة وظيفة للمبنى شكل مطلق نطق بعينه أو كتابة بعينها والغاية التي يسعى إليها الناظر في النص هي فهم النص, ووسيلته إلى ذلك أن ينظر في العلامات المنطوقة أو المكتوبة, فيرى دون جهد كبير أن هذه العلامة من نوع مبنى كذا, فسيعلم مثلًا أن التاء في "أبت هند الأذى" من نوع التاء المطلقة التي تذكر القواعد أنها تلحق بالفعل, وسيعلم دون كبير عناء أن الألف في "قفا = قفن" غير الألف في "قليلًا" من قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} وإن أتت كلتا الألفين قبل الوقف مباشرة وجاءت كلتاهما عن نون ساكنة, فالألف الأولي جاءت عن نون التوكيد الخفيفة والثانية عن التنوين. وسيعلم الناظر في "قام زيد" أن خصوص لفظ "زيد" هنا ينتمي إلى عموم الاسم المرفوع, فخصوص اللفظ علامة, وعموم الاسم المرفوع مبنى, وسيعلم الناظر أيضًا أن خصوص لفظ "ما" في قولنا: "ما أحسن زيدًا" ينتمي إلى مفهوم عام هو "ما" على إطلاقها. فإدراك المبنى بواسطة النظر إلى العلامة لا يعد من العمليات العقلية الكبرى في التحليل, وإنما تأتي الصعوبة عند إرادة تعيين المعنى بواسطة المبنى, فلقد أشرنا من قبل إلى أن المعنى الوظيفي متعدد بالنسبة للمبنى الواحد, فبالنسبة لكلمة "قفا" التي أوردناها منذ قليلٍ يمكن للألف أن تكون ألف الاثنين, أما بالنسبة للاسم المرفوع فمن المعاني الصالحة له الفاعل ونائبه والمبتدأ والخبر إلخ, وأما بالنسبة لمبنى "ما" فقد رأينا من قبل أنها تصلح على إطلاقها للشرط والاستفهام والموصول والمصدرية وأن تكون كافة أو زائدة إلخ, بل إنها في هذا الموضع بالذات رأينا أن النحاة اختلفوا فيها بين أن تكون: أ- نكرة تامَّة بمعنى "شيء". ب- استفهامية. جـ- معرفة ناقصة بمعنى "الذي". د- نكرة ناقصة وبعدها صفة. وإن كانوا اتفقوا على أنها اسم وأنها مبتدأ, والمغزى من وراء كل ذلك أنّ ما يتسم به المعنى الوظيفي للمبنى الواحد من التعدد والاحتمال يجعل الناظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 في النص يسعى دائمًا وراء القرائن اللفظية والمعنوية والحالية ليرى أيّ المعاني المتعددة لهذا المبنى هو المقصود, ومن هنا نرى التفاضل بين المعربين للجملة الواحدة. والكشف عن العلاقات السياقية "أو التعليق كما يسميه عبد القاهر" هو الغاية من الإعراب, فإذا طلب إلينا مثلًا أن نعرب جملة مثل: "ضرب زيد عمرًا" نظرنا في الكلمة الأولى "ضرب" فوجدناها قد جاءت على صيغة "فَعَلَ", ونحن نعلم أن هذه الصيغة تدل على الفعل الماضي سواء من حيث صورتها أو من حيث وقوفها بإزاء "يَفْعَلُ وافْعَل", فهي تندرج تحت قسم أكبر من بين أقسام الكلم يسمَّى "الفعل". ومن هنا نبادر إلى القول بأن: "ضرب فعل ماضي", ثم ننظر بعد ذلك في زيد فنلاحظ ما يأتي: 1- أنه ينتمي إلى مبنى الاسم "قرينة الصيغة". 2- أنه مرفوع "قرينة العلامة الإعرابية". 3- أن العلاقة بينه وبين الفعل الماضي هي علاقة الإسناد "قرينة التعليق". 4- أنه ينتمي إلى رتبة التأخر "قرينة الرتبة". 5- أن تأخره عن الفعل رتبة محفوظة "قرينة الترتبة". 6- أن الفعل معه مبني للمعلوم "قرينة الصيغة". 7- أن الفعل معه مسند إلى المفرد الغائب -وهذا إسناده مع الاسم الظاهر دائمًا- "قرينة المطابقة". وبسبب كل هذه القرائن نصل إلى أن "زيد" هو الفاعل, ثم ننظر بعد ذلك في "عمرًا" ونلاحظ: 1- أنه ينتمي إلى مبنى الاسم "قرينة الصيغة". 2- أنه منصوب "قرينة العلامة الإعرابية". 3- أن العلاقة بينه وبين الفعل هي علاقة التعدية "قرينة التعليق". 4- أن رتبته من كل من الفعل والفاعل هي رتبة التأخر "قرينة الرتبة". 5- أن هذه الرتبة غير محفوظة "قرينة الرتبة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وبسبب هذه القرائن نسارع إلى القول بأن "عمرًا" مفعول به. ولا شكَّ أن أصعب هذه القرائن من حيث إمكان الكشف عنها هي قرينة التعليق لأنها: 1- قرينة معنوية خالصة تحتاج إلى تأمُّل في بعض الأحيان. 2- إن التأمل فيها يقود في الأغلب الأعمِّ من الحالات إلى متاهات الأفكار الظنية التي لا تتصل اتصالًا مباشرًا بالتفكير النحوي, ونخرج لهذا السبب عن طبيعة الالتزام بحدود المنهج. 3- إن الكشف عن هذه القرينة هو الغاية الكبرى من التحليل الإعرابي, وما دام الناس يحسون ويعترفون بالإحساس بصعوبة الإعراب أحيانًا, فإن معنى ذلك أنّ من الصعب عليهم أن يكشفوا عن هذه القرينة المعنوية "قرينة التعليق", وهي أم القرائن النحوية جميعًا. ولقد سبق أن قلنا: إن المعنى على مستوى النظام الصوتي والنظام الصرفي والنظام النحوي هو معنى وظيفي, أي: إن ما يُسَمَّى المعنى على هذا المستوى هو في الواقع وظيفة المبنى التحليلي, ثم يأتي معنى الكلمة المفردة "المعنى المعجمي", وما يكون بمجموع هذين المعنيين مضافًا إليهما القرينة الاجتماعية الكبرى التي نرتضي لها اصطلاح البلاغيين "المقام "context of situstion", وكل ذلك يصنع "المعنى الدلالي". وإذا اتضح المعنى الوظيفي المذكور أمكَنَ إعراب الجملة دون حاجة إلى المعجم أو المقام, ذلك بأن وضوح المعنى الوظيفي هو الثمرة الطبيعية لنجاح عملية "التعليق", والذي يؤدي إليه هذا الفهم بالضرورة هو التسليم بأننا لو أبحنا لأنفسنا أن نتساهل قليلًا في أمر التمسُّك بالمعنى المعجمي فكوَّنَّا نسقًا نطقيًّا من صورة بنائية عربية لا معنى لها من الناحية المعجمية, لأمكن لنا أن نعرب هذا النسق النطقي. فمثلًا يمكننا: 1- أن نحافظ على أن يشتمل النسق النطقي الهرائي على حروف عربية. 2- وأن نحافظ على ظاهرة إدغام ما تماثل أو تقارب إلخ من هذه الحروف على الطريقة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 3- وأن نحافظ على أن نقلد المباني الصرفية العربية, سواء مباني التقسيم والتصريف والقرائن. 4- وأن نحافظ بعد ذلك كله على مظهر العلاقات النحوي. ولكننا مع المحافظة على كل هذا: 5- نتجاهل الاعتبارات المعجمية, فنجعل المباني التي اخترناها محققة بألفاظ هرائية لا معنى لها في المعجم. 6- ومن ثَمَّ لا يكون النسق النطقي الذي "اقترفناه" جملة عربية بآية صورة من صور الجملة. انظر مثلًا إلى ما يأتي: قَاصَ التَّجِينُ شِحَالَه بِتَريسِهِ ... فاخِي فَلَمْ يَسْتَفِ بِطَاسيةِ الْبَرَنْ إن من حسن الحظ أن ابن إسحاق -رضي الله عنه- لم يتأخر به زمانه حتى يقرأ ما يبدو هنا أنه أريد به أن يكون من قبيل الشعر, ولو قد حدث هذا لعده من شعر الجنّ, أو لزعم أن آدم قاله قبل أن يعلمه الله الأسماء كلها، ربما دون أن يردف ذلك بقوله: والله أعلم. ونلاحظ هنا أن كل الأشراط التي حددناها منذ قليل لهذا النسق ووضعن لها أرقامًا من 1 إلى 6 قد تحققت تمامًا في هذا النسق النطقي, فحين تحقق له ما وصفنا أصبح من الممكن أن نعرب النص بنجاح تامّ فنقول: قاص: فعل ماضي مبني على الفتح لا محل له من الإعراب. التجين: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة. شحال: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة. الهاء: مضاف إليه مبني على الضم في محل جر. الباء: حرف جر مبني على الكسر لا محل له من الإعراب. تريس: مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة الظاهرة. الهاء: مضاف إليه مبني على الكسر في محل جر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الفاخي: نعت "لتريس" مجرور وعلامة جره الكسرة المقدرة على الياء منع من ظهورها الثقل. الفاء: حرف عطف مبني على الفتح لا محل له من الإعراب. لم: حرف نفي وجزم وقلب مبني على السكون لا محل له من الإعراب. يستف: فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون، والفاعل مستتر جوازًا تقديره "هو". الباء: حرف جر مبني على الكسر لا محل له من الإعراب. طاسية: مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة الظاهرة. البرن: مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على آخره, منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الروي. والبيت من الكامل, وهو مستوفٍ للمطالب الشكلية حتى من الناحية العروضية. هذا الإعراب الكامل التفاصيل يبيِّن إلى أيّ حدٍّ نستطيع الاتكال في التحليل اللغوي على ما أطلقنا عليه الاصطلاح "المعنى الوظيفي", فهذا المعنى الوظيفي يحدد الفهم صوتيًّا من حيث إن الحرف مقابل استبدالي, وصرفيًّا من حيث إن المبنى إطار شكلي يتحقق بالعلامة, ونحويًّا من حيث إن العلاقة السياقية تكشف لنا عن ترابط المباني التي تحققت بالعلامات في سياق النص. أما ما فوق ذلك من معنى الكلمة المفردة أو معنى المقام, أي: المعنى الدلالي الكامل, فذلك ما لا يوصل إليه بواسطة المبنى فقط. ولو كان الإعراب فرع المعنى الدلالي ما استطعنا كذلك أن نعرب قول المجنون بن جندب: محكوكة العينين معطاء القفا ... كأنما قدت على متن الصفا تمشي على متن شراك أعجفا ... كأنما ينشر فيه مصحفا فإن أبا العلاء العماني لم يستطع تفسير ذلك, ولم يستطع ذلك أبو عبيدة ولا الأصمعي ولا أبو زيد, وقال أبو زيد: إنه كلام مجنون ولا يعرف كلام المجانين إلّا مجنون1.   1 المزهر للسيوطي, جـ1, ص140-141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وما دام الإعراب بحاجة إلى نتائج الصوتيات والصرف, فإننا لن نستطيع إلّا لأغراض البحث أن نفصل في الفهم بين الصوتيات والصرف والنحو, وهذا هو الذي أكدته تمامًا في الفصل الأول حين عقدت تشبيهًا لأنظمة اللغة بأجهزة الجسم الإنساني. فكما أن وظيفة النموِّ تتوقف في الجسم الإنساني على جهاز الغدد الصماء والجهاز الهضمي وجهاز الدورة الدموية والجهاز التنفسي وغير ذلك من الأجهزة التي يتعذّر الفصل بين عملها من الناحية العملية, فلا يفصل بين وظيفة وأخرى من وظائفها إلا للأغراض العلمية, كذلك يتوقف إعراب نصٍّ ما على وظائف الأصوات ووظائف المباني ووظائف القرائن ونظام العلاقات, فلا يفصل في الذهن بين كل ذلك إلّا لأغراض التحليل اللغوي, أما في التركيب فلا فصل. ولقد أكثر النحاة الكلام عن العامل باعتباره تفسيرًا للعلاقات النحوية أو بعبارة أخرى: باعتباره مناط "التعليق", وجعلوه تفسيرًا لاختلاف العلامات الإعرابية, وبنوا على القول به فكرتي التقدير والمحل الإعرابي, وألفوا الكثير من الكتب في العوامل, سواء ما كان منها لفظيًّا أو معنويًّا, ووصل به بعضهم من حيث العدد إلى مائة عامل1, وتناول بعض النحاة كابن مضاء2 هذا الفهم لطبيعة العلاقات السياقية بالنقد والتفنيد والتجريح, ولكنه بعد أن أبان فسادها بالحجج المنطقية لم يأت بتفسيرٍ مقبول لاختلاف العلامات الإعرابية باختلاف المعاني النحوية, ولم يقم مقام العامل فهمًا آخر لهذه العلاقات غير قوله: إن العامل هو المتكلم, فجعل اللغة بذلك أمرًا فرديًّا يتوقف على اختيار المتكلم, ونفى عنها الطابع العرفي الاجتماعي الذي هو أخص خصائصها. ولإبراهيم مصطفى3 محاولة مشابهة لتفسير اختلاف العلامات الإعرابية قال فيها: إن الحركات ذات معانٍ محددة؛ فالضمة علم الإسناد, والكسرة علم الإضافة, والفتحة علم الخفة, ولكنه اكتفى بهذا الفهم المبهم القاصر لطبيعة هذه الحركات, وهو فهم يبدو قصوره وإبهامه إذا وضعناه في ضوء ما ذكرنا منذ   1 انظر العوامل المائة لعبد القاهر. 2 انظر الرد على النحاة لابن مضاء. 3 إحياء النحو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قليل عندما ذكرنا القرائن المختلفة التي أعانتنا على إعراب "ضرب زيد عمرًا" حيث رأينا أن العلامة الإعرابية ليست أكثر من واحدة من قرائن كثيرة يتوقف عليها فهم الإعراب الصحيح, بل لقد عرفنا أيضًا أن الإسناد نفسه قرينة من القرائن المعنوية, فيعتبر هو نفسه كالضمة صاحب دلالة معنية على الإعراب الصحيح. ولعل أذكى محاولة لتفسير العلاقات السياقية في تاريخ التراث العربي إلى الآن هي ما ذهب إليه عبد القاهر الجرجاني صاحب مصطلح "التعليق", وقد كتب دراسته الجادة في كتابه "دلائل الإعجاز" تحت عنوان "النظم", ولكن عبد القاهر أورد في هذه الدراسة أربعة مصطلحات هي: 1- النظم. 2- البناء. 3- الترتيب. 4- التعليق. فأما "النظم" فقد جعله عبد القاهر للمعاني، أي: إن النظم في معناه عند عبد القاهر هو تصور العلاقات النحوية بين الأبواب؛ كتصور علاقة الإسناد بين المسند إليه والمسند, وتصور علاقة التعدية بين الفعل والمفعول به, وتصوّر علاقة السببية بين الفعل والمفعول لأجله, وهلمَّ جرَّا. يقول عبد القاهر1: "وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه, فاعلم أن الوجوه والفروق كثيرة ليس لها غاية تقف عندها, ونهاية لا نجد لها ازديادًا بعدها. ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في نفسها, ومن حيث هي علي الإطلاق, ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام, ثم بحسب موقع بعضها من بعض, واستعمال بعضها مع بعض", ثم يقول2: "واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أنه لا معنى للنظم   1 دلائل الإعجاز ص69. 2 ص282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 غير أن توفي معاني النحو فيما بين الكلم قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى غاية وإلى أن تكون الزيادة عليه؛ كالتكلف لما لا يحتاج إليه, فإن النفس تنازع إلى تتبع كل ضرب من الشبهة .... إلخ. ولنا على ذلك تعليقات: 1- إن النظم كما فهمه عبد القاهرة هو نظم المعاني النحوية في نفس المتكلّم لا بناء الكلمات في صورة جملة, ويمكن فهم ذلك من عبارتين هما رأيه في الاقتباس الأول: "إن مدار أمر النظم على معاني النحو" وفي الاقتباس الثاني: "أنه لا معنى للنظم غير أن توفي معاني النحو فيما بين الكلم". 2- أشار عبد القاهر إلى ما سماه: "الفروق", وهي إشارة ذكية إلى ما شرحناه من أمر القيم الخلافية أو المقابلات بين المعنى والمعنى, أو بين المبنى والمبنى. 3- في قوله: "موقع بعضها من بعض" إشارة إلى ما اشتهر في عرف النحاة باسم "الرتبة". 4- في قوله: "واستعمال بعضها مع بعض" إشارة إلى ما سنشرحه من أمر التضام وهو تطلب إحدى الكلمتين للأخرى, واستدعاؤها إياها, وسنعده من القرائن اللفظية فيما سيأتي إن شاء الله. وأما "البناء" فأنا أفهم من عرض عبد القاهر للموضوع أنه جعله للمباني بحسب المعاني النحوية "الوظيفية", كأن "تبنى" لمعنى الفاعلية "مبنى" هو الاسم المرفوع في بعض المواطن أو ضميرًا متصلًا في موضع آخر وضميرًا مستترًا في موضع ثالث, فالبناء كما أفهمه عنه هو اختيار المباني التي يقدمها الصرف للتعبير عن المعاني النحوية, وبوضع فكرة "النظم" بإزاء فكرة "البناء" يكون عبد القاهر قد عبَّر عن الارتباط بين المعنى والمبنى كما عرضنا فهمه في هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وأما الترتيب فإنه وضع العلامات المنطوقة أو المكتوبة في سياقها الاستعمالي حسب رتب خاصة تظهر بها فوائد التقديم والتأخير اللذين كانا موضع عناية فائقة من لدن عبد القاهر, وكذلك يظهر بهذا الترتيب ما كان من الرتب محفوظًا أو غير محفوظ. وأما أخطر شيء تكلم فيه عبد القاهر على الإطلاق فلم يكن النظم ولا البناء ولا الترتيب, وإنما كان "التعليق", وقد قصد به في زعمي: إنشاء العلاقات بين المعاني النحوية بواسطة ما يسمَّى بالقرائن اللفظية والمعنوية والحالية, ولعل من المؤسف حقًّا أن نضَّطر اضطرارًا إلى أن نفهم من مصطلح عبد القاهر ما لم ينص هو على معناه نصًّا صريحًا، ذلك بأن عبد القاهر لم يقصد قصدًا مباشرًا إلى شرح ما يعنيه بكلمة "التعليق", ولكن إشارات عامة جاءت في سياق نصّ كتابه تشير عن بعد أو قرب إلى فهمناه عنه بهذا الاصطلاح. فمن ذلك عبارته المشهورة التي يرى أن الكلمات في النص "يأخذ بعضها بحجز بعض", وكذلك قوله1: "هذا هو السبيل. فلست بواجد شيئًا يرجع صوابه إن كان صوابًا, أو خطؤه إن كان خطأ إلى النظم, ويدخل تحت هذا الاسم إلّا وهو من معاني النحو قد أصيب به موضعه, ووضع في حقه, أو عومل بخلاف هذه المعاملة واستعمل في غير ما ينبغي له, فلا ترى كلامًا قد وصف بصحة نظم أو فساده أو وصف بمزية أو فضل فيه إلّا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه, ووجدته يدخل في أصلٍ من أصوله, ويتَّصل بباب من أبوابه", وإن عبد القاهر حين ينصّ على أن معاني النحو -التي نسمي جمورها أبوابًا- وأحكامه التي هي ضوابط   1 دلائل الإعجاز ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 العلاقات السياقية، أو بعبارة أخرى: "التعليق", هي مرجع الصحة والفساد والمزية والفضل, يشير إلى أهمية التعليق ويلقي ضوءًا ما على ما يقصده بهذا الاصطلاح"1. وفي رأيي -كما كان في رأي عبد القاهر على أقوى احتمال- أن التعليق هو الفكرة المركزية في النحو العربي, وأن فهم التعليق على وجههٍ كافٍ وحده للقضاء على خرافة العمل النحوي والعوامل النحوية، لأن التعليق يحدد بواسطة القرائن معاني الأبواب في السياق, ويفسر العلاقات بينها على صورة أوفى وأفضل وأكثر نفعًا في التحليل اللغوي لهذه المعاني الوظيفية النحوية. وليس يكفي في شرح فكرة التعليق أن نقول كما قال عبد القاهر: إن الكلمات "يأخذ بعضها بحجز بعض", ولا أن نرجع الفضل والمزية إلى معاني النحو وأحكامه في عمومٍ يشبه عموم عبارته، وإنما ينبغي لنا أن نتصدَّى للتعليق النحوي بالتفصيل تحت عنوانين؛ أحدهما: "العلاقات السياقية", أو ما يسميه الغربيون syntagmatic relations والثاني هو: "القرائن اللفطية". فإذا علمنا أن العلاقات السياقية التي تربط بين الأبواب وتتضح بها الأبواب هي في الحقيقة "قرائن معنوية", فقد علمنا أن العنوانين المذكورين جميعًا يتناولان القرائن من الناحيتين المعنوية واللفظية, وهما مناط التعليق مع ترك القرائن الحالية لوضعها من هذا الكتاب إن شاء الله, فالتعليق إذًا هو الإطار الضروري للتحليل النحوي, أو كما يسميه النحاة: "الإعراب". وفيما يلي جدول يمثل النظام النحوي ويبين التشابك العضوي بين المعاني العامة "معاني أساليب الجمل", وبين المعاني الخاصة "معاني الأبواب المفردة", وهو تشابك يتمُّ بواسطة العلاقات السياقية "القرائن المعنوية".   1 يستعمل ابن مضاء اصطلاح "التعليق" بمعنى قريب مما نقصد به "الرد على النحاة ص117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 1- قرائن التعليق : أ- القرائن المعنوية 1: ذكرنا من قبل أن الغاية التي يسعى إليها الناظر في النصِّ هي فهم النص, وأن وسيلته إلى ذلك أن ينظر في العلامات المنطوقة أو المكتوبة في النصِّ ليصل بواسطتها إلى تحديد المبنى, وأن الوصول إلى المبنى بواسطة العلامة ليس من العمليات العقلية الكبرى في التحليل؛ لأنها مسألة تعرّف يعتمد على الإدراك الحسي بواسطة السمع أو البصر, كما تتعرّف على فلان بواسطة حضوره أمامك, فلا يحتاج منك ذلك إلّا إلى الاعتماد في الفهم على قرينة العهد الحضوري أو حضور المعهود. أما ما هو أكثر صعوبة من ذلك دون شكٍّ فهو القفز العقلي من المبنى إلى المعنى؛ لأن ذلك يحتاج إلى قرائن معنوية وأخرى لفظية, ويصدق على كليهما اصطلاح: "القرائن المقالية", لأن هذين النوعين من القرائن يؤخذان "من المقال" لا من "المقام"، وتأتي الصعوبة في هذا المجال مما أشرنا إليه سابقًا من أن المبنى الصرفي الواحد يصلح لأكثر من معنى, وكانت هذه الإشارة تحت عنوان: "تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد". فإذا تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد على إطلاقه فليس معنى ذلك أنه يتعدد بالنسبة لعلامته بخصوصها في النص. فعلينا إذًا عند النظر في نصٍّ بعينه أن نقرِّر أيّ المعاني المتعددة هو الذي يتعين هنا؛ إذ لا بُدَّ في نص بعينه أن يكون المعنى محددًا, ووسيلة الوصول إلى هذا المعنى المعين هي استخدام القرائن المتاحة في المقال سواء ما كان معنويًّا وما كان لفظيًّا. فإذا كان الوصول إلى تحديد المبنى من العلامة يتمّ بحضور المعهود, وكان استحضار المعنى من المبنى لا يتمّ إلّا باستخدام القرائن, فلا شكَّ أن العملية الثانية أصعب من الأولى. والمعروف أن التحليل اللغوي "الإعراب" يحتاج إلى الأمرين جميعًا. والعلاقات السياقية قرائن معنوية تفيد في تحديد المعنى النحوي "الباب الخاص كالفاعلية مثلًا" فعلاقة الإسناد مثلًا وهي العلاقة الرابطة بين المبتدأ   1 انظر الرسم البياني على الصفحة السابقة الذي يتضح فيه مكان قرائن التعليق من بقية القرائن, ثم تفصيل علاقة كلٍّ منها بالآخريات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 والخبر, ثم بين الفعل والفاعل أو نائبه, تصبح عند فهمها وتصورها قرينة معنوية على أن الأول مبتدأ والثاني خبر, أو على أن الأول فعل والثاني فاعل أو نائب فاعل, ويصل المعرب إلى قراره أن ذلك كذلك عندما يفهم العلاقة الرابطة بين الجزءين, ولكن علاقة الإسناد لا تكفي بذاتها للوصول إلى هذا القرار؛ لأنها يمكن أن تكون إسنادًا في جملة اسمية أو إسنادًا في جملة فعلية, ويمكن أن تكون إسنادًا خبريًّا أو إسنادًا إنشائيًّا, وهلمَّ جرّا. ومن هنا تحتاج إلى قرائن أخرى لفظية تعينها على تحديد نوعها, فنلجأ إلى مباني التقسيم لنرى إن كان طرفا الإسناد اسمين أو اسمًا وصفة أو اسمًا وفعلًا أو فعلًا واسمًا إلخ. ونلجأ أيضًا إلى مباني التصريف لنلمح الشخص والنوع والعدد والتعيين, وإلى العلامة الإعرابية لنرى ما إذا كانت الأسماء مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة, وإلى الرتبة لنرى من أي نوع هي, وإلى المطابقة بين الجزءين ما نوعها, وهلمَّ جرا مما يعتبر قرائن لفظية, وذلك إيضاح لظاهرة هامة جدًّا في التعليق هي ظاهرة تضافر القرائن لإيضاح المعنى الواحد. ومثال هذا التضافر ما رأيناه عند إعراب "ضرب زيد عمرًا" من قبل؛ إذ أعربنا "زيد" فاعلًا بشهادة سبع قرائن, واحدة منها فقط معنوية وهي الإسناد, أما البقية فلفظية. كما أعربنا "عمرًا" مفعولًا به بخمس قرائن؛ إحداهما معنوية وهي التعدية, وهكذا يكون الإسناد في اللغة العربية إحدى القرائن, أما في اللغات الغربية فهو دائمًا لا يفهم إلّا بواسطة نوع من القرائن اللفظية التي يسمونها الأفعال المساعدة copula, فلا يمكن بدون هذه القرينة أن نفهم علاقة الإسناد بهذه اللغات, ولما كانت اللغة الإنجليزية مثلًا غير مشتملة في تركيبها على ما نسميه مبنى الجملة الفعلية, بل تقع الجملة الإنجليزية في صورة ما نعرفه تحت اسم الجملة الاسمية, جاءت هذه الأفعال المساعدة لتحمل في دلالتها فكرة الإسناد والزمن, وفي رتبتها الفرق بين الإثبات والاستفهام. انظر مثلًا إلى الأمثلة الآتية وترجتمها باللغة العربية. earth is rond الأرض كروية. is eath round هل الأرض كروية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 والواضح أن الجملة الاسمية في اللغة العربية لا تشتمل على معنى الزمن, فهي جملة تصف المسند إليه بالمسند, ولا تشير إلى حدث ولا إلى زمن, فإذا أردنا أن نضيف عنصرًا زمنيًّا طارئًا إلى معنى هذه الجملة جئنا بالأدوات المنقولة عن الأفعال, وهي الأفعال الناسخة, فأدخلناها على الجملة الإسمية فيصبح وصف المسند إليه بالمسند منظورًا إليه من وجهة نظر زمنية معينة, فهذه النواسخ في دلالتها على الزمن تشبه ما أشرنا إليه من الأفعال المساعدة في اللغة الإنجليزية, ولكنها لا تشبهها فيما وراء ذلك, ومن هنا كانت ترجمة earth is round بعبارة "الأرض تكون كروية" ترجمة خطأ؛ لافتئاتها على طرق التركيب العرفية باللغة العربية الفصحى, وهي لغة تفهم علاقة الإسناد دون حاجة إلى مساعد, بل تتخذها هي نفسها قرينة على معنى الباب المفرد. ولقد حاول بعض الباحثين بالنظر إلى استغناء اللغة العربية عن هذه الضمائم الزمنية بالنسبة للجملة الاسمية وعدم الحاجة إلى النواسخ إلّا حين إرادة إدخال معنى الزمن على الجملة الاسمية أن يصوّر ذلك بصورة الميزة التي تمتاز بها اللغة العربية على لغات أخرى أجنبية؛ من حيث يمكن للمتكلم بهذه اللغة أن يلمح العلاقة لمحًا عقليًّا, وتحتاج اللغات الأخرى إلى كلمات خاصَّة للدلالة على الإسناد, ولست أحب أن أدخل في مجال حصر نواحي عبقرية اللغة العربية وامتيازها على غيرها من اللغات؛ لأن هذه القضية في نظري تعتبر مما وراء منهج اللغة meta linguistic, ولأمرٍ ما كانت هذه القضية مما اشتمل عليه كتاب لفيلسوف معاصر1. أما ما اهتم له اهتمامًا كبيرًا فهو التأكيد على علاقة الإسناد باعتبارها قرينة معنوية لتمييز المسند إليه من المسند في الجملة في ظلّ ظاهرة كبرى تحكم استخدام القرائن جميعًا هي ظاهرة "تضافر القرائن", وهي ظاهرة ترجع في أساسها إلى أنه لا يمكن لظاهرة واحدة أن تدل بمفردها على معنى بعينه, ولو حدث ذلك لكان عدد القرائن بعدد المعاني النحوية, وهو أمر يتنافَى مع مبدأ عام آخر هو تعدد المعاني   1 فلسفة اللغة العربية للدكتور عثمان أمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الوظيفية للمبنى الواحد. وعلاقة الإسناد هي علاقة المبتدأ بالخبر, والفعل بفاعله, والفعل بنائب فاعله, والوصف المعتمد بفاعله أو نائب فاعله, وبعض الخوالف بضمائمها. والملاحظ أن النحاة كانوا يلمحون قرينة الإسناد بين طرفي الجملة الاسمية والفعلية والوصفية كما كانوا يلمحونه أيضًا بين المعاني النحوية في داخل الجملة الواحدة, وهذا هو المعنى الذي نلاحظه في إعراب جملة مثل {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} حين نعرب "من" مفعولًا أولًا على رغم تأخرها, والحكمة مفعولًا ثانيًا على رغم تقدمها, ويكون ذلك بإدراك ما بينهما من علاقة شبيهة بفكرة الإسناد؛ إذ تقول: إن "من" هي الآخذ, و"الحكمة" هي المأخوذ. والخلاصة: إن مراعاة الآخذية والمأخوذية هنا هي الاعتبار الذي تَمَّ إعراب المفعولين طبقًا له, وهو اعتبار من قبيل قرينة الإسناد, ويتم كل فهم للقرينة معنوية كانت أو لفظية في حدود ما تسمح به نمطية اللغة. والتخصيص علاقة سياقية كبرى, وإن شئت فقل: قرينة معنوية كبرى تتفرع عنها قرائن معنوية أخص منها على النحو الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وهذه القرائن الخاصة كلها تجتمع كما سبق في قرينة معنوية كبرى أعمّ منها تشملها جميعًا وتسمَّى قرينة التخصيص, وإنما سميت هذه القرينة الكبرى قرينة التخصيص لما لاحظته من أنَّ كلِّ ما تفرع عنها من القرائن قيود على علاقة الإسناد, بمعنى أن هذه القرائن المعنوية المتفرعة عن التخصيص يعبِّر كلٌّ منها عن جهة خاصة في فهم معنى الحدث الذي يشير إليه الفعل أو الصفة. فإذا قلنا: ضرب زيد عمرًا, أو يضرب زيد عمرًا, أو زيد ضرب عمرًا, أو زيد يضرب عمرًا, أو زيد ضارب عمرًا, أو أضارب زيد عمرًا, أو فليضرب زيد عمرًا, أو اضرب عمرًا, أو ضربًا عمرًا, فإن إسناد الضرب إلى المسند إليه كان في كل مثال مما سبق مخصَّصًا بوقوعه على عمرو, أي: إن الوقوع على عمرو كان قيدًا في إسناد الضرب إلى من أسند إليه, وكان أيضًا جهة في الضرب حالت بينه وبين أن يفهم على إطلاقه فطوعته لِأَنْ يفهم من جهة وقوعه على عمرو, وهذا هو المعنى الذي قصدت إليه بقولي: إن المفعول به هنا يعتبر تعبيرًا عن الجهة, وأن التعدية تخصيص لعلاقة الإسناد التي بين الضرب وبين من أسند إليه. يقول عبد القاهر1: "كذلك إذا عديت الفعل إلى المفعول فقلت: ضرب زيد عمرًا, كان غرضك أن تفيد التباس الضرب الواقع من الأول بالثاني ووقوعه عليه", ومعنى هذا في تفسيرنا لقول عبد القاهر: إن التباس الضرب بالثاني جهة في إسناد الضرب إلى الأول. وينبغي هنا أن نشير إلى أن التعدية إذا كانت معنى أحد مشتقات مادة ما فهي معنى لبقية المشتقات من هذه المادة, كما يتضح في مشتقات الضرب التي أوردناها منذ قليل؛ إذ وجدنا التعدية في الفعل والصفة والمصدر على السواء. وأود أيضًا أن أضيف أن الجهة هنا قيد في الحدث لا في الزمن, وسنرى تفصيل الكلام في النوعين عند الكلام عن الجهة, وهو آت إن شاء الله. وإذا قلت: أتيت رغبة في لقائك أو كي ألقاك أو لألقاك إلخ. فإنك قد أسندت الإتيان إلى نفسك مقيدًا بسبب خاصٍّ وهذا القيد, وهو الغائية, يعتبر جهة في فهم الإتيان؛ لأن هذا الإتيان بدون سبب أعم منه وهو مسبب, فالإتيان   1 دلائل الإعجاز ص118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 هنا مفهوم من جهة كونه مسببًا عن الرغبة في اللقاء, وتكون الغائبة وهي قرينة معنوية دالة على المفعول لأجله, أو على معنى المضارع بعد الأدوات المذكورة, ومقيدة للإسناد الذي لولاها لكان أعمّ, وتكون أيضًا بسبب تقييدها هذا للإسناد دالة على جهةٍ في فهم الحدث الذي يشير إليه الفعل. ويقال الشيء نفسه في: أنا آتٍ رغبة في لقائك، وأنا آتي رغبة في لقائك, وسآتي رغبة في لقائك, وأآت أنا رغبة في لقائك, وهلمَّ جرا. وهي أيضًا قرينة نصب المضارع بعد الفاء واللام وكي وحتى. وأما المعية فهي قرينة معنوية تستفاد منها المصاحبة على غير طريق العطف أو الملابسة الحالية, والعطف والملابسة معنيان آخران يعبَّر عنهما بالواو كما يعبَّر بها عن المعية, ولسنا هنا بصدد الكلام عن الواو؛ لأن الواو قرينة لفظية, وكلامنا هنا في القرائن المعنوية, وفي قرينة معنى المعية بصفة خاصة. واصطلاح المعية مقصود على قرينة المفعول معه والمضارع بعد الواو, أي: إنه خاص بهذين البابين, ومن أمثلة المضارع المذكور نحو: "لا تأكل السمك وتشرب اللبن", ومع أن معنى الواو هنا هو نفسه معنى الواو التي في المفعول معه, كما يتشابه المعنى هنا والمعنى هناك, أحب النحاة أن يفرقوا بين معنيين متشابهين بسبب الاختلاف في التضامّ بين الواو وما يتبعها, فالذي يضامّ الواو في المعية اسم منصوب, والذي يضام الواو في المصاحبة مضارع منصوب, ومن هذا يتضح أن نصب المضارع بعد الواو على المعية من نوع نصب المفعول معه بعد الواو ذاتها. والظرفية قرينة معنوية على إرادة معنى المفعول فيه, فلقد سبق أن ذكرنا أن الظروف في اللغة العربية قسم من أقسام الكلم قائم بذاته, وأن بعض ما ينتمي إلى الأقسام الأخرى من الكلم ينقل إلى معنى الظرف فيستعمل كما يستعمل الظرف مفعولًا فيه, ويسمَّى معظمه متصرفًا, وذلك كالمصدر وصيغتي الزمان والمكان, وبعض حروف الجر كمذ ومنذ, وبعض الضمائر الإشارية كهنا وثَمَّ, وبعض المبهمات مثل كم, والأعداد والجهات, وأسماء الأوقات المبهمة, وأسماء العلاقات المفتقرة إلى الإضافة كقبل وبعد وتحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وفوق, وأسماء الأوقات المحددة المعينة كالآن وأمس وسحر وبكرة إلخ. كل هذه الكلمات ليست ظروفًا ولكنها تشترك مع الظروف في أمر هامٍّ, هي أنها تنقل إلى الظرفية فتفيد معنى المفعول فيه, فتخصص زمان الحدث ومكانه على معنى الاقتران. والظرفية هنا غير الظرفية التي يفيدها حرف الجر "في" أو ما يأتي بمعناها"؛ لأن الظرفية هنا قرينة معنوية على باب نحوي, ولكنها في حروف الجر علاقة احتواء بين معنى الحدث المستفاد من الفعل وبين الاسم التالي لحرف الجر, أو بعبارة أخرى يكمن الفرق في أن الظرفية هنا للتخصيص, أي: لتقييد زمن الإسناد أو مكانه, والظرفية هناك لنسبة الحدث إلى ظرف يحتويه, فالمعنيان من القرائن المعنوية, وهما على ما بينهما من تشابه شديد جدًّا لا ينبغي اعتبارهما معنى واحدًا لما بينهم من اختلاف المبنى كما يتضح في المقابلات الآتية: 1- صحوت إذ تطلع الشمس ظرف تخصيص 2- صحوت في طلوع الشمس حرف نسبة 3- أصحو متى تطلع الشمس ظرف تخصيص 4- صحوت وقت طلوع الشمس مبهم منقول إلى الظرف نسبة 5- أصحو في وقت طلوع الشمس حرف نسبة فظرفية الظرف وما نقل إليه أشبه شيء بمعنى الاقتران الزماني أو المكاني, أما ظرفية الحرف فهي على معنى الاحتواء الزماني أو المكاني. فالذي أراه أن هناك طائفتين مما يستعمل مفعولًا معه, إحداهما الظروف الجامدة التي يقول النحاة إنها تضاف إلى الجمل, وهي التي جعلناها جديرة باسم الظرف عند تقسيم الكلام, وهذه ظرفيتها ظرفية اقتران حدثين, فإذا قلت: حضر زيد إذ حضر عمرو, فإن "إذ" تقرن بين الحضورين. والطائفة الأخرى هي ما ينقل إلى معنى الظرف مما ليس ظرفًا, وهذا قد يدل على ظرفية احتواء حدث واحد, فإذا قلت جاء زيد يوم الجمعة, فذلك معناه أن اليوم هو ظرف المجئ, ولا دلالة هنا على الاقتران. وأحب أن أضيف هنا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الظروف الدالة على الاقتران يبقى لها معناها عند استعمالها أدوات شرط, وتتحول عن هذا المعنى إلى معنى الاحتواء عند استعمالها أدوات استفهام, وأما حرف الجر "في" فهو أصل معنى الاحتواء, وتكون ظروف الاحتواء بمعناه, وهو هنا شاع في تحديد معنى الظرف أنه بمعنى "في". وأما التحديد والتوكيد فهي القرينة المعنوية الدالة على المفعول المطلق, والمقصود بالتحديد والتوكيد: تعزيز المعنى الذي يفيده الحدث في الفعل, وذلك بإيراد المصدر المشترك مع الفعل في مادته؛ لأن المصدر هو اسم الحدث, ففي إيراده بعد الفعل تعزيز لعنصر الحدث ومعنى الفعل, وتكون التقوية بواسطة ذكره مفردًا منونًا على سبيل التأكيد, أو مضافًا لمعين لإفادة النوع, أو موصوفًا لإفادة النوع أيضًا, أو مميزًا لعدد فيكون العدد نفسه مفعولًا مطلقًا, والمصدر تمييزًا وقد يكون المصدر اسم مرة, أو مثنى اسم المرة فيفيد العدد أيضًا. والذي يهمنا من كل ذلك هو أن التقوية بالتأكيد أو التحديد قرينة معنوية على معنى المفعول المطلق, أما كونه يلزم فيه أن يكون بواسطة صيغة المصدر فذلك قرينة لفظية سنشير إليها فيما بعد إن شاء الله. وأما الملابسة للهيئات فهي قرينة معنوية على إفادة معنى "الحال" بواسطة الاسم المنصوب أو الجملة مع الواو وبدونها. فإذا قلت: "جاء زيد راكبًا", فالمعنى جاء زيد ملابسًا لحال الركوب, وكذلك إذا قلت: جاء زيد وهو يركب, فالحال هنا عبَّر عنها بالجملة والواو -وتسمَّى هذه الواو واو الحال وواو الابتداء- وقدَّرها سيبويه والأقدمون بإذ, ولا يريدون أنها بمعناها إذ لا يرادف الحرف الاسم, بل إنها وما بعدها قيد للعامل السابق1", وعلى هذا الاقتباس من شرح الأشموني ملاحظات: 1- إن تقدير سيبويه والأقدمين لهذه الواو المعبِّرة عن الملابسة "بإذ" يبرر ما رأيته منذ قليل أن معنى ظرفية الظرف أقرب إلى الاقتران، ومعنى ظرفية الحرف أقرب إلى الاحتواء.   1 شرح الأشموني ص258 تحقيق محيي الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 2- قوله: "إذ لا يرادف الحرف الاسم" مبنى على التقسيم التقليدي للكلم, وفيه أن الظرف من الأسماء, أما بحسب فهمي أنا للمشكلة فأَوْلَى للعبارة أن تكون: "إذ لا يرادف الحرف الظرف", وفي هذا تبرير آخر لما زعمته منذ قليل من المغايرة بين ظرفية الظرف وظرفية الحرف. 3- قوله: "بل إنها وما بعدها قيد للعامل السابق" ينسجم تمامًا مع رأيي أن كلَّ المنصوبات تندرج تحت عنوان التخصيص. والتفسير للذوات قرينة معنوية على باب التمييز, وواضح أن التفسير يكون عند الحاجة إلى الإيضاح, ولا تكون هذه الحاجة إلّا عند المبهم, والمبهم الذي يفسره التمييز إما أن يكون: 1- معنى الإسناد: نحو طاب محمد نفسًا. 2- معنى التعدية: زرعت الأرض شجرًا. 3- اسم مفرد دالّ على مقدار مبهم: اشتريت مترين حريرًا "فهذا مبهم من حيث المقياس والعدد". ولا شكَّ أن الإبهام عموم, وأن التقييد تخصيص لهذا العموم, وما دام التفسير يزيل الإبهام فهو تخصيص يزيل العموم, وكون التمييز تخصيصًا هو ما نسعى إلى إثباته هنا مع دعوى أن كل المنصوبات مخصصات لعموم الدلالة في الإسناد أو في نطاق الإسناد, وهي من ثَمَّ دالة على "جهة" معينة في فهم علاقة الإسناد. ومن هنا يصدق على الأسماء المنصوبة أنها تعبيرات عن "الجهة", وسنرى ذلك في حينه إن شاء الله. وعلاقة الإخراج قرينة معنوية على إرادة "باب المستثنى" فالمستثنى يخرج من علاقة الإسناد حين نفهم هذه القرينة المعنوية من السياق. فإذا قلنا: جاء القوم إلا زيدًا, فإننا قد أسندنا المجيء إلى القوم وأخرجنا زيدًا من هذه الإسناد. وكما أنَّ المعية والمصاحبة والملابسة والعطف وغيرها من القرائن المعنوية تتضافر معها الواو لبيان إعراب ما بعد هذه الواو, فيكون ذلك من قبيل ما أشرنا إليه من قبل تحت اسم "تضافر القرائن" فتسمَّى الواو واو المعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أو المصاحبة أو الحال أو العطف, فكذلك تتضافر "إلا" وهي قرينة لفظية مع معنى الإخراج وهو قرينة معنوية ليفهم من كليهما ومعهما "النصب" وغيره من القرائن معنى الاستثناء, وكذلك تتضافر "أو" مع الإخراج لنصب المضارع, فيكون نصبه على معنى نصب المستثنى, وفي الإخراج تقييد للإسناد وتخصيص له, ومن هنا ساغ لي أن أضع "المستثنى" بين الأبواب المعبرة عن معنى الجهة, وأن أطلق على ما تفيده هذه القرائن المعنوية مجتمعة عنوانًا شاملًا هو "التخصيص". وأما المخالفة فهي مظهر من مظاهر تطبيق استخدام القيم الخلافية بجعلها قرائن معنوية على الإعرابات المختلفة, ومن قبيل اعتبار المخالفة قرينة معنوية أننا لا نحسّ ارتياحًا إلى تفسير النحاة لمعنى باب الاختصاص؛ إذ يجعلون الاسم المنصوب على الاختصاص مفعولًا لفعل محذوف تقديره "أخص" أو "أعني", ومع أن تقدير "أخص" منسجم مع اعتبار الاسم المختص من قبيل ما يدخل تحت عنوان "التخصيص", إلّا أنني أحسّ عزوفًا تامًّا عن هذا التقدير الذي ينقل مبدأ وجوب الاستتار من الضمائر إلى الأفعال. والذي يبدو لي هنا أن القيمة الخلافية المراعاة في نصب الاسم هي المقابلة بينه وبين الخبر الواقع بعد مبتدأ مشابه لما قبل الاسم المنصوب هنا, وانظر إلى الجملة الآتية: نحن العربُ نكرم الضيف ونغيث الملهوف. نحن العربَ نكرم الضيف ونغيث الملهوف. فالعربُ في الجملة الأولى خبر, وما بعده مستأنف, والعرب في الجملة الثانية مختص, وما بعده خبر, ولو اتحد المعنى لاتحد المبنى, فأصبحت الحركة واحدة فيهما, ولكن إرادة "المخالفة" بينهما كانت قرينة معنوية تتضافر مع اختلاف الحركة لبيان أن هذا خبر وهذا مختص. وقرينة المخالفة يمكن استخدامها في عدد آخر من أبواب النحو, فتكون مثلًا هي التفسير لما يرد من تعدد حركة المضارع في نحو: "لا تأكل السمك وتشرب اللبن", وكذلك حركة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 المستثنى المنقطع في ما قام القوم إلا حمارًا"1, ونصب الاسم بعد ما أفعل في التعجب وبعد الصفة المشبهة, ولكننا لسنا هنا بصدد تفصيل القول فيها, فلنكتف بالإشارة إلى اتخاذها قرينة معنوية على إطلاقها. وكذلك المنصوبات التي يتغيّر المعنى برفعها في نحو: وعد الله حقًّا وسقيًا لك ورعيًا ورأسك والسييف والبدار البدار وندلًا زريق المال إلخ, وكذلك نصب تمييز كم الاستفهامية, وعدم الاستثناء أو العطف بلا بعدها في مقابل ما يرد من ذلك مع كم الخبرية. ويقول الفراء في معاني القرآن عند إعراب هذا زيد أسدًا: إن أسدًا منصوب لعدم وجود رافع. قلنا: إن المخالفة من قبيل القيم الخلافية, ونضيف هنا أن المخالفة قرينة معنوية فقط, ولكن القيم الخلافية أعمّ من أن تكون معنوية فقط. فكما نلاحظ القيم الخلافية بين المعنى والمعنى, نلاحظها كذلك بين المبنى والمبنى, وحين تكون بين المعنى والمعنى تصحب معنوية كما رأينا من أمر المخالفة, وأما حين تكون بين المبنى والمبنى فإنها تصبح قرينة لفظية؛ لأن المبنى يتحقق بالعلامة والعلامة لفظ. وسنرى فيما بعد تحت عنوان خاص ما القرائن اللفظية وكيف تدل كل منها على مدلولها وكيف تتضافر فيما بينها وتتضافر مع القرائن المعنوية للدلالة على المعاني الوظيفية. وأما النسبة فهي قرينة كبرى كالتخصيص, وتدخل تحتها قرائن معنوية فرعية كما دخلت القرائن المعنوية المتعددة تحت عنوان التخصيص, والنسبة قيد عام على علاقة الإسناد, أو ما وقع في نطاقها أيضًا, وهذا القيد يجعل علاقة الإسناد نسبية. وواضح أن معنى النسبة غير معنى التخصيص؛ لأن معنى التخصيص تضييق ومعنى النسبة إلحاق, والمعاني التي تدخل تحت عنوان النسبة وتتخذ قرائن في التحليل والإعراب وفي فهم النصِّ بصورة عامَّة هي ما نسميه: معاني حروف الجر, ومعها معنى الإضافة. ولقد كان الكوفيون يطلقون لفظ الإضافة على المعاني المذكورة جميعًا, ولكن ما يوقر مصطلح "الإضافة"   1 والمثال للمتقطع من المقام المنفي, ويحمل نصب المثبت عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 من تقاليد العرف الخاص في استعماله يجعلني أفضِّل للدلالة على ما يشمل معاني الحروف والإضافة مصطلح "النسبة". يقول الأشموني في باب الاستثناء1: "وإنما لم تعمل "أي "إلا" الجر؛ لأن عمل الجر بحروف تضيف معاني الأفعال إلى الأسماء وتنسبها إليها، و"إلّا" ليست كذلك، فإنها لا تنسب إلى الاسم الذي بعدها شيئًا، بل تخرجه من هذه النسبة", وأود أن أشير هنا بصفة خاصة إلى الكلمات الآتية: تضيف - تنسب - تخرج - النسبة. فهي تذكرنا بقرائن "الإضافة" "وهي داخلة في النسبة"، و"الإخراج" "وقد سبق الكلام عنها تحت عنوان التخصيص"، و"النسبة" وهي القرائن التي نتكلم في تفصيلها هنا. وحروف الجر حتى في اصطلاح النحاة القدماء "أدوات تعليق", ومن عباراتهم المشهورة قولهم: "والجار والمجرور متعلق"، فكلمة "متعلق" هنا تفيد أن النحاة كانوا حريصين على شرح ما تفيده معاني الجر "أي القرائن المعنوية المفهومة من حروف النسبة" من تعليق, على أن التعلق بين الجار والمجرور وبين ما تعلق به إنما يكون بمعنى الحدث لا بمعنى الزمن, فإذا قلنا: جلس زيد على الكرسي, فإن الكرسي تعلق بالجلوس بواسطة حرف الجر, ولم يتعلق بالمضي كما يتضح من الشكل الآتي. جلس زيد على الكرسي اسكنر = مضى = جلوس والجملة بهذا تعني: مضى جلوس زيد على الكرسي, فلا صلة للكرسي بالمضي, وإنما تقوم الصلة بينه وبين الجلوس, وأما العلاقة المباشرة للمضي فهي بالجلوس؛ لأن معنى الفعل يشتمل عليهما جميعًا.   1 شرح الأشموني ص228 "محيى الدين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وأما معنى الإضافة فيكفي لبيان قوة التعليق فيه أن النحاة لم يغفلوا النصّ على أن المضاف والمضاف إليه كالكلمة الواحدة, غير أن أن هناك فرقًا بين النسبة التي يفيدها حرف النسبة, والنسبة التي تفيدها الإضافة, فالنسبة مع حرف النسبة أنها على حدِّ تعبير الأشموني "تضيف معاني الأفعال إلى الأسماء وتنسبها إليها", وعلى حد تعبيرنا نحن: إنها تجعل علاقة الإسناد نسبية, سواء كانت هذه العلاقة بين مبتدأ وخبره, أو فعل وفاعله, أو غير ذلك, على حين تكون النسبة في الإضافة بين المتضايفين الواقعين في نطاق الإسناد. ولكل حرف من حروف النسبة عدد من المعاني المتباينة على أساس ما ذكرنا من ظاهرة تعدد المعاني الوظيفية للمبنى الواحد, والذي يلتمس معاني هذه الحروف كما حددها النحاة فسيجدها في عمومها كما يأتي: 1- ابتداء الغاية. 2- انتهاء الغاية. 3- البعضية. 4- الظرفية. 5- التعليل. 6- المجاوزة. 7- الاستعانة. 8- الاستعلاء. 9- المصاحبة. 10- الإلصاق. 11- القسم. 12- التشبيه 13- بيان الجنس. 14- التوكيد. 15- الملك. 16- الاستحقاق. 17- النسب. 18- العاقبة. 19- المقايسة. 20- التعويض. 21- التعجب. 22- الاستدراك. 23- التبليغ. 24- التبيين. 25- البعدية. 26- البدلية. 27- العندية. 28- التعدية. 29- الزيادة. فإذا زدنا هذه القرائن المعنوية قرينة "الإضافة", صارت هذه القرائن الداخلة تحت مفهوم النسبة ثلاثين قرينة معنوية, ومعنى النسبة واضح في كل هذه القرائن على نحو ما نرى فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 القرينة النسبة: ابتداء الغاية الطرف الأول: الحدث "ملابس الابتداء" الطرف الثاني: الغاية. البعضية الطرف الأول: الحدث "ملابس البعض" الطرف الثاني: الكل. الظرفية الطرف الأول: الحدث "المظروف" الطرف الثاني: ظرفه. التعليل الطرف الأول: الحدث "المعلول" الطرف الثاني: العلة. المجاوزة الطرف الأول: الحدث "المجاوز" الطرف الثاني: المجاوَز. وكذلك الأمر في البواقي. فالتعليق بواسطة ما يفهم بالحرف من نسبة هو في حقيقته إيجاد علاقة نسبية بين المجرور وبين معنى الحدث الذي في علاقة الإسناد, وهذا النوع من التعليق بمعنى الحرف واسع حقل التطبيق في اللغة العربية الفصحى, كما يمكن أن يرى من كثرة القرائن المعنوية التي تستخدم في هذا التعليق. وأما التبعية فهي أيضًا قرينة معنوية عامَّة يندرج تحتها أربع قرائن هي: النعت والعطف والتوكيد والإبدال, وهذه القرائن المعنوية تتضافر معها قرائن أخرى لفظية أشهرها قرينة المطابقة, ثم إن أشهر ما تكون فيه المطابقة بين التابع والمتبوع هو العلامة الإعرابية, كما أن هناك قرينة أخرى توجد فيها جميعًا هي الرتبة؛ إذ رتبة التابع هي التأخُّر عن المتبوع دائمًا أيًّا كان نوعهما. فأما النعت فهو يصف المنعوت ويكون مفردًا حقيقيًّا وسببيًّا, وجلمة وشبه جملة, وأما التوكيد فمنه لفظي ومعنوي؛ فاللفظي بتكرار المؤكد, والمعنوي بألفاظ معينة. وأما عطف البيان فليس يتم بواسطة الحرف وإنما يفسر التابع فيه ما كان في متبوعه من إبهام, فهو مما قبله في وضع يقترب نوع اقتراب من معنى المفعول المطلق المبين للنوع من جهة, ومن معنى التمييز أو النعت من جهة أخرى, إلّا أنه يمتاز عنهما بقرينة التبعية, وبعض القرائن اللفظية, وتفسير متبوعه يكون بتخصيصه إذا كان نكره, وتوضيحه إذا كان معرفة. والنسق تتضافر فيه قرينة التبعية وقرينة الأداة ومطابقة الحركة. والبدل إما مطابق أو اشتمال أو بعض أو إضراب, وكل ما صح أن يكون عطف بيان صحَّ أن يكون بدلًا إلّا عند امتناع إعادة بناء الجملة مع حذف المبدل منه وإقامة البدل مقامه, فإذا امتنعت هذه التجربة فالتابع للبيان لا للإبدال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ب- القرائن اللفظية: ذكرنا عند الكلام في المباني الصرفية أن من المباني ما هو تقسيمي, ومنها ما هو تصريفي, ومنها للقرائن اللفظية, ولم يكن معنى ذلك بالطبع أن مباني التقسيم أو مباني التصريف لا تتخذ قرائن لفظية على المعنى؛ لأن مباني التقسيم -والصيغ الصرفية فروع عليها- تمنحنا قرينة الصيغة, كما أن مباني التصريف -واللواصق فروع عليها- تمنحنا أكثر المظاهر التي تظهر بها قرينة المطابقة. ويمكن أن نعدّ القرائن اللفظية في السياق على النحو التالي: 1- العلامة الإعرابية. 2- الرتبة. 3- الصيغة. 4- المطابقة. 5- الربط. 6- التضام. 7- الأداة. 8- النغمة. وسنحاول فيما يلي أن نتكلَّم في كل واحدة من هذه القرائن على حدة: 1- العلامة الإعرابية: لقد كانت العلامة الإعرابية أوفر القرائن حظًّا من اهتمام النحاة, فجعلوا الإعراب نظرية كاملة سمَّوها نظرية العامل, وتكلموا فيه عن الحركات ودلالاتها, والحروف ونيابتها عن الحركات, ثم تكلموا في الإعراب الظاهر والإعراب المقدر والمحل الإعرابي, ثم اختلفوا في هذا الإعراب هل كان في كلام العرب أم لم يكن, وكان لقطرب ومن تبعه من القدماء والمحدثين كلام في إنكار أن تكون اللغة العربية قد اعتمدت حقيقة على هذه العلامات في تعيين المعاني النحوية. حدث كل ذلك في وقت لم تكن العلامات الإعرابية أكثر من نوع واحد من أنواع القرائن, بل هي قرينة يستعصي التمييز بين الأبواب بواسطتها حين يكون الإعراب تقديريًّا أو محليًّا أو بالحذف؛ لأن العلامة الإعرابية في كل واحدة من هذه الحالات ليست ظاهرة فيستفاد منها معنى الباب. حتى حين ننظر إلى مطلق العلامة كمطلق الضمة أو مطلق الفتحة أو مطلق الكسرة, فسنجد أنها لا تدل على باب واحد, وإنما تدل الواحدة منها على أكثر من باب كما شرحنا من قبل. وفيما يلي تخطيط العلامة الإعرابية واستخدامها في اللغة العربية الفصحى كما حدد ذلك النحاة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ولا أكاد أملّ ترديد القول: إن العلامة الإعرابية بمفردها لا تعين على تحديد المعنى, فلا قيمة لها بدون ما أسلفت القول فيه تحت اسم "تضافر القرائن", وهذا القول صادق على كل قرينة أخرى بمفردها, سواء أكانت معنوية أم لفظية, وبهذا يتضح أن "العامل النحوي", وكل ما أثير حوله من ضجَّة لم يكن أكثر من مبالغة أدَّى إليها النظر السطحي والخضوع لتقليد السلف والأخذ بأقوالهم على علاتها. 2- الرتبة: أميل إلى الاعتقاد أن عبد القاهر حين صاغ اصطلاحه "الترتيب" قصد به إلى شيئين؛ أولهما: ما يدرسه النحاة تحت عنوان: "الرتبة" "وإن كانوا لم يعنوا بها تمامًا, وإنما فرقوا القول فيها بين أبواب النحو", وثانيهما: ما يدرسه البلاغيون تحت عنوان التقديم والتأخير, ولكنَّ دراسة التقديم والتأخير في البلاغة دراسةً لأسلوب التركيب لا للتركيب نفسه, أي: إنها دراسة تتمّ في نطاقين أحدهما: مجال حرية الرتبة حرية مطلقة, والآخر: مجال الرتبة غير المحفوظة, وإذًا فلا يتناول التقديم والتأخير البلاغي ما يسمَّى في النحو باسم الرتبة المحفوظة؛ لأن هذه الرتبة المحفوظة لو اختلت لاختلَّ التركيب باختلالها, ومن هنا تكون الرتبة المحفوظة قرينة لفظية تحدد معنى الأبواب المرتبة بحسبها, ومن الرتب المحفوظة في التركيب العربي أن يتقدم الموصول على الصلة, والموصوف على الصفة, ويتأخر البيان عن المبين, والمعطوف بالنسق على المعطوف عليه, والتوكيد عن المؤكد, والبدل عن المبدل, والتمييز عن الفعل ونحوه, وصدارة الأدوات في أساليب الشرط, والاستفهام والعرض والتحضيض ونحوها, وهذه الرتبة "صدارة الأدوات" هي التي دعت النحاة إلى صوغ عبارتهم الشهيرة "لا يعمل ما بعدها فيما قبلها", ومن الرتب المحفوظة أيضًا تقدم حرف الجر على المجرور, وحرف العطف على المعطوف, وأداة الاستثناء على المستثنى, وحرف القسم على المقسم به, وواو المعية على المفعول معه, والمضاف على المضاف إليه, والفعل على الفاعل أونائب الفاعل, وفعل الشرط على جوابه, ومن الرتب غير المحفوظة في النحو رتبة المبتدأ والخبر, ورتبة الفاعل والمفعول به, ورتبة الضمير والمرجع, ورتبة الفاعل والتمييز بعد نعم, ورتبة الحال والفعل المتصرف, ورتبة المفعول به والفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وتقوم الرتبة في كل ذلك قرينة من القرائن المتضافرة على تعيين معنى الباب, وقد سبق في إعراب "ضرب زيد عمرًا" أن كانت الرتبة فعلًا بين القرائن المستخدمة في تعيين معنى الفاعل؛ لأنه بعد الفعل بحسب الرتبة, بل إن الرتبة غير المحفوظة قد تدعو الحال إلى حفظها إذا كان أمن اللبس يتوقف عليها, وذلك في نحو: ضرب موسى عيسى, ونحو: أخي صديقي؛ إذ يتعيِّن في موسى أن يكون فاعلًا, وفي أخي أن يكون مبتدأ, محافظة على الرتبة؛ لأنها تزيل اللبس, وهي هنا تعتبر القرينة الرئيسية على الباب النحوي. وفيما يلي تخطيط يبين الرتبة: ويظهر أن بين الرتبة النحوية وبين الظواهر الموقعية رحمًا موصولة؛ لأن الرتبة حفظ الموقع والظاهرة الموقعية هي تحقيق مطالب الموقع, على رغم قواعد النظام كما سيكون شرحه فيما يأتي في موضعه إن شاء الله. والملاحظ أننا لو استعرضنا أقسام الكلم وربطنا بينها وبين قرينة الرتبة, فسنجد أن الرتبة تتجاذب مع البناء أكثر مما تتجاذب مع الإعراب, وتتجاذب من بين المبنيات مع الأدوات والظروف أكثر مما تتجاذب مع أي مبنًى آخر, ومع أنني أنفر من التصدي لتعليل الظواهر اللغوية أجدني مدفوعًا هنا إلى ملاحظة أن عدم وجود قرينة العلامة الإعرابية في المبنيات قد جنح بها إلى قرينة الرتبة, وجعل الرتبة عوضًا لها من العلامة الإعرابية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وقد يطرأ على الرتبة غير المحفوظة من دواعي أمن اللبس ما يدعو إلى حفظها, كما أشرنا إلى ذلك بمثالين هما: ضرب موسى عيسى, وأخي صديقي, وقد يطرأ عليها من ذلك ما يحتّم عكسها, كالذي نراه من لزوم الخبر على المبتدأ أحيانًا, وفي ذلك يقول ابن مالك: ونحو عندي درهم ولي طر ... ملتزم فيه تقدم الخبر كذا إذا عاد عليه مضمر ... مما به عنه مبنيًّا يخبر كذا إذا يستوجب التصديرا ... كأين من علمته نصيرا وخبر المحصور قدم أبدًا ... كمالنا إلّا اتباع أحمدا ويتضح مما تقدَّم ما يأتي: 1- إن الرتبة قرينة لفظية, وعلاقة بين جزءين مرتبين من أجزاء السياق يدل موقع كل منهما من الآخر على معناه. 2- إن الرتبة أكثر ورودًا مع المبنيات أكثر اطرادًا منه مع غيرها. 3- إن الرتبة بكونها قرينة لفظية تخضع لمطالب أمن اللبس, وقد يؤدي ذلك إلى أن تنعكس الرتبة بين الجزءين المرتبين بها, ويكون ذلك أيضًا إذا كانت الرتبة وعكسها مناط معنيين يتوقف أحدهما على الرتبة, والآخر على عكسها نحو: ما أمر جاء بك وأمر ما جاء بك. هذا الفارس "شجاع مثلًا" والفارس هذا. رضى أخي "مطلوب مثلًا" وأخي رضى "يحبني مثلًا". قام زيد وزيد قام. أو زيد قائم وأزيد قائم. أعرف كيف حدث هذا "كيف مفعول به", وأعرف هذا كيف حدث "كيف بدل". السلام عليكم "تحية" وعليكم السلام "رد التحية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 والذي يبدو لي أن الرتبة فرع على التضامّ بمعناه العام1, وإذ لا رتبة لغير متضامين. 3- مبنى الصيغة: لقد سبق لنا أن ذكرنا أن الصيغ فروع على مباني التقسيم, فللأسماء صيغها, وللصفات والأفعال صيغها كذلك, والمعروف أن الفاعل والمبتدأ ونائب الفاعل يطلب فيها أن تكون أسماء, وأن الفعل نواة الجملة الفعلية, والوصف أو الصفة نواة الجملة الوصفية التي تكون بوصف معتمد على نفي أو استفهام أو مبتدأ أو موصوف أو نحوه مما يسبق الأفعال, فإذا وليته الصفات دخلت في علاقات سياقية شبيهة بما يكون للأفعال من هذه العلاقات، والمصادر من بين الأسماء تكون مفعولًا مطلقًا ومفعولًا لأجله, وتنقل إلى معنى الفعل أيضًا, والمطلوب في الخبر والحال والنعت المفرد أن تكون صفات, ويكون الخبر والحال والنعت المفرد أن تكون صفات, ويكون الخبر والحال والنعت هي العناصر التي اعتمدت عليها الصفات, والمطلوب في التمييز أن يكون اسمًا نكرة جامدة, وفي بدل ضمير الإشارة أن يكون اسمًا, وفيما بعد حرف الجر وفي المضاف والمضاف إليه أن يكون اسمًا كذلك, وفي المفعول فيه أن يكون ظرفًا أو منقولًا إلى الظرف من بين المبهمات, وفي صدر كل جملة عربية ما عدا الجملة المثبتة أن يكون ذا أداة, كما في النفي والتأكيد والاستفهام والنهي والعرض والتخصيص والتمني والترجي والشرط والتعجب والقسم والنداء إلخ. ولكن الأداة ستستقل بعلاج خاص فيما بعد إن شاء الله. وهكذا تكون الصيغة قرينة لفظية على الباب, فنحن لا نتوقع للفاعل ولا للمبتدأ ولا لنائب الفاعل أن يكون غير اسم, ولو جاء فعل في هذا الموقع لكان بالنقل اسمًا محكيًّا كما يحدث عندما نعرب عبارة مثل: "ضرب فعل ماض" إذ يصير ضرب مبتدأ, وفعل خبر, وماض نعت؛ لأن ضرب هنا حكي وقصد لفظه فصار اسمًا كالأسماء الأخرى, وتحقق للمبتدأ أن يكون اسمًا. على أن معاني الصيغ الصرفية تكون وثيقة الصلة بالعلاقات السياقية, فنحن نعلم أن الفعل اللازم لا يصل إلى المفعول به بغير واسطة, ونعلم أيضًا   1 انظر التضامّ فيما يلي بعد قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أن بعض الصيغ معناها اللزوم, وذلك كالمطاوع والمبني للمجهول من المتعدي لواحد, وأفعال السجايا مثل فعل يفعل -بضم العين, وغير ذلك, فمعنى الصيغة الصرفية ينبئ عن علاقاتها السياقية, ونحن نعلم أيضًا أن المتعدي من الأفعال ما وصل إلى المفعول به بلا واسطة, ونحن نعلم أيضًا أن الثلاثي اللازم الذي يهمز أو يضعَّف يصير متعديًّا, ومن هنا تصير الصيغة ودلالتها ذواتي أثر نحوي يتمثل في علاقاتها السياقية, ومن قبيل ذلك أنَّ الأفعال التي تدلّ بصيغتها الصرفية على المشاركة تتطلب فاعلًا غير مفرد أو مفردين متعاطفين بالواو, ومن هنا تكون الصيغة قرينة دالة على نوع الفاعل, فلو جاء الفاعل مفردًا ليس بعده معطوف بالواو لأحسَّ السامع في نفسه ترقبًا لهذا المعطوف؛ لأن ما دلت عليه القرينة لم يتحقق. ومن قبيل ذلك أن التوكيد اللفظي يكون بترديد المؤكد بصيغته ولفظه, وأن التوكيد المعنوي يكون بصيغ وألفاظ بعينها, فلو أكدت بغير ذلك لم يكن توكيدًا. ومنه أيضًا أن الفرق بين النواسخ الفعلية وشبهاتها من الأفعال التامة نحو: زال ودام إلخ, هو فرق في الصيغة أيضًا؛ لأن إحدى الصيغتين في كل يأتي منها المصدر لدلالتها مع الزمن على الحدث؛ ولأن الأخرى لا يأتي منها المصدر؛ لأنها تدل على الزمن دون الحدث, وإذا كان المصدر بحكم تعريفه هو اسم الحدث فلا جرم أن ما زال وما دام لا يأتي منهما المصدر, فلا نتوقع أن نرى جملة مثل: "زواله قائمًا". 4- المطابقة: مسرح المطابقة هو الصيغ الصرفية والضمائر, فلا مطابقة في الأدوات ولا في الظروف مثلًا إلّا النواسخ المنقولة عن الفعلية, فإن علاقتها السياقية تعتمد على قرينة المطابقة, وأما الخوالف فلا مطابقة فيها إلّا ما يلحق "نعم" من تاء التأنيث, وتكون المطابقة فيما يأتي: 1- العلامة الإعرابية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 2- الشخص "التكلم والخطاب والغيبة". 3- العدد "الإفراد والتثنية والجمع". 4- النوع "التذكير والتأنيث". 5- التعيين "التعريف والتنكير". فالعلامة الإعرابية تكون للأسماء والصفات وللفعل المضارع, فيتطابق بها الاسمان والاسم والصفة والمضارعان المتعاطفان, وأما الشخص فإنه تتمايز الضمائر بحسبه بين التكلم والخطاب والغيبة, ومن ثَمَّ تتضح المقابلات بحسبه في إسناد الأفعال, وإذا كان الفعل مسندًا إلى الاسم الظاهر فهذا الاسم في قوة ضمير الغائب, أما إذا كان الفعل نواة جملة خبرية مبتدؤها ضمير, فإن الفعل لا بُدَّ أن يطابق من حيث الشخص ما تقدمه من ضمير, وأما العدد فإنه يميز بين الاسم والاسم, وبين الصفة والصفة, وبين الضمير والضمير -سواء أكان الضمير للشخص أو للإشارة أو الموصول. ومن هنا يتطابق الاسم والاسم, والصفة والصفة, والاسم والصفة، والضمير المبتدأ, وإسناد الفعل الذي في جملة خبره من حيث الإفراد والتثنية والجمع، ثم ما يعود على كل ذلك من الضمائر يكون مطابقًا له في العدد. وأما النوع فإنه يكون أساسًا للأسماء والصفات والضمائر "بأنواعها", وتتطابق الأفعال مع هذه الأقسام عند إسنادها إليها أو إلى ضمائرها العائدة إليها, كما تتطابق هذ الأقسام في ذلك في مواضع التطابق. وأما التعريف والتنكير فلا يكونان إلّا للأسماء, فإذا لحقت أل بالصفة كانت "أل" موصولة, والصفة الصريحة صلتها, وتكون "أل" في هذه الحالة من قبيل الضمائر الموصولة لا أداة للتعريف, ومع ذلك تتطابق بها الأسماء مع الصفات. وأما غير ذلك من أقسام الكلم فلا يقبل "أل". ولا شكَّ أن المطابقة في أية واحدة من هذه المجالات الخمسة تقوي الصلة بين المتطابقين فتكون هي نفسها قرينة على ما بينهما من ارتباط في المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وتكون قرينة لفظية على الباب الذي يقع فيه ويعبّر عنه كل منهما. فبالمطابقة تتوثق الصلة بين أجزاء التركيب التي تتطلبها, وبدونها تتفكك العرى وتصبح الكلمات المتراصّة منعزلًا بعضها عن بعض, ويصبح المعنى عسير المنال. انظر مثلًا فيما يأتي: 1- تركيب صحيح المطابقة: الرجلان الفاضلان يقومان. 2- مع إزالة المطابقة في الإعراب: الرجلان الفاضلين يقومان. 3- مع إزالة المطابقة في الشخص: الرجلان الفاضلان تقومان. 4- مع إزالة المطابقة في العدد: الرجلان الفاضل يقومون. 5- مع إزالة المطابقة في النوع: الرجلان الفاضلتان يقومان. 6- مع إزالة المطابقة في التعيين: الرجلان فاضلان يقومان. 7- مع إزالة المطابقة في جميع ذلك: الرجلان فاضلاتٍ أقوم. فقد رأينا من إزالة المطابقة من جهة واحدة أو من جهات متعددة فيما أوردنا من أمثلة أن هذه الإزالة تذهب بعلائق الكلمات وتقضي على الفائدة من التعبير, أي إنها تزيل المعنى المقصود, كما رأينا أن وجود هذه المطابقة يعين على إدراك العلاقات التي تربط بين المتطابقين, ومن هنا نصل إلى فهم طبيعة المطابقة وكونها "قرينة لفظية" على المعنى المراد. 5- الربط: وهذا أيضًا قرينة لفظية على اتصال أحد المترابطين بالآخر, والمعروف أن الربط ينبغي أن يتم بين الموصول وصلته, وبين المبتدأ وخبره, وبين الحال وصاحبه, وبين المنعوت ونعته, وبين القسم وجوابه, وبين الشرط وجوابه إلخ. ويتم الربط بالضمير العائد الذي تبدو فيه المطابقة كما يفهم منه الربط أو بالحرف أو بإعادة اللفظ أو إعادة المعنى أو باسم الإشارة أو أل أو دخول أحد المترابطين في عموم الآخر, ويمكن أن نوضح ذلك بما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وحين بعود الضمير يكون عوده على مذكور متقدِّم لفظًا ورتبةً, أو لفظًا دون رتبة, أو رتبة دون لفظ, ويعود بعض الضمائر على متأخِّر لفظًا ورتبة كضمير الشأن, وقد يعود على مفهوم, فإذا عاد على مذكور طابقه من حيث الشخص والعدد والنوع, ومن هنا كان الضمير في قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} عائدًا على الكافرين لا على الأبواب, ولو أعاده على الأبواب لقال "منها", وأما عوده على مفهوم من الكلام السابق فنحو قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} فالضمير المستتر في كان كما يقول النحاة: عائد مفهوم من الفعل "تدع" أي: ولو كان المدعو ذا قربى, وقد يكون عود الضمير على مرجعه مباشرًا نحو: "هذا الذي أعرفه", وقد يكون بواسطة سببي نحو: "هذا الذي أعرف رجلًا يعرفه", أو داخلًا في حيز جملة معطوفة على الجملة المراد ربطها نحو: "الذي يبكي فيضحك الناس منه هو الممثل", ويكون العطف هنا بالفاء فقط, ومن ثَمَّ تعتبر الفاء هنا رابطًا حرفيًّا, وتتضافر في الربط مع الضمير العائد. وقد يستر الضمير العائد كما في "هذا الذي قام", وقد يحذف إذا لم يكن ركن إسناد نحو قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: فيه, ومثله قول طرفة: وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمد كأن البرين والدمالج علقت ... على عشر أو خروع لم يخضد أي: كأنَّ البرين والدمالج عليها علقت على عشر إلخ. والربط بالحرف يكون كوقوع الفاء في جواب الشرط "ومثلها إذا المفاجأة", فتكون قرينة لفظية على أنّ ما اقترن بها هو جواب الشرط, فإذا قلنا مثلًا: "إن رجل منهم كلمك فكلمه" فإن الفاء هنا رابطة بين الجواب والشرط, ولو أزيلت لصحَّ في أن التي في صدر الجملة أن تكون مخففة من الثقيلة, وأن يكون فعل الأمر بغير الفاء على سبيل الاستئناف, ولكن وجود الفاء أزال هذا اللبس الممكن، ولا شك أن الفاء حين تزيل هذا اللبس تكون قرينة لفظية على المعنى بربطها بين الشرط والجواب1. ومثل ذلك يقال في اللام الواقعة في جوب لولا, والواقعة في جواب القسم, والفاء الواقعة في جواب   1 الأشموني ص588. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أما, ومن هذا يبدو أن الأجوبة تفتقر إلى هذه الروابط الحرفية حتى يعلم بهذه القرائن اللفظية أنها أجوبة. والربط يكون أيضًا بإعادة اللفظ نحو قول القائل: "الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان", وقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ} فإعادة المرجع بلفظه رابط أقوى من إعادة ضميره عليه؛ لأن لفظه أقوى من الكناية عنه, ويكثر ذلك في الشعر مثل: يهيم بهند وهند تهـ ... يم تأخر علق من لا تهيم1 وكذلك يكون الربط بإعادة معنى اللفظ, وقد مثَّل ابن مالك لكسر همزة إنَّ بمثال يصلح لذلك هو جملة "خير القول إني أحمد", من ذلك أيضًا "شعاري لا إله إلا الله" و"ديدني لا نجاح بلا تعب" ومثل: "محمد شفيعي نبي الله", وكان الكلام الذي قبل البيان على نية التمام, ثم جاء البيان للإيضاح, فكان من قبيل الربط, ويكون أيضا بالعهد الذكرى نحو: "زيد نعم الرجل" و"أعطيت سائلًا فما قنع السائل" وأل هنا في قوة الضمير أي: فما قنع ذلك أو المذكور أو هو, والذي يبدو إلي أن إعادة اللفظ وإعادة المعنى والعهد للذكرى جميعًا من وادٍ واحد. ومن استعمال اسم الإشارة في الربط قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ... } . ويعود على الاسم الظاهر ضمير الغائب نحو: "زيد رأيته"؛ لأنه في قوته في حقل المطابقة إلّا أن يكون الظاهر منادى فيكون في قوة ضمير الخطاب نحو: "يا زيد بشراك", فإن الكاف هنا تقف بإزاء زيد أو مختصًّا, فيكون في قوة ضمير التكلم نحو: "نحن العرب نكرم الضيف" إذ إن حرف المضارعة هنا وهو النون للمطابقة, كما يقف الاسم الظاهر هنا بإزاء نحن. 6-- التضام: يمكن فهم التضام على وجهين نلخصهما فيما يأتي: أ- الوجه الأول: إن التضام هو الطرق الممكنة في وصف جملة ما, فتختلف طريقة منها عن الأخرى تقديمًا وتأخيرًا وفصلًا ووصلًا وهلم جرا, ويمكن أن نطلق على هذا الفرع من التضامّ اصطلاح "التوارد"   2 البيت مثال صنعه المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وهو بهذا المعنى أقرب إلى اهتمام دراسة الأساليب التركيبية البلاغية الجمالية منه إلى دراسة العلاقات النحوية والقرائن اللفظية, ومن ثَمَّ نتخطاه ونتركه لمن شاء أن يوغل فيه. ب- الوجه الثاني: إن المقصود بالتضامِّ أن يستلزم أحد العنصرين التحليليين النحويين عنصرًا آخر فيسمَّى التضام هنا "التلازم", أو يتنافى معه فلا يلتقي به ويسمَّى هذا "التنافي", وعندما يستلزم أحد العنصرين الآخر, فإن هذا الآخر قد يدل عليه بمبنى وجودي على سبيل الذكر, أو يدل عليه بمبنى عدمي على سبيل التقدير بسبب الاستتار أو الحذف, وهذا هو المعنى الذي نقصد إليه بهذه الدراسة. قلنا: إن التلازم إمَّا أن يكون بالمبنى الوجودي وهو المذكور, وإما أن يكون بالمبنى العدمي وهو لا يتحقق بعلامة, والملاحظ أن الأكثر في أمن اللبس أن يكون نتيجة الذكر, فيكون الذكر قرينة على المعنى المراد, ويتم ذلك الذكر على طريق الافتقار أحيانًا كما في تلازم الموصول صلته, وتطلب كلا وكلتا مضافًا إليه معرفة مثنى, ويطلب العائد مرجعًا, والتلازم بين حرف الجر ومجروره, والمبهم وتمييزه, وواو الحال وجملة الحال, وحرف العطف والمعطوف, والنواصب والجوازم والفعل المضارع, والجواب الذي لا يصلح شرطًا, والحرف الرابط, وهلم جرا. ويتم الذكر أحيانًا أخرى على طريق الاختيار, فتذكر الضميمة إذا لم تعن القرائن الأخرى على تقديرها, وتستتر أو تحذف عند وجود القرينة الدالة عليها لقصد الإيجاز والانصراف عن إطناب غير مطلوب, يقول ابن مالك: وبعد فعل فاعل فإن ظهر ... فهو وإلّا فضمير استتر ولا يكون استتار العلامة التي يتحقق بها المبنى الذي يشير إليه التضام إلّا بقرينة, فتكون القرينة في الماضي هي وضع صورة الفعل الذي استتر فيه الضمير بازاء صور الأفعال الأخرى ذوات الضمائر المتصلة, فتكون المقابلة "أي: القيمة الخلافية أو المخالفة" أساسًا لفهم خصوص الضمير المستتر بواسطة صورة فعله دون حاجة إلى ذكر الضمير, ودلالة الفعل بصورته الإسنادية في نطاق الجدول على ضمير ما هو التفسير المضبوط لما قصده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 النحويون باصطلاح "الاستتار", فليس في المسألة ما يشبه الكلام في الغيبيات والظنيات كما زعم البعض. على أنَّ الاستتار في السياق لا يتَّكل على الصورة في الجدول فحسب, وإنما يعززه أيضًا وجود مرجع في الجملة يدل على خصوص المستتر؛ فالفاعل يذكر اختيارًا مع بعض الماضي لدلالة القرائن عليه عند الاستتار, أما في المضارع فإن حروف المضارعة تفيد المعاني التصريفية التي تؤخذ في الماضي من الضمائر المتصلة, فإذا استتر الضمير في المضارع فإن حرف المضارعة إحدى قرائن تقديره, بل أهمّ هذه القرائن. والاستتار في الأمر في صورة واحدة هي المخاطب المفرد, فوقوفها بإزاء بقية الصور يدل من طريق القيمة الخلافية على خصوص الضمير المستتر, وهكذا تعيّن القرائن كالقيمة الخلافية والربط بالمرجع وحروف المضارعة على تحديد معنى الضمير المستتر. ويكون الاستتار في ضمير الفاعل ونائب الفاعل واسم كان, وقد سبق عند الكلام عن الإلصاق أن بَينَّا متى يكون الاستتار مطردًا "واجب", ومتى يكون غير مطرد "جائز", فلا حاجة بنا إلى تكرار ذلك هنا. ذلك أمر الذكر والاستتار. أما الذكر والحذف: فإنهما يكونان فيما عدا ذلك من الضمائر وغيرها من أقسام الكلم جميعًا, على أن يكون الحذف دائمًا مع وجود القرينة الدالة على المحذوف؛ فالمضاف والمضاف إليه يتطلب أحدهما الآخر, ويحذف كل منهما مع وجود القرينة نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} و {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} والمبتدأ والخبر متلازمان, ويحذف كل منهما بالقرينة. وحذف ما يعلم جائز كما ... تقول زيد بعد من عندكما وفي جواب كيف زيد قل دنف ... فزيد استغنى عنه إذ عرف والموصوف وصفته متلازمان, ولكن كلًّا منهما يحذف فتدل عليه القرينة عند حذفه نحو: "صليت بالجامع", والمراد المسجد الجامع, ونحو: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة} والمراد المسجد الأقصى, والضمير العائد يذكر فيكون قرينة دالة على الارتباط بين جملة فرعية أو نحوها, وبين بقية أجزاء الجملة الكبرى, ولكنه إذا قامت قرينة أخرى تفيد ما يفيده هذا الضمير, أو تدل على هذا الضمير العائد أمكن حذفه نحو: "ما هذا الذي صنعت" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} . ويحذف هذا العائد إذا كان أول مفعولي ظنَّ نحو: "زيد ظننت قائمًا" لوجود القرينة الدالة عليه وهي "المبتدأ" الذي هو مرجع هذا الضمير. والفعل يذكر أو يحذف إذا دلّت عليه القرينة بالتفسير نحو: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت} أو دخول الأدوات التي تتطلب الأفعال على الاسم المنصوب نحو: $"التمس ولو خاتمًا من حديد" أو أن يذكر ما يطلب المحذوف من غير ذلك نحو: "إن زيدًا هلك أو كاد" فالحذف لا يتم إلّا بقرينة تدل على المحذوف, ولا مانع في كل ذلك من ذكر المحذوف. وأما ما يسميه النحاة "وجوب حذف الفعل" فالمعنى في جميعه على غير تقدير الفعل, لقد قال النحاة بحذف الفعل وجوبًا في النداء, ولا يستقيم معنى النداء وهو إنشائي مع تقدير الفعل؛ لأن الكلام مع تقديره سيصبح خبًرا, والأوضح فيه أنه من الجمل التي تعتمد على الأداة ومعناها، وقال النحاة بحذف الفعل وجوبًا في الاختصاص, والأوضح فيه أن نصب الاسم المختص على المخالفة أي: أن النصب قيمة خلافية تفرق بينه وبين الخبر في نحو: "نحن العرب نكرم الضيف". وقال النحاة بوجوب حذف الفعل مع الصفات المقطوعة والبيِّن فيه أن القرائن الأخرى دلَّت على الربط بين الصفة والموصوف حتى لم تعد الحركة الإعرابية مناط المعنى فصحَّ الاستغناء عنها اتكالًا على بقية القرائن, وهذا شبيه بما في "خرق الثوب المسمار" و"جحر ضب خرب", وقال النحاة بوجوب حذف الفعل في التحذير, والأوضح فيه أن ضمير النصب المنفصل يتعدَّد معناه بين التعدية وهي معنى المفعول به وبين معنى الأداة, فيرجع ذلك إلى ما درسناه تحت تعدد المعاني الوظيفية للمبنى الواحد, وإذا كان "إياك" منقولًا إلى معنى الأداة هنا, فلا سبيل إلى فهم معنى الفعل المحذوف. وأما "إن زيدًا ضربته" فأراها من مسائل الرتبة والفصل والربط بالضمير, وليست من مسائل حذف الفعل وجوبًا. وأورد النحاة عبارات محفوظة قالوا: إنها على حذف الفعل وجوبًا, وأكثر ما يرد من هذه المنصوبات يمكن تفسيره على معنى المخالفة, فتكون الفتحة قيمة خلافية تفرّق بين معنى هذه المنصوبات في حالة النصب وبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 معناها في حالة الرفع نحو: شأنك والحج، امرأ ونفسه، أهلك والليل -عذيرك- هذا ولا زعماتك كليهما وتمرًا، كل شيء ولا شتيمة حر. انتهوا خيرًا لكم، الأسد الأسد، سقيًا لك ورعيًا ويحك، حمدًا وشكرًا، إنما أنت سيرًا سيرًا، له صوت صوت حمار، هو عبد الله حقًّا، له ألف عرفًا، حنانيك، هنيئًا مريئًا، أقائمًا وقد قعد الناس إلخ. وأما الأدوات فبعضها يتطلب الأسماء كليتما وإذا الفجائية وإن وأخواتها والنواسخ الأخرى الداخلة على الجملة الاسمية, وبعضها يتطلب الأفعال كان ولو ولولا وألا وهلا, وكذلك تنقسم بحسب الدخول على المفردات, والدخول على الجمل, ولكل أداة معناها في التعليق النحوي, ولذلك تعتبر الأداة قرينة من هذه القرائن على نحو ما سنرى بعد قليل, ولكنّ قرينة الأداة ككل قرينة أخرى لا تقف وحدها في نظام إفادة القرائن, وإنما تكون إفادتها في إطار مبدأ عام سبقت الإشارة إليه هو مبدأ تضافر القرائن، فإذا كانت القرائن الأخرى بحيث تغني عن ذكر الأداة, فلا تكون الأداة بمفردها مناط المعنى, فإن النص حينئذ يمكن أن يؤمن فيه اللبس بدون ذكر الأداة. فمن ذلك أن التلازم الذي بين همزة التسوية وبين "أم" يجعل "أم" هذه قرينة على الهمزة فيستغنى أحيانًا عن الهمزة بقرينة ذكر "أم" نحو: "سواء علا قمت أم قعدت", والأمر كذلك مع همزة التعيين نحو: "قائم زيد أم قاعد", وبذا يكون الاستفهام قد تَمَّ بدون الأداة, وقد تغني النغمة عن الأداة كما في قولك عند عرضك الطعام على مخاطب: "تأكل", والمعنى المراد "ألا تأكل" وقد يستغنى عن أداة النداء بقرينة قصده ونغمته أيضًا. والجمل الفرعية كذلك تحذف عند أمن اللبس, أي: عند إغناء القرائن عن ذكرها, وذلك كحذف جملة جواب الشرط في نحو قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ} إلخ, وكذلك قوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . بل قد تحذف الجملة الشرطية بجزءيها عند دلالة القرينة إذ يؤمن اللبس نحو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 قالت بنات العم يا سلمى وإنن ... كان فقيرًا معدمًا قالت وإنن1 وإذا دلت القرائن على جملة الخبر فأمن اللبس مع حذفها, فمن الممكن أن تحذف, نحو الجواب على قوله: من الذي حفظ الدرس؟ بقولك: "علي", أي: عليٌّ حفظ الدرس, وتحذف الجملة التي قطع عنها الظرف بقرينة دالة عليها كسبق الذكر وتنوين الظرف للقطع كقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُون} أي: "حين إذ بلغت الروح الحلقوم", وقد جاء تقدير هذه الجملة على هذه الصورة بخصوصها بقرينة سبق الذكر في قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُوم} . فالذكر قرينة لفظية, والحذف إنما يكون بقرينة لفظية أيضًا, ولا يكون تقدير المحذوف إلّا بمعونة هذه القرينة, وأهم القرائن الدالة على المحذوف هي الاستلزام وسبق الذكر, وكلاهما من القرائن اللفظية الداخلة في مفهوم التضام. والتنافي عكس التضامِّ وإن أدخلناه تحته باعتباره قسيمًا للتلازم, وهذا التنافي قرينة سلبية على المعنى يمكن بواسطتها أن نستبعد من المعنى أحد المتنافيين عند وجود الآخر. فإذا وجدنا "أل" استبعدنا معنى الإضافة المحضة, وإذا وجدنا التنوين استبعدنا معنى الإضافة بقسميها, وإذا وجدنا المضمر استبعدنا نعته, وإذا وجدنا إن المكسورة الهمزة مخفَّفَة من الثقيلة استبعدنا المضمر أن يكون اسمًا لها, وإذا وجدنا كلا وكلتا استبعدنا فيما أضيف إليهما أن يكون مفردًا أو جمعًا أو نكرةً, وإذا وجدنا "ذو" استبعدنا فيما أضيف إليها أن يكون ضميرًا, وإذا وجدنا حرف الجر استبعدنا فيما يتلوه أن يكون جملة محكية, وإذا وجدنا أداة النداء لم نتوقع بعدها الاسم المقترن بأل إلّا بواسطة "أي", وإذا وجدنا لولا استبعدنا أن يكون لمبتدئها خبر, وهلمَّ جرا. وهكذا يكون التنافي قرينة لفظية سلبية لا إيجابية. وفيما يلي تخطيط العلاقة بين القرائن الداخلة تحت عنوان التضام:   1 انظر شرح الأشموني: باب جوازم الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ويتفرع عن التضام أيضًا مسألة أخرى هي الفصل أو عدم الفصل بين المتلازمين, فمن الفصل مثلًا ما يحدث من: 1- الفصل بضمير الفصل بين المبتدأ والخبر وبين جزئي الجملة المنسوخة. 2- الفصل بكان الزائدة بين ما والتعجب. 3- الفصل بما الكافة بين إن واسمها. 4- الفصل بإن الزائدة بين ما النافية ومنفيها. 5- الفصل بما بين ليت ومدخولها. 6- الفصل بالقسم والظرف والمجرور بين إذا والمضارع. والملاحظ أن الفواصل هنا أكثرها من الأدوات, فلا نخرج عن ذلك إلّا ضمير الفصل وجملة القسم وشبه الجملة, وهو الظرف أو الجار والمجرور. أما عدم الفصل فيتضح من منعه في الحالات الآتية: 1- منع الفصل بين لا ومدخولها. 2- منع الفصل بين الصفة والموصوف. 3- منع الفصل بين العاطف والمعطوف. 4- منع الفصل بين النواصب "إلّا إذ" والمضارع. 5- منع الفصل بين الموصول وصلته. 6- منع الفصل بين الجار والمجرور إلّا ما شذَّ من الفصل بكان الزائدة. وما سبق هو أشهر الأمثلة لظاهرة التضام على وجه استخدامها قرينة لفظية, فلا ينبغي أن يؤخذ كما لو كان استقصاء لكلِّ حالات التضامِّ من هذا النوع, فحسبنا أن نشرح الظاهرة هنا, وأن نترك الاستقصاء لمناسبة أخرى مقبلة, ومعنى أن التضامِّ قرينة لفظية هنا أن الموصول مثلًا قرينة على أن الجملة التي بعده صلة, وأنه لو لم يتقدمها الموصول لصلحت بصورتها الخبرية أن تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 صفة إذا تطلبها الموصوف, أو حالًا إذا تطلبها صاحب الحال, أو خبرًا إذا تطلبها المبتدأ, أو في محل جر بالإضافة إذا تطلبها الظرف, فالذي يتطلب هذه الجملة هو الذي يحدد معناها، ومن مظاهر قرينة التضامّ أيضًا أن الاسم الواقع بعد الأدوات التي لا تدخل إلّا على الأفعال في الاشتغال لا يكون إلًا منصوبًا على المفعولية لفعل محذوف مقدَّر يفسره المذكور؛ لأنه لو ارتفع لكان مبتدأ, ولعدت هذه الأدوات داخلة على الأسماء على عكس حظِّها من التضام, وفي ذلك يقول الأشموني: "ولا يجوز رفع الاسم السابق على أنه متبدأ؛ لأنه لو رفع والحالة هذه لخرجت هذه الأدوات عَمَّا وضعت له من الاختصاص بالفعل1". ولا شكَّ أن التضامّ مبرر قبول التقدير سواء عند الاستتار أو عند الحذف, فالاستتار والحذف إنما يكونان للعناصر التي تتطلبها عناصر أخرى, فيكون هذا التطلب أساسًا لقبول تقدير المستتر أو المحذوف أو متعلق الظرف والجار والمجرور, وتتضافر معه بالطبع قرائن أخرى كسبق الذكر عند الحذف, وكدلالة الصيغة عند الاستتار, وقد سبق لنا أن أشرنا إلى ظاهرة "تضافر القرائن". 7- الأداة: وهذه القرينة اللفظية المستخدمة في التعليق تعتبر من القرائن الهامة في الاستعمال العربي, ولقد سبق أن ذكرنا أن الأدوات في مجموعها من المبنيات فلا تظهر عليها العلامة الإعرابية, ومن ثَمَّ أصبحت كلها ذات رتبة شأنها في ذلك شأن المبنيات الأخرى التي تعينها الرتبة على الاستغناء عن الإعراب. وهذه الأدوات على نوعين: أحدهما الأدوات الداخلة على الجمل, والثاني الأدوات الداخلة على المفردات, فأما الأدوات الداخلة على الجمل فرتبتها على وجه العموم الصدارة، وأما الأدوات الداخلة على المفردات فرتبتها دائمًا رتبة التقدم, ومثال أدوات الجمل النواسخ جميعًا وأدوات النفي والتأكيد والاستفهام والنهي والتمني والترجي والعرض والتحضيض والقسم والشرط   1 ص188 "محيي الدين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 والتعجب والنداء، ومثال الأدوات الداخلة على المفردات حروف الجر والعطف والاستثناء والمعية والتنفيس والتحقيق والتعجب والتقليل والابتداء والنواصب والجوازم التي تجزم فعلًا واحدًا, ولكل أداة من هذه الأدوات ضمائمها الخاصة, فهي تتطلّب بعدها شيئًا بعينه, فتكون قرينة متعددة جوانب الدلالة حيث تدل بمعناها الوظيفي وبموقعها وبتضامّها مع الكلمات الأخرى, وربما قد يكون متفقًا مع وجودها من علامات إعرابية على ضمائمها. وهذا التعدد في جوانب الدلالة بقرينة الأداة يجعلها في التعليق النحوي قرينة لفظية هامَّة جدًا. ومن الأمثلة التي يمكن أن نضربها هنا للتعليق بقرينة الأداة ما يمكن أن يستفاد مثلًا من واو المعية من التفريق بين المفعول به الذي تدلّ عليه أساسًا قرينه التعدية, وبين المفعول معه وهو تدل عليه أساسًا قرينتان: إحداهما المعية والأخرى الواو. لاحظ مثلًا الفرق بين الجملتين الآتيتين: فهمت الشرح في مقابل فهمت والشرح. وكذلك غنيت زيدًا أغنية. في مقابل غنيت وزيدًا أغنية. فلا الفتحة بمفرها أغنت فتيلًا في تمييز المعنيين, ولا هي والمرتبة معًا لاتحادهما في البابين, وإنما يكون التفريق بينهما بأمرين: أ- القيمة الخلافية الناتجة من مقابلة التعدية بالمعية. ب- القيمة الخلافية الناتجة من مقابلة وجود الواو وعدمه. ولما كانت الواو هي مطية المعية هنا فلا يفهم معنى المعية بغير الواو, اجتمع في الواو أمر التفريق بين المعنيين فصارت هي القرينة الوحيدة الدالة على المفعول معه, وأصبح عدمها قرينة المفعول به, ومثل ذلك ما تفيده أداة الاستثناء من فرق بين البدل والمستثنى في نحو المقابلة الآتية: حييت القوم زيدًا في مقابل حييت القوم إلّا زيدًا. والنفي والقصر في: ما قام زيد في مقابل ما قام إلّا زيد. وممن اعترف بقيمة الأداة اعترافًا ضمنيًّا ابن مالك حيث يقول في أدوات الشرط: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 فعلين يقتضين فعل قدما ... يتلو الجزاء وجوابًا وسما فقصَّ قصة التضام فيها صراحة وقصة دالة الأداة ضمنيًّا؛ حيث جعل ضميمتها الأولى فعلًا للشرط والثانية جوابًا وجزاء. 8- النغمة: ومن قرائن التعليق اللفظية في السياق التنغيم, وهو الإطار الصوتي الذي تقال به الجملة في السياق, ولقد ذكرنا من قبل كيف تأتي الكلمات العربية على مثال صيغ محددة تعتبر قوالب لها. ونحب هنا أن نعقد شبهًا بين هذه الصيغ الصرفية التي للكلمات, وبين صيغ أخرى تنغيمية تتَّصل بالمعاني النحوية التي للجملة لا للباب المفرد. فالجمل العربية تقع في صيغ وموازين تنغيمية هي هياكل من الأنساق النغمية ذات أشكال محددة, فالهيل التنغيمي الذي تأتي به الجملة الاستفهامية وجملة العرض غير الهيكل التنغيمي لجملة الإثبات, وهنَّ يختلفن من حيث التنغيم عن الجملة المؤكدة. فلكل جملة من هذه صيغة تنغيمية خاصة فاؤها وعينها ولامها وزوائدها وملحقاتها نغمات معينة, بعضها مرتفع وبعضها منخفض, وبعضها يتفق مع النبر وبعضها لا يتفق معه, وبعضها صاعد من مستوى أسفل, وبعضها هابط من مستوى أعلى, فالصيغة التنغيمية منحنى نغمي خاصّ بالجملة يعين على الكشف عن معناها النحوي, كما أعانت الصيغة الصرفية على بيان المعنى الصرفي للمثال, وأنا أتصور أنك لو طلبت إلى أحد المتكلمين أن يحاول نطق بعض الجمل وهو مقفل الشفتين لاستطعت في هذه الحالة أن تستمع الهيكل التنغيمي للجملة المرادة دون أن تسمع ألفاظ الجملة نفسها, وسيكون في مقدورك في هذه الحالة أن تقول ما إذا كانت الجملة المرادة التي لم تسمع ألفاظها استفهامًا أو إثباتًا أو تأكيدًا. تفعل ذلك دون حاجة إلى تفكير أو استنتاج؛ لأن سياق النغمات في كل جملة له من الطابع العرفي المشروط المحدد ما للكلمة في دلالتها على معناها, وما للحركة أو الرتبة في دلالتها على الباب النحوي الخاص. والتنغيم في الكلام يقوم بوظيفة الترقيم في الكتابة, غير أن التنغيم أوضح من الترقيم في الدلالة على المعنى الوظيفي للجملة, وربما كان ذلك لأنَّ ما يستعمله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 التنغيم من نغمات أكثر مما يستعمله الترقيم من علامات؛ كالنقطة والفاصلة والشرطة وعلامة الاستفهام وعلامة التأثر, وربما كان ذلك لسبب آخر. ولكن الذي لا شكَّ فيه أن الكتابة إذا كان لها على النطق ميزة الدوام وإمكان الاستحضار مرة أخرى وإعادة التجربة وتخطي حدود الزمان والمكان, فإن النطق له عليها ميزة الحياة والحركة والموقف الاجتماعي, وربما أصحبت له قدرة مشاركتها عنصر الدوام وإمكان الاستحضار مرة أخرى, وإعادة التجربة, وتخطي حدود الزمان والمكان بعد اختراع أشرطة التسجيل والإذاعة والتليفزيون, وفي كل هذه المخترعات يحتفظ النص بدلالة النغمة وبالموقف الاجتماعي, ويزيد التليفزيون عليها الاحتفاظ بتعبيرات الملامح وحركات أجزاء الجسم كالرأس واليدين, مما يجعل الموقف أقرب شيء إلى الحياة. لقد وصلنا التراث العربي مكتوبًا ففقد بذلك عنصر المقام الاجتماعي, ولذلك أصبح لزامًا على الكاتب قبل إيراد أيّ نص أدبي أن يعيد تكوين هذا المقام بوصف الأحداث كالذي نلاحظه في التقديم لخطبة الحجّاج في أهل العراق مثلًا. ولم يكن لدى العرب نظام الترقيم كالذي نعرفه الآن, لقد كانت اللغة العربية الفصحى في عصرها الأول ككل لغات العالم, ربما أهملت أن تذكر الأدوات في الجملة اتكالًا على التعليق بالنغمة, فكان من الممكن مثلًا أن نفهم معنى الدعاء من قولهم: "لا وشفاك الله"" بدون الواو اتكالًا على ما في تنغيم الجملة من وقفة واستئناف, ومع ذلك لم يكن ثَمَّةَ مفر لمن دوَّنوا التراث من الاحتفاظ دائمًا بهذه الأدوات بسبب عدم وجود ذلك الترقيم أو التنغيم في الكتابة, فكان لا بُدَّ لهم من ضمان أمن اللبس في المعنى بواسطة اطراد ذكر الأدوات. ولكن شاعرًا كابن أبي ربيعة استطاع أن يحذف الأداة بلا لبس حين قال: ثم قالوا: تحبها؟ قلت بهرًا ... عدد النجم والحصى والتراب فقد أغنت النغمة الاستفهامية في قوله: تحبها؟ " بما له من صفة وسيلة التعليق عن أداة الاستفهام, فحذفت الأداة وبقي معنى الاستفهام مفهوم من البيت, وإنصافًا للحق هنا لا بُدَّ أن نشير إلّا أنه يمكن في بيت ابن أبي ربيعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 هذا مع تغيّر النغمة أن يفهم منه معنى التقرير للتأنيب أو التعبير أو الإلجاء إلى الاعتراف, وإن مجرَّد قبول احتمال من هذا النوع ليبرر موقف الأقدمين حين حافظوا على ذكر الأدوات باطراد؛ لأن التراث مكتوب تتضح فيه العلاقات بالأدوات, وليس منطوقًا تتضح فيه العلاقات بالنغمات. ومما يتَّصل بقولنا في: "لا وشفاك والله" ما أخطأ النحاة التوفيق في فهمه من قول جميل بن معمر: لا لا أبوح بحب بثنة إنها ... أخذت عليّ مواثقًا وعهودًا فلو اصطنع النحاة لأنفسهم علامات للترقيم لوجد القارئ نقطة للوقف بعد "لا" الأولى, ولأدركوا أن "لا" هذه بنفسها تكون جملة مفيدة يستحسن في تنغيمها أن نقف عليها لتمام الفائدة, ولو تورَّطوا في اعتبارها حرف نفي مؤكدًا توكيدًا لفظيًّا بحرفٍ على مثل صورته قال له. ومن الواضح أن هناك فرقًا بين أن تكون "لا" الأولى حرف نفي مؤكدًا أو جملةً كاملة الإفادة يستحسن السكوت عليها, ويتطلب التنغيم في حالة التوكيد وصل الكلام, وفي حالة المفيدة وقفة واسئنافًا. وللنغمة دلالة وظيفية على معاني الجمل تتضح في صلاحية الجمل التأثرية exciamatcry المختصرة نحو: لا! نعم! يا سلام!، الله! إلخ. لأن تقال بنغمات متعددة ويتغيّر معناها النحوي والدلالي مع كل نغمة بين الاستفهام والتوكيد والإثبات لمعانٍ مثل: الحزن والفرح والشكّ والتأنيب والاعتراض والتحقير, وهلمَّ جرا حيث تكون النغمة هي العنصر الوحيد الذي تسبَّب عنه تباين هذه المعاني؛ لأن هذه الجملة لم تتعرَّض لتغيّر في بنيتها, ولم يضف إليها, أو يستخرج منها شيء مؤلم يتغير فيها إلّا التنغيم, وما قد يصاحبه من تعبيرات الملامح وأعضاء الجسم مما يعتبر من القرائن الحالية. والتنغيم في اللغة العربية الفصحى غير مستحيل ولا مدروس, ومن ثَمَّ تخضع دراستنا إياه في الوقت الحاضر لضرورة الاعتماد على العادات النطقية في اللهجات العامية. وفي دراستي للهجة عدن وقفت بواسطة الملاحظة التي أيدتها تجارب المعمل في بعض نتائجها على نظام التنغيم في اللهجة, ثم حاولت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 أن أقارنه بكلامي أنا باللغة الفصحى, فوجدت الفروق طفيفة جدًا بحيث يمكن مع قليل من التعديلات أن يمثل هذا التنغيم كلامي بالعربية الفصحى. ويمكن وصف هذا النظام التغيمي بواسطة تقسيمه من وجهتي نظر مختلفتين: إحداهما: شكل نغمة آخر مقطع وقع عليه النبر في الكلام, والثانية: هي المدى الذي بين أعلى نغمة وأخفضها في الصوت سعةً وضيقًا. فأما من حيث وجهة النظر الأولى فينقسم نظام تنغيم الفصحى إلى لحنين: الأول: وينتهي بنغمة هابطة على آخر مقطع وقع عليه النبر، والثاني: وهو ينتهي بنغمة صاعدة على المقطع المذكور. وأما من حيث وجهة النظر الثانية فينقسم إلى ثلاثة أقسام هي: الواسع، والمتوسط، والضيق, ومن ج جميع هذه الاعتبارات معًا نرى أن اللحن العربي للكلام يمكن أن يكون على أحد النماذج التنغيمية الستة الآتية: الأول: الواسع الثاني: الواسع الأول: المتوسط الثاني: المتوسط الأول: الضيق الثاني: الضيق والواسع ما كان نتيجة إثارة أقوى للأوتار الصوتية بواسطة الهواء المندفع من الرئتين, فيسبب ذلك اهتزازًا أكبر في الأوتار الصوتية, ومن ثَمَّ يعلو الصوت, ومن أمثلة استعماله الخطابة والتدريس لأعداد كبيرة من الطلاب, والصياح الغاضب, ونحو ذلك. والمتوسط يستعمل للمحادثات العادية وهو أقل تطلبًا لكمية الهواء وما يصحبها من علوِّ صوت. وأما الضيق فهو المستعمل في العبارات اليائسة الحزينة, وفي الكلام بين شخصين يحاولان ألّا يسمعها ثالث على بعد قليل منهما. فالسعة والتوسط والضيق تتصل باصطلحات علوِّ الصوت وانخفاضه هنا. وأما الاصطلاحان: "الأول" و"الثاني" فلا يصفان إلّا نغمة آخر مقطع وقع عليه النبر في الجملة من الكلام, فإذا كان هذا المقطع منحدرًا من أعلى إلى أسفل فذلك هو الشكل الأول للحن العربي, وإن كان صاعدًا من أسفل إلى أعلى فهو الشكل الثاني, ومع أنَّ الشكل الأول هو المستعمل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الإثبات والنفي والشرط والدعاء وجميع الجمل, حتى إنه يشارك الثاني في مجاله وهو الاستفهام والعرض, فيشمل الاستفهام بالظروف ونحوها دون الأداتين "هل والهمزة", نرى الشكل الثاني قاصرًا على الاستفهام بالأداتين فقط, وهو النوع الوحيد من أنواع الاستفهام الذي ينتهي بنغمة صاعدة. قارن العبارتين: هل جاء زيد؟ متى جاء زيد؟ تجد اختلافًا في النغمة الأخيرة في الجلمتين, ولا تصعد النغمة الأخيرة مع الظروف إلّا عند إرادة التعبير بجملة الاستفهام عن معانٍ إضافية كالدهشة أو التعالي أو نحوهما, وفي هذه الحالة نجد جملة "متى جاء زيد" السابقة تنتهي بنغمة صاعدة. وينبغي لنا أنَّ نشير هنا إلى أنَّ هبوط النغمة أو صعودها أو تحولها عن المستوى السابق في وسط الكلام أو في آخره لا يكون إلّا متفقًا مع موقع النبر, فلا تتحوّل النغمة هذا التحوّل إلّا على مقطع منبور, وهذه الصلة الوثيقة بين النبر وبين التنغيم لا يمكن انفكاكها, ولذلك يكثر أن يقف المرء عند أحد المعاني باحثًا عَمَّا إذا كان هذا المعنى وظيفة النبر بمفرده أو التنغيم بمفرده, ثم لا يستطيع الجزم بأنه وظيفة أحدهما على انفراد. وإذا وقف المتكلم قبل تمام المعنى وقف على نغمة مسطَّحة لا هي بالصاعدة ولا بالهابطة, ومن أمثلة ذلك الوقف عند كل فاصلة مكتوبة في الآيات الآتية: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} . فالوقف على "البصر" و"القمر" أولًا, و"القمر" ثانيًا, وقف على معنى لم يتمّ فتظل نغمة الكلام مسطحة دون صعود أو هبوط, أما الوقف عند "المفر" فالنغمة فيه هابطة؛ لأنه وقف عند تمام معنى الاستفهام بغير الأداة, أي: الاستفهام بالظرف. وكثيرًا ما يرى المتكلم أن المعنى يتطلب تقسيم الجملة تنغيميًّا بحسب الاعتبارات الإلقائية إلى فقر تنفسية تتصل بوجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 مفاصل من الألفاظ كأدوات العطف وغيرها, فيقف المتكلم عند كل فقرة تنفسية منها بنغمة مسطَّحة على نحو ما حدث في الآيات التي أوردناها. وفي كلٍّ من هذه الأشكال الستة للحن التنغيمي العربي يمكن أن يكون الكلام عاديًّا أو مؤكدًا, ويأتي التأكيد أيضًا من زيادة نسبية في كمية الهواء المسلَّط على الأوتار الصوتية عند النطق بالمقطع الذي وقع عليه النبر وأُرِيدَ تأكيده, فتأتي النتيجة في صورة نبر أقوى, ومدى تنغيمي أوسع, فمثلًا تقول لمن يعرف أنه حدث قيام ويشك في شخص القائم: "محمد قائم" بتوكيد المقطع المنبور من "محمد", وهو"حم"؛ بحيث يصبح المقطع أقوى نطقًا وأعلى صوتًا منه في الكلام العادي, أما إذا كان يعرف أن محمدًا قد فعل شيئًا ويشك في أنه قيام أو قعود, فكل ما تقدَّم إجراؤه بالنسبة للمقطع "حم" يصبح ضروريًّا بالنسبة للمقطع "قام". جـ- القرائن تغني عن العوامل: بعد أن بينت طبيعة القرائن المقالية معنوية كانت أو لفظية في دلالتها على المعنى الوظيفي النحوي, أحب أن أضيف إليها كلمة أخرى تتصل بإغناء فهم القرائن المقالية عن فكرة العامل النحوي الذي قال به النحاة. لقد اتجه النحاة بقولهم بالعامل النحوي إلى إيضاح قرينة لفظية واحدة فقط هي قرينة الإعراب أو العلامة الإعرابية, فجاء قولهم بالعامل لتفسير اختلاف هذه العلامات بحسب المواقع في الجملة, فكانت الحركات بمفردها قاصرة عن تفسير المعاني النحوية لأمور: 1- إن المعربات التي تظهر عليها الحركات أقلّ بكثير جدًّا من مجموع ما يمكن وروده في السياق من الكلمات, فهناك الإعراب بالحذف, والإعراب المقدَّر للتعذر أو للثقل أو لاشتغال المحل, وهناك المحل الإعرابي للمبنيات, والمحل الإعرابي للجمل, وكل هذه الإعرابات لا تتمُّ بواسطة الحركة الإعرابية الظاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 2- إننا لو افترضنا أن كل الإعرابات تَمَّت على أساس الحركة الظاهرة فلم يكن هناك إعراب تقديري ولا إعراب محلي, فإننا سنصادف صعوبة أخرى تنشأ عن أنَّ الحركة الواحدة تدل على أكثر من باب واحد, ومن هنا تصبح دلالتها بمفردها على الباب الواحد موضع لبس. ومن هنا كان الاتكال على العلامة الإعرابية باعتبارها كبرى الدوالّ على المعنى, ثم إعطاؤها من الاهتمام ما دعا النحاة إلى أن يبنوا نحوهم كله عليها عملًا يتسم بالكثر من المبالغة وعدم التمحيص, وقد سبق لنا مثل هذا القول عند بداية الكلام عن القرائن اللفظية, ويكفي لإظهار اهتمامهم بهذه العلامة الإعرابية أن أطلقوا على تحليل النص تحليلًا نحويًّا اسم "الإعراب" وهو -كما علمونا- اسم يطلق على تفسير أواخر الكلمات بحسب العوامل. وإذا كان العامل قاصرًا عن تفسير الظواهر النحوية والعلاقات السياقية جميعها, فإن فكرة القرائن توزع اهتمامها بالقساطس بين قرائن التعليق النحوي معنويها ولفظيها, ولا تعطى للعلامة الإعرابية منها أكثر مما تعطيه لأية قرينة أخرى من الاهتمام. فالقرائن كلها مسئولة عن أمن اللبس وعن وضوح المعنى, ولا تستعمل واحدة منها بمفردها للدلالة على معنًى ما, وإنما تجتمع القرائن متضافرة لتدل على المعنى النحوي, وتنتجه لا كما يأتي حاصل الجمع من اجتماع مفردات المعدودات, بل كما يأتي المركب الكيماوي من عناصر مختلفة, أي إنه إذا صحَّ أن تُسمَّى مفردات القرائن عند إرادة التحليل فإن الاستعمال اللغوي لا يعرف من أمر ذلك شيئًا, ولا يعرف إلّا قرينة كبرى واحدة يسميها "وضوح المعنى", ويسميها اللغويون "أمن اللبس", وتقوم هذه القرينة الكبرى من قرائنها الفرعية مقام ناتج التفاعل الكيميائي من العناصر التي نتج عنها؛ إذ لا يشبه منها واحدًا بمفرده. وفائدة القول بالاعتماد على القرائن في فهم التعليق النحوي أنه ينفي عن النحو العربي: أ- كل تفسير ظني أو منطقي لظواهر السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ب- كل جدل من نوع ما لَجَّ فيه النحاة حول منطقية هذا "العمل" أو ذاك, وحول أصالة بعض الكلمات في العمل وفرعية الكلمات الأخرى, وحول قوة العامل وضعفه أو تعليله أو تأويله مما ازدحمت به كتب النحو دون طائل يكون تحته. ويكفي للاقتناع بحسن تحليل النص بحسب قرائن التعليق مجتمعة أننا نستطيع بواسطة ذلك أن نلمح الصلة أو الرابطة أو العلاقة إن شئت بين كل جزء من أجزاء السياق وبين الأجزاء الأخرى من حيث المعنى ومن حيث المبنى في الوقت نفسه. ويستتبع القول بالقرائن واختياره بديلًا للقول بالعوامل أننا سنكتفي في تحليل الكلمات المعربة بقولنا: مرفوع أو منصوب أو مجرور أو مجزوم فقط, دون قولنا: مرفوع بكذا أو منصوب بكذا إلخ، بل يمكننا إذا أردنا أن نقول مثلًا: "مرفوع على الفاعلية" و"منصوب على المفعولية" وهلمَّ جرا. وأخيرًا أحب أن أضيف أيضًا لما يترتب على "تضافر القرائن" من أنَّ بعض القرائن قد يغني عن بعض عند أمن اللبس. ولقد كررنا القول إن اللغة العربية -وكل لغة أخرى في الوجود- تنظر إلى أمن اللبس باعتباره غاية لا يمكن التفريط فيها؛ لأن للغة الملبسة لا تصلح واسطة للإفهام والفهم, وقد خلقت اللغات أساس للإفهام والفهم, وإن أعطاها النشاط الإنساني استعمالات أخرى فنية ونفسية. فإذا كان من الممكن الوصول إلى المعنى بلا لبسٍ مع عدم توفُّر إحدى القرائن اللفظية الدالة على هذا المعنى, فإن العرب كانت تترخص أحيانًا في هذه القرينة اللفظية الإضافية؛ لأن أمن اللبس يتحقق بوجودها وبعدمها. ولقد وجدنا في مأثور التراث العربي الكثير من الشواهد والأمثلة على هذ الظاهرة, وسنحاول فيما يلي أن نضرب أمثلة تطبق هذه الظاهرة على القرائن اللفظية كل على حدة: 1- العلامة الإعرابية: لقد وقع النحاة ضحايا اهتمامهم الشديد بالعلامة الإعرابية حين رأوا النصوص العربية تهمل الاعتماد على قرينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الحركة أحيانًا فتضحي بها لأن المعنى واضح بدونها اعتمادًا على غيرها من القرائن المعنوية واللفظية. ومن أمثلة ذلك ما يأتي1: - قالت العرب: خرق الثوب المسمار, فاعتمدوا على القرينة المعنوية وهي "الإسناد", وأهملوا الحركة إذ لا يصح أن يسند الخرق إلى الثوب, وإنما يسند إلى المسمار, فعلم أيهما فاعل وأيهما مفعول. - قالت العرب: "جحر ضب خرب" فأغنت عندهم قرية التبعية وهي معنوية, عن قرينة المطابقة في العلامة الإعرابية وهي لظفية, وكان الداعي إلى ذلك داعيًا موسيقيًّا جماليًّا هو المناسبة بين المتجاورين في الحركة الإعرابية, وقد سماه النحاة "المجاورة". - العرب تقطع النعت فتختلف حركته الإعرابية عن حركة متبوعه, ويستبدل السياق بالمطابقة في الحركة قرينة التبعية, وقد قال الشاعر: قد سالم الحيات منه القدما ... للأفعوان والشجاع الشجعا - قال الله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ} بجر "خضر" على قراءة, وفي هذا يقال ما قيل في إعراب المجاورة من قبل, وهو إعراب تدعو إليه أسباب جمالية خالصة لا صلة بينها وبين مطالب المعنى الوظيفي, ومثله {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَان} .   1 قال الشاعر: يا ليت أم الصبا رواجعا ... إن العجوز حية جزورا كان أذنية إذا تشوفا ... قادمة أو قلمًا محرفا قال صلى الله عليه وسلم: "إن قعر جهنم لسبعين خريفًا". وسمع بعضهم يقول: لعل زيدًا أخانا. وأورد ابن سيدة: إذا أسودَّ جنح الليل فلتأت ولتكن ... خطاك خفاقًا أن حراسنا أسدًا وقال ذو الذمة: كأن جلودهن هموهات ... على أبشارها ذهبًا زلالًا في قولنا: "ما قام الناس إلّا زيد" أغنت قرينة الأداة عن قرينة الإعراب, وساغ أن يكون هناك مناسبة صوتية, ومثله في "ما مررت بأحد إلّا زيد" فالانصراف عن النصب هنا جاء إيفاءً للمناسبة, وهي مطلب من مطالب الأداء. قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} . قال امرؤ القيس: كأن ثبيرًا في عرانين وبله ... كبير أناس في نجاد مزمل حكى الحياني أن من العرب من يجزم بـ"لن" وينصب بـ"لم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 - قال الله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 1 بجر المعطوف على قراءة, وهو اتباع في الموسيقى اللفظية لا في المعنى. - قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} 2. فالموفون معطوف على مَنْ بقرينة الإسناد والتبعية والرفع وموصولية "أل", فكان ذلك عطف موصول على موصول, ولكن ماذا نقول في "الصابرين"؟ إن قرينة الإسناد والتبعية وهما معنويتان يقولان: إن "الصابرين" معطوفة أيضًا على "مَنْ آمن", ولكن القرينة اللفظية وهي الواو غير موجودة إذ حلَّت محلها الياء, فكيف يمكن فهم ذلك إلّا على أساس إغناء بعض القرائن عن بعض؟ فالقرائن تتضافر كما ذكرت. - قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} 4 فما الذي رفع "الصابئون"؟ الجواب: إن قرينة التبعية لوضوحها أغنت عن قرينة العلامة الإعرابية. - قالت العرب "ما رأيته مذ يومان" فأغنت قرينة التضام وما تضافر معها عن قرينة الإعراب التي تكون فيما جاء بعد حرف الجر.   1 براءة: 3. 2 البقرة: 177. 3 النساء: 162. 4 المائدة: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ومما نلاحظه جميعًا حين نستمع إلى نشرة الأنباء مثلًا أو إلى خطيب أو متكلِّم أو معلِّق أننا على رغم ما نسمعه في النشرة أو الخطبة أو الكلام أو التعليق السياسي من أخطاءٍ في الإعراب فإننا نفهم الكلام الذي يقال, ويستتبع ذلك بالضرورة أننا نفهم علاقات الكلمات بعضها مع بعض, لا فرق في ذلك بين أميّ منَّا ومثقَّف, فنعلم من قول المديح مثلًا: "أجمعت وكالات الأنباء على أن الصين الشعبية أجرت اليوم تفجيرًا نوويًّا" ندرك المعنى العام الذي ينبني على صلات الكلمات بعضها مع بعض دون الحاجة إلى التحليل, ودون الحاجة إلى دلالة العلامات الإعرابية؛ لأن قرائن أخرى قد أغنت عنها. ومن هذا نرى فداحة الخطأ الذي يمكن في اعتبار الحركات الإعرابية أهمّ ما في النحو العربي. 2- الرتبة: يتضح الترخص في الرتبة أولًا في عدم حفظها والاعتراف بوجود رتبة غير محفوظة في النحو, وكذلك عندما تغني عنها القرائن الأخرى في قول الشاعر: عليك ورحمة الله السلام فالذي أغنى عن رتبة المتعاطفين هنا: أ- ما بين المتعاطفين من شهرة التعاطف على نسقٍ خاصٍّ حتى أصبحا كالمثل وذلك هو التضام. ب- حفظ الرتبة بين حرف العطف والمعطوف. جـ- توسُّط المعطوف بين الخبر المقدَّم والمبتدأ المؤخَّر مما جعله لا يزال في حيز الجملة, فكذلك تغني القرائن حين تتضافر عن قرينة أخرى يَصِحُّ المعنى بدونها. ومن قبيل إغناء القرائن الأخرى عن الرتبة ما نراه أحيانًا من عود الضمير على متأخّرٍ رتبة كضمير الشأن. ونحو: خاف ربه عمر, وزان نوره الشجر, وفي بيته يؤتى الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ومن ذلك أيضا قول الشاعر: لعن الإله وزوجها معها ... هند الهنود طويلة البظر ومشنوء من يشنوءك وتميمي أنا 3- مبنى الصيغة: ويبدو الترخص في الصيغة فيما نجده كثيرًا في الرجز من نحو قوله: الحمد لله العلي الأجلل "والمقصود الأجل". أو قوله: أو ألفا مكة من ورق الحمى "والمقصود الحمام". ومن ذلك أيضًا مجيء الحال جامدة, والنيابة عن المفعول المطلق بغير مصدر أو بمصدر فعل غير فعله, وإضافة المتفرقين إلى كلا وكلتا. وكل ضرورة شعرية فهي ترخص في قرينة ما وإغناء غيرها عنها, وكثير من ذلك يندرج تحت عنوان الصيغة مثل: قصر الممدود, وحذف النون من اللذين واللتين, وحذل الألف من لفظ الجلالة, وواو هو, وياء وهي, وحذف الألف من ضمير المتكلم, وتخفيف المشدد في القوافي, وإبدال حركة من حركة, وحرف من حرف, أو حذف حرف الجر نحو: "تمرون الديار ولم تعوجوا" وهلمَّ جرا1. هذا على المستوى الصرفي, أما على المستوى النحوي: فقد تأتي الحال الجامدة والنعت كذلك والخبر, وقد يأتي المفعول المطلق بغير صيغة المصدر, وغير ذلك. 4- المطابقة: سبق أن ذكرنا أن المطابقة تكون في الشخص والنوع والعدد والتعيين والعلامة الإعرابية, وقد مر بنا الترخُّص في المطابقة في العلامة الإعرابية بين التابع ومتبوعه, وأما ترك المطابقة في الشخص فمنها: - إن ضمير الموصول دالّ على الغيبة, فيعود إليه من الصلة رابط في صورة ضمير الغائب, ولكن الموصول إذا كان خبرًا ضمير متكلم أو مخاطب, فقد سُمِعَ عن العرب ترك المطابقة بين العائد والموصول كقوله: أنا الذي سمتن أمي حيدرة   1 ارجع إلى الضرائر للألوسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وقوله: أأنت الهلالي الذي كنت مرة ... سمعنا به والأرحبي المعلق فهنا حمل العائد على المعنى لا على اللفظ كما يقول النحاة "ويمكن أن يفهم بإعادة الضمير على "أنت" لا على "الذي", وفي ذلك إهمال للمطابقة وهي قرينة لفظية لوضوح المعنى بدونها, وأما إهمال المطابقة في النوع فمنها: - إن الصفات التي لا يوصف بها إلّا المؤنث يترك تأنيثها لعدم توهم أنها لمذكر, ومن ذلك حائض وطالق وناشز ومرضع إلخ, وقد تحذف التاء عند أمن اللبس "كإقام الصلاة" و"عِدَ الأمر" و {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِم} . - إن بعض الصفات على وزن فعيل تصدق على المذكر والمؤنث كقتيل وجريح. - إن الفعل لا يطابق فاعله المؤنث إذا فُصِلَ بينهما نحو: "أتى القاضي بنت الفاضل". ومن الترخص في المطابقة في العدد قول الشاعر: فمن يك أضحى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب إلّا أن نجعل جملة "وقيار بها" جملة حالية حذف منها العائد لمعرفة أن قيارًا هو جمل الشاعر, فكأنه قال: وجملي بها, ويكون البيت حينئذ شاهدًا على إسقاط الرابط لا على إساقط المطابقة في العدد. - قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} فانفكت المطابقة بين الواو وبين كافر دون أن يتأثّر المعنى؛ لأن القرائن الأخرى ضمنت هذا المعنى. 5- الربط: يعتبر عود الضمير من الروابط الهامة في الجملة, ولكن الارتباط قد يتمّ بقرائن أخرى فيصبح المعنى واضحًا دون حاجة إلى الضمير الرابط, ومن ذلك قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: "فيه", وقول بعضهم: "مررت بالبر قفيز بدرهم" أي: "منه", فترخص في الرابط لضمان الربط بدونه, أي: بقرائن أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 6- التضام: من أمثلة الترخُّص في التضام باعتباره قرينة ما يأتي: - كل ما دلَّت عليه قرينة أمكن حذفه, وقد رأينا من قبل كيف يمكن حذف المضاف والموصوف والمبتدأ والخبر والفعل إلخ, والحذف إسقاط قرينة أغنت عنها قرائن أخرى. - ورد إسقاط صلة الموصول في قول الشاعر: نحن الأولى فاجمع جمو ... عك ثم وجههم إلينا - ورد حذف المبتدأ من الجملة الحالية في قول الشاعر: فلما خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنهم مالكًا - قد تسقط الضميمة التي بعد الظرف وينوّن الظرف نحو: "حينئذ", وقول الشاعر: فساغ لي الشراب وكنت قبلًا ... أكاد أعل بالماء الفرات - قد تسقط ضميمة المرجع كما في ضمير الشيء نحو: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُون} . 7- الأداة: يسقط حرف النداء ويبقى النداء مفهومًا بواسطة قرائن أخرى, ويسقط حرف العطف ويبقى العطف مفهومًا بقرينة النغمة كقولك: يستمر الامتحان في الأيام الآتية: السبت - الأحد - الأثنين - الثلاثاء إلخ, وتغني نغمة الكلام عن حرف العطف, وقد تسقط "ربَّ" ويفهم معناها لإغناء الواو عنها, أي: إن قرينة التضام "بين الواو وربَّ" قد أغنت عن قرينة الأداة, وقد ينزع الخافض ويبقى المعنى مفهومًا, وقد سبق أن ذكرنا أن أداة الاستفهام قد أسقطت من بيت عمر بن أبي ربيعة الذي يقول فيه: ثم قالوا تحبها؟ قلت بهرًا ... عدد النجم والحصى والتراب لأن قرينة النغمة أغنت عن قرينة الأداة, ومن قبيل حذف الأداة حذف "لا" في قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} ؛ حيث دلَّت قرينة التضام على المعنى فأمن معها اللبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 8- النغمة: قد تسقط قرينة النغمة لوضوح الكلام بدونها كحالك حين تقرأ قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فإنك لو وقفت عند لفظ الجلالة: فإنك لا تقف في التلاوة بنغمة الاستفهام ولكن بنغمة الترتيل العادي, ولا يحس السامع غرابة في ذلك كما يحسّها لو سمع منك جملة "هل رأيت محمدًا؟ " بنغمة التقرير التي في "قد رأيت محمدًا" مثلًا. فالقرائن تتضافر على إيضاح المعنى الوظيفي النحوي, والقرينة تسقط عند إغناء غيرها عنها, وفي إدراك هذه الحقيقة تفسير لكثير مما عده النحاة مسموعًا يحفظ ولا يقاس عليه, أو عده شاذًّا أو قليلًَا أو نادرًا أو خطأ. وكم أبدأ النحاة وأعادوا في قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَان} ونحن ندرك من فهمنا لظاهرة تضافر القرائن وإغناء بعضها عن بعض أن المنافسة الموسيقية الصوتية دعت إلى إهمال العلامة الإعرابية؛ لأن الرتبة واقتران الخبر باللام أوضحا أنَّ لفظ "هذان" لا يمكن فيه إلّا أن يكون اسم إن, ولم يعد للعلامة الإعرابية بعد ذلك من الأهمية ما يحتمّ الاحتفاظ بها, ولا سيما أمام إرادة المناسبة الموسيقية بين أصوات المتلازمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 2- الزمن والجهة 1: ينبغي عند هذا المنعطف في بحثنا هذا أن نفرّق بين الزمن النحوي والزمان على النحو التالي: أ- الزمن النحوي وظيفة في السياق يؤديها الفعل أو الصفة أو ما نقل إلى الفعل من الأقسام الأخرى للكلم كالمصادر والخوالف, والزمن بهذا المعنى يختلف عمَّا يفهم منه في الصرف؛ إذ هو وظيفة صيغة الفعل مفردة خارج السياق, فلا يستفاد من الصفة التي تفيد موصوفًا بالحدث, ولا يستفاد من المصدر الذي يفيد الحدث دون الزمن, وحين يستفاد   1 انظر الجدول في آخر الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الزمن الصرفي من صيغة للفعل يبدو قاطعًا في دلالة كل صيغة على معناها الزمني على النحو الآتي: - صيغة فَعَلَ وقبيلها: تفيد وقوع الحدث في الزمن الماضي. - صيغة يفعل وقبيلها: تفيد وقوع الحدث في الحال أو الاستقبال. - صيغة افعل وقبيلها: تفيد وقوع الحدث في الحال أو الاستقبال. أما في السياق النحوي فسنرى أن الزمن كما ذكرنا منذ قليل هو وظيفة في السياق يؤديها الفعل وغيره من أقسام الكلم التي تنقل إلى معناه. ب- زمان الاقتران الذي يكون بين حدثين, وهذا الزمان يستفاد من الظروف الزمانية التي ذكرناها في أقسام الكلم وهي: إذ, وإذا، ولما، وأيان، ومتى. وهذا المعنى وظيفي كالزمن النحوي, ولكن الفرق بينهما هو إفادة الاقتران وعدمها. جـ- زمان الأوقات: وهو المستفاد من الأسماء التي تنقل إلى معنى الظروف وتستعمل استعمالها, فيكون ذلك لها من باب تعدد المعنى للمبنى الواحد الذي شرحناه تحت عنوان: تعدد المعنى الوظيفي -فيما سبق, ومن هذه الأسماء ما يأتي من جملة ما سبق إيراده عند الكلام في الظرف من أقسام الكلم: - المصادر المسوقة لبيان الأوقات نحو: آتيك قدوم الحاج. - صيغة اسم الزمان نحو: آتيك مقدم الحاج. - بعض الأسماء المبهمة الدالة على أوقات, أو ما أضيف إليها, كأسماء المقادير مثل: "كم ساعة بقيت هناك؟ " وأسماء الأعداد نحو: "خمسة أيام وثلاث ليال", وأسماء الأوقات كحين ووقت وساعة ويوم إلخ. وكذلك قبل وبعد ودون ولدن وعند وبين ووسط. - بعض أسماء الأزمنة المعينة كالآن وأمس وسحر ومساء وصحوة وعشية وغدوة، وواضح أن الذي يرتبط بالحدث ارتباطًا وثيقًا من هذه المفاهيم الثلاثة هو الزمن النحوي الذي هو زمن وقوع الحدث والزمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الاقتراني الظرفي الذي هو زمان اقتران حدثين, والمعنى في كلتا الحالتين معنى وظيفي. أما في الطائفة الثالثة فالزمان مستفاد من اسم الوقت, والمعنى هنا معجمي؛ لأنه معنى اسم مفرد كامل الاسمية على الرغم من أن بعض ما ذكرناه من هذه الأسماء مفتقر إلى الإضافة؛ لأن هذا الافتقار غير متأصّل, فإذا أردنا أن ندرس الزمن النحوي إذًا فينبغي أن نفهمه كما شرحناه في النوع الأول, وفي مقابل ما نراه في زمان الاقتران والأوقات. وأوضح ما يفرِّق بين الزمن والزمان, أن الزمان كمية رياضية من كميات التوقيت تقاس بأطوال معينة كالثواني والدقائق والساعات والليل والنهار والأيام والشهور والسنين والقرون والدهور والحقب والعصور, فلا يدخل في تحديد معنى الصيغ المفردة, ولا في تحديد معنى الصيغ في السياق, ولا يرتبط بالحدث كما يرتبط الزمن النحوي؛ إذ يعتبر الزمن النحوي جزءًا من معنى الفعل. فزمان الظرف كما قلنا: هو زمان حدثي فعلين لا فعل واحد، وزمان ما نقل إلى استعمال الظرف من الأسماء هو مفهوم الاسم على طريق المطابقة, وليس مفهوم الفعل على طريق التضمن إن صحَّ أن نلجأ إلى مصطلحات المنطق. وإذا كان النحو هو نظام العلاقات في السياق, فمجال النظر في الزمن النحوي هو السياق وليس الصيغة المنعزلة, وحيث يكون الصرف هو نظام المباني والصيغ, يكون الزمن الصرفي قاصرًا على معنى الصيغة يبدأ بها وينتهي بها, ولا يكون لها عندما تدخل في علاقات السياق. فلا مفرَّ إذًا من النظر إلى الزمن في السياق نظرة تختلف عمَّا يكون للزمن في الصيغة؛ لأن معنى الزمن النحوي يختلف عن معنى الزمن الصرفي من حيث إنَّ الزمن الصرفي وظيفة الصيغة, وإن الزمن النحوي وظيفة السياق تحددها الضمائم والقرائن. وحين نظر النحاة العرب في معنى الزمن في اللغة العربية كان من السهل عليهم أن يحددوا الزمن الصرفي من أول وهلة, فقسموا الأفعال بحسبه إلى ماضٍ ومضارع وأمر, ثم جعلوا هذه الدلالات الزمنية الصرفية نظامًا زمنيًّا, وفرضوا تطبيقها على صيغ الأفعال في السياق كما يبدو من تسمية الماضي ماضيًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 حتى حين يكون معناه في السياق الاستقبال. وواضح أن كل نظام مهما افترض لنفسه من الإطلاق لا بُدَّ أن يصادف من مشكلات التطبيق ما يتطلب حلولًا من نوعٍ ما. فلما نسب النحاة المضي دائمًا إلى صيغة "فَعَلَ" وقبيلها, ونسبوا الحال أو الاستقبال دائمًا إلى صيغتي "يفعل" و"افعل" وقبيلهما, نظروا في الجملة الخبرية المثبتة والمؤكَّدة فلم يجدوا هذه الدلالات الزمنية تتأثر تأثرًا كبيرًا بعلاقاتها في السياق. ولكنهم عند نظرهم إلى الجملة المنفية وجدوا المضارع المنفي قد يدل على المضي, وحين نظروا في الجمل الإنشائية وجدوا صيغة "فَعَلَ" تفيد الاستقبال في التحضيض والدعاء والشرط مثلًا, ولما كانت قواعدهم التي وضعوها عزيزة على أنفسهم لم يخطر ببالهم أن يعيدوا النظر في نظام الزمن في ضوء مطالب السياق, وساغ لهم في حرصهم على القواعد أن ينسبوا اختلاف الزمن إلى الأدوات, فقالوا: إن "لم" حرف قلب, وإن "إذا" ظرف لما يستقبل من الزمان, ولست أدري لم أحجموا عن نسبة مثل هذا المعنى إلى "إن" الشرطية التي تتحوّل بعدها صيغة "فَعَلَ" إلى معنى الاستقبال, والخلاصة: إن النحاة لم يحسنوا النظر في تقسيمات الزمن في السياق العربي إذ كان عليهم أن يدركوا طبيعة الفرق بين مقررات النظام ومطالب السياق, ثم أن ينسبوا الزمن الصرفي إلى النظام الصرفي, وينسبوا الزمن النحوي إلى مطالب السياق. وهذه المطالب هي التي اصطلحنا على تسميتها بالظواهر الموقعية, وما دام الزمن النحوي وظيفة في السياق يؤديها الفعل والصفة إلخ, فلا بُدَّ أن تلعب القرائن الحالية والمقالية دورها كاملًا في تحديد هذا الزمن. وإذا كان الزمن النحوي وظيفة في السياق فإنَّ علينا أن ننظر في هذا السياق لنكشف عن الزمن, وإن الذي يمكننا أن ننظر إليه من أنواع السياق هو أنواع مباني الجملة العربية. فالجملة العربية تنقسم إلى قسمين رئيسيين هما: الجملة الخبرية والجملة الإنشائية, وتحت كلٍّ منهما تفريعات على نحو ما يبدو فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وأول ما يخطر ببالنا هنا أن الجملة المثبتة تحتفظ لصيغتي فَعَلَ ويفعل بزمنهما الذي أعطاه إياهما النظام الصرفي, فيظل "فَعَلَ" ماضيًا, ويظل "يفعل" حالًا أو استقبالًا بحسب ما يضامه من الأدوات كالسين وسوف، ثم بحسب ما يعرض للزمن في هاتين الصيغتين من معاني الجهة التي تفصح عنها اصطلاحات البعد والقرب والانقطاع والاتصال والتجدد والانتهاء والاستمرار والمقاربة والشروع والعادة والبساطة, أي: الخلو من معنى الجهة, أو بعبارة أخرى: عدم الجهة, فيكون معنى الجهة هنا معنى عدميًّا, ويتضح ذلك فيما يأتي: الزمن الجهة صيغة فعل صيغة يفعل الماضي البعيد المنقطع كان فعل الماضي القريب المنقطع كان قد فعل الماضي المتجدد كان يفعل الماضي المنتهي بالحاضر قد فعل الماضي المتصل بالحاضر ما زال يفعل الماضي المستمر ظل يفعل الماضي البسيط فعل الماضي المقارب كاد يفعل الماضي الشروعي طفق يفعل الحال العادي يفعل الحال التجددي يفعل الحال الاستمراري يفعل الاستقبال البسيط يفعل الاستقبال القريب سيفعل الاستقبال البعيد سوف يفعل الاستقبال الاستمراري سيظل يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فالاختلاف بين زمن وزمن هنا هو في الواقع اختلاف في الجهة لا في المضي والحال والاستقبال, فهناك تسع جهات مختلفة للماضي, وثلاث للحال, وأربع للاستقبال, وبذلك يكون زمن الجملة الخبرية المثبتة في اللغة العربية يقع في ست عشرة صورة يظل "فَعَلَ" فيها على مضيه دائمًا, ويدل "يفعل" فيها على الحال أو الاستقبال دائمًا, وبحسب القرينة أو الضميمة. ومن الملاحظ أن تعبيرات الجهة في معنى الزمن هنا تأتي من الأدوات سواء أكانت هذه الأدوات حرفية كما في قد والسين وسوف, أم نواسخ كما في كان ومازال وظلّ وكاد وطفق, أو يكون الزمن مصحوبًا بعدم الجهة كما فعل ويفعل الواردين في بعض الحالات. أما في الجملة الخبرية المؤكدة فيظل الفعلان على معناهما الزمني الصرفي, ولكن أدوات التوكيد تطرأ على الجملة على النحو الآتي: الزمن الجهة صيغة فعل صيغة يفعل الماضي البعيد المنقطع لقد كان فعل الماضي القريب المنقطع إنه كان قد فعل الماضي المتجدد لقد كاد يفعل الماضي المنتهي بالحاضر لقد فعل الماضي المتصل بالحاضر إنه ما زال يفعل الماضي المستمر لقد ظل يفعل الماضي البسيط إنه يفعل الماضي المقارب لقد كاد يفعل الماضي الشروعي لقد طفق يفعل الحال العادي إنه يفعل الحال التجددي إنه يفعل الحال التجددي إنه يفعل المستقبل البسيط ليفعلن المستقبل القريب ليفعلن المستقبل البعيد لسوف يفعل المستقبل الاستمراري لسوف يظل يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وبهذا نرى أن تأكيد الإثبات يمكن أن يتمَّ باللامزم فقط, أو بها مع قد قبل الفعل, أو بوضع إن واسمها الضمير قبل الفعل المراد تأكيده, أو باللام قبل الفعل ونون التوكيد بعده. ويتضح من ذلك أن الجملة الخبرية المؤكدة والجملة الخبرية المثبتة لا فرق بينها من حيث الزمن، وإنما يكون الفرق في التأكيد وعدمه, أما صيغة "فَعَلَ" فتظل دائمًا للماضي, وأما صيغة يفعل فإنها تظل دائمًا وسيلة للتعبير عن الحال أو الاستقبال بحسب ما تعين عليه القرائن. وأما الجملة الخبرية المنفية: فإن الغالب فيها هو استعمال المضارع للدلالة على المضي؛ لأنه هو الذي يضام أكثر أدوات النفي "لم ولما وليس وما ولا ولن", فكل هذه الأدوات تأتي لنفي المضارع ولا ينفي صيغة "فعل" منها إلا "ما", وإذا دخلت "لا" على"فعل" لم تكن للنفي, وإنما تكون للدعاء, كما يمكن أن يرى من الفرق في المعنى بين "فلا نامت أعين الجبناء" و"فما نامت أعين الجبناء", وكذلك بين قولنا: "لا فُضَّ فوك" و"ما فض فوك", فإذا عرفنا ذلك سهل علينا تصور أن نفي الماضي لا يكون لصيغة "فعل" إلّا في حالة واحدة فقط هي نفي "قد فعل" الذي يكون "ما فعل", وأما فيما عدا ذلك فنفي الماضي يتمُّ دائمًا بواسطة إدخال الأداة على صيغة "يفعل" كما يتضح بالجدول التالي: الزمن الجهة فعل يفعل الماضي البعد المنقطع لم يكن فعل الماضي القريب المنقطع لم يكن قد فعل الماضي المتجدد ما كان يفعل، لم يكن يفعل أو كان لا يفعل الماضي المنتهي بالحاضر ما فعل الماضي المتصل بالحاضر لما يفعل الماضي المتصل بالحاضر لما يفعل الماضي المستمر لم يفعل الماضي البسيط لم يفعل الماضي المقارب لم يكد يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الزمن الجهة فعل يفعل الماضي الشروعي ما فعل الحال العادي ليس يفعل الحال التجددي ما يفعل الحال الاستمراري ما يفعل المستقبل البسيط لا يفعل المستقبل القريب لن يفعل المستقبل البعيد ما كان ليفعل المستقبل الاستمراري لن يفعل بهذا نرى أن الزمن وظيفة في السياق لا ترتبط بصيغة معينة دائمًا, وإنما تختار الصيغة التي تتوافر لها الضمائم والقرائن التي تعين على تحميلها معنى الزمن المعين المراد في السياق, فلا يهم إن كان الزمن الماضي آتيًا من صيغة "فعل" أو صيغة "يفعل" ما دام يمكن بالتفريق بالضمائم والقرائن بين الأزمنة المختلفة أن نختار من بين الصيغتين أصلحهما للدلالة على المعنى الزمني المراد في سياق بعينه. وهكذا نرى أن الجملة الخبرية المثبتة والمؤكَّدة لا فرق فيها بين دلالة الصيغة على الزمن في نظام الصرف وبين هذه الدلالة في السياق, ولعل هذا هو ما غرَّر بالنحاة فلم يعنوا برصد الفروق الزمنية الدقيقة إلّا في أضيق الحدود. أما في الجملة الخبرية المنفية فقد رأينا أن أكثر ما يكون نفي الماضي إنما يكون إلى أدوات النفي مع أنّ الأداة لا يمكن أن تفيد زمنًا, وإنما يمكنها أن تفيد "الجهة" وهي تفيدها فعلًا في حالة الجملة المنفية. وبعد الفراغ من الكلام في الجمل الخبرية الثلاث أحب أن ألقي نظرة على جمل الإنشاء, وأن أبدأ منها بالجملة الاستفهامية, ولعل الجملة الاستفهامية هي الوحيدة بين الجمل الإنشائية التي تتوافق فيها دلالة الصيغة صرفيًّا ونحويًّا على طول الخط, فيدل فيها "فعل" على الماضي, ويدل "يفعل" على الحال أو الاستقبال بحسب الضمائم والقرائن على نحو ما يبدو في الاستفهام في حيز الإثبات فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الزمن الجهة صيغة فعل صيغة يفعل الماضي البعيد المنقطع هل كان فعل الماضي القريب المنقطع هل كان قد فعل الماضي المتجد هل كان يفعل الماضي المنتهي بالحاضر أقد فعل الماضي المتصل بالحاضر أقد فعل الماضي المتصل بالحاضر أما زال يفعل الماضي المستمر هل ظل يفعل الماضي البسيط هل فعل الماضي المقارب هل كاد يفعل الماضي الشروعي هل طفق يفعل الحال العادي هل يفعل الحال التجددي هل يفعل الحال الاستمراري هل يفعل الاستقبال البسيط هل يفعل الاستقبال القريب أسيفعل الاستقبال البعيد أسوف يفعل الاستقبال الاستمراري أسيظل يفعل والملاحظ أن الجملة الاستفامة هنا قد بنيت على الإثبات, بمعنى أنها اتخذت الجملة المثبتة نقطة ابتداء لها, فكثر فيها استعمال "هل" لأنها تدخل على الفعل, وقلَّ فيها استعمال الهمزة لأنها تدخل على الأداة كالسين وقد وما, ومن الاستفهام ما يبنى على جملة النفي فيكون للإنكار ونحوه, وتكون الأداة فيه هي الهمزة كما يبدو فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الزمن الجهة فعل يفعل الماضي البعيد المتقطعب ألم يكن فعل الماضي القريب المنقطع ألم يكن قد فعل الماضي المتجدد ألم يكن يفعل الماضي المتجدد ألم يكن يفعل الماضي المنتهي بالحاضر أما فعل الماضي المتصل بالحاضر ألما يفعل الماضي البسيط ألم يفعل الماضي المقرب ألم يكد يفعل الماضي الشروعي أليس يفعل الحال العادي أما يفعل الحال التجددي أما يفعل الحال الاستمراري أما يفعل الاستقبال البسيط ألا يفعل الاستقبال القريب ألن يفعل الاستقبال البعيد ألن يفعل الاستقبال الاستمراري ألن يفعل فالاستفهام من جملة الإثبات يتم بوضع الأداة قبلها, والاستفهام من جملة النفي يتمّ بوضع الأداة قبلها كذلك, ويبقى كل من الجملتين بعد أن توضع الأداة على حاله التي كان عليها قبل وضع الأداة, وذلك من حيث الدلالة الزمنية, وتوزيع الصيغ عليها. وجمل الإنشاء فيما عدا الاستفهام قاصرة على إفادة الحال أو الاستقبال بحسب القرائن, ولا دلالة فيها على المضي, فالحال أو الاستقبال هما معنى الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 بالصيغة والأمر باللام والنهي والعرض والتحضيض والتمني والترجي والدعاء والشرط, مع أن المضي لا تخطر في معنى هذه الجمل نجد صيغة "فعل" تستعمل باطراد لتدل على الحال أو الاستقبال في التحضيض نحو: هلا فعلت, ولولا فعلت, ولو ما فعلت, وألا فعلت, وفي التمني نحو: "تمنيت أن لو قد حدث كذا" غير أن "فَعَلَ" بعد ليت ربما دلّ على زمن ماضٍ نحو: "ليته فعل كذا", وكذلك يدل "فعل" "عسى" في الترجي على الحال أو الاستقبال "مع الاعتراف بأن عسى قد تحول عن معنى الفعل إلى معنى "الأداة". ويدل "فَعَلَ" أيضًا في الدعاء على الحال أو الاستقبال نحو: "رحم الله فلانًا" و"لا أصاب الشر فلانًا". وكذلك القول في جملة الشرط إذ يدل "فعل" على الحال أو الاستقبال بحسب القرينة نحو: إن قام زيد الآن قمت. إن قام زيد غدًا قمت. إن يقم زيدًا الآن أقم. إن يقم غدًا أقم. ويتضح ذلك مما يلي: نوع الجملة الزمن الجهة فعل يفعل أفعل الأمر بالصيغة الحال كل الجهات افعل "الآن" الاستقبال كل الجهات افعل "غدًا" الأمر باللام الحال كل الجهات ليفعل "الآن" الاستقبال كل الجهات ليفعل "غدًا" النهي الحال كل الجهات لا تفعل "الآن" الاستقبال كل الجهات لا تفعل "غدًا" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 نوع الجملة الزمن الجهة فعل يفعل افعل العرض الحال كل الجهات ألا تفعل "الآن" الاستقبال كل لجهات ألا تفعل "غدًا" التحضيض الحال كل الجهات هلا فعلت "الآن" الاستقبال كل الجهات هلا فعلت "غدًا" التمني الحال كل الجهات تمنيت أن ... أتمنى أن ... الاستقبال كل الجهات تمنيت أن .... أتمنى أن ... الترجي الحال كل الجهات عساه يفعل "الآن" لعله يفعل "الآن" الاستقبال كل الجهات عساه يفعل "غدًا" لعله يفعل "غدًا" الدعاء الحال كل الجهات رحمه الله يرحمه الله اللهم رحمه الاستقبال كل الجهات رحمه الله يرحمه الله اللهم رحمه الشرط الحال كل الجهات إن قام زيد "الآن" إن يقم زيد "الآن" الاستقبال كل الجهات إن قام زيد "غدًا" إن يقم زيد "غدًا" على أن معنى المضي قد يطرأ على التحضيض والتمني بواسطة النواسخ, فيكون الزمن هنا وظيفة الناسخ أكثر مما هو وظيفة سياق التحضيض أو التمني, وذلك نحو: هلا كنت قد فعلت! ... تمنيت أن لو كنت قد فعلت! وليس منه "كنت أتمنى أن لو فعلت" ولا "كنت أتمنى أن تفعل" لأن ذلك خبر لا إنشاء. لقد سبق أن ذكرنا في الكلام عن تقسيم الكلم أن الزمن جزء من معنى الفعل, ولكنه ليس جزءًا من معنى الصفة, فالفعل "ضرب" مثلًا فيه عنصران: الضرب المستفاد من الاشتقاق والمضي المستفاد من الصيغة, فإذا علمنا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الضرب حدث, وأن المضي زمن, فقد علمنا أن "ضرب" فعل ماض. أما "ضارب" فهي تدل على موصوف بالضرب على معنى صفة الفاعل, أي: إن الكلمة لا تدل على "الضرب" نفسه, فلا تدل على "حدث", وهي أيضًا لا تدل على "زمن", وإنما قصارى ما تفيده هو الموصوف بالحدث على معنى صفة الفاعل كما ذكرنا. ولكننا نلاحظ أن هذه الكلمة ذاتها صالحة لأن تدخل في علاقات سياقية كعلاقة الإسناد والتعدية في قولك: "أضارب أخوك زميله"؛ حيث أخوك فاعل وزميله مفعول به لضارب، فكلمة ضارب في هذا التركيب محتملة للحال والاستقبال دون تعيين لأحدهما بواسطة قرينة لفظية, ولكنها لا بُدَّ أن تتعين لأحدهما هنا بقرينة حالية, وإلا كان في الكلام ليس, فالذي يعين هذه الجملة الوصفية للحال ما يأتي: 1- قرينة حالية: كأن تقال الجملة أثناء وقوع الضرب, فتكون القرينة هي المقام. 2- قرينة لفظية: بواسطة الظرف كأن قال: "أضارب أخوك زميله الآن؟ " فتكون القرينة في المقال. والذي يعين هذه الجملة للاستقبال أمران أيضًا: 1- قرينة حالية: كأن تقال الجملة وقد شاع في الناس أن الأخ عازم على ضرب زميله, ولكن الضرب لم يقع, فالمقام هنا قرينة حالية. 2- قرينة لفظية: بواسطة ذكر الظرف كأن قال: "أضارب أخوك زميله غدًا؟ فتكون القرينة في المقال. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أما إذا أضيف الوصف إلى ما بعده ففي معناه من جهة الزمن احتمالان: 1- الدلالة على الماضي: بقرينة حالية أو مقالية كقولك: "أبو بكر قاهر المرتدين" أو "هذا ضارب زيد أمس" على الترتيب. 2- الدلالة على مطلق الوصف كقولك في الله تعالى: "واهب النعم", وفي "زيد" من قولك: "قام زيد" إنه "فاعل الفعل", وفي هذه الحالة يكون الوصف خلوًّا من معنى الزمن. ويخلو الوصف من معنى الزمن عند استعماله عَلَمًا كما في "طاهر" و"صالح" و"هانئ", وكذلك إذا دخل في إضافة وصفية نحو: "ساحر النظرة" و"طويل الجيد", أو إضافة الجزء إلى الكل مثل: "قائم السيف" و"مرفوض الكلام" و"سماعة الهاتف" و"بلَّاعة الحوض", والمقصود بالوصف هنا ما أحصيناه من قبل عند تقسيم الكلم وهو: صفة الفاعل وصفة المفعول وصفة المبالغة وصفة التفضيل والصفة المشبهة, فكل هذه الصفات تخضع للقرينة في إفادة الزمن. والمصدر كذلك حين يدخل في علاقات سياقية كالإسناد والتعدية يفيد معنى الزمن بحسب القرينة, وحين يدخل المصدر في هذه العلاقات السياقية فإما أن يكون على معنى الإنشاء, وإما أن يكون على معنى الإضافة. فإذا كان على معنى الإنشاء صار شبيهًا بالأمر من مادته الاشتقاقية فيصير "ضربًا زيدًا" شبيهًا بقولك: "اضرب زيدًا", ولكنه ليس هو هو, فهو يشبهه من حيث: 1- إسناده إلى مخاطب. 2- وهذا المخاطب لا يظهر في الكلام. 3- والمصدر صالح للحال أو الاستقبال, ويتعين أحدهما بالقرينة الحالية أو المقالية, ولكن المصدر في هذه الحالة يختلف عن فعل الأمر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 مادته, بأن الأمر للطلب المحض, وهذا المصدر للإفصاح, فهو قريب الشبه من "نزال" و"تراك" إلخ. مما اعتبرناه على معنى خوالف الإخالة, فحين قال الشاعر: فندلًا زريق المال ندل الثعالب لم يكن المعنى الذي قصد إليه مساويًا تمامًا لمعنى "اندل", وإنما أراد بذلك معنى إفصاحيًّا آخر انفعاليًّا فيه من الحث والحض على العجلة والخفة في محاولة الهرب ما عززه الشاعر بقوله: "ندل الثعالب", وهي معانٍ لا توجد في صيغة الأمر المجردة. أما على معنى الإضافة فإن المصدر يحتمل الماضي والحال والاستقبال جميعًا ويتعين أحدها له بالقرينة الحالية أو المقالية أيضًا فتقول: "أعجبني ضرب زيد عمرًا" فيدل على المضي بقرينة "أعجبني", وتقول: "يعجبني ضرب زيدًا عمرًا الآن أو غدًا, فيحدد الظرف معنى الزمن بالحال أو الاستقبال, وتقول: "ضرب زيد عمرًا شديد" فتحتاج إلى القرينة الحالية لتدل على الزمن, فإذا كان هذا الضرب قد حدث فالزمن ماضٍ, وإذا كان حادثًا فهو الحاضر, أو متوقعًا فهو المستقبل. بهذا نعلم أن الصفات والمصادر ليست لها دلالة صرفية على الزمن كما يدل الفعل, أي: إن النظام الزمني في الصرف يأخذ في اعتباره الأفعال دون الصفات والمصادر, أما في الاستعمال حيث يكون النص مسرح القرائن فإن القرائن الحالية والمقالية تضيف إلى الصفات والمصادر معاني جديدة لم تكن لها في الصرف, ونحن نرى ذلك مظهرًا من مظاهر تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد, وهو موضوع سبق أن شرحناه في الكلام عن النظام الصرفي. ويأتي التعدد هنا من أن الصفات والمصادر تكون أحيانًا من قبيل المسند إليه وأحيانًا من قبيل المسند, ثم هي أحيانًا من قبيل المتعدي, وأحيانًا من قبيل المفعول به الذي يتعدّى المتعدى إليه, وتكون أحيانًا حالًا وأحيانًا أخرى نعتًا, وهي مع كل هذه التقلب في المعنى باقية على مبناها, فتظل الصفات صفات والمصادر مصادر, لا يختلف النظر إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 نخلص من كل ما تقدَّم من كلام في الزمن النحوي إلى النتائج الآتية: 1- الأزمنة في اللغة العربية الفصحى ثلاثة, ولكنها تتفرع عند اعتبار الجهة إلى ستة عشر زمنًا نحويًّا كما رأينا من قبل, وكما يبدو من الجدول الذي تراه أدنى هذا الكلام. 2- تظهر الفروق الزمنية الدقيقة في الجمل الخبرية الثلاث "الإثبات والنفي والتأكيد", وتظهر كذلك في جملة الاستفهام من الجمل الإنشائية, فهذه الجمل تشتمل على الزمن الماضي معبرًا عنه بصيغة فعل أو صيغة يفعل, كما تشتمل على الحال والاستقبال, أما بقية الجمل العربية فلا تحتمل إلّا الحال والاستقبال فقط. 3- يبدو أن استعمال صيغة "يفعل" للدلالة على الماضي مقصور على أسلوب النفي, سواء أكان هذا النفي في الخبر أم في الاستفهام. 4- ويبدو أيضًا أن استعمال صيغة "فعل" بمعنى الحال أو الاستقبال إنما يكون في التحضيض والتمني والترجي والدعاء والشرط. 5- تأتي تعبيرات الجهة "التي تتفرع الأزمنة على أساسها ستة عشر فرعًا كما ذكرنا" بواسطة إضافة الأدوات الحرفية والنواسخ إلى الأفعال, وذلك مثل: قد والسين وسوف واللام ونون التوكيد وما ولا ولم ولما ولن وإن وأخواتها وكان وأخواتها وكاد وأخواتها, فهذه كلها عناصر لإفادة الجهة المحددة لمعنى الزمن. 6- أما الظروف الزمانية وما بمعناها من الأسماء ونحوها, فهي تخصص الزمن النحوي عن طريق معنى الاحتواء للحدث الواحد, أو معنى الاقتران للحدثين, وذلك عندما يعبر بالصيغة الواحدة عن أزمنة مختلفة كالحال والاستقبال, فيدل "الآن" مثلًا على الحال, ويدل "غدًا" على الاستقبال. 7- كما تلعب القرينة المقالية دورها تحديد الزمن "بواسطة استخدام الظروف الزمانية مثلًا" تلعب القرينة الحالية دورًا مشابهًا في تحديد الزمن أيضًا بواسطة المعلومات الخارجية المستمدة من التاريخ أو الجغرافيا أو نحوهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 أرجو عند هذا الحد أن أكون قد بينت الزمن النحوي في اللغة العربية الفصحى كيف يكون صرفيًّا وكيف يكون نحويًّا سياقيًّا, ثم كيف يكون مطلقًا وهو صرفي فتدل الصيغة بشكلها عليه دلالة لا تتخلف, وكيف يكون مقيدًا بالجهة وهو نحوي فيكون وظيفة في السياق لا ترتبط بصيغة بعينها, فتصلح كل صيغة بحسب الجهة أن تدل على زمنٍ ما قد لا ينسب إليها على مستوى النظام الصرفي. ولكن ما الجهة؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال فيما يلي: ذكرنا عند تقسيم الكلم أن الفعل يدل باشتقاقه على الحدث, ويدل بصيغته على الزمن, ولكن هذا الذي قلناه عن الفعل كان على المستوى الصرفي؛ حيث يرتبط الزمن بالصيغة المفردة التي ليست داخلة في سياق. وذكرنا منذ قليل أن صيغة الفعل أو الصفة أو المصدر وهي في السياق ليست بمفردها قرينة على الزمن المراد, وإنما تظاهرها في ذلك قرائن أخرى حالية ومقالية في السياق, نختار من بينها الجهة لنجعلها موضوع كلامنا هنا. والجهة aspect تخصيص لدلالة الفعل ونحوه, إما من حيث الزمن وإما من حيث الحدث, فهناك جهات في اللغة العربية لتقييد معنى الزمن, وقد رأينا ذلك فيما سبق من تفريعات زمنية نحوية, ورأينا أن المباني الدالة على الجهات الزمنية هي في جملتها أدوات ونواسخ قد عددنا منها: قد ولم ولما ولن ولا وما والسين وسوف وكان وما زال وظل وكاد وطفق, وفوق كل ذلك تلعب الظروف الزمانية دورها الهام جدًّا في هذا المجال بتخصيص الزمن النحوي بواسطة الدلالة على توقيت الحدث الواحد الذي يدل عليه الفعل ونحوه في الجملة, أو بواسطة الدلالة على الاقتران الزماني بين حدثين مدلول عليهما بعنصرين مختلفين في الجملة, ويتمّ النوع الأول من نوعي التخصيص الزمني بواسطة الأسماء ونحوها مما ينقل إلى استعمال الظروف, ويدل على أوقات؛ كالآن واليوم وغدًا وبعد سنة ومنذ يومين وأمس, كما يتم النوع الثاني من التخصيص بواسطة الظروف الزمانية نفسها, وهي: إذ وإذا وإذًا ومتى وأيان, فكل واحد من هذه الظروف الزمانية يدل على اقتران زمني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 بين حدثين. وقد سبق أن عرفنا كيف تبلغ هذه الظروف غاية أهميتها في تخصيص أزمنة الصفات والمصادر بصفة خاصة, كما أنها تبلغ مستوى أعلى من الأهمية في استعمالات العناوين الصحفية المعاصرة؛ حيث يستعمل المضارع للدلالة على الماضي والحال والاستقبال, ولا يتعين واحد من هذه إلّا بواسطة قرينة حالية؛ كعلم القارئ بالحدث قبل قراءة الصحيفة بالاستماع إليه في الإذاعة, أو قرينة لفظية هي الظرف الذي يعين زمن المضارع المستعمل. انظر مثلًا في نماذج العناوين الآتية: 1- طائراتنا تقصف مواقع العدو. "لا ذكر للظرف اتكالًا على انتشار النبأ بالإذاعة". 2- طائراتنا تقصف مواقع العدو أمس. 3- الرئيس يتفقد اليوم مواقع العمل في السد العالي. 4- المجلس الوطني الفلسطيني ينعقد غدًا بالقاهرة. تلك هي الجهات -أي: القرائن المعنية- للزمن, وقد رأينا من بين هذه القرائن ما هو حالي وما هو مقالي. وهناك جهات أخرى لتخصيص معنى الحدث بخصوصه, أو قد تكون لتقييد إسناد الحدث إلى المسند إليه, فالجهات التي تفيد تخصيص معنى الحدث دون نظر إلى إسناده يتمّ التعبير عنها بواسطة عناصر صرفية في المبنى؛ كالتضعيف لإفادة المبالغة في مثل كسَّر, وكالتكرار لإفادة معناه في نحو: زلزل ودمدم وهدهد. ونستطيع فيما يلي أن نورد طائفة من هذه التعبيرات عن الجهة: الجهة المبنى المثال التعدية الهمزة أكرم التعدية التضعيف كرَّم تكرار الحدث تكرار المبنى زلزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الجهة المنبى المثال المشاركة تاء التفاعل تقاتلا الطلب السين والتاء استخرج المطاوعة نون الانفعال انكسر الاتخاذ تاء الافتعال اختار التكلف تاء التفعل تشجع التبادل تاء الافتعال اقتتلوا أما جهات تقييد علاقة الإسناد فهي ما جمعناه تحت عنواني: "التخصيص" و"النسبة" عند كلامنا في التعليق النحوي, فما سميناه القرائن المعنوية كالتعدية والسببية والمعية والظرفية المكانية وهلم جرّا, هي في الواقع جهات في فهم علاقة الإسناد في التركيب, فليست مسلطة على الزمن ولا على الحدث في إفادتها التقييد, وإنما هي قيود في الإسناد, وإليك أمثلة لها: الجهة المبنى الباب المثال التعدية الاسم المنصوب مطلقًا المفعول به ضرب زيد عمرًا السببية المصدر المنصوب المفعول لأجله جئت رغبة في رؤيتك المعية الاسم المنصوب بعد الواو المفعول معه سرت والنيل الظرفية المكانية1 ظرف المكان المفعول فيه جلست حيث جلس زيد التقوية2 المصدر المنصوب المفعول المطلق قمت قيامًا الملابسة الوصف المنصوب الحال جئت ماشيًا الإخراج الاسم بعد إلا ونحوها المستثنى قام الناس إلا زيدًا   1 يدخل في التعبير عن الظرفية ما يفيدها من حروف الجر. 2 يدخل في التعبير عن جهة تقوية علاقة الإسناد التوكيد بالحرف كاللام ونون التوكيد وإن وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الجهة المبنى الباب المثال التفسير الاسم الجامد منصوبا أو مجرورا بمن التمييز اشتريت قنطارًا قطنًا الخلاف الاسم المنصوب بعد ضمير المتكلم المختص نحن العرب نكرم الضيف الاستعلاء على حرف النسبة مشيت على الرصيف الواسطة الباء حرف النسبة ضربته بالعصا المجاوزة عن حرف النسبة عدَّ عن ذا بهذا نرى أن الجهات تقع في ثلاثة أنواع: 1- جهات في فهم معنى الزمن وقد سبقت, ومنها: ظروف الزمان وبعض الأدوات والنواسخ. 2- جهات في فهم معنى الحدث وقد سبقت أمثلتها, ومنها: المعاني المنسوبة إلى حروف الزيادة في الصيغ. 3- جهات في فهم معنى علاقة الإسناد, ومنها: ظروف المكان والمنصوبات وحروف الجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الظواهر السياقية مدخل ... الظواهر السياقية: ذكرنا من قبل أن الأنظمة من اللغة لا من الكلام, وأن اللغة -ومنها الأنظمة- ساكنة صامتة تنشد لنفسها الاطِّراد وتسعى إلى الإطلاق, شأنها شأن كل نظام آخر. وذكرنا كذلك أن الكلام تطبيق على نظام اللغة, وأنه ديناميكي متحرك, شأنه في ذلك أيضًا شأن كل تطبيق على أي نظام, وإذا عدنا إلى المثل الذي اخترناه من قبل -وهو نظام المرور- وجدنا أن النظام يقتضي في جميع الحالات أن يكون السير على جانب معين من الطريق, وهذه قاعدة في النظام مطَّردة ومطلقة، ولكن عملية المرور التي تتم طبقًا لهذا النظام, والتي هي في الواقع تطبيق أمين له يحدث لها أن تصادف بعض المشكلات أحيانًا؛ كأن يكون الجانب المختار للمرور مشغولًا بإصلاح الطريق أو ببقايا حادث وقع, فيتحتَّم في هذه الحالة أن يتحوّل المرور إلى الجانب الآخر من الطريق على عكس ما يطلبه النظام, ولكن هذا يعتبر حلًّا من حلول مشكلات التطبيق. فإذا عبر عنه بمجموعة من القواعد تفصل ما يتبع من الإجراءات عند انشغال الجانب المختار للمرور من الطريق, اعتبر ذلك نظامًا فرعيًّا يؤيد النظام الأصلي ولا يطعن فيه, وفي نظم اللغة ما يشبه نظام المرور تمامًا, كما أن في الكلام ما يشبه حركة المرور التي يحكمها هذا النظام. فالنظام الصوتي للغة يقرر مثلًا أن الدال مجهورة وأن التاء مهموسة, ويصر النظام على اطراد هذ القاعدة وإطلاقها, ولكن الكلام وهو التطبيق العملي لنظام اللغة قد يشتمل على دال ساكنة متبوعة بتاء متحركة وهنا نجد أن تجاور الحرفين على هذا النحو يتسبب في صعوبة عضوية تتحدّى محاولة المحافظة على ما قرره النظام, كما يتسبب التقاء المتقاربين دائمًا في احتمال اللبس لو حاولنا في نطقهما عبثًا أن نرضي مطالب النظام؛ لأن جهر الدال الساكنة المتبوعة بتاء متحركة أمر ثقيل التحقيق في النطق, وهنا تظهر مشكلة من مشاكل التطبيق يحلها السياق بظاهرة الإدغام, فتكون الدال والتاء في النطق كالتاء المشددة تمامًا "قعدت -قعت", و"الإدغام" الذي ذكرناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 واحدة من الظواهر السياقية التي تحل مشاكل النظام اللغوي, والتي سنشرحها تباعًا بعد قليل, وربما سميناها لمامًا "الظواهر الموقعية". قلت: إن محاولة جهر الدال الساكنة المتلوَّة بالتاء تتسبب في ثقل العملية العضوية أو في اللبس, وكلاهما في مشكلة من مشكلات التطبيق, ولكن ثقل العملية العضوية ليست سببًا في حدوث الظواهر السياقية جميعًا؛ لأن بعضها لو نفذ في نطقه النظام كما هو لم نحسّ ثِقَل العملية النطقية في نطقه أبدًا، فلو أن المتكلم عرف عن الوقف بالسكون وأعطى الحرف الأخير حركته التي أعطاه النظام إياها لما كان في ذلك أي نوعٍ من أنواع الثقل من الناحية العضوية, بل على العكس من ذلك تمامًا نرى قوافي الشعر تأبى فعلًا تطبيق ظاهرة الوقف بالسكون ونحوه في الكثير جدًّا من الحالات, ولها في ذلك نظام فرعي عروضي خاص بها. ولكن الأسس التي تتحكم في تحقيق الظواهر السياقية لا يتحتّم أن تنبني جميعًا على ثقل العملية النطقية بالضرورة، وإنما تنبني كذلك على مراعاة أمن اللبس كما رأينا, وعلى الاعتبارات الذوقية في صياغة السياق العربي. فإذا أردنا أن نعبر عن جميع ذلك بعبارة شاملة قلنا: إن الأساس الذي يتحكم في تحقق الظواهر السياقية إنما هو كراهية التقاء صوتين أو مبنيَيْن يتنافى التقاؤهما مع أمن اللبس أو مع الذوق الصياغي للفصحى, فتحدث الظاهرة لعلاج موقف التقى فيه هذان الأمران فعلًا, وذلك نتيجة لما قضى به أحد أنظمة اللغة للمباني خارج السياق, وذلك على غرار ما نراه في العرض الآتي لأشهر الظواهر السياقية في الفصحى: اتجاه الذوق العربي الظاهرة الموقعية الناتجة تفسيرها 1- كراهية توالي الأضداد ظاهرة التأليف الضدان هنا هما الصوتان المتنافران في النطق 2- كراهية توالي الأضداد ظاهرة الوقف الضدان هما الحركة وهي مظهر الاستمرار والصمت وهو مظهر التوقف. 3- كراهية توالي الأضداد ظاهرة المناسبة الضدان قيمتان صوتيتان متنافران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 اتجاه الذوق العربي الظاهرة الموقعية الناتجة تفسيرها 4- كراهية توالي الأضداد ظاهرة الإعلال والإبدال الضدان صوتان في تجاورهما ثقل في النطق 5- كراهية توالي الأمثال ظاهرة التوصل المثلان هما الصمت قبل النطق والسكون في أوله 6- كراهية توالي الأمثال ظاهرة الإدغام المثلان أو المتقاربان بأن صوتان مشتركان في أكثر خصائصهما 7- كراهية توالي الأمثال ظاهرة التلخص المثلان هما الساكنان المتواليان 8- كراهية توالي الأمثال ظاهرة الحذف الأمثال نونات أو تاءات أو غير ذلك. 9- كراهية توالي الأمثال ظاهرة الإسكان الأمثال هنا حركانت متوالية 10- كراهية توالي الأمثال ظاهرة الكمية توقي الأمثال هنا بتوزيع الحركة والمد على النطق 11- كراهية توالي الأمثال ظاهرة الإشباع والإضعاف توقى الأمثال هنا بتوزيع القوة والضعف بين الأصوات وبين الكلمات 12- كراهية توالي الأمثال ظاهر النبر توقي الأمثال يكون بتنويع المقاطع 13- كراهية توالي الأمثال ظاهرة التنغيم توقي الأمثال يكون بتنويع النغمات. فإذا كانت اللغة العربية تكره توالي الأضداد وتكره كذلك توالي الأمثال, فما الذي يرتضيه ذوقها إذًا؟ من الواضح أن النظام اللغوي والاستعمال السياقي جميعًا يحرصان في اللغة العربية الفصحى على التقاء المتخالفين, أو بعبارة أخرى يحرصان على التخالف ويكرهان التنافر والتماثل, فأما كراهية التنافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فلأنه ينافي الذوق العربي, وأما كراهية التماثل فلأنه يؤدي إلى اللبس. فإذا أحبت اللغة العربية التخالف فذلك لأنه يعين على أمن اللبس بواسطة ما يهيئه من المقابلات أو الفروق بين المتخالفين, أي: بواسطة استخدام القيم الخلافية التي أشرنا إليها من قبل, وقلنا: إنها لا غنى عنها للوصول إلى الوضوح أو بعبارة أخرى: للوصول إلى أمن اللبس، ومن هنا كانت الظواهر الموقعية التي ترد في السياق لتفادي ما تكرهه اللغة من تنافر أو تماثل تتجه دائمًا إلى المحافظة على التخالف على نحوٍ سنرى حين الكلام في كل ظاهرة موقعية نتناولها في الصفحات التالية. ومع أن علاج التنافر إنما يكون بالاتجاه إلى عكسه وهو التماثل, نجد الظاهرة الموقعية تكتفي -كما في ظاهرة التأليف مثلًا- بتفادي التنافر, وهو محظور أوّل دون الوصول إلى التماثل, وهو المحظور الثاني, وذلك بالوقوف عند حد التخالف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 1- ظاهرة التأليف : لاحظ اللغويون منذ القِدَمِ عند النظر في تأليف الكلمة العربية من أصولها الثلاثة "الفاء والعين واللام" أن هذه الأصول يجري تأليفها حسب أساسٍ ذوقي وعضوي خاصٍّ يتصل بتجاور مخارج الحروف الأصول التي تتألف منها الكلمة أو تباعدها, بالنسبة إلى أماكنها في الجهاز النطقي. ولقد لاحظ الأقدمون أن الكلمة العربية إذا أريد لها أن تكون فصيحة مقبولة فإنها تتطلب في مخارج حروفها أن تكون متناسقة, ولا تتسامح اللغة فتتخلى عن هذا المطلب إلّا في أضيق الحدود في حالات الزيادة والإلصاق ونحوهما. وقبل أن نوغل في شرح هذه الظاهرة ينبغي أن نرسم الجهاز النطقي ونقسمه حسب تقسيمهم لمجموعات المخارج إلى ثلاث مناطق, ونسمي إحداها عليا أو قصوى, والثانية وسطى, والثالثة سفلى أو دنيا على النحو التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 تؤخذ الصورة اسكنر 1- الشفتان. 2- الأسنان العليا. 3- اللثة. 4- الغار "الحنك الصلب". 5- الطبق "الحنك الرخو". 6- اللهاة. 7- التجويف الأنفي "الخيشوم". 8- الأسنان السفلى. 9- طرف اللسان. 10- مقدم اللسان. 11- وسط اللسان. 12- مؤخر اللسان. 13- الحلقوم. 14- الحلق. 15- لسان المزمار. 16- الجدار الخلفي للحلق. 17- الحنجرة وبها الأوتار الصوتية. والمخارج العربية حين تنسب إلى المناطق التي حددها اللغويون القدماء بالنسبة لدراسة ظاهرة التأليف تبدو كما يلي: أ- المنطقة الأولى "الشفتان". ب- المنطقة الثانية "مقدم اللسان". 1- الشفوي "ب م و". 2- الشوفي الأسناني "ف". 3- الأسناني "ث ذ ظ". 4- الأسناني اللثوي "ت د ض ط س ز ص". 5- اللثوي "ن ل ر". 6- الغاري "ج ش ى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 جـ- المنطقة الثالثة "مؤخر اللسان والحلق". 7- الطبقي "ك=g". 8- اللهوى "الحلقومي خ غ ق". 9- الحلقي "ع ح". 10- الحنجري "ء هـ". يقول السيوطي1: "قال ابن دريد في الجمهرة: اعلم أن الحروف إذا تقاربت مخارجها كانت أثقل على اللسان منها إذا تباعدت؛ لأنك إذا استعملت اللسان في حروف الحلق دون حروف الفم ودون حروف الزلاقة كلَّفته جرسًا واحدًا وحركات مختلفة, ألا ترى أنك لو ألَّفت بين الهمزة والهاء والحاء فأمكن لوجدت الهمزة تتحول هاء في بعض اللغات لقربها منها, نحو قولهم: في أم والله "هم والله", وقالوا في أراق: "هراق", ولوجدت الهاء في بعض الألسنة تتحوّل, وإذا تباعدت مخارج الحروف حسن التأليف. قال: واعلم أنه لا يكاد يجيء في الكلام ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة لصعوبة ذلك على ألسنتهم". ويروي الشيخ السيوطي عن الشيخ بهاء الدين صاحب عروس الأفراح أن رتَبَ الفصاحة متفاوتة, فإن الكلمة تَخِفّ وتثقل بحسب الانتقال من حرف إلى حرف لا يلائمه قربًا أو بعدًا, فإذا كانت الكلمة ثلاثية فتراكيبها اثنا عشر: 1- الانحدار من المخرج الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو: ع د ب. 2- الانتقال من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط نحو: ع ر د. "ويظهر أن الراء خطأ مطبعي صحته الباء". 3- من الأعلى إلى الأدنى إلى الأعلى نحو: ع م هـ. 4- من الأعلى إلى الأوسط إلى الأعلى نحو: ع ل ن. "ويظهر أن النون خطأ مطبعي صحته الهاء".   1 المزهر ص115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 5- من الأدنى إلى الأوسط إلى الأعلى نحو: ب د ع. 6- من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط نحو: ب ع د. 7- من الأدنى إلى الأعلى إلى الأدنى نحو: ف ع م. 8- من الأدنى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو: ف د م. 9- من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى نحو: د ع م. 10- من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى نحو: د م ع. 11- من الأوسط إلى الأعلى إلى الأوسط نحو: ن ع ل. 12- من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط نحو: ن م ل. ثم يقول: إن أحسن هذه التراكيب الأول فالعاشر فالسادس, وأما الخامس والتاسع فهما سيان في الاستعمال وإن كان القياس يقتضي أن يكون أرجحهما التاسع, وأقل الجميع استعمالًا السادس. ويظهر أن الشيخ بهاء الدين وكذلك السيوطي لم يكلف نفسه عناء استقصاء الإمكانات التي تحتملها الكلمة العربية من هذ الناحية استقصاءً كاملًا, فكان عليهما أن ينظرا إلى القضية مثل النظرة الرياضية الإحصائية التي نظرها الخليل في كتاب العين؛ حيث حسب الطرق التي تجتمع بها الحروف في الكلمة الواحدة فضرب 28×28×28, وحصل منها على عدد المواد التي يمكن للغة العربية أن تعدد الكلمات تحت كل واحدة منها. ولا شكَّ أن الشيخ بهاء الدين والسيوطي كليهما لم يكن أمامهما عمل معقد كالذي قام به الخليل؛ لأن العدد المضروب هنا لن يكون 28 بعدد الحروف, وإنما يكون 3 بعدد أنواع المخارج فتضرب في نفسها مرتين 3×3×3, فتكون احتمالات تركيب الكلمة من هذه الأنواع سبعة وعشرين احتمالًا. فإذا دللنا على أنواع المخارج بالأرقام بدل الأوصاف, فجعلنا الرقم1 للأدنى والرقم2 للأوسط والرقم3 للأعلى, صار في وسعنا أن نعبِّر عن التواليف الممكنة وغير الممكنة على السواء, وأن نصور ذلك على النحو التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وبالتأمل في هذا التوزيع الشامل لإمكانات تجاور أنواع المخارج "لأن مادة البحث هنا أنواع المخارج أي: مجموعاتها الثلاث لا المخارج المفردة ولا الحروف" يمكن أن نستنبط الحقائق الآتية: 1- إن فكرة تقارب المخارج وتباعدها هي فعلًا أساس هذه الظاهرة في اللغة العربية الفصحى "ظاهرة التأليف" فبحسبها تتجاور الحروف في الكلمة أو لا تتجاور, وهذه الظاهرة هي التي استعان بها القدماء من نقّاد الأدب في الكشف عمَّا سموه "التنافر اللفظي", وعلى أساسها بنوا نقدهم لكلمة "مستشزرات" التي وردت في معلقة امرئ القيس, ولعبارة "وليس قرب قبر حرب قبر". ومرجع كل ذلك كما ذكرنا إنما هو إلى الذوق العربي الذي يتجه إلى ما اصطلحنا على تسميته "كراهية التضاد أو التنافر". 2- إن عبارة ابن دريد القائلة: "إذا تباعدت مخارج الحروف حسن تأليفها" أكثر صدقًا وأقل تورطًا من قوله: "اعلم أن الحروف إذا تقاربت مخارجها كانت أثقل على اللسان منها إذا تباعدت" لأن العبارة الأولى لم تتورط كما فعلت العبارة الثانية في ادِّعَاء ثقل الكلمات المؤلفة من حروف متقاربة تقاربًا لا تنافر فيه مثل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 ر س م - د ر س - ب د ر - ف ق و - وق ح, ونحوها. 3- إن عبارة الشيخ بهاء الدين المفصلة لا تحكي القصة كلها, بدليل ما استدركته أنا عليه من تواليف لم يذكرها, وهي التي وضعت تحتها خطًّا في الجدول الذي سبق, ولهذا أرفض أن تكون مقالته شاملة. 4- إن دراسة ظاهرة التأليف إذا بنيت على المخارج العشرة التي ذكرناها سابقًا كل منها على حدة, فلربما كانت أجدى في شمول هذه الظاهرة الموقعية من دراستها مؤسَّسة على هذه المناطق الثلاث التي يشتمل كل منها على مخارج متعددة. 5- ولربما كان من الممكن أن يضاف إلى الاعتبار العضوي المخرجي في هذه الدراسة اعتبار القيمة الصوتية من تفخيم وترقيق, فيمكن بهذا أن تدعي مثلًا ندرة تجاور أحد المطبقات مع أحد الغاريات وهي أشد الحروف استفالًا. 6- هذه الظاهرة الموقعية "التأليف" مرتبطة أشد الارتباط بدراسة المستعمل والمجهور من مواد اللغة, وهي بهذا المعنى ترتبط بمعنى الكلمة العربية الفصحى نوع ارتباط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 2- ظاهرة الوقف : يدل الوقف بوسائله المتعددة على موقع هو في طابعه "مِفْصَل" من مفاصل الكلام يمكن عنده قطع السلسلة النطقية chain of utterance, فينقسم السياق بهذا إلى دفعات كلامية spoken groups تعتبر كل دفعة منها إذا كان معناها كاملًا "واقعة تكليمية" speech event منعزلة, أما إذا لم يكن معناها كاملًا كالوقف على الشرط قبل ذكر الجواب مثلًا, فإن الواقعة التكلمية حينئذ تشتمل على أكثر من دفعة كلامية واحدة. ولعل ظاهرة الوقف باعتبارها موقعية من موقعيات السياق العربي ترجع إلى كراهية توالي الأضداد, أو "كراهية التنافر" إن شئت اسمًا آخر لهذا المظهر من مظاهر الذوق العربي، فالحركة مظهر من مظاهر الاستمرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 في الأداء, والصمت الذي يأتي عن تمام المعنى جزئيًّا أو كليًّا أو عن انقطاع النفس أو لأي سبب يدعو إلى قصد الوقف يعتبر عكس الحركة تمامًا فبينه وبين الحركة تنافر. والحركة التي تقع في نهاية الدفعة الكلامية لا بُدَّ لمقطعها أن يكون من نوع "ص ح", وهو نوع لا يقع عليه النبر, وهو في آخر الدفعية الكلامية أبدًا, أو انعدام النبر في هذا المقطع يضعف الحركة في النطق ويجعلها من قبيل الرَّوْم, وهو الاصطلاح الذي أطلقه النحاة على الوقوف بها ضعيفة, بل من قبيل الإشمام الذي هو تهيؤ الشفتين لنطق الحركة دون حدوث هذا النطق, ومن ثَمَّ تكون الحركة الأخيرة في ضعفها وقصورها عن الوصول إلى الأذن غير ذات قيمة كبيرة باعتبارها قرينة لفظية على المعنى, ومن هنا اختار الاستعمال أن ينشئ ظاهرة الوقف دفعًا للتنافر, ودلالة على موقع انتهاء الدفعة الكلامية, وهو موقع يرتبط تمام المعنى جزئيًّا أو كليًّا كما ذكرنا, ولقائل أن يقول: فلم بقيت هذه الحركة في قوافي الشعر ولم يلجأ الشعراء إلى ظاهرة الوقف يستعملونها في نهاية كل بيت من أبيات القصيدة, والجواب على ذلك من وجهين: الأول: إن الشعر موسيقى, والموسيقى تكون بالحركة والمد ولا تكون بالسكون, ولذا كان الشعر أشد حرصًا على الحركة في قوافيه منه على السكون, ومع ذلك لم يرفض الشعر السكون رفضًا تامًّا فارتضى القوافي المقيدة بالسكون لا لحبه للسكون نفسه, وإنما لاصطناع تقييد القافية باعتباره طريقة تعبيرية ذات قيمة خاصة في مجال المزاج الشعري. الثاني: إن الحركات التي في قوافي الشعر يغلب فيها ألّا تبقى على كميتها القصيرة, فإن الطابع الإنشادي للشعر العربي يجعل الشاعر يترنَّم بالشعر فيشبع حركاته الأخيرة بما يسمَّى إطلاق القافية فتطول الحركة وتصبح مدًّا, والوقف على المد تباركه القاعدة حتى في الاستعمال غير الشعري. وللوقف وسائل متعددة غير الإسكان: فله غير الإسكان الرَّوْم والإشمام والإبدال والزيادة والحذف والنقل والتضعيف؛ فالرَّوْم إضعاف صوت الحركة دون أن تختفي تمامًا على الأذن, والإشمام عدم النطق بالضمة, ولكن مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الإشارة بالشفتين إليها, فلا يدركه إلّا من يرى شفتي المتكلم, أي: إن الإشمام لا قيمة له بالنسبة للأعمى ولا المبصر عند الإظلام, ويذكر النحاة أن معناه مرتبط بالفرق بين الساكن أصلًا فلا إشمام فيه وبين المسكن بالوقف ففيه الإشمام. وأما الإبدال فهو إبدال الألف من تنوين المنصوب وتنوين إذًا ومن نون التوكيد الخفيفة, وكذلك إبدال الهاء من تاء التأنيث التي تلحق الأسماء. وأما الزيادة فهي زيادة هاء السكت بعد الفعل المعتل المحذوف الآخر نحو أعطه وأرجه وعه وقه, وكذلك بعد ما الاستفهامية لحاجة الصيغة إليها في كل ذلك بعد أن انتقصها نظام اللغة, وذلك لإشباعها في الكلام. وأما الحذف فهو حذف التنوين من آخر المنوّن مرفوعًا كان أو مجرورًا, ومن آخر المقصور مطلقًا, وحذف إشباع الضمير في به وله, وحذف ياء المنقوص مع التنوين في الاسم المنقوص المنكر, وفي لغة ترد الياء دور التنوين. وأما النقل فتحويل حركة الحرف الأخير من الكلام إلى الساكن قبله لبيان حركة الإعراب أو التخلص من التقاء الساكنين إلّا إذا كان ما قبل الآخر ممنوعًا تحريكه. وأما التشديد فليس المقصود به تضعيف الحرف وإنما هو شبيه بقلقلة بطيئة للحرف الموقوف عليه, وهو يلاحظ في يومنا هذا في إلقاء "الإملاء" على التلاميذ, وفي كلام المحاضرين المتأنين والمتأنقين, ويلاحظ في وقف الدكتور طه حسين على جمل كلامه حين يحاضر، فهو يجعل تشديد الحرف الأخير المسكَّن للوقف وسيلة من وسائل الإبلاغ السمعي لإرادة التأكيد, أو أي معنى آخر مناسب. ويزعم النحاة أن التأني في نطق هذا الحرف الساكن الأخير هو من قبيل التشديد, وأن سببه هو بيان أنه متحرك أصلًا فيتحرك عند الوصل, ويقولون: إن هذه الظاهرة لا تكون في الحرف الأخير إذا كان همزة كبناء؛ لأن القصر يغني عنها, والنبر قرينة على وجودها عند عدم القصر, والعرب لا تضعف الهمزة إلّا إذا كانت عينًا في الكلمة. وهذه الظاهرة لا تكون أيضًا في حرف لين جاء بعد حرف متحرك كما في: سرو وبقي والقاضي, ولا في الحرف الآخر الصحيح إذا سبق بحرف صحيح ساكن نحو: "بَكْرْ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 3- المناسبة : ومما يعود في الذوق العربي أيضًا إلى كراهية التنافر ما يسمونه ظاهرة المناسبة vowel harmony فالمعروف أن الفتحة وألف المدم من قبيل صوتي واحد, وأن الكسرة وياء المد من قبيل آخر, وأن الضمة وواو المد من قبيل ثالث, فكل حركة من هذه الحركات الثلاث تناسب ما كان من قبيلها. ولقد لاحظ النحاة أن موقعا ما قد يتطلب حركة معينة بحكم النظام, أي: بحسب القاعدة, ولكن هذه الحركة المطلوبة قد تتنافر مع ما يجاورها, أو على الأقل لا تناسبه, ومن هنا يبدو السياق وقد اتخذ في مكان هذه الحركة حركة أخرى تتناسب مع ما يجاورها. ولقد سجل النحاة تحت عنوان: المناسبة حركة واحدة هي الكسرة قبل ياء المتكلم من نحو: "هذا كتابي" ولكننا نستطيع أن نضيف إلى ذلك عددًا من حركات المناسبة في مواقع أخرى, ومن هذه الحركات ما يلي: 1- بناء الماضي على الضم لمناسبة واو الجماعة في نحو: ضربوا, فهذه الضمة لا يمكن تفسيرها إلّا تحت عنوان المناسبة. 2- تحريك عين المضارع المسند إلى واو الجماعة بالضمِّ في جميع حالاته الإعرابية نحو: يضربون ولن يضربوا ولم يضربوا, فهذه الضمة للمناسبة أيضًا. 3- تحريك لام فعل الأمر بالضمِّ عند إسناده إلى الواو نحو: اضربوه, وذلك للمناسبة كذلك. 4- تحريك لام الفعل المضارع المسند إلى ياء المخاطبة بالكسر لمناسبة الياء في جميع الحالات الإعرابية نحو: تضربين ولن تضربي ولم تضربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 5- تحريك لام فعل الأمر عند إسناده إلى ياء المخاطبة بكسرة لمناسبة الياء نحو: اضربي. 6- تحريك أواخر هذه الأفعال جميعًا بالفتحة عند إسنادها إلى ألف الاثنين نحو قولك: ضربا - يضربان - لن يضربا -لم يضربا - اضربا. 7- إذا كان الفعل معتل الآخر بالألف, فإن الفتحة التي على عين الكلمة والتي تعتبر الألف مد لها تبقى بعد حذف الألف في بعض تصريفات الفعل لتكون قرينة على الألف المحذوفة, ويسميها النحاة حينئذ "حركة الدليل", ومن تعبيراتهم المحفوظة في ذلك قولهم: "والفتحة قبلها دليل عليها". فهذه الألف في الحقيقة حركة لمناسبة الألف؛ لأنه لا يوجد فعل معتل الآخر بالألف دون أن تكون عين الكلمة فيه مفتوحة لمناسبة هذه الألف, ولا تُسَمَّى هذه الفتحة "حركة الدليل" إلّا بعد حذف الألف, أما والألف موجودة فهي للمناسبة. 8- مما يدخل تحت المناسبة أيضًا إعراب المجاورة كما في "جحر ضب خرب"؛ حيث يتضح المعنى بقرينة معنوية هي قرينة الصلاحية للإسناد وعدمها, فيصبح اعتبار المناسبة الموسيقية للحركات أهمّ من المحافظة على إعراب القاعدة. 9- ومما يُعَدُّ من قبيل المناسبة أيضًا ما يسميه النحاة: "الاتباع على اللفظ" فليس لهذا النوع من الاتباع مبرر من القاعدة, ولهذا السبب لا يمكن تفسير الاتباع على اللفظ إلّا في ضوء المناسبة الصوتية الموسيقية بين صوتين حين تتضافر القرائن على بيان المحل, فلا يحتاج إلى حركة التابع بين القرائن الدالة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 4- الإعلال والإبدال : قد يبدو للقارئ من أول وهلة أن هذا العنوان "الإبدال والإعلال" يحمل في طيه زعمًا بأن العرب كانوا ينطقون شيئًا ثم أبدلوا به شيئًا آخر أو أعلُّوه. وهذا الظن أبعد ما يكون عن الصواب, فالتقابل هنا ليس بين مستعْمَلٍ قديم متروك ومستَعْمَلٍ جديد منطوق, وإنما التقابل كما ذكرنا من قبل هو بين مايقرره النظام وما يتطلبه السياق, أي: بين القواعد الصوتية وبين الظواهر الموقعية, ويتخذ الإبدال في اللغة العربية الصور الآتية: أ- إبدال الصحيح بالصحيح: كإبدال الطاء من تاء الافتعال إذا كانت فاؤه حرفًا مطبقًا وهو الصاد والضاد والطاء والظاء، وكإبدال الدال بهذه التاء إذا كانت فاء الكلمة دالًا أو ذالًا أو زايًا؛ فمثال الأربعة الأوائل: اصطبر واضطر واطلع واظطلم, ومثال الثلاثة الأخيرة: ادَّان وادَّكر وازداد. ب- إبدال الصحيح بالليِّن: وذلك كإبدال الهمزة بالواو والياء في كساء وقائل وصحائف وقوائل, وكإبدال الهمزة أيضًا بأولى الواوين في أول الكلمة مثل: أوائل وأواق وأواصل والأولى, ومن ذلك أيضًا إبدال التاء بالواو إذا كانت الواو فاءً للافتعال نحو: اتَّكل. جـ- إبدال المد بالصحيح: كجعل ثانية الهمزتين حين تكون ساكنة في الكلمة نفسها مد لحركة أولاها نحو: آثر وايتمن. د- إبدال اللين باللين: كجعل الواو ياء في رضيّ وحديَّة وعيادة وديار وحياض وأعطيت ولي ونُيِّمَ وعصيّ, وكجعل الياء واوًا في موسر وقضو ومرموة ورموان وخورى وتقوى وحُزْوى. هـ- إبدال اللين بالمد: كجعل الألف ياء في غزيّل. و إبدال المد بالمد: كجعل الألف ياء مد في دنانير ومصابيح, وجعلها واوًا ممدودة في بويع وقوتل. ويحلو للنحاة أن يسموا الصور أ، ب، حـ، صور "إزالة", والصور د، هـ، و، صور "إحالة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 نحن نعلم أن الحرف اللين إذا تحرَّك فقد يصحح كما في أقوال وبيان, وقد يعتل كما في قال وبان, وإذا سكن فقد يصحَّح كما في قول وبيع, وقد يعتل كما في صورة وحيلة. فالاعتلال وارد على حرف اللين سواء أكان متحركًا أم ساكنًا, ولكن هذا الاعتلال يعرف لدى النحاة "بالإعلال", وهو الظاهرة الموقعية التي سنحاول شرحها الآن. وموضوع الإعلال كما رأينا هو الحرف وهو اللين وهو الواو والياء "دون الألف", ويكون الإعلال في هذين الحرفين بإحدى طرق ثلاث: أ- القلب: وملخصه أن الواو والياء إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما قُلِبَتَا ألفًا كما في قال وباع ونوى ورمى وغزا, ولا تقلبان إذا سكن ما بعدهما أو كانتا عينًا لفعل كحور وعين, أو لفعل الذي الوصف منه على وزن أفعل نحو: عور وعين, أو افتعل الواوي كاجتوروا, أو ما آخره زيادة تختص بالأسماء كدوران, أو كانت إحداهما أول حرفين مستحقين لهذا القلب نحو: حَيَوَان. ب- النقل: فإذا كانت الواو أو الياء عينًا للفعل أو الاسم الجاري مجرى المضارع مسبوقة بساكن صحيح نقلت حركتها إلى الساكن الصحيح قبلها نحو: يقوم ويبيع ومقول ومبيع, إلّا إذا كان الفعل تعجبًا أو مضعَّف اللام نحو: ما أقْوَلَه ويَبْيَضُّ, فإذا أعلت عين المصدر هذا الإعلال بالنقل نقلت حركتها إلى الفاء وقلبت الواو أو الياء ألفًا نحو: استقامة وإقامة, وحذفت من المصدر إحدى الألفين لالتقاء الساكنين فيكون هذا النوع من المصادر مجالًا للقلب والنقل والحذف جميعًا. جـ- الحذف: تحذف الواو والياء عند التقاء الساكنين كما في "قاضٍ" و"غازٍ", والاستثقال ونقل الحركة أو حذفها هو الذي يؤدي إلى التقاء الساكنين, وتكون الواو أو الياء أوّل هذين الساكنين فتحذفان في هذا الموقع, بعكس ما يحدث في الحروف الصحيحة التي إذا التقى ساكنان منها حُرِّكَ أولهما بالكسر كما شرحنا ذلك في حينه فلا يحذف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الصحيح في هذه الحالة, ولا يدخل حذفه حين يحدث بحسب القواعد الأخرى في نطاق ظاهرة الإعلال, وإنما يعالج تحت عنوان ظاهرة حذف الصحيح. ومما يتَّصل كذلك بموقعيه الإعلال "بالحذف" حذف فاء الثلاثي في المضارع المفتوح حرف المضارعة نحو: يعد, والأمر نحو: عِدْ, والمصدر المكسور الفاء الساكن العين نحو: عدة, وكذلك حذف الهمزة من المضارع واسم الفاعل واسم المفعول مما عدى بالهمزة نحو: يكرم, فهو: مكرِم ومكرَم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 5- التوصل : قلنا: إن نظام اللغة العربية يأذن لبعض الكلمات أن يبدأ بالساكن من الناحية النظرية, ومن ذلك أداة التعريف التي يروى فيها ابن مالك أن "أل حرف تعريف أو اللام فقط" فتكون اللام فقط هي أداة التعريف بجعلها ساكنة في بداية الكلمة المعرفة, ومن ذلك أمر الثلاثي كاضرب, وأمر الخماسي كانطلق, وأمر السداسي كاستخرج, ومصادر الخماسي والسداسي كانطلاق واستخراج, وغير ذلك من الكلمات المحفوظة. ولقد اصطلح الإملائيون على أن يضعوا قبل الحرف الساكن الذي تبدأ به هذه الكلمات ألفًا لا صلة لها بتركيب الكلمة نظريًّا, ولا ينطقها عمليًّا, ولا معنى لها إلا الدلالة على الموقع المعين الذي كتبت لتدل عليه مثلها في ذلك مثل: الألف التي تكتب أمام واو الجماعة في نحو: "ضربوا" و"قاموا" و"قعدوا", فالألفان ليستا من بنية الكلمة, والألفان لا تنطقان, ولكن إحداهما تتقدَّم الساكن الذي بدأت به الكلمة لتدل عليه, وثانينتهما تتلو الواو التي أسند إليها الفعل لتدل عليها, وعلى أنها واو الجماعة, وليست واو الجمع التي حذفت النون بعدها للإضافة, ويظهر ذلك من موازنة: "ضاربوا زيدًا" و"ضاربو زيدٍ". يسمح نظام اللغة إذًا بالبدء بالساكن, ولكن السياق الاستعمالي "أي: الكلامي" يكره توالي الصمت والسكون: الصمت الذي سبق الكلام مباشرة, والسكون الذي اتصف به الحرف الساكن الذي بدأت به الكلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فحين تواليا -وكلاهما "سكون"- أصبحا في نظر الذوق العربي أشبه ما يكونان بالتقاء الساكنين الذي ترى مطالب الاستعمال أنه ينبغي التخلص منه. ومن هنا جاءت اللغة بقاعدة فرعية لهذا الموقع فقالت: "إنه لا يجوز الابتداء بالساكن", والمقصود هنا في الاستعمال, أما في نظام اللغة فهو موجود فعلًا, والكلمات في نظام اللغة تبدأ بالساكن. ومعنى هذا أن بعض الكلمات يبدأ بحرف ساكن, وأنه ينبغي للمتكلِّم أن يتحاشى النطق بالكلمة على الصورة التي قرَّرَها لها نظام اللغة, وعلى المتكلِّم في هذه الحالة أن يتوصَّل إلى النطق بهذا الساكن الذي بدأت به الكلمة بواسطة وسيلة صوتية طارئة ليست من بنية الكلمة, وقد جاءت همزة الوصل في الكلام لتكون وسيلة هذا التوصُّل إلى النطق بالساكن, فمثلها في النطق وعدم حسبانها في البنية مثل الألف في الكتابة وعدم حسبانها في البنية أيضًا. والمعنى الي نأخذه من هذا الشرح هو أن الزوائد في "استفعل" هي السين والتاء فقط, وليست الألف إلّا وسيلة إملائية, كما أن الهمزة المكسورة في النطق وسيلة نطقية في بداية الصيغة, ويترتَّب على ذلك أن تكون الزيادة في "انفعل" هي النون الساكنة فقط. فإذا وقعت إحدى الكلمات المبدوءة بالساكن حسب نظام البنية في أول الكلام قدَّمَ المتكلِّم لنطقها بهمزة تسمَّى همزة الوصل, تتنوع حركاتها بحسب ظاهرة المناسبة كما بينته كتب الصرف, أما إذا وقعت هذه الكلمة في وسط الكلام فلن تكون هناك حاجة إلى الهمزة؛ لأن الحرف الأخير في الكلمة السابقة التي تلاها الساكن المذكور مباشرة سيقوم بتحمُّل وظيفة الوصل بواسطة الحركة التي يشكل بها, فيقوم هو مقام الهمزة, وتقوم حركته مقام حركة الهمزة. فكلمة "المؤلف" حين يبدأ بها الكلام تتحمل الهمزة, ولكن الهمزة نفسها تختفي في وسط الكلام في نحو: "قال المؤلف", ويحل لام قال وحركته محلها ومحل حركتها. ومن ذلك أيضًا أن الكلمة المعرَّفة بلام التعريف إذا كانت هي نفسها مبدوءة بالساكن مثل كلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 "استقلال", فإن لام التعريف الساكنة الداخلة على الكلمة تصبح وسيلةً للتوصُّل إلى النطق بالسين التي في بداية "استقلال", وبذا تصبح أداة التعريف متحركة غير ساكنة, وتنطق الكلمة على صورة "لستقلال", فمطالب السياق هنا غيَّرت صورة الرمز وأبقت على وظيفته, فصيّرت الأداة "ل" بدل "ال", ولكن التعريف هو الوظيفة في الحالتين. والوظيفة التي تدل عليها همزة الوصل أينما وجدت في بداية الكلام هي أنها علامة على هذه البداية -بداية النطق- وليس بداية الجملة بالضرورة, وهذه دون شك دلالة على الموقع تجعل الهمزة ذات صلة بالهيكل العام للمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 6- الإدغام : أشرنا من قبل إلى أن النظام قد يصادف مشاكل في تطبيقه حين يتعارض مع مطالب السياق, فالتعارض بين قواعد النظام ومطالب السياق أمر مألوف في اللغات جميعًا, وهو مألوف في اللغة العربية أيضًا, ولقد مثَّلنا من قبل بالتقاء الدال الساكنة والتاء بعدها, فالنظام يقول: إن الدال الساكنة مجهورة, وينبغي أن تظلَّ كذلك باطِّراد, ولكن السياق الذي جاء بعدها بالتاء له مطالب في هذا الموقع تتعارض مع قاعدة النظام, فالسياق هنا يتطلّب الإدغام الذي يصيِّر الدال الساكنة وبعدها التاء على صورة تاء مشددة. ولقد اهتمّ سيبويه بظاهرة الإدغام هذه حتى جعلها مناط دراسته للأصوات العربية كلها, وسنحاول فيما يلي أن نلخص نظرة سيبويه إلى ظاهرة الإدغام تلخيصًا يقربها إلى طريقة التناول الحديثة للظواهر الموقعية, ويذهب ببعض ما في أسلوب سيبويه من غموض وتعقيد يصادفهما القارئ أحيانًا. الإدغام في نظر سيبويه أنواع: أ- الإدغام في الحروفين اللذين تضع لسانك لهما موضعًا واحدًا لا يزول عنه -كالميم بعد الميم في كلمتين متتالتين. ب- الإدغام في الحروف المتقاربة التي هي من مخرج واحد أو من مخرجين متقاربين -كالجيم بعد الشين والباء بعد النون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 جـ- الإدغام في حروف طرف اللسان والثنايا -كالدال بعد الطاء, والثاء بعد التاء, والضاد بعد التاء. د- الحرف الذي يضارع به حرف من موضعه أو من غير موضعه كالدال بعد الصاد أو الشين أو الجيم. هـ- قلب السين صادًا في بعض اللغات لوجود القاف بعدها في كلمة واحدة. و الشاذّ الذي خفَّفوه على ألسنتهم وليس بمطَّرد. وفيما يلي بيان كل نوع على حدة: أ- المثلان: وضع سيبويه لإدغام المثلين عللًا وأصولًا ترجع في النهاية إلى ما أطلقنا عليه ظاهرة "كراهية التقاء الأضداد والأمثال" التي تسيطر على الذوق العربي في الصوغ السياقي, والأصل الذي يرجع إليه سيبويه في ذلك ما عبَّر عنه بقوله: "كلما توالت الحركات أكثر كان الإدغام أحسن", فاللغة العربية تكره توالي المتحركات في الكلام وتأباه في الكلمة الواحدة إذا زادت المتحركات على أربعة حروف, ويتضح هذا حين نعرب كلمة "ضربتُ" حيث نقول: إن الفعل هنا مبني على السكون منعًا لتوالي أربعة متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة. ولكن اللغة على أية حال اغتفرت توالي أربعة متحركات في حالات قليلة منها لفظ "عُلَبِط" قال سيبويه: "ولا يكون ذلك في غير المحذوف", وربما قصد بهذه العبارة أن توالي المتحركات الأربعة ربما أنبأ عن ساكن محذوف, وربما كانت هذه الكلمة في الأصل "علابط" فحذفت منها الألف. وواضح أن القول بأن توسُّط الألف بين اللام والباء هو اعتراض ساكن بين متحركين, بمعنى أن الألف "ساكنة" يحمل في طيه إما جرثومة فكرة عروضية حيث يمكن تمثيل الألف والمتحرك الذي قبلها بالزمر "-5", وإما فكرة منطقية تقضي بأن الألف هنا ما دامت لا يمكن أن تصفها بالحركة فلا بُدَّ أن تكون ساكنة, والنتيجة في كلتا الحالتين أن توسُّط الألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 بين اللام والباء في علابط يجعل الأمر مختلفًا والكلمة مقبولة، أما من وجهة نظرنا: فالألف "حركة طويلة", والحركة لا توصف بالحركة ولا بالسكون. وهنا يصف سيبويه أربعة أنساق من الحروف المتحركة يمكننا أن نمثلها على طريقة رموز العروضيين بأن نجعل الحرف المتحرّك على صورة "-" والساكن على صورة "5" فنرمز إليها كما يأتي, والإدغام هنا للمثلين: أولًا: "-----= --5--" حيث توالت حروف خمسة متحركة أدغم ثالثها في رابعها, وهذه أحسن حالات الإدغام, ومن أمثلتها جَعَلَ لَكَ = جَعَلْ لكَ, وفَعَلَ لَبيد = فَعَلْ لَبيد, والبيان أي: التحريك في ذلك عربي جيد وحجازي كما يزعم سيبويه. ثانيًا: "----5 = -5-5" سبق أن المثلين بمتحرك واحد فقط, وتلى الثاني بساكنٍ فأصبح الإدغام حسنًا, وذلك مثل: يَدُ دَاوُدَ = يدْ دَاوُدَ ثالثًا: "مد - - = مد 5 -" التقى المثلان المتحركان وقبل أولهما حرف مد, فأصبح الإدغام حسنًا والبيان أحسن, ويعلل سيبويه ذلك بأن حرف المد عند اعتبار الإدغام يكون بمنزلة المتحرك, وذلك نحو: المالُ لَكَ = المالْ لَكَ, ومثله: أتحاجوني - ولا الضالين - راد - تظلميني, ويظهر أن الواو والياء اللينتين المشكلتين بالسكون تعاملان في هذه الحالة معاملة واو المد ويائه على نحو ما في الأمثلة التي أوردها سيبويه, إلّا إذا كانت مدغمة فهما بعدها نحو: وليُّ يَزيد = وليْ يزيد, وعدو وكيد = عدو وكيد, ولذلك تسري القاعدة نفسها على أُصَيْم تصغير أصم, ودويبة تصغير دابة, وثوب بكر= ثوبْ بكر, أما الياء والواو المتحركتان فتعاملان معاملة الحروف الصحاح. رابعًا: "5- - = 5 اختلاس-" فإذا سبق المثلان المتحركان بساكن, ففي الإخفاء باختلاس حركة المتحرك الأول وليس فيه الإدغام بسكون ما قبله, وذلك نحو: ابنُ نُوح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 واسمُ موسى, ودلوْ واقد, وظبي ياسر, وولي يزيد, وعدوّ وليد. ويدلل سيبويه بعد ذلك على إخفاء المتحرك الأول من هذين المثلين بأمثلة تتصل بالبند "ثالثًا" السابق منها. وإني بما قد كلفتني عشيرتي ... من الذب عن أعراضها لحقيق وقول غيلان بن حريث: وامتاح مني حلبات الهاجم ... شأو مدلّ سابق اللهامم وقال أيضًا: وغير سفع مُثّل يحامم فالأمر في هذه الشواهد أمر إخفاء لا إسكان ولا إدغام؛ لأنه لو سكَّن وأدغم لانكسر الشعر, ولكن الشاهد الأول لو ورد تركيبه في النثر لجاز فيه الإدغام بحسب قاعدة البند "ثالثًا", ولا يجوز في النثر الإدغام في اللهامم والقرادد واليحامم؛ لأن لام ميزانها الصرفي تتكرر في المفرد, ومن ثَمَّ يلزم تكرارها في الجمع بخلاف الهوام؛ لأن ميميها ليستا لامين في الميزان الصرفي. خامسًا: "- ُووَ" وكذلك "- يِ يَ" لا إدغام في هذه الحالة نحو: ادعوا واقدًا, واظلمي ياسرًا, فيترك المد على حاله في الانفصال. سادسًا: "-يْ يَ" وكذلك "-وْ وَ" فيه الإدغام نحو: اخشى ياسرًا, واخشوا واقدًا؛ لأن الباء والواو هنا ليستا حرفي مد. سابعًا: "نحو: اقتتلوا ويقتتلان" فيه الإظهار والإخفاء ولا إدغام إلّا عند بعض العرب الذين يقولون: قتلوا يقتلون ومنه: {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُون} أو يقولون: قتَّلوا. هذا ما يرويه سيبويه من إدغام الحرفين اللذين تضع لسانك لهما موضعًا واحدًا لا يزول عنه, وواضح هنا من الأمثلة والشواهد التي جاء بها سيبويه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أنه ينظر إلى ذلك في الكلمة الواحدة كما ينظر إليه في الكلمتين؛ إذ تتواليان فيكون المثلان آخر أولاهما وأول ثانيتهما, فما يورده من قواعد الإدغام هنا صادق على نسق البنية المفردة كما هو صادق على نسق السياق, ويمكن النظر إلى كلا النسقين من وجهة نظر الإدغام الناشئ عن كراهية التقاء المثلين. ب- المتقاربان: ثم يتكلَّم سيبويه عن النوع الثاني من أنواع الإدغام وهو الإدغام في الحروف المتقاربة التي هي من مخرج واحد أو من مخارج متقاربة, فيضع للإظهار ثلاثة ضوابط كما يأتي: 1- الإظهار في الحروف التي من مخرج واحد وليست بأمثال أحسن؛ لأنها قد اختلفت "ونظام اللغة يجب التخالف". 2- والإظهار في المختلفة المخارج أحسن لأنها أشد تباعدًا "والحالة هنا حالة تخالف أيضًا". 3- كلما تباعدت المخارج ازداد الإظهار حسنًا "وهذا بسبب تفضيل التحالف كذلك". ثم يقسِّم الإدغام في هذا المجال إلى ثلاثة أقسامٍ بحسب سلوك مجموعات الحروف: 1- فمن الحروف ما لا يدغم في مقاربه ولا يدغم فيه مقاربه, كما لم يدغم من قبل في مثله "ء اوي". 2- ومن الحروف ما لا يدغم في مقاربه ولكن يدغم فيه مقاربه "م ف ر ش". 3- ومن الحروف ما يدغم في مقاربه ويدغم فيه مقاربه. فأما الطائفة الأولى التي تأبى الإدغام في جميع صوره فهي "ء اوي" والهمزة بخصوصها من هذه المجموعة إذا استثقلت لم يكن تخفيفها بواسطة الإدغام, وإنما يكون بطرق أخرى يشملها التغيير أو الحذف, ولعل سيبويه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 يستعمل كلمة التغيير هنا عمدًا ليشمل بها القلب والإبدال والتسهيل, وأما الألف فإنها لا تدغم في غيرها مطلقًا, ولكن سيبويه ينص على الهاء بصفة خاصة لما بينها وبين الألف من صلة قربى في نظره. والواو والياء لا تدغمان فيما يقاربهما حتى لو سبقتهما الفتحة فصارتا مظنَّة الإدغام لكونهما أصبحتا حرفي لين لا حرفي مد, وقد مثَّل سيبويه لذلك بأمثلة هي: رأيت قاضي جابر, ودلو مالك, وغلامي جابر, وأخرج ياسر. والإدغام ممتنع من باب أولى إذا كانت الياء والواو مدًّا نحو: ظلموا مالكًا, واظلمي جابرًا. وأما الطائفة الثانية "التي لا تدغم في مقاربها, ولكن يدغم فيها مقاربها" فيه أربعة حروف أيضًا هي: "م ف ر ش"؛ فالميم لا تدغم في الباء نحو: أكرم به, بل إن النون تصير إليها قبل الباء نحو: "العنبر" و"من بدا لك", ولكن الباء تدغم في الميم نحو: "اصحمَّطرًا = اصحب مطرًا". والفاء لا تدغم في الباء, قال سيبويه: لأنها من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا وانحدرت إلى الفم, وقد قاربت من الثنايا محرج الثاء فلم تدغم فيما لا تدغم فيه الثاء نحو: "اعرف بدرًا", ولكن الباء قد تدغم في الفاء للتقارب ولأنها قد ضارعت الثاء فقويت على ذلك لكثرة الإدغام في حروف الفم؛ نحو قولك: "إذهفِّي ذلك = إذهب في ذلك". والراء لا تدغم في اللام ولا في النون لأنها مكررة, وهي تَفَشَّى, إذا كان معها غيرها فكرهوا أن يجحفوا بها بإدغامها فيما لا يتفشَّى ولا يكرر "ويقوى ذلك أن الطاء وهي مطبقة لا تجعل مع التاء تاء خالصة؛ لأنها أفضل منها بالإطباق", وذلك قولك: "اجبر لبطة" و"اختر نقلًا", ولكن قد تدغم اللام والنون مع الراء نحو: "هرَّأيت = هل رأيت", و"مرَّ أيت= من رأيت". والشين لا تدغم في الجيم لأن الشين استطال مخرجها لرخاوتها حتى اتصل بمخرج الطاء فصارت منزلتها منها منزلة الفاء من الباء, فاجتمع هذا والتفشِّي فكرهوا أن يدغموها في الجيم كقولك: "افرش جبلة", ولكن تدغم الجيم في الشين كما أدغمت اللام والنون في الراء نحو: "أخر شيئًا =أخرج شيئًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وأما الطائفة الثالثة المقاربة التي يدغم بعضها في بعض فبيانها كما يلي: 1- الهاء والحاء: ويقعان من حيث التقدم والتأخُّر على صورتين: هـ ح = ح ح نحو: اجْبَحَّمَلا= اجبه حملا, فالإدغام حسن لقرب المخرجين واتفاقهما في الهمس والرخاوة, ولكن البيان أحسن لاختلاف المخرجين وتأبي حروف الحلق على الإدغام. ح هـ = ح هـ, فلا تدغم الحاء في الهاء نحو: امدح هلالًا؛ لأن ما كان أقرب إلى حروف الفم كان أقوى على الإدغام. 2- الهاء والعين: ويقعان من حيث التقدم والتأخر على صورتين أيضًا: هـ ع = ح ح نحو: إجْبَحِّنَبَة= إجبه عنبة, ولكن البيان بعدم الإدغام أحسن؛ لأن الهاء لا تدغم في العين لمخالفتها إياها في الهمس والرخاوة, ولما سبق من أن حروف الحلق تتأبى على الإدغام. ع هـ = ح ح نحو: اقطحلالًا= اقطع هلالًا؛ لقرب المخرجين؛ ولأن الأقرب إلى الفم لا يدغم فيما وراءه, ولكن البيان أحسن. 3- العين والحاء: ويقعان من حيث التقدم والتأخر كذلك على صورتين: ع ح = ح ح نحو: اقطحَّمَلا= اقطع حملا, والإدغام هنا حسن لأنهما من مخرج واحد, والبيان حسن كذلك. ح ع = ح ح نحو: امد حرفة = امدح عرفة, ولكن البيان أحسن، ويلاحظ أن الحاءين المدغمتين أو بعبارة أخرى: الحاء المشددة هي الصورة التي تحققت بها المقاربات في خمس من الحالات الست الماضية. وأن الهجات الحديثة العامية تفضل العين المشددة كلما كانت العين ثانية المتقاربين, وذلك نحو: اجبَّعنبة= اجبة عنة, وامد عّرفة= امدح عرفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 4- الغين والخاء: ونجدهما كذلك على صورتين: غ خ= خ خ, نحو: ادْ مَخَّلَفَا= ادمغ خلفًا, وهذا الإدغام حسن ولكن البيان أحسن. خ غ = غ غ, نحو: اسْلُغَّنَمك= اسلخ غنمك, ولكن البيان أحسن؛ لأن الغين مجهورة وهما من حروف الحلق التي تتأبى على الإدغام. 5- القاف والكاف: وهما على صورتين: ق ك= ك ك, نحو: الحَكَّلَدة= الحق كلدة, لقرب المخرجين وكونهما من حروف اللسان واتفاقهما في الشدة, ولكن البيان يتساوى في الحسن مع الإدغام. ك ق = ق ق, نحو: انْهَقَّطنَا= انهك قطنًا, فالإدغام حسن هنا لقرب مخرجهما إلى الحلق فشبهت بالخاء مع الغين, ولكن البيان أحسن. 6- الجيم والشين: سبق أن قرر سيبويه أن نسق "ش ج" لا إدغام فيه نحو: "افرش جيلة" أما الصورة الأخرى أي: ج ش = ش ش, نحو ابْعَشَّبَثِّا= ابعج شيئًا, فالإدغام حسن؛ لأنهما من مخرج واحد وهما من حروف وسط اللسان, ولكن البيان يساوي ذلك في الحسن. 7- اللام والراء: قضت إشارة إلى امتناع الإدغام في "ر ل" نحو: "اجبر لبطةً" ولكن ل ر= ر ر نحو: اشغَرَّجَبَةً= اشغل رجبة, والإدغام هنا أحسن والبيان حسن. 8- النون والراء: مضى قول سيبويه: إن الراء لا تدغم في النون نحو: اختر نقلًا, ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ن ر= ر ر نحو: مَرَّأيت= مَنْ رَأَيْتَ, فالإدغام لقرب المخرجين على طرف اللسان والتماثل في الشدة, ويكون هذا الإدغام بغنَّة وبلاغنة. 9- النون واللام: أما إذا تقدَّمت اللام على النون فلا إدغام في ذلك حسب ما يأتي تحت رقم 16 فيما بعد, ولكن ن ل = ل ل نحو: ملَّك =من لك, ويكون الإدغام هنا بغنَّة وبغيرها, ويرى سيبويه أن علة الإدغام قرب النون من اللام على طرف اللسان. 10- النون والميم: لا إدغام عند تقدُّم الميم بحسب ما يأتي تحت رقم 16 فيما بعد ولكن ن م = م م والإدغام هنا لأن صوتهما واحد ولاتفاقهما في الجهر والخروج من الخياشيم, وذلك لك نحو: مما= من ما, وكذلك: ممعك= من معك. 11- النون والباء: لا إدغام عند تقدم الباء حسب ما يأتي تحت رقم16, ولكن ن ب= م ب نحو: ممبك= من بك, وعمبر= عنبر, فنقلب النون ميمًا ولم يجعلوها باء لبعدها في المخرج, وأنها ليس فيها غنة, فأبدلوا في مكانها أشبه الحروف بالنون وبالباء وهو الميم. 12- النون والواو: لا إدغام عند تقدُّم الواو حسب ما يأتي تحت رقم 16 ن و= وو نحو موجد= من وجد, والإدغام هنا بغنة أو بغيرها؛ لأن الواو من مخرج ما أدغمت فيه النون وهو الباء والميم. 13- النون والياء: لا إدغام حيث تتقدَّم الياء حسب ما يأتي تحت رقم 16 ولكن: ن ي= ي ي, نحو: ميَّكون= من يكون, والإدغام هنا لأن الياء أخت الواو, وهو يكون بغنَّة وبغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 14- النون وحروف الفم: لا إدغام عند تقدُّم أحد هذه الحروف على نحو ما تحت رقم16 ولكن: ن ثم أي حرف فموي= إخفاء النون بجعلها غنة متفقة في التوقيت مع وضع اللسان في مخرج حرف الفم الذي يأتي بعد النون, وإطالة مدة النطق بهذا الحرف المصاحب للغنة حتى يصير بمقدار حرفين أولهما ساكن والثاني متحرك, وذلك نحو: من جاء ومن كان ومن قال. 15- النون وحروف الحلق: فيها البيان دون الإدغام. 16- جميع الحروف ثم النون: فيها البيان دون الإدغام إلّا اللام في هنَّري= هل نرى, فيجوز فيها الإدغام والبيان أحسن. 17- لام التعريف: تدغم في ت ث د ذ ر ز ش ص ط ظ ل ن, وتسمَّى شمسية ولا تدغم في البواقي, وتسمَّى حينئذ قمرية. 18- لام غير التعريف: كما في وبل مع بقية الحروف: الإدغام في بعضها حسن مثل: الراء والطاء والدال والتاء والصاد والزاي والسين وكذلك الظاء والثاء والذال, وهو أضعف من السوابق, وهو أضعف من ذلك مع الضاد والشين, ومثاله: هرَّ أيت, ونحو: تقول إذا استهلكت مالًا للذة ... فكيهة هَشَّئٌ بكفيك لائق فدع دا ولكن هتُّعِينُ منيما ... على ضوء برق آخر اللين ناصب والنون إدغامها فيها أقبح: وعند النظر في العلل التي جاء بها سيبويه للإدغام والإظهار في هذه المقاربات يستطيع المتأمل أن يستخلص القاعدة التي تختفي وراء إدغام المقاربات, ويمكن تلخيص هذه القاعدة فيما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 1- من الظروف المناسبة للإدغام أن يتقارب مخرجا الحرفين المتتاليين أو أن يتفق هذا الحرفان في الصفة, والمقصود بالصفة هنا طريقة النطق كالشدة والرخاوة, أو القيمة الصوتية كالتنغيم والترقيق, أو وضع الصوت كالجهر والهمس. 2- مما يكثر فيه الإدغام أن يكون بين حروف الفم, ويعبر سيبويه عن ذلك بقوله: إن حروف الفم أصل في الإدغام, ومعنى ذلك: أن الحروف غير الفموية أقل تعرضًا للإدغام, والمقصد بالفم هنا من الغار إلى اللهاة. 3- لا يتمّ الإدغام بين حروف اللسان وحروف الحلق, وربما كان ذلك راجعًا إلى عدم تقارب المخارج فهو على عكس ما في رقم1. 4- إذا تجاور حرفان من غير حروف الفم فإن أقربهما إلى الفم لا يدغم في أبعدهما منه, أما العكس فإنه يدغم كما في نسق "هـ ع" حيث تدغم الهاء في العين سالفة عليها أو لاحقة بها, فيكون الإدغام في الحالتين على صورة "ح ح". "حـ" حروف طرف اللسان والثنايا: وأما النوع الثالث من أنواع الإدغام وهو الإدغام في حروف اللسان والثنايا فهو كثير مطرد, ولكن البيان في بعضها مسموع أو أكثر أو أمثل, فإذا جعلنا ثاني الحرفين المتجاورين هو العنوان حصلن على أحد عشر مدخلًا لدراسة هذا النوع من الإدغام، ولكن قبل أن نحصي هذه الحالات يجدر بنا أن نشير إلى بعض القواعد الهامة التي جاء سيبويه مثل: أ- الحروف "ز س ص" لا تدغم في الحروف "ت ث د ذ ط ظ", وإن أدغمت هي فيها. ب- الحروف نفسها "ز س ص" لا تدغم في "ض" ولا يدغم هو فيها. جـ- ما أدغمته من حروف طرف اللسان وهو ساكن يدغم وهو متحرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وهو متحرك كما يحدث للمثلين, وهو كالمثلين حسنًا وقبحًا وإخفاءً كذلك. د- تاء الافتعال بعد "ث د ذ ز ص ض ط ظ" تدغم فيما قبلها أو تتحول إلى دال بعد "د ذ ز", وإلى طاء بعد الأربعة المطبقة, وكون هذه التاء تدغم فيما قبلها هو عكس ما تقرره القاعدة رقم "هـ", وهي تقول: هـ- الأصل في الإدغام أن يجعل الأول من جنس الآخر. وبعد هذه المقدمة يمكننا الآن أن نورد المداخل الأحد عشر التي ذكرناها, جاعلين ثاني الحرفين عنوانًا, وأولهما هو التفصيل الذي تحت هذا العنوان: 1- الثاء وما يسبقها: ظ ث= ث ث نحو: احفظ ثابتًا, والإدغام أكثر وأجود. د ث= ث ث نحو: خذ ثابتًا, والإدغام أكثر وأجود. ت ث= ث ث نحو: انعت ثابتًا. 2- الذال وما يسبقها: ظ ز= ذ ذ نحو: احفظ ذلك, والإدغام أكثر وأجود. ث ذ= ذ ذ نحو: ابعث ذلك, والإدغام أكثر وأجود. د ذ = ذ ذ نحو: أبعد ذلك. 3- الظاء وما يسبقها: ذ ظ= ظ ظ نحو: خذ ظالمًا. ث ظ= ظ ظ نحو: ابعث ظالمًا. ط ظ= ظ ظ نحو: اهبط ظاهرًا. 4- السين وما يسبقها: ص س= س س نحو: افحص سالمًا. ز س= س س نحو: رز سليمًا. ت س= س س نحو: ذهبت سلمى, والبيان عربي حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 د س= س س نحو: قد سمعت, والبيان عربي حسن. ث س= س س نحو: ابعث سلمة. ز س= س س نحو: مذ ساعة, والبيان أمثل. ظ س= س س نحو: احفظ سلمة. 5- الزاي وما يسبقها: ص ز= ز ز نحو: افحص زهرة. س ز= ز ز نحو: احبس زهيرًا. ط ز= ز ز نحو: اضبط زهيرًا, والبيان عربي حسن. ظ ز= ز ز نحو: احفظ زهيرًا. ذ ز= ز ر نحو: مذ زمان. 6- الصاد وما يسبقها: س ص= ص ص نحو: احبس صابرًا. ت ص= ص ص نحو: انعت صابرًا. ذ ص= ص ص نحو: خذ صابرًا. ز ص= ص ص نحو: أوجز صادقًا. 7- الدال وما يسبقها: ت د= د د نحو: انعت داود, والبيان جائز. ذ د= د د نحو: خذ داود. ط د= د د نحو: اضبط دخلك, والبيان جائز. 8- الطاء وما يسبقها: د ط= ط ط نحو: انقد طالبًا, والبيان جائز. ت ط= ط ط نحو: انعت طالبًا. ظ ظ= ط ط نحو: احفظ طالبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 9- التاء وما يسبقها: د ت= ت ت نحو: انقد تلك, والبيان جائز. ث ت= ت ت نحو: ابعث تلك. ط ت= ث ت نحو: انقط تاء الكلمة, والبيان جائز. 10- الضاد وما يسبقها: ط ض= ض ض نحو: خالط ضيفك. ت ض= ض ض نحو: ثار فضجت ضجة ركائبه. ظ ض= ض ض نحو: احفظ ضيفك. ذ ض= ض ض نحو: خذ ضيفك. ث ض= ض ض نحو: ابعث ضيفك. 11- الشين وما يسبقها: ط ش= ش ش نحو: اضبط شاكرًا. ت ش= ش ش نحو: انعت شاكرًا. د ش= ش ش نحو: انقد شاكرًا. ض ش= ش ش نحو: عارض شاكرًا. ظ ش= ش ش نحو: احفظ شاكرًا, والبيان عربيٌّ جيد. ذ ش= ش ش نحو: خذ شاكرًا. ث ش= ش ش نحو: ابعث شاكرًا. لقد ذكرنا من قبل خمس قواعد جاء بها سيبويه بمناسبة إدغام حروف اللسان والثنايا, وقد كانت القاعدة الرابعة منها تدور حول تاء الافتعال وما تدغم به من الحروف. وإذا أردنا أن نبيِّن المقصود بهذه القاعدة فخير ما نفعله في ذلك هو الإتيان بالأمثلة, وقد أورد سيبويه أمثلة يمكن أن نقدمها على الصورة الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وقد شبه بعض العرب الأربعة المطبقة في غير الافتعال بها في الافتعال فقالوا: فحصط برجلي وضبطه وحفطه، وقال علقمة بن عبدة: وفي كل حي قد خبط بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب وهنا موضع يكون الإدغام فيه أقوى من البيان, وهو أن تسكن التاء وتتلوها "ث د ذ ز ط" نحو: ادارأتم, واثّاقلتم, واذَّكر, وازَّين, واطوَّع, وقد سبق لنا في المداخل السالفة أن بينَّا حكم الإدغام في هذه المواقع. د- الحرف الذي يضارع به حرف من موضعه أو من غيره: أما النوع الرابع من الإدغام فهو حسب عبارة سيبويه "الحرف الذي يضارع به حرف من موضعه, والحرف الذي يضارع به ذلك الحرف وليس من موضعه", وملخص ذلك أن الصاد والشين والجيم إذا تلتها الدال ألحق بها نوع من الإدغام يتناول الصفة ولا يتناول المخرج؛ لأن المخرج في كل الأحوال مقارب ولا يتغير, فالصاد والشين يلحقهما الجهر والجيم تلحقها الرخاوة إذا جاءت الدال بعدهن, مثال ذلك: مصدر مزد "بتفخيم الزاي". أشدق أجدق أجدر أجدر وقد يضارعون بالصاد الساكنة قبل الدال صادات متحركة لا تتبعها الدال كما في "مصادر مزادر" و"صراط زراط". هـ- قلب السين صادًا في بعض اللغات لوجود القاف أو الغين أو الخاء بعدها في كلمة واحدة: وذلك نحو: صقت وصبقت والصملق وصالغ وصلخ, وذلك كما قالوا في ساطع صاطع لقرب المخرجين والإطباق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 و الشاذ الذي خفَّفوا به على ألسنتهم وليس بمطرد: وذلك نحو: ستٌّ= سدس, وكأنه مر بمرحلة كان فيها سِدْتٌ, وعند تميم وَدٌّ= وتد "عند الحجازيين" ضارعوا به فخذًًا فأدغموا أَحَسْتُ= أَحْسَسْتُ مَسْتُ= مَسَسْتُ ظَلْتُ= ظَلَلْتُ يسطيع= يستطيع تَقَيْتُ= اتَّقَيْتُ يَتَقِي= يَتَّقي يَتَسع= يَتَّسِع قال بعضهم: استخذ= اتخذ الطجع= اضطجع1 يستيع= يستطيع بلعنبر= بنو العنبر بلحارث= بنو الحارث عَلْمَاء= على الماء   1 أغلب الظن أن الشبه في المخرج والتفخيم بين اللام في هذا الموضع وبين الضاد المظهرة قبل الطاء جعل النحاة يخلطون بينهما في السمع, وأن تكوين الكلمة في الحالتين هو "اضجع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 7- التخلص لقد عرفنا أن السكون وحدة في النظام الصوتي للغة العربية يقف في مقابل الحركة أيًّا كانت هذه الحركة فتحة أو كسرة أو ضمة فيكون بينهما قيمة خلافية, فالنظام الصوتي يشتمل على السكون بهذا الوصف. وهو يشتمل على السكون أيضًا في القواعد الصوتية الخاصة نحو: "ليس في اللغة ابتداء النطق بالساكن" و"ليس في اللغة التقاء الساكنين" و"من قواعد اللغة الوقف بالسكون" وهلمَّ جرا. ويشتمل النظام الصوتي على ظواهر تتحقق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 بإسكان حرف من الحروف؛ كالتصغير يتحقق بياء ساكنة, ويشتمل النظام النحوي على ظواهر تتحقق بالإسكان كبناء بعض الصيغ والكلمات على السكون. ومعنى كل ذلك أن النظام الغوي في صوره المختلفة الصوتية والصرفية والنحوية يقرر السكون علامة على وظائف لا تؤدى إلّا به. ولكن السياق كما ذكرنا من قبل ديناميكي متحرك, ويأتي عن حركته أن تكون له بعض المطالب, فقد تكون الكلمة السابقة مبنية على السكون والكلمة اللاحقة مبدوءة بحرف ساكن كما في قولك: "اعرض اقتراحك" فالكلمة الثانية تبدأ بحرف ساكن هو القاف, وليست الألف التي قبلها إلّا علامة إملائية على الوصل ولا تنطق الألف هنا, وإنما ينتقل المتكلم من الضاد إلى القاف بواسطة كسرة التخلص. وقد تكون الكلمة السابقة مجزومة بالسكون واللاحقة مبدوءة بالساكن نحو: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أو "لم يطل انتظاري", فيتطلب السياق في هذه الحالة شيئًا غير الذي قدَّره النظام؛ لأن النظام قرر السكون, ولكن السياق قرَّر التخلص من هذا السكون, وعمدت اللغة إلى أن تجعل من مطلب السياق قاعدة فرعية خاصة أو نظامًا فرعيًّا ضيقًا يسمَّى التخلص من التقاء الساكنين. وطريقة التخلص من التقاء الساكنين كما رأينا هي كسر أولهما إذا كان صحيحًا -وهذه الكسرة ليست جزءًا من بنية الكلمة وليست جزءًا من هيكلها الحركي, وليست حركة إعرابية لها, ولكنها علامة على موقع معين التقى فيه ساكنان في وسط الكلام, ومن ثَمَّ يكون التخلص من التقاء الساكنين ظاهرة موقعية من ظواهر السياق, وتكون الصلة الوحيدة بينه وبين نظام اللغة هي صلة التعارض وهي صلة سلبية. والمعروف أن اللغة العربية قد تقبل التقاء الساكنين وتغتفره إذا كان هناك من مقررات النظام ما هو أولى بالاعتبار من التقاء الساكنين, وذلك نحو الوقف بالسكون على آخر الكلام وبعده سكون الصمت, وتفادي فك المثلين المتحركين في وسط الكلام, ومن المغتفر أن يلتقي الساكنان في الوقف نحو: قبل -بعد - عين - قوم إلخ. ومن المغتفر كذلك أن يلتقي الساكنان إذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ثانيهما أول مثلين مدغمين, وقد يحدث أن يكون الأول منهما في هذه الحالة حرف لين مشكلًا بالسكون, أو أن يكون حرف مدٍّ وبعدهما في الحالتين حرف مشدد, وذلك نحو: دويبه - مدهامتان- أتحاجوني - ولا الضالين - الحاقة ما الحاقة - الطامة - الصاخة - الصافات, وتصغير هذه الكلمات المؤنثة نحو: حويقّة - طويمة - صويخة - صويفة إلخ, وكذلك قولك: ما النافية، لا الناهية، في الجارة إلخ. وظاهرة التخلص من التقاء الساكنين في السياق تصحب جزءًا من سليقة العربي, وعادة من عاداته النطقية, فإذا تعلَّم لغة أجنبية لا تمنع التقاء الساكنين فإنّ هذا العربي سرعان ما يخضع للعادات النطقية العربية فيسعى إلى التخلص من التقاء الساكنين كلما صادفه, فإذا صادف كلمة مثل: display في اللغة الإنجليزية, فإما ألّا يكون عارفًا بتركيب الكلمة من جزءين هما dis و play وفي هذه الحالة يكسر السين, وإما أن يكون عالمًابذلك فيكسر الباء, ويكون النطق إما في صورة disiplay, وإما في صورة dispilay على الترتيب. وفي الفصحى المعاصرة صورة من صور الاغتفار دعت إليها ضرورة التفريق بين المعاني, ولست أدري ما إذا كانت هذه الصورة مراعاة في القديم أو لا, فإذا قرأنا العبارة الآتية: "ولما وصل الضيف تقدَّم حاملًا العلِمْ إلى المنصَّة" أدركنا أنها يمكن أن تلتبس بعبارة "ولما وصل الضيف تقدمَ حاملَ العلمِ إلى المنصَّة", والشيء الوحيد الذي يمنع هذا اللبس هو مد الألف في كلمة "حاملًا" واغتفار الساكنين في هذا الموضع ونحوه, فهل كان القدماء يفعلون ذلك في إلقائهم الكلام؟ لا أحد يدري. ومثل ذلك ما كنا نسمعه في الإذاعة من قولهم: "سافر مندوبو الرئيس إلى العواصم العربية المختلفة" ليدعو الملوك والرؤساء إلى الالتزام بسياسة عربية واحدة ضد المصالح الأمريكية إذا أعطت أمريكا الأسلحة والطائرات للعدو الصهيوني" فلا يفهم من هذه الجملة "المسموعة" ما إذا كان هناك مندوب واحد أو مندوبون متعددون إلّا بمعونة السياق الأكبر أو اغتفار الساكنين بمد الواو من كلمة "مندوبو الرئيس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 8- الحذف : لا ينبغي لنا أن نفهم الحذف على معنى أن عنصرًا كان موجودًا في الكلام ثُمَّ حذف بعد وجوده, ولكن المعنى الذي يفهم من كلمة الحذف ينبغي أن يكون هو الفارق بين مقررات النظام اللغوي وبين مطالب السياق الكلامي الاستعمالي, فنظام اللغة مثلًا يقرر أن المضارع المرفوع المسند إلى ألف الاثنين أو واو الجماعة ينتهي بنون تسمَّى نون الرفع, ويقرر كذلك أن توكيد المضارع يجري بنون مشددة مركَّبة من عنصرين أولهما نون ساكنة وثانيهما نون متحركة, ولو أنَّ المضارع المسند إلى ألف الاثنين أو واو الجماعة أكد بالنون الثقيلة لكان معنى ذلك أن النظام اللغوي قضى بتوالي ثلاث نونات: نون الرفع ثم "نون ساكنة × نون متحركة = نون مشددة", وهذا مما يصطدم بالذوق العربي الذي يكره توالي الأمثال, ومن هنا يتدخَّل هذا الذوق الاستعمالي بحذف نون الرفع وترك نونين إحداهما ساكنة والأخرى متحركة تبدوان معًا في صورة وحدة صوتية واحدة مشددة. ويعمد الاستعمال إلى اتخاذ هذا الإجراء إجراء مطردًا يحدث كلما حدث الموقع الذي يتطلبه, ومن هنا يكون قاعدة فرعية أو نظامًا فرعيًّا بالنسبة للنظام اللغوي العام. ومن أمثلة ذلك أيضًا أن نظام اللغة يقرر أن التاء حرف من حروف المضارعة, وأن التفاعل يبدأ بتاء زائدة هي تاء التفاعل, ومعنى ذلك أن التفاعل إذا جاء على صورة المضارع المبدوء بالتاء فقد توالت في الفعل تاءان ملحقتان بأوله؛ هما تاء المضارعة وتاء التفاعل, وعندئذ تظهر مطالب الاستعمال التي يكره توالي الأمثال, فتجعل حذف التاء الثانية خير الصياغتين نحو قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَاب} وقول الحديث "لا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ... وكونوا عباد الله إخوانًا" فحذف تاء التفاعل هنا أفضل من الإبقاء عليها. ولكن قد يحدث أيضًا أن تكون فاء الكلمة في هذ المضارع تاء, وعندئذ تتوالى ثلاث تاءات, فيكره الذوق الاستعمالي توالي هذه التاءات الثلاثة, ويصبح حذف تاء التفاعل أمرًا أكثر تفضيلًا وذلك نحو: "ولا تتابعوا في الشر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وليس هذان المثالان كل ما هنالك بالنسبة لهذه الظاهرة. والمهم أن يكون معلومًا هنا أن دراسة هذه الظاهرة "ظاهرة الحذف" هي دراسة لحذف الحروف الصحيحة, أما حروف اللين والمد فإنَّ دراسة حذفها تكون في ظاهرة الإعلال بالحذف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 9- الإسكان : مرة أخرى ليس الإسكان تغييرًا يطرأ على الاستعمال, بمعنى أن تستعمل العرب شيئًا متحركًا ثم تعدل عن الحركة إلى الإسكان, ولكن المقصود بالإسكان هنا: هو فرق ما بين مقررات النظام اللغوي ومطالب السياق الاستعمالي, فالنظام اللغوي يقرر أن الفعل الماضي يُبْنَى على الفتح, وقد أخذ النظام ذلك من الماضي المسند إلى المفرد الغائب الذي اعتبره النحاة صورة قياسية تعتبر نقطة بداية أو أصلًا للنظر إلى كل ما يدل على الفعل الماضي من صيغ تصريف الفعل. ومن الضمائر التي يسند الماضي ضمائر متصلة متحركة أو مبدوءة بحركة, فإذا علمنا أن الصيغة القياسية "فعلَ" تشتمل على حركات ثلاث, وأن الضمير الذي يسند إليه الفعل الماضي قد يكون متحركًا, عرفنا أننا أمام صورة من الصور التي قررها نظام اللغة مما تتوالى فيه أربعة حروف متحركة, وهذه مشكلة من مشاكل التطبيق على نظام اللغة, من هنا يلجأ الذوق الاستعمالي العربي إلى إسكان لام الفعل التي عليها علامة البناء, فيصبح الفعل مبنيًّا على السكون بعد أن كان مبنيًّا على الفتح. يفعل الذوق الاستعمالي ذلك لأنه يكره توالي أربعة متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة, وهذا الإسكان ملحوظ في الإسنادات الآتية: 1- إسناد الماضي إلى تاء المتكلم نحو: ضربتُ. 2- إسناد الماضي إلى تاء المتكلم نحو: ضربنْا. 3- إسناد الماضي إلى تاء المخاطب نحو: ضربْتَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 4- إسناد الماضي إلى تاء المخاطبة نحو: ضربتِ. 5- إسناد الماضي إلى ضمير المخاطبين نحو: ضربتما. 6- إسناد الماضي إلى ضمير المخاطبين نحو: ضربتم. 7- إسناد الماضي إلى ضمير المخاطبات نحو: ضرَبْتُنَّ. 8- إسناد الماضي إلى ضمير الغائبات نحو: ضربن. وكل صيغة من هذه أوجدها الاستعمال كذلك منذ البداية, فلم تكن الصيغة مفتوحة اللام على الألسنة ثم سكنت لأمها, بل الصيغ المفتوحة اللام موجودة أيضًا ويمكن رؤيتها نحو: ضرب، ضربت، ضربا، ضربتا؛ فالنظام يقرر أن الفتح للجميع, والاستعمال يوزع الصيغ بين الفتح والإسكان بحسب كراهية توالي المتحركات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 10- الكمية : المقصود بالكمية اعتبار القيمتين الخلافيتين اللتين تسميان "الطول والقصر"؛ فالطول في الحروف الصحيحة تشديد, والقصر إفراد, والطول في حروف العلة مد, والقصر حركة, وقد سبق لنا أن رأينا هذين الاصطلاحين يتردَّداَن في دراسة المقاطع, فذكرنا أن منها الأقصر والقصير والمتوسط والطويل. وليس يخفى ما للكمية من صلةٍ في التفريق بين الصيغة والصيغة, وبين الكلمة والكلمة, فالفرق بين فَعَلَ وفَعَّلَ فرق في الإفراد والتشديد, والفرق بين فَعَلَ وفَاعَلَ فرق في الحركة والمد, والفرق بين لم ولام فرق في الحركة والمد أيضًا, وبذلك تكون الكمية عظيمة الأهمية في مجال القيم الخلافية في اللغة, ومن ثَمَّ تكون ذات صلة عظيمة بالمعنى, أو على الأصح بالجانب السلبي العدمي من هذا المعنى, أي: إن الجزء السلبي من معنى "لم" أنها ليست "لام", ولا غيرها مما يستبدل بها في التركيب من اللام والحركة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 "أو المد", والميم وأما الجزء الإيجابي من معناها فهو وظيفتها التي تؤديها في إطار اللغة من كونها للنفي والمعاني الأخرى, فالاختلاف في الكمية إذًا يعتبر في قوة مفهوم المخالفة الذي قال به الشافعية وذكرناه في المقدمة. ومما يتصل بالكمية ما يلاحظ في الكلمات المنتهية بألف أو واو أو ياء, وتتلوها كلمات مبدوءة بالساكن على نحو ما سبق في ظاهرة التوصل, وذلك نحو: "الفتى العربي" و"القاضي الفاضل" و"يدعو الله" فالألف في المثال الأول تفقد كميتها وتصبح من ناحية المدة في طول الفتحة, والياء في المثال الثاني تفقد الكمية وتصبح في طول الكسرة, والواو في المثال الثالث تفقد طولها وتصبح في مقدار الضمة. ولقد كان النحاة يلاحظون هذه الظاهرة ويعتبرونها جزءًا من ظاهرة التخلص من التقاء الساكنين ويقولون: إن الألف والواو والياء تحذف للتخلص من التقاء الساكنين, وكأنهم أرادوا القول بأن الحركة الباقية بعد حذف الحروف الثلاثة هي حركة دليل على المحذوف. ولكن الذي يبدو أسلم منهجيًّا في رأيي هو النظر إلى الأمر كله في إطار دراسة ظاهرة الكمية باعتبارها شديدة الصلة بالموقع وبالنبر, ثم بالمعنى في النهاية. وينبغي أن يكون واضحًا تمامًا أن هناك فرقًا عظيمًا جدًّا بين كمية الحرف وبين المدة التي يستغرقها نطق الصوت, والكمية جزء من النمطية اللغوية فهي جزء من النظام, والمدة هي الوقت الذي يستغرقه النطق فهي جزء من تحليل الكلام. والكمية مقابلات وقيم خلافية, ولكن المدة تقاس بالثواني والوحدات الزمنية الأكبر من الثواني, والكمية هي الطول والقصر النسبيين غير المرتبطين بمقاييس الزمان الفلسفي, أما المدة فمرتبطة بالزمان الفلسفي, وأخيرًا قد يكون الحرف مفردًا "أي: قصير الكمية", ولكن مدة نطقه تكون أطول من المشدد "أي: الطويل الكمية" في بعض المواقع, قارن بمدة نطق الكافين في كلمة "شكاك" أي كثير الشك, فمدة المفردة أطول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 11- الإشباع والإضعاف : أقصد بالإشباع تقوية النطق بالصوت وعكسه الإضعاف, وهما يرتبطان بالموقع في السياق, ويمكن بحسب ظاهرة الإشباع والإضعاف أن نرصد للحرف في مكانه من الدفعة الكلامية ثمانية مواقع بيانها كما يلي: 1- بداية النطق كموقع الكاف من كتب. 2- الوسط بين حركتين كموقع التاء من كتب. 3- المشدد في الوسط كموقع اللام من علم. 4- الساكن في الوسط كموقع العين من معلوم. 5- المتحرك بعد ساكن في الوسط كموقع اللام من معلوم. 6- الساكن قبل الآخر المسكن بالوقف كموقع الجيم من استخرجت. 7- الساكن المفرد في آخر الكلام كموقع الباء من اضرب. 8- الساكن المشدد في آخر الكلام كموقع اللام المشددة الساكنة بالوقف من استقلّ. فإذا أردنا أن ننسب إلى الحروف في هذه المواقع إشباعًا فإنه يمكن القول: إن أضعف ما يكون الحرف إنما يكون وسطًا بين حركتين "الموقع رقم2", وأقوى ما يكون إنما يكون ساكنًا مشددًا في آخر الكلام "الموقع رقم8". واختلاف هذه المواقع إشباعًا وإضعافًا في الكلام صادق حتى مع التغاضي عن اعتبارات النبر التي سنشرحها بعد قليل, وينبغي لنا أن نقول هنا: إن ظاهرة الإشباع والإضعاف المذكورة قد تَمَّت دراستها في لهجة عدن المعاصرة, وأن تطبيقها على اللغة العربية الفصحى ينبغي أن يؤخذ مع التسامح, فهو نتيجة ملاحظة دائبة لا تدعمها تجارب آلية كما حدث عند دراستها في لهجة عدن. وربما كانت ظاهرة الإشباع والإضعاف هي التفسير المقبول الوحيد لعدد من الظواهر المفردة المبعثرة في العربية الفصحى وجمعًا لها تحت عنوان واحد وفي إطار ظاهرة واحدة, ومن ذلك ما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 1- يمكن أن نرجع تقسيم الضمائر بين الاتصال والانفصال إلى هذه الظاهرة, فالضمير المنفصل مشبع والضمير المتصل مضعف. 2- ويمكن في حدود الضمائر المنفصلة فقط أن نلاحظ أن الضمير الواحد المنفصل ربما كان له نطقان: نطق مشبع ونطق مضعف بحسب موقعة من الكلام كما يبدو مما يلي: الإشباع الإضعاف الضمير المنفصل الضمير المتصل وهُو وَهْوَ فهُو فَهْوَ لهُو لَهْوَ أهُو أهْو الذي أل -اللذْ هذا ذا هذه - هذى ذي هؤلاء أولاء إياك ك 3- ربما كان للاختلاف في صور بعض الظروف والأدوات تفسير في ضوء هذه الظاهرة كما يلي: منذ مذ لدى - لدن لد لكي كي من م على ع ما "الاستفهامية" م لعل عل لكنَّ وإن وأن الثقيلتان لكنْ وإن وأن المخففتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 3- وكذلك نلاحظ هذه الظاهرة في المقابلات الآتية: ربي رب سوف س، سف، سو يشفيني يشفين همو هم كتابكمو كتابكم كتابي -كتابيه كتابي لم يكن لم يك فَخِذ فَخْذ يأمركم "بالتحريك" يأمركم "بالاختلاس" إن ضم هذه الظواهر المبعثرة في العربية الفصحى تحت عنوان واحد ليجعلها أسهل فهمًا وأوغل في طرق النمطية اللغوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 12- النبر : سبق أن شرحنا قواعد النبر الأَوَّلِي والثانوي, أو بعبارة أخرى: نبر القاعدة أو النبر كما يقع في إطار نظام الصرف صامتًا صمت القاعدة الصرفية. ولقد ذكرنا من قبل كيف يصادف النظام والقواعد التي يتكون منها بعض المشاكل عند التطبيق وذكرنا أن الظواهر السياقية ليست أكثر من حلول صوتية لهذه المشكلات, ونظام النبر الذي شرحنا من قبل يصادف بعض المشكلات في التطبيق كذلك, وتأتي حلول هذه المشكلات في صورة حل صوتي المشكلة هو اختلاف في البنية المقطعية بين ما قررته القاعدة وما تطلبه سياق الكلام. وهنا فقط يعتبر النبر ظاهرة سياقية لأنَّ كل القواعد التي ذكرنا للنبر ليست واحدة منها حلًّا صوتيًّا لمشكلة معينة في موقع معين, وإنما هي نظام النبر في صرف اللغة العربية الفصحى كما يلاحظها المرء عند قراءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 القرآن, وهو الشكل العربي الوحيد للفصحى الذي يشتمل على عنصر التواتر المتعمد. ومن أمثلة هذه الحلول لمشكلات تطبيق النبر ما يأتي: 1- ذكرنا في الكلام عن ظاهرة "التوصّل" أن الكلمة المبدوءة بالساكن إذا وقعت في بداية الكلام توصّل المتكلم إلى الساكن الذي في أولها بواسطة همزة الوصل, وفي هذه الحالة تتغيّر بنية المقطع الأقصر وهو الحرف الساكن الذي بدأت به الكلمة وكان على صورة "ص", وتصبح مقطعًا متوسطًا مقفلًا على صورة "ص ح ص", فالصاد الأولى هي همزة الوصل, والحاء حركتها, والصاد الثانية هي الساكن الذي توصلنا إلى النطق به والذي كان بمفرده مقطعًا مستقلًّا بحسب القاعدة التي في نظام اللغة. والمقطع على صورته الأخيرة "ص ح ص" مقطع كلامي لا لغوي. فإذا جاءت الكلمة وسطًا في الكلام تطلبت حلًّا من طراز آخر, فإذا كان لدينا كلمة "المؤلف" فإنها تبدأ بالهمزة في بداية الكلام في نحو قولك: "المؤلف يقول", وهنا يكون أول مقطع كلامي منها مكونًا من الهمزة والحركة واللام "ص ح ص", ولكن هذه الكلمة في وسط الكلام تختلف عن ذلك. فإذا نظرنا إلى الفعل الماضي "قال" مبنيًّا على الفتح وجدناه مكونا من مقطعين أحدهما "قا" وهو يساوي "ص م" والثاني "ل" وهو يساوي "ص ح", فإذا وضعنا كلمتي: "قال" و"المؤلف" معًا تغيَّرت البنية المقطعية في كلٍّ منهما بحسب مطالب السياق, ويصبح التركيب المقطعي الكلامي مخالفًا للتركيب المقطعي اللغوي الذي شرحناه, وتكون الصورة الكلامية للمقاطع في الكلمتين هي: قا+ لل + م + ؤل + لف والمقطع الثاني هنا هو موضع الظاهرة الموقعية حيث امتد المقطع الكلامي من نهاية كلمة سابقة إلى بداية كلمة لاحقة وحلَّ محل مقطعين من مقاطع نظام اللغة هما لَ، لْ", أي: المقطع الأخير من "قال" والأول من "المؤلف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 2- ذكرنا في الكلام عن ظاهرة "الكمية" أن الكلمات التي تنتهي بالألف أو الواو أو الياء إذا وقعت إحداها قبل كلمة مبدوءة بالساكن, فَقَدَ حرف المد في نهايتها كميته وأصبح بمقدار الحركة من ناحية "المدة" التي يستغرقها النطق بحرف المد. ومعنى ذلك أن البنية المقطعية قد اختلفت بمطالب الكلام عمَّا كانت عليه حسب مقررات القاعدة, فكلمة "القاضي" تنتهي بمقطع "ضي" وهو في كمية "ص م", وكلمة "الفاضل" تبد بمقطع "لْ" وكميتها "ص", وعندما نقول عبارة: "القاضي الفاضل" يتطلب نظام بنية الكلمتين أن يكون المقطعان على صورة "ضي ل" ولكن الياء بحسب ظاهرة الكمية أو كما قال النحاة العرب بحسب التخلص من التقاء الساكنين تفقد كميتها وتصير بمقدار الكسرة, ويصبح المقطعان مقطعًا واحدًا على صورة "ضِلْ" ويتم نطق الكلمتين على صورة "القاضلفاضل" وكذلك الأمر في: يدعو الله= يدعلَّاه الفتى العربي= الفَتَلْعَرَيى 3- كذلك يتطلب السياق الاستعمالي أحيانًا بعض الظواهر الموقعية مثل: هاء السكت والإشباع وألف الندبة وإطلاق القافية, وغير ذلك مما يأتي عنه تغيّر في البنية المقطعية عمَّا قررته لها القاعدة. وكل هذا التغيّر في البنية المقطعية صالح لأن يغير مواقع النبر في الكلام عمَّا كان عليه في الكلمات المفردة. 4- والزوائد والملحقات كذلك تغيّر البنية المقطعية ومواقع النبر, ويكفي أن نلاحظ الفرق بين موقعي النبر في "ضرب" وفي "ضربهما" حيث يقع على المقطع الأول في المثال الأول وعلى الثالث في الثاني. 5- يضاف إلى ما تقدَّم من التفريق بين نبر القاعدة ونبر الاستعمال أنه يمكن أن نقسِّم نبر الاستعمال إلى عادي وتأكيدي, ولا يمكن هذا التقسيم في النوع الأول. والفرق بين هذين النوعين من النبر يمكن تلخيصه من وجهة نظر علم الأصوات اللغوية في أمور: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 أ- إن ضغط الهواء الناشئ عن حركة الحجاب الحاجز أثناء ضغطه على الرئتين من أسفل أكبر في حالة النبر التأكيدي منه في حالة النبر العادي. ب- إن هذا الضغط الأكبر يمر بين الأوتار الصوتية كمية من الهواء أكبر من كميته في النبر العادي, وهذه بدورها تسبب علوًّا في الصوت كما هو معروف من تحليل علوّ الصوت وانخفاضه. 6- ولا شك أن الاعتبار الإيقاعي في نبر السياق الاستعمالي أوضح منه في نبر النظام الصرفي؛ لأن نبر النظام الصوتي نبر الكلمة المفردة والصيغة المفردة, والكلمة ربما قصرت بحيث لا تشتمل إلا على مقطع واحد منبور فلا تَتَّسِم بسمة الإيقاع, وأما السياق الاستعمالي فإنه يحرص على إظهار موسيقي اللغة بحفظ المسافات المتساوية أو المتناسبة بين مواقع النبر, مما يعطي اللغة موسيقاها الخاصة التي تعرف بها بين اللغات, وإن مجرد الاستماع إلى شخص أجنبي يتكلم العربية فيطيل الحركة ويقصر المد ويضع النبر في غير موضعه ليكشف عن قيمة النبر والكمية في تكوين موسيقى اللغة. ولا شك أن الإيقاع إذا كان يعطي للغة موسيقاها الخاصة فإنه لا يحدد معنى وظيفيًّا ولا معجميًّا ولا دلاليًّا في السياق الكلامي, ولو أن وظيفة النبر اقتصرت على إعطاء الكلام هذا الإيقاع الخاص ما استطعنا أن نربط ربطًا مباشرًا بين النبر وبين المعنى, والمعروف أن هناك لغات تعطي النبر معنى صرفيًّا ومعجميًّا فتفرق به بين الفعل وبين الاسم, وقد اتحدا في الصورة الكتابية؛ فاللغة الإنجليزية مثلًا تفرق بالنبر هذا النوع من التفريق في مثل الحالات الآتية: موضع النبر اسم موضع النبر فعل المقطع الأول contract المقطع الثاني contrac المقطع الأول interest المقطع الثاني interest المقطع الأول contrast المقطع الثاني contrast الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أما اللغة العربية فلا تفرق بالنبر بين الأسماء والأفعال, أي: إنها لا تعطي النبر معنًى وظيفيًّا في الصيغة أو في الكلمة, ولكنها تمنحه معنى وظيفيًّا في الكلام, أي: في معنى الجملة. ويتضح ذلك إذا قارنا في النطق بين جملتي: أذكر الله وأذكري الله فالمعروف أن هذا الموقع من المواقع التي تفقد فيها الياء كميتها فتصبح بمقدار الكسرة في الكلام مثلها في ذلك مثل الياء في عبارة "القاضي الفاضل" التي ذكرناها من قبل. ومن هنا تصبح أحوال الأصوات في الجملتين واحدة, وتصبح فرصة اللبس سانحة هنا, فلا يعرف السامع ما إذا كان المتكلم يخاطب رجلًا أو امرأة. هنا يتدخل النبر فيفرق بين الإسنادين؛ فيكون النبر في الجملة الأولى على مقطع همزة الوصل, ويكون في الجملة الثانية على مقطع الكاف ليدل على طول الياء؛ لأنَّ النبر يقع على ما قبل الآخر إذا كان المقطع الأخير متوسطًا "ري" وما قبل الآخر قصيرًا "ك" حسب القاعدة "الثانية 2ب" من قواعد النبر الأوليّ. فيكون النبر هنا ذا وظيفة تشبه وظيفة حركة الدليل على المحذوف في نحو: "تسعون" حيث تدل الفتحة على ألف "سعى" المحذوفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 13- التنغيم : في الذي قدمناه من الكلام في التنغيم يبدو التنغيم جزءًا من النظام النحوي لغة في الوقت الذي أحصيناه فيه مع الظواهر السياقية, ومن الواضح أن النظام ثابت وتحليلي, وأن الظواهر السياقية تركيبية, فما الوجه الذي يبرر إحصاء التنغيم بين الظواهر السياقية إذًا؟ من الممكن أن يجاب على ذلك من وجوه: 1- ذكرنا في الكلام عن التنغيم في النظام النحوي أن كل نوعٍ من أنواع الجمل يتفق مع هيكل تنغيمي خاص يقف منه في إطار النظام النحوي موقف الصيغة الصرفية من المثال, أي: كموقف "استفعل" مثلًا من "استخرج" من حيث تقوم الصيغة مقام القالب بالنسبة للمثال, ولكن اللغة لها جانبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 كما عرفنا في تقسيم الجمل: الجانب التعاملي والجانب الإفصاحي, وأولهما أقرب إلى الاستعمال الموضوعي للغة, وثانيهما أقرب إلى الجانب الذاتي. وهذا الجانب الإفصاحي يغلب عليه الطابع التأثري exclamatory, ومن أمثلته التعجب والمدح والذم وخوالف الإخالة وخوالف الأصوات, وكل هذه تتحقق غالبًا في صورة صيحات انفعالية تأثرية. وقد يكون المتكلم بهذه اللغة الإفصاحية في مقام يتطلب منه أن يغير وظيفة الجملة من التعامل إلى الإفصاح؛ كالذي يحدث من المعلقين على مباريات كرة القدم, فبدل أن يصيح باللفظ الإفصاحي "هيه" كما يصيح أيّ متفرج يحرص على أن يستمر في الجملة الإخبارية التعاملية التي كان يقولها, ولكنه يغير وظيفتها إلى الإفصاح, وتعطيها نغمة فقط "هيه" عندما يرى الكرة دخلت فعلًا إلى منطقة الهدف وهو لم يكمل الجملة. وقد يقول: "جول" بنغمة "هيه" فيخبر ويفصح في الوقت نفسه. وهذا حل صوتي لمشكلة من مشكلات النظام عند تطبيقه, ويعارضه أثناء التطبيق مع مطالب السياق. والمعلق ينقل رسالتين بهذه الطريقة إلى السامعين أولاهما الإخبار عن النتيجة "وللإخبار نغمة خاصة في نظام التنغيم", وذلك بواسطة جملة خبرية التركيب, وثانيتهما نقل الانفعال باعتباره دعوة إلى الجمهور للمشاركة فيه, وذلك بواسطة إعطاء التركيب الخبري المذكور نغمة إفصاحية تأثرية كنغمة صيحات المشجعين في مدرج الملعب. ومن هذا القبيل ما يحدث من أن يحي المرء شخصا يكرهه هو ويود أن لو اختفى عن ناظره فيحتفظ بالعبارة العرفية للتحية ولكنه يغيروا وظيفتها ويحملها من نغمة الكراهية وتعبيرات الملامح التي تصاحبها ما يجعل التنغيم هنا ظاهرة سياقية, وذلك كان يجعل المتكلم شفتيه على صورتهما التي ينطقان بها "الكسرة", ويضيق عينيه ويقلص ما بين حاجبيه حين ينطق التحية بنغمة الكراهية قائلًا: "كيف حالك يا عزيزي". 2- من المواطن التي يصير فيها التنغيم ظاهرة موقعية في السياق أن يعمد المتكلم إلى التظاهر بأمر هو عكس ما يتطلب الموقف من تنغيم كأن يقص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 المتكلم أمر حادثة مات فيها عدد من أصحابه وأقربائه, ولكنه يريد أن يبدو هادئًا في سرد القصة لئلّا يثير أحزان السامعين بصورة أشد, فيصطنع لهذا الكلام الذي يحتمل نغمة الحسرة والجزع نغمة أخرى فيها هدوء وتماسك. فهنا تعطى الجملة وظيفة جديدة ونغمة غير نغمتها التي في النظام, ويكون التنغيم ظاهرة سياقية. 3- يحدث أحيانًا أن يستعمل المتكلم النغمة على صورة تقوى من العلاقة بين إحدى كلمات السياق وبين معناها الذي سيقت له, فإذا قال: "بلاد بعيدة" عبَّر عن شدة البعد بمد الياء مدًّا طويلًا, وكذلك الفتحة التي بعدها من كلمة "بعيدة", ونطق الياء والفتحة على نغمة واحدة مسطحة عالية نوعًا ما. وإذا أراد أن يقول: إنه قذف حجر إلى أعلى فوصل إلى علوٍّ شاهق فلربما منح ذلك التنغيم نفسه لكلمة "فوق" فمد حرف المد منها بصورة ملحوظة ورفع الصوت به. وهذه الظاهرة يستغلها ملحنو الأغاني كثيرًا. وإذا أراد التعبير عن التراوح بين مكانين بقوله: "رايح جاي" أعطى كلًّا من الكلمتين نغمة خاصة كان يجعل نغمة "رايح" أعلى من نغمة "جاي", ثم يكرر الكلمتين كلًّا منهما بنغمتها مقويًا معنى تكرار الرواح والمجيء بهذا النوع من التنغيم. هذه بعض الأمثلة التي تجعل التنغيم ظاهرة موقعية تحل مشكلة تطبيق نظام التنغيم في النحو على السياق الاستعمالي حين تتعارض قواعد النظام مع مطالب السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 المعجم : لقد رأينا أن اللغة العربية الفصحى مكوَّنة من أنظمة لغوية هي النظام الصوتي والنظام الصرفي والنظام النحوي للغة, وحين نسمي أفكارًا مركبة ما نظامًا فلا بُدَّ أن تكون بين بعضها وبعض علاقات عضوية معينة, وكذلك أوجه خلاف بين كل واحدة منها وبين الأخرى؛ بحيث تؤدي كل واحدة منهما في النظام وظيفة تختلف عمَّا تؤديه الأخرى, فللنظام إذًا تكامل عضوي واكتمال وظيفي يجعله جامعًا مانعًا بحيث يصعب أن يستخرج منه شيء أو أن يضاف إليه شيء, ومن طبيعة النظام اللغوي أن يصلح "للجدولة" -إن صح هذا التعبير- فيكون له من معانيه بعد رأسي وبعد آخر أفقي, ويكون من التقاء كل معنى في البعد الرأسي بمعنى آخر في البعد الأفقي وحدة معنية من وحدات النظام. ولما كان طابع النظام اللغوي عضويًّا إلى هذا الحد أصبح من الصعب على اللغات أن تستعير الواحدة منها جزءًا من نظام الأخرى, ومن ثَمَّ لم نجد لغة تستعير من لغة أخرى أحد أصواتها أو ظاهرة سياقية من ظواهرها أو صيغة صرفية أو حرف زيادة أو ملحقًا من ملحقاتها, أو علاقة نحوية من علاقاتها. والسؤال الذي ينبغي أن نعرف إجابته الآن هو: "هل يمكن أن يكون المعجم نظامًا من أنظمة اللغة كما كان النظام الصوتي والصرفي والنحوي؟ " للإجابة على هذا السؤال ينبغي أن ننظر في الأمور الثلاثة التي نسبناها إلى أنظمة اللغة لنرى في كل أمر ما إذا كان يتحقق أولًا يتحقق المعجم. وهذه الأمور الثلاثة هي: أ- العلاقات العضوية والقيم الخلافية بين المكونات. ب- الصلاحية للجدولة "أي أن يوضع في صورة جدول". جـ- عدم إمكان الاستعارة بين لغة ولغة. أما من حيث العلاقات العضوية فليس بين كلمات المعجم أيّ علاقة عضوية, وقد يكون بين كل طائفة من هذه الكلمات علاقة اشتقاقية معنية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 هي اشتراكها في أصول المادة, ولكن هذه العلاقة الاشتقاقية تختلف عمَّا نقصده من العلاقة العضوية؛ لأن العلاقة العضوية لأية وحدة من وحدات النظام تدخلها في علاقة خلافية مع بقية الوحدات جميعًا أيًّا كان موضعها من النظام, فإذا نظرنا مثلًا إلى جدول الصرف وأخذنا وحدة من وحداته التقسيمية كالاسم مثلًا, وجدنا هذا الاسم يختلف عن كل ما عداه, وقد بينَّا ذلك تحت عنوان أقسام الكلم العربي في موضعه من هذا الكتاب, فالاسم يختلف عن الصفة باعتبارات, وعن الفعل باعتبارات أخرى, وعن الضمير والخالفة والظرف والأداة كذلك، وكل ذلك في إطار النظام الصرفي. وكذلك لو نظرنا في المعاني التصريفية كالتكلم أو الخطاب والغيبة, أو الإفراد والتثنية والجمع, أو التذكير والتأنيث, وجدنا أن كل معنى من هذه المعاني كله مكانه في النظام لا يتركه ولا يطغي على أماكن المعاني الأخرى. فالتكلم والخطاب يتصلان بالأفعال والضمائر, ولكن الغيبة تضم إن هذين الأسماء والصفات؛ لأن الاسم والصفة في قوة ضمير الغيبة كما يقول النحاة, ولذلك يسند الفعل إليهما على الصورة التي يسند بها إلى ضمير الغيبة. ذلك هو ما نقصده بالعلاقات العضوية بين وحدات النظام. والمعجم ليس كذلك ومن ثَمَّ تنتفي عن كلماته سمة العلاقات العضوية فلا يكون نظامًا. والأمر الثاني هو صلاحية أيّ نظام لغوي للجدولة, وقد رأينا كيف أمكن وضع النظام الصوتي والنظام الصرفي والنظام النحوي للعربية الفصحى في صورة جداول ذات أبعاد رأسية وأخرى أفقية تتشابك فيها العلاقات, وتقوم القيم الخلافية في كل جدول حارسًا أمينًا لأمن اللبس في النظام والسياق معًا. وواضح أن المعجم لا يمكن أن يوضع في صورة جدول؛ لأنه كما قلنا تنقصه العلاقات العضوية بين مكوناته, ومن شروط إمكان أي جدول أن يوضع أن يكون بين مكوناته هذه العلاقات العضوية كما ذكرنا. وإذا كان المعجم غير صالح للجدولة فلا يمكن أن يكون نظامًا لغويًّا. والأمر الثالث الذي تتميز به الأنظمة اللغوية هو صعوبة الاستعارة بالنسبة لوحداتها من لغة إلى أخرى, فلا تستعار أداة ولا رتبة ولا صيغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ولا باب نحوي من لغة إلى لغة أخرى في العادة, والملاحظ أن مجال الاقتراض بين اللغات هي الكلمات المفردة وهي مكونات المعجم. ولقد اشتملت اللغة العربية منذ الزمن القديم في العصر الجاهلي على مفردات مستعارة من لغات أخرى في الشرق والغرب؛ كالسكر من السنسكريتية, والإبريسيم والاستبرق من الهلوية, والإقليم والقسطاس والدينار من الإغريقية, ولكن العربية الفصحى لم تستعر من واحدة من هذه اللغات قاعدة ولا طريقة من طرق التركيب ولا أداة ولا جزءًا آخر من أجزاء أنظمتها. ومعنى ذلك كله أن المعجم لا يمكن لهذا السبب أن يوصف بأنه نظام. هذه فروق ثلاثة بين الأنظمة اللغوية وبين المعجم, وهناك أمر آخر يرجع إلى الوظيفة الاجتماعية للغة في عمومها؛ فالمعروف أن لغة كل قوم إنما تسمي تجاربهم الاجتماعية فتضع للمسميات اسمًا, وتضع للأعمال أفعالًا, وتضع للعلاقات فيما بينهما أدوات تربط بين الكلمات في السياق. ويتم كل ذلك في حدود العرف المحلي لهؤلاء القوم, ومن ثَمَّ تختلف المفردات من لغة إلى لغة؛ لأن تعارف جماعة ما لا يتشابه بالضرورة مع تعارف الجماعة الأخرى. زد على ذلك أن الجماعات تختلف بيئاتها فتختلف مسمياتها, فإذا كانت بيئة ما تسمي "الجمل" فإن بيئة أخرى تسمي "اللاما", وبيئة ثالثة تسمي "الفيل", وكذلك قد تسمي بيئة من البيئات طعامًا لا يكون معروفًا للبيئة الأخرى, ومثل الطعام والعادة والآلة والتقليد وأنواع التجارب المختلفة؛ ومعنى هذا أن أية لغة من لغات العالم لا يتصور لها أن تسمي التجارب الإنسانية جميعًا؛ لأن اللغة محلية, ولأن أصحابها لا يعرفون جميع التجارب الإنسانية, فحتى لو تصورنا أن اللغة في عمومها تنتظم التجارب الإنسانية كلها في نظام معين "وهو أمر غير ممكن لتوالي حدوث تجارب إنسانية جديدة باستمرار", فإن أية لغة محلية لا يمكن أن تنتظم هذه التجارب جميعًا. وإذا لم يكن المعجم كما رأينا نظامًا من أنظمة اللغة؛ لأنه لا تتوافر له مقومات النظام فلا بُدَّ أن يكون منهج المعجم متجهًا إلى دراسة "قائمة" من الكلمات تشتمل على جميع ما يستعمله المجتمع اللغوي من مفردات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ومن طبيعة هذه القائمة الضخمة التي هي في حوزة المجتمع في عمومه ألا يحيط بها فرد واحد من أفراد هذا المجتمع مهما بلغ حرصه على استقصائها؛ لأن ظاهرتي الارتجال والتوليد وهما مستمرتان لا بُدَّ أن تقفا به دون الإحاطة بالكلمات المرتجلة والمولَّدة التي هي في طريقها إلى الشيوع العرفي. ولكن أفراد المجتمع يتوزعون مفردات هذه القائمة فيما بينهم؛ كل بحسب بيئته وثقافته وحياته الاجتماعية, فيستقل كل فرد بطائفة منها يعرف معانيها معرفة عامة, ويعرف ما لبعض هذه المعاني من ظلال دقيقة مختلفة. أما ما في أيدي الآخرين من هذه القائمة فلا يتفق ما لدى كل فرد منم إلّا مع بعض ما لدى الفرد الذي كنا نتكلم عنه, ويبقى بعد ذلك أكثر ما في أيديهم مجهولًا بالنسبة لهذا الفرد جهلًا لا يزيله إلّا أن يعنى المتخصصون من هذا المجتمع بتدوين كل مفردات اللغة ومعانيها في صورة معجم ليرجع إليها هذا وذاك من الراغبين في الاطلاع على هذه المفردات والمعاني. لهذا كان تدوين المعجم ضرروة لغوية لكل مجتمع متقدم, وكان لا بُدَّ أن يتم تدوين المعاجم على صورة تمكن كل فرد يطلع عليها أن يعرف الكثير من المعلومات التي توضح ما يحيط بمادتها الأساسية وهي الكلمة. ولكن ما الكلمة؟ أمن السهل تعريفها؟ أَوَيُمكن أن نحددها تحديدًا دقيقًا في السياق كلما أردنا ذلك, فنقول: هنا تبدأ وهنا تنتهي؟ أنعتبر المباني الصرفية التي تتحقق بها الظواهر الموقعية وكذلك اللواصق الصرفية أجزاء كلمات أم نعتبرها كلمات مستقلة؟ كل أولئك قضايا لا بُدَّ من الإجابة عليها قبل أن نتناول طريقة شرح المعنى المعجمي وطبيعة هذا المعنى. سبق أن فرَّقنا بين اللغة وبين الكلام, وقلنا: إن اللغة مجموعة من الأنظمة والعلاقات, وإن الكلام هو النطق أو الكتابة بحسب قواعد هذه الأنظمة والعلاقات. ونحب أن نضيف هنا أن المعجم ليس نظامًا, ولكنه مع ذلك جزء من اللغة, ومثل الأنظمة بعلاقاتها ومثل الكلمات كمثل قواعد الشطرنج؛ لأن قواعد الشطرنج نظام ينتظمه جدول "إن صح هذا التعبير" قوامه المربعات ذات العلاقات فيما بينها, فالمربعان قد يختلفان من حيث العلاقة الرأسية بأن يكون كل منهما في صف رأسي مختلف عن الآخر، وقد يختلفان من حيث علاقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الصف الأفقي, وقد يختلفان من حيث علاقة الصف المائل. ولكن الاختلاف بين أي مربع وبين المربعات الأخرى مهم جدًّا في الوظائف التي تؤديها هذه المربعات أثناء اللعب, ولكن فهمنا للشطرنج لا يتم بمجرد وجود الرقعة فقط, وإنما لا بُدَّ من القطع المختلفة الشكل أو المبنى والوظيفة أو المعنى في اللعبة. فقواعد لعبة الشطرنج ومربعاته كنظام اللغة صرفًا ونحوًا, وقطع الشطرنج المختلفة الشكل والوظيفة كالكلمات, وحركات اللعب نفسها كالكلام الذي يحتاج إلى اللغة بما فيها من أنظمة وكلمات, وكما أن اللعبة تطبيق لقواعد الشطرنج كذلك الكلام تطبيق لقواعد اللغة؛ فالمعجم على رغم كونه قائمة من الكلمات التي لا تنتظم في نظام معين, إنما يعتبر جزءًا من اللغة من حيث يمد اللغة بمادة عملها, وهي الكلمات المختزنة في ذاكرة المجتمع. علينا الآن إذًا أن نشرح طبيعة الكلمة في المعجم في ظلّ هذا التفريق بين مفهومي اللغة والكلام. المعروف أن اللغة باعتبارها نظامًا أكبر لا بُدَّ أن تكون صامتة, وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك لأن النظام لا ينطق, ولكن الذي ينطق هو الكلام في إطار هذا النظام. والمعجم جزء من اللغة لا من الكلام, ومحتوياته الكلمات التي هي مختزنة في ذهن المجتمع أو مقيدة بين جلدتي المعجم وهي صامتة في كلتا الحالتين, ومن ثَمَّ يكون المعجم صامتًا كصمت اللغة, ويكون ذلك منسجمًا مع كونه جزءًا من اللغة, وحين يتكلم الفرد يغترف من هذا المعين الصامت فيصير الكلمات ألفاظًا ويصوغها بحسب الأنظمة اللغوية, فالمتكلم إذًا يحول الكلمات والنظم من وادي القوة إلى وادي الفعل. وبعد قليل نفصل القول في أن معنى الكلمة في المعجم متعدد ومحتمل, ولكن معنى اللفظ في السياق واحد لا يتعدد بسبب ما يأتي: أ- ما في السياق من قرائن تعين على التحديد "وقد سبقت الإشارة إلى القرائن المقالية". ب- ارتباط كل سياق بمقام معين يحدد في ضوء القرائن الحالية "وسنرى شرح ذلك فيما بعد". ولو لم تكن الكلمة المعجمية صامتة في ذاكرة المجتمع أو بين جلدتي المعجم لكانت بالضرورة منطوقة على ألسنة المتكلمين, ويظهر جلاء الغموض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 في هذه المسألة بالتأمل في السؤال الآتي: كيف يأمل المتكلّم في أن يكون واضحًا وهو يستعمل كلمة ذات معنى متعدد ومحتمل؟ والإجابة هي أن المتكلم لا يستخدم الكلمات, وإنما يحولها إلى ألفاظ محددة الدلالة في بيئة النص. نعم! "ألفاظ"؛ لأن الكلمة الصامتة صورة صوتية مفردة في ذهن المجتمع أو صورة كتابية مفردة بين جلدتي المعجم, والصورة دائمًا غير الحقيقة, فحين يلتقطها المتكلم يحولها. أ- من الصورة إلى الحقيقة الحسية "سمعيًّا أو بصريًّا". ب- من الإفراد "وهو طابع المعجم" إلى السياق الاستعمالي "وهو طابع الكلام". عندئذ يحرك بها لسانه ناطقًا أو يده كاتبًا, فيتحول اعتبارها من "كلمة" إلى "لفظ", ففرق ما بين الكلمة واللفظ هو فرق ما بين اللغة والكلام, فاللغة "والكلمة وحدة من وحداتها" صامتة, والكلام "واللفظ جزء من نسقه" محسوس, واللغة سكون والكلام حركة. وهذا هو أحد أوجه الاعتراض على من عرَّف الكلمة من النحاة بأنها: "اللفظ المفرد" أو "لفظ وضع لمعنى مفرد"؛ لأن هذا التعريف يغفل عن حقيقة الفرق بين الكلمة وبين اللفظ كما حددناها هنا. وحاول بعض النحاة أن يعرف الكلمة بأنها "قول مفرد" فلم يكن أسعد حظًّا من صاحبيه, والأسباب واضحة لأن القول ربما يكون من أكثر من لفظ واحد, وتقاليد التحليل في اللغة العربية تجعل مقول القول دائمًا في صورة جملة. وسيجد القارئ الكثير من محاولات تعريف الكلمة والرد عليها في كتابنا "مناهج البحث في اللغة" فمن شاء فليرجع إلى ذلك في الكتاب المذكور. عند هذا الحد أجدني مدفوعًا إلى استكشاف الطبيعة العرفية للكلمة وما يتصل بذلك من مبحث التفريق بين اللغة والكلام. ولقد تناول الباحثون   1 في مقالات الإسلاميين للأشعري جـ2 ص246: "وقد زعم الجباني أن الإنسان لو كان أخرس عييًّا يكتب كلامًا كان الكلام موجودًا مع كتابته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 القدماء أصل اللغة بالتأمل, فانقسموا في رأيهم إلى قسمين يقول أحدهما "بالتوقيف", ومعناه أن اللغة هبة من الله للإنسان في إجمالها وتفصيلها, أي: إن كل كلمة في اللغة جاءت من عند الله تعالى حتى "القصعة" و"القصيعة" كما روى بعضهم, واحتجوا في تبرير هذا القول بما ورد في الكتب المقدسة ومنه الآية القرآنية: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} , وقسم آخر يقول بالمواضعة, ومعناها أن اللغة من وضع المجتمع تعارف الناس عليها رموزًا ومعاني وطرق تركيب ومخارج أصوات, وهلمَّ جرا من كل ما يصلح للتعارف. وأنا بدوري أقول: إن اللغة التي علمها الله تعالى لآدم هي الاستعداد الفطري لاتخاذ لغةٍ ما والتفاهم بواسطتها, فاللغة التي وهبها الله له ظاهرة اجتماعية, وكان De Saussure يسميها langage, وليست لغة بعينها مما يسميه هو langue, ولا كلامًا مما يسميه parole. وفي كتابي "اللغة بين المعيارية والوصفية" نقاش لطبيعة الرموز اللغوية, فمن شاء فليعد إليه, وقد كان ممن الممكن أن اكتفي بهذه الإشارة لولا أنني أحب هنا أن أضيف بعض التأكيد للعلاقة العرفية بين الكلمة وبين معناها. من الملاحظ أن المسمَّى الواحد تختلف أسماؤه من لغة إلى لغة؛ فالرجل في العربية يقابله man بالإنجليزية وكذلك lhomme بالفرنسية وهلم جرا. وقد يقول قائل: إن "الرجل" وman و lhomme يختلفون من حيث اللون والعادات والأخلاق والنظرة إلى الحياة والتاريخ بقدر ما يختلف الرجل العربي عن الرجل الإنجليزي والرجل الفرنسي, فالمفهومات مختلفة بين الكلمات الثلاثة, وهذه مبررات مقبولة لاختلاف التسمية من لغة إلى لغة, ولكن هذا ليس صوابًا؛ لأن الثلاثة تصدق عليهم بالعربية كلمة "الرجل", وبالإنجليزية كلمة man, وبالفرنسية كلم lhomme, والعمل الواحد أو الحدث الواحد أيضًا تعبر عنه اللغات الثلاث بطرق مختلفة مثل: "يأكل" وmanger to eat, ومعنى هذا باختصار أن كل مجتمع من المجتمعات الثلاثة التي عبَّرت عن هذه المعاني اختار طريقة خاصة للتعبير عنها؛ فأصبح المعنى الواحد الذي في متناول المتكلمين باللغات المختلفة يحتمل أن تتعدد وسائل الرمز له بتعدد المجتمعات, فكيف يصل كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 مجتمع إلى اختيار كلمة معينة ليدل بها على هذا المعنى؟ الجواب: بالتعارف. إذًا فما هو أساس التعارف؟ الجواب: الاعتباط. المنطق ولا الطبيعة. "وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط, وليس نظمها بمقتضى عن معنى ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسمًا من العقل اقتضى أن يتحرَّى في نظمه لها ما تحراه, فلو أن واضع اللغة كان قد قال: "ربض" مكان ضرب لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد"1. لقد أشرنا في مقدمة هذا الكتاب إلى أن "علم البيان" وهو فرع من فرع "علم البلاغة" يصلح أساسًا نظريًّا لبناء علم خاصٍّ بدراسة المعجم نظريًّا وعمليًّا يسمى"علم المعجم", أما نظريًّا فإن هذا العلم يمكن أن يشرح لنا كيفية وضع الكلمات وهي رموز للمعاني, فيتناول الاشتقاق والارتجال والتعريب والنحت والتوليد وهلم جرا من الطرق التي يبينها فقه اللغة, والتي يمكن للكلمة العربية التي تبنى على أساسها, ويشرح كذلك القيمة العرفية لدلالة الكلمة مبينًا الفرق بين العرف الخاص والعرف العام في معنى الكلمات, ويشرح لنا طبيعة المعنى المعجمي وتعدده واحتماله, والفرق بينه وبين المعنى الوظيفي والمعنى الدلالي, ويشرح لنا المقصود بالكلمة مع محاولة تحديد حدودها على أسس شكلية, فيقول لنا: متى تبدأ الكلمة العربية ومتى تنتهي وما الذي يعتبر كلمة مستقلة, وما الذي يعتبر جزء كلمة, ويشرح لنا الدلالات الاستعمالية للكلمة ما بين الحقيقة والمجاز, ويبين لماذا كان المعنى المجازي معتبرًا في المعجم, ويتناول مباحث نظرية بيانية أخرى لا غنى للمعجم عنها. وأما عمليًّا فيشرح لنا أفضل منهج لوضع المعاجم ذاكرًا الغاية الأساسية من كتابة المعاجم, وما الذي يتوقعه المرء حين يتناول المعجم في يده ليكشف عن كلمة, ومن هنا يتطرق إلى الصلة بين المعجم وبين علم الصوتيات, ثم إلى الصلة بينه وبين نظام الإملاء ومايشتمل عليه نظام الإملاء من إشارات صوتية وصرفية, ثم إلى الصلة بين المعجم وبين علم الصرف, وكذلك الصلة بين شواهده وبين علم النحو "لأن الكلمة المفردة لا تتصل بالنحو, ولكن الشواهد على طرق استعمالها ومعانيها تتصل به" ثم يذكر بعد ذلك أمثل طريقة لشرح الكلمة وقيمة   1 دلائل الإعجاز ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 الاستشهاد في تحديد المعنى, ويلمح إلى تطور البنية etymology وتطور الدلالة semantic shift بالنسبة لبعض الكلمات, والتضام الافتقاري والأسلوبي للكلمات, إلى غير ذلك مما يتناوله المعجم من الأمور العملية. وأوضح ما في علم البيان من مباحث هو الدلالات الاستعمالية للكلمة, والمعروف أن الواضع يضع الكلمة أولًا للمعنى الحقيقي العرفي وليس للمعنى المجازي الفني, ولكن كلمات اللغة دائمًا وفي كل مجتمع أقل بكثير جدًّا من تجارب هذا المجتمع, فلو أن المجتمع اكتفى باستخدام الكلمات في معانيها الحقيقية لأصبحت تجاربه التي تعبّر اللغة عنها محدودة, ولضاع معظم تجارب المجتمع في متاهات النسيان؛ لأن الكلمة عقال المعنى, والمعنى الشارد بل عقال لا بُدَّ له أن يضل ويختفي ويضيع إلى الأبد, وكذلك كان لا بُدَّ من حل لهذه المشكلة في اتجاهين: أ- محاولة إثراء اللغة بإيجاد كلمات للمعاني التي لم يعبر عنها, ولم توضع لها كلمات من قبل. ب- محاولة الانحراف بالمعنى العرفي للكلمة إلى معانٍ أخرى فنية بيانية تسمَّى المعاني المجازية كالتشبية والاستعارة والمجاز المرسل. غير أن هذه المعاني الفنية المجازية يكثر ترديدها على الألسنة مع إطلاقها المجازي الفني, فحين يطول عليها الأمد في هذا الاستعمال يميل الناس إلى اعتبار دلالتها على المعنى المجازي الجديد دلالة عليه على سبيل الحقيقة, ومن ثَمَّ يصبح معنى الكلمة متعددًا, وترصد لها هذه المعاني المتعددة في المعجم, فتكون الكلمة بين جلدتي المعجم محتملة لكل معانيها المعجمية المختلفة المنشأ حتى توضع في سياق يحدد لها واحدًا من هذه المعاني. والعرف ملك المجتمع, ولا يمكن أن يكون ملكًا للفرد مهما كانت قوته, والحقيقة أن الفرد يحس دائمًا أنه عاجز عن تغيير النظم العرفية في مجتمعه, ويحس كما يقول علماء الاجتماع من أتباع المدرسة الفرنسية بجبرية الظواهر الاجتماعية, حتى إنه في النهاية يشعر بأنه مضطر إلى مطابقة الاستعمال الاجتماعي في جميع مظاهر سلوكه، وكل ذلك صادق على النشاط اللغوي للفرد ينشأ ليجد أمامه مجموعة ضخمة من الكلمات المحددة الأشكال صرفيًّا والمحددة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 المعاني "وإن تعددت" معجميًّا. ويتعلم في البيت وفي المدرسة عن طريق المعيارية المتزمتة فيهما كيف يطابق الاستعمال الاجتماعي سواء من ناحية المبنى أو من ناحية المعنى. فأما من ناحية المبنى: فإن الفرد يطلب إليه في سبيل المطابقة الاجتماعية أن ينسى كل شيء حتى ميله الذي كان له في البداية إلى أن يقيس في صياغة الكلمات قياسًا صرفيًّا مطردًا يتعارض أحيانًا مع السماع, فيعلمونه كيف يقول حمراء لا أحمرة, وخضراء لا أخضرة, وسوداء لا أسودة, وهلم جرا. وأمَّا من جهة المعنى: فإنه يطلب إليه أن يحافظ على الرابطة العرفية بين الكلمة وبين معناها, فلا يستعمل الكلمة بمعنى شخصي فردي غير عرفي؛ لأنه لو فعل ذلك لما فهمه أحد ممن يسمعونه لانفكاك الرابطة في أذهانهم بين اللفظ المسموع وبين المعنى المقصود, وقديمًا لقي الشاعر عقوبته الاجتماعية فسخر الناس منه عندما استعمل معاني فردية, وقالوا في السخرية منه إن "المعنى في بطن الشاعر". حقًّا إن الباب ليس موصدًا أمام تصدي الأفراد لارتجال الكلمات للمعاني, ولتحويل الدلالة من معنى إلى آخر, والأفراد يفعلون ذلك في كل زمان ومكان, لا يحد حرتهم في هذا المجال شيء ما داموا قادرين على ممارسة هذه اللعبة, ولكن النشاط الفردي شيء والقبول الاجتماعي لما أوجده الفرد شيء آخر. فالشرط الأساسي لِأَنْ يصبح هذا الصوغ الجديد أو الاستعمال الجديد الذي جاء به الفرد جزءًا من مفردات اللغة هو أن يتقبَّله المجتمع ويشيع استعماله, فيكتسب العرفية الضرورية لكلمات اللغة. لقد جاءنا مع التنمية وتشعب أنواع النشاط في المجتمع وغزارة المادة المكتوبة والمسموعة فيما بعد ثورة 1952 حشد هائل من الكلمات الجديدة التي بدأت كل واحدة منها على لسان فرد من الكتاب أو المتحدثين, فتقبلها المجتمع وأعطاها بالرواج عرفية للاستعمال فأصبحت جزءًا من اللغة, ومن شأء أن يرى شاهدًا على ذلك فلير مقالي "دور اللغة في مجتمعنا المعاصر", وقد نشر بمجلة المجلة في عدد شهر يونية سنة 1966, بل إنني إذا لم تخني الذاكرة قد لعبت هذه اللعبة وأنا بعد طالب في مدرسة دار العلوم العليا في العام 1944-1945. فلقد كانت كلمة "إشاعة" قبل ذلك التاريخ على قدر علمي هي الكلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 العرفية التي يقصد بها "الخبر غير المحقق الصدق", وكان الناس يستعملونها في الكلام والكتابة وفي نوبة من نوبات المطالب التي تعود الطلبة أن ينادوا بها, كنا نناقش أمر مطالبنا مع أستاذ لنا في حجرة الدراسة, وخطر لي وأنا أريد التكلم عن "إشاعة ما أن كلمة "شائعة" ربما كانت أصدق في التعبير عن المعنى المقصود, فاستعملته ورضي الأستاد عن هذا الاستعمال الجديد وقرَّظه واستعمله في أحديث الدينية في إذاعة القاهرة, فقلده الناس فيه واكتسبت الكلمة الرواج بينا كنت أنا من جانبي أرقب نمو هذا الوافد الجديد في الاستعمال, وأسرّ في نفسي شيئًا من الاعتزاز به. وكلنا يعلم كيف يتحول المعنى تحولًا مقصودًا أحيانًا ويتطور تطورًا عاديًّا أحيانًا أخرى, فمعظم المصطلحات الفقهية الإسلامية في العبادات وغيرها كالصلاة والزكاة والصيام والحج والهدي والسعي ونحوها محوّل عن معانٍ لغوية عامة إلى معانٍ اصطلاحية خاصة عن طريق القصد والتعمد. كما أن من الملاحظ في تطور من عصر إلى عصر أنّ هذا التطور يعتبر صدًى لتحول اجتماعي خارج العقل, فيغلب الآخر على الكلمة التي كانت تدل على الأول؛ كلفظ الحرية مثلًا حين ألغي الرقيق وألغي معه التقسم الاجتماعي إلى عبد وحر, أصبح لفظ الحرية يستعمل استعمالًا مجازيًّا أولًا بمعنى القدرة على الاختيار سياسيًّا, ثم استمرَّ إطلاق الكلمة على هذا المعنى حتى اقتربت في دلالتها عليه من الحقيقة وضعف فيها عنصر المجاز, فلا يلمحه إلّا صاحب التفكير اللغوي. وقد تسوء سمعة الكلمة لطول ارتباطها بمدلول غير كريم فتطرح هذه الكلمة وتستعمل كلمة أخرى في مكانها غير مثقلة بارتباطات ممجوجة من جهة المعنى, فتستخدم فيه أولًا على طريق المجاز, ويعتبر عنصر الدلالة المجازية فيها مناط التبرير في قبولها حيث يعتبر استعمالها المجازي نوعًا من التنزه عن ذكر الكلمة الأولى التي ساءت سمعتها, ثم يطول الأمد على   1 انظر كيف كان التطور الاجتماعي سببًا في تحول دلالة طائفة من الكلمات العربية مثل: الصعلوك والسياسة والبلد والقرية والمركز والنقطة والمعهد والثورة والفتنة والريع والدولة "بنت الشاطئ -لغتنا ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 استعمال الكلمة الثانية فتسوء سمعتها أيضًا, ولا يزال هذا المدلول الممجوج يستهلك الكلمات واحدة بعد الأخرى إلى ما لا نهاية. انظر مثلًا تعاقب الكلمات الآتية على معنى مكان قضاء الحاجة: غائط -خلاء -كنيف - بيت أدب - مرحاض - دورة مياه - حمام, وقد كانت كل واحدة من هذه الكلمات قبل إسقاطها مما لا يأنف الناس من الجهر باستعماله في الكلام, ولا يعلم إلّا الله ما الكلمات التي ستتعاقب بعد ذلك على هذا المدلول الذي يمجه الذوق في جهر الكلام. وهذه العرفية في الاستعمال وكل ما يتصل بها من مشاكل تعتبر قيدًا على مداخل المعجم, بمعنى أن المعجم لا ينبغي مطلقًا أن يشتمل على كلمات يخترعها الأفراد قبل أن تروج هذه الكلمات وتصل إلى مستوى الاستعمال العرفي, حتى ولو كان صاحب المعجم يتنبأ لهذه الكلمة بعينها بالرواج والوصول إلى المستوى العرفي؛ لأن المطلوب هو العرفية الواقعية لا المتوقعة. والآن ننتقل إلى تناول المعنى المعجمي بالتحليل من النواحي الآتية: أ- التعدد والاحتمال في المعنى المعجمي: ب- شرح المعنى كيف يكون. جـ- صلة المعنى المعجمي بأنظمة اللغة الثلاثة الصوتي والصرفي والنحوي. أ- قلنا: إن من طبيعة المعنى المعجمي أن يكون متعددًا ومحتملًا, وهاتان الصفتان من صفاته تقود كل منهما إلى الآخر, فإذا تعدَّد معنى الكلمة المفردة حال انعزالها تعددت احتمالات القصد وتعدد احتمالات القصد يعتبر تعددًا في المعنى, والذي يجب ألّا يغيب عن أذهاننا دائمًا أن الكلمة في المعجم لا تفهم إلّا منعزلة عن السياق, وهذا هو المقصود بوصف الكلمات في المعجم بأنها "مفردات", على حين لا توصف بهذا الوصف وهي في النص حاشا بعد استخراجها منه لتحديد معناها المناسب. وإن تعدد معنى الكلمة في المعجم يرجع إلى صلاحيتها للدخول في أكثر من سياق, وثبوت ذلك لما بسبق استعمالها في نصوص عربية قديمة وحديثة. ومن صلاحيتها للدخول في أكثر من سياق ما يأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 تعدد معناها واحتماله في حالة الإفراد, وإذا أردنا أن نضرب مثلًا لتعدد معاني الكلمة المفردة واحتمالها, فلدينا مثالان نوردهما هنا ونرصد تعدد المعنى فيهما, وهما كلمتا "صاحب" و"ضرب". فأما كلمة صاحب فيتعدد معناها على النحو التالي: 1- لقب "أي: ذو" نحو: صاحب الجلالة. 2- مالك نحو: صاحب البيت. 3- صديق نحو: صاحبي. 4- رفيق نحو: صاحب رسول الله. 5- منتفع نحو: صاحب المصلحة. 6- مستحق نحو: صاحب الحق. 7- مقتسم نحو: صاحب نصيب الأسد. فكلمة صاحب بمفردها تحتمل هذه المعاني السبعة ولا تختص بواحد منها إلّا عند التضام مع المضاف إليه, وهذا التضام أضعف صورة من صور الدخول في سياق, ولذلك يعتبر كل مثال من الأمثلة السبعة الواردة مما يحدد معنى واحدًا معينًا للكلمة, وأما كلمة "ضرب" فمن معانيها ما يأتي: 1- عاقب نحو: ضرب زيد عمرًا. 2- ذكر نحو: ضرب الله مثلًا. 3- أقام نحو: ضرب له قبة. 4- صاغ نحو: ضرب العملة. 5- حدد نحو: ضرب له موعدًا. 6- سعى نحو: ضرب في الأرض. حسب نحو: ضرب خمسة في ستة. وقد تأتي في تعبير فتفيد بالتضام غير ذلك؛ كإفادة معنى "الارتباك" في عبارة "ضرب أخماسًا في أسداس" والمعنى معجمي في الكلمة المفردة فقط, أما حين تدخل في السياق فإن معناه لا يسمَّى معجميًّا نظرًا إلى أن السياق يحفل بالكثير من القرائن الحالية والمقالية التي قد تعطي الكلمة من المعاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ما لا يرد على بال صاحب المعجم, وقد سبق أن شرحنا بعض ذلك عند دراسة النبر والتنغيم حين وازنا بين "اذكر الله" و"اذكري الله", وحين قلنا عن بعض العبارات مثل: "نعم" و"لا" و"يا سلام" إنها قد تفيد بالنغمة من المعاني ما يتعارض مع معناها المعطى لا في المعجم. ولعل تعدد المعنى واحتماله من جهة وتحدده وتعينه من جهة أخرى هو الفارق الأساسي بين الكلمة التي في المعجم واللفظ الذي في السياق. ب- ما الذي يتوقعه المرء عندما يمسك بالمعجم ليكشف عن معنى الكلمة ما؟ أو بعبارة أخرى: أي نوع من أنواع المعلومات يتوقّع الطالب أن يجده في المعجم, وأيها لا يتوقع أن يجده؟ دعنا أولًا نقول: إن المعجم ليس كتاب قواعد؛ لأنه ليس نظامًا من أنظمة اللغة, فلا ينبغي للطالب أن يكشف في المعجم عن قاعدة صوتية أو صرفية أو نحوية؛ لأن القواعد بفروعها المذكورة تتكفَّل بشرح المعنى الوظيفي بواسطة وصف سلوك الرمز التي دون الكلمة, أي سلوك الأجزاء التحليلية, ويجمع هذه الفروع كلمة "قواعد" التي تقابلها الكلمة الإنجليزية grammar, فالقواعد تشمل النظام الصوتي والنظام الصرفي والنظام النحوي. وأما المعجم فهو الخطوة التالية بعد القواعد في تتابع المستويات التحليلية للمعنى, ولا يأتي بعد المعجم من هذه المستويات إلّا علم الدلالة semantics, تلك كانت إجابة سلبية على السؤال المتقدم. أما الإجابة الإيجابية فهي: إن الطالب ينبغي أن يتوقّع من المعجم أن يقدم له المعلومات الآتية: 1- طريقة النطق: من المعروف أن أنظمة الكتابة في اللغات المختلفة تقصر دون تمثيل النطق تمثيلًا صوتيًّا دقيقًا؛ لأن الأغراض العملية للكتابة الإملائية لا تتطلّب الرمز للفروق الصوتية الدقيقة التي لا تهمّ القارئ العادي كالإخفاء والإقلاب والإدغام بغنّة وهلم جرا, وإنما ينبغي لكل نظام إملائي أن تكون غايته المنشودة أن يمثل الحروف phonemes في الكتابة بأن يجعل لكل حرف من حروف اللغة "وقد يشتمل الواحد منها على عدد من الأصوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 كما بينا بالنسبة للنون" رمزًا كتابيًّا واحدًا مستقلًّا، وهذه الغاية المنشودة لم تصل إليها لغة من لغات العالم حتى الآن, ولم يصل إليها نظام الإملاء العربي كذلك, ومن شاء أن يعرف تفصيل ذلك فليرجع إلى كتابي "اللغة بين المعيارية والوصفية". ولكننا نستطيع أن نضرب المثل هنا بالحروف التي لا تنطق كالواو التي في "عمرو", والحروف التي لا تكتب كواو المد في "داود", والحروف التي تنطق ويكتب رمز غيرها من الحروف كالألف في "رمى" وهلم جرّا. ولهذا السبب أصبح من المحتمل للكلمة العربية كما يمثلها نظام الإملاء أن تكون عرضة للخطأ في النطق, ومن ثَمَّ يتوقع طالب المعجم حين يكشف عن معنى الكلمة أن يبدأ المعجم بأن يحدد له طريقة نطقها ما دام النظام الإملائي لا يصل إلى هذه الغاية. وفي لغات العالم الحية معاجم خاصة لنطق الكلمات؛ كالمعجم الذي وضعه دانيال جونز لنطق كلمات اللغة الإنجليزية, وأطلق عليه اسم: English Pronouncing Dictionary ولعل الصلة الشديدة الانفكاك بين الهجاء الإنجليزي ونطق الكلمات في تلك اللغة يبرر وضع معجم خاص لنطق كلماتها. أما الطريقة التي درجت عليها المعاجم العربية للوصول إلى هذه الغاية "إيضاح طريقة النطق" فهي أن تصف حركات الكلمة ومدها وإعجام الحروف أو إهمالها, فتقول مثلًا في كلمة "تبعة" بفتح فكسر ففتح, أو تقول عند خوف اللبس المطبعي: بالتاء الفوقية المثناة فالباء التحتية فالعين المهملة, ومن ذلك أيضًا ألّا تفصل القول في حركاتها وحروفها, وإنما تلجأ إلى قياس هذه الكلمة على كلمة أخرى أشهر منها في الاستعمال, فتجعل الكلمة الشهيرة كالميزان الصرفي للكلمة المشروحة فتقول مثلًا: "ردح البيت كمنع" فيعرف أن هذا الفعل من باب فعل يفعل -بفتح العين- في الصغتين, فيفيد القارئ من ذلك من جهة النطق -وربما الصرف كذلك- في الوقت نفسه. 2- الهجاء: وما دامت الأنظمة الإملائية لا تتطابق مع النطق بالضرورة ولا سيما حين تراعى اعتبارات أخرى بعضها تاريخي وبعضها لغوي "صوتي أو صرفي أو نحوي" وهلمَّ جرا, فلا بُدَّ أن يكون هجاء الكلمات غير متَّسم أحيانًا بالاطراد التام, ولا بُدَّ أن يختلف أساس هجاء كلمتين قد يبدو لأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وهلة أنهما متشابهتان مثل: "غزا" و"جزى", فعلى المعجم في هذه الحالة أن يكون مظنَّة من مظانِّ الإجابة على كيفية كتابة كلمة ما, فيقدم هذا العون لمن لا يعرف ما يختفي خلف هاتين الألفين من اعتبارات صرفية, ومثل ذلك يقال في الكلمات التي تشتمل على الهمزات التي يختلف موضعها من الصورة الكتابية للكلمة بين الإفراد والكتابة على ألف أو واو أوياء, فعلى المعجم أيضًا أن يكون مظنة الوصول إلى هجاء هذه الكلمات. أما الرجل العادي الذي لا بصر له بقواعد اللغة فليرجع في شأن الهجاء إلى المعجم. 3- التحديد الصرفي: ومما ينبغي للمعجم أن يقدمه للقارئ تحديد المبنى الصرفي للكلمة, كما إذا كانت الكلمة اسمًا أو صفة أو فعلًا أو غير ذلك, فتقديم هذا التحديد الصرفي للكمة يعتبر الخطوة الضرورية في طريق الشرح؛ لأنه لا يمكن لإنسان أن يربط ما بين كلمة وما بين معناها المعجمي إلّا إذا عرف مبناها الصرفي فحدَّد معناها الوظيفي أولًا, ويحدث أحيانًا أن تأتي كلمة على صيغة صرفية محايدة مثل: فاعل: لصفة الفاعل والأمر من فاعل نحو: "قاتل". فعل: للصفة المشبهة والمصدر نحو: "عدل". فعيل: لصيغة المبالغة ولمعنى مفعول نحو: "رفيع". أفعل: للفعل الماضي وصفة التفضيل والصفة المشبهة نحو: "أسمى". فانعزال الكلمة في المعجم قد يكون بيئة صالحة للبس في معناها, فعلى المعجم أن يعطيها من طرق الشرح ما يوضح معناه الصرفي كالتضامِّ بأن يقول مثلًا: "الأشرف الفاضل في الشرف" فنعلم من هذا أن المقصود صفة التفضيل بقرينة التضامِّ مع أداة التعريف, أو يقول: "أشرف على الشيء" أطل عليه" فيعرف من التضام أن المقصود الفعل. وفي كلمة مثل "المختار" لا بُدَّ للمعجم قبل شرحها أن يقول مثلًا: "والمختار بمعنى الفاعل الذي يختار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 لنفسه وبمعنى المفعول من يقع عليه الاختيار" أو شيئًا شبيهًا بذلك, فقوله: بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول تحديد صرفي لكلمة محايدة, أو يقول: "العدل بمعنى الصفة العادل, وبمعنى المصدر الإقساط في الحكم". فلا يمكن في حالة "المختار" و"العدل" ولا في غيرهما أن يكون الشرح مفيدًا إفادة تامة دون التحديد الصرفي للكمة. 4- الشرح: ويكون شرح الكلمة بذكر معانيها المتعددة التي يصلح كل واحد منها لسياق معين, ولكن هذا الشرح أيضًا يتطلب أمورًا لا بُدَّ للمعجم من الوفاء بها حتى تتحقق فائدته بالنسبة لطلاب معاني الكلمات. أولًا: لا بُدَّ أن يعنى المعجم بعرض الأشكال المختلفة إن وجدت للكلمة التي يشرحها, وهذه الأشكال المتعددة قد توجد جنبًا إلى جنب في الاستعمال في عصر واحد؛ كأن يسجل المعجم وجود صورتين مثلًا لكلمة "ميزة" تبدأ إحداهما للهيئة بالكسر والمد, وتبدأ الثانية للمرة بالفتح فالسكون, فيذكرهما باعتبارهما جاريتين على الألسنة بدرجة واحدة أو متقاربة. وقد تكون الأشكال المختلفة للكلمة مختلفة العصور كأنّ للكلمة صورة قديمة إما مهجورة أو مستعملة, وصورة أخرى أحدث منها مستعملة في الوقت الحاضر, وذلك مثل: "بكة" و"مكة". والمؤسف حقًّا أن المعاجم العربية قليلة العناية بتسجيل التطور الشكلي للكلمات على عكس ما تفعل المعاجم الأوربية كمعجم أوكسفورد الكبير الذي أعطى الكثير من العناية لما أطلق عليه اسم "وجهة النظر التاريخية" بالنسبة لتطور الكلمات. ثانيًا: تخصيص مدخل لكل اشتقاق من اشتقاقات المادة, أو على الأصح: لكل مشتق من مشتقات المادة؛ لأن الاشتراك في حروف المادة يعتبر صلة رحم بين الكلمات من حيث الشكل, ولا يعتبر بالضرورة صلة رحم من حيث المعنى, وقد ضربنا مثلًا لهذا بالحل والحل والحلول, تشترك ثلاثتها في الأصول وتختلف في المعاني، ولقد درجت المعاجم العربية على جعل حروف المادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 هي المدخل, ثم تعدد الكلمات الداخلة تحتها على غير ترتيب وبلا قاعدة محددة لهذا التعدد. وقد كنا نسمع أن معاجم اللغات الأخرى تشتمل على أعداد من الكلمات أكثر مما تشتمل عليه المعاجم العربية. فإذا قد عرفنا أن المعاجم العربية لا تعدد الكلمات بمداخل مستقلة, وإنما تعدد المواد كلًّا منها بمدخل خاصٍّ أدركنا أن المعاجم الأجنبية ربما كانت أكثر عدد مداخل لا عدد كلمات من المعاجم العربية. فاللغة العربية دون شك واسعة الثروة بما منحها التاريخ العربي المجيد من مفردات وهي قابلة لزيادة هذه الثروة بما وهبتها طبيعتها العبقرية في الصياغة من إمكان الاشتقاق والارتجال والتعريب وتغليب الصيغ على نحو ما اقترحناه تحت عنوان: "النظام الصرفي" وهلم جرا. ثالثًا: شرح المعاني المختلفة المتعددة للكلمة الواحدة, وينبغي للشرح أن يكون واضحًا وأن يتجنب قدر الطاقة الشرح بالمرادف فقط؛ لأن الترادف التامّ مشكوك في أمره لما أصبح معروفًا في دراسة أصول التعارف على وضع الرموز للمعاني من ضرورة استقلال المعنى الواحد بالرمز الواحد, فالكلمتان اللتان تعتبرهما مترادفتين لا يوجد بينهما في الواقع إلّا منطقة مشتركة من المعنى, ثم يستقل كلٌّ منهما بأقليمه الخاص خارج منطقة التداخل, فاختلاف ظلال المعنى بهذه الصورة مطعَن خطير في فكرة الترادف. ومَنْ ذَا الذي يقول: إن السيف والمشرفي والحسام والهندواني والفرند كلها بمعنى واحد؟ لا شَكَّ أن كل اسم من أسماء السيف هنا يستقل بملحظ خاص، ومن ثَمَّ يحسن في الشرح أن يستوفي ذلك الشرح قدر الطاقة بأكثر من مجرد المرادف. كما ينبغي أن تستوفى استعمالات الكلمة لغويًّا وفنيًّا إذا كانت الكلمة قد دخلت الاستعمال الاصطلاحي, فإذا تعددت معانيها الفنية كما في كلمة "الفاعل" مثلًا، فهو في النحو اسم مرفوع, وفي علم الجريمة هو المجرم, وفي الفلسفة هو المؤثر, وهو ضد القابل، فيحسن في هذه الحالة أن يشير المعجم إلى فروع العلم التي تستخدم فيها الكلمة استخدامًا اصطلاحيًّا قبل البدء في شرح معناها الاصطلاحي؛ كأن يقال مثلًا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الفاعل الذي يفعل, وفي النحو الاسم المرفوع الذي يسند إليه فعل متقدم مبنى للمعلوم، وفي الجريمة الذي الجناية, وفي الفلسفة المؤثر وهو ضد القابل إلخ. ومما يرد على الخاطر في هذا الصدد أن الكتاب العرب المعاصرين يبدون الكثير من الإهمال عند اختيار مصطلحاتهم الفنية, فيختارون للتعبير الاصطلاحي كلمات لا تتصل بما أريد بها من معنى, وذلك كأن يريد الكاتب التعبير عن معنى الإحساس" فيسوق لذلك المعنى كلمة "الشعور", وهي كلمة لها معنًى فني آخر، أو حين يريد الكاتب أن يعبر عن فكرة فنية ما فيأتي للتعبير عنها بكلمة ذات استعمال عرفي عام, فليس لها استعمال سابق في الاصطلاح, وذلك كالتعبير عن فكرة "الطلاق" بكلمة "اليمين"، أو حين يريد الكاتب أن يعبّر عن معنى يوصل إليه لغة بصيغة صرفية معينة, فيستعمل للتعبير عن هذا المعنى صيغة أخرى ذات معنى يختلف تمامًا عن المعنى المقصود؛ كأن يريد التعبير عن معنى "محددة" أي: لها حد وتعريف تتعين به, فيستعمل لهذا المعنى كلمة "محدودة" غير عابئ, أو لعله غير فطن إلى هذه الكلمة الأخيرة معناها "قاصرة", أي: لا توصف بالعموم ولا بالشمول. رابعًا: الاستشهاد على كل معنى من المعاني التي يوردها المعجم للكلمة؛ لأن شرح المعنى بدون استشهاد على الشرح لا يعطي فكرة واضحة عن طريقة استعمال الكلمة, أي: إن القيمة الحقيقية لهذا الاستشهاد تكمن في الكشف عن الطرق المختلفة التي يمكن بها أن تستعمل الكلمة في نطاق التركيب بعد أن عرف معناها المفرد؛ لأن مجرد الكشف عن هذا المعنى مهما تعددت المعاني المشروحة لا يمكن أن يرشد إلى طريقة الاستعمال في التراكيب المختلفة باختلاف الرتبة والتضام وغيرهما من القرائن. وينبغي للاستشهاد أن يختار اختيارًا حسنًا بحيث يمثل المعنى المقصود تمثيلًا أمينًا؛ سواء أكان هذا المعنى فنيًّا أم أدبيًّا جماليًّا أم عرفيًّا عامًّا. فإذا ذكر المعجم للكلمة معنى سوقيًّا كان الأفضل أن يكون الاستشهاد عليه من كلام السوقة, أما إذا كان المعنى المختار أدبيًّا جماليًّا فإن الشاهد ينبغي أن يؤخذ من النصوص الأدبية الجميلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 خامسًا: أن يتوخَّى المعجم تحديد ضمائم الكلمة طبقًا للوجه الأول من وجهي فهمنا للتضام1 وهو الذي أطلقنا عليه "التوارد", والوجه الآخر وهو "التلازم", وقد أشرنا إليهما في دراسة النظام النحوي. وينبغي هنا أن يشير المعجم إلى تغيّر المعنى مع كل ضميمة تتوارد مع الكلمة أو تتلازم معها, فيقول في الحالة الأولى مثلًا: صاحب الدار مالكها, وصاحب رسول الله رفيقة, وصاحب الفضيلة المثقّف في الشريعة الإسلامية, وصاحب الجلالة الملك, وصاحب المعالي الوزير, وصاحبي صديقي, وهلم جرا. ذلك هو المراد بالتوارد الذي هو أحد وجهي التضام, ويقول في الحالة الثانية وهي حالة التلازم: رغب فيه طلبه, وعنه كرهه, وإليه استعانه, وهكذا. ومن قبيل التضام ما يساق من أمثلة التعبيرات المشكوكة مثل: يضرب أخماسًا في أسداس, ويلقي الحبل على الغارب, ويضع الأمور في نصابها, وغير ذلك من العبارات التي تنوسي فيها ما كان لها من المعنى البياني حتى أصبحت كالأمثال لا تحتمل التغيير, ومن هنا جاء وصفها "بالمسكوكة". وإنما ينبغي ذكر الضمائم هنا؛ لأن الاكتفاء بذكر الكلمة دون ضمائمها لا يصل بالمعجم إلى غايته المنشودة, ويضيف إلى ما في المعجم من عموم المعنى وتعدده واحتماله عنصرًا آخر سلبيًّا جديدًا خطيرًا هو "اللبس". جـ- والذي لا أملّ من تكراره في هذا المقام أن المعنى المعجمي متعدد ومحتمل, وهذا هو وجه الشبه من جهة بينه وبين المعنى الوظيفي للعناصر التحليلية, ووجه الاختلاف من جهة أخرى بين هذين المعنيين والمعنى الدلالي للسياق. ومما أود أن أشير إليه ههنا أن المعجم ينتفع بنتائج المستويات التحليلية التي سبقت, وهي النظام الصوتي والنظام الصرفي والنظام النحوي, وهي النظم المسئولة عن تحديد المعنى الوظيفي, أي: إن المعنى المعجمي يستعين بالمعنى الوظيفي. وقد رأينا كيف توقعنا للمعجم أن يحدد طريقة النطق وطريقة الهجاء والمبنى الصرفي, كما يرتبط شرح المعنى المعجمي في تحديد ضمائم الكلمة وسوق شواهدها بضرورة إيراد بعض الإشارات النحوية.   1 راجع معنى التضام في دراسة القرائن اللفظية في النظام النحوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وفيما يلي نصٌّ من القاموس المحيط للفيروزبادي يمكن أن ننظر فيه لنرى مقدار وفائه بمطالب علم المعجم أو مقدار قصوره في هذا المضمار: "ردح" البيت كمنع, وأردحه أدخل شقة في مؤخرة, أو تكاثف عليه الطين، والردحة -بالضم- سترة في مؤخرة البيت، أو قطعة تزاد في البيت. وكسحاب الثقيلة الأوراك، والجفنة العظيمة، والكتيبة الثقيلة الجرارة، والدوحة الواسعة، والجمل المثقل حملًا، والمخصب، ومن الكباش الضخم الإلية، ومن الفتن الثقيلة العظيمة, جمعه: ردح، ومنه قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: إن من ورائكم أمورًا متحاملة ردحًا, ويروى: والردح الوجع الخفيف، والردحي بالضم -بقال القرى, ولك عنه ردحة -بالضم- ومرتدح أي سعة". وبعد فقد رأينا من هذا النص ما يأتي: 1- تعدد المعنى المعجمي لكلمة "ردح" إذ كان لها معنيان، وكان للردحة معنيان أيضًا، وللرداح ثمانية معانٍ مختلفة, وكل واحد من المعاني المتعددة للكلمة المفردة يظل محتملًا للقصد حتى ترد الكلمة في سياق فيكون لها معنًى واحد فقط. 2- رأينا كذلك كيف حدَّد القاموس طريقة نطق الكلمة بقوله: ردح كمنع, فما دمنا نعلم الحركات التي في كلمة "منع", وأنها ثلاث فتحات متوالية, فإن قوله: "كمنع" يصبح في قوة قوله: مفتوحة الأول والوسط والآخر. 3- أما من ناحية هجاء الكلمة: فقد لمحنا في كل مشتق من مشتقات هذه المادة كيف يكتب, ولكن غالبية المشتقات جاءت على القواعد الإملائية المحضة, فلم يكن فيها ما يدعو إلى النظر في طريقة هجائها, ولكن واحدة منها مثلًا هي "الردحي" قد اختلطت فيها قواعد الإملاء بالاعتبارات الصرفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فأصبح هجاؤها وكتابة آخرها بالياء مما يطلبه بعض الناظرين في معناها, فجاءت صورتها الإملائية هنا عونًا لهذا البعض. 4- وحين قال القاموس: "ردح كمنع" أعطانا معلومات صرفية محدَّدة, فبيّن لنا باب الفعل الثلاثي الذي ينتمي إليه "ردح"؛ إذ لم تقتصر هذه المعلومات التي عرفناها من قوله: "كمنع" على صورة الماضي, وإنما دلت الكلمة أيضًا على حركة عين مضارعه, وأنها فتحة, فكأنه قال: ومضارعه "يردح" مفتوح العين. 5- أعطانا القاموس هنا صورة توضح لنا قيمة التضامّ في إيضاح المعنى وطريقة الاستعمال؛ إذ قال: "ولك عنه ردحة بالضم ومرتدح أي: سعة", ولو أنه قال: "والردحة السعة" لما أمكن لنا أن نعرف متى تكون كذلك, ولكان في قوله تعميم غير حميد لا يذهب بأثره إلّا إيراد الضمائم التي يكون هذا المعنى بها. 6- وربما أرجعنا قوله: "ويروى ردحًا" إلى محاولة إيفاء حق "وجهة النظر التاريخية" بإيراد الروايات المختلفة للكلمة، ولكن ذلك بأية صورة من صوره لا يمكن اعتباره من قبيل التطور الصرفي لشكل الكلمة etemology, وهو أمر تفتقر إليه معاجمنا العربية أشدّ الافتقار, كما تفتقر هذه المعاجم أيضًا إلى دراسة التطور الدلالي للكلمة الواحدة من عصر إلى عصر. وهذا الجانبان من "وجهة النظر التاريخية" المذكورة يستحقان عناية المجامع اللغوية والهيئات والأفراد لما يكمن وراءهما من الفائدة الكبيرة التي تعود على تاريخ حياة اللغة الفصحى. 7- ولقد رأينا في قول القاموس: "ومنه قول علي -رضي الله عنه: "إن من ورائكم أمورًا متماحلة ردحًا" مثلًا للاستشهاد على المعنى, وقد علمنا أن الاستشهاد يعين على معرفة طريقة الاستعمال في التراكيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ذلك هو المعجم، وتلك طبيعة منهجه وحدود ما يطلب منه. ولعل التعدد والاحتمال اللذين ذكرناهما للمعنى الوظيفي أولًا ثم للمعنى المعجمي ثانيًا يشيران إلى ضرورة عدم الاكتفاء بمعنى المقال مهما توافرت القرائن المقالية؛ لأن هذه القرائن "معنوية أو لفظية" لا تغني بأي حال عن القرائن الحالية التي نستمدها من المقام. والمقام وما يمكن أن يستمد منه من القرائن التي تعين على تحديد المعنى هو موضوع الفصل التالي تحت عنوان "الدلالة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الدلالة : يحلو لكثيرين من أساتدة اللغة العربية في أيامنا هذه أن يشيروا إلى ما يعتبرونه نقطة ضعف في النحو العربي, وهو ارتباطه الشديد بطابع الصناعة, حتى إنه يعرف أحيانًا باسم "صناعة النحو", ثم خلوّه من الارتباط بالمضمون مما جعله يبدو في نظرهم جسدًا بلا روح، والمضمون الذي يقصده هؤلاء هو موضوع علم المعاني, فهم يقولون: إن علمي النحو والمعاني لا يمكن الفصل بين أحدهما وبين الآخر إلّا مع التضحية بالمعنى على مستوى العلمين جميعًا, ويوغلون في المحاجَّة فيقولون: إن ما تركه لنا عبد القاهر الجرجاني من دراسات في دلائل الإعجاز وغيره يعتبر إشارات ذكية إلى الطريق الذي كان على النحاة أن يسلكوه بدراستهم للنحو, وبخاصة ما قام به عبد القاهر من دراسة "للنظم" في اللغة العربية. وأنا أوافق موافقة تامة على كل هذا الذي يدور في أذهان الأساتذة الكرام, وألاحظ أن هذه العبارات الصادقة كانت تدعو إلى الغوص في خِضَمّ هذه المشكلة بإيضاح الطريقة التي يمكن بواسطتها أن يصبح للنحو العربي "مضمون", والتي يمكن بها مزج معطيات علم النحو بمعطيات علم المعاني لنصل منهما معًا ممتزجين إلى تنظيم دراسة الفصحى على أساسٍ جديد لم يخطر ببال سيبويه ولا ببال عبد القاهر، ولكن لم يحاول واحد من الأساتذة أن يمزج أحد العلمين بالآخر ليخرج منهما دراسة نحوية تعنى بالتركيب كما تعنى بالتحليل, وتختص بمعاني الجمل كما تحتفي بمعاني الأبواب الفرعية التي في داخل الجمل. ولكن إذا فهمنا من كلمة "صناعة" الدراسة الشكلية التي تعنى بأشكال المباني المختلفة للمعاني المختلفة, فلا بُدَّ من الاعتراف بأن علوم البلاغة العربية كلها -وليس علم المعاني فقط- دراسة شكلية, ومن ثَمَّ تكون البلاغة صناعة كما كان النحو صناعة. ولهذا السبب بالذات لم تقم علوم البلاغة في أية مرحلة من مراحل تاريخها الطويل بدور المنهج النقدي الأدبي المتكامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 لأنها لم تتخطّ النقد الشكلي إلى نقد المضمون إلّا مع الكثير من القصور, حتى على مستوى فهم القدماء أنفسهم لفكرة النقد. ولكنَّ البلغاء في إطار شكلية البلاغة التي ذكرناها ربما فطنوا إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية وأنها شديدة الارتباط بثقافة الشعب الذي يتكلمها, وأن هذه الثقافة في جملتها يمكن تحليلها بواسطة حصر أنواع المواقف الاجتماعية المختلفة التي يسمون كلًّا منها "مقامًا", فمقام الفخر غير مقام المدح, وهما يختلفان عن مقام الدعاء أو الاستعطاف أو التمني أو الهجاء, وهلم جرا. وكان من رأي البلاغيين أن "لكل مقام مقالًا" لأن صورة "المقال" speech event تختلف في نظر البلاغيين بحسب المقام" context of sotuation, وما إذا كان يتطلب هذه الكلمة أو تلك, وهذا الأسلوب أو ذاك من أساليب الحقيقة أو المجاز, والإخبار أو الاستفهام, وهلم جرا. ومن عباراتهم الشهيرة في هذا الصدد قولهم: "لكل كلمة مع صاحبتها مقام", وبهذا المعنى يصبح للعلم الجديد الذي يأتي من امتزاج النحو والمعاني "مضون"؛ لأنه يصبح شديد الارتباط بمعاني الجمل ومواطن استعمالها وما يناط بكلِّ جملة منها من "معنًى". ولقد كان البلاغيون عند اعترافهم بفكرة "المقام" متقدمين ألف سنة تقريبًا على زمانهم؛ لأن الاعتراف بفكرتي "المقام" و"المقال" باعتبارهما أساسين متميزين من أسس تحليل المعنى يعتبر الآن في الغرب من الكشوف التي جاءت نتيجة لمغامرات العقل المعاصر في دراسة اللغة. وفكرة "المقام" هذه هي المركز الذي يدور حول علم الدلالة الوصفية في الوقت الحاضر, وهو الأساس الذي ينبني عليه الشق أو الوجه الاجتماعي من وجوه المعنى الثلاثة, وهو الوجه الذي تتمثَّل فيه العلاقات والأحداث والظروف الاجتماعية التي تسود ساعة أداء "المقال". ومن المعروف أن إجلاء المعنى على المستوى الوظيفي "الصوتي والصرفي والنحوي", وعلى المستوى المعجمي فوق ذلك لا يعطينا إلّا "معنى المقال" أو "المعنى الحرفي" كما يسميه النقاد, "أو معنى ظاهر النص" كما يسميه الأصوليون, وهو -مع الاعتذار الشديد للظاهرية- معنى فارغ تمامًا من محتواه الاجتماعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 والتاريخي منعزل تمامًا عن كل ما يحيط بالنص من القرائن الحالية التي تشبه ما يسمونه في المرافعات cirumstantial evidenec, وهي القرائن ذات الفائدة الكبرى في تحديد المعنى, ولقد كان علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- فاهمًا تمامًا لكل هذه الحقائق التي نحاول شرحها حين ردَّ على هتاف الخوارج "لا حكم إلّا الله" بقوله: "كلمة حق أريد بها باطل", وكان يعني أن الناس ربما قنعوا بالمعنى الحرفي لهذا الهتاف, أي: بمعنى "ظاهر النص" فصدَّقوا أن الخوارج أصحاب قضية تستحق أن يدافع الناس عنها, وربما غفل الناس عن المقام الحقيقي الذي ينبغي لهذه الجملة أن تفهم في ضوئه, وهو مقام "محاولة إلزام الحجة سياسيًّا بهتاف ديني" فالمقام في هذا الهتاف من السياسة والمقال من الدين، وكان ينبغي للناس أن يفهموا المقال في ضوء المقام. والفرق بين ما يسميه الناس "نص القانون" وبين ما يسمونه "روح القانون" هو فرق ما بين الاكتفاء بمعنى "المقال" وبين عدم الاكتفاء به والغوص وراء المراد الحقيقي للمشروع وهو معنى "المقام", يقول أحمد أمين: "بل يظهر لي أن عمر كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرنا، ذلك أن ما ذكرنا هو استعمال الرأي حيث لا نصَّ من كتاب ولا سنة، ولكنا نرى عمر سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرف المصلحة التي لأجلها كانت الآية أو الحديث، ثم يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شيء إلى ما يعبَّر عنه بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته". وأقول أنا: إن معنى ذلك أن عمر لم يكن يكتفي بمعنى "المقال", أو بعبارة أخرى: لم يكن يكتفي بمنطوق الآية أو الحديث, وإنما كان يتوغّل في سبيل معرفة أسباب النزول وظروفه الاجتماعية والتاريخية, أي: إنه كان يتخطَّى المعنى الحرفي إلى المعنى الاجتماعي, ولا يقف عند معنى "المقال" وإنما يضمّ إليه معنى "المقام". ومن قبيل استغلال معنى "المقال" والمراوغة بنفي "معنى المقام" ما حدث من أنَّ اليهود في المدينة حينما سمعوا الآية القائلة: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا   1 فجر الإسلام ص238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 حَسَنًا} قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} فقال أبو الدحداح وقد فهم "المقام" فهمًا حقيقيًّا: "إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا". وهذا يذكرنا بالمستشرق الذي سمع أحد الدراويش في إحدى طرقات القاهرة يصيح "مدد! ", وكان المستشرق يعرف المعنى المعجمي للكلمة, ولكنه لا يعرف ما وراءها من "مقام" ولذلك استفسر: "أيّ نوع من المدد يريده ذلك الرجل"؟ وأخيرًا ينبغي لنا أن نشير إلى أن المفسرين قد فطنوا منذ زمن سحيق في القدم إلى الفرق بين ظاهر القرآن وباطنه, فكان فهمهم لهذا الفرق تفريقًا منهم بين المعنى "المقالي" والمعنى "المقامي"، فإذا كان المعنى الدلالي يعتمد على هاتين الدعامتين فإن الشكل التالي ربما يوضح العلاقة بينهما توضيحًا كافيًا: وقد يستعار "المقال" المشهور "للمقام" الطارئ "وهو ما يسمَّى بالاستشهاد أو الاقتباس" أثناء الحديث، والأصل في ذلك أننا نستطيع أن نوفق بين كلام ذائع الشهرة انقضى مقامه الأصلي الذي قيل فيه وبين مقام مشابه وجدنا أنفسنا فيه الآن, فنورد الكلام القديم الشهير في المقام الجديد على سبيل التلفيق. وكلما قوي التناسب بين المقال الشهير وبين المقام الطارئ كان ذلك من حسن الاستشهاد, ولقد رزق أبو بكر -رضي الله عنه- القدرة على حسن   1 سبق أن ذكرنا أن القرائن المقالية منها ما هو معنوي وما هو لفظي. انظر النظام النحوي من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الاستشهاد فمن ذلك استشهاده بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ولقد قال عمر عند سماعه هذا الاستشهاد ما معناه: والله لكأني لم أسمع هذه الآية من قبل. ومن ذلك أيضًا, ولعله حدث في اليوم نفسه في اجتماع السقيفة استشهاده أمام الأنصار بقول طفيل الغنوي: جزى الله عنا جعفرًا حين أزلفت ... بنا نعلنا في الخافقين فزلت أبو أن يملّونا ولو أن أمنا ... تلافي الذي يلقون منا لملت همو أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأظلت ولقد كان لكلٍّ من هذين الاستشهادين أثره الحاسم في إصلاح مقامين من أخطر مقامات الفتنة في التاريخ الإسلامي. وقد يستخدم النص الواحد في الاقتباس بحيث يرد جزء منه على جزئه الآخر كالذي يروى عن أحد علماء الأزهر, وكان بينه وبين زميل له ميل إلى المنافرة, فدخل المسجد الأزهر ذات يوم من أيام الشتاء فوجد زميله مستلقيًا تحت دفء الشمس وقد غطَّى وجهه بمنديلٍ فظنَّه نائمًا فوقف عنده وقال: "الفتنة نائمة" فاعتدل زميله من رقدته وقد تصنَّع صورة الذي أوقظ من نومه وقال: "لعن الله من أيقظها" فنرى من ذلك أن عبارة الحديث قد انقسمت إلى قسمين ردَّ ثانيهما على أولهما. والمغزى من وراء كل ذلك أن من المقال ما يتَّصف بصفات معينة أو ما تتوافر له مزايا معينة تجعله صالحًا للاستحضار في المقامات التي تشبه مقامه الأصلي الذي قيل فيه, فيصبح المقال القديم جزءًا من المقام الجديد, فيدخل في تحليل هذا المقام الجديد. ولقد كنَّا نسمع ونحن بعد طلبة في دار العلوم أن قبيلتين عراقيتين ذواتي آصرة حدث بينهما نزاع, فكان ممن ندب للصلح بينهما أستاذنا المرحوم الشاعر علي الجارم وكان وكيل دار العلوم في ذلك الحين, وقد سمعنا أنه نجح نجاحًا عظيمًا حين استشهد بقول البحتري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 شواجر أرماح تقطع دونها ... شواجر أرحام ملوم قطوعها إذا احتريت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها فبكى لسماع هذا الشعر رجال القبيلتين وتصالحوا, وما ذلك إلّا لأنَّ المقال القديم المشهور قد قيل مرة أخرى في مقام يكاد يكون تامّ الشبه بمقامه الأصلي القديم. وللوصول إلى معنى في صورته الشاملة لا بُدَّ أن نستخدم الطرق التحليلية التي تقدمها لنا فروع الدراسات اللغوية المختلفة التي فصَّلنا القول فيها من قبل, وهي الصوتيات والصرف والنحو "أي الفروع الخاصة بتحليل المعنى الوظيفي", ثم المعجم "وهو الخاص بالمعنى المعجمي", والحقائق التي نصل إليها بواسطة التحليل على هذه المستويات حقائق جزئية بالنسبة إلى المعنى الدلالي. ذلك بأن هذه الحقائق إما أن تكون وظائف "كما في الصوتيات والصرف والنحو" أو علاقات عرفية اعتباطية "كما في المعجم". فالوظائف تتضح كما سبق نتيجة للتحليل على المستويات الثلاثة الأولى, أما العلاقات العرفية الاعتباطية التي ذكرناها فالمقصود بها العلاقات بين المفردات وبين معانيها. ولقد سبق لنا عند الكلام عن الجملة الهرائية التي أوردناها في التقديم لدراسة "النظام النحوي" أن وجدنا هذه الجملة الهرائية مكتملة الوظائف ولكنها تفتقد العلاقات العرفية المعجمية؛ لأنها ليست مكونة من كلمات ذات معنى, وكذلك تفتقد العنصر الاجتماعي وهو "المقام". ولقد كان اكتمال الوظائف سببًا في قدرتنا على إعراب الجملة, ولكن قصورها معجميًّا واجتماعيًّا حال بينها وبين أن تكون نصًّا عربيًّا مفهومًا. وكذلك الأمر حين تنفرد العلاقات العرفية بين الكلمات ومعانيها بالوجود, فلا تكون هناك وظائف ولا مقام. إن مجرد وضوح هذه العلاقات لا يؤدي إلّا إلى فهم للكمات المفردة على المستوى المعجمي إذ أنها هنا لم توضع في سياق. ووضوح معاني المفردات لا يكشف حتى عن المعنى الحرفي الذي سميناه "ظاهر النص" أو معنى "المقال"؛ لأن الذي لدينا هنا هو "المفردات" وليس "النص", وذلك أيضًا لأن معنى "ظاهر النص" يحتاج إلى الوظائف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 "المعنى الوظيفي", كما يحتاج إلى العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها "المعنى المعجمي"؛ إذ منهما معًا يكون معنى "المقال"، وانفراد العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها بالوجود يجعل الأمر بحاجة أيضًا إلى معنى "المقام" أو المعنى الاجتماعي الذي هو شرط الاكتمال "المعنى الدلالي" الأكبر، ومعنى هذا بالتالي أننا حين نفرغ من تحليل الوظائف على مستوى الصوتيات والصرف والنحو, ومن تحليل العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها على مستوى المعجم, لا نستطيع أن ندَّعي أننا وصلنا إلى فهم المعنى الدلالي؛ لأنَّ الوصول إلى هذا المعنى يتطلّب فوق كل ما تقدَّم ملاحظة العنصر الاجتماعي الذي هو المقام. وهذا العنصر الاجتماعي ضروري جدًّا لفهم المعنى الدلالي, فالذي يقول لفرسه عندما يراها، "أهلًا بالجميلة" يختلف المقام معه عن الذي يقول هذه العبارة لزوجته, فمقام توجيه هذه العبارة للفرس هو مقام الترويض, وربما صحب ذلك ربت على كتفها أو مسح على جبينها. أما بالنسبة للزوجة فالمعنى يختلف بحسب المقام الاجتماعي أيضًا, فقد تقال هذه العبارة في مقام الغزل أو في مقام التوبيخ أو التعيير بالدمامة. فالوقوف هنا عند المعنى المعجمي لكلمتي "أهلًا" و"الجميلة", وعلى المعنى الوظيفي لهما وللباء الرابطة بينهما, لا يصل بنا إلى المعنى الدلالي, ولا يكون وصولنا إلى هذا المعنى الدلالي إلّا بالكشف عن المقام الذي قيل فيه النص. والذي يتكلم إلى نفسه يكشف عن مقام من نوع آخر. ولست أحب أن أشير هنا إلى الجانب النفسي والطبي لهذا المقام؛ لأن ذلك أمر لا يتصل بالدراسات اللغوية إلّا من حيث هو جزء من "مقام" ما. ومهما يكن من أمر فإن هذا المقام وأشباهه كمقام الدعاء والصلاة وتقييد المواعيد والعنوانات وأرقام التليفون في المفكرة, وكالقراءة في الخلوة ونحوها, هو مما يعوزه الطابع الاجتماعي الواضح, حتى إن هذه المواقف لتصلح أن تسمَّى "مواقف" فردية لا "مقامات" اجتماعية. ومن قبيل ذلك أيضًا أن تقود سيارتك بنفسك ثم نجد أمامك شخصًا آخر يقود سيارة فلا يلتزم بها قواعد المرور ويسبب لك شيئًا من الارتباك والضيق, فإذا بك تصب سيلًا من الاحتجاجات والشتائم المسموعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 بالنسبة إليك أنت فقط في سيارتك فلا يسمعها معك إنسان, فهذا موقف فردي أيضًا, ولا يتوافر له عناصر المقام الاجتماعي. ومن قبيل ذلك أيضًا من يغنِّي لنفسه دون أن يسمعه أحد, أو على الأقل دون أن يكون غناؤه للإسماع. والذي يتثاءب ويختم تثاؤبه بنداء لفظ الجلالة, فكل هؤلاء المتكلمين يقصر أمر الموقف معهم عن أن يكون مقامًا اجتماعيًّا بالمعنى الذي نقصده, ولكن وصف أيّ "موقف" من هذه المواقف بأنه "اجتماعي" لا يأتي من طبيعة تكوينه, وإنما يأتي حين ننظر إليه باعتباره نمطًا سلوكيًّا معينًا داخلًا في نسيج ثقافة اجتماعية ما, بمعنى أن أفراد المجتمع جميعًا يقفون هذه المواقف بعينها عندما تتهيأ لها المناسبة, ولكنهم يقفونها أفرادًا. وهذه الأنماط من السلوك يتلقاها الفرد عن مجتمعه فيكتسبها منه, ويصبح سلوكه مشروطًا بطرقها مفرغًا في قوالبها التي حددها المجتمع, وهذا مناط لزعمها اجتماعية في أصلها. فالفرد يتعلم من مجتمعه كيف يقرأ القرآن بصوت مسموع وبنغمات ترتيلية خاصة, ويكتسب معتقداته في طفولته من المجتمع ويتعلم منه كيف يدعو الله, وكذلك يتعلم كيف يستشهد لنفسه بالشعر أو أي شكل تعبيري آخر بحسب المناسبة دون أن يسمع الناس حوله ما يقول. ويتعلم من المجتمع كيف يختم التثاؤب بذكر الله بصوت مسموع, فهذه المواقف على رغم كونها لا تحمل طابع الاتصال الاجتماعي يمكن اعتبارها أنماطًا سلوكية لغوية, فينسب إليها -لكونها أنماطًا- قدر من الطابع الاجتماعي. وهناك نوع من المقامات الاجتماعية يمكن أن نسميه مقامات اللغو الاجتماعي, أو كما يسميها مالينوفسكي phatic communication يتبادل الناس فيها الكلام, ولكنهم لا يقصدون به أكثر من شغل الوقت, وحل موقف اجتماعي لولا هذا اللغو لكان فيه حرج. والكلام الذي يقال في هذا المقام ليس مقصودًا لذاته, فقد يكون موضوعه الطقس أو السياسة أو أيّ موضوع عام آخر, والحقائق التي يشتمل عليها هذا الموضوع معروفة عند طرفي المحادثة فلا يفيد أحدهما من سماعها أيّ قدر من المعلومات الجديدة, ولكن كلًّا من الطرفين يلغو رفعًا للحرج الذي يتوقعه نتيجة للصمت. مثال ذلك أن تكون في حجرة انتظار أحد الأطباء بمفردك ولم يحضر الطبيب إلى عيادته فتظلّ بمفردك تنتظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 قدومه, وفجأة يقدم عليك زائر آخر للطبيب فتضمكما الحجرة ولا ثالث لكما. فلو سكتُّما ولم يفتح أحدكما بابًا للكلام لأصبح الموقف بينكما مفعمًا بنوع من الحرج الاجتماعي الذي يشعر معه كل منكما برغبة في إنهاء الموقف. والحيلة الاجتماعية لتجنُّب هذا الحرج هي فتح موضوع لتبادل الكلام. ولكن كيف يمكن لأحدكما أن يفتح موضوعًا وليس بينكما تجارب مشتركة, ولم ير أحدكما الآخر قبل اليوم. الجواب على ذلك أيضًا أن المجتمع الذي اخترع حيلة فتح الموضوع حدَّد بعض الموضوعات العامة الطابع لهذا الغرض؛ بحيث لا يتعب إنسان في البحث عن موضوع, وهذه الموضوعات ذات طابع عام غير شخصي؛ بحيث لا يتأذّى بفتحها إنسان لا غائب ولا حاضر, فمن ذلك الكلام في الطقس وما يحس المتكلم والسامع من حرّ أو برّ أو جوٍّ ربيعي أو خريفي لطيف مع تذكر تجارب سابقة عن حالات جوية تستحق التذكر. وقد تدعو مناسبة زيارة الطبيب إلى أن يفصح كل منهما للآخر عمَّا يشكو منه وعن تطور مرضه, ومن الموضوعات المفضَّلة في هذه المواقف في البلاد العربية بخاصة الكلام في السياسة وفي القضايا القومية, ويروي بعض الظرفاء أنه إذا تقابل إنجليزيان فكلاهما في الطقس, وإذا تقابل عربيان فكلامهما في السياسة, وإذا تقابل يونانيان فكلاهما في المطاعم, والكلام في أوساط النساء عن الأزياء والأولاد وبين الخدم عن أسرار المخدومين, وبين الطلبة عن الامتحان والأساتذة وهلم جرا. والكلام في كل ذلك ليس مقصودًا لذاته إلّا حين يتحول اللغو إلى مناقشة تتطلَّب أن يكون لكل من الطرفين رأي يدافع عنه, ولكن المقصود باللغو في كل هذه الحالات رفع الحرج الاجتماعي عن شريكين في موقف خلقته الصدفة. أما نوع المقامات الذي اكتمل فيه الطابع الاجتماعي فهو الذي يتحقق فيه وجود عناصر تجعل المقام مركبًا لا بسيطًا, أي: تجعله "مقامًا" لا "موقفًا" كمالمثال الذي أوردناه من قبل عن الرجل الذي قال لزوجته: "أهلًا بالجميلة" فقد ذكرنا أن الاحتمالات التي تحتملها هذه التحية تتنوع بتنوع المقامات الممكنة من مقام غزلٍِ إلى مقام تبويخٍ إلى مقام تعيير وكيد, ولا يمكن لواحد من هذه المعاني أن يؤخذ أخذًا مباشرًا من المعنى المعجمي لكلمة "أهلًا" ولا المعنى المعجمي لكلمة "الجميلة", ولا مع المعنى الوظيفي لأي منهما, ولا للباء التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ربطت بينهما في السياق, أي: إن معنى الغزل أو التوبيخ إلخ لا يؤخذ من "المقال", وإنما يحتاج إلى اعتبار "المقام" بالضرورة. دعنا نتأمل مثلًا مما يوضح ضرورة اعتابر "المقام" في تحديد المعنى الدلالي, كلنا قد يعلم أن "يا" من حروف النداء, وأن كلمة "سلام" اسم من أسماء الله تعالى, وهي كذلك ضد الحرب, فإذا أخذنا بالمعنى الوظيفي لأداة النداء, والمعنى المعجمي لكلمة "سلام", حين ننادي "يا سلام", فإن المعنى الحرفي أو المقالي أو ظاهر النص أننا ننادى الله سبحانه وتعالى لا أكثر ولا أقل. ولكن هذه العبارة صالحة لأن تدخل في مقامات اجتماعية كثيرة جدًّا, ومع كل مقام منها تختلف النغمة التي تصحب نطق العبارة, فمن الممكن أن تقال هذه العبارة في مقام التأثّر, وفي مقام التشكيك, وفي مقام السخط, وفي مقام الطرب, وفي مقام التوبيخ, وفي مقام الإعجاب, وفي مقام التلذذ, وفي مقامات أخرى كثيرة غير ذلك، وظاهر النص في عبارة "السلام عليكم" أنها تحية إسلامية يجاب عليها بأحسن منها أو مثلها, ولكن هذه العبارة بذاتها قد تتحوّل إلى معنى المغاضبة, فقد يطول النقاش بينك وبين إنسان في موضوع ما, ويتمسَّك كلٌّ منكما برأيه, فحين تيأس من إقناع صاحبك, وتريد أن تعلن له عن انتهاء المقابلة بالمغاضبة توليه ظهرك منصرفًا وتشير بيديك إشارة الذي ينبذ شيئًا وراء ظهره من فوق كتفه, وتقول مع هذه الإشارة: "السلام عليكم" وتذهب مغاضبًا. فهذا المعنى لا يفهم من مجرد المعنى الوظيفي منفردًا, ولا المعجمي منفردًا, ولا هما معًا, ولكنه يتوقف في النهاية على "المقام" الاجتماعي المعين. وقد تقال هذه العبارة بعينها فيفهم منها معنى الهزل في مقام يتعيّن فيه ذلك, ولبيان هذا المقام وأبعاده الاجتماعية يمكن أن نتصوره على النحو التالي: الأستاذ واقف بالمدرج يلقي محاضرته على ما يقرب من مائتي طالب, وقد انهمك في شرح نقطة هامة من نقاط المحاضرة, والطلبة ينصتون بشغف واهتمام بما يقوله الأستاذ حتى ليسمع كل منهم تردد أنفاسه, وقد تعود هؤلاء الطلبة من أستاذهم عدم الرضى عن التأخر عن بدء المحاضرة, فكان الواحد منهم إذا تأخَّر دخل المدرج وهو يحس بقدر غير قليل من الخجل, فيدخل المدرج متسللًا على أطراف أصابعه, ويجلس على أقرب مقعد إلى باب الدخول نجده خاليًا. ومن الطلبة واحد عرف بينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 بشيء من الغفلة وسوء التقدير وعدم فهم المواقف الاجتماعية ومطالبها فهمًا تامًّا, وذات يوم كان الطلبة والأستاذ على هذه الحال في المدرج, وكان هذا الطالب قد تأخّر, وفجأة دخل المدرج بعد ربع ساعة من ابتداء المحاضرة فلم يتسلل إلى أقرب مقعد, ولم يحس شيئًا من الخجل, وإنما بدا أزهى من طاووس وهو يلج باب المدرج متئدًا في مشيته مع شيء من تصنّع الوقار, وقال لكل من في المدرج: "السلام عليكم" ومدَّ بها صوته. لا شكَّ أن ردَّ الفعل الوحيد لهذه العبارة التي يزعمونها مجرد تحية إسلامية أن يضحك الطلبة والأستاذ كثيرًا, فهذا الضحك هو الرد الذي إن لم يناسب "المقال" فقد ناسب "المقام" تمامًا. ولقد رأينا أن العناصر التي يشتمل عليها المقام الاجتماعي هنا هي: المحاضرة -تعود الخجل من التأخر- المتكلم الذي لم يخجل السامعون الصامتون -الأستاذ الذي صمت عند سماع العبارة- الوقار الذي تظاهر به المتكلم, وأخيرًا عبارة السلام عليكم نفسها، وربما احتملت هذ العبارة تحليلًا وظيفيًّا أو معجميًّا عند الحاجة, كأن يكون هذا الطالب ألثغ في السين مثلًا, فهذا يضيف إلى دواعي الضحك داعيًا صوتيًّا لغويًّا. وإذا كان "المقال" المكتوب لا يقع في أثناء قراءته في وقت لاحق في مقامه الاجتماعي الذي كان له في الأصل, فإن هذا المقام الأصيل من الممكن بل من الضروري أن يعاد بناؤه في صورة وصف له مكتوب, حتى يمكن للنص أن يفهم على وجهه الصحيح. وفي بناء هذا المقام الأصيل بناءً جديدًا بواسطة وصفه, كما كان لا بُدَّ من الرجوع إلى الثقافة عمومًا والتاريخ بصفة خاصة. وكلما كان وصف المقام أكثر تفصيلًا كان المعنى الدلالي الذي نريد الوصول إليه أكثر وضوحًا في النهاية حين تصبح كل عبارة من عبارات النص واضحة بما يجليها من القرائن الحالية التاريخية والقرائن المقالية التي في وصف المقام؛ فالذين يقرءون خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي على منبر الكوفة دون أن يعرفوا المقام الذي قيلت فيه هذه الخطبة, ربما اتهموا الحجاج بتهم بعيدة عنه؛ أولها: سوء السياسة ما دام قد استهلّ ولايته على قوم لم يجربهم من قبل ولم يرهم بكل هذا العنف, ولكن المقام الذي يشتمل على إيضاح العلاقة بين العراقيين وبين بني أمية ربما شمل من الحوادث الماضة حادثًا كقتل عثمان ومعركة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 صفين ومقتل الحسين وتشيع العراقيين وكراهيتهم لبني أمية, ورغبة الأمويين في تأديب هؤلاء العراقيين حتى لا يثوروا بهم أو يعصوا ولاتهم, ومن هنا يصبح من الضروري أن يأتي وصف المقام في صورة مقدمة للخطبة تجري على نحو شبيه بما يأتي: كان عبد الملك بن مروان قد أرسل الحجاج واليًا من قِبَلِه على العراق, وكان أهل العراق من الشيعة يكرهون الأمويين ويعصون ولاتهم, فلمَّا دخل الحجاج المسجد وكان ضئل الجسم صعدَ المنبر وأرخى فضل عمامته على وجهه وصمت صمتًا طويلًا حتى همَّ بعض الناس أن يحصبه, وقال عمير بن ضابئ البرجمي وكان بين الناس في المسجد, قبَّح الله بني أمية إذ يرسلون إلينا مثل هذا, فرفع الحجاج ما كان أرخى من عمامته وحسرها عن وجهه وقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العامة تعرفوني فكل هذه العبارات التي قدَّمنا بها للخطبة ليست أكثر من وصف المقام الاجتماعي التاريخي الذي قيلت فيه هذه الخطبة, وبواسطته ينتفي عن الخطبة أن يكون معناها سوء السياسة, إلى أن يكون معناها الحزم. على أن هذا المقام الذي وصفناه بكلمات قليلة يمكن أن يكون وصفه هو كل ما قيل في تاريخ الفتنة الكبرى وما بعدها, ولكن الاكتفاء بهذا الوصف المختصر يفترض أن القارئ على علم بهذا التاريخ. ولعل السبب الرئيسي في ضرورة التزام طلاب اللغة العربية وأدبها بدراسة مقررات من التاريخ الإسلامي والفلسفة الإسلامية والتفسير والحديث والأدب والشريعة وغيرها, إن طالب اللغة العربية حين ينظر في نص أدبي معيّن ينبغي أن يكون له من المعلومات الشاملة في هذه الفروع جميعًا ما يعينه على فهم "المقام" الذي قيل فيه هذا النص حين يلخِّص له هذا المقام. وقد تعوَّدنا أن نقول لطلبتنا دائمًا عن هذه الفروع التي يطلقون عليها "العلوم المساعدة": إنها فروع إيضاح المقام النصوص التي نصادفها في التراث العربي, ويمكن إيضاح هذه النقطة بالمثال الآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 إذا وقف معلم اللغة العربية يشرح لطلابه بيتًا لمروان بن أبي حفصة يقول فيه: أنَّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام فلن يستطيع أن يشرح هذا البيت أيّ قدر من الشرح إلّا إذا مسَّ علم الميراث ولو مسًّا خفيفًا, وشرح لهم رسالة إخوانية يقول مرسلها لمن يرسلها إليه: "أنت جوهر الفضل وهيولاه" فلن يعرف كيف يشرح هذه العبارة لتلاميذه إلّا إذا ألَمَّ إلمامًا يسير بالمقولات وبالفلسفة, وإذا أراد أن يشرح لهم الرسالة الهزلية لابن زيدون فإنه سيضَّطر إلى معرفة الكثير من فروع المعرفة؛ لأن الرسالة مليئة بالإشارات التاريخية والفلسفية والشرعية واللغوية وغيرها. فكل هذه العلوم المترابطة تتحد في كلٍّ متماسك لتوضح "المقام" للنص المكتوب. ويحتّم الأصوليون على مَنْ يتصدَّى لاستخراج الأحكام من القرآن أمورًا لا ينبغي أن يغفل عنها, هي في الواقع "مقام" للفهم, فعليه مثلًا: 1- ألّا يغفل عن بعضه في تفسير بعضه. 2- ألّا يغفل عن السنة في تفسيره. 3- أن يعرف أسباب نزول الآيات. 4- أن يعرف النظم الاجتماعية عند العرب. فهذه العناصر الأربعة يمكن اختصارها في كلمة "المقام", فلا ينبغي لمن يتصدَّى لتفسر آية أن يغفل عن مقامها, يقول صاحب أصول التشريع الإسلامي1: "فإذا غفل عن بعضه لم يسلم استنباطه من الزلل, وتعرض عمله للفساد, فلا ينبغي مثلًا أن يفسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} مع الغفلة عن قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} ، ولا قوله تعالى:   1 الأستاذ علي حسب الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء} مع الغفلة عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} ، ولا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} مع نسيان قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} , ولا قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} مع إهمال قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} . فالآيات التي نهى عن الغفلة عنها من "مقام" فهم الآيات التي اقترنت بها وأريد تفسيرها والاستنباط منها. ومن قبيل ذلك أيضًا أننا لو نظرنا إلى قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فاكتفينا بظاهر نصِّ هذه الآية عمَّا يحيط بهذا النص من ظروف أخرى, فقطعنا فهمنا لهذا النص عن مقامه, لكان هذا الفهم فهمًا خاطئًا لرأي الإسلام في الخمر, ولبدا الأمر في النهاية وكأنَّ الإسلام لم يحرِّم الخمر؛ إذ هو يفاضل بين المنافع والإثم في تناولها وفي اجتنابها. ولكن المقام اللازم للفهم الصحيح لهذا النص القرآني يمكن وصفه بعناصر متنوعة منها: حب العرب للخمر, واقترانها في أذهانهم بمفاهيم موقرة جدًّا عندهم؛ كفكرة "المروءة" والسؤود "والعز", كما يمكن فهم ذلك من أشعارهم كمعلقة طرفة ومعلقة عنترة ومعلقة عمرو بن كلثوم, ثم كراهية الإسلام للخمر وعزمه على صرف العرب عنها بغير طفرة, ثم رغبة الإسلام في تألّف القلوب وفي تحبيب المشركين في الدخول في حظيرته, وكذلك رغبته في توقي شحذ المقاومة في نفوسهم مما حدا بالإسلام إلى تجنب تحريم الرق دفعة واحدة, كما تجنَّب تحريم الخمر دفعة واحدة؛ إذ بدأ بالموازنة بين إثمها ونفعها فابتهل الضائقون بالخمر كعمر بن الخطاب إلى الله أن ينزل في الخمر حكمًا شافيًا, فنزل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} ذلك هو المقام الذي ينبغي أن نفهم المقال في ضوئه على أننا لا ينبغي لنا أن ننسى عنصرًا هامًّا من عناصر المقام هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 جاء لاحقًا "أو ملحقًا" لنزول الآية الثانية, وهو القاعدة الأصولية التي تقول: "الأمر يفيد الوجوب"؛ إذ لا يكمل فهمنا للنصِّ هنا إلّا مع اعتبار هذه القاعدة. وإذا كان المقام ضروريًّا للفهم فإنه يكون أحيانًا ضروريًّا لعدم تحديد فهمٍ بعينه؛ كالذي نلمحه في مقام التعمية والإبهام والإلغاز؛ إذ يكون اللبس الذي تسببه التعمية, أو يأتي عن الإبهام والإلغاز مقصودًا لذاته فلولا فهم المقام هنا والمعرفة بأنه مقام تعمية ما قبل الناس المقال, ولا أقبلوا عليه ولا اعترفو بأنه نص يستحق عناء النظر الجاد. ويتضح ذلك مثلًا في قول الشاعر في خياط أعور خاطه له قباء: خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء فاسأل الناس جميعًا ... أمديح أم هجاء فلا سبيل إلى معرفة التمني بلفظ "ليت", أكان للخياط أم عليه إلّا بمعرفة ما إذا كان الشاعر قد رضي عن قبائه أو سخط عليه, ولكن إخفاء هذا الجانب من الرضى أو السخط في بطن الشاعر حال بين الرضى أو السخط وبين أن يكون مقامًا لفهم النص, وأحل محله مقام التعمية فأصبحت التعمية جزءًا من المعنى, وأصبح اللبس الذي فيها مقصودًا لا يراد دفعه. وهل لنا أن نزعم قصد التعمية أو عدم القصد إلى تحديد شق بعينه من شقين ممكنين للمعنى, أو بعبارة أخرى: عدم القصد إلى تحديد أحد الاحتمالين في الفهم عندما نقرأ قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُن} ؟ إن هذا النص يحتمل حرفي الجر: "في" و"عن" فيصبح المعنى صالحًا لأن يكون: "وترغبون في نكاحهن" أو على العكس من ذلك "وترغبون عن نكاحهم", فهل لنا أن نزعم هنا أن التعمية مقصودة في النص؛ لأن بعض يتامى النساء كنَّ من الجميلات اللاتي يرغب الأولياء في نكاحهن, وكان البعض من الدميمات اللاتي يرغب هؤلاء الأولياء عن نكاحهن؟ إن الزمخشري1 يلمح تلميحًا إلى قصد التعمية   1 الكشاف: تفسير الآية رقم 127 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ولا أريد أن أصرح وقد لمح هو. وإن كنت أحب أن أشير إلى أن إسقاط حرفي الجر هنا يجعل الآية صالحة للمعنيين في وقت واحد. إنَّ مجموع الأشخاص المشاركين في المقال إيجابًا وسلبًا, ثم العلاقات الاجتماعية والظروف المختلفة في نطاق الزمان والمكان هو ما أسميه "المقام", وهو بهذا المعنى يختلف بعض اختلاف عن فهم الأولين الذين رأوه حالًا ثابتة state, ثم جعلوا البلاغة مراعاة مقتضى الحال. ويؤخذ المقام -كما فهمناه هنا- دائمًا من نسيج الثقافة الشعبية زمانيًّا في تطورها من الماضي إلى الحاضر؛ إذ يرثها جيل عن جيل, فتكون عنصر ربط بين هذه الأجيال, ومن ثَمَّ تكون الضمان الوحيد لاستمرار المجتمع في التاريخ, ثم مكانيًّا حيث يترابط بها أفراد الجيل الواحد من هذا المجتمع ما دام كلّ منهم قد نشأ في خضم هذه الثقافة وجعل منها منهجًا لحياته في المجتمع, أو بعبارة أدق: جعل منها مجرى لسلوكه لا يملك التحوّل عنه, حتى إنه ليتصرف في ظرفٍ بعينه تصرفًا بعينه, وكلما تكرر الظرف تكرر التصرف نفسه. وليس المقصود بالثقافة هنا أيّ معنى يرتبط بالتعليم والتثقيف, وإنما المقصود بها هنا ما يشمل مجموع العادات وطرق السلوك والتقاليد والمعتقدات والخزعبلات والفلكلور الشعبي والأحاجي ووسائل التكسب والعواطف الجماعية والنظرة الجماعية إلى الأحداث والأشياء. وبحسب هذا الفهم الشامل لفكرة "المقام" يعتبر النص "المقال" -منطوقًا كان أم مكتوبًا- غير منبت عمن ساقه ومن سيق إليه, ولو أننا حاولنا فهم المقال منفصلًا عن المقام لجاء فهمنا إياه قاصرًا مبتورًا أو خاطئًا. إن من يقرأ قول شوقي: وما للمسلمين سواك ذخر ... إذا ما الضر مسهمو ونابا ليرى في "مقال" البيت حين يقطعه عن "مقامه" أن شوقيًّا يجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- "وهو ميت في ضريحه الطاهر" ملاذًا للشعوب الإسلامية "وهي تعيش وتسعى وتكافح وتستطيع من الحيلة والحركة والفاعلية ما لا يستطيعه ميت في جدثه" فكيف هذا؟ إن معنى البيت يتضح في ضوء المقام" ما لا يتضح بدونه, ففي المقام أنَّ المسلم يتوسّل إلى الله وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 القادر المعين بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الوسيلة وهو المشفع عند الله. والله يجيب المضطر إذا دعاه وتوسَّل إليه "لاحظ كلمة الضر في البيت"، والمسلمون في حاضرهم هم مضطرون ضعاف بين الأمم, وهم لا يصلون في مراتب التقوى إلى مرتبة المجتمع الصالح, ومن ثَمَّ فهم بحاجة إلى شفيع ووسيلة قربى وزلفى إلى الله مخافةَ ألا تجاب دعواتهم بدونه. وكل هذه الحقائق تأتي من خارج النص, ويشير إلى أن المعنى بدون هذه الاعتبارات الاجتماعية والدينية غير مكتمل. وليس الفرد الذي نشأ في إطار هذه الثقافة بحاجة في فهم البيت إلى كل هذا الشرح الطويل, وإنما يتقبله ويفهمه فهمًا سريعًا بما لهذا الفرد من نشأة في إطار هذه الثقافة. هذا هو المقصود بفكرة "المقام", فهو يضمّ المتكلم والسامع, أو السامعين والظروف والعلاقات الاجتماعية والأحداث الواردة relevant في الماضي والحاضر, ثم التراث والفلكور والعادات والتقاليد والمعتقدات والخزعبلات, ولولا هذا المقام وما يقدمه العنصر الاجتماعي من قرائن حالية حين يكون المقال موضوعًا للفهم؛ لاعتبر الناس التمائم والأحجبة والسحر وهي مما يشتمل على كلمات لا تفهم ضربًا من ضروب الهراء, أو لما أعطوه ما يعطونه من تقبّل وتسامح على الأقل. ولقد سبق أن سقنا نصًّا هرائيًّا في الكلام عن النظام النحوي, وأشرنا إليه في سياق ذلك الفصل, وبرهنا من وضوح الوظائف فيه على إمكان إعرابه على رغم خلوه من عنصري المعنى المعجمي والمقام الاجتماعي. أما في السحر والتمائم والتعاويذ, فإن المعنى الدلالي يتوقف على المقام الاجتماعي لهذه النصوص غير المفهومة بسبب حاجتها إلى الوضوح الوظيفي والمعجمي, فمعنى السحر والتميمة والتعويذة هو قبولها في مقامها الخاص في إطار الثقافة الشعبية. سبق أن وضعنا تخطيطًا للمعنى الدلالي في أوّل هذا الفصل فجعلناه يشتمل على عنصرين لا غنى له عن أحدهما, وذانك هما المعنى المقالي "ويشمل المعنى الوظيفي -المعنى المعجمي -القرائن المقالية الأخرى", والمعنى المقامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 "ويشمل ظروف أداء المقال + القرائن الحالية". ومعنى اشتمال "المعنى الدلالي" وهو قمّة تحليل المعنى اللغوي على كل هذه العناصر, أنّ كل دراسة تحليلية سبقت في هذا الكتاب تتجه أساسًا إلى المعنى كما ذكرنا لك في المقدمة سواء في ذلك النظام الصوتي والنظام الصرفي والنظام النحوي والظواهر الموقعية والمعجم وتحديد المقام, ثم ما يرتبط بكل ذلك من قرائن حالية أو مقالية كإشارة اليدين وتعبيرات الملامح وغمزات العينين ورفع الحاجب وهز الرأس وجميع الحركات العضوية مما يعتبر قرائن حالية في أثناء الكلام, ثم التعبيرية بخوالف الأصوات وبالتأفف والفحفحة والتأوه وأصوات الشفتين المختلفة, مما يعتبر من القرائن المقالية في أثناء الكلام أيضًا. وقد يتوقّف المعنى الدلالي أحيانًا على الوظائف التحليلية كدلالة الحرف باعتباره "مقابلًا استبداليًّا" يؤثر عدم وضوحه على المعنى, فإذا نادى المزكوم الشديد الزكام على شخص يدعى "مأمون" فهذا مظنّة لسوء الفهم. فالمعروف أن الميم تتفق مع الباء في المخرج, ولكنها تختلف عنها من حيث توجد الغنة في الميم ولا توجد في الباء, وغنة الميمن يمكن نطقها في الأنف الصحيح ويتعذر نطقّها في الأنف المزكوم, وحين تتعذَّر الغنة تصير الميم إلى الباء, ومن ثَمَّ يصير النداء "يا بأبون", ولما كانت الباء الأولى واقعة في مقطع غير منبور, وكانت الثانية بداية مقطع وقع عليه النبر كما عرفنا من القواعد التي ذكرناها في حينها, أصبحت الباء الأولى غير واضحة في السمع كوضوح الباء الثانية, وأصبحت الباء الثانية أوضح أجزاء الكلمة في النطق. وهذا هو مناط اعتماد المعنى الوظيفي؛ لأن الميم الأولى لم تتضح في السمع فبقيت وظائف موقعها كما هي, وتفترض الأذن خطأ في هذه الحالة وجود الميم الأولى على حالها, ولكن الميم الثانية اتضحت في الأذن على صورة الباء, فإذا غضب المنادي لظنه أنه نودي "يا مأبون" فذلك دليل اعتماد المعنى الدلالي على الوظيفة التي تناط بالحرف باعتباره "مقابلًا استبداليًّا". وأما قيمة الظاهرة الموقعية في السياق فتبدو عند التأمل في كلمة "الأمان", وتحديد المقصود من الهمزة في البداية أهي همزة قطع فتكون الكلمة مثنى "ألأم", أم هي همزة وصل وتكون الكلمة كلمة "أمان" ألحقت بها أداة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 التعريف. ومثل ذلك ما أشرنا إليه في دراسة النبر من اختلاف فيهم الإسناد بين "اذكر الله" و"اذكري الله" بحسب اختلاف مكان النبر في السمع, وكذلك ما أشرنا إليه عند الكلام في الصلة بين النغمة وبين المعنى النحوي في بيت عمر بن أبي ربيعة وفي بيت جميل بن معمر. وأما اختلاف المعنى باختلاف الصيغة ووظيفتها, فهذا واضح من كل سطر خططته في الكلام عن النظامين الصرفي والنحوي تقريبًا. ونستطيع هنا كذلك أن نعطي مثالًا بأن نسوق جملة: "هذا محرَّم شرعًا" لأن فهم المنصوب هنا يتوقف على القرينة المعنوية التي تؤخذ عادة من السياق بمعونة القرائن الحالية التي في المقام, فإذا فهمنا من المقام معنى السببية كان هذا المعنى قرينة معنوية على أن هذا المنصوب مفعول لأجله, وإذا فهمنا منه معنى الواسطة كانت الواسطة قرينة معنوية على أن المنصوب هنا إنما هو على نزع الخافض, وإذا فهمنا من المقام معنى الظرفية فالنصب كذلك على نزع الخافض, وإذا فهمنا منه بيان النوع كان النصب على معنى النائب عن المفعول المطلق. ويمكن عند النظر في جملة: "صعدت علوًّا" أن تختلف معاني المنصوب على النحو التالي: 1- المفعول به إذا فهمنا من المقام "تعدية", ويكون المعنى: "صعدت مكانًا عاليًا". 2- نائب المفعول المطلق إذا فهمنا من المقام "توكيدًا", والمعنى حينئذ: "علوت علوًّا". 3- المفعول لأجله إذا فهمنا من المقام "سببية", والمعنى على ذلك: "صعدت لأعلو". وكما أن المعنى الوظيفي يحدِّده النظام في اللغة, والموقع في السياق, كما يحدد العرف الاعتباطي المعنى المعجمي الذي يربط بين الكلمة ومدلولها, فكذلك يعين المقام أولًا على تحديد هذه المعاني جميعًا بما يستفاد منه من القرائن المعنوية, ويعين ثانيًا على استكمال المعنى الدلالي الأكبر في إطار الثقافة الشعبية. ولإيضاح هذه النقطة الأخيرة يمكن أن نضرب مثلًا بكلمة "خليفة" التي يختلف معناها باختلاف المقام من مقارنة العبارات الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 1- قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة} . 2- قال الشاعر: "خليفة الله يستسقى به المطر". 3- "زرت مولد السيد البدوي فرأيت الخليفة على ظهر حصانه". المعنى المعجمي لهذه الكلمة المفردة حين تكون خارج السياق يكاد يكون واحدًا في عموعمه وهو "الخليفة, من يخلف سلفًا في عمل أو نحوه", ولكن المعنى الدلالي له في هذه الجمل على الترتيب هو: 1- الجنس الإنساني. 2- أمير المؤمنين. 3- شيخ الضريح. على أن الثقافة الشعبية من السعة والتشعُّب بحيث يصعب اتخاذها على حالها أداة لتحديد المقام, وإنما يستحسن أن نجري لعناصرها المفيدة في تحليل المعنى نوعًا من التنظيم والتبويب الذي نتمكن به من الوصول إلى تحديد المقام, وسنرى أنَّ نسيج الثقافة الشعبية تلتقي فيه أوضاع مقررة وتجارب ذات أنواع محددة, ومسالك معيارية لا حرية للفرد في تطبيقها أو عدمه, ومطابقتها أو عدمها, فمثل حرية الفرد في إطار هذه الجبرية الاجتماعية كمثل ما يراه المعتزلة من حرية إرادة الفرد في مجالها الضيق في نطاق إرادة الله -سبحانه وتعالى, فهو يحاسب لما له من إرادة فردية واختيار فردي, ولكن هذه الإرادة الفردية لا تغير ما أراده الله من نظم وقوانين في هذا الكون. والحياة الاجتماعية مسرح أكبر لكل ممثل فيه دور خاص ذو كلمات محددة وحركات معينة, فإذا لم يحسن الفرد أداء كلماته وحركاته أصابه من الخيبة ومرارة الفشل ما يصيب الممثل الفاشل الذي يئول أمره إلى سماع الاستهجان من النظارة والمتفرجين. وقد يؤدي سوء الأداء لدور أد الممثلين إلى إصابة غيره من الممثلين بعدوى الفشل؛ لأن دور كل من الممثلين ينبنى من حيث الأداء الكلامي والحركي على دور غيره من الممثلين على المسرح, وهو من ثَمَّ يتأثر إجادةً أو تقصيرًا بأداة الأدوار الأخرى. وسنحاول فيما يلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 أن نشرح الطريقة التبويبية التي يمكننا بها تبويب المقامات في إطار الثقافة الشعبية. وأول ما نلاحظه أن التحليل والتبويب يمكن أن ينبني على الأسس الآتية: 1- دور الفرد في المجتمع. 2- دور الفرد في الأداء. 3- غاية الأداء. وسنفصل القول في كل واحد من هذه الأسس على حدة: 1- دور الفرد في المجتمع: ذكرنا أن الحياة الاجتماعية مسرح أكبر, وأن لكل فرد من أفراد المجتمع دورًا محددًا من حيث الأداء الكلامي والحركي، وأن النجاح الاجتماعي للفرد منوط بحسن أداء دوره على مسرح الحياة, فقد يكون الفرد أبًا أو أخًا أو ابنًا أو عضوًا في ناد أو جماعة, أو رئيسًا أو مرءوسا, أو أعلى أو أدنى, أو خادمًا أو مخدومًا, أو صديقًا أو شريكًا, أو أستاذًا أو طالبًا أو مربية, أو بائعًا أو مشتريًا, أو موظفا أو أجيرًا, أو متطوعًا، وقد يكون عسكريًّا أو مدنيًّا, أو عاملًا يدويًّا أو مفكرًا, أو صاحب مهنة أو عاطلًا, أو غنيًّا أو فقيرًا, أو مثقفًا أو جاهلًا, أو جادًّا أو هازلًا, أو قائدًا أو مقودًا, وهلم جرّا. وواضح أن الكلمة الواحدة بعينها قد يختلف معناها بحسب الدور الذي يؤد به الفرد. فعبارة: "إنه يشرب كثيرًا" مثلًا إذا قيلت في طفل صغير دلّت على نوعٍ من المشروبات, أما إذا قيلت في رجل مشهور بمعاقرة الخمر فإنها تدل على نوع آخر من المشروبات. وعبارة: "لا ينبغي لي أن ألبس هذه الملابس القصيرة" تختلف دلالتها الاجتماعية والمقاييس التي وصفت بالقصر بحسب ما إذا كان المتكلم رجلًا أو امرأة. وعبارة "أنا أحب هذه اللعبة" يختلف معناها حين يقولها طفل عنه حين يقولها رجل, بل يختلف حين يقولها متفرج عنه حين يقولها لاعب. وإننا إذا نظرنا إلى عضوية الأسرة باعتبارها دورًا اجتماعيًّا للفرد, فسنجد لكل عضو في الأسرة عبارات تناسب دوره لا يقولها غيره من أفراد الأسرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الآخرين. فالعبارات التي يستعملها الأب غير العبارات التي ترد على لسان الأم, فالأب مثلًا لا يقول: "يا حبيبي" إذا كان يخاطب الكبار من أبنائه, ولكن الأم تقول ذلك بإسراف. والبنت لا تكلم أباها في شئونها الخاصَّة, ولكنها تكلم أمها, والأخ الأصغر في الأسرة يتلقَّى التوجيه الصحيح من بقية أفراد الأسرة, وليس له فرصة لأن يوجه الآخرين أو يصحح أخطاءهم. ولو حاول ذلك لكانت تلك مناسبة طيبة للضحك وللتدليل والإعجاب بالصغير الطموح غير الواعي بدوره في الأسرة. ومعنى ذلك بالطبع أن الأدوار موزَّعة توزيعًا محكمًا بين أفراد الأسرة, ولكل دور منها عبارات وحركات ومواقف نفسية واجتماعية, ومعانٍ تختلف من فرد إلى آخر من أعضاء هذه الأسرة, فالموقف الاجتماعي والنفسي إلخ لكل عضو يختلف عن مواقف بقية الأعضاء, حتى إنَّ الأخوة في الأسرة مع اندراجهم جميعًا تحت عنوان: "البنوة" بالنسبة لأبيهم وأمهم, واشتراكهم في "الأخوة" يتقاسمونه بالتساوي فيما بينهم, تختلف أدوارهم من حيث السيطرة والخضوع والحزن أو التدليل في المعاملة وتحمل المسئوليات في نظام الأسرة, والقرب أو البعد من الأبوين, والاعتماد أو عدم الاعتماد عليهما. ومع أنني لا أريد أن أقفز إلى استنتاج الحقائق من طبيعة هذه الأدوار قبل أوانها الذي يأتي بعد إيفاء القول فيها حقه من البيان, أستطيع أن أقرر هنا أن الدور الاجتماعي أيًّا كان نوعه هو علاقة تنضوي تحتها طائفة من المقامات التي تنبع من تشابك الأساسين الآخرين. "دور الفرد في الأداء" و"غاية الأداء" في إطار هذه الأساس الأول المذكور: "دور الفرد في المجتمع", وسيأتي شرح ذلك بعد قليل. قد يكون الفرد واحدًا من مجموعة من الأصدقاء الذين يقضون وقت فراغهم معًا في منتدى معين, ويتنزهون معًا, ويذهبون إلى السينما معًا, وبذلك يصدق عليهم اللفظ العامي "شلة", أو اللفظ الفصيح "ثلة", والغالب في دور كل واحد من أفراد هذه الثلة أن يحدده عرف الصحبة وقوة الشخصية والخبرة فيما بينهم, فيكتسب سلوك كل واحد منهم حيال الآخرين نمطية معينة وأسلوبًا محددًا, وربما كونوا فيما بينهم "لغيّة" خاصة بهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 قوامها بعض المفردات المرتجلة التي يراعى في ارتجالها ألّا يفهم غيرهم ممن يتصل بهم. وقد عودنا المسرح عند التصدي لتصوير هذا النوع من العلاقة الاجتماعية على توقع أن يكون لكلِّ دور من أدوار أفراد هذه المجموعة مفردات خاصة وأسلوب خاص في الأداء الحركي. وللطالب في مدرسته دور محدَّد الكلمات والحركات, فلو أننا رأينا قصة طالب في مدرسة ثانوية يريد أن يوقد لنفسه سيجارة فلا يجد ما يوقدها به, ويلمح الطالب ناظر المدرسة عن بعد فيذهب إليه ويقول: "تسمح بالولاعة؟ " فلا ينبغي عند تحلي هذه العبارة وتحديد معناها أن نكتفي منها بما يدل عليه الفعل والجار والمجرور المؤنث, أو بأن أسلوب الجملة هو الاستفهام الدال على التماس, أو أن أداة الاستفهام قرينة لفظية أغنت القرائن الأخرى عن ذكرها طبقًا لمبدأ الترخص في القرينة الذي أشرنا إليه من قبل, فهذا النوع من التحليل المقالي مهما كان دقيقًا فلن يصل بنا إلى أهمِّ عنصر من عناصر معنى هذه الجملة, وهو أنها تدل على "سوء تربية", وهو عنصر لا يمكن الوصول إليه إلّا بفهم دور كل من الطالب والناظر في مجتمع المدرسة, ثم يفهم "المقام" الذي تَمَّ فيه "المقال" في حدود العلاقة الاجتماعية المحددة بين الناظر والطالب, ثم ما في هذا المقام من عدم التناسب بين المقال وبين هذين الدورين الاجتماعيين. ومما يقع على عاتق ناظر المدرسة في هذا المقام -باعتبار ذلك جزءًا من دوره الاجتماعي- أن يبادر بتأديب هذا الطالب ويردَّه إلى مطابقة معايير العرف الاجتماعي الذي يحكم سلوك كل من أعضاء مجتمع المدرسة حيال الآخر. ولعضوية نادٍ بعينه نمطية أو معيارية خاصة في السلوك تحددها من الناحية الرسمية لائحة النادي, ومن الناحية الاجتماعية علاقات الأعضاء داخل النادي بعضهم ببعض, وعلاقتهم في معترك الحياة العامة خارج النادي. ولقد أصبح من نمطية سلوك أعضاء النوادي بصفة عامة حيث التظاهر بالجاه والغنى والتسامي الاجتماعي, وقد ينعكس هذا على كل ما يقوله العضو أو يفعله تقريبًا. ومن هذه النمطية في الوقت الحاضر التخفف من القيود التي يفرضها العرف التقليدي خارج النادي على الأفراد بالنسبة لقضايا السفور والاختلاط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ومزاولة الرقص والسمر. فالتعارف بين الأعضاء يتمُّ بطريقة أسهل مما يحدث خارج النادي, وقد تشترك السيدة المعروفة خارج النادي بالاحتشام في السباحة داخل النادي فتبدي من أجزاء جسمها ما لا تسمح لنفسها بابدائه في أيّ مكان آخر خارج النادي. وللشابات ملابس تصلح لتذهب إلى النادي بها وملابس أخرى لا تصلح, ومقياس الصلاح وعدمه خاضع لاعتبارات التباهي بآخر ما أخرجته بيوت الأزياء من نماذج؛ بحيث يدل الثوب على تطور صاحبته مع تطور المدنية والتقدم! ومعنى ذلك أن ما يفعله أعضاء النادي أو يقولونه يخضع لمعيارية عرفية اجتماعية مهما كان عرفها خاصًّا وكان مجتمعها ضيقًا. وقد يكون الفرد أحد محترفي لعبة بعينها كأن يكون لاعبًا في فريق لكرة القدم أو الملاكمة أو غيرهما, فيتَّسم سلوكه الحركي وأداؤه الكلامي بنمطية معيارية ملحوظة بالطبع أثناء أداة اللعبة التي يتخصص فيها الفريق؛ لأن هذه اللعبة لها قوانينها ومعاييرها وأخلاقياتها, ولها فوق ذلك عقوبات لمن يخالف هذه المعايير. فالأمر أثناء اللعب واضح لا جدال في معياريته, وقد يؤثر عقاب المخالف في مستقبله المهني؛ إذ أنَّ الفصل من عضوية الفريق والإيقاف عن مزاولة اللعبة عقوبات محتملة. أضف إلى ذلك أن نوع اللعبة التي يمارسها الفرد قد ينعكس على مجازاته واستعاراته وكناياته كعبارات "الضربة القاضية" و"إصابة الهدف" و"رحت واخده شمال" و"الضرب تحت الحزام". وقد تشيع هذه الاستعمالات أحيانًا خارج العرف الخاص, فتكتسب عرفية عامة. وقد يتعوّد الفرد الصلاة في مسجد بعينه يلتقي فيه دائمًا بروادٍ له دائمين, ويستمع إلى خطيب هذا المسجد, ويحضر درسه الديني بعد الصلاة مع بقية المصلين, فتحدث بينه وبين هؤلاء المصلين علاقة فكرية ونفسية خاصة فيما يتعلق بوجهة النظر الدينية والأخلاق الدينية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالقضاء والقدر, مما يترك أثرًا ظاهرًا في اتجاهاته السلوكية ومواقفه العقلية والعاطفية المختلفة؛ بحيث يقترب هذا السلوك وتلك المواقف اقترابًا أكيدًا من سلوك بقية المصلين ومواقفهم, مما يبرر تسميتهم بمجتمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 المسجد. وكذلك قد يؤدي الإلف وكثرة اللقاء بين هذه المجموعة إلى أن يتعرّف كل من أفرادها على الآخرين فتزداد الشركة الفكرية بينهم, وتنشأ بينهم أخوة في الله, ووحدة في الآراء تعتمد إلى حد كبير على الجوِّ السائد في المسجد, وعلى تعاليم إمام المسجد ودروسه ونظرته إلى المسائل الاجتماعية والخلقية. فإذا سمعت أحد رواد هذا المسجد يقول: "فسد الزمان" فلا يبتغي أن نقف في فهم معنى هذه العبارة على مجرّد تحليل "المقال", فتكتفي بظاهر النصِّ, وإنما ينبغي أن نتعدَّى ذلك إلى اعتبار "المقام" الذي يكشف لنا عن ضوء جديد يضئ لنا طريق تحليل المعنى, فإذا عرفنا أن هذا القائل يغشى مسجدًا بعينه, ويتأثّر بالجوِّ الفكري السائد لدى روَّاد هذ االمسجد, فلربما فهمنا في النهاية أن الزمان لم يفسد حقيقة إلّا في رأي هذا الرجل المتزمِّت في دينه ونظرته إلى الأمور. ومثل ذلك يقال في انتماء الفرد إلى طريقة صوفية ما, فإذا سمعت هذا الفرد يقول: "سمعت هاتفًا يقول .... " فضع المقال في ضوء المقام وافهم المعنى بحسبه. وينتمي الفرد إلى قبيلة أو قرية أو مدينة أوحي من مدينة, فيكتسب ما قد يكون هناك من معيارية سلوكية أو تعبيرية أو عرفية سائدة في القبيلة أو القرية أو المدينة أو الحي, فيخضع ما يقوله وما يفعله في المواقف المختلفة لهذه المعيارية, مختلفًا في ذلك عن أبناء القبائل والقرى والمدن الأخرى؛ ففي القاهرة مثلًا: يختلف أبناء حيّ الحسينية في كلامهم ونظرتهم إلى المواقف المختلفة في التعامل مع الآخرين عن أبناء الحلمية مثلًا, ونجد مثل هذا الاختلاف بين القريتين المتجاورتين من قرى الريف. وإذا قرأت رسالة أرسل بها أحد أبناء الريف لقريب له نازح عن القرية, فرأيت في الرسالة: "أفراد الأسرة يقرئونك السلام" فاعلم أنه يرسل إلى قريبه تحية ما يربو على ثلاثمائة من الآدميين؛ لأن نظام الأسرة في الريف يجمع بين عدد كبير من الأفراد يشتركون في الانتساب إلى جدٍّ أعلى توفِّي من نحو مائتي عام تقريبًا, وتشتمل هذه الأسرة الريفية على خلايا أسرية تتكوّن كل خلية منها من أب وأم وأولادهما. أما إذا قرأت هذه العبارة نفسها في رسالة من أحد أبناء المدينة فاعلم أن المقصود بالأسرة هنا رجل وامرأة وأطفالهما, وقد يكون مجموع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 هؤلاء جميعًا خمسة أفراد أو دون ذلك, فانظر إلى الكلمة الواحدة ذات المعنى الواحد بقي لمعناها طابعه المعجمي العام, واختلف معناها العددي بين الريف والمدينة, أي: بحسب الاعتبارات الاجتماعية والجغرافية في "المقام". ويمكن لنا أن ندَّعي مثل ذلك عند النظر إلى الانتماء إلى إقليمٍ ما ذي ثقافة شعبية متميزة عن ثقافات الأقاليم الأخرى من الأمة نفسها؛ لأن معيارية السلوك في ظل عرفية هذه الثقافة تجعل "المقام" يختلف عنه في الأقاليم الأخرى. فالصعيدي الذي ينزل القاهرة ليزور أصدقاءه بها يؤذيه جدًّا أن يسأله إنسان من غير أفراد "الأسرة" عن حال زوجته أو صحتها أو بعض شئونها؛ لأن الزوجات هناك في الصعيد محجبات لا يراهن غريب عن الأسرة, وفي السؤال عن الزوجة اهتمام بشخصها غير مستحب لدى زوجها لصدوره من رجل غريب عن الأسرة. ولو أن الصعيدي المسئول كان على غير علم بنمطية السلوك لدى أهل القاهرة فربما نهر هذا السائل بسبب جرأته "غير المهذبة". 2- دور الفرد في الأداء: وقد يكون الفرد هنا متكلمًا أو كاتبًا أو سامعًا أو قارئًا أو مناقشًا أو محادثًا أو لاغيًا أو واعظًا أو مخاطبًا خطابًا رسميًّا أو خطيبًا أو محاضرًا أو مساعدًا على إنجاز عمل أو مخططًا أو منظمًا أو ساحرًا أو رَّاقيًّا أو مصليًا أو داعيًا أو تاليًا للقرآن أو مسبحًا وهلم جرا. وقد يكون منفردًا أو واحدًا من جماعة. ولأمر ما اصطنعت اللغة بين معانيها العامة معاني التكلم والخطاب والغيبة, والإفراد والتثنية والجمع, والجنس والعهد, والتذكير والتأنيث, والتعريف والتنكير, والبناء للمعلوم والبناء للمجهول, وهلم جرا مما يشير إلى اعتداد اللغة باختلافات "المقام" الذي يجري فيه "المقال" من جهة, واعتدادها من جهة أخرى بدور الفرد في الأداء الكلامي إيجابًا وسلبًا. ولقد كانت هذه المعاني دائمًا في اللغات المختلفة أساس تنوع الإسناد, وأساس تنويع الضمائر في صورها ومعانيها, كما يتضح مما قدمنا الكلام عنه في النظام الصرفي من هذا البحث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 غير أننا لا ننظر هنا إلى هذه المعاني نظرة الصرفيين وهي وظيفية خالصة, وإنما نجعل هذه الأدوار المختلفة للفرد في الأداء من نسيج المقامات الاجتماعية التي يتمّ بها تحليل النص, ويتضح ذلك من استخدام الضمائر والأسماء الظاهرة في الكلام, وإن من ينظر إلى خطب الزعماء السياسيين والوعاظ والشعارات والهتافات والإعلانات ليستطيع أن يجد الضوء القوي الذي يمكن له أن يسلطه على هذا الموضوع؛ فالزعماء في خطبهم يفضِّلون العدول عن ضميري التكلم إلى كلمة "الشعب" فيقولون: "إن الشعب يريد ... " في مكان "نحن نريد" أو "أنا أريد", لما في استعمال "أنا" من إيحاء بالفردية والتسلط, ولما في "نحن" من احتمال تعظيم النفس, والمعلوم أن مقامي التسلط وتعظيم النفس ليسا مما يقرب الزعماء من قلوب الجماهير. ويفضل الواعظ غالبًا أن يعدل عن استعمال ضمير المخاطبين إلى ضمير المتكلمين, فهو يتحاشى أن يقول: "ينبغي أن تعودوا إلى حظيرة الدين" ويقول في مكان ذلك: "ينبغي لنا أن نعود إلى حظيرة الدين"، ويتحاشى أن يقول: "غفر الله لكم" ويقول: "اللهم اغفر لنا", بل إن المقام قد يقتضي أحيانًا أن يعدل المتكلم عن ضمائر الخطاب لما فيها من المواجهة المحرجة أحيانًا إلى فسحة غموض دلالة الغيبة التي نلحظها في استعمال الموصول مبتدأ أو شرطًا, وما أجمل عبارة النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال:$"من أكل لحم جزور فليتوضأ" بدلًا من أن يتجه إلى شخص بعينه فيقول: "قم فتوضأ ما دام وضوؤك قد انتقض لما أعلمه من ذلك بالقرائن" أو بدلًا من عبارة أخرى هي "من أحدث فليتوضأ"؛ لأن الذي يقوم للوضوء حينئذ سيكون معترفًا بأنه أحدث وهذا مسبب للخجل. على أن الأمر لا يقتصر على تقليب العبارة بين التكلم والخطاب والغيبة, أو الأفراد والتثنية والجمع, وإنما يتعدى ذلك إلى ما يقوم به الفرد من المشاركة بدور معين في موقف معين. فمن الأدوار التي يؤديها الفرد بالكلام الإعانة على إنجاز عمل ما كالصياح والتشجيع في المباريات الرياضية بغية الإعانة على الانتصار والفوز في المباراة, وكالذي يقوم به العمال من غناء جماعي أثناء أداة العمل لا يقصدون به التطريب ولكنهم يقصدون إيجاد إيقاع معين لحركة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 العمل لولاه لأدَّى التعب إلى التباطؤ في العمل، ولولا ما يسببه هذا الغناء من صيغ العمل بصبغة التسلية لكان الإحساس بمشقة العمل أكبر. ومن قبيل ذلك الهتافات في المظاهرات السياسية؛ لأن هذا الهتاف لا يقصد به إيصال معلومات كانت من قبل مجهولة, وإنما يقصد به توليد الحماس لقضية ما, وكل هذه الأدوار التي يؤديها الفرد بالنسبة للموقف المعيّن لو نظرنا إلى ما يحدث فيها من "مقال" لكانت هذه الأدوار هي غايات الأداء. فالفرق بين "دور الفرد في الأداء" و"غاية الأداء" هو فرق في النظرة إلى صلة الأداء نفسه إمَّا بالموقف أو بالمقال. 3- غايات الأداء: وأكبر غايات الأداء اللغوي على الإطلاق غايتان: أ- التعامل ب- الإفصاح 1- فأما التعامل فهو استخدام اللغة بقصد التأثير في البيئة الطبيعية أو الاجتماعية المحيطة بالفرد, فيدخل في ذلك البيع والشراء والمخاصمة والتعليم والبحث العلمي والمناقشات الموصلة إلى قرارات والتأليف والخطابة والمقالة السياسية والتعليق الإذاعي ونشرة الأخبار وهلمَّ جرا. وأما الإفصاح فهو استعمال اللغة بقصد التعبير عن موقف نفسي ذاتي دون إرادة التأثير في البيئة, ولا يتحتَّم في هذه الحالة أن يكون الإسماع مقصودًا, ومن ذلك اللغو والغناء مع عدم قصد الإسماع والتعجب والمدح والذم, والإنتاج الأدبي بصوره المختلفة وإنشاء الشعر الغنائي بصفة خاصة. وكما اعتدت اللغة باختلاف دور الفرد بالأداء فجعلت من معانيها العامة التكلم والخطاب إلخ, اعتدت كذلك بغايات الأداء فقسَّمت معاني الجملة العربية إلى خبر وإنشاء, وقسَّمت الخبر إلى إثبات ونفي وتوكيد, وقسمت الإنشاء إلى طلب وشرط وإفصاح, وقسمت الطلب والشرط والإفصاح كلًّا إلى أقسام مختلفة, ولكن إذا كانت اللغة قد فعلت ذلك فإن اللغويين لم يفطنوا إلى تقسيمات اللغة فيما يختص بالمقابلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 بين التعامل والإفصاح, ومن ثَمَّ جعلوا الجملة الإفصاحية من قبيل الخبر أحيانًا والإنشاء أحيانًا أخرى, مع وضوح الفرق بين طابع التعامل الذي يسود الخبرية ومعظم الإنشائية, وطابع التعبير الذاتي الذي نلحظه في الجملة الإفصاحية, وقد سبق أن أشرنا إلى الخطأ الذي كان من النحاة حين فسروا "أوه" بكلمة بكلمة "أتوجع", وربما وقف "الدعاء" بين التعامل والإفصاح بحيث لا يكون من قبيل أحدهما إلّا بعد النظر في غاية الأداء, فإذا كانت غايته استنزال غضب الله أو رحمته فهو تعامل, وإذا كانت غايته التعبير عن الرضى أو السخط فهو إفصاح. والاستسقاء دعاء من قبيل التعامل, ولكن قول السائل لمن أعطاه صدقه "الله يخلف عليك" إفصاح؛ لأن الغاية منه التعبير عن الرضى, ومثله ما نراه من دعاء في الرسائل الإخوانية نحو: "بلغني -أطال الله بقاءك". ومن غايات الأداء الاتفاق والتشجيع والمصادقة والتثبيط والشتم والتمني والترجي واللعن والفخر والتحدي والتحضيض والاستخفاف والتحقير والتعظيم والإغاظة والإيلام والمعاداة والمدارة والتملق والنفاق والتحبب والغزل واللوم والدعابة والإغراء والاستقبال والتوديع والإلزام والترحم والتحية والتعجب والتهنئة والنصيحة, وغير ذلك من المعاني التعاملية والإفصاحية, ولكل غاية من هذه الغايات عباراتها المعيارية التي تقال فيها, وذلك مصداق قول البلغاء: "لكل مقام مقال" و"لكل كلمة مع صاحبتها مقام". ومع مراعاة التفاعل بين دور الفرد في الأداء وغاية الأداء في إطار دور الفرد في المجتمع, يمكننا أن نصل إلى فهم "المقام" الذي يقال فيه "المقال", فنصل بواسطة ذلك إلى المعنى الدلالي الأكبر الذي هو نتيجة تضافر العناصر الثلاثة المكونة له "المعنى الوظيفي والمعنى المعجمي والمقام", وهذه العبارات المعيارية العرفية التي تؤدي كل منها إلى غاية محددة من غايات الأداء هي في طابعها أنساق من تضام التوارد الذي أشرت إليه في الكلام عن القرائن اللفظية وجعلته قسيمًا لتضامّ التلازم. وفيما يلي بعض هذه العبارات المعيارية1, وقد وصفت كل طائفة منها تحت غاية من غايات الأداء   1 انظر "اللغة في المجتمع" تأليف م. م. لويس, وترجمة مؤلف هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وأمامها وصف مختصر لعناصر المقام, مع ملاحظة أن الغاية عنصر من عناصر المقام: أولًا: عبارات غايتها الخطاب العادي: العبارة: بعض عناصر المقام الأخرى اسمع يا فلان من الصديق للصديق يا سيدي العزيز للتودد غالبًا يا سيدي الفاضل مقدمة للاعتراض بعد إذنك لأي شخص مساوٍ أو مألوف بعد إذن سيادتك لشخص محترم أو غير مألوف خد بالك للتنبيه والتحذير وأنت مالك للتأنيب أوع تعمل كده تحذير من الأعلى للأدنى أو بين الصديقين لليمين در نداء عسكري أجب عما يأتي في ورقة الامتحان ارفع مقتك وغضبك عنا دعاء مع التوجه إلى الله -سبحان وتعالى اشفع لنا دعاء موجه للنبي -صلى الله عليه وسلم مددك يا سيدنا دعاء موجه إلى أحد الأولياء رح لحالك طرد. ثانيًا: عبارات غايتها الوداع: مع السلامة يقولها كل الناس لكل الناس إلى اللقاء وداع من مثقف لآخر ربنا يجمع فرقتنا وداع من أم أو زوجة باي باي وداع أطفال أسأل الله تعالى أن يجمع شملنا وداع من ذوي الثقافة الدينية والعربية الحي يتلاقى وداع صعيدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ثالثًا: عبارات غايتها الاستقبال العبارة بعض عناصر المقام الأخرى: أهلًا وسهلًا تحية شائعة على مختلف المستويات الحمد لله على السلامة لاستقبال العائد من السفر فرصة سعيدة لمن لم تكن رؤيته متوقعة زارنا النبي تحية شائعة في أوساط النساء إيه النور ده كله تحية الأليف للأليف خطوة عزيزة لمن تندر زيارته إيه اللي جابك لغير المرغوب في مجيئه ذكرنا القط جانا ينط ترحيب ودعابة لشخص مألوف رابعًا: عبارات غايتها الإلزام وعد الحر دين عليه للإلزام بتنفيذ الوعد كلام شرف للارتباط بالوفاء لا تكن مثل فلان للإلزام بموقف معين الناس كلهم عارفين أمانتك للإلزام بالأمانة والله العظيم أقول الحق للالتزام بالصدق قبلت لإتمام التعاقد الله يبارك لك لالتزام البائع بتسليم السلعة التوقيع على وثيقة للالتزام بصدق ما تحتويه كلمة إرساء المزاد العلني للإلزام بالدفع والاستلام هذا وعد للالتزام بالتنفيذ لا إله إلا الله تلزم المسلم بحفظ دم من قالها أي حمار قال هذا لإلزام القائل بالتنصل مما قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 خامسًا: عبارات غايتها الرجاء: العبارة بعض عناصر المقام الآخر: سألتك بالله رجاء تسمعه باللهجة الليبية أو بين المثقفين اعمل معروف من الأدنى للأعلى والنبي رجاء على ألسنة النساء والأطفال والنبي يا فلان رجاء لمن تكلمه ببعض الكلفة سقت عليك النبي يقولها العوام عليك النبي رجاء تسمعه في لهجة أم درمان عليك بالله رجاء تسمعه في لهجة أم درمان أرجوك رجاء فيه عدم ألفة دا أنا أخوك رجاء مع تذكير بالدالة أكون شاكر لو ... من الأعلى للأدنى أو المساوي. ميش عايز تكسب ثواب رجاء في أمر صعب لصالح ضعيف حسنة الله يقولها المتسولون للمارَّة سادسًا: عبارات غايتها الترحم: الله يرحمه ترحم عام يقال على جميع المستويات رحمه الله من مثقف عادي رحمة الله عليه يقولها الشيوخ والمثقفون ثقافة عربية عليه رحمة الله يقولها الشيوخ والمثقفون ثقافة عربية والله كان طيب شائع على جميع المستويات خياركم السابقون يقولها من له ثقافة دينية جعل الله مثواه الجنة يقولها أصحاب الثقافة العربية الله يوسَّع لحايده ترحم صعيدي الله يشبشب الطوبة اللي تحت رأسه ترحم قاهري الرحمة تنزل عليه ترحم نسائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 العبارة: بعض عناصر المقام الأخرى: كلنا لها ترحم شائع والله ارتاح تقال فيمن طال مرضه سابعًا: عبارات غايتها التعجب يا سلام "بتنغيم خاص" تعجب شائع يا هو تعجب الساخر إش تعجب مع رفع كلفة إيه الجمال دا تعجب مع رفع كلفة يا حلاوة يقولها العوام يا حلاوتك يقولها العوام يا حلولي تقولها النساء يابن الإيه تعجب بين الخلطاء يا وعدي تعجب غزلي ياي تقولها الفتيات المتفرنجات ثامنًا: عبارات غايتها التحية السلام عليكم تحية شائعة على مختلف المستويات صباح الخير تحية عامة وقت الصباح نهاركم سعيد يقولها الأقباط سا الخير تقولها النساء العاميات بالقاهرة للتحية في المساء صباح النور للرد على من يقول صباح الخير صباح الفل تحية فيما بين أولاد البلد في القاهرة في الصباح نهاركم سعيد تحية فيما بين أولا البلد في القاهرة في النهار نهاركم قشطة تحية فيما بين أولاد البلد في القاهرة في النهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 العبارة: بعض عناصر المقام الأخرى: صباح الورد: تحية فيما بين أولاد البلد في القاهرة في الصباح بنصبح تحية فيما بين أولاد البلد في القاهرة في الصباح فلان بيصبح تحية فيما بين أولاد البلد في القاهرة في الصباح الورد فتح والنبي تحية مشربة بالغزل أو الملق. تاسعًا: عبارات غايتها التهنيئة مبروك تهنئة شائعة مبروك يا فلان تهنئة وتودد مبارك يقولها صاحب الثقافة العربية ربنا يتمم بخير تقال بعد توقيع العقود أو البدء في عمل ما والله فرحنا لك لدعاء الصداقة نهنيك تهنئة مع كلفة أجمل التهاني تكتب ولا يقال نهني أنفسنا للملق أو التقرب يهنيئ المنصب لتملق الشخص ذي النفوذ ألف مبروك للنجاح بعد تعب وكفاح ربنا يزيدك من نعيمه يقولها العوام عاشرًا: عبارات غايتها النصح أنصحك نصح مع التخويف والتحذير اسمع كلامي تقال للعنيد والمندفع الدين النصحية تقال عند توقع الشك أو عدم الانتصاح أنا لا أغشك للإقناع باخلاص النصيحة إذا كنت عايز النصيحة تقال لدفع الشك وتأكيد النصح إذا كنت عايز الجد تقال لدفع الشك وتأكيد النصح والله أنا خايف عليك للنصح والتهديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 العبارة: بعض عناصر المقام الأخرى والله أنا رأيي كذا يقولها من له نفوذ على المنصوح أحسن شيء تعمل كذا نصح بعد استشارة والناس يقولوا عنك إيه نصح وتأنيب وبعد فقد رأينا هذه النماذج العشر لغايات الآداء, ورأينا أن هذه الغايات ليست إلّا جزءًا من أجزاء المقام, وأن الأجزاء الأخرى من المقام يمكن جمعها من الظروف المحيطة بالمقال من متكلم وسامع أو سامعين واعتبارات اجتماعية وتاريخية وجغرافية وهلم جرا, وإن الذي ذكرناه تحت عنوان: "بعض عناصر المقام الأخرى" لم يكن فعلًا إلّا بعضًا من هذه العناصر, أما جمع كل العناصر فلا يتم إلّا مع التحليل الدقيق للظروف. ويتضح لنا بهذا أن الثقافة الشعبية تشتمل على نماذج محددة من غايات الأداء التي تصلح كل غاية منها لأن تكون نقطة بداية لتحليل المقام, ولعل البلاغيين العرب حين تكلموا عن "مقتضى الحال" كانوا يقصدون شيئًا قريبًا مما أطلقنا عليه هنا "غاية الأداء", ومن هنا يكون مقتضى الحال كما نفهمه جزءًا من المقام في فهمنا أيضًا وليس المقام كله. على أنه لا يمكن لنا أن ندعي مع هذا أن الثقافة الشعبية هي حاصل جمع طائفة عظيمة من المقامات. إن فهم الثقافة الشعبية بهذ الصورة خطأ فاحش؛ لأن الثقافة الشعبية مكمن العناصر التي تتكون منها المقامات حين ينضم بعض هذه العناصر إلى بعض, وإن الإمكانات العقلية التي تأتي من تأليف هذه العناصر بعضها مع بعض لا يمكن حصرها أبدًا, ومن ثَمَّ لا يمكن حصر المقامات الممكنة في ثقافة شعبية ما, والأمر الوحيد الذي يمكن الكلام فيه بشيء من الضبط هو نماذج المقامات وليس المقامات نفسها. وكما أن للنبر نظامًا في إطار النظام الصرفي تصيبه الظواهر الموقعية في مجرى السياق الكلامي, وكما أن للتنغيم نظامًا في إطار النظام النحوي يخضع لمطالب السياق حين يرد فيه, وقد شرحنا ذلك من قبل, فكذلك غايات الأداء يصبح لكل غاية منها عبارات معيارية خاصة من الناحية النظرية, ولكن مطالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الاستعمال ومناسبة المقام ربما تطلب نقل عبارة ذات غاية محددة إلى غاية أخرى, فمن ذلك مثلًا أننا أوردنا أمام عبارة "اسمع يا فلان" أنها يقولها الصديق للصديق, وهذا هو فعلًا موضعها في الخطاب العادي, ولكنها قد تتحوّل إلى غاية أخرى هي التهديد أو التقديم للنصح, وعبارة "لليمين در" قد تتحول من غايتها العسكرية المحددة إلى السخرية من شخص تطرده, وعبارة "رح لحالك" ربما تحولت عن غايتها العادية وهي الطرد إلى معنى غزلي هو التمنّع والدلال, وعبارة "مع السلامة" ربما تحولت عن غايتها العادية وهو الوداع إلى غاية أخرى هي السخرية عند الطرد, أو التعبير عن عدم الرغبة في الرؤية مرة أخرى. وقد تقال عبارة "خطوة عزيزة" للتأنيب على التأخر, ويمكن أن تقال عبارة "الناس كلهم عارفين أمانتك" عند السخرية من خيانة المخاطب, ويمكن في عبارة لا إله إلا الله" أن تقال للتأفف أو للذكر أو في الأذان, ويمكن في عبارة "مش عايز تكسب ثواب" أن تقال في السخرية عند الدعوة إلى أداء عمل إضافي يستحق عليه أجر ولكنه لا ينتظر دفعه, وكذلك عبارة "خياركم السابقون" يمكن أن تكون تعليقًا ساخرًا عند فصل موظف سيئ السمعة مع انتظار فصل آخرين على شاكلته, أما عبارة "يا سلام" فقد سبق أن ذكرنا ما يمكن لها من المعاني المختلفة باختلاف تنغيمها, وكل عبارات التعجب يمكن أن تتحوّل عن غايتها إلى السخرية أيضًا, ومثلها عبارات التهنئة أيضًا. ومن تحويل غايات الأداء على المستوى النحوي أن الإثبات وهو خبر قد يحول إلى الشرط "الذي يأتيني فله درهم", أو إلى إنشاء الدعاء نحو: "رحمه الله", وأن النفي كذلك في "لا قدَّر الله", وأن الاستفهام قد يتحول إلى التقرير نحو: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} أو إلى الإنكار نحو: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِين} وأن النداء قد يتحول إلى التعجب "يا عجبًا", وكذلك الاستغاثة تتحوّل إلى التعجب نحو: "يا لله" وأن الأمر يتحوّل إلى الدعاء نحو: "اللهم ارحمه", وأن الجملة تتحول من أصلية إلى فرعية فتكون صلة أو صفة أو خبرًا أو حالًا أو مضافًا إليه أو مقول قول. ولكن هذا التحول النحوي في غاية الأداء لا يعتبر من دراسة الدلالة, وإنما يعتبر من قبيل تعدد المعنى الوظيفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الاستعمال ومناسبة المقام ربما تطلب نقل عبارة ذات غاية محددة إلى غاية أخرى, فمن ذلك مثلًا أننا أوردنا أمام عبارة "اسمع يا فلان" أنها يقولها الصديق للصديق, وهذا هو فعلًا موضعها في الخطاب العادي, ولكنها قد تتحوّل إلى غاية أخرى هي التهديد أو التقديم للنصح, وعبارة "لليمين در" قد تتحول من غايتها العسكرية المحددة إلى السخرية من شخص تطرده, وعبارة "رح لحالك" ربما تحولت عن غايتها العادية وهي الطرد إلى معنى غزلي هو التمنّع والدلال, وعبارة "مع السلامة" ربما تحولت عن غايتها العادية وهو الوداع إلى غاية أخرى هي السخرية عند الطرد, أو التعبير عن عدم الرغبة في الرؤية مرة أخرى. وقد تقال عبارة "خطوة عزيزة" للتأنيب على التأخر, ويمكن أن تقال عبارة "الناس كلهم عارفين أمانتك" عند السخرية من خيانة المخاطب, ويمكن في عبارة لا إله إلا الله" أن تقال للتأفف أو للذكر أو في الأذان, ويمكن في عبارة "مش عايز تكسب ثواب" أن تقال في السخرية عند الدعوة إلى أداء عمل إضافي يستحق عليه أجر ولكنه لا ينتظر دفعه, وكذلك عبارة "خياركم السابقون" يمكن أن تكون تعليقًا ساخرًا عند فصل موظف سيئ السمعة مع انتظار فصل آخرين على شاكلته, أما عبارة "يا سلام" فقد سبق أن ذكرنا ما يمكن لها من المعاني المختلفة باختلاف تنغيمها, وكل عبارات التعجب يمكن أن تتحوّل عن غايتها إلى السخرية أيضًا, ومثلها عبارات التهنئة أيضًا. ومن تحويل غايات الأداء على المستوى النحوي أن الإثبات وهو خبر قد يحول إلى الشرط "الذي يأتيني فله درهم", أو إلى إنشاء الدعاء نحو: "رحمه الله", وأن النفي كذلك في "لا قدَّر الله", وأن الاستفهام قد يتحول إلى التقرير نحو: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} أو إلى الإنكار نحو: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِين} وأن النداء قد يتحول إلى التعجب "يا عجبًا", وكذلك الاستغاثة تتحوّل إلى التعجب نحو: "يا لله" وأن الأمر يتحوّل إلى الدعاء نحو: "اللهم ارحمه", وأن الجملة تتحول من أصلية إلى فرعية فتكون صلة أو صفة أو خبرًا أو حالًا أو مضافًا إليه أو مقول قول. ولكن هذا التحول النحوي في غاية الأداء لا يعتبر من دراسة الدلالة, وإنما يعتبر من قبيل تعدد المعنى الوظيفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ما معناه: ليس العبرة بما قيل, ولكن بالطريقة التي قيل بها. ومغزى هذا أن المعنى الحرفي غير كافٍ لفهم ما قيل؛ لأنه قاصر عن إبداء الكثير من القرائن الحالية التي تدخل في تكوين المقام. وإن الكثير من نصوص تراثنا العربي قد جاء غامضًا؛ لأن الذين رووا هذه النصوص لم يعنوا بإيراد وصف كافٍ للمقام الذي أحاط بالنص, ومن ثَمَّ ينبغي لنا أن نبذل الجهد مضاعفًا عند التصدي لشرح هذه النصوص, حتى نستطيع إعادة بناء المقام بناء على أساس من التاريخ ومن علم النفس والمجتمع العربي القديم والاقتصاد القديم أيضًا, والمزاوجة بين كل أولئك بواسطة الخيال الخصب والعقل الثاقب النفاذ. والله تعالى ولي التوفيق ومنه العون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الفهرس : صفحة 7 تقديم: ملابسات هذا البحث 11 مقدمة: طابع الدراسات اللغوية العربية القديمة - مطالب المنهج الحديث - مدى وفاء الدراسات اللغوية العربية بهذه المطالب - النحو تحليل والبلاغة تركيب وأسلوب - أصول الفقه والنظرة إلى الدلالة -الناظرون في المعنى من الغربيين - في الأبيستيمولوجيا - في المنطق - في علم النفس - لدى علماء الرمز - في النقد الأدبي - في الدراسات اللغوية الحديثة. 31 الفصل الأول: الكلام واللغة: تفريق بين طابع كل منهما - اللغة منظمة عرفية للرمز إلى نشاط المجتمع تتكون من أنظمة - عناصر النظام الصوتي - عناصر النظام الصرفي - عناصر النظام النحوي - مكان المبنى في خطة الكشف عن المعنى - المعجم قائمة لا نظام - الحاجة إلى المقام لاستكمال المعنى. 45 الفصل الثاني: الأصوات: النطق والكتابة - الأصوات دراسة عملية بالملاحظة والتسجيل والوصف دون التجريد والتنظيم - يستطيع الباحث في الأصوات أن يتصدى لأصوات لغة لا يفهمها ولكنه لا يستطيع ذلك على مستوى الصوتيات - سيبويه والأصوات العربية - مصطلح سيبويه - جدول للأصوات كما فهمها سيبويه -مصطلحات غامضة عند سيبويه - سيبويه والمحدثون. 65 الفصل الثالث: النظام الصوتي "علم الصوتيات": بعد إتمام الوصف العضوي يبدأ استقراء القيم الأخلاقية - النظام الصوتي نتيجة التبويب ورصد الفروق - وظائف الأصوات الصحيحة - وظائف العلل - الصوت والحرف - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 طريقة الكشف عن النظام الصوتي - المقابل الاستبدالي - جدول النظام الصوتي للفصحى المعاصرة. الفصل الرابع: النظام الصرفي: 82 أولًا: كيف يتألف هذا النظام - معاني التقسيم ومبانيه - معاني التصريف ومبانيه المعنى والمبنى والعلامة - جدول النظام الصرفي للغة الفصحى. 86 ثانيًا: أقسام الكلم - التقسيم الذي وضعه النحاة بحاجة إلى النظرة الفاحصة - اعتبارات التقسيم - بحسب مبان معينة - بحسب معان معينة - المعاني الصرفية وظائف سواء ما كان منها للتقسيم وما كان للتصريف - لا بد من الاعتماد على المعاني والمباني عند تقسيم الكلم - أقسام الكلم وأسس التفريق بين بعضها وبعض - الاسم - الصفة - الفعل - الضمير - الخالفة - الظرف - الأداة. 133 ثالثًا: المبنى - مباني التقسيم - مباني التصريف - مباني القرائن- الصيغة - صيغ الأسماء - صيغ الصفات - صيغ الأفعال - معاني الصيغ الأصول الثلاثة ومعنى الصيغة - الصيغة والميزان الصرفي - لا صيغ للضمائر ولا للخوالف ولا للظروف ولا للأدوات - مبنى كل من هذه الأقسام هو صورته على إطلاقها - القيم الخلافية تفرق بين الصيغ لأمن اللبس - المحايد الصرفي - إمكان اختراع الصيغة لإثراء اللغة ارتباط الصيغة بحقائق التحليل في الجدول - الإلصاق: المعاني الصرفية العامة ذات اللواصق الزيادة: المعاني المفهومة - بالزوائد تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد - تعدد وظيفة القسم بعينه من أقسام الكلم - تعدد معاني الصيغة الواحدة من صيغ هذا القسم - تعدد معاني اللاصقة الواحدة - تعدد معاني المبنى الواحد من مباني القرائن - تعدد المعنى لمبنى معين من مباني الجمل. الاشتقاق: أصل الاشتقاق - معنى جديد للاشتقاق. النبر: صلة النبر بالصيغة الصرفية - ضرورة المقطع في شرح النبر - النظام النبري للغة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 صفحة 177 الفصل الخامس: النظام النحوي: مكونات هذا النظام - مباني الصرف لمعاني النحو - المعاني النحوية وظائف - القرائن وأثرها في فهم التعليق - إذا اتضحت قرائن التعليق أمكن الإعراب ولو لم يكن للمفردات معنى - سقوط نظرية العامل - عبد القاهر صاحب التعليق - جدول النظام النحوي. 1- قرائن التعليق: جدول للقرائن. 191 القرائن المعنوية والقرائن اللفظية - تضافر القرائن - القرائن المعنوية: الإسناد - التعدية - الغائبة - المعية - الظرفية - التقوية - الملابسة - التفسير -الإخراج - الخلاف - النسبة - التبعية-. القرائن اللفظية: العلامة الإعرابية - الرتبة - الصيغة - المطابقة - الربط - التضام - الأداة - التنغيم. القرائن تغني عن العوامل. اطراح القرينة: اطراح العلامة الإعرابية - اطراح الرتبة - اطراح الصيغة - اطراح المطابقة - اطراح الربط - اطراح التضام - اطراح الأداة - اطراح التنغيم. 2- الزمن والجهة: 240 الزمن الصرفي والزمن النحوي الفرق بين زمن الفعل وزمان الظرف - الزمن وظيفة السياق -تفاعل الزمن والجهة في أنماط الجملة العربية المختلفة - الزمن والصفات الخمس - القرائن تعين على تحديد زمن المصدر نتائج دراسة الزمن - الجهات المخصصة للزمن والجهات المخصصة للحدث -الجهات المخصصة لعلاقة الإسناد. 261 الفصل السادس: الظواهر السياقية: طبيعة الظواهر السياقية - اتجاه الذوق العربي هو أساس هذه الظواهر - كراهية توالي الأضداد والأمثال هي مناط هذه الظواهر - ظاهرة التأليف - الوقف - المناسبة - الإعلال والإبدال - التوصل - الإدغام - التخلص - الحذف - الإسكان - الكمية - الإشباع والإضعاف - النبر - التنغيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 صفحة 311 الفصل السابع: المعجم. المعجم قائمة لا نظام - الكلمة المفدرة ما هي؟ - القواعد رقعة الشطرنج والكلمات قطع اللعب -المعجم معين صامت - الكلمة التي في المعجم تصير لفظًا عند الكلام - ضرورة هذا الفهم لتعريف الكلمة - العلاقة عرفية بين المفردات ومعانيها - علم البيان يصلح فرشًا لعلم المعجم - معيارية الاستعمال في ربط الكلمات بالمعاني - كيف تتحول دلالة الكلمة - تحليل المعنى المعجمي - تعدده واحتماله - المعلومات التي نتطلبها في المعجم - طريقة النطق - الهجاء - التحديد الصرفي - الشرح "ويشمل الأشكال المختلفة للكلمة المفردة تخصيص المدخل - شرح المعنى - الاستشهاد - ذكر الضمائم" نموذج من القاموس المحيط. 335 الفصل الثامن: الدلالة: اللغة ظاهرة اجتماعية - فكرة المقام مركز علم الدلالة - المقام والمقال - الاستشهاد اقتراض لمقال ما ليستعمل في مقام مشابه لمقامه الأصلي - يتطلب المعنى الشامل تحليلًا للنص على مستوى الأنظمة، والمعجم والمقام جميعًا، فلا يغني واحد من ذلك عن الآخر - المقام هو العنصر الاجتماعي في الدلالة -أنواع المقام المختلفة - النص المكتوب بحاجة إلى مقدمة تصف المقام - المواد المساعدة لمادة اللغة تعيه على تصو رالمقام ومن ثَمَّ على فهم النص - الأصوليون حافظوا على فهم المقام عند استنباط الأحكام من القرآن والحديث - كما يعين المقام على الوضوح قد يكون فهمه عذرًا عن قصد التعمية - عناصر المقام - الفرق بين المقام ومقتضى الحال - يتقوف المعنى الدلالي على تحليل المعنى الوظيفي والمعنى المعجمي ثم على عناصر الثقافة الشعبية الماضية والحاضرة - الثقافة الشعبية يمكن تبويبها على أسس -دور الفرد في المجتمع - دور الفرد في الأداء - غايات الأداء - قد تتحول غايات الأداء بحسب المقام - سبق العرب على الأوربيين في فهم ضرورة اعتبار المقام في تحليل المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378