الكتاب: الفوز الكبير في أصول التفسير المؤلف: الإمام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ «ولي الله الدهلوي» (المتوفى: 1176هـ) عَرَّبَه من الفارسية: سلمان الحسيني النَّدوي الناشر: دار الصحوة - القاهرة الطبعة: الثانية - 1407 هـ - 1986 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ. ---------- الفوز الكبير في أصول التفسير الدهلوي، شاه ولي الله الكتاب: الفوز الكبير في أصول التفسير المؤلف: الإمام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بـ «ولي الله الدهلوي» (المتوفى: 1176هـ) عَرَّبَه من الفارسية: سلمان الحسيني النَّدوي الناشر: دار الصحوة - القاهرة الطبعة: الثانية - 1407 هـ - 1986 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: الفوز الكبير في أصول التفسير المؤلف: الإمام أحمد بن عبد الرحيم (المعروف بـ «ولي الله الدهلوي» (المتوفى: 1176هـ) عَرَّبَه من الفارسية: سلمان الحسيني النَّدوي الناشر: دار الصحوة - القاهرة الطبعة: الثانية - 1407 هـ - 1986 م [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 مقدمة الكتاب إن آلاء الله - تعالى - ونعمة على عبده الضعيف كثيرة لا تحصى، وأجل هذه النعم توفيقه إياي لفهم كتابه الحكيم، وإن ممن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصغر أفراد أمته, منزلة، عظيمة وفيرة، وأعظمها تبليغه - صلى الله عليه وسلم - لكتاب ربه - عز وجل -. لقد تلقى الجيل الأول منه - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم، وتلقى الجيل الثاني من الجيل الأول وهكذا دواليك حتى وصل إلى العبد الضعيف فنال حظه من تلاوته وفهمه وتدبره. اللهم صل على هذا النبي الكريم، سيدنا ومولانا شفيعنا أفضل صواتك وأيمن بركاتك وعلى آله وأصحابه، وعلماء أمته أجمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد! يقول الفقير إلى الله، ولي الله بن عبد الرحيم - عاملهما الله - تعالى - بلطفه العظيم -: إنه لما فتح الله - تعالى - على بابا من كتابه الحكيم، خطر لي أن أقيد الفوائد النافعة التي تنفع إخواني في تدبر كلام الله - عز وجل - وأرجو أن مجرد فهم هذه القواعد يفتح للطلاب طريقاً واسعاً إلى فهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 معاني كتاب الله - تعالى -، وأنهم لو قضوا أعمارهم في مطالعة كتب التفسير، أو قراءتها على المفسرين، لا يظفرون بهذه القواعد والأصول بهذا الضبط والتناسق. وسميتها "بالفوز الكبير في أصول التفسير" وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وهو حسبي ونعم الوكيل. وقد جمعت مقاصد هذه الرسالة في خمسة أبواب، وهي كما يلي: 1 - الباب الأول: في العلوم الخمسة التي يدل عليها القرآن الكريم نصاً، حتى وكأن القرآن نزل بالأصالة لهذه العلوم الخمسة. 2 - الباب الثاني: في وجوه خفاء نظم القرآن بالنسبة إلى أفهام أهل هذا العصر، وتجليتها بأوضح بيان. 3 - الباب الثالث: في بيان لطائف نظم القرآن، والأسلوب القرآني البديع. 4 - الباب الرابع: في مناهج التفسير، وبيان أسباب الاختلاف ووجوهه في تفسير الصحابة والتابعين. 5 - الباب الخامس: في بيان غريب القرآن، وأسباب النزول التي لابد من حفظها للمفسر، ويحظر بدونها الخوض في التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الباب الأول العلوم الخمسة الأساسية التي يشتمل عليها القرآن ليعلم أن المعاني التي يشتمل عليها القرآن لا تخرج عن خمسة علوم: 1 - علم الأحكام: كالواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، سواء كانت من قسم العبادات أو المعاملات، أو الاجتماع أو السياسة المدنية. ويرجع تفصيل هذا العلم وشرحه إلى الفقيه. 2 - علم الجدل: وهي المحاجة مع الفرق الأربع الباطلة، اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين. ويرجع في شرح هذا العلم وتعريفه إلى المتكلم. 3 - علم التذكير بآلاء الله: كبيان خلق السموات والأرض وإلهام العباد ما يحتاجون إليه، وبيان الصفات الإلهية. 4 - علم التذكير بأيام الله: وهو بيان تلك الوقائع والحوادث التي أحدثها الله - تعالى - إنعاماً على المطيعين ونكالا للمجرمين (كقصص الأنبياء - عليهم الصلوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 والتسليمات - ومواقف شعوبهم وأقوامهم معهم) . 5 - علم التذكير بالموت وما بعد الموت: كالحشر والنشر والحساب والميزان، والجنة والنار. ويرجع تفصيل هذه العلوم وبيانها وذكر الأحاديث والآثار المتعلقة بها إلى الواعظ والمذكر. اسلوب القرآن الكريم في عرض العلوم القرآنية: وقد جاءت هذه العلوم في القرآن الكريم على طريقة العرب الأولين، لا على منهج العلماء المتأخرين، فلم يلتزم في آيات الأحكام، منه، طريق الإيجاز والاختصار كمؤلفي المتون الفقهية، ولا طريق تنقيح الحدود والقيود، كما يفعله الأصوليون. وقد التزم في آيات الجدل والمخاصمة إيراد الأدلة المشهورة المسلمة، والبراهين الخطابية، لا تنقيح البراهين، وتقسيمها على طريقة المنطقيين. ولم يراع في الانتقال من مقصد إلى آخر، ومن موضوع إلى موضوع آخر، تلك المناسبة، التي يراعيها الأدباء المتأخرون، بل ألقى على عباده ما رآه مهماً، سواء كان مقدماً أو مؤخراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 حقيقة أسباب النزول: وقد ربط عامة المفسرين كل آية من آيات الأحكام وآيات المخاصمة بقصة تروى في سبب نزولها، وظنوا أنها هي سبب النزول، والحق أن نزول القرآن الكريم إنما كان لتهذيب النفوس الإنسانية، وإزالة العقائد الباطلة، والأعمال الفاسدة. فالسبب الحقيقي - إذن - في نزول آيات المخاصمة هو وجود العقائد الباطلة في نفوس المخاطبين. وسبب نزول آيات الأحكام إنما هو شيوع المظالم ووجود الأعمال الفاسدة فيهم. وسبب نزول آيات التذكير (بآلاء الله وأيامه وبالموت) إنما هو عدم تيقظهم وتنبههم بما يرون ويمرون عليه من آلاء الله وأيامه، وحوادث الموت، وما سيكون بعده من وقائع هائلة. أما الأسباب الخاصة والقصص الجزئية التي تجشم بيانها المفسرون فليس لها دخل في ذلك إلا في بعض الآيات الكريمة، التي تشتمل على تعريض بحادث من الحوادث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قبله، بحيث يقع القارئ بعد هذا التعريض في ترقب وانتظار لما كان وراءه من قصة أو حادث أو سبب، ولا يزال ترقبه إلا بسيط القصة وبيان سبب النزول. لأجل ذلك يلزمنا أن نشرح هذه العلوم بطريقة لا نحتاج معها إلى إيراد قصص جزئية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الفصل الأول في علم الجدل لقد وقع الجدل في القرآن الكريم مع الفرق الأربعة الباطلة: المشركين، واليهود والنصارى والمنافقين. طريقان للجدل في القرآن الكريم: وكان هذا الجدل والاحتجاج على طريقين: 1 - الأول أن تذكر العقيدة الباطلة وينص على شناعتها وفسادها واستنكارها، فحسب. 2 - الثاني أن تحدد الشبهات التي وقع فيها هؤلاء الفرق، ثم تعرض حلولها وأجوبتها بالأدلة البرهانية أو الخطابية. مفهوم الحنيف: وقد كان المشركون يسمون أنفسهم "حنفاء" ويدعون التدين بملة سيدنا إبراهيم - عليه السلام -. والحنيف هو من ينتمي إلى إبراهيم - عليه السلام - ويتدين بملته، ويلتزم شعائره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 شعائر الملة الإبراهيمية: وإن شعائر الملة الإبراهيمية هي: حج بيت الله الحرام، واستقباله في الصلوات، والغسل من الجنابة والاختتان، وسائر خصال الفطرة، وتحريم الأشهر الحرم، وتعظيم المسجد الحرام، وتحريم المحرمات النسبية والرضاعية، والذبح في الحلق، والنحر في اللبة، والتقرب بالذبح والنحر إلى الله - تعالى - لاسيما في أيام الحج. بعض شرائع الملة الإبراهيمية: وقد كان الوضوء، والصلاة، والصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والصدقة على اليتامى والمساكين، والإعانة على نوائب الحق، وصلة الأرحام، أموراً مشروعة في أصل ملة إبراهيم - عليه السلام - وكانوا يتمادحون بهذه الأعمال ويرونها فضيلة ومفخرة، إلا أن جمهور المشركين تركوها وانصرفوا عنها، وأصبحت عندهم هذه الأمور والشعائر كأن لم تكن شيئاً. وكان تحريم القتل والسرقة والزنا والربا والغصب ثابتاً معلوماً في أصل الملة الحنيفية، ويجري استنكارها عندهم في الجملة، ولكن جمهور المشركين كانوا يرتكبونها، وينساقون وراءها بحكم النفس الأمارة بالسوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 العقائد الثابتة لدى المشركين وانحرافهم عنها: وكانت عقيدة إثبات وجود الله - تعالى - وأنه خالق الأرض والسموات العلى، وأنه مدبر الحوادث العظام، وأنه قادر على إرسال الرسل، ومجاز للعباد على أعمالهم، وأنه قادر مقدر للحوادث العظيمة، قبل وقوعها، وأن الملائكة عباد الله المقربون، وأنهم يستحقون الإكرام، كل ذلك كان ثابتاً عندهم، ويدل على ذلك شعرهم، ولكن جمهور المشركين، وقعوا في شبهات كثيرة تجاه هذه المعتقدات، لاستبعاد بعض الأمور، وعدم ألفتهم لإدراكها والإحاطة بمفاهيمها. وقد كان ضلال هؤلاء وانحرافهم في الشرك والتشبيه والتحريف، وجحود الآخرة، واستبعاد رسالة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - وشيوع الأعمال القبيحة والمظالم فيما بينهم، وابتداع الطقوس والتقاليد الباطلة، واندراس العبادات والشعائر الحقة الصحيحة. حقيقة الشرك ومظاهره وأنواعه: والشرك هو: إثبات الصفات الخاصة بالله - تعالى - لغيره، مثل إثبات التصرف المطلق في الكون بالإدارة المطلقة التي يعبر عنها "بكن فيكون" أو إثبات العلم الذاتي الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 لا يحصل بالاكتساب عن طريق الحواس والدليل العقلي، والمنام والإلهام وأمثال هذه الوسائل المادية أو الروحية، أو إثبات إيجاد شفاء المريض، أو إثبات اللعنة على شخص أو السخط عليه بحيث ينقلب نتيجة هذا اللعن والسخط معدما، أو مريضاً أو شقياً، أو الرحمة لشخص والرضا عنه بحيث ينقلب هو بسبب هذه الرحمة والرضا غنياً صحيحاً، معافى، سعيداً. وهؤلاء المشركون لا يعرفون مع الله - تعالى - شريكاً، في خلق الجواهر (أي أصول المادة) وتدبير الأمور العظام، ويعترفون بأنه لا قدرة لأحد إذا أبرم الله - تعالى - شيئاً وقضى به أن يمانعه ويقف دونه، إنما إشراكهم في أمور خاصة ببعض العباد، إذ أنهم يظنون أن سلطاناً عظيماً من السلاطين العظام، كما يرسل عبيده وأصحابه الزلفى لديه إلى بعض نواحي مملكته للقيام ببعض الأمور الجزئية، ويجعلهم متصرفين فيها - إلى أن يصدر عنه قرار آخر - باختيارهم وسلطتهم، وأنه لا يقوم بشئون الرعية وأمورهم الجزئية بنفسه، بل يكل ذلك إلى الولاة والحكام، ويقبل منهم شفاعتهم وتزكيتهم للموظفين الذين يعملون تحت إشرافهم، والمتصلين بهم، والمتزلفين لديهم، كذلك قد خلع ملك الملوك على الإطلاق - تعالى شأنه - على بعض عباده المقربين خلعة الألوهية، وجعل سخطهم ورضاهم مؤثراً في عباده الأخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فكانوا - لأجل ذلك - يرون من الضرورة التزلف إلى أولئك العباد المقربين حتى يكون هذا وسيلة لصلاحية القبول في حضرة الملك الحقيقي، وتنال شفاعتهم - في حقهم - عند الجزاء على الأعمال الحساب - الخطوة والقبول لديه - سبحانه -. ونظراً لهذه الملاحظة والتصور الذي رسخ في نفوسهم حدثتهم أنفسهم بالسجود أمامهم والذبح لهم والحلف بأسمائهم والاستعانة بقدرتهم المطلقة، ونحت صورهم وتماثيلهم من الحجر والصفر والنحاس وغير ذلك. وجعلها قبلة للتوجه إلى أرواحهم، وتدرج الجهلة من هذا الطريق إلى أن بدأوا يعبدون هذه الصور والتماثيل ويعتقدون أنها آلهة بذاتها، ووقع في المعتقدات خلط والتباس وفساد عظيم. معنى التشبيه وصوره: والتشبيه عبارة عن إثبات الصفات البشرية (أو أي صفة من صفات المخلوقين) لله - تعالى - فكانوا يقولون مثلا: إن الملائكة بنات الله، وأن يقبل شفاعة عباده ولو لم يرض بها كما يفعل الملوك - أحيانا - مع الامراء الكبار وحكام الولايات، وإنهم - لما لم يستطيعوا إدراك السمع والبصر حسبما يليق بشأن الألوهية - قاسوهما على أسماعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وأبصارهم، ووقعوا في التجسيم ونسبة التحيز إلى الله - سبحانه -. منشأ التحريف ومظاهره: أما التحريف فإن قصته هي أن أولاد سيدنا إسماعيل - عليه السلام - كانوا على شريعة جدهم - إبراهيم عليه السلام - حتى وجد فيهم "عمرو بن لحى" - لعنه الله - ووضع لهم الأصنام وشرع لهم عبادتها، واختراع طقوس البحيرة والسائبة والحام، والاستقسام بالأزلام وأمثال هذه من الطقوس والبدع، وقد كان ذلك قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرابة ثلاثمائة سنة. وكان هؤلاء الجهلة يستدلون بآثار آبائهم، ويرونها عندهم حجة قاطعة. وأما أحوال البعث والحشر والنشر فإن الأنبياء السابقين وإن تعرضوا لبيانها فإنهم لم يبينوها أو لم تتضمن صحفهم بيانها بذلك التفصيل والإسهاب الذي نجده في القرآن الكريم، ولذلك كان المشركون قليلي الإطلاع على تفاصيلهما، ويستبعدون وقوعهما. وكانوا بالرغم من اعترافهم بنبوة جدهم سيدنا إبراهيم - عليه السلام - ونبوة سيدنا إسماعيل - عليه السلام - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 حتى بنبوة سيدنا موسى - عليه السلام - أيضا، تحول الصفات البشرية (التي يتسم بها الأنبياء) بينهم وبين رؤية جمالهم الحقيقي، وتحجبهم - لجهلهم وقلة إدراكهم - عن الإطلاع على مكانتهم الحقيقية، وكانوا لعدم تفطنهم وإدراكهم لحقيقة التدبير الإلهي والحكمة الإلهية التي تقتضي بعثة الأنبياء والمرسلين، يستبعدون رسالة الرسل لاعتقادهم أن الرسول ينبغي أن يكون مثل المرسل (وأن يكون بينهما اشتراك في الصفات) ويوردون لأجل ذلك شبهات واهية ركيكة، فيقولون مثلا: * كيف يكون النبي محتاجاً إلى الطعام والشراب؟ * ولماذا لم يرسل الله ملكاً رسولا؟ * وما هو الغرض في أنه لا يوحى إلى كل شخص على حدته، وهلم جراً؟ وإذا كنت - أيها القاري - تتوقف في التسليم بصحة ما يقال عن عقائد المشركين وأعمالهم، فانظر إلى المخرفين في هذا العصر، لاسيما من يقطنون منهم بأطراف دار الإسلام، ما هي تصوراتهم عن "الولاية"، فرغم أنهم يعترفون بولاية الأولياء المتقدمين، يرون وجود الأولياء في عصرنا هذا من المستحيلات، ويؤمون القبور والعتبات، وقد ابتلوا بأنواع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 من الشرك والبدع والخرافات، وتمكن منهم التحريف والتشبيه، وتغلغل في نفوسهم حتى لم تبق بحكم ما جاء في الحديث الصحيح "لتتبعن سنن من كان قبلكم، إلخ" بلية من البلايا ولا فتنة من الفتن إلا وطائفة من طوائف المسلمين - اسماً - تخوض فيها وتعلق بها، عافانا الله سبحانه عن ذلك. وبالجملة فإن رحمة الله تعالى - اقتضت بعثة سيد الأنبياء محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - في الجزيرة العربية، وأمره بإقامة الملة الحنيفية، ومجادلة هؤلاء الفرق الباطلة عن طريق القرآن العظيم، وقد كان الاستدلال في مجادلتهم بالمسلمات التي هي بقايا الملة الإبراهيمية، ليتحقق إلزام ويقع الإفحام. الجدل القرآني مع المشتركين: لقد رد الله - تعالى - على المشركين ومعتقداتهم الباطلة بشتى الطرق، وبيانها كما يلي. 1 - أولا: مطالبتهم بالدليل على ما يزعمون، ونقض تمسكهم بتقليد آبائهم. 2 - ثانياً: إثبات أن لا تساوي بين الرب والعباد وأن الرب - تعالى - مختص باستحقاق أقصى غاية التعظيم بخلاف جميع عباده وجمع مخلوقاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 3 - ثالثاًَ: بيان إجماع الأنبياء والمرسلين على هذه الحقيقة الكبرى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . 4 - رابعاً: بيان شناعة عبادة الأصنام، وأن الاحجار ساقطة عن مرتبة الكمال الإنساني فكيف تظل بمرتبة الألوهية، يسجد لها ويتوجه إليها! ومثل هذا الرد والتفنيد لأولئك المشركين الذين كانوا يعتقدون هذه الأصنام آلهة معبودة لذاتها. الرد على التشبيه: وكان الرد على التشبيه بعدة طرق: 1 - أولاً: بمطالبتهم بالدليل على دعواهم، ونقض تمسكهم بتقليد آبائهم. 2 - ثانياً: ببيان ضرورة التجانس بين الوالد والولد، (للرد على عقيدة الابنية) وظاهرة انه مفقود، باد ذلك للعيان. 3 - ثالثاً: بيان شناعة نسبة ما هو مكروه ومذموم لديهم - كما تدل على ذلك مواقفهم - إلى الله - تعالى - قال تعالى {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وقد سبق هنا الرد لقوم اعتادوا المقدمات المشهورة والمتوهمات الشعرية وكان أكثرهم من هذا القبيل. الرد على التحريف: وكان الرد على التحريف بإثبات أمرين: 1 - أنه لم يؤثر عن أئمة الملة الحنيفية (إبراهيم وإسماعيل وغيرهما من الأنبياء الماضين) ما يقولون من تحريفات. 2 - أنه من اختراعات من ليسوا بمعصومين وابتداعاتهم. الرد على استبعاد القيامة: وكان الرد على استبعاد البعث والحشر والنشر بوجوه عديدة. 1 - بالقياس على إحياء الأرض بعد موتها، وأمثال ذلك. 2 - بتنقيح المناط وهو عبارة - هنا - عن بيان شمول القدرة الإلهية، وإمكان الإعادة بعد البدء بل يسرها وسهولتها. 3 - ببيان موافقة أهل الكتب السماوية كلهم في الإخبار بالقيامة، واعتقادها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الرد على منكري الرسالة: وكان الرد على المنكرين للرسالة والمستبعدين لها بالوجوه التالية: 1 - وقوع الرسالة وتحققها للأنبياء الماضين. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} . {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} . 2 - الرد على استبعاد الرسالة واستغرابها بأنها - هنا - عبارة عن الوحي الإلهي (الذي يتلقاه رجل من البشر باصطفاء الله إياه) . {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} . وتفسير الوحي بما لا يكون من المستحيلات. {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 3 - بيان أن عدم ظهور المعجزات التي يقترحونها على الرسول، وعدم موافقة الله - تعالى إياهم في تعيين شخص يتوخون رسالته، وعدم إرساله - تعالى شأنه - الملائكة رسلا بين الناس، وعدم إيحائه إلى كل شخص من الأشخاص، كل ذلك ينبني على المصالح الكلية التي يقصر علمهم عن إدراكها وتعجز عقولهم عن الإحاطة بمراميها. ولما أن أكثر الناس الذين بعث إليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا مشركين، لذلك فإن هذه المعاني قد تكررت في القرآن الكريم بأساليب متعددة وفي سور كثيرة، وبتأكيدات بالغة، ولم يتحاش القرآن العظيم تردادها وتكرارها، فإنه حقيق أن يكون خطاب الحكيم المطلق لهؤلاء الجهلة، والضعيفي العقول كذلك بتأكيد بليغ وتكرار مزي. - الجدل القرآني مع اليهود - أنواع ضلال اليهود: لقد كان اليهود يؤمنون بالتوراة، وكان ضلالهم التحريف في أحكام التوراة، سواء كان تحريفا لفظياً أو تحريفاً معنوياً، وكتمان آيات التوراة، وإلحاق ما ليس منها بها، والتقصير في تنفيذ أحكامها، والعصبية الشديدة لديانتهم، واستنكار رسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسوء الأدب مع رسول الله - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 صلى الله عليه وسلم - تبارك وتعالى -، والبخل والحرص، وأمثالها من الرذائل الخلقية. التحريف اللفظي: وقد تحقق لدى الفقير أن تحريفهم اللفظي إنما كان في ترجمة التوراة وما يجري مجراها، لا في أصل التوراة وهذا هو قول ابن عباس رضي الله عنهما. التحريف المعنوي وبعض أمثلته: أما التحريف المعنوي فإنه عبارة عن التأويلات الفاسدة وحمل الآيات على غير معانيها المرادة بتعسف وانحراف عن قصد السبيل. ونذكر فيما يلي عدداً من وجوه التحريف المعنوية: المثال الأول: 1 - منها: أن الفرق بين المتدين الفاسق والكافر الجاحد معتبر في كل ملة من الملل، وتوعد الكافر بالخلود في النار والعذاب الأليم وأثبت للفاسق خروجه من النار بشفاعة الأنبياء والمرسلين وجاء التصريح في كل ديانة بذلك باسم التدين بتلك الديانة، فأثبت ذلك في التوراة لليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 والعبريين، وفي الإنجيل للنصرانيين، وفي القرآن العظيم للمسلمين. والحقيقة أن مناط الحكم هو الإيمان بالله - تعالى - وباليوم الآخر، والإيمان بالنبي الذي بعث لهم، والنقياد له والعمل بشريعته، والاجتناب عن نواهيه، لا خصوص الديانة وخصوص الطائفة المسماة باليهود والنصرانيين وغيرهم، ولكن اليهود بدأوا يظنون أن كل من كان يهودياً أو عبريا، فهو من أهل الجنة، ولابد أن تناله شفاعة الأنبياء وتخلصه من العذاب، وأنه لا يمكث في النار إلا أياماً معدودات، ولو لم يكن مناط الحكم - الذي قد سبق بيانه - متحققاً ولم يكن إيمانه بالله - تعالى - على الوجه الصحيح ولا يملك شيئاً من الإدراك الصحيح لمعنى الرسالة والآخرة، وهذا هو الخطأ الصريح والجهل الصرف. ولما أن القرآن العظيم مهيمن على الكتب السابقة ومبين لما فيها من إبهام وغموض، فقد كشف شبهاتهم هذه ورد عليها ردوداً واضحة مقنعة. {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 المثال الثاني: 2 - ومنها أن الأحكام ذكرت في كل ملة من الملل السابقة حسب مصالح عصرها ودورها، وروعيت في التشريع عادات الناس الصالحة، وأكد الحكم بالأخذ بها والمداومة عليها، واعتقادها، وانحصار الحق فيها، والمراد أن الحق منحصر فيها في ذلك العصر، وأن المداومة عليها إضافية وليست مداومة حقيقة، اي أنها صالحة للعمل إلى أن يأتي نبي جديد ويكشف الستار عن رسالة جديدة، ولكن اليهود حملوا ذلك على استحالة النسخ. وكانت الوصاة بالتمسك بتلك الملة والعض عليها تعني التمسك بالإيمان والأعمال الصالحة، ولا اعتبار لخصوص ملة من الملل ولا دخل لها فيها، ولكن هؤلاء اعتقدوا أن الخصوص معتبر، وأن يعقوب - عليه السلام - إنما وصى بنيه بالتمسك "باليهودية". المثال الثالث: 3 - ومنها أن الله - تبارك وتعالى - شرف الأنبياء والتابعين لهم بإحسان في كل ملة بوصفهم مقربين، محبوبين مؤضين، ووصف أعدائهم والجاحدين لملتهم بالمغضوب عليهم، الملعونين والممقوتين، وجاءت هذه الصفات في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 كل ملة في قوالب الألفاظ والكلمات المعروفة السائدة فيهم لهذه المعاني، فما الغرابة إذن، لو ذكرت كلمة "الأبناء" بدل المحبوبين! ؟ ولكن اليهود ظنوا أن هذا التشريف يدور على اسم اليهودي والعبري والإسلرائيلي، ولم يعرفوا أن هذا التشريف ليس لاسم دون اسم، إنما هو لأجل الانقياد والطاعة، والخضوع، والسير على طريق الأنبياء والمرسلين، ليس غير. وهنا كثير من أمثال هذه التأويلات الفاسدة التي ركزت في نفوسهم، وتلقوها وتوارثوها عن آبائهم، وقد تكفل القرآن الكريم بردها ورفع هذه الشبهات ودحضها وإبطالها أتم إبطال. كتمان الآيات أما كتمان الايات فإن اليهود كانوا لأجل المحافظة على جاه شريف أو كبير، أو لطلب منصب أو رئاسة يخفون بعض الأحكام والآيات من التوراة، حى لا يذهب اعتقاد الناس فيهم بتركهم للعمل بها، وانصرافهم عنها، ولنذكر بعض الأمثلة منه. 1 - كان من تلك الأحكام، حكم رجم الزاني، الذي كان مصرحاً به في التوراة ولكنهم لإجماع أحبارهم على ترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الرجم واستبداله بالجلد وتسحيم الوجه تركوا العمل برجم الزاني، وكان الأحبار - خشية الفضيجة والعار - يخفون تلك الآيات التي فيها نص هذا الحكم الصريح. 2 - كذلك تلك آيات التي ذكرت فيها بشارة هاجر وإسماعيل - عليهما السلام - بأنه سوف يولد في أعقابهم من يبعثه الله - تعالى - نبياً ورسولاً، والآيات التي تحمل إشارات واضحة إلى دين يظهر ويبلغ كماله في أرض الحجاز، وتضج به جبال عرفات بالتلبية، ويؤم الناس لزيارتها من الأقطار والأمصار. وبالرغم من أن هذه الآيات لا تزال توجد في التوراة حتى اليوم كان اليهود يتأولونها بأن هذه الآيات إنما تخبر بظهرو ذلك الدين ولكنها لا تأمر باتباعه الخوضع له. وكانت هذه الكلمة على طرف لسانهم "ملحمة كتبت علينا". ولكن لما كان عامة اليهود أنفسهم لا تقبل نفوسهم هذه التأويلات الركيكة الباطلة، ولا يعترفون بصحتها وسلامتها، كانوا يتواصون فيما بينهم أن لا يفشوا هذا السر ولا يتعالنوه فيما بينهم: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فيا أسفى على جهل اليهود بل على كذبهم وافترائهم، أفهل كان امتتان الله - تعالى - على هاجر وإسماعيل - عليهما السلام - بهذه المبالغة والتأكيد، وذكر هذه الأمة الخيرة بهذا التشريف والتكريم يعني غير ذلك من معنى؟ يمكن به اليهود أن يزعموا أن هذه الآيات لا تدل على الحث والتحريض على إتباع هذا الدين والتسليم له! سبحانك هذا إفك عظيم. الإلحاق والافتراء وأما الإلحاق والافتراء على الله - تعالى - ونسبة ما يكتبونه إلى الله - تعالى - وإلى التوراة، فيرجع سببه إلى أن أحبارهم ورهبانهم تعقموا وتشددوا في الدين، وسلكوا طريق الاستحسان أي استنباط بعض الأحكام بناءًأ على إدراك المصالح فيها بدون أي نص من الشارع، (بل بالعقل المصلحي والهوى البشري) ورجحوا استنباطات واهية، واستسحانات دخلية، فوضعها أتباعهم موضع الأصل وألحقوها به، واعتقدوا اتفاق سلفهم على شيء حجة قاطعة، ولم يكن لديهم مستند في إنكار نبوة عيسى - عليه السلام - إلا أقوال سلفهم، وكذلك حالهم في كثير من الأحكام. وأما التقصير والتساهل في تنفيذ أحكام الشريعة وارتكاب المناهي، والبخل والحرص، وما إلى ذلك فظاهر أنه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 مقتضيات النفي الإمارة بالسوء ولا ينجو منها إلا من شاء ربك ورحمه. {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} ولكن هذه الرزيلة في أهل الكتاب تحمل لوناً آخر، إذ أنهم يتكلفون تأويلات فاسدة لتبيرها، وإبرازها في صورة التدين وصبغها بصبغة الأحكام الشرعية. أسباب استبعاد رسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -: وأما استبعاد رسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيرجع سببه إلى اختلاف عادات الأنبياء وأحوالهم وسيرهم في الإكثار من التزوج مثلاً والتقليل منه، وأمثال ذلك، واختلاف شرائعهم ومناهجهم، واختلاف سنن الله - تعالى - في معاملة انبيائه ورسله، وبعثة نبي إسماعيل، وقد كان جمهور الأنبياء قبل ذلك يبعثون في بني إسرائيل، وأمثال هذه الأسباب. الغرض من النبوة: والأصل في هذه المسالة أن النبوة يقصد منه إصلاح النفوس، وإصلاح العادات الجارية في القوم الذي يبعث إليه النبي لا إنشاء أصول البر والإثم، والخير والشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مجال عمل النبوة في إصلاح الناس: وكل قوم يملك عادات ومناهج خاصة في عباداته، ونظام اسرته، واجتماعه وسياسته ومدنيته، فإذا ظهرت فيه النبوة، فإنها لا تستأصل هذه العادات ولا تضع له عادات جديدة، بل إنما تقييم الميزان القسط، وتمييز بينها، فما كان منها موافقاً للأصل، مطابقاً لرضا الله - تعالى - أبقته وحفظته، وما كان منها مخالفاً لرضا الله - تعالى - أبقته وحفظته، وما كان منها مخالفاً للأصل، منافياً لرضا الله - تعالى - عدلته حسب الضرورة وسوته. كذلك يكون التذكير بآلاء الله، والتذكير بايام الله - على هذا الأسلوب - بمكا يكون معروفاً عندهم، شائعاً لديهم، فهذا هو السبب في اختلاف شرائع الأنبياء - عليهم صلوات الله وسلامه -. اختلاف شرائع الأنبياء كاختلاف وصفات الطبيب: وهذا الاختلاف في شرائع الأنبياء كالاختلاف في أحكام الطبيب، فإنه عند معالجته لشخصين مختلفى المزاج، يصف لأحدهما أدوية وأغذية باردة، وللآخر أدوية وأغذية حارة، وغرض الطبيب من معالجتهما واحد، وهو إصلاح مزاجه، وإزالة الفساد الطارئ عليه، ليس غير، ويمكن أن يصف الطبيب لكل منطقة أدوية وأغذية مختلقة تلائم أهلها، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 يمكن أن يختار في كل فصل من فصول وطقس من الطقوس علاجاً مختلفاً يناسب الفصل والطقس. كذلك لما أراد الحكيم المطلق والطبيب الحقيقي معالجة مرض النفوس والقلوب، واقتضت مشيئته - جل مجده - إصلاح مزاجهم، وتقوية ملكاتهم وإزالة الفساد الطارئ عليهم، اختلف عرجه - تقدست أسماؤه - لاختلاف عادات الشعوب والأمم واختلاف ملكاتهم واستعداداتهم ومراعاة للمشهورات والمسلمات عندهم. وعل كل، فإنك إذا أردت أن ترى نماذج اليهود في هذه الأمة فانظر إلى علماء السوء، طلاب الدنيا، المولعين بتقليد آبائهم، المعرضين عن كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذين يستندون إلى تعمقات العلماء وتشديداتهم، واستنباطاتهم التي لا اصل لها في الكتاب والسنة، تاركين كلام الشارع المعصوم - صلى الله عليه وسلم - يتتبعون الأحاديث الموضوعة. ويجرون وراء التأويلات الفاسدة. الجدل القرآني مع النصارى ضلال النصارى في بحث حقيقة المسيح - عليه السلام: - لقد كان النصارى يؤمنون بسيدنا عيسى - عليه السلام - ولكن كان ضلالهم في تقسيمهم الرب - تبارك وتعالى - إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ثلاثة أجزاء تتتغاير من بعض الوجوه، وتتحد من بعض آخر، وكانوا يسمونها "الأقانيم الثلاثة" أحدها: الأب الذي يحتل مكانة "مبدأ العالم"، والثاني: الإبن، وهو بمعنى "الصادر الأول" الذي يعني الكلي العام الشامل لجميع الموجودات، والثالث: أقنوم روح القدس، وهو يعني "العقول المجردة". أقنوم "الإبن" تقمص المسيح - عليه السلام -: وكانوا يعتقدون أن أقنوم الإبن تقمص روح المسيح - عليه الصلام - أي أن الملك جبريل كما كان يأتي - أحياناً - في صورة رجل، كذلك ظهر "الإبن" في صورة عيسى، ولذلك فهو "الإله" أيضاً، وهو "ابن الله" كذلك، وهو البشر أيضاًَ، وتجري بالنسبة إليه الأحكام البشرية والأحكام الإلهية على السواء. دليل هذه العقيدة الباطلة: وقد استندوا في استنباط هذه العقيدة الغريبة إلى بعض الآيات في الإنجيل التذ ذكر فيها لفظ "الإبن" والآيات التي نسب فيها المسيح - عليه السلام - بعض أفعال الله - تعالى - إلى نفسه. جواب الإشكال الأول: وجواب الإشكال الأول - وهو ورود لفظ "الإبن" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 في آيات الإنجيل بالنسبة لعيسى - عليه السلام - إذا سلمنا أن ما نقل في الإنجيل من مثل هذه الآيات هي من كلام عيسى - عليه السلام - لا من الإضافات والإلحاقات - أن لفظ "الإبن" في العهد القديم كان يستعمل بمعنى المقرب والمحبوب والمختار، وتشهد على هذه الدعوى دلائل وقرائن كثيرة في الإنجيل. جواب الإشكال الثاني: وجواب الإشكال الثاني - وهو نسبة سيدنا عيسى - عليه السلام - بعض أفعال الله - تعالى إلى نفسه - إذا سلمنا صحتها وثبوت نقلها عنه - أنها على طريق الحكاية، مثل أن يحكي رسول الملك عنه فيقول: فتحنا البلد الفلاني، وحكمنا القلعة الفلانية، فظاهر أن هذا الرسول ليس إلا ترجماناً للملك ومبلغاً عنه، وحقيقة الفعل راجعة إلى نفسه. نوع خاص من الوحي: ويمكن أن الوحي إلى عيسى - عليه السلام - عن طريق إنطباع المعاني في لوح قلبه من قبل الملأ الأعلى، لا تمثل جبريل - عليه السلام - بصورة البشر وإلقاء الوحي إليه، فبسبب هذا الإنطباع المباشر جري منه من الكلام ما أشعر بنسبة الأفعال إليه، مع أن الحقيقة غير ذلك، والأمر واضح. وبالجملة فإن الله - تعالى - رد على هذه المسالك الباطلة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وبين أن عيسى عبد الله، وروحه الطاهرة التي نفخ بها في مريم الصديقة - عليها السلام - وأنه أيده بروح القدس، وحاطه بعناية وكلاءة خاصة. الخطأ في استعمال الألفاظ: وعل كل، فلو سلمنا - جدلاً - أن الله - تعالى - ظهر في كسوة روحية من جنس سائر الأرواح، وتدرع بالبشرية، ثم أردنا أن نكشف هذه النسبة والعلاقة كشفاً لم يجز لنا أن نستعمل لذلك لفظ "الاتحاد" إلا بتجوز كبير، وأقرب ما يمكن التعبير به عنه هو لفظ "التقويم" أو شبهه من الألفاظ. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. موازنة بين النصارى وبين المبتدعة من المسلمين: وإذا أردت أن ترى نموذجاً لهؤلاء الضالين في قومك فانظر إلى كثير من أولاد الأولياء و"المقدسين" ما هي تصوراتهم عنهم واعتقاداتهم فيهم وإلى أي حد وصلوا بهم! "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". اعتقادهم بصلب المسيح - عليه السلام -: ومن ضلالات النصارى في معتقداتهم أنهم يؤمنون بقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 عيسى صلباً، مع أن الواقع خلاف ذلك، وقد شبه لهم والتبس عليهم الأمر، فظنوا رفع عيسى - عليه السلام - إلى السماء قتلاً له وصلباً، وتوارثوا ذلك فيما بينهم جيلاً بعد جيل حتى كشف القرآن الكريم عن شبهتهم وأزاح الستار عن الحقيقة قائلاً: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} . وما حكى في الإنجيل على لسان عيسى - عليه السلام - مما يشير إلى قتاه، فإنه ليس إلا إخباراً منه بجراءة اليهود وإجرامهم وإقدامهم على قتله، لكن الله عصمه منهم وخلصه من أيديهم، وما جاء فيه من كلام الحواريين بهذا الصدد فإنه ناشئ عن الاشتباه والتباس الأمر، ولم يكن لهم إطلاع على الرفع الذي لم تكن تألفه عقولهم ولم تسمعه من آذانهم. ضلالهم في حمل "فارقليط" على عيسى - عليه السلام - " ومن ضلالاتهم أيضاً أنهم يزعمون أن الفار قليط الموعود بمجيئه والمبشر بقدومه في الإنجيل، هو عيسى - عليه السلام - نفسه الذي جاء بعد قتله - حسب زعمهم - إلى الحواريين، وأوصاهم بالتمسك بالإنجيل، ويزعمون أن عيسى - عليه السلام - أوصاهم أيضاً بأن المدعين للنبوة سيكثرون، فمن ذكرني وسماني فاقبلوا كلامه، وإلا فرده. وقد بين القرآن العظيم أن بشارة عيسى - عليه السلام - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 تصدق على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لا على الصورة الروحية لعيسى - عليه السلام - كما يدعون، إذ أنه قد صرح في الإنجيل بأن "فار قليط يمكث فيكم مدة طويلة، ويعلمكم ويزكي النفوس" ولم يظهر ذلك بعد عيسى - عليه السلام - إلا من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأما ذكر عيسى وتسميته، فالغرض منه التصديق بنبوته، لا أن يتخذ رباً، أو يعتقد بأنه ابن الله {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} . الجدل القرآني مع المنافقين المنافقون صنفان: كان المنافقون صنفين، فكانت طائفة منهم تشهد بلسانها بلا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولكن قلوبها كانت مطمئنة إلى الكفر والجحود، وكانت تتظاهر بإسلامها للمصالح، وهؤلاء هم الذين قيل فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} . مظاهر النفاق العملي: وكانت الطائفة الأخرى ممن دخلوا في الإسلام مع ضعف فيه وقلة إيمان به، فهم - مثلاً - يجرون على عادات قومهم ويدورون مع مصلحتهم، فإن أسلم قومهم أسلموا، وإن كفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 كفروا، أو كان الانسياق وراء اللذات الدنيوية قد ملك قلوبهم بحيث لم يذر مكاناً لحب الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أو استولى عليهم الحرص وحب المال، والحسد والضغينة وما إلى ذلك من رذائل الأخلاق والعادات بحيث لم تعد في قلوبهم بشاشة الإيمان وحلاوة الدعاء والابتهال وبركات العبادات، أو انغمسوا في شئون دنياهم إلى حد أن لم تكن لديهم فرصة العبادات، أو انغمسوا في شئون دنياهم إلى حد أن لم تكن لديهم فرصة ترقب الآخرة والتفكير فيها، أو كانت تمر لديهم فرصة ترقب الآخرة والتفكير فيها، أو كانت تمر بخواطرهم وقلوبهم ظنون سيئة وشبهات سطحية ركيكة في رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم - رغم أنهم لم يبلغ بهم الحال إني أن يخلعوا عن عنقهم ربقة الإسلام، وينفضوا منه أيديهم بتاتاً. وقد كانت تنشأ عندهم هذه الشكوك والشبهات بسبب ما يجري من أحكام البشرية على ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبسبب ظهور الملة الإسلامية في صورة سيطرة الملوك واستيلائهم على نواحي البلاد، وأمثال ذلك (من الأساباب المادية التي قد تشوش بعض ضعاف الإيمان وتنشئ فيهم الشبهات) أو لحبهم لقبائلهم وعشائرهم - مثلاً - الذي دفعهم إلى أن يساعدوها ويقووها ويؤيدوها - جهدهم - ولو على حساب الإسلام، ومناوءة أهله، وبذلك يضعفون الإسلام ويلحقون به الضرر. وهذا القسم من النفاق، هو نفاق الأعمال والأخلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 النفاق الاعتقادي لا يطلع عليه بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أما النفاق الأول - وهو النفاق الاعتقادي - فإنه لا يطلع عليه بعد سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ إنه من الأمور المغيبة، ولا اطلاع لأحد على مكنونات القلب ومغيباته. النفاق العملي كثير الوقوع: وأما النفاق الثاني - وهو النفاق العملي - فإنه كثير الوقوع لا سيما في عصرنا هذا، وإلى هذا النفاق وقعت الإشارة في الحديث الشريف، الذي جاء فيه: "ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر". و"هم المنافق بطنه وهم المؤمن فرسه" إلى غير ذلك من الأحاديث. كشف القرآن عن أحوال المنافقين: وقد كشف الله - تعالى - في القرآن الحكيم عن أعمال هؤلاء المنافقين وأخلاقهم، وبينها أتم بيان، وأكثر من ذكر أحوال الطائفتين من المنافقين حتى تكون الأمة على حذر منها وتجتنبها كل الإجتناب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 نماذج المنافقين في هذا العصر: وإن كنت تحب أن تشاهد نموذجاً لهؤلاء المنافقين فاشهد في مجالس الأمراء، أصحابهم وندماءهم الذين يؤثرون رضا أمرائهم على رضا الله - تعالى - ولا فرق إطلاقاً بين المنافقين الذين سمعوا أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة ثم نافقوا وبين هؤلاء المنافقين الآن الذين يطلعون على أحكام الشريعة الإسلامية بالوسائط اليقينية القاطعة ثم يخالفونها وينحرفون عنها. نفاق المناطقة والفلاسفة: كذلك طائفة المناطقة والفلاسفة الذين بذرت في قلوبهم بذور الشكوك وتمكنت منهم كثير من الشبهات، ونسوا الدار الآخرة، هم أيضاً من المنافقين من دون شك. القرآن كتاب كل عصر: وعل كل، فإنه لا ينبغي أن يظن عند تلاوة القرآن الكريم، أن جداله ومحاجته كانا مع أناس قد انتهوا وانقضوا، كلا، بل إنه بحكم ما جاء في الحديث: "لتتبعن سنن من كان قبلكم إلخ". ليست هنا من فتنة كانت في عهد الرسالة - صلى الله على صاحبها وسلم - إلا ولها نماذج وأمثلة في عصرنا هذا، ولذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فالمطلوب الحقيقى هو بيان كليات هذه المقاصد والمعاني لا خصوص الحوادث والتفصيلات الجزئية. وهذا هو التحقيق الذي تيسر لي في تفصيل عقائد هذه الفرق الباطلة والردود عليها، وأخال أن هذا البحث المحقق. فيه غنية وكفاية لفهم آيات الجدل القرآني إن شاء الله - تعالى -. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الفصل الثاني في بقية العلوم الخمسة وضوح القرآن الكريم في بيان الصفات: من المعلوم أن نزول القرآن الكريم إنما كان إصلاح النفوس البشرية، وتهذيب معاشر الناس سواء كانوا عرباً أو عجماً، بدواً أو حضراً، ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يخاطب الناس في "التذكير بآلاء الله". إلا ما تسعه معلوماتهم، وتحيط به مداركهم، وأن لا يخوض في البحوث الدقيقة والتحقيقات النادرة، فقد تعرض القرآن الكريم للأسماء والصفات الإلهية بطريقو واضحة سهلة، يدركها جميع أفراد البشر بفطرتهم، وبمداركهم التي أدوعت في أصل خلقهم من دون حاجة إلى ممارسة الفلسفة الإلهية، أو علم الإلهيات وعلم الكلام. إثبات الخالق في القرآن: فأثبت القرآن - مثلاً - وجود الخالق إجمالاً، إذ أن علمه مركوز في فطر بني آدم، ويتساوى فيه جميع أفرادهم ولا تجد طائفة من الناس في المناطق المعتدلة أو القريبة منها تنكر هذا العلم، وتستغرب وجود الخالق! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الصفحات الإلهية في القرآن: ثم لما كان إثبات الصفات الإلهية بذكر كنهها وحقائقها ودقيق مسائلها مستحيلاً في حقهم، وكان تركهم من دون إطلاع على هذه الصفات الإلهية يحرمهم من معرفة الربوبية - التي هي أنفع وسيلة في تهذيب النفوس البشرية - كان حكمة الله - تعالى - وهو أحكم الحاكمين - أن يختار من الصفات البشرية التي نعهدها ونشاهدها والتي نتمادح بها ونفتخر بالتحلي بها، صفات كريمة عديدة تستعمل لأداء معان غامضة دقيقة لا تبلغ جلالها وعظمتها عقول البشر، ثم يجعل قوله الفصل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ترياقاً لداء الجهل العضال، وعلاجاً لقلة البصر والإدراك، ونهى عن استعمال تلك الصفات البشرية التي يخشى منها جموح الأوهام والظنون نحو العقائد الباطلة كإثبات الولد، والبكاء، والجزع وما إلى ذلك. خطر الخوض في الصفات بدون توقيف: وإذا أنعمت النظر وتأملت مسألة الصفات الإلهية بدقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 تجلى لك أن خطوات الإنسان على درب علمه الفطري غير المكتسب، وتمييزه للصفات التي يجوز أن تنسب إلى الله - تعالى - ولا يقع فيها خلل، عن الصفات التي يؤدي استعمالها إلى الأوهام الباطلة والعقائد المنحرفة، أمر دقيق خطير للغاية لا يصل غوره ولا يكتنه كنهه جمهور الناس، ولذلك قرر أن يكون علم الصفات الإلهية توفيقاً، ولا يسمح بالبحث والكلام بحرية وإطلاق. أسلوب القرآن في بيان آلاء الله: ولم يتعرض القرآن العظيم من آلاء الله - تعالى - وآيات قدرته العجيبة إلا لما يستوى في إدراكه الحضري والبدوي والعربي والعجمي ولا يصعب فهمه على عاقل، لأجل ذلك لم يذكر النعم الروحانية الخاصة التي ينعم بها على عباده الأنبياء والأولياء والعلماء الصالحين بصفة خاصة (من مراتب الكمالات ومدارج التقرب ومنازل التقوى) ولم يذكر الملاذ والنعم التي تحصل - أحياناً - للملوك والسلاطين (وأفراد قلائل من البشر) بل ذكر ما كان أنسب ذكره: من خلق السموات والأرض، وإنزال المطر من السحاب، وتفجير الينابيع بالماء، وإلهام الصنائع والحرف الضرورية، وخلق القدرة لممارستها ومزاولتها، ونبه إلى تغير مواقف الناس عند السراء والضراء، ولدى النعم والبأساء في مواضع كثيرة إذ إن هذا من أمراض القلب وإنحراف النفس الذي يكثر وقوعه وتكثر أمثلته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 أسلوب القرآن الكريم في التذكر بأيام الله: أما "أيام الله" وهي تلك الواقائع والحوادث التي أوجدها الله - تعالى - إنعاماً على المطيعين وانتقاماً من العصاة المجرمين - فقد اختار منها أيضاً ما قرعت أسماعهم من قبل، وكانوا قد سمعوا قصصاً بصورة إجمالية، مثل قصص قوم نوح، وعاد وثمود، التي كان العرب يسمعونها ويتداولونها فيما بينهم كابراً عن كابر وقصص سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وقصص أنبياء بني إسرائيل التي ألفتها أسماعهم لطول اختلاط العرب مع اليهود، ولم يتعرض القرآن الكريم للقصص الغريبة ةلا لقصص عذاب الله - تعالى - أو ثوابه للفرس والهنود كما أنه لم يذكر من القصص المشهورة إلا الأجزاء الضرورية التي تنفع في التذكير والموعظة، ولم يستقص جميع التفاصيل الخاصة التي تشمل عليها القصص. حكمة هذا الأسلوب القرآني: والاكتفاء بالأجزاء المهمة من القصة والتحاشي عن غرائب القصص والتفاصيل الجزئية، هي أن العامة من الناس عندما يسمعون حكاية غريبة أو قصة كاملة بجميع خصوصياتها وفصولها، فإن طباعهم تميل إلى نفس القصة وتولع بها، ويفوت الغرض الأساسي - وهو التذكير - من بيان القصة الذي يهدف إليه القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 نكتة حكيمة: ومثال ذلك كما قال بعض الحكماء العارفين: "يوم أن بدأ الناس يحكمون قواعد التجويد ويصححون الحروف حرموا التلاوة الخاشعة للقرآن الكريم، ومن يوم أن بدأ المفسرون يشقون الشعرة في التأويل والتوجيه أصبح "علم التفسير" غريباً قليل الوجود". ظاهرة التكرار في القصص القرآني: والقصص التي جاءت في القرآن مرات وكرات، هي قصة خلق آدم من الطين، وسجود الملائكة له، واستكبار الشيطان عنه، ولعنه وطرده لأجله، وسعيه من ذاك في إغواء بني آدم وإضلالهم وقصص محاجة نوح، وهود، وصالح، إبراهيم ولوط وشعيب مع شعوبهم وأقوامهم في توحيد الله - تعالى - والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستكبارها وطغيانها وإدلائها بشبهات ركيكة وردود الأنبياء - عليهم الصلوات التسليمات - عليها ونزول عذاب الله - تعالى - ونقمه على الأشقياء وظهور نصرة الله - تعالى - وتأييده في حق الأنبياء والأتباع، وقصص سيدنا موسى - عليه السلام - مع فرعون وملأه، وسفهاء بني إسرائيل، ومكابرتهم له، وعقاب الله - تعالى - لأولئك التعساء وتركهم يتيهمون في الأرض، وظهور تأييدات الله - تعالى - متتالية لنجيه وكليمه - عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وقصص سيدنا داود وسليمان - عليهما السلام - وخلافتهما ومعجزاتهما وخوارقهما، وقصة محنة سيدنا أيوب وسيدنا يونس - عليهما السلام - وظهور رحمة الله - تعالى وعطفه عليها، وقصة دعاء سيدنا زكريا - عليه السلام - واستجابة الله - تعالى - إياه، والقصص العجيبة لسيدنا عيسى - عليه السلام - وولادته من غير والد، وتكلمه في المهد، وظهور الخوارق والمعجزات على يده، وأمثال هذه من القصص التي اطردت في القرآن الحكيم بألوان مختلفة من الإيجاز والإطناب والتفصيل والإجنال حسب مقتضى الأساليب المرعية في السور. القصص التي لم تتكرر في القرآن كثيراً: أما القصص التي لم تتكرر في القرآن تكرار القصص الأولى بل وردت في موضع أو موضعين فحسب فهي: قصة رفع سيدنا إدريس - عليه السلام - مكاناً علياً. - وقصة محاجة إبراهيم لنمرود، ومشاهدته إحياء الطير، وقصة ذبح ولده الوحيد. - قصة سيدنا يوسف - عليه السلام. - وقصة ولادة سيدنا موسى - عليه السلام - وإلقائه في اليم، ووكرزه للقبطي وقتله إياه، ثم توجهه إلى "مدين" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وتزوجه هناك، ومشاهدته النار على الشجرة وسماع الكلام منها. - وقصة ذبح البقرة. - وقصة لقاء موسى مع الخضر - عليهما السلام. - وقصة طالوت وجالوت. - وقصة بلقيس (ملكة سبأ) . - وقصة ذي القرنين. - وقصة أصحاب الكهف. - وقصة الرجلين المتحاورين (أحدهما يعتز بما له من مال وبنين وجنات من أعناب، والآخر قليل المال ولكنه يذكره بالله - تعالى - ونعمته وشكره والآخرة) . - وقصة اصحاب الجنة (الذين أرادوا أن يحرموا الفقراء المساكين من عطاياهم وصدقات أموالهم، فرجعوا محرومين والجنة خاوية على عروشها) . - وقصة الرسل الثلاثة الذين بعثهم سيدنا عيسى - عليه السلام - لدعوته، وأعتدى عليهم الكفار وقتلوهم. - وقصة أصحاب الفيل، وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 غرض القصة في القرآن: وليس الغرض من سرد هذه القصص في القرآن الكريم الاطلاع عليها والتعرف على جزئياتها فحسب بل الغرض الأساسي والحقيقي هو ان ينقل ذهن القارئ والسامع إلى شناعة الشرك والمعاصي، ومعاقبة الله - تعالى - عليها، والإيمان بنصر الله - تعالى - وتأييده، وظهور ألطافه وأفضاله في حق عباده المخلصين. التذكير بالموت وما بعده أو التذكير بالآخرة: والمراج بالتذكير بالموت وما بعده أو التذكير بالآخرة عرض كيفية الإنسان لدى موته، وعجزه واستكانته في تلك الساعة الحرجة العصيبة، وعرض الجنة والنار عليه بعد الموت وظهور ملائكة العذاب لعينيه، وأشراط القيامة من نزول سيدنا عيسى ونفخة القيام والنشر والحشر، والسؤال والجواب والميزان والصراط، وأخذ صحائف الأعمال بالإيمان والشمائل، ودخول المؤمنين الجنة وحشر الكفار في النار، وتخاصم أهل النار تابعيهم ومتبوعيهم، وسادتهم وكبرائهم، وعامتهم وضعفائهم فيما بينهم، وإنكار بعضهم بعضاً، ولعن أحداهم الأخرى، واختصاص المؤمنين برؤية الله - تعالى - وذكر أنواع العذاب وتعداد ألوانه وأطواره من سلاسل وأغلال وحميم وغساق وضريع وزقوم، وبيان أنواع النعم والملذات من حور وقصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وحنات وأنهار ومطاعم هنيئة شهية وملابس زاهية ناعمة، وعيد حسان، مقصورات في الخيام ومجالس أهل الجنة الفكهة اللطيفة ولقاءاتهم الطيبة الحبيبة، كل هذا مما قد قصه القرآن الكريم وبثه في مختلف السور مراعياً أساليبها الخاصة المتفردة تارة بالإجمال والاختصار وأخرى بالتفصيل والإسهاب. القاعدة الكلية في مبحث الأحكام: والقاعدة الكلية في مبحث الأحكام والحلال والحرام أن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد بعث في الملة الإبراهيمية الحنيفية، فكان من اللازم أن يبقى على شرائع تلك الملة، ولا يحدث أي تغيير في أمهات أحكامها وأصول مسائلها اللهم إلا تخصيصاً لعموماتها وزيادة للتوقيتات والتجديدات فيها وأمثال ذلك من الأمور. ثم إنه أراد الله - تعالى - أن يزكي نفوس العرب بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ويزكي نفوس سائر العالم بأيدي العرب الأولين (والرعيل الإيماني الأول) فلزم أن تكون مادة شريعته تدور على عادات العرب وتقاليدهم (مما توارثوها من الملة الحنيفية أو انحرفوا عن جادتها في كثير من شئون الحياة) . الأسباب والمصالح المرعية في الأحكام: وإذ تأملت وأنعمت النظر في مجوع شرائع الملة الحنفيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وأحكامها ولاحظت عادات العرب ورسومهم وتقاليدهم، وتشريعات الرسول الخاتم - صلى الله عليه وسلم - التي هي بمنزلة المصلح والمهذب لها تدرك لكل حكم من أحكامها سبباً من الأسباب وتتوصل في كل أمر ونهي من أوامرها ونواهيها إلى مصلحة مرعية من المصالح، وتفصيل ذلك يطول. دور التشريعات الإسلامية في إصلاح الملة الحنيفية المحرفة: وبالجملة فإن العبادات من الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج والأذكار كانت قد تعرضت للإهمال والتساهل العظيم في أدائها والقيام بها، ولاختلاف الناس - لجهل أكثرهم بها وغفلتهم - في مشروعيتها، وتسرب التحريفات الجاهلية إليها فنزل القرآن العظيم وقضى على هذه الفوضى والاختلال، وأقام اعوجاجها وعدلها وسواها. وكانت الحياة الاجتماعية والعائلية فيها كثير من التقاليد المجحفة والطقوس الجائرة وعوامل البغي والعدوان وهكذا كان شأن الحكم والسياسة من الاختلال والاضطراب والفوضى. فضبط القرآن العظيم أصول هذه القضايا، وحدد لها حدوداً وشرع لها تشريعات خاصة. حقيقة الصغائر والكبائر: ولقد كانت كثير من الكبائر والصغائر راجعة إلى هذا الأصل ومتعلقة بهذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 القرآن أجمل والسنة فصلت: وقد جاءت أحكام الصلاة ومسائلها في القرآن العظيم مجملة واستعمل لفظ "الإقامة"، للصلاة، الذي تناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفصيل بالأمر ببناء المساجد والجماعة وبيان المواقيت، كذلك ورددت أحكام الزكاة باختصار وإيجاز، وفصلها النبي - صلى الله عليه وسلم - أيما تفصيل، وجاء ذكر الصوم أيضاً في سورة البقرة، والحج والجهاد والقتال في سورتى البقرة والأنفال ومواضع متفرقة أخرى، وذكر الحدود في سورة المائدة والنور وجاءت المواريث في سورة النساء، وأحكام النكاح والطلاق في سورة البقرة والنساء والطلاق، وغيرها من السور. قسم آخر من الأحكام في القرآن: وبعد أن مضى هذا القسم من الأحكام الذي تعم فائدته جميع أفراد الأمة، تذكر قسماً آخر (يتعلق بالحوادث والوقائع الخاصة وإن كان حكمها عاماً) وكانت صور تشريعه كما تلي: * فتارة كانوا يسألون في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فيرد النبي - صلى الله عليه وسلم - (فيكون ذلك طريقاً للتشريع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 * أو تقع حادثة يجود فيها المؤمنون بأنفسهم وأموالهم ويجبن فيها المنافقون ويبخلون، فيمدح الله - تعالى - في كتابه المؤمنين، ويذم المنافقين ويتوعدهم وينذرهم بالعذاب الأليم. * أو تقع حادثة من حوادث الغلبة على الأعداء وكف عدوانهم وأضرارهم، فيمن الله - تعالى - بذلك على المؤمنين ويذكرهم بنعمته وفضله في كتابه الحكيم. * أو تحدث حالة من الحالات تقتضي تنبيهاً وزجراً أو إيماءاً وتعريضاً أو أمراً أو نهياً، فينزل الله - تعالى - ما تقتضيه الحال وتستدعيه الأوضاع الخاصة. فلابد للمفسر من ذكر هذه القصص (التي لا تنكشف معاني الآيات إلا ببيانها) بطريق الإجمال. بعض الأمثلة من هذه القصص: فقد وردت التعريضات بقصة غزوة بدر في سورة الأنفال وبقصة أحد في سورة آل عمران، وقصة غزوة الخندق في سورة الأحزاب، وفصة الحديبية في سورة الفتح، وقصة بني النضير تبوك في سورة البراءة، ووردت الإشارة إلى حجة الوداع في سورة المائدة، والإشارة إلى قصة زواج زينب - رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 عنها - في سورة الأحزاب، وقصة تحريم السرية في سورة التحريم، وقصة الإفك في سورة النور، وجاء ذكر استماع وفد الجن تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في سورة الجن والأحقاف وقصة مسجد الضرار في سورة البراءة. وقصة الإسراء أول سورة بني إسرائيل. نوع من التذكير بأيام الله: وهذا القسم من الآيات الكريمة في حقيقة الأمر نوع من أنواع التذكير بأيام الله ولكن لما أن الكشف عن هذه التعريضات التي تتضمنها هذه الآيات يعتمد على سماع القصة والتعرف على خلفية الحادث لذلك أفرد عن سائر أنواعه وذكر بصورة مميزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الباب الثاني في بيان وجوه الدقة والخفاء في معاني نظم القرآن الكريم وتناسقه بالنسبة لأهل هذا العصر، وإزالتهما بأوضح بيان. نزول القرآن عربياً مبيناً: ليعلم أن القرآن العظيم نزل في لغة العرب الأقحاح، اللغة المبينة الواضحة، وفهمه العرب بسليقتهم اللغوية الأصلية وأدركوا مغزاه ومعانيه، قال الله - تعالى -: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} وقال - تعالى -: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} إلخ. موقف الشارع من المتشابهات: وقد كان من مرمى الشارع الحكيم عدم تاخوض في تأويل المتشابهات القرآنية وتصوير حقتئق الصفات الإلهية، وتسمية المبهمين، واستقصاء القصص والوقائع وأمثال ذلك من الأمور، ولذلك قل سؤال الصحابة - رضي الله عنهم - للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك، ولم يرفع في هذا الباب من الأحاديث إلا شيء قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الحاجة إلى البحث في اللغة والنحو: ولكن ما مضت تلك الطبقة الأولى من الرعيل الأول وداخل العرب العجم، وذهبت تلك اللغة الأصلية الأولى واستعصى فهم المطالب والمعاني في بعض المواضع، ومست الحاجة إلى التفتيش والبحث في اللغة والنحو، وجرت المناقشات والأسئلة والأجوبة، وصنفت كتب التفسير. لزم أن نستحضر - بصورة إجمالية - هذه المواضع الصعبة، ونبين نماذجها وأمثلتها حتى لا يحتاج عند الخوض فيها إلى بيان مزيد ولا يضطر إلى المبالغة في الكشف عنها وشرحها (عند الترجمة والتفسير) أسباب صعوبة فهم المراد من الكلام: - فتارة يصعب التوصل إلى فهم المراد من الكلام لاستعمال لفظة غريبة، ويعالج ذلك بنقل معنى اللفظة عن الصحابة والتابعين وسائر أهل اللغة. - وتارة أخرى لقلة الإطلاع على الناسخ والمنسوخ. - وحيناً للغفلة عن أسباب النزول. - وحيناً آخر بسبب حذف المضاف أو الموصوف أو غيرهما. - وأحياناً بإبدال شيء، أو إبدال حرف مكان حرف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أو اسم مكان اسم، أو فعل مكان فعل، أو جمع مكان مفرد أو العكس أو أسلوب الغيبة مكان أسلوب الخطاب. - وأحياناً لتقديم ما حقه التأخير (من حيث عرف اللغة والنحو) أو العكس. - وأحياناً بسبب انتشار الضمائر (ورجوعها إلى عدة مراجع) أو تعدد المارد عن اللفظة الواحدة. - وأحياناً بسبب التكرار والإطناب. - وأحياناً لأجل الاختصار والإيجاز. والمجاز العقلي. فينبغي للإخوة السعداء أن يطلعوا على حقيقة هذه الأمور وبعض أمثلتها في مبدأ البحث، ويكتفوا بالرموز والإشارات في مواضع التفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الفصل الأول في بحث غريب القرآن أفضل الشروح لغريب القرآن: إن من أفضل الشروح لغريب القرآن الكريم بل أولها بالإطلاق في هذا الباب هو ما أثر وصح عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - عن طريق ابن أبي طلحة وقد اعتمده الإمام البخاري - غالباً - في جامعه الصحيح. طرق الضحاك ونافع: ويلي ذلك ما روي عن طريق الضحاك عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - وأجوبة ابن عباس - رضي الله عنه - عن سؤالات نافع بن الأزرق. وهذه هي الطرق الثلاث التي ذكرها السيوطي في كتابه (الإتقان) . شرح أئمة التفسير: ثم يأتي بعد ذلك شرح الغريب الذي نقله الإمام البخاري عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أئمة التفسير. ويليه ذلك الشرح للغريب الذي روى عن سائر الصحابة والتابعين وأتباعهم. وأرى من المناسب أن أجمع في الباب الخامس من هذه الرسالة جملة صالحة من شرح غريب القرآن الكريم مع بيان أسباب النزول، وأجعلها رسالة مفردة مستقلة حتى إذا شاء أحد، ضمها إلى هذه الرسالة، وإذا أحب آخر أن يأخذها كرسالة مستقلة فليفعل ذلك، وللناس فيما يعشقون مذاهب. وليعلم أن الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين - يفسرون - أحياناً - بلازم معناه، ويتعقب المفسرون المتأخرون هذا التفسير نظراً إلى تتبع اللغة والفحص عن موارد استعمالها فيها، والغرض المطلوب في هذه الرسالة ذكر تفسيرات السلف وشروحهم للألفاظ الغريبة بنصها وفصها، أما تتقيحها ونقدها فله موضع آخر غير هذا الموضع، "فكل مقام مقال ولكل نكتة مجال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الفصل الثاني في مبحث الناسخ والمنسوخ من المواضع الصعبة في علم التفسير التي تكثر مباحثها، ويكثر الاختلاف فيها، معرفة الناسح والمنسوخ، ومن أقوى وجوه هذه الصعوبة اختلاف الاصطلاح بين المتقدمين والمتأخرين في هذا الباب. معنى النسخ عند المتقدمين: والذي يتضح لنا باستقراء كلام الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين - في هذا الموضوع أنهم كانوا يستعملون "النسخ" بمعناه اللغوي المعروف الذي هو إزالة شيء لا بمعنى مصطلح الأصوليين الخاص. - فمعنى "النسخ" عندهم إزالة بعض الأوصاف في آية بآية أخرى، سواء كان ذلك بياناً لانتهاء مدة العمل بآية من الآيات الكريمة. - أو صرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غير المتبادر أو بيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أن القيد اتفاق وليس احترازياً، أو تخصيصاً للعموم. - أو بيان الفارق بين المنصوص والمقيس عليه ظاهراً. - أو إزالة عادة من العادات الجاهلية. - أو رفع شريعة من الشرائع السابقة. سعة مجال النسخ عند المتقدمين: وهكذا اتسع باب النسخ عندهم وتوسعوا في موضوعه، وكان للعقل فيه مجال فسيح، وللاختلاف فيه مكان واسع. ولذلك بلغت الآيات المنسوخة إلى خمسمائة آية، بل إذا حققت النظر تجدها غير محصورة بعدد. معنى النسخ عن المتأخرين: أما المنسوخ حسب اصطلاح المتأحرين الأصولين فإنه لا يتجاوز العدد القليل، لا سيما حسب وجهة النظر التي اخترناها. موقف السيوطي في الإتقان: وقد ذكر الشيخ جلال الديد السيوطي في كتابه "الإتقان" - بعد إيراده لما روى عن العلماء في هذا الباب ببسط وتفصيل حسبما يليق بالموضوع - الآيات المنسوخة حسب رأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المتأخرين موافقاً للشيخ ابن العربي، وعددها قرابة عشرن آية، وللمؤلف في أكثرها نظر. فلنورد كلامه مع التعقيب. الآيات المنسوخة عند السيوطي وتعقبات المؤلف (فالآيات التي ذكرها السيوطي وابن العربي هي كما تلي) : 1 - آية الوصية للوارث: فمن البقرة، قوله - تعالى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية، منسوخة، قبل بآية المواريث، وقيل: بحديث لا وصة لوارث، وقيل بالإجماع، حكاه ابن العربي. قلت: بل هي منسوخة بآية {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} إلخ وحديث "لا وصية لوارث" مبين للنسخ. 2 - آية الفدية لمن أطاق الصوم: وقوله - تعالى -: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قيل منسوخة بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقيل: محكمة، و"لا" مقدرة (قبل "يطيقون"، أي لا يطيقون) . قلت: عندي وجه آخر، وهو: أن المعنى: وعلى الذين يطيقون الطعام فدية، هي طعام مسكين، فاضمر قبل الذكر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 لأنه متقدم رتبة، وذكر الضمير لأن المراد من الفدية هو الطعام، والمراد منه، صدقة الفطر، عقب الله - تعالى - الأمر بالصيام في هذه الآية بصدقة الفطر، كمنل عقب الآية الثانية بتكبيرات العيد. 3 - آية حل الرفث ليلة الصيام: وقوله - تعالى -: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ، ناسخة لقوله - تعالى -: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} لأن مقتضاه الموافقة فيما كان عليهم من تحريم الأكل والوطء بعد النوم، ذكره ابن العربي، وحكى قولاً آخر أنه نسخ لما كان بالنسبة. قلت: معنى "كما كتب" التشبيه في نفس الوجوب فلا نسخ إنما هو تغير لما كان عندهم قبل الرشع ولم نجد دليلاً على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لهم ذلك، ولو سلم فإنما كان ذلك ثابتاً بالنسة (لا أنه شرعه لهم وأمرهم به) . 4 - آية القتال في الشهر الحرام: وقوله - تعالى - يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية، منسوخة بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} الآية. أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسرة. قلت: هذه الآية لا تدل على تحريم القتال، بل تدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 تجويزه، وهي من قبيل تسليم العلة وإطهار المانع، فالمعنى أن القتال في الشهر الحرام كبير شديد ولكن الفتنة أشد منه، فجاز في مقابلتها، وهذا التوجيه ظاهر من سياقها كما لا يخفى. 5 - آية المتاع إلى الحول: وقوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} - إلى قوله - {إِلَى الْحَوْلِ} منسوخة بالميراث، والسكنى باقية عند قوم. منسوخة عند آخرين بحديث: "لا سكنى إلخ". قلت: هي كما قال: منسوخة عند جمهور المفسرين ويمكن أن يقال: يستحب أو يجوز للميت الوصية ولا يجب على المرأة أن تسكن في وصيته، وعليه ابن عباس - رضي الله عنه - وهذا التوجيه ظاهر من الآية. 6 - آية المحاسبة على الباطن والظاهر: وقوله - تعالى - {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} منسوخة بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} قلت: هو من باب تخصيص العام، بينت الآية المتأخرة أن المراد ما في أنفسكم من الإخلاص والنفاق، لا من أحاديث النفس التي لا اختيار فيها، فإن التكليف لا يكون إلا فيما هو في وسع الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 7 - ومن آل عمران: آية اتقاء الله حق التقوى: قوله - تعالى -: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قيل: إنها منسوخة بقوله - تعالى -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقيل: لا بل هو محكم، وليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه الآية. قلت: "حق تقاته" في الشرك والكفر وما يرجع إلى الاعتقاد، و"ما استطعتم" في الأعمال، من لم يستطع الوضوء يتيمم، ومن لم يستطع القيام يصلي قاعداً، وهذا التوجيه ظاهر من سياق الآية، وهو قوله - تعالى -: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . 8 - ومن سورة النشاء: آية الإيتاء للموالي: د قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} منسوخة بقوله - تعالى -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} . قلت ظاهر الآية، أن الميراث للموالي والبر والصلة لمولي الموالاة، فلا نسخ. 9 - آية إيتاء اليتامى والمساكين من الميراث: وقوله - تعالى -: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 إلخ. قيل: منسوخة، وقيل: لا ولكن تهاون الناس في العمل بها. قلت: قال ابن عباس - رضي الله عنه -: هي محكمة، والأمر للاستحباب، وهذا أظهر. 10 - آية التعزيز لمرتكبات الفواحش: وقوله - تعالى -: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية. منسوخة بآية النور. قلت: لا نسخ في ذلك. بل هو ممتد إلى الغاية فلما جاءت الغاية، بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السبيل الموعود كذا وكذا، فلا نسخ. 11 - ومن المائدة: آية النهي عن إحلال الشهر الحرام: قوله - تعالى -: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} إلخ منسوخة بإباحة القتال فيه. قلت: لا نجد في القرآن ناسخاً له ولا في السنة الصحيحة ولكن المعنى: أن القتال المحرم يكون في الشهر الحرام أشد تغليطاً كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة، "دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 12 - آية الحكم بين أهل الكتاب أو الإعراض عنهم: وقوله - تعالى -: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} منسوخة بقوله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} . قلت: معناه: إن اخترت الحكم فاحكم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم. فالحاصل أنه لنا أن نترك أهل الذمة أن يرفعوا القضية إلى زعمائهم، فيحكموا بما عندهم، ولنا أن نحكم بما أنزل الله علينا. 13 - آية حمل الشهادة عن الميت في الغربة: وقوله - تعالى -: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} إلخ. منسوخ بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . قلت: قال أحمد بظاهر الآية، ومعناها عند غيره: أو آخران من غير أقاربكم، فيكونون من سائر المسلمين. 14 - ومن الأنفال: آية مغالبة المسلم الواحد العشرة من الكفار: قوله - تعالى -: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الآية منسوخة بالآية بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قلت: كما قال: مسنوخة. 15 - ومن البرءاة: آية الأمر بالنفر خفافاً وثقالاً: قوله - تعالى -: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} الآية. منسوخة بآيات العذر، وهو قوله - تعالى -: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الآية. وقوله - تعالى -: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الآيتين. قلت: خفافاً أي مع أقل ما يتأتى به الجهاد من مركوب وعبد للخدمة، ونفقة يقنع بها. وثقالاً: مع الخدم الكثير، والمركب الكثير فلا نسخ، أو نقول: ليس النسخ متعيناً. 16 - ومن سورة النور: آية استقباح نكاح الزانية: قوله - تعالى -: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} الآية، منسوخة بقوله - تعالى -: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} . قلت: قال أحمد بظاهر الآية، ومعناها عند غيره: أن مرتكب ليس بكفوء إلا للزانية، أو لا يستحب اختيار الزانية، وقوله - تعالى - {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} إشارة إلى الزنا والشرك، فلا نسخ وأما قوله - تعالى - {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى} فعام لا ينسخ الخاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 17 - آية الأمر للعبد والخدم بالاستيذان: وقوله - تعالى -: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية منسوخة، وقيل: لا ولكن تهاون الناس في العمل بها. قلت: مذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - أنها ليست بمنسوخة، وهذا أوجه وأولى بالاعتماد. 18 - ومن الأحزاب آية عدم حل النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أزواجه: قوله - تعالى - {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية، منسوخة بقوله - تعالى -: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} الآية. قلت: يحتمل أن يكون الناسخ مقدماً في التلاوة وهو الأظهر عندي. 19 - ومن المجادلة: آية الأمر بإيتاء الصدقة عند مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: قوله - تعالى -: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا} الآية. منسوخة بالآية بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 20 - ومن الممتحنة: آية المبادلة بين مهور الأزواج: قوله - تعالى -: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} قبل: منسوخ بآية السيف، وقيل: بآية الغنيمة. وقيل: محكم. قلت: الأظهر أنه محكم، ولكن الحكم في الهادنة وعند قوة الكفار. 12 - ومن المزمل: آية الأمر بقيام الليل: قوله - تعالى -: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} منسوخ بآخر السورة، ثم نسخ الآخر بالصلوات الخمس. قلت: دعوى النسخ بالصلوات الخمس غير متجهة بل الحق أن أول السورة في تأكيد الندب إلى قيام الليل وآخرها نسخ التأكيد إلى مجرد الندب. قال السيوطي موافقاً لابن العربي: فهذه إحدى وعشرون آية منسوخة على خلاف في بعضها، ولا يصح دعوى النسخ في غيرها والأصح في آية الاستيذان والقسمة، الإحكام وعدم النسخ، فصارت تسعة عشر. قلت: ما حررته لا يتعين النسخ إلا في خمس آيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الفصل الثالث في أسباب النزول صعوبة موضوع أسباب النزول: ومن المواضيع الصعبة أيضاً معرفة أسباب النزول، ووجه الصعوبة في هذا الباب كذلك اختلاف المتقدمين والمتأخرين فيها. معنى نزلت في كذا: وما يستفاد من استقراء كلام الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - أنهم لا يقولون "نزلت في كذا" لمجرد بيان الحديث الذي وقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان سبباً لنزول تلك الآية: بل إنهم يستعملون هذا التعبير أحياناً لبيان ما تنطبق عليه الآية وتصدق عليه مما حدث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعده (فهو بيان لصورة من الصور التي تصدق عيلها الآية) فيقولون عند ذاك "نزلت في كذا" ولا يلزم في مثل هذا الموضع أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 تنطبق جميع القيود الواردة في الآية على الحادث، بل يكفي أن ينطبق أصل الحكم الوارد فيها. وتارة يكون قد أورد بعض الصحابة - رضي الله عنهم - في حضرته - صلى الله عليه وسلم - سؤالاً. أو يقع حادث في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون هو - صلى الله عليه وسلم - قد استنبط حكمه من آية من الآيات وتلاها عليهم في ذلك الباب، فيحكون هذا الحادث ويقولون "نزلت الآية في كذا" وتارة يقولون عند ذلك "فأنزل الله - تعالى - قول كذا" أو "فنزلت كذا". وإذا عبر أحد عن ذلك بتكرار نزول الآية فله كذلك مساغ. روايات المحدثين التي لا علاقة لها بأسباب النزول: ويورد المحدثون في هذا الباب أشياء كثيرة ضمن الآيات القرآنية لا علاقة لها بأسباب النزول مثل: استشهاد الصحابة - رضي الله عنهم - بآية من الآيات القرآنية في مناظراتهم. أو تمثلهم بىية، أو تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - آية من الآيات للاستشهاد على كلامه، أو رواية حديث يوافق الآية في أصل غرضها وفحواها أو في تعيين موضع نزولها، أو تحديد أسماء المذكورين فيها بصورة مبهمة، أو بيان طريق التلفظ بكلمة قرآنية، أو في فضل الآيات والسور، أو بيان طريقة امتثال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمر من أوامر القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وكل هذه - في الحقيقة - ليست من أسباب النزول في شيء وليس من شروط المفسر استيعابها والإحاطة بها. شروط المفسر في باب أسباب النزول: إنما يشترط على المفسر في هذا الباب معرفة شيئين: 1 - معرفة تلك القصص التي تتضمن الآيات الكريمة التعريض بها فإن فهم إيماء هذه الآيات وإشارتها لا يتيسر إلا بمعرفة تلك القصص. 2 - الثاني: معرفة تلك القصة التي تفيد التخصيص للعام وأمثال ذلك مما يصرف فيه الكلام عن ظاهره المتبادر منه إذ أن فهم مقاصد الآيات ومراميها لا يتأتى بدون ذلك. أكثر قصص الأنبياء السابقين من روايات أهل الكتاب: وينبغي أن يعلم هنا، أن قصص الأنبياء السابقين لم تذكر في الأحاديث الصحيحة إلا قليلاً، وأن هذه القصص الطويلة العريضة التي يتجشم روايتها المفسرون، ويحكونها في تفاسيرهم كلها منقولة عن أهل الكتاب إلا ما شاء الله - تعالى -. وقد جاء في صحيح البخاري: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 معان أخرى لقولهم "نزلت في كذا": وليعلم أيضاً، أن الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم أجميعن - كانوا يحكون - أحياناً - قصة جزئية لبيان مذاهب المشركين واليهود وعاداتهم الجاهلية حتى تتضح عقائدهم وتتجلى عاداتهم هذه في ضوء الوقائع والقصص، ويقولون في ذلك "نزلت الآية في كذا" ويريدون بذلك أن الآية نزلت في زمن قريب من هذه الوقائع، فيريدون إبراز هذه الصورة لا تخصيصها، بل إن هذه الحادثة صورة صادقة للأمور الكلية. سبب اختلاف أقوال الصحابة والتابعين في هذا الباب: ولأجل ذلك كثيراً ما تختلف أقوالهم، وتتنازع تعبيراتهم رغم أن قصدهم واحد، وإلى هذه النكتة أشار أبو الدرداء - رضي الله عنه - حين قال: "لا يكون الرجل فقيهاً حتى يحمل الآية الواحدة على محامل متعددة". أسلوب القرآن الكريم في بيان جوانب الشر والخير: وعلى هذا يكثر في أسلوب القرآن العظيم أنه يعرض صورتين، صورة سعيدة ويذكر معها بعض خلال السعادة، وصورة شقي ويذكر معها بعض صفات الشقاوة، ولا يكون الغرض من عرضها إلا بيان أحكام هذه الخلال والصفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 والأعمال لا التعريض بشخص معين من الأشخاص، قال - تعالى -: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} إلخ. ثم ذكر بعد ذلك صورتين لفريقين صورة سعيد وصورة شقي. كذلك قوله - تعالى - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وقوله - تعالى - {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} . وهكذا ينبغي أن تحمل الآيات التالية على هذا المعنى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} الآية. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} الآية، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} الآيات. ولا يلزم في هذه الصورة أن تتوفر جميع الخصوصيات ذاتها في شخص خاص كما أن في قوله - تعالى -: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} ألاية، لا يلزم أن توجد حبة بهذه الصفة بعينها، إنما الغرض هنا هو تصوير زيادة الأجر والثواب ليس غير، فإذا وجدت صورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 توافق هذا الوصف في أكثر خصائصه أو في كلها فهو من قبيل، "لزوم ما لا يلزم". عرض بعض الآيات في صورة السؤال والجواب: وفي بعض الأحيان يأتي رد على شبهة ظاهرة الورود أو جواب لسؤال قريب الفهم ويكون الغرض إيضاح الكلام السابق، لا أن أحداً وجه هذا السؤال بعينه أو أورد هذه الشبهة بعينها، وكثيراً ما يفترض الصحابة - رضي الله عنهم - في مثل هذه المواضع سؤالا وجواباً، ويشرحون الكلام في صورة السؤال والجواب، والحقيقة أننا إذا تأملنا ودققنا النظر نجد الكلام كله مستقيما مترابطاً لا يحتمل نزول منه بعد شيء في فترات متقطعة، بل هو كلام منتظم، لا تحل عراه ولا تفك قيوده على أي أصل من الأصول. التقدم والتأخر الرتبي: وأحيانا يذكر الصحابة - رضي الله عنهم - التقديم والتأخير في بعض الآيات، ومرادهم بذلك هو التقدم والتأخير الرتبي كما قال ابن عمر - رضي الله عنه - في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إلخ الآية "هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله - تعالى - طهوراً للأموال". فمن المعلوم أن سورة البراءة آخر سورة نزلت وجاءت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 هذه الآية في تضاعيف القصص المتأخرة وقد كانت فرضية الزكاة قبلها بأعوام، فمراد ابن عمر - رضي الله عنهما - هو تقدم الإجمال رتبة لا نزولا على التفصيل الذي هو متأخر رتبة وإن كان متقدما نزولا. وبالجملة فإن شروط المفسر في هذا الباب لا تتجاوز هذين الأمرين. أولهما قصص الغزوات وغيرها التي ترد فيها الإيماءات إلى خصوصيات القصص والأحداث بحيث لا تفهم الآيات إلا في ضوء الإطلاع عليها. والثاني: الإطلاع على فائدة بعض القيود وأسباب التشديد والتأكيد في بعض المواضع التي تتوقف معرفة حقيقتها على معرفة أسباب النزول. وهذا المبحث الأخير هو في الأصل فن من فنون التوجيه. فن التوجيه: ويراد بالتوجيه بيان وجه الكلام ومعناه وحاصل هذه الكلمة أنه: - قد تقع أحيانا في الآية شبهة ظاهرة لاستبعاد تلك الصورة التي تدل عليها الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 - أو يبدو - في ظاهر الأمر - تناقض وتعارض في مفهود الآية. - أو يصعب فهم مدلول الآية على ذهن المبتدئ. - أو لا تتمكن من ذهنه فائدة قيد القيود. فإذا قام المفسر بحل هذه الإشكالات اعتبر ذلك "توجيهاً". أمثلة للتوجيه: مثال ذلك قوله - تعالى - على لسان بني إسرائيل: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} إلخ الآية. فقد ورد هنا سؤال، وهو أن المدة بين موسى وعيسى - عليهما السلام - مدة طويلة، فكيف أمكن أن يكون هارون أخا لمريم؟ كأن السائل كان قد أضمر في نفسه أن هارون هذا الذي ذكر هنا هو هارون أخو موسى - عليهما السلام - فأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن بني إسرائيل كانوا يسمون بأسماء الصالحين من الماضين (فهارون ليس شخصاً واحداً، بل هارون أخو مريم غير هارون أخى موسى - عليهما السلام -) . - وكذلك لما سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يمشي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الإنسان يوم الحشر على وجهه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه لقادر أن يمشيه على وجهه". - وهكذا لما سألوا ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الآية التي يقول الله - تعالى - فيها: {لَا تُسْأَلُونَ} وعن الآية التي يقول الله - تعالى - فيها: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} الآية. كيف يمكن التطبيق بين الآيتين؟ قال: عدم التساؤل في يوم الحشر والتساؤل بعد الدخول في الجنة. - وسألوا عائشة - رضي الله عنها -: إذا كان السعي بين الصفا والمروة واجبا فلماذا قال الله - تعالى -: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} الآية. قالت - رضي الله عنها - كان الناس يتجنبون ذلك ويتحرجون منه فلذلك قيل: {لَا جُنَاحَ} . - وسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما معنى قيد {إِنْ خِفْتُمْ} في قوله - تعالى -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية فقال - صلى الله عليه وسلم - "صدقة تصدق الله بها عليكم" أي أن الكرماء لا يضايقون في الصدقة، كذلك الرب تبارك وتعالى لم يذكر هذا القيد للتضييق، بل إنما ورد القيد اتفاقاً. وأمثلة التوجيه كثيرة، والغرض هنا التنبيه على معناه والمقصود منه. تنقيح أسباب النزول وتوجيه المشكل من تفسيرات البخاري والترمذي والحاكم: ويحلو لي أن أنقل في الباب الخامس من تفسيرات البخاري والترمذي والحاكم ما يتعلق بأسباب النزول وتوجيه المشكل مما رووه بأسانيدهم إلى الصحابة - رضي الله عنهم - وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتنقيح وتهذيب واختصار لفائدتين مهمتين. أولاهما: أن استخصار هذا القدر من الآثار والروايات لابد منه لكل مفسر مثل شرح غريب القرآن، لابد للمفسر من حفظ القدر الذي ذكرناه منه فيما تقدم. الثانية: أن يعلم أنه لا دخل لأكثر ما يروى من أسباب النزول في فهم معاني الآيات الكريمة اللهم إلا شيء قليل من القصص والروايات التي وردت في هذه التفاسير الثلاثة التي هي أصح التفاسير لدى المحدثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 إفراط محمد بن إسحاق الكلبي: وأما إفراط محمد بن إسحاق الكلبي في هذا الباب حيث أورد تحت كل آية قصة تروى، أو حكاية تذكر فإنها لا تصح لدى المحدثين وفي أسانيدها نظر. الإحاطة بجميع روايات أسباب النزول ليست من شروط المفسر: وإن اعتبار معرفتها شرطا من شروط التفسير خطأ بين، والاعتقاد بأن تدبر كتاب الله - تعالى - يتوقف على الإحاطة بها واستحضارها تفويت لحظ النفس من كتاب الله وحرمان من إدراك روحه وجوهره. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الفصل الرابع في بقية مباحث هذا الباب وهو يشتمل على حذف بعض الأجزاء أو أدوات الكلام الذي يسبب الخفاء والإشكال، وكذلك إبدال شيء وتقديم ما حقه التأخير، وتأخير ما حقه التقديم، واستعمال المتشابهات والتعريضات والكنايات، وتصوير المعنى المراد بالصورة المحسوسة التي تكون من لوازم ذلك المعنى عادة، وهو ما يسمى بالاستعارة المكنية والمجاز العقلي، فلنعرف هنا ببعض أمثلة هذه الأشياء باختصار حتى تحصل للقارئ بصيرة في هذا الموضوع. الحذف أما الحذف فإنه ينقسم إلى عدة أقسام: 1 - حذف المضاف 2 - حذف الموصوف 3 - حذف المتعلق 4 - حذف غير ذلك. مثال حذف المضاف: قوله - تعالى -: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} الآية أي بر من آمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 مثال حذف الموصوف: قوله - تعالى -: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} الآية أي: آية مبصرة، لا أنها مبصرة غير عمياء. مثال آخر لحذف المضاف: قوله - تعالى -: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} الآية أي: حب العجل. مثال ثالث لحذف المضاف: قوله - تعالى -: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} الآية أي: بغير قتل نفس {أَوْ فَسَادٍ} أي بغير فساد. مثال حذف الموصول: قوله - تعالى -: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي ومن في الأرض، لأن شيئا واحدا هو في السموات والأرض. أمثلة أخرى لحذف المضاف: قوله - تعالى -: {ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} الآية أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات. - {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهل القرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 - "بدلوا نعمة الله كفرا" أي: فعلوا مكان شكر نعمة الله كفراً. أمثلة لحذف الموصوف: قوله - تعالى -: {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي: للخصلة التي هي أقوم. - {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: بالخصلة التي هي أحسن. - {سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} أي: الكلمة الحسنى والعدة الحسنى. أمثلة لحذف المضاف: قوله - تعالى -: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي على عهد ملك سليمان. {وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي على ألسنة رسلك. أمثلة أخرى متفرقة: قوله - تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي: أنزلنا القرآن، وإن لم يسبق له ذكر. - {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} : أي توارت الشمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 - {وَمَا يُلَقَّاهَا} أي: خصلة الصبر. - {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} فيمن قرأ بالنصب، أي: جعل منهم من عبد الطاغوت. - {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} أي جعل له نسباً وصهرا. - {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي: من قومه. - {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} أي كفروا نعمة ربهم وكفروا بربهم بنزع الخافض. - {تَفْتَأُ تَذْكُرُ} أي: لا تفتؤ تذكر، ومعناه: لا تزال. - {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، أي: يقولون ما نعبدهم. - {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} أي: الذين اتخذوا العجل إلهاً. - {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي: عن الشمال (أيضاً) . - {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي: تقولون: إنا لمغرمون. - {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} أي: أمض كما أخرجك ربك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 حذف خبر إن وجزاء الشرط وغير ذلك: وليعلم أن حذف خبر "إن" أو حذف جزاء الشرط أو مفعول الفعل أو مبتدأ الجملة وأمثال ذلك إذا كان ما بعده بدل عليه، مطرد في القرآن الحكيم وتكثر أمثلته. مثال حذف المفعول: قوله - تعالى -: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي: فلو شاء هدايتكم لهداكم". مثال حذف المبتدأ: قوله - تعالى -: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي: هذا الحق من ربك. أمثلة أخرى متفرقة: قوله - تعالى -: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الآية أي: لا يستوي من أنفق من قبل الفتح ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف الثاني لدلالة قوله - تعالى -: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ} . - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 مُعْرِضِينَ} أي: إذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم أعرضوا. التحقيق الدقيق في كلمة "إِذ": وليعلم أيضا أن الأصل في مثل قوله - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} أن كلمة "إذ" ظرف فعلي، ولكنها نقلت إلى معنى التخويف والتهويل وأمثال ذلك، فكأن شخصاً يستحضر المواضع الهائلة أو الوقائع الهائلة العظيمة من دون تركيب للجمل، ومن غير وقوع للكلمات في حيز الإعراب، فإن الغرض المطلوب هو استحضارها وذكرها حتى ترتسم صورتها البارزة في ذهن المخاطب، ويستولى الخوف منها واستهوالها على قلبه وضميره. فالتحقيق هو أنه في أمثال هذه المواضع لا حاجة إلى التفتيش والبحث عن العوامل في هذه الكلمة، والله أعلم. حذف الجار: وليعلم أيضاً أن حذف الجار من "أن" المصدرية مطرد في كلام العرب، ويكون المراد حينئذ "لأن" أو "بأن". حذف جواب الشرط: وليعلم أيضاً أن الأصل في مثل قوله - تعالى -: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 إن جواب الشرط محذوف، إلا أنهم نقلو هذا التركيب للعبارة إلى معنى التعجب فلا حاجة إذن في مثل ذلك إلى البحث والتفتيش عن المحذوف. - الإبدال - أما الإبدال فإنه تصرف كثير الشعب والفنون: 1 - فتارة يذكرون فعلا مكان فعل لمقاصد شتى ليس استيعابها واستقصاء البيان فيها من وظيفة هذا الكتاب. مثال لإبدال الفعل: قوله - تعالى -: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} أي: يسب آلهتكم فكان أصل الكلام "أهذا الذي يسب" إلا أنهم كرهوا ذكر السب، فأبدلوه بالذكر. ومن هذا القبيل ما يستعمل في محاورات الناس عند مخاطبتهم لسادتهم أو مكرميهم: "أصيب أعداء فلان بمرض" "وقدم عبيد حضرتكم إلى المكان الفلاني" أو "اطلع عبيد الجناب العالي على هذه المقدمة" (وهذه كلها تعبيرات فارسية، يتقدمون بمثل هذه العبارات إلى سادتهم وكبرائهم) ويريدون أن قد مرض حضرة فلان وقدم حضرة أو سعادة فلان، واطلع معالي فلان، أو سمو فلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أمثلة أخرى لإبدال الفعل: قوله - تعالى -: {مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي: منا لا ينصرون ولما أن النصر والتأييد لا يتصور بدون الاجتماع والصحبة، أبدل "ينصرون" "بيصحبون". - {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي خفيت لأن الشيء إذا خفى علمه ثقل على أهل السموات والأرض. - {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} . أي: عفون لكم عن شيء من طيبة من نفوسهن. إبدال اسم باسم: 2 - وتارة يبدلون اسماً باسم، وفيما يلي أمثلته: قوله - تعالى -: - {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي خاضعة. - {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} أي: من القانتات. - {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي: من ناصر. - {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أي: من حاجز. - {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أي: أفراد بني آدم. أفراد اللفظ لأنه اسم جنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 - {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} المعنى: يا بني آدم، أفراد اللفظ لأنه اسم جنس. - {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} يعني: أفراد الناس. - {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} أي نوحاً وحده. - {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} (أي: إني فتحت لك) . - {إِنَّا لَقَادِرُونَ} أي: إني لقادر. - {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ} أي: يسلط محمداً - صلى الله عليه وسلم -. - {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} أي عروة الثقفى وحده. - {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} أي: طعم الجوع. أبدل الطعم باللباس إيذانا بأن الجوع له أثر من القحول والذبول ما يعم البدن ويشمله كاللباس. - {صِبْغَةَ اللَّهِ} أي: دين الله. أبدل بالصبغة إيذانا بأنه كالصبغ تتلون به النفس أو مشاكلة بقول النصارى في المعمودية. - {وَطُورِ سِينِينَ} أي: طور سيناء. - {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي على إلياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قلب الاسمان للإزدواج. إبدال حرف بحرف: 3 - وتارة يبدلون حرفا مكان حرف، ومن أمثلته: قوله - تعالى -: - {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} ، كما تجلى في المرة الأولى على الشجرة. - {هُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أي: إليها سابقون. - {لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} أي: لكن من ظلم، فهو استيناف. - {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي: على جذوع النخل. - {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} أي: يستمعون عليه. - {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} أي منفطر فيه. - {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي: عنه. - {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} أي: حملته العزة على الإثم. - {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} أي فاسأل عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 - {َلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي: مع أموالكم. - {إِلَى الْمَرَافِقِ} أي: مع المرافق. - {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي: يشرب منها. - {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} أي: أن قالوا. إبدال جملة بجملة: 4 - وأحيانا يورد من جملة مكان جملة، فتدل - مثلا - جملة على حاصل مضمون الجملة الثانية وسبب وجودها فيبدلونها بتلك الجملة، ومن أمثلة ذلك قوله - تعالى -: - {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} أي: إن تخالطوهم فلا بأس بذلك لأنهم إخوانكم، وشأن الأخ أن يخالط أخاه. - {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} أي: لوجدوا ثواباً، ومثوبة من عند الله خير. - {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} أي: إن سرق فلا عجب لأنه سرق أخ له من قبل. - {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: من كان عدواً لجبريل فإن الله عدو له فإنه نزله على قلبك فعدوه يستحق أن يعاديه الله - تعالى - فحذف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 "فإن الله عدو له" بدليل الآية التالية، وأبدل منه {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} . إبدال التنكير بالتعريف: 5 - وأحيانا يقتضي الكلام التنكير - في ظاهر الأمر - ولكن قد يتصرفون فيه بالتعريف والإضافة، ويبقى المعنى على التنكير كما كان، ومن أمثلته: قوله - تعالى -: - {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} أي: قيل له يا رب، فأبدل بقيله لأنه أحصر في اللفظ. - {حَقُّ الْيَقِينِ} أي حق يقين، أضيف ليكون أيسر في اللفظ. إبدال التأنيث والتذكير والإفراد باضدادها. 6 - وأحيانا يكون الكلام على سننه الطبيعي المعروف يقتضي تذكير الضمير أو تأنيثه أو إفراده، فيصرف عن السنن الطبيعي ويبدل المذكر بالمؤنث، والمؤنث بالمذكر، ويجعل المفرد جمعا للنزوع إلى المعاني ورعاية الاعتبارات اللطيفة، ومن أمثلته: قوله - تعالى -: - {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 - {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} . وأحيانا يوردون المفرد مكان التثنية، ومن أمثلته: قوله - تعالى -: - {إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} . - {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} . والأصل فعميتا، فأفرده لأنهما كشيء واحد، ومثله "الله ورسوله أعلم". إبدال الشرط والجزاء وجواب القسم بغير ذلك: 7 - وأحيانا تقتضي طبيعة الكلام أن يذكر الجزاء في صورة الجزاء والشرط في صورة الشرط، وجواب القسم في صورة جواب القسم ولكن يتصرف في الكلام فيذكر هذا الجزء - سواء كان جزاء أو شرطا أو جوابا للقسم - في صورة جملة مستقلة مستأنفة ويكون الميل عند ذلك إلى المعنى وتقوم هناك قرينة تدل على ذلك بوجه من الوجوه. - من أمثلة ذلك قوله - تعالى -: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} . فالمعنى: أن البعث والحشر حق، يدل عليه قوله - تعالى -: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 - {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} المعنى: أن المجازاة على الأعمال حق. - {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} الآية. المعنى: أن الحساب والجزاء كائن. إبدال الخطاب بالغيبة: 8 - وأحيانا يقلبون أسلوب الكلام فيكون الأسلوب - مثلا - يقتضي الخطاب، فيأتون بالغائب لمعان مرعية، ومن أمثلته، قوله - تعالى -: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} إبدال الإخبار بالإنشاء: ويأتون أحيانا بالجملة الإنشائية مكان الخبرية. ومن أمثلته، قوله - تعالى -: - {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي لتمشوا. - {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: إيمانكم يقتضي هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 - {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} . المعنى: على قياس حال ابن آدم كتبنا أو على مثال حال ابن آدم، فأبدل عنه {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} لأن القياس لا يكون إلا بملاحظة العلة، فكأن القياس نوع من التعليل. - {أَرَأَيْتَ} هو في الأصل استفهام من الرؤية، ولكن نقل هنا إلى معنى التنبيه أو شد الانتباه إلى الكلام التالي مثل ما يقال: ترى شيئاً؟ تسمع شيئاً!. التقديم والتأخير: من الأشياء التي تسبب الصعوبة في فهو الكلام التقديم والتأخير كما هو في هذا البيت المشهور: بثينة شأنها سلبت فؤادي. . . بلا جرم أتيت به سلاماً والتعليم بالبعيد: وهو أيضا مما يسبب الصعوبة في الكلام ومن الأمثلة التي تتعلق بهذا القبيل. - {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ} . أدخل الاستثناء على الاستثناء فصعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 - {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} . متصل بقوله - تعالى -: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . - {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} أي: يدعو من ضره. - {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} أي: لتنوء العصبة بها. - {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} أي: اغسلوا أرجلكم. - {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} أي: ولولا كلمة سبقت وأجل مسمى لكان لزاما. - {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ} متصل بقوله - تعالى - {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} . - {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ} متصل بقوله: {كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} الآية. - {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي: يسئلونك عنها كأنك حفي. الزيادة في الكلام: والزيادة على السنن الطبيعي المعروف في الكلام أيضا تنقسم إلى عدة أقسام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الزيادة بصفة: فتارة تكون بصفة من الصفات، مثل قوله - تعالى -: - {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} . - {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} الزياد بإبدال: وتارة تكون الزيادة بالإبدال في الكلام، كقوله - تعالى -: - {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} الزيادة بالعطف التفسيري: وتارة بالعطف التفسيري كقوله - تعالى -: - {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} . الزيادة بالتكرار: وتارة بالتكرار كقوله - تعالى -: - {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 - {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} . - {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} أي هي مواقيت للناس باعتبار أن الله - تعالى - شرع لهم التوقيت بها، والحج باعتبار أن التوقيت بها حاصل للحج، ولو قيل: هي مواقيت للناس في حجهم كان أخصر ولكن أطنب (لمراعاة المعاني المقصودة) . - {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي: تنذر أم القرى يوم الجمع. - {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} . أي: ترى الجبال جامدة، أدخل الحسبان لأن الرؤية تجيئ لمعان, والمراد بها معنى الحسبان. - {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . أدخل {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} في تضاعيف الكلام المنتظم بعضه ببعض بيانا لضمير {اخْتَلَفُوا} وإيذانا بأن المراد من الاختلاف ههنا هو الاختلاف الواقع في أمة الدعوة بعد نزول الكتاب بأن آمن بعض وكفر بعض. زيادة حرف الجر: وأحياناً يزاد حرف الجر على رأس الفاعل أو المفعول. ويجعل ذلك معمولا للفعل بواسطة حرف الجر لتأكيد الاتصال، ومن أمثلة ذلك قوله - تعالى -: - {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} أي هي (الذهب والفضة التي يكنزونها) . - {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي: قفيناهم بعيسى ابن مريم. واو الاتصال: وينبغي أن يعلم هنا نكتة لطيفة، وهي أن الواو في المواضع الكثيرة تأتي لتأكيد الاتصال لا للعطف، مثل قوله - تعالى -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 - {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} - إلى قوله - تعالى - {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} . - {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} . - {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} . فاء الاتصال: كذلك الفاء أيضاً زائدة (لتأكيد الاتصال) : قال القسطلاني في شرح كتاب الحج في باب "المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزيه من طواف الوداع": "ويجوز توسط العاطف بين الصفة والموصوف لتأكيد لصوقها بالموصوف نحو: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال سيبويه: "هو مثل مررت بزيد وصاحبك" إذا أردت بصاحبك زيداً، وقال الزمخشري في قوله - تعالى -: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} جملة واقعة صفة لقرية، والقياس أن لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله - تعالى -: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} إنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: "جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 انتشار الضمائر وإرادة المعنيين بكلمة واحدة: وأحيانا يكون انتشار الضمائر وإرادة معنيين أو أكثر بكلمة واحدة سببا من أسباب الصعوبة في فهو الكلام، وفيما يلي أمثلته: - {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} يعني أن الشياطين ليصدون الناس عن السبيل ويحسب الناس أنهم مهتدون. - {وَقَالَ قَرِينُهُ} في موضع واحد المراد به الشيطان، وفي الموضع الآخر الملك. - {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} . فالأول معناه: أي إنفاق ينفقون، وهو صادق بالسؤال عن المصرف لأن الإنفاق يصير باعتبار المصارف أنواعاً، والثاني: معناه: أي مال ينفقون. معاني "جعل وشيء": ومن هذا القبيل مجيئ لفظ "جعل" و"شيء" وأمثالهما من الألفاظ لمعان شتى. فتارة تأتي "جعل" بمعنى خلق كقوله - تعالى -: {جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وتارة بمعنى اعتقد كما في قوله - تعالى -: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} . وأما كلمة "شيء" فتأتي أحيانا مكان الفاعل، وأحيانا مكان المفعول به، وتارة مكان المفعول المطلق وغير ذلك، وأمثلته كما يلي: - {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي: من غير خالق. - {فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} أي: عن شيء مما يتوقف فيه من أمري. الأمر والنبأ والخطب: ويراد بالأمر والنبأ والخطب أحيانا المخبر عنه، مثل قوله - تعالى -: {هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} أي قصة عجيبة. معاني الخير والشر: كذلك كلمتا الخير والشر وما يأتي في معناهما يختلف المراد منهما حسب اختلاف المجال والمواضع. التقديم والتأخير في الآيات: ومن هذا القبيل التقديم والتأخير في الآيات الكريمة فيكون محل آية - مثلا - في آخر القصة المذكورة فيبادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 إليها أحياناً، وتورد قبل إكمال حلقات القصة، ثم تكون العودة إلى القصة وتكمل فصولها وحلقاتها. وأحياناً تكون الآية الكريمة متقدمة في النزول، ولكنها متأخرة في التلاوة مثل قوله - تعالى -: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} متقدم نزولا، وقوله - تعالى -: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} إلخ متأخر ونزولا، ولكنها في التلاوة بالعكس. وتارة يورد الجواب في تضاعيف حكاية أقوال الكفار واعتراضاتهم كقوله - تعالى -: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} . وبالجملة فإن هذه المباحث تحتاج إلى تفصيل كثيرة، وفيما قلناه كفاية، وإذا كان القراء الكرام يستحضرون هذه الأمور ويحفظونها فإنهم لدى تلاوتهم للقرآن الكريم يدركون - بأدنى تأمل ونظر - غرض الكلام ومغزاه، ويقيسون غير المذكور على المذكور، وينتقلون من مثال إلى أمثلة أخرى كثيرة والله هو الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الفصل الخامس في المحكم والمتشابه والكناية والتعريض والمجاز العقلي تعريف المحكم: ليعلم أن المحكم هو ما لا يدرك منه أهل اللغة إلا معنى واحداً. إدراك العرب الأولين لا إدراك اللغويين المتفلسفين: والمعتبر هو إدراك العرب الأولين لا إدراك المتفلسفين في عصرنا الذين يشقون الشعرة، فإن شق الشعرة في غير محلها داء عضار يجعل "المحكم" "متشابها" والمعلوم مجهولا. تعريف المتشابه ووجوهه. والمتشابه هو ما احتمل معنيين إما لسبب: - احتمال رجوع الضمير إلى مرجعين، مثل أن يقول شخص: "أما إن الأمير أمرني أن ألعن فلانا، لعنه الله" (فيحتمل أن يرجع الضمير إلى الأمير أو إلى فلان) . - أو لاشتراك الكلمة في معنيين مثل كلمة "لامستم" تأتي بمعنى الجماع واللمس باليد أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 - أو لاجتماع العطف على القريب والبعيد، مثل قوله - تعالى -: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} في قراءة الكسر. - أو لاحتمال العطف والاستيناف، كما في قوله - تعالى -: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} الآية. تعريف الكناية وأمثلتها: والكناية هي أن يثبت المتكلم أمراً ولا يقصد ثبوت ذلك الأمر بعينه، بل القصد أن ينتقل ذهن المخاطب إلى لازم معناه سواء كان لزوما عاديا أو عقليا، مثل قولهم: "عظيم الرماد" يراد به معنى الجواد والسخاء. تصوير المعنى المراد بالصورة المحسوسة: وتصوير المعنى المراد بالصورة المحسوسة أيضاً من هذا القبيل، وهو باب واسع في شعر العرب وخطبهم، ويزخر بأمثلته القرآن العظيم والسنة النبوية المطهرة، ومن أمثلته قوله - تعالى -: - {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} فجاء التشبيه للشيطان هنا بمقدم قطاع الطرق ورئيسهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 حيث يأمر أصحابه ويناديهم، أن احملوا على الجهة الفلانية، وتقدموا من الجهة الفلانية. - {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} - {جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} فقد شبه هنا إعراضهم عن تدبر آيات الله - عز وجل - بشخص طوق الأغلال، أو أقيمت في كل جهة من جهاته السدود فلم يعد قادراً أصلا على الرؤية والنظر. - واضمم إليك جناحك من الرهب. أي اجمع خاطرك، ودع اضطراب الخواطر وقلق البال. البيان بالإشارة الحسية: ونظير ذلك ما يعرف في مخاطبات الناس أن أحدهم إذا أراد تصوير شجاعة شخص من الأشخاص فإنه يشير إلى السيف وأنه يضرب بها هكذا وهكذا، يخطر بيده، وليس الغرض من هذا التصوير إلا ذكر أنه يفوق جميع الناس في صفة الشجاعة ولو لم يكن قد أخذ السيف بيده مرة في حياته. أو يقول: فلان يتحدى العالم ويقول أنا لا أرى على الأرض أحداً يستطيع أن يبارزني، أو أن فلاناً يفعل كذا وكذا ويشير إلى الهيئة التي تكون للمبارزين عند المغالبة والتمكن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 العدو، ولو لم يكن هذا الشخص الموصوف قد قال شيئاً من ذلك أو أتى بعمل من هذه الأعمال. أو يقولون: فلان ألجمني أو أخرس لساني أو نزع اللقمة من فمي وأمثال هذه التعبيرات التي كلها من قبيل تصوير المعنى المراد بالصورة المحسوسة. تعريف التعريض: وأما التعريض فإنه ذكر حكم عام أو منكر مع القصد إلى الإشارة والتعريض بحال شخص خاص أو التنبيه إلى شخص معين، وترد بعض خصوصيات ذلك الشخص في الكلام، بحيث تعرف المخاطب به وتكشفه له، وينبغي في مثل هذه المواضع أن يكون قارئ القرآن الكريم متيقظا فطنا، ويحتاج إلى القصة أيضاً. طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعريض: وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد التعريض بشخص والإنكار عليه كان يقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا". مثال للتعريض من القرآن الكريم: قال - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 في هذه الآية الكريمة تعريض بزينب وأخيها. {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} الآية. فيه تعريض بأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. وفي مثل هذه الصور لا يدرك معنى الآية تماما إلا بالإطلاع على القصة المتعلقة وسبب النزول للآية. تعريف المجاز العقلي: والمجاز العقلي هو أن يسند فعل إلى غير فاعله، أو ما ليس من المفعول به مفعولا به لعلاقة مشابهة ما من المشابهات بينهما أو لأي علاقة من العلاقات ويدعي المتكلم أنه داخل في عداد ذلك وأنه فرد من أفراد ذلك الجنس. مثال المجاز العقلي: وهو مثل ما يقولون: بنى الأمر القصر، مع أن الباني هم البناؤون لا الأمير، أو يقولون: "أنبت الربيع البقل" مع أن المنبت هو الله، وأنبته في فصل الربيع، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الباب الثالث في أسلوب القرآن البديع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الفصل الأول في ترتيب القرآن الكريم وأسلوب السور فيه ليس القرآن مرتباً على الأبواب والفصول: لم ينزل القرآن الكريم على منهج المتون المبوبة والمفصلة حتى يكون كل موضوع فيه يختص بباب من الأبواب أو فصل من الفصول. أسلوب سور القرآن الكريم كأسلوب فرامين الملوك ورسائلهم: بل افترض القرآن الكريم كمجموعة الرسائل والفرامين التي يوجهها الملوك والسلاطين إلى رعاياهم حسب مقتضيات الأحوال ومتطلبات الظروف، ويوجهون واحدة ثم آخرى فثالثة فرابعة، وهلم جرا، حتى تجتمع نماذج كثيرة من هذه الفرامين، فيقوم شخص بتدوينها وترتيب مجموعة لها. القرآن في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وهكذا المالك على الإطلاق - جل ثناؤه - أنزل على نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لهداية عباده وإرشادهم حسب مقتضيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الأحوال والظروف سورة بعد سورة، وقد كانت كل سورة من هذه السور في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - محفوظة مضبوطة مكتوبة ولكن هذه السورة لم تكن مدونة مجموعة. القرآن في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: ثم دونت وجمعت هذه السور كلها في مجلد واحد بترتيب خاص في عهد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وسمي هذا المجموع بالمصحف. تقسيم السور: وقد كانت هذه السور مقسومة عند الصحابة - رضي الله عنهم - إلى أربعة أقسام: 1 - الأول السبع الطوال. 2 - الثاني المئين، وهي السور التي تشتمل كل واحدة منها على مائة آية أو أكثر بقليل. 3 - الثالث: المثاني: وهي ما تقل آياتها عن المائة. 4 - الرابع: المفصل. وقد أدخلت سورتان أو ثلاثة هي من عداد المثاني في المئين نظراً إلى المناسبة في سياقها بسياق المئين، وهكذا جرى بعض التصرف في بعض الأقسام الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه: وقد انتسخ عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عدة نسخ من ذلك المصحف المدون وأرسلها إلى الآفاق حتى يستفاد من هذه المصاحف بعينها ويرجع إليها ولا يرجع إلى أي ترتيب غير ترتيبها. استهلال السور واختتامها على طريقة فرامين الملوك: ولما أن أسلوب السور يناسب - تماماً - أسلوب فرامين الملوك والسلاطين، فقد روعي فيه بداية السور ونهايتها طريقة الرسائل والفرامين السلطانية. تنوع استهلال السور ومحتوياتها: فكما أن بعض الرسائل تبدأ بحمد الله - تعالى - والثناء عليه، وبعضها ببيان الغرض المقصود، وبعضها ببيان اسم المرسل، والمرسل إليه، وبعضها تكون رسائل وخطابات صغيرة تغير عنوان وتمهيد، وبعض الرسائل تكون مطولة وأخرى مختصرة كذلك الرب - تبارك وتعالى - استهل بعض السور بحمده وتسبيحه وبعضها ببيان الغرض من التنزيل، كما قال - تعالى -: - {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} - {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وهذا القسم من السور يشبه استهلالها اسهلال الوثائق والمعاهدات حيث يقولون: "هذا ما صالح عليه فلان وفلان" "هذا ما أوصى به فلان". وقد كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية "هذا ما قاضى عليه محمد" - صلى الله عليه وسلم -. واستهل بعضها بذكر المرسل والمرسل إليه، كما قال - تعالى -: - {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} . - {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وهذا القسم يشبه الفرامين التي يكتب فيها "هذا ما صدر من الباب العالي" أو "إعلام صادر من حضرة الخلافة إلى سكان البلد الفلاني". وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم". وابتدأ بعض السور على طريقة الرسائل والخطابات المختصرة من دون عنوان وتمهيد، كقوله - تعالى -: - {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 - {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} . - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} . اختيار طريق القصائد في مبتدأ بعض السور: ولما أن أبرز فصاحة العرب وقدرتهم البيانية كانت تتجلى في القصائد، وكان بدؤ القصائد بالتشبيب بذكر المواضع العجيبة والوقائع الهائلة هو من عاداتهم القديمة وأسلوبهم المعروف فقد اختار القرآن الكريم هذا الأسلوب في بعض السور كما في قوله - تعالى -: - {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} . - {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} . - {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} . أسلوب خواتم السور: وكما أن السلاطين يختمون رسائلهم وفرامينهم بجوامع الكلم ونوادر الوصايا على التمسك بالأوامر المذكورة، والتهديد لكل من يخالفها يخرج عنها، كذلك الله - تبارك وتعالى - ختم أواخر السور بجوامع الكلم ومنابع الحكم، والتأكيد البليغ والتهديد العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 تخلل الحمد والتسبيح في أثناء مواضيع السور: وتارة يبدأ في أثناء السورة بكلام بليغ عظيم الفائدة. بديع الأسلوب بنوع من أنواع الحمد لله - تعالى - والتسبيح له، أو بيان النعم والمنن على عباده مثل ما بدأ بيان تباين المراتب والدرجات بين الخالق - جل وعلا - والمخلوق العاجز الفقير بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} . ثم بين هذا الموضوع في الآيات الخمس التالية بأبلغ الطرق وأبدع الأساليب البيانية. كذلك بدأ المحاجة مع بني إسرائيل في أثناء سورة البقرة بقوله - تعالى - {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ثم ختم هذه المحاجة بهذا الكلام نفسه عند آخر الجزء: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} إلخ الآية. وإن ابتداء هذه المحاجة بهذا الكلام وانتهاءها به أيضا يحتل مكانا عظيما في البلاغة. وهكذا بدأ الجدل مع أهل الكتاب في سورة آل عمران بقوله - تعالى -: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} حتى يتضح محل النزاع ويتعين المبحث الأساسي في الجدل ليكون الحوار بعد ذلك فيه ويدور الكلام حوله وينتهي عليه والله أعلم بحقيقة الحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الفصل الثاني في تقسيم السور إلى الآيات وأسلوبها الفريد بين الآيات والأبيات: لقد جرت سنة الله - تعالى - في السور القرآنية بتقسيمها إلى الآيات كما أن القصائد تقسم إلى الأبيات، ومعلوم أن هناك فرقا بين الآيات والأبيات، ثم إن الآيات والأبيات كل واحدة منهما من قبيل النشيد، الذي يقال وينشد لالتذاذ نفس المتكلم والسامع ومتعتهما الفنية، إلا أن الأبيات الشعرية تكون مقيدة بالعروض والقوافي التي دونها الخليل بن أحمد، وتلقاها منه الشعراء وجروا عليها. بناء الآيات على الوزن والقافية الطبيعية: أما الآيات فإن بناءها على الوزن والقافية الإجمالية التي تشبه الحقيقة الطبيعية لا على أفاعيل العروضيين وتفاعيلهم، والقوافي المحدودة التي هي شيء صناعي واصطلاحي ليس غير. القدر المشترك بين الآيات والأبيات: أما تنقيح القدر الإجمالي المشترك الذي ينفق في الآيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 والأبيات والذي استعملنا للإلماح إليه كلمة "النشيد" كقدر مشترك مطلق، ثم ضبط تلك الأمور والخصائص التي التزم بها في الآيات والتي تميزها عن غيرها، فكل ذلك يحتاج إلى تفصيل، والله ولي التوفيق. تذوق الفطرة السليمة: وتفصيل هذا الإجمال هو أن الفطرة السليمة تدرك في القصائد الموزونة المقفاة والأراجيز الجميلة الرائقة وأمثال ذلك من الكلمات الموزونة متعة خاصة، وتتذوق حلاوة وعذوبة. السر في توافق أجزاء الكلام: وإذا تأملت في سبب هذا الإدراك وبحثت عن السر وراء هذا التذوق تجد أن الكلام إذا كانت أجزاؤه يوافق بعضها بعضا فإنه ينشئ في نفس المخاطب لذة خاصة ويدعوه إلى انتظار مثله والشوق إليه، فإذا ورد بعد ذلك البيت الثاني - مثلا - مع ذلك التوافق والانسجام بين أجزائه وقع موقعه على نفس المخاطب وتحقق الأمر المطلوب المنتظر فإن هذه اللذة تتضاعف، ثم إذا كان البيتان كلاهما يشتملان على قافية واحدة زادت اللذة ثلاثة أضعافها. فالتمتع والالتذاذ بالأبيات الشعرية بسبب هذا السر الدقيق فطرة قديمة فطر عليها البشر، ولا اختلاف فيها بين الأمزجة والطبائع السليمة لأهل المناطق المعتدلة وكلهم متفقون على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الاختلاف في نوع التوافق وشروط القافية: ثم اختلفت المنازع والمذاهب والأعراف والعادات في توافق الأجزاء في كل بيت من الأبيات وشروط القوافي المشتركة، الواردة في أواخر الأبيات، فالعرب - مثلا - عندهم ضوابط وأصول بينها الخليل الفراهيدي، والهنود يجرون على تقاليد وعادات تحكم بها سليقتهم اللغوية الفطرية. وهكذا اختار أهل كل عصر ومصر وضعاً من الأوضاع ومسلكا من المسالك. الأمر الجامع المشترك: وإذا أردنا أن ننتزع من بين هذه العادات والأوضاع والمذاهب والمشارب أمراً جامعاً مشتركاً، وسراً شاملا دقيقاً فإنه هو التوافق التقديري أو التخميني ليس غير. عروض العرب: فالعرب - مثلا - يستعملون "مفاعلن" و"مفتعلن" مكان "مستفعلن" ويعتبرون: فعلاتن" و"فاعلتن" وفق القاعدة الصحيحة بدل "فاعلاتن" ويهتمون بموافقة ضرب بيت بضرب بيت آخر وعروض بيت بعروض بيت آخر، ويسمحون في الحشو بكثرة الزحافات، على العكس من شعراء فارس الذين يستهجنون الزحافات ويكرهونها. قوافي العرب: كذلك الشعراء العرب يستحسنون إذا كانت القافية مثلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 في بيت "قبوراً" وفي البيت الآخر "كبيراً" على العكس من الشعراء العجم. وهكذا يرى الشعراء العرب أن "حاصل" "داخل" و"نازل" من قسم واحد بخلاف الشعراء العجم. توزيع الكلمة الواحدة في شطري البيت: كذلك وقوع كلمة واحدة بين شطري البيت بحيث يكون نصفها في الشطر الاول والنصف الآخر في الشطر الثاني صحيح عند العرب خطأ عند العجم. وبالجملة فإن الأمر الجامع المشترك هو التوافق التقريبي التقديري لا التوافق الحقيقي. أوزان الهنود : وقد وضع الهنود أوزان شعرهم على عدد الحروف من دون ملاحظة واعتبار للحركات والسكنات، وهي كذلك تمنح لذة ومتعة فنية. ألحان القرويين: وقد سمعنا ألحان بعض القرويين الريفيين التي يلحنون بها للحصول على المتعة والذوق، وهي - في الواقع - تشتمل على توافق تقريبي بين أجزاء الكلام، أو تشتمل على رديف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 يكون عبارة عن كلمة واحدة أو عن تركيب كلمتين، أو أكثر. وهم يتغنون بها كالقصائد، ويتمتعون بها. فالحاصل - إذن - أن لكل قوم قونوناً وضوابط خاصة لكلامهم المنظوم مع القدر المشترك الذي ألمحنا إليه. متعة الناس بالأصوات المطربة والأنغام الحلوة: وعلى هذا تجد جميع أصناف الناس وشعوبهم يجدون متعة ولذة غريبة في الأصوات والألحان، المطربة الجميلة، والنغمات الموسيقية الفاتنة، لا اختلاف بينهم في ذلك، إلا أن طرق تنغيمهم وأساليب تلحينهم، وقواعد الغناء عندهم تختلف فيما بينهم. أوزان اليونانيين للألحان: وقد وضع اليونانيون عدداً من الأوزان لهذه الألحان ويسمونها "المقامات" وقد استنبطوا من المقامات أصواتاً، وأقساماً واستخرجوا أنغاماً وألحاناً جعلوها فناً مبسوطاً مفصلا مستقلا، مع ضبط القواعد والأصول. أوزان الهنود وألحانهم: كذلك وضع الهنود ستة ألحان، ثم استخرجوا منها نغمات وتلحينات متعددة، وقد رأينا أهل الريف منهم الذين لا يعرفون هذين المصطلحين، اخترعوا لهم تركيباً خاصاً ولحنا خاصا حسب سليقتهم الفطرية وذوقهم الفني، ووضعوا لأنفسهم أوزاناً من دون أن يضبطوا لها القواعد والكليات، ويستقضوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 لها الجزئيات، فينشدونه في نواديهم ومحافلهم ويشيعون فيها العذوبة، والمتعة، ويشعلون فيها الحرارة. العقل ينظر إلى القدر المشترك، والذوق ينظر إلى الحلاوة الخالصة: ونحن - عندما - ننظر هذه الخلافات ونتأمل فيها لا نخرج بنتيجة إلا أن القدر المشترك بينها هو التوافق التقريبي، لا غير، والعقل ينظر إلى هذه الحقيقة الإجمالية، والقدر المشترك، ولا هم له في التفاصيل، والذوق السليم يحب العذوبة الخالصة ولا علاقة له بالبحر الطويل أو المديد. مراعاة القرآن الكريم لهذا الذوق الإجمالي المشترك: وحينما شاء الله - جلت قدرته - أن يخاطب هذا الإنسان المصنوع من قبضة من طين (شاءت قدرته ورحمته) أن يراعي هذا الحسن الإجمالي والجمال المشترك، لا تلك القواعد المصطلحة التي يأخذها شعب، وتميل إليها جماعة دون أخرى. وحين شاءت حكمة الملك القدوس - عز شأنه - أن يخاطب الناس على قدر كلامهم، كان منه أن ضبط هذه الأصل البسيط والسر المشترك في كلامه. لا تلك القوانين والضوابط التي تتغير حسب تغير الذوق والعصر، والتي لا تستقر على حال واحد. مراعاة القوانين الاصطلاحية دليل على العجز والجهل والقرآن منهما بريئ: والحقيقة - التي ينبغي أن يتفطن لها - أن مراعاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 القوانين الاصطلاحية والتقيد بها دليل على العجز والجهل، وأما مراعاة الحسن الإجمالي والقدر المشترك الذي لا يفوت في أي حال من أحوال الكلام، ولا أي صفة من صفاته، ويرافق الكلام في لينه وشدته، ووهادة ونجاده، من دون إلمام بالقواعد الاصطلاحية، واستعمال للضوابط العرفية إنما هو الإعجاز برأسه، الخارج عن حد الطوق البشري. ولا شك أن الله - جلت قدرته - اختار هذه الطريقة المعجزة. (التي تكل عن إدراكه - حقه - والصعود إلى مرتقاه قوى البشر أجمعين) . مراعاة القرآن الكريم للجاذبية الصوتية دون البحور الشعرية: ومن هنا نستنبط قاعدة مهمة، وهي أن الله - تبارك وتعالى - قد راعى في أكثر سور كتابه الحميد الجاذبية الصوتية وامتدادها، وجمالها وتأثيرها، لا البحر الطويل والبحر المديد أو غيرهما من البحور الشعرية. فواصل الآيات القرآنية: واعتبر في الفواصل انقطاع النفس بالمدة، أو ما تستقر المدة عليه، لا قواعد فن القافية، وهذا المبحث يحتاج إلى بسط وتفصيل، واجتزىء هنا بالقدر اليسير فلنتأمل فيما يأتي: اعتبار الامتداد الصوتي هو الوزن في القرآن الكريم: إن دخول النفس في الحلقوم وخروجه منه أمر طبيعي في الإنسان (كما هو أمر طبيعي في كل حيوان) وإن تمديد النفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وتقصيره مما هو في قدرة الإنسان، ولكنه إذا تركه على سجيته وفطرته من دون تمديد وتمطيط أو تقصير، فإن له امتداداً خاصاً. والإنسان عندما يبدأ يتنفس، يجد الخفة والسرور والنشاط ثم ينقطع النفس شيئاً فشيئاً حتى ينقطع كلياً، ويضطر الإنسان إلى أخذ النفس الطازج الجديد. إن هذا الامتداد الخاص للنفس الإنساني لا يمكن أن يحد بحد معين معلوم، بل هو محدد بحد مبهم، ومقدر بمقدار مضطرب بين أفراد البشر قد يختلف بزيادة كلمتين أو ثلاثة أو قدر الربع للكلمة والثلث عند شخص، وبنقصان كلمتين أو ثلاث أو قدر الربع للكلمة والثلث عند آخر، ولا يخرجه ذلك عن الحد المشترك. كما يسمح فيه باختلاف عدد الأوتار والأسباب، وتقديم بعض الأركان على بعض كذلك. وعلى كل فإن الله - سبحانه وتعالى - قد اعتبر هذا الامتداد للنفس (في حده المشترك الوسط) هو الوزن في كتابه الكريم، وقسمه ثلاثة أقسام. 1 - الطويل. 2 - المتوسط. 3 - القصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 من أمثلة الطويل: سورة النساء. ومن أمثلة المتوسط: سورة الأعراف والأنعام. ومن أمثلة القصير: سورة الشعراء والدخان. خاتمة النفس هي القافية: وجعلت خاتمة النفس المعتمدة على حرف من حروف المدة التي تعتمد على حرف آخر، هي القافية الواسعة النطاق، تدركها الطبيعة البشرية وتتذوقها وتجد في تكرارها اللذة والجمال سواء كانت هذه المدة ألفاً أو واواً أو ياءاً، سواء كان الحرف التي تعتمد عليها باءاً أو ميماً أو قافاً. (يعلمون) (مؤمنين) (مستقيم) من القافية الواحدة: وعلى هذا فإن هذه الفواصل كـ (يعلمون) (مؤمنين) و (مستقيم) كلها متوافقة متلائمة. كذلك (خروج) (مريج) (تحيد) (نار) (فواق) و (عجاب) كلها على قاعدة واحدة. مدة الألف قافية متسعة: كذلك لحوق الألف في آخر الكلمة، قافية متسعة، ينشئ تكرارها وإعادتها لذة في النفس، مهما كان حرف الروي مختلفاً ومثل (كريماً) في موضع و (حديثاً) في موضع آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 و (بصيرا) في موضع ثالث، (كلها على الانسجام الفطري الجميل) . التزام الروي الواحد التزام ما لا يلتزم: وإذا التزم - في مثل هذه الصور - موافقة الروي في كل بيت فإنه من قبيل التزام ما لا يلزم، مثل ما ورد في سورة مريم وسورة الفرقان. في توافق الآيات على حرف واحد لذة ومتعة: كذلك توافق الآيات الكريمة على حرف واحد كحرف الميم - مثلا - في سورة القتال، وحرف النون، في سورة الرحمن، يحدث لذة ومتعة عجيبة. اختلاف فواصل آخر السور من أوائلها: وأحيانا تختلف فواصل آخر السور - نظراً إلى ذهن السامع وتنشيطا له وإشعاراً له بلطف الكلام وروعته - عن فواصل أولها، مثل: - {إِدًّا} و {هَدًّا} في آخر سورة مريم. - ومثل: {سَلَامًا} و {كِرَامًا} في آخر سورة الفرقان. - ومثل: {طِينٍ} و {سَاجِدِينَ} و {تَنْظُرُونَ} في آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 سورة (ص) . مع أن الفواصل في أوائل هذه السور جاءت مختلفة عنها، كما هو واضح. وخلاصة الأمر أن مراعاة هذا (الوزن) و (القافية) التي مضى التعبير عنها (بالقدر المشترك، والمدة المشتركة) كانت ذات أهمية معتبرة. مراعاة الإطناب والتقديم والتأخير والقلب والزيادة: وإذا وردت في آخر الآية لفظة تصلح لأن تكون قافية، فيها ونعوت، وإلا فيأتي الكلام متصلا بجملة تشتمل على بيان آلاء الله تعالى، أو على تنبيه للمخاطب مثل: - {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} {كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . ويراعى الإطناب - أحيانا - في مثل هذه المواضع (حيث يحتاج إلى هذا الوزن) مثل: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} . ويؤتي - أحيانا - بالتقديم والتأخير، وأخرى بالقلب والزيادة، مثل: "إلياسين" {وَطُورِ سِينِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 السر في انسجام الآيات القصيرة مع الطويلة: وينبغي أن يعلم أن انسجام الكلام وملاءمته وسهولته على لسان القارئ لكونه يحل محل الأمثال السائرة، أو لتكرره في الآية الكريمة يوائم بين الكلام الطويل والكلام القصير، ويحدث بينهما اتزانا وانسجاما، فيؤتي تارة بالفقر الأولى من الكلام أقصر وأخصر من الفقر الثانية، وهو يفيد عذوبة في الكلام ولذة جديدة كقوله - تعالى -: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} . فكأن المتكلم في مثل هذا الكلام يضمر في نفسه أن الجملة الأولى باجتماعها مع الجملة الثانية في كفة، والجملة الثالثة وحدها في كفة أخرى. الآيات ذات القوائم الثلاث: كذلك تكون الآية أحيانا ذات قوائم ثلاث، مثل قوله - تعالى -: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} إلخ الآية، {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} إلخ الآية وعامة القراء يجمعون الأولى مع الثانية، ويعدونها آية طويلة. الآية ذات الفاصلتين: وأحيانا ترد في الآية الواحدة فاصلتان مثل ما يرد ذلك في البيت أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 كالزهر في شرف والبدر في شرف. . . والبحر في كرم والدهر في همم السر في قصر آية مع طول أخرى: وتأتي - أحيانا - آية طويلة مع آية قصيرة، والسر في مثل هذه المواضع أنه لو وضع حسن الكلام وجمال التعبير الذي نشأ من تقارب الوزن ووجدان الأمر المنتظر المطلوب الذي هو القافية (حسبما عرفت بها) في كفة، ووضع حسن الكلام وعذوبة العبارة الناشئة من سهولة الأداء وسلاسته وموافقة طبع الكلام، وعدم لحوق أي تغير فيه في كفة أخرى، فإن الفطرة السليمة سوف تميل إلى جانب المعنى وترجحة فيهمل، لذلك انتظار شيء (وهو القافية) ويؤدي حق الانتظار والطلب الآخر كاملا موفوراً (وهو الجانب المعنوي) . أساليب متنوعة أخرى في السور: وما قلنا في مفتتح هذا البحث أن سنة الله - تعالى - جرت على ذلك في أكثر السور القرآنية، إنما هو لأجل أن بعض السور القرآنية لم يراع فيها هذا النوع من الوزن والقافية. فجاءت طائفة من هذه السور على طريق خطب الخطباء وأمثال البلغاء والحكماء، ولعلك قد سمعت رواية سمر النساء التي روتها عائشة - رضي الله عنها - ونظرت في قوافيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وجاءت بعض السور الأخرى على طريق رسائل العرب من دون مراعاة شيء آخر، كأنها محاورة الناس بعضهم ببعض اللهم إلا الخواتم للكلام التي جاءت على النمط الذي ترى. والسر في ذلك أن أصل لغة العرب يراعى فيها الوقف في الموضع الذي ينتهي عليه النفس من الكلام ويتلاشى النشاط في الامتداد الصوتي، ومن هنا جاءت الآيات على هذه الصورة. هذا ما فتح الله - تعالى - علي في هذا الباب، والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الفصل الثالث في ظاهرة التكرار في القرآن الكريم إفادة السامع على قسمين: لو سألنا: لماذا تكررت مطالب العلوم الخمسة ومباحثها في القرآن العظيم؟ ولم لم يكتف ببيانها في موضع واحد؟ قلنا. إن ما نريد أن نعرضه على السامع ونفهمه ينقسم عادة إلى قسمين: 1 - الأول، هو ما لا يكون القصد منه إلا تعليم ما لا يعلم السامع وتلقينه فيكون المخاطب - مثلا - لا يدري حكما من الأحكام، ولم يدركه عقله وفكره، فأنت تفيده ذلك الحكم، فيصبح المجهول عنده باستماع كلامك معلوما، ويعرف ما تريد. 2 - الثاني: أن يكون الغرض هو استحضار صورة العلم في قوته المدركة حتى يجد لها لذة موفورة، وتفني جميع قواه القلبية والعقلية في ذلك المعلوم، وتنصبغ به جميع قواه الفكرية والعملية، كما نكرر بيتاً من الشعر علمنا معناه ومحتواه سلفاً، ولكننا رغم ذلك نكرره ونجد كل مرة في إنشاده لذة جديدة، ونحب ترداده وتكراره لأجل هذه اللذة الذوقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وإن القرآن العظيم بالنسبة إلى كل واحد من مباحث العلوم الخمسة، أراد إفادة القسمين المذكورين، فأراد تعليم ما لا يعلم بالنسبة إلى الجاهل، وأراد انصباغ النفوس بصبغة هذه العلومات بتكرارها وتردادها بالنسبة إلى العالم، اللهم إلا أكثر مباحث الأحكام التي لم يقع فيها هذا التكرار إذ أن إفادة القسم الثاني لم تكن مطلوبة فيها. سر تكرار التلاوة: ولأجل ذلك أمرنا بتكرار التلاوة والإكثار منها، ولم يكتف بمجرد الفهم والإدراك. تنوع الأساليب مع التكرار في المطالب: وقد روعي - مع ذلك - هذا القدر من الفرق أن المطالب التي تكررت جاءت كل مرة بعبارة طرية جديدة وأسلوب جديد حتى يكون له وقع أكثر في النفوس وأمتع للأذهان والعقول، فلو كان التكرار مع اتحاد الألفاظ والعبارات لكان شيئاً من حقه أن يكرر ويردد فحسب ولكنه مع اختلاف التعابير وتنوع الأساليب مدعاة للتفكير وخوض العقل واستجماع الخاطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الفصل الرابع في ترتيب مباحث القرآن الكريم حكمة الدعوة والعرض: لو أثار أحد السؤال: لماذا لم يراع الترتيب في بيان مباحث القرآن العظيم؟ ولماذا نثرت هكذا نثراً؟ فلماذا لم يبدأ - مثلا - ببيان آلاء الله - تعالى - حتى إذا استوفاها حقها، شرع في بيان أيام الله - تعالى - فإذا أتمها وأكملها بدأ بالجدل مع الكفار وغيرهم؟ ... فنقول: إن قدرة الله - تبارك وتعالى - وإن كانت محيطة بجميع الممكنات، ولكن القول الفصل في هذا الباب إنما هو للحكمة (إذ أنه كتاب حكيم من لدن حكيم خبير) والحكمة هي موافقة المبعوث إليهم في اللسان وأسلوب البيان، وإلى هذا المعنى جاءت الإشارة في قوله - تعالى -: {لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} إلخ الآية. ولم يكن لدى العرب إلى حين نزول القرآن الحكيم، كتاب، لا كتاب إلهي ولا كتاب بشري. أسلوب الأولين لا اختراع المصنفين المتأخرين: وإن الترتيب الذي اخترعه المؤلفون والمصنفون المتأخرون لم يكن يعرفه العرب الأولون، وإذا كنت في شك من هذا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فارجع إلى قصائد الشعراء المخضرمين، واقرأ رسائل النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ورسائل سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حتى تنكشف لك هذه الحقيقة جلية واضحة، فلو جاء الكلام على غير ما كانوا يعهدونه من طرائق البيان، لوقعوا في الحيرة، وواجههم شيء لا يألفونه ولا يأنسون به، وشوش عقولهم وأقلق خاطرهم. ثم إن الغرض ليس مجرد إفادة ما لا يعلمونه، بل إفادته مع التكرار والاستحضار مرة بعد مرة، ويتوفر هذا المعنى في غير المرتب ما لا يتوفر في المرتب من الكلام (على طريقة المتون الكتابية) . وجه اختيار الأوزان والقوافي الجديدة: ولو سألنا: لماذا لم يختر القرآن الكريم تلك الأوزان والقوافي التي تعرف لدى الشعراء وهي أحلى وألذ، قلنا: إن اللذة والحلاوة أمر نسبي، يختلف باختلاف الشعوب والبلدان والعقول والأذواق، ولو سلمنا - جدلا - أن تلك أحلى وألذ، فإن إبداع أسلوب جديد ونموذج جديد من الأوزان والقوافي على لسان الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الذي كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب، آية ظاهرة من الآيات الدالة على نبوته ورسالته ولو كان القرآن قد نزل على أوزان الشعر وقوافيه المعروفة لذهبت بالكفار الظنون إلى أنه شعر من شعرهم المتداول المعروف، ولم يعيروه كبير اهتمام ولم يبالوا به. ومعلوم أن البلغاء من الشعراء المفلقين والكتاب المجيدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 حين يحاولون إبراز مزيتهم وفضلهم ورجحانهم على أقرانهم ومعاصريهم على رؤوس الأشهاد، يأتون بصناعة جديدة، ويستنبطون بحورا جديدة ويقولون عند ذلك: هل هناك من يقرض القصيد مثلي، وينشئ الكلام على حذوي؟ فلو جرى هؤلاء على الطريقة المطروقة في الشعر والنثر لم تظهر براعتهم إلا للمحققين البارعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الفصل الرابع في وجوه الإعجاز في القرآن الكريم كثرة وجوه الإعجاز في القرآن الكريم: لو سألنا: ما هو وجه الإعجاز في القرآن الكريم؟ نقول الذي تحقق عندنا أن وجوه الإعجاز في القرآن كثيرة. إعجاز الأسلوب: منها الأسلوب المعجز البديع، ولقد كانت للعرب عدة ميادين يركضون فيها جواد بلاغتهم وبيانهم، ويتسابقون فيها مع أقرانهم وهي القصائد، والخطب، والرسائل والمحاورات، ولم يكونوا يعرفون غير أساليب هذه الأصناف الأربعة، ولا كانت عندهم قدرة على إبداع غيرها من الأساليب، فكان إبداع أسلوب جديد يختلف عن أساليبهم على لسان نبي أمي - عليه أفضل الصلاة والسلام - إعجازا قائما برأسه. إعجاز الإخبار عن الكتب السابقة: وكان من هذه الوجوه إخبار القرآن الكريم عن القصص الماضية وأحكام الشرائع السابقة على وجه يصدق الكتب السابقة ويهيمن عليها من دون أخذ عنها وتعلم منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 إعجاز الإخبار عن الأحداث الآتية: ومنها إخبار عن الأوضاع والأحداث الآتية، التي كلما ظهر منها شيء وفق ما جاء القرآن كان دليلا جديداً على إعجازه. إعجاز البلاغة العالية: ومن هذه الوجوه تلك الذروة السامقة من البلاغة القرآنية التي تعلو على قدرة البشر وتخرج عن طوقه، ونحن إذ نشأنا بعد العرب الأولين لا نستطيع أن نصل إلى كنه هذه البلاغة وحقيقتها، إلا أن القدر الذي نعلمه هو أن استعمال الكلمات والتراكيب العذبة الجزلة التي وردت في القرآن الكريم بما تمتاز به من لطف وجمال وعدم كلفة وصنعة لا نجد شيئاً منها في أي قصيدة من قصائد المتقدمين والمتأخرين، وهذا أمر ذوقي لا يدركه كما ينبغي إلا المهرة المفلقون من الشعراء، وليس في وسع العامة أن يتذوقوه. ومن العلوم كذلك أن القرآن الكريم في موضوع التذكير بآلاء الله وأيامه، والجدل، يكسو المعاني المتقاربة في كل موضع لباساً جديداً حسب أسلوب السورة التي تعرض فيها في جمال وطرافة لا تستطيع أن تتطاول إليها أعناق البشر. تنوع الأساليب البيانية: وإذا تعسر على أحد إدراك ذلك، فعليه أن يتأمل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 أساليب قصص الأنبياء والمرسلين في سورة الأعراف وسورة هود وسورة الشعراء، ثم ليرجع إلى هذه القصص في سورة الصافات ثم ليقرأ هذه القصص نفسها في سورة الذاريات يتجلى له الفرق كوضح النهار. كذلك ورد ذكر ما يتعلق بتعذيب العصاة الظالمين، والإنعام على المطيعين الصالحين بلون جديد في كل موضع من مواضع ذكره في القرآن الكريم، وهكذا جاء تخاصم أهل النار بعضهم مع بعض في صور جديدة وأساليب متنوعة في كل مكان، والكلام في هذا يطول. نعلم كذلك أن مراعاة مقتضى الحال الذي يتكفل فن المعاني بتفصيله والحديث عنه، واستعمال الاستعارات والكنايات التي يحتوي عليها فن البيان، مع مراعاة حال المخاطبين الأميين الذين يجهلون هذه الصناعات، قد توفرت في القرآن الكريم وتحققت بوجه لا يتصور أحسن منها وأروع، وذلك أن المطلوب في القرآن الكريم هو أن تودع بعض اللطائف البيانية التي لا تستعصي على العامة ويتذوقها الخاصة في تضاعيف المخاطبات المعروفة والحوار العام وهذا هو نوع من الجمع بين النقيضين (الذي لا يتيسر مثله لأي واحد من البشر) . إعجاز التشريع القرآني: ومن وجوه الإعجاز القرآني ما لا يتيسر فهمه إلا للمتدبرين المتأملين في أسرار الشرائع، ودقائقها، وذلك أن هذه العلوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الخمسة - من جهة أنها لهداية النوع البشري وإرشاده - حجة قائمة بذاتها على أن هذا الكلام منزل من عند الله الحكيم العليم، كما أن طبيباً حاذقا لو نظر مثلا في القانون (لابن سينا) وتأمل في بيانه لأسباب الأمراض وعلاماتها ووصفه لأدويتها وعلاجها لما اعتراه أدنى شك في أن مؤلف هذا الكتاب من كبار الأطباء الحاذقين في صناعة الطب، كذلك العالم بأسرار الشرائع الذي يعرف ما هي الأشياء التي يمكن تعليمها وتلقينها للناس لتهذيب نفوسهم وإصلاح قلوبهم، ثم يتأمل في هذه العلوم الخمسة التي اشتمل عليها القرآن الحكيم لعلم العلم اليقين أن هذه العلوم قد وردت بمعانيها ومطالبها في القرآن على وجه لا يتصور أفضل منه ولا أدنى ولا أجمل وعلى كل فإن الشمس الساطعة دليل من نفسها على نفسها، فإذا كنت في حاجة إلى الدليل فلا تشح بوجهك عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الباب الرابع في بيان فنون التفسير وحل الخلافات الواقعة في تفاسير الصحابة والتابعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الفصل الأول في أصناف المفسرين ومناهج تفسيرهم ليعلم أن المفسرين ينقسمون إلى عدة أصناف: تفسير المحدثين: فمنهم طائفة قصدوا إلى رواية الآثار المتعلقة بالآيات الكريمة سواء كان ذلك حديثاً مرفوعاً، أو مقطوعاً أو خبراً إسرائيلياً، وهذا طريق المحدثين. تفسير المتكلمين: طائفة تناولوا آيات الصفات وأسماء الله - تعالى - بالتأويل، فما لم يوافق منها - في ظاهرها - مذهب التنزيه. صرفوها عن ظاهرها، وردوا على تعلق المخالفين ببعض الآيات ونقضوا تمسكهم بها، وهذا هو منهج المتكلمين. تفسير الفقهاء الأصولين: وطائفة صرفت عنايتها إلى استنباط الأحكام الفقهية وترجيح بعض المجتهدات على بعض، والجواب على تمسك المخالفين بالأدلة الأخرى، وهذا طريق الفقهاء الأصوليين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 تفسير النحاة اللغويين: وطائفة اشتغلت ببيان لغة القرآن وإعرابه (وجمله ومفرداته) وأوردوا الشواهد الكثيرة من كلام العرب في كل باب من الأبواب، وهذا مذهب النحاة اللغويين. تفسير الأدباء البارعين: وتوجهت جماعة إلى إشباع الكلام في اللطائف والنكات من المعاني والبيان، وأوفوا الكلام حقه وجاؤوا بآيات البلاغة وروائع البيان، وهذا هو مسلك الأدباء البارعين. تفسير القراء الماهرين: واهتم بعضهم برواية القراءات المأثورة عن شيوخهم في القرآن الكريم، ولم يدعوا دقيقاً ولا جليلا في هذا الباب إلا جاؤوا به، وهذه هي صفة القراء الماهرين. تفسير الصوفية المتنسكين: واعتنى رجال ببيان لطائف علم السلوك وعلم الحقائق بأدنى مناسبة لغوية بالآيات الكريمة، وهذا هو مشرب الصوفية المتنسكين. وبالجملة فإنه مجال واسع، وقصد كل مسلم يتعلق بتفهيم معاني القرآن الكريم ومطالبه، وقد خاض كل منهم في فن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الفنون أو علم من العلوم، وتكلم على قدر قوته البيانية وفصاحته اللغوية، وراعى مذهب أصحابه واتخذه نصب عينه. ومن هنا اتسع مجال التفسير اتساعا لا يحد قدره بحد صحيح. واشتمل على كتاب لا يحصر عددها ولا يحصى. وقد توجهت طائفة من المفسرين إلى هذه المقاصد كلها في تفاسيرهم فمنهم من اختار اللغة العربية ومنهم من اختار اللغة الفارسية ونحا بعضهم نحو الاختصار، وأحب بعضهم التطويل والإطناب، ووسعوا أذيال العلم وفرعوا حواشيه. وقد أعطى هذا الفقير حظه من هذه العلوم والفنون كلها، وأحاط بمعظم أصولها وجملة صالحة من فروعها، وحاز على نوع من التحقيق والاستقلال في كل باب من أبوابها بوجه يشبه "الاجتهاد في المذهب" (على اصطلاح الأصوليين) وفنان آخران أو ثلاثة من فنون التفسير ألقيت في خاطري من بحر الجود الإلهي، فلو سألتني فأنا تلميذ القرآن العظيم بلا واسطة، كما أني أويسي الروح النبوية - على صاحبها ألف سلام وتحية - ومستفيد بلا واسطة من الكعبة الحسناء ومتأثر بدونها بالصلاة العظمى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ولو أن لي في كل منبت شعرة. . . لسالنا لما استوفيت واجب حمده ورأيت من اللازم أن أورد في هذه الرسالة كلمتين أو ثلاث عن كل فن من هذه الفنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الفصل الثاني في بيان الآثار المروية في تفاسير أصحاب الحديث من المفسرين وما يتعلق بها من مهمات قسمان من أسباب النزول: إن من الروايات والآثار المروية في كتب التفسير التي ألفها أصحاب الحديث من المفسرين، ما يشتمل على بيان أسباب النزول، وأسباب النزول تنقسم إلى قسمين: 1 - الأول أن يقع حادث يمحص به إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين كما وقع ذلك في غزوتي أحد والأحزاب، وينزل الله - تعالى - ما يمدح المؤمنين ويذم المنافقين ليكون خطاً فاصلا وفارقا مميزاً بين الفريقين، وتقع في أثناء ذكر القرآن الكريم هذا الحادث ووصف الفريقين، تعريضات كثيرة بخصوصيات الحادث ومتعلقاته، فلابد إذن أن تشرح قصة هذا الحادث بصورة مختصرة حتى يتضح للقارئ سياق الحادث وخلفياته. 2 - الثاني أن يكون معنى الآية مستقلا تماماً بعموم صيغتها من دون حاجة إلى معرفة تلك القصة، أو الإلمام بالحادث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الذي كان سبباً للنزول، "والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". وقد ينقل المتقدمون من المفسرين في مثل هذه المواضع أمثال هذه القصص والحوادث بغية استيعاب الآثار المناسبة الواردة حول تلك الآية، أو لبيان ما يصدق عليه العموم اللفظي من المعاني وليس من الضروري ذكر هذه القصص والحوادث كأسباب النزول (لأن فهم معنى الآية لا يتوقف عليها) . المراد بقولهم "نزلت الآية في كذا": وقد تحقق لدى الفقير أن الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين - كثيرا ما يقولون: "نزلت الآية في كذا" ولا يكون غرضهم إلا تصوير ما تصدق عليه الآية من الأحداث والمعاني، وذكر بعض القصص والوقائع التي تشملها الآية الكريمة لعموم لفظها، سواء كانت القصة متقدمة على نزول الآية أو متأخرة عنها، إسرائيلية كانت أو جاهلية، أو إسلامية تنطبق على جميع قيود الآية أو بعضها. والله أعلم. القسم الثاني من أسباب النزول أمر اجتهادي: وقد تبين من هنا أن للاجتهاد مدخلا في هذا القسم الثاني من أسباب النزول، وأنه يتسع لإيراد القصص المتعددة. فكل من يستحضر هذه النكتة، يستطيع أن يعالج اختلافات أسباب النزول بأدنى نظرة وتأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 تفصيل الإجمال في القصة: ومن هذه الآثار المروية في كتب التفسير ما يحتوي على تفصيل لإجمال القصة التي ورد التعريض بأصلها في النظم القرآني، فيتناول المفسرون تفصيلها من الروايات الإسرائيلية، أو كتب السير والتاريخ، ويتعرضون لجميع أجزائها وتفاصيلها. قسمان من هذا التفصيل: وهنا مبحث آخر وهو أنه إذا كانت الآية تشتمل على تعريض ظاهر بالقصة أو الحادث بحيث إن العارف باللغة يتوقف في ذلك الموضع ويلجأ إلى البحث عنه والإلمام به، فلابد للمفسر من بيانه، وهو من مسئولياته. ولكن الذي لا يدخل في هذا القسم - مثلا - هو ذكر "بقرة بني إسرائيل" فالتعرض لبيان أنها ذكرا كانت أو أنثى، أو بيان كلب أصحاب الكهف هل كان أبقع أو أحمر، كل ذلك من تكلف ما لا يعني، وقد كره الصحابة - رضي الله عنهم - ذلك وعدوه إضاعة الوقت واشتغالا بما لا يعني المسلم. أصلان لابد من مراعاتهما: وهنا ينبغي أن يحفظ أصلان ويهتم بمراعاتهما: 1 - الأول، هو أن الأصل المرعي في هذا الباب أن تورد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 القصص والأحداث المسموعة المأثورة، كما حكيت من غير تصرف عقلي فيها. موقف بعض قدماء المفسرين من التعريضات في الآيات: وقد كانت طائفة من قدماء المفسرين يضعون التعريضات الواردة في الآية نصب أعينهم، ويفترضون بعض المحامل المناسبة لها، ويصرحون بها في صورة الاحتمالات الممكنة، ويشتبه ذلك على المتأخرين فيقعون في شبهات واشكالات. ولما أن أساليب التوضيح لم تكن منقحة في ذلك العصر، لذلك كثيراً ما يشتبه التقرير بالاحتمال، بالتقرير بالجزم والقطع فيعتقدون أحدهما مكان الآخر، وهذا أمر اجتهادي فيه مجال لإعمال العقل، وركض لجياد القيل والقال. ومن حفظ هذه النكتة فإنه يستطيع أن يقول بالقول الفصل في كثير من مواضع الاختلاف بين المفسرين، وأن يعلم في كثير من مناظرات الصحابة - رضي الله عنهم - ومناقشاتهم، أنها ليست آراءهم القطعية المختمرة، بل إنما هي آراء علمية يتداولها المجتهدون فيما بينهم للبحث والنظر. معنى قول ابن عباس - رضي الله عنه - في مسح الأرجل: وعلى هذا المحمل يحمل المؤلف الفقير قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في الآية الكريمة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} "لا أجد في كتاب الله إلا المسح، لكنهم أبو إلا الغسل". فالذي يفهمه الفقير من قوله هذا، أنه ليس ذهابا منه إلى رأي صحة المسح على الأرجل والحزم بحمل الآية على ركنية - رضي الله عنهما - هو الغسل، ولكنه يقرر هنا إشكالا، ويبدي احتمالا، حتى يرى كيف يطبق فقهاء عصره بين هذين الأمرين المتعارضين، وما هو المنهج للدليل الذي يسلكونه. أما الذي لا يعرفون محاورات السلف ومناهج مناقشاتهم ومناظراتهم يظنون ذلك قولا لابن عباس - رضي الله عنهما - ومذهباً. حاشاه ثم حاشاه! 2 - والأصل الثاني أن النقل عن بني إسرائيل والروايات المحكية عنهم دست في ديننا، وقد تقررت لذلك قاعدة مهمة، ألا وهي قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم". مراعاة أمرين في الروايات الإسرائيلية: فلزم لأجل ذلك أمران: 1 - الأول أنه ما دام بيان التعريضات القرآنية وإشارته إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 القصص والحوادث موجوداً في السنة المشرفة - على صاحبها الصلاة والسلام - فلا ينبغي عندئذ معالجة النقل والرواية عن أهل الكتاب، كمثل ما ثبت في السنة الصحيحة عن قوله تعالى. {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} أن ذلك محمول على ترك سليمان - عليه السلام - لقول "إن شاء الله" وأن المؤاخذة كانت على ذلك، فكيف يصح أن نذكر قصة صخر المارد من الروايات الإسرائيلية. 2 - والأمر الثاني هو أن "الضروري يتقدر بقدر الضرورة" فلابد من ملاحظته، وإلقاء القول حسب مقتضى التعريض وضرورته حتى يمكن تصديقه بشهادة القرآن الكريم له، والكف عن الزيادة عليه. تفسير القرآن بالقرآن: وهنا نكتة دقيقة لابد من معرفتها، وهي أن القرآن الكريم أحيانا يذكر القصة في موضع بالإجمال، وفي موضع آخر بالتفصيل كقوله - تعالى -: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ثم قال: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} فهذا القول الثاني هو القول الأول نفسه بنوع نم التفصيل، فيتيسر بذلك تفسير هذا الإجمال، والتقدم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الإجمال نحو التفصيل، كذلك جاءت قصة عيسى - عليه السلام - مجملة في سورة مريم في قوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} وجاءت مفصلة في سورة آل عمران في قوله - تعالى -: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فقد جاءت في هذه الآية البشارة التفصيلية، وفي تلك الآية البشارة الإجمالية، ومن هنا استنبط العبد الضعيف أن معنى الآية وتقديره: "وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مخبراً بأني قد جئتكم". وهذا داخل في حيز البشارة، وليس بمتعلق بمحذوف كما أشار إليه السيوطي حيث قال: "فلما بعثه الله قال: إني رسول الله إليكم بأني قد جئتكم" والله أعلم. شرح غريب القرآن: من الأمور التي يشتمل عليها التفسير بالمأثور شرح غريب القرآن كذلك، ومبناه على تتبع لغة العرب أو على فهم سياق الآية ومعرفة مناسبة اللفظ بأجزاء الجملة التي وقع فيها. مدخل الاجتهاد في شرح الكلمة: وهنا للعقل مدخل وللاختلاف مجال، إذ أن الكلمة الواحدة تأتي في لغة العرب لمعان شتى، وتختلف العقول والمدارك في تتبع استعمالات العرب، والتفطن إلى السابق واللاحق. ولذلك اختلفت أقوال الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - في هذا الباب - وسلك كل منهم رأيا ومذهبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 لابد من نظرتين إلى الكلمة: ولابد للمفسر العادل أن ينظر إلى شرح الغريب نظرتين ويزنه وزنا علمياً مرتين، مرة في استعمالات العرب حتى يعرف أي وجه من وجوهها أقوى وأرجح، ومرة ثانية في مناسبة السابق واللاحق بعد إحكام مقدمات هذا العلم وتتبع موارد الاستعمال والفحص عن الآثار حتى يعلم أي صورة من صورها أولى وأنسب. وقد استنبط الفقير في هذا الباب استنباطات لطيفة جديدة، لا تخفي لطافتها ودقتها إلى على قليل الإنصاف غليظ الطبع، فمثلا، قوله - تعالى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} حملته على معنى تكافؤ القتلى وتساويهم، ومشاركتهم بعضهم مع بعض في حكم واحد، حتى لا يضطر في تفسير قوله - تعالى - {الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} إلى القول بالنسخ، ولا يحتاج إلى إيراد توجيهات، تضمحل وتسقط بأدنى نظرة وتفكير. وكذلك حملت قوله - تعالى -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} على يسألونك عن الأشهر، أي أشهر الحج. فقال: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . وهكذا قوله - عز وجل -: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} فالمراد به: لأول جمع الجنود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 لقوله - تعالى -: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} وقوله - تعالى -: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} إلخ. وهذا أوفق بقصة بني النضير، وأبلغ وأقوى في بيان المنة من الله القدير. الناسخ والمنسوخ: كذلك مما تشتمل عليه روايات المفسرين بيان الناسخ والمنسوخ وينبغي أن تعرف هنا نكتتان: 1 - النكتة الأولى: هي أن الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - لم يكونوا يستعملون "النسخ" بالمعنى الاصطلاحي المعروف بين الأصوليين، بل كانوا يريدون به المعنى اللغوي الذي هو عبارة عن "الإزالة" فمعنى النسخ إذن عندهم إزالة بعض أوصاف الآية المتقدمة بالآية المتأخرة، سواء كان بيانا لانتهاء مدة العمل بها أو صرفاً للكلام عن المعنى المتبادر أو بيان إقحام قيد من القيود، أو تخصيصاً للعموم، أو بيان الفارق بين المنصوص والمقيس عليه ظاهراً، وأمثال ذلك. وهذا باب واسع وللعقل فيه مجال، وللاختلاف فيه مساغ، ولهذا بلغت الآيات المنسوخة على هذا المعنى إلى خمس مائة آية. 2 - النكتة الثانية: هي أن الأصل في النسخ بالمعنى المصطلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 لدى الأصوليين معرفة تاريخ النزول، ولكنهم ربما يجعلون إجماع السلف الصالح أو اتفاق جمهور العلماء على شيء علامة للنسخ فيقولون به. وقد فعل كثير من الفقهاء ويمكن أن يكون في مثل هذه المواضع ما تصدق عليه الآية غير ما ينطبق عليه الاجماع. غموض في روايات الناسخ والمنسوخ: وبالجملة فإن الروايات والآثار التي تتحدث عن النسخ، وتنبئ عنه تحتوي على غمر عظيم، يصعب الوصول إلى عمقه وغوره. آثار متعلقة بأمور أخرى: ولأصحاب الحديث من المفسرين خارج هذه الأشياء أمور أخرى، يوردونها كذلك في تفاسيرهم، مثل: مناظرة الصحابة - رضي الله عنهم - في قضية في القضايا واستشهادهم بآية أو تمثيلهم لمسألة بآية من الآيات، أو تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - آية من الآيات الكريمة للاستشهاد أو رواية حديث يوافق الآية في أصل معناها. أو طريق التلفظ والقراءة لآية، أثرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أصحابه - رضي الله عنهم - أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الفصل الثالث في بقية لطائف هذا الباب استنباط الأحكام وأقسامه العشرة: ومما يبقى من لطائف هذا الباب وعلومه استنباط الأحكام الشرعية من الآيات القرآنية، وهو موضع واضع الأطراف، وللعقل مجال فسيح في الاطلاع على فحاوى الآيات وإيماءاتها واقتضاءاتها، والاختلاف فيها. وقد ألقى في روعى حصر أنواع هذه الاستنباطات في عشرة أقسام، والترتيب فيما بينها، وأرى أنها ميزان عادل لاختبار كثير من الأحكام المستنبطة ووزنها وزناً صحيحاً. التوجيه: فمن جملة هذه الأقسام العشرة، التوجيه، وهو فن كثير الشعب والأطراف، ويعالجه الشراح في شرح المتون، ويختبر به ذكاؤهم، ويتضح به تباين مراتبهم وتفاوت درجاتهم. كلام الصحابة في التوجيه: وقد تحدث الصحابة - رضي الله عنهم - بالرغم من أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 أصول التوجيه وضوابطه لم تكن منقحة واضحة في عصرهم - في توجيه الآيات القرآنية، وأكثروا منه. حقيقة التوجيه: وحقيقة التوجيه هي أنه إذا وقعت صعوبة في فهم كلام المؤلف - مثلا - فيقف الشارح عند ذلك، ييسر هذه الصعوبة ويحل كل غموض، ولما كانت عقول القراء للكتاب ومداركهم ليست في مرتبة واحدة، فلذلك يختلف التوجيه للمبتدئين عن التوجيه للمنتهين وكثير مما يصعب فهمه ويدق إدراكه يشعر به المنتهي، ويحتاج إلى حله، ويبقى المبتدئ في غفلة عنه. ولا يحس به، بل لا يستطيع أن يحيط به ويدركه حق إدراكه، وهنالك كثير من الكلام يستصعبه المبتدئ ولا يحصل في ذهن المنتهي شيء من الصعوبة. التوجيه في القرآن: ولما كان القرآن الكريم أحاط بجميع العقول البشرية وأطراف المدارك الإنسانية، فإنه قد راعى حال جمهور القراء، وتحدث على قدر عقولهم وأذهانهم. ففي آيات الجدل القرآني يقوم التوجيه على تحرير مذاهب تلك الفرق التي تحدث عنها القرآن وتنقيح وجوه الإلزام. وفي آيات الأحكام ينبني التوجيه على توضيح المسألة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وذكر صورها وأمثلتها وبيان فوائد القيود الواردة في الكلام من احتراز أو غير ذلك، ويكون التوجيه في باب التذكير بآلاء الله. بتصوير تلك النعم وتجسيدها، وبيان تفصيلاتها وجزئياتها. وفي التذكير بأيام الله، ببيان ترتب بعض الأحداث والوقائع على بعض وإيفاء حق التعريض الذي يرد أثناء سرد القصة والحادث. وعمدة التوجيه في التذكير بالموت وما بعده، تصوير أحداث ما بعد الموت ووصف الحالة التي يكون عليها الميت وما يلاقيها من نعم أو أهوال. أنواع أخرى من التوجيه: ومن فنون التوجيه وأنواعه: 1 - تقريب ما يصعب فهمه ويبعد عن الذهن لعدم الإلف والعادة. 2 - دفع التعارض بين دليلين أو تعريضين أو بين المعقول والمنقول. 3 - التفريق بين الملتبسين. 4 - التطبيق بين المختلفين. 5 - بيان صدق الوعد الذي وردت به الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 6 - بيان كيفية عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهيئته بما أمر به في القرآن العظيم. وبالجملة فإن أمثلة التوجيه كثيرة في تفسير الصحابة - رضي الله عنهم -. طريق التوجيه الصحيح: ولا يمكن أن يؤدي حق التوجيه للمواضع الصعبة. حتى يبين وجه الصعوبة وسببها وبياناً شافياً، ثم يفصل القول في حلها وتيسيرها، ثم يوزن ذلك القول وزنا عادلا. غلو المتكلمين: وأما غلو المتكلمين فيما يتعلق بتأويل المتشابهات، وبيان حقيقة صفات الله - عز وجل - فليس هذا من مذهبي، بل مذهبي مذهب مالك والثوري وابن المبارك وسائر المتقدمين، وهو إمرار المتشابهات على ظواهرها وترك الخوض في تأويلها. أما النزاع والجدل في الأحكام والآراء المستنبطة منها وإحكام كل فريق لمذهبه، وطرحه لمذهب غيره، والتحايل لدفع الأدلة القرآنية، فكل ذلك لا يجوز عندي، وأخشى أن يكون هذا من قبيل التدارؤ بالقرآن. يجب التمسك بمدلول الآية: ويجب على طالب علون القرآن أن يبحث في مدلول الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ويتمسك بما يظهر من دلالتها سواء خالف مذهبه أو وافقه. ويلزم أن يفهم لغة القرآن الكريم عن طريق استعمالات العرب الأولين وتعبيراتهم، وأن يعتمد - كلياً - على آثار الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم -. تدافع في نحو القرآن: وقد وقع خلل عجيب وتدافع في نحو القرآن الكريم، وهو أن طائفة من المفسرين اختاروا مذهب سيبويه، فيؤولون كل ما خالف مذهبه مهما كان التأويل بعيداً غير مستساغ، وهذا لا يصح عندي، بل يجب الأخذ بالأولى والأوفق بالسياق سواء وافق مذهب سيبويه أو مذهب الفراء. إعراب "المقيمين الصلاة": وقد قال عثمان - رضي الله عنه - في مثل قوله - تعالى - {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ستقيمها العرب بألسنتها. وتحقيق هذه الكلمة عندي أن ما يخالف التراكيب العامة للكلام، ويرد في كلام أهل اللغة الذين يحتج بهم فهو من التراكيب المقبولة الصحيحة، وكثيرا ما وقع للعرب الأولين أثناء خطبهم كلمات وتراكيب هي مخالفة للقواعد المعروفة في الفن (فهي من قبيل النادرة الاستعمال) . ولما أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب الأولين، فلا عجب إذا جاءت فيه الياء (لحالة النصب) مكان الواو (لحالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الرفع) أو وع المفرد مكان التثنية، أو ورد المؤنث مكان المذكر على طريق كلام العرب الأولين. وعلى هذا، الذي تحقق عندي في قوله - تعالى - {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} إنها في حالة الرفع، وينبغي أن يبين معناها حالة الرفع والله أعلم. علم المعاني والبيان: أما المعاني والبيان فإنه علم حادث بعد انقضاء عهد الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - فما يكون منه مفهوم في عرف جمهور العرب الأولين فهو على الرأس والعين، وأما الدقائق والأمور الفنية التي لا يدركها إلا المتعمقون في علم المعاني والبيان، فلا نسلم بأنها مطلوبة في فهم القرآن. إشارات الصوفية : وأما إشارات الصوفية واعتباراتهم، فإنها في حقيقة الأمر ليست من علم التفسير، بل الواقع أنه تمر حال استماع القرآن الكريم خواطر على قلب السالك وتتكشف له أشياء، تنشأ من تفكيره في النظم القرآني، أو الحالة التي يتصف بها، أو المعرفة التي يملكها (فهي أمور وجدانية ذوقية لا تفسير للآيات القرآنية) ومثال ذلك، أن يسمع عاشق متيم قصة ليلى ومجنون، فيتذكر عشيقته، ويستعيد الذكريات التي بينها وبينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الاعتبار والاستشهاد: وهنا فائدة مهمة ينبغي الاطلاع عليها، وهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اهتم بفن الاعتبار والاستشهاد، وسلك منهجه وطريقه ليكون سنة لعلماء أمته وفتحاً لباب العلوم الوهبية التي خصوا بها. من أمثلة ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - تمثل بقوله - تعالى - {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} في مسألة القدر، مع أن منطوق الآية هو أن كل من يعمل هذه الأعمال فسنجازيه بالجنة والنعيم المقيم، وكل من يعمل بضد هذه الأعمال، فسوف نعذبه ونصليه الجحيم، إلا أنه عن طريق الاعتبار يمكن أن يعلم به أن الله - عز وجل - خلق كل شخص لعمل وحالة، وهي الحالة التي تجري عليه ويسر لها من حيث يدري أو لا يدري، فمن هنا وبهذا الاعتبار كان لهذه الآية الكريمة ارتباط بقضية القدر. كذلك قوله - تعالى -: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} فالمعنى لهذه الآية الكريمة أن الله - عز وجل - عرف كل نفس بالبر والإثم والخير والشر، ولكن هناك شبها بين خلق الصورة العلمية للبر والإثم وبين خلق البر والإثم - إجمالا - في وقت نفخ الروح، فيمكن عن طريق الاعتبار أن يستشهد بهذه الآية الكريمة في مسألة القدر أيضا والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الفصل الرابع في غرائب القرآن الكريم تنوع غرائب القرآن: إن غرائب القرآن الكريم (أي السور والآيات التي ورد فيها فضل خاص، أو لها ميزة خاصة) التي جاء ذكرها في الأحاديث الشريفة بمزيد من الاهتمام وبيان الفضل تنقسم أقساما. غرائب التذكير بآلاء الله - تعالى -: فمن غرائب فن التذكير بآلاء الله - تعالى - تلك السور كآية الكرسي وسورة الإخلاص، وآخر سورة الحشر وأول سورة المؤمن. غرائب التذكير بأيام الله: ومن غرائب التذكير بأيام الله - تعالى - تلك الآيات الكريمة التي ترد فيها قصة نادرة، أو تذكر فيها قصة معلومة بجميع تفاصيلها وأجزائها، أو تأتي فيها قصة جلية الفوائد تكون مظنة اعتبارات كثيرة، لذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قصة موسى والخضر - عليهما السلام - " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 غرائب التذكير بالموت وما بعده: ومن غرائب فن التذكير بالموت وما بعده، تلك الآيات الكريمة التي تجمع أحوال القيامة مثلا، ولذا ورد في الحديث: "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين، فليقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} غرائب الأحكام: ومن غرائب علم الأحكام تلك الآيات الكريمة التي تشتمل على بيان الحدود وتعيين الأوضاع الخاصة كتعيين مائة جلدة في حد الزنا، وتعيين ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار لعدة المطلقة، وتعيين حصص المواريث إلخ. غرائب الجدل القرآني: ومن غرائب الجدل القرآني تلك الآيات الكريمة التي يرد فيها الجواب على طريقة غريبة بليغة، يقطع الشبه ويدحض الباطل بأبلغ الوجوه وأقوى الأساليب، أو يبين حال فريق من تلك الفرق بمثال حسي واضح، كقوله - تعالى -: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} أو يرد التصريح بشناعة عبادة الأصنام والأوثان، وبيان الفارق العظيم بين الخالق والمخلوق والمالك والمملوك بأمثلة عجيبة مؤثرة، أو يذكر حبط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الأعمال لأصحاب الرياء وطالبي السمعة بأبلغ الوجوه البيانية. غرائب أخرى: وليست الغرائب القرآنية مقصورة على هذه الأبواب المذكورة بل قد تكون الغرائب أحيانا من الوجهة البلاغية العالية، وجمال الأسلوب وأناقته مثل سورة الرحمن، ولذلك سميت في الحديث الشريف بعروس القرآن، وأحياناً أخرى من جهة التصوير للشقي والسعيد وتجسيد حالتيهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الفصل الخامس في - ظهر القرآن وبطنه - ورد في الحديث الشريف "أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن، ولكل حد مطلع". فينبغي أن يعلم أن ظهر هذه العلوم الخمسة هو ما يسمى بمدلول الكلام ومنطوقه. أما بطنه في باب التذكير بآلاء الله: فهو التفكير والتأمل في آلاء الله ونعمه وآيات قدرته، ومراقبته - عز شأنه - وبطن التذكير بأيام الله - تعالى -: معرفة مناط المدح والذم والثواب والعذاب من تلك القصص التي ترد فيه، والاتعاط بها وأخذ الدروس والعبر منها. وبطن التذكير بالجنة والنار ظهور الخوف والرجاء، واستحضارهما وتصورهما حتى كأنها رأى العين. وبطن آيات الأحكام: استنباط الأحكام الخفية الدقيقة بالفحاوى والإيماءات. وبطن الجدل القرآني مع الفرق الضالة الباطلة: الإطلاع على حقيقة تلك القبائح والفظائع التي وصفوا بها، وإلحاق نظائرها وأشباهها بها. وأما مطلع الظهر: فهو معرفة لغة العرب والآثار المتعلقة بعلم التفسير، ويراد بمطلع البطن: حدة الذهن ولطفه واستقامة الفهم وسداده، مع نور الباطن وسكينة القلب، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 في بعض العلوم الوهبية تأويل قصص الأنبياء: من العلوم في علم التفسير التي سبقت الإشارة إليها تأويل قصص الأنبياء - عليهم الصلوات والتسليمات - وقد ألف الفقير رسالة في هذا الموضوع أسماها "تأويل الأحاديث". والمراد بالتأويل هنا، أن كل قصة وقعت (وورد ذكرها في القرآن الكريم) كان لها مبدأ وأساس من صلاحية الرسول واستعداده، واستعداد قومه، حسب تدبير الله - عز وجل - الذي أراده - سبحانه - في حينه، ولعل هذا المعنى هو ما يشير إليه قوله - تعالى -: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 تنقيح العلوم القرآنية الخمسة: ومنها تنقيح العلوم الخمسة التي هي منطوق القرآن العظيم وقد جاء ذكرها مفصلا في أول هذا الكتاب فليرجع إليه. ترجمة القرآن بالفارسية: ومنها ترجمة القرآن الكريم باللغة الفارسية بوجه قريب من النص العربي في مقدار الكلمات والعبارات، والتخصيص والتعميم وغير ذلك، وسميت هذه الترجمة "بفتح الرحمان في ترجمة القرآن" وإن كنت لم التزم هذا الشرط في بعض المواضع خوفا من عدم فهم القارئ بدون تفصيل وتوضيح. خواص القرآن: ومنها علم خواص القرآن الكريم، وقد تكلمت طائفة من المتقدمين في خواص القرآن من ناحيتين: إحداهما ما يشبه الدعاء، والثانية ما يشبه السحر، أعوذ بالله منه، ولكن الله - تعالى - فتح على الفقير بابا وراء ما نقل من خواص القرآن وألقى في حجري الأسماء الحسنى الآيات العظمى والأدعية المباركة مرة واحدة، وقال إنها عطاؤنا للتصريف، إلا أن كل آية واسم ودعاء مشروط بشروط لا تضبطها قاعدة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 القواعد، بل قاعدتها انتظار عالم الغيب، كما يكون في حالة الاستخارة، حتى ينظر بأي آية أو اسم يشار عليه من عالم الغيب ثم يتلو الآية أو الاسم على طريق من الطرائق المعلومة لدى أهل هذا الفن. هذا ما قصدت إيراده في هذه الرسالة. والحمد لله أولا وآخراً وظاهراً وباطناً، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201