الكتاب: الرسالة القشيرية المؤلف: عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفى: 465هـ) تحقيق: الإمام الدكتور عبد الحليم محمود، الدكتور محمود بن الشريف الناشر: دار المعارف، القاهرة عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الرسالة القشيرية القشيري، عبد الكريم الكتاب: الرسالة القشيرية المؤلف: عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفى: 465هـ) تحقيق: الإمام الدكتور عبد الحليم محمود، الدكتور محمود بن الشريف الناشر: دار المعارف، القاهرة عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي تفرد بجلال ملكوته، وتوحد بجمال جبروته وتعزز بعلو أحديته، وتقدس بسمو صمديته، وتكبر في ذاته عن مضارعة كل نظير، وتنزه في صفائه عن كل تناه وقصور، له الصفات المختصة بحقه، واليات الناطقة بأنه غير مشبه بخلقه. فسبحانه من عزيز، لا حد يناله، ولا عد يحتاله، ولا أمد يحصره، ولا أحد ينصره، ولا ولد يشفعه، ولا عدد يجمع، ولا مكان يمسكه، ولا زمان يدركه، ولا فهم يقدره، ولا وهم يصوره. تعالى عن أن يقال: كيف هو؟ أو أين هو؟ أو اكتسب بصنعه الزين، أو دفع بفعله النقص والشين؛ إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولا يغلبه حي، وهو الخبير القدير. أحمده على ما يولى ويصنع، وأشكره على ما يزوى ويدفع، وأتوكل عليه وأقنع، وأرضى بما يعطي ويمنع. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة موقن بتوحيده، مستجير بحسن تأييده. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده المصطفى، وأمينه المجتبي ورسوله المبعوث إلى كافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الورى صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الدجى، وعلى أصحابه مفاتيح الهدى، وسمل تسليماً كثيراً. هذه رسالة كتبها الفقير إلى الله تعالى عبد الكريم بن هوازن القشيري، إلى جماعة الصوفية ببلدان الإسلام، في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. أما بعد: رضي الله عنكم فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده، بعد رسله وأنبيائه، صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره. فهم الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق. صفاهم من كدورات البشرية، ورقاهم إلى محال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية. ووفقهم للقيام بآداب العبودية، وأشهد مجارى أحكام الربوبية. فقاموا بأداء ما عليهم من واجبات تكليف، وتحققوا بما منه سبحانه لهم من التقليب والتصريف. ثم رجعوا إلى الله، سبحانه وتعالى، بصدق الافتقار، ونعت الانكسار، ولم يتكلوا على ما حصل منهم من الأعمال، أو صفا لهم من الأحوال. علماً منهم بأنه جل وعلا يفعل ما يريد، ويختار من يشاء من العبيد. لا يحكم عليه خلق. ولا يتوجه عليه مخلوق حق، ثوابه: إبتداء فضل. وعذابه: حكم بعدل. وأمره قضاء فصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ثم اعلموا، رحمكم الله، أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا من هذه الطائفة إلا أثرهم، كما قيل: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها حصلت الفترة في هذه الطريقة..، لا، بل إندرست الطريقة بالحقيقة: مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطوى بساطه، واشتد الطمع وقوى رباطه. وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام. ودانوا بترك الإحترام. وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات وركنوا إلى انباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة، والنسوان، وأصحاب السلطان. ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحروا من رق الأغلال وتحققوا بحقائق الوصال وأنهم قائمون بالحق، تجري عليهم أحكامه، وهم محو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكامه للبشرية. وبقوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا، والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا، بل صرفوا. ولما طال الابتلاء فيما نحن ف يه من الزمان بما لوحت ببعضه من هذه القصة وكنت لا أبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار، غبرة على هذه الطريقة أن يذكر أهلها بسوء، أو بجد مخالف لثلبهم مساغاً، إذ البلوى في هذه الديار بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين لعيها شديدة. ولما كنت أؤمل من مادة هذه الفترة أن تنحسم، ولعل الله سبحانه يجود بلطفه في التنيه لمن حاد عن السنة المثلى في تضييع آداب هذه الطريقة. ولما أبى الوقت إلا استصعاباً. وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تمادياً فيما اعتادوه واغتراراً بما ارتادوه. أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده. وعلى هذا النحو سار سلفه. فعلقت هذه الرسالة إليكم، أكرمكم الله. وذكرت فيها بعض سير شيوخ هذه الطريقة في آدابهم، وأخلاقهم، ومعاملاتهم، وعقائدهم بقلوبهم، وما أشاروا إليه من مواجيدهم، وكيفية ترقيهم من بدايتهم إلى نهايتهم؛ لتكون لمريدي هذه الطريقة قوة، ومنكم لي بتصحيح شهادة، ولي في نشر هذه الشكوى سلوة، ومن الكريم فضلاً ومثوبة وأستعين بالله سبحانه فيما أذكره؛ وأستكفيه؛ وأستعصمه من الخط فيه، وأستغفره وأستعينه. وهو بالفضل جدير، وعلى ما يشاء قدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فصل: فِي بيان اعتقاد هذه الطائفة فِي مسائل الأصول اعلموا رحمكم اللَّه أَن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم عَلَى أصول صحيحة فِي التوحيد صانوا بِهَا عقائدهم عَنِ البدع , ودانوا بِمَا وجدوا عَلَيْهِ السلف وأهل السنة من توحيد لَيْسَ فِيهِ تمثيل ولا تعطيل وعرفوا مَا هُوَ حق القدم، وتحققوا بِمَا هُوَ نعت الموجود عَنِ العدم، ولذلك قَالَ سيد هذه الطريقة الجنيد رحمه اللَّه: التوحيد إفراد القدم من الحدث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وأحكموا أصول العقائد بواضح الدلائل , ولائح الشواهد , كَمَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد الحريري رحمه اللَّه: من لَمْ يقف عَلَى علم التوحيد بشاهد من شواهده , زلت بِهِ قدم الغرور فِي مهواة من التلف. يريد بِذَلِكَ أَن من ركن إِلَى التقليد , وَلَمْ يتأمل دلائل التوحيد سقط عَن سنن النجاة، ووقع فِي أسر الهلاك، ومن تأمل ألفاظهم , وتصفح كلامهم وجد فِي مجموع أقاويلهم ومتفرقاتها مَا يثق بتأمله بأن الْقَوْم لَمْ يقصروا فِي التحقيق عَن شأو , وَلَمْ يعرجوا فِي الطلب عَلَى تقصير. ونحن نذكر فِي هَذَا الفصل جملا من متفرقات كلامهم فيما يتعلق بمسائل الأصول، ثُمَّ نحرر عَلَى الترتيب بعدها مَا يشتمل عَلَى مَا يحتاج إِلَيْهِ فِي الاعتقاد عَلَى وجه الإيجاز والاختصار إِن شاء اللَّه تَعَالَى. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُوسَى السلامي , يَقُول: سمعت أبا بَكْر الشبلي يَقُول: الْوَاحِد المعروف قبل الحدود وقبل الحروف، وَهَذَا صريح من الشبلي أَن القديم سبحانه لا حد لذاته , ولا حروف لكلامه. سمعت أبا حاتم الصوفي , يَقُول: سمعت أبا نصر الطوسي , يَقُول: سئل رويم عَن أول فرض افترضه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خلقه مَا هُوَ؟ فَقَالَ المعرفة لقوله جل ذكره: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] قَالَ ابْن عَبَّاس: إلا ليعرفون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَقَالَ الجنيد: إِن أول مَا يحتاج إِلَيْهِ العبد من عقد الحكمة معرفة المصنوع صانعه والمحدث كَيْفَ كَانَ إحداثه، فيعرف صفة الخالق من المخلوق، وصفة القديم من المحدث، ويذل لدعوته , ويعترف بوجوب طاعته، فَإِن لَمْ يعرف مالكه لَمْ يعترف بالملك لمن استوجبه. أخبرني مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرازي , يَقُول: سمعت أبا الطيب المراغي , يَقُول: للعقل دلالة، وللحكمة إشارة وللمعرفة شهادة، فالعقل يدل، والحكمة تشير، والمعرفة تشهد أَن صفاء العبادات لا ينال إلا بصفاء التوحيد. وسئل الجنيد عَنِ التوحيد فَقَالَ: إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته أَنَّهُ الْوَاحِد الَّذِي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] بنفي الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه , ولا تكييف , ولا تصوير , ولا تمثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن يَحْيَي الصوفي , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَلِيّ التميمي الصوفي , يحكي عَنِ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ الدامغاني , قَالَ: سئل أَبُو بَكْر الزاهر أبادي عَنِ المعرفة فَقَالَ: المعرفة: اسم , ومعناه وجود تعظيم فِي القلب يمنعك عَنِ التعطيل والتشبيه. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ البوشنجي رحمه اللَّه: التوحيد أَن تعلم أَنَّهُ غَيْر مشبه للذوات ولا منفي الصفات. أَخْبَرَنَا الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه تعالي , قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن غالب , قَالَ: سمعت أبا نصر أَحْمَد بْن سَعِيد الإسفنجاني , يَقُول: قَالَ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور: ألزم الكل الحدث، لأن القدم لَهُ فالذي بالجسم ظهوره فالعرض يلزمه والذي بالأداة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 اجتماعه فقواها تمسكه، والذي يؤلفه وقت يفرقه وقت، والذي يقيمه غيره فالضرورة تمسه، والذي الوهم يظفر بِهِ فالتصوير يرتقي إِلَيْهِ، ومن آواه محل أدركه أين , ومن كَانَ لَهُ جنس طالبه مكيف , أَنَّهُ سبحانه لا يظله فَوْقَ , ولا يقله تَحْتَ , ولا يقابله حد , ولا يزاحمه عِنْدَ، ولا يأخذه خلف , ولا يحده أمام , وَلَمْ يظهره قبل , وَلَمْ ينفه بَعْد، وَلَمْ يجمعه كُل، وَلَمْ يوجده كَانَ , وَلَمْ يفقده لَيْسَ، وصفه لا صفة لَهُ , وفعله لا علة لَهُ، وكونه لا أمد لَهُ، تنزه عَن أحوال خلقه , لَيْسَ لَهُ من خلقه مزاج , ولا فِي فعله علاج، باينهم بقدمه كَمَا باينوه بحدوثهم , إِن قُلْت: مَتَى فَقَدْ سبق الوقت كونه , وإن قُلْت: هُوَ فالهاء والواو خلقه، وإن قُلْت: أين فَقَدْ تقدم المكان وجوده , فالحروف آياته , ووجوده إثباته , ومعرفته توحيده , وتوحيده تمييزه من خلقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 , مَا تصور فِي الأوهام فَهُوَ بخلافه , كَيْفَ يحل بِهِ مَا منه بدأ، أَوْ يعود إِلَيْهِ مَا هُوَ أنشاه , لا تماقله العيون , ولا تقابله الظنون، قربه كرامته , وبعده إهانته، علوه من غَيْر توقل , ومجيئه من غَيْر تنقل، هُوَ الأَوَّل والآخر والظاهر والباطن , القريب البعيد الَّذِي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر الطوسي السراج , يحكي عَن يُوسُف بْن الْحُسَيْن , قَالَ: قام رجل بَيْنَ يدي ذي النون الْمِصْرِي , فَقَالَ: أخبرني عَنِ التوحيد مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ أَن تعلم أَن قدرة اللَّه تعالي فِي الأشياء بلا مزاج , وصنعه للأشياء بلا علاج , وعلة كُل شَيْء صنعه , ولا علة لصنعه، وليس فِي السموات العلا ولا فِي الأرضين السفلي مدير غَيْر اللَّه، وكل مَا تصور فِي وهمك فالله بخلاف ذَلِكَ. وَقَالَ الجنيد: التوحيد علمك وإقرارك بأن اللَّه فرد فِي أزليته لا ثاني مَعَهُ , ولا شيء يفعل فعله. وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف: الإيمان تصديق القلوب بِمَا علمه الحق من الغيوب وَقَالَ أَبُو عَبَّاس السياري: عطاؤه عَلَى نوعين: كرامة , واستدراج , فَمَا أبقاه عليك فَهُوَ كرامة، وَمَا أزاله عَنْك فَهُوَ استدراج , فقل: أنا مؤمن إِن شاء اللَّه تعالي وأبو الْعَبَّاس السياري كَانَ شيخ وقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: غمز رَجُل رِجْل أَبِي الْعَبَّاس السياري فَقَالَ: تغمز رِجْلا مَا نقلتها قط فِي معصية اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَبُو بَكْر الواسطي من قَالَ: أنا مؤمن بالله حقا قيل لَهُ: الحقيقة تشير عَلَى إشراف واطلاع وإحاطة , فمن فقده بطل دعواه فِيهَا يريد بِذَلِكَ مَا قاله أهل السنة إِن المؤمن الحقيقي من كَانَ محكوما بالجنة فمن لَمْ يعلم ذَلِكَ من سر حكمة اللَّه تعالي فدعواه بأنه مؤمن حقا غَيْر صحيح. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن العنبري يَقُول: سمعت سهل بْن عَبْد اللَّهِ التستري يَقُول: ينظر إِلَيْهِ تعالى المؤمنون بالأبصار من غَيْر إحاطة ولا إدراك نهاية. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ النوري: شاهد الحق القلوب فلم ير قلبا أشوق إِلَيْهِ من قلب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة. سمعت الإِمَام أبا بَكْر مُحَمَّد ابْن الْحَسَن بْن فورك رحمه اللَّه تعالي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن المحبوب خادم أَبِي عُثْمَان المغربي يَقُول: قَالَ لي أَبُو عُثْمَان المغربي يوما: يا مُحَمَّد لو قَالَ لَك أحد أين معبودك إيش تقول؟ قَالَ: قُلْت: أقول حيث لَمْ يزل قَالَ: فَإِن قَالَ أين كَانَ فِي الأزل إيش تقول؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قَالَ: قُلْت: أقول حيث هُوَ الآن يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا كَانَ ولا مكان فَهُوَ الآن كَمَا كَانَ قَالَ: فارتضى مني ذَلِكَ ونزع قميصه وأعطانيه. وسمعت الإِمَام أبا بَكْر بْن فورك رحمه اللَّه تعالي يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول: كنت أعتقد شَيْئًا من حَدِيث الجهة فلما قدمت بغداد زال ذَلِكَ عَن قلبي فكتبت إِلَى أَصْحَابنا بمكة إني أسلمت الآن إسلاما جديدا. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول وَقَدْ سئل عَنِ الخلق فَقَالَ: قوالب وأشباح تجري عَلَيْهِم أحكام القدرة. وَقَالَ الواسطي: لما كانت الأرواح والأجساد قامتا بالله وظهرتا بِهِ لا بذواتها كَذَلِكَ قامت الخطوات والحركات بالله لا بذواتها، إذ الحركات والخطرات فروع الأجساد والأرواح صرح بِهَذَا الْكَلام أَن أكساب الْعِبَاد مخلوقة لِلَّهِ تعالي، وكما أَنَّهُ لا خالق للجواهر إلا اللَّه تعالي فَكَذَلِكَ لا خالق للأعراض إلا اللَّه تعالي. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الصيدلاني يَقُول: سمعت أبا سَعِيد الخراز يَقُول: من ظن أَنَّهُ يبذل الجهد يصل إِلَى مطلوبه فمتعن، ومن ظن أَنَّهُ بغير الجهد يصل فمتمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وَقَالَ الواسطي: المقامات أقسام قسمت , ونعوت أجريت , كَيْفَ تستجلب بحركات أَوْ تنال بسعايات. وسئل الواسطي عَنِ الكفر بالله أَوْ لِلَّهِ فَقَالَ: الكفر والإيمان والدنيا والآخرة من اللَّه , وإلى اللَّه , وبالله , وَلِلَّهِ , من اللَّه ابتداء وإنشاء , وإلى اللَّه مرجعا وانتهاء , وبالله بقاء وفناء وَلِلَّهِ ملكا وخلقا. وَقَالَ الجنيد: سئل بَعْض الْعُلَمَاء عَنِ التوحيد فَقَالَ: هُوَ اليقين، فَقَالَ السائل: بَيْنَ لي مَا هُوَ فَقَالَ: هُوَ معرفتك أَن حركات الخلق وسكونهم فعل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وحده لا شريك لَهُ فَإِذَا فعلت ذَلِكَ فَقَدْ وحدته. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت القاسم بْن القاسم يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن موسي الواسطي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الجوهري يَقُول: سمعت ذا النون المصري يَقُول: وَقَدْ جاءه رجل فَقَالَ: ادع اللَّه لي فَقَالَ: إِن كنت قَدْ أيدت فِي علم الغيب بصدق التوحيد فكم من دعوة مجابة قَدْ سبقت لَك وإلا فَإِن النداء لا ينقذ الغرقي. وَقَالَ الواسطي: ادعى فرعون الربوبية عَلَى الكشف وادعت المعتزلة عَلَى الستر تقول: مَا شئت فعلت. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن النوري: التوحيد كُل خاطر بشير إِلَى اللَّه تعالي بَعْد أَن لا تزاحمه خواطر التشبيه. وَأَخْبَرَنَا الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه تعالي قَالَ: سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 بَكْر يَقُول: سمعت هلال بْن أَحْمَد يَقُول: سئل أَبُو عَلِي الروذباري عَنِ التوحيد فَقَالَ: التوحيد استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل وإنكار التشبيه والتوحيد فِي كلمة واحدة كُل مَا صوره الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه لقوله تعالي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَقَالَ أَبُو القاسم النصرأباذي: الْجَنَّة باقية بإبقائه، وذكره لَك ورحمته ومحبته لَك باق ببقائه فشتان بَيْنَ مَا هُوَ باق ببقائه وبين مَا هُوَ باق بإبقائه، وَهَذَا الَّذِي قاله الشيخ أَبُو القاسم النصرأباذي هُوَ غاية التحقيق فَإِن أهل الحق قَالُوا: صفات ذَات القديم سبحانه باقيات ببقائه تعالي، فنبه عَلَى هذه المسالة وبين أَن الباقي باق ببقائه بخلاف مَا قاله مخالفوا أهل الحق فخالفوا الحق. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن قَالَ: سمعت النصرأباذي يَقُول: أَنْتَ متردد بَيْنَ صفات الفعل وصفات الذات وكلاهما صفته تعالي عَلَى الحقيقة فَإِذَا هيمك فِي مقام التفرقة قرنك بصفات فعله، وإذا بلغت إِلَى مقام الجمع قرنك بصفات ذاته. وأبو القاسم النصرأباذي كَانَ شيخ وقته. سمعت الأستاذ الإِمَام أبا إِسْحَاق الإِسْفِرَايِنِيّ رحمه اللَّه يَقُول: لما قدمت من بغداد كنت أدرس فِي جامع نيسابور مسألة الروح وأشرح القول فِي أَنَّهَا مخلوقة وَكَانَ أَبُو القاسم النصرأباذي قاعدا متباعدا عنا يصغي إِلَى كلامي فاجتاز بنا بَعْد ذَلِكَ يوما بأيام قلائل، فَقَالَ: لمحمد الفراء: أشهد أني أسلمت جديدا عَلَى يد هَذَا الرجل وأشار إلي. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن السلمي يَقُول: سمعت أبا حسين الفارسي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن فاتك يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: مَتَى يتصل من لا شبيه لَهُ ولا نظير لَهُ بمن لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 شبيه ونظير هيهات هَذَا ظن عجب إلا بِمَا لطف اللطيف من حيث لا دراك ولا وَهُمْ ولا إحاطة إلا إشارة اليقين وتحقيق الإيمان. وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه تعالي قَالَ: سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن بَكْر يَقُول: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَلِي البردعي قَالَ: حَدَّثَنَا طاهر بْن إِسْمَاعِيل الرازي قَالَ: قيل ليحيى بْن معاذ: أخبرني عَنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: اللَّه واحد. فقيل لَهُ: كَيْفَ هُوَ؟ فَقَالَ: ملك قادر. فقيل: أين هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ بالمرصاد. فَقَالَ السائل: لَمْ أسألك عَن هَذَا. فَقَالَ: مَا كَانَ غَيْر هَذَا كَانَ صفة المخلوق فأما صفته فَمَا أخبرتك عَنْهُ. وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن قَالَ: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول: كُل مَا توهمه متوهم بالجهل أَنَّهُ كَذَلِكَ فالعقل يدل عَلَى أَنَّهُ بخلافه. وسأل ابْن شاهين الجنيد عَن معني مَعَ فَقَالَ: مَعَ عَلَى معنيين: مَعَ الأنبياء بالنصرة والكلاءة قَالَ اللَّه تعالي: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] ومع العامة بالعلم والإحاطة قَالَ اللَّه تَعَالَى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] فَقَالَ: ابْن شاهين: مثلك يصلح أَن يَكُون دالا للأمة عَلَى اللَّه. وسئل ذو النون الْمِصْرِي عَن قَوْله تعالي: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فَقَالَ: أثبت ذاته ونفي مكانه فَهُوَ موجود بذاته والأشياء موجودة بحكمة كَمَا شاء سبحانه. وسئل الشبلي عَن قَوْله تعالي: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فَقَالَ: الرحمن لَمْ يزل والعرش محدث والعرش بالرحمن استوى. وسئل جَعْفَر بْن نصير عَن قَوْله تعالي: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فَقَالَ: استوى علمه بكل شيء فليس شَيْء أقرب إِلَيْهِ من شَيْء. وَقَالَ جَعْفَر الصادق: من زعم أَن اللَّه فِي شَيْء أَوْ من شَيْء أَوْ عَلَى شَيْء فَقَدْ أشرك إذ لو كَانَ عَلَى شَيْء لكان محمولا ولو كَانَ فِي شَيْء لكان محصورا ولو كَانَ من شَيْء لكان محدثا. وَقَالَ جَعْفَر الصادق أيضًا فِي قَوْله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] من توهم أَنَّهُ بنفسه دنا جعل ثُمَّ مسافة، إِنَّمَا التداني أَنَّهُ كلما قرب منه بعده عَن أنواع المعارف إذ لا دنو ولا بَعْد. ورأيت بخط الأستاذ أَبِي عَلِيّ أَنَّهُ قيل لصوفي أين اللَّه؟ فَقَالَ: أسحقك اللَّه تطلب مَعَ العين أين؟ أَخْبَرَنَا الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: سمعت أبا الْعَبَّاس بْن الخشاب البغدادي يَقُول: سمعت أبا القاسم بْن موسي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت الأَنْصَارِي يَقُول: سمعت الحراز يَقُول: حقيقة القرب فَقَدْ حس الأشياء من القلب وهدو الضمير إِلَى اللَّه تعالي. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِيّ الحافظ يَقُول: سمعت أبا معاذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 القزويني يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الدلال يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن فهرمان يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم الخواص يَقُول: انتهيت إِلَى رجل وَقَدْ صرعه الشَّيْطَان فجعلت أؤذن فِي أذنه فناداني الشَّيْطَان من جوفه دعني أقتله فَإِنَّهُ يَقُول: الْقُرْآن مخلوق. وَقَالَ ابْن عَطَاء: إِن اللَّه تعالي لما خلق الأحرف جعلها سرا لَهُ فلما خلق آدم عَلَيْهِ السَّلام بث فِيهِ ذَلِكَ السر وَلَمْ يبث ذَلِكَ السر فِي أحد من ملائكته، فجرت الأحرف عَلَى لسان آدم عَلَيْهِ السَّلام بفنون الجريان وفنون اللغات فجعلها اللَّه صورا لَهَا صرح ابْن عَطَاء القول بأن الحروف مخلوقة. وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: إِن الحرف لسان فعل لا لسان ذَات، لأنها فعل فِي مفعول. قَالَ: وَهَذَا أَيْضًا تصريح بأن الحروف مخلوقة. وَقَالَ الجنيد: فِي جوابات مسائل الشاميين: التوكل عمل القلب والتوحيد قَوْل القلب قَالَ: هَذَا قَوْل أهل الأصول إِن الْكَلام هُوَ المعني الَّذِي قام بالقلب من معني الأمر والنهي والخبر والاستخبار. وَقَالَ الجنيد: فِي جوابات مسائل الشاميين أَيْضًا: تفرد الحق بعلم الغيوب فعلم مَا كَانَ وَمَا يَكُون وَمَا لا يَكُون أَن لو كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُون. وَقَالَ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور: من عرف الحقيقة فِي التوحيد سقط عَنْهُ لَمْ وكيف. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن قَالَ: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد يَقُول: قَالَ الجنيد: أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مَعَ الفكرة فِي ميدان التوحيد. وَقَالَ الواسطي: مَا أحدث اللَّه شَيْئًا أكرم من الروح صرح بأن الروح مخلوقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قَالَ الأستاذ الإِمَام زين الإِسْلام أَبُو القاسم رحمه اللَّه: دلت هذه الحكايات عَلَى أَن عقائد مشايخ الصوفية توافق أقاويل أهل الحق مسائل الأصول، وَقَد اقتصرنا عَلَى هَذَا المقدار خشية خروجنا عما أثرناه من الإيجاز والاختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فصل: قَالَ الأستاذ زين الإِسْلام أَبُو القاسم أدام اللَّه عزه: وَهَذَهِ فصول تشتمل عَلَى بيان عقائدهم فِي مسائل التوحيد ذكرناها عَلَى وجه الترتيب قَالَ شيوخ هذه الطريقة عَلَى مَا يدل عَلَيْهِ متفرقات كلامهم ومجموعاتها ومصنفاتهم فِي التوحيد: أَن الحق سبحانه وتعالي موجود قديم واحد حَكِيم قادر عليم قاهر رحيم مريد سميع مجيد رفيع متكلم بصير متكبر قدير حي أحد باق صمد، وأنه عالم بعلم , قادر بقدرة , مريد بإرادة , سميع بسمع , بصير ببصر , متكلم بكلام , حي بحياة , باق ببقاء , وَلَهُ يدان هما صفتان يخلق بهما مَا يشاء سبحانه عَلَى التخصيص، وَلَهُ الوجه الجميل وصفات ذاته مختصة بذاته، لا يقال هِيَ وَهُوَ ولا هِيَ أغيار لَهُ بَل هِيَ صفات لَهُ أزلية ونعوت سرمدية، وأنه أحدي الذات لَيْسَ يشبهه شَيْئًا من المصنوعات ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يشبهه شَيْء من المخلوقات، لَيْسَ بجسم , ولا جوهر , ولا عرض , ولا صفاته أعراض، ولا يتصور فِي الأوهام ولا يتقدر فِي العقول، ولا لَهُ جهة ولا مكان ولا يجري عَلَيْهِ وقت وزمان، ولا يَجُوز فِي وصفه زيادة ولا نقصان، ولا يخصه هيئة وَقَدْ، ولا يقطعه نهاية وحد، ولا يحله حادث ولا يحمله عَلَى الفعل باعث، ولا يَجُوز عَلَيْهِ لون ولا كون ولا ينصره مدد ولا عون، ولا يخرج عَن قدرته مقدور ولا ينفك عَن حكمه مفطور، ولا يعذب عَن علمه معلوم ولا هُوَ عَلَى فعله كَيْفَ يصنع وَمَا يصنع ملوم، لا يقال لَهُ أين ولا حيث ولا كَيْفَ ولا يستفتح لَهُ وجود فيقال: مَتَى كَانَ ولا ينتهي لَهُ بقاء فيقال: استوفي الأجل والزمان، ولا يقال: لَمْ فعل مَا فعل إذ لا علة لأفعاله، ولا يقال: مَا هُوَ إذ لا جنس لَهُ فيتميز بأمارة عَن أشكاله، يرى لا عَن مقابلة ويرى غيره لا عَن مماقلة، ويصنع لا عَن مباشرة ومزاولة، لَهُ الأسماء الحسني والصفات العلا يفعل مَا يريد ويذل لحكمه العبيد، لا يجري فِي سلطانه إلا مَا يشاء , ولا يحصل فِي ملكه غَيْر مَا سبق بِهِ الْقَضَاء، مَا علم أَنَّهُ يَكُون من الحادثات أراد أَن يَكُون وَمَا علم أَنَّهُ لا يَكُون مِمَّا جاز أَن يَكُون أراد أَن لا يَكُون، خالق أكساب الْعِبَاد خيرها وشرها , مبدع مَا فِي العالم من الأعيان والآثار قلها وكثرها ومرسل الرسل إِلَى الأمم من غَيْر وجوب عَلَيْهِ، ومتعبد الأنام عَلَى لسان الأنبياء عَلَيْهِم الصلاة والسلام بِمَا لا سبيل لأحد باللوم والاعتراض عَلَيْهِ، ومؤيد نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعجزات الظاهرة والآيات الزاهرة بِمَا أزاح بِهِ العذر وأوضح بِهِ اليقين والنكر وحافظ بيضة الإِسْلام بَعْد وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلفائه الراشدين ثُمَّ حارس الحق وناصره بِمَا يوضحه من حجج الدين عَلَى ألسنة أوليائه عصم الأمة الحنيفية عَنِ الاجتماع عَلَى الضلالة وحسم مادة الباطل بِمَا نصب من الدلالة وأنجز مَا وعد من نصرة الدين بقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] فَهَذِهِ فصول تشير إِلَى أصول المشايخ عَلَى وجه الإيجاز وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بَاب فِي ذكر مشايخ هذه الطريقة وَمَا يدل من سيرهم وأقوالهم عَلَى تعظيم الشريعة اعلموا رحمكم اللَّه تَعَالَى أَن الْمُسْلِمِينَ بَعْد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يتسم أفاضلهم فِي عصرهم بتسمية علم سِوَى صحبة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ لا فضيلة فوقها , فقيل لَهُمْ: الصَّحَابَة , ولما أدركهم أهل العصر الثَّانِي سمى من صحب الصَّحَابَة التابعين , ورأوا ذَلِكَ أشرف سمة ثُمَّ قيل لمن بعدهم أتباع التابعين ثُمَّ أختلف النَّاس وتباينت المراتب , فقيل لخواص النَّاس مِمَّن لَهُمْ شدة عناية بأمر الدين: الزهاد والعباد ثُمَّ ظهرت البدع وحصل التداعي بَيْنَ الفرق فَكُل فريق أدعوا أَن فيهم زهدا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مَعَ اللَّه تعالي الحافظون قلوبهم عَن طوارق الغفلة باسم التصوف واشتهر هَذَا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة. ونحن نذكر فِي هَذَا الباب أسامي جَمَاعَة من شيوخ هذه الطريقة من الطبقة الأولى إِلَى وقت المتأخرين مِنْهُم , وتذكر جملا من سيرهم وأقاويلهم بِمَا يَكُون فِيهِ تنبيه عَلَى أصولهم وآدابهم إِن شاء اللَّه تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فمنهم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن أدهم بْن مَنْصُور من كورة بلخ رَضِيَ اللَّهُ تعالي عَنْهُ كَانَ من أبناء الملوك فخرج يوما متصيدا فأثار ثعلبا أَوْ أرنبا وَهُوَ فِي طلبه فهتف بِهِ هاتف: يا إِبْرَاهِيم , ألهذا خلقت أم بِهَذَا أمرت؟ ثُمَّ هتف بِهِ أَيْضًا من قربوس سرجه والله مَا لِهَذَا خلقت ولا بِهَذَا أمرت، فنزل عَن دابته وصادف راعيا لأبيه فأخذ جبة للراعي من صوف ولبسها وأعطاه فرسه وَمَا مَعَهُ، ثُمَّ إنه دَخَلَ البادية ثُمَّ دَخَلَ مَكَّة وصحب بِهَا سُفْيَان الثَّوْرِي والفضيل بْن عياض، ودخل الشام وَمَاتَ بِهَا وَكَانَ يأكل من عمل يده مثل الحصاد وحفظ البساتين وغير ذَلِكَ، وأنه رأى فِي البادية رجلا علمه اسم اللَّه الأعظم , فدعا بِهِ بعده فرأى الخضر عَلَيْهِ السَّلام , وَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا علمك أَخِي دَاوُد اسم اللَّه الأعظم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه , قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن الخشاب , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْن عَلِي بْن مُحَمَّد الْمِصْرِي , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد الخراز , قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن بشار , قَالَ: صحبت إِبْرَاهِيم بْن أدهم , فَقُلْتُ: خبرني عَن بدء أمرك فذكر هَذَا. وَكَانَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم كبير الشأن فِي بَاب الورع. يحكي عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أطب مطعمك ولا حرج عليك أَن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار، وقيل: كَانَ عامة دعائه اللَّهُمَّ انقلني من ذل معصيتك إِلَى عز طاعتك. وقيل: لإبراهيم بْن أدهم: إِن اللحم قَدْ غلا , فَقَالَ: أرخصوه أي لا تشتروه، وأنشد فِي ذَلِكَ: وإذا غلا شَيْء عَلَي تركته ... فيكون أرخص مَا يَكُون إذ غلا أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه تعالي , قَالَ: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ , يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن حامد , يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن خضرويه , يَقُول: قَالَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم لرجل فِي الطواف: اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حَتَّى تجوز ست عقبات: أولاها: تغلق بَاب النعمة وتفتح بَاب الشدة، وَالثَّانِيَة: تغلق بَاب العز وتفتح بَاب الذل، والثالثة: تغلق بَاب الراحة وتفتح بَاب الجهد، والرابعة: تغلق بَاب النوم وتفتح بَاب السهر، والخامسة: تغلق بَاب الغنى وتفتح بَاب الفقر، والسادسة: تغلق بَاب الأمل وتفتح بَاب الاستعداد للموت. وَكَانَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم يحفظ كرما فمر بِهِ جندي , فَقَالَ: أعطنا من هَذَا العنب , فَقَالَ: أمرني بِهِ صاحبه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فأخذ يضربه بسوطه فطأطأ رأسه , وَقَالَ: اضرب رأسا طالما عصى اللَّه فأعجز الرجل ومضي. وَقَالَ سهل بْن إِبْرَاهِيم صحبت إِبْرَاهِيم بْن أدهم: فمرضت فأنفق عَلِي نفقته , فاشتهيت شهوة , فباع حماره , وأنفق عَلِي ثمنه , فلما تماثلت , قُلْت: يا إِبْرَاهِيم , أين الحمار؟ فَقَالَ: بعناه , فَقُلْتُ: فعلى ماذا أركب؟ فَقَالَ: يا أَخِي عَلَى عنقي , فحملني ثَلاث منازل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وَمِنْهُم أَبُو الفيض ذو النون الْمِصْرِي واسمه ثوبان بْن إِبْرَاهِيم , وقيل: الفيض بْن إِبْرَاهِيم وأبوه كَانَ نوبيا توفى سنة خمس وأربعين ومائتين فائق هَذَا الشأن وأوحد وقته علما وورعا وحالا وأدبا سعوا بِهِ إِلَى المتوكل فاستحضره من مصر فلما دَخَلَ عَلَيْهِ وعظه فبكي المتوكل ورده إِلَى مصر مكرما، وَكَانَ المتوكل إِذَا ذكر بَيْنَ يديه أهل الورع يبكي وَيَقُول: إِذَا ذكر أهل الورع فحيهلا بذي النون، وَكَانَ رجلا نحيفا تعلوه حمرة لَيْسَ بأبيض اللحية. سمعت أَحْمَد بْن محمود , يَقُول: سمعت سَعِيد بْن عُثْمَان , يَقُول: سمعت ذا النون , يَقُول: مدار الْكَلام عَلَى أربع: حب الجليل وبغض القليل واتباع التنزيل وخوف التحويل. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه , يَقُول: سمعت سَعِيد بْن أَحْمَد بْن جَعْفَر , يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سهل , يَقُول: سمعت سَعِيد بْن عُثْمَان , يَقُول: سمعت ذا النون الْمِصْرِي , يَقُول: من علامات المحب لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ متابعة حبيب اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أخلاقه وأفعاله وأوامره وسننه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وسئل ذو النون عَنِ السفلة , فَقَالَ: من لا يعرف الطريق إِلَى اللَّه ولا يتعرفه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان , يَقُول: سمعت يُوسُف بْن الْحُسَيْن , يَقُول: حضرت مجلس ذي النون يوما وجاءه سالم المغربي , فَقَالَ لَهُ: يا أبا الفيض , مَا كَانَ سبب توبتك؟ قَالَ: عجب لا تطيقه , قَالَ: بمعبودك إلا أخبرتني، فَقَالَ ذو النون: أردت الخروج من مصر إِلَى بَعْض القرى فنمت فِي الطريق فِي بَعْض الصحارى ففتحت عيني فَإِذَا أنا بقنبرة عمياء سقطت من وكرها عَلَى الأَرْض فانشقت الأَرْض فخرج منها سكرجتان , إحداهما ذهب , والأخرى فضة , وَفِي إحداهما سمسم , وَفِي الأخرى ماء , فجعلت تأكل من هَذَا وتشرب من هَذَا فَقُلْتُ: حسبي قَدْ تبت ولزمت الباب إِلَى أَن قبلني اللَّه عَزَّ وَجَلَّ سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَلِي بْن عُمَر الحافظ يَقُول: سمعت ابْن رشيق يَقُول: سمعت أبا دجانة يَقُول: سمعت ذا النون يَقُول: لا تسكن الحكمة معدة ملئت طعاما. وسئل ذو النون عَنِ التوبة فَقَالَ: توبة العوام تكون من الذنوب وتوبة الخواص تكون من الغفلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وَمِنْهُم أَبُو عَلَى الفضيل بْن عياض خراساني من ناحية مرو وقيل: إنه ولد بسمرقند ونشأ بأبيورد مَات بمكة فِي المحرم سنة سبع وثمانين ومائة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن جَعْفَر قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن عَبْد اللَّهِ العسكري قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أخي أَبِي ذرعة قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن راهويه قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عمار عَنِ الفضيل بْن موسي , قَالَ: كَانَ الفضيل شاطرا يقطع الطريق بَيْنَ أبيورد وسرخس وَكَانَ سبب توبته أَنَّهُ عشق جارية , فبينما هُوَ يرتقى الجدران إِلَيْهَا سمع تاليا يتلو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] , فَقَالَ: يا رب , قَدْ آن , فرجع فآواه الليل إِلَى خربة , فَإِذَا فِيهَا رفقة , فَقَالَ بَعْضهم: نرتحل، وَقَالَ قوم: حَتَّى نصبح , فَإِن فضيلا عَلَى الطريق يقطع عَلَيْنَا , فتاب الفضيل وأمنهم وجاور الحرم حَتَّى مَات. وَقَالَ الفضيل بْن عياض: إِذَا أحب اللَّه عبدا أَكْثَر غمه، وإذا أبغض عبدا وسع عَلَيْهِ دنياه. وَقَالَ ابْن المبارك: إِذَا مَات الفضيل ارتفع الحزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وَقَالَ الفضيل: لو أَن الدنيا بحذافيرها عرضت عَلَى ولا أحاسب بِهَا لكنت أتقذرها كَمَا يتقذر أحدكم الجيفة إِذَا مر بِهَا أَن تصيب ثوبه. وَقَالَ الفضيل: لو حلفت أنى مراء أحب إلي من أَن أحلف أنى لست بمراء. وَقَالَ الفضيل: ترك العمل لأجل النَّاس هُوَ الرياء , والعمل لأجل النَّاس هُوَ الشرك. وَقَالَ أَبُو عَلَى الرازي: صحبت الفضيل ثلاثين سنة مَا رأيته ضاحكا ولا متبسما إلا يَوْم مَات ابنه عَلَى، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِن اللَّه أحب أمرا فأحببت ذَلِكَ. وَقَالَ الفضيل: إني لأعصي اللَّه , فأعرف ذَلِكَ فِي خلق حماري وخادمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وَمِنْهُم أَبُو محفوظ معروف بْن فيروز الكرخي كَانَ من المشايخ الكبار مجاب الدعوة يستشفي بقبره , يَقُول البغداديون: قبر معروف ترياق مجرب وَهُوَ من موالي عَلِي بْن موسي الرضا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَات سنة مائتين، وقيل: سنة إحدى ومائتين، وَكَانَ أستاذ السري السقطي , وَقَدْ قَالَ لَهُ يوما: إِذَا كانت لَك حاجة إِلَى اللَّه فأقسم عَلَيْهِ بي. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه تَعَالَى , يَقُول: كَانَ معروف الكرخي أبواه نصرانيان فسلموا معروفا إِلَى مؤديهم وَهُوَ صبي فكان المؤدب يَقُول لَهُ: قل: ثالث ثلاثة، فَيَقُول: بَل هُوَ واحد فضربه المعلم يوما ضربا مبرحا , فهرب معروف فكان أبواه , يقولان: ليته يرجع إلينا عَلَى أي دين يشاء فنوافقه عَلَيْهِ، ثُمَّ إنه أسلم عَلَى يدي عَلِي بْن موسي الرضا ورجع إِلَى منزله ودق الباب , فقيل: من بالباب؟ فَقَالَ: معروف، فَقَالُوا: عَلَى أي دين جئت؟ فَقَالَ: عَلَى الدين الحنيفي , فأسلم أبواه. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الحربي يقول: سمعت سريا السقطي , يَقُول: رأيت معروفا الكرخي فِي النوم كَأَنَّهُ تَحْتَ العرش فَيَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لملائكته: من هَذَا؟ فيقولون: أَنْتَ أعلم يا رب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فَيَقُول: هَذَا معروف الكرخي سكر من حبي فلا يفيق إلا بلقائي. وَقَالَ معروف: قَالَ لي بَعْض أَصْحَاب دَاوُد الطائي: إياك أَن تترك العمل , فَإِن ذَلِكَ الَّذِي يقربك إِلَى رضا مولاك، فَقُلْتُ: وَمَا ذَلِكَ العمل؟ فَقَالَ: دوام طاعة ربك وخدمة الْمُسْلِمِينَ والنصيحة لَهُمْ. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرازي , يَقُول: سمعت عَلِي بْن مُحَمَّد الدلال يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أَبِي , يَقُول: رأيت معروفا الكرخي فِي النوم بَعْد موته , فَقُلْتُ لَهُ: ماذا فعل اللَّه بك؟ فَقَالَ: غفر لي , فَقُلْتُ: بزهدك وورعك؟ فَقَالَ: لا بقبولي موعظة ابْن السماك ولزوم الفقر ومحبتي للفقراء، وموعظة ابْن السماك مَا قاله معروف كنت مارا بالكوفة , فوفقت عَلَى رجل , يقال لَهُ: ابْن السماك وَهُوَ يعظ النَّاس , فَقَالَ فِي خلال كلامه: من أعرض عَنِ اللَّه بكليته أعرض اللَّه عَنْهُ جملة، ومن أقبل عَلَى اللَّه بقلبه أقبل اللَّه برحمته إِلَيْهِ، , وأقبل بجميع وجوه الخلق إِلَيْهِ، ومن كَانَ مرة ومرة فالله يرحمه وقتا مَا , فوقع كلامه فِي قلبي , فأقبلت عَلَى اللَّه تعالي , وتركت جَمِيع مَا كنت عَلَيْهِ إلا خدمة مولاي عَلِي بْن موسي الرضا , وذكرت هَذَا الْكَلام لمولاي، فَقَالَ: يكفيك بِهَذَا موعظة إِن اتعظت، أخبرني بِهَذِهِ الحكاية مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , قَالَ: سمعت عَبْد الرحيم بْن عَلِيّ الحافظ ببغداد , يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عُمَر بْن الفضل , يَقُول: سمعت عَلِي بْن عيسى , يَقُول: سمعت سريا السقطي , يَقُول: سمعت معروفا , يَقُول ذَلِكَ، وقيل لمعروف فِي مرض موته: أوص , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فَقَالَ: إِذَا مت فتصدقوا بقميصي , فأنى أريد أَن أخرج من الدنيا عريانا كَمَا دخلتها عريانا، ومر معروف بسقاء , يَقُول: رحم اللَّه من يشرب وَكَانَ صائما فتقدم , فشرب , فقيل لَهُ: ألم تكن صائما؟ ، فَقَالَ: بلى , ولكني رجوت دعاءه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وَمِنْهُم أَبُو الْحَسَنِ سري بْن المغلس السقطي خال الجنيد وأستاذه , وَكَانَ تلميذ معروف الكرخي , كَانَ أوحد زمانه فِي الورع وأحوال السنة وعلوم التوحيد. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي الطوسي , يَقُول: سمعت أبا عَمْرو بْن علوان , يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس بْن مسروق , يَقُول: بلغني أَن السري السقطي كَانَ يتجر فِي السوق وَهُوَ من أَصْحَاب معروف الكرخي , فجاءه معروف يوما ومعه صبي يتيم , فَقَالَ: اكس هَذَا اليتيم , قَالَ سرى: فكسوته ففرح بِهِ معروف , وَقَالَ: بغض اللَّه إليك الدنيا وأراحك مِمَّا أَنْتَ فِيهِ، فقمت من الحانوت وليس شَيْء أبغض إِلَى من الدنيا وكل مَا أنا فِيهِ من بركات معروف. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا عُمَر الأنماطي يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: مَا رأيت أعبد من السري أتت عَلَيْهِ ثمان وتسعون سنة مَا رؤي مضطجعا إلا فِي علة الْمَوْت. ويحكي عَنِ السري , أَنَّهُ قَالَ: التصوف اسم لثلاث معان , وَهُوَ الَّذِي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ولا يتكلم بباطن فِي علم ينقضه عَلَيْهِ ظاهر الكتاب أَوِ السنة، ولا تحمله الكرامات عَلَى هتك أستار محارم اللَّه. مَات السري سنة سبع وخمسين ومائتين. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يحكي عَنِ الجنيد رحمه اللَّه أَنَّهُ قَالَ: سألني السري يوما عَنِ المحبة فَقُلْتُ: قَالَ قوم: هِيَ الموافقة وَقَالَ قوم: الإيثار. وَقَالَ قوم: كَذَا وكذا، فأخذ السري جلدة ذراعه ومدها فلم تمتد، ثُمَّ قَالَ: وعزته تَعَالَى لو قُلْت: إِن هذه الجلدة يبست عَلَى هَذَا العظم من محبته لصدقت، ثُمَّ غشي عَلَيْهِ فدار وجهه كَأَنَّهُ قمر مشرق وَكَانَ السري بِهِ أدمة. ويحكى عَنِ السري أَنَّهُ قَالَ: منذ ثلاثين سنة أنا فِي الاستغفار من قولي الحمد لِلَّهِ مرة قيل: وكيف ذَلِكَ؟ فَقَالَ: وقع ببغداد حريق فاستقبلني رجل فَقَالَ لي: نجا حانوتك، فَقُلْتُ: الحمد لِلَّهِ فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم عَلَى مَا قُلْت: حيث أردت لنفسي خيرا مِمَّا حصل للمسلمين. أخبرني بِهِ عَبْد اللَّهِ بْن يُوسُفَ , قَالَ: سمعت أبا بَكْر الرازي , يَقُول: سمعت أبا بَكْر الحريري , يَقُول: سمعت السري يَقُول ذَلِكَ. ويحكى عَنِ السري أَنَّهُ قَالَ: أنا أنظر فِي أنفى فِي اليوم كَذَا وكذا مرة مخافة أَن يَكُون قَدْ أسود خوفا من اللَّه أَن يسود صورتي لما أتعاطاه. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه , يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن الخشاب , يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير , يَقُول: سمعت الجنيد , يَقُول: سمعت السري , يَقُول: أعرف طريقا مختصرا قصدا إِلَى الْجَنَّة , فَقُلْتُ لَهُ: مَا هُوَ؟ . فَقَالَ: لا تسأل من أحد شَيْئًا ولا تأخذ من أحد شَيْئًا ولا يكن معك شَيْء تعطي منه أحدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 سمعت عَبْد اللَّهِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي , يَقُول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي , يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير , يَقُول: سمعت الجنيد بْن مُحَمَّد , يَقُول: سمعت السري , يَقُول: أشتهي أَن أموت ببلد غَيْر بغداد، فقيل لَهُ: وَلَمْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أخاف أَن لا يقبلني قبري فافتضح. سمعت عَبْد اللَّهِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي , يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن بْن عَبْد اللَّهِ الغوطي الطرسوسي , يَقُول: سمعت الجنيد , يَقُول: سمعت السري , يَقُول: اللَّهُمَّ مهما عذبتني بشيء , فلا تعذبني بذل الحجاب. سمعت عَبْد اللَّهِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: دخلت يوما عَلَى السري السقطي وَهُوَ يبكي فَقُلْتُ لَهُ: مَا يبكيك؟ فَقَالَ: جاءتني البارحة الصبية , فَقَالَتْ: يا أبتي هذه الليلة حارة وَهَذَا الكوز أعلقه هاهنا , ثُمَّ إني حملتني عيناي فنمت , فرأيت جارية من أَحْسَن الخلق قَدْ نزلت من السماء , فَقُلْتُ: لمن أَنْتَ؟ فَقَالَتْ: لمن لا يشرب الماء المبرد فِي الكيزان، فتناولت الكوز فضربت بِهِ الأَرْض فكسرته , قَالَ الجنيد: فرأيت الخزف لَمْ يرفعه وَلَمْ يمسه حَتَّى عفا عَلَيْهِ التراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَمِنْهُم أَبُو نصر بشر بْن الْحَارِث الحافي أصله من مرو وسكن بغداد وَمَاتَ بِهَا وَهُوَ ابْن أخت عَلِي بْن خشرم، مَات سنة سبع وعشرين ومائتين وَكَانَ كبير الشأن، وَكَانَ سبب توبته أَنَّهُ أصاب فِي الطريق كاغدة مكتوبا فِيهَا اسم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وطئتها الأقدام فأخذها واشترى بدرهم كَانَ مَعَهُ غالية فطيب بِهَا الكاغدة وجعلها فِي شق حائط، فرأى فيما يرى النائم كأن قائلا , يَقُول لَهُ: يا بشر , طيبت اسمي لأطيبن اسمك فِي الدنيا والآخرة. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه , يَقُول: مر بشر ببعض النَّاس فَقَالُوا: هَذَا الرجل لا ينام الليل كُلهُ ولا يفطر إلا فِي كُل ثلاثة أَيَّام مرة فبكى بشر فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ إني لا أذكر أنى سهرت ليلة كاملة ولا أنى صمت يوما لَمْ أفطر من ليلته ولكن اللَّه سبحانه وتعالى يلقى فِي القلوب أَكْثَر مِمَّا يفعله العبد لطفا منه سبحانه وكرما، ثُمَّ ذكر ابتداء أمره كَيْفَ كَانَ عَلَى مَا ذكرناه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه , يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرازي , يَقُول: سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي حاتم , يَقُول: بلغني أَن بشر بْن الْحَارِث الحافي , قَالَ: رأيت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام , فَقَالَ لي: يا بشر , أتدري لَمْ رفعك اللَّه من بَيْنَ أقرانك؟ قُلْت: لا يا رَسُول اللَّهِ، قَالَ: باتباعك لسنتي , وخدمتك للصالحين , ونصيحتك لإخوانك ومحبتك لأَصْحَابي , وأهل بَيْتِي، وَهُوَ الَّذِي بلغك منازل الأبرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه , يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرازي , يَقُول: سمعت بلالا الخواص , يَقُول: كنت فِي تية بنى إسرائيل فَإِذَا رجل يماشيني فتعجبت منه ثُمَّ ألهمت أَنَّهُ الخضر عَلَيْهِ السَّلام فَقُلْتُ لَهُ: بحق الحق من أَنْتَ. فَقَالَ: أخوك الخضر. فَقُلْتُ لَهُ: أريد أَن أسألك فَقَالَ: سل. فَقُلْتُ: مَا تقول فِي الشَّافِعِي رحمة اللَّه؟ فَقَالَ: هُوَ من الأوتاد , فَقُلْتُ: مَا تقول أَحْمَد بْن حنبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟ قَالَ: رجل صديق. قُلْت: فَمَا تقول فِي بشر بْن الْحَارِث الحافي؟ فَقَالَ: لَمْ يخلق بعده مثله. فَقُلْتُ: بأي وسيلة رأيتك. فَقَالَ: ببرك لأمك. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رحمه اللَّه تَعَالَى , يَقُول: أتى بشر الحافي بَاب المعافى بْن عمران فدق عَلَيْهِ الباب فقيل: من فَقَالَ: بشر الحافي. فَقَالَتْ لَهُ: بنية من داخل الدار لو اشتريت لَك نعلا بدانقين لذهب عَنْك اسم الحافي. أخبرني بِهَذِهِ الحكاية مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الشيرازي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيز بْن الفضل قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعِيد قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ قَالَ: سمعت عَبْد اللَّهِ المغازلي يَقُول: سمعت بشرا الحافي يذكر هذه الحكاية. وسمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الحجاجي , يَقُول: سمعت الحاملي , يَقُول: سمعت الْحَسَن المسوحي , يَقُول: سمعت بشر بْن الْحَارِث يحكي هذه الحكاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وسمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , يَقُول: سمعت أبا الفضل العطار , يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِيّ الدمشقي , يَقُول: قَالَ لي أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن الجلاء: رأيت ذا النون وكانت لَهُ العبارة، ورأيت سهلا وكانت لَهُ الإشارة، ورأيت بشر بْن الْحَارِث وَكَانَ لَهُ الورع، فقيل لَهُ فإلى من كنت تميل؟ فَقَالَ: لبشر بْن الْحَارِث أستاذنا. وقيل: إنه اشتهي الباقلا سنين فلم يأكله فرؤي فِي المنام بَعْد وفاته , فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه بك؟ فَقَالَ: غفر لي، وَقَالَ: كُل يا من لَمْ يأكل , واشرب يا من لَمْ يشرب. أَخْبَرَنَا الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْد اللَّه بْن عُثْمَان بْن يَحْيَي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرو بْن السماك قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن بنت مُعَاوِيَة قَالَ: سمعت أبا بَكْر بْن عَفَّان يَقُول: سمعت بشر بْن الحوت يَقُول: إني لأشتهي الشواء منذ أربعين سنة مَا صفا لي ثمنه. وقيل لبشر: بأي شَيْء تأكل الْخَبَر؟ فَقَالَ: أذكر العافية وأجعلها إداما أَخْبَرَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه تَعَالَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْد اللَّه بْن عُثْمَان قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرو بْن السماك قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن سَعِيد قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي الدنيا قَالَ: قَالَ رجل لبشر الحكاية المذكورة. وَقَالَ بشر: لا يحتمل الحلال السرف. ورؤي بشر فِي المنام فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه بك؟ فَقَالَ: غفر لي وأباح لي نصف الْجَنَّة، وَقَالَ لي: يا بشر , لو سجدت لي عَلَى الجمر مَا أديت شكر مَا جعلته لَك فِي قلوب عبادي. وَقَالَ بشر: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أَن يعرفه النَّاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وَمِنْهُم أَبُو عَبْد اللَّهِ الْحَارِث بْن أسد المحاسبي عديم النظير فِي زمانه علما وورعا ومعاملة وحالا، بصري الأصل , مَات ببغداد سنة ثَلاث وأربعين ومائتين , قيل: إنه ورث من أَبِيهِ سبعين ألف درهم , فلم يأخذ منها شَيْئًا , قيل: لأن أباه كَانَ يَقُول بالقدر، فرأى من الورع أَن لا يأخذ من ميراثه شَيْئًا وَقَالَ: صحت الرواية عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لا يتوارث أهل ملتين شَيْئًا. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن يَحْيَي , يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير , يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن مسروق , يَقُول مَات الْحَارِث بْن أسد المحاسبي وَهُوَ محتاج إِلَى درهم وخلف أبوه ضياعا وعقارا فلم يأخذ منه شَيْئًا. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رحمه اللَّه تَعَالَى , يَقُول كَانَ الْحَارِث المحاسبي إِذَا مد يده إِلَى طَعَام فِيهِ شبهة تحرك عَلَى إصبعه عرق فكان يمتنع منه. وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف اقتدوا بخمسة من شيوخنا والباقون سلموا لَهُمْ حالهم الْحَارِث بْن أسد المحاسبي والجنيد بْن مُحَمَّد وأبو مُحَمَّد رويم وأبو الْعَبَّاسِي بْن عَطَاء وعمرو بْن عُثْمَان الْمَكِّي، لأنهم جمعوا بَيْنَ العلم والحقائق. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه , يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ الطوسي , يَقُول: سمعت جعفرا الخلدي , يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان البلدي , يَقُول: قَالَ الْحَارِث المحاسبي: من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين اللَّه ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ويحكي عَنِ الجنيد أَنَّهُ قَالَ: مر بي يوما الْحَارِث المحاسبي فرأيت فِيهِ أثر الجوع فَقُلْتُ: يا عم تدخل الدار وتتناول شَيْئًا؟ فَقَالَ: نعم فدخلت الدار وطلبت شَيْئًا أقدمه إِلَيْهِ فكان فِي الْبَيْت شَيْء من طَعَام حمل إِلَى من عرس قوم فقدمته إِلَيْهِ فأخذ لقمة وأدارها فِي فِيهِ مرات , ثُمَّ إنه قام وألقاها فِي الدهليز ومر فلما رأيته بَعْد ذَلِكَ بأيام , قُلْت لَهُ فِي ذَلِكَ , فَقَالَ: إني كنت جائعا وأردت أَن أسرك بأكلي وأحفظ قلبك ولكني بيني وبين اللَّه سبحانه علامة أَن لا يسوغني طعاما فِيهِ شبهة فلم يمكني ابتلاعه، فمن أين كَانَ لَك ذَلِكَ الطعام؟ فَقُلْتُ: إنه حمل إلي من دار قريب لي من العرس، ثُمَّ قُلْت: تدخل اليوم؟ فَقَالَ: نعم , فقدمت إِلَيْهِ كسرا يابسة كانت لنا فأكل , وَقَالَ: إِذَا قدمت إِلَى فَقِير شَيْئًا فقدم إِلَيْهِ مثل هَذَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وَمِنْهُم أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد بْن نصير الطائي وَكَانَ كبير الشأن. أَخْبَرَنَا الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه , قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَر بْن مطر , قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُسَيِّب , قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن خبيق , قَالَ: قَالَ يُوسُف بْن سباط: ورث دَاوُد الطائي عشرين دِينَارًا فأكلها فِي عشرين سنة. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رحمه اللَّه يَقُول كَانَ سبب زهد دَاوُد الطائي أَنَّهُ كَانَ يمر ببغداد فمر يوما فنحاه المطرقون بَيْنَ يدي حميد الطوسي فالتفت دَاوُد فرأى حميدا , فَقَالَ: دَاوُد أف لدنيا سبقك بِهَا حميد ولزم الْبَيْت وأخذ فِي الجهد والعبادة , وسمعت ببغداد بَعْض الفقراء , يَقُول: إِن سبب زهده أَنَّهُ سمع نائحة تنوح , وتقول: بأي خديك تبدى البلى ... وأي عينيك إذن سالا وقيل: كَانَ سبب زهده أَنَّهُ كَانَ يجالس أبا حَنِيفَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَة يوما: يا أبا سُلَيْمَان , أما الأداة فَقَدْ أحكمناها , فَقَالَ لَهُ دَاوُد: فأي شَيْء بقى؟ قَالَ: العمل بِهِ. قَالَ دَاوُد: فنازعتني نفسي إِلَى العزلة فَقُلْتُ لنفسي حَتَّى تجالسهم ولا تتكلم فِي مسألة قَالَ: فجالستهم سنة لا أتكلم فِي مسألة وكانت المسألة تمر بي , وأنا إِلَى الْكَلام فِيهَا أشد نزاعا من العطشان عَلَى الماء البارد ولا أتكلم بِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ثُمَّ صار أمره إِلَى مَا صار , وقيل: حجم جنيد الحجام دَاوُد الطائي , فأعطاه دِينَارًا , فقيل لَهُ: هَذَا إسراف , فَقَالَ: لا عُبَادَة لمن لا مروءة لَهُ. وَكَانَ يَقُول بالليل: إلهي , همك عطل عَلَى الهموم الدنيوية وحال بيني وبين الرقاد. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي , يَقُول: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يُوسُفَ , قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْن عَمْرو , قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حرب الموصلي , قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن زِيَاد الطائي , قَالَ: قَالَتْ دابة دَاوُد الطائي لَهُ: أما تشتهى الخبز؟ فَقَالَ: بَيْنَ مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية. ولما توفي دَاوُد رآه بَعْض الصالحين فِي المنام وَهُوَ يعدو فَقَالَ لَهُ: مَالِك؟ فَقَالَ: الساعة تخلصت من السجن فاستيقظ الرجل من منامه , فارتفع الصياح بقول النَّاس مَات دَاوُد الطائي. وَقَالَ لَهُ رجل: أوصني , فَقَالَ: عسكر الْمَوْت ينتظرونك ودخل بَعْضهم عَلَيْهِ , فرأى جرة ماء انبسطت عَلَيْهَا الشَّمْس , فَقَالَ لَهُ: ألا تحولها إِلَى الظل , فَقَالَ: حِينَ وضعتها لَمْ يكن شمس , وأنا أستحي أَن يراني اللَّه أمشى لما فِيهِ حظ نفسي. ودخل عَلَيْهِ بَعْضهم فجعل ينظر إِلَيْهِ , فَقَالَ: أما علمت أنهم كَانُوا يكرهون فضول النظر كَمَا يكرهون فضول الْكَلام. أَخْبَرَنَا عَن عَبْد اللَّهِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي , قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن يَحْيَي المزكي , قَالَ: حَدَّثَنَا قاسم بْن أَحْمَد , قَالَ: سمعت ميمونا الغزال , قَالَ: قَالَ أَبُو الرَّبِيع الواسطي: قُلْت لداود الطائي: أوصني. قَالَ: صم عَنِ الدنيا , واجعل فطرك الْمَوْت , وفر من النَّاس كفرارك من السبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وَمِنْهُم أَبُو عَلَى شقيق بْن إِبْرَاهِيم البلخي من مشايخ خراسان لَهُ لسان فِي التوكل، وَكَانَ أستاذ حاتم الأصم، قيل كَانَ سبب توبته أَنَّهُ كَانَ من أبناء الأغنياء خرج للتجارة إِلَى أرض الترك وَهُوَ حدث فدخل بيتا للأصنام فرأى خادما للأصنام فِيهِ قَدْ حلق رأسه ولحيته ولبس ثيابا أرجوانية , فَقَالَ شقيق للخادم: إِن لَك صانعا حيا عالما قادرا فاعبده ولا تعبد هذه الأصنام الَّتِي لا تضر ولا تنفع , فَقَالَ: إِن كَانَ كَمَا تقول فَهُوَ قادر عَلَى أَن يرزقك ببلدك فلم تعنيت إِلَى هاهنا للتجارة فانتبه شقيق وأخذ فِي طريق الزهد. وقيل: كَانَ سبب زهده أَنَّهُ رأى مملوكا يلعب ويمرح فِي زمان قحط , وَكَانَ النَّاس مهتمين بِهِ فَقَالَ شقيق: مَا هَذَا النشاط الَّذِي فيك؟ أما ترى مَا فِيهِ النَّاس من الجدب والقحط؟ فَقَالَ ذَلِكَ المملوك: وَمَا عَلِي من ذَلِكَ ولمولاي قرية خالصة يدخل لَهُ منها مَا نحتاج نحن إِلَيْهِ، فانتبه شقيق , وَقَالَ: إِن كَانَ لمولاه قرية ومولاه مخلوق فَقِير , ثُمَّ إنه لَيْسَ يهتم لرزقه، فكيف ينبغي أَن يهتم المسلم لرزقه ومولاه غني؟ سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه , يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن بْن أَحْمَد العطار البلخي , يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد الْبُخَارِي , يَقُول: قَالَ حاتم الأصم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 كَانَ شقيق بْن إِبْرَاهِيم موسرا وَكَانَ يتفتى ويعاشر الفتيان وَكَانَ عَلِي بْن عيسى بْن ماهان أمِير بلخ وَكَانَ يحب كلاب الصيد ففقد كلبا من كلابه فسمى برجل أَنَّهُ عنده وَكَانَ الرجل فِي جوار شقيق فطلب الرجل فهرب فدخل دار شقيق مستجيرا فمضى شقيق إِلَى الأمير وَقَالَ: خلوا سبيله فَإِن الكلب عندي أرده إليكم إِلَى ثلاثة أَيَّام، فخلوا سبيله وانصرف شقيق مهتما لما صنع فلما كَانَ اليوم الثالث كَانَ رجل من أصدقاء شقيق غائبا من بلخ رجع إِلَيْهَا فوجد فِي الطريق كلبا عَلَيْهِ قلادة فأخذه وَقَالَ: أهديه إِلَى شقيق فَإِنَّهُ يشتغل بالتفتي فحمله إِلَيْهِ فنظر شقيق فَإِذَا هُوَ كلب الأمير فسر بِهِ وحمله إِلَى الأمير وتخلص من الضمان فرزقه اللَّه الانتباه وتاب مِمَّا كَانَ فِيهِ وسلك طريق الزهد. وحكى أَن حاتما الأصم قَالَ كُنَّا مَعَ شقيق فِي مصاف نحارب الترك فِي يَوْم لا ترى فِيهِ إلا رءوس تندر ورماح تنقصف وَسِيُوف تنقطع فَقَالَ لي شقيق: كَيْفَ ترى نفسك يا حاتم فِي هَذَا اليوم؟ تراه مثل مَا كنت فِي الليلة الَّتِي زفت إليك امرأتك؟ فَقُلْتُ: لا والله قَالَ لكنى والله أرى نفسي فِي هَذَا اليوم مثل مَا كنت تلك الليلة، ثُمَّ نام بَيْنَ الصفين ودرقته تَحْتَ رأسه حَتَّى سمعت غطيطه. وَقَالَ شقيق: إِذَا أردت أَن تعرف الرجل فانظر إِلَى مَا وعده اللَّه ووعده النَّاس فبأيهما يَكُون قلبه أوثق. وَقَالَ شقيق: تعرف تقوى الرجل فِي ثلاثة أشياء: فِي أخذه ومنعه وكلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وَمِنْهُم أَبُو يَزِيد طيفور بْن عيسى البسطامي وَكَانَ جده مجوسيا أسلم وكانوا ثلاثة إخوة آدم وطيفور وعلى وكلهم كَانُوا زهادا عبادا وأبو يَزِيد كَانَ أجلهم حالا. قيل: مَات سنة إحدى وستين ومائتين وقيل: أربع وثلاثين ومائتين. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمع أبا الْحَسَن الفارسي يَقُول: سمعت الْحَسَن بْن عَلِيّ يَقُول: سئل أَبُو يَزِيد بأي شَيْء وجدت هذه المعرفة فَقَالَ: ببطن جائع وبدن عار. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت عمى البسطامي يَقُول: سمعت أبى يَقُول: سمعت أبا يَزِيد يَقُول: عملت فِي المجاهدة ثلاثين سنة فَمَا وجدت شَيْئًا أشد عَلَى من العلم ومتابعته ولولا اخْتِلاف الْعُلَمَاء لبقيت واخْتِلاف الْعُلَمَاء رحمة إلا فِي تجريد التوحيد. وقيل: لَمْ يخرج أَبُو يَزِيد من الدنيا حَتَّى استظهر الْقُرْآن كُلهُ. حَدَّثَنَا أَبُو حاتم السجستاني قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نصر السراج قَالَ: سمعت طيفور البسطامي يَقُول: سمعت المعروف بعمي البسطامي يَقُول: سمعت أَبِي يَقُول: قَالَ لي أَبُو يَزِيد: قم بنا حَتَّى ننظر إِلَى هَذَا الرجل الَّذِي قَدْ شَهْر نَفْسه بالولاية وَكَانَ رجلا مقصودا مشهورا بالزهد فمضينا غليه فلما خرج من بيته ودخل الْمَسْجِد رمى ببصاقه تجاه القبلة فانصرف أَبُو يَزِيد وَلَمْ يسلم عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا غَيْر مأمون عَلَى أدب من آداب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف يَكُون مأمونا عَلَى مَا يدعيه. وبهذا الإسناد قَالَ أَبُو يَزِيد: لَقَدْ هممت أَن أسأل اللَّه تَعَالَى أَن يكفيني مؤنة الأكل ومؤنة النِّسَاء ثُمَّ قُلْت: كَيْفَ يَجُوز لي أَن أسأل اللَّه هَذَا وَلَمْ يسأله رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه فلم اسأله ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 إِن اللَّه سبحانه وتعالى كفاني مؤنة النِّسَاء حَتَّى لا أبالي استقبلتني امْرَأَة أَوْ حائط. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت الْحَسَن بْن علي يقول: سمعت عمى البسطامي يَقُول: سمعت أبى يَقُول: سألت أبا يَزِيد عَنِ ابتدائه وزهده فَقَالَ: لَيْسَ للزهد منزلة. فَقُلْتُ: لماذا؟ فَقَالَتْ: لأني كنت ثلاثة أَيَّام فِي الزهد فلما كَانَ اليوم الرابع خرجت منه، اليوم الأَوَّل زهدت فِي الدنيا وَمَا فِيهَا واليوم الثَّانِي زهدت فِي الآخرة وَمَا فِيهَا واليوم الثالث زهدت فيما سِوَى اللَّه، فلما كَانَ اليوم الرابع لَمْ يبق لي سِوَى اللَّه فهمت فسمعت هاتفا يَقُول: يا أبا يَزِيد لا تقوى معنا فَقُلْتُ: هَذَا الَّذِي أريد فسمعت قائلا يَقُول: وجدت وجدت. وقيل لأبى يَزِيد: مَا أشد مَا لقيت فِي سبيل اللَّه؟ فَقَالَ: لا يمكن وصفه، فقيل لَهُ مَا أهون مَا لقيت نفسك منك؟ فَقَالَ: أما هَذَا فنعم دعوتها إِلَى شَيْء من الطاعات فلم تجبني فمنعتها الماء سنة. وَقَالَ أَبُو يَزِيد منذ ثلاثين سنة أصلى واعتقادي فِي نفسي عِنْدَ كُل صلاة أصليها كأني مجوسي أريد أَن أقطع زناري. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي يَقُول: سمعت مُوسَى بْن عيسى يَقُول: قَالَ لي أَبِي قَالَ أَبُو يَزِيد لو نظرتهم إِلَى رجل أعطي من الكرامات حَتَّى يرتقى فِي الهواء فلا تغتروا بِهِ حتي تنظروا كَيْفَ تجدونه عِنْدَ الأمر والنهى وحفظ الحدود وأداء الشريعة. وحكى عمى البسطامي عَن أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: ذهب أَبُو يَزِيد ليلة عَلَى الرباط ليذكر اللَّه سبحانه عَلَى سور الرباط فبقي إِلَى الصباح لَمْ يذكر فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: تذكرت كلمة جرت عَلَى لساني فِي حال صباي فاحتشمت أَن أذكره سبحانه وتعالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد سهل بْن عَبْد اللَّهِ التستري أحد أئمة الْقَوْم لَمْ يكن لَهُ فِي وقته نظير فِي المعاملات والورع وَكَانَ صاحب كرامات لقى ذا النون المصري بمكة سنة خروجه إِلَى الحج، توفي كَمَا قيل سنة ثَلاث وثمانين ومائتين، وقيل: ثَلاث وسبعين ومائتين. وَقَالَ سهل: كنت ابْن ثَلاث سنين وكنت أقوم بالليل أنظر إِلَى صلاة خالي مُحَمَّد بْن سوار وَكَانَ يقوم بالليل فربما كَانَ يَقُول لي: يا سهل اذهب فنم فَقَدْ شغلت قلبي. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا الفتح يُوسُف بْن عُمَر الزاهد يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الحميد يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن لؤلؤ يَقُول: سمعت عُمَر بْن واصل البصري يحكي عَن سهل بْن عَبْد اللَّهِ قَالَ: قَالَ لي خالي يوما ألا تذكر اللَّه الَّذِي خلقك؟ فَقُلْتُ: كَيْفَ أذكره؟ . فَقَالَ: قل بقلبك عِنْدَ تقلبك فِي ثيابك ثَلاث مرات من غَيْر أَن تحرك بِهِ لسانك اللَّه معي اللَّه ناظر إلي اللَّه شاهدي فَقُلْتُ ذَلِكَ ثَلاث ليال ثُمَّ أعلمته. فَقَالَ لي: قل فِي كُل ليلة إحدى عشرة مرة فَقُلْتُ ذَلِكَ فوقع فِي قلبي لَهُ حلاوة فلما كَانَ بَعْد سنة. قَالَ لي خالي: احفظ مَا علمتك ودم عَلَيْهِ إِلَى أَن تدخل القبر، فَإِنَّهُ ينفعك فِي الدنيا والآخرة، فلم أزل عَلَى ذَلِكَ سنين فوجدت لَهَا حلاوة فِي سرى ثُمَّ قَالَ لي خالي يوما: يا سهل من كَانَ اللَّه مَعَهُ وَهُوَ ناظر إِلَيْهِ وشاهد أيعصيه؟ إياك والمعصية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فكنت أخلو فبعثوني إِلَى الكتاب فَقُلْتُ: إني لأخشى أَن يتفرق عَلَي رهمي ولكن شارطوا المعلم أنى أذهب إِلَيْهِ ساعة فأتعلم ثُمَّ أرجع، فمضيت إِلَى الكتاب وحفظت الْقُرْآن وأنا ابْن ست سنين أَوْ سبع سنين وكنت أصوم الدهر وقوتي خبز الشعير إِلَى أَن بلغت اثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة وأنا ابْن ثَلاث عشرة، فسالت أهلي أَن يبعثوني إِلَى البصرة أسأل عَنْهَا، فجئت البصرة وسألت علماءها فلم يشف أحدهم مِنْهُم عنى شَيْئًا فخرجت إِلَى عبادان عَلَى رجل يعرف بأبي حبيب حمزة بْن عَبْد اللَّهِ العباداتي فسألته عَنْهَا فأجابني وأقمت عنده مدة انتفع بكلامه وأتأدب بآدابه ثُمَّ رجعت إِلَى تستر فجعلت قوتي اقتصارا عَلَى أَن يشترى لي بدرهم من الشعير الفرق فيطحن ويخبز لي فأفطر عِنْدَ السحر كُل ليلة عَلَى أوقية واحدة بحتا بغير ملح ولا إدام فكان يكفيني ذَلِكَ الدرهم سنة، ثُمَّ عزمت عَلَى أَن أطوى ثَلاث ليال ثُمَّ أفطر ليلة ثُمَّ خمسا ثُمَّ سبعا ثُمَّ خمسا وعشرين ليلة وكنت عَلَيْهِ عشرين سنة، ثُمَّ خرجت أسيح فِي الأَرْض سنين ثُمَّ رجعت إِلَى تستر وكنت أقوم الليل كُلهُ. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن فراس يَقُول: سمعت نصر بْن أَحْمَد يَقُول: قَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: كُل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كَانَ أَوْ معصية فَهُوَ عيش النفس، وكل فعل يفعله بالاقتداء فَهُوَ عذاب عَلَى النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وَمِنْهُم أَبُو سُلَيْمَان عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عطية الدراني وداران قرية من قرى دمشق، مَات سنة خمس عشرة ومائتين. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الرازي يَقُول: أَخْبَرَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم بْن أَبِي حسان يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن أَبِي الحواري يَقُول: سمعت أبا سُلَيْمَان يَقُول: من أَحْسَن فِي نهاره كوفئ فِي ليله، ومن أَحْسَن فِي ليله كوفئ فِي نهاره، ومن صدق فِي ترك شهوة ذهب اللَّه بِهَا من قلبه، والله تَعَالَى أكرم من أَن يعذب قلبا بشهوة تركت لَهُ، وبهذا الإسناد قَالَ: إِذَا سكنت الدنيا القلب ترحلت منه الآخرة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن يَحْيَي يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني: رُبَّمَا يقع فِي قلبي النكتة من نكت الْقَوْم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: أفضل الأعمال خلاف هوى النفس. وَقَالَ: لكل شَيْء علم وعلم الخذلان ترك البكاء. وَقَالَ: لكل شَيْء صدأ وصدأ نور القلب شبع البطن. وَقَالَ: كُل مَا شغلك عَنِ اللَّه تَعَالَى من أهل أَوْ مال أَوْ ولد فَهُوَ عليك مشئوم. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: كنت ليلة باردة فِي المحراب فأقلقني البرد فخبأت إحدى يدي من البرد وبقيت الأخرى ممدودة فغلبتني عيناي فهتف بي هاتف يا أبا سُلَيْمَان قَدْ وضعنا فِي هذه مَا أصابها ولو كانت الأخرى لوضعنا فِيهَا، فآليت عَلَى نفس أَن لا أدعو إلا ويداي خارجتان حرا كَانَ الزمن أَوْ بردا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: نمت عَن وردى فاذا أنا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربي لَك فِي الخدور منذ خمس مائة عام. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرو الجولستي قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد ابْن أَبِي الحواري قَالَ: دخلت عَلَى أَبِي سُلَيْمَان يوما وَهُوَ يبكي فَقُلْتُ لَهُ: مَا يبكيك؟ فَقَالَ: يا أَحْمَد وَلَمْ لا أبكي وإذا جن الليل ونامت العيون وخلا كُل حبيب بحبيبه وافترش أهل المحبة أقدامهم وجرت دموعهم عَلَى خدودهم وتقطرت فِي محاربيهم أشرف الجليل سبحانه وتعالي، فنادى يا جبريل بعني من تلذذ بكلامي واستراح عَلَى ذكرى وإني لمطلع عَلَيْهِم فِي خلواتهم أسمع أنينهم وأرى بكاءهم، فلم لا تنادى فيهم يا جبريل مَا هَذَا البكاء؟ هل رأيت حبيبا يعذب أحباءه؟ أم كَيْفَ يجمل بي أَن آخذ قوما إِذَا جنهم الليل تملقوا لي، فبي حلفت إنهم إِذَا وردوا عَلَى يَوْم الْقِيَامَة لأكشفن لَهُمْ عَن وجهي الكريم حَتَّى ينظروا إلي وأنظر إليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَمِنْهُم أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ حاتم بْن علوان ويقال حاتم بْن يُوسُفَ الأصم من أكابر مشايخ خراسان وَكَانَ تلميذ شقيق وأستاذ أَحْمَد بْن خضرويه قيل لَمْ يكن أصم وإنما تصامم مرة فسمي بِهِ. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: جاءت امْرَأَة فسألت حاتما عَن مسألة فاتفق أَنَّهُ خرج منها فِي تلك الحالة صوت فخجلت فَقَالَ حاتم: ارفعي صوتك فأرى من نَفْسه أَنَّهُ أصم فسرت المرأة بِذَلِكَ وَقَالَتْ: إنه لَمْ يسمع الصوت فغلبت عَلَيْهِ اسم أَخْبَرَنَا الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه قَالَ: سمعت أبا عَلِي سَعِيد بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت أَبِي يَقُول سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت خالي مُحَمَّد بْن اللَّيْث يَقُول: سمعت حامدا اللفاف يَقُول: سمعت حاتم الأصم , يَقُول: مَا من صباح إلا والشيطان يَقُول لي: ماذا تأكل وماذا تلبس وأين تسكن؟ فأقول لَهُ: آكل الْمَوْت وألبس الكفن وأسكن القبر، وبإسناده قيل لَهُ: ألا تشتهى؟ فَقَالَ: أشتهي عافية يَوْم إِلَى الليل، فقيل لَهُ أليست الأيام كلها عافية؟ فَقَالَ: إِن عافية يومي أَن لا أعصى اللَّه فِيهِ. وحكى عَن حاتم الأصم أَنَّهُ قَالَ: كنت فِي بَعْض الغزوات فأخذني تركي فأضجعني للذبح فلم يشتغل بِهِ قلبي، بَل كنت أنظر ماذا يحكم اللَّه تَعَالَى فِي، فبينما هُوَ يطلب السكين من خفه أصابه سهم غرب فقتله وطرحه عنى فقمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 سمعت عَبْد اللَّهِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا نصر مَنْصُور بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الفقيه يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير يَقُول: رَوَى عَن حاتم أَنَّهُ قَالَ: من دَخَلَ فِي مذهبنا هَذَا فليجعل فِي نَفْسه أربع خصال من الْمَوْت: موتا أبيض وَهُوَ الجوع، وموتا أسود وَهُوَ احتمال الأذى من الخلق، وموتا أحمر وَهُوَ العمل الخالص من الشوب فِي مخالفة الهوى، وموتا أخضر وَهُوَ طرح الرقاع بَعْضهَا عَلَى بَعْض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وَمِنْهُم أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَي بْن معاذ الرازي الواعظ نسيج وحده فِي وقته، لَهُ لسان فِي الرجاء خصوصا وكلام فِي المعرفة، خرج إِلَى بلخ وأقام بِهَا مدة ورجع إِلَى نيسابور، وَمَاتَ بِهَا سنة ثمان وخمسين ومائتين. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن حمدان العكبري يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن السرى يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عيسى يَقُول: سمعت يَحْيَي بْن معاذ يَقُول: كَيْفَ يَكُون زاهدا من لا ورع لَهُ تورع عما لَيْسَ لَك ثُمَّ ازهد فيما لَك، وبهذا الإسناد قَالَ جوع التوابين تجربة وجوع الزاهدين سياسة وجوع الصديقين تكرمة. وَقَالَ يَحْيَي: الفوت أشد من الْمَوْت، لأن الفوت انقطاع عَنِ الحق والموت انقطاع عَنِ الخلق. وَقَالَ يَحْيَي: الزهد ثلاثة أشياء القلة والخلوة والجوع وَقَالَ يَحْيَي: لا تربح عَلَى نفسك بشيء أجل من أَن تشغلها فِي كُل وقت بِمَا هُوَ أولى بِهَا. وقيل: إِن يَحْيَي بْن معاذ تكلم ببلخ فِي تفضيل الغنى عَلَى الفقر فأعطي ثلاثين ألف درهم فَقَالَ بَعْض المشايخ: لا بارك اللَّه لَهُ فِي هَذَا المال، فخرج إِلَى نيسابور فوقع عَلَيْهِ اللص وأخذ ذَلِكَ المال منه. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي قَالَ: أنبأنا أَبُو القاسم عَبْد اللَّهِ بْن الْحُسَيْن بْن بالويه الصوفي قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن علويه يَقُول: سمعت يَحْيَي بْن معاذ الرازي يَقُول: من خان اللَّه فِي السر هتك اللَّه ستره فِي العلانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 سمعت عَبْد اللَّهِ بْن يُوسُفَ يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْعَزِيز المؤذن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن مُحَمَّد الْجُرْجَانِيّ يَقُول: سمعت عَلِي بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت يَحْيَي بْن معاذ الرازي يَقُول: تزكية الأشرار لَك هجنة بك وحبهم لَك عيب عليك وهان عليك من احتاج إليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وَمِنْهُم أَبُو حامد أَحْمَد بْن خضرويه البلخي من كبار مشايخ خراسان صحب أبا تراب النخشبي قدم نيسابور وزرا أبا حفص وخرج إِلَى بسطام فِي زيارة أبى يَزِيد البسطامي وَكَانَ كبيرا فِي الفتوة، وَقَالَ أَبُو حفص: مَا رأيت أحدا أكبر همة ولا أصدق حالا من أَحْمَد بْن خضرويه، وَكَانَ أَبُو يَزِيد يَقُول أستاذنا أَحْمَد. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن حامد يَقُول: كنت جالسا عِنْدَ أَحْمَد بْن خضرويه هُوَ فِي النزع وَكَانَ قَدْ أتى عَلَيْهِ خمس وتسعون سنة فسأله بَعْض أَصْحَابه عَن مسألة فدمعت عيناه وَقَالَ: يا بنى بَاب كنت أدقه منذ خمس وتسعين سنة وَهُوَ ذا يفتح لي الساعة لا أدرى بالسعادة يفتح أم بالشقاوة، أنى لي أوان الجواب؟ قَالَ: وَكَانَ عَلَيْهِ سبع مائة دِينَار وغرماؤه عنده فنظر إليهم وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأَمْوَال وأنت تأخذ عَنْهُم وثيقتهم فأد عنى قَالَ: فدق داق الباب وَقَالَ: أين غرماء أَحْمَد فقضي عَنْهُ ثُمَّ خرجت روحه وَمَاتَ رحمه اللَّه سنة أربعين ومائتين. وَقَالَ أَحْمَد بْن خضرويه: لا نوم أثقل من الغفلة ولا رق أملك من الشهوة ولولا ثقل الغفلة عليك لما ظفرت بك الشهوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَمِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن أَحْمَد بْن أبى الحوارى من أهل دمشق صحب أبا سُلَيْمَان الداراني وغيره، مَات سنة ثلاثين ومائتين وَكَانَ الجنيد يَقُول أَحْمَد بْن أَبِي الحواري ريحانة الشام. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا أَحْمَد الحافظ يَقُول: سمعت سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيز الحلبي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن أَبِي الحواري يَقُول: من نظر إِلَى الدنيا نظر إرادة وحب لَهَا أخرج اللَّه نور اليقين والزهد من قلبه، وبهذا الإسناد يَقُول: من عمل عملا بلا اتباع سنة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فباطل عمله، وبهذا الإسناد قَالَ أَحْمَد بْن أَبِي الحواري: أفضل البكاء بكاء العبد عَلَى مَا فاته من أوقاته عَلَى غَيْر الموافقة. وَقَالَ أَحْمَد: مَا ابتلى اللَّه عبدا بشيء أشد من الغفلة والقسوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَمِنْهُم أَبُو حفص عُمَر بْن مسلمة الحداد من قرية يقال لَهَا كورداباذ عَلَى بَاب مدينة نيسابور عَلَى طريق بخارى كَانَ أحد الأئمة والسادة، مَات سنة نيف وستين ومائتين. قَالَ أَبُو حفص: المعاصي بريد الكفر كَمَا أَن الحمي بريد الْمَوْت، وَقَالَ أَبُو حفص: إِذَا رأيت المريد يحسب السماع فأعلم أَن فِيهِ بقية من البطالة. وَقَالَ: حسن أدب الظاهر عنوان حسن أدب الباطن. وَقَالَ: الفتوة أداء الإنصاف وترك مطالبة الإنصاف. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن مُحَمَّد بْن مُوسَى يَقُول: سمعت أبا عَلي الثقفي يَقُول: كَانَ أَبُو حفص يَقُول: من لَمْ يزن أفعاله وأحواله فِي كُل وقت بالكتاب والسنة وَلَمْ يتهم خواطره فلا نعده فِي ديوان الرجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وَمِنْهُم أَبُو تراب عسكر بْن حصين النخشبي صحب حاتم الأصم وأبا حاتم العطار الْمِصْرِي، مَات سنة خمس وأربعين ومائتين قيل مَات بالبادية نهسته السباع. وَقَالَ ابْن الجلاء: صحبت ست مائة شيخ مَا لقيت فيهم مثل أربعة أولهم أَبُو تراب النخشبي قَالَ أَبُو تراب الفقير قوته مَا وجده ولباسه مَا ستره ومسكنه حيث نزل. وَقَالَ أَبُو تراب: إِذَا صدق العبد فِي العمل وجد حلاوته قبل أَن يعمله فاذا أخلص فِيهِ وجد حلاوته ولذته وقت مباشرة الفعل. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت جدى إِسْمَاعِيل بْن نجيد يَقُول: كَانَ أَبُو تراب النخشبي إِذَا رأى من أَصْحَابه مَا يكره زاد فِي اجتهاد وجدد توبته وَيَقُول: بشؤمي دفعوا إِلَى مَا دفعوا إِلَيْهِ، لأن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] قَالَ: وسمعته يَقُول أيضا لأَصْحَابه: من لبس منكم مرقعة فَقَدْ سأل، ومن قعد فِي خانقاه أَوْ مَسْجِد فَقَدْ سأل، ومن قرأ الْقُرْآن من مصحف أَوْ كيما يسمع النَّاس فَقَدْ سأل، قَالَ: وسمعته يَقُول: كَانَ أَبُو تراب يَقُول: بيني وبين اللَّه عهد أَن لا أمد يدي إِلَى حرام إلا قصرت يدي عَنْهُ. ونظر أَبُو تراب يوما إِلَى صوفي من تلامذته قَدْ مد يده عَلَى قشر بطيخ وَقَدْ طوى ثلاثة أَيَّام فَقَالَ لَهُ أَبُو تراب: تمد يدك عَلَى قشر البطيخ أَنْتَ لا يصلح لَك التصوف الزم السوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الفارسي يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الرازي يَقُول: سمعت يُوسُف بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا تراب النخشبي يَقُول: مَا تمنت نفسي عَلَى شَيْئًا قط إلا مرة واحدة تمنت عَلَى خبزا وبيضا وأنا فِي سفرى فعدلت عَنِ الطريق إِلَى قرية فوثب رجل وتعلق بي وَقَالَ: كَانَ هَذَا مَعَ اللصوص فبطحوني وضربوني سبعين خشبة قَالَ: فوفق عَلَيْنَا رجل صوفي فصرخ وَقَالَ: ويحكم هَذَا أَبُو تراب النخشبي فخلوني واعتذروا إِلَي وأدخلني الرجل منزله وقدم إِلَى خبزا وبيضا فَقُلْتُ: كلها بَعْد سبعين جلدة. وحكى ابْن الجلاء قَالَ دَخَلَ أَبُو تراب مَكَّة طيب النفس فَقُلْتُ: أين أكلت أيها الأستاذ؟ فَقَالَ: أكلة بالبصرة وأكلة بالنباج وأكلة ههنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن خبيق من زهاد المتصوفة صحب يُوسُف بْن أسباط كَانَ كوفي الأصل ولكنه سكن أنطاكية. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول سمعت أبا الفرج الورثاني يَقُول: سمعت أبا الأزهر الميافارقيني يَقُول: سمعت فتح بْن شخرف يَقُول: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن خبيق أول مَا لقيته فَقَالَ لي: يا خراساني إِنَّمَا هِيَ أربع لا غَيْر عينك ولسانك وقلبك وهواك فانظر عينك لا تنظر بِهَا إِلَى مَا لا يحل، وانظر لسانك لا تقل بِهِ شَيْئًا يعلم اللَّه تَعَالَى خلافه من قلبك، وانظر قلبك لا يكن فِيهِ غل ولا حقد عَلَى أحد من الْمُسْلِمِينَ، وانظر هواك لا تهوى بِهِ شَيْئًا من الشر فَإِذَا لَمْ يكن فيك هذه الأربع من الخصال فأجعل الرماد عَلَى رأسك فَقَدْ شقيت. وَقَالَ ابْن خبيق: لا تغتم إلا من شَيْء يضرك غدا، ولا تفرح إلا بشيء يسرك غدا. وَقَالَ ابْن خبيق: وحشة الْعِبَاد عَنِ الحق أَوْ حشت مِنْهُم القلوب ولو أنهم أنسوا بربهم لأنس بِهِمْ كُل أحد. وَقَالَ أنفع الخوف مَا حجزك عَنِ المعاصي وأطال منك الحزن عَلَى مَا فاتك , وألزمك الفكرة فِي بقية عمرك، وأنفع الرجاء مَا سهل عليك العمل. وَقَالَ: طول الاستماع إِلَى الباطل يطفئ حلاوة الطاعة من القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَمِنْهُم أَبُو عَلَى أَحْمَد بْن عَاصِم الأنطاكي من أقران بشر بْن الْحَارِث والسري السقطي والحارث المحاسبي، وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَان الدراني يسميه جاسوس القلوب لحدة فراسته. وَقَالَ أَحْمَد بْن عَاصِم إِذَا طلبت صلاح قلبك فاستعن عَلَيْهِ بحفظ لسانك. وَقَالَ أَحْمَد بْن عَاصِم قَالَ اللَّه تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ونحن نستزيد من الْفِتْنَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وَمِنْهُم أَبُو السري مَنْصُور بْن عمار من أهل مرو من قرية يقال لَهَا دندانقان وقيل: إنه من بوشنج أقام بالبصرة وَكَانَ من الواعظين الأكابر. وَقَالَ مَنْصُور بْن عمار من جزع من مصائب الدنيا تحولت مصيبته فِي دينه. وَقَالَ مَنْصُور بْن عمار أَحْسَن لباس العبد التواضع والانكسار وأحسن لباس العارفين التقوى قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] وقيل إِن سبب توبته أَنَّهُ وجد فِي الطريق رقعة مكتوبا عَلَيْهَا بسم اللَّه الرحمن الرحيم فرفعها فلم يجد لَهَا موضعا فأكلها فرأى فِي المنام كأن قائلا قَالَ لَهُ: فتح اللَّه عليك بَاب الحكمة باحترامك لتلك الرقعة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمة اللَّه يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس القاص يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن الشعراني يَقُول: رأيت مَنْصُور بْن عمار فِي المنام فَقُلْتُ لَهُ: مَا فعل اللَّه بك؟ فَقَالَ: قَالَ لي: أَنْتَ مَنْصُور بْن عمار؟ فَقُلْتُ: بلى يا رب قَالَ أَنْتَ الَّذِي كنت تزهد النَّاس فِي الدنيا وترغب فِيهَا؟ قُلْت: قَدْ كَانَ ذَلِكَ يا رب ولكني مَا أتخذت مجلسا إلا بدأت بالثناء عليك وثنيت بالصلاة عَلَى نبيك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثلثت بالنصيحة لعبادك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فَقَالَ: صدق ضعوا لَهُ كرسيا يمجدني فِي سمائي بَيْنَ ملائكتي كَمَا كَانَ يمجدني فِي أرضى بَيْنَ عبادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَمِنْهُم أَبُو صَالِح حمدون بْن أَحْمَد بْن عمار القصار نيسابوري منه أنتشر مذهب الملامتية بنيسابور صحب سلمان الباروسي وأبا تراب النخشبي، مَات سنة إحدى وسبعين ومائتين. سئل حمدون مَتَى يَجُوز للرجل أَن يتكلم عَلَى النَّاس فَقَالَ: إِذَا تعين عَلَيْهِ أداء فرض من فرائض اللَّه تَعَالَى فِي علمه أَوْ خاف هلاك إِنْسَان فِي بدعة وَهُوَ يرجو أَن ينجيه اللَّه تَعَالَى منها. وَقَالَ من ظن أَن نَفْسه خير من نفس فرعون فَقَدْ أظهر الكبر. وَقَالَ مذ علمت أَن للسلطان فراسة فِي الأشرار مَا خرج خوف السلطان من قلبي. وَقَالَ: إِذَا رأيت سكرانا فتمايل لئلا تبغي عَلَيْهِ فتبتلى بمثل ذَلِكَ. وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن منازل: قُلْت لأبي صَالِح أوصني فَقَالَ: إِن استطعت أَن لا تغضب لشيء من الدنيا فافعل. وَمَاتَ صديق لَهُ وَهُوَ عِنْدَ رأسه فلما مَات أطفأ حمدون السراج فَقَالُوا لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فِي مثل هَذَا الوقت يزاد فِي السراج الدهن فَقَالَ لَهُمْ: إِلَى هَذَا الوقت كَانَ الدهن لَهُ ومن هَذَا الوقت صار الدهن للورثة. وَقَالَ حمدون: من نظر فِي سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عَن درك درجات الرجال. وَقَالَ: لا تفش عَلَى أحد مَا تحب أَن يَكُون مستورا منك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وَمِنْهُم أَبُو القاسم الجنيد بْن مُحَمَّد: سيد هذه الطائفة وإمامهم اصله من نهاوند ومنشؤه ومولده بالعراق وأبوه كَانَ يبيع الزجاج فلذلك يقال لَهُ القواريري، وَكَانَ فقيها عَلَى مذهب أَبِي ثور وَكَانَ يفتي فِي حلقته بحضرته وَهُوَ ابْن عشرين سنة، صحب خاله السرى والحارث المحاسبي ومحمد بْن عَلِيّ القصاب، مَات سنة سبع وتسعين ومائتين. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن البغدادي يَقُول: سمعت الفراغاني يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول وَقَدْ سئل من العارف قَالَ من نطق عَن سرك وأنت ساكت. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد الجريري يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول مَا أخذنا التصوف عَنِ القيل والقال لكن عَنِ الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد الجريري يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا نصر الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول لرجل ذكر المعرفة، وَقَالَ: أهل المعرفة بالله يصلون عَلَى ترك الحركات من بَاب البر والتقرب إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فَقَالَ الجنيد: إِن هَذَا قَوْل قوم تكلموا بإسقاط الأعمال وَهُوَ عندي عظيمة والذي يسرق ويزني أَحْسَن حالا من الَّذِي يَقُول هَذَا فَإِن العارفين بالله تَعَالَى أخذوا الأعمال عَنِ اللَّه تَعَالَى وإليه رجعوا فِيهَا ولو بقيت ألف عام لَمْ أنقص من أعمال البر ذرة إلا أَن يحال بي دونها. وَقَالَ الجنيد: إِن أمكنك أَن لا تكون آلة بيتك إلا خزفا فافعل وَقَالَ الجنيد: الطرق كلها مسدودة عَلَى الخلق إلا عَلَى من اقتفى أثر الرسول عَلَيْهِ الصلاة والسلام. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا عُمَر الأنماطي يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: لو أقبل صادق عَلَى اللَّه ألف ألف سنة ثُمَّ أعرض عَنْهُ لحظة كَانَ مَا فاته أَكْثَر مِمَّا ناله. وَقَالَ الجنيد: من لَمْ يحفظ الْقُرْآن وَلَمْ يكتب الْحَدِيث لا يقتدى بِهِ فِي هَذَا الأمر، لأن علمنا هَذَا مقيد بالكتاب والسنة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا نصر الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول عَنِ الجنيد: مذهبنا هَذَا مقيد بأصول الكتاب والسنة وَقَالَ الجنيد: علمنا هَذَا مشيد بحَدِيث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أنبأنا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه قَالَ: سمعت أبا الْحُسَيْن بْن فارس يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن عَلِي بْن إِبْرَاهِيم الحداد يَقُول حضرت مجلس الْقَاضِي أَبِي الْعَبَّاس بْن شريح فتكلم فِي الفروع والأصول بكلام حسن عجبت منه فلما رأى إعجابي قَالَ: أتدري من أين هَذَا؟ قُلْت يَقُول بِهِ الْقَاضِي فَقَالَ هَذَا ببركة مجالسة أَبِي القاسم الجنيد. وقيل للجنيد: من أين استفدت هَذَا العلم فَقَالَ: من جلوسي بَيْنَ يدي اللَّه ثلاثين سنة تَحْتَ تلك الدرجة، وأمأ إِلَى درجة فِي داره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يحكي ذَلِكَ وسمعته يَقُول: رؤى فِي يده سبحة فقيل لَهُ أَنْتَ مَعَ شرفك تأخذ بيدك سبحة فَقَالَ: طريق بِهِ وصلت إِلَى ربي لا أفارقه. وسمعت الأستاذ أبا عَلِيّ رحمه اللَّه يَقُول كَانَ الجنيد يدخل كُل يَوْم حانوته ويسبل الستر ويصلى أربع مائة ركعة ثُمَّ يعود إِلَى بيته. وَقَالَ أَبُو بَكْر العطوي كنت عِنْدَ الجنيد حِينَ مَات ختم الْقُرْآن ثُمَّ ابتدأ من البقرة وقرأ سبعين آية ثُمَّ مَات رحمه اللَّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وَمِنْهُم أَبُو عُثْمَان سَعِيد بْن إِسْمَاعِيل الجبري: المقيم بنيسابور وَكَانَ من الري صحب شاه الكرماني ويحي بْن معاذ الرازي ثُمَّ ورد نيسابور مَعَ شاه الكرماني عَلِي أَبِي حفص الحداد وأقام عنده وتخرج بِهِ وزوجه أَبُو حفص ابنته، مَات سنة ثمان وتسعين ومائتين وعاش بَعْد أَبِي حفص نيفا وثلاثين سنة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا عَمْرو بْن حمدان يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان يَقُول: لا يكمل إيمان الرجل حَتَّى يستوي فِي قلبه أربعة أشياء المنع والإعطاء والعز والذل. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت بَعْض أَصْحَاب أَبِي عُثْمَان يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان يَقُول: صحبت أبا حفص مدة وأنا شاب فطردني مرة وَقَالَ: لا تجلس عندي فقمت وَلَمْ أوله ظهري وانصرفت إِلَى ورائي ووجهي إِلَى وجهه حَتَّى غبت عَن عينيه وجعلت عَلَى نفسي أَن أحفر عَلَى بابه حفرة لا أخرج منها إلا بأمره، فلما رأى ذَلِكَ أدناني وجعلني من خواص أَصْحَابه. وَقَالَ: وَكَانَ يقال: فِي الدنيا ثلاثة لا رابع لَهُمْ: أَبُو عُثْمَان بنيسابور والجنيد ببغداد وأبو عَبْد اللَّهِ بْن الجلاء بالشام. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: منذ أربعين سنة مَا أقامني اللَّه تَعَالَى فِي حال فكرهته ولا نقلني إِلَى غيره فسخطته. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الشعراني يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان يَقُول ذَلِكَ. ولما تغير عَلَى أبى عُثْمَان الحال مزق ابنه أَبُو بَكْر قميصا عَلَى نَفْسه ففتح أَبُو عُثْمَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 عينيه وَقَالَ: خلاف السنة يا بنى فِي الظاهر علامة رياء فِي الباطن. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد الملامتي يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الوراق يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان يَقُول الصحبة مَعَ اللَّه بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة، والصحبة مَعَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وسلم باتباع سنته ولزوم ظاهر العلم، والصحبة مَعَ أولياء اللَّه تَعَالَى بالاحترام والخدمة، والصحبة مَعَ الأهل بحسن الخلق , والصحبة مَعَ الإخوان بدوام البشر مَا لَمْ يكن إثما والصحبة مَعَ الجهال بالدعاء لَهُمْ والرحمة عَلَيْهِم. سمعت عَبْد اللَّهِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا عَمْرو بْن نجيد يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان يَقُول: من أمر السنة عَلَى نَفْسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى عَلَى نَفْسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، قَالَ اللَّه تَعَالَى {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وَمِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد النوري: بغدادي المولد والمنشأ بغوي الأصل صحب السري السقطي وابن أَبِي الحواري وَكَانَ من أقران الجنيد رحمه اللَّه مَات خمس وتسعين ومائتين وَكَانَ كبير الشأن حسن المعاملة واللسان. قَالَ النوري رحمه اللَّه التصوف ترك كُل حظ للنفس. وَقَالَ النوري أعز الأشياء فِي زمننا شيئان عالم يعمل بعلمه، وعارف ينطق عَن حقيقة. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد البردعي يَقُول: سمعت المرتعش يَقُول: سمعت النوري يَقُول: من رأيته يدعى مَعَ اللَّه حالة تخرجه عَن حد العلم الشرعي فلا تقربن منه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت الفرغاني يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول منذ مَات النوري لَمْ يخبر عَن حقيقة الصدق أحد. وَقَالَ أَبُو أَحْمَد المغازلي: مَا رأيت أعبد من النوري قيل: ولا الجنيد قَالَ: ولا الجنيد. وَقَالَ النوري: كانت المراقع غطاء عَلَى الدر فصارت اليوم مزابل عَلَى جيف. وقيل: كَانَ يخرج كُل يَوْم من داره ويحمل الْخَبَر مَعَهُ ثُمَّ يتصدق بِهِ فِي الطريق ويدخل مسجدا يصلى فِيهِ إِلَى قريب من الظهر ثُمَّ يخرج ويفتح بَاب حانوته ويصوم فكان أهله يتوهمون أَنَّهُ يأكل فِي السوق وأهل السوق يتوهمون أَنَّهُ يأكل فِي بيته، بقى عَلَى هَذَا فِي ابتدائه عشرين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَمِنْهُم أَبُو عَبْد اللَّهِ أَحْمَد بْن يَحْيَي الجلاء بغدادي الأصل أقام بالرملة ودمشق من أكابر مشايخ الشام صحب أبا تراب وذا النون وأبا عُبَيْد اليسري وأباه يَحْيَى الجلاء. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد الْعَزِيز الطبري يَقُول: سمعت أبا عُمَر الدمشقي يَقُول: سمعت ابْن الجلاء يَقُول قُلْت لأبي وأمي: أحب أَن تهباني لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فقالا: قَدْ وهبناك لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فغبت عَنْهُمَا مدة فلما رجعت كانت ليلة مطيرة فدققت الباب فَقَالَ لي أَبِي: من ذا؟ قُلْت: ولدك أَحْمَد فَقَالَ: كَانَ لنا ولد فوهبناه لِلَّهِ تَعَالَى ونحن من العرب لا نسترجع مَا وهبناه وَلَمْ يفتح لي الباب. وَقَالَ ابْن الجلاء من استوى عنده المدح والذم فَهُوَ زاهد، ومن حافظ عَلَى الفرائض فِي أول مواقيتها فَهُوَ عابد، ومن رأى الأفعال كلها من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ موحد لا يرى إلا واحدا. ولما مَات ابْن الجلاء نظروا إِلَيْهِ وَهُوَ يضحك فَقَالَ الطبيب: إنه حي ثُمَّ نظر إِلَى مجسته فَقَالَ: إنه ميت ثُمَّ كشف عَن وجهه فَقَالَ: لا أدرى أهو ميت أم حي، وَكَانَ فِي داخل جلده عرق عَلَى شكل لِلَّهِ. وَقَالَ ابْن الجلاء رحمه اللَّه: كنت أمشى مَعَ أستاذي فرأيت حدثا جميلا فَقُلْتُ: يا أستاذ ترى يعذب اللَّه هذه الصورة فَقَالَ: أَوْ نظرت إِلَيْهِ؟ سترى غبه قَالَ: فنسيت الْقُرْآن بعده بعشرين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد رويم بْن أَحْمَد بغدادي من أجلة المشايخ، مَات سنة ثَلاث وثلاث مائة وَكَانَ مقرئا فقيها عَلَى مذهب دَاوُد قَالَ رويم: من حكم الحكيم أَن يوسع عَلَى إخوانه فِي الأَحْكَام ويضيق عَلَى نَفْسه فِيهَا فَإِن التوسعة عَلَيْهِم اتباع العلم والتضييق عَلَى نَفْسه من حكم الورع. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن بَكْر يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن خفيف يَقُول: سألت رويما فَقُلْتُ: أوصني فَقَالَ: مَا هَذَا الأمر إلا ببذل الروح فَإِن أمكنك الدخول فِيهِ مَعَ هذه وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية. وَقَالَ رويم: قعودك مَعَ كُل طبقة من النَّاس أسلم من قعودك مَعَ الصوفية فَإِن كُل الخلق قعدوا عَلَى الرسوم وقعدت هذه الطائفة عَلَى الحقائق وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع وطالب هَؤُلاءِ أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق فمن قعد معهم وخالفهم فِي شَيْء مِمَّا يتحققون بِهِ نزع اللَّه نور الإيمان من قلبه. وَقَالَ رويم: اجتزت ببغداد وقت الهاجرة ببعض السكك وأنا عطشان فاستقيت من دار ففتحت صبية بابها ومعها كوز فلما رأتني قَالَتْ: صوفي يشرب بالنهار فَمَا أفطرت بَعْد ذَلِكَ اليوم قط، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وَقَالَ رويم: إِذَا رزقك اللَّه المقال والفعال فأخذ منك المقال وأبقى عليك الفعال فإنها نعمة، وإذا أخذ منك الفعال وأبقى عليك المقال فإنها مصيبة، وإذا أخذ منك كليهما فَهِيَ نقمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وَمِنْهُم أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن الفضل البلخي ساكن سمرقند بلخي الأصل أخرج منها فدخل سمرقند وَمَاتَ بِهَا وصحب أَحْمَد بْن خضريه وغيره وَكَانَ أَبُو عُثْمَان الحيري يميل إِلَيْهِ جدا، مَات سنة تسع عشرة وثلاث مائة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد الفراء يَقُول: سمعت أبا بَكْر بْن عُثْمَان يَقُول: كتب أَبُو عُثْمَان الحيري إِلَى مُحَمَّد بْن الفضل يسأله مَا علامة الشقاوة؟ فَقَالَ: ثلاثة أشياء يرزق العلم ويحرم العمل، ويرزق العمل ويحرم الإخلاص، ويرزق صحبة الصالحين ولا يحترم لَهُمْ، وَكَانَ أَبُو عُثْمَان الحيري يَقُول: مُحَمَّد بْن الفضل سمسار الرجال سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الفضل يَقُول: الراحة فِي السجن من أماني النفوس، سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الفضل يَقُول: ذهاب الإِسْلام من أربعة لا يعملون بِمَا يَعْلَمُونَ ويعملون بِمَا لا يَعْلَمُونَ ولا يتعلمون مَا لا يَعْلَمُونَ ويمنعون النَّاس من التعلم، وبهذا الإسناد قَالَ العجب مِمَّن يقطع المفاوز ليصل إِلَى بيته فيرى آثار النبوة كَيْفَ لا يقطع نَفْسه وهواه ليصل إِلَى قلبه فيرى آثار ربه وَقَالَ: إِذَا رأيت المريد يستزيد من الدنيا فذلك من علامات إدباره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وسئل عَنِ الزهد فَقَالَ: النظر إلى الدنيا بعين النقص والإعراض عَنْهَا تعززا وتظرفا وتشرفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَمِنْهُم أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن نصر الزقاق الكبير كَانَ من أقران الجنيد من أكابر مصر سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت الكتاني يَقُول: لما مَات الزقاق انقطعت حجة الفقراء فِي دخولهم مصر، وَقَالَ الزقاق من لَمْ يصحبه التقي فِي فقره أكل الحرام المحض. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الْعَزِيز يَقُول: سمعت الزقاق يَقُول: تهت فِي تيه بَنِي إسرائيل مقدار خمسة عشر يوما فلما وقعت عَلَى الطريق استقبلني إِنْسَان جندي فسقاني شربة من ماء فعادت قسوتها عَلَى قلبي ثلاثين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَمِنْهُم أَبُو عَبْد اللَّهِ عَمْرو بْن عُثْمَان الْمَكِّي لقى أبا عَبْد اللَّهِ النباجي وصحب أبا سَعِيد الخراز وغيره شيخ الْقَوْم وإمام الطائفة فِي الأصول والطريقة مَات ببغداد سنة إحدى وتسعين ومائتين. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت عَمْرو بْن عُثْمَان الْمَكِّي يَقُول: كُل ما توهمه قلبك أو رسخ فِي مجاري فكرتك أَوْ خطر فِي معارضات قلبك من حسن أَوْ بهاء أَوْ أَنَس أَوْ جمال أَوْ ضياء أَوْ شبح أَوْ نور أَوْ شخص أَوْ خيال فالله تَعَالَى بعيد من ذَلِكَ ألا تسمع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَقَالَ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ آية 3-4} وبهذا الإسناد قَالَ: العلم قائد والخوف سائق والنفس حرون بَيْنَ ذَلِكَ جموح خداعة رواغة فاحذرها وراعها بسياسة العلم وسقها بتهديد الخوف يتم لَك مَا تريد وَقَالَ: لا يقع عَلَى الواجد عبارة لأنه سر اللَّه عِنْدَ الْمُؤْمِنيِنَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وَمِنْهُم سمنون بْن حمزة وكنيته أَبُو الْحَسَنِ ويقال: أَبُو القاسم، صحب السري وأبا أَحْمَد القلانسي ومحمد بْن عَلِيّ القصار وغيرهم، قيل إنه أنشد: وليس لي فِي سواك حظ ... فكيما شئت فاختبرني فأخذه الأسر من ساعته فكان يدور عَلَى المكاتب وَيَقُول: ادعوا لعمكم الكذاب وقيل: إنه أنشد هذه الأبيات فَقَالَ بَعْض أَصْحَابه لبعض: سمعت البارحة وكنت فِي الرستاق صوت أستاذنا سمنون يدعو اللَّه ويتضرع إِلَيْهِ ويسأله الشفاء فَقَالَ آخر: وأنا أَيْضًا كنت سمعت هَذَا البارحة وكنت بالموضع الفلاني فَقَالَ ثالث ورابع مثل هَذَا، فأخبر سمنون وَكَانَ قَدْ أمتحن بعلة الأسر وَكَانَ يصبر ولا يجزع فلما سمعهم يقولون هَذَا وَلَمْ يكن هُوَ دعا ولا نطق بشيء من ذَلِكَ علم أَن المقصود منه إظهار الجزع تأدبا بالعبودية وسترا لحاله فأخذ يطوف عَلَى المكاتب وَيَقُول: ادعوا لعمكم الكذاب. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن الْحَسَن البغدادي يَقُول: سمعت جعفرا الخلدي يَقُول: قَالَ لي أَبُو أَحْمَد المغازي كَانَ ببغداد رجل فرق عَلَى الفقراء أربعين ألف درهم فَقَالَ لي سمنون: يا أبا أَحْمَد ألا ترى مَا قَدْ أنفق هَذَا وَمَا قَدْ عمله ونحن مَا نجد شَيْئًا؟ فامض بنا إِلَى موضع نصلي فِيهِ بكل درهم أنفقه ركعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فمضينا إِلَى المدائن فصلينا أربعين ألف صلاة وَكَانَ سمنون ظريف الخلق أَكْثَر كلامه فِي المحبة وَكَانَ كبير الشأن مَات قبل الجنيد كَمَا قيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَمِنْهُم أَبُو عُبَيْد البسري من قدماء المشايخ صحب أبا تراب النخشبي. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت الدقي يَقُول: سمعت ابْن الجلاء يَقُول: لقيت ست مائة شيخ مَا رأيت مثل أربعة: ذي النون الْمِصْرِي وأبي تراب النخشبي وأبي عُبَيْد البسري. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد الْبَغَوِي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن مَعْمَر يَقُول: سمعت أبا ذرعة الحسني يَقُول: كَانَ أَبُو عُبَيْد البسري يوما عَلَى جرجر يدرس قمحا لَهُ وبينه وبين الحج ثلاثة أَيَّام إذ أتاه رجلان فقالا: يا أبا عُبَيْدَة تنشط للحج؟ فَقَالَ: لا ثُمَّ التفت إِلَى وَقَالَ: شيخك عَلَى هَذَا أقدر منهما يَعْنِي نَفْسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَمِنْهُم أَبُو الفوارس شاه بْن شجاع الكرماني كَانَ من أولاد الملوك صحب أبا تراب النخشبي وأبا عُبَيْد البسري وأولئك الطبقة، وَكَانَ أحد الفتيان كبير الشأن مَات قبل الثلاث مائة، وَقَالَ شاه: علامة التقوى الورع وعلامة الورع الوقوف عِنْدَ الشبهات وَكَانَ يَقُول لأَصْحَابه: اجتنبوا الكذب والخيانة والغيبة ثُمَّ اصنعوا مَا بدالكم. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت جدى ابْن نجيد يَقُول: قَالَ شاه الكرماني: من غض بصره عَنِ المحارم وأمسك نَفْسه عَنِ الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة وعود نَفْسه أكل الحلال لَمْ تخطئ لَهُ فراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَمِنْهُم يُوسُف بْن الْحُسَيْن شيخ الري والجبال فِي وقته وَكَانَ نسيج وحده فِي إسقاط التصنع وَكَانَ عالما أديبا صحب ذا النون المصري وأبا تراب النخشبي ورافق أبا سَعِيد الخراز، مَات سنة أربع وثلاث مائة. قَالَ يُوسُف بْن الْحُسَيْن: لأن ألقى اللَّه تَعَالَى بجميع المعاصي أحب إِلَى من أَن ألقاه بذرة من التصنع. وَقَالَ يُوسُف بْن الْحُسَيْن: إِذَا رأيت المريد يشتغل بالرخص فاعلم أَنَّهُ لا يجئ منه شَيْء. وكتب إِلَى الجنيد لا أذاقك اللَّه طعم نفسك فإنك إِن ذقتها لَمْ تذق بعدها خيرا أبدا. وَقَالَ يُوسُف بْن الْحُسَيْن: رأيت آفات الصوفية فِي صحبة الأحداث ومعاشرة الأضداد ورفق النسوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَمِنْهُم أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عَلِي الترمذي من كبار الشيوخ وَلَهُ تصانيف فِي علوم الْقَوْم صحب أبا تراب النخشبي وَأَحْمَد بْن خضرويه وابن الجلاء وغيرهم. سئل مُحَمَّد بْن عَلِيّ عَن صفة الخلق فَقَالَ: ضعف ظاهر ودعوى عريضة. وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ مَا صنفت حرفا عَن تدبير ولا ينسب إلي شَيْء منه ولكن كَانَ إِذَا اشتد عَلِي وقتي أتسلي بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وَمِنْهُم أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عُمَر الوراق الترمذي أقام ببلخ وصحب أَحْمَد بْن خضرويه وغيره وَلَهُ تصانيف فِي الرياضات. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن مُحَمَّد البلخي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الوراق يَقُول: من أرضى الجوارح بالشهوات غرس فِي قلبه شجر الندامات. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر البلخي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الوراق يَقُول: لو قيل للطمع من أبوك قَالَ الشك فِي المقدور، ولو قيل مَا حرفتك قَالَ اكتساب الذل، ولو قيل مَا غايتك قَالَ الحرمان. وَكَانَ أَبُو بَكْر الوراق يمنع أَصْحَابه عَنِ الأسفار والسياحات وَيَقُول: مفتاح كُل بركة الصبر فِي موضع إرادتك إِلَى أَن تصح لَك الإرادة، فَإِذَا صحت لَك الإرادة فَقَدْ ظهرت عليك أوائل البركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَمِنْهُم أَبُو سَعِيد أَحْمَد بْن عيسى الخراز من أهل بغداد صحب ذا النون المصري والنباجي وأبا عُبَيْد البسري والسري وبشرا وغيرهم، مَات سنة سبع وسبعين ومائتين. قَالَ أَبُو سَعِيد الخراز: كُل باطن يخالفه ظاهر فهول باطل. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس الصياد يَقُول: سمعت أبا سَعِيد الخراز يَقُول: رأيت إبليس فِي النوم وَهُوَ يمر عني ناحية فَقُلْتُ لَهُ: تَعَالَى مَالِك؟ فَقَالَ: إيش أعمل بكم؟ أنتم طرحتم عَن نفوسكم مَا أخادع بِهِ النَّاس فَقُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ الدنيا فلما ولى عنى التقت إلي وَقَالَ: غَيْر أَن لي فيكم لطيفة فَقُلْتُ: وَمَا هي؟ قَالَ: صحبة الأحداث. وَقَالَ أَبُو سَعِيد الخراز: صحبت الصوفية مَا صحبت فَمَا وقع بيني وبينهم خلاف قَالُوا لَمْ؟ قَالَ: لأني كنت معهم عَلَى نفسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وَمِنْهُم أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل المغربي أستاذ إِبْرَاهِيم بْن شيبان وتلميذ عَلِي بْن رزين عاش مائة وعشرين سنة وَمَاتَ سنة تسع وتسعين ومائتين، كَانَ عجب الشأن لَمْ يأكل مِمَّا وصلت إِلَيْهِ يد بَنِي آدم سنين كثيرة، وَكَانَ يتناول من أصول الحشيش أشياء تعود أكلها. وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ المغربي: أفضل الأعمال عُمَارَة الأوقات بالموافقات وَقَالَ: أَعْظَم النَّاس ذلا فَقِير داهن غنيا أَوْ تواضع لَهُ، وَأَعْظَم الخلق عزا غنى تذلل للفقراء وحفظ حرمتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وَمِنْهُم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مسروق من أهل طوس سكن بغداد وصحب الْحَارِث المحاسبي والسري السقطي توفي ببغداد سنة تسع. وقيل: سنة ثمان وتسعين ومائتين، قَالَ ابْن مسروق من راقب اللَّه تَعَالَى فِي خطرات قلبه عصمه اللَّه فِي حركات جوارحه، وَقَالَ: تعظيم حرمات الْمُؤْمِنيِنَ من تعظيم حرمات اللَّه تَعَالَى وَبِهِ يصل العبد إِلَى محل حقيقية التقوى، وَقَالَ: شجرة المعرفة تسقي بماء الفكرة، وشجرة الغفلة تسقي بماء الجهل، وشجرة التوبة تسقي بماء الندامة، وشجرة المحبة تسقي بماء الاتفاق والموافقة، وَقَالَ: مَتَى طمعت فِي المعرفة وَلَمْ تحكم قبلها مدارج الإرادة فأنت فِي جهل، ومتى طلبت الإرادة قبل تصحيح مقام التوبة فأنت فِي غفلة عما تطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وَمِنْهُم أَبُو الْحَسَنِ عَلِي بْن سهل الأَصْبَهَانِي من أقران الجنيد قصده عَمْرو بْن عُثْمَان الْمَكِّي فِي دين ركبه فقضاه عَنْهُ وَهُوَ ثلاثون ألف درهم، لقي أبا تراب النخشبي والطبقة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الطبري يَقُول: سمعت عَلِي بْن سهل يَقُول: المبادرة إِلَى الطاعات من علامة التوفيق، والتقاعد عَنِ المخالفات من علامات حسن الرعاية، ومراعاة الأسرار من علامات التيقظ وإظهار الدعاوى من رعونات البشرية، ومن لَمْ تصح مبادئ إرادته لا يسلم فِي منتهي عواقبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الجريري من كبار أَصْحَاب الجنيد وصحب سهل بْن عَبْد اللَّهِ أقعد بَعْد الجنيد فِي مكانه وَكَانَ عالما بعلوم هذه الطائفة كبير الحال، مَات سنة إحدى عشرة وثلاث مائة. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الشيرازي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَطَاء الروذباري يَقُول: مَات الجريري سنة الهبير فجزت بِهِ بَعْد سنة فَإِذَا هُوَ مستند جالس وركبته إِلَى صدره وَهُوَ مشير إِلَى اللَّه بأصبعه. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الفارسي يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد الجريري يَقُول: من استولت عَلَيْهِ النفس صار أسيرا فِي حكم الشهوات محصورا فِي سجن الهوى وحرم اللَّه عَلَى قلبه الفوائد فلا يستلذ بكلام الحق تَعَالَى ولا يستحليه وإن كثر ترداده عَلَى لسانه لقوله تَعَالَى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] وَقَالَ الجريري: رؤية الأصول باستعمال الفروع، وتصحيح الفروع بمعارضة الأصول، ولا سبيل إِلَى مقام مشاهدة الأصول إلا بتعظيم مَا عظم اللَّه من الوسائط والفروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَمِنْهُم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سهل بْن عَطَاء الأدمي من كبار مشايخ الصوفية وعلمائهم كن الخراز يعظم شأنه وَهُوَ من أقران الجنيد وصحب إِبْرَاهِيم المارستاني، مَات سنة تسع وثلاث مائة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا سَعِيد الْقُرَشِيّ يَقُول: سمعت ابْن عَطَاء يَقُول: من ألزم نَفْسه آداب الشريعة نور اللَّه قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أوامره وأفعاله وأخلاقه. وَقَالَ ابْن عَطَاء: أَعْظَم الغفلة غفلة العبد عَن ربه وغفلته عَن أوامره ونواهيه وغفلته عَن آداب معاملته. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الشيرازي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَحْمَد الصوفي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَطَاء يَقُول: كُل مَا سئلت عَنْهُ فاطلبه فِي مفازة العلم، فَإِن لَمْ تجده ففي ميدان الحكمة، فَإِن لَمْ تجده فزنه بالتوحيد، فَإِن لَمْ تجده فِي هذه المواضع الثلاثة فاضرب بِهِ وجه الشَّيْطَان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن أَحْمَد الخواص من أقران الجنيد والنوري وَلَهُ فِي التوكل والرياضات حظ كبير. مَات بالري سنة إحدى وتسعين ومائتين كَانَ مبطونا فكان كلما قام توضأ وعاد إِلَى الْمَسْجِد وصلى ركعتين فدخل مرة الماء فمات رحمه اللَّه. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت الخواص يَقُول: لَيْسَ العلم بكثرة الرواية إِنَّمَا العالم من اتبع واستعمله واقتدى بالسنن وإن كَانَ قليل العلم. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت الأزدي يَقُول: سمعت الخواص يَقُول: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة الْقُرْآن بالتدبير وخلاء البطن وقيام الليل والتضرع عِنْدَ السحر ومجالسة الصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الخراز من أهل الري جاور بمكة صحب أبا حفص وأبا عمران الكبير وَكَانَ من المتورعين مَات قبل العشرة والثلاث مائة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا نصر الطوسي يَقُول: سمعت الدقي يَقُول: دخلت عَلَى عَبْد اللَّهِ الخراز ولي أربعة أَيَّام لَمْ آكل فَقَالَ: يجوع أحدكم أربعة أَيَّام فيصبح ينادى عَلَيْهِ الجوع ثُمَّ قَالَ: إيش يَكُون لو أَن كُل نفس منفوسة تلفت فيما تؤمله عِنْدَ اللَّه؟ ترى يَكُون ذَلِكَ كثيرا؟ وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ الخراز: الجوع طَعَام الزاهدين والذكر طَعَام العارفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَمِنْهُم أَبُو الْحَسَنِ بنان بْن مُحَمَّد الحمال واسطي الأصل أقام بمصر وَمَاتَ بِهَا سنة ست عشرة وثلاث مائة كبير الشأن صاحب الكرامات. سئل بنان عَن أجل أحوال الصوفية فَقَالَ: الثقة بالمضمون والقيام بالأوامر ومراعاة السر والتخلي من الكونين. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد الرازي يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول: ألقى بنان الحمال بَيْنَ يدي السبع فجعل السبع يشمه ولا يضره، فلما أخرج قيل لَهُ: مَا الَّذِي كَانَ فِي قلبك حيث شمك السبع؟ قَالَ: كنت أفكر فِي اخْتِلاف الْعُلَمَاء فِي سؤر السباع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وَمِنْهُم أَبُو حمزة البغدادي البزار مَات قبل الجنيد وَكَانَ من أقرانه صحب السري والحسن المسوحي وَكَانَ عالما بالقراءات فقيها، وَكَانَ من أولاد عيسى بْن أبان وَكَانَ أَحْمَد بْن حنبل يَقُول لَهُ فِي المسائل: مَا تقول فِيهَا يا صوفي؟ . قيل: كَانَ يتكلم فِي مجلسه يَوْم جمعة فتغير عَلَيْهِ الحال فسقط عَن كرسيه وَمَاتَ فِي الجمعة الثَّانِيَة، وقيل: مَات سنة تسع وثمانين ومائتين. قَالَ أَبُو حمزة: من علم طريق الحق تَعَالَى سهل عَلَيْهِ سلوكه، ولا دليل عَلَى الطريق إِلَى اللَّه تَعَالَى إلا متابعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أحواله وأفعاله وأقواله، وَقَالَ أَبُو حمزة: من رزق ثلاثة أشياء فَقَدْ نجا من الآفات: بطن خال مَعَ قلب قانع، وفقر دائم مَعَهُ زهد حار، وصبر كامل مَعَهُ ذكر دائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَمِنْهُم أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن مُوسَى الواسطي خراساني الأصل من فرغانة صحب الجنيد والنوري عالم كبير الشأن أقام بمرو وَمَاتَ بِهَا بَعْد العشرين وثلاث مائة. قَالَ الواسطي: الخوف والرجاء زمامان يمنعان من سوء الأدب وَقَالَ: مطالعة الأعواض عَلَى الطاعات من نسيان الفضل، وَقَالَ الواسطي: إِذَا أراد اللَّه هوان عَبْد ألقاه إِلَى هَؤُلاءِ الأنتان والجيف يريد بِهِ صحبة الأحداث. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد الْعَزِيز المروزي يَقُول: سمعت الواسطي رحمه اللَّه يَقُول: جعلوا سوء أدبهم إخلاصا، وشره نفوسهم انبساطا، ودناءة الهمم جلادة، فعموا عَنِ الطريق وسلكوا فِيهِ المضيق فلا حياة تنمو فِي شواهدهم ولا عُبَادَة تزكو فِي محاضرتهم، إِن نطقوا فبالغضب، وإن خاطبوا فبالكبر، توثب أنفسهم ينبئ عَن ضمائرهم، وشرحهم فِي المأكول يظهر مَا فِي سويداء أسرارهم، قاتلهم اللَّه أنى يؤفكون. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: سمع بَعْض المراوزة إِنْسَانا صيدلانيا يَقُول: اجتاز الواسطي يقوم جمعة بباب حانوتي قاصدا إِلَى الجامع فانقطع شسع نعله، فَقُلْتُ: أيها الشيخ أتأذن لي أَن أصلح نعلك؟ فَقَالَ: أصلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فاصلحت شسعة فَقَالَ: أتدري لَمْ أنقطع شسع نعلي؟ فَقُلْتُ: حَتَّى تقول، قَالَ: لأني مَا اغتسلت للجمعة، فَقُلْتُ لَهُ: يا سيدي ههنا حمام تدخله؟ فَقَالَ: نعم فأدخلته الحمام فاغتسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وَمِنْهُم أَبُو الْحَسَنِ بْن الصائغ واسمه عَلِي بْن مُحَمَّد بْن سهل الدينوري أقام بمصر وَمَاتَ بِهَا من كبار المشايخ، قَالَ أَبُو عُثْمَان المغربي: مَا رأيت من المشايخ أنور من أَبِي يعقوب النهرجوري ولا أَكْثَر هيبة من أَبِي الْحَسَن بْن الصائغ، مَات سنة ثلاثين وثلاث مائة سئل ابْن الصائغ عَنِ الاستدلال بالمشاهد عَلَى الغائب فَقَالَ: كَيْفَ يستدل بصفات من لَهُ مثل ونظير عَلَى من لا مثل لَهُ ولا نظير. وسئل عَن صفة المريد فَقَالَ: مَا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118] الآية. وَقَالَ: الأحوال كالبروق فَإِذَا ثبتت فَهُوَ حَدِيث النفس وملازمة الطبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن دَاوُد الرقي من كبار مشايخ الشام من أقران الجنيد وابن الجلاء وَقَدْ عُمَر وعاش إِلَى سنة ست وعشرين وثلاث مائة. وَقَالَ إِبْرَاهِيم الرقي: المعرفة بإثبات الحق عَلَى مَا هُوَ خارجا عَن كُل مَا هُوَ موهوم. وَقَالَ: القدرة ظاهرة، والأعين مفتوحة ولكن أنوار البصائر قَدْ ضعفت، وَقَالَ: أضعف الخلق من ضعف عَن رد شهواته، وأقوى الخلق من قوى عَلَى ردها، وَقَالَ: علامة محبة اللَّه إبثار طاعته ومتابعة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَمِنْهُم ممشاد الدينوري من كبار مشايخهم، مَات سنة تسع وتسعين ومائتين. قَالَ ممشاد: أدب المريد فِي التزام حرمات المشايخ، وخدمة الإخوان والخروج عَنِ الأسباب وحفظ آداب الشرع عَلَى نَفْسه. وَقَالَ ممشاد: مَا دخلت قط عَلَى أحد من شيوخي إلا وأنا خال من جَمِيع مالي أنظر بركات مَا يريد عَلَى من رؤيته وكلامه فَإِن من دَخَلَ عَلَى شيخ بحظه انقطع عَن بركات رؤيته، ومجالسته وكلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وَمِنْهُم خير النساج صحب أبا حمزة البغدادي ولقى السري وَكَانَ من أقران أَبِي الْحَسَن النوري إلا أَنَّهُ عُمَر عمرا طويلا وعاش كَمَا قيل مائة وعشرين سنة وتاب فِي مجلسه الشبلي والخواص وَكَانَ أستاذ الْجَمَاعَة، وقيل: كَانَ اسمه مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل من سامرة وإنما سمى خيرا النساج لأنه خرج إِلَى الحج فأخذه رجل عَلَى بَاب الكوفة: وَقَالَ أَنْتَ عبدى واسمك خير وَكَانَ أسود فلم يخالفه واستعمله الرجل فِي نسج الخز فكان يَقُول: لَهُ يا خير فَيَقُول لبيك، ثُمَّ قَالَ لَهُ الرجل بَعْد سنتين: غلطت لا أَنْتَ عبدى ولا اسمك خير فمضى وتركه، وَقَالَ: لا أغير اسما سماني بِهِ رجل مُسْلِم. وَقَالَ: الخوف سوط اللَّه يقوم بِهِ أنفسا قَدْ تعودت سوء الأدب. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن القزويني يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن المالكي يَقُول: سألت من حضرموت خير النساج عَن أمره فَقَالَ: لما حضرت صلاة المغرب غشى عَلَيْهِ ثُمَّ فتح عينيه وأومأ فِي ناحية الْبَيْت وَقَالَ: قف عافاك اللَّه فإنما أَنْتَ عَبْد مأمور وأنا عَبْد مأمور وَمَا أمرت بِهِ لا يفوتك وَمَا أمرت بِهِ يفوتني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ودعا بماء فتوضأ للصلاة وصلى ثُمَّ تمدد وغمض عينيه وتشهد وَمَاتَ فرؤي فِي المنام فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه بك؟ فَقَالَ لسائله: لا تسألني عَن هَذَا ولكن استرحت من دنياكم الوضرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَمِنْهُم أَبُو حمزة الخراساني بنيسابور أصله من محله ملقاباذ من أقران الجنيد والخراز وأبي تراب النخشبي وَكَانَ ورعا دينا. قَالَ أَبُو حمزة: من استشعر ذكر الْمَوْت حبب اللَّه إِلَيْهِ كُل باق، وبغض اللَّه كُل فان. وَقَالَ: العارف بالله يدافع عيشه يوما بيوم ويأخذ عيشه يوما ليوم. وَقَالَ لَهُ رجل أوصني، فَقَالَ: هيئ زادك للسفر الَّذِي بَيْنَ يديك. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الطيب العكي يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن الْمِصْرِي يَقُول: سمعت أبا حمزة الخراساني يَقُول: كنت قَدْ بقيت محرما فِي عباء أسافر كُل سنة ألف فرسخ تطلع الشَّمْس عَلَى وتغرب كلما حللت أحرمت، توفي سنة تسعين ومائتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وَمِنْهُم أَبُو بَكْر دلف بْن جحدر الشبلي بغدادي المورد والمنشأ وأصله من أسروشنة صحب الجنيد ومن فِي عصره وَكَانَ شيخ وقته حالا وظرفا وعلما، مالكي المذهب عاش سبعا وثمانين سنة وَمَاتَ سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة، وقبره ببغداد ولما تاب الشبلي فِي مجلس خير النساج أتي دوماوند وَقَالَ: كنت والي بلدكم فاجعلوني فِي حل، وكانت مجاهداته فِي بدايته فَوْقَ الحد. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: بلغني أَنَّهُ أكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر ولا يأخذه النوم، ولو لَمْ يكن من تعظيمه للشرع إلا مَا حكاه بكران الدينوري فِي آخر عمره لكان كثيرا. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: كَانَ الشبلي رحمه اللَّه يَقُول فِي آخر أيامه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وكم من موضع لو مت فِيهِ ... لكنت بِهِ نكالا فِي العشيرة وَكَانَ الشبلي إِذَا دَخَلَ شَهْر رمضان جد فَوْقَ جد من عاصره وَيَقُول: هَذَا شَهْر عظمه ربي فأنا أول من يعظمه. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ يحكى ذَلِكَ عَنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد المرتعش نيسابوري من محلة الحيرة وقيل: من ملقاباذ صحب أبا حفص وأبا عُثْمَان ولقي الجنيد وَكَانَ كبير الشأن وَكَانَ يقيم فِي مَسْجِد الشونيزية، مَات ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة، قَالَ المرتعش: الإرادة حبس النفس عَن مراداتها والإقبال عَلَى أوامر اللَّه تَعَالَى والرضا بموارد الْقَضَاء عَلَيْهِ، وقيل: لَهُ إِن فلانا يمشي عَلَى الماء فَقَالَ: عندي أَن من مكنه اللَّه تَعَالَى من مخالفة هواه فَهُوَ أَعْظَم من المشي فِي الهواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وَمِنْهُم أَبُو عَلَى أَحْمَد بْن مُحَمَّد الروذباري بغدادي أقام بمصر وَمَاتَ بِهَا سنة اثنين وعشرين وثلاث مائة صحب الجنيد والنوري وابن الجلاء، والطبقة، أظرف المشايخ، وأعلمهم بالطريقة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يَقُول: سئل أَبُو عَلَى الروذباري عمن يسمع الملاهي وَيَقُول: هِيَ لي حلال لأني وصلت إِلَى درجة لا تؤثر فِي اختلاف الأحوال فَقَالَ: نعم قَدْ وصل ولكن إِلَى سقر. وسئل عَنِ التصوف فَقَالَ: هَذَا مذهب كُلهُ جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل، سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول: من علامة الاغترار أَن تسئ فيحسن اللَّه إليك فتترك الإنابة والتوبة توهما أنك تسامح فِي الهفوات وترى أَن ذَلِكَ من بسط الحق لَك، وَقَالَ: كَانَ أستاذي فِي التصوف الجنيد، وَفِي الفقه أَبُو الْعَبَّاس بْن سريج، وَفِي الأدب ثعلب، وَفِي الْحَدِيث إِبْرَاهِيم الحربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن منازل شيخ الملامتية وأوحد وقته، صحب حمدون القصار وَكَانَ عالما وكتب الْحَدِيث الكثير مَات بنيسابور سنة تسع وعشرين أَوْ ثلاثين وثلاث مائة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ المعلم يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن منازل يَقُول: لَمْ يضع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه اللَّه تَعَالَى بتضييع السنن وَلَمْ يبل أحد بتضييع السنن إلا أوشك أَن يبتلى بالبدع. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا أَحْمَد بْن عيسى يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن منازل يَقُول: أفضل أوقاتك وقت تسلم فِيهِ من هواجس نفسك ووقت تسلم النَّاس فِيهِ من سوء ظنك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وَمِنْهُم أَبُو عَلَى مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَهَّاب الثقفي إمام الوقت صحب أبا حفص وحمدون القصار وَبِهِ ظهر التصوف بنيسابور، مَات سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الثقفي يَقُول: لو أَن رجلا جمع العلوم كلها وصحب طوائف النَّاس لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة من شيخ أَوْ إمام أَوْ مؤدب ناصح ومن لَمْ يأخذ أدبه من أستاذ يريه عيوب أعماله ورعونات نَفْسه لا يَجُوز الاقتداء بِهِ فِي تصحيح المعاملات، وَقَالَ: أَبُو عَلَى رحمه اللَّه: يَأْتِي عَلَى هذه الأمة زمان لا تطيب المعيشة فِيهِ لمؤمن إلا بَعْد استناده إِلَى منافق، وَقَالَ: أف من أشغالا لدنيا إِذَا أقبلت وأف من حسراتها إِذَا أدبرت، والعاقل من لا يركن إِلَى شَيْء إِذَا أقبل كَانَ شغلا، وإذا أدبر كَانَ حسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وَمِنْهُم أَبُو الخير الأقطع مغربي الأصل سكن تينات وَلَهُ كرامات وفراسة حادة كَانَ كبير الشأن، مَات سنة نيف وأربعين وثلاث مائة. قَالَ أَبُو الخير: مَا بلغ أحد إِلَى حالة شريفة إلا بملازمة الموافقة ومعانقة الأدب وأداء الفرائض وصحبة الصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَمِنْهُم أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن عَلِيّ الكتاني بغدادي الأصل صحب الجنيد والخراز والنوري وجاور بمكة إِلَى أَن مَات سنة اثنين وعشرين وثلاث مائة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: نظر الكتاني إِلَى شيخ أبيض الرأس واللحية يسأل النَّاس فَقَالَ: هَذَا رجل أضاع حق اللَّه فِي صغره فضيعه اللَّه فِي كبره، وَقَالَ الكتاني: الشهوة زمام الشَّيْطَان من أخذ بزمامه كَانَ عبده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وَمِنْهُم أَبُو يعقوب إِسْحَاق بْن مُحَمَّد النهرجوري صحب أبا عَمْرو الْمَكِّي وأبا يعقوب السوسي والجنيد وغيرهم مَات بمكة مجاورا بِهَا سنة ثلاثين وثلاث مائة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن أَحْمَد بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت النهرجوري يَقُول: الدنيا بحر والآخرة ساحل، والمركب التقوى، والناس سفر. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت النهرجوري يَقُول: رأيت رجلا فِي الطواف بفرد عين يَقُول: أعوذ بك منك فَقُلْتُ: مَا هَذَا الدعاء؟ فَقَالَ: نظرت يوما إِلَى الشخص فاستحسنته وإذا لطمة وقعت عَلَى بصرى فسالت عيني فسمعت هاتفا يَقُول: لطمة بنظرة ولو زدت لزدناك. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت النهرجوري يَقُول: أفضل الأحوال مَا قارن العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وَمِنْهُم أَبُو الْحَسَنِ عَلِي بْن مُحَمَّد المزين من أهل بغداد، أَصْحَاب سهل بْن عَبْد اللَّهِ والجنيد والطبقة، مَات بمكة مجاورا سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة وَكَانَ ورعا كبيرا. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت المزين يَقُول: الذنب بَعْد الذنب عقوبة الذنب الأَوَّل، والحسنة بَعْد الحسنة ثواب الحسنة الأولى. وسئل المزين عَنِ التوحيد فَقَالَ: أَن تعلم أَن أوصافه تَعَالَى بائنة لأوصاف خلقه باينهم بصفاته قدما كَمَا باينوه بصفاتهم حدثا. وَقَالَ: من لَمْ يستغن بالله أحوجه اللَّه إِلَى الخلق، ومن استغنى بالله أحوج اللَّه إِلَيْهِ الخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَمِنْهُم أَبُو عَلِي بْن الكاتب واسمه الْحَسَن بْن أَحْمَد، صحب أبا عَلِيّ الروذباري وأبا بَكْر الْمِصْرِي وغيرهما، كَانَ كبيرا فِي حاله، مَات سنة نيف وأربعين وثلاث مائة. قَالَ ابْن الكاتب: إِذَا سكن الخوف فِي القلب لَمْ ينطق اللسان إلا بِمَا يعنيه. وَقَالَ ابْن الكاتب: المعتزلة نزهوا اللَّه تَعَالَى من حيث العقل فأخطؤوا، والصوفية نزهوه من حيث العلم فأصابوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَمِنْهُم مظفر القرمسيني من أشياخ الجبل صحب عَبْد اللَّهِ الخراز وغيره. قَالَ مظفر القرمسيني: الصوم عَلَى ثلاثة أوجه: صوم الروح بقصر الأمل، وصوم العقل بخلاف الهوى، وصوم النفس بالإمساك عَنِ الطعام والمحارم. وَقَالَ مظفر أخس الأرفاق أرفاق النسوان عَلَى أي وجه كَانَ. وَقَالَ: الجوع إِذَا ساعدته القناعة فَهُوَ من مزرعة الفكر وينبوع الحكمة وحياة الفطنة ومصباح القلب. وَقَالَ: أفضل أعمال العبيد حفظ أوقاتهم الحاضرة وَهُوَ أَن لا يقصروا فِي أمر ولا يتجاوزوا عَن حد. وَقَالَ: من لَمْ يأخذ الأدب عَن حَكِيم لَمْ يتأدب بِهِ مريد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وَمِنْهُم أَبُو بَكْر عَبْد اللَّهِ بْن طاهر الأبهري من أقران الشبلي من مشايخ الجبل عالم ورع صحب يُوسُف بْن الْحُسَيْن وغيره مَات بقرب من الثلاثين والثلاث مائة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا بَكْر بْن طاهر يَقُول: من حكم الفقير أَن لا يَكُون لَهُ رغبة فَإِن كَانَ ولا بد فلا تجاوز رغبته كفايته يعنى المحتاج إِلَيْهِ، وبهذا الإسناد قَالَ: إِذَا أحببت أَخَا فِي اللَّه فأقلل مخالطته فِي الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَمِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن بْن بنان ينتمي إِلَى أَبِي سَعِيد الخراز من كبار مشايخ مصر قَالَ ابْن بنان: كُل صوفي كَانَ هُم الرزق قائما فِي قلبه، فلزوم العمل أقرب إِلَيْهِ، وعلامة سكون القلب إِلَى اللَّه أَن يَكُون بِمَا فِي يد اللَّه أوثق منه بِمَا فِي يده، وَقَالَ: اجتنبوا دناءة الأخلاق كَمَا تجتنبون الحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَمِنْهُم أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن شيبان القرمسيني شيخ وقته صحب أبا عَبْد اللَّهِ المغربي والخواص وغيرهما. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا يَزِيد المروزي الفقيه يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن شيبان يَقُول: من أراد أَن يتعطل أَوْ يتبطل فليلزم الرخص. وبهذا الإسناد قَالَ: علم الفناء والبقاء يدور عَلَى إخلاص الوحدانية وصحة العبودية، وَمَا كَانَ غَيْر هَذَا فَهُوَ المغاليط والزندقة، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: السفلة من يعصى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وَمِنْهُم أَبُو بَكْر الْحُسَيْن بْن عَلِي بْن يزدانيار من أرمينية لَهُ طريقة يختص بِهَا فِي التصوف وَكَانَ عالما ورعا وَكَانَ ينكر عَلَى بَعْض العارفين فِي إطلاقات وألفاظ لَهُمْ. قَالَ ابْن يزدانيار: إياك أَن تطمع فِي الأنس بالله وأنت تحب الأنس بالناس، وإياك أَن تطمع فِي حب اللَّه وأنت تحب الفضول، وإياك أَن تطمع فِي المنزلة عِنْدَ اللَّه وأنت تحب المنزلة عِنْدَ النَّاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وَمِنْهُم أَبُو سَعِيد بْن الأعرابي واسمه أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن زِيَاد البصري جاور الحرم وَمَاتَ بِهِ سنة إحدى وأربعين وثلاث مائة، صحب الجنيد وعمرو بْن عُثْمَان الْمَكِّي والنوري وغيرهم، قَالَ ابْن الأعرابي: أخسر الخاسرين من أبدى لِلنَّاسِ صَالِح أعماله، وبارز بالقبيح من هُوَ أقرب إِلَيْهِ من حبل الوريد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَمِنْهُم أَبُو عَمْرو مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الزجاجي النَّيْسَابُورِيّ جاور بمكة سنين كثيرة وَمَاتَ بِهَا، صحب الجنيد وأبا عُثْمَان والنوري والخواص ورويما، مَات سنة ثمان وأربعين وثلاث مائة، سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت جدى أبا عَمْرو بْن نجيد يَقُول: سئل أَبُو عَمْرو الزجاجي مَا بالك تتغير عِنْدَ التكبيرة الأولى فِي الفرائض؟ فَقَالَ: لأني أخشي أَن أفتتح فريضتي بخلاف الصدق، فمن يَقُول: اللَّه أكبر وَفِي قلبه شَيْء أكبر منه أَوْ قَدْ كبر شَيْئًا سواه عَلَى مرور الأوقات فَقَدْ كذب نَفْسه عَلَى لسانه، وَقَالَ: من تكلم عَن حال لَمْ يصل إِلَيْهِ كَانَ كلامه فتنة لمن يسمعه، ودعوى تتولد فِي قلبه، وحرمه اللَّه الوصول إِلَى تلك الحال. وَقَدْ جاور بمكة سنين كثيرة لَمْ يتطهر فِي الحرم بَل كَانَ يخرج إِلَى الحل ويتطهر فِيهِ احتراما للحرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير بغدادي المنشأة والمولد صحب الجنيد وانتمى إِلَيْهِ وصحب النوري ورويما وسمنون والطبقة. مَات ببغداد سنة ثمان وأربعين وثلاث مائة. قَالَ جَعْفَر: لا يجد العبد لذة المعاملة مَعَ اللَّه مَعَ لذة النفس، لأن أهل الحقائق قطعوا العلائق الَّتِي تقطعهم عَنِ الحق قبل أَن تقطعهم العلائق. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت جعفرا يَقُول: إِن مَا بَيْنَ العبد وبين الوجود أَن تسكن التقوى قلبه، فَإِذَا سكنت التقوى قلبه نزلت عَلَيْهِ بركات العلم، وزالت عَنْهُ رغبة الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وَمِنْهُم أَبُو الْعَبَّاس السياري واسمه القاسم بْن القاسم من مرور صحب الواسطي وانتمى إِلَيْهِ فِي علوم هذه الطائفة وَكَانَ عالما، مَات سنة اثنين وأربعين وثلاث مائة، سئل أَبُو الْعَبَّاس السياري بماذا يروض المريد نَفْسه؟ فَقَالَ: بالبصر عَلَى فعل الأوامر واجتناب النواهي وصحبة الصالحين وخدمة الفقراء، وَقَالَ: مَا التذ عاقل بمشاهدة الحق قط، لأن مشاهدة الحق فناء لَيْسَ فِيهَا لذة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وَمِنْهُم أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن دَاوُد الدينوري المعروف بالدقي أقام بالشام وعاش أَكْثَر من مائة سنة مَات بدمشق بَعْد الخمسين والثلاث مائة صحب ابْن الجلاء والزقاق، قَالَ أَبُو بَكْر الدقي: المعدة موضوع يجمع الأطعمة فاذا طرحت فِيهَا الحلال صدرت الأعضاء بالأعمال الصالحة، وإذا طرحت فِيهَا الشبهة اشتبه عليك الطريق إِلَى اللَّه، وإذا طرحت فِيهَا التبعات كَانَ بينك وبين أمر اللَّه حجاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وَمِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الرازي مولده ومنشؤه بنيسابور صحب أبا عُثْمَان الحيري والجنيد ويوسف بْن الْحُسَيْن ورويما وسمنونا وغيرهم، مَات سنة ثَلاث وخمسين وثلاث مائة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول وَقَدْ سئل: مَا بال النَّاس يعرفون عيوبهم ولا يَرْجِعُونَ إِلَى الصواب؟ فَقَالَ: لأنهم اشتغلوا بالمباهاة بالعلم وَلَمْ يشتغلوا باستعماله واشتغلوا بالظواهر وَلَمْ يشتغلوا بآداب البواطن، فأعمى اللَّه قلوبهم وقيد جوارحهم عَنِ العبادات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَمِنْهُم أَبُو عُمَر إِسْمَاعِيل بْن نجيد صحب أبا عُثْمَان ولقي الجنيد وَكَانَ كبير الشأن آخر من مَات من أَصْحَاب أَبِي عُثْمَان. توفي بمكة سنة ست وستين وثلاث مائة، سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا عَمْرو بْن نجيد يَقُول: كُل حال لا يَكُون عَن نتيجة علم فَإِن ضرره عَلَى صاحبه أَكْثَر من نفعه، قَالَ: وسمعته يَقُول: من ضيع فِي وقت من أوقاته فريضة افترضها اللَّه عَلَيْهِ حرم لذة تلك الفريضة ولو بَعْد حِينَ. قَالَ: وسئل عَنِ التصوف فَقَالَ: الصبر تَحْتَ الأمر والنهي قَالَ: وَقَالَ: آفة العبد رضاه من نَفْسه بِمَا هُوَ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَمِنْهُم أَبُو الْحَسَنِ عَلِي بْن أَحْمَد بْن سهل البوشنجي أحد فتيان خراسان لقي أبا عُثْمَان وابن عَطَاء والجريري وأبا عَمْرو الدمشقي، مَات سنة ثمان وأربعين وثلاث مائة. وسئل البوشنجي عَنِ المروءة فَقَالَ: هِيَ ترك استعمال مَا هُوَ محرم عليك مَعَ الكرام الكاتبين، وَقَالَ لَهُ إِنْسَان: ادع اللَّه لي فَقَالَ: أعاذك اللَّه من فتنتك، وَقَالَ: أول الإيمان منوط بآخره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وَمِنْهُم أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن خفي الشيرازي صحب رويما والجريري وابن عَطَاء وغيرهم، مَات سنة إحدى وتسعين وثلاث مائة شيخ الشيوخ وواحد وقته. قَالَ ابْن خفيف: الإرادة استدامة الكد وترك الراحة وَقَالَ: لَيْسَ شَيْء أضر عَلَى المريد من مسامحة النفس فِي ركوب الرخص وقبول التأويلات. وسئل عَنِ القرب فَقَالَ: قربك منه تَعَالَى بملازمة الموافقات وقربه منك بدوام التوفيق. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن خفيف يَقُول: رُبَّمَا كنت أقرأ فِي ابتداء أمرى فِي ركعة واحدة عشر آلاف مرة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وربما كنت اقرأ فِي ركعة واحدة الْقُرْآن كُلهُ، وربما كنت أصلي من الغداة إِلَى العصر ألف ركعة. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن باكويه الشيرازي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا أَحْمَد الصغير يَقُول: دَخَلَ يوما من الأيام فَقِير، فَقَالَ للشيخ أَبِي عَبْد اللَّهِ بْن خفيف: بي وسوسة، فَقَالَ الشيخ: عهدي بالصوفية يسخرون من الشَّيْطَان والآن الشَّيْطَان يسخر مِنْهُم، وسمعته يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس الكرخي يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن خفيف يَقُول: ضعفت عَنِ القيام فِي النوافل فجعلت بدل كُل ركعة من أورادي ركعتين قاعدا للخبر: صلاة القاعد عَلَى النصف من صلاة القائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وَمِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن بندار بْن الْحُسَيْن الشيرازي كَانَ عالما بالأصول كبيرا فِي الحال صحب الشبلي. مَات بأرجان سنة ثَلاث وخمسين وثلاث مائة. قَالَ بندار بْن الْحُسَيْن لا تخاصم لنفسك فإنها ليست لَك دعها لمالكها يفعل بِهَا مَا يريد، وَقَالَ بندار: صحبة أهل البدع تورث الإعراض عَنِ الحق، وَقَالَ بندار: أترك مَا تهوى لما تأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَمِنْهُم أَبُو بَكْر الطمستاني: صحب إِبْرَاهِيم الدباغ وغيره، وَكَانَ أوحد وقته علما وحالا. مَات بنيسابور بَعْد سنة أربعين وثلاث مائة. قَالَ أَبُو بَكْر الطمستاني: النعمة العظمي الخروج من النفس والنفس أَعْظَم حجاب بينك وبين اللَّه. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الشيرازي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الطمستاني يَقُول: إِذَا هُم القلب عوقب فِي الوقت، وَقَالَ: الطريق واضح والكتاب والسنة قائم بَيْنَ أظهرنا وفضل الصَّحَابَة معلوم لسبقهم إِلَى الهجرة ولصحبتهم، فمن صحب منا الكتاب والسنة وتغرب عَنْهُ نَفْسه والخلق وهاجر بقلبه إِلَى اللَّه فَهُوَ الصادق المصيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وَمِنْهُم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد الدينوري صحب يُوسُف بْن الْحُسَيْن وابن عَطَاء والجريري وَكَانَ عالما فاضلا ورد نيسابور وأقام بِهَا مدة وَكَانَ يعظ النَّاس، ويتكلم عَلَى لسان المعرفة، ثُمَّ ذهب إِلَى سمرقند وَمَاتَ بِهَا بَعْد الأربعين وثلاث مائة. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الدينوري: أدنى الذكر أَن تنسى مَا دونه، ونهاية الذكر أَن يغيب الذاكر فِي الذكر عَنِ الذكر، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: لسان الظاهر لا يغير حكم الباطن، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس الدينوري: نقضوا أركان التصوف وعدموا سبيلها وغيروا معانيها بأسامي أحدثوها، سموا الطمع زيادة، وسوء الأدب إخلاصا، والخروج عَنِ الحق شطحا، والتلذذ بالمذموم طيبة، واتباع الهوى ابتلاء، والرجوع عَلَى الدنيا وصلا، وسوء الخلق صولة، والبخل جلادة، والسؤال عملا، وبذاءة اللسان ملامة، وَمَا هَذَا كَانَ طريق الْقَوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وَمِنْهُم أَبُو عُثْمَان سَعِيد بْن سلام المغربي أوحد عصره لَمْ يوصف مثله قبله، صحب ابْن الكاتب وحبيبا المغربي وأبا عَمْرو الزجاجي ولقي النهرجوري وابن الصائغ وغيرهم. مَات بنيسابور سنة ثَلاث وسبعين وثلاث مائة، وأوصي بأن يصلي عَلَيْهِ الإِمَام أَبُو بَكْر بْن فورك رحمه اللَّه تَعَالَى. سمعت الأستاذ أبا بَكْر بْن فورك يَقُول: كنت عِنْدَ أَبِي عُثْمَان المغربي حِينَ قرب أجله وعلى القوال الصغير يَقُول شَيْئًا، فلما تغير عَلَيْهِ الحال أشرنا عَلَى عَلِي بالسكوت ففتح الشيخ أَبُو عُثْمَان عينيه، وَقَالَ: لَمْ لا يَقُول عَلِي شَيْئًا؟ فَقُلْتُ لبعض الحاضرين: سلوه علام يسمع المستمع فإني أحتشمه فِي تلك الحالة، فسألوه فَقَالَ: إِنَّمَا يسمع من حيث يسمع وَكَانَ فِي الرياضة كبير الشأن. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: التقوى هِيَ الوقوف مَعَ الحدود لا يقصر فِيهَا ولا يتعداها، وَقَالَ: من آثر صحبة الأغنياء عَلَى مجالسه الفقراء ابتلاه اللَّه بموت القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَمِنْهُم أَبُو القاسم إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد النصرأباذي شيخ خراسان فِي وقته صحب الشبلي وأبا عَلِي الروذباري والمرتعش، جاور بمكة حرسها اللَّه تَعَالَى سنة ست وستين وثلاث مائة وَمَاتَ بِهَا سنة تسع وستين وثلاث مائة وَكَانَ عالما بالحَدِيث كثيرا الرواية. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت النصرأباذي يَقُول: إِذَا بدا لَك شَيْء من بوادي الحق فلا تلتفت معها إِلَى جنة ولا إِلَى نار فَإِذَا رجعت عَن تلك الحال فعظم مَا عظمه اللَّه. وسمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: قبل للنصر أباذي: إِن بَعْض النَّاس يجالس النسوان يَقُول: أنا معصوم فِي رؤيتهن فَقَالَ: ما دامت الأشباح باقية فان الأمر والنهي باق والتحليل والتحريم مخاطب بِهِ ولن يجترئ عَلَى الشبهات إلا من تعرض للمحرمات. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: قَالَ النصراباذي: أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، وتعظيم حرمات المشايخ ورؤية أعذار الخلق والمداومة عَلَى الأوراد وترك ارتكاب الرخص والتأويلات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَمِنْهُم أَبُو الْحَسَنِ عَلِي بْن إِبْرَاهِيم الحصري البصري سكن بغداد عجيب الحال واللسان شيخ وقته ينتمي إِلَى الشبلي مَات ببغداد سنة إحدى وسبعين وثلاث مائة قَالَ الحصري: النَّاس يقولون الحصري لا يَقُول بالنوافل وعلى أوراد من حال الشباب لو تركت ركعة لعوتبت، وَقَالَ: من ادعى فِي شَيْء من الحقيقة كذبته شواهد كشف البراهين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وَمِنْهُم أَبُو عَبْد اللَّهِ أَحْمَد بْن عَطَاء الروذباري ابْن أخت الشيخ أَبِي عَلِي الروذباري شيخ الشام فِي وقته مَات بصور سنة تسع وستين وثلاث مائة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَلِي بْن سَعِيد المصيصي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَطَاء الروذباري: يَقُول كنت راكبا جملا فغاصت رجلا الجمل فِي الرمل فَقُلْتُ: جل اللَّه فَقَالَ الجمل: جل اللَّه، وكأن أَبُو عَبْد اللَّهِ الروذباري إِذَا دعا أَصْحَابه مَعَهُ إِلَى دعوة فِي دور السوقة ومن لَيْسَ من أهل التصوف لا يخبر الفقراء بِذَلِكَ، وَكَانَ يطمعهم شَيْئًا فاذا فرغوا أخبرهم ومضى بِهِمْ، فكانوا قَدْ أكلوا فِي الوقت فلا يمكنهم أَن يمدوا أيديهم إِلَى طَعَام الدعوة إلا بالتعزز، وإنما كَانَ يفعل ذَلِكَ لئلا تسوء ظنون النَّاس بهده الطائفة، فيأثموا بسببهم، وقيل: كَانَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الروذباري يمشي عَلَى أثر الفقراء يوما، وكذا كانت عادته أَن يمشي عَلَى أثرهم وكانوا يمضون إِلَى دعوة، فَقَالَ إِنْسَان: يقال هَؤُلاءِ المستحلون وبسط لسانه فيهم وَقَالَ فِي أثناء كلامه: إِن واحدا مِنْهُم قَد استقرض مني مائة درهم وَلَمْ يردها، ولست أدري أين أطلبه، فلما دخلوا دار الدعوة قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الروذباري لصاحب الدار وَكَانَ من محبي هذه الطائفة: ائتني بمائة درهم إِن أردت سكون قلبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فأتاه بِهَا فِي الوقت فَقَالَ لبعض أَصْحَابه: احمل هذه المائة إِلَى البقال الفلاني وقل لَهُ: هذه المائة الَّتِي استقرضها منك بَعْض أَصْحَابنا وَقَدْ وقع لَهُ فِي التأخير بِهَا عذر وَقَدْ بعثها الآن فاقبل عذره، فمضى الرجل وفعل، فلما رجعوا من الدعوة اجتازوا بحانوت البقال فأخذ البقال فِي مدحهم يَقُول: هَؤُلاءِ هُم الثقاة الأمناء الصلحاء وَمَا أشبه ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الروذباري: أقبح من كُل قبيح صوفي شحيح. قَالَ أَبُو القاسم الأستاذ الإِمَام جمال الإِسْلام رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. هَذَا هُوَ ذكر جَمَاعَة من شيوخ هذه الطائفة كَانَ الغرض من ذكرهم فِي هَذَا الموضوع التنبيه عَلَى أنهم مجمعون عَلَى تعظيم الشريعة متصفون بسلوك طرق الرياضة مقيمون عَلَى متابعة السنة غَيْر مخلين بشيء من آداب الديانة، متفقون عَلَى أَن من خلا من المعاملات والمجاهدات وَلَمْ يبن أمره عَلَى أساس الورع والتقوى كَانَ مفتريا عَلَى اللَّه سبحانه وتعالى فيما يدعيه مفتونا هلك فِي نَفْسه، وأهلك من أغتر بِهِ مِمَّن ركن إِلَى أباطيله ولو تقصينا وتتبعنا ورد عَنْهُم من ألفاظهم وحكاياتهم ووصف سيرهم، مِمَّا يدل عَلَى أحوالهم لطال بِهِ الكتاب وحصل منه الملال، وَفِي هَذَا القدر الَّذِي لوحنا بِهِ فِي تحصيل المقصود غنية، وبالله التوفيق. فأما المشايخ الَّذِينَ أدركناهم وعاصرناهم وإن لَمْ يتفق لنا لقياهم مثل الأستاذ الشهيد لسان وقته وأوحد عصره: أَبِي عَلِي الْحَسَن بْن عَلِي الدقاق، والشيخ نسيج وحده فِي وقته: أَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، وأبي الْحَسَن عَلِي بْن جهضم مجاور الحرم، والشيخ أَبِي الْعَبَّاس القصار بطبرستان، وَأَحْمَد الأسود بالدينور، وأبي القاسم الصيرفي بنيسابور، وأبي سهل الخشاب الكبير بِهَا، ومنصور بْن خلف المغربي، وأبي سَعِيد الماليني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وأبي طاهر الخوزندي قدس اللَّه أرواحهم وغيرهم، فلو اشتغلنا بذكرهم وتفصيل أحوالهم لخرجنا عَنِ المقصود فِي الإيجاز، وغير ملتبس من أحوالهم حسن سيرهم فِي معاملاتهم. وسنورد من حكاياتهم طرفا فِي مواضع من هذه الرسالة إِن شاء اللَّه تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 بَاب فِي تفسير ألفاظ تدور بَيْنَ هذه الطائفة وبيان مَا يشكل منها اعلم أَن من المعلوم أَن كُل طائفة من الْعُلَمَاء لَهُمْ ألفاظ يستعملونها انفردوا بِهَا عمن سواهم تواطأوا عَلَيْهَا لأغراض لَهُمْ فِيهَا من تقريب الفهم عَلَى المخاطبين بِهَا أَوْ تسهيل عَلَى أهل تلك الصنعة فِي الوقوف عَلَى معانيهم بإطلاقها، وَهَذَهِ الطائفة مستعملون ألفاظًا فيما بينهم قصدوا بِهَا الكشف عَن معانيهم لأنفسهم والإجمال والستر عَلَى من باينهم فِي طريقتهم لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة عَلَى الأجانب غيرة مِنْهُم عَلَى أسرارهم أَن تشيع فِي غَيْر أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف أَوْ مجلوبة بضرب تصرف، بَل هِيَ معان أودعها اللَّه تَعَالَى قلوب قوم واستخلص لحقائقها أسرار قوم ونحن نريد شرح هذه الألفاظ تسهيل الفهم عَلَى من يريد الوقوف عَلَى معانيهم من سالكي طرقهم ومتبعي سننهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فمن ذَلِكَ الوقت حقيقة الوقت عِنْدَ أهل التحقيق حادث متوهم علق حصوله عَلَى حادث متحقق، فالحادث المتحقق وقت الحادث المتوهم تقول: آتيك رأس الشهر، فالإتيان متوهم ورأس الشهر حادث متحقق فرأس الشهر وقت الإتيان. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه تَعَالَى يَقُول: الوقت مَا أَنْتَ فِيهِ إِن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن، يريد بِهَذَا أَن الوقت مَا كَانَ هُوَ الغالب عَلَى الإِنْسَان، وَقَدْ يعنون بالوقت مَا هُوَ فِيهِ من الزَّمَان، فَإِن قوما قَالُوا: الوقت مَا بَيْنَ الزمانين يَعْنِي الماضي والمستقبل، ويقولون: الصوفي ابْن وقته. يريدون بِذَلِكَ أَنَّهُ مشتغل بِمَا هُوَ أولى بِهِ فِي الحال قائم بِمَا هُوَ مطالب بِهِ فِي الحين. وقيل: الفقير لا يهمه ماضي وقته وآتيه، بَل يهمه وقته الَّذِي هُوَ فِيهِ. وقيل: الاشتغال بفوات وقت ماض تضييع وقت ثان، وَقَدْ يريدون بالوقت مَا يصادفهم من تصريف الحق لَهُمْ دُونَ مَا يختارون لأنفسهم، ويقولون فُلان بحكم الوقت، أي أَنَّهُ مستسلم لما يبدو لَهُ من الغيب من غَيْر اختيار لَهُ، وَهَذَا فيما لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِم فِيهِ أمر أَوِ اقتضاء بحق شرع، إذ التضييع لما أمرت بِهِ، وإحالة الأمر فِيهِ عَلَى التقدير، وترك المبالاة بِمَا يحصل منك من التقصير خروج عَنِ الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ومن كلامهم: الوقت سَيْف، أي: كَمَا أَن السَيْف قاطع، فالوقت بِمَا يمضيه الحق ويجريه غالب. وقيل: السَيْف لين مسه قاطع حده، فمن لاينه سلم، ومن خاشنه اصطلم، كَذَلِكَ الوقت من استسلم لحكمه نجا، ومن عارضه انتكس وتردى، وأنشدوا فِي ذَلِكَ: وكالسَيْف إِن لاينته لان مسه ... وحداه إِن خاشنته خشنان ومن ساعده الوقت فالوقت لَهُ وقت، ومن ناكده الوقت فالوقت عَلَيْهِ مقت. وسمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق، يَقُول: الوقت مبرد يسحقك ولا يمحقك، يَعْنِي: لو محاك وأفناك لتخلصت حِينَ فنيت، لكنه يأخذ منك ولا يمحوك بالكلية، وَكَانَ ينشد فِي هَذَا المعنى: كُل يَوْم يمر يأخذ بعضي ... يورث القلب حسرة ثُمَّ يمضي وَكَانَ ينشد أيضًا: كأهل النار إِن نضجت جلود ... أعيدت للشقاء لَهُمْ جلود وَفِي معناه: لَيْسَ من مَات فاستراح بميت ... إِنَّمَا الميت ميت الأحياء والكيس من كَانَ يحكم وقته إِن كَانَ وقته الصحو فقيامه بالشريعة، وإن كَانَ وقته المحو فالغالب عَلَيْهِ أحكام الحقيقة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ومن ذَلِكَ المقام والمقام: مَا يتحقق بِهِ العبد بمنازلته من الآداب بِمَا يتوصل إِلَيْهِ بنوع تصرف، ويتحقق بِهِ بضرب تطلب ومقاساة تكلف فمقام كُل أحد موضع إقامته عِنْدَ ذَلِكَ وَمَا هُوَ مشتغل بالرياضة لَهُ وشرطه أَن لا يرتقي من مقام إِلَى مقام آخر مَا لَمْ يستوف أحكام ذَلِكَ المقام فان من لا قناعة لَهُ لا يصح لَهُ التوكل ومن لا توكل لَهُ لا يصح لَهُ التسليم، وَكَذَلِكَ من لا توبة لَهُ لا تصح لَهُ الإنابة ومن لا ورع لَهُ لا يصح لَهُ الزهد، والمقام هُوَ الإقامة كالمدخل بمعنى الإدخال والمخرج بمعنى الإخراج، ولا يصح لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة اللَّه تَعَالَى إياه بِذَلِكَ المقام ليصح بناء أمره عَلَى قاعدة صحيحة، سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه تَعَالَى، يَقُول: لما دَخَلَ الواسطي بنيسابور سأل أَصْحَاب أَبِي عُثْمَان بماذا كَانَ يأمركم شيخكم؟ فَقَالُوا: كَانَ يأمرنا بالتزام الطاعات ورؤية التفسير فِيهَا، فَقَالَ: أمركم بالمجوسية المحضة، هلا أمركم بالغيبة عَنْهَا برؤية منشئها ومجريها، وإنما أراد الواسطي بِهَذَا صبيانهم عَن محل الإعجاب لا تعريجًا فِي أوطان للتقصير أَوْ تجويزًا للإخلال بأدب من الأداب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ومن ذَلِكَ الحال والحال عِنْدَ الْقَوْم: معنى يرد عَلَى القلب من غَيْر تعمد مِنْهُم ولا اجتلاب ولا اكتساب لَهُمْ من طرب أَوْ حزن أَوْ بسط أَوْ قبض أَوْ شوق أَوِ انزعاج أَوْ هيبة أَوِ احتياج، فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب، والأحوال تأتي من غَيْر الوجود والمقامات تحصل ببذل المجهود وصاحب المقام ممكن فِي مقامه وصاحب الحال مترق عَن حاله. وسئل ذو النون الْمِصْرِي عَنِ العارف، فَقَالَ: كَانَ ههنا فَذَهَبَ. وَقَالَ بَعْض المشايخ: الأحوال كالبروق فَإِن بقي فحَدِيث نفس. وَقَالُوا: الأحوال كاسمها يَعْنِي أَنَّهَا كَمَا تحل بالقلب تزول فِي الوقت، وأنشدوا: لو لَمْ تحل مَا سميت حالا ... وكل مَا حال فَقَدْ زالا انظر إِلَى الفيء إِذَا مَا انتهى ... يأخذ فِي النقص إِذَا طالا وأشار قوم إِلَى بقاء الأحوال ودوامها، وَقَالُوا: إنها إِذَا لَمْ تدم وَلَمْ تتوال، فَهِيَ لوائح وبواده، وَلَمْ يصل صاحبها بَعْد إِلَى الأحوال، فَإِذَا دامت تلك الصفة فعند ذَلِكَ تسمى حالا، وَهَذَا أَبُو عُثْمَان الحيري، يَقُول: منذ أربعين سنة مَا أقامني اللَّه تعالي فِي حال فكرهته أشار إِلَى دوام الرضا، والرضا من جملة الأحوال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فالواجب فِي هَذَا أَن يقال: إِن من أشار إِلَى بقاء الأحوال فصحيح مَا قَالَ فَقَدْ يصير المعني شربا لأحد فيري بِهِ ولكن لصاحب هذه الحال أحوال هِيَ طوارق لا تدوم فَوْقَ أحواله الَّتِي صارت شربا لَهُ فاذا دامت هذه الطوارق هل كَمَا دامت الأحوال المتقدمة ارتقى إِلَى أحوال أخر فَوْقَ هذه وألطف من هذه فأبدا يَكُون فِي الترقي. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول فِي معني قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه ليغان عَلَى قلبي حَتَّى أستغفر اللَّه تَعَالَى فِي اليوم سبعين مرة أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبدا فِي الترقي من أحواله فَإِذَا ارتقي من حالة إِلَى حالة أعلى مِمَّا كَانَ فِيهَا فربما حصل لَهُ ملاحظة إِلَى مَا ارتقي عَنْهَا فكان بعدها غينا بالإضافة إِلَى مَا حصل فِيهَا فابدا كانت أحواله فِي التزايد ومقدورات الحق سبحانه من الألطاف لا نهاية لَهَا فَإِذَا كَانَ حق الحق تَعَالَى العز، وَكَانَ الوصول إِلَيْهِ بالتحقيق محالا فالعبد أبدا فِي ارتقاء أحواله فلا معنى يوصل إِلَيْهِ إلا وَفِي مقدوره سبحانه مَا هُوَ فوقه يقدر أَن يوصله إِلَيْهِ وعلى هَذَا يحمل قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين وسئل الجنيد عَن هَذَا فأنشد: طوارق أنوار تلوح إِذَا بدت ... فتظهر كتمانا وتخبر عَن جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ومن ذَلِكَ القبض والبسط وهما حالتان بَعْد ترقي العبد عَن حالة الخوف والرجاء، فالقبض: للعارف بمنزلة الخوف للمستأنف والبسط للعارف بمنزلة الرجاء للمستأنف ومن الفصل بَيْنَ القبض والخوف والبسط والرجاء أَن الخوف إِنَّمَا يَكُون من شَيْء فِي المستقبل إِمَّا أَن يخاف فوت محبوب أَوْ هجوم محذور، وَكَذَلِكَ الرجاء إِنَّمَا يَكُون بتأميل محبوب فِي المستقبل أَوْ بتطلع زوال محذور وكفاية مكروه فِي المستأنف. وَأَمَّا القبض: فلمعني حاصل فِي الوقت، وَكَذَلِكَ البسط فصاحب الخوف والرجاء تعلق قلبه فِي حالتيه بآجله وصاحب القبض والبسط أخذ وقته بوارد غلب عَلَيْهِ فِي عاجله، ثُمَّ تتفاوت نعوتهم فِي القبض والبسط عَلَى حسب تفاوتهم فِي أحوالهم، فمن وارد يوجب قبضا ولكن يبقى مساغ للأشياء الأخر لأنه غَيْر مستوف، ومن مقبوض لا مساغ لغير وارده يوجب قبضا ولكن يبقى مساغ للأشياء الأخر لأنه غَيْر مستوف ومن مقبوض لا مساغ لغير وارده فِيهِ لأنه مأخوذ عَنْهُ بالكلية بوارده كَمَا قَالَ بَعْضهم: أنا ردم أي لا مساغ فِي، وَكَذَلِكَ المبسوط قَدْ يَكُون فِيهِ بسط يسع الخلق فلا يستوحشن من أَكْثَر الأشياء ويكون مبسوطا لا يؤثر فِيهِ شَيْء بحال من الأحوال. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: دَخَلَ بَعْضهم عَلَى أَبِي بَكْر القحطي وَكَانَ لَهُ ابْن يتعاطى مَا يتعاطاه الشباب وَكَانَ ممر هَذَا الداخل عَلَى هَذَا الابن فَإِذَا هُوَ مَعَ أقرانه فِي اشتغاله ببطالته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فرق قلبه وتألم القحطي، وَقَالَ: مسكين هَذَا الشيخ كَيْفَ ابتلي بمقاساة هَذَا الابن؟ فلما دَخَلَ عَلَى القحطي وجده كَأَنَّهُ لا خبر لَهُ بِمَا يجري عَلَيْهِ من الملاهي فتعجب منه وَقَالَ: فديت من لا تؤثر فِيهِ الجبال الرواسي فَقَالَ القحطي: إنا قَدْ حررنا عَن رق الأشياء فِي الأزل. ومن أدنى موجبات القبض أَن يرد عَلَى قلبه وارد موجبه إشارة إِلَى عتاب ورمز باستحقاق تأديب فيحصل فِي القلب لا محالة قبض وَقَدْ يَكُون موجب بَعْض الواردت إشارة إِلَى تقريب أَوْ إقبال بنوع لطف وترحيب فيحصل للقلب بسط، وَفِي الجملة قبض كُل أحد عَلَى حسب بسطه، وبسطه عَلَى حسب قبضه، وَقَدْ يَكُون قبض يشكل عَلَى صاحبه سببه يجد فِي قلبه قبضا لا يدري موجبه ولا سببه، فسبيل صاحب هَذَا القبض التسليم حَتَّى يمضي ذَلِكَ الوقت، لأنه لو تكلف نفيه أَوِ استقبل الوقت قبل هجومه عَلَيْهِ باختياره زاد فِي قبضه ولعله يعد ذَلِكَ منه سوء أدب وإذا استسلم لحكم الوقت فعن قريب يزول القبض فَإِن الحق سبحانه قَالَ: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245] وَقَدْ يَكُون بسط يرد بغته ويصادف صاحبه فلته لا يعرف لَهُ سببا يهز صاحبه ويستفزه، فسبيل صاحبه السكون ومراعاة الأدب فَإِن فِي هَذَا الوقت لَهُ خطرا عظيما فليحذر صاحبه مكرا خفيا كَذَا قَالَ بَعْضهم: فتح عَلِي بَاب من البسط فزللت زلة فحجبت عَن مقامي، ولهذا قَالُوا: قف عَلَى البساط وإياك والانبساط وَقَدْ عد أهل التحقيق مطلق القبض والبسط من جملة مَا استعاذوا منه، لأنهما بالإضافة إِلَى مَا فوقهما من استهلاك العبد واندراجه فِي الحقيقة فقر وضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن يَحْيَي يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: الخوف من اللَّه يقبضني والرجاء منه يبسطني والحقيقة تجمعني والحق يفرقني إِذَا قبضني بالخوف أفناني عني، وإذا بسطني بالرجاء ردني عَلِي، وإذا جمعني بالحقيقة أحضرني، وإذا فرقني بالحق أشهدني غيرى فغطائي عَنْهُ فَهُوَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ كُلهُ محركي غَيْر ممسكي وموحشي غَيْر مؤنسي فأنا بحضوري أذوق طعم وجودي، فليته أفناني عني فمتعني أَوْ غيبني عني فروحني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ومن ذَلِكَ الهيبة والأنس وهما فَوْقَ القبض والبسط فكما أَن القبض فَوْقَ رتبة الخوف والبسط فَوْقَ منزلة الرجاء، فالهيبة أعلى من القبض والأنس أتم من البسط وحق الهيبة الغيبة , فَكُل هائب غائب , ثُمَّ الهائبون يتفاوتون فِي الهيبة عَلَى حسب تباينهم فِي الغيبة فمنهم وَمِنْهُم، وحق الأنس صحوا بحق فَكُل مستأنس صاح ثُمَّ يتباينون حسب تباينهم فِي الشرب ولهذا قَالُوا: أدني محل الأنس أَنَّهُ لو طرح فِي لظى لَمْ يتكدر عَلَيْهِ أنسه. قَالَ الجنيد رحمه اللَّه: كنت أسمع السري يَقُول: يبلغ العبد إِلَى حد لو ضرب وجهه بالسَيْف لَمْ يشعر وَكَانَ فِي قلبي منه شَيْء حَتَّى بان لي أَن الأمر كَذَلِكَ. وحكي عَن أَبِي مقاتل العكي أَنَّهُ قَالَ: دخلت عَلَى الشبلي وَهُوَ ينتف الشعر من حاجبه بمنقاش فَقُلْتُ: يا سيدي أَنْتَ تفعل هَذَا بنفسك ويعود ألمه إِلَى قلبي فَقَالَ: ويلك الحقيقة ظاهرة لي ولست أطيقها فَهُوَ ذا فأنا أدخل الألم عَلَى نفسي لعلي أحس بِهِ فيستتر عني، فلست أجد الألم وليس يستتر عني وليس لي بِهِ طاقة، وحال الهيبة والأنس وإن جلتا فأهل الحقيقة يعدونها نقصا لتضمنهما تغير العبد، فَإِن أهل التمكين سمت أحوالهم عَنِ التغير وَهُمْ محو فِي وجود العين فلا هيبة لَهُمْ ولا أَنَس ولا علم ولا حس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 والحكاية معروفة عَن أَبِي سَعِيد الخراز أَنَّهُ قَالَ: تهت فِي البادية مرة فكنت أقول: أتيه فلا أدري من التيه من أنا ... سِوَى مَا يَقُول النَّاس فِي وَفِي جنسي أتيه عَلَى جن البلاد وإنسها ... فَإِن لَمْ أجد شخصا أتيه عَلَى نفسي قَالَ فسمعت هاتفا يهتف بي وَيَقُول: أيا من يرى الأسباب أعلى وجوده ... ويفرح بالتيه الدني وبالأنس فلو كنت من أهل الوجود حقيقة ... لغبت عَنِ الأكوان والعرش والكرسي وكنت بلا حال مَعَ اللَّه واقفا ... تصان عَنِ التذكار للجن والإنس. وإنما يرتقي العبد عَن هذه الحالة بالوجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ومن ذَلِكَ التواجد والوجد والوجود فالتواجد: استدعاء الوجد بضرب اختيار وليس لصاحبه كمال الوجد إذ لو كَانَ لكان واجدا وباب التفاعل أكثره عَلَى إظهار الصفة وليست كَذَلِكَ، قَالَ الشاعر: إِذَا تخازرت وما بي من خزر ... ثُمَّ كسرت العين من غَيْر ما عور فقوم قَالُوا: التواجد غَيْر مُسْلِم لصاحبه لما يتضمن من التكليف ويبعد عَنِ التحقيق، وقوم قَالُوا: إنه مُسْلِم للفقهاء المجردين الَّذِينَ ترصدوا لوجدان هذه المعاني وأصلهم خبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابكوا فَإِن لَمْ تبكوا فتباكوا والحكاية المعروفة لأبي مُحَمَّد الجريري رحمه اللَّه أَنَّهُ قَالَ: كنت عِنْدَ الجنيد وهناك ابْن مسروق وغيره، وثم قوال، فقام ابْن مسروق وغيره والجنيد ساكن فَقُلْتُ: يا سيدي مَالِك فِي السماع شَيْء، فَقَالَ الجنيد: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] ثُمَّ قَالَ: وأنت يا أبا مُحَمَّد مَالِك فِي السماع شَيْء؟ فَقُلْتُ: يا سيدي أنا إِذَا حضرت موضعا فِيهِ سماع وهناك محتشم أمسكت عَلَى نفسي وجدى فَإِذَا خلوت أرسلت وجدى فتواجدت فأطلق فِي هذه الحكاية التواجد وَلَمْ ينكر عَلَيْهِ الجنيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: لما راعى أدب الأكابر فِي حال السماع حفظ اللَّه عَلَيْهِ وقته لبركات الأدب حَتَّى يَقُول أمسكت عَلَى نفسي وجدى، فَإِذَا خلوت أرسلت وجدي فتواجدت، لأنه لا يمكن إرسال الوجد إِذَا شئت بَعْد ذهاب الوقت وغلباته ولكنه لما كَانَ صادقا فِي مراعاة حرمة الشيوخ حفظ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وقته حَتَّى أرسل وجده عِنْدَ الخلوة فالتواجد ابتداء الوجد عَلَى الوصف الَّذِي جرى ذكره وبعد هَذَا الوجد، والوجد مَا يصادف قلبك ويرد عليك بلا تعمد وتكلف ولهذا قَالَ المشايخ: الوجد المصادفة، والمواجيد ثمرات الأوراد فَكُل من ازدادت وظائفه ازدادت من اللَّه تَعَالَى لطائفه. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: الورادات من حيث الأوراد فمن لا ورد لَهُ بظاهره لا وارد لَهُ فِي سرائره، وكل وجد فِيهِ من صاحبه شَيْء فليس بوجد، وكما أَن مَا يتكلفه العبد من معاملات ظاهره يوجب لَهُ حلاوة الطاعات، فَمَا ينازله العبد من أحكام باطنه يوجب لَهُ المواجيد. فالخلاوات ثمرات المعاملات والمواجيد نتائج المنازلات، وَأَمَّا الوجود فَهُوَ بَعْد الارتقاء عَنِ الوجد ولا يَكُون وجود الحق إلا بَعْد خمود البشرية لأنه لا يَكُون للبشرية بقاء عِنْدَ ظهور سلطان الحقيقة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وَهَذَا معني قَوْل أَبِي الْحُسَيْن النوري أنا منذ عشرين سنة بَيْنَ الوجد والفقد أي إِذَا وجدت ربي فقدت قلبي وإذا وجدت قلبي فقدت ربي وَهَذَا معني قَوْل الجنيد علم التوحيد مباين لوجوده ووجوده مباين لعلمه وَفِي هَذَا المعني أنشدوا. وجودي أَن أغيب عَنِ الوجود ... بِمَا يبدو عَلِي من الشهود فالتواجد بداية والوجود نهاية والوجد واسطة بَيْنَ البداية والنهاية. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول التواجد يوجب استيعاب العبد والوجد يوجب استغراق العبد والوجود يوجب استهلاك العبد فَهُوَ كمن شهد البحر ثُمَّ ركب البحر ثُمَّ غرق فِي البحر وترتيب هَذَا الأمر قصود ثُمَّ ورود ثُمَّ شهود ثُمَّ وجود ثُمَّ خمود وبمقدار الوجود يحصل الخمود وصاحب الوجود لَهُ صحو ومحو فحال صحوه بقاؤه بالحق وحال محوه فناؤه بالحق وهاتان الحالتان أبدا متعاقبتان عَلَيْهِ، فَإِذَا غلب عَلَيْهِ الصحو بالحق فبه يصول وَبِهِ يَقُول: قَالَ عَلَيْهِ السَّلام فيما أخبر عَنِ الحق فبي يسمع وبي ويبصر. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: وقف رجل عَلَى حلقه الشبلي فسأله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 هل تظهر آثار صحة الوجود عَلَى الواجدين؟ فَقَالَ: نعم نور يزهر مقارنا لنيران الاشتياق فتلوح عَلَى الهياكل آثارها كَمَا قَالَ ابْن المعتز: وأمطر الكأس ماء من أبارقها ... فأنبت الدر فِي أرض من الذهب وسبح الْقَوْم لما رأوا عجبا ... نورا من الماء فِي نار من العنب سلافة ورثتها عاد عَن إرم ... كانت ذخيرة كسرى عَن أب فأب وقيل لأبي بَكْر الدقي: إِن جهما الدقي أخذ شجرة بيده فِي حال السماع فِي ثوارنه فقلعها من أصلها فاجتمعا فِي دعوة وَكَانَ الدقي كف بصره فقام جهم الدقي يدور فِي هيجانه فَقَالَ الدقي: إذ قرب مني أرونيه وَكَانَ الدقي ضعيفا فمر بِهِ، فلما قرب منه قَالُوا لَهُ: هَذَا هُوَ، فأخذ الدقي ساق جهم فوقفه فلم يمكنه أَن يتحرك، فَقَالَ جهم: أيها الشيخ التوبة التوبة فخلاه. قَالَ الأستاذ الإِمَام أدام أخدم اللَّه جماله. فكان ثوران جهم فِي حق وإمساك الدقي بساقه بحق ولما علم جهم أَن حال الدقي فَوْقَ حاله رجع إِلَى الاتصاف واستسلم وكذا من كَانَ بحق لا يستعصي عَلَيْهِ شَيْء، فأما إِذَا كَانَ الغالب عَلَيْهِ المحو فلا علم ولا عقل ولا فَهُمْ ولا حس. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يذكر بإسناده أَن أبا عقال المغربي أقام بمكة أربع سنين لَمْ يأكل وَلَمْ يشرب إِلَى أَن مَات. ودخل بَعْض الفقراء عَلَى أَبِي عقال فَقَالَ لَهُ: سلام عليكم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فَقَالَ لَهُ أَبُو عقال: وعليكم السَّلام فَقَالَ الرجل: أنا فُلان فَقَالَ. أَبُو عقال: أَنْتَ فُلان؟ كَيْفَ أَنْتَ وكيف حالك؟ وغاب عَن حالته قَالَ هَذَا الرجل: فَقُلْتُ لَهُ: سلام عليكم فَقَالَ: وعليكم السَّلام كَأَنَّهُ لَمْ يرني قط ففعلت مثل هَذَا غَيْر مرة، فعلمت أَن الرجل غائب فتركته وخرجت من عنده. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عُمَر بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت امْرَأَة أَبِي عَبْد اللَّهِ التروغندي تقول: لما كانت أَيَّام المجاعة والناس يموتون من الجوع دَخَلَ أَبُو عَبْد اللَّهِ التروغندي بيته فرأى فِي بيته مقدار منون حنطه فَقَالَ: النَّاس يموتون من الجوع وَفِي بَيْتِي حنطة فخولط فِي عقله فَمَا كَانَ يفيق إلا فِي أوقات الصلاة يصلي الفريضة ثُمَّ يعود إِلَى حالته، فلم يزل كَذَلِكَ إِلَى أَن مَات دلت هذه الحكاية عَلَى أَن هَذَا الرجل كَانَ محفوظا عَلَيْهِ آداب الشريعة عِنْدَ غلبات أحكام الحقيقة وَهَذَا هُوَ صفة أهل الحقيقة ثُمَّ كَانَ سبب غبيته عَن تمييزه شفقته عَلَى الْمُسْلِمِينَ وهنا أقوى سمة لتحققه فِي حالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ومن ذَلِكَ الجمع والفرق لفظ الجمع والتفرقة يجري فِي كلامهم كثيرا وَكَانَ الأستاذ أَبُو عَلِي الدقاق يَقُول: الفرق مَا نسب إليك والجمع مَا سلب عَنْك، ومعناه أَن مَا يَكُون كسبا للعبد من إقامة العبودية وَمَا يليق بأحوال البشرية فَهُوَ فرق، وَمَا يَكُون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فَهُوَ جمع هَذَا أدني أحوالهم فِي الجمع والفرق، لأنه من شهود الأفعال فمن أشهده الحق سبحانه أفعاله من طاعاته ومخالفته فَهُوَ عَبْد بوصف التفرقة، ومن أشهده الحق سبحانه مَا يوليه من أفعال نَفْسه سبحانه فَهُوَ عَبْد يشاهد الجمع، فإثبات الخلق من بَاب التفرقة وإثبات الحق من نعت الجمع، ولابد للعبد من الجمع والفرق، فَإِن من لا تفرقة لَهُ لا عبودية لَهُ، ومن لا جمع لَهُ لا معرفة لَهُ، فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] إشارة إِلَى الفرق وقوله {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] إشارة إِلَى الجمع، وإذا خاطب العبد الحق سبحانه بلسان نجواه إِمَّا سائلا أَوْ داعيا أَوْ مثنيا أَوْ شاكرا أَوْ متنصلا أَوْ مبتهلا قام فِي محل التفرقة، وإذا أصغي بسره إِلَى مَا يناجيه بِهِ مولاه واستمع قلبه مَا يخاطبه بِهِ فيما ناداه أَوْ ناجاه أَوْ عرفه معناه أَوْ لوح لقلبه وأراه فَهُوَ يشاهد الجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: أنشد قوال بَيْنَ يدي الأستاذ أَبِي سهل الصعلوكي رحمه اللَّه تَعَالَى: جعلت تنزهي نظري إليكا. وَكَانَ أَبُو القاسم النصرأباذي رحمه اللَّه حاضرا فَقَالَ الأستاذ أَبُو سهل: جعلت بنصب التاء، وَقَالَ النصرأباذي: بَل جعلت بضم التاء فَقَالَ الأستاذ أَبُو سهل: أليس عين الجمع أتم: فسكت النصرأباذي. وسمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ أَيْضًا يحكي هذه الحكاية عَلَى هَذَا الوجه ومعني هَذَا أَن من قَالَ: جعلت بضم التاء يَكُون إخبار عَن حال نَفْسه فكأن العبد يَقُول هَذَا وإذا قَالَ: جعلت بالفتح فكأنه يتبرأ من أَن يَكُون ذَلِكَ بتكلمه بَل يخاطب مولاه فَيَقُول: أَنْتَ الَّذِي خصصتني بِهَذَا لا أنا بتكلفي، فالأول عَلَى خطر الدعوى وَالثَّانِي بوصف التبري من الحول والإقرار بالفصل والطول وفرق بَيْنَ من يَقُول بجهدي أشهدك وبين من يَقُول بفضلك ولطفك أشهدك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وجمع الجمع فَوْقَ هَذَا ويختلف النَّاس فِي هذه الجملة عَلَى حسب تباين أحوالهم وتفاوت درجاتهم فمن أثبت نَفْسه وأثبت الخلق ولكن شاهد الكل قائما بالحق، فهذا هُوَ جمع وإذا كَانَ مختطفا عَن شهود الخلق مصطلما عَن نَفْسه مأخوذا بالكلية عَنِ الإحساس بكل غَيْر بِمَا ظهر واستولى من سلطان الحقيقة فذاك جمع الجمع، والتفرقة. شهود الأغيار لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ والجمع شهود الأغيار بالله وجمع الجمع الاستهلاك بالكلية وفناء الإحساس بِمَا سِوَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ غلبات الحقيقة وبعد هَذَا حال عزيزة يسميها الْقَوْم الفرق الثَّانِي وَهُوَ أَن يرد إِلَى الصحو عِنْدَ أوقات أداء الفرائض ليجري عَلَيْهِ الفرائض فِي أوقات فيكون رجوعا لِلَّهِ بالله تَعَالَى لا للعبد بالعبد فالعبد يطالع نَفْسه فِي هذه الحالة فِي تصريف الحق سبحانه يشهد مبدأ ذاته وعينه بقدرته ومجري أفعاله وأحواله عَلَيْهِ بعلمه ومشيئته وأشار بَعْضهم بلفظ الجمع والفرق إِلَى تصريف الحق جمع الخلق، فجمع الكل فِي التقليب والتصريف من حيث إنه منشئ ذواتهم ومجري صفاتهم ثُمَّ فرقهم فِي التنويع ففريقا أسعدهم وفريقا أبعدهم وأشقاهم وفريقا هداهم وفريقا أضلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وأعماهم وفريقا حجبهم عَنْهُ وفريقا جذبهم إِلَيْهِ وفريقا آنسهم بوصلته وفريقا آيسهم من رحمته وفريقا أكرمهم بتوفيقه وفريقا اصطلمهم عِنْدَ رومهم لتحقيقه وفريقا أصحاهم وفريقا محاهم وفريقا قربهم وفريقا غيبهم وفريقا أدناهم وأحضرهم ثُمَّ أسقاهم فأسكرهم وفريقا أشقاهم وأخرهم ثُمَّ أقصاهم وهجرهم وأنواع أفعال لا يحيط بِهَا حصر ولا يَأْتِي عَلَى تفصيلها شرح ولا ذكر وأنشدوا لجنيد رحمه اللَّه فِي معني الجمع والتفرقة: وتحققتك فِي سري ... فناجاك لساني فاجتمعنا لمعاني ... وافترقنا لمعاني إِن يكن غيبك التعظيم ... عَن لحظ عياني فلقد صيرك الوجد ... من الأحشاء داني وأنشدوا: إِذَا مَا بدالي تعاظمته ... فأصدر فِي حال من لَمْ يرد جمعت وفرقت عني بِهِ ... ففرد التواصل مثنى العدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ومن ذَلِكَ الفناء والبقاء أشار الْقَوْم بالفناء إِلَى سقوط الأوصاف المذمومة وأشاروا بالبقاء إِلَى قيام الأوصاف المحمودة بِهِ، وإذا كَانَ العبد لا يخلوا عَن أحد هذين القسمين فمن المعلوم أَنَّهُ إِذَا لَمْ يكن أحد القسمين كَانَ القسم الآخر لا محالة فمن فني عَن أوصافه المذمومة ظهرت عَلَيْهِ الصفات المحمودة، ومن غلبت عَلَيْهِ الخصال المذمومة استترت عَنْهُ الصفات المحمودة. واعلم أَن الَّذِي يتصف بِهِ العبد أفعال وأخلاق وأحوال، فالأفعال: تصرفاته باختياره والأخلاق جبلة فِيهِ ولكن تتغير بمعالجته عَلَى مستمر العادة، والأحوال: ترد عَلَى العبد عَلَى وجه الابتداء لكن صفاؤها بَعْد زكاء الأعمال فِيهِ كالأخلاق من هَذَا الوجه، لأن العبد إِذَا نازل الأخلاق بقلبه فينفي بجهده سفاسفها من اللَّه عَلَيْهِ بتحسين أخلاقه، فَكَذَلِكَ إِذَا واظب عَلَى تزكية أعماله ببذل وسعه من اللَّه عَلَيْهِ بتصفية أحواله بَل بتوفية أحواله فمن ترك مذموم أفعاله بلسان الشرعية يقال إنه فني عَن شهواته فَإِذَا فني عَن شهواته بقي بصدق إنابته، ومن عالج أخلاقه فنفى عَن قلبه الحسد والحقد والبخل والشح والغضب والكبر وأمثال هَذَا من رعونات النفس يقال فني عَن سوء الخلق، فَإِذَا فني عَن سوء الخلق بقي بالفتوة والصدق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ومن شاهد جريان القدرة فِي تصاريف الأَحْكَام يقال: فني عَن حسبان الحدثان من الخلق، فَإِذَا فني عَن توهم الآثار من الأغيار بقي بصفات الحق، ومن استولى عَلَيْهِ سلطان الحقيقة حَتَّى لَمْ يشهد من الأغيار لاعينا ولا أثرا ولا رسما ولا طللا يقال إنه فني عَنِ الخلق، وبقي بالحق ففناء العبد عَن أفعاله الذميمة وأحواله الخسيسة بعدم هذه الأفعال، وفناؤه عَن نَفْسه وعن الخلق بزوال إحساسه بنفسه وبهم فَإِذَا فني عَنِ الأفعال والأخلاق والأحوال فلا يَجُوز أَن يَكُون مَا فني عَنْهُ من ذَلِكَ موجودا، وإذا قيل فني عَن نَفْسه وعن الخلق فنفسه موجودة والخلق موجودون ولكنه لا علم لَهُ بِهِمْ ولابه ولا إحساس ولا خبر فتكون نَفْسه موجودة والخلق موجودين ولكنه غافل عَن نَفْسه وعن الخلق أجمعين غَيْر محس بنفسه وبالخلق وَقَدْ ترى الرجل يدخل عَلَى ذي سلطان أَوْ محتشم فيذهل عَن نَفْسه وعن أهل مجلسه هيبة وربما يذهل عَن ذَلِكَ المحتشم حَتَّى إِذَا سئل بَعْد خروجه من عنده عَن أهل مجلسه وهيئات ذَلِكَ الصدر وهيئات نَفْسه لَمْ يكن الإخبار عَن شَيْء قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 31] لَمْ يجدن عِنْدَ لقاء يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام عَلَى الوهلة ألم قطع الأيدي وهن أضعف النَّاس وقلن: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] ولقد كَانَ بشرا وقلن {إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] وَلَمْ يكن ملكا فهذا تغافل مخلوق عَن أحواله عِنْدَ لقاء مخلوق فَمَا ظنك بمن تكاشف بشهود الحق سبحانه فلو تغافل عَن إحساسه بنفسه وأبناء جنسه فأي أعجوبة فِيهِ فمن فني عَن جهله بقي بعلمه، ومن فني عَن شهوته بقى بإنابته، ومن فني عَن رغبته يفي بزهادته، ومن فني عَن منيته بقي بإرادته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وَكَذَلِكَ القول فِي جَمِيع صفاته، فَإِذَا فني العبد عَن صفته بِمَا جري ذكره يرتقي عَن ذَلِكَ بفنائه عَن رؤية فنائه، وإلى هَذَا أشار قائلهم: فقوم تاه فِي أرض بقفر وقوم تاه فِي ميدان حبه فأفنوا ثُمَّ أفنوا ثُمَّ أفنوا وأبقوا بالبقا من قرب ربه فالأول فناء عَن نَفْسه وصفاته ببقائه بصفات الحق ثُمَّ فناؤه عَن صفات الحق بشهوده الحق ثُمَّ فناؤه عَن شهود فنائه باستهلاكه فِي وجود الحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ومن ذَلِكَ الغيبة والحضور فالغيبة غيبة القلب عَن علم مَا يجري من أحوال الخلق لاشتغال الحس بِمَا ورد عَلَيْهِ ثُمَّ قَدْ يغيب عَن إحساسه بنفسه وغيره بوارد من تذكر ثواب أَوْ تفكر عقاب كَمَا رُوِيَ أَن الرَّبِيع بْن خيثم كَانَ يذهب إِلَى ابْن مَسْعُود رضى اللَّه عَنْهُ فمر بحانوت حداد فرأى الحديدة المحماه فِي الكير فغشي عَلَيْهِ وَلَمْ يفق إِلَى الغد فلما أفاق سئل عَن ذَلِكَ فَقَالَ: تذكرت كون أهل النار فِي النار فَهَذِهِ غيبة زادت عَلَى حدها حَتَّى صارت غشية. وروي عَن عَلِي بْن الْحُسَيْن أَنَّهُ كَانَ فِي سجوه فوقع حريق فِي داره فلم ينصرف عَن صلاته، فسئل عَن حاله فَقَالَ: ألهتني النار الكبرى عَن هذه النار وربما تكون الغيبة عَن إحساسه بمعني يكاشف بِهِ من الحق سبحانه وتعالى ثُمَّ إنهم مختلفون فِي ذَلِكَ عَلَى حسب أحوالهم، ومن المشهور أَن ابتداء حال أَبِي حفص النَّيْسَابُورِيّ الحداد فِي ترك الحرفة أَنَّهُ كَانَ عَلَى حانوته فقرأ قارئ آية من الْقُرْآن فورد عَلَى قلب أَبِي حفص وارد تغافل عَن إحساسه فأدخل يده فِي النار وأخرج الحديدة المحماه بيده فرأى تلميذ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: يا أستاذ مَا هَذَا؟ فنظر أَبُو حفص إِلَى مَا ظهر عَلَيْهِ فترك الحرفة وقام من حانوته. وَكَانَ الجنيد قاعدا وعنده امرأته فدخل عَلَيْهِ الشلبي فأرادت امرأته أَن تستتر فَقَالَ لَهَا الجنيد: لا خبر للشبلي عَنْك فاقعدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فلم يزل يكلمه الجنيد حَتَّى بكي الشلبي فلما أخذ الشلبي فِي البكاء قَالَ الجنيد لامرأته: استتري فَقَدْ أفاق الشلبي من غيبته. سمعت أبا نصر المؤذن بنيسابور وَكَانَ رجلا صالحا قَالَ: كنت أقرأ الْقُرْآن فِي مجلس الأستاذ أَبِي عَلِي الدقاق بنيسابور وقت كونه هناك وَكَانَ يتكلم فِي الحج كثيرا، فأثر فِي قلبي كلامه فخرجت إِلَى الحج تلك السنة وتركت الحانوت والحرفة وَكَانَ الأستاذ أَبُو عَلِي رحمه اللَّه خرج إِلَى الحج أَيْضًا فِي تلك السنة وكنت مدة كونه بنيسابور أخدمه وأوظب عَلَى القراءة فِي مجلسه فرأيته يوما فِي البادية تطهر ونسي قمقمة كانت بيده فحملتها، فلما عاد إِلَى رحله وضعتها عنده فَقَالَ: جزاك اللَّه تَعَالَى خيرا حيث حملت هَذَا، ثُمَّ نظر إلي طويلا كَأَنَّهُ لَمْ يرني قط وَقَالَ: رأيتك مرة أَنْتَ؟ . فَقُلْتُ: المستغاث بالله تَعَالَى صحبتك مدة وخرجت عَن مسكني ومالي بسببك وتقطعت فِي المفازة بك والساعة تقول رأيتك مرة. وَأَمَّا الحضور فَقَدْ يَكُون حاضرا بالحق لأنه إِذَا غاب عَنِ الخلق حضر بالحق عَلَى معني أَنَّهُ يَكُون كَأَنَّهُ حاضر وَذَلِكَ لاستيلاء ذكر الحق عَلَى قلبه فَهُوَ حاضر بقلبه بَيْنَ يدي ربه تَعَالَى فعلى حسب غيبته عَنِ الخلق يَكُون حضوره بالحق فَإِن غاب بالكلية كَانَ الحضور عَلَى حسب الغيبة. فَإِذَا قيل فُلان حاضر فمعناه أَنَّهُ حاضر بقلبه لربه غَيْر غافل عَنْهُ ولا ساه مستديم للذكر ثُمَّ يَكُون مكاشفا فِي حضوره عَلَى حسب رتبته بمعان يخصه الحق سبحانه وتعالي بِهَا وَقَدْ يقال لرجوع العبد إِلَى أحساسه بأحوال نَفْسه وأحوال الخلق إنه حضر أي رجع عَن غيبته، فهذا يَكُون حضور بخلق وَالأَوَّل حضورا بحق، وَقَدْ تختلف أحوالهم فِي الغيبة، فمنهم من لا تمتد غيبته، وَمِنْهُم من تدوم غيبته وَقَدْ حكي أَن ذا النون الْمِصْرِي بعث إِنْسَانا من أَصْحَابه إِلَى أَبِي يَزِيد لينقل إِلَيْهِ صفة أَبِي يريد، فلما جاء الرجل إِلَى بسطام سأل عَن دار أَبِي يَزِيد فدخل عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو يَزِيد: مَا تريد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فَقَالَ: أريد أبا يَزِيد؟ وأين أبا يَزِيد أنا فِي طلب أَبِي يَزِيد، فخرج الرجل وَقَالَ: هَذَا مجنون، فرجع الرجل إِلَى ذي النون فأخبره بِمَا شهد فبكي ذون النون وَقَالَ: أَخِي أَبُو يَزِيد ذهب فِي الذاهبين إِلَى اللَّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ومن ذَلِكَ الصحو والسكر فالصحو رجوع إِلَى الإحساس بَعْد الغيبة والسكر غيبة بوارد قوي والسكر زيادة عَلَى الغيبة من وجه، وَذَلِكَ أَن صاحب السكر قَدْ يَكُون مبسوطا إِذَا لَمْ يكن مستوفيا فِي سكره، وَقَدْ يسقط أخطار الأشياء عَن قلبه فِي حال سكره، وتلك حال المتساكر الَّذِي لَمْ يستوفه الوارد فيكون للإحساس فِيهِ مساغ وَقَدْ يقوى سكره حَتَّى يَزِيد عَلَى الغيبة، فربما يَكُون صاحب السكر أشد غيبة من صاحب الغيبة إِذَا قوى سكره، وربما يَكُون صاحب الغيبة أتم فِي الغيبة من صاحب السكر إِذَا كَانَ متساكرا غَيْر مستوف، والغيبة قَدْ تكون للعبادة بِمَا يغلب عَلَى قلوبهم من موجب الرغبة والرهبة ومقتضيات الخوف والرجاء، والسكر لا يَكُون إلا لأَصْحَاب المواجد، فَإِذَا كوشف العبد بنعت الجمال حصل السكر، وطالب الروح، وهام القلب وَفِي معناه أنشدوا: فضحوك من لفظي هُوَ الوصل كُلهُ ... وسكرك من لحظي يبيح لَك الشرابا فَمَا مل ساقيها وَمَا مل شارب ... عقار لحاظ كأسه يسكر اللبا وأنشدوا: فاسكر الْقَوْم دور كأس ... وَكَانَ سكري من المدير وأنشدوا: لي سكرتان وللندمان واحدة ... شَيْء خصصت بِهِ من بينهم وحدي وأنشدوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 سكران سكر هوى وسكر مدامة ... فَمَتَى يفيق فتى بِهِ سكران واعلم أَن الصحو عَلَى حسب السكر، فمن كَانَ سكره بحق كَانَ صحوه بحق، ومن كَانَ سكره بحفظ مشوبا كَانَ صحوه بحظ صحيح مصحوبا، ومن كَانَ محقا فِي حاله كَانَ محفوظا فِي سكره، والسكر والصحو يشيران إِلَى طرف من التفرقة، وإذا ظهر من سلطان الحقيقة علم أَن صفة العبد الثبور والقهر. وَفِي معناه أنشدوا: إِذَا طلع الصباح لنجم راح ... تساوى فِيهِ سكران وصاح قَالَ اللَّه تعالي: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] هَذَا مَعَ رسالته خر صعقا وَهَذَا مَعَ صلابته وقوته صار دكا متكسرا والعبد فِي حال سكره يشاهد الحال وَفِي حال صحوه يشاهد العلم إلا أَنَّهُ فِي حال سكره محفوظ لا يتكلفه وَفِي صحوه متحفظ بتصرفا والصحو والسكر بَعْد الذوق والشرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ومن ذَلِكَ الذوق والشرب ومن جملة مَا يجرى فِي كلامهم الذوق والشرب ويعبرون بِذَلِكَ عما يجدونه من ثمرات التجلي ونتائج الكشوفات وبواده الواردات وأول ذَلِكَ الذوق ثُمَّ الشرب ثُمَّ الري فصفاء معاملاتهم يوجب لَهُمْ ذوق المعاني ووفاء منازلاتهم يوجب لَهُم الشرب ودوام مواصلاتهم يقتضي لَهُم الري فصاحب الذوق متساكر وصاحب الري صاح، ومن قوى حبه تسرمد شربه فَإِذَا دامت بِهِ تلك الصفة لَمْ يورثه الشرب سكرا فكان صاحيا بالحق فانيا عَن كُل حظ لَمْ يتأثر بِمَا يرد عَلَيْهِ ولا يتغير عما هُوَ بِهِ، ومن صفا سره لَمْ يتكدر عَلَيْهِ الشرب، ومن صار الشراب لَهُ غذاء لَمْ يصبر عَنْهُ وَلَمْ يبق بدونه وأنشدوا: إِنَّمَا الكاس رضاع بيننا ... فَإِذَا مَا لَمْ نذقها لَمْ نعش وأنشدوا: عجبت لمن يَقُول ذكرت ربي ... فهل أنسى فأذكر مَا نسيت شربت الحب كأسا بَعْد كأس ... فَمَا نفد الشراب ولا رويت ويقال: كتب يَحْيَي بْن معاذ إِلَى أَبِي يَزِيد البسطامي ههنا من شرب كأسا من المحبة لَمْ يظمأ بعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فكتب إِلَيْهِ أَبُو يَزِيد عجبت من ضعف حالك ههنا من يحتسي بحار الكون وَهُوَ فاغر فاه يتزيد. واعلم أَن كاسات القرب تبدو من الغيب ولا تدار إلا عَلَى أسرار معتقة وأرواح عَن رقة الأشياء محررة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ومن ذَلِكَ المحو والإثبات المحو: رفع أوصاف العادة، والإثبات: إقامة أحكام العبادة، فمن نفى عَن أحواله الخصال الذميمة وأتى بدلها بالأفعال والأحوال الحميدة فَهُوَ صاحب محو وإثبات. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: قَالَ بَعْض المشايخ لواحد: أيش تمحو وأيش تثبت؟ فسكت الرجل فَقَالَ: أما علمت أَن الوقت محو وإثبات إذ من لا محو لَهُ ولا إثبات فَهُوَ معطل مهمل وينقسم إِلَى محو الزلة عَنِ الظواهر ومحو الغفلة عَنِ الضمائر ومحو العلة عَنِ السرائر، ففي محو الزلة إثبات المعاملات، وَفِي محو الغفلة إثبات المنازلات، وَفِي محو العلة إثبات المواصلات، هَذَا محو وإثبات بشرط العبودية، وَأَمَّا حقيقة المحو والإثبات فصادران عَنِ القدرة فالمحو مَا ستره الحق ونفاه والإثبات مَا أظهره الحق وأبداه والمحو والإثبات مقصوران عَلَى المشيئة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] قيل: يمحو عَن قلوب العرافين ذكر غَيْر اللَّه تَعَالَى ويثبت عَلَى ألسنة المريدين ذكر اللَّه ومحو الحق لكل أحد وإثباته عَلَى مَا يليق بحاله ومن محاه الحق سبحانه عَن مشاهدة أثبته بحق حقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ومن محاه الحق عَن إثباته بِهِ رده إِلَى شهود الأغيار وأثبته فِي أودية التفرقة. وَقَالَ رجل للشبلي رحمه اللَّه: مالي أراك قلقا أليس هُوَ معك وأنت مَعَهُ؟ فَقَالَ الشبلي: لو كنت أنا مَعَهُ كنت أنا ولكني محو فيما هُوَ والمحق فَوْقَ المحو، لأن المحو يبقى أثرا والمحق لا يبقى أثرا وغاية همة الْقَوْم أَن يمحقهم الحق عَن شاهدهم ثُمَّ لا يردهم إِلَيْهِ بَعْد مَا محقهم عَنْهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ومن ذَلِكَ الستر والتجلي العوام فِي غطاء الستر والخواص فِي دوام التجلي وَفِي الْخَبَر: إِن اللَّه إِذَا تجلي لشيء خشع لَهُ فصاحب الستر بوصف شهوده وصاحب التجلي أبدا بنعت خشوعه والستر للعوام عقوبة وللخواص رحمة، إذ لولا أَنَّهُ يستر عَلَيْهِم مَا يكاشفهم بِهِ لتلاشوا عِنْدَ سلطان الحقيقة ولكنه كَمَا يظهر لَهُمْ يستر عَلَيْهِم. سمعت مَنْصُور المغربي يَقُول: وافي بَعْض الفقراء حيا من أحياء العرب فأضافة شاب فبينا الشاب فِي خدمة هَذَا الفقير إذ غشي عَلَيْهِ فسأل الفقير عَن حاله فَقَالُوا لَهُ: بنت عم وَقَدْ علقهم فمشت فِي خيمتها فرأى الشاب غبار ذيلها فغشي عَلَيْهِ فمضى الفقير إِلَى بَاب الخيمة وَقَالَ: إِن للغريب فيكم حرمة وذماما وَقَدْ جئت مستشفعا إليك فِي أمر هَذَا الشاب فتعطفي عَلَيْهِ فيما هُوَ بِهِ من هواك، فَقَالَتْ: سبحان اللَّه أَنْتَ سليم القلب إنه لا يطيق شهود غَيْر ذيلي فكيف يطيق صحبتي؟ وعوام هذه الطائفة عيشهم فِي التجلي وبلاؤهم فِي الستر، وَأَمَّا الخواص: فَهُمْ بَيْنَ طيش وعيش، لأنهم إِذَا تجلى لَهُمْ طاشوا وإذا ستر عَلَيْهِم ردوا إِلَى الحظ فعاشوا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقيل: إِنَّمَا قَالَ الحق تَعَالَى لموسى عَلَيْهِ السَّلام {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] ليستر عَلَيْهِ ببعض مَا يعلله بِهِ بَعْض مَا أثر فِيهِ من المكاشفة بفاجأة السماع وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ليغان عَلَى قلبي حَتَّى أستغفر اللَّه فِي اليوم سبعين مرة والاستغفار طلب الستر ولأن الغفر هُوَ الستر ومنه غفر الثوب والمغفرة وغيره فكأنه أخبر أَنَّهُ يطلب الستر عَلَى قلبه عِنْدَ سطوات الحقيقة إذ الخلق لا بقاء لَهُمْ مَعَ وجود الحق وَفِي الْخَبَر لو كشف عَن وجهه لحرقت سبحات وجهه مَا أدرك بصره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ومن ذَلِكَ المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة المحاضرة ابتداء ثُمَّ المكاشفة ثُمَّ المشاهدة فالمحاضرة حضور القلب وَقَدْ يَكُون بتواتر البرهان وَهُوَ بَعْد وراء الستر وإن كَانَ حاضرا باستيلاء سلطان الذكر ثُمَّ بعده المكاشفة وَهُوَ حضوره بنعت البيان غَيْر مفتقر فِي هذه الحالة إِلَى تأمل الدليل وتطلب السبيل ولا مستجير من دواعي الريب ولا محجوب عَن نعت الغيب ثُمَّ المشاهدة وَهِيَ حضور الحق من غَيْر بقاء تهمة فَإِذَا أصحت سماء السر عَن غيوم الستر فشمس الشهود مشرقة عَن برج الشرف وحق المشاهدة مَا قاله الجنيد رحمه اللَّه: وجود الحق مَعَ فقدانك فصاحب المحاضرة مربوط بآياته وصاحب المكاشفة مبسوط بصفاته وصاحب المشاهدة ملقي بذاته وصاحب المحاضرة يهديه عقله وصاحب المكاشفة يدنيه علمه وصاحب المشاهدة تمحوه معرفته وَلَمْ يزد فِي بيان تحقيق المشاهدة أحد عَلَى مَا قاله عَمْرو بْن عُثْمَان الْمَكِّي رحمه اللَّه ومعني مَا قاله أَنَّهُ تتوالى أنوار التجلي عَلَى قلبه من غَيْر أَن يتخللها ستر وانقطاع كَمَا لو قدر اتصال البروق فكما أَن الليلة الظلماء بتوالي البروق فِيهَا واتصالها إِذَا قدرت تصير فِي ضوء النهار فَكَذَلِكَ القلب إِذَا دام بِهِ دوام التجلي متع نهاره فلا ليل وأنشدوا: ليلي بوجهك مشرق ... وظلامه فِي النَّاس ساري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 والناس فِي سدف الظلام ... ونحن فِي ضوء النهار وَقَالَ النوري: لا يصح للعبد المشاهدة وَقَدْ بقي لَهُ عرق قائم وَقَالَ إِذَا طلع الصباح استغني عَنِ المصباح وتوهم قوم أَن المشاهدة تشير إِلَى طرف من التفرقة، لأن بَاب المفاعلة فِي العربية بَيْنَ اثنين وَهَذَا وَهُمْ من صاحبه فَإِن فِي ظهور الحق سبحانه ثبور الخلق وباب المفاعلة جملتها لا تقتضي مشاركة الاثنين نَحْو سافر وطارق النعل وأمثاله وأنشدوا: فلما استبان الصبح أدرك ضوؤه ... بأنواره أنوار ضوء الكواكب يجرعهم كأسا لو ابتلي بِهِ ... اللظى بتجريعه طارت كأسرع ذاهب كأس وأي كأس تصطلمهم عَنْهُم وتفنيهم وتخطفهم مِنْهُم ولا تبقيهم كأس لا تبقي ولا تذر تمحوهم بالكلية ولا تبقي شظية من آثر البشرية كَمَا قَالَ قائلهم: ساروا فلم يبق لا رسم ولا أثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ومن ذَلِكَ اللوائح والطوالع واللوامع قَالَ الأستاذ هذه الألفاظ متقاربة المعنى لا يكاد يحصل بينها كبير فرق وَهِيَ من صفات أَصْحَاب البدايات الصاعدين فِي الترقي بالقلب فلم يدم لَهُمْ بَعْد ضياء شموس المعارف لكن الحق سبحانه وتعالى يؤتي رزق قلوبهم فِي كُل حِينَ كَمَا قَالَ وَلَهُمْ رزقهم فِيهَا بكرة وعشيا فكلما أظلم عَلَيْهِم سماء القلوب بسحاب الحظوظ سنح لَهُمْ فِيهَا لوائح الكشف وتلألأ لوامع القرب وَهُمْ فِي زمان سترهم يرقبون فجأة اللوائح فَهُمْ كَمَا قَالَ القال: يا أيها البرق الَّذِي يلمع من أي أكناف السما تسطع فتكون أولا لوائح ثُمَّ لوامع ثُمَّ طوالع فاللوائح كالبروق مَا ظهرت حَتَّى استترت كَمَا قَالَ القائل: افترقنا حولا فلما التقينا كَانَ تسليمه عَلِي وداعا وأنشدوا: يا ذا الَّذِي زار وَمَا زار ... كَأَنَّهُ مقتبس نارا مر بباب الدار مستعجلا ... مَا ضره لو دَخَلَ الدارا واللوامع أظهر من اللوائح وليس زوالها بتلك السرعة فَقَدْ تبقى اللوامع وقتين وثلاثة ولكن كَمَا قَالُوا: والعين باكية لَمْ تشبع النظرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وكما قَالُوا: لَمْ ترد ماء وجهه العين إلا شرقت قبل ريها برقيب فَإِذَا لمع قطعك عَنْك وجمعك بِهِ لكن لَمْ يسفر نور نهاره حَتَّى كر عَلَيْهِ عساكر الليل فهؤلاء بَيْنَ روح ونوح، لأنهم بَيْنَ كشف وستر كَمَا قَالُوا: فالليل يشملنا بفاضل برده والصبح يلحقنا رداء مذهبا الطوالع أبقى وقتا وأقوى سلطانا وأدوم مكثا وأذهب للظلمة وأنفى للتهمة لكنها موقفة عَلَى خطر الأقوال ليست برفيعة الأوج ولا بدائمة المكث ثُمَّ أوقات حصولها وشيكة الارتحال وأحوال أفوالها طويلة الأذيال وَهَذَهِ المعاني الَّتِي هِيَ اللوائح واللوامع والطوالع تختلف فِي القضايا فمنها مَا إِذَا فات لَمْ يبق عَنْهَا أثر كالشوارق إِذَا أفلت فكأن الليل كَانَ دائما ومنها مَا يبقى عَنْهُ أثر فَإِن زال رقمه بقي ألمه وإن غربت أنواره بقيت آثاره فصاحبه بَعْد سكون غلباته يعيش فِي ضياء بركاته فإلي أَن يلوح ثانيا يرجى وقته عَلَى انتظار عوده ويعيش بِمَا وجد فِي حِينَ كونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ومن ذَلِكَ البواده والهجوم البواده مَا يفاجأ قلبك من الغيب عَلَى سبيل الوهلة إِمَّا موجب فرح وإما موجب ترح والهجوم مَا يرد عَلَى القلب بقوة الوقت من غَيْر تصنع منك ويختلف فِي الأنواع عَلَى حسب قوة الوارد وضعفه فمنهم من تغيره البواده وتصرفه الهواجم وَمِنْهُم من يَكُون فَوْقَ مَا يفجؤه حالا وقوة أولئك سادت الوقت كَمَا قيل: لا تهتدي نوب الزَّمَان إليهم وَلَهُمْ عَلَى الخطب الجليل لجام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ومن ذَلِكَ التلوين والتمكين التلوين صفة أرباب الأحوال والتمكين صفة أهل الحقائق فَمَا دام العبد فِي الطريق فَهُوَ صاحب تلوين لأنه يرتقي من حال إِلَى حال وينتقل من وصف إِلَى وصف ويخرج من مرحل ويحصل فِي مربع فَإِذَا وصل تمكن وأنشدوا: ما زلت أنزل فِي ودادك منزلا ... تتحير الألباب دُونَ نزوله وصاحب التلوين أبدا فِي الزيادة وصاحب التمكين وصل ثُمَّ اتصل وأمارة أَنَّهُ اتصل أَنَّهُ بالكلية من كليته بطل. وَقَالَ بَعْض المشايخ انتهى سفر الطالبين إِلَى الظفر بنفوسهم فَإِذَا ظفروا بنفوسهم فَقَدْ وصلوا. قَالَ الأستاذ رحمه اللَّه: يريد بِهِ انخناس أحكام البشرية واستيلاء سلطان الحقيقة فَإِذَا دام للعبد هذه الحالة فَهُوَ صاحب تمكين كَانَ الشيخ أَبُو عَلِي الدقاق رحمه اللَّه تَعَالَى يَقُول: كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام صاحب تلوين فرجع من سماع الْكَلام واحتاج إِلَى ستر وجهه لأنه أثر فِيهِ الحال، ونبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ صاحب تمكين فرجع كَمَا ذهب لأنه لَمْ يؤثر فِيهِ مَا شاهده تلك الليلة وَكَانَ يتشهد عَلَى هَذَا بقصة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام أَن النسوة اللاتي رأين يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام قطعن أيديهم لما ورد عليهن من شهود يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام عَلَى وجه الفجأة وامرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الْعَزِيز كانت أتم فِي بلاء يُوسُف منهن ثُمَّ لَمْ تتغير عَلَيْهَا شعرة ذَلِكَ اليوم لأنها كانت صاحبة تمكين فِي حَدِيث يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام. وَقَالَ الأستاذ واعلم أَن التغير بِمَا يرد عَلَى العبد يَكُون لأحد أمرين: إِمَّا لقوة الوارد أَوْ لضعف صاحبه والسكون من صاحبه لأحد أمرين: إِمَّا لقوته أَوْ لضعف الوارد عَلَيْهِ. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: أصول الْقَوْم فِي جواز دوام التمكين تتخرج عَلَى وجهين أحدهما لا سبيل إِلَيْهِ لأنه قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو بقيتم عَلَى مَا كنتم عَلَيْهِ عندي لصافحتكم الملائكة ولأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لي وقت لا يسعني فِيهِ غَيْر ربي عَزَّ وَجَلَّ أخبر عَن وقت مخصوص قَالَ رحمه اللَّه تَعَالَى والوجه الثَّانِي أَنَّهُ يصح دوام الأحوال، لأن أهل الحقائق ارتقوا عَن وصف التأثر بالطوارق والذي فِي الْخَبَر أَنَّهُ قَالَ: لصافحتكم الملائكة فلم يعلق الأمر فِيهِ عَلَى أمر مستحيل ومصافحة الملائكة دُونَ مَا أثبت لأهل البداية من قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بِمَا يصنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وَمَا قَالَ لي وقت قائما قَالَ عَلَى حسب فَهُم السامع وَفِي جَمِيع أحواله كَانَ قائما بالحقيقة والأولى أَن يقال إِن العبد مَا دام فِي الترقي فصاحب تلوين يصح فِي نعته الزيادة فِي الأحوال والنقصان منها فَإِذَا وصل إِلَى الحق بانخناس أحكام البشرية مكنه الحق سبحانه فِي كُل نفس فلا حد لمقدوراته فَهُوَ فِي الزيادات متلون بَل ملون وَفِي أصل حاله متمكن فأبدا يتمكن فِي حالة أعلى مِمَّا كَانَ فِيهَا قبله ثُمَّ يرتقي عَنْهَا إِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ إذ لا غاية لمقدورات الحق سبحانه فِي كُل جنس، فأما المصطلم عَن شاهده المستوفي إحساسه بالكلية فللبشرية لا محالة حد فَإِذَا بطل عَن جملته ونفسه وحسه وَكَذَلِكَ عَنِ المكونات بأسرها ثُمَّ دامت بِهِ هذه الغيبة فَهُوَ محو فلا تمكين لَهُ إذن ولا تلوين ولا مقام ولا حال وما دام بِهَذَا الوصف فلا تشريف ولا تكليف اللَّهُمَّ إلا أَن يرد بِمَا يجري عَلَيْهِ من غَيْر شَيْء منه فذلك متصرف فِي ظنون الخلق مصرف فِي التحقيق قَالَ اللَّه تعالي: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 18] وبالله التوفيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ومن ذَلِكَ التقرب والبعد أول رتبة فِي القرب القرب من طاعته والاتصاف فِي دوام الأوقات بعبادته. وَأَمَّا البعد فَهُوَ التدنس بمخالفته والتجافي عَن طاعته فأول البعد بَعْد عَنِ التوفيق ثُمَّ بَعْد عَنِ التحقيق بَل البعد عَنِ التوفيق هُوَ البعد عَنِ التحقيق قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخبرا عَنِ الحق سبحانه: مَا تقرب إلي المتقربون بمثل أداء مَا افترضت عَلَيْهِم ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حَتَّى يحبني وأحبه فَإِذَا أحببته كنت لَهُ سمعا وبصرا فبي يبصر وبي يسمع الخير فقرب العبد أولا قرب بإيمانه وتصديقه ثُمَّ قرب بإحساسه وتحقيقه وقرب الحق سبحانه مَا يخصه اليوم بِهِ من العرفان وَفِي الآخرة مَا يكرمه بِهِ من الشهود والعيان وَفَيْمَا بَيْنَ ذَلِكَ بوجود اللطف والامتنان ولا يَكُون قرب العبد من الحق إلا ببعدنا من الخلق وَهَذَهِ من صفات القلوب دُونَ أحكام الظواهر والكون فقرب الحق سبحانه بالعلم والقدرة عام للكافة وباللطف والنصرة خاص بالمؤمنين ثُمَّ بخصائص التأنيس مختص بالأولياء قَالَ اللَّه تعالي: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وَقَالَ تعالي: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة: 85] وَقَالَ تعالي {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وَقَالَ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ومن تحقق بقرب الحق سبحانه وتعالى فأدونه دوام مراقبته إياه لأنه عَلَيْهِ رقيب التقوى ثُمَّ رقيب الحفاظ والوفاء ثُمَّ رقيب الحياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وأنشدوا: كأن رقيبا منك يرعى خواطري ... وآخر يرعي ناظري ولساني فَمَا رمقت عيناي بعدك منظرا ... يسوؤك إلا قُلْت: قَدْ رقاني ولا بدرت من فِي دونك لفظة ... لغيرك إلا قُلْت: قَدْ سماني ولا خطرت فِي السر بعدك خطرة ... لغيرك إلا عرجا بعناني وإخوان صدق قَدْ سئمت حَدِيثهم ... وأمسكت عَنْهُم ناظري ولساني وَمَا الزهد أسلي عَنْهُم غَيْر أنني ... وجدجتك مشهودي بكل مكان وَكَانَ بَعْض المشايخ يخص واحدا من تلامذته إقباله عَلَيْهِ فَقَالَ أَصْحَابه لَهُ فِي ذَلِكَ فدفع إلي كُل واحد مِنْهُم طيرا وَقَالَ اذبحوه بحيث لا يراه أحد فمضى كُل واحد وذبح الطير بمكان خال وجاء هَذَا الإِنْسَان والطير مَعَهُ غَيْر مذبوح فسأله الشيخ فَقَالَ: أمرتني أَن أذبحه بحيث لا يراه أحد وَلَمْ يكن موضع إلا والحق سبحانه يراه فَقَالَ الشيخ لِهَذَا أقدم هَذَا عليكم إذ الغالب عليكم حَدِيث الخلق وَهَذَا غَيْر غافل عَنِ الحق ورؤية القرب حجاب عَنِ القرب فمن شاهد لنفسه محلا أَوْ نفسا فَهُوَ ممكور بِهِ ولهذا قَالُوا أوحشك اللَّه تَعَالَى من قربه أي من شهودك لقربه فَإِن الاستئناس بقربه من سمات العزة بِهِ إذ الحق سبحانه وراء كُل أَنَس وإن مواضع الحقيقة توجب الدهش والمحو وَفِي قريب من هَذَا قَالُوا: محنتي فيك إنني مَا أبالي بمحنتي قربكم مثل بعدكم فَمَتَى وقعت راحتي وَكَانَ الأستاذ أَبُو عَلِي الدقاق رحمه اللَّه كثيرا مَا ينشد: ودادكم هجر وحبكم قلى ... وقربكم بَعْد وسلمكم حرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ورأى أَبُو الْحُسَيْن النوري بَعْض أَصْحَاب أَبِي حمزة فَقَالَ: أَنْتَ من أَصْحَاب أَبِي حمزة الَّذِي يشير إِلَى القرب، إِذَا لقيته فقل لَهُ إِن أبا الْحُسَيْن النوري يقرئك السَّلام وَيَقُول لَك: قرب القرب فيما نحن فِيهِ بَعْد البعد فأما القرب بالذات فتعالى اللَّه الْمَلِك الحق عَنْهُ فَإِنَّهُ متقدس عَنِ الحدود والأقطار والنهاية والمقدار مَا اتصل بِهِ مخلوق ولا انفصل عَنْهُ حادث مسبوق بِهِ جلت العملية عَن قبول الوصل والفصل فقرب هُوَ فِي نعته محال وَهُوَ تداني الذوات وقرب هُوَ واجب فِي نعته وَهُوَ قرب بالعلم والرؤية وقرب هُوَ جائز فِي وصفه يخص بِهِ من يشاء من عباده وَهُوَ قرب الفضل باللطف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ومن ذَلِكَ الشريعة والحقيقة الشريعة أمر بالتزام العبودية والحقيقة مشاهدة الربوية فَكُل شريعة غَيْر مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول وكل حقيقة غَيْر مقيدة بالشريعة فغير محصول فالشريعة جاءت بتكليف الخلق والحقيقة إنباء عَن تصريف الحق فالشريعة أَن تعبده والحقيقة أَن تشهده والشريعة قيام بِمَا أمر والحقيقة شهود لما قضى وقدر وأخفى وأظهر. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: قَوْله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] حفظ الشريعة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] إقرار بالحقيقة. واعلم أَن الشريعة حقيقة من حيث إنها وجبت بأمره والحقيقة أَيْضًا شريعة من حيث إِن المعارف بِهِ سبحانه أَيْضًا وجبت بأمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ومن ذَلِكَ النفس ترويح القلوب بلطائف الغيوب وصاحب الأنفاس أرق وأصفي من صاحب الأحوال فكان صاحب الوقت مبتدئا وصاحب الأنفاس منتهيا وصاحب الأحوال بينهما فالأحوال وسائط والأنفاس نهاية الترقي فالأوقات لأَصْحَاب القلوب والأحوال لأرباب الأرواح والأنفاس لأهل السرائر وَقَالُوا أفضل العبادات عد الأنفاس مَعَ اللَّه سبحانه وتعالى وَقَالُوا خلق اللَّه القلوب وجعلها معادن المعرفة وخلق الأسرار وراءها وجعلها محلا للتوحيد فَكُل نفس حصل من غَيْر دلالة المعرفة وإشارة التوحيد عَلَى بساط الاضطرار فَهُوَ ميت وصاحبه مسئول عَنْهُ. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: العارف لا يسلم لَهُ النفس لأنه لا مسامحة تجري مَعَهُ والمحب لا بد لَهُ من نفس إذ لولا أَن يَكُون لَهُ نفس لتلاشى لعدم طاقته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ومن ذَلِكَ الخواطر والخواطر خطاب يرد عَلَى الضمائر فَقَدْ يَكُون بإلقاء الشَّيْطَان ويكون أحاديث النفس ويكون من قبل الحلق سبحانه فَإِذَا كَانَ من الْمَلِك فَهُوَ الإلهام وإذا كَانَ من قبل النفس قيل لَهُ الهواجس وإذا كَانَ من قبل الشَّيْطَان فَهُوَ الوسواس وإذا كَانَ من قبل اللَّه سبحانه وتعالى وإلقائه فِي القلب فَهُوَ خاطر حق وجملة ذَلِكَ من قبيل الْكَلام فَإِذَا كَانَ من قبل الْمَلِك فإنما يعلم صدقه بموافقة العلم ولهذا قَالُوا كُل خاطر لا يشهد لَهُ ظاهر فَهُوَ باطل وإذا كَانَ من قبل الشَّيْطَان فأكثره مَا يدعوه عَلَى المعاصي وإذا كَانَ من قبل النفس فأكثره مَا يدعو إِلَى اتباع شهوة أَوِ استشعار كبر أَوْ مَا هُوَ من خصائص أوصاف النفس واتفق المشايخ عَلَى أَن من كَانَ أكله من الحرام لَمْ يفرق بَيْنَ الإلهام والوسواس سمعت الشيخ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: من كَانَ قوته معلوما لَمْ يفرق بَيْنَ الإلهام والوساوس وأن من سكنت عَنْهُ هواجس نَفْسه بصدق مجاهدته نطق بيان قلبه بحكم مكايدته وأجمع الشيوخ عَلَى أَن النفس لا تصدق وأن القلب لا يكذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وَقَالَ بَعْض المشايخ: إِن نفسك لا تصدق وقلبك لا يكذب ولو اجتهدت كُل الجهد أَن تخاطبك روحك لَمْ تخاطبك وفرق الجنيد بَيْنَ هواجس النفس ووساوس الشَّيْطَان بأن النفس إِذَا طالبتك بشيء ألحت فلا تزال تعاودك ولو بَعْد حِينَ حَتَّى تصل إِلَى مرادها ويحصل مقصودها اللَّهُمَّ إلا أَن يدوم صدق المجاهدة ثُمَّ إنها تعاودك وتعاودك وَأَمَّا الشَّيْطَان إِذَا دعاك إِلَى زلة فخالفته بترك ذَلِكَ يوسوس بزلة أُخْرَى، لأن جَمِيع المخالفات لَهُ سواء وإنما يريد أَن يكن داعيا أبدا إِلَى زلة مَا ولا غرض لَهُ فِي تخصيص واحد دُونَ واحد وقيل: كُل خاطر يَكُون من الْمَلِك فربما يوافقه صاحبه وربما يخالفه فأما خاطر يَكُون من الحق سبحانه فلا يحصل خلاف من العبد لَهُ وتكلم الشيوخ فِي الخاطر الثَّانِي إِذَا كَانَ الخاطران من الحق سبحانه هل هُوَ أقوى من الأَوَّل فَقَالَ الجنيد: الخاطر الأَوَّل أقوى لأنه إِذَا بقي رجع صاحبه عَلَى التأمل وَهَذَا بشرط العلم فترك الأَوَّل يضعف الثَّانِي وَقَالَ ابْن عَطَاء الثَّانِي أقوى لأنه ازداد قوة بالأول وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف من المتأخرين هما سواء، لأن كليهما من الحق فلا مزية لأحدهما عَلَى الآخر وَالأَوَّل لا يبقى فِي حال وجود الثَّانِي، لأن الآثار لا يَجُوز عَلَيْهَا البقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ومن ذَلِكَ علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين وَهَذَهِ عبارات عَن علوم جلية فاليقين هُوَ العلم الَّذِي لا يتداخل صاحبه ريب عَلَى مطلق العرف ولا يطلق فِي وصف الحق سبحانه لعدم التوقيف فعلم اليقين هُوَ اليقين وَكَذَلِكَ عين اليقين نفس اليقين وحق اليقين نفس اليقين فعلم اليقين عَلَى موجب اصطلاحهم مَا كَانَ بشرط البرهان وعين اليقين مَا كَانَ بحكم البيان وحق اليقين مَا كَانَ بنعت العيان فعلم اليقين لأرباب العقول وعين اليقين لأَصْحَاب العلوم وحق اليقين لأَصْحَاب المعارف والكلام فِي الإفصاح عَن هَذَا بحال تحقيقه يعود إِلَى مَا ذكرناه فاقتصرنا عَلَى هَذَا القدر عَلَى جهة التنبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ومن ذَلِكَ الوارد ويجرى فِي كلامهم ذكر الواردات كثيرا والوارد مَا يرد عَلَى القلوب من الخواطر المحمودة مِمَّا لا يَكُون بتعمد العبد وَكَذَلِكَ مَا لا يَكُون من قبل الخواطر فَهُوَ أَيْضًا وارد ثُمَّ قَدْ يَكُون وارد من الحق ووارد من العلم فالواردات أعم من الخواطر لأن الخواطر تختص بنوع الْخَطَّاب أَوْ مَا يتضمن معناه والواردات تكون وارد سرور ووارد حزن ووارد قبض ووارد بسط إِلَى غَيْر ذَلِكَ من المعاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ومن ذَلِكَ لفظ الشاهد كثيرا مَا يجرى فِي كلامهم لفظ الشاهد فُلان يشاهد العلم وفلان يشاهد الوجد وفلان يشاهد الحال ويريدون بلفظ الشاهد مَا يَكُون حاضر قلب الإِنْسَان وَهُوَ مَا كَانَ الغالب عَلَيْهِ ذكره حَتَّى كَأَنَّهُ يراه ويبصره وإن كَانَ غائبا عَنْهُ فَكُل مَا يستولي عَلَى قلب صاحبه ذكره فَهُوَ يشاهده فَإِن كَانَ الغالب عَلَيْهِ العلم فَهُوَ يشاهد العلم وإن كَانَ الغالب عَلَيْهِ الوجد فَهُوَ يشاهد الوجود ومعنى الشاهد الحاضر فَكُل مَا هُوَ حاضر قلبك فَهُوَ شاهدك. وسئل الشبلي عَنِ المشاهدة فَقَالَ: من أين لنا مشاهدة الحق؟ الحق لنا شاهد، أشار بشاهد الحق إِلَى المستولي عَلَى قلبه والغالب عَلَيْهِ من ذكر الحق والمحضار فِي قلبه دائما من ذكر الحق ومن حصل لَهُ مَعَ مخلوق تعلق بالقلب يقال إنه شاهده يَعْنِي أَنَّهُ حاضر قلبه فَإِنَّهُ المحبة توجب دوام ذكره المحبوب واستيلائه عَلَيْهِ وبعضهم تكلف فِي مراعاة هَذَا الاشتقاق فَقَالَ: إِنَّمَا سمي الشاهد من الشهادة فكأنه إِذَا طالع شخصا يُوسُف الجمال فَإِن كانت بشريته ساقطة عَنْهُ وَلَمْ يشغله شهود ذَلِكَ الشخص عما هُوَ بِهِ من الحال ولا أثرت فِيهِ صحبته بوجه فَهُوَ شاهد لَهُ عَلَى فناء نَفْسه ومن أثر فِيهِ ذَلِكَ فَهُوَ شاهد عَلَيْهِ فِي بقاء نَفْسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وقيامه بأحكام بشريته إِمَّا شاهد لَهُ أَوْ شاهد عَلَيْهِ وعلى هَذَا حمل قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رأيت ربي ليلة المعراج فِي أَحْسَن صورة أي أَحْسَن صورة رأيتها تلك الليلة لَمْ تشغلني عَن رؤيته تَعَالَى بَل رأيت المصور فِي الصورة والمنشئ فِي الإنشاء ويريد بِهِ رؤية العلم لا إدراك البصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ومن ذَلِكَ النفس نفس الشيء فِي اللغة وجوده وعند الْقَوْم لَيْسَ المراد من إطلاق لفظ النفس الوجود ولا القالب الموضوع إِنَّمَا أرادوا بالنفس مَا كَانَ معلولا من أوصاف العبد ومذموما من أخلاقه وأفعاله ثُمَّ إِن المعلولات من أوصاف العبد عَلَى ضربين: أحدهما يَكُون كسبا لَهُ كمعاصيه ومخالفاته. وَالثَّانِي أخلاقه الدنيئة فَهِيَ فِي أنفسها مذمومة فَإِذَا عالجها العبد ونازلها تنتفي عَنْهُ بالمجاهدة تلك الأخلاق عَلَى مستمر العادة والقسم الأَوَّل من أحكام النفس مَا نهي عَنْهُ نهي تحريم أَوْ نهي تنزيه وَأَمَّا القسم الثَّانِي من قسمي النفس فسفساف الأخلاق والدنئ منها هَذَا حده عَلَى الجملة ثُمَّ تفصيلها فالكبر والغضب والحقد والحسد وسوء الخلق وقلة الاحتمال وغير ذَلِكَ من الأخلاق المذمومة وأشد أحكام النفس وأصعبها توهمها أَن شَيْئًا منها حسن أَوْ أَن لَهَا استحقاق قدر ولهذا عد ذَلِكَ من الشرك الخفي ومعالجة الأخلاق فِي ترك النفس وكسرها أتم من مقاساة الجوع والعطش والسهر وغير ذَلِكَ من المجاهدات الَّتِي تتضمن سقوط القوة وإن كَانَ ذَلِكَ أيضًا من جملة ترك النفس ويحتمل أَن تكون النفس لطيفة مودعة فِي هَذَا القالب هِيَ محل الأخلاق المعلومة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 كَمَا أَن الروح لطيفة فِي هَذَا القالب هِيَ محل الأخلاق المحمودة وتكون الجملة مسخرا بَعْضهَا لبعض والجميع إِنْسَان واحد وكون الروح والنفس من الأجسام اللطيفة فِي الصورة ككون الملائكة والشياطين بصفة اللطافة وكما يصح أَن يَكُون البصر محل الرؤية والأذن محل السمع والأنف محل الشم والفم محل الذوق والسميع والبصير والشام والذائق إِنَّمَا هِيَ الجملة الَّتِي هِيَ الإِنْسَان فَكَذَلِكَ محل الأوصاف الحميدة القلب والروح ومحل الأوصاف المذمومة النفس والنفس جزء من هذه الجملة والقلب جزء من هذه الجملة والحكم والاسم راجع إِلَى الجملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ومن ذَلِكَ الروح الأرواح مختلف فِيهَا عِنْدَ أهل التحقيق من أهل السنة فمنهم من يَقُول إنها الحياة وَمِنْهُم من يَقُول إنها أعيان مودعة فِي هذه القوالب. لطيفة أجرى اللَّه العادة بخلق الحياة فِي القالب ما دامت الأرواح فِي الأبدان فالإِنْسَان حي بالحياة ولكن الأرواح مودعة فِي القوالب وَلَهَا ترق فِي حال النوم ومفارقة للبدن ثُمَّ رجوع إِلَيْهِ وأن الإِنْسَان هُوَ الروح والجسد، لأن اللَّه سبحانه وتعالى سخر هذه الجملة بَعْضهَا لبعض والحشر يَكُون للجملة والمثاب والمعاقب الجملة والأرواح مخلوقة ومن قَالَ بقدمها فَهُوَ مخطئ خطأ عظيما والأخبار تَدُل عَلَى أَنَّهَا أعيان لطيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ومن ذَلِكَ السر يحتمل أَنَّهَا لطيفة مودعة فِي القالب كالأرواح وأصولهم تقتضي أَنَّهَا محل المشاهدة كَمَا أَن الأرواح محل للمحبة والقلوب محل للمعارفة وَقَالُوا السر مَالِك عليك إشراف وسر السر مَا لا اطلاع عَلَيْهِ لغير الحق وعند الْقَوْم عَلَى موجب مواصفاتهم ومقتضى أصولهم السر ألطف من الروح والروح أشرف من القلب ويقولون الأسرار معتقة عَن رق الأخبار من الآثار والأطلال ويطلق لفظ السر عَلَى مَا يَكُون مصونا مكتوما بَيْنَ العبد والحق سبحانه فِي الأحوال وعليه يحمل قَوْل من قَالَ: أسرارنا بَكْر لَمْ يفتضها وَهُمْ واهم، ويقولون: صدور الأحرار قبور الأسرار، وَقَالُوا: لو عرف زرى سري لطرحته، فهذا طرف من تفسير إطلاقاتهم وبيان عباراتهم فيما انفردوا بِهِ من ألفاظ ذكرناها عَلَى شرط الإيجاز، ونذكر الآن أبوابا فِي شرح المقامات الَّتِي هِيَ مدراج أرباب السلوك ثُمَّ بعدها أبوابا فِي تفصيل الأحوال عَلَى الحد الَّذِي يسهله اللَّه بفضله إِن شاء اللَّه تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 بَاب التوبة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فَوْرَكٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ خَرَّازٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ يَضُرَّهُ ذَنْبٌ، ثُمَّ تَلا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا عَلامَةُ التَّوْبَةِ؟ قَالَ: «النَّدَامَةُ» أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَابِرٍ أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا غَسَّانُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَاتِكَةَ طَرِيفُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ شَابٍّ تَائِبٍ» التوبة أول منزلة من منازل السالكين وأول مقام من مقامات الطالبين وحقيقة التوبة فِي لغة العرب الرجوع يقال تاب أي رجع فالتوبة الرجوع عما كَانَ مذموما فِي الشرع إِلَى مَا هُوَ محمود فِيهِ وَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الندم التوبة فأرباب الأصول من أهل السنة قَالُوا: شرط التوبة حَتَّى تصح ثلاثة أشياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الندم عَلَى مَا عمل من المخالفات، وترك الزلة فِي الحال، والعزم عَلَى أَن لا يعود إِلَى مثل مَا عمل من المعاصي فَهَذِهِ الأركان لابد منها حَتَّى تصح توبته قَالَ هَؤُلاءِ: وَمَا فِي الْخَبَر إِن الندم توبة إِنَّمَا نص عَلَى معظمه كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحج عرفة أي معظم أركانه عرفة أي الوقوف بِهَا لا أَنَّهُ لا ركن فِي الحج سِوَى الوقوف بعرفات ولكن معظم أركانه الوقوف بِهَا كَذَلِكَ قَوْله: الندم توبة أي معظم أركانها الندم ومن أهل التحقيق من قَالَ: يكفي الندم فِي تحقيق ذَلِكَ، لأن الندم يستتبع الركنين الآخرين فَإِنَّهُ يستحل تقدير أَن يَكُون نادما عَلَى مَا هُوَ مصر عَلَى مثله أَوْ عازم عَلَى الإتيان بمثله وَهَذَا معني التوبة عَلَى جهة التحديد والإجمال فأما عَلَى جهة الشرح والإبانة فَإِن للتوبة أسبابا وترتيبا وأقساما فأول ذَلِكَ انتباه القلب عَن رقدة الغفلة ورؤية العبد مَا هُوَ عَلَيْهِ من سوء الحالة ويصل إِلَى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء إِلَى مَا يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه بسمع قلبه، فَإِنَّهُ جاء فِي الْخَبَر واعظ اللَّه فِي قلب كُل امرئ مُسْلِم وَفِي الْخَبَر إِن فِي البدن لمضغة إِذَا صلحت صلح جَمِيع الجسد وإذا فسدت فسد جَمِيع البدن ألا وَهِيَ القلب فَإِذَا فكر بقلبه فِي سوء مَا يصنعه وأبصر مَا هُوَ عَلَيْهِ من قبيح الأفعال سنح فِي قلبه إرادة التوبة والإقلاع عَن قبيح المعاملة فيعده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة والأخذ فِي جميل الرجعى والتأهب لأسباب التوبة فأول ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 هجران إخوان السوء فإنهم هُم الَّذِينَ يحملون عَلَى رد هَذَا القصد ويشوشون عَلَيْهِ صحة هَذَا العزم ولا يتم ذَلِكَ إلا بالمواظبة عَلَى المشاهدة الَّتِي تزيد رغبته فِي التوبة وتوفر دواعيه عَلَى إتمام مَا عزم عَلَيْهِ مِمَّا يقوي خوفه ورجاءه فعند ذَلِكَ تنحل من قلبه عقدة الإصرار عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ من قبيح الأفعال فيقف عَن تعاطي المحظورات ويكبح لجام نَفْسه عَن متابعة الشهوات فيفارق الزلة فِي الحال ويبرم العزيمة عَلَى أَن لا يعود إِلَى مثلها فِي الاستقبال فَإِن مضى عَلَى موجب قصده ونفذ بمقتضى عزمه فَهُوَ الموافق صدقا وإن نقض التوبة مرة أَوْ مرات وتحمل إرادته عَلَى تجديدها فَقَدْ يَكُون مثل هَذَا أَيْضًا كثيرا فلا ينبغي قطع الرجاء عَن توبة أمثال هَؤُلاءِ فَإِن لكل أجل كتابا. حكي عَن أَبِي سُلَيْمَان الدراني أَنَّهُ قَالَ: اختلفت إِلَى مجلس قاص فاثر كلامه فِي قلبي فلما قمت لَمْ يبق فِي قلبي منه شَيْء فعدت ثانيا فسمعت كلامه فبقي كلامه فِي قلبي فِي الطريق ثُمَّ زال ثُمَّ عدت ثالثا فبقي أثر كلامه فِي قلبي حَتَّى رجعت إِلَى منزلي فكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق فحكي هذه الحكاية ليحيى بْن معاذ فَقَالَ: عصفور اصطاد كركيا أراد بالعصفور ذَلِكَ القاص وبالكركي أبا سُلَيْمَان الدارني. ويحكى عَن أَبِي حفص الحداد أَنَّهُ قَالَ: تركت العمل كَذَا وكذا مرة فعدت إِلَيْهِ ثُمَّ تركني العمل فلم أعد بَعْد إِلَيْهِ. وقيل: إِن أبا عَمْرو بْن نجيد فِي ابتداء أمره اختلف إِلَى مجلس أَبِي عُثْمَان فأثر فِي قلبه كلامه فتاب ثُمَّ إنه وقعت لَهُ فترة فكان يهرب من أَبِي عُثْمَان إِذَا رآه ويتأخر عَن مجلسه فاستقبله أَبُو عُثْمَان يوما فحاد أَبُو عَمْرو عَن طريقه وسلك طريقا أُخْرَى فتبعه أَبُو عُثْمَان فَمَا زال يقفوا أثره حَتَّى لخفه فَقَالَ لَهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 يا بَنِي لا تصحب من لا يحبك إلا معصوما إِنَّمَا ينفعك أَبُو عُثْمَان فِي مثل هذه الحالة قَالَ فتاب أَبُو عَمْرو بْن نجيد وعاد إِلَى الإرادة ونفذ فِيهَا. سمعت الشيخ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: تاب بَعْض المريدين ثُمَّ وقعت لَهُ فترة فكان يفكر وقتا لو عاد إِلَى توبته كَيْفَ حكمه؟ فهتف بِهِ هاتف يا فُلان أطعتنا فشكرناك ثُمَّ تركتنا فأهملناك وإن عدت إلينا قبلناك فعاد الفتى إِلَى الإرادة ونفذ فِيهَا فَإِذَا ترك المعاصي وجل عَن قلبه عقدة الإصرار وعزم عَلَى أَن لا يعود إِلَى مثله فعند ذَلِكَ يخلص إِلَى قلبه صادق الندم فيتأسف عَلَى مَا عمله ويأخذ فِي التحسر عَلَى مَا صنعه من أحواله وارتكبه من قبيح أعماله فتتم توبته وتصدق مجاهداته واستبدل بمخالطته العزلة وبصحبته مَعَ أخدان السوء التوحش عَنْهُم والخلوة ويصل ليله بنهاره فِي التلهف ويعتنق فِي عموم أحواله بصدق التأسف يمحو بصوب عبرته آثار عثرته ويأسو بحسن توبته كلوم حوبته يعرف من بَيْنَ أمثاله بذنوبه ويستدل عَلَى صحة حاله بنحوله ولن يتم لَهُ شَيْء من ذَلِكَ إلا بَعْد فراغه من إرضاء خصومه والخروج عما لزمه من مظالمه فَإِن أول منزلة من التوبة إرضاء الخصوم بِمَا أمكنه فَإِن اتسع ذَات يده لإيصال حقوقهم إليهم أَوْ سمحت أنفسهم بإحلاله والبراءة عَنْهُ وإلا فالعزم بقلبه عَلَى أَن يخرج عَن حقوقهم عِنْدَ الإمكان والرجوع إِلَى اللَّه بصدق الابتهال والدعاء لَهُمْ وللتائبين صفات وأحوال هِيَ من خصالهم يعد ذَلِكَ من جملة التوبة لكونها من صفاتهم لا لأنها من شرط صحتها وإلى ذَلِكَ تشير أقاويل الشيوخ فِي معني التوبة. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: التوبة عَلَى ثلاثة أقسام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أولها التوبة وأوسطها الإنابة وآخرها الأوبة، فجعل التوبة بداية والأوبة نهاية والإنابة واسطتهما، فَكُل من تاب لخوف العقوبة فَهُوَ صاحب توبة، ومن تاب طمعا فِي الثواب فَهُوَ صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر لا لرغبة فِي الثواب أَوْ رهبة من العقاب فَهُوَ صاحب أوبة، ويقال أَيْضًا: التوبة صفة الْمُؤْمِنيِنَ قَالَ اللَّه تعالي: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] والإنابة صفة الأولياء والمقربين قَالَ اللَّه تعالي: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين قَالَ اللَّه تعالي: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] . سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول سمعت جَعْفَر بْن نصير يَقُول سمعت الجنيد يَقُول: التوبة عَلَى ثلاثة معان: أولها الندم. وَالثَّانِي العزم عَلَى ترك المعاودة إِلَى مَا نهى اللَّه عَنْهُ. والثالث السعي فِي أداء المظالم. وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ التوبة ترك التسويف. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الْقُرَشِيّ يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول سمعت الْحَارِث يَقُول: مَا قُلْت: قط اللَّهُمَّ أنى أسألك التوبة ولكني أقول أسألك شهوة التوبة أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ الشيرازي قَالَ: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن مصلح بالأهواز يَقُول سمعت ابْن زيري يَقُول سمعت الجنيد يَقُول: دخلت عَلَى السري يوما فرأيته متغيرا فَقُلْتُ لَهُ: مَالِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فَقَالَ: دَخَلَ عَلِي شاب فسألني عَنِ التوبة فَقُلْتُ لَهُ: أَن لا تنسى ذنبك فعارضني وَقَالَ بَل التوبة أَن تنسى ذنبك فَقُلْتُ: إِن الأمر عندي مَا قَالَ الشاب فَقَالَ: لَمْ قُلْت: لأني إِذَا كنت فِي حال الجفاء فنقلني إِلَى حال الوفاء فذكر الجفاء فِي حال الصفاء جفاء فسكت. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول سمعت أبا نصر السراج يَقُول سئل سهل بْن عَبْد اللَّهِ عَنِ التوبة فَقَالَ: أَن لا تنسى ذنبك وسئل الجنيد عَنِ التوبة فَقَالَ: أَن تنسى ذنبك قَالَ أَبُو نصر السراج أشار سهل إِلَى أحوال المريدين والمتعرضين تارة لَهُمْ وتارة عَلَيْهِم فأما الجنيد فَإِنَّهُ أشار إِلَى توبة المحققين لا يذكرون ذنوبهم بِمَا غلب عَلَى قلوبهم من عظمة اللَّه ودوام ذكره قَالَ وَهُوَ مثل مَا سئل رويم عَنِ التوبة فَقَالَ: التوبة من التوبة. وسئل ذو النون الْمِصْرِي عَنِ التوبة، فَقَالَ: توبة العوام من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة. وَقَالَ النوري: التوبة أَن تتوب من كُل شَيْء سِوَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الصوفي يَقُول سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي بْن مُحَمَّد التميمي يَقُول شتان مَا بَيْنَ تائب يتوب من الزلات وتائب يتوب من الغفلات وتائب يتوب من رؤية الحسنات. وَقَالَ الواسطي: التوبة النصوح لا تبقي عَلِي صاحبها أثرا من المعصية سرا ولا جهرا ومن كانت توبته نصوحا لا يبالي كَيْفَ أمسى وأصبح. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن الفضل الهاشمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الرومي، يَقُول: سمعت يَحْيَي بْن معاذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 يَقُول: إلهي لا أقول تبت ولا أعود لما أعرف من خلقي ولا أضمن ترك الذنوب لما أعرف من ضعفى ثُمَّ إني أقول لا أعود لعلي أَن أموت قبل أَن أعود وَقَالَ ذو النون الاستغفار من غَيْر إقلاع توبة الكاذبين. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول سمعت النصرأباذي يَقُول سمعت ابْن يزدانيار يَقُول وَقَدْ سئل عَنِ العبد إِذَا خرج إِلَى اللَّه عَلَى أي أصل يخرج فَقَالَ: عَلَى أَن لا يعود إِلَى مَا منه خرج ولا يراعي غَيْر من إِلَيْهِ خرج ويحفظ سره عَن ملاحظة مَا تبرأ منه فقيل لَهُ هَذَا حكم من خرج عَن وجود فكيف حكم من خرج عَن عدم فَقَالَ: وجود الحلاوة فِي المستأنف عوضا عَنِ المرارة فِي السالف. وسئل البوشنجي عَنِ التوبة فَقَالَ: إِذَا ذكرت الذنب ثُمَّ لا تجد حلاوته عِنْدَ ذكره فَهُوَ التوبة وَقَالَ ذو النون حقيقة التوبة أَن تضيق عليك الأَرْض بِمَا رحبت حَتَّى لا يَكُون لَك قرار ثُمَّ تضيق عليك نفسك كَمَا أخبر اللَّه تَعَالَى فِي كتابه بقوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118] وَقَالَ ابْن عَطَاء التوبة توبتان: توبه الإنابة وتوبة الاستجابة فتوبة الإنابة أَن يتوب العبد خوفا من عقوبته وتوبة الاستجابة أَن يتوب حياء من كرمه. وقيل لأبي حفص: لَمْ يبغض التائب الدنيا؟ قَالَ لأنها دار باشر فِيهَا الذنوب فقيل لَهُ أَيْضًا هِيَ دار أكرمه اللَّه فِيهَا بالتوبة فَقَالَ: إنه من الذنب عَلَى يقين ومن قبول توبته عَلَى خطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وَقَالَ الواسطي طرب دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام وَمَا هُوَ فِيهِ من حلاوة الطاعة أوقعه فِي أنفاس متصاعدة وَهُوَ فِي الحالة الثَّانِيَة أتم منه فِي وقت مَا ستر عَلَيْهِ أمره. وَقَالَ بَعْضهم: توبة الكذابين عَلَى أطراف ألسنتهم يَعْنِي قَوْل أستغفر اللَّه. وسئل أَبُو حفص عَنِ التوبة فَقَالَ: لَيْسَ للعبد فِي التوبة شَيْء، لأن التوبة إِلَيْهِ لا منه وقيل: أوحى اللَّه سبحانه إِلَى أدم يا آدم ورثت ذريتك التعب والنصب وورثتهم التوبة من دعاني مِنْهُم بدعوتك لبيته كتلبيتك يا آدم احشر التائبين من القبور مستبشرين بي ضاحكين ودعاؤهم مستجاب. وَقَالَ رجل لرابعة إني قَدْ أكثرت من الذنوب والمعاصي فلو تبت عَلِي يتوب عَلِي فَقَالَتْ لا بَل لو تاب عليك لتبت واعلم أَن اللَّه تَعَالَى قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ومن قارف الزلة فَهُوَ من خطئه عَلَى يقين فَإِذَا تاب فَإِنَّهُ من القبول عَلَى شك لا سيما إِذَا كَانَ من شرطه وحقه أَن يَكُون مستحقا لمحبة الحق وإلى أَن يبلغ العاصي محلا يجد فِي أوصافه أمارة محبة اللَّه إياه مسافة بعيدة فالواجب إذن عَلَى العبد إِذَا علم أَنَّهُ ارتكب مَا تجب منه التوبة دوام الانكسار وملازمة التنصل والاستغفار كَمَا قَالُوا استشعار الوجل إِلَى الأجل وَقَالَ عز من قائل: قل إِن كنتم تحبون اللَّه فاتبعون يحببكم اللَّه وَكَانَ من سنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دوام الاستغفار، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ليغان عَلَى قلبي فأستغفر اللَّه فِي اليوم سبعين مرة. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن عَلِي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن سهل يَقُول: سمعت يَحْيَي بْن معاذ يَقُول: زلة واحدة بَعْد التوبة أقبح من سبعين قبلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول سمعت أبا عُثْمَان يَقُول فِي قَوْله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] قَالَ رجوعهم وإن تمادى بِهِم الجولان فِي المخالفات. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول سمعت أبا عَمْرو الأنماطي يَقُول ركب عَلِي بْن عيسي الوزير فِي موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون: من هَذَا من هَذَا؟ فَقَالَت امْرَأَة قائمة عَلَى الطريق إِلَى مَتَى تَقُولُونَ من هَذَا من هَذَا؟ هَذَا عَبْد سقط من عين اللَّه فابتلاه اللَّه بِمَا ترون فسمع عَلِي بْن عيسى ذَلِكَ فرجع إِلَى منزلة واستعفى عَنِ الوزارة وذهب إِلَى مَكَّة وجاور بِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بَاب المجاهدة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبِيدٍ الصَّفَّارُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الأَسْفَاطِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ كَاسِبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضِلِ الْجِهَادِ؟ فَقَالَ: كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ. وَدَمِعَتْ عَيْنَا أَبِي سَعِيدٍ. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: من زين ظاهره بالمجاهدة حسن اللَّه سرائره بالمشاهدة قَالَ اللَّه تعالي {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] واعلم أَن من لَمْ يكن فِي بدايته صاحب مجاهدة لَمْ يجد من هذه الطريقة شمة سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول: من ظن أَنَّهُ يفتح لَهُ شَيْء من هذه الطريقة أَوْ يكشف لَهُ عَن شَيْء منها إلا بلزوم المجاهدة فَهُوَ فِي غلط. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رحمه اللَّه يَقُول من لَمْ يكن لَهُ فِي بدايته قومه لَمْ يكن لَهُ فِي نهايته جلسة وسمعته أَيْضًا يَقُول قولهم الحركة بركة حركات الظواهر توجب بركات السرائر. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن غلوبة يَقُول: قَالَ أَبُو يَزِيد: كنت ثنتي عشرة سنة حداد نفسي وخمس سنين كنت مرآة قلبي وسنة أنظر فيما بينهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فَإِذَا فِي وسطى زنار ظاهر فعملت فِي قطعة ثنتي عشرة سنة ثُمَّ نظرت فَإِذَا فِي باطني زنار فعملت فِي قطعه خمس سنين أنظر كَيْفَ أقطعه فكشف لي فنظرت إِلَى الخلق فرأيتهم موتى فكبرت عَلَيْهِم أربع تكبيرات. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت جعفرا يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول سمعت السري يَقُول: يا معشر الشباب جدوا قبل أَن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصروا كَمَا ضعفت وقصرت وَكَانَ فِي ذَلِكَ الوقت لا يلحقه الشباب فِي العبادة وسمعته يَقُول سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول سمعت عَبْد الْعَزِيز النجراني يَقُول سمعت الْحَسَن القزاز يَقُول: بنى هَذَا الأمر عَلَى ثلاثة أشياء أَن لا تأكل إلا عِنْدَ الفاقة ولا تنام إلا عِنْدَ الغلبة ولا تتكلم إلا عِنْدَ الضرورة. سمعته يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن حامد يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن خضرويه يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن أدهم يَقُول: لَنْ ينال الرجل درجة الصالحين حَتَّى يَجُوز ست عقبات أولها أَن يغلق بَاب النعمة ويفتح بَاب الشدة. وَالثَّانِي أَن يغلق بَاب العز ويفتح بَاب الذل. والثالث أَن يغلق بَاب الراحة ويفتح بَاب الجهد. والرابع أَن يغلق بَاب النوم ويفتح بَاب السهر. والخامس أَن يغلق بَاب الغنى ويفتح بَاب الفقر. والسادس أَن يغلق بَاب الأمل ويفتح بَاب الاستعداد للموت. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت جدى أبا عَمْرو بْن نجيد يَقُول: من كرمت عَلَيْهِ نَفْسه هان عَلَيْهِ دينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وسمعته يَقُول سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول: إِذَا قَالَ الصوفي بَعْد خمسة أَيَّام أنا جائع فألزموه السوق ومروه بالكسب. واعلم أَن أصل المجاهدة وملاكها فطم النفس عَنِ المألوفات وحملها عَلَى خلاف هواها فِي عموم الأوقات وللنفس صفتان مانعتان لَهَا من الخير انهماك فِي الشهوات وامتناع عَنِ الطاعات فَإِذَا جمحت عِنْدَ ركوب الهوى وجب كبحها بلجام التقوى وإذا حرنت عِنْدَ القيام بالموافقات يجب سوقها عَلَى خلاف الهوى وإذا ثارت عِنْدَ غضبها فمن الواجب مراعاة حالها فَمَا من منازلة أَحْسَن عاقبة من غضب يكسر سلطانه بخلق حسن وتخمد نيرانه برفق فَإِذَا استحلت شراب الرعونة فضاقت إلا عَن إظهار مناقبها والتزين لمن ينظر إِلَيْهَا ويلاحظها فمن الواجب كسر ذَلِكَ عَلَيْهَا وإحلالها بعقوبة الذل بِمَا يذكرها من حقارة قدرها وخساسة أصلها وقذارة فعلها وجهد العوام فِي توفية الأعمال وقصد الخواص عَلَى تصفية الأحوال فَإِن مقاساة الجوع والسهر سهل يسير ومعالجة الأخلاق والتقت عَن سفاسفها صعب شديد ومن غوامض آفات النفس ركونها إِلَى استحلاء المدح فَإِن من تحسى منه جرعة حمل السموات والأرضين عَلَى شفره من أشفاره وأمارة ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا انقطع عَنْهُ ذَلِكَ الشرب آل حاله إِلَى الكسل والفشل. كَانَ بَعْض المشايخ يصلى فِي مسجده فِي الصف الأَوَّل سنين كثيرة فعاقه يوما عَنِ الابتكار إِلَى الْمَسْجِد عائق فصلى فِي الصف الأخير فلم ير مدة فسئل عَنِ السبب فَقَالَ: كنت أقضى صلاة كَذَا وكذا سنة صليتها وعندي أنى مخلص فِيهَا لِلَّهِ فداخلني يَوْم تأخري عَنِ الْمَسْجِد من شهود النَّاس إياي فِي الصف الأخير نوع خجل فعلمت أَن نشاطي طول عمرى إِنَّمَا كَانَ عَلَى رؤيتهم فقضيت صلواتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ويحكى عَن أَبِي مُحَمَّد المرتعش أَنَّهُ قَالَ: حججت كَذَا كَذَا حجة عَلَى التجريد فبان لي أَن جَمِيع ذَلِكَ كَانَ مشوبا بحظي وَذَلِكَ أَن والدتي سألتني يوما أَن أستقي لَهَا جرة ماء فثقل ذَلِكَ عَلَى نفسي فعلمت أَن مطاوعة نفسي فِي الحاجات كانت لحظ وشوب لنفسي إذ لو كانت نفسي فانية لَمْ يصعب عَلَيْهَا مَا هُوَ حق فِي الشرع وكانت امْرَأَة قَدْ طعنت فِي السن فسئلت عَن حالتها فَقَالَتْ كنت فِي حال الشباب أجد من نفسي نشاطا وأحوالا أظنها قوة الحال فلما كبرت زالت عنى فعلمت أَن ذَلِكَ كَانَ قوة الشباب فتوهمتها أحوالا سمعت أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول مَا سمع هذه الحكاية أحد من الشيوخ إلا رق لهذه العجوز وَقَالَ إنها كانت منصفة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت يُوسُف بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت ذا النون الْمِصْرِي يَقُول: مَا أعز اللَّه عَبْد بعز هُوَ أعز لَهُ من أَن يدله عَلَى ذل نَفْسه، وَمَا أذل اللَّه عبدا بذل هُوَ أذل لَهُ من أَن يحجبه عَن ذل نَفْسه وسمعته يَقُول سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول سمعت إِبْرَاهِيم الخواص يَقُول: ما هالني شَيْء إلا ركبته وسمعته يَقُول سمعت عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول سمعت مُحَمَّد بْن الفضل يَقُول: الراحة هُوَ الخلاص من أماني النفس. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُول سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول: دخلت الآفة عَلَى الخلق من ثلاثة: سقم الطبيعة، ولملازمة العادة، وفساد الصحبة، فسألته مَا سقم الطبيعة؟ فَقَالَ: أكل الحرام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فَقُلْتُ: مَا ملازمة العادة؟ فَقَالَ: النظر والاستماع بالحرام والغيبة. قُلْت: فَمَا فساد الصحبة؟ قَالَ كلما هاجت فِي النفس الشهوة تبعتها، وسمعته يَقُول سمعت النصراباذي يَقُول: سجنك نفسك فَإِذَا خرجت منها وقعت فِي راحة أبدية، وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد الفراء يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الوراق يَقُول: كَانَ أجل أحكامنا فِي مبادئ أمرنا فِي مَسْجِد أَبِي عُثْمَان الحيري الإيثار بِمَا يفتح عَلَيْنَا، وأن لا نبيت عَلَى معلوم، ومن استقبلنا بمكروه لا ننتقم لأنفسنا بَل نعتذر إِلَيْهِ ونتواضع لَهُ، وإذا وقع فِي قلوبنا حقارة لأحد قمنا بخدمته والإحسان إِلَيْهِ حَتَّى يزول. وَقَالَ أَبُو حفص: النفس ظلمة كلها، وسراجها سرها، ونور سراجها التوفيق، فمن لَمْ يصحبه فِي سره توفيق من ربه كَانَ ظلمه كُلهُ. قَالَ الأستاذ الإِمَام القشيري: معنى قَوْله سراجها سرها يريد سر العبد الَّذِي بينه وبين اللَّه تَعَالَى وَهُوَ محل إخلاصه وَبِهِ يعرف العبد أَن الحادثات بالله لا بنفسه ولا من نَفْسه ليكون متبرئا من حوله وقوته عَلَى استدامة أوقاته ثُمَّ بالتوفيق يعتصم من شرور نَفْسه فَإِن من لَمْ يدركه التوفيق لَمْ ينفعه علمه بنفسه ولا بربه ولهذا قَالَ الشيوخ: من لَمْ يكن لَهُ سر فَهُوَ مصر، وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: لا يرى أحد عيب نَفْسه وَهُوَ مستحسن من نَفْسه شَيْئًا وإنما يرى عيوب نَفْسه من يتهمها فِي جَمِيع الأحوال. وَقَالَ أَبُو حفص: مَا أسرع هلاك من لا يعرف هيبة فَإِن المعاصي بريد الكفر، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: مَا استحسنت من نفسي عملا فاحتسبت بِهِ، وَقَالَ السري، إياكم وجيران الأغنياء، وقراءة الأسواق، وعلماء الأمراء. وَقَالَ ذو النون الْمِصْرِي: إِنَّمَا دَخَلَ الفساد عَلَى الخلق من ستة أشياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ضعف النية بعمل الآخرة. وَالثَّانِي صارت أبدانهم رهينة لشهواتهم والثالث غلبهم طول الأمل مَعَ قرب الأجل. والرابع آثروا رضا المخلوقين عَلَى رضا الخالق. والخامس اتبعوا أهواءهم، ونبذوا سنة نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وراء ظهورهم. والسادس جعلوا قليل زلات السلف حجة لأنفسهم، ودفنوا كثير مناقبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بَاب الخلوة والعزلة أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَن أَبِيهِ عَن بَعْجَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ الْجُهَنِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ خَيْرِ مَعَايِشِ النَّاسِ كُلِّهِمْ رَجُلا آخِذًا بِعَنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ سَمِعَ قَرْعَةً أَوْ هَيْعَةً كَانَ عَلَى مَتْنِ فَرَسِهِ يَبْتَغِي الْمَوْتَ أَوِ الْقَتْلَ فِي مَظَانِّهِ أَوْ رَجُلا فِي غَنِيمَةٍ لَهُ فِي رَأْسِ شَعْفَةٍ مِنْ هِذِه الشِّعَافِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلا فِي خَيْرٍ قَالَ الأستاذ: الخلوة صفة أهل الصفوة، والعزلة من أمارات الوصلة، ولابد للمريد فِي ابتداء حاله من العزلة عَن أبناء جنسه، ثُمَّ فِي نهايته من الخلوة لتحققه بأنسه ومن حق العبد إِذَا آثر العزلة أَن يعتقد باعتزاله عَنِ الخلق سلامة النَّاس من شره ولا يقصد سلامته من شر الخلق فَإِن الأَوَّل من القسمين نتيجة استصغار نَفْسه وَالثَّانِي شهود مزينة عَلَى الخلق، ومن استصغر نَفْسه فَهُوَ متواضع، ومن رأى لنفسه مزية عَلَى أحد فَهُوَ متكبر. ورؤي بَعْض الرهبان فقيل لَهُ: إنك راهب؟ فَقَالَ: لا، بَل أنا حارس كلب إِن نفسي كلب يعقر الخلق أخرجتها من بينهم ليسلموا منها. ومر إِنْسَان ببعض الصالحين فجمع ذَلِكَ الشيخ ثيابه منه فَقَالَ: الرجل لَمْ تجمع عني ثيابك؟ ليست ثيابي نجسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فَقَالَ الشيخ: وهمت فِي ظنك، ثيابي هِيَ النجسة جمعتها عَنْك لئلا تنجس ثيابك لا لكي تنجس ثيابي ومن آداب العزلة أَن يحصل من العلوم مَا يصحح بِهِ عقد توحيده لكي لا يستهويه الشَّيْطَان بوساوسه ثُمَّ يحصل من علوم الشرع مَا يؤدي بِهِ فرضه ليكون بناء أمره عَلَى أساس محكم والعزلة فِي الحقيقة اعتزال الخصال المذمومة فالتأثير لتبديل الصفات لا للتنائي عَنِ الأوطان ولهذا قيل من العارف؟ قَالُوا: كائن بائن يعنى كائن مَعَ الخلق , بائن عَنْهُم بالسر. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: البس مَعَ النَّاس مَا يلبسون وتناول مِمَّا يأكلون وانفرد عَنْهُم بالسر، وسمعته يَقُول: جاءني إِنْسَان وَقَالَ: جئتك من مسافة بعيدة فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيث من حيث قطع المسافة ومقاساة الأسفار فارق نفسك بخطوة وَقَدْ حصل مقصودك. ويحكى عَن أَبِي يَزِيد قَالَ: رأيت ربي عَزَّ وَجَلَّ فِي المنام فَقُلْتُ: كَيْفَ أجدك: قَالَ: فارق نفسك وتعال. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول: من اختار الخلوة عَلَى الصحبة ينبغي أَن يَكُون خاليا من جَمِيع الأذكار إلا ذكر ربه , وخاليا من جَمِيع الأرادات إلا رضا ربه , وخاليا من مطالبة النفس من جَمِيع الأسباب، فَإِن لَمْ يكن بِهَذِهِ الصفة فَإِن خلوته توقعه فِي فتنة أَوْ بلية وقيل: الانفراد فِي الخلوة أجمع لدواعي السلوة. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: انظر أنسك بالخلوة أَوْ أنسك مَعَهُ فِي الخلوة , فَإِن كَانَ أنسك بالخلوة ذهب أنسك إِذَا خرجت منها , وإن كَانَ أنسك بِهِ فِي الخلوة استوت لَك الأماكن فِي الصحارى والبراري. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن حامد يَقُول: جاء رجل إِلَى زيارة أَبِي بَكْر الوراق فلما أراد أَن يرجع قَالَ لَهُ: أوصني فَقَالَ: وجدت خير الدنيا والآخرة فِي الخلوة والقلة وشرهما فِي الكثرة والاختلاط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وسمعته يَقُول سمع مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت الجريري وَقَدْ سئل عَنِ العزلة فَقَالَ: هِيَ الدخول بَيْنَ الزحام وتمنع سرك أَن لا يزاحموك وتعزل نفسك عَنِ الآثام ويكون سرك مربوطا بالحق. وقيل: من آثر العزلة حصل العزلة. وَقَالَ سهل: لا تصح الخلوة إلا بأكل الحلال ولا يصح أكل الحلال إلا بأداء حق اللَّه. وَقَالَ ذو النون: لَمْ أر شَيْئًا أبعث عَلَى الإخلاص من الخلوة. وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الرملي: ليكن خدنك الخلوة وطعامك الجوع وحَدِيثك المناجاة فإما أَن تموت وإما أَن تصل إِلَى اللَّه. وَقَالَ ذو النون: لَيْسَ من احتجب عَنِ الخلق بالخلوة كمن أحتجب عَنْهُم بالله. سمعت أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن نصير يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول مكابدة العزلة أيسر من مدارة الخلطة وَقَالَ مكحول: إِن كَانَ فِي مخالطة النَّاس خير فَإِن فِي العزلة السلامة وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: الوحدة جليس الصديقين. سمعت الشيخ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: سمع الشبلي يَقُول: الإفلاس الإفلاس يا ناس، فقيل لَهُ: يا أبا بَكْر مَا علامة الإفلاس؟ . قَالَ: من علامة الإفلاس الاستئناس بالناس. وَقَالَ يَحْيَي بْن أَبِي كثير: من خالط النَّاس داراهم ومن داراهم راءاهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وَقَالَ سَعِيد بْن حرب: دخلت عَلَى مَالِك ابْن مَسْعُود بالكوفة وَهُوَ فِي داره وحده فَقُلْتُ لَهُ: أما تستوحش وحدك؟ فَقَالَ: مَا كنت أرى أَن أحد يستوحش مَعَ اللَّه. سمعت أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا عَمْرو الأنماطي يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: من أراد أَن يسلم لَهُ دينه ويستريح بدنه وقلبه فليعتزل النَّاس فَإِن هَذَا زمان وحشة والعاقل من اختار فِيهِ الوحدة. وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: قَالَ أَبُو يعقوب السوسي: الانفراد لا يقوى عَلَيْهِ إلا الأقوياء ولأمثالنا الاجتماع أوفر وأنفع يعمل بَعْضهم عَلَى رؤية بَعْض وسمعته يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان سَعِيد بْن أَبِي سَعِيد يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس الدامغاني يَقُول: أوصاني الشبلي فَقَالَ: الزم الوحدة، وامح اسمك عَنِ الْقَوْم، واستقبل الجدار حَتَّى تموت. وجاء رجل إِلَى شُعَيْب بْن حرب فَقَالَ لَهُ: مَا جاء بك؟ فَقَالَ: أكون معك، قَالَ يا أخي إِن العبادة لا تكون إلا بالشركة، ومن لَمْ يستأنس بالله لَمْ يستأنس بشيء. حكي أَن بَعْضهم قيل لَهُ: مَا أعجب مَا لقيت فِي سياحتك؟ فَقَالَ لَهُ: لقينى الخضر فطلب منى الصحبة فخشيت أَن يفسد عَلِي توكلي. وقيل لبعضهم ههنا أحد تستأنس بِهِ؟ فَقَالَ: نعم ومد يده إِلَى مصحفه ووضعه فِي حجره وَقَالَ: هَذَا وَفِي معناه أنشدوا: وكتبك حولي لا تفارق مضجعي ... وفيها شفاء للذي أنا كاتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وَقَالَ رجل لذي النون الْمِصْرِي: مَتَى تصح لي العزلة؟ فَقَالَ: إِذَا قويت عَلَى عزلة نفسك. وقيل لابن المبارك مَا دواء القلب؟ فَقَالَ: قلة الملاقاة لِلنَّاسِ. وقيل: إِذَا أراد اللَّه أَن ينقل العبد من ذل المعصية إِلَى عز الطاعة آنسه بالوحدة وأغناه بالقناعة وبصره بعيوب نَفْسه فمن أعطي ذَلِكَ فَقَدْ أعطي خير الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 بَاب التقوى قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدِ الأَعْلَى النَّرْسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوْصِنِي. فَقَالَ: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْمُسْلِمِ، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ " وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الأَسْفَاطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرْمُزَ نَافِعُ بْنُ هُرْمُزَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: قِيلَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ آلُ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: «كُلُّ تَقِيٍّ» فالتقوى جماع الخيرات وحقيقة الاتقاء التحرز بطاعة اللَّه عَن عقوبته يقال: اتقى فُلان بترسه، وأصل التقوى اتقاء الشرك ثُمَّ بعده اتقاء المعاصي والسيئات ثُمَّ بعده اتقاء الشبهات ثُمَّ تدع بعده الفضلات كَذَلِكَ. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: سمعته يَقُول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ولكل قسم من ذَلِكَ بَاب وجاء فِي تفسير قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] أَن معناه أَن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَاصِم يَقُول: سمعت سهل بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: لا معين إلا اللَّه ولا دليل إلا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ولا زاد إلا التقوى ولا عمل إلا الصبر عَلَيْهِ وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت الكتاني يَقُول: قسمت الدنيا عَلَى البلوى وقسمت الآخرة عَلَى التقوى. سمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: من لَمْ يحكم بينه وبين اللَّه التقوى والمراقبة لَمْ يصل إِلَى الكشف والمشاهدة. وَقَالَ النصرأباذي: التقوى أَن يتقى العبد مَا سواه تَعَالَى. وَقَالَ سهل من أراد أَن تصح لَهُ التقوى فليترك الذنوب كلها. وَقَالَ النصرأباذي: من لزم التقوى اشتاق إِلَى مفارقة الدنيا، لأن اللَّه سبحانه يَقُول: {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32] وَقَالَ بَعْضهم. من تحقق من التقوى هون اللَّه عَلَى قلبه الإعراض عَنِ الدنيا. وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الروذباري: التقوى مجانية مَا يبعدك عَنِ اللَّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وَقَالَ ذو النون الْمِصْرِي: التقى من لا يدنس ظاهره بالمعارضات ولا باطنه بالعلالات ويكون واقفا مَعَ اللَّه موقف الاتفاق. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن الفارسي يَقُول: سمعت ابْن عَطَاء يَقُول: للتقوى ظاهر وباطن فظاهره محافظة الحدود وباطنه النية والإخلاص وَقَالَ ذو النون. فلا عيش إلا مَعَ رجال قلوبهم تحن إِلَى التقوى وترتاح للذكر سكون إِلَى روح اليقين وطيبه كَمَا سكن الطَّفْل الرضيع إِلَى الحجر. وقيل: يستدل عَلَى تقوى الرجل بثلاث: حسن التوكل فيما لَمْ ينل وحسن الرضا فيما قَدْ نال وحسن الصبر عَلَى مَا قَدْ فات. وَقَالَ طلق بْن حبيب: التقوى عمل بطاعة اللَّه عَلَى نور من اللَّه مخافة عقاب اللَّه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت محمدا الفراء يحكي عَن أَبِي حفص أَنَّهُ قَالَ: التقوى بالحلال المحض لا غَيْر. وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الزنجاني يَقُول: من كَانَ رأس ماله التقوى كلت الألسن عَن وصف ربحه. وَقَالَ الواسطي: التقوى أَن يتقى من تقواه يعنى من رؤية تقواه، والمتقي مثل ابْن سيرين اشترى أربعين حبا سمنا فأخرج غلامه فأرة من حب فسأله من أي حب أخرجتها فَقَالَ: لا أدري فصبها كلها، ومثل أَبِي يَزِيد اشترى بهمذان حب القرطم ففضل منه شَيْء فلما رجع إِلَى بسطام رأى فِيهِ نملتين فرجع إِلَى همذان فوضع النملتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ويحكى أَن أبا حَنِيفَة كَانَ لا يجلس فِي ظل شجرة غريمه وَيَقُول فِي الْخَبَر كُل قرض جر نفعا فَهُوَ ربا وقيل: إِن أبا يَزِيد غسل ثوبه فِي الصحراء مَعَ صاحب لَهُ فَقَالَ صاحبه: تعلق الثوب فِي جدار الكرم فَقَالَ: لا لا تغرز الوتد فِي جدار النَّاس فَقَالَ: نعلقه فِي الشجر؟ فَقَالَ: لا إنه يكسر الأغصان فَقَالَ: نبسطه عَلَى الإذخر؟ فَقَالَ: لا إنه علف الدواب لا نستره عَنْهَا، فولى ظهره إِلَى الشَّمْس والقميص عَلَى ظهره حَتَّى جف جانب ثُمَّ قلبه حَتَّى جف الجانب الآخر. وقيل: إِن أبا يَزِيد دَخَلَ يوما الجامع فغرز عصاه فِي الأَرْض فسقطت ووقعت عَلَى عصا شيخ بجنبه ركز عصاه فِي الأَرْض فألقتها فانحنى الشيخ وأخذ عصاه فمضى أَبُو يَزِيد إِلَى بَيْت الشيخ واستحله وَقَالَ: كَانَ السبب فِي انحنائك تفريطي فِي غرز عصاي حيث احتجت إِلَى أَن تنحني. ورؤي عتبة الغلام بمكان يتصبب عرقا فِي الشتاء فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنه مكان عصيت اللَّه فِيهِ فسئل عَنْهُ فَقَالَ: كشطت من هَذَا الجدار قطعة طين غسل بِهَا ضيف لي يده وَلَمْ أستحل من صاحبه. وَقَالَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم بت ليلة تَحْتَ الصخرة ببيت المقدس فلما كَانَ بَعْض الليل نزل ملكان فَقَالَ أحدهما لصاحبه: من ههنا؟ فَقَالَ الآخر: إِبْرَاهِيم بْن أدهم فَقَالَ: ذاك الَّذِي حط اللَّه درجة من درجاته؟ فَقَالَ: لَمْ؟ قَالَ: لأنه اشترى بالبصرة التمر فوقعت تمرة عَلَى تمره من تمر البقال فلم يردها عَلَى صاحبها قَالَ إِبْرَاهِيم: فمضيت إِلَى البصرة واشتريت التمر من ذَلِكَ الرجل وأوقعت تمرة عَلَى تمره ورجعت إِلَى بَيْت المقدس وبت فِي الصخرة فلما كَانَ بَعْض الليل إذ أنا بملكين نزلا من السماء فَقَالَ أحدهما لصاحبه: من ههنا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فَقَالَ الأخير: إِبْرَاهِيم بْن أدهم فَقَالَ: ذاك الَّذِي رد اللَّه مكانه ورفعت درجته وقيل: التقوى عَلَى وجوه للعامة تقوى الشرك وللخاصة تقوى المعاصي وللأولياء تقوى التوسل بالأفعال وللأنبياء تقوى نسبة الأفعال إذ تقواهم منه إِلَيْهِ وعن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عَلِي رضى اللَّه عَنْهُ قَالَ: سادة النَّاس فِي الدنيا الأسخياء وسادة النَّاس فِي الآخرة الأتقياء. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَي بْنِ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ فَغَضَّ بَصَرَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلاوَتَهَا فِي قَلْبِهِ " سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الفرغاني يَقُول: كَانَ الجنيد جالسا مَعَ رويم , والجريري , وابن عَطَاء فَقَالَ الجنيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 مَا نجا من نجا إلا بصدق اللجا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] وَقَالَ رويم: مَا نجا من نجا إلا بصدق التقوى قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر: 61] الآية وَقَالَ الجريري مَا نجا من نجا إلا بمراعاة الوفاء قَالَ اللَّه تعالي: الَّذِينَ يوفون بعهد اللَّه ولا ينقضون الميثاق: وَقَالَ ابْن عَطَاء: مَا نجا من نجا إلا بتحقيق الحياء قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] وَقَالَ الأستاذ إمام مَا نجا من نجا إلا بالحكم والقضاء قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الآية وَقَالَ أيضًا: مَا نجا من نجا إلا بِمَا سبق لَهُ من الاجتباء قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 بَاب الورع أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَي الْمُزَكِّيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الزَّاهِدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْخُرَسَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ الْعَيْزَارِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنِ الأَجْلَحِ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ , عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ , عَنْ أَبِي ذَرٍّ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ» قَالَ الأستاذ الإِمَام رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أما الورع فَإِنَّهُ ترك الشبهات كَذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم الورع ترك كُل شهبة وترك مالا يعنيك هُوَ ترك الفضلات وَقَالَ أَبُو بَكْر الصديق رضى اللَّه عَنْهُ: كُنَّا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أَن نقع فِي بَاب من الحرام. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي هُرَيْرَة: كن ورعا تكن أعبد النَّاس سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: سمعت السري يَقُول: كَانَ أهل الورع فِي أوقاتهم أربعة: حذيفة المرعشي ويوسف بْن أسباط وإبراهيم بْن أدهم وسليمان الخواص، فنظروا فِي الورع فلما ضاقت عَلَيْهِم الأمور فزعوا إِلَى التقلل، وسمعته يَقُول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يَقُول: سمعت الشبلي يَقُول: الورع أَن تتورع عَن كُل مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وسمعته يَقُول: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَر الرازي قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن حمزة قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحواري قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن خلف قَالَ: الورع فِي المنطق أشد منه فِي الذهب والفضة، والزهد فِي الرياسة أشد منه فِي الذهب والفضة لأنك تبذلهما فِي طلب الرياسة. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني: الورع أول الزهد كَمَا أَن القناعة طرف من الرضا وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: ثواب الورع خفة الحساب. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: الورع الوقوف عَلَى حد العلم من غَيْر تأويل. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن دَاوُد الدينوري يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن الجلاء يَقُول: أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة لَمْ يشرب من ماء زمزم إلا مَا استقاه بركوته ورشائه وَلَمْ يتناول من طَعَام جلب من مصر. وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت عَلِي بْن مُوسَى التاهرتي يَقُول: وقع من عَبْد اللَّهِ بْن مَرْوَان فلس فِي بئر قذرة فاكترى عَلَيْهِ بثلاثة عشر دِينَارًا حَتَّى أَخْرَجَهُ فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ عَلَيْهِ اسم اللَّه تَعَالَى وسمعته يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الفارسي يَقُول: سمعت ابْن غاوية يَقُول: سمعت يَحْيَي بْن معاذ يَقُول: الورع عَلَى وجهين ورع فِي الظاهر وَهُوَ أَن لا يتحرك إلا لِلَّهِ تَعَالَى، وورع فِي الباطن وَهُوَ أَن لا يدخل قلبك سواه تَعَالَى. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: من لَمْ ينظر فِي الدقيق من الورع لَمْ يصل إِلَى الجليل من العطاء وقيل: من دق فِي الدين نظره جل فِي الْقِيَامَة خطره وَقَالَ ابْن الجلاء: من لَمْ يصحبه التقى فِي فقره أكل الحرام النص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وَقَالَ يُونُس بْن عُبَيْد: الورع الخروج من كُل شبهة ومحاسبة النفس فِي كُل طرفه وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِي: مَا رأيت أسهل من الورع مَا حاك فِي نفسك تركته. وَقَالَ معروف الكرخي: احفظ لسانك من المدح كَمَا تحفظه من الذم. وَقَالَ بشر بْن الْحَارِث: أشد الأعمال ثلاثة: الجود فِي القلة والورع فِي الخلوة وكلمة الحق عِنْدَ من يخاف منه ويرجى. وقيل: جاءت أخت بشر الحافي إِلَى أَحْمَد بْن ابْن حنبل وَقَالَتْ: إنا نغزل عَلَى سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية ويقع الشعاع عَلَيْنَا أفيجوز لنا الغزل فِي شعاعها فَقَالَ أَحْمَد: من أَنْتَ عافاك اللَّه تَعَالَى فَقَالَتْ: أخت بشر الحافي فبكى أَحْمَد وَقَالَ: من بيتكم يخرج الورع الصادق لا تغزلي فِي شعاعها. وَقَالَ عَلَى العطار. مررت بالبصرة فِي بَعْض الشوارع فَإِذَا مشايخ قعود وصبيان يلعبون فَقُلْتُ: أما تستحون من هَؤُلاءِ المشايخ؟ فَقَالَ صبي من بينهم: هَؤُلاءِ المشايخ قل ورعهم فَقُلْتُ هيبتهم. وقيل: إِن مَالِك بْن دِينَار مكث بالبصرة أربعين سنة فلم يصح لَهُ أَن يأكل شَيْئًا من تمر البصرة ولا من رطبها حَتَّى مَات وَلَمْ يذقه وَكَانَ إِذَا انقضى وقت الرطب قَالَ: يا أهل البصرة هَذَا بطني مَا نقص منه شَيْء ولا زاد فيكم. وقيل لإبراهيم بْن أدهم: ألا تشرب من ماء زمزم؟ فَقَالَ لو كَانَ لي دلو لشربت. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: كَانَ الْحَارِث المحاسبي إِذَا مد يده إِلَى طَعَام فِيهِ شبهة ضرب عَلَى رأس أصبعه عرق فيعلم أنه غَيْر حلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وقيل: إِن بشرا الحافي دعى إِلَى دعوة فوضع بَيْنَ يديه طَعَام فجهد أَن يمد يده إِلَيْهِ فلم تمتد ففعل ذَلِكَ ثَلاث مرات فَقَالَ رجل يعرف ذَلِكَ منه: إِن يده لا تمتد إِلَى طَعَام فِيهِ شبهة مَا كَانَ أغني صاحب الدعوة أَن يدعو هَذَا الشيخ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد بْن يَحْيَي الصوفي قَالَ: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي بْن يَحْيَي التميمي قَالَ: سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سالم بالبصرة يَقُول: سئل سهل بْن عَبْد اللَّهِ عَنِ الحلال الصافي فَقَالَ هُوَ الَّذِي لا يعصى اللَّه تَعَالَى فِيهِ. وَقَالَ سهل: الحلال الصافي الَّذِي لا ينسى اللَّه فِيهِ. ودخل الْحَسَن البصرى مَكَّة فرأى غلاما من أولاد عَلِي بْن أَبِي طَالِب رضى اللَّه عَنْهُ قَدْ أَسْنَدَ ظهره إِلَى الْكَعْبَة يعظ النَّاس فوقف عَلَيْهِ الْحَسَن وَقَالَ مَا ملاك الدين؟ قَالَ: الورع، قَالَ: فَمَا آفة الدين؟ فَقَالَ: الطمع، فتعجب الْحَسَن منه وَقَالَ الْحَسَن مثقال ذرة من الورع السالم خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة. وأوحى اللَّه إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصلاة والسلام: لَمْ يتقرب إِلَى المتقربون بمثل الورع والزهد. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: جلساء اللَّه تَعَالَى غدا أهل الورع والزهد. وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ من لَمْ يصحبه الورع أكل رأس الفيل وَلَمْ يشجع. وقيل: حمل إِلَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز مسك من الغنائم فقبض عَلَى مشامه وَقَالَ إِنَّمَا ينتفع من هَذَا بريحه وأنا أكره أَن أجد ريحه دُونَ الْمُسْلِمِينَ. وسئل أَبُو عُثْمَان الحيري عَنِ الورع فَقَالَ: كَانَ أَبُو صَالِح حمدون عِنْدَ صديق لَهُ وَهُوَ فِي النزع فمات الرجل فنفث أَبُو صَالِح فِي السراج فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِلَى الآن كَانَ الدهن لَهُ فِي المسرجة ومن الآن صار للورثة اطلبوا دهنا غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وَقَالَ كهمس: أذنبت ذنبا أبكى عَلَيْهِ منذ أربعين سنة وَذَلِكَ أَنَّهُ زارني أخ لي فاشتريت بدانق سمكة مشوية فلما فرغ أخذت قطعة طين من جدار جار لي حَتَّى غسل يده وَلَمْ أستحله. قيل: وَكَانَ رجل يكتب رقعة وَهُوَ فِي بَيْت بكراء فأراد أَن يترب الكتاب من جدار الْبَيْت فخطر بباله أَن الْبَيْت بالكراء ثُمَّ إنه خطر بباله أَنَّهُ لا خطر لِهَذَا فترب الكتاب فسمع هاتفا يَقُول: سيعلم المستخف بالتراب مَا يلقاه غدا من طول الحساب ورهن أَحْمَد بْن حنبل رحمه اللَّه تَعَالَى سطلا لَهُ عِنْدَ بقال بمكة حرمها اللَّه تَعَالَى فلما أراد فكاكه أخرج البقال إِلَيْهِ سطلين وَقَالَ: خذ أيهما لَك فَقَالَ أَحْمَد: أشكل عَلِي سطلي فَهُوَ لَك والدراهم لَك، فَقَالَ البقال: سطلك هَذَا وأنا أردت أَن أجربك فَقَالَ: لا آخذه ومضى وترك السطل عنده وَقَالَ سيب ابْن المبارك: دابة قيمتها كثيرة وصلى صلاة الظهر فرتعت الدابة فِي زرع قرية سلطانية فترك ابْن المبارك الدابة وَلَمْ يركبها. وقيل: رجع ابْن المبارك من مرو إِلَى الشام فِي قلم استعاره فلم يرده عَلَى صاحبه. واستأجر النخعي دابة فسقط سوطه من يده فنزل وربط الدابة ورجع فأخذ السوط فقيل لَهُ: لو حولت الدابة عَلَى الموضع الَّذِي فِيهِ سقط السوط فأخذته فَقَالَ: إِنَّمَا استأجرتها لأمضي هكذا لا هكذا. وَقَالَ أَبُو بَكْر الدقاق: تهت فِي تيه بنى إسرائيل خمسة عشر يوما، فلما وافيت الطريق استقبلني جندي فسقاني شربة من ماء فعادت قسوتها عَلَى قلبي ثلاثين سنة، وقيل: خاطت رابعة شقا فِي قميصها فِي ضوء شعلة سلطان ففقدت قلبها زمانا حَتَّى تذكرت فشقت قميصها فوجدت قلبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ورؤي سُفْيَان الثَّوْرِي فِي المنام وَلَهُ جناحان يطير بهما فِي الْجَنَّة من شجرة إِلَى شجرة، فقيل لَهُ: بم نلت هَذَا؟ فَقَالَ: بالورع. ووقف حسان بْن أَبِي سنان عَلَى أَصْحَاب الْحَسَن فَقَالَ: أي شَيْء أشد عليكم؟ قَالُوا: الورع، فَقَالَ: ولا شَيْء أخف عَلِي منه، فَقَالُوا: فكيف؟ فَقَالَ: لَمْ أرو من نهركم منذ أربعين سنة. وَكَانَ حسان بْن أَبِي سنان لا ينام مضطجعا ولا يأكل سمينا ولا يشرب ماء باردا ستين سنة فرؤي فِي المنام بَعْد موته، فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه بك؟ فَقَالَ: خيرا إلا أني محبوس عَنِ الْجَنَّة بإبرة استعرتها فلم أردها. وَكَانَ لعبد الْوَاحِد بْن زَيْد غلام خدمه سنين وتعبد أربعين سنة وَكَانَ ابتداء أمره كيالا فلما مَات رؤي فِي المنام، فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك؟ فَقَالَ: خيرا غَيْر أني محبوس عَنِ الْجَنَّة وَقَدْ أخرج عَلَى من غبار القفيز أربعين قفيزا. ومر عيسى بْن مريم عليهما السَّلام بمقبرة فنادى رجلا منها فأحياه اللَّه تَعَالَى فَقَالَ: من أَنْتَ؟ فَقَالَ: كنت جمالا أنقل لِلنَّاسِ فنقلت يوما لإِنْسَان حطبا فكسرت منه خلالا تخللت بِهِ فانا مطالب بِهِ منذ مت. وتكلم أَبُو سَعِيد الخراز فِي الورع فمر بِهِ عَبَّاس بْن المهتدى، فَقَالَ: يا أبا سَعِيد أما تستحي تجلس تَحْتَ سقف أَبِي الدوانيق وتشرب من بركة زبيدة وتتعامل بالدراهم المزيفة، وتتكلم فِي الورع؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بَاب الزهد أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْن يَعْقُوبَ الْمُقْرِي بِبَغْدَادَ. قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ يَحْيَي بْنِ سَعِيدٍ عَن أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ أَبِي خَلادٍ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذْ رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُوتِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا وَمَنْطِقًا فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلَقَّنُ الْحِكْمَةَ " قَالَ الأستاذ الإِمَام أَبُو القاسم رحمه اللَّه: اختلف النَّاس فِي الزهد فمنهم من قَالَ الزهد فِي الحرام، لأن الحلال مباح من قبل اللَّه تَعَالَى فَإِذَا أنعم اللَّه سبحانه عَلَى عبده بمال من حلال وتعبده بالشكر عَلَيْهِ فتركه لَهُ باختياره لا يقدم عَلَى إمساكه بحق إذنه، وَمِنْهُم من قَالَ: الزهد فِي الحرام واجب وَفِي الحلال فضيلة، فَإِن إقلال المال والعبد صابر فِي حاله راض بِمَا قسم اللَّه تَعَالَى لَهُ قانع بِمَا يعطيه أتم من توسعه وتبسطه فِي الدنيا، وأن اللَّه تَعَالَى زهد الخلق فِي الدنيا بقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] وغير ذَلِكَ من الآيات الواردة فِي ذم الدنيا والتزهيد فِيهَا، وَمِنْهُم من قَالَ: إِذَا انفق ماله فِي الطاعة وعلم من حاله الصبر وترك التعرض لما نهاه الشرع عَنْهُ فِي حال العسر فحينئذ يَكُون زهده فِي المال الحلال أتم، وَمِنْهُم من قَالَ: ينبغي للعبد أَن لا يختار ترك الحلال بتكلفه ولا طلب الفضول مِمَّا لا يحتاج إِلَيْهِ ويراعى القسمة فَإِن رزقه اللَّه سبحانه وتعالى مالا من حلال شكره وإن وقفه اللَّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 تَعَالَى عَلَى حد الكفاية لَمْ يتكلم فِي طلب مَا هُوَ فضول المال، فالصبر أَحْسَن بصاحب الفقر والشكر أليق بصاحب المال الحلال وتكلموا فِي معنى الزهد فَكُل نطق عَن وقته وأشار إِلَى حده. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيل الأزدي قَالَ: حَدَّثَنَا عمران بْن مُوسَى الإسفنجي قَالَ: حَدَّثَنَا الدورقي قَالَ: حَدَّثَنَا وكيع قَالَ: قَالَ سُفْيَان الثَّوْرِي: الزهد فِي الدنيا قصر الأمل لَيْسَ بأكل الغليظ ولا بلبس العباء. وسمعته يَقُول: سمعت سَعِيد بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت عَبَّاس بْن عصام يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: سمعت السري يَقُول: إِن اللَّه سلب الدنيا عَن أوليائه وحماها عَن أصفيائه وأخرجها من قلوب أهل وداده لأنه لَمْ يرضها لَهُمْ. وقيل: الزهد من قَوْله سبحانه وتعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] لا يفرح بموجود من الدنيا ولا يتأسف عَلَى مفقود منها. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: الزهد أَن تترك الدنيا ثُمَّ لا تبالي بمن أخذها. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: الزهد أَن تترك الدنيا كَمَا هِيَ لا تقول أبني رباطا أَوْ أعمر مسجدا. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ. الزهد يورث السخاء بالملك والحب يورث السخاء بالروح، وَقَالَ ابْن الجلاء: الزهد والنظر إِلَى الدنيا بعين الزوال لتصغر فِي عينك فيسهل عليك الإعراض عَنْهَا. وَقَالَ ابْن خفيف: علامة الزهد وجود الراحة فِي الخروج عَنِ الْمَلِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وَقَالَ أَيْضًا: الزهد سلو القلب عَنِ الأسباب ونفض الأيدي من الأملاك وقيل الزهد عزوف النفس عَنِ الدنيا بلا تكلف. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت النصرأباذي يَقُول: الزاهد غريب فِي الدنيا والعارف غريب فِي الآخرة. وقيل: من صدق فِي زهده أتته الدنيا راغمة. ولهذا قيل لو سقطت قلنسوة من السماء لما وقعت إلا عَلَى رأس من لا يريدها. وَقَالَ الجنيد: الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني: الصوف علم من أعلام الزهد فلا ينبغي أَن يلبس صوفا بثلاثة دراهم وَفِي قلبه رغبة خمسة دراهم. وَقَد اختلف السلف فِي الزهد فَقَالَ سُفْيَان الثوري وَأَحْمَد بْن حنبل وعيسى بْن يُونُس وغيرهم: الزهد فِي الدنيا إِنَّمَا هُوَ قصر الأمل، وَهَذَا الَّذِي قالوه يحمل عَلَى أَنَّهُ من أمارات الزهد والأسباب الباعثة عَلَيْهِ والمعاني الموجبة لَهُ، وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ: الزهد هُوَ الثقة بالله تَعَالَى مَعَ حب الفقر وَبِهِ قَالَ شقيق البلخي ويوسف بْن أسباط، وَهَذَا أَيْضًا من أمارات الزهد فَإِنَّهُ لا يقوى العبد عَلَى الزهد إلا بالثقة بالله تَعَالَى. وَقَالَ عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد: الزهد ترك الدينار والدرهم. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني: الزهد ترك مَا يشغل عَنِ اللَّه تَعَالَى. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن فاتك يَقُول: سمعت الجنيد وَقَدْ سَأَلَهُ رويم عَنِ الزهد فَقَالَ: استغفار الدنيا ومحو آثارها من القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وَقَالَ سري لا يطيب عيش الزاهد إِذَا اشتغل عَن نَفْسه ولا يطيب عيش العارف إِذَا اشتغل بنفسه. وسئل الجنيد عَنِ الزهد فَقَالَ: خلو اليد من الْمَلِك والقلب من التتبع. وسئل الشبلي عَنِ الزهد فَقَالَ: أَن تزهد فيما سِوَى اللَّه تَعَالَى وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حَتَّى يَكُون فِيهِ ثَلاث خصال عمل بلا عقل وقول بلا طمع وعز بلا رياسة. وَقَالَ أَبُو حفص: الزهد لا يَكُون إلا فِي الحلال ولا حلال فِي الدنيا فلا زهد. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: إِن اللَّه تَعَالَى يعطى الزاهد فَوْقَ مَا يريد ويعطي الراغب دُونَ مَا يريد ويعطى المستقيم موافقة مَا يريد وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ الزاهد يسعطك الخل والخردل والعارف يشمك السمك والعنبر. وَقَالَ الْحَسَن البصري: الزهد فِي الدنيا أَن تبعض أهلها وتبغض مَا فِيهَا. وقيل لبعضهم: مَا الزهد فِي الدنيا؟ قَالَ: ترك مَا فِيهَا عَلَى من فِيهَا. وَقَالَ رجل لذي النون الْمِصْرِي مَتَى أزهد فِي الدنيا؟ فَقَالَ: إِذَا زهدت فِي نفسك. وَقَالَ مُحَمَّد بْن الفضل: إيثار الزهاد عِنْدَ الاستغناء وإيثار الفتيان عِنْدَ الحاجة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وَقَالَ الكتاني: الشيء الَّذِي لَمْ يخالف فِيهِ كوفي ولا مدني ولا عراقي ولا شامي الزهد فِي الدنيا وسخاوة النفس والنصيحة للخلق، يعنى أَن هذه الأشياء لا يَقُول أحد إنها غَيْر محمودة. وَقَالَ رجل ليحيى بْن ماذ. مَتَى أدخل حانوت التوكل وألبس رداء الزهد وأقعد مَعَ الزاهدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فَقَالَ: إِذَا صرت من رياضتك لنفسك فِي السر عَلَى حد لو قطع اللَّه عَنْك الرزق ثلاثة أَيَّام لَمْ تضعف فِي نفسك، فأما مَا لَمْ تبلغ هذه الدرجة فجلوسك عَلَى بساط الزاهدين جهل ثُمَّ لا آمن عليك أَن تفتضح. وَقَالَ بشر الحافي: الزهد ملك لا يسكن إلا فِي قلب مخلى. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن الأشعث البيكندي يَقُول: من تكلم فِي الزهد ووعظ النَّاس ثُمَّ رغب فِي مالهم رفع اللَّه تَعَالَى حب الآخرة من قلبه وقيل: إِذَا زهد العبد فِي الدنيا وكل اللَّه تَعَالَى بِهِ ملكا يغرس الحكمة فِي قلبه وقيل: لبعضهم لَمْ زهدت فِي الدنيا فَقَالَ: لزهدها فِي. وَقَالَ أَحْمَد بْن حنبل: الزهد عَلَى ثلاثة أوجه ترك الحرام وَهُوَ زهد العوام وَالثَّانِي ترك الفضول من الحلال وَهُوَ زهد الخواص والثالث ترك مَا يشغل العبد عَنِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ زهد العارفين. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: قيل لبعضهم: لَمْ زهدت فِي الدنيا؟ قَالَ لما زهدت فِي أكثرها أنفت من الرغبة فِي أقلها وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ الدنيا كالعروس ومن يطلبها ماشطتها والزاهد فِيهَا يسخم وجهها وينتف شعرها ويخرق ثوبها والعارف مشتغل بالله تَعَالَى لا يلتف إِلَيْهَا. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت أبا الطيب السامري يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: سمعت السري يَقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 مَا رست كُل شَيْء من أمر الزهد فنلت منه مَا أريد إلا الزهد فِي النَّاس فإني لَمْ أبلغه وَلَمْ أطقه وقيل: مَا خرج الزاهدون إلا إِلَى أنفسهم، لأنهم تركوا النعيم الفاني للنعيم الباقي. وَقَالَ النصرأباذي الزهد حقن دماء الزاهدين وسفك دماء العارفين وَقَالَ حاتم الأصم: الزاهد يذيب كيسه قبل نَفْسه والمتزهد يذيب نَفْسه قبل كيسه. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول حَدَّثَنَا عَلِي بْن الْحُسَيْن الموصلي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْن قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر قَالَ: سمعت الفصل بْن عياض يَقُول جعل اللَّه الشركاء فِي بَيْت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كُلهُ فِي بَيْت وجعل مفتاحه الزهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بَاب الصمت أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الأَصْبَهَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَن أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى الأَسَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الأَصْبَهَانِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَي بْن أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ عَنِ أَبِي أُمَامَةَ، عَنٍ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ قَالَ الأستاذ رحمه اللَّه: الصمت سلامة وَهُوَ الأصل وعليه ندامة إذ ورد عَنْهُ الزجر فالواجب أَن يعتبر فِيهِ الشرع والأمر والنهى والسكوت فِي وقته صفة الرجال كَمَا أَن النطق فِي موضعه من أشرف الخصال سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: من سكت عَنِ الحق فَهُوَ شَيْطَان أخرس والصمت من آداب الحضرة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وَقَالَ تَعَالَى مخبرا عَنِ الجن بحضرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف: 29] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} [طه: 108] وكم بَيْنَ عَبْد سكت تصاونا عَنِ الكذب والغيبة وبين عَبْد سكت لاستيلاء سلطان الهيبة عَلَيْهِ، وَفِي معناه أنشدوا: أفكر مَا أقول إِذَا افترقنا ... وأحكم دائبا حجج المقال فانساها إِذَا نحن التقينا ... فأنطق حِينَ أنطق بالمحال وأنشدوا: فيا ليل كم من حاجة لي مهمة ... جئتكم لَمْ أدر يا ليل مَا هيا وأنشدوا: وكم حَدِيث لَك حَتَّى إِذَا ... مكنت من القيام أنسيته وأنشدوا: رأيت الْكَلام يزين الفتى ... والصمت خير لمن قَدْ صمت فكم من حروف تجر الحتوف ... ومن ناطق ود أَن لو سكت والسكوت عَلَى قسمين: سكون بالظاهر وسكوت بالقلب والضمائر فالمتوكل يسكت قلبه عَن تقاضي الأزراق والعارف يسكت قلبه مقابلة للحكم بنعت الوفاق فهذا بجميل صنعه واثق وَهَذَا بجميع حكمه قانع وَفِي معناه قَالُوا: تجرى عليك صروفه وهموم سرك مطرقه وربما يَكُون سبب السكوت حيرة البديهة فَإِنَّهُ إِذَا ورد كشف عَن وصف البغتة خرست العبارات عِنْدَ ذَلِكَ فلا بيان ولا نطق وطمست الشواهد هناك فلا علم ولا حس قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فأما إيثار أرباب المجاهدة السكوت فلما علموا فِي الْكَلام من الآفات , ثُمَّ مَا فِيهِ من حفظ النفس وإظهار صفات المدح والميل عَلَى أَن يتميز بَيْنَ أشكاله بحسن النطق وغير هَذَا من آفات الخلق وَذَلِكَ نعت أرباب الرياضات وَهُوَ أحد أركانهم فِي حكم المنازلة وتهذيب الخلق وقيل: إِن دَاوُد الطائي لما أراد أَن يقعد فِي بيته اعتقد أَن يحضر مجالس أَبِي حَنِيفَة إذ كَانَ تلميذا لَهُ ويقعد بَيْنَ أضرابه من الْعُلَمَاء ولا يتكلم فِي مسألة فلما قوى نَفْسه عَلَى ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة قعد فِي بيته عِنْدَ ذَلِكَ وآثر العزلة وَكَانَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز إِذَا كتب كتابا فاستحسن لفظه مزق الكتاب وغيره. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد الرازي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن إِسْحَاق السراج قَالَ: سمعت أَحْمَد بْن الفتح يَقُول: سمعت بشر بْن الْحَارِث يَقُول: إِذَا أعجبك الْكَلام فاصمت وإذا أعجبك الصمت فتكلم وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ لا يصح لأحد الصمت حَتَّى يلزم نَفْسه الخلوة ولا تصح لَهُ التوبة حَتَّى يلزم نَفْسه الصمت وَقَالَ أَبُو بَكْر الفارسي من لَمْ يكن الصمت وطنه فَهُوَ فِي الفضول وإن كَانَ صامتا والصمت لَيْسَ بمخصوص عَلَى اللسان لكنه عَلَى القلب والجوارح كلها وَقَالَ بَعْضهم من لَمْ يستغنم السكوت فَإِذَا نطق نطق بلغو. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت ممشاذ الدينوري يَقُول الحكماء ورثوا الحكمة بالصمت والتفكر. وسئل أَبُو بَكْر الفارسي عَن صمت السر فَقَالَ: ترك الاشتغال بالماضي والمستقبل وَقَالَ أَبُو بَكْر الفارسي إِذَا كَانَ العبد ناطقا فيما يعنيه وَمَا لابد منه فَهُوَ فِي حد الصمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ويروى عَن معاذ بْن جبل أَنَّهُ قَالَ: كلم النَّاس قليلا وكلم ربك تَعَالَى كثيرا لعل قلبك يرى اللَّه تَعَالَى. وقيل لذي النون الْمِصْرِي من أصون النَّاس لنفسه؟ قَالَ أملكهم للسانه وَقَالَ ابْن مَسْعُود مَا من شَيْء بطول السجن أحق من اللسان وَقَالَ عَلِي بْن بكار جعل اللَّه تَعَالَى لكل شَيْء بابين وجعل للسان أربعة أبواب فالشفتان مصراعان والأسنان مصراعان وقيل: إِن أبا بَكْر الصديق رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يمسك فِي فِيهِ حجرا كَذَا كَذَا سنة ليقل كلامه وقيل: إِن أبا حمزة البغدادي كَانَ حسن الْكَلام فهتف بِهِ هاتف تكلمت فأحسنت بقى أَن تسكت فتحسن فَمَا تكلم بَعْد ذَلِكَ حَتَّى مَات وَمَاتَ قريبا من هذه الحالة عَلَى رأس أسبوع أَوْ أقل وأكثر وربما يَكُون السكوت يقع عَلَى المتكلم تأديبا لَهُ لأنه أساء أدبه فِي شَيْء. كَانَ الشبلي إِذَا قعد فِي حلقته ولا يسألونه يَقُول ووقع القول عَلَيْهِم بِمَا ظلموا فَهُمْ لا ينطقون وربما يقع السكوت عَلَى المتكلم، لأن فِي الْقَوْم من هُوَ أولى منه بالكلام سمعت ابْن السماك يَقُول: كَانَ بَيْنَ شاه الكرماني ويحي بْن معاذ صداقة فجمعهما بلد فكان شاه لا يحصر مجلسه فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الصواب هَذَا فَمَا زالوا بِهِ حَتَّى حضر يوما مجلسه وقعد ناحية لا يشعر بِهِ يَحْيَي بْن معاذ فلما أخذ يَحْيَي فِي الْكَلام سكت ثُمَّ قَالَ: ههنا من هُوَ أولى بالكلام منى وارتج عَلَيْهِ فَقَالَ شاه قُلْت لكم: الصواب أَن لا أحضر مجلسه وربما يقع السكوت عَلَى المتكلم لمعنى فِي الحاضرين وَهُوَ أَن يَكُون هناك من لَيْسَ بأهل لسماع ذَلِكَ الْكَلام فيصون اللَّه تَعَالَى لسان المتكلم غيرة وصيانة لِذَلِكَ الْكَلام عَن غَيْر أهله وربما كَانَ سببا السكوت الَّذِي يقع عَلَى المتكلم أَن بَعْض الحاضرين كَانَ معلوم اللَّه تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 من حاله أَنَّهُ يسمع ذَلِكَ الْكَلام فيكون فتنة لَهُ إِمَّا لتوهمه أَنَّهُ وقته ولا يَكُون أَوْ لأنه يحمل نَفْسه مَا لا يطيق فيرحمه اللَّه تَعَالَى بأن يحفظ سمعه عَن ذَلِكَ الْكَلام إِمَّا صيانة لَهُ أَوْ عصمة عَن غلطه، وَقَالَ مشايخ هذه الطريقة: رُبَّمَا يَكُون السبب فِيهِ حضور من لَيْسَ بأهل لسماعه من الجن إذ لا تخلو مجالس الْقَوْم من حضور جَمَاعَة من الجن. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: اعتللت مرة بمرو فاشتقت أَن أرجع إِلَى نيسابور فرأيت فِي المنام كأن قائلا يَقُول لي لا يمكنك أَن تخرج من هَذَا البلد فَإِن جَمَاعَة من الجن قَد استحلوا كلامك ويحضرون مجلسك فلأجلهم تجلس ههنا. وَقَالَ بَعْض الحكماء: إِنَّمَا خلق للإِنْسَان لسان واحد وعينان وأذنان ليسمع ويبصر أَكْثَر مِمَّا يَقُول. ودعى إِبْرَاهِيم بْن أدهم إِلَى دعوة فلما جلس أخذوا فِي الغيبة فَقَالَ: عندنا يؤكل اللحم بَعْد الخبز وأنتم ابتدأتم بأكل اللحم أشار إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] وَقَالَ بَعْضهم: الصمت لسان الحلم، وَقَالَ بَعْضهم: تعلم الصمت كَمَا تتعلم الْكَلام فَإِن كَانَ الْكَلام يهديك فَإِن الصمت يقيك. وقيل: عفة اللسان صمته، وقيل: مثل اللسان مثل السبع إِن لَمْ توثقه عدا عليك. وسئل أَبُو حفص أي الحالين للولي أفضل الصمت أَوِ النطق؟ فَقَالَ: لو علم الناطق مَا آفة النطق لصمت إِن استطاع عُمَر نوح ولو علم الصامت مَا آفة الصمت لسأل اللَّه تَعَالَى ضعفى عُمَر نوح حَتَّى ينطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وقيل: صمت العوام بألسنتهم وصمت العارفين بقلوبهم وصمت المحبين من خواطر أسرارهم، وقيل لبعضهم: تكلم فَقَالَ: لَيْسَ لي لسان فأتكلم فقيل لَهُ: اسمع فَقَالَ: لَيْسَ فِي مكان فأسمع. وَقَالَ بَعْضهم: مكثت ثلاثين سنة لا يسمع لساني إلا من قلبي ثُمَّ مكثت ثلاثين سنة لا يسمع قلبي إلا من لساني. وَقَالَ بَعْضهم: لو سكت لسانك لَمْ تنج من كَلام قلبك ولو صرت رميما لَمْ تتخلص من حَدِيث نفسك ولو جهدت كُل الجهد لَمْ تكلمك روحك لأنها كاتمة للسر. وقيل: لسان الجاهل مفتاح حتفه وقيل: المحب إِذَا سكت هلك والعراف إِذَا سكت ملك. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الرازي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن نصر الصائغ يَقُول: سمعت مردويه الصائغ يَقُول: سمعت الفضل بْن عياض يَقُول: من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 بَاب الخوف قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبْدُوسٍ الْحِبْرِيُّ الْعَدْلُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ أَحْمَدُ بْنِ دَلَوَيْهِ الدَّقَّاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَلِجَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَلا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَّانُ جَهَنَّمَ فِي مِنْخَرَيْ عَبْدٍ أَبَدًا حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الشَّرْقِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا قُلْت: الخوف معنى متعلقة فِي المستقبل لأنه إِنَّمَا يخاف أَن يحل بِهِ مكروه أَوْ يفوته محبوب ولا يَكُون هَذَا إلا لشيء يحصل فِي المستقبل. فأما مَا يَكُون فِي الحال موجودا فالخوف لا يتعلق بِهِ، والخوف من اللَّه تَعَالَى هُوَ أَن يخاف أَن يعاقبه اللَّه تَعَالَى إِمَّا فِي الدنيا وإما فِي الآخرة وَقَدْ فرض اللَّه سبحانه عَلَى الْعِبَاد أَن يخافوه فَقَالَ تَعَالَى {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] ومدح الْمُؤْمِنيِنَ بالخوف فَقَالَ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] . سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: الخوف عَلَى مراتب: الخوف والخشية والهيبة فالخوف من شرط الإيمان وقضيته قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] والخشية من شرط العلم قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] والهيبة من شرط المعرفة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِي الحيري يَقُول: سمعت محفوظا يَقُول: سمعت أبا حفص يَقُول: الخوف سوط اللَّه يقوم بِهِ الشاردين عَن بابه. وَقَالَ أَبُو القاسم الحكيم: الخوف عَلَى ضربين رهبة وخشية فصاحب الرهبة يلتجئ إِلَى الهرب إِذَا خاف وصاحب الخشية يلتجئ إِلَى الرب. قَالَ رحمه اللَّه. ورهب وهرب يصح أَن يقال هما واحد مثل جذب وجبذ فَإِذَا هرب أنجذب فِي مقتضى هواه كالرهبان الَّذِينَ اتبعوا أهواءهم فَإِذَا كبحهم لجام العلم وقاموا بحق الشرع فَهُوَ الخشية. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الرازي يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان يَقُول: سمعت أبا حفص يَقُول: الخوف سراج القلب بِهِ يبصر مَا فِيهِ من الخير والشر. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: الخوف أَن لا تعلل نفسك بعسى وسوف. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يَقُول: سمعت أبا عُمَر الدمشقي يَقُول: الخائف من يخاف من نَفْسه أَكْثَر مِمَّا يخاف من الشَّيْطَان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وَقَالَ ابْن الجلاء: الخائف من تأمنه المخوفات، وقيل: لَيْسَ الخائف الَّذِي يبكي ويمسح عينيه إِنَّمَا الخائف من يترك مَا يخاف أَن يعذب عَلَيْهِ، وقيل للفضيل: مالنا لا نرى خائفا؟ فَقَالَ: لو كنتم خائفين لرأيتم الخائفين إِن الخائف لا يراه إلا الخائفون وإن الثكلى هِيَ الَّتِي فِي تحب أَن ترى الثكلي، وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: مسكين ابْن آدم لو خاف من النار كَمَا يخاف من الفقر لدخل الْجَنَّة، وَقَالَ شاه الكرماني: علامة الخوف الحزن الدائم، وَقَالَ أَبُو القاسم الحكيم: من خاف من شَيْء هرب منه ومن خاف من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هرب إِلَيْهِ. وسئل ذو النون الْمِصْرِي رحمه اللَّه تَعَالَى: مَتَى يتيسر عَلَى العبد سبيل الخوف؟ فَقَالَ: إِذَا أنزل نَفْسه منزلة السقيم يحتمي من كُل شَيْء مخافة طول السقام. وَقَالَ معاذ بْن جبل: إِن المؤمن لا يطمئن قلبه ولا تسكن روعته حَتَّى يخلف جسر جهنم وراءه. وَقَالَ بشر الحافي: الخوف ملك لا يسكن إلا فِي قلب متق. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الحيري: عيب الخائف فِي خوفه السكون إِلَى خوفه لأنه أمر خفي. وَقَالَ الواسطي: الخوف حجاب بَيْنَ اللَّه تَعَالَى وبين العبد وَهَذَا اللفظ فِيهِ إشكال ومعناه أَن الخائف متطلع لوقت ثان وأبناء الوقت لا تطلع لَهُمْ فِي المستقبل وحسنات الأبرار سيئات المقربين. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِيّ النهاوندي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن فاتك يَقُول: سمعت النوري يَقُول: الخائف يهرب من ربه إِلَى ربه. وَقَالَ بَعْضهم: علامة الخوف التحير عَلَى بَاب الغيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت عَلِي بْن إِبْرَاهِيم العبكري يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول وسئل عَنِ الخوف فَقَالَ: توقع العقوبة مَعَ مجاري الأنفاس. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد الصفار يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْمُسَيِّب، يَقُول: سمعت هاشم بْن خَالِد يَقُول: سمعت أبا سُلَيْمَان الداراني يَقُول: مَا فارق الخوف قلبا إلا خرب، وسمعته، يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان يَقُول صدق الخوف هُوَ الورع عَنِ الآثام ظاهرا وباطنا وَقَالَ ذو النون النَّاس عَلَى الطريق مَا لَمْ يزل عَنْهُم الخوف فَإِذَا زال عَنْهُم الخوف ضلوا عَنِ الطريق وَقَالَ حاتم الأصم لكل شَيْء زينة وزينة العبادة الخوف وعلامة الخوف قصر الأمل وَقَالَ رجل لبشر الحافي أراك تخاف الْمَوْت فَقَالَ: القدوم عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ شديد. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول دخلت عَلَى الإِمَام أَبِي بَكْر بْن فورك عائدا فلما رآني دمعت عيناه فَقُلْتُ لَهُ: إِن شاء اللَّه تَعَالَى يعافيك ويشفيك فَقَالَ: لَنْ تراني أخاف من الْمَوْت إِنَّمَا أخاف مِمَّا وراء الْمَوْت. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ يَمَانٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] أَهُوَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قَالَ: لا وَلَكِنِ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وَقَالَ ابْن المبارك الَّذِي يهيج الخوف حَتَّى يسكن فِي القلب دوام المراقبة فِي السر والعلانية. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن، يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحَسَن يَقُول: سمعت أبا القاسم بْن أَبِي مُوسَى يَقُول: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد قَالَ: حَدَّثَنَا عَلَى الرازي قَالَ: سمعت ابْن المبارك يَقُول ذَلِكَ. وسمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن شيبان يَقُول إِذَا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منه وطرد رغبة الدنيا عَنْهُ وقيل: الخوف قوة العلم بمجاري الأَحْكَام، وقيل: الخوف حركة القلب من جلال الرب وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني ينبغي للقلب أَن لا يَكُون الغالب عَلَيْهِ إلا الخوف فَإِنَّهُ إِذَا غلب الرجاء عَلَى القلب فسد القلب ثُمَّ قَالَ يا أَحْمَد بالخوف ارتفعوا فَإِن ضيعوه نزلوا. وَقَالَ الواسطي الخوف والرجاء زمامان عَلَى النفوس لئلا تخرج إِلَى رعوناتها. وَقَالَ الواسطي إِذَا ظهر الحق عَلَى السرائر لا يبقى فِيهَا فضله لرجاء ولا لخوف قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم: وَهَذَا فِيهِ إشكال ومعناه إِذَا اصطلمت شواهد الحق الأسرار مكتها فلا يبقى فِيهَا مساغ لذكر حدثان والخوف والرجاء من آثار بقاء الإحساس بأحكام البشرية وَقَالَ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور من خاف من شَيْء سِوَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَوْ رجا سواه أغلق عَلَيْهِ أبواب كُل شَيْء وسلط عَلَيْهِ المخافة وحجبه بسبعين حجابا أيسرها الشك وإن مِمَّا أوجب شدة خوفهم فكرهم فِي العواقب وخشية تغير أحوالهم قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103-104] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فكم من مغبوط فِي أحواله انعكست عَلَيْهِ الحال ومني بمفارقة قبيح الأفعال فبدل بالأنس وحشة وبالحضور غيبة. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رحمه اللَّه ينشد كثيرا: أحسنت ظنك بالأيام إِذَا حسنت ... وَلَمْ تخف سوء مَا يَأْتِي بِهِ القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بِهَا ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر سمعت مَنْصُور بْن خلف المغربي يَقُول: كَانَ رجلان اصطحبا فِي الإرادة برهة من الزَّمَان ثُمَّ إِن أحدهما سافر وفارق صاحبه وأتى عَلَيْهِ مدة من الزَّمَان وَلَمْ يسمع منه خبرا فبينا هَذَا الآخر كَانَ فِي غزاة يقاتل عسكر الروم إذ خرج عَلَى الْمُسْلِمِينَ رجل مقنع فِي السلاح يطلب المبارزة فخرج إِلَيْهِ من أبطال الْمُسْلِمِينَ واحد فقتله الرومي ثُمَّ خرج آخر فقتله ثُمَّ ثالث فقتله فخرج إِلَيْهِ هَذَا الصوفي وتطاردا فحسر الرومي عَن وجهه فَإِذَا هُوَ صاحبه الَّذِي صحبه فِي الإرادة والعبادة سنين فَقَالَ هَذَا لَهُ: أيش الْخَبَر فَقَالَ: إنه ارتد وخالط الْقَوْم وولد لَهُ أولاد واجتمع لَهُ مال فَقَالَ لَهُ: وكنت تقرأ الْقُرْآن بقراءات كثيرة فَقَالَ لا أذكر منه حرفا فَقَالَ لَهُ هَذَا الصوفي لا تفعل وارجع فَقَالَ لا أفعل فلى فيهم جاه ومال فانصرف أَنْتَ إلا لأفعلن بك مَا فعلت بأولئك فَقَالَ لَهُ هَذَا الصوفي: أعلم أنك قتلت ثلاثة من الْمُسْلِمِينَ وليس عليك أنفة فِي الانصراف فانصرف أَنْتَ وأنا أمهلك فرجع الرجل موليا فتبعه هَذَا الصوفي وطعنه فقتله فبعد تلك المجاهدات ومقاسات تلك الرياضات قتل عَلَى النَّصْرَانِيَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وقيل: لما ظهر عَلَى إبليس مَا ظهر طفق جبريل وميكائيل عليهما السَّلام يبكيان زمانا طويلا فأوحى اللَّه تَعَالَى إليهما مالكما تبكيان كُل هَذَا البكاء فقالا يا رب لا نأمن مكرك فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: هكذا كونا لا تأمنا مكري ويحكى عَنِ السري السقطي، أَنَّهُ قَالَ: إني لأنظر إِلَى أنفي فِي اليوم كَذَا مرة مخافة أَن يَكُون قَد اسود لما أخافه من العقوبة. وَقَالَ أَبُو حفص منذ أربعين سنة اعتقادي فِي نفسي أَن اللَّه تَعَالَى ينظر إِلَى نظر السخط وأعمالي تَدُل عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ حاتم الأصم لا تغتر بموضع صَالِح فلا فِي مكان أصلح من الْجَنَّة فلقي آدم عَلَيْهِ السَّلام فِيهَا مَا لقي ولا تغتر بكثرة العبادة فَإِن إبليس بَعْد طول تعبده لقي مَا لقي ولا تغتر بكثرة العلم فَإِن بلعام كَانَ يحسن اسم اللَّه الأعظم فانظر ماذا لقي ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر قدرا من المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ ينتفع بلقائه أقاربه أو أعداؤه وخرج ابْن المبارك يوما عَلَى أَصْحَابه فَقَالَ: إني قَد اجترأت البارحة عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ سألته الْجَنَّة وقيل: خرج عيسى عَلَيْهِ السَّلام ومعه صَالِح من صالحي بني إسرائيل فتبعهما رجل خاطئ مشهور بالفسق فيهم فقعد منتبذا عَنْهُمَا منكسرا فدعا اللَّه سبحانه وَقَالَ اللَّهُمَّ اغفر لي ودعا هَذَا الصالح وَقَالَ اللَّهُمَّ لا تجمع غدا بيني وبين ذَلِكَ العاصي فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى عيسى عَلَيْهِ السَّلام إني قَد استجبت دعاءهما جميعا رددت ذَلِكَ الصالح وغفرت لِذَلِكَ المجرم. وَقَالَ ذو النون الْمِصْرِي قُلْت لعليم: لَمْ سميت مجنونا قَالَ لما طال حبسى عَنْهُ صرت مجنونا لخوف فراقه وَفِي معناه أنشدوا: لو أَن مَا بي عَلَى صخر لأنحله ... فكيف يحمله خلق من الطين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وَقَالَ بَعْضهم: مَا رأيت رجلا أَعْظَم رجاء لهذه الأمة ولا أشد خوفا عَلَى نَفْسه من ابْن سيرين وقيل: مرض سُفْيَان الثَّوْرِي فعرض دليله عَلَى الطبيب فَقَالَ: هَذَا رجل قطع الخوف كبده ثُمَّ جاء وحس عرقه ثُمَّ قَالَ مَا علمت أَن فِي الحنيفية مثله. وسئل الشبلي لَمْ تصفر لشمس عِنْدَ الغروب فَقَالَ: لأنها عزلت عَن مكان التمام فاصفرت لخوف المقام وكذا المؤمن إِذَا قارب خروجه من الدنيا اصفر لونه لأنه يخاف المقام فَإِذَا طلعت الشَّمْس طلعت مضيئة كَذَلِكَ المؤمن إِذَا بعث من قبره خرج ووجهه يشرق. ويحكي عَن أَحْمَد بْن حنبل رحمه اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: سألت ربي عَزَّ وَجَلَّ أَن يفتح عَلي بابا من الخوف ففتح فخفت عَلَى عقلي فَقُلْتُ يا رب أعطني عَلَى قدر مَا أطيق فسكن ذَلِكَ عني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 بَاب الرجاء قَالَ اللَّه تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} [العنكبوت: 5] أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَد الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبِيدٍ الصَّفَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلاءُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ فَرَأَيْتُ عِنْدَهُ شَهْرَ بْنَ حَوْشَبٍ فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ قُلْتُ لِشَهْرٍ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ تَعَالَى زَوِّدْنِي زَوَّدَكَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ نَعَمْ حَدَّثَتْنِي عَمَّتِي أُمُّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدِي مَا عَبَدَّتَنِي وَرَجَوْتَنِي وَلَمْ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَوِ اسْتَقْبَلْتَنِي بِمِلْءِ الأَرْضِ خَطَايَا وَذُنُوبًا اسْتَقْبَلْتُكَ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً فَأَغْفِرُ لَكَ وَلا أُبَالِي " أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ طَرِيفُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ شَعِيرٍ مِنْ إِيمَانٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ثُمَّ يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لا أَجْعَلُ مَنْ آمَنَ بِي سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ كَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي الرجاء تعلق القلب بمحجوب سيحصل فِي المستقبل. وكما أَن الخوف يقع فِي مستقبل الزَّمَان فَكَذَلِكَ الرجاء يحصل لما يؤمل فِي الاستقبال وبالرجاء عيش القلوب واستقلالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 والفرق بَيْنَ الرجاء وبين التمني أَن التمني يورث صاحبه الكسل ولا يسلك طريق الجهد والجد وبعكسه صاحب الرجاء فالرجاء محمود والتمني معلول وتكلموا فِي الجراء فَقَالَ شاه الكرماني: علامة الرجاء حسن الطاعة وَقَالَ ابْن خبيق الرجاء ثلاثة: رجل عمل حسنة فَهُوَ يرجو قبولها ورجل عمل سيئة ثُمَّ تاب فَهُوَ يرجو المغفرة والثالث الرجل الكاذب يتمادى فِي الذنوب وَيَقُول أرجو المغفرة ومن عرف نَفْسه بالإساءة ينبغي أَن يَكُون خوفه غالبا عَلَى رجائه وقيل: الرجاء ثقة الجود من الكريم والودود وقيل: الرجاء رؤية الجلال بعين الجمال وقيل: هُوَ قرب القلب من ملاطفة الرب وقيل: سرور الفؤاد بحسن المعاذ وقيل: هُوَ النظر إِلَى سعة رحمة اللَّه تَعَالَى. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول سمعت أبا عَلِي الروذباري يَقُول الخوف والرجاء هما كجناحي الطائر إِذَا استويا استوى الطير وتم طيرانه وإذا نقص أحدهما وقع فِيهِ النقص وإذا ذهبا صار الطائر فِي حد الْمَوْت. وسمعته يَقُول: سمعت النصرأباذي يَقُول: سمعت ابْن أَبِي حاتم يَقُول: سمعت عَلِي بْن شمرذان يَقُول: قَالَ أَحْمَد بْن عَاصِم الأنطاكي وسئل مَا علامة الرجاء فِي العبد؟ قَالَ أَن يَكُون إِذَا أحاط بِهِ الإحسان ألهم الشكر راجيا لتمام النعمة من اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الدنيا وتمام عفوه فِي الآخرة. وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف الرجاء استبشار بوجود فضله. وَقَالَ ارتياح القلوب لرؤيته كرم المرجو المحبوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول: من حمل نَفْسه عَلَى الرجاء تعطل ومن حمل نَفْسه عَلَى الخوف قنط ولكن من هذه مرة ومن هذه مرة. وسمعته يَقُول: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس البغدادي قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن صفوان قَالَ: حدثا ابْن أَبِي الدنيا قَالَ حدثت عَن بَكْر بْن سليم الصواف قَالَ دخلنا عَلَى مَالِك بْن أَنَس فِي العشية الَّتِي قبض فِيهَا فقلنا يا أبا عَبْد اللَّهِ كَيْفَ تجدك فَقَالَ: مَا أدرى مَا أقول لكم غَيْر أنكم ستعاينون من عفو اللَّه تَعَالَى مَا لَمْ يكن لَك فِي حساب ثُمَّ مَا برحنا حَتَّى أغمضناه. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ يكاد رجائي لَك مَعَ الذنوب يغلب رجائي لَك مَعَ الأعمال لأني أجدني أعتمد فِي الأعمال عَلَى الإخلاص وكيف أحرزها وأنا بالآفة معروف وأجدني فِي الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف وكلموا ذا النون المصري وَهُوَ فِي النزع فَقَالَ: لا تشغلوني فَقَدْ تعجبت من كثرة لطف اللَّه تَعَالَى معى وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: إلهي أحلى العطايا فِي قلبي رجاؤك وأعذب الْكَلام عَلَى لساني ثناؤك وأحب الساعات إِلَى ساعة يَكُون فِيهَا لقاؤك. وَفِي بَعْض التفاسير أَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَصْحَابه من بَاب بَنِي شيبة فرآهم يضحكون، فَقَالَ: أتضحون لو تعلموا مَا أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ثُمَّ مر ثُمَّ رجع القهقرى وَقَالَ: نزل عَلِي جبريل عَلَيْهِ السَّلام وأتى بقوله تَعَالَى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49] أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصَّفَّارُ , قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ تَمِيمٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ أَيُّوبَ , قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ سَالِمٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ , عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ , عَنٍ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ , عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَضْحَكُ مِنْ يَأْسِ الْعِبَادِ وَقُنُوطِهِمْ وَقُرْبُ الرَّحْمَةِ مِنْهُمْ "، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ يَضْحَكُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيَضْحَكُ. فَقَالَتْ: لا يَعْدِمُنَا خَيْرًا إِذَا ضَحِكَ واعلم أَن الضحك فِي وصفه من صفات فعله وَهُوَ إظهار فضله كَمَا يقال ضحكت الأَرْض بالنبات وضحكه من قنوطهم إظهار تحقيق فضله الَّذِي هُوَ ضعف انتظارهم لَهُ. وقيل إِن مجوسيا استضاف إِبْرَاهِيم الخليل عَلَيْهِ السَّلام فَقَالَ لَهُ: إِن أستلمت أضفتك فَقَالَ: المجوسي إِذَا أسلمت فأي منه تكون لَك عَلَى فمر المجوسي فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلام يا إِبْرَاهِيم لَمْ تطمعه إلا بتغييره دينه نحن منذ سبعين سنة نطمعه عَلَى كفره فلو أضفته ليلة ماذا عليك فمر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلام خلف المجوسي وأضافه فَقَالَ لَهُ المجوسي: إيش كَانَ السبب فِي الَّذِي بدا لَك؟ فذكر لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ المجوسي: أهكذا يعاملني ثُمَّ قَالَ أعرض عَلِي الإِسْلام فأسلم. سمعت الشيخ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: رأى الأستاذ أَبُو سهل الصعلوكي أبا سهل الزجاج فِي النوم وَكَانَ يَقُول بوعيد ألابد فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ حالك فَقَالَ: وجدنا الأمر أسهل مِمَّا توهمنا. سمعت أبا بَكْر بْن أشكيب يَقُول: رأيت أبا سهل الصعلوكي فِي المنام عَلَى هيئة حسنة لا توصف فَقُلْتُ لَهُ: يا أستاذ بِمَا نلت هَذَا فَقَالَ: حسن ظني بربي ورؤي مَالِك بْن دِينَار فِي المنام فقيل لَهُ مَا فعل اللَّه بك فَقَالَ: قدمت عَلَى ربي عَزَّ وَجَلَّ بذنوب كثيرة محاها عنى حسن ظني بِهِ تَعَالَى. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ شِبْرًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ الإِسْفِرَايِينِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ , قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة , وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ , عَنِ الأَعْمَشِ , عَن أَبِي صَالِحٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول ذَلِكَ وقيل: كَانَ ابْن المبارك يقاتل علجا مرة فدخل وقت صلاة العلج فاستمهله فأمهله فلما سجد للشمس أراد ابْن المبارك أَن يضربه بسَيْفه فسمع من الهواء قائلا يَقُول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] فأمسك فلما سلم المجوسي قَالَ لَهُ لَمْ أمسكت عما هممت بِهِ فذكر لَهُ مَا سمع فَقَالَ لَهُ المجوسي نعم الرب رب يعاتب وليه فِي عدوه فأسلم وحسن إسلامه. وقيل: إِنَّمَا أوقعهم فِي الذنب حِينَ سمى نَفْسه عفوا. وقيل: لو قَالَ لا أغفر الذنوب لَمْ يذنب مُسْلِم قط كَمَا أَنَّهُ لما قَالَ: إِن اللَّه لا يغفر أَن يشرك بِهِ لَمْ يشرك مُسْلِم قط ولكن لما قَالَ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] طمعوا فِي مغفرته. ويحكى عَن إِبْرَاهِيم بْن أدهم أَنَّهُ قَالَ: كنت أنتظر مدة من الزَّمَان أَن يخلو المطاف لي فكانت ليلة ظلماء فِيهَا مطر شديد فخلا المطاف فدخلت الطواف وكنت أقول فِيهِ اللَّهُمَّ عصمني اللَّهُمَّ اعصمني فسمعت هاتفا يَقُول لي يا ابْن أدهم أَنْتَ تسألني العصمة وكل النَّاس يسألوني العصمة فَإِذَا عصمتكم فلمن أرحم. وقيل: رأى أَبُو الْعَبَّاس ابْن سريج فِي منامه فِي مرض موته كأن الْقِيَامَة قَدْ قامت وإذا الجبار سبحانه يَقُول أين الْعُلَمَاء قَالَ فجاءوا ثُمَّ قَالَ ماذا عملتم فيما علمتم قَالَ فقلنا يا رب قصرنا وأسأنا قَالَ فأعاد السؤال كَأَنَّهُ لَمْ يرض بِهِ وأراد جوابا آخر فَقُلْتُ أما أنا فليس فِي صحيفتي الشرك وَقَدْ وعدت أَن تغفر مادونه فَقَالَ: اذهبوا فَقَدْ غفرت لكم وَمَاتَ بَعْد ذَلِكَ بثلاث ليال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وقيل: كَانَ رجل شريب جمع قوما من ندمائه ودفع إِلَى غلام لَهُ أربعة دراهم وأمره أَن يشترى بِهَا شَيْئًا من الفواكه للمجلس فمر الغلام بباب مجلس مَنْصُور بْن عمار وَهُوَ يسأل لفقير شَيْئًا وَيَقُول من دفع لَهُ أربعة دراهم دعوت لَهُ أربع دعوات قَالَ فدفع لَهُ الغلام الدراهم فَقَالَ مَنْصُور: مَا الَّذِي تريد أَن أدعو لَك فَقَالَ لي سيدي أريد أَن أتخلص منه فدعا لي مَنْصُور وَقَالَ: مَا الأخرى فَقَالَ: أَن يخلف اللَّه تَعَالَى عَلَى دراهمي فدعا ثُمَّ قَالَ وَمَا الأخرى فَقَالَ: أَن يتوب اللَّه عَلَى سيدي فدعا قَالَ وَمَا الأخرى فَقَالَ: أَن يغفر اللَّه تَعَالَى لي ولسيدي ولك وللقوم فدعا مَنْصُور فرجع الغلام إِلَى سيده فَقَالَ: لَمْ أبطأت؟ فقص عَلَيْهِ القصة فَقَالَ: وبم دعا فَقَالَ: سألت لنفسي العتق فَقَالَ أذهب فأنت حر وأيش الثَّانِي فَقَالَ: أَن يخلف اللَّه عَلِي الدراهم فَقَالَ: لَك أربعة آلاف درهم فَقَالَ: وأيش الثالث فَقَالَ: أَن يتوب اللَّه عليك فَقَالَ: تبت إِلَى اللَّه تَعَالَى فَقَالَ: وأيش الرابع فَقَالَ: أَن يغفر اللَّه تَعَالَى لَك ولي وللقوم وللمذكر فَقَالَ: هَذَا الْوَاحِد لَيْسَ إلي فلما بات رأى فِي المنام كأن قائلا يَقُول لَهُ أَنْتَ فعلت مَا كَانَ إليك تراني لا أفعل مَا إلي قَدْ غفرت لَك وللغلام ولمنصور بْن عمار وللقول الحاضرين وقيل: حج رباح القيسي حجات كثيرة فَقَالَ: يوما وَقَدْ وقف تَحْتَ الميزاب إلهي وهبت من حجاتي كَذَا وكذا لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعشرة منها لأَصْحَابه العشرة وثنتين لوالدي والباقي للمسلمين وَلَمْ بحبس شَيْئًا لنفسه فسمع هاتفا يَقُول هُوَ ذا يتسخى عَلَيْنَا لأغفرن لَك ولأبويك ولمن شهد شهادة الحق وَرَوَى عَن عَبْد الْوَهَّاب بْن عَبْد المجيد الثقفي قَالَ رأيت جنازة يحملها ثلاثة من الرجال وامرأة قَالَ فأخذت مكان المرأة وذهبنا إِلَى المقبرة فصلينا عَلَيْهَا ودفناها فَقُلْتُ المرأة من كَانَ هَذَا منك فَقَالَت ابني قُلْت: أَوْ لَمْ يكن لكم جيران قَالَتْ: نعم ولكنهم صغروا أمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فَقُلْتُ: وأيش كَانَ هَذَا فَقَالَتْ: مختئا قَالَ: فرحمتها وذهبت بِهَا إِلَى منزلي وأعطيتها دراهم وحنطة وثيابا ونمت تلك الليلة فرأيت كَأَنَّهُ أتاني آت كَأَنَّهُ القمر ليلة البدر وعليه ثياب بيض فجعل يتشكر لي فَقُلْتُ من أَنْتَ فَقَالَ: المخنث الَّذِي دفنتموني اليوم رحمني ربي وعَزَّ وَجَلَّ باحتقار النَّاس إياي سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول مر أَبُو عَمْرو البيكندي يوما بسكة فرأى قوما أرادوا إخراج شاب من المحلة لفساده وامرأة تبكي قيل إنها أمه فرحمها أَبُو عَمْرو فشفع لَهُ إليهم وَقَالَ هبوه مني هذه المرة فَإِن عاد إِلَى فساده فشأنكم فوهبوه منه فمضى أَبُو عَمْرو فلما كَانَ بعد أَيَّام اجتاز بتلك السكة فسمع بكاء العجوز من وراء ذَلِكَ الباب فَقَالَ فِي نَفْسه: لعل الشاب عاد إِلَى فساد فنفي من المحلة فدق عَلَيْهَا الباب وسألها عَن حالة الشاب فخرجت العجوز وَقَالَتْ إنه مَات فسألها عَن حاله فَقَالَتْ لما قرب أجله قَالَ لا تخبري بموتي الجيران فلقد آذيتهم وأنهم يشمتون بي ولا يحضرون جنازتي وإذا دفنتيني فهذا خاتم لي مكتوب عَلَيْهِ بسم اللَّه فادفنيه معي فَإِذَا فرغت من دفني فتشفعي لي إِلَى ربي عَزَّ وَجَلَّ قَالَتْ ففعلت وصيته فلما انصرفت عَن رأس قبره سمعت صوته يَقُول انصرفي يا أماه فَقَدْ قدمت عَلَى رب كريم. وقيل: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُد قل لَهُمْ إني لَمْ أخلقهم لأربح عَلَيْهِم وإنما خلقتهم ليربحوا عَلي. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت أبا بَكْر الحريري يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم الأطروس يَقُول كُنَّا قعودا ببغداد مَعَ معروف الكرخي عَلَى الدجلة إذ مر بنا قوم أحداث فِي زورق يضربون بالدف ويشربون ويلعبون فقلنا لمعروف أما تراهم كَيْفَ يعصون اللَّه تَعَالَى مجاهرين ادع اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِم فرفع يده وَقَالَ إلهي كَمَا فرحتهم فِي الدنيا ففرحهم فِي الآخرة فَقَالُوا إِنَّمَا سألناك أَن تدعو عَلَيْهِم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فَقَالَ: إِذَا فرحهم فِي الآخرة تاب عَلَيْهِم. سمعت أبا الْحَسَن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد المزكي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَي بْن مُحَمَّد الأديب قَالَ: حَدَّثَنَا الفضل بْن صدقة قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بْن عَبْد اللَّهِ بْن سَعِيد قَالَ كَانَ يَحْيَي بْن أكثم الْقَاضِي صديقا لي وَكَانَ يودني وأوده فمات يَحْيَي فكنت أشتهي أَن أراه فِي المنام فأقول لَهُ مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك فرأيته ليلة فِي المنام فَقُلْتُ مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك قَالَ غفر لي إلا أَنَّهُ وبخني ثُمَّ قَالَ لي: يا يَحْيَي خلطت عَلِي فِي دار الدنيا فَقُلْتُ أي رب اتكلت عَلَى حَدِيث حَدَّثَنِيهِ أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ قُلْتَ: إِنِّي لأَسْتَحِي أَنْ أُعَذِّبَ ذَا شَيْبَةٍ بِالنَّارِ فَقَالَ: قَدْ عفوت عَنْك يا يَحْيَي وصدق نبيي إلا أنك خلط عَلِي فِي دار الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 بَاب الحزن قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُبَيْشٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ أَوْ نَصَبٍ أَوْ حَزَنٍ أَوْ أَلَمٍ يَهِمُّهُ إِلا كَفَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» الحزن: حال يقبض القلب عَنِ التفرق فِي أودية الغفلة والحزن من أوصاف أهل السلوك. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول صاحب الحزن يقطع من طريق اللَّه تَعَالَى فِي شَهْر مالا يقطعه من فَقَدْ حزنه سنين وَفِي الْخَبَر إِن اللَّه تَعَالَى يحب كُل قلب حزين وَفِي التوراة: إِذَا أحب اللَّه عبدا جعل فِي قلبه نائحة وإذا أبغض عبدا جعل فِي قلبه مزمارا وروي أَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ متواصل الأحزان دائم الفكرة. وَقَالَ بشر بْن الْحَارِث الحزن ملك فَإِذَا سكن فِي موضع لَمْ يرض أَن يساكنه أحد وقيل: القلب ذا لَمْ يكن فِيهِ حزن خرب كَمَا أَن الدار إِذَا لَمْ يكن فِيهَا ساكن تخرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وَقَالَ أَبُو سَعِيد الْقُرَشِيّ بكاء الحزن يعمى وبكاء الشوق يعشى البصر ولا يعمى قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84] وَقَالَ ابْن خفيف الحزن حصر النفس عَنِ النهوض فِي الطرب وسمعت رابعة العدوية رجلا يَقُول واحزناه فَقَالَتْ قل واقلة حزناه لو كنت محزونا لَمْ يتهيأ لَك أَن تتنفس وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة لو أَن محزونا بكى فِي أمة لرحم اللَّه تَعَالَى تلك الأمة ببكائه وَكَانَ دَاوُد الطائي الغالب عَلَيْهِ الحزن وَكَانَ يَقُول بالليل إلهي همك عطل عَلِي الهموم وحال بيني وبين الرقاد وَكَانَ يَقُول كَيْفَ يتسلى من الحزن من تتجدد عَلَيْهِ المصائب فِي كُل وقت وقيل: الحزن يمنع من الطعام والخوف يمنع من الذنوب وسئل بَعْضهم بم يستدل عَلَى حزن الرجل فَقَالَ: بكثرة أنينه. وَقَالَ سرى السقطي وددت أَن حزن كُل النَّاس ألقى عَلَى وتكلم النَّاس فِي الحزن فكلهم قَالُوا إِنَّمَا يحمد حزن الآخرة وَأَمَّا حزن الدنيا فغير محمود إلا أبا عُثْمَان الحيري فَإِنَّهُ قَالَ الحزن بكل وجه فضيلة وزيادة للمؤمن مَا لَمْ يكن بسبب معصية لأنه إِن لَمْ يوجب تخصيصا فَإِنَّهُ يوجب تمحيصا. وعن بَعْض المشايخ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سافر واحد من أَصْحَابه يَقُول لَهُ إِن رأيت محزونا فأقرئه منى السَّلام. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول كَانَ بَعْضهم يَقُول للشمس عِنْدَ غروبها هل طلعت اليوم عَلَى محزون. وَكَانَ الْحَسَن البصري لا يراه أحد إلا ظن أَنَّهُ حَدِيث عهد بمصيبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وَقَالَ وكيع لمامات الفضل ذهب الحزن اليوم من الأَرْض وَقَالَ بَعْض السلف أَكْثَر مَا يجده المؤمن فِي صحيفته من الحسنات اللَّهُمَّ والحزن. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الشيرازي يَقُول: سمعت عَلِي بْن بكران يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِي المروزي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن أَبِي روح يَقُول: سمعت أَبِي يَقُول: سمعت الفضيل بْن عياض، يَقُول: كَانَ السلف يقولون إِن عَلَى كُل شَيْء زكاة وزكاة العقل طول الحزن. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد الفراء يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الوراق يَقُول سألت أبا عُثْمَان الحيري يوما عَنِ الحزن، فَقَالَ: الحزني لا يتفرغ إِلَى سؤال الحزن فاجتهد فِي طلب الحزن ثُمَّ سل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 بَاب الجوع وترك الشهوة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: 155] ثُمَّ قَالَ فِي آخر الآية: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] فبشرهم بجميل الثواب عَلَى الصبر عَلَى مقاساة الجوع. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ صَاحِبُ الزَّعْفَرَانِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِكَسْرَةِ خُبْزٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ يَا فَاطِمَةُ؟ قَالَتْ: قُرْصًا خَبَزْتُهُ وَلَمْ تَطْلُبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُكَ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ. فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمُ أَبِيكِ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ " وَفِي بَعْض الروايات جاءت فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بقرص شعير ولهذا كَانَ الجوع من صفات الْقَوْم وَهُوَ أحد أركان المجاهدة فَإِن أرباب السلوك تدرجوا إِلَى اعتياد الجوع والإمساك عَنِ الأكل ووجدوا ينابيع الحكمة فِي الجوع وكثرة الحكايات عَنْهُم فِي ذَلِكَ. سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الصوفي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ التميمي يَقُول: سمعت ابْن سالم يَقُول: أدب الجوع أَن لا ينقص من عادته إلا مثل أذن السنور، وقيل: كَانَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ لا يأكل الطعام إلا فِي كُل خمسة عشر يوما، فَإِذَا دَخَلَ شَهْر رمضان كَانَ لا يأكل حَتَّى يرى الهلال وَكَانَ يفطر كُل ليلة عَلَى الماء القراح. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: لو أَن الجوع يباع فِي السوق لما كَانَ ينبغي لطلاب الآخرة إِذَا دخلوا السوق أَن يشتروا غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُبَيْد قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِي بْن الْحُسَيْن الأرجاني قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَد الإصطخري بمكة حرسها اللَّه تَعَالَى قَالَ: قَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ لما خلق اللَّه تَعَالَى الدنيا جعل فِي الشبع المعصية والجهل، وجعل فِي الجوع العلم والحكمة. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرمة. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول دَخَلَ بَعْضهم عَلَى بَعْض الشيوخ فرآه يبكي فَقَالَ لَهُ: مَالِك تبكي؟ قَالَ إني جائع قَالَ ومثلك يبكي من الجوع فَقَالَ: أسكت مَا علمت أَن مراده من جوعى أَن أبكى. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الشيرازي يَقُول حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بشر قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن مَنْصُور قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُد بْن معاذ قَالَ: سمعت مخلدا يَقُول: كَانَ الْحَجَّاج بْن فرافصة معنا بالشام فمكث خمسين ليلة لا يشرب الماء ولا يشبع من شَيْء يأكله، وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الغزالي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ أَحْمَد بْن يَحْيَي الجلاء يَقُول دَخَلَ أَبُو تراب النخشبي من بادية البصرة مَكَّة حرسها اللَّه تَعَالَى فسألناه عَن أكله فَقَالَ: خرجت من البصرة وأكلت بنباح ثُمَّ بذات عرق ومن ذَات عرق إليكم فقطع البادية بأكلتين، وسمعته يَقُول حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ النحاس الْمِصْرِي قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُون بْن مُحَمَّد الدقاق قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الدرقش قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحواري قَالَ: سمعت عَبْد الْعَزِيز بْن عمير يَقُول: تجوع صنف من الطير أربعين صباحا ثُمَّ طاروا فِي الهواء فرجعوا بَعْد أَيَّام فكان يفوح مِنْهُم رائحة المسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَكَانَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ إِذَا جاع قوى وإذا أكل شَيْئًا ضعف. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان المغربي الرباني لا يأكل فِي أربعين يوما والصمداني فِي ثمانين يوما، وسمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِيّ العلوي يَقُول: سمعت عَلِي بْن إِبْرَاهِيم الْقَاضِي بدمشق يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِي بْن خلف يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن أَبِي الحواري يَقُول: سمعت أبا سُلَيْمَان الداراني يَقُول: مفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الآخره الجوع. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُبَيْد اللَّه يَقُول: سمعت عَلِي بْن الْحُسَيْن الأرجاني يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد الاصطخري يَقُول: سمعت سهل بْن عُبَيْد اللَّه وقيل لَهُ: الرجل يأكل فِي اليوم أكلة فَقَالَ: قَالَ: فأكلتين قَالَ: أكل الْمُؤْمِنيِنَ قَالَ: فثلاثة قَالَ: قل لأهلك يبنون لَك معلفا وسمعته يَقُول: حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيز بْن الفضل قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر السائح قَالَ: سمعت يَحْيَي بْن معاذ يَقُول: الجوع نور والشبع نار والشهوة تل الحطب يتولد منه الاحتراق ولا تطفأ ناره حَتَّى يحرق صاحبه. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يَقُول: دَخَلَ يوما رجل من الصوفية عَلَى شيخ فقدم إِلَيْهِ طعاما ثُمَّ قَالَ لَهُ: مذ كم يوما لَمْ تأكل؟ فَقَالَ: مذ خمسة أَيَّام فَقَالَ: جوعك جوع بخيل عليك ثياب وأنت تجوع لَيْسَ هَذَا جوع فقر. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سَعِيد الرازي يَقُول: سمعت الْعَبَّاس بْن حمزة يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن أَبِي الحواري يَقُول: قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني: لأن أترك من عشائي لقمة أحب إلي من أَن أقوم الليل إِلَى آخره. وسمعته يَقُول: سمعت أبا القاسم جَعْفَر بْن أَحْمَد الرازي يَقُول: اشتهى أَبُو الخير العسقلاني السمك سنين ثُمَّ ظهر لَهُ ذَلِكَ من موضع حلال فلما مد يده إِلَيْهِ ليأكل أخذت شوكة من عظامه أصبعه فَذَهَبَ فِي ذَلِكَ يده فَقَالَ: يا رب هَذَا لمن مد يده بشهوة إِلَى حلال فكيف بمن مد يده بشهوة إِلَى حرام؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 سمعت الأستاذ أبا بَكْر بْن فورك يَقُول شغل العيال نتيجة متابعة الشهوة بالحلال فَمَا ظنك بقضية شهوة الحرام. سمعت رستم الشيرازي الصوفي يَقُول: كَانَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف فِي دعوة فمد واحد من أَصْحَابه يده إِلَى الطعام قبل الشيخ لما كَانَ بِهِ من الفاقة فأراد بَعْض أَصْحَاب الشيخ أَن ينكر عَلَيْهِ لسوء أدبه حيث مد يده إِلَى الطعام قبل الشيخ فوضع شَيْئًا بَيْنَ يدي هَذَا الفقير فعلم الفقير أَنَّهُ أنكر عَلَيْهِ لسوء أدبه فاعتقد أَن لا يأكل خمسة عشرة يوما عقوبة لنفسه وتأديبا لَهَا وإظهارا لتوبته من سوء أدبه وَكَانَ قَدْ أصابته فاقة قبل ذَلِكَ. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفرج الورثاني قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن الْحَارِث قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن سُلَيْمَان قَالَ: سمعت مَالِك بْن دِينَار يَقُول: من غلب شهوات الدنيا فذلك الَّذِي يفرق الشَّيْطَان من ظله وسمعته يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ الأصفهاني يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول: إِذَا قَالَ الصوفي بَعْد خمسة أَيَّام أنا جائع فألزموه النار غلبت شهوتهم حميتهم فلذلك افتضحوا، وسمعته يَقُول: قيل لبعضهم ألا تشتهى؟ فَقَالَ: أشتهي أَن أشتهى وَهَذَا أتم. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول أَخْبَرَنَا أخمد بْن مَنْصُور قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن مخلد قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْن الْحَسَن بْن عَمْرو بْن الجهم قَالَ: سمعت أبا نصر التمار يَقُول: أتاني بشر ليلة فَقُلْتُ الحمد لِلَّهِ الَّذِي جاء بك جاءنا قطن من خراسان فغزلته البنت وباعته واشترت لنا لحما فتفطر عندنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فَقَالَ لو أكلت عِنْدَ أحد أكلت عندكم , ثُمَّ قَالَ: إني لأشتهي الباذنجان منذ سنين وَلَمْ يتفق لي أكله قُلْت إِن فِيهَا الباذنجان من الحلال فَقَالَ: حَتَّى يصفو لي حب الباذنجان. سمعت عَبْد اللَّهِ بْن باكويه الصوفي يَقُول: سمعت أبا أَحْمَد الصغير يَقُول: أمرني أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف أَن أقدم إِلَيْهِ كُل ليلة عشر حبات زبيب لإفطاره فليلة أشفقت عَلَيْهِ فحملت إِلَيْهِ خمس عشرة حبة فنظر إلي وَقَالَ: من أمرك بِهَذَا وأكل عشر حبات وترك الباقي. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُبَيْد اللَّه يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن الفراغاني يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الرازي يَقُول: سمعت يُوسُف بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا ترك النخشبي يَقُول: مَا تمنت نفسي من الشهوات إلا مرة واحدة، تمنت خبزا وبيضا وأنا فِي سفر فعدلت إِلَى قرية فقام واحد وتعلق وَقَالَ: وَهَذَا كَانَ مَعَ اللصوص فضربوني سبعين درة ثُمَّ عرفني رجل مِنْهُم فَقَالَ: هَذَا أَبُو تراب النخشبي واعتذروا إلي فحملني رجل إِلَى منزله إكراما وشفقة عَلِي وقدم إِلَى خبزا وبيضا فَقُلْتُ لنفسي كلى بَعْد سبعين درة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 بَاب الخشوع والتواضع قَالَ اللَّه تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2] أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَي الْمُزَكِّيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ سُفْيَانُ بْنُ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبَانَ بْنِ ثَعْلَبٍ، عَنْ فُضَيْلٍ الْفُقَيْمِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَلا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ مَنْ بَطَرَ الْحَقَّ وَغَمَصَ النَّاسَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مِسْهَرٍ , عَنْ مُسْلِم الأَعْوَرِ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيُشَيِّعُ الْجَنَائِزَ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُجِبْ دَعْوَةَ الْعَبْدِ، وَكَانَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ. الْخُشُوعُ: الانْقِيَادُ لِلْحَقِّ. وَالتَّوَاضُعُ: هُوَ الاسْتِسْلامُ لِلْحَقِّ وَتَرْكُ الاعْتِرَاضِ عَلَى الْحُكْمِ وَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَهُ مِنْ دِينِكُمُ الْخُشُوعَ. وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْخُشُوعِ، فَقَالَ: الْخُشُوعُ قِيَامُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِهِمْ مَجْمُوعٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَمْ يَقْرَبْ مِنْهُ الشَّيْطَانُ، وَقِيلَ: مِنْ عَلامَاتِ الْخُشُوعِ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ إِذَا أُغْضِبَ أَوْ خُولِفَ أَوْ رُدَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ ذَلِكَ بِالْقُبُولِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خُشُوعُ الْقَلْبِ قَيْدُ الْعُيُونِ عَنِ النَّظَرِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: الْخَاشِعُ مَنْ خَمَدَتْ نِيرَانُ شَهْوَتِهِ وَسَكَنَ دُخَانَ صَدْرِهِ وَأَشْرَقَ نُورُ التَّعْظِيمِ فِِي قَلْبِهِ فَمَاتَتْ شَهْوَتُهُ وَحَي قَلْبُهُ فَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْخُشُوعُ الْخَوْفُ الدَّائِمُ اللازِمُ لِلْقَلْبِ، وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْخُشُوعِ فَقَالَ: تَذَلُّلُ الْقُلُوبِ لِعَلامِ الْغُيُوبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] سَمِعْتُ الأُسْتَاذَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مَا مَعْنَاهُ: مُتَوَاضِعِينَ مُتَخَاشِعِينَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَحْسِنُونَ شِسْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا مَشَوْا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخُشُوعَ مَحِلُّهُ الْقَلْبُ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ رَجُلا مُنْقَبِضَ الظَّاهِرِ مُنْكَسِرَ الشَّاهِدِ قَدْ زَوَى مَنْكِبَيْهِ فَقَالَ: يا فُلانُ الْخُشُوعُ هَهُنَا وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ لا هَهُنَا وَأَشَارَ إِلَى مَنْكِبَيْهِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلا يَعْبَثُ فِي صَلاتِهِ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ، وَقِيلَ: شَرْطُ الْخُشُوعِ فِي الصَّلاةِ أَنْ لا يَعْرِفَ مَنْ عَلَى شِمَالِهِ. قَالَ الأُسْتَاذُ الإِمَامُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْخُشُوعُ إِطْرَاقُ السَّرِيرَةِ بِشَرْطِ الأَدَبِ بِمَشْهَدِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَيُقَالُ: الْخُشُوعُ ذُبُولٌ يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ عِنْدَ اطِّلاعِ الرَّبِّ، وَيُقَالُ: الْخُشُوعُ ذَوَبَانُ الْقَلْبِ وَانْخِنَاسِهِ عِنْدَ سُلْطَانِ الْحَقِيقَةِ، وَيُقَالُ: الْخُشُوعُ مُقَدِّمَاتُ غَلَبَاتِ الْهَيْبَةِ، وَيُقَالُ: الْخُشُوعُ قَشْعَرِيرَةٌ تَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ بَغْتَةً عِنْدَ مُفَاجَأَةِ كَشْفِ الْحَقِيقَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: كَانَ يُكْرَهُ أَنْ يُرَى عَلَى الرَّجُلِ مِنَ الْخُشُوعِ أَكْثَر مِمَّا فِي قَلْبِهِ، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: لَوِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنْ يَضَعُونِي كَاتِّضَاعِي عِنْدَ نَفْسِي لَمَا قَدِرُوا عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَنْ لَمْ يَتَّضِعْ عِنْدَ نَفْسِهِ لَمْ يَرْتَفِعْ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لا يَسْجُدُ إِلا عَلَى التُّرَابِ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ الْفَرَائِضِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ وَهُوَ الْمِصِّيصِيُّ عَنْ هَارُونَ بْنِ حَيَّانَ عَنْ حَصِيفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ " وَقَالَ مجاهد: لما أغرق اللَّه تَعَالَى قوم نوح شمخت الجبال وتواضع الجودي فجعله اللَّه تَعَالَى قرارا لسفينة نوح عَلَيْهِ السَّلام , وَكَانَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رضى اللَّه عَنْهُ يسرع فِي المشي وَيَقُول إنه أسرع للحاجة وأبعد من الزهو وَكَانَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز يكتب ليلة شَيْئًا وعنده ضعيف فكاد السراج ينطفئ فَقَالَ الضيف: أقوم إِلَى المصباح فأصلحه فَقَالَ: لا لَيْسَ من الكرم استخدام الضيف قَالَ: فأنبه الغلام قَالَ: لا هِيَ أول نومة نامها فقام إِلَى البطة وجعل الدهن فِي المصباح فَقَالَ الضيف: قمت بنفسك يا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فَقَالَ لَهُ عُمَر: ذهبت وأنا عُمَر ورجعت وأنا عُمَر. وَرَوَى أَبُو سَعِيد الخدري أَنَّ النَّبِيَّ صلي اللَّه عَلَيْهِ وسلم كَانَ يعلف البعير ويقم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 الْبَيْت ويخصف النعل ويرقع الثوب ويحلب الشاة ويأكل مَعَ الخادم ويطحن مَعَهُ إِذَا أعيا وَكَانَ لا يمنعه الحياء أَن يحمل بضاعته من السوق إِلَى أهله وَكَانَ يصافح الغني والفقير ويسلم مبتديا ولا يحتقر ما دعي إِلَيْهِ ولو إِلَى حشف التمر وَكَانَ هين المؤنة لين الخلق كريم الطبيعة جميل المعاشرة طلق الوجه بساما من غَيْر ضحك محزونا من غَيْر عبوسة متواضعا من غَيْر مذلة جوادا من غَيْر سرف رقيق القلب رحيما بكل مُسْلِم لَمْ يتجشأ قط من شبع وَلَمْ يمد يده إِلَى طمع. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الرازي، يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن نصر الصائغ، يَقُول: سمعت مردويه الصائغ، يَقُول: سمعت الفضيل بْن عياض، يَقُول: قراء الرحمن أَصْحَاب خشوع وتواضع وقراء القضاة أَصْحَاب عجب وتكبر، وَقَالَ الفضيل بْن عياض: من رأى لنفسه قيمة فليس لَهُ فِي التواضع نصيب. وسئل الفضيل عَنِ التواضع، فَقَالَ: تخضع للحق وتنقاد لَهُ تقلبه مِمَّن قاله وَقَالَ الفضيل: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى الجبال إني مكلم عَلَى واحد منكم نبيا فتطاولت الجبال وتواضع طور سيناء فكلم اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام لتواضعه. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن فاتك يَقُول سئل الجنيد عَنِ التواضع، فَقَالَ: خفض الجناح للخلق ولين الجانب لَهُمْ وَقَالَ وهب مكتوب فِي بَعْض مَا أنزل اللَّه تَعَالَى من الكتب إني أخرجت الذرة من صلب آدم فلم أجد قلبا أشد تواضعا من قلب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام فلذلك اصطفيته وكلمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وَقَالَ ابْن المبارك التكبر عَلَى الأغنياء والتواضع للفقراء من التواضع وقيل: لأبي يَزِيد مَتَى يَكُون الرجل متواضعا فَقَالَ: إِذَا لَمْ ير لنفسه مقاما ولا حالا ولا يرى أَن فِي الخلق من هُوَ شر منه وقيل: التواضع نعمة لا يحسد عَلَيْهَا والكبر محنة لا يرحم عَلَيْهَا والعز فِي التواضع فمن طلبه فِي الكبر لَمْ يجده. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، يَقُول: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ، يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن شيبان يَقُول: الشرف فِي التواضع والعز فِي التقوى والحرية فِي القناعة. وسمعته يَقُول: سمعت الْحَسَن الساوي يَقُول: سمعت ابْن الأعرابي، يَقُول: بلغني أَن سُفْيَان الثَّوْرِي، قَالَ: أعز الخلق خمسة أنفس: عالم زاهد وفقيه صوفي وغني متواضع وفقير شاكر وشريف سنى وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: التواضع حسن فِي كُل أحد لكنه فِي الاغنياء أَحْسَن والتكبر سمج فِي كُل أحد لكنه فِي الفقراء أسمج، وَقَالَ ابْن عَطَاء: التواضع قبول الحق مِمَّن كَانَ وقيل: ركب زَيْد بْن ثابت فدنا ابْن عَبَّاس ليأخذ بركابه فَقَالَ: مه يا ابْن عم رَسُول اللَّهِ فَقَالَ: هكذا أمرنا أَن نفعل بعلمائنا فأخذ زَيْد بْن ثابت يد ابْن عَبَّاس فقبلها، وَقَالَ: هكذا أمرنا أَن نفعل بأهل بَيْت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عروة بْن الزُّبَيْر رأيت عُمَر بْن الْخَطَّاب رضى اللَّه عَنْهُ وعلى عاتقه قربة ماء فَقُلْتُ يا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ لا ينبغي لَك هَذَا فَقَالَ: لما أتاني الوفد سامعين مطيعين دخلت فِي نفسي نخوة فأحببت أَن أكسرها ومضي بالقربة إِلَى حجرة امْرَأَة من الأنصار فأفرغها فِي إنائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يَقُول: رؤى أَبُو هُرَيْرَة وَهُوَ أمِير الْمَدِينَة وعلى ظهره حزمة حطب وَهُوَ يَقُول طرقوا للأمير وَقَالَ عَبْد اللَّهِ الرازي: التواضع ترك التمييز فِي الخدمة سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن هَارُون يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس الدمشقي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن أَبِي الحواري يَقُول: سمعت أبا سُلَيْمَان الداراني يَقُول: من رأى لنفسه قيمة لَمْ يذق حلاوة الخدمة وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ التكبر عَلَى من تكبر عليك بِمَا لَهُ تواضع وَقَالَ الشبلي: ذلي عطل ذل الْيَهُود وجاءه رجل فَقَالَ لَهُ الشبلي: مَا أَنْتَ فَقَالَ: يا سيدي النقطة الَّتِي تَحْتَ الباء فَقَالَ: أَنْتَ شاهدي مَا لَمْ تجعل لنفسك مقاما وَقَالَ ابْن عَبَّاس: من التواضع أَن يشرب الرجل من سؤر أخيه وَقَالَ بشر: سلموا عَلَى أبناء الدنيا بترك السَّلام عَلَيْهِم وَقَالَ شُعَيْب بْن حرب: بينا أنا فِي الطواف إذ لكزني إِنْسَان بمرفقه فالتفت إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ الفضيل بْن عياض فَقَالَ: يا أبا صَالِح إِن كنت تظن أَنَّهُ شهد الموسم شر منى ومنك فبئسما ظننت وَقَالَ بَعْضهم رأيت فِي الطوف إِنْسَانا بَيْنَ يديه شاكريه يمنعون النَّاس لأجله عَنِ الطاف ثُمَّ رأيته بَعْد ذَلِكَ بمدة عَلَى جسر بغداد يسأل النَّاس شَيْئًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فتعجبت منه فَقَالَ لي: أنا تكبرت فِي موضع يتواضع النَّاس هناك فابتلاني اللَّه تَعَالَى بالتذلل فِي موضع يترفع فِيهِ النَّاس وبلغ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أَن ابنا لَهُ اشترى فصا بألف درهم فكتب إِلَيْهِ عُمَر بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فَإِذَا أتاك كتابي هَذَا فبع الخاتم وأشبع ألف بطن وأتخذ خاتما من درهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عَلَيْهِ رحم اللَّه امرأ عرف قدر نَفْسه. وقيل: عرض عَلَى بَعْض الأمراء ومملوك بألف درهم فلما أحضر الثمن استكثره فبدا لَهُ فِي شرائه فرد الثمن إِلَى الخزانة فَقَالَ العبد: يا مولاي اشترني فَإِن فِي بكل درهم من هذه الدراهم خصلة تساوى أَكْثَر من ألف درهم فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: أقلها وأدناها مَا لو اشتريتني وقدمتني عَلَى جَمِيع مماليكك لا أغلظ فِي نفسي وأعلم أنى عَبْد فاشتراه. وحكى عَن رجاء بْن حيوة أَنَّهُ قَالَ: قومت ثياب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَهُوَ يخطب باثني عشر درهما وَكَانَ قباء وعمامة وقميصا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة، وقيل: مشى عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن واسع مشيا لا يحمد فَقَالَ لَهُ أبوه: وتدري بكم اشتريت أمك بثلاث مائة درهم وأبوك لا أَكْثَر اللَّه تَعَالَى فِي الْمُسْلِمِينَ مثله أبا وأنت تمشى هذه المشية. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد الفراء يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن منازل يَقُول: سمعت حمدون القصار يَقُول التواضع أَن لا ترى لأحد إِلَى نفسك حاجة لا فِي الدين ولا فِي الدنيا. وَقَالَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم مَا سررت فِي إسلامي إلا ثَلاث مرات مرة كنت فِي سفينة وفيها رجل مضحاك كَانَ يَقُول كُنَّا نأخذ العلج فِي بلاد الترك هكذا وَكَانَ يأخذ بشعر رأسي ويهزني فيسرني ذَلِكَ لأنه لَمْ يكن فِي تلك السفينة أحد أحقر فِي عينه منى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 والأخرى كنت عليلا فِي مَسْجِد فدخل المؤذن وَقَالَ أخرج فلم أطلق فأخذ برجلي وجرني إِلَى خارج الْمَسْجِد، والثالثة كنت بالشام وعلي فرو فنظرت فِيهِ فلم أميز بَيْنَ شعره وبين القمل لكثرته فسرني ذَلِكَ وَفِي حكاية أُخْرَى عَنْهُ قَالَ مَا سررت بشيء كسروري أني كنت يوما جالسا فجاء إِنْسَان وبال عَلِي. وقيل: تشاجر أَبُو ذر وبلال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فعير أَبُو ذر بلالا بالسواد , فشكاه إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا أبا ذر إنه بقي فِي قلبك من كبر الجاهلية شَيْء فألقى أَبُو ذر نَفْسه وحلف أَن لا يرفع رأسه حَتَّى يطأ بلال خده بقدمه فلم يرفع حَتَّى فعل بلال ذَلِكَ. ومر الْحَسَن بْن عَلِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بصبيان معهم كسر خبز فاستضافوه فنزل وأكل معهم ثُمَّ حملهم إِلَى منزله وأطعمهم وكساهم وَقَالَ اليد لَهُمْ، لأنهم لَمْ جدوا غَيْر مَا أطمعوني ونحن نجد أَكْثَر منه وقيل: قسم عُمَر بْن الْخَطَّاب رضى اللَّه عَنْهُ الحلل بَيْنَ الصَّحَابَة من غنيمة فبعث إِلَيْهِ معاذ حلة يمانية فباعها واشترى ستة أعبد وأعتقهم فبلغ عُمَر ذَلِكَ فكان يقسم الحلل بعده فبعث إليه حلة دُونَ تلك فعاتبه معاذ فَقَالَ لَهُ عُمَر: لا معاتبة لأنك بعت الأولى , فَقَالَ معاذ: وَمَا عليك ادفع إلي نصيبي وَقَدْ حلفت لأضربن بِهَا رأسك فَقَالَ عُمَر: هَذَا رأسي بَيْنَ يديك وَقَدْ يرفق الشيخ بالشيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 بَاب مخالفة النفس وذكر عيوبها قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41] أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا تَمْتَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ. ثُمَّ اعْلَمْ أَن مخالفة النفس رأس العبادة وَقَدْ سئل المشايخ عَنِ الإِسْلام؟ فَقَالُوا: ذبح النفس بسيوف المخالفة. واعلم أَن من نجمت طوارق نَفْسه أفلت شوارق أنسه، وَقَالَ ذو النون المصري: مفاتح العبادة الفكرة وعلامة الإصابة مخالفة النفس والهوى ومخالفتها ترك شهواتهما، وَقَالَ ابْن عَطَاء: النفس مجبولة عَلَى سوء الأدب والعبد مأمور بملازمة الأدب فالنفس تجري بطبعها فِي ميدان المخالفة والعبد يردها بجهده عَن سوء المطالبة فمن أطلق عنانها فَهُوَ شركيها معها فِي فسادها سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا عُمَر الأنماطي يَقُول: سمعت الجيند يَقُول النفس الأمارة بالسوء هِيَ الداعية إِلَى المهالك المعينة للأعداء المتبعة للهوى المتهمة بأصناف الأسواء وَقَالَ أَبُو حفص من لَمْ يتهم نَفْسه عَلَى دوام الأوقات وَلَمْ يخالفها فِي جَمِيع الأحوال وَلَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 يجرها إِلَى مكروهها فِي سائر أيامه كَانَ مغرورا ومن نظر إِلَيْهَا باستحسان شَيْء منها فَقَدْ أهلكها وكيف يصح لعاقل الرضا عَن نَفْسه والكريم بْن الكريم بْن الكريم ابْن الكريم يُوسُف بْن يَعْقُوبَ بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الخليل يَقُول: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] . سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن مقسم ببغداد يَقُول: سمعت ابْن عَطَاء يَقُول: قَالَ الجنيد: أرقت ليلة فقمت إِلَى وردى فلم أجد مَا كنت أجده من الحلاوة فأردت أَن أنام فلم أقدر عَلَيْهِ فقعدت فلم أطق القعود ففتحت الباب وخرجت فَإِذَا رجل ملتف فِي عباءة مطروح عَلَى الطريق فلما أحس بي رفع رأسه وَقَالَ يا أبا القاسم إلي الساعة فَقُلْتُ يا سيدي من غَيْر موعد قَالَ: بلى قَدْ سألت محرك القلوب أَن يحرك إلي قلبك فَقُلْتُ فَقَدْ فعل فَمَا حاجتك فَقَالَ: مَتَى يصير داء النفس دواءها فَقُلْتُ إِذَا خالفت النفس هواها صار داؤها دواءها فأقبل عَلَى نَفْسه وَقَالَ اسمعي قَدْ أجبتك بِهَذَا الجواب سبع مرات فأبيت إلا أَن تسمعيه من الجنيد وَقَدْ سمعت , وانصرف عنى وَلَمْ أعرفه , وَلَمْ أقف عَلَيْهِ بَعْد. وَقَالَ أَبُو بَكْر الطمستاني: النعمة العظمي الخروج من النفس، لأن النفس أَعْظَم حجاب بينك وبين اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ سهل: مَا عَبْد اللَّهِ بشيء مثل مخالفة النفس والهوى. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ , يَقُول: سمعت أبا عُمَر الأنماطي , يَقُول: سمعت بْن عَطَاء وَقَدْ سئل عَن أقرب شَيْء إِلَى مقت اللَّه تَعَالَى , فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 رؤية النفس وأحوالها وأشد من ذَلِكَ مطالعة الأغراض عَلَى أفعالها , وسمعته يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن يَحْيَي , يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن نصير , يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم الخواص , يَقُول: كنت فِي جبل اللكام فرأيت رومانا فاشتهيته فدنوت فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركت الرمان فرأيت رجلا مطروحا قَد اجتمع عَلَيْهِ الزنابير , فَقُلْتُ: السَّلام عليك , فَقَالَ: وعليك السَّلام يا إِبْرَاهِيم , فَقُلْتُ: كَيْفَ عرفتني؟ فَقَالَ: من عرف اللَّه تَعَالَى لا يخفى عَلَيْهِ شَيْء , فَقُلْتُ: أرى لَك حالا مَعَ اللَّه تَعَالَى فلو سألته أَن يحميك ويقيك الأذى من هَذَا الزنابير , فَقَالَ: وأنا أرى لَك حالا مَعَ اللَّه تَعَالَى فلو سألته أَن يقيك شهوة الرمان فَإِن لدغ الرمان يجد ألمه الإِنْسَان فِي الآخرة ولدغ الزنابير يجد ألمه فِي الدنيا. فتركته ومضيت. وحكى عَن إِبْرَاهِيم بْن شبان , أَنَّهُ قَالَ: مَا بت تَحْتَ سقف ولا فِي موضع عَلَيْهِ غلق أربعين سنة وكنت أشتهي فِي أوقات أَن أتناول شُعْبَة عدس فلم يتفق فكنت وقتا بالشام فحمل إِلَى غضارة لي فِيهَا عدس فتناولت منه وخرجت فرأيت قوارير معلقة فِيهَا شَيْء شبه نموذجات , فظننته خلا , فَقَالَ لي بَعْض النَّاس: إيش تنظر هذه نموذجات الخمر , وَهَذَهِ الدنان خمر , فَقُلْتُ فِي نفسي: لزمني فرض فدخلت حانوت الخمار , وَلَمْ أزل أصب تلك الدنان , وَهُوَ يتوهم أنى أصبها بأمر السلطان فلما علم حملني إِلَى ابْن طولون , فأمر بضربي مائتي خشبة وطرحني فِي السجن فبقيت فِيهِ مدة حَتَّى دَخَلَ أَبُو عَبْد اللَّهِ المغربي أستاذي ذَلِكَ البلد فشفع لي , فلما وقع بصره عَلِي , قَالَ: إيش فعلت؟ فَقُلْتُ: شبعة عدس ومائتي خشبة فَقَالَ لي: نجوت مجانا. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي , يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي , يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن نصير , يَقُول: سمعت الجنيد , يَقُول: سمعت السري , يَقُول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وإن نفسي تطالبني منذ ثلاثين سنة أَوْ أربعين سنة أَن أغمس جزرة فِي دبس فَمَا أطعتها وسمعته , يَقُول: سمعت جدى , يَقُول: آفة العبد رضاه من نَفْسه بِمَا هُوَ فِيهِ. وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرازي , يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن عَلِي القرمسيني , يَقُول: وجه عصام بْن يُوسُفَ البلخي شَيْئًا إِلَى حاتم الأصم فقبله منه , فقيل لَهُ: لَمْ قبله؟ فَقَالَ: وجدت فِي أخذه ذلي وعزه وَفِي رده عزي وذله فاخترت عزه عَلَى عزى , وذلي عَلَى ذله. وقيل لبعضهم: إني أريد أَن أحج عَلَى التجريد , فَقَالَ لَهُ: جرد أولا قلبك عَنِ السهو , ونفسك عَنِ اللهو , ولسانك عَنِ اللغو ثُمَّ اسلك حيث شئت. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني: من أَحْسَن فِي ليله كوفئ فِي نهاره , ومن أَحْسَن فِي نهاره كوفئ فِي ليله , ومن صدق فِي ترك شهوة كفي مؤنتها , والله أكرم من أَن يعذب قلبا ترك شهوة لأجله. وأوحي اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام: يا دَاوُد , حذر وأنذر أَصْحَابك أكل الشهوات , فَإِن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة. ورؤي رجل جالسا فِي الهواء فقيل لَهُ بم نلت هَذَا فَقَالَ: تركت الهوى فسخر لي الهواء وقيل: لو عرض للمؤمن ألف شهوة لأخرجها بالخوف ولو عرض للفاجر شهوة واحدة لأخرجته من الخوف , وقيل: لا تضع زمامك فِي يد الهوى فَإِنَّهُ يقودك إِلَى الظلمة , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وَقَالَ يُوسُف بْن أسباط: لا يمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج أَوْ شوق مقلق. وَقَالَ الخواص: من ترك شهوة فلم يجد عوضها فِي قلبه فَهُوَ كاذب فِي تركها. وَقَالَ جَعْفَر بْن نصير: دفع إلي الجنيد درهما وَقَالَ اشتر لي بِهِ التين الوزيري فاشتريته لَهُ فلما أفطر أخذ واحدة ووضعها فِي فِيهِ ثُمَّ ألقاها وبكي وَقَالَ أحمله فَقُلْتُ لَهُ: فِي ذَلِكَ فَقَالَ: هتف فِي قلبي أما تستحي شهوة تركتها من أجلى ثُمَّ تعود إِلَيْهَا وأنشدوا: نون الهوان من الهوى مسروقة ... وصريع هوى صريع هوان واعلم أَن للنفس أخلاقا ذميمة فمن ذَلِكَ الحسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 بَاب الحسد قَالَ اللَّه تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ {1} مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 1-2] , ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5] فختم السورة الَّتِي جعلها عوذة بذكر الحسد. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَهْوَازِيُّ , قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ , قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ مَخْلَدٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ , عَنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابٍ , عَنْ مَعْبَدٍ , عَنْ أَبِي قِلابَةَ , عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ , قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: ثَلاثٌ هُنَّ أَصْلُ كُلِّ خَطِيئَةٍ فَاتَّقُوهُنَّ وَاحْذَرُوهُنَّ , إِيَّاكُمْ وَالْكِبْرَ فَإِنَّ إِبْلِيسَ حَمَلَهُ الْكِبْرُ عَلَى أَنْ لا يَسْجُدَ لآدَمَ , وَإِيَّاكُمْ وَالْحِرْصَ فَإِنَّ آدَمَ حَمَلَهُ الْحِرْصُ عَلَى أَنْ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ , وَإِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ ابْنَيْ آدَمَ إِنَّمَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ حَسَدًا " وَقَالَ بَعْضهم: الحاسد جاحد لأنه لا يرضى بقضاء الْوَاحِد , وقيل: الحسود لا يسود وقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] قيل مَا بطن الحسد وَفِي بَعْض الكتب الحاسد عدو نعمتي وقيل: أثر الحسد يتبين فيك قبل أَن يتبين فِي عدوك , وَقَالَ الأصمعي: رأيت أعرابيا أتي عَلَيْهِ مائة وعشرون سنة , قُلْت لَهُ: مَا أطول عمرك؟ فَقَالَ: تركت الحسد فبقيت , وَقَالَ ابْن المبارك: الحمد لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يجعل فِي قلب أميري مَا جعل فِي قلب حاسدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وَفِي بَعْض الآثار: إِن فِي السماء الخامسة ملكا يمر بِهِ عمل عَبْد وَلَهُ ضوء كضوء الشَّمْس , فَيَقُول: قف فأنا ملك الحسد أضرب بِهِ وجه صاحبه فَإِنَّهُ حاسد وَقَالَ مُعَاوِيَة كُل إِنْسَان أقدر عَلَى أَن أرضيه إلا الحاسد فَإِنَّهُ لا يرضيه إلا زوال النعمة ويقال الحاسد ظَالِم غشوم لا يبقى ولا يذر , وَقَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز: مَا رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد غم دائم ونفس متتابع وقيل: من علامات الحاسد أَن يتملق إِذَا شهدت ويغتاب إِذَا غاب ويشمت بالمصيبة إِذَا نزلت , وَقَالَ مُعَاوِيَة: ليست فِي خلال الشر خلة أعدل من الحسد تقتل الحاسد قبل المحسود وقيل: أوحى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى سُلَيْمَان بْن دَاوُد عليهما السَّلام أوصيك بسبعة أشياء: لا تغتابن صَالِح عبادي , ولا تحسدن أحدا من عبادي , فَقَالَ سُلَيْمَان: يا رب حسبي وقيل: رأى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام رجلا عِنْدَ العرش , فغبط , فَقَالَ: مَا صفته؟ فقيل: كَانَ لا يحسد النَّاس عَلَى مَا آتاهم اللَّه من فضله: وقيل: الحاسد إِذَا رأى نعمة بهت , وإذا رأى عشرة شمت , وقيل: إِذَا أردت أَن تسلم من الحاسد فلبس عَلَيْهِ أمرك وقيل: الحاسد مغتاط عَلَى من لا ذنب لَهُ بخيل بِمَا لا يملكه وقيل: إياك أَن تتعنى فِي مودة من يحسدك , فَإِنَّهُ لا يقبل إحسانك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وقيل: إِذَا أراد اللَّه تَعَالَى أَن يسلط عَلَى عَبْد عدوا لا يرحمه سلط عَلَيْهِ حاسدوه وأنشدوا: وحسبك من حادث بامرئ ... ترى حاسديه لَهُ راحمينا وأنشدوا: كُل العداوة قَدْ ترجي إماتتها ... إلا عداوة من عداك من حسد وَقَالَ ابْن المعتز: قل للحسود إِذَا تنفس طعنة ... يا ظالما وكأنه مظلوم وأنشدوا: وإذا أراد اللَّه نشر فضيلة ... طويت أتاح لَهَا لسان حسود ومن الأخلاق المذمومة للنفس اعتياد الغيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 بَاب الغيبة قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] الآية. أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ , قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ , قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ بِنْتِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ , عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلا قَامَ وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ جَالِسٌ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: مَا أَعْجَزَ فُلانًا. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكَلْتُمْ أَخَاكُمْ وَاغْتَبْتُمُوهُ " وأوحي اللَّه تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام: من مَات تائبا من الغيبة فَهُوَ آخر من يدخل الْجَنَّة، ومن مَات مصرا عَلَيْهَا , فَهُوَ أول من يدخل النار وَقَالَ عوف: دخلت عَلَى ابْن سيرين فتناولت الْحَجَّاج فَقَالَ ابْن سيرين: إِن اللَّه تَعَالَى حكم عدل فكما يأخذ من الْحَجَّاج يأخذ للحجاج وإنك إِذَا لقيت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ غدا كَانَ أصغر ذنب أصبته أشد عليك من أَعْظَم ذنب أصابه الْحَجَّاج. وقيل: دعي إِبْرَاهِيم بْن أدهم إِلَى دعوة فحضر فذكروا رجلا لَمْ يأتهم فَقَالُوا إنه ثقيل فَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِنَّمَا فعل بي هَذَا نفسي حيث حضرت موضعا يغتاب فِيهِ النَّاس فخرج وَلَمْ يأكل ثلاثة أَيَّام. وقيل: مثل الَّذِي يغتاب النَّاس كمثل من نصب منجنيقا يرمي بِهِ حسناته شرقا وغربا يغتاب واحدا خراسانيا وآخر حجازيا وآخر تركيا فيفرق حسناته ويقوم ولا شَيْء مَعَهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وقيل: يؤتى العبد يَوْم الْقِيَامَة كتابه فلا يرى فِيهِ حسنة , فَيَقُول: أين صلاتي وصيامي وطاعاتي؟ فيقال: ذهب عملك كُلهُ باغتيابك لِلنَّاسِ، وقيل: من اغتيب بغيبة غفر اللَّه تَعَالَى لَهُ نصف ذنوبه، وَقَالَ سُفْيَان بْن الْحُسَيْن: كنت جالسا عِنْدَ إياس بْن مُعَاوِيَة فنلت من إِنْسَان فَقَالَ: هل غزوت العام الترك والروم؟ قُلْت: لا. فَقَالَ: سلم منك الترك والروم , وَمَا سلم منك أخوك المسلم. وقيل: يعطي الرجل كتابه فيرى فِيهِ حسنات لَمْ يعملها فيقال لَهُ: هَذَا بِمَا أغتابك النَّاس وأنت لَمْ تشعر، وسئل سُفْيَان الثَّوْرِي عَن قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِن اللَّه يبغض أهل الْبَيْت اللحميين , فَقَالَ: هُم الَّذِينَ يغتابون النَّاس يأكلون لحومهم، وذكرت الغيبة عِنْدَ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ , فَقَالَ: لو كنت مغتابا أحدا لاغتبت والدي لأنهما أحق بحسناتي، وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: ليكن حظ المؤمن منك ثَلاث خصال إِن لَمْ تنفعه فلا تضره، وإن لَمْ تسره فلا تغمه، وإن لَمْ تمدحه فلا تذمه، وقيل للحسن البصري: إِن فلانا أغتابك فبعث إِلَيْهِ طبق حلواء، وَقَالَ بلغني أنك أهديت إلي حسناتك فكافأتك. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ , قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْقَطْوَانِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ , عَنْ أَبَانٍ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْ وَجْهِهِ فَلا غَيْبَةَ لَهُ سمعت حمزة بْن يُوسُفَ السَّهْمِيّ , يَقُول: سمعت أبا طاهر مُحَمَّد بْن أسيد الدقي , يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير , يَقُول: قَالَ الجنيد: كنت جالسا فِي مَسْجِد الشونيزية انتظر جنازة أصلى عَلَيْهَا وأهل بغداد عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 طبقاتهم جلوس ينتظرون الجنازة فرأيت فقيرا عَلَيْهِ أثر النسك يسأل النَّاس فَقُلْتُ فِي نفسي: لو عمل هَذَا عملا يصون بِهِ نَفْسه كَانَ أجمل بِهِ فلما انصرفت إِلَى منزلي , وَكَانَ لي شَيْء من الورد بالليل حَتَّى البكاء والصلاة وغير ذَلِكَ فثقل عَلِي جَمِيع أورادي فسهرت وأنا قاعد فغلبتني عيناي فرأيت ذَلِكَ الفقير جاءوا بِهِ عَلَى خوان ممدود وَقَالُوا لي كُل لحمه فَقَدْ أغتبته وكشف لي عَنِ الحال فَقُلْتُ: مَا أغتبته إِنَّمَا قُلْت فِي نفسي شَيْئًا فقيل لي: مَا أَنْتَ مِمَّن يرضى منك بمثله اذهب فاستحله فاصبحت وَلَمْ أزل أتردد حَتَّى رأيته فِي موضع يلتقط من الماء عِنْدَ تزايد الماء أوراقا من البقل مِمَّا تساقط من غسل البقل فسلمت عَلَيْهِ فَقَالَ: يا أبا القاسم تعود فَقُلْتُ لا فَقَالَ: غفر اللَّه تَعَالَى لنا ولك. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا طاهر الإِسْفِرَايِنِيّ يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر البلخي يَقُول: كَانَ عندنا شاب من أهل بلخ وَكَانَ يجتهد ويتعبد إلا أَنَّهُ كَانَ أبدا يغتاب النَّاس يَقُول: فُلان كَذَا وفلان كَذَا فرأيته يوما عِنْدَ المخنثين الغسالين خرج من عندهم فَقُلْتُ: يا فُلان مَا حالك؟ فَقَالَ: تلك الوقيعة فِي النَّاس أوقعتني إِلَى هَذَا ابتليت بمخنث من هَؤُلاءِ وأنا هُوَ ذا أخدمهم من أجله وتلك الأحوال كلها قَدْ ذهبت فادع اللَّه أَن يرحمني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 بَاب القناعة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قَالَ كثير من أهل التفسير: الحياة الطيبة فِي الدنيا القناعة. أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحُلْوَانِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْغِفَارِيُّ , عَنِ الْمُنْكَدِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنٍ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لا يَفْنَي» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَهْوَازِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ الْقَرَنِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا , عَنْ أَبِي رَجَاءٍ , عَنْ بُرْدِ بْنِ سِنَانٍ , عَنْ مَكْحُولٍ , عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحَبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحْسِنْ مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ " وقيل: الفقراء أموات إلا من أحياه اللَّه تَعَالَى بعز القناعة. وَقَالَ بشر الحافي: القناعة ملك لا يسكن إلا فِي قلب مؤمن. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الشعراني يَقُول: سمعت إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم بْن حسان الأنماطي، يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن أَبِي الحواري، يَقُول: سمعت أبا سُلَيْمَان الداراني، يَقُول: القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد، هَذَا أول الرضا وَهَذَا أول الزهد، وقيل: القناعة السكون عِنْدَ عدم المألوفات وَقَالَ أَبُو بَكْر المراغي: العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة والتسويف، وأمر الآخرة بالحرص والتعديل، وأمر الدين بالعلم والاجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف: القناعة ترك التشوف إِلَى المفقود والاستغناء بالموجود. وقيل: فِي معني قَوْله تَعَالَى: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج: 58] يَعْنِي القناعة، وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ الترمذي: القناعة رضا النفس بِمَا قسم لَهَا من الرزق، ويقال القناعة الاكتفاء بالموجود وزوال الطمع فيما لَيْسَ بحاصل، وَقَالَ وهب: إِن العز والغنى خرجا يجولان يطلبان رفيقا فلقيا القناعة فاستقرا، وقيل: من كانت قناعته سمينة طابت لَهُ كُل مرقة، ومن رجع إِلَى اللَّه تَعَالَى عَلَى كُل حالة رزقه اللَّه القناعة، وقيل: مر أَبُو حازم بقصاب ومعه لحم سمين، فَقَالَ: خذا يا أبا حازم فَإِنَّهُ سمين، فَقَالَ: لَيْسَ معي درهم، قَالَ: أنا أنظرك فَقَالَ: نفسي أَحْسَن نظرة لي منك، وقيل: من أقنع النَّاس؟ فقيل أكثرهم لِلنَّاسِ معونة وأقلهم عَلَيْهِم مؤنة، وَفِي الزبور: القانع غنى وإن كَانَ جائعا، وقيل: وضع اللَّه تَعَالَى خمسة أشياء فِي خمسة مواضع: العز فِي الطاعة، والذل فِي المعصية، والهيبة فِي قيام الليل والحكمة فِي البطن الخالي، والغنى فِي القناعة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت نصر بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت سُلَيْمَان بْن أَبِي سُلَيْمَان يَقُول: سمعت أبا القاسم بْن أَبِي نزار يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم المارستاني، يَقُول: انتقم من حرصك بالقناعة كَمَا تنتقم من عدوك بالقصاص، وَقَالَ ذو النون المصري: من قنع استراح من أهل زمانه واستطال عَلَى أقرانه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وقيل: من قنع استراح من الشغل واستطال عَلَى الكل، وَقَالَ الكتاني: من باع الحرص بالقناعة ظفر بالعز والمروءة. وقيل: من تعبت عيناه مَا فِي أيدي النَّاس طال حزنه، وأنشدوا: وأحسن بالفتى من يَوْم عار ... ينال بِهِ الغنى كرم وجوع وقيل: رأى رجل حكيما يأكل مَا تساقط من البقل عَلَى رأس ماء فَقَالَ: لو خدمت السلطان لَمْ تحتج إِلَى أكل هَذَا فَقَالَ الحكيم: وأنت لو قنعت بِهَذَا لَمْ تحتج إِلَى خدمة السلطان، وقيل العقاب عزيز فِي مطاره لا يسموه إِلَيْهِ طرف صياد ولا طمعه فَإِذَا طمع فِي جيفة علقت عَلَى حبالة نزل من مطاره فتعلق فِي حباله، وقيل: لما نطق مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام بذكر الطمع فَقَالَ: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] قَالَ الحضر لَهُ: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] ، وقيل: لما قَالَ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام وقف بَيْنَ يدي مُوسَى والخضر عليهما السَّلام ظبي وكانا جائعين الجانب الَّذِي يلي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام غَيْر مشوي والجانب الَّذِي يلي الخضر مشوي، وقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] هُوَ القناعة فِي الدنيا: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] هُوَ الحرص فِي الدنيا، وقيل: فِي قَوْله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] أي فكها من ذل الطمع، وقيل: فِي قَوْله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] يعنى البخل والطمع: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] يعنى بالسخاء والإيثار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] أي مقاما فِي القناعة أنفرد بِهِ من أشكالي وأكون راضيا فِيهِ بقضائك، وقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} [النمل: 21] يَعْنِي لأسلبنه القناعة ولأبتلينه بالطمع يَعْنِي اسأل اللَّه تَعَالَى أَن يفعل بِهِ ذَلِكَ، وقيل لأبي يَزِيد: بم وصلت إِلَى مَا وصلت فَقَالَ: جمعت أسباب الدنيا فربطتها بحبل القناعة ووضعتها فِي منجنيق الصدق ورميت بِهَا فِي بحر اليأس فاسترحت. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن فرحان بسامرة يَقُول: سمعت خالي عَبْد الْوَهَّاب يَقُول: كنت جالسا عِنْدَ الجنيد أَيَّام الموسم وحوله جَمَاعَة كثيرون من العجم والموالدين فجاء إِنْسَان بخمس مائة دِينَار ووضعها بَيْنَ يديه وَقَالَ تفرقها عَلَى هَؤُلاءِ الفقراء فَقَالَ: ألك غيرها؟ قَالَ: نعم , لي دنانير كثيرة فَقَالَ: أتريد غَيْر مَا تملك؟ فَقَالَ: نعم. فَقَالَ الجنيد: خذها فإنك أحوج إِلَيْهَا منا وَلَمْ يقبلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 بَاب التوكل قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] وَقَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] وَقَالَ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] . أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فَوْرَكٍ , قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الْقَاهِرِ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ , عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ , عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: أُرِيتُ الأُمَمَ بِالْمَوْسِمِ فَرَأَيْتُ أُمَّتِي قَدْ مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ فَأَعْجَبَنِي كَثْرَتَهُمْ وَهَيْئَتَهُمْ، فَقِيلَ لِي: أَرَضِيتَ. فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَعَ هَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ لا يَكْتُوُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ , فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ , فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ , فَقَامَ آخَرٌ , فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ سمعت عَبْد اللَّهِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر الوجيهي قَالَ: قَالَ أَبُو عَلَى الروذباري قُلْت لعمرو بْن سنان: احك لي عَن سهل بْن عَبْد اللَّهِ حكاية فَقَالَ: إنه قَالَ: علامة المتوكل ثَلاث لا يسأل ولا يرد ولا يحبس. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الشيرازي يَقُول: سمعت أبا مُوسَى الدبيل يَقُول: قيل لأبي يَزِيد: مَا التوكل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 فَقَالَ لي: مَا تقول أَنْتَ؟ قَالَ قُلْت: إِن أَصْحَابنا يقولون لو أَن السباع والأفاعي عَن يمينك ويسارك مَا تحرك لِذَلِكَ سرك فَقَالَ أَبُو يَزِيد: نعم هَذَا قريب ولكن لو أَن أهل الْجَنَّة فِي الْجَنَّة يتنعمون وأهل النار فِي النار يعذبون ثُمَّ وقع لَك تمييز عليهما خرجت من جملة التوكل. وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: أول مقام فِي التوكل أَن يَكُون العبد بَيْنَ يدي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كالميت بَيْنَ يدي الغاسل يقلبه كَيْفَ شاء لا يَكُون لَهُ حركة ولا تدبير. وَقَالَ حمدون: التوكل هُوَ الاعتصام بالله تَعَالَى. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بْن أَحْمَد البلخي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن حامد يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن خضرويه يَقُول: قَالَ رجل لحاتم الأصم من أين تأكل؟ فَقَالَ: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] . وأعلم أَن التوكل محله القلب والحركة بالظاهر لا تنافي التوكل بالقلب بعدما تحقق العبد أَن التقدير من قبل اللَّه تَعَالَى وإن تعسر شَيْء فبتقديره وإن اتفق شَيْء فبتيسيره. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدَانَ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا غَيْلانُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ , قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ الْجُحْدَرِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَحْيَي , قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي الْمُغِيرَةُ بْنِ أَبِي قُرَّةَ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَدَعَهَا وَأَتَوَكَّلُ , فَقَالَ: أَعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ وَقَالَ إِبْرَاهِيم الخواص من صح توكله فِي نَفْسه صح توكله فِي غيره وَقَالَ بشر الحافي يَقُول أحدهم توكلت عَلَى اللَّه تَعَالَى يكذب عَلَى اللَّه تَعَالَى لو توكل عَلَى اللَّه تَعَالَى لرضي بِمَا يفعل اللَّه تَعَالَى بِهِ. وسئل يَحْيَي بْن معاذ: مَتَى يَكُون الرجل متوكلا فَقَالَ: إِذَا رَضِيَ بالله تَعَالَى وكيلا. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِي بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الصامت يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم الخواص يَقُول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 بينما أنا أسير فِي البادية وإذا بهاتف يهتف فالتفت إِلَيْهِ فَإِذَا أعرابي يسير فَقَالَ لي: يا إِبْرَاهِيم التوكل عندنا أقم عندنا حَتَّى يصح توكلك ألم تعلم أَن رجاءك لدخول بلد فِيهِ أطعمة يحملك أقطع رجاءك عَنِ البلدان وتوكل. وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد الفارسي يَقُول: سمعت ابْن عَطَاء وسئل عَن حقيقة التوكل فَقَالَ: أَن لا يظهر فيك انزعاج إِلَى الأسباب مَعَ شدة فاقتك إِلَيْهَا ولا تزول عَن حقيقة السكون إِلَى الحق مَعَ وقوفك عَلَيْهَا. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: شرط التوكل مَا قاله أَبُو تراب النخشبي وَهُوَ طرح البدن فِي العبودية وتعلق القلب بالربوبية والطمأنينة إِلَى الكفاية فَإِن أعطي شكر وإن منع صبر وكما قَالَ ذو النون التوكل ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة وإنما يقوى العبد عَلَى التوكل إِذَا علم أَن اللَّه سبحانه يعلم ويرى مَا هُوَ فِيهِ. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الفرج الورثاني يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد القرمسيني يَقُول: سمعت الكتاني يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر بْن الفرج يَقُول: رأيت رجلا يعرف بجمل عَائِشَة من الشطار يضرب بالسياط فَقُلْتُ لَهُ: أي وقت يَكُون ألم الضرب عليكم أسهل؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ من ضربنا لأجله يرانا. وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد يَقُول: قَالَ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور لإبراهيم الخواص ماذا صنعت فِي هذه الأسفار وقطع هذه المفاوزة قَالَ: بقيت فِي التوكل أصحح نفسي عَلَيْهِ فَقَالَ: الْحُسَيْن أفنيت عمرك فِي عمران باطنك فأين الفناء فِي التوحيد؟ سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: التوكل مَا قاله أَبُو بَكْر الدقاق وَهُوَ رد العيش إِلَى يَوْم واحد وإسقاط هُمْ غد , قَالَ: وَهُوَ كَمَا قَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: التوكل الاسترسال مَعَ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا يريد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت أبا بَكْر البردعي يَقُول: سمعت أبا يعقوب النهرجوري يَقُول التوكل عَلَى اللَّه تَعَالَى بكمال الحقيقة مَا وقع لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام فِي الوقت الَّذِي قَالَ لجبريل عَلَيْهِ السَّلام: أما إليك فلا لأنه غابت نَفْسه بالله تَعَالَى فلم ير مَعَ اللَّه غَيْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وسمعته يَقُول: سمعت سَعِيد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سهل يَقُول: سمعت سَعِيد بْن عُثْمَان الخياط يَقُول: سمعت ذا النون الْمِصْرِي وسأله رجل فَقَالَ: مَا التوكل، فَقَالَ: خلع الأرباب وقطع الأسباب فَقَالَ السائل: زدني فَقَالَ: إلقاء النفس فِي العبودية وإخراجها من الربوية. وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد المعلم يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ يَقُول: سمعت حمدون القصار وسئل عَنِ التوكل فَقَالَ: إِن كَانَ لَك عشرة آلاف درهم وعليك دانق دين لَمْ تأمن أَن تموت ويبقى ذَلِكَ فِي عنقك ولو كَانَ عليك عشرة آلاف درهم دين من غَيْر أَن تترك لَهَا وفاء لا تيأس من اللَّه تَعَالَى أَن يقضيه عَنْك. وسئل أَبُو عَبْد اللَّهِ الْقُرَشِيّ عَنِ التوكل فَقَالَ: التعلق بالله تَعَالَى فِي كُل حال فَقَالَ السائل: زدني قَالَ: ترك كُل سبب يوصل إِلَى سبب حَتَّى يَكُون الحق هُوَ المتولى لِذَلِكَ وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ التوكل حال النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والكسب سنته فمن بقى عَلَى حاله فلا يتركن سنته وَقَالَ أَبُو سَعِيد الخراز: التوكل اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب وقيل: التوكل أَن يستوي عندك الإكثار والتقلل , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وَقَالَ ابْن مسروق: التوكل الاستسلام لجيران الْقَضَاء والأحكام سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان الحيري يَقُول: التوكل الاكتفاء بالله تَعَالَى مَعَ الاعتماد عَلَيْهِ وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن غالب يحكي عَنِ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور قَالَ: المتوكل المحق لا يأكل وَفِي البلد من هُوَ أحق بِهِ منه وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي يَقُول: سمعت مَنْصُور أَحْمَد الحريري يَقُول: حكي لنا ابْن أَبِي شيخ قَالَ: سمعت عُمَر بْن سنان يَقُول: اجتاز بنا إِبْرَاهِيم الخواص , فقلنا لَهُ: حَدَّثَنَا بأعجب مَا رأيته فِي أسفارك فَقَالَ: لقيني الخضر عَلَيْهِ السَّلام فسألني الصحبة فخشيت أَن يفسد عَلَى توكلي بسكوني إِلَيْهِ ففارقته. وسئل سهل عَنِ التوكل فَقَالَ: قلب عاش مَعَ اللَّه تَعَالَى بلا علاقة. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: التوكل ثَلاث درجات التوكل ثُمَّ التسليم ثُمَّ التفويض فالمتوكل يسكن إِلَى وعده وصاحب التسليم يكتفي بعلمه وصاحب التفويض يرضي بحكمه. وسمعته يَقُول التوكل بداية والتسليم واسطة والتفويض نهاية. وسئل الدقاق عَنِ التوكل فَقَالَ: الأكل بلا طمع وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: لبس الصوف حانوت والكل فِي الزهد حرفة وصحبة القوافل تعرض وَهَذَهِ كلها علاقات. وجاء رجل إِلَى الشبلي يشكو إِلَيْهِ كثرة العيال فَقَالَ: ارجع إِلَى بيتك فمن لَيْسَ رزقه عَلَى اللَّه فاطرده عَنْك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَطَاء يَقُول: قرأت عَلَى مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن قَالَ: سهل بْن عَبْد اللَّهِ من طعن فِي الحركة فَقَدْ طعن فِي السنة ومن طعن فِي التوكل فَقَدْ طعن فِي الإيمان وسمعته يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت جعفرا الخلدي يَقُول: قَالَ إِبْرَاهِيم الخواص: كنت فِي طريق مَكَّة فرأيت شخصا وحشيا فَقُلْتُ: جنى أَوْ إنسي فَقَالَ: جنى فَقُلْتُ: إِلَى أين فَقَالَ: إِلَى مَكَّة فَقُلْتُ: بلا زاد فَقَالَ: نعم فينا أَيْضًا من يسافر عَلَى التوكل فَقُلْتُ إيش التوكل؟ فَقَالَ: الأخذ من اللَّه تَعَالَى. سمعته يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت الفرغاني يَقُول كَانَ إِبْرَاهِيم الخواص مجردا فِي التوكل يدقق فِيهِ وَكَانَ لا تفارقه إبرة وخيوط وركوة ومقراض فقيل لَهُ يا أبا إِسْحَاق لَمْ تحمل هَذَا وأنت تمتنع من كُل شَيْء فَقَالَ: مثل هذا لا ينقض التوكل، لأن لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا فرائض والفقير لا يَكُون عَلَيْهِ إلا ثوب واحد , فربما يتخرق ثوبه فَإِن لَمْ يكن مَعَهُ إبرة وخيوط تبدو عورته فتفسد عَلَيْهِ صلاته وإذا لَمْ يكن مَعَهُ ركوة تفسد عَلَيْهِ طهارته فَإِذَا رأيت الفقير بلا ركوة ولا إبرة ولا خيوط فاتهمه فِي صلاته. وسمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول التوكل صفة الْمُؤْمِنيِنَ والتسليم صفة الأولياء والتفويض صفة الموحدين فالتوكل صفة العوام والتسليم صفة الخواص والتفويض صفة خواص الخواص. وسمعته يَقُول: التوكل صفة الأنبياء والتسليم صفة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلام والتفويض صفة نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الفرغاني يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الحداد يَقُول مكثت بضع عشرة سنة أعتقد التوكل وأنا أعمل فِي السوق آخذ كُل يَوْم أجرتي ولا أنتفع منها بشربة ماء ولا بدخلة حمام وكنت أجئ بِهَا إِلَى الفقراء فِي الشونيزية وأكون عَلَى حالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت الخواص يَقُول: سمعت الْحَسَن أَخَا سنان يَقُول حجبت أربع عشرة حجة حافيا عَلَى التوكل فكان يدخل فِي رجلي الشوك فأذكر أني اعتقدت عَلَى نفسي التوكل فأحكها فِي الأَرْض وأمشي. وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الواعظ يَقُول: سمعت خيرا النساج يَقُول: سمعت أبا حمزة يَقُول إني لأستحي من اللَّه تَعَالَى أَن أدخل البادية وأنا شبعان وَقَدِ اعتقدت التوكل لئلا يَكُون سعيي عَلَى الشبع زاد أتزوده. وسئل حمدون عَنِ التوكل فَقَالَ: تلك درجة لَمْ أبلغها بَعْد وكيف يتكلم فِي التوكل من لَمْ يصح لَهُ حال الإيمان وقيل: المتوكل كالطفل لا يعرف شَيْئًا يأوي إِلَيْهِ إلا ثدي أمه كَذَلِكَ المتوكل لا يهتدي إلا إِلَى ربه تَعَالَى وعن بَعْضهم قَالَ: كنت فِي البادية فتقدمت القافلة فرأيت قدامي واحدا فتسارعت حَتَّى أدركته فَإِذَا هِيَ امْرَأَة بيدها عكازة تمشي عَلَى التؤدة فظننت أَنَّهَا أعيت فأدخلت يدي فِي جيبي فأخرجت عشرين درهما فَقُلْتُ خذيها وامكثي حَتَّى تلحقك القافلة فتكتري بِهَا ثُمَّ ائتني الليلة حَتَّى أصلح أمرك فَقَالَتْ بيدها هكذا فِي الهواء فَإِذَا فِي كفها دنانير قَالَتْ: أَنْتَ أخذتا لدراهم من الجيب وأنا أخذت الدنانير من الغيب. ورأى أَبُو سُلَيْمَان الداراني رجلا بمكة , شرفها اللَّه تَعَالَى , لا يتناول شَيْئًا إلا شربة من ماء زمزم فمضى عَلَيْهِ أَيَّام فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان يوما: أرأيت لو غارت زمزم إيش كنت تشرب فقام وقبل رأسه وَقَالَ جزاك اللَّه تعالى خيرا حيث أرشدتني فإني كنت أعبد زمزم منذ أَيَّام ومضى. وَقَالَ إِبْرَاهِيم الخواص رأيت فِي طريق الشام شابا حدثا حسن المراعاة فَقَالَ لي: هل لَك فِي الصحبة فَقُلْتُ: إني أجوع فَقَالَ: إِن جعتَ جعتُ معك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 فبقينا أربعة أَيَّام ففتح عَلَيْنَا بشيء فَقُلْتُ: هلم فَقَالَ: أعتقدت أني لا آخذ بواسطة فَقُلْتُ: يا غلام دققت فَقَالَ: يا إِبْرَاهِيم لا تتبهرج فَإِن الناقد بصير مَالك والتوكل ثُمَّ قَالَ: أقل التوكل أَن ترد عليك موارد الفاقات فلا تسمو نفسك إلا إِلَى من إِلَيْهِ الكفايات. وقيل: التوكل نفى الشكوك والتفويض إِلَى ملك الملوك. وقيل: دَخَلَ جَمَاعَة عَلَى الجنيد فَقَالُوا: أين نطلب الرزق فَقَالَ: إِن علمتم أي موضع هُوَ فاطلبوه قَالُوا: فنسأل اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ فَقَالَ: إِن علمتم أنه ينساكم فذكروه فَقَالُوا: ندخل الْبَيْت فتوكل فَقَالَ: التجربة شك قَالُوا فَمَا الحيلة فَقَالَ: ترك الحيلة. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني لأحمد بْن أَبِي الحواري: يا أَحْمَد إِن طرق الآخرة كثيرة وشيخك عارف بكثير منها إلا هَذَا التوكل المبارك فإني مَا شممت بمنه رائحة. وقيل: التوكل الثقة بِمَا فِي يد اللَّه تعالى واليأس عما فِي أيدي النَّاس. وقيل: التوكل فراغ السر عَنِ التفكر فِي التقاضي فِي طلب الرزق. وسئل الْحَارِث المحاسبي عَنِ المتوكل هل يلحقه طمع فَقَالَ: يلحقه من طريق الطباع خطرات ولا يضره شَيْء ويقويه عَلَى إسقاط الطمع اليأس عما فِي أيدي النَّاس. وقيل: جاع النوري فِي البادية فهتف بِهِ هاتف أيما أحب إليك سب أَوْ كفاية فَقَالَ: الكفاية فلبس فوقها نهاية فبقي سبعة عشر يوما لَمْ يأكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وَقَالَ أَبُو عَلَى الروذباري إِذَا قَالَ الفقير بَعْد خمسة أَيَّام أنا جائع فألزموه بالسوق ومروه بالعمل والكسب. وقيل: نظر أَبُو تراب النخشبي إِلَى صوفي مد يده عَلَى قشر بطيخ ليأكله بَعْد ثلاثة أَيَّام فَقَالَ: لَهُ لا يصلح لَك التصوف الزم السوق وَقَالَ أَبُو يعقوب الأقطع البصرى: جعت مرة بالحرم عشرة أَيَّام فوجدت ضعفا فحدثني نفسي فخرجت إِلَى الوادي لعلى أجد شَيْئًا يسكن ضعفى فرأيت سلجمة مطروحة فأخذتها فوجدت فِي قلبي منها وحشة وكأن قائلا يَقُول لي جعت عشرة أَيَّام فآخره يَكُون حظك سلجمة متغيرة فرميت بِهَا ودخلت الْمَسْجِد فقعدت فَإِذَا أنا برجل أعجمي جلس بَيْنَ يدي ووضع قمطرة وَقَالَ هذه لَك فَقُلْتُ كَيْفَ خصصتني بِهَا فَقَالَ: اعلم أنا كُنَّا فِي البحر منذ عشرة أَيَّام وأشرفت السفينة عَلَى الغرق فنذر كُل واحد منا إِن خلصنا اللَّه تَعَالَى أَن يتصدق بشيء ونذرت أنا إِن خلصني اللَّه تَعَالَى أَن أتصدق بِهَذِهِ عَلَى أول من يقع بصرى عَلَيْهِ من المجاورين وأنت أول من لقيته فَقُلْتُ: افتحها ففتحه فَإِذَا فِيهَا كعك سميد مصري ولوز مقشور وسكر كعاب فقبضت قبضة من ذا وقبضة من ذا وقبضة من ذا وقلت: رد الباقي إِلَى صبيانك هُوَ هدية منى لكم وَقَدْ قبلتها ثُمَّ قُلْت فِي نفسي: رزقك يسير إليك من عشرة أَيَّام وأنت تطلبه من الوادي. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: كنت عِنْدَ ممشاد الدينوري فجرى حَدِيث الدين فَقَالَ: كَانَ عَلَى دين فاشتغل قلبي فرأيت فِي النوم كأن قائلا يَقُول: يا بخيل أخذت عَلَيْنَا هَذَا المقدار خذ عليك الأخذ وَعَلَيْنَا العطاء فَمَا حاسبت بَعْد ذَلِكَ بقالا ولا قصابا ولا غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ويحكى عَن بنان الحمال قَالَ: كنت فِي طريق مَكَّة حرسها اللَّه تَعَالَى أجئ من مصر ومعي زاد فجاءتني امْرَأَة وَقَالَتْ لي: يا بنان أَنْتَ حمال تحمل عَلَى ظهرك الزاد وتتوهم أَنَّهُ لا يرزقك قَالَ: فرميت بزادي ثُمَّ أتى عَلَي ثلاثة لَمْ آكل فوجدت خلخالا فِي الطريق فَقُلْتُ: فِي نفسي أحمله حَتَّى يجئ صاحبه فربما يعطيني شَيْئًا فأرده عَلَيْهِ فَإِذَا أنا بتلك المرأة فَقَالَتْ لي: أَنْتَ تاجر تقول حَتَّى يجيء صاحبه فآخذ منه شَيْئًا من الدراهم وَقَالَتْ أنفقها فاكتفيت بِهَا إِلَى قريب من مَكَّة. ويحكى أَن بنانا احتاج إِلَى جارية تخدمه فانبسط إِلَى إخوانه فجمعوا لَهُ ثمنها وَقَالُوا: هُوَ ذا يجيء النفر فنشتري مَا يوافق فلما ورد النفر اجتمع رأيهم عَلَى واحدة وَقَالُوا: إنها تصلح لَهُ فَقَالُوا لصاحبها: بكم هذه فَقَالَ: إنها ليست للبيع فألحوا عَلَيْهِ فَقَالَ: إنها لبنان الحملة أهدتها إِلَيْهِ امْرَأَة من سمرقند فحملت إِلَى بنان وذكرت لَهُ القصة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن المخزومي يَقُول: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّد بْن صَالِح قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عبدون قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن الخياط قَالَ كنت عِنْدَ بشر الحافي فجاء نفر فسلموا عَلَيْهِ فَقَالَ: من أين أنتم قَالُوا: نحن من الشام جئنا نسلم عليك ونريد الحج فَقَالَ: شكر اللَّه تَعَالَى لكم فَقَالُوا: تخرج معنا فَقَالَ: بثلاث شرائط لا نحمل معنا شَيْئًا ولا نسأل أحدا شَيْئًا وإن أعطانا أحد شَيْئًا لا نقبل قَالُوا: أما أَن لا نحمل فنعم وَأَمَّا أَن لا نسأل فنعم وَأَمَّا أَن لا نقبل إِن أعطينا فهذا لا نستطيعه فَقَالَ: خرجتم متوكلين عَلَى زاد الحجيج ثُمَّ قَالَ يا حسن الفقراء ثلاثة: فَقِير لا يسأل، وإن أعطي لا يأخذ، فذاك من جملة الروحانيين، وفقير لا يسأل، وإن أعطي قَبِل فذاك توضع لَهُ موائد فِي حظائر القدس، وفقير يسأل وإن أُعطي قَبِل قدر الكفاية فكفارته صدقه. وقيل: لحبيب العجمي لَمْ تركت التجارة؟ قال وجدت الكفيل ثقة. وقيل: كَانَ فِي الزمن الأَوَّل رجل فِي سفر ومعه قرص فَقَالَ: إِن أكلته مت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فوكل اللَّه تَعَالَى بِهِ ملكا وَقَالَ إِن أكله فارزقه وإن لَمْ يأكله فلا تعطه غيره فلم يزل القرص مَعَهُ حَتَّى مَات وَلَمْ يأكله وبقي عنده القرص. وقيل: من وقع فِي ميدان التفويض يزف إِلَيْهِ المراد كَمَا تزف العروس إِلَى أهلها. والفرق بَيْنَ التضييع والتفويض أَن التضييع فِي حق اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ مذموم والتفويض فِي حقك وَهُوَ محمود وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ: من أخذ فلسا من حرام فليس بمتوكل. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت نصر بْن أَبِي نصر العطار يَقُول: سمعت عَلِي بْن مُحَمَّد المصري يَقُول: سمعت أبا سَعِيد الخراز يَقُول: دخلت البادية مرة بغير زاد فأصابتني فاقة فرأيت المرحلة من بعيد فسررت بأني وصلت ثُمَّ فكرت فِي نفسي أني سكنت واتكلت عَلَى غيره فآليت أَن لا أدخل المرحلة إلا أَن أحمل إِلَيْهَا فحفرت لنفسي فِي الرمل حفرة وواريت جسدي فِيهَا إِلَى صدري فسمعوا صوتا فِي نصف الليل عاليا يا أهل المرحلة إِن لِلَّهِ تَعَالَى وليا حبس نَفْسه فِي هَذَا الرمل فالحقوه فجاءني جَمَاعَة فأخرجوني وحملوني إِلَى القرية. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن المخزومي يَقُول: سمعت ابْن المالكي يَقُول: قَالَ أَبُو حمزة الخراساني حججت سنة من السنين فبينما أنا أمشى فِي الطريق إذ وقعت فِي بئر فنزعتني نفسي أَن أستغيث فَقُلْتُ لا والله لا أستغيث فَمَا استتممت هَذَا الخاطر حَتَّى مر براس البئر رجلان فَقَالَ أحدهما للآخر: تعال حَتَّى نسد رأس هذه البئر لئلا يقع فِيهَا أحد فأتوا بقصب وبارية وطموا رأس البئر فهممت أَن أصيح ثُمَّ قُلْت فِي نفسي: أصيح عَلَى من هُوَ أقرب منهما وسكنت فبينما أنا بَعْد ساعة إذ أنا بشيئ جاء وكشف عَن رأس البئر وأدلى رجله وكأنه يَقُول لي: تعلق بي فِي همهمة لَهُ كنت أعرف ذَلِكَ منه فتعلقت بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فأخرجني فَإِذَا هُوَ سبع فمر وهتف بي هاتف: يا أبا حمزة أليس هَذَا أَحْسَن؟ نجيناك من التلف بالتلف فمشيت وأنا أقول: أهابك أَن أبدي إليك الَّذِي أخفي ... وسري يبدي مَا يَقُول لَهُ طرفي نهاني حيائي منك أَن أكتم الهوى ... وأغنيتني بالفهم منك عَنِ الكشف تلطفت فِي أمري فأبديت شاهدي ... إِلَى غائبي واللطف يدرك باللطف تراءيت لي بالغيب حَتَّى كأنما ... تبشرني بالغيب أنك فِي الكف أراك وبي من هيبتي لَك وحشة ... فتؤنسني باللطف منك وبالعطف وتحيي محبا أَنْتَ فِي الحب حتفه ... وذا عجب كون الحياة مَعَ الحتف سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا سعدان التاهرتي يَقُول: سمعت حذيفة المرعشي يَقُول: وَقَدْ خدم إِبْرَاهِيم بْن أدهم وصحبه فقيل لَهُ: مَا أعجب مَا رأيت منه فَقَالَ: بقينا فِي طريق مَكَّة حرسها اللَّه تَعَالَى أياما لَمْ نجد طعاما ثُمَّ دخلنا الكوفة فأوينا إِلَى مَسْجِد خراب فنظر إِلَى إِبْرَاهِيم بْن أدهم وَقَالَ: يا حذيفة أرى بك أثر الجوع فَقُلْتُ هُوَ مَا رأى الشيخ فَقَالَ: عَلَى بدواة وقرطاس فجئت بِهِ فكتب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم أَنْتَ المقصود إِلَيْهِ بكل حال والمشار إِلَيْهِ بكل معنى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر ... أنا جائع أنا نائع أنا عاري هِيَ ستة وأنا الضمين لنصفها ... فكن الضمين لنصفها يا باري مدحي لغيرك لهب نار خضتها ... فأَجِرْ عُبَيْدك من دخول النار والنار عندي كالسؤال فهل ترى ... أَن لا تكلفني دخول النار ثُمَّ دفع إِلَى الرقعة وَقَالَ: اخرج ولا تعلق قلبك بغير اللَّه تَعَالَى وادفع الرقعة إِلَى أول من يلقاك قَالَ فخرجت فأول من لقيني رجل كَانَ عَلَى بغلة فدفعتها إِلَيْهِ فأخذها وبكى وَقَالَ: مَا فعل صاحب هذه الرقعة فَقُلْتُ: هُوَ فِي الْمَسْجِد الفلاني فدفع إِلَى صرة فِيهَا ست مائة دِينَار ثُمَّ لقيت رجلا آخر , فَقُلْتُ: من صاحب هذه البغلة فَقَالَ: نصراني فجئت إِلَى إِبْرَاهِيم بْن أدهم وأخبرته بالقصة فَقَالَ لا تمسها فَإِنَّهُ يجئ الساعة، فلما كَانَ بَعْد ساعة وافى النَّصْرَانِي وأكب عَلَى رأس إِبْرَاهِيم بْن أدهم وأسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 بَاب الشكر قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصَّفَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْفَاطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مِنْجَابٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ يَعْلَى , عَنْ أَبِي خَبَّابٍ , عَنْ عَطَاءٍ , قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَقُلْتُ: أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ مَا رَأَيْتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَبَكَتْ، وَقَالَتْ: وَأَيُّ شَأْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَجَبًا إِنَّهُ أَتَانِي فِي لَيْلَةٍ فَدَخَلَ مَعِي فِي فِرَاشِي أَوْ قَالَتْ: فِي لِحَافِي حَتَّى مَسَّ جِلْدِي جِلْدَهُ ثُمَّ قَالَ: يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ذَرِينِي أَتَعَّبَدُ لِرَبِّي. قَالَتْ: قُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ قُرْبَكَ. فَأَذِنْتُ لَهُ , فَقَامَ إِلَى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَأَكْثَرَ صَبَّ الْمَاءِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَبَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعَهُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ رَكَعَ فَبَكَى ثُمَّ سَجَدَ فَبَكَى، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَبَكَى فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى جَاءَ بِلالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُبْكِيكَ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا وَلِمَ لا أَفْعَلُ وَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190] الآيَةَ قَالَ الأستاذ: حقيقة الشكر عِنْدَ أهل التحقيق الاعتراف بنعمة المنعم عَلَى وجه الخضوع وعلى هذا القول يوصف الحق سبحانه بأنه شكور توسعا ومعناه أَنَّهُ يجازى الْعِبَاد عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الشكر فسمى جزاء الشكر شكرا كَمَا قَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] . وقيل: شكره إعطاؤه الكثير من الثوابت عَلَى العمل اليسير من قولهم دابة شكور إِذَا أظهرت من السمن فَوْقَ مَا تعطى من العلف ويحتمل أَن يقال: حقيقة الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه فشكر العبد لِلَّهِ تَعَالَى ثناؤه عَلَيْهِ بذكر إحسانه إِلَيْهِ وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عَلَيْهِ بذكر إحسانه لَهُ ثُمَّ إِن إحسان العبد طاعته لِلَّهِ تَعَالَى وإحسان الحق إنعامه عَلَى العبد بالتوفيق للشكر لَهُ وشكر العبد عَلَى الحقيقة إِنَّمَا هُوَ نطق اللسان وإقرار القلب بإنعام الرب تَعَالَى والشكر ينقسم إلى شكر باللسان وَهُوَ أعترافه بالنعمة بنعت الاستكانة وشكر بالبدن والأركان وَهُوَ اتصاف بالوفاق والخدمة وشكر القلب وَهُوَ اعتكاف عَلَى بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة ويقال: شكر هُوَ شكر العاملين يَكُون من جملة أقوالهم وشكر هُوَ نعت العابدين يَكُون نوعا من أفعالهم وشكر هُوَ شكر العارفين يَكُون باستقامتهم لَهُ فِي عموم أحوالهم وَقَالَ أَبُو بَكْر الوراق شكر النعمة مشاهدة المنة وحفظ الحرمة وَقَالَ حمدون القصار شكر النعمة أَن ترى نفسك فِيهِ طفيليا وَقَالَ الجنيد: الشك فِيهِ علة لأنه طَالِب لنفسه المزيد فَهُوَ واقفا مَعَ اللَّه تَعَالَى عَلَى حظ نَفْسه وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: الشكر معرفة العجز عَنِ الشكر ويقال: الشكر عَلَى الشكر أتم من الشكر وَذَلِكَ بأن ترى شكرك بتوفيقه ويكون ذَلِكَ التوفيق من أجل النعم عليك فتشكره عَلَى الشكر ثُمَّ تشكره عَلَى شكر الشكر إِلَى مالا يتناهى وقيل: الشكر إضافة النعم إِلَى موليها بنعت الاستكانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وَقَالَ الجنيد: الشكر أَن لا ترى نفسك أهلا للنعمة وَقَالَ رويم الشكر استفراغ الطاقة. وقيل: الشاكر الَّذِي شكر عَلَى الموجود والشكور الَّذِي يشكر عَلَى المفقود ويقال: الشاكر الَّذِي يشكر على الرفد والشكور الَّذِي يشكر عَلَى الرد ويقال: الشاكر الَّذِي يشكر على النفع والشكور الَّذِي يشكر على المنع ويقال: الشاكر الَّذِي يشكر عَلَى العطاء والشكور الَّذِي يشكر عَلَى البلاء ويقال: الشاكر الَّذِي يشكر عِنْدَ البذل والشكور الَّذِي يشكر عِنْدَ المطل. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي يَقُول: سمعت المرتعش يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول كنت بَيْنَ يدي السري ألعب وأنا ابْن سبع سنين وبين يديه جَمَاعَة يتكلمون فِي الشكر فَقَالَ لي: يا غلام مَا الشكر فَقُلْتُ: أَن لا تعصى اللَّه بنعمة فَقَالَ: يوشك أَن يَكُون حظك من اللَّه تَعَالَى لسانك. قَالَ الجنيد: فلا أزال أبكي عَلَى هذه الكلمة الَّتِي قالها السري. وَقَالَ الشبلي: المنعم لا روية النعمة وقيل: الشكر قيد الموجود وصيد المفقود وَقَالَ أَبُو عُثْمَان شكر العامة عَلَى المطعم والملبس وشكر الخواص عَلَى مَا يرد عَلَى قلوبهم من المعاني. وقيل: قَالَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام إلهي كَيْفَ أشكرك وشكري لَك نعمة من عندك فأوحى اللَّه إِلَيْهِ: الآن قَدْ شكرتني وقيل: قَالَ موسي عَلَيْهِ السَّلام فِي مناجاته: إلهي خلقت آدم بيدك فعلت وفعلت , فكيف شكرك فَقَالَ: علم أَن ذَلِكَ منى فكانت معرفته بِذَلِكَ شكره لي. وقيل: كَانَ لبعضهم صديق فحبسه السلطان فأرسل إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ صاحبه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أشكر اللَّه تَعَالَى فضرب الرجل فكتب إِلَيْهِ فَقَالَ: اشكر اللَّه تَعَالَى فجئ بمجوسي مبطون وقيد وجعلت حلقة من قيده عَلَى رجل هَذَا وحلقه عَلَى رجل المجوسي فكان يقوم المجوسي بالليل مرات وَهَذَا يحتاج أَن يقوم عَلَى رأسه حَتَّى يفرغ فكتب إِلَى صاحبه فَقَالَ: أشكر اللَّه تَعَالَى فَقَالَ: إِلَى مَتَى تقول وأي بلاء فَوْقَ هَذَا فَقَالَ لَهُ صاحبه: لو وضع الزنار الَّذِي فِي وسطه فِي وسطك كَمَا وضع القيد الَّذِي فِي رجله فِي رجلك ماذا كنت تصنع؟ . وقيل: دَخَلَ رجل عَلَى سهل بْن عَبْد اللَّهِ فَقَالَ: إِن اللص دَخَلَ داري وأخذ متاعي فَقَالَ: اشكر اللَّه تَعَالَى لو دَخَلَ اللص قلبك وَهُوَ الشَّيْطَان وأفسد التوحيد ماذا كنت تصنع. وقيل: شكر العينين أَن تستر عيبا تراه بصاحبك وشكر الأذنين أَن تستر عيبا تسمعه فِيهِ. وقيل: الشكر التلذذ بثنائه عَلَى مَا لَمْ يستوجبه من عطائه. سمعت السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن يَحْيَي يَقُول: سمعت جعفرا يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: كَانَ السري إِذَا أراد أَن ينفعني يسألني فَقَالَ لي يوما: يا أبا القاسم إيش الشكر؟ فَقُلْتُ: أَن لا يستعان بشيء من نعم اللَّه تَعَالَى عَلَى معاصيه فَقَالَ: من أين لَك هَذَا؟ فَقُلْتُ من مجالستك وقيل: التزم الْحَسَن بْن عَلِيّ الركن وَقَالَ: إلهي نعمتني فلم تجدني شاكرا وابتليتني فلم تجدني صابرا فلا أَنْتَ سلبت النعمة بترك الشكر ولا أدمت الشدة بترك الصبر إلهي مَا يَكُون من الكريم إلا الكرم. وقيل: إِذَا قصرت يدك عَنِ المكافأ فليطل لسانك بالشكر. وقيل: أربعة لا ثمرة لأعمالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 مسارة الأصم وواضع النعمة عِنْدَ من لا يشكر والباذر فِي السبخة والمسرج فِي الشَّمْس وقيل: لما بشر إدريس عَلَيْهِ السَّلام بالمغفرة سأل الحياة فقيل لَهُ فِيهِ فَقَالَ: لأشكره فإني كنت أعمل قبله للمغفرة فبسط الْمَلِك جناحه وحمله إِلَى السماء. وقيل: مر بَعْض الأنبياء عَلَيْهِم السَّلام بحجر صَغِير يخرج منه الماء الكثير فتعجب منه فأنطقه اللَّه تَعَالَى مَعَهُ فَقَالَ: مذ سمعت اللَّه تَعَالَى يَقُول: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] أنا أبكى من خوفه قَالَ فدعا ذَلِكَ النَّبِي أَن يجير اللَّه ذَلِكَ الحجر فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: إني أجرته من النار فمر ذَلِكَ النَّبِي فلما عاد وجد الماء يتفجر منه مثل ذَلِكَ فعجب فأنطق اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الحجر مَعَهُ فَقَالَ: لَمْ تبكى وَقَدْ غفر اللَّه تَعَالَى لَك فَقَالَ: ذَلِكَ كَانَ بكاء الحزن والخوف وَهَذَا بكاء الشكر والسرور. وقيل: الشاكر مَعَ المزيد لأنه فِي شهود النعمة قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] والصابر مَعَ اللَّه تَعَالَى لأنه بشهود المبتلى قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] وقيل: قدم وفد على عمر بْن عَبْد الْعَزِيز وَكَانَ فيهم شاب فأخذ يخطب فَقَالَ عُمَر: الكبر الكبر فَقَالَ الشاب: يا أمير الْمُؤْمِنيِنَ لو كَانَ الأمر بالسن لكان فِي الْمُسْلِمِينَ من هُوَ أسن منك فَقَالَ: تكلم فَقَالَ: لسنا وفد الرغبة ولا وفد الرهبة. أما الرغبة فَقَدْ أوصلها إلينا فضلك. وَأَمَّا الرهبة فَقَدْ أمننا منها عدلك فَقَالَ: فمن أنتم؟ فَقَالَ: وفد الشكر جئناك نشكرك وننصرف، وأنشدوا: ومن الرزية أَن شكري صامت ... عما فعلت وأن برك ناطق ورأى الصنيعة منك ثُمَّ أسرها ... إني إذن ليد الكريم لسارق وقيل: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام: ارحم عبادي المبتلى والمعافى فَقَالَ: مَا بال المعافى فَقَالَ: لقلة شكرهم عَلَى عافيتي إياهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وقيل: الحمد عَلَى الأنفاس والشكر عَلَى نعم الحواس وقيل: الحمد ابتداء منه والشكر افتداء منك، وَفِي الْخَبَر الصحيح أول من يدعى إِلَى الْجَنَّة الحامدون لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى كُل حال. وقيل: الحمد عَلَى مَا دفع والشكر عَلَى مَا صنع. وحكى عَن بَعْضهم أَنَّهُ قَالَ: رأيت فِي بَعْض الأسفار شيخا كبيرا قَدْ طعن فِي السن فسألته عَن حاله فَقَالَ: إني كنت فِي ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي وَهِيَ لي كَذَلِكَ تهواني فاتفق أَنَّهَا زوجت منى فليلة زفافها قُلْنَا: تعال حَتَّى نحيي هذه الليلة شكرا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا جمعنا فصلينا تلك الليلة وَلَمْ يتفرغ أحدنا لصاحبه فلما كانت الليلة الثَّانِيَة قُلْنَا: مثل ذَلِكَ فمنذ سبعين أَوْ ثمانين سنة نحن عَلَى تلك الصفة كُل ليلة أليس كَذَلِكَ يا فلانة؟ فَقَالَت العجوز: كَمَا يَقُول الشيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 بَاب اليقين قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] حَدَّثَنَا الأُسْتَاذُ الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فَوْرَكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ خَرْزَاذَ الأَهْوَازِيُّ بِهَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ يَعْنِي: ابْنَ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: لا تَرْضِيَنَّ أَحَدًا بِسَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلا تَحْمِدَنَّ أَحَدًا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلا تَذُمَّنَّ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ رِزْقَ اللَّهِ تَعَالَى لا يَسُوقُهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ وَلا يَرُدُّهَ عَنْكَ كَرَاهَةُ كَارِهٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا، وَالْيَقِينِ وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ أَخْبَرَنَا الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سَعِيد الرازي , قَالَ: حَدَّثَنَا عياش بْن حمزة , قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحواري , قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الأنطاكي: إِن أقل اليقين إِذَا وصل إِلَى القلب يملأ القلب نورا وينفي عَنْهُ كُل ريب ويمتلئ القلب بِهِ شكرا ومن اللَّه تَعَالَى خوفا. ويحكى عَن أَبِي جَعْفَر الحداد قَالَ: رآني أَبُو تراب النخشبي وأنا فِي البادية جالس عَلَى بركة ماء ولى ستة عشر يوما لَمْ آكل وَلَمْ أشرب فَقَالَ لي: مَا جلوسك؟ فَقُلْتُ: أنا بَيْنَ العلم واليقين أنتظر مَا يغلب فأكون مَعَهُ يَعْنِي: إِن غلب العلم شربت وإن غلب اليقين مررت فَقَالَ: سيكون لَك شأن وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الحيرى: اليقين قلة الاهتمام لغد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: اليقين من زيادة الإيمانه ومن تحقيقه، وَقَالَ سهل أَيْضًا: اليقين شُعْبَة من الإيمان وَهُوَ دُونَ التصديق. وَقَالَ بَعْضهم: اليقين هُوَ العلم المستودع فِي القلوب يشير هَذَا القائل إِلَى أَنَّهُ غَيْر مكتسب. وَقَالَ سهل: ابتداء اليقين المكاشفة ولذلك قَالَ بَعْض السلف: لو كشف الغطاء مَا ازددت يقينا ثُمَّ المعاينة والمشاهدة، وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف: اليقين تحقق الأسرار بأحكام المغيبات. وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن طاهر: العلم بمعارضة الشكوك، واليقين لا شك فِيهِ أشار إِلَى العلم الكسبي وَمَا يجري مجرى البديهي وَكَذَلِكَ علوم الْقَوْم فِي الابتداء كسبي وَفِي الانتهاء بديهي. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: قَالَ بَعْضهم: أَوِ المقامات المعرفة ثُمَّ اليقين ثُمَّ التصديق ثُمَّ الإخلاص ثُمَّ الشهادة ثُمَّ الطاعة والإيمان اسم يجمع هَذَا كُلهُ أشار هَذَا القائل إِلَى أَن أول الواجبات هُوَ المعرفة بالله سبحانه وتعالى والمعرفة لا تحصل إلا بتقديم شرائطها وَهُوَ النظر الصائب، ثُمَّ إِذَا توالت الأدلة وحصل البيان صار بتوالي الأنوار وحصول الاستبصار كالمستغني عَن تأمل البرهان وَهُوَ حال اليقين ثُمَّ تصديق الحق سبحانه فيما أخبر عِنْدَ إصغائه إِلَى إجابة الداعي فيما يخبر من أفعاله سبحانه فِي المستأنف، لأن التصديق إِنَّمَا يَكُون فِي الإخبار ثُمَّ الإخلاص فيما يتعقبه من أداء الأوامر ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ إظهار الإجابة بجميل الشهادة ثُمَّ أداء الطاعات بالتوحيد فيما أمر بِهِ والتجرد عما زجر عَنْهُ، وإلى هَذَا المعنى أشار الإِمَام أَبُو بَكْر بْن فورك فيما سمعته يَقُول: ذكر اللسان فضلة يفيض عَلَيْهَا القلب. وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: حرام عَلَى قلب أَن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إِلَى غَيْر اللَّه تَعَالَى. وَقَالَ ذو النون الْمِصْرِي: اليقين داع إِلَى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إِلَى الزهد، والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر فِي العواقب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سهل يَقُول: سمعت سَعِيد بْن عُثْمَان يَقُول: سمعت ذا النون الْمِصْرِي يَقُول: ثلاثة من أعلام اليقين: قلة مخالطة النَّاس فِي العشرة، وترك المدح لَهُمْ فِي العطية، والتنزه عَن ذمهم عِنْدَ المنع. وثلاثة من أعلام يقين اليقين: النظر إلى الله تَعَالَى فِي كُل شَيْء، والرجوع إِلَيْهِ فِي كُل أمره، والاستعانة بِهِ فِي كُل حال. وَقَالَ الجنيد: اليقين هُوَ استقرار العلم الَّذِي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير فِي القلب. وَقَالَ ابْن عَطَاء: عَلَى قدر قربهم من التقوى أدركوا مَا أدركوا من اليقين. وأصل التقوى مباينة النهي، ومباينة النهى مباينة النفس، فعلى قدر مفارقتهم النفس وصلوا إِلَى اليقين، وَقَالَ بَعْضهم: اليقين هُوَ المكاشفة، والمكاشفة عَلَى ثلاثة أوجه: مكاشفة بالإخبار ومكاشفة بإظهار القدرة، ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان. واعلم أَن المكاشفة فِي كلامهم عبارة عَن ظهور الشيء للقلب باستيلاء ذكره من غَيْر بقاء للريب، وربما أرادوا بالمكاشفة مَا يقرب مِمَّا يراه الرائي بَيْنَ اليقظة والنوم , وكثيرا مَا يعبر هَؤُلاءِ عَن هذه الحالة بالثبات , سمعت الإِمَام أبا بَكْر بْن فورك يَقُول سألت أبا عُثْمَان المغربي، فَقُلْتُ مَا هَذَا الَّذِي تقول؟ قَالَ الأشخاص أراهم كَذَا وكذا، فَقُلْتُ تراهم معاينة أَوْ مكاشفة؟ قَالَ: مكاشفة وَقَالَ عامر بْن عَبْد قَيْس: لو كشف الغطاء مَا ازددت يقينا، وقيل: اليقين رؤية العيان بقوة الإيمان، وقيل: اليقين زوال المعارضات. وَقَالَ الجنيد: اليقين ارتفاع الريب فِي مشهد الغيب. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول فِي قَوْل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عيسى بْن مريم عَلَيْهِ السَّلام لو ازداد يقينا لمشى فِي الهواء قَالَ رحمه اللَّه تَعَالَى: إنه أشار بِهَذَا إِلَى حال نَفْسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج، لأن فِي لطائف المعراج أَنَّهُ قَالَ: رأيت البراق قَدْ بقى ومشيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن فاتك يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: سمعت السري يَقُول وَقَدْ سئل عَنِ اليقين فَقَالَ: اليقين سكونك عِنْدَ جولان الموارد فِي صدرك لتيقنك أَن حركتك فِيهَا لا تنفعك ولا ترد عَنْك مقضيا، وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت عَلِي بْن سهل يَقُول الحضور أفضل من اليقين، لأن الحضور وطنات واليقين خطرات كَأَنَّهُ جعل اليقين ابتداء الحضور والحضور دوام المشاهدة يعنى أَن فِي المشاهدة يقينا لا شك فِيهِ لأنه لا يشاهده من لا يثق بِمَا منه وَقَالَ أَبُو بَكْر الوراق اليقين ملاك القلب وَبِهِ كمال الإيمان وباليقين عرف اللَّه تَعَالَى وبالعقل عقل عَنِ اللَّه تَعَالَى وَقَالَ الجنيد: قَدْ مشى رجال باليقين على الماء وَمَاتَ بالعطش أفضل مِنْهُم يقينا. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن يَحْيَي يَقُول: سمعت جعفرا يَقُول: قَالَ إِبْرَاهِيم الخواص: لقيت غلاما فِي التيه كَأَنَّهُ سبيكة فضة فَقُلْتُ: إِلَى أين يا غلام فَقَالَ: إِلَى مَكَّة حرسها اللَّه تَعَالَى فَقُلْتُ: بلا زاد ولا راحة ولا نفقة فَقَالَ لي: يا ضعيف اليقين الَّذِي يقدر عَلَى حفظ السموات والأرضين لا يقدر عَلَى أَن يوصلني إِلَى مَكَّة بلا علاقة قَالَ فلما دخلت مَكَّة حرسها اللَّه تَعَالَى إذ أنا بِهِ فِي الطواف وَهُوَ يَقُول: يا عين سجي أبدا ... يا نفس موتي كمدا ولا تحبي أحدا ... إلا الجليل الصمدا فلما رآني قَالَ لي: يا شيخ أَنْتَ بَعْد عَلَى ذَلِكَ الضعف من اليقين. وسمعته يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت النهرجوري يَقُول: إِذَا استكمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة والرخاء مصيبة. وَقَالَ أَبُو بَكْر الوراق: اليقين عَلَى ثلاثة: أوجه يقين خبر ويقين دلالة ويقين مشاهدة وَقَالَ أَبُو تراب: رأيت غلاما فِي البادية يمشى بلا زاد فَقُلْتُ: إِن لَمْ يكن مَعَهُ يقين فَقَدْ هلك فَقُلْتُ: يا غلام فِي مثل هَذَا الموضع بلا زاد فَقَالَ: يا شيخ ارفع رأسك هل ترى غَيْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقُلْتُ: الآن اذهب حيث شئت. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا نصر الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عيسى يَقُول: قَالَ أَبُو سَعِيد الخراز العلم مَا استعملك واليقين مَا حملك. وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان الأدمي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم الخواص يَقُول طلبت المعاش لأكل الحلال فاصطدت السمك فيوما وقعت فِي الشبكة سمكة فأخرجتها وطرحت الشبكة فِي الماء فوقعت أُخْرَى فِيهَا فرميت بِهَا ثُمَّ عدت فهتف بي هاتف لَمْ تجد معاشا إلا أَن تأتي من يذكرنا فتقتلهم قَالَ فكسرت القصبة وتركت الاصطياد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 بَاب الصبر قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} [النحل: 127] أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَرَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسِيدُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ , عَنِ الزَّيَّاتِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَفَعَتْهُ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِرْادَسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى ثُمَّ الصبر عَلَى أقسام: صبر عَلَى مَا هُوَ كسب للعبد وصبر عَلَى مَا لَيْسَ بكسب , فالصبر عَلَى المكتسب عَلَى قسمين: صبر عَلَى مَا أمر اللَّه تَعَالَى بِهِ وصبر عَلَى مَا نهى عَنْهُ وَأَمَّا الصبر عَلَى مَا لَيْسَ بمكتسب للعبد فصبره عَلَى مقاساة مَا يتصل بِهِ من حكم اللَّه فيما يناله فِيهِ مشقة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن يَحْيَي يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: المسير من الدنيا إِلَى الآخرة سهل هين عَلَى المؤمن وهجران الخلق فِي جنب اللَّه شديد والمسير من النفس إِلَى اللَّه تَعَالَى صعب شديد والصبر مَعَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أشد فسئل عَنِ الصبر فَقَالَ: تجرع المرارة من غَيْر تعبيس وَقَالَ عَلِي بْن أَبِي طَالِب كرم اللَّه وجهه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وَقَالَ أَبُو القاسم الحكيم قَوْله تَعَالَى: {وَاصْبِرْ} [النحل: 127] أمر بالعبادة وقوله تَعَالَى: {وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} [النحل: 127] عبودية فمن ترقى من درجة لَك إِلَى درجة بك فَقَد انتقل من درجة العبادة إِلَى درجة العبودية قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بك أحيا وبك أموت. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الرازي يَقُول: سمعت عياشا يَقُول: سمعت أَحْمَد يَقُول: سألت أبا سُلَيْمَان عَنِ الصبر فَقَالَ: والله مَا نصبر عَلَى مَا نحب فكيف عَلَى مَا نكره وَقَالَ ذو النون: الصبر التباعد عَنِ المخالفات والسكون عِنْدَ تجرع غصص البلية وإظهار الغنى مَعَ حلول الفقر بساحات المعيشة وَقَالَ ابْن عَطَاء: الصبر الوقوف مَعَ البلاء بحسن الأدب وقيل: هُوَ الفناء فِي البلوى بلا ظهور شكوى وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: الصبار الذي عود نَفْسه الهجوم عَلَى المكاره وقيل: الصبر المقام مَعَ البلاء بحسن الصحبة كالمقام مَعَ العافية وَقَالَ أَبُو عُثْمَان أَحْسَن الجزاء عَلَى عُبَادَة الجزاء عَلَى الصبر ولا جزاء فوقه قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96] وَقَالَ عَمْرو بْن عُثْمَان: الصبر هُوَ الثبات مَعَ اللَّه تَعَالَى وتلقى بلائه بالرحب والدعة وَقَالَ الخواص: الصبر الثبات عَلَى أحكام الكتاب والسنة وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين واعجبا كَيْفَ يصبرون وأنشدوا: الصبر يجمل فِي المواطن كلها ... إلا عليك فَإِنَّهُ لا يجمل وَقَالَ رويم: الصبر ترك الشكوى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وَقَالَ ذو النون: الصبر هُوَ الاستعانة بالله تَعَالَى. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق، يَقُول: الصبر كاسمه. وأنشدني الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ، قَالَ: أنشدني أَبُو بَكْر الرازي، قَالَ: أنشدني ابْن عَطَاء لنفسه: سأصبر كي ترضى وأتلف حسرة ... وحسبي أَن ترضى ويتلفني صبري وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف: الصبر عَلَى ثلاثة أقسام: متصبر وصابر وصبار. وَقَالَ عَلِي بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصبر مطية لا تكبو. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن، يَقُول: سمعت عَلِي بْن عَبْد اللَّهِ البصري، يَقُول: وقف رجل عَلَى الشبلي، فَقَالَ: أي صبر أشد عَلَى الصابرين؟ فَقَالَ: الصبر فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: لا، فَقَالَ: الصبر لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ: لا، قَالَ: الصبر مَعَ اللَّه تَعَالَى. قَالَ: لا، قَالَ: فأي شَيْء؟ قَالَ: الصبر عَنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه أَن تتلف، وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان، يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد الجريري، يَقُول: الصبر أَن لا يفرق بَيْنَ حال النعمة والمحنة مَعَ سكون الخاطر فيهما، والتصبر هُوَ السكون مَعَ البلاء مَعَ وجدان أثقال المحنة، وأنشد بَعْضهم: صبرت وَلَمْ أطلع هواك عَلَى صبري ... وأخفيت مَا بي منك عَن موضع الصبر مخافة أَن يشكو ضميري صبابتي ... إِلَى دمعتي سرا فتجري ولا أدري سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق، يَقُول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فاز الصابرون بعز الدارين، لأنهم نالوا من اللَّه تَعَالَى معيته، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] ، وقيل: فِي معنى قَوْله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] ، الصبر دُونَ المصابرة، والمصابرة دُونَ المرابطة، وقيل: اصبروا بنفوسكم عَلَى طاعة اللَّه تَعَالَى، وصابروا بقلوبكم عَلَى البلوى فِي اللَّه تَعَالَى، ورابطوا بأسراركم عَلَى الشوق إِلَى اللَّه تَعَالَى، وقيل: اصبروا فِي اللَّه تَعَالَى وصابروا بالله تَعَالَى ورابطوا مَعَ اللَّه تَعَالَى. وقيل: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام: تخلق بأخلاقي وإن من أخلاقي أنني أنا الصبور، وقيل: تجرع الصبر فَإِن قتلك قتلك شهيدا، وإن أحياك أحياك عزيزا، وقيل: الصبر لِلَّهِ تَعَالَى عناء، والصبر بالله تَعَالَى بقاء، والصبر فِي اللَّه تَعَالَى بلاء، والصبر مَعَ اللَّه تَعَالَى وفاء، والصبر عَنِ اللَّه تَعَالَى جفاء، وأنشدوا: والصبر عَنْك فمذموم عواقبه ... والصبر فِي سائر الأشياء محمود وأنشدوا: وكيف الصبر عمى حل منى ... بمنزلة اليمين من الشمال إِذَا لعب الرجال بكل شَيْء ... رأيت الحب يلعب بالرجال وقيل الصبر عَلَى الطلب عنوان الظفر والصبر فِي المحن عنوان الفرج. سمعت مَنْصُور بْن خلف المغربي يَقُول: جرد واحد للسياط فلما رد إِلَى السجن دعا ببعض أَصْحَابه فتفل عَلَى يده وألقى من فمه دقاق الفضة عَلَى يده فسئل فَقَالَ: كَانَ فِي فمي درهمان وَكَانَ عَلَى حاشية الحلقة لي عين لَمْ أرد أَن أصيح لرؤيته إياي فكنت أعض عَلَى الدرهمين فتكسرا فِي فهمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وقيل: حالك الَّتِي أَنْتَ فِيهَا رباطك وَمَا دُونَ اللَّه تَعَالَى أعداؤك فأحسن المرابطة فِي رباط حالك. وقيل: المصابرة هِيَ الصبر عَلَى الصبر حَتَّى يستغرق الصبر فِي الصبر فيعجز الصبر عَنِ الصبر كَمَا قيل: صابر الصبر فاستغاث بِهِ الصبر فصاح المحب بالصبر صبرا وقيل حبس الشبلي وقتا فِي المارستان فدخل عَلَيْهِ جَمَاعَة فَقَالَ: من أنتم؟ فَقَالُوا: أحباؤك جاءوا زائرين فأخذ يرميهم بالحجر وأخذوا يهربون فَقَالَ: يا كذابون لو كنتم أحبائي لصبرتم عَلَى بلائي وَفِي بَعْض الأخبار: بعيني مَا لَمْ يتحمل المتحملون من أجلى وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وَقَالَ بَعْضهم: كنت بمكة حرسها اللَّه تَعَالَى فرأيت فقيرا طاف بالبيت وأخرج من جيبه رقعة ونظر فِيهَا ومر فلما كَانَ بالغد فعل مثل ذَلِكَ فترقبته أياما وَهُوَ يفعل مثله فيوما من الأيام طاف ونظر فِي الرقعة وتباعد قليلا وسقط ميتا فأخرجت الرقعة من جيبه فَإِذَا فِيهَا: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وقيل: رؤى حدث يضرب وجه شيخ بنعله فقيل لَهُ: ألا تستحي تضرب حر وجه شيخ مثل هَذَا فَقَالَ: جرمه عظيم فقيل: وَمَا ذاك؟ فَقَالَ: هَذَا الشيخ يدعى أَنَّهُ يهواني ومنذ ثَلاث مَا رآني، وَقَالَ بَعْضهم: دخلت بلاد الهند فرأيت رجلا بفرد عين يسمى فلانا الصبور فسألت عَن حاله فقيل هَذَا فِي عنفوان شبابه سافر صديق لَهُ فخرج فِي وداعه فدمعت إحدى عينيه وَلَمْ تبك الأخرى فَقَالَ: لعينه الَّتِي لَمْ تدمع لِمَ لَمْ تدمعي على فراق صاحبي؟ لأحرمنك النظر إلى الدنيا وغمض عينه فمنذ ستين سنة لَمْ يفتح عينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا} [المعارج: 5] الصبر الجميل أَن يَكُون صاحب المصيبة فِي الْقَوْم لا يدرى من هُوَ وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رضى اللَّه عَنْهُ: لو كَانَ الصبر والشكر بعيرين لَمْ أبال أيهما ركبت وَكَانَ ابْن شبرمة إِذَا نزل بِهِ بلاء قَالَ: سحابة ثُمَّ تنقشع وَفِي الْخَبَر. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عَنِ الإيمان فَقَالَ: الصبر والسماحة أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طَاهِرٍ الصُّوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّيجَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ بْنِ عُمَيْرٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدِّهِ , قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الإِيمَانِ، فَقَالَ: الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ وسئل السري عَنِ الصبر فجعل يتكلم فِيهِ فدب عَلَى رجله عقرب وَهِيَ تضربه بإبرتها ضربات كثيرة وَهُوَ ساكن فقيل لَهُ: لِمَ لَمْ تنحها؟ قَالَ: استحييت من اللَّه تَعَالَى أَن أتكلم فِي الصبر وَلَمْ أصبر وَفِي بَعْض الأخبار: الفقراء الصبر هُمْ جلساء اللَّه يَوْم الْقِيَامَة. وأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى بَعْض أنبيائه أنزلت بعبدي بلائي فدعاني فماطلته بالإجابة فشكاني فَقُلْتُ: عبدي كَيْفَ أرحمك من شَيْء بِهِ أرحمك وَقَالَ ابْن عيينة فِي معنى قَوْله تَعَالَى: وجعلنا مِنْهُم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا قَالَ: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤساء سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ يَقُول: إِن الصبر حده أَن لا تعترض عَلَى التقدير فأما إظهار البلاء عَلَى غَيْر وجه الشكوى فلا ينافي الصبر قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي قصة أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 44] مَعَ مَا أَخْبَرَنَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وسمعته يَقُول: استخرج اللَّه منه هذه المقالة يَعْنِي قَوْله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] لتكون متنفسا لضعفاء هذه الأمة. وَقَالَ بَعْضهم: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] وَلَمْ يقل: صبورا لأنه لَمْ يكن جَمِيع أحواله الصبر بَل كَانَ فِي بَعْض أحواله يستلذ البلاء ويستعذبه فلم يكن فِي حالة الاستلذاذ صابرا فلذلك لَمْ يقل صبورا. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ يَقُول: حقيقة الصبر الخروج من البلاء عَلَى حسب الدخول فِيهِ مثل أيوب عَلَيْهِ السَّلام قَالَ فِي آخر بلائه: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] فحفظ أدب الْخَطَّاب حيث عرض بقوله: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] وَلَمْ يصرح بقوله ارحمني. واعلم أَن الصبر عَلَى ضريين صبر العابدين وصبر المحبين فصبر العابدين أحسنه أَن يَكُون محفوظا وصبر المحبين أحسنه أَن يَكُون مرفوضا. وَفِي معناه أنشدوا: تبين يَوْم البين أَن اعتزامه ... عَلَى الصبر من إحدى الظنون الكواذب وَفِي هَذَا المعني سمعت الأستاذ أبا عَلي رحمه اللَّه تَعَالَى يَقُول أصبح يعقوب عَلَيْهِ السَّلام وَقَدْ وعد الصبر من نَفْسه فَقَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 83] أي: فشأني صبر جميل , ثُمَّ لَمْ يمس حَتَّى قَالَ {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 بَاب المراقبة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52] أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ , عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ , عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ , قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ. قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَتَعَجَّبْنَا مِنْ تَصْدِيقِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَسْأَلُهُ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَا الإِسْلامُ؟ قَالَ: الإِسْلامُ أَنْ تُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ , وَتَصُومَ رَمَضَانَ , وَتَحُجَّ الْبَيْتَ قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبَرْنِي مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: صَدَقْتَ الْحَدِيثَ قَالَ الشيخ: هَذَا الَّذِي قاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِن لَمْ تكن تراه فَإِنَّهُ يراك إشارة إِلَى حال المراقبة، لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب سبحانه وتعالى عَلَيْهِ واستدامته لِهَذَا العلم مراقبة لربه وَهَذَا أصل كُل خير لَهُ ولا يكاد يصل إِلَى هذه الرتبة إلا بَعْد فراغه من المحاسبة فَإِذَا حاسب نَفْسه عَلَى مَا سلف وأصلح حاله فِي الوقت ولازم طريق الحق وأحسن بينه وبين اللَّه تَعَالَى مراعاة القلب وحفظ مَعَ اللَّه تَعَالَى الأنفاس راقب اللَّه تَعَالَى فِي عموم أحواله فيعلم أَنَّهُ سبحانه عَلَيْهِ رقيب ومن قلبه قريب يعلم أحواله ويرى أفعاله ويسمع أقواله ومن تغافل عَن هذه الجملة فَهُوَ بمعزل عَن بداية الوصلة فكيف عَن حقائق القربة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: من لَمْ يحكم بينه وبين اللَّه تَعَالَى التقوى والمراقبة لَمْ يصل إِلَى الكشف والمشاهدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: كَانَ لبعض الأمراء وزير وَكَانَ بَيْنَ يديه يوما فالتفت إِلَيْهِ بَعْض الغلمان الَّذِينَ كَانُوا وقوفا لا لريبة ولكن لحركة أَوْ صوت أحس بِهِ مِنْهُم فاتفق أَن ذَلِكَ الأمير نظر إِلَى هَذَا الوزير فِي تلك الحالة فخاف الوزير أَن يتوهم الأمير أَنَّهُ نظر إليهم لريبة فجعل ينظر إِلَيْهِ كَذَلِكَ فبعد ذَلِكَ اليوم كَانَ هَذَا الوزير يدخل عَلَى هَذَا الأمير وَهُوَ أبدا ينظر إِلَى جانب حَتَّى توهم الأمير أَن ذَلِكَ خلقه وحول فِيهِ فهذا مراقبة مخلوق لمخلوق فكيف مراقبة العبد لسيده. سمعت بَعْض الفقراء يَقُول كَانَ أمِير لَهُ غلام يقبل عَلَيْهِ أَكْثَر من إقباله عَلَى غيره من غلمانه وَلَمْ يكن أكثرهم قيمة ولا أحسنهم صورة فَقَالُوا لَهُ فِي ذَلِكَ فأراد الأمير أَن يبين لَهُمْ فضل الغلام فِي الخدمة عَلَى غيره فيوما من الأيام كَانَ راكبا ومعه الحشم وبالبعد مِنْهُم جبل عَلَيْهِ ثلج فنظر الأمير إِلَى ذَلِكَ الثلج وأطرق رأسه فركض الغلام فرسه وَلَمْ يعلم الْقَوْم لماذا ركض فلم يلبث إلا يسيرا حَتَّى جاء ومعه شَيْء من الثلج فَقَالَ لَهُ الأمير: مَا أدراك أني أردت الثلج فَقَالَ الغلام: لأنك نظرت إِلَيْهِ ونظر السلطان إِلَى شَيْء لا يَكُون عَن غَيْر قصد صحيح. فَقَالَ الأمير: إِنَّمَا أخصه بإكرامي وإقبالي، لأن لكل أحد شغلا وشغله مراعاة لحظاتي ومراقبة أحوالي وَقَالَ بَعْضهم: من راقب اللَّه تَعَالَى فِي خواطره عصمه اللَّه تَعَالَى فِي جوارحه وسئل أَبُو الْحُسَيْن بْن هند: مَتَى يهش الراعي غنمه بعصا الرعاية من مراتع الهلكة فَقَالَ: إِذَا علم أَن عَلَيْهِ رقيبا. وقيل: كَانَ ابْن عُمَر فِي سفر فرأى غلاما يرعى غنما فَقَالَ لَهُ: تبيع من هذه الغنم. واحدة فَقَالَ: إنها ليست لي فَقَالَ: قل لصاحبها إِن الذئب أخذ منها واحدة فَقَالَ العبد: فأين اللَّه فكان ابْن عُمَر يَقُول بَعْد ذَلِكَ إِلَى مدة قَالَ ذَلِكَ العبد فأين اللَّه. وَقَالَ الجنيد: من تحقق فِي المراقبة خاف عَلَى فوت حظه من ربه عَزَّ وَجَلَّ لا غَيْر وَكَانَ بَعْض المشايخ لَهُ تلامذة فكان يخص واحدا مِنْهُم بإقباله عَلَيْهِ أَكْثَر مِمَّا يقبل عَلَى غيره فَقَالُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أبين لكم فدفع إِلَى كُل واحد من تلامذته طائرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وَقَالَ لَهُ: اذبحه بحيث لا يراه أحد ودفع إِلَى هَذَا أَيْضًا فمضوا ورجع كُل واحد مِنْهُم وَقَدْ ذبح طائره وجاء هَذَا بالطائر حيا فَقَالَ: هلا ذبحته فَقَالَ: أمرتني أَن أذبحه بحيث لا يراه أحد وَلَمْ أجد موضعا لا يراه فِيهِ أحد فَقَالَ: لِهَذَا أخصه بإقبالي عَلَيْهِ. وَقَالَ ذو النون: علامة المراقبة إيثار مَا آثر اللَّه تَعَالَى وتعظيم مَا عظم اللَّه تَعَالَى وتصغير مَا صغر اللَّه تَعَالَى. وَقَالَ النصرأباذي: الرجاء يحركك إِلَى الطاعات والخوف يبعدك عَنِ المعاصي والمراقبة تؤديك إِلَى طرق الحقائق سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول سألت جَعْفَر بْن نصير عَنِ المراقبة فَقَالَ: مراعاة السر لملاحظة الحق سبحانه مَعَ كُل خطرة وسمعته يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الفارسي يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: أمرنا هَذَا مبنى عَلَى فصلين: وَهُوَ أَن تلزم نفسك المراقبة لِلَّهِ تَعَالَى ويكون العلم عَلَى ظاهرك قائما وسمعته يَقُول: سمعت أبا القاسم البغدادي يَقُول: سمعت المرتعش يَقُول: المراقبة مراعاة السر بملاحظة الغيب مَعَ كُل لحظة ولفظة وسئل ابْن عَطَاء مَا أفضل الطاعات فَقَالَ: مراقبة الحق عَلَى دوام الأوقات وَقَالَ إِبْرَاهِيم الخواص المراعاة تورث المراقبة والمراقبة تورث خلوص السر والعلانية لِلَّهِ تَعَالَى. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول أفضل مَا يلزم بِهِ الإِنْسَان نَفْسه فِي هذه الطريقة المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم وسمعته يقول: سمعت عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان يَقُول: قَالَ لي أَبُو حفص إِذَا جلست لِلنَّاسِ فكن واعظا لقلبك ولنفسك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله تَعَالَى يراقب باطنك وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الصيدلاني يَقُول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 سمعت أبا سَعِيد الخراز يَقُول: قَالَ لي: بَعْض مشايخ عليك بمراعاة سرك والمراقبة قَالَ فبينا أنا يوما أسير فِي البادية إِذَا أنا بخشخشة خلفي فهالني ذَلِكَ وأردت أَن ألتفت فلم ألتفت فرأيت شَيْئًا واقفا عَلَى كتفي فانصرف وأنا مراع لسري ثُمَّ التفت فَإِذَا أنا بسبع عظيم وَقَالَ الواسطي: أفضل الطاعات حفظ الأوقات وَهُوَ أَن لا يطالع العبد غَيْر حده ولا يراقب غَيْر ربه ولا يقارن غَيْر وقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 بَاب الرضا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] الآية. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْكَرِيمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السَّلالُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَادَانِيُّ , عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى الرَّقَاشِيُّ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ , عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَجْلِسٍ لَهُمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سَلُونِي. فَقَالُوا: نَسْأَلُكَ الرِّضَا عَنَّا. قَالَ تَعَالَى: رِضَايَ قَدْ أَحَلَّكُمْ دَارِي وَأَنَالَكُمْ كَرَامَتِي هَذَا أَوَانُهَا فَسَلُونِي. قَالُوا: نَسْأَلُكَ الزِّيَادَةَ. قَالَ: فَيُؤْتَوْنَ بِنَجَائِبِ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ أَزِمَّتُهَا زُمُرُّدٍ أَخْضَرَ وَيَاقُوتٍ أَحْمَرَ، فَجَاءُوا عَلَيْهَا تَضَعُ حَوَافِرَهَا عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهَا، فَيَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَشْجَارٍ عَلَيْهَا الثِّمَارُ، وَتَجِيءُ جَوَارٍ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَهُنَّ يَقُلْنَ: نَحْنُ النَّاعِمَاتِ فَلا نَبْؤُسُ وَنَحْنُ الْخَالِدَاتِ فَلا نَمُوتُ أَزْوَاجَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ كِرَامٍ وَيَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكُثْبَانَ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ أَذْفَرَ فَتُثِيرُ عَلَيْهِمْ رِيحًا يُقَالُ لَهَا: الْمُثِيرُ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِهِمْ إِلَى جَنَّةِ عَدْنٍ وَهِيَ قَصَبَةُ الْجَنَّةِ فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: يَا رَبَّنَا قَدْ جَاءَ الْقَوْمُ فَيَقُولُ اللَّهُ: مَرْحَبًا بِالصَّادِقِينَ مَرْحَبًا بِالطَّائِعِينَ قَالَ: فَيُكْشَفُ لَهُمُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَتَمَتَّعُونَ بِنُورِ الرَّحْمَنِ حَتَّى لا يُبْصِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُوهُمْ إِلَى الْقُصُورِ بِالتُّحَفِ قَالَ: فَيَرْجِعُونَ وَقَدْ أَبْصَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 32] وَقَد اختلف العراقيون والخراسانيون فِي الرضا هل هُوَ من الأحوال أَوْ من المقامات فأهل خراسان قَالُوا: الرضا من جملة المقامات وَهُوَ نهاية التوكل ومعناه أَنَّهُ يئول إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يتوصل إِلَيْهِ العبد باكتسابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وَأَمَّا العراقيون فإنهم قَالُوا: الرضا من جملة الأحوال وليس ذَلِكَ كسبا للعبد بَل هُوَ نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال ويمكن الجمع بَيْنَ اللسانين فيقال: بداية الرضا مكتسبة للعبد وَهِيَ من المقامات ونهايته من جملة الأحوال وليست بمكتسبة وتكلم النَّاس فِي الرضا فَكُل عبر عَن حاله وشربه فَهُمْ فِي العبارة عَنْهُ مختلفون كَمَا أنهم فِي الشرب والنصيب من ذَلِكَ متفاوتون فأما شرط العلم والذي هُوَ لابد منه فالراضي بالله تَعَالَى هُوَ الَّذِي لا يعترض عَلَى تقديره. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: لَيْسَ الرضا أَن لا تحس بالبلاء إِنَّمَا الرضا أَن لا تعترض عَلَى الحكم والقضاء. واعلم أَن الواجب عَلَى العبد أَن يرضى بالقضاء الَّذِي أمر بالرضا بِهِ إذ لَيْسَ كُل مَا هُوَ بقضائه يَجُوز للعبد أَوْ يجب عَلَيْهِ الرضا بِهِ كالمعاصي وفنون محن الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ المشايخ: الرضا بَاب اللَّه الأعظم يعنون أَن من أكرم بالرضا فَقَدْ لقى بالترحيب الأوفى وأكرم بالتقريب الأعلى. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَر الرازي قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن حمزة قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي الحواري قَالَ: قَالَ عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد: الرضا بَاب اللَّه الأعظم وجنة الدنيا. واعلم أَن العبد لا يكاد يرضى عَنِ الحق سبحانه إلا بَعْد أَن يرضى عَنْهُ الحق سبحانه، لأن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: قَالَ تلميذ لأستاذه: هل يعرف العبد أَن اللَّه تَعَالَى راض عَنْهُ؟ فَقَالَ لا كَيْفَ يعلم ذَلِكَ ورضاه غيب فَقَالَ التلميذ: الولي يعلم ذَلِكَ، فَقَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: إِذَا وجدت قلبي راضيا عَنِ اللَّه تَعَالَى علمت أَنَّهُ راض عني، فَقَالَ الأستاذ: أحسنت يا غلام. وقيل: قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام إلهي دلني عَلَى عمل إِذَا عملته رضيت بِهِ عنى فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 إنك لا تطيق ذَلِكَ , فخر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام ساجدا متضرعا فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: يا ابْن عمران إِن رضاي فِي رضاك بقضائي. أَخْبَرَنَا الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَر الرازي قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن حمزة قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي الحواري قَالَ: سمعت أبا سُلَيْمَان الدارداني يَقُول: إِذَا سلا العبد عَنِ الشهوات فَهُوَ راض وسمعته يَقُول: سمعت النصراباذي يَقُول: من أراد أَن يبلغ محل الرضا فليلزم مَا جعل اللَّه رضاه فِيهِ وَقَالَ مُحَمَّد بْن خفيف الرضا عَلَى قسمين: رضا بِهِ ورضا عَنْهُ فالرضا بِهِ مدبرا والرضا عَنْهُ فيما يقضى سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: طريق السالكين أطول وَهُوَ طريق الرياضة وطريق الخواص أقرب لكنه أشق وَهُوَ أَن يَكُون عملك بالرضا ورضاك بالقضا. وَقَالَ رويم: الرضا أَن لو جعل اللَّه جهنم عَلَى يمينه مَا سأل أَن يحولها إِلَى يساره، وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن طاهر: الرضا إخراج الكراهية من القلب حَتَّى لا يَكُون فِيهِ إلا فرح وسرور، وَقَالَ الواسطي: استعمل الرضا جهدك ولا تدع الرضا يستعملك فتكون محجوبا بلذته ورؤيته عَن حقيقة مَا تطالع. واعلم أَن هَذَا الْكَلام الَّذِي قاله الواسطي شَيْء عظيم، وفيه تنبيه عَلَى مقطعة للقوم خفية فَإِن السكون عندهم إِلَى الأحوال حجاب عَن محول الأحوال فَإِذَا استلذ رضاه ووجده بقلبه راحة الرضا حجب بحاله عَن شهود حقه، ولقد قَالَ الواسطي أَيْضًا: إياكم واستحلاء الطاعات فإنها سموم قاتلة، وَقَالَ ابْن خفيف: الرضا سكون القلب إِلَى أحكامه وموافقة القلب بِمَا رَضِيَ اللَّهُ بِهِ وأختاره. وسئلت رابعة مَتَى يَكُون العبد راضيا؟ فَقَالَتْ إِذَا سرته المصيبة كَمَا سرته النعمة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وقيل قَالَ الشبلي بَيْنَ يدي الجنيد لا حول ولا قوة إلا بالله فَقَالَ الجنيد: قولك ذا ضيق صدر وضيق الصدر لترك الرضا. فسكت الشبلي وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الرضا أَن لا تسأل اللَّه تَعَالَى الْجَنَّة ولا تستعيذ بِهِ من النار. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سهل يَقُول: سمعت سَعِيد بْن عُثْمَان يَقُول: سمعت ذا النون الْمِصْرِي يَقُول ثلاثة من أعلام الرضا: ترك الاختيار قبل الْقَضَاء، وفقدان المرارة بَعْد الْقَضَاء، وهيجان الحب فِي حشو البلاء، وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن جَعْفَر البغدادي يَقُول: سمعت إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّد الصفار يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن يَزِيد المبرد يَقُول: قيل للحسين بْن عَلِي بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِن أبا ذر يَقُول الفقر أحب إِلَى من الغني، والسقم أحب إِلَى من الصحة. فَقَالَ: رحم اللَّه تَعَالَى أبا ذر أما أنا فأقول من اتكل عَلَى حسن اختيار اللَّه تَعَالَى لَهُ لَمْ يتمن غَيْر مَا اختاره اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ، وَقَالَ الفضيل بْن عياض لبشر الحافي: الرضا أفضل من الزهد فِي الدنيا، لأن الراضي لا يتمنى فَوْقَ منزلته، وسئل أَبُو عُثْمَان عَن قَوْل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسألك الرضا بَعْد الْقَضَاء فَقَالَ:، لأن الرضا قبل الْقَضَاء عزم عَلَى الرضا والرضا بَعْد الْقَضَاء هُوَ الرضا. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت ابْن أَبِي حسان الأنماطي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن أَبِي الحواري يَقُول: سمعت أبا سُلَيْمَان يَقُول: أرجو أَن أكون عرفت طرفا من الرضا لو أَنَّهُ أدخلني النار لكنت بِذَلِكَ راضيا. وَقَالَ أَبُو عُمَر الدمشقي: الرضا ارتفاع الجزع فِي أي حكم كَانَ وَقَالَ الجنيد: الرضا رفع الاختيار، وَقَالَ ابْن عَطَاء: الرضا نظر القلب إِلَى قديم اختيار اللَّه تَعَالَى للعبد وَهُوَ ترك التسخط، وَقَالَ رويم: الرضا استقبال الأَحْكَام بالفرح، وَقَالَ المحاسبي: الرضا سكون القلب تَحْتَ مجاري الأَحْكَام، وَقَالَ النوري: الرضا سرور القلب بمر الْقَضَاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الفارسي يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: من رَضِيَ بدون قدره رفعه اللَّه تَعَالَى فَوْقَ غايته، وسمعته يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت الْحَسَن بْن علويه يَقُول: قَالَ أَبُو التراب النخشبي: لَيْسَ ينال الرضا من للدنيا فِي قلبه مقدار. أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَتْرَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وقيل: كتب عُمَر بْن الْخَطَّاب رضى اللَّه عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الأشعري: أما بَعْد فَإِن الخير كُلهُ فِي الرضا فَإِن استطعت أَن ترضى وإلا فاصبر، وقيل: إِن عتبة الغلام بات ليلة يَقُول إِلَى الصباح: إِن تعذبني فأنا لَك محب، وإن ترحمني فأنا لَك محب. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: الإِنْسَان خزف وليس للخزف من الخطر مَا يعارض فِيهِ حكم الحق تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الحيري: منذ أربعين سنة مَا أقامني اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي حال فكرهته وَمَا تنقلني إِلَى غيره فسخطته. سمعت الأستاذ أبا عَلي الدقاق يَقُول: غضب رجل عَلَى عَبْد اللَّهِ لَهُ فاستشفع العبد إِلَى سيده إِنْسَانا فعفا عَنْهُ فأخذ العبد يبكى فَقَالَ لَهُ الشفيع: لَمْ تبكى وَقَدْ عفا عَنْك سيدك فَقَالَ السيد: إنه يطلب الرضا منى ولا سبيل إِلَيْهِ فإنما يبكى لأجله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 بَاب العبودية قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] . أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ , عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ , عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ , عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ , وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ سمعت الأستاذ أبا عَلي الدقاق رحمه اللَّه يَقُول: العبودية أتم من العبادة فأولا عُبَادَة ثُمَّ عبودية ثُمَّ عبودة فالعبادة للعوام من الْمُؤْمِنيِنَ والعبودية للخواص والعبودة لخاص الخاص. وسمعته يَقُول: العبادة لمن لَهُ علم اليقين والعبودية لمن لَهُ عين اليقين والعبودة لَنْ لَهُ حق اليقين. وسمعته يَقُول: العبادة لأَصْحَاب المجاهدات والعبودية لأرباب المكابدات والعبودة صفة أهل المشاهدات فمن لَمْ يدخر عَنْهُ نَفْسه فَهُوَ صاحب عُبَادَة ومن لَمْ يضن عَلَيْهِ بقلبه فَهُوَ صاحب عبودية ومن لَمْ يبخل عَلَيْهِ بروحه فَهُوَ صاحب عبودة، ويقال: العبودية القيام بحق الطاعات بشرط التوقير , والنظر إِلَى مَا منك بعين التقصير , وشهود مَا يحصل من مناقبك من التقدير ويقال: العبودية ترك الاختيار فيما يبدو من الأقدار، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 ويقال: العبودية التبري من الحول والقوة والإقرار بِمَا يعطيك ويوليك من الطول والمنة، ويقال: العبودية معانقة مَا أمرت بِهِ ومفارقة مَا زجرت عَنْهُ. وسئل مُحَمَّد بْن خفيف: مَتَى تصح العبودية؟ فَقَالَ: إِذَا طرح كُلهُ عَلَى مولاه وصبر مَعَهُ عَلَى بلواه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير يَقُول: سمعت ابْن مسروق يَقُول: سمعت سهل بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: لا يصح التعبد لأحد حَتَّى لا يجزع من أربعة أشياء: من الجوع والعرى والفقر والذل، وقيل: العبودية أَن تسلم إِلَيْهِ كلك وتحمل عليك كلك، وقيل: من علامات العبودية ترك التدبير وشهود التقدير، وَقَالَ ذو النون الْمِصْرِي: العبودية أَن تكون عبده فِي كُل حال كَمَا أَنَّهُ ربك فِي كُل حال، وَقَالَ الجريري: عُبَيْد النعم كثير عديدهم وعبيد المنعم عزيز وجودهم. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الداق يَقُول: أَنْتَ عَبْد من أَنْتَ فِي رقه وأسره فَإِن كنت فِي أسر نفسك فأنت عَبْد نفسك وإن كنت فِي أسر دنياك فأنت عَبْد دنياك. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تعس عَبْد الدرهم، تعس عَبْد الدينار، تعس عَبْد الخميصة. ورأى أَبُو زَيْد رجلا فَقَالَ لَهُ: مَا حرفتك؟ فَقَالَ: خر بنده فَقَالَ: أمات اللَّه تَعَالَى حمارك لتكون عَبْد اللَّهِ لا عَبْد الحمار. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت جدى أبا عَمْرو بْن نجيد يَقُول: لا تصفو لأحد قدم فِي العبودية حَتَّى يشاهد أعماله عنده رياء وأحواله دعاوى، وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ المعلم يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن منازل يَقُول: العبد عَبْد ما لم يطلب لنفسه خادما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 فَإِذَا طلب لنفسه خادما فَقَدْ سقط عَن حد العبودية وترك آدابها. وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن نصير يَقُول: سمعت ابْن مسروق يَقُول: سمعت سهل بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول لا يصلح للعبد التعبد حَتَّى يَكُون بحيث لا يرى عَلَيْهِ أثر المسكنة فِي العدم , ولا أثر الغي فِي الوجود وقيل: العبودية شهود الربوية. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: سمعت النصراباذي يَقُول قيمة العابد بمعبوده , كَمَا أَن شرف العارف بمعروفه , وَقَالَ أَبُو حفص: العبودية زينة العبد فمن تركها تعطل من الزينة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الرازي يَقُول: سمعت عَبَّاس بْن حمزة يَقُول: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحواري قَالَ: سمعت النباجي يَقُول: أصل العبادة فِي ثلاثة أشياء لا ترد من أحكامه شَيْئًا ولا تدخر عَنْهُ شَيْئًا ولا يسمعك تسأل غيره حاجة. وسمعته يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الفارسي يَقُول: سمعت ابْن عَطَاء يَقُول العبودية فِي أربع خصال: الوفاء بالعهود والحفظ للحدود والرضا بالموجود والصبر عَنِ المفقود وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت الكتاني يَقُول: سمعت عَمْرو بْن عُثْمَان الْمَكِّي يَقُول: مَا رأيت أحدا من المتعبدين فِي كثرة من لقيت بمكة حرسها اللَّه تَعَالَى وغيرها ولا أحد مِمَّن قدم عَلَيْنَا فِي المواسم أشد أجتهادا ولا أدوم عَلَى العبادة من المزني رحمه اللَّه تَعَالَى ولا رأيت أحدا أشد تعظيما لأوامر اللَّه تَعَالَى منه , وَمَا رأيت أحدا أشد تضييقا عَلَى نَفْسه وتوسعه عَلَى النَّاس منه. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول لَيْسَ شَيْء أشرف من العبودية ولا اسم أتم للمؤمن من الاسم لَهُ بالعبودية ولذلك قَالَ سبحانه فِي وصف النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج وَكَانَ أشرف أوقاته فِي الدنيا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] فلو كَانَ اسم أحل من العبودية لسماه بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وَفِي معناه أنشدوا: يا عَمْرو ثاري عِنْدَ زهرائي ... يعرفه السامع والرائي لا تدعني إلا بيا عبدها ... فَإِنَّهُ أشرف أسمائي وَقَالَ بَعْضهم: إِنَّمَا هُوَ شيئان سكونك إِلَى اللذة واعتمادك عَلَى الحركة فَإِذَا أسقطت عَنْك هذين فَقَدْ أديت العبودية حقها كَمَا قَالَ الواسطي: احذروا لذة العطاء فَإِنَّهُ غطاء لأهل الصفاء وَقَالَ أَبُو عَلَى الجورجاني: الرضا دار العبودية والصبر بابه والتفويض بيته فالصوت عَلَى الباب والفراغة فِي الدار والراحة فِي الْبَيْت. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول كَمَا أَن الربوية نعت للحق سبحانه لا يزول فالعبودية صفة للعبد لا تفارقه مَا دام وأنشد بَعْضهم: فَإِن تسألوني قُلْت: ها أنا عبده ... وإن سألوه قَالَ هذاك مولايا سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت النصرأباذي يَقُول: العبادات إِلَى طلب الصفح والعفو عَن تقصيرها أقرب منها عَلَى طلاب الأعواض والجزاء عَلَيْهَا وسمعته يَقُول: سمعت النصراباذي يَقُول: العبودية إسقاط رؤية التعبد فِي مشاهد المعبود وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: العبودية ترك الأشغال والاشتغال بالشغل الَّذِي هُوَ أصل الفراغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 بَاب الإرادة قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْن عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يُوَفِّقْهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ والإرادة بدء طريق السالكين وَهِيَ اسم لأول منزلة القاصدين إِلَى اللَّه تَعَالَى , وإنما سميت هذه الصفة إرادة، لأن الإرادة مقدمة كُل أمر فَمَا لَمْ يرد العبد شَيْئًا لَمْ يفعله، فلما كَانَ هَذَا أول الأمر لمن سلك طريق اللَّه عَزَّ وَجَلَّ سمى إرادة تشبيها بالقصد فِي الأمور الَّذِي هُوَ مقدمتها والمريد عَلَى موجب الاشتقاق من لَهُ إرادة كَمَا أَن العالم من لَهُ علم لأنه من الأسماء المشتقة ولكن المريد فِي عرف هذه الطائفة من لا إرادة لَهُ، فمن لَمْ يتجرد عَن إرادته لا يَكُون مريدا كَمَا أَن من لا إرادة لَهُ عَلَى موجب الاشتقاق لا يَكُون مريدا وتكلم النَّاس فِي معني الإرادة فَكُل عبر عَلَى حسب مَا لاح لقلبه فأكثر المشايخ قَالُوا الإرادة ترك مَا عَلَيْهِ العادة وعادة النَّاس فِي الغالب التعريج فِي أوطان الغفلة والركون إِلَى اتباع الشهوة والإخلاد إِلَى مَا دعت إِلَيْهِ المنية والمريد منسلخ عَن هذه الجملة فصار خروجه أمارة ودلالة عَلَى صحة الإرادة فسميت تلك الحالة إرادة وهى خروج عَنِ العادة فإذن ترك العادة أمارة الإرادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 فأما حقيقتها فهي نهوض القلب فِي طلب الحق سبحانه ولهذا يقال إنها لوعة تهون كُل روعة. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول حاكيا عَن ممشاد الدينوري أَنَّهُ قَالَ: مذ علمت أَن أحوال الفقراء جد كلها لَمْ أمازح فقيرا وَذَلِكَ أَن فقيرا قدم عَلَى فَقَالَ: أيها الشيخ أريد أَن تتخذ لي عصيدة فجرى عَلَى لساني إرادة عصيدة فتأخر الفقير وَلَمْ أشعر بِهِ فأمرت باتخاذ عصيدة وطلبت الفقير فلم أجده فتعرفت خبره فقيل لي إنه انصرف من فوره وَكَانَ يَقُول فِي نَفْسه إرادة وعصيدة إرادة وعصيدة وهام عَلَى وجهه حَتَّى دَخَلَ البادية وَلَمْ يقل هذه الكلمة حَتَّى مَات. وعن بَعْض المشايخ قَالَ كنت بالبادية وحدي فضاق صدري فَقُلْتُ: يا إنس كلموني يا جن كلموني فهتف بي هاتف إيش تريد فَقُلْتُ: أريد اللَّه تَعَالَى فَقَالَ: مَتَى تريد اللَّه يعنى أَن من قَالَ للجن والإنس كلموني مَتَى يَكُون مريدا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ والمريد لا يفتر آناء الليل والنهار فَهُوَ فِي الظاهر بنعت المجاهدات وَفِي الباطن بوصف المكابدات فارق الفراش ولازم الانكماش وتحمل المصاعب وركوب المتاعب وعالج الأخلاق ومارس المشاق وعانق الأهوال وفارق الأشكال كَمَا قيل: ثُمَّ قطعت الليل فِي مهمه ... لا أسدا أخشى ولا ذيبا يغلبني شوقي فأطوي السرى ... وَلَمْ يزل ذو الشوق مغلوبا سمعت الأستاذ أبا عَلي الدقاق يَقُول الإرادة لوعة فِي الفؤاد لدغة فِي القلب غرام فِي الضمير انزعاج فِي الباطن نيران تتأجج فِي القلوب. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا بَكْر السباك يَقُول: سمعت يُوسُف بْن الْحُسَيْن يَقُول كَانَ بَيْنَ أَبِي سُلَيْمَان وَأَحْمَد بْن أَبِي الحواري عقد لا يخالفه أَحْمَد فِي شَيْء يأمره بِهِ فجاء يوما وَهُوَ يتكلم فِي مجلسه فَقَالَ: إِن التنور قَدْ سجر فَمَا تأمره فلم يجبه فَقَالَ: مرتين أَوْ ثلاثة فَقَالَ: أَبُو سُلَيْمَان اذهب فاقعد فِيهِ كَأَنَّهُ ضاق بِهِ قلبه وتغافل عَنْهُ أَبُو سُلَيْمَان ساعة ثُمَّ ذكر فَقَالَ: أدركوا أَحْمَد فَإِنَّهُ فِي التنور لأنه آلى عَلَى نَفْسه أَن لا يخالفني فنظروا فَإِذَا هُوَ فِي التنور لَمْ تحترق منه شعرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وسمعت الأستاذ أبا عَلِيّ يَقُول كنت فِي ابتداء صباي محترقا فِي الإرادة وكنت أقول فِي نفسي ليت شعري مَا معنى الإرادة وقيل: من صفات المريدين والتحبب إِلَيْهِ بالنوافل والخلوص فِي نصيحة الأمة والأنس بالخلوة والصبر عَلَى مقاساة الأَحْكَام والإيثار لأمره والحياء من نظره وبذل الجهود فِي محبوبه والتعرض لكل سبب يوصل إِلَيْهِ والقناعة بالخمول وعدم القرار بالقلب إِلَى أَن يصل إِلَى الرب وَقَالَ أَبُو بَكْر الوراق آفة المريد ثلاثة أشياء التزويج وكتبة الْحَدِيث والأسفار وقيل لَهُ: لَمْ تركت كتابة الْحَدِيث؟ فَقَالَ منعتني عَنْهَا الإرادة وَقَالَ حاتم الأصم إِذَا رأيت المريد يريد غَيْر مراده فالعلم أَنَّهُ قَدْ أظهر بذالته. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت الكتاني يَقُول: من حكم المريد أَن يَكُون فِيهِ ثلاثة أشياء نومه غلبة وأكله فاقلة وكلامه ضرورة. وسمعته يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن نصير يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول إِذَا أراد اللَّه تَعَالَى بالمريد خيرا أوقعه إِلَى الصوفية ومنعه صحبة الفقراء وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت الدقي يَقُول: سمعت الدقاق يَقُول نهاية الإرادة أَن تشير إِلَى اللَّه تَعَالَى فنجده مَعَ الإشارة فَقُلْتُ: فايش يستوعب الإرادة فَقَالَ: أَن تجد اللَّه تَعَالَى بلا إشارة. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت عَبَّاس بْن أَبِي الصحو يَقُول: سمعت أبا بَكْر الدقاق يَقُول لا يَكُون المريد مريدا حَتَّى لا يكتب عَلَيْهِ صاحب الشمال عشرين سنة وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الحيرى: من لَمْ تصح إرادته بدار لا يزيده مرور الأيام عَلَيْهِ إلا إدبارا وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: المريد إِذَا سمع شَيْئًا من علوم الْقَوْم فعمل بِهِ صار حكمة فِي قلبه إِلَى آخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 عمره ينتفع بِهِ ولو تكلم بِهِ انتفع بِهِ من سمعه ومن سمع شَيْئًا من علومهم وَلَمْ يعمل بِهِ كَانَ حكاية يحفظها أياما ثُمَّ ينساها وَقَالَ الواسطي: أول مقام المريد إرادة الحق بإسقاط إرادته وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: أشد شَيْء عَلَى المريدين معاشرة الأضداد. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا القاسم الرازي يَقُول: سمعت يُوسُف بْن الْحُسَيْن يَقُول إِذَا رأيت المريد يشتغل بالرخص والكسب فليس يجئ منه شَيْء وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت جعفرا الخلدي يَقُول سئل الجنيد مَا للمريدين فِي مجاراة الحكايات فَقَالَ: الحكايات جند من جنود اللَّه تَعَالَى يقوى بِهَا قلوب المريدين فقيل لَهُ فهل لَك فِي ذَلِكَ شاهد فَقَالَ: نعم قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل مَا تثبت بِهِ فؤادك وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن خَالِد يَقُول: سمعت جعفرا يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول المريد الصادق غنى عَن علم الْعُلَمَاء فأما الفرق بَيْنَ المريد والمراد فَكُل مريد عَلَى الحقيقة مراد إِذَا لو لَمْ يكن مراد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بأن يريده لَمْ يكن مريدا إذ لا يَكُون إلا مَا أراده اللَّه تَعَالَى وكل مراد مريد لأنه إِذَا أراده الحق سبحانه بالخصوصية وفقه للإرادة ولكن الْقَوْم فرقوا بَيْنَ المريد والمراد فالمريد عندهم هُوَ المبتدئ والمراد هُوَ المنتهى والمريد الَّذِي نصب بعين التعب وألقى فِي مقاساة المشاق والمراد الَّذِي كفى بالأمر من غَيْر مشقة فالمريد متعن والمراد مرفوق بِهِ مرفه , وسنة اللَّه تَعَالَى مَعَ القاصدين مختلفة فأكثرهم يوفقون للمجاهدات ثُمَّ يصلون بَعْد مقاساة. . . . والتي إِلَى سنى المعالى وكثير مِنْهُم يكاشفون فِي الابتداء بجليل المعاني ويصلون عَلَى مَا لَمْ يصل إِلَيْهِ كثير من أَصْحَاب الرياضات إلا أَن أكثرهم يردون إِلَى المجاهدات بَعْد هذه الأرفاق ليستوفي مِنْهُم مَا فاتهم من أحكام أهل الرياضة. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول المريد متحمل والمراد محمول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 وسمعته يَقُول كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام مريدا فَقَالَ: قَالَ {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] وَكَانَ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مراد فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ {1} وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ {2} الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ {3} وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1-4] وَكَذَلِكَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] وَقَالَ لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] وَكَانَ أَبُو عَلِي يَقُول: إِن المقصود قَوْله: ألم ترك إِلَى ربك، وقوله كَيْفَ مد الظل ستر للقصة وتحصيل للحالة. وسئل الجنيد عَنِ المريد والمراد فَقَالَ: المريد تتولاه سياسة العلم والمراد تتولاه رعاية الحق سبحانه، لأن المريد يسير والمراد يطير فَمَتَى لحق السار الطائر. وقيل: أرسل ذو النون إِلَى أَبِي يَزِيد رجلا وَقَالَ لَهُ قل لَهُ إِلَى مَتَى النوم والراحة وَقَدْ جاز القافلة فَقَالَ: أَبُو يَزِيد قل لأخي ذي النون الرجل من ينام الليل كُلهُ ثُمَّ يصبح فِي المنزل قبل القافلة وَقَالَ ذو النون هنيئا لَهُ هَذَا كَلام لا تبلغه أحوالنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 بَاب الاستقامة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] الآية أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ فَوْرَكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ دِينِكُمُ الصَّلاةُ، وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوُضُوءِ إِلا مُؤْمِنٌ قَالَ الأستاذ: الاستقامة درجة بِهَا كمال الأمور وتمامها , وبوجودها حصول الخيرات ونظامها ومن لَمْ يكن مستقيما فِي حالته ضاع سعيه وخاب جهده قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] ومن لَمْ يكن مستقيما فِي صفته لَمْ يرتق من مقامه إِلَى غيره وَلَمْ يبين سلوكه عَلَى صحة فمن شرط المستأنف الاستقامة فِي أحكام البداية كَمَا أَن من حق العارف الاستقامة فِي آداب النهاية فمن أمارات استقامة أهل البداية أَن لا تشوب معاملتهم فترة ومن أمارات استقامة أهل الوسايط أَن لا يصحب منازلتهم وقفة ومن أمارات استقامة أهل النهاية أَن لا تتداخل مواصلتهم حجبة. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول الاستقامة لَهَا ثلاثة مدارج: أولها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 التقويم ثُمَّ الإقامة ثُمَّ الاستقامة فالتقويم من حيث تأديب النفوس والإقامة من حيث تهذيب القلوب والاستقامة من حيث تقريب الأسرار. وَقَالَ أَبُو بَكْر الصديق رضى اللَّه عَنْهُ فِي معنى قَوْله: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] لَمْ يشركوا وَقَالَ عُمَر رضى اللَّه عَنْهُ لَمْ يروغوا روغان الثعالب فقول الصديق محمول عَلَى مراعاة الأصول فِي التوحيد وقول عُمَر محمول عَلَى ترك طلب التأويل والقيام بشرط العهود وَقَالَ ابْن عَطَاء استقاموا عَلَى انفراد القلب بالله تَعَالَى وَقَالَ أَبُو عَلَى الجوزجاني كن صاحب الاستقامة لا طَالِب الكرامة فَإِن نفسك متحركة فِي طلب الكرامة وربك عَزَّ وَجَلَّ يطالبك بالاستقامة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الشبوي يَقُول: رأيت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام فَقُلْتُ: لَهُ رُوِيَ عَنْك أنك قُلْت: شيبتني هود فَمَا الَّذِي شيبك منها قصص الأنبياء وهلاك الأمم فَقَالَ: لا ولكن قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وقيل: إِن الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر لأنها الخروج عَنِ المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بَيْنَ يدي اللَّه تَعَالَى عَلَى حقيقة الصدق ولذلك قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استقيموا ولن تحصوا وَقَالَ الواسطي: الخصلة الَّتِي بِهَا كملت المحاسن وبفقدها قبحت المحاسن الاستقامة وحكى عَنِ الشبلي أَنَّهُ قَالَ: الاستقامة أَن تشهد الوقت قيامة ويقال الاستقامة فِي الأقوال بترك الغيبة وَفِي الأفعال بنفي البدعة وَفِي الأعمال بنفي الفترة وَفِي الأحوال بنفي الحجبة. سمعت الأستاذ الإِمَام أبا بَكْر مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن فورك يَقُول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 السين فِي الاستقامة سين الطلب أي طلبوا من الحق أَن يقيمهم عَلَى توحيدهم ثُمَّ عَلَى استدامة عهودهم وحفظ حدودهم قَالَ الأستاذ: واعلم أَن الاستقامة توجب إدامة الكرامة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] لَمْ يقل: سقيناهم , بَل قَالَ: (أسقيناهم) يقال: أسقيته إِذَا جعلت لَهُ سقيا فَهُوَ يشير إِلَى الدوام سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس الفراغاني يَقُول: قَالَ الجنيد: لقيت شابا من المريدين فِي البادية تَحْتَ شجرة من شجر أم غيلان فَقُلْتُ: مَا أجلسك ههنا فَقَالَ: حال افتقدته فمضيت وتركته فلما انصرفت من الحج إِذَا أنا بالشاب قَد انتقل إِلَى موضع قريب من الشجرة فَقُلْتُ: مَا جلوسك ههنا فَقَالَ: وجدت مَا كنت أطلبه فِي هَذَا الموضع فلزمته قَالَ الجنيدي: فلا أدرى أيهما كَانَ أشرف لزومه لافتقاد حاله أَوْ لزومه للموضع الَّذِي نال فِيهِ مراده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 بَاب الإخلاص قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو طَالُوتَ قَالَ: حَدَّثَنِي هَانِئُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ الْعَقِيلِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عَطِيَّةُ بْنُ وِشَاحٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَلِيهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الأستاذ: الإخلاص إفراد الحق سبحانه فِي الطاعة بالقصد وَهُوَ أَن يريد بطاعته التقرب إِلَى اللَّه سبحانه دُونَ شَيْء آخر من تصنع لمخلوق أَوِ اكتساب محمدة عِنْدَ النَّاس أَوْ محبة مدح من الخلق أَوْ معنى من المعاني سِوَى التقرب بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى ويصح أَن يقال الإخلاص تصفية الفعل عَن ملاحظة المخلوقين ويصح أَن يقال الإخلاص التوقي عَن ملاحظة الأشخاص وَقَدْ ورد خبر مسند أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر عَن جبريل عَلَيْهِ السَّلام عَنِ اللَّه سبحانه وتعالى أَنَّهُ قَالَ: الإخلاص سر من سرى استودعته قلب من أحببته من عبادي. سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ يَقُولُ، وَقَدْ سَأَلْتُهُ عَنِ الإِخْلاصِ مَا هُوَ فَقَالَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سَعِيدٍ وَأَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا وَقَدْ سَأَلْتُهُمَا عَنِ الإِخْلاصِ قَالا: سَمِعْنَا عَلِيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الشَّقِيقِيَّ وَقَدْ سِأَلْنَاهُ عَنِ الإِخْلاصِ فَقَالَ سَمِعْتُ وَسَأَلْتُهُ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ الْخَصَّافَ عَنِ الإِخْلاصِ فَقَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ بَشَّارٍ عَنِ الإِخْلاصِ مَا هُوَ؟ قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 سَأَلْتُ أَبَا يَعْقُوبَ الشَّرِيطِيَّ عَنِ الإِخْلاصِ مَا هُوَ قَالَ سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ غَسَّانَ عَنِ الإِخْلاصِ مَا هُوَ؟ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ زَيْدٍ عَنِ الإِخْلاصِ مَا هُوَ؟ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنِ الإِخْلاصِ مَا هُوَ؟ قَالَ: سَأَلْتُ حُذَيَّفَةَ عَنِ الإِخْلاصِ مَا هُوَ؟ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الإْخِلاصِ مَا هُوَ؟ قَالَ سَأَلْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ الإِخْلاصِ مَا هُوَ قَالَ: سَأَلْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ عَنِ الإِخْلاصِ مَا هُوَ؟ قَالَ: سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِبَادِي سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: الإخلاص التوقي عَن ملاحظة الخلق والصدق: التنقي من مطالعة النفس فالمخلص لا رياء لَهُ والصادق لا إعجاب لَهُ، وَقَالَ ذو النون الْمِصْرِي: الإخلاص لا يتم إلا بالصدق فِيهِ والصبر عَلَيْهِ والصدق لا يتم إلا بالإخلاص فِيهِ والمداومة عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو يعقوب السوسي. مَتَى شهدوا فِي إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم إِلَى إخلاص وَقَالَ ذو النون: ثَلاث من علامات الإخلاص استواء المدح والذم من العامة ونسيان رؤية الأعمال فِي الأعمال ونسيان اقتضاء ثواب العمل فِي الآخرة سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول الإخلاص مَا لا يَكُون للنفس فِيهِ حظ بحال وَهَذَا إخلاص العوام، وَأَمَّا إخلاص الخواص فَهُوَ مَا يجرى عَلَيْهِم لا بِهِمْ فتبدو مِنْهُم الطاعات وَهُمْ عَنْهَا بمعزلة ولا يقع لَهُمْ عَلَيْهَا رؤية ولا بِهَا اعتداء فذلك إخلاص الخواص وَقَالَ أَبُو بَكْر الدقاق نقصان: كُل مخلص فِي إخلاصه رؤية إخلاصه فَإِذَا أراد اللَّه تَعَالَى أَن يخلص إخلاصه أسقط عَن إخلاصه رؤيته لإخلاصه فيكون مخلصا لا مخلصا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وَقَالَ سهل: لا يعرف الرياء إلا مخلص. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي يَقُول: سمعت الوجيهي يَقُول: سمعت أبا عَلِي الروذباري يَقُول: قَالَ لي رويم: قَالَ أَبُو سَعِيد الخراز: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين وَقَالَ ذو النون: الإخلاص: مَا حفظ من العدو أَن يفسده. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إِلَى الخلق وَقَالَ حذيفة المرعشي: الإخلاص أَن تستوي أفعال العبد فِي الظاهر والباطن. وقيل: الإخلاص مَا أريد بِهِ الحق سبحانه وقصد بِهِ الصدق. وقيل: الإغماض عَن رؤية الأعمال. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الفارسي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَلِي بْن عَبْد الحميد يَقُول: سمعت السري يَقُول: من تزين لِلنَّاسِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ سقط من عين اللَّه تَعَالَى. وسمعته يَقُول: سمعت عَلِي بْن بندار الصوفي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن محمود يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد ربه يَقُول: سمعت الفضيل يَقُول: ترك العمل من أجل النَّاس رياء والعمل من أجل النَّاس شرك والإخلاص أَن يعافيك اللَّه منهما وَقَالَ الجنيد: الإخلاص سر بَيْنَ اللَّه وبين العبد لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شَيْطَان فيفسده ولا هوى فيميله. وَقَالَ رويم الإخلاص من العمل هُوَ الَّذِي لا يريد صاحبه عَلَيْهِ عوضا من الدارين ولاحظا من الملكين وقيل: لسهل بْن عَبْد اللَّهِ أي شَيْء أشد عَلَى النفس فَقَالَ: الإخلاص لأنه لَيْسَ لَهَا فِيهِ نصيب. وسئل بَعْضهم عَنِ الإخلاص فَقَالَ: أَن لا تشهد عَلَى عملك غَيْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وَقَالَ بَعْضهم دخلت عَلَى سهل بْن عَبْد اللَّهِ يَوْم جمعة قبل الصلاة فرأيت فِي الْبَيْت حية فجعلت أقدم رجلا: وأؤخر أُخْرَى فَقَالَ: أدخل لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان وعلى وجه لأرض شَيْء يخافه ثُمَّ قَالَ هل لَك فِي صلاة الجمعة فَقُلْتُ: بيننا وبين الْمَسْجِد مسيرة يَوْم وليلة فأخذ بيدي فَمَا كَانَ إلا قليل حَتَّى رأيت الْمَسْجِد فدخلناه وصلينا الجمعة ثُمَّ خرجنا فوقف ينظر إِلَى النَّاس وَهُمْ يخرجون فَقَالَ: أهل لا اللَّه إلا اللَّه كثير والمخلصون مِنْهُم قليل أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ الْجُرْجَانِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الرحيم قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو طَالِب مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا المقدسي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قرصافة مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَهَّاب العسقلاني قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْن نَافِع قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيد القراطيسي , عَن إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد , عَن مكحول , قَالَ مَا أخلص عَبْد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه عَلَى لسانه. سمعت الشيخ أبا يُوسُف بْن الْحُسَيْن يَقُول: أعز شَيْء فِي الدنيا الإخلاص وكم أجتهد فِي إسقاط الرياء عَن قلبي فكأنه ينبت عَلَى لون آخر وسمعته يَقُول: سمعت النصراباذي يَقُول: سمعت أبا الجهم يَقُول: سمعت ابْن أَبِي الحواري يَقُول: سمعت أبا سُلَيْمَان يَقُول: إِذَا أخلص العبد انقطعت عَنْهُ كثرة الوساوس والرياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 بَاب الصدق قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ فَوْرَكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: لا يَزَالُ الْعَبْدُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى صِدِّيقًا، وَلا يَزَالُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا قَالَ الأستاذ: والصدق عماد الأمر وَبِهِ تمامه وفيه نظامه وَهُوَ تالي درجة النبوة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: 69] الآية والصادق الاسم اللازم من الصدق والصديق المبالغة منه وَهُوَ الكثير الصدق الَّذِي الصدق غالبه كالسكير والخمير وبابه وأقل الصدق استواء السر والعلانية والصادق من صدق فِي أقواله والصديق من صدق فِي جَمِيع أقواله وأفعاله وأحواله وَقَالَ أَحْمَد بْن خضرويه: من أراد أَن يَكُون اللَّه تَعَالَى مَعَهُ فليلزم الصدق فَإِن اللَّه تَعَالَى قَالَ: إِن اللَّه مَعَ الصادقين. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت الفرغاني يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: الصادق يتقلب فِي اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت عَلَى حالة واحدة أربعين سنة وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني: لو أراد الصادق أَن يصف مَا فِي قلبه مَا نطق بِهِ لسانه. وقيل: الصدق القول بالحق فِي مواطن الهلكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 وقيل: الصدق موافقة السر النطق، وَقَالَ القناد: الصدق منع الحرام من الشدق. وَقَالَ عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد: الصدق الوفاء لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بالعمل. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن نصير يَقُول: سمعت الحريري يَقُول: سمعت سهل بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: لا يشم رائحة الصدق عَبْد داهن نَفْسه أَوْ غيره. وَقَالَ أَبُو سَعِيد الْقُرَشِيّ: الصادق الَّذِي يتهيأ لَهُ أَن يموت ولا يستحي من سره لو كشف قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] . سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: كَانَ أَبُو عَلَى الثقفي يتكلم يوما فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بْن منازل: يا أبا عَلي استعد للموت فلابد منه فَقَالَ أَبُو عَلَى: وأنت يا عَبْد اللَّهِ استعد للموت فلابد منه فتوسد عَبْد اللَّهِ ذراعه ووضع رأسه وَقَالَ: قَدْ مت فانقطع أَبُو عَلِي لأنه لَمْ يمكنه أَن يقابله بِمَا فعل لأنه كَانَ لأبي عَلَي علاقات وَكَانَ عَبْد اللَّهِ مجردا لا شغل لَهُ. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: كَانَ أَبُو الْعَبَّاس الدينوري يتكلم فصاحت عجوز فِي المجلس صيحة فَقَالَ لَهَا أَبُو الْعَبَّاس: موتي فقامت وخطت خطوات ثُمَّ التفتت إِلَيْهِ وَقَالَتْ: قَدْ مت ووقعت ميتة. وَقَالَ الواسطي: الصدق صحة التوحيد مَعَ القصد. وقيل: نظر عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد إِلَى غلام من أَصْحَابه قَدْ نحل بدينه فَقَالَ: يا غلام أتديم الصوم؟ فَقَالَ: ولا أديم الإفطار فَقَالَ: أتديم القيام بالليل؟ فَقَالَ: ولا أديم النوم فَقَالَ: فَمَا الَّذِي أنحلك فَقَالَ: هوى دائم وكتمان دائم عَلَيْهِ فَقَالَ: عَبْد الْوَاحِد اسكت فَمَا أجرأك فقام الغلام وخطا خطوتين وَقَالَ: إلهي إِن كنت صادقا فخذني فخر ميتا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 وحكى عَن أَبِي عَمْرو الزجاجي أَنَّهُ قَالَ: ماتت أمي فورثت منها دار فبعتها بخمسين دِينَار وخرجت إِلَى الحج فلما بلغت بابل استقبلني واحد من القناقنة وَقَالَ: إيش معك؟ فَقُلْتُ: فِي نفس الصدق خير ثُمَّ قُلْت: خمسون دِينَار فَقَالَ: ناولنيها فناولته الصرة فعدها فَإِذَا هي خمسون دِينَار فَقَالَ: خذها فلقد أخذني صدقك ثُمَّ نزل عَنِ الدابة وَقَالَ: اركبها فَقُلْتُ: لا أريد فَقَالَ: لا وألح عَلَى فركبتها فَقَالَ: وأنا عَلَى أترك فلما كَانَ العام المستقبل لحق بي ولازمني حَتَّى مَات. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت جعفرا الخواص يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم الخواص يَقُول: الصادق لا تراه إلا فِي فرض يؤديه أَوْ فضل يعمل لربه فِيهِ. وسمعته يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن بْن مقسم يَقُول: سمعت جعفرا الخواص يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: حقيقة الصدق أَن تصدق فِي مواطن لا ينجيك منها إلا الكذب وقيل: ثلاثة لا تخطئ الصادق الحلاوة والهيبة والملاحة. وقيل: أوحى اللَّه إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام يا دَاوُد من صدقني فِي سريرته صدقته عِنْدَ المخلوقين فِي علانيته. وقيل: دَخَلَ إِبْرَاهِيم بْن دوحة مَعَ إِبْرَاهِيم بْن ستنبة البادية فَقَالَ: إِبْرَاهِيم بْن ستنبة اطرح مَا معك من العلائق قَالَ فطرحت كُل شَيْء إلا دِينَار فَقَالَ: يا إِبْرَاهِيم لا تشغل سرى اطرح مَا معك من العلائق قَالَ: فطرحت الدينار، ثُمَّ قَالَ: يا إِبْرَاهِيم اطرح مَا معك من العلائق فتذكرت أَن معى شسوعا للنعل فطرحتها فَمَا احتجت فِي الطريق إِلَى شسع إلا وجدته بَيْنَ يدي فَقَالَ إِبْرَاهِيم بْن ستنبة: هكذا من عامل اللَّه تَعَالَى بالصدق وَقَالَ ذو النون: الصدق سَيْف اللَّه مَا وضع عَلَى شَيْء إلا قطعه , الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: أول خيانة الصديقين حديثهم مَعَ أنفسهم. وسئل فتح الموصلي عَنِ الصدق فأدخل يده فِي كير الحداد وأخرج الحديدة المحماة ووضعها عَلَى كفه وَقَالَ: هَذَا هُوَ الصدق وَقَالَ يُوسُف بْن أسباط: لأن أبيت ليلة أعامل اللَّه تَعَالَى بالصدق أحب إلي من أَن أضرب بسَيْفي فِي سبيل اللَّه تَعَالَى. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: الصدق أَن تكون كَمَا ترى من نفسك أَوْ ترى من نفسك كَمَا تكون. وسئل الحرث المحاسبي عَن علامة الصدق فَقَالَ: الصادق هُوَ الَّذِي لا يبالي لو خرج عَلَى قدر لَهُ فِي قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطلاع النَّاس عَلَى مثاقيل الذر من حسن عمله ولا يكره أَن يطلع النَّاس عَلَى السيئ من عمله فَإِن كراهته لِذَلِكَ دليل عَلَى أَنَّهُ يحب الزيادة عندهم وليس هَذَا من أخلاق الصديقين وَقَالَ بَعْضهم من لَمْ يؤد الفرض الدائم لا يقبل منه الفرض المؤقت قيل مَا الفرض الدائم قَالَ: الصدق وقيل: إِذَا طلبت اللَّه بالصدق أعطاك مرآة تبصر فِيهَا كُل شَيْء من عجائب الدنيا والآخرة وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أَنَّهُ يضرك فَإِنَّهُ ينفعك ودع الكذب حيث ترى أَنَّهُ ينفعك فَإِنَّهُ يضرك وقيل: كُل شَيْء شَيْء ومصادقة الكذاب لا شَيْء وقيل: علامة الكذب جوده باليمين بغير مستحلف وَقَالَ ابْن سيرين: الْكَلام أوسع من أَن يكذب ظريف وقيل: مَا أملق تاجر صدوق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 بَاب الحياء قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبْدُوسٍ الْحِيرِيُّ الْمُزَكِّيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّحْوِيُّ بِبَغْدَادَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَي بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَقْدِسِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْريُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الصَّبَّاحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَات يَوْم لأَصْحَابه: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ. قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحِي يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْيَذْكُرُ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ " سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول أَخْبَرَنَا أَبُو نصر الوزيري قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد قَالَ: حَدَّثَنَا الغلابي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مخلد عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ بَعْض الحكماء: أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت ابْن عَطَاء يَقُول العلم الأكبر الهيبة والحياء فَإِذَا ذهبت الهيبة والحياء لَمْ يبق فِيهِ خير وسمعته يَقُول: سمعت أبا الفرج الورثاني يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن يَعْقُوبَ يَقُول: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد الْمَلِك قَالَ: سمعت ذا النون الْمِصْرِي يَقُول: الحياء وجود الهيبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 فِي القلب مَعَ وحشة مَا سبق منك إِلَى ربك تَعَالَى وَقَالَ ذو النون: الحب ينطق والحياء يسكت والخوف يقلق وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: من تكلم فِي الحياء ولا يستحي من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فيما يتكلم بِهِ فَهُوَ مستدرج. سمعت أبا بَكْر بْن أشكيب يَقُول: دَخَلَ الْحَسَن بْن الحداد عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن منازل فَقَالَ: من أين تجئ فَقَالَ: من مجلس أَبِي القاسم المذكر فَقَالَ: فيما ذا كَانَ يتكلم فَقَالَ: فِي الحياء فَقَالَ: عَبْد اللَّهِ واعجباه من لَمْ يستح من اللَّه تَعَالَى كَيْفَ يتكلم فِي الحياء. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن صَالِح يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عبدون يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس المؤدب يَقُول: قَالَ السري إِن الحياء والأنس يطرقان القلب. فَإِن وجدا فِيهِ الزهد والورع حطا وإلا رحلا. وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: تعامل القرن الأَوَّل من النَّاس فيما بينهم بالدين حَتَّى رق الدين ثُمَّ تعامل القرن الثَّانِي بالوفاء حَتَّى ذهب الوفاء ثُمَّ تعامل القرن الثالث بالمروءة حَتَّى ذهبت المروءة ثُمَّ تعامل القرن الرابع بالحياء حَتَّى ذهب الحياء ثُمَّ صار النَّاس يتعاملون بالرغبة والرهبة وقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] البرهان أَنَّهَا ألقت ثوبا عَلَى وجه صنم فِي زاوية الْبَيْت، فَقَالَ يُوسُف: ماذا تفعلين فَقَالَتْ: أستحي منه قَالَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام أنا أولى منك أَن أستحي من اللَّه تَعَالَى. وقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: فجاءته إحداهما تمشى عَلَى استحياء قيل إِنَّمَا استحيت منه لأنها كانت تدعوه إِلَى الضيافة فاستحيت أَن لا يجب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام فصفة المضيف الاستحياء وَذَلِكَ استحياء الكرم. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد البلاذري يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ العمري يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن أَبِي الجواري يَقُول: سمعت أبا سلمان الداراني يَقُول: قَالَ اللَّه تَعَالَى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 عبدى إنك مَا استحييت منى أنسيت النَّاس عيوبك وأنسيت بقاع ذنوبك ومحوت من أم الكتاب زلاتك ولا أناقشك الحساب يَوْم الْقِيَامَة وقيل: رؤي رجل يلبي خارج الْمَسْجِد فقيل لَهُ لا تدخل الْمَسْجِد فتصلي فِيهِ فَقَالَ: استحي منه أَن أدخل بيته وَقَدْ عصيته وقيل: من علامات أَن لا يرى بموضع يستحيا منه وَقَالَ بَعْضهم: خرجنا ليلة فمررنا بأجمة فَإِذَا رجل نائم وفرس عِنْدَ راسه ترعى فحركناه وقلنا لَهُ ألا تخاف أَن تنام فِي مثل هَذَا الموضع المخوف وَهُوَ مسبع فرفع رأسه وَقَالَ: أنا أستحي منه أَن أخاف غيره ووضع رأسه ونام وأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى عيسى عَلَيْهِ السَّلام عظ نفسك فَإِن اتعظت فعظ النَّاس وإلا فاستح منى أَن تعظ النَّاس وقيل: الحياء عَلَى وجوه: حياء الجناية كآدم عَلَيْهِ السَّلام لما قيل لَهُ أفرار لا بَل حياء منك وحياء التقصير كالملائكة يقولون سبحانك مَا عبدناك حق عبادتك وحياء الإجلال كإسرافيل عَلَيْهِ السَّلام تسربل بجناحه حياء من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وحياء الكرم كالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يستحى من أمته أَن يَقُول اخرجوا فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53] وحياء حشمة كعلي رضى اللَّه عَنْهُ حِينَ سأل المقداد حَتَّى سأل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن حكم المذي لمكان فاطمة رضى اللَّه عَنْهَا وحياء الاستحقار كموسى عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: إني لتعرض لي الحاجة من الدنيا فأستحي أَن أسألك يا رب فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: سلني حَتَّى ملح عجينك , وعلف شاتك وحياء الإنعام هُوَ حياء الرب سبحانه يدفع إِلَى العبد كتابا مختوما بَعْد مَا عبر الصراط وإذا فِيهِ فعلت مَا فعلت ولقد استحييت أَن أظهر عليك فاذهب فاني قَدْ غفرت لَك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول فِي هَذَا الْخَبَر إِن يَحْيَي بْن معاذ قَالَ: سبحان من يذنب العبد فيستحي هُوَ منه. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَد بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت زنجويه اللباد يَقُول: سمعت عَلِي بْن الْحُسَيْن الهلالي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن الأشعث يَقُول: سمعت الفضيل بْن عياض يَقُول خمس من علامات الشقاء: القسوة فِي القلب وجمود العين وقلة الحياء والرغبة فِي الدنيا وطول الأمل وَفِي بَعْض الكتب: مَا أنصفني عبدى يدعوني فاستحيي أَن أرده ويعصيني فلا يستحيي منى وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ من استحيا من اللَّه مطيعا استحيا اللَّه تَعَالَى منه وَهُوَ مذنب. قَالَ الأستاذ واعلم أَن الحياء يوجب التذويب فيقال الحياء ذوبان الحشا لاطلاع المولى ويقال الحياء انقباض القلب لتعظيم الرب وقيل: إِذَا جلس الرجل ليعظ النَّاس ناداه ملكاه عظ نفسك بِمَا تعظ بِهِ أخاك وإلا فاستحيي من سيدك فَإِنَّهُ يراك. وسئل الجنيد عَنِ الحياء فَقَالَ: رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد من بينهما حالة تسمى الحياء وَقَالَ الواسطي لَمْ يذق لذعات الحياء من لابس خرق حد أَوْ نقض عهد. وَقَالَ الواسطي أَيْضًا المستحي يسيل منه العرق وَهُوَ الفضل الَّذِي فِيهِ وَمَا دام فِي النفس شَيْء فَهُوَ مصروف عَنِ الحياء. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: الحياء ترك الدعوى بَيْنَ يدي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس بْن الْوَلِيد الزوزني يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد الجوزجاني يَقُول: سمعت أبا بَكْر الوراق يَقُول: رُبَّمَا أصلى لِلَّهِ تَعَالَى ركعتين فأنصرف عَنْهُمَا وأنا بمنزلة من ينصرف عَنِ السرقة من الحياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 بَاب الحرية قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] قَالَ: إِنَّمَا آثروا عَلَى أنفسهم لتجردهم عما خرجوا منه وآثروا بِهِ. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي قُمَاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ النَّطَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ مُورَعِ بْنِ تَوْبَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنٍ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ مَا قَنَعَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ وَشِبْرٍ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الأَمْرُ إِلَى آخِرِهِ " قَالَ الأستاذ: الحرية أَن لا يَكُون العبد تَحْتَ رق المخلوقات ولا يجرى عَلَيْهِ سلطان المكونات وعلامة صحته: سقوط التمييز عَن تنبيه بَيْنَ الأشياء فيتساوى شدة أخطار الأعراض. قَالَ حارثة رضى اللَّه عَنْهُ لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عزفت نفسي عَنِ الدنيا فاستوى عندي حجرها وذهبها. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: من دَخَلَ الدنيا وَهُوَ عَنْهَا حر ارتحل إِلَى الآخرة وَهُوَ عَنْهَا حر. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد المراغي , يحكي عَنِ الدقي , عَنِ الدقاق , أَنَّهُ كَانَ يَقُول: من كَانَ فِي الدنيا حرا منها كَانَ فِي الآخرة حرا منها قَالَ الأستاذ: واعلم أَن حقيقة الحرية فِي كمال العبودية فَإِذَا صدقت لِلَّهِ تَعَالَى عبوديته خلصت عَن رق الأغيار حريته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 فأما من توهم أَن العبد يسلم لَهُ أَن يخلع وقتا عذار العبودية ويحيد بلحظة عَن حد الأمر والنهي وَهُوَ مميز فِي دار التكليف فذلك أنسلاخ من الدين قَالَ اللَّه سبحانه لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] يَعْنِي الأجل وعليه أجمع المفسرون وأن الَّذِي أشار إِلَيْهِ الْقَوْم من الحرية هُوَ أَن لا يَكُون العبد بقلبه تَحْتَ رق شَيْء من المخلوقات لا من أعراض الدنيا ولا من أعراض الآخرة فيكون فرد الفرد لَمْ يسترقه عاجل دنيا ولا حاصل هوى ولا آجل منى ولا سؤال ولا قصد ولا أرب ولا حظ وقيل للشبلي: ألا تعلم أَنَّهُ رحمن فَقَالَ: بلى ولكن منذ عرفت رحمته مَا سألته أَن يرحمني ومقام الحرية عزيز. سمعت الشيخ أبا عَلِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول كَانَ أَبُو الْعَبَّاس السياري يَقُول: لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بِهَذَا الْبَيْت: أتمنى عَلَى الزَّمَان محالا أَن ترى مقلتاي طلعة حر وَأَمَّا أقاويل المشايخ فِي الحرية فَقَالَ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور من أراد الحرية فليصل العبودية. وسئل الجنيد عمن لَمْ يبق عَلَيْهِ من الدنيا إلا مقدار مص نواة فَقَالَ: المكاتب عَبْد مَا بقي عَلَيْهِ درهم. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا عُمَر الأنماطي يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول إنك لا تصل إِلَى صريح الحرية وعليك من حقيقة عبوديته بقية وَقَالَ بشر الحافي: من أراد أَن يذوق طعم الحرية ويستريح من العبودية فليطهر السريرة بينه وبين اللَّه تَعَالَى وَقَالَ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور إِذَا استوفى العبد مقامات العبودية كلها يصير حرا من تعب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 العبودية فيترسم بالعبودية بلا عناء ولا كلفه ذَلِكَ مقام الأنبياء والصديقين يَعْنِي يصير محمولا لا يلحقه بقلبه مشقة وإن كَانَ متحليا بِهَا شرعا أنشدنا الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَ: أنشدنا أَبُو بَكْر الرازي قَالَ: أنشدني مَنْصُور الفقيه لنفسه: لما بقي فِي الأنس حر لا ولا فِي الجن حر قَدْ مضى حر الفريقين فحلو العيش مر واعلم أَن معظم الحرية فِي خدمة الفقراء. سمعت الشيخ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول أوحي اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام: إِذَا رأيت لي طالبا فكن لَهُ خادما وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سيد الْقَوْم خادمهم. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن الفضل يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الرومي يَقُول: سمعت يَحْيَي بْن معاذ يَقُول: أبناء الدنيا تخدمهم الإماء والعبيد وأبناء الآخرة تخدمهم الأحرار والأبرار. وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عُثْمَان بْن يَحْيَي يَقُول: سمعت عَلِي بْن مُحَمَّد الْمِصْرِي يَقُول: سمعت يُوسُف بْن مُوسَى يَقُول: سمعت بْن خيبق يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن أدهم يَقُول: إِن الحر الكريم يخرج من الدنيا قبل أَن يخرج منها وَقَالَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم: لا تصحب إلا حرا كريما يسمع ولا يتكلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 بَاب الذكر قَالَ اللَّه تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بشْرَانَ بِبَغْدَادَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ صَفْوَانَ الْبَرْدَعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ , عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ , عَنْ أَبِي بَحْرِيَّةَ , عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا أُنَبِّئْكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرَقِ وَأَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: مَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا الدَّيْرِيُّ , عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ , عَنْ عُمَرَ , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَنْ ثَابِتٍ , عَنْ أَنَسٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللَّهَ اللَّهَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُقَالُ فِي الأَرْضِ: اللَّهَ اللَّهَ قَالَ الأستاذ: الذكر ركن قوى فِي طريق الحق سبحانه وتعالى بَل هُوَ العمدة فِي هَذَا الطريق ولا يصل أحد إلى الله تَعَالَى إلا بدوام الذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 والذكر عَلَى ضربين: ذكر اللسان وذكر القلب فذكر اللسان بِهِ يصل العبد إِلَى استدامة ذكر القلب والتأثير لذكر القلب فَإِذَا كَانَ العبد ذاكرا بلسانه وقلبه فَهُوَ الكامل فِي وصفه فِي حال سلوكه. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول الذكر منشور الولاية فمن وفق للذكر فَقَدْ أعطى المنشور ومن سلب الذكر فَقَدْ عزب وقيل: إِن الشلبي كَانَ فِي ابتداء أمره ينزل كُل يَوْم سربا ويحمل مَعَ نَفْسه حزمة من القضبان فكان إِذَا دَخَلَ قلبه غلفه ضرب نَفْسه بتلك الخشب حَتَّى يكسرها عَلَى نَفْسه فربما كانت الحزمة تفنى قبل أَن يمسى فكان يضرب بيديه ورجليه عَلَى الحائط وقيل: ذكر اللَّه بالقلب سَيْف المريدين بِهِ يقاتلون أعداءهم وَبِهِ يدفعون الآفات الَّتِي يقصدهم وإن البلاء إِذَا أظل العبد فَإِذَا فزع بقلبه إِلَى اللَّه تَعَالَى يحيد عَنْهُ فِي الحال كُل مَا يكرهه. وسئل الواسطي عَنِ الذكر فَقَالَ: الخروج من ميدان الغفلة إِلَى فضاء المشاهدة عَلَى غلبة الخوف وشدة الحب. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا محمد البلاذري يَقُول: سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن بَكْر يَقُول: سمعت ذا النون الْمِصْرِي يَقُول: من ذكر اللَّه تَعَالَى ذكرا عَلَى الحقيقة نسى فِي جنب ذكره كُل شَيْء وحفظ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ كُل شَيْء وَكَانَ لَهُ عوضا عَن كُل شَيْء، وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ المعلم يَقُول: سمعت أَحْمَد المسجدي يَقُول: سئل أَبُو عُثْمَان فقيل لَهُ: نحن نذكر اللَّه تَعَالَى ولا نجد فِي قلوبنا حلاوة فَقَالَ: احمدوا اللَّه تَعَالَى عَلَى أَن زين جارحة من جوارحكم بطاعته، وَفِي الْخَبَر المشهور عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 إِذَا رأيتم رياض الْجَنَّة فارتعوا فِيهَا، فقيل لَهُ: وَمَا رياض الْجَنَّة؟ فَقَالَ: مجالس الذكر. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ بِشْرَانَ بِبَغْدَادَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ صَفْوَانَ الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا بْنُ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ , عَنْ عُمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ أَخْبَرَهُ , عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَأَيُّهَا النَّاسُ، ارْتَعُوا فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ قَالَ: اغْدُوا وَرُوحُوا وَاذْكُرُوا مَنْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ وسمعته مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد الفراء يَقُول: سمعت الشبلي يَقُول: أليس اللَّه تَعَالَى يَقُول: أنا جليس من ذكرني؟ مَا الَّذِي استفدتم من مجالسة الحق سبحانه، وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُوسَى السلامي يَقُول: سمعت الشبلي ينشد فِي مجلسه: ذكرتك لا أنى نسيتك لمحة ... وأيسر مَا فِي الذكر ذكر لساني وكدت بلا وجد أموت من الهوى ... وهام عَلَى القلب بالخفقان فلما أراني الوجد أنك حاضري ... شهدتك موجودا بكل مكان فخاطبت موجودا بغير تكلم ... ولاحظت معلوما بغير عيان ومن خصائص الذكر أَنَّهُ غَيْر مؤقت بَل مَا من وقت من الأوقات إلا والعبد مأمور بذكر اللَّه تَعَالَى إِمَّا فرضا وإما ندبا والصلاة وإن كانت أشرف العبادات فَقَدْ لا تجوز فِي بَعْض الأوقات والذكر بالقلب مستدام فِي عموم الحالات، قَالَ اللَّه تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 سمعت الإِمَام أبا بَكْر بْن فورك رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: قياما بحق الذكر وقعودا عَنِ الدعوى فِيهِ، سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يسأل الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق فَقَالَ: الذكر أتم أم الفكر؟ فَقَالَ الأستاذ أَبُو عَلَى: مَا الَّذِي يقع للشيخ منه فَقَالَ الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: عندي الذكر أتم من الفكر، لأن الحق سبحانه يوصف بالذكر ولا يوصف بالفكر وَمَا وصف بِهِ الحق سبحانه أتم مَا اختص بِهِ الخلق فاستحسنه الأستاذ أَبُو عَلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت الكتاني يَقُول: لولا أَن ذكره فرض عَلَى لما ذكرته إجلالا لَهُ مثلى يذكره وَلَمْ يغسل فمه بألف توبة متقبلة عَن ذكره. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ ينشد لبعضهم: مَا إِن ذكرتك إلا هُمْ يزجرني ... قلب وسرى وروحي عِنْدَ ذكراكا حَتَّى كأن رقيبا منك يهتف بي ... إياك ويحك والتذكار إياك ومن خصائص الذكر أَنَّهُ جعل فِي مقابلته الذكر قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وَفِي خبر أَن جبريل عَلَيْهِ السَّلام قَالَ لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِن اللَّه تَعَالَى: يَقُول أعطيت أمتك مَا لَمْ أعط أمة من الأمم فَقَالَ: وَمَا ذاك يا جبريل؟ فَقَالَ: قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] لَمْ يقل هَذَا لأحد غَيْر هذه الأمة. وقيل: إِن الْمَلِك يستأمر الذاكر فِي قبض روحه. وَفِي بَعْض الكتب أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: يا رب أين تسكن؟ فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ فِي قلب عبدى المؤمن ومعناه سكون الذكر فِي القلب فَإِن الحق سبحانه وتعالى منزه عَن كُل سكون وحلول وإنما هُوَ إثبات ذكر وتحصيل. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 فارسا يَقُول: سمعت الثَّوْرِي يَقُول: سمعت ذا النون الْمِصْرِي وسألته عَنِ الذكر فَقَالَ: غيبة الذاكر عَنِ الذكر ثُمَّ أنشأ يَقُول: لا لأني أنساك أَكْثَر ذكراك ولكن بذاك يجرى لساني. وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: مَا من يَوْم إلا والجليل سبحانه ينادي: عبدى مَا أنصفتني أذكرك وتنساني وأدعوك إِلَى وتذهب إِلَى غيرى وأذهب عَنْك البلايا وأنت معتكف عَلَى الخطايا يا ابْن آدم مَا تقول غدا إِذَا جئتني. وَقَالَ سلمان الداراني: إِن فِي الْجَنَّة قيعانا فَإِذَا أخذ الذاكر فِي الذكر أخذت الملائكة فِي غرس الأشجار فِيهَا فربما يقف بَعْض الملائكة فيقال لَهُ: لَمْ وقفت فيقال فتر صاحبي وَقَالَ الْحَسَن: تفقدوا الحلاوة فِي ثلاثة أشياء فِي الصلاة والذكر وقراءة الْقُرْآن فَإِن وجدتم وإلا فاعلموا أَن الباب مغلق وَقَالَ حامد الأسود: كنت مَعَ إِبْرَاهِيم الخواص فِي سفر فجئنا إِلَى موضع فِيهِ حيات كثيرة فوضع ركوته وجلس وجلست فلما كَانَ برد الليل وبرد الهواء خرجت الحيات فصحت بالشيخ فَقَالَ: اذكر اللَّه تَعَالَى فذكرت فرجعت ثُمَّ عادت فصحت بِهِ فَقَالَ: مثل ذَلِكَ فلم أزل إِلَى الصباح فِي مثل تلك الحالة فلما أصبحنا قام ومشى ومشيت مَعَهُ فسقطت من وطائه حية عظيمة قَدْ تطوقت بِهِ فَقُلْتُ: مَا أحسست بِهَا فَقَالَ: لا منذ زمان مَا بت ليلة أطيب من البارحة وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: من لَمْ يذق وحشة الغفلة لَمْ يجد طعم أَنَس الذكر. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد اللَّهِ الذبياني يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: سمعت السري يَقُول: مكتوب فِي بَعْض الكتب الَّتِي أنزل اللَّه تَعَالَى إِذَا كَانَ الغالب عَلَى عبدى ذكرى عشقني وعشقته وبإسناده أَنَّهُ أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام بي فافرحوا وبذكري فتنعموا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وَقَالَ النوري: لكل شَيْء عقوبة وعقوبة العارف انقطاعه عَنِ الذكر وَفِي الإنجيل اذكرني حِينَ تغضب أذكرك حِينَ أغضب وارض بنصرتي لَك فَإِن نصرتي لَك خير لَك من نصرتك لنفسك وقيل لراهب: أَنْتَ صائم فَقَالَ: صائم بذكره فَإِذَا ذكرت غيره أفطرت وقيل: إِذَا تمكن الذكر من القلب فَإِن دنا منه الشَّيْطَان صرع كَمَا يصرع الإِنْسَان إِذَا دنا منه الشَّيْطَان فتجتمع إِلَيْهِ الشياطين فيقولون مَا لِهَذَا فيقال قَدْ مسه الإنس وَقَالَ سهل مَا أعرف معصية أقبح من نسيان هَذَا الرب وقيل: الذكر الخفي لا يرفعه الْمَلِك لأنه لا اطلاع لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ سر بَيْنَ العبد وبين اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ: بَعْضهم وصف لي ذاكر فِي أجمة فأتيته فبينا هُوَ جالس إِذَا سبع عظيم ضربه ضربة واستلب منه قطعة فغشى عَلَيْهِ وعلى فلما أفاق قُلْت: مَا هَذَا فَقَالَ: قيض اللَّه هَذَا السبع عَلَى فكلما دخلتني فترة عضني عضة كَمَا رأيت. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن يَحْيَي يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن نصير يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: كَانَ بَيْنَ أَصْحَابنا رجل يكثر أَن يَقُول اللَّه اللَّه فوقع يوما عَلَى رأسه جذع فانشج رأسه وسقط الدم فاكتتب عَلَى الأَرْض اللَّه اللَّه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 بَاب الفتوة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] قَالَ الأستاذ: أصل الفتوة أَن يَكُون العبد أبدا فِي أمر غيره قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يزال اللَّه تَعَالَى فِي حاجة العبد مَا دام العبد فِي حاجة أخيه المسلم أَخْبَرَنَا بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الأَسْلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمَزَ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول هَذَا الخلق لا يَكُون كماله إلا لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِن كُل أحد فِي الْقِيَامَة يَقُول: نفسي نفسي وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: أمتي أمتي. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الفرغاني يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: الفتوة بالشأم واللسان بالعراق والصدق بخراسان. وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الرازي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن نصير بْن مَنْصُور الصائغ يَقُول: سمعت ابْن مردويه الصائغ يَقُول: سمعت الفضل يَقُول: الفتوة الصفح عَن عثرات الإخوان. وقيل: الفتوة أَن لا ترى لنفسك فضلا عَلَى غيرك وَقَالَ أَبُو بَكْر الوراق الفتى من لا يَكُون خصما لأحد. وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ الترمذي: الفتوة أَن تكون خصما لربك عَلَى نفسك ويقال: الفتى من لا خصم لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: سمعت النصرأباذي يَقُول سمي أَصْحَاب الكهف فتية، لأنهم آمنوا بالله تَعَالَى بلا واسطة وقيل: الفتى من كسر الصنم قَالَ اللَّه تَعَالَى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] وَقَالَ تَعَالَى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء: 58] وصنم كُل إِنْسَان نَفْسه فمن خالف هواه فَهُوَ فتى عَلَى الحقيقة. وَقَالَ الحرث المحاسبي: الفتوة أَن تنصف ولا تنتصف وَقَالَ عَمْرو بْن عُثْمَان المكي: الفتوة حسن الخلق. وسئل الجنيد عَنِ الفتوة فَقَالَ: أَن لا تنافر فقيرا ولا تعارض غنيا وَقَالَ النصرأباذي: المروءة شُعْبَة من الفتوة وَهُوَ الإعراض عَنِ الكونين والأنفة منهما وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ الترمذي: الفتوة أَن يستوي عندك المقيم والطارئ. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَلِي بْن عُمَر الحافظ يَقُول: سمعت أبا سهل بْن زِيَاد يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَد بْن حنبل يَقُول سئل أَبِي مَا الفتوة؟ فَقَالَ: ترك مَا تهوى لما تخشى وقيل لبعضهم: مَا الفتوة فَقَالَ: أَن لا يميز بَيْنَ أَن يأكل عنده ولى أَوْ كافر. سمعت بَعْض الْعُلَمَاء يَقُول: استضاف مجوسي إِبْرَاهِيم الخليل عَلَيْهِ السَّلام فَقَالَ: بشرط أَن تسلم فمر المجوسي فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: منذ خمسين سنة نطمعه عَلَى كفره فلو ناولته لقمة من غَيْر أَن تطالبه بتغيير دينه فمضى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلام عَلَى أثره حَتَّى أدركه واعتذر إِلَيْهِ فسأله عَنِ السبب فذكر ذَلِكَ لَهُ فأسلم المجوسي. وَقَالَ الجنيد: الفتوة كف الأذى وبذل الندى وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: الفتوة اتباع السنة وقيل: الفتوة الوفاء والحفاظ وقيل: الفتوة فضيلة تأتيها ولا ترى نفسك فِيهَا وقيل: الفتوة أَن لا تهرب إِذَا أقبل السائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 وقيل: أَن لا تحتجب من القاصدين وقيل: أَن لا تدخر ولا تعتذر وقيل: إظهار النعمة وإسرار المحنة. وقيل أَن تدعو عشرة أنفس فلا تتغير إِن جاء تسعة أَوْ أحد عشر وقيل: الفتوة ترك التمييز. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: قَالَ أَحْمَد بْن خضرويه لأمرأته أم عَلَى أريد أَن أتخذ دعوة أدعو عيارا شاطرا كَانَ فِي بلدهم رأس الفتيان قَالَت امرأته: إنك لا تهتدي إِلَى دعوة الفتيان فَقَالَ: لابد فَقَالَتْ: إِن فعلت فاذبح الأغنام والبقر والحمر وألقها من بَاب دار الرجل إِلَى بَاب دارك فَقَالَ: أما الأغنام والبقر فأعلم فَمَا بال الحمر فَقَالَتْ تدعو فتى إِلَى دارك فلا أقل من أَن يَكُون لكلاب المحلة خير. وقيل: اتخذ بَعْضهم دعوة وفيهم شيخ شيرازي فلما أكلوا وقع عَلَيْهِم النوم فِي حال السماع فَقَالَ الشيخ الشيرازي لصاحب الدعوة: إيش السبب فِي نومنا فَقَالَ: لا أدري اجتهدت فِي جَمِيع مَا أطعمتكم إلا الباذنجان فلم أسأل عَنْهُ فلما اصبحوا سألوا بياع الباذنجان فَقَالَ: لَمْ يكن لي شَيْء فسرقت الباذنجان من الموضع الفلاني وبعته فحملوه إِلَى صاحب الأَرْض ليجعله فِي حل فَقَالَ الرجل: تسألون مني ألف باذنجانة قَدْ وهبته تلك الأَرْض ووهبته ثورين وحمارا وآلة الحرث لئلا يعود إِلَى مثل مَا فعل. وقيل: تزوج رجل بامرأة فقبل الدخول ظهر بالمرأة الجدري فَقَالَ: الرجل اشتكت عيني ثُمَّ قَالَ: عميت فزفت إِلَيْهِ المرأة ثُمَّ ماتت بَعْد عشرين سنة ففتح الرجل عينيه فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَمْ أعم ولكن تعاميت حذرا أَن تحزن فقيل لَهُ سبقت الفتيان. وَقَالَ ذو النون الْمِصْرِي من أراد الظرف فَعَلَيْهِ بسقاة الماء ببغداد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 فقيل لَهُ كَيْفَ هُوَ فَقَالَ: لما حملت إِلَى الخليفة فيما نسب إِلَى من الزندقة رأيت سقاء عَلَيْهِ عمامة وَهُوَ مترد بمنديل مصري وبيده كيزان خزف رقاق فَقُلْتُ: هَذَا ساقى السلطان فَقَالُوا: لا هَذَا ساقي العامة فأخذت الكوز وشربت وقلت لمن معى أعطه دِينَار فلم يأخذ وَقَالَ: أَنْتَ أسير وليس من الفتوة أَن نأخذ منك شَيْئًا وقيل: لَيْسَ من الفتوة أَن تربح عَلَى صديقك قاله بَعْض أصدقائنا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ فتى يسمى أَحْمَد بْن سهل التاجر وَقَد اشتريت منه خرقة بياض فأخذ الثمن رأس ماله فَقُلْتُ: ألا تأخذ ربحا فَقَالَ: أما الثمن فآخذه ولا أحملك منه لأنه لَيْسَ لَهُ من الخطر مَا أتخلق بِهِ معك ولكن لا آخذ الربح إذ لَيْسَ من الفتوة أَن تربح عَلَى صديقك. وقيل: خرج إِنْسَان يدعى الفتوة من نيسابور إلى نسا فاستضافه رجل ومعه جَمَاعَة من الفتيان، فلما فرغوا من الطعام خرجت جارية تصب الماء عَلَى أيديهم فانقبض النَّيْسَابُورِيّ عَن غسل اليد وَقَالَ: لَيْسَ من الفتوة أَن تصب النسوان الماء على أيدي الرجال. فَقَالَ واحد مِنْهُم: أنا منذ سنين أدخل هذه الدار لَمْ أعلم أَن امْرَأَة تصب الماء عَلَى أيدينا أم رجلا. سمعت منصورا المغربي يَقُول: أراد واحد أَن يمتحن نوحا العيار النَّيْسَابُورِيّ فباع منه جارية فِي زي غلام وشرط أَنَّهُ غلام وكانت وضيئة الوجه فاشتراها نوح عَلَى أَنَّهَا غلام ولبثت عنده شهورا كثيرة، فقيل للجارية هل علم أنك جارية؟ فَقَالَتْ: لا إنه مَا مسني ويتوهم أني غلام وقيل: إِن بَعْض الشطار طلب منه تسليم غلام كَانَ يخدمه إِلَى السلطان فأبي فضرب ألف سوط فلم يسلم فاتفق أَنَّهُ احتلم تلك الليلة وَكَانَ بردا شديدا فلما أصبح اغتسل بالماء البارد فقيل لَهُ خاطرت بروحك فَقَالَ: استحييت من اللَّه تَعَالَى أَن أصبر عَلَى ضرب ألف سوط لأجل مخلوق ولا أصبر عَلَى مقاساة برد الاغتسال لأجله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 وقيل: قدم جَمَاعَة من الفتيان لزيارة وحد يدعى الفتوة فَقَالَ الرجل: يا غلام قدم السفرة فلم يقدم فَقَالَ الرجل: ثانيا وثالثا فنظر بَعْضهم إِلَى بَعْض وَقَالُوا: لَيْسَ من الفتوة أَن يستخدم الرجل من يتعاصى عَلَيْهِ فِي تقديم السفرة كُل هَذَا فَقَالَ الرجل: لَمْ أبطأت بالسفرة فَقَالَ الغلام: كَانَ عَلَيْهَا نمل فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إِلَى الفتيان مَعَ النمل وَلَمْ يكن من الفتوة إلقاء النمل من السفرة فلبثت حَتَّى دب النمل فَقَالُوا: دققت يا غلام مثلك من يخدم الفتيان. وقيل: إِن رجلا نام بالمدينة من الحاج فتوهم أَن هميانه سرق فخرج فرأى جعفرا الصادق فتعلق بِهِ وَقَالَ: أخذت همياني فَقَالَ: إيش كَانَ فِيهِ؟ فَقَالَ: ألف دِينَار فأدخله داره ووزن لَهُ ألف دِينَار فرجع الرجل إِلَى منزله ودخل بيته فرأى هميانه فِي بيته وَقَدْ كَانَ توهم أَنَّهُ سرق فخرج إِلَى جَعْفَر معتذر ورد عَلَيْهِ الدنانير فأبي أَن يقبلها وَقَالَ شَيْء أخرجته من يدي لا أسترده فَقَالَ الرجل: من هَذَا؟ فقيل جَعْفَر الصادق. وقيل: سأل شقيق البلخي جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنِ الفتوة فَقَالَ: مَا تقول أَنْتَ؟ فَقَالَ شقيق: إِن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا قَالَ جَعْفَر الكلاب عندنا بالمدينة كَذَلِكَ نفعل فَقَالَ شقيق: يا ابْن بنت رَسُول اللَّهِ مَا الفتوة عندكم؟ فَقَالَ: إِن أعطينا آثرنا وإن منعنا شكرنا. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت الجريري يَقُول دعانا أَبُو الْعَبَّاس بْن مسروق ليلة إِلَى بيته فاستقبلنا صديق لنا فقلنا ارجع معنا فنحن فِي ضيافة الشيخ فَقَالَ: إنه لَمْ يدعني فقلنا نحن نستثني كَمَا استثنى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 فرددناه فلما بلغ بَاب الشيخ أخبرناه بِمَا قَالَ وقلنا فَقَالَ: جعلت موضعي من قلبك أَن تجئ إِلَى منزلي من غَيْر دعوة عَلَى كَذَا وكذا إِن مشيت إِلَى الموضع الَّذِي تقعد فِيهِ إلا عَلَى خدي وألح عَلَيْهِ ووضع خده عَلَى الأَرْض وحمل الرجل , فوضع قدمه عَلَى خده من غَيْر أَن يوجعه وسحب الشيخ وجهه عَلَى الأَرْض إِلَى أَن بلغ موضع جلوسه. قَالَ الأستاذ: واعلم أَن من الفتوة الستر عَلَى عيوب الأصدقاء لا سيما إِذَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ شماتة الأعداء. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: كَانَ يقال للنصرأباذي كثيرا: إِن عليا القوال يشرب بالليل ويحضر مجلسك بالنهار وَكَانَ لا يسمع فِيهِ مَا يقال فاتفق أَنَّهُ كَانَ يمشى يوما ومعه واحد مِمَّن يذكر عليا بِذَلِكَ فوجد عليا مطروحا فِي موضع وَقَدْ ظهر عَلَيْهِ أثر السكر وصار بحيث يغسل فمه فَقَالَ: الرجل إِلَى كم نقول للشيخ ولا يسمع؟ هَذَا عَلَى الوصف الَّذِي نقول فنظر إِلَيْهِ النصر أباذي وَقَالَ للعذول: احمله عَلَى رقبتك وانقله إِلَى منزله فلم يجد بدا من طاعته فِيهِ، وسمعته يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الفارسي يَقُول: سمعت المرتعش يَقُول: دخلنا مَعَ أَبِي حفص عَلَى مريض نعوده ونحن جَمَاعَة فَقَالَ للمريض: أتحب أَن تبرأ فَقَالَ: نعم فَقَالَ: لأَصْحَابه تحملوا عَنْهُ فقام العليل وخرج معنا وأصبحنا كلنا أَصْحَاب فراش نعاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 بَاب الفراسة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] قيل: للمتفرسين. أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الرَّازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ السَّكَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْكُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ , عَنْ عَطِيَّةَ , عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الأستاذ: الفراسة خاطر يهجم عَلَى القلب فينفى مَا يضاده وَلَهُ عَلَى القلب حكم اشتقاقا من فريسة السبع وليس فِي مقابلة الفراسة مجوزات للنفس وَهِيَ عَلَى حسب قوة الإيمان فَكُل من كَانَ أقوى إيمانا كن أحد فراسة وَقَالَ أَبُو سَعِيد الخراز: من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق وتكون مواد علمه من الحق بلا سهو. ولا غفلة بَل حكم حق جرى عَلَى لسان عَبْد. وقوله: نظر بنور الحق يعنى بنور خصه بِهِ الحق سبحانه. وَقَالَ الواسطي: إِن الفراسة سواطع أنوار لمعت فِي القلوب وتمكين معرفة حملت السرائر فِي الغيوب من غيب إِلَى غيب حَتَّى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق سبحانه إياها فيتكلم عَلَى ضمير الخلق. ويحكى عن أَبِي الْحَسَن الديلمي أَنَّهُ قَالَ: دخلت أنطاكية لأجل أسود قيل لي إنه يتكلم عَلَى الأسرار فأقمت فِيهَا إِلَى أَن أخرج من جبل لكام ومعه شَيْء من المباح يبيعه وكنت جائعا منذ يومين لَمْ آكل شَيْئًا فَقُلْتُ لَهُ: بكم هَذَا وأوهمت أني أشتري مَا بَيْنَ يديه فَقَالَ: اقعد ثُمَّ حَتَّى إِذَا بعناه نعطيك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 مَا تشتري بِهِ شَيْئًا فتركه وسرت إِلَى غيره أوهمه أني أساومه ثُمَّ رجعت إِلَيْهِ وقلت لَهُ إِن كنت تبيع هَذَا فقل لي بكم؟ فَقَالَ: إِنَّمَا جعت يومين أقعد ثُمَّ حَتَّى إِذَا بعناه نعطيك مَا تشترى بِهِ شَيْئًا فقعدت فلما باعه أعطاني شَيْئًا ومشى فتبعته فالتفت إِلَى وَقَالَ إِذَا عرض لَك حاجة فأنزلها بالله تَعَالَى إلا أَن يَكُون لنفسه بها حظ فتحجب عَنِ اللَّه تَعَالَى. وسمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت الكتاني يَقُول الفراسة مكاشفة اليقين ومعاينة الغيب وَهِيَ من مقامات الإيمان. وقيل: كَانَ الشَّافِعِي ومحمد بْن الْحَسَن رحمهما اللَّه تَعَالَى فِي الْمَسْجِد الحرام فدخل رجل فَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن: أتفرس أَنَّهُ نجار، وَقَالَ الشَّافِعِي: أتفرس أَنَّهُ حداد فسألاه فَقَالَ: كنت قبل هَذَا حدادا والساعة أنجر وَقَالَ أَبُو سَعِيد الخراز: المستنبط من يلاحظ الغيب أبدا ولا يغيب عَنْهُ ولا يخفى عَلَيْهِ شَيْء وَهُوَ الَّذِي دل عَلَيْهِ قَوْل تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] والمتوسم هُوَ الَّذِي يعرف الوسم وَهُوَ العارف بِمَا فِي سويداء القلوب بالاستدلال والعلامات قَالَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] أي للعارفين بالعلامات الَّتِي يبديها عَلَى الفريقين من أوليائه وأعدائه والمتفرس ينظر بنور اللَّه تَعَالَى وَذَلِكَ سواطع أنوار لمعت فِي قلبه فأدرك بِهَا المعاني وَهُوَ من خواص الإيمان وَالَّذِينَ هُمْ أَكْثَر من حظا الربانيون قَالَ اللَّه تَعَالَى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] يعنى: علماء حكماء متخلقين بأخلاق الحق نظرا وخلقا وَهُمْ فارغون عَنِ الإخبار عَنِ الخلق والنظر إليهم والاشتغال بِهِمْ وقيل: كَانَ أَبُو القاسم المنادي مريضا وَكَانَ كبير الشأن من مشايخ نيسابور فعاده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 أَبُو الْحَسَنِ البوشنجي , والحسن الحداد , واشتريا بنصف درهم تفاحا فِي الطريق نسيئة وحملاه إِلَيْهِ فلما قعدا قَالَ أَبُو القاسم: مَا هذه الظلمة فخرجا وَقَالا: إيش فعلنا؟ وتفكرا فقالا: لعلنا لَمْ نؤد ثمن التفاح فأعطيا الثمن وعادا إِلَيْهِ فلما وقع بصره عليهما قَالَ: يمكن الإِنْسَان أَن يخرج من الظلمة بِهَذِهِ السرعة أخبراني عَن شأنكما فذكرا لَهُ القصة فَقَالَ: نعم كَانَ يعتمد كُل واحد منكما عَلَى صاحبه فِي إعطاء الثمن والرجل يستحي منكما فِي التقاضي فكان يتقي التبعة وأنا السبب إِنَّمَا رأيت ذَلِكَ فيكما وَكَانَ أَبُو القاسم المنادي هَذَا يدخل السوق كُل يَوْم ينادى فَإِذَا وقع بيده مَا فِيهِ كفايته من دانق إِلَى نصف درهم خرج وعاد إِلَى رأس وقته ومراعاة قلبه، وَقَالَ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور الحق إِذَا استولى عَلَى سر ملكه الأسرار فيعاينها ويخبر عَنْهَا، وسئل بَعْضهم عَنِ الفراسة فَقَالَ: أرواح تتقلب فِي الملكوت فتشرف عَلَى معاني الغيوب فتنطق عَن أسرار الخلق نطق مشاهدة لا نطق ظن وحسبان، وقيل: كَانَ بَيْنَ زَكَرِيَّا الشختني وبين امْرَأَة سبب قبل توبته فكان يوما واقفا عَلَى رأس أَبِي عُثْمَان الحيري بَعْد مَا صار من خواص تلامذته فتفكر فِي شأنها فرفع أَبُو عُثْمَان رأسه إِلَيْهِ وَقَالَ: أما تستحيي. قَالَ الأستاذ الإِمَام رَحِمَهُ اللَّهُ كنت فِي ابتداء وصلتي بالأستاذ أَبِي عَلِي رضى اللَّه عَنْهُ عقد لي المجلس فِي مَسْجِد المطرز فاستأذنته وقتا للخروج إِلَى نسا فأذن لي فكنت أمشى مَعَهُ يوما فِي طريق مجلسه فخطر ببالي ليته يتوب عنى فِي مجالسي أَيَّام غيبتي فالتفت إِلي وَقَالَ أنوب عَنْك أَيَّام غيبتك فِي عقد المجالس فمشيت قليلا فخطر ببالي أَنَّهُ عليل يشق عَلَيْهِ أَن ينوب عنى فِي الأسبوع يومين فليته يقتصر عَلَى يَوْم واحد فِي الأسبوع فالتفت إلي وَقَالَ: إِن لَمْ يمكني فِي الأسبوع يومان أنوب عَنْك فِي الأسبوع مرة واحدة فمشيت مَعَهُ قليلا , فخطر ببالي شَيْء ثالث فالتفت إلي وصرح بالإخبار عَنْهُ عَلَى القطع. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت جدى أبا عَمْرو بْن نجيد يَقُول: كَانَ شاه الكرماني حاد الفراسة لا يخطئ وَيَقُول: من غض بصره عَنِ المحارم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 وأمسك نَفْسه عَنِ الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة وتعود أكل الحلال لَمْ تخطئ فراسته، وسئل أَبُو الْحَسَنِ النوري من أين تولدت فراسة المتفرسين فَقَالَ: من قَوْله تَعَالَى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] فمن كَانَ حظه من ذَلِكَ النور أتم كانت مشاهدته أحكم وحكمه بالفراسة أصدق ألا ترى كَيْفَ أوجب نفخ الروح فِيهِ السجود لَهُ بقوله تَعَالَى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] قَالَ الأستاذ: وَهَذَا الْكَلام من أَبِي الْحَسَن النوري فِيهِ أدنى غموض وإبهام بذكر نفخ الروح لا لتصويب من يَقُول بقدم الأرواح ولا كَمَا يلوح لقلوب المستضعفين فَإِن الَّذِي يصح عَلَيْهِ النفخ والاتصال والانفصال فَهُوَ قابل للتأثير والتغيير وَذَلِكَ من سمات الحدوث وإن اللَّه سبحانه وتعالى خص الْمُؤْمِنيِنَ ببصائر وأنوار بِهَا يتفرسون وَهِيَ فِي الحقيقة معارف وعليه يحمل قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ ينظر بنور اللَّه أي: بعلم وبصيرة يخصه اللَّه تَعَالَى بِهِ ويفرده بِهِ من دُونَ أشكاله , وتسمية العلوم والبصائر أنوار غَيْر مستبدع ولا يبعد وصف ذَلِكَ بالنفخ والمراد منه الخلق. وَقَالَ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور: المتفرس هُوَ المصيب بأول مرماه إِلَى مقصده ولا يعرج عَلَى تأويل وظن وحسبان وقيل: فراسة المريدين تكون ظنا يوجب تحقيقا وفراسة العارفين تحقيق يوجب حقيقة وَقَالَ أَحْمَد بْن عَاصِم الأنطاكي: إِذَا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون فِي قلوبكم ويخرجون منها من حيث لا تحسون. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 الخلدي يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الحداد يَقُول: الفراسة أول خاطر بلا معارض فَإِن عارض معارض من جنسه فَهُوَ خاطر وحَدِيث نفس. ويحكى عَن أَبِي عَبْد اللَّهِ الرازي نزيل نيسابور قَالَ كساني ابْن الأنباري صوفا ورأيت عَلَى رأس الشبلي قلنسوة ظريفة تليق بِذَلِكَ الصوف فتمنيت فِي نفسي أَن يكونا جميعا لي فلما قام الشبلي من مجلسه التفت إِلَى فتبعته وَكَانَ عادته إِذَا أراد أَن أتبعه يلتفت إِلَى فلما دَخَلَ داره دخلت فَقَالَ: انزع الصوف فنزعنه فلفه وطرح القلنسوة عَلَيْهِ ودعا بنار فأحرقهما. وَقَالَ أَبُو حفص النَّيْسَابُورِيّ: لَيْسَ لأحد أَن يدعى الفراسة ولكن يتقى الفراسة من الغير، لأن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اتقوا فراسة المؤمن وَلَمْ يقل تفرسوا وكيف يصح دعوى الفراسة لمن هُوَ فِي محل اتقاء الفراسة وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس بْن مسروق: دخلت عَلَى شيخ من أَصْحَابنا أدعوه فوجدته عَلَى حال رثة فَقُلْتُ فِي نفسي: من أين يرتزق هَذَا الشيخ فَقَالَ: يا أبا الْعَبَّاس دع عَنْك هذه الخواطر الدنيئة فَإِن لِلَّهِ ألطافا خفية. ويحكى عَنِ الزبيدي قَالَ: كنت فِي مَسْجِد ببغداد مَعَ جَمَاعَة من الفقراء فلم يفتح عَلَيْنَا بشيء أياما فأتيت الخواص لأسأله شَيْئًا فلما وقع بصره عَلَى قَالَ: الحاجة الَّتِي جئت لأجلها يعلمها اللَّه تَعَالَى أم لا فَقُلْتُ: بلى فَقَالَ: اسكت ولا تبدها لمخلوق فرجعت وَلَمْ ألبث إلا قليلا حَتَّى فتح عَلَيْنَا بِمَا فَوْقَ الكفاية وقيل: كَانَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ يوما فِي الجامع فوقع حمام فِي الْمَسْجِد من شدة مَا لحقه من الحر والمشقة فَقَالَ سهل: إِن شاه الكرماني مَات الساعة إِن شاء اللَّه تَعَالَى فكتبوا ذَلِكَ فكان كَمَا قَالَ. وقيل: خرج أَبُو عَبْد اللَّهِ التروغندي وَكَانَ كبير الوقت إِلَى طوس فلما بلغ خر وَقَالَ لصاحبه اشتر الخبز فاشترى مَا يكفيهما فَقَالَ: اشتر أَكْثَر فاشترى صاحبه مَا يكفى عشرة أنفس تعمدا فكأنه لَمْ يجعل لقول ذَلِكَ الشيخ تحقيقا قَالَ فلما صعدنا إِلَى الجبل إِذَا بجماعة قيدتهم اللصوص لَمْ يأكلوا منذ مدة فسألونا الطعام فَقَالَ: قدم إليهم السفرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 قَالَ الأستاذ الإِمَام رضى اللَّه عَنْهُ كنت بَيْنَ يدي الأستاذ أَبِي عَلِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ يوما فجرى حَدِيث الشيخ أَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رَحِمَهُ اللَّهُ وأنه يقوم فِي السماع موافقة للفقراء فَقَالَ الأستاذ أَبُو عَلَى مثله فِي حاله لعل السكون أولى بِهِ ثُمَّ قَالَ فِي ذَلِكَ المجلس أمض إِلَيْهِ فتجده وَهُوَ قاعد فِي بَيْت كتبه وعلى وجه الكتب مجلدة حمراء مربعة صغيرة فِيهَا أشعار الْحُسَيْن بْن مَنْصُور فاحمل تلك المجلدة ولا تقل لَهُ شَيْئًا وجئني بِهَا وَكَانَ وقت هاجر فدخلت عَلَيْهِ وإذا هُوَ فِي بَيْت كتبه والمجلدة موضوعة بحيث ذكر فلما قعدت أخذ الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ فِي الْحَدِيث وَقَالَ كَانَ بَعْض النَّاس ينكر عَلَى أحد من الْعُلَمَاء حركته فِي السماع فرأى ذَلِكَ الإِنْسَان يوما خاليا فِي بَيْت وَهُوَ يدور كالمتواجد فسئل عَن حاله فَقَالَ: كانت مسألة مشكلة عَلَى فتبين لي معناها فلم أتمالك من السرور حَتَّى قمت أدور فقيل لَهُ مثل هَذَا يَكُون حالهم فلما رأيت مَا أمرني بِهِ الأستاذ أَبُو عَلِي وَمَا وصف لي عَلَى الوجه الَّذِي قَالَ وجرى عَلَى لسان الشيخ أَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ مَا كَانَ قَدْ ذكره بِهِ تحيرت وقلت: كَيْفَ أفعل بينهما ثُمَّ فكرت فِي نفسي وقلت: لا وجه إلا الصدق فَقُلْتُ: إِن الأستاذ أبا عَلِي وصف لي هذه المجلدة وَقَالَ لي احملها إلي من غَيْر أَن تستأذن الشيخ وأنا هُوَ ذا أخافك وليس يمكنني مخالفته فأي شَيْء تأمر فأخرج مسدسا من كَلام الْحُسَيْن وفيه تصنيف لَهُ سماه كتاب الصيهور فِي نقض الدهور وَقَالَ: احمل هَذَا إِلَيْهِ وقل لَهُ: إني أطالع تلك المجلدة وأنقل منها أبياتا إِلَى مصنفاتي فخرجت. ويحكى عَنِ الْحَسَن الحداد أَنَّهُ قَالَ: كنت عِنْدَ أَبِي القاسم المنادي وعنده جَمَاعَة من الفقراء فَقَالَ لي: اخرج وائتهم بشيء فسررت حيث أذن لي فِي التكلف للفقراء وأن آتيهم بشيء بَعْد مَا علم فقري قَالَ: فأخذت مكتلا وخرجت فلما أتيت سكة سيار رأيت شيخا بهيا , فسلمت عَلَيْهِ وقلت: جَمَاعَة من الفقراء فِي موضع فهل لَك أَن تتخلق معهم بشيء فأمر حَتَّى إِذَا أخرج إلي شَيْئًا من الخبز واللحم والعنب فلما بلغت الباب ناداني أَبُو القاسم المنادي من وراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 الباب: رده إِلَى الموضع الَّذِي أخذته منه فرجعت واعتذرت إِلَى الشيخ وقلت: لَمْ أجدهم وعرضت بأنهم تفرقوا فرددت السبب عَلَيْهِ ثُمَّ جئت إِلَى السوق ففتح عَلَى بشيء فحملته فَقَالَ: ادخل فقصصت عَلَيْهِ القصة فَقَالَ: نعم ذاك ابْن سيار رجل سلطاني إِذَا جئت للفقراء بشيء فأتهم بمثل هَذَا لا بمثل ذاك. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن القرافي: زرت أبا الخير التيناتي فلما ودعته خرج معى إِلَى بَاب الْمَسْجِد فَقَالَ: يا أبا الْحُسَيْن أنا أعلم أنك لا تحمل معك معلوما ولكن احمل هاتين التفاحتين فأخذتهما ووضعتهما فِي جيبي وسرت فلم يفتح لي بشيء ثلاثة أَيَّام فأخرجت واحدة منهما وأكلتها ثُمَّ أردت أَن أخرج الثَّانِيَة فَإِذَا هما جميعا فِي جيبي فكنت آكل منهما ويعودان إِلَى بَاب الموصل فَقُلْتُ فِي نفسي: إنهما يفسدان عَلِي حال توكلي إِذَا صارتا معلوما لي فأخرجتهما من جيبي بمرة فنظرت فَإِذَا فَقِير ملفوف فِي عباءة يَقُول: أشتهى تفاحة فناولتهما إياه فلما عبرت وقع لي أَن الشيخ إِنَّمَا بعثهما إِلَيْهِ وكنت فِي رفقة فِي الطريق فانصرفت إِلَى الفقير فلم أجده. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت أبا عُمَر بْن علوان يَقُول: كَانَ شاب يصحب الجنيد وَكَانَ يتكلم عَلَى خواطر النَّاس فذكر للجنيد فَقَالَ لَهُ الجنيد: إيش هَذَا الَّذِي ذكر عَنْك؟ فَقَالَ للجنيد: أعتقد شَيْئًا فَقَالَ: اعتقدت فَقَالَ الشاب: اعتقدت كَذَا وكذا فَقَالَ الجنيد: لا فَقَالَ: اعتقد ثانيا ففعل فَقَالَ: اعتقدت كَذَا وكذا فَقَالَ: لا فَقَالَ: ثالثا فَقَالَ: مثله فَقَالَ الشاب: هَذَا عجب أَنْتَ صدوق وأنا أعرف قلبي فَقَالَ الجنيد: صدقت فِي الأَوَّل وَالثَّانِي والثالث ولكني أردت أَن أمتحنك هل يتغير قلبك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 وسمعته يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول اعتل ابْن الرقي فحمل إِلَيْهِ دواء فِي قدح فأخذه ثُمَّ قَالَ: وقع اليوم فِي المملكة حدث لا آكل ولا أشرب حَتَّى أعلم مَا هُوَ فورد الْخَبَر بعده بأيام أَن القرمطي دَخَلَ مَكَّة فِي ذَلِكَ اليوم وقتل بِهَا تلك المقتلة العظيمة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: سمعت أبا عثمان المغربي يَقُول: ذكر لابن الكاتب هذه الحكاية فَقَالَ: هَذَا عجب لَهُ فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بعجب فَقَالَ لي أَبُو عَلِي بْن الكاتب: إيش خبر مَكَّة حرسها اللَّه تَعَالَى اليوم فَقُلْتُ: ذا تحارب الطلحيون وبنو الْحَسَن ومقدم الطلحيين أسود عَلَيْهِ عمامة حمراء وعلى مَكَّة اليوم غيم عَلَى مقدار الحرم فكتب أَبُو عَلَى إِلَى مَكَّة فكان كَمَا ذكرت. ويروى عَن أَنَس بْن مَالِك رضى اللَّه عَنْهُ قَالَ: دخلت عَلَى عُثْمَان رضى اللَّه عَنْهُ وكنت رأيت فِي الطريق امْرَأَة تأملت محاسنها فَقَالَ عُثْمَان رضى اللَّه عَنْهُ: يدخل عَلَى أحدكم وآثار الزنا ظاهرة عَلَى عينه فَقُلْتُ: أوحي بَعْد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لا ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْد الخراز: دخلت الْمَسْجِد الحرام فرأيت فقيرا عَلَيْهِ خرقتان يسأل شَيْئًا فَقُلْتُ فِي نفسي: مثل هَذَا كُل عَلَى النَّاس فنظر إلي وَقَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] قَالَ: فاستغفرت فِي سرى فناداني وَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] . وحكي عَن إِبْرَاهِيم الخواص أَنَّهُ قَالَ: كنت ببغداد فِي جامع الْمَدِينَة وهناك جَمَاعَة من الفقراء فأقبل شاب ظريف طيب الرائحة حسن الحرمة حسن الوجه فَقُلْتُ لأَصْحَابنا: يقع لي أَنَّهُ يهودي فكلهم كرهوا ذَلِكَ فخرجت وخرج الشاب ثُمَّ رجع إليهم وَقَالَ: إيش قَالَ الشيخ فِي؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 فاحتشموه فألح عَلَيْهِم فَقَالُوا: قَالَ: إنك يهودي. قَالَ: فجاءني وأكب عَلَى يدي وأسلم؟ فقيل لَهُ: مَا السبب؟ قَالَ: نجد فِي كتبنا أَن الصديق لا تخطئ فراسته فَقُلْتُ: أمتحن الْمُسْلِمِينَ فتأملتهم فَقُلْتُ: إِن كَانَ فيهم صديق ففي هذه الطائفة، لأنهم يقولون حَدِيثه سبحانه فلبست عليكم فلما اطلع هَذَا الشيخ عَلِي وتفرس فِي علمت أَنَّهُ صديق وصار الشاب من كبار الصوفية. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن إِبْرَاهِيم بْن العلاء يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن دَاوُد يَقُول: كُنَّا عِنْدَ الجريري رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: هل فيكم من إِذَا أراد الحق سبحانه أَن يحدث فِي المملكة حدثا أعلمه قبل أَن يبديه قُلْنَا: لا فَقَالَ: ابكوا عَلَى قلوب لَمْ تجد من اللَّه تَعَالَى شَيْئًا وَقَالَ أَبُو مُوسَى الديلمي: سألت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يَحْيَي عَنِ التوكل فَقَالَ: لو أدخلت يدك فِي فم التنين حَتَّى تبلغ الرسغ لا تخف مَعَ اللَّه تَعَالَى شَيْئًا غيره قَالَ: فخرجت إِلَى أَبِي يَزِيد لاسأله عَنِ التوكل فدققت الباب فَقَالَ: أليس لَك فِي قَوْل عَبْد الرَّحْمَنِ كفاية فَقُلْتُ: افتح الباب فَقَالَ: مَا زرتني أتاك الجواب من وراء الباب وَلَمْ يفتح لي الباب قَالَ فمضيت ولبثت سنة ثُمَّ قصدته فَقَالَ: مرحبا جئتني زائرا فكنت عنده شهرا فكان لا يخطر بقلبي شَيْء إلا حَدَّثَنِي عَنْهُ فعند وداعه قُلْت: أفدني فائدة فَقَالَ: حَدَّثَنِي أخي أَنَّهَا كانت حاملا بي , فكانت إِذَا قدم لَهَا طَعَام من حلال امتدت يدها إِلَيْهِ , وإذا كَانَ فِيهِ شبهة انقبضت يدها عَنْهُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيم الخواص دخلت البادية فأصابتني شدة فلما بلغت مَكَّة داخلني شَيْء من الإعجاب فنادتني عجوز يا إِبْرَاهِيم كنت معك فِي البادية , فلم أكلمك لأني لَمْ أرد أَن أشغل سرك أخرج عَنْك هَذَا الوسواس. وحكى أَن الفرغاني كَانَ يخرج كُل سنة إِلَى الحج ويمر بنيسابور ولا يدخل عَلَى أَبِي عُثْمَان الحيري قَالَ: فدخلت عَلَيْهِ مرة وسلمت فلم يرد عَلِي السَّلام فَقُلْتُ فِي نفسي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 مُسْلِم يدخل عَلَيْهِ ويسلم فلا يرد سلامه فَقَالَ أَبُو عُثْمَان: مثل هَذَا يحج ويدع أمه لا يبرها قَالَ: فرجعت إِلَى فرغانة ولزمتها حَتَّى ماتت ثُمَّ قصدت أبا عُثْمَان , فلما دخلت استقبلني وأجلسني , ثُمَّ إِن الفرغاني لازمه وسأله سياسة دابته فولاه ذَلِكَ حَتَّى مَات أَبُو عُثْمَان وَقَالَ خير النساج: كنت جالسا فِي بَيْتِي فوقع لي أَن الجنيد بالباب فنفيت عَن قلبي فوقع ثانيا وثالثا فخرجت فَإِذَا بالجنيد فَقَالَ: لِمَ لَمْ تخرج مَعَ الخاطر الأَوَّل وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن البسطامي دخلت عَلَى أَبِي عُثْمَان المغربي فَقُلْتُ: فِي نفسي لعله يتشهى عَلَى شَيْئًا فَقَالَ أَبُو عُثْمَان: لا يكفى النَّاس أَن آخذ مِنْهُم حَتَّى يريدوا مسألتي إياهم وَقَالَ بَعْض الفقراء: كنت ببغداد فوقع لي أَن المرتعش يأتيني بخمسة عشر درهما لأشتري بِهَا الركوة والحبل والنعل وأدخل البادية قَالَ فدق عَلَى البادية ففتحت فَإِذَا أنا بالمرتعش مَعَهُ خريقة فَقَالَ: خذها فَقُلْتُ: يا سيدي لا أريدها قَالَ فلم تؤذينا كم أردت فَقُلْتُ: خمسة عشر درهما فَقَالَ: هِيَ خمسة عشر درهما وَقَالَ بَعْضهم فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أي: ميت الذهن فأحياه اللَّه تَعَالَى بنور الفراسة وجعل لَهُ نور التجلي والمشاهدة لا يَكُون كمن يمشى بَيْنَ أهل الغفلة غافلا، وقيل: إِذَا صحت الفراسة ارتقى صاحبها إِلَى المشاهدة. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن البغدادي يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس بْن مسروق يَقُول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 قدم عَلَيْهَا شيخ فكان يتكلم عَلَيْنَا فِي هَذَا الشأن بكلام حسن وَكَانَ عذب اللسان جيد الخاطر فَقَالَ لنا فِي بَعْض كلامه: كُل مَا وقع لكم فِي خاطركم فقولوه لي فوقع فِي قلبي أَنَّهُ يهودي وَكَانَ الخاطر يقوى ولا يزول فذكرت ذَلِكَ للجريري فكبر عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقُلْتُ: لابد أَن أخبر الرجل بِذَلِكَ فَقُلْتُ لَهُ: تقول لنا مَا وقع لكم فِي خاطركم فقولوه لي إنه يقع لي أنك يهودي فأطرق ساعة ثُمَّ رفع رأسه فَقَالَ: صدقت أشهد أَن لا اللَّه إلا اللَّه وأشهد أَن محمدا رَسُول اللَّهِ وَقَالَ: قَدْ مارست جَمِيع المذاهب وكنت أقول إِن كَانَ مَعَ قوم مِنْهُم شَيْء فمع هَؤُلاءِ فداخلتكم لأختبركم فأنتم عَلَى الحق وحسن إسلامه. ويحكى عَنِ الجنيد أَنَّهُ كَانَ يَقُول لَهُ السري تكلم عَلَى النَّاس فَقَالَ الجنيد: وَكَانَ فِي قلبي حشمة من الْكَلام عَلَى النَّاس فإني كنت أتهم نفسي فِي استحقاق ذَلِكَ فرأيت ليلة النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام وكانت ليلة جمعة فَقَالَ لي: تكلم عَلَى النَّاس فانتبهت وأتيت بَاب السري قبل أَن أصبح فدققت عَلَيْهِ الباب فَقَالَ: لَمْ ليلة جمعة فَقَالَ لي: فَقَالَ: لَمْ تصدقنا حَتَّى قيل لَك فقعد لِلنَّاسِ فِي الجامع بالغد فانتشر فِي النَّاس أَن الجنيد قعد يتكلم عَلَى النَّاس فوقف عَلَيْهِ غلام نصراني متنكرا وَقَالَ لَهُ: أيها الشيخ ما معنى قَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتقوا فراسة المؤمن فَإِن المؤمن ينظر بنور اللَّه تَعَالَى فأطرق الجنيد ثُمَّ رفع رأسه وَقَالَ أسلم فَقَدْ حان وقت إسلامك فأسلم الغلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 بَاب الخلق قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصَّفَّارُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَهْدِي قَالَ: حَدَّثَنَا بَشَّارُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النُّمَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا غَيْلانُ بْنُ جَرِيرٍ , عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ إِيمَانًا؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا. قَالَ الأستاذ الخلق الْحَسَن أفضل مناقب العبد وَبِهِ يظهر جواهر الرجال والإِنْسَان مستور بخلقه مشهود بخلقه سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: إِن اللَّه تَعَالَى خص نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا خصه بِهِ ثُمَّ لَمْ يثن عَلَيْهِ بشيء من خصاله بمثل مَا أثنى عَلَيْهِ بخلقه فَقَالَ عز من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَقَالَ الواصفي: وصفه بالخلق العظيم لأنه جاد بالكونين واكتفى بالله تَعَالَى، وَقَالَ الواسطي أَيْضًا: الخلق العظيم أَن لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تَعَالَى وَقَالَ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور: معناه لَمْ يؤثر فيك جفاء الخلق بَعْد مطالعتك الحق. وَقَالَ أَبُو سَعِيد الخراز لَمْ يكن لَك همة غَيْر اللَّه تَعَالَى، سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت الكتاني يَقُول: التصوف خلق من زاد عليك بالخلق فَقَدْ زاد عليك فِي التصوف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 ويروى عَنِ ابْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سمعتموني أقول لمملوك أخزاه اللَّه تَعَالَى فاشهدوا أَنَّهُ حر. وَقَالَ الفضيل: لو أَن العبد أَحْسَن الإحسان كُلهُ وكانت لَهُ دجاجة فأساء إِلَيْهَا لَمْ يكن من المحسنين وقيل: كَانَ ابْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا رأى واحدا من عبيده يحسن الصلاة يعتقه فعرفوا ذَلِكَ من خلقه فكانوا يحسنون الصلاة مراءاة وَكَانَ يعتقهم، فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: من خدعنا فِي اللَّه انخدعنا لَهُ. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد بْن الجريري يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: سمعت الحرث المحاسبي يَقُول: فقدنا ثلاثة أشياء حسن الوجه مَعَ الصيانة وحسن القول مَعَ الأمانة وحسن الإخاء مَعَ الوفاء. وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الرازي يَقُول: الخلق استصغار مَا منك واستعظام مَا منه إليك. وقيل للأحنف: مِمَّن تعلمت الخلق فَقَالَ: من قَيْس بْن عَاصِم المنقري، قيل: وَمَا بلغ من خلقه؟ فَقَالَ: بينا هُوَ جالس فِي داره إذ جاءت خادم لَهُ بسفود عَلَيْهِ شواء فسقط من يدها فوقع عَلَى ابْن لَهُ فمات فدهشت الجارية فَقَالَ: لا روعة عليك أَنْتَ حرة لوجه اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ شاه الكرماني: علامة حسن الخلق كف الأذي واحتمال المؤن، وَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنكم لَنْ تسعوا النَّاس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق. وقيل لذي النون الْمِصْرِي: من أَكْثَر النَّاس هما؟ قَالَ: أسوأهم خلقا. وَقَالَ وهب: مَا تخلق عَبْد بخلق أربعين صباحا إلا جعل اللَّه ذَلِكَ طبيعة فِيهِ. وَقَالَ الْحَسَن البصري فِي قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أي: وخلقك فحسن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 وقيل: كَانَ لبعض النساك شاة فرآها عَلَى ثَلاث قوائم فَقَالَ: من فعل هَذَا بِهَا؟ فَقَالَ غلام لَهُ: أنا فَقَالَ: لَمْ؟ قَالَ لأغمك بِهَا، فَقَالَ: لا بَل لأغمن من أمرك بِذَلِكَ اذهب فأنت حر، وقيل لإبراهيم بْن أدهم: هل فرحت فِي الدنيا قط؟ فَقَالَ: نعم مرتين إحداهما: كنت قاعد ذَات يَوْم فجاء إِنْسَان وبال عَلِي، وَالثَّانِيَة: كنت قاعدا فجاء إِنْسَان وصفعني. وقيل: كَانَ أويس القرني إِذَا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة , فَيَقُول: إِن كَانَ لابد فارموني بالصغار كيلا تدقوا ساقي فتمنعوني عَنِ الصلاة. وشتم رجل الأحنف بْن قَيْس وَكَانَ يتبعه فلما قرب من الحي وقف وَقَالَ: يا فتي إِن بقي فِي قلبك شَيْء فقله كيلا يسمعك بَعْض سفهاء الحي فيجيبوك، وقيل لحاتم الأصم: أيحتمل الرجل من كُل أحد، فَقَالَ: نعم إلا من نَفْسه، وروي أَن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عَلِي بْن أَبِي طَالِب رضى اللَّه عَنْهُ دعا غلاما لَهُ فلم يجبه فدعاه ثانيا وثالثا فلم يجبه فقام إِلَيْهِ فرآه مضطجعا فَقَالَ: أما تسمع يا غلام؟ فَقَالَ: نعم، قَالَ: فَمَا حملك عَلَى ترك جوابي؟ فَقَالَ: أمنت عقوبتك فتكاسلت، فَقَالَ: امض فأنت حر لوجه اللَّه تَعَالَى، وقيل: نزل معروف الكرخي الدجلة ليتوضأ ووضع مصحفه وملحفته فجاءت امْرَأَة وحملتهما فتبعها معروف وَقَالَ: يا أختي أنا معروف ولا بأس عليك ألك ابْن يقرأ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: فزوج؟ قَالَتْ: لا قَالَ، فهاتي المصحف وخذي الثوب. ودخل اللصوص مرة دار الشيخ أَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي بالمكابرة وحملوا مَا وجدوا فسمعت بَعْض أَصْحَابنا يَقُول: سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُول: اجتزت بالسوق فوجدت جبتي عَلَى من يَزِيد فأعرضت وَلَمْ ألتفت إِلَيْهِ. سمعت الشيخ أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يَقُول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 سمعت الوجيهي يَقُول: قَالَ الجريري: قدمت من مَكَّة حرسها اللَّه تَعَالَى فبدأت بالجنيد لكيلا يتعنى إلي فسلمت عَلَيْهِ ثُمَّ مضيت إِلَى المنزل فلما صليت الصبح فِي الْمَسْجِد إِذَا أنا بِهِ خلفي فِي الصف فَقُلْتُ: إِنَّمَا جئتك أمس لئلا تتعنى فَقَالَ: ذاك فضلك وَهَذَا حقك. وسئل أَبُو حفص عَنِ الخلق فَقَالَ: مَا اختار اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] الآية. وقيل: الخلق أَن تكون من النَّاس قريبا وَفَيْمَا بينهم غريبا، وقيل: الخلق قبول مَا يرد عليك من جفاء الخلق وقضاء الحق بلا ضجر ولا قلق، وقيل: كَانَ أَبُو ذر عَلَى حوض يسقى إبلا لَهُ فأسرع بَعْض النَّاس إِلَيْهِ فانكسر الحوض فجلس ثُمَّ اضطجع، فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا إِذَا غضب الرجل أَن يجلس فَإِذَا ذهب عَنْهُ وإلا فليضطجع، وقيل: مكتوب فِي الإنجيل: عبدى اذكرني حِينَ تغضب أذكرك حِينَ أغضب، وَقَالَت امْرَأَة لمالك بْن دِينَار: يا مرائي فَقَالَ: يا هذه وجدت اسمي الَّذِي أضله أهل البصرة، وَقَالَ لقمان لابنه: لا تعرف ثلاثة إلا عِنْدَ ثلاثة الحليم عِنْدَ الغضب والشجاع عِنْدَ الحرب والأخ عِنْدَ الحاجة إِلَيْهِ. وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام: إلهي لا أسألك أَن لا يقال لي مَا لَيْسَ فِي فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ مَا فعلت ذَلِكَ لنفسي فكيف أفعله لَك. وقيل: ليحيى بْن زِيَاد الحارثي وَكَانَ لَهُ غلام سوء: لَمْ تمسك هَذَا الغلام؟ فَقَالَ: لأتعلم عَلَيْهِ الحلم. وقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] الظاهرة: تسوية الخلق , والباطنة: تصفية الخلق. وَقَالَ الفضيل: لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أَن يصحبني عابد سيئ الخلق. وقيل: الخلق الْحَسَن احتمال المكروه بحسن المداراة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وحكى أَن إِبْرَاهِيم بْن أدهم خرج إِلَى بَعْض البراري فاستقبله جندي فَقَالَ: أين العمران؟ فأشار إِلَى المقبرة فضرب رأسه وأوضحه فلما جاوزه قيل لَهُ: إنه إِبْرَاهِيم بْن أدهم زاهد خراسان فجاء يعتذر إِلَيْهِ فَقَالَ: إنك لما ضربتني سألت اللَّه تَعَالَى لَك الْجَنَّة فَقَالَ: لَمْ؟ فَقَالَ: علمت أني أؤجر عَلَيْهِ فلم أرد أَن يَكُون نصيبي منك الخير ونصيبك منى الشر. وحكى أَن أبا عُثْمَان الحيري دعاه إِنْسَان إِلَى ضيافة فلما وافى بَاب داره قَالَ: يا أستاذ لَيْسَ الآن وقت دخولك وَقَدْ ندمت فانصرف فرجع أَبُو عُثْمَان فلما وافي منزله عاد إِلَيْهِ الرجل وَقَالَ: يا أستاذ ندمت وأخذ يعتذر وَقَالَ: احضر الساعة فقام أَبُو عُثْمَان ومضى، فلما وافى بَاب داره قَالَ مثل مَا قَالَ فِي الأَوَّل ثُمَّ كَذَلِكَ فعل فِي الثالثة والرابعة وأبو عُثْمَان ينصرف ويحضر فلما كَانَ بَعْد مرات قَالَ: يا أستاذ , أردت اختباره وأخذ يعتذر ويمدحه فَقَالَ أَبُو عُثْمَان: لا تمدحني عَلَى خلق تجد مثله مَعَ الكلاب، الكلب إِذَا دعى حضر وإذا زجر انزجر. وقيل: إِن أبا عُثْمَان اجتاز بسكة وقت الهاجرة فألقى عَلَيْهِ من سطح طست رماد فتغير أَصْحَابه وبسطوا ألسنتهم فِي الملقى فَقَالَ أَبُو عُثْمَان: لا تقولوا شَيْئًا من استحق أَن يصب عَلَيْهِ النار فصولح عَلَى الرماد لَمْ يجز لَهُ أَن يغضب. وقيل: نزل بَعْض الفقراء عَلَى جَعْفَر بْن حنظلة فكان جَعْفَر يخدمه جدا والفقير يَقُول: نعم الرجل أَنْتَ لو لَمْ تكن يهوديا فَقَالَ جَعْفَر: عقيدتي لا تقدح فيما تحتاج إِلَيْهِ من الخدمة فسل لنفسك الشفاء ولي الهداية. قيل: كَانَ لعبد اللَّه الخياط حريف مجوسي يخيط لَهُ ثيابا ويدفع إِلَيْهِ دراهم زيوفا وَكَانَ عَبْد اللَّهِ يأخذها، فاتفق أَنَّهُ قام من حانوته يوما لشغل فجاء المجوسي بالدراهم الزيوف فدفعها إِلَى تلميذه: فلم يقبلها فدفع إِلَيْهِ الصحاح فلما رجع عَبْد اللَّهِ قَالَ لتلميذه: أين قميص المجوسي؟ فذكر لَهُ القصة فَقَالَ: بئسما عملت إنه مذ مدة يعاملني بمثلها وأنا أصبر عَلَيْهِ وألقيها فِي بئر لئلا يغر بِهَا غيرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 وقيل: الخلق السيئ يضيق قلب صاحبه لأنه لا يسع فِيهِ غَيْر مراده كالمكان الضيق لا يسع فِيهِ غَيْر صاحبه. وقيل: حسن الخلق أَن لا تتغير مِمَّن يقف فِي الصف بجنبك. وقيل: من سوء خلقك وقوع بصرك عَلَى سوء خلق غيرك. وسئل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشؤم فَقَالَ: سوء الخلق. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصَّفَّارُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ مَعِينٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ , عَنْ أَبِي حَازِمٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ: إِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً وَلَمْ أُبْعَثْ عَذَابًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 بَاب الجود والسخاء قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَهْلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ , عَنْ يَحْيَي بْنِ سَعِيدٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ , عَنْ عَلْقَمَةَ , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، وَالْجَاهِلُ السَّخِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَابِدِ الْبَخِيلِ. قَالَ الأستاذ: ولا فرق عَلَى لسان العلم بَيْنَ الجود والسخاء ولا يوصف الحق سبحانه بالسخاء والسماحة لعدم التوقيف، وحقيقة الجود أَن لا يصعب عَلَيْهِ البذل وعند الْقَوْم السخاء هُوَ الرتبة الأولى ثُمَّ الجود بعده ثُمَّ الإيثار فمن أعطى البعض وأبقى البعض فَهُوَ صاحب سخاء ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شَيْئًا فَهُوَ صاحب جود، والذي قاسي الضرر وآثر غيره بالبلغة فَهُوَ صاحب إيثار. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: قَالَ أسماء بْن خارجة: مَا أحب أَن أرد أحدا عَن حاجة طلبها لأنه إِن كَانَ كريما أصون عرضه، وإن كَانَ لئيما أصون عَنْهُ عرضي. وقيل: كَانَ مورق الْعِجْلِي يتلطف فِي إدخال الرفق عَلَى إخوانه يضع عندهم ألف درهم فَيَقُول: أمسكوها عندكم حَتَّى أعود إليكم ثُمَّ يرسل إليهم أنتم منها فِي حل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وقيل: لقي رجل من أهل منبج رجلا من أهل الْمَدِينَة فَقَالَ: من الرجل؟ فَقَالَ: من أهل الْمَدِينَة فَقَالَ: لَقَدْ آتانا منكم رجل يقال لَهُ: الحكم بْن المطلب فأغنانا فَقَالَ المدني: فكيف وَمَا أتاكم إلا فِي جبة صوف؟ فَقَالَ: مَا أغنانا بمال ولكنه علمنا الكرم فعاد بعضنا عَلَى بَعْض حَتَّى استغنينا. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: لما سعي غلام الخليل بالصوفية إِلَى الخليفة أمر بضرب أعناقهم فأما الجنيد فَإِنَّهُ تستر بالفقه وَكَانَ يفتى عَلَى مذهب أَبِي ثورة وَأَمَّا الشحام والرقام والنوري وجماعة فقبض عَلَيْهِم فبسط النطع لضرب أعناقهم فتقدم النوري فَقَالَ السياف: تدري إِلَى ماذا تبادر؟ فَقَالَ: نعم، فَقَالَ: وَمَا يعجلك؟ : فَقَالَ: أوثر عَلَى أَصْحَابي محياة ساعة، فتحير السياف وأنهى الْخَبَر إِلَى الخليفة فردهم إِلَى الْقَاضِي ليتعرف حالهم، فألقى الْقَاضِي عَلَى أَبِي الْحُسَيْن النوري مسائل فقهية فأجابه عَنِ الكل ثُمَّ أخذ يَقُول: وبعد فَإِن لِلَّهِ تَعَالَى عباد إِذَا قاموا قاموا بالله، وإذا نطقوا نطقوا بالله وسرد ألفاظا أبكى الْقَاضِي، فأرسل الْقَاضِي إِلَى الخليفة وَقَالَ: إِن كَانَ هَؤُلاءِ زنادقة فَمَا عَلَى وجه الأَرْض مُسْلِم. وقيل: كَانَ عَلِي بْن الفضيل يشتري من باعة المحلة فقيل لَهُ: لو دخلت السوق فاسترخصت، فَقَالَ: هَؤُلاءِ نزلوا بقربنا رجاء منفعتنا. وقيل: بعث رجل إِلَى جبلة بجارية وَكَانَ بَيْنَ أَصْحَابه فَقَالَ: قبيح أَن أتخذها لنفسي وأنتم حضور وأكره أَن أخص بِهَا واحدا وكلكم لَهُ حق وحرمة، وَهَذَهِ لا تحتمل القسمة وكانوا ثمانين، فأمر لكل واحد بجارية أَوْ وصيف. وقيل: عطش عُبَيْد اللَّه بْن أَبِي بكرة يوما فِي طريقة فاستسقى من منزل امْرَأَة فأخرجت كوزا وقامت خلف الباب وَقَالَتْ: تنحوا عَنِ الباب وليأخذه بَعْض غلمانكم فإني امْرَأَة من العرب مَات خادمي منذ أَيَّام فشرب عُبَيْد اللَّه الماء وَقَالَ لغلامه: أحمل إِلَيْهَا عشرة آلاف درهم فَقَالَتْ: سبحان اللَّه تسخر بي فَقَالَ: أحمل إِلَيْهَا عشرين ألف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 درهم فَقَالَتْ: اسأل اللَّه تَعَالَى العافية فَقَالَ: يا غلام احمل إِلَيْهَا ثلاثين ألف درهم فردت الباب وَقَالَتْ: أف لَك فحمل إِلَيْهَا ثلاثين ألف درهم فأخذتها فَمَا أمست حَتَّى كثر خطابها. وقيل: الجود إجابة الخاطر الأَوَّل. سمعت بَعْض أَصْحَاب أَبِي الْحَسَن البوشنجي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: كَانَ أَبُو الْحَسَنِ البوشنجي فِي الخلاء فدعا تلميذا لَهُ وَقَالَ لَهُ: انزع عنى هَذَا القميص وادفعه إِلَى فُلان فقيل لَهُ: هلا صبرت حَتَّى تخرج من الخلاء؟ فَقَالَ: لَمْ آمن عَلَى نفسي أَن يتغير عَلِي مَا وقع لي من التخلف منه بِذَلِكَ القميص. وقيل لقيس بْن سَعْد بْن عُبَادَة: هل رأيت أسخى منك؟ فَقَالَ: نعم، نزلنا بالبادية عَلَى امْرَأَة فحضر زوجها فَقَالَتْ: إنه نزل بك ضيفان فجاء بناقة ونحرها وَقَالَ: شأنكم بِهَا، فلما كَانَ بالغد جاء بأخرى ونحرها وَقَالَ: شأنكم بِهَا فقلنا: مَا أكلنا من الَّتِي نحرت البارحة إلا اليسير فَقَالَ: إني لا أطعم أضيافي الغاب فبقينا عنده يومين أَوْ ثلاثة والسماء تمطر وَهُوَ يفعل كَذَلِكَ، فلما أردنا الرحيل وضعنا لَهُ مائة دِينَار فِي بيته وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إِلَيْهِ ومضينا فلما متع النهار إِذَا نحن برجل يصيح خلفنا قفوا أيها الركب اللئام أعطيتموني ثمن قراي ثُمَّ إنه لحقنا وَقَالَ: لتأخذنه وإلا طعنتكم برمحي فأخذناه وانصرف فأنشأ يَقُول: وإذا أخذت ثواب مَا أعطيته فكفى بذاك لنائل تكديرا سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: دَخَلَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الروذباري دار بَعْض أَصْحَابه فوجده غائبا وباب بَيْت لَهُ مقفل فَقَالَ: صوفي وَلَهُ بَاب بَيْت مقفل اكسروا القفل، فكسروا القفل وأمر بجميع مَا وجد فِي الدار والبيت وأنفذه إِلَى السوق وباعوه وأصلحوا وقتا من الثمن وقعدوا فِي الدار فدخل صاحب المنزل وَلَمْ يمكنه أَن يَقُول شَيْئًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 فدخلت امرأته بعدهم الدار وعليها كساء فدخلت بياتا ورمت بالكساء وَقَالَتْ: يا أَصْحَابنا هَذَا أَيْضًا من جملة المتاع فبيعوه فَقَالَ الزوج لَهَا: لَمْ تكلفت هَذَا باختيارك فَقَالَتْ: اسكت مثل هَذَا الشيخ يباسطنا ويحكم عَلَيْنَا ويبقى لنا شَيْء ندخره عَنْهُ قَالَ بشر بْن الحرث: النظر إِلَى البخيل يقسى القلب. وقيل: مرض قَيْس بْن سَعْد بْن عُبَادَة فاستبطأ إخوانه فسأل عَنْهُم فقيل: إنهم يستحيون مِمَّا لَك عَلَيْهِم من الدين فَقَالَ: أخزى اللَّه تَعَالَى مالا يمنع الإخوان من الزيارة، ثُمَّ أمر من ينادي من كَانَ لقيس عَلَيْهِ دين فَهُوَ منه فِي حل فكسرت عتبته بالعشى لكثرة من عاده، وقيل لعبد اللَّه بْن جَعْفَر: إنك تبذل الكثير إِذَا سئلت وتضن فِي القليل إِذَا نوجزت فَقَالَ: إني أبذل مالي وأضن بعقلي. وقيل: خرج عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَر إِلَى ضيعة لَهُ فنزل عَلَى تحيل قوم وفيها غلام أسود يعمل فِيهَا إذ أتي الغلام بقوته فدخل كلب الحائط ودنا من الغلام فرمى إِلَيْهِ الغلام بقرص فأكله ثُمَّ رمى إِلَيْهِ بالثاني والثالث فأكله وعبد اللَّه ينظر فَقَالَ: يا غلام كم قومك كُل يَوْم؟ قَالَ: مَا رأيت قَالَ: فلم آثرت هَذَا الكلب؟ قَالَ: مَا هِيَ بأرض كلاب إنه جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت رده قَالَ: فَمَا أَنْتَ صانع اليوم؟ قَالَ: أطوى يومي هَذَا فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَر: إلام عَلَى السخاء إِن هَذَا لأسخى منى فاشترى الحائط والغلام وَمَا فِيهَا من الآلات فأعتق الغلام ووهبها لَهُ. وقيل: أتى رجل صديقا لَهُ ودق عَلَيْهِ الباب فلما خرج إِلَيْهِ قَالَ: لماذا جئتني؟ قَالَ: لأربع مائة درهم دين ركبتي فدخل الدار ووزن لَهُ أربع مائة درهم وأخرجها إِلَيْهِ ودخل الدار باكيا فَقَالَتْ لَهُ أمرأته: هلا تعللت حِينَ شق عليك الإجابة، فَقَالَ: إِنَّمَا أبكي لأني لَمْ أتفقد حاله حَتَّى أحتاج إِلَى مفاتحتي بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 وَقَالَ مطرف بْن الشخير: إِذَا أراد أحدكم منى حاجة فليرفعها فِي رقعة فإني أكره أَن أري فِي وجهه ذل الحاجة، قيل: أراد رجل أَن يضاد عَبْد اللَّهِ بْن الْعَبَّاس فأتى وجوه البلد وَقَالَ لَهُمْ: يَقُول لكم ابْن الْعَبَّاس: تغدوا عندي اليوم فأتوه فملأوا الدار فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فأخبر الْخَبَر فأمر بشراء الفواكه فِي الوقت وأمر بالخبز والطبيخ وأصلح أمرا فلما فرغوا قَالَ لوكلائه: أموجود لنا كُل يَوْم هَذَا؟ فَقَالُوا: نعم فَقَالَ: فليتغد هَؤُلاءِ كلهم عندنا كُل يَوْم. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: كَانَ الأستاذ أَبُو سهل الصعلوكي يتوضأ يوما فِي صحن داره فدخل إِلَيْهِ إِنْسَان وسأله شَيْئًا من الدنيا وَلَمْ يحضره شَيْء فَقَالَ: اصبر حَتَّى أفرغ فصبر فلما فرغ قَالَ: خذ القمقمة واخرج، فأخذها وخرج ثُمَّ صبر حَتَّى علم أَنَّهُ بَعْد فصاح وَقَالَ: دَخَلَ إِنْسَان وأخذ القمقمة فمشوا خلفه فلم يدركوه وإنما فعل ذَلِكَ لأن أهل المنزل كَانُوا يلومونه عَلَى كثرة البذل. وسمعته يَقُول: وهب الأستاذ أَبُو سهل جبته من إِنْسَان من الشتاء وَكَانَ يلبس جبة النِّسَاء حِينَ يخرج إِلَى التدريس إذ لَمْ يكن لَهُ جبة أُخْرَى، فقدم الوفد المعروفون من فارس فيهم من كُل نوع إمام من الْفُقَهَاء والمتكلمين والنحويين فأرسل إِلَيْهِ صاحب الجيش أَبُو الْحَسَنِ وأمره بأن يركب للاستقبال فلبس دراعه فَوْقَ تلك الجبة الَّتِي للنساء وركب فَقَالَ: صاحب الجيش إنه يستخف بي إمام البلد يركب فِي جبة النِّسَاء ثُمَّ إنه ناظرهم أجمعين فظهر كلامه عَلَى كَلام جميعهم فِي كُل فن. وسمعته يَقُول: لَمْ يناول الأستاذ أَبُو سهل أحدا شَيْئًا بيده وَكَانَ يطرحه عَلَى الأَرْض ليأخذه الآخذ من الأَرْض:، وَكَانَ يَقُول: الدنيا أقل خطرا من أَن أرى لأجلها يدي فَوْقَ يد أحد، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اليد العليا خير من اليد السفلى وقيل: كَانَ أَبُو مرثد عَلِي رَحِمَهُ اللَّهُ أحد الكرام فمدحه بَعْض الشعراء فَقَالَ: مَا عندي مَا أعطيك ولكن قدمني إلي الْقَاضِي وادع عَلَى عشرة آلاف درهم حَتَّى أقر لَك بِهَا ثُمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 احبسني فَإِن أهلي لا يتركوني مسجونا ففعل ذَلِكَ، فلم يمس حَتَّى دفع إِلَيْهِ عشرة آلاف درهم وخرج من السجن. وقيل: سأل رجل الْحَسَن بْن عَلِي بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَيْئًا فأعطاه خمسين ألف درهم وخمس مائة دِينَار وَقَالَ: ائت بحمال يحمله لَك، فأتى بحمال فأعطاه طيلسانه وَقَالَ: يَكُون كراء الحمال من قبلي. وسألت امْرَأَة اللَّيْث بْن سَعْد سكرجة عسل فأمر لَهَا بزق من عسل فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنها سألت عَلَى قدر حاجتها ونحن نعطيها عَلَى قدر نعمنا وَقَالَ بَعْضهم: صليت فِي مَسْجِد الأشعث بالكوفة الصبح أطلب غريما لي فلما سلمت وضع بَيْنَ يدي كُل واحد حلة ونعلين وَكَذَلِكَ وضع بَيْنَ يدي فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: إِن الأشعث قدم من مَكَّة فأمر بِهَذَا لأهل جَمَاعَة مسجده فَقُلْتُ: إِنَّمَا جئت أطلب غريما لي ولست من جماعته فَقَالُوا: هُوَ لكل من حضر وقيل: لما قربت وفاة الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: مروا فلانا يغسلني وَكَانَ الرجل غائبا فلما قدم أخبر بِذَلِكَ فدعا بتذكرته فوجد عَلَيْهِ سبعين ألف درهم دينا فقضاها وَقَالَ: هَذَا غسلي إياه قيل: لما قدم الشَّافِعِي من صنعاء إِلَى مَكَّة كَانَ مَعَهُ عشرة آلاف دِينَار فقيل لَهُ: تشتري بِهَا قنية فضرب خيمته خارج مَكَّة وصب الدنانير فَكُل من دَخَلَ عَلَيْهِ كَانَ يعطيه قبضة قبضة فلما جاء وقت الظهر قام ونفض الثوب وَلَمْ يبق شَيْء. وقيل: خرج السري يَوْم عيد فاستقبله رجل كبير الشأن فسلم السرى عَلَيْهِ سلاما ناقصا فقيل لَهُ: هَذَا رجل كبير الشأن فَقَالَ: قَدْ عرفته ولكن رُوِيَ مسند أَنَّهُ إِذَا التقى المسلمان قسمت بينهما مائة رحمة تسعون لأبشهما فأردت أَن يَكُون مَعَهُ الأكثر وقيل: بكى أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عَلِي بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يوما فقيل لَهُ مَا يبكيك فَقَالَ: لَمْ يأتني ضيف منذ سبعة أَيَّام وأخاف أَن يَكُون اللَّه تَعَالَى قَدْ أهانني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 وروي عَن أَنَس بْن مَالِك أَنَّهُ قَالَ: زكاة الدار أَن يتخذ فِيهَا بَيْت للضيافة وقيل فِي قَوْله تَعَالَى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24] قيل قيامه عَلَيْهِم بنفسه وقيل:، لأن ضيف الكريم كريم وَقَالَ إِبْرَاهِيم بْن الجنيد: كَانَ يقال أربعة: لا ينبغي للشريف أَن يأنف منهن وإن كَانَ أميرا قيامه من مجلسه لأبيه وخدمته لضيفه وخدمته لعالم يتعلم منه والسؤال عما لَمْ يعلم. وَقَالَ ابْن الْعَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61] إنهم كَانُوا يتحرجون أَن يأكل أحدهم وحده فرخص لَهُمْ فِي ذَلِكَ وقيل: أضاف عَبْد اللَّهِ بْن عامر بْن كريز رجلا فأحسن قراه فلما أراد الرجل أَن يرتحل عَنْهُ لَمْ يعنه غلمانه فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ عَبْد اللَّهِ: إنهم لا يعينون من يرتحل عنا أنشد عَبْد اللَّهِ بْن باكويه الصوفي قَالَ أنشدني المتنبي فِي معناه: إِذَا ترحلت عَن قوم وَقَدْ قدروا ... أَن لا تفارقهم فالراحلون هُمْ وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ سخاء النفس عما فِي أيدي النَّاس أفضل من سخاء النفس بالبذل وَقَالَ بَعْضهم دخلت عَلَى بشر بْن الحرث فِي يَوْم شديد البرد وَقَدْ تعرى من الثياب وَهُوَ ينفض فَقُلْتُ: يا أبا نصر النَّاس يريدون فِي الثياب فِي مثل هَذَا اليوم وأنت قَدْ نقصت فَقَالَ: ذكرت الفقراء وَمَا هُمْ فِيهِ وَلَمْ يكن لي مَا أواسيهم بِهِ فأردت أَن أوافقهم بنفسي فِي مقاساة البرد سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت الدقاق يَقُول: لَيْسَ السخاء أَن يعطي الواجد المعدم إِنَّمَا السخاء أَن يعطي المعدم الواجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 بَاب الغيرة قَالَ اللَّه تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبْدُوسٍ الْمُزَكِّيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَمْزَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْبَزَّازُ بِبَغْدَادَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُرَاتِ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْهَجَرِيِّ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ غِيرَتِهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ بُنَانْ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ أَبِي كثير عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ. قَالَ الأستاذ: الغيرة كراهية مشاركة الغير، وإذا وصف الحق سبحانه بالغير فمعناه أَنَّهُ لا يرضى بمشاركة الغيرة مَعَهُ فيما هُوَ حق لَهُ من طاعة عبده حكى عَنِ السرى أَنَّهُ قرئ بَيْنَ يديه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] فَقَالَ السري لأَصْحَابه: أتدرون مَا هَذَا الحجاب؟ هَذَا حجاب الغيرة ولا أحد أغير من اللَّه تَعَالَى ومعنى قَوْله هَذَا حجاب الغيرة، يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يجعل الكافرين أهلا لمعرفة صدق الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وَكَانَ الأستاذ أَبُو عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: إِن أَصْحَاب الكسل عَن عبادته هُم الَّذِينَ ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخذلان فاختار لَهُم البعد عَنْهُ وأخرهم عَن محل القرب ولذلك تأخروا وَفِي معناه أنشدوا: أناصب لمن هويت ولكن مَا احتيالي بسوء رأي الموالي وَفِي معناه أَيْضًا قَالُوا: سقيم لَيْسَ يعاد ... ومريد لا يراد سمعت الأستاذ أبا عَلِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: سمعت الْعَبَّاس الزوزني يَقُول: كَانَ لي بداية حسنة وكنت أعرف كم بقى بيني وبين الوصول إِلَى مقصودي من الظفر بمرادي، فرأيت ليلة من الليالي فِي المنام كأنني أتدهده من حالق جبل فأردت الوصول إِلَى ذروته قَالَ: فحزنت فأخذني اليوم فرأيت قائلا يَقُول: يا عَبَّاس الحق لَمْ يرد منك أَن تصل إِلَى مَا كنت تطلب ولكنه فتح عَلَى لسانك الحكمة، قَالَ: فأصبحت وَقَدْ ألهمت كلمات الحكمة. وسمعت الأستاذ أبا عَلِي يَقُول: كَانَ شيخ من الشيوخ لَهُ حال ووقت مَعَ اللَّه فخفي مدة لَمْ ير بَيْنَ الفقراء، ثُمَّ إنه ظهر بَعْد ذَلِكَ لا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الوقت فسئل عَنْهُ فَقَالَ: آه وقع حجاب. وَكَانَ الأستاذ أَبُو عَلِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا وقع شَيْء فِي خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين يَقُول: هَذَا من غيرة الحق سبحانه يريد أَن لا يجري من صفاء هَذَا الوقت وأنشدوا فِي معناه: همت بإتياننا حَتَّى إِذَا نظرت ... إِلَى المرأة نهاها وجهها الْحَسَن وقيل لبعضهم: تريد أَن تراه؟ فَقَالَ: لا , فقيل: لَمْ؟ فَقَالَ: أنزه ذَلِكَ الجمال عَن نظر مثلى , وفى معناه أنشدوا: إني لأحسد ناظري عليكا ... حَتَّى أغض إِذَا نظرت إليكا وأراك تخطر فِي شمائلك الَّتِي ... هِيَ فتنتي أغار منك عليكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 وسئل الشبلي مَتَى تستريح فَقَالَ: إِذَا لَمْ أر لَهُ ذاكرا. سمعت الأستاذ أبا عَلِي يَقُول فِي قَوْل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مبايعته فرسا من أعرابي وأنه استقاله فأقاله فَقَالَ الأعرابي: عمرك اللَّه تَعَالَى مِمَّن أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امرؤ من قريش، فَقَالَ بَعْض أَصْحَابه من الحاضرين للأعرابي: كفاك جفاء أَن لا تعرف نبيك، فكان رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: إِنَّمَا قَالَ امرؤ من قريش غيرة وإلا كَانَ واجبا عَلَيْهِ التعرف إِلَى كُل أحد أَنَّهُ من هُوَ ثُمَّ إِن اللَّه سبحانه أجرى عَلَى لسان ذَلِكَ الصحابي التعريف للأعرابي بقوله: كفاك جفاء أَن لا تعرف نبيك. ومن النَّاس من قَالَ: إِن الغيرة من صفات أهل البداية، وإن الموحد لا يشهد الغيرة ولا يتصف بالاختيار، وليس لَهُ فيما يجري فِي المملكة تحكم، بَل الحق سبحانه أولى بالأشياء فيما يقضى عَلَى مَا يقضي: سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول: الغيرة عمل المريدين فأما أهل الحقائق فلا. وسمعته يَقُول: سمعت أبا نصر الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت الشبلي يَقُول: الغيرة غيرتان: غيرة البشرية عَلَى النفوس، وغيرة الإلهية عَلَى القلوب. وَقَالَ الشبلي أَيْضًا: غيرة الإلهية عَلَى الأنفاس أَن تضيع فيما سِوَى اللَّه تَعَالَى، والواجب أَن يقال: الغيرة غيرتان: غيرة الحق سبحانه عَلَى العبد وَهُوَ أَن لا يجعله للخلق فيضن بِهِ عَلَيْهِم , وغيرة العبد للحق وَهُوَ أَن لا يجعل شَيْئًا من أحواله وأنفاسه لغير الحق تَعَالَى , فلا يقال أنا أغار عَلَى اللَّه تَعَالَى ولكن يقال: أنا أغار لِلَّهِ تَعَالَى، فإذن الغيرة عَلَى اللَّه جهل، وربما تؤدي إِلَى ترك الدين، والغيرة لِلَّهِ تَعَالَى توجب تعظيم حقوقه وتصفية الأعمال لَهُ. واعلموا أَن من سنة الحق تَعَالَى مَعَ أوليائه أنهم إِذَا ساكنوا غَيْر أَوْ لاحظوا شَيْئًا أَوْ ضاجعوا بقلوبهم شَيْئًا شوش عَلَيْهِم ذَلِكَ فيغار عَلَى قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه فارغة عما ساكنوه أَوْ ضاجعوه، كآدم عَلَيْهِ السَّلام لما وطن نَفْسه عَلَى الخلود فِي الْجَنَّة أَخْرَجَهُ منها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 وإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام لما أعجبه إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلام أمره بذبحه حَتَّى أَخْرَجَهُ من قلبه {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] وصفا سره منه أمره بالفداء عَنْهُ. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا زَيْد الفقيه المروزي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن شيبان يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن حسان يَقُول: بينا أنا أدور ففي جبل لبنان إذ خرج عَلَيْنَا رجل شاب قَدْ أحرقته السموم والرياح، فلما نظر إلي ولى هاربا فتبعته وقلت: تعظني بكلمة فَقَالَ: احذر فَإِنَّهُ غيور لا يحب أَن يرى فِي قلب عبده سواه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُول: قَالَ النصرأباذي: الحق تَعَالَى غيور ومن غيرته، أَنَّهُ لَمْ يجعل إِلَيْهِ طريقا سواه. وقيل: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى بَعْض أنبيائه إِن لفلان إلي حاجة ولي أَيْضًا إِلَيْهِ حاجة، فَإِن قضى حاجتي قضيت حاجته، فَقَالَ ذَلِكَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مناجاته: إلهي كَيْفَ يَكُون لَك حاجة؟ فَقَالَ: إنه ساكن بقلبه غيرى، فليفرغ قلبه عَنْهُ أقض حاجته. وقيل: إِن أبا يَزِيد البسطامي رأى جَمَاعَة من الحور العين فِي منامه فنظر إليهن فسلب وقته أياما ثُمَّ إنه رأى فِي منامه جَمَاعَة منهن فلم يلتف إليهن وَقَالَ: إنكن شواغل، وقيل: مرضت رابعة العدوية فقيل لَهَا: مَا سبب علتك؟ فَقَالَتْ: نظرت بقلبي إِلَى الْجَنَّة فأدبني فله العتبى لا أعود ويحكى عَنِ السري أَنَّهُ قَالَ: كنت أطلب رجلا صديقا لي مدة من الأوقات، فمررت فِي بَعْض الجبال فَإِذَا أنا بجماعة زمنى وعميان ومرضى فسألت عَن حالهم فَقَالُوا: ههنا رجل يخرج من السنة مرة يدعو لَهُمْ فيجدون الشفاء، فصبرت حَتَّى خرج ودعا لَهُمْ فوجدوا الشفاء فقفوت أثره وتعلقت بِهِ وقلت لَهُ: بي علة باطنة فَمَا دواؤها؟ فَقَالَ: يا سري خل عنى فَإِنَّهُ غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه. قَالَ الأستاذ: وَمِنْهُم من غيرته حِينَ يرى النَّاس يذكرونه تَعَالَى بالغفلة فلا يمكنه رؤية ذَلِكَ ويشق عَلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: لما دَخَلَ الأعرابي مَسْجِد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبال فِيهِ وتبادر إِلَيْهِ الصَّحَابَة لإخراجه قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا أساء الأعرابي الأدب ولكن الخجل وقع عَلَى الصَّحَابَة والمشقة حصلت لَهُمْ حِينَ رأوا من وضع حشمته كَذَلِكَ العبد إِذَا عرف جلال قدره سبحانه شق عَلَيْهِ سماع ذكره من يذكره بالغفلة وطاعة من لا يعبده بالحرمة. حكى أَن الشبلي مَات لَهُ ابْن كَانَ اسمه أبا الْحَسَن فجزعت أمه عَلَيْهِ وقطعت شعر رأسها فدخل الشبلي الحمام وتنور بلحيته فَكُل من أتاه معزيا قَالَ: إيش هَذَا يا أبا بَكْر فكان يَقُول: موافقة لأهلي، فَقَالَ لَهُ بَعْضهم: أخبرني يا أبا بَكْر لَمْ فعلت هَذَا؟ فَقَالَ: علمت أنهم يعزونني عَلَى الغفلة ويقولون آجرك اللَّه تَعَالَى ففديت ذكرهم لِلَّهِ تَعَالَى بالغفلة بلحيتي، وسمع النوري رجلا يؤذن فَقَالَ: طعنة وسم الْمَوْت، وسمع كلبا ينبح فَقَالَ: لبيك وسعديك فقيل لَهُ إِن هَذَا ترك للدين فَإِنَّهُ يَقُول للمؤمن فِي تشهده طعنة وسم الْمَوْت ويلبي عِنْدَ نباح الكلب، فسئل عَن ذَلِكَ فَقَالَ: أما ذَلِكَ فكان ذكره لِلَّهِ عَلَى رأس الغفلة، وَأَمَّا الكلب فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وأذن الشبلي مرة فلما انتهى إِلَى الشهادتين قَالَ: لولا أنك أمرتني مَا ذكرت معك غيرك وسمع رجلا يَقُول:. . اللَّه فَقَالَ لَهُ: أحب أَن تجله عَن هَذَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 سمعت بَعْض الفقراء يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن الخزفاني رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول لا اللَّه إلا اللَّه من داخل القلب مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ من القرط ومن نظر إِلَى ظاهر هَذَا اللفظ توهم أَنَّهُ استصغر الشرع ولا كَمَا يخطر بالبال إذ الأخطار للأغيار بالإضافة إِلَى قدر الحق سبحانه متصاغرة فِي التحقيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 بَاب الولاية قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَرُونَ الْمُقْرِي قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ الْخَيَّاطُ , عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مَيْمُونٍ مَوْلَى عُرْوَةَ , عَنْ عُرْوَةَ , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ الْعَبْدُ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ كَتَرَدُّدِي فِي قَبْضِ رَوْحِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ لأَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم: الولي لَهُ معنيان: إحداهما: فعيل بمعنى مفعول وَهُوَ من يتولى اللَّه سبحانه أمره اللَّه تَعَالَى: وَهُوَ يتولى الصلحين فلا يكله إِلَى نَفْسه لحظة بَل يتولى الحق سبحانه رعايته. وَالثَّانِي: فعيل مبالغة من الفاعل وَهُوَ الَّذِي يتولى عُبَادَة اللَّه تَعَالَى وطاعته فعبادته تجرى عَلَى التوالي من غَيْر أَن يتخلاها عصيان، وكلا الوصفين واجب حَتَّى يَكُون الولي وليا بحب قيامه بحقوق اللَّه تَعَالَى عَلَى الاستقصاء والاستيفاء ودوام حفظ اللَّه تَعَالَى إياه فِي السراء والضراء، ومن شرط الولي أَن يَكُون محفوظا كَمَا أَن من شرط النَّبِي أَن يَكُون معصوما فَكُل من كَانَ للشراع عَلَيْهِ اعتراض فَهُوَ مغرور مخدع. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: قصد أَبُو يَزِيد البسطامي بَعْض من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 وصف بالولاية، فلما وافي مسجده قعد ينتظر خروجه فخرج الرجل وتنخم فِي الْمَسْجِد فانصرف أَبُو يَزِيد وَلَمْ يسلم عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا رجل غَيْر مأمون عَلَى أدب من آداب الشريعة، فكيف يَكُون أمينا عَلَى أسرار الحق واختلفوا فِي أَن الولي هل يَجُوز أَن يعلم أَنَّهُ ولي أم لا. فمنهم من قَالَ لا يَجُوز ذَلِكَ وَقَالَ إِن الولي يلاحظ نَفْسه بعين التصغير، وإن ظهر عَلَيْهِ شَيْء من الكرامات خاف أَن يَكُون مكرا وَهُوَ يستشعر الخوف دائما أبدا , وإنما يخاف سقوطه عما هُوَ فِيهِ , وأن تكون عاقبته بخلاف حاله , وَهَؤُلاءِ يجعلون من شرط الولاية وفاء المآل. وَقَدْ ورد فِي هَذَا الباب حكايات كثيرة عَنِ الشيوخ وإليه ذهب من شيوخ هذه الطائفة جَمَاعَة لا يحصون ولو اشتغلنا بذكر مَا قَالُوا لخرجنا عَن حد الاختصار، وإلى هَذَا كَانَ يذهب من شيوخنا الَّذِينَ لقيناهم الإِمَام أَبُو بَكْر بْن فورك، وَمِنْهُم من قَالَ يَجُوز أَن يعلم الولي أَنَّهُ ولي وليس من شرط تحقيق الولاية فِي الحال الوفاء فِي المآل، ثُمَّ إِن كَانَ ذَلِكَ من شرطه أَيْضًا فيجوز أَن يَكُون هَذَا الولي خص بكرامة هِيَ تعريف الحق إياه أَنَّهُ مأمون العاقبة إذ القول بجوز كرامات الأولياء واجب وَهُوَ وإن فارقه خوف العاقبة فَمَا هُوَ عَلَيْهِ من الهيبة والتعظيم والإجلال فِي الحال أتم وأشد فَإِن اليسير من التعظيم والهيبة أهدى للقلوب من كثير من الخوف ولما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة فِي الْجَنَّة من أَصْحَابه فالعشرة لا محالة صدقوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعروفوا سلامة عاقبتهم ثُمَّ لَمْ يقدح ذَلِكَ فِي حالهم ولأن من شرط صحة المعرفة بالنبوة الوقوف عَلَى حد المعجزة ويدخل فِي جملته العلم بحقيقة الكرامات فَإِذَا رأى الكرامات ظاهرة عَلَيْهِ لا يمكنه أَن لا يميز بينها وبين غيرها فَإِذَا رأى شَيْئًا من ذَلِكَ علم أَنَّهُ فِي الحال عَلَى الحق ثُمَّ يَجُوز أَن يعرف أَنَّهُ فِي المآل يبقى عَلَى هذه الحالة ويكون هَذَا التعريف كرامة لَهُ , والقول بكرامات الأولياء صحيح , الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 وكثير من حكايات الْقَوْم تَدُل عَلَى ذَلِكَ كَمَا نذكر طرفا من ذَلِكَ فِي بَاب كرامات الأولياء إِن شاء اللَّه تَعَالَى وإلى هَذَا القول كَانَ يذهب من شيوخنا الَّذِينَ لقيناهم الأستاذ أَبُو عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وقيل: إِن إِبْرَاهِيم بْن أدهم قَالَ لرجل أتحب أَن تكون لِلَّهِ وليا؟ فَقَالَ: نعم فَقَالَ: لا ترغب فِي شَيْء من الدنيا والآخرة وفرغ نفسك لِلَّهِ تَعَالَى وأقبل بوجهك عَلَيْهِ ليقبل عليك ويواليك وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ فِي صفة الأولياء: هُمْ عباد تسربلوا بالأنس بَعْد المكابدة واعتنقوا الروح بَعْد المجاهدة بوصولهم إِلَى مقام الولاية. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت عمي البسطامي يَقُول: سمعت أَبِي يَقُول: سمعت أبا يَزِيد يَقُول: أولياء اللَّه عرائس اللَّه تَعَالَى ولا يرى العرائس إلا المحرمون فَهُمْ مخدرون عنده فِي حجاب الأنس لا يراهم أحد فِي الدنيا ولا فِي الآخرة. سمعت أبا بَكْر الصيدلاني وَكَانَ رجلا صالحا قَالَ: كنت أصلح اللوح فِي قبر أَبِي بَكْر الطمستاني أنقر فِيهِ اسمه فِي مقبرة الحيرة كثيرا وَكَانَ يقام ذَلِكَ اللوح ويسرق وَلَمْ يقلع من غيره من القبور فكنت أتعجب منه فسألت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ يوما عَن ذَلِكَ فَقَالَ: إِن ذَلِكَ الشيخ آثر الخفاء فِي الدنيا وأنت تريد أَن تشهر قبره باللوح الَّذِي تصلحه فِيهِ وإن الحق سبحانه يأبي إلا إخفاء قبره كَمَا آثر هُوَ ستر نَفْسه وَقَالَ أَبُو عُثْمَان المغربي: الولي قَدْ يَكُون مشهورا ولكن لا يَكُون مفتونا. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت النصراباذي يَقُول: لَيْسَ للأولياء سؤال إِنَّمَا هُوَ الذبول والخمول قَالَ: وسمعته يَقُول: نهايات الأولياء بدايات الأنبياء وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: الوالي الَّذِي توالت أفعاله عَلَى الموافقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: الولي لا يرائي ولا ينافق وَمَا أقل صديق من كَانَ هَذَا خلقه وَقَالَ أَبُو عَلَى الجوزجاني: الولي هُوَ الفاني فِي حاله الباقي فِي مشاهدة الحق سبحانه تولى اللَّه سياسته فتوالت عَلَيْهِ أنوار التولي لَمْ يكن لَهُ عَن نَفْسه إخبار ولا مَعَ غَيْر اللَّه قرار وَقَالَ أَبُو يَزِيد: حظوظ الأولياء مَعَ تباينها من أربعة أسماء وقيام كُل فريق مِنْهُم باسم منها وَهُوَ الأَوَّل والآخر والظاهر والباطن فَمَتَى فنى عَنْهَا بَعْد ملابستها فَهُوَ الكامل التام فمن كَانَ حظه من اسمه الظاهر لاحظ عجائب قدرته ومن كَانَ حظه من اسمه الباطن لا حظ مَا جرى فِي السرائر من أنواره ومن كَانَ حظه من اسمه الأَوَّل كَانَ شغله بِمَا سبق ومن كَانَ حظه من اسمه الآخر كَانَ مرتبطا بِمَا يستقبله وكل كوشف عَلَى قدر طاقته إلا من تولاه الحق سبحانه ببره وقام عَنْهُ بنفسه وَهَذَا الَّذِي قاله أَبُو يَزِيد يشير إِلَى أَن الخواص من عباده ارتقوا عَن هذه الأقسام فلا العواقب هُمْ فِي ذكرها ولا السوابق هُمْ فِي فكرها ولا الطوارق هُمْ فِي أسرها وكذا أَصْحَاب الحقائق يكونون محوا عَن نعوت الخلائق قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18] وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: الولي ريحان اللَّه تَعَالَى فِي الأَرْض يشمه الصديقون فتصل رائحته إِلَى قلوبهم فيشتاقون بِهِ إِلَى مولاهم ويزدادون عُبَادَة عَلَى تفاوت أخلاقهم. وسئل الواسطي كَيْفَ يغذي الولي فِي ولايته فَقَالَ: فِي بدايته بعبادته وَفِي كهولته بستره بلطافته ثُمَّ يجذبه إِلَى مَا سبق لَهُ من نعوته وصفاته ثُمَّ يذيقه طعم قيامه بِهِ فِي أوقاته، وقيل: علامة الولي ثلاثة: شغله بالله تَعَالَى وفراره إِلَى اللَّه تَعَالَى وهمه إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ الخراز: إِذَا أراد اللَّه تَعَالَى أَن يوالي عبدا من عبيده فتح عَلَيْهِ بَاب ذكره فَإِذَا استلذ الذكر فتح عَلَيْهِ بَاب القرب ثُمَّ رفعه إِلَى مجلس الأنس بِهِ ثُمَّ أجلسه عَلَى كرسي التوحيد ثُمَّ رفع عَنْهُ الحجب وأدخله دار الفردانية وكشف لَهُ عَنِ الجلال والعظمة فَإِذَا وقع بصره عَلَى الجلال والعظمة بقى بلا هوى فحينئذ صار العبد زمنا فانيا فوقع فِي حفظه سبحانه وبرئ من دعاوي نَفْسه. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول: قَالَ أَبُو تراب النخشبي: إِذَا ألف القلب الإعراض عَنِ اللَّه تَعَالَى صحبته الوقيعة فِي أولياء اللَّه تَعَالَى ويقال: صفة الولي أَن لا يَكُون لَهُ خوف، لأن الخوف ترقب مكروه يحل فِي المستقبل أَوِ انتظار محبوب يفوت فِي المستأنف والولي ابْن وقته لَيْسَ لَهُ مستقبل فيخاف شَيْء وكما لا خوف لَهُ لا رجاء لَهُ، لأن الرجاء انتظار محبوب يحصل أَوْ مكروه يكشف وَذَلِكَ فِي الثَّانِي من الوقت وَكَذَلِكَ لا حزن لَهُ، لأن الحزن من حزونه الوقت ومن كَانَ فِي ضياء الرضا وبرد الموافقة فأنى يَكُون لَهُ حزن قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 بَاب الدعاء قَالَ اللَّه تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَقَالَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] . أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصَّفَّارُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَوْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا كَامِلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ. قَالَ الأستاذ: والدعاء مفتاح الحاجة وَهُوَ مستروح أَصْحَاب الفاقات وملجأ المضطرين ومتنفس ذوي المآرب وَقَدْ ذم اللَّه تَعَالَى قوما تركوا الدعاء فَقَالَ: ويقبضون أيديهم قيل لا يمدونها إلينا فِي السؤال وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: خلق اللَّه تَعَالَى الخلق وَقَالَ ناجوني فَإِن لَمْ تفعلوا فانظروا إِلَى فَإِن لَمْ تفعلوا فاسمعوا منى فَإِن لَمْ تفعلوا فكونوا ببابي فَإِن لَمْ تفعلوا فأنزلوا حاجاتكم بي. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: قَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: أقرب الدعاء إِلَى الإجابة دعاء الحال ودعاء الحال أَن يَكُون صاحبه مضطر لابد لَهُ مِمَّا يدعو لأجله , أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيّ قَالَ: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ المكانسي يَقُول: كنت عِنْدَ الجنيد فأتت امْرَأَة إِلَيْهِ وَقَالَتْ: ادع اللَّه تَعَالَى لي فَإِن ابنا لي ضاع فَقَالَ: اذهبي واصبري فمضت ثُمَّ عادت فَقَالَتْ: مثل ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا الجنيد: اذهبي واصبري فمضت ثُمَّ عادت ففعلت مثل ذَلِكَ مرات والجنيد يَقُول لَهَا: اصبري فَقَالَتْ: عيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 صبري وَلَمْ يبق لي طاقة فادع لي فَقَالَ الجنيد: إِن كَانَ كَمَا قُلْت فاذهبي فَقَدْ رجع ابنك فمضت ثُمَّ عادت تشكر لَهُ فقيل للجنيد: لَمْ عرفت ذَلِكَ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] واختلف النَّاس فِي أَن الأفضل الدعاء أم السكوت والرضا فمنهم من قَالَ الدعاء فِي نَفْسه عُبَادَة قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدعاء مخ العبادة فالإتيان بِمَا هُوَ عُبَادَة أولى من تركه ثُمَّ هُوَ حق الحق سبحانه وتعالى فَإِن لَمْ يستجب للعبد وَلَمْ يصل إِلَى حظ نَفْسه فلقد قام بحق ربه، لأن الدعاء إظهار فاقة العبودية ولقد قَالَ أَبُو حازم الأعرج، لأن أحرام الدعاء أشد عَلَى من أَن أحرم الإجابة وطائفة قَالُوا: السكوت والخمول تَحْتَ جريان الحكم أتم والرضا بِمَا سبق من اختيار الحق أولى ولهذا قَالَ الواسطي: اختيار مَا جرى لَك فِي الأزل خير لَك من معارضة الوقت وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرا عَنِ اللَّه تَعَالَى: من شغله ذكرى عَن مسألتي أعطيته أفضل مَا أعطى السائلين وَقَالَ قوم: يجب أَن يَكُون العبد صاحب دعاء بلسانه وصاحب رضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعا والأولى أَن يقال: إِن الأوقات مختلفة ففي بَعْض الأحوال الدعاء أفضل من السكوت وَهُوَ الأدب وَفِي بَعْض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء وَهُوَ الأدب وإنما يعرف ذَلِكَ فِي الوقت، لأن علم الوقت إِنَّمَا يحصل فِي الوقت فَإِذَا وجد بقلبه إشارة إِلَى الدعاء فالدعاء لَهُ أولى وإذا وجد إشارة إِلَى السكوت فالسكوت لَهُ أتم ويصح أَن يقال ينبغي للعبد أَن لا يَكُون ساهيا عَن شهود ربه تَعَالَى فِي حال دعائه ثُمَّ يجب عَلَيْهِ أَن يراعي حاله فَإِن وجد من الدعاء زيادة بسط فِي وقته فالدعاء لَهُ أولي وإن عاد إِلَى قلبه فِي وقت الدعاء شبه زجر ومثل قبض فالأولى لَهُ ترك الدعاء فِي هَذَا الوقت وإن لَمْ يجد فِي قلبه زيادة بسط ولا حصول زجر فالدعاء وتركه ههنا سيان فَإِن كَانَ الغالب عَلَيْهِ فِي هَذَا الوقت العلم فالدعاء أولى لكونه عُبَادَة وإن كَانَ الغالب عَلَيْهِ فِي هَذَا الوقت المعرفة والحال والسكوت فالسكوت أولى ويصح أَن يقال مَا كَانَ للمسلمين فِيهِ نصيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 أَوْ للحق سبحانه فِيهِ حق فالدعاء أولى وَمَا كَانَ لنفسك فِيهِ حظ فالسكوت أتم، وَفِي الْخَبَر المروي إِن العبد يدعو اللَّه تَعَالَى وَهُوَ يحبه فَيَقُول يا جبريل عَلَيْهِ السَّلام أخر حاجة عبدى فإني أحب أَن أسمع صوته وإن العبد ليدعو اللَّه وَهُوَ يبغضه فَيَقُول: يا جبريل اقض لعبدي حاجته فإني أكره أَن أسمع صوته. ويحكى أَن يَحْيَي بْن سَعِيد الْقَطَّان رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رأى الحق سبحانه فِي منامه فَقَالَ: إلهي كم أدعوك ولا تجيبني فَقَالَ: يا يَحْيَي لأني أحب أَن أسمع صوتك. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي نفسي بيده إِن العبد ليدعو اللَّه تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غضبان فيعرض عَنْهُ ثُمَّ يدعوه فيعرض عَنْهُ ثُمَّ يدعوه فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لملائكته أَبِي عبدي أَن يدعو غيرى فَقَد استجبت لَهُ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَانَ بِبَغْدَادَ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السِّمَاكِ , قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ الْحَضْرَمِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ , قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ الْحَجَّاجِ , قَالَ: قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , قَالَ: كَانَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْجَرُ مِنْ بِلادِ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى بِلادِ الشَّامِ وَلا يَصْحَبُ الْقَوَافِلَ تَوَكُّلا مِنْهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: بَيْنَا هُوَ جَاءَ مِنَ الشَّامِ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ إِذْ عَرَضَ لَهُ لِصٌّ عَلَى فَرَسٍ، فَصَاحَ بِالتَّاجِرِ قِفْ فَوَقَفَ لَهُ التَّاجِرُ وَقَالَ لَهُ شَأْنُكَ بِمَالِي وَخَلِّ سَبِيلِي، فَقَالَ لَهُ اللِّصُّ: الْمَالُ مَالِي وَإِنَّمَا أُرِيدُ نَفْسَكَ. فَقَالَ لَهُ التَّاجِرُ: مَا تَرْجُو بِنَفْسِي شَأْنُكَ وَالْمَالُ وَخَلِّ سَبِيلِي. قَالَ فَرَدَّ عَلَيْهِ اللِّصُّ مِثْلَ الْمَقَالَةِ الأُولَى، فَقَالَ لَهُ التَّاجِرُ: أَنْظِرْنِي حَتَّى أَتَوَضَّأَ وَأُصَلِّي وَأَدْعُوَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: افْعَلْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ: فَقَامَ التَّاجِرُ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ أَنْ قَالَ: يَا وَدُودُ، يَا وَدُودُ، يَا ذَا الْعَرْشِ الْمَجِيدِ، يَا مُبْدِئُ، يَا مُعِيدُ، يَا فَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، أَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي مَلأَ أَرْكَانَ عَرْشِكَ، وَأَسْأَلُكَ بِقُدْرَتِكَ الَّتِي قَدَرْتَ بِهَا عَلْى خَلْقِكَ وَبِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ يَا مُغِيثُ أَغِثْنِي ثَلاثَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 مَرَّاتٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ إِذَا بِفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ أَشْهَبَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ بِيَدِهِ حَرْبَةٌ مِنْ نُورٍ، فَلَمَّا نَظَرَ اللِّصُّ إِلَى الْفَارِسِ تَرَكَ التَّاجِرُ وَمَرَّ نَحْوَ الْفَارِسِ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ شَدَّ الْفَارِسُ عَلَى اللِّصِّ فَطَعَنَهُ طَعْنَةً أَذْرَاهُ عَنْ فَرَسِهِ ثُمَّ جَاءَ إِلَى التَّاجِرِ فَقَالَ لَهُ: قُمْ فَاقْتُلْهُ فَقَالَ لَهُ التَّاجِرُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَمَا قَتَلْتُ أَحَدًا قَطُّ وَلا تَطِيبُ نَفْسِي لِقَتْلِهِ، قَالَ فَرَجَعَ الْفَارِسُ إِلَى اللِّصِّ فَقَتَلَهُ ثُمَّ جَاءَ إِلَى التَّاجِرِ وَقَالَ اعْلَمْ أَنِّي مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ حِينَ دَعَوْتَ الأُولَى سَمِعْنَا لأَبْوَابِ السَّمَاءِ قَعْقَعَةً فَقُلْنَا أَمْرٌ حَدَثَ ثُمَّ دَعَوْتَ الثَّانِيَةَ فَفُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَهَا شَرَرٌ كَشَرَرِ النَّارِ ثُمَّ دَعَوْتَ الثَّالِثَةَ فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَيْنَا مِنْ قِبَلِ السَّمَاءِ وَهُوَ يُنَادِي: مَنْ لِهَذَا الْمَكْرُوبِ فَدَعَوْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوَلِّيَنِي قَتْلَهُ. وَاعْلَمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَنَّهُ مَنْ دَعَا بِدُعَائِكَ هَذَا فِي كُلِّ كُرْبَةٍ وَكُلِّ شِدَّةٍ وُكُلِّ نَازِلَةٍ فَرَّجَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَعَانَهُ قَالَ وَجَاءَ التَّاجِرُ سَالِمًا غَانِمًا حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالْقِصَّةِ وَأَخْبَرَهُ بِالدُّعَاءِ فَقَالَ لَهُ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ لَقَّنَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى الَّتِي إِذَا دُعِيَ بِهَا أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهَا أَعْطَى ومن آداب الدعاء: حضور القلب وأن لا يَكُون ساهيا فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِن اللَّه تَعَالَى لا يستجيب دعاء عَبْد من قلب لاه. ومن شرائطه: أَن يَكُون مطعمه حلالا فلقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد: وأطب كسبك تستجب دعوتك وَقَدْ قيل الدعاء مفتاح الحاجة وأسنانها لقم الحلال. وَكَانَ يَحْيَي بْن معاذ يَقُول: إلهي كَيْفَ أدعوك وأنا عاص وكيف لا أدعوك وأنت كريم، وقيل: مر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام برجل يدعو ويتضرع فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام إلهي لو كانت حاجته بيدي قضيتها فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ أنا أرحم بِهِ منك ولكنه يدعوني وَلَهُ غنم وقلبه عِنْدَ غنمه وإني لا أستجيب لعبد يدعوني وقلبه عِنْدَ غيري فذكر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام للرجل ذَلِكَ فانقطع إِلَى اللَّه تَعَالَى بقلبه فقضيت حاجته وقيل لجعفر الصادق عَلَيْهِ السَّلام: مَا بالنا ندعو فلا يستجاب لنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 فَقَالَ: لأنكم تدعون من لا تعرفونه. سمعت الأستاذ أبا عَلِي يَقُول ظهر بيعقوب بْن اللَّيْث علة أعيت الأطباء فَقَالُوا لَهُ: فِي ولايتك رجل صَالِح يسمى سهل بْن عَبْد اللَّهِ لو دعا لَك لعل اللَّه تَعَالَى يستجيب لَهُ فاستحضر سهلا وَقَالَ: ادع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لي فَقَالَ سهل: كَيْفَ يستجاب دعائي فيك وَفِي مجلسك مظلومون فأطلق كُل من فِي حبسه فَقَالَ سهل: اللَّهُمَّ كَمَا أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة وفرج عَنْهُ فعوفي فعرض مالا عَلَى سهل فأبي أَن يقبل فقيل لَهُ: لو قبلته ودفعته إِلَى الفقراء فنظر إِلَى الحصباء فِي الصحراء فَإِذَا هِيَ جواهر فَقَالَ لأَصْحَابه: من يعطى مثل هَذَا يحتاج إِلَى مال يعقوب بْن اللَّيْث وقيل: كَانَ صَالِح المرى يَقُول كثيرا من أدمن قرع بَاب يوشك أَن يفتح لَهُ فَقَالَتْ لَهُ رابعة: إِلَى مَتَى تقول هَذَا مَتَى أغلق هَذَا الباب حَتَّى يستفتح فَقَالَ صَالِح: شيخ جهل وامرأة علمت. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الحربي يَقُول: سمعت السري يَقُول حضرت مجلس معروف الكرخي فقام إِلَيْهِ رجل فَقَالَ: يا أبا محفوظ ادع اللَّه تَعَالَى أَن يرد عَلَي كيسي فَإِنَّهُ سرق وفيه ألف دِينَار فسكت فأعاد ثُمَّ سكت فأعاد فَقَالَ معروف: ماذا أقول؟ أقول مَا زويته عَن أنبيائك وأصفيائك فرده عَلَيْهِ فَقَالَ: الرجل فادع اللَّه تَعَالَى لي فَقَالَ: اللَّهُمَّ خر لَهُ. وحكي عَنِ اللَّيْث أَنَّهُ قَالَ: رأيت ابْن نَافِع ضريرا ثُمَّ رأيته بصيرا فَقُلْتُ لَهُ: بم رد عليك بصرك فَقَالَ: أتيت فِي منامي فقيل قل يا قريب يا مجيب , يا سميع الدعاء يا لطيفا لما يشاء رد عَلَي بصرى فقلتها فرد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى بصرى. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: كَانَ بي وجع العين ابتداء مَا رجعت إِلَى نيسابور من مرو وكنت مدة أَيَّام لَمْ أجد النوم فتناعست صباحا فسمعت قائلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 يَقُول لي: أليس اللَّه بكاف عبده فانتبهت وَقَدْ فارقني الرمد وزال فِي الوقت الوجع وَلَمْ يصبني بَعْد ذَلِكَ وجع العين. وحكى عَن مُحَمَّد بْن خزيمة أَنَّهُ قَالَ: لما مَات أَحْمَد بْن حنبل رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كنت بالإسكندرية فاغتممت فرأيت فِي المنام أَحْمَد بْن حنبل رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ يتبختر فَقُلْتُ: يا أبا عَبْد اللَّهِ أي مشية هذه فَقَالَ: مشية الخدام فِي دار السَّلام فَقُلْتُ: مَا فعل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بك فَقَالَ: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب وَقَالَ: يا أَحْمَد هَذَا بقولك الْقُرْآن كلامي ثُمَّ قَالَ: ادعني يا أَحْمَد بتلك الدعوات الَّتِي بلغتك عَن سُفْيَان الثَّوْرِي فكنت تدعو بِهَا فِي دار الدنيا فَقُلْتُ: يا رب كُل شَيْء بقدرتك عَلَى كُل شَيْء اغفر لي كُل شَيْء ولا تسألني عَن شَيْء فَقَالَ: يا أَحْمَد هذه الْجَنَّة فادخلها فدخلتها. وقيل: تعلق شاب بأستار الْكَعْبَة وَقَالَ إلهي لا شريك لَك فيؤتى ولا وزير لَك فيرشي إِن أطعتك فبفضلك ولك الحمد وإن عصيتك فبجهلي فلك الحجة عَلَى فبإثبات حجتك عَلَى انقطاع حجتي لديك إلا غفرت لي فسمع هاتفا يَقُول: الفتى عتيق من النار وقيل: فائدة الدعاء إظهار الفاقة بَيْنَ يديه وإلا فالرب عَزَّ وَجَلَّ يفعل مَا يشاء وقيل: دعاء العامة بالأقوال ودعاء الزهاد بالأفعال ودعاء العارفين بالأحوال وقيل: خير الدعاء مَا هيجته الأحزان وَقَالَ بَعْضهم إِذَا سألت اللَّه تَعَالَى حاجة فتسهلت فسل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّة فلعل ذَلِكَ يَوْم إجابتك وقيل: ألسنة المبتدئين منطلقة بالدعاء وألسنة المتحققين خرست عَن ذَلِكَ. وسئل الواسطي أَن يدعو فَقَالَ: أخشى إِن دعوت أَن يقال لي: إِن سألتنا مَالِك عندنا فَقَد اتهمتنا وإن سألتنا مَا لَيْسَ لَك عندنا فَقَدْ أسأت الثناء عَلَيْنَا وإن رضيت أجرينا لَك من الأمور مَا قضينا لَك فِي الدهور. وروي عَن عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: مَا دعوت منذ خمسين سنة ولا أريد أَن يدعو لي أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 وقيل: الدعاء المراسلة وَمَا دامت المراسلة باقية فالأمر جميل بَعْد وقيل: لسان المذنبين دعاؤهم. وسمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: إِذَا بكى المذنب فَقَدْ راسل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَفِي معناه أنشدوا: دموع الفتى عما يجن تترجم ... وأنفاسه يبدين مَا القلب يكتم وَقَالَ بَعْضهم: الدعاء ترك الذنوب وقيل: الدعاء لسان الاشتياق إِلَى الحبيب وقيل: الإذن فِي الدعاء خير من العطاء. وَقَالَ الكتاني: لَمْ يفتح اللَّه لسان المؤمن بالمعذرة إلا لفتح بَاب المغفرة وقيل: الدعاء يوجب الحضور والعطاء يوجب الصرف والمقام عَلَى الباب أتم من الانصراف بالمثاب وقيل: الدعاء مواجهة الحق بلسان الحياء وقيل: شرط الدعاء الوقوف مَعَ الْقَضَاء بوصف الرضا وقيل: كَيْفَ تنتظر إجابة الدعوة وَقَدْ سددت طريقها بالهفوة وقيل لبعضهم: ادع لي فَقَالَ: كفاك من الأجنبية أَن تجعل بينك وبينه واسطة. سمعت حمزة يُوسُف بْن السَّهْمِيّ يَقُول: سمعت أبا الفتح نصر بْن أَحْمَد بْن عَبْد الْمَلِك يَقُول: سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت أَبِي يَقُول: جاءت امْرَأَة إِلَى تقى بْن مخلد فَقَالَتْ: إِن ابني قَدْ أسره الروم ولا أقدر عَلَى مال أَكْثَر من دويرة ولا أقدر عَلَى بيعها فلو أشرت إِلَى من يفديه بشيء فَإِنَّهُ لَيْسَ لي ليل ولا نهار ولا نوم ولا قرار فَقَالَ: نعم انصرفي حَتَّى أنظر فِي أمره إِن شاء اللَّه تَعَالَى قَالَ وأطرق الشيخ وحرك شفتيه قَالَ: فلبثنا مدة فجاءت المرأة ومعها ابنها فأخذت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 تدعو لَهُ وتقول: رجع سالما وَلَهُ حَدِيث يحدثك بِهِ فَقَالَ الشاب: كنت فِي يدي بَعْض ملوك الروم مَعَ جَمَاعَة من الأسارى وَكَانَ لَهُ إِنْسَان يستخدمنا كُل يَوْم يخرجنا إِلَى الصحراء للخدمة ثُمَّ يردنا وَعَلَيْنَا قيودنا فبينا نحن نجئ من العمل بَعْد المغرب مَعَ صاحبه الَّذِي كَانَ يحفظنا انفتح القيد من رجلي ووقع عَلَى الأَرْض ووصف اليوم والساعة فوافق الوقت الَّذِي جاءت فِيهِ المرأة ودعا الشيخ قَالَ فنهض إِلَى الَّذِي كَانَ يحفظني وصاح عَلَى كسرت القيد قُلْت: لا إنه سقط من رجالي قَالَ فتحير وأخبر صاحبه واحضروا الحداد وقيدوني فلما مشيت خطوات سقط القيد من رجلي فتحيروا فِي أمرى فدعوا رهبانهم فَقَالُوا لي ألك والدة؟ قُلْت: نعم فَقَالُوا وافق دعاؤها الإجابة وَقَدْ أطلقت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فلا يمكننا تقييدك فزودوني وأصحبوني بمن أوصلني إِلَى ناحية الْمُسْلِمِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 بَاب الفقر قَالَ اللَّه تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 273] الآية. أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ شُجَاعِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى الْبَزَّارُ بِبَغْدَادَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ قَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ , عَنْ أَبِي سَلَمَةَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِ مِائَةِ عَامٍ نِصْفِ يَوْمٍ وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبْدُوسٍ الْحِيرِيُّ بِبَغْدَادَ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَمْزَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْبَزَّارُ بِبَغْدَادَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ , عَنْ إِبْرَاهِيمِ الْهَجَرِيِّ , عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمِسْكِينَ لَيْسَ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ قَالَ: فَقِيلَ: مَنِ الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لا يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ وَيَسْتَحِي أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ وَلا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ. قَالَ الأستاذ: معنى قَوْله يستحى أَن يسأل النَّاس أي: يستحى من اللَّه تَعَالَى أَن يسأل النَّاس لا أَنَّهُ يستحى من النَّاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 والفقر شعار الأولياء , وحلية الأصفياء , واختيار الحق سبحانه لخواصه من الأتقياء والأنبياء والفقراء صفوة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ من عباده ومواضع أسراره بَيْنَ خلقه بِهِمْ يصون الخلق وببركاتهم يبسط عَلَيْهِم الرزق والفقراء الصبر جلساء اللَّه تَعَالَى يَوْم القيامة بِذَلِكَ ورد الْخَبَر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد بن محمد الفزاري، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بْنُ خَشِيشٍ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ رَاشِدٍ , عَنْ مَالِكٍ , عَنْ نَافِعٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكُلِّ شَيْءٍ مِفْتَاحٌ وَمِفْتَاحُ الْجَنَّةِ حُبُّ الْمَسَاكِينِ، وَالْفُقَرَاءُ الصَّبْرُ هُمْ جُلَسَاءُ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وقيل: إِن رجلا أتي إِبْرَاهِيم بْن أدهم بعشرة آلاف درهم فأبي أَن يقبلها وَقَالَ: تريد أَن تمحوا اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم لا أفعل وَقَالَ معاذ النسفي: مَا أهلك اللَّه تَعَالَى قوما وإن عملوا مَا عملوا حَتَّى أهانوا الفقراء وأزلوهم وقيل: لو لَمْ يكن للفقير غَيْر إرادته سعة الْمُسْلِمِينَ ورخص أسعارهم لكفاه ذَلِكَ لأنه يحتاج إِلَى شرائها والغنى يحتاج إِلَى بيعها هَذَا لعوام الفقراء فكيف حال خواصهم. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن بَكْر يَقُول: سمعت أبا بَكْر بْن سمعان يَقُول: سمعت أبا بَكْر بْن مَسْعُود يَقُول: سئل يَحْيَي بْن معاذ عَنِ الفقر فَقَالَ: حقيقته أَن لا يستغنى إلا بالله ورسمه عدم الأسباب كلها. وسمعته يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم القصار يَقُول الفقر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 لباس يورث الرضا إِذَا تحقق العبد فِيهِ. وقدم عَلِي الأستاذ أَبِي عَلي الدقاق فَقِير فِي سنة خمس أَوْ أربع وتسعين وثلاث مائة من زوزن وعليه مسح وقلنسوة مسح فَقَالَ لَهُ بَعْض أَصْحَابنا: بكم اشتريت هَذَا المسح عَلَى وجه المطايبة فَقَالَ: اشتريته بالدنيا وطلب منى بالآخرة فلم أبعه. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: قام فَقِير فِي مجلس يطلب شَيْئًا فَقَالَ: إني جائع منذ ثَلاث وَكَانَ هناك بَعْض المشايخ فصاح عَلَيْهِ وَقَالَ كذبت إِن الفقر سر اللَّه وَهُوَ لا يضع سره عِنْدَ من يحمله إِلَى من يريد. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الفراء يَقُول: سمعت زَكَرِيَّا النخشبي يَقُول: سمعت حمدون القصار يَقُول: إِذَا اجتمع إبليس وجنوده لَمْ يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: رجل مؤمن قتل مؤمنا ورجل يموت عَلَى الكفر وقلب فِيهِ خوف الفقر. وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَطَاء يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الفراغاني يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول يا معشر الفقراء إنكم تعرفون بالله تَعَالَى وتكرمون لِلَّهِ تَعَالَى فانظروا كَيْفَ تكونون مَعَ اللَّه تَعَالَى إِذَا خلوتم بِهِ. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحَسَن البغدادي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الفراغاني يَقُول: سمعت الجنيد وَقَدْ سئل عَنِ الافتقار إِلَى اللَّه سبحانه وتعالى أهو أتم أم الاستغناء بالله تَعَالَى فَقَالَ: إِذَا صح الافتقار إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ صح الاستغناء بالله تَعَالَى وإذا صح الاستغناء بالله تَعَالَى كمل الغنى بِهِ فلا يقال أيهما أتم الافتقار أم الغنى لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى. وسمعته يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت جعفرا يَقُول: سمعت رويما يَقُول وَقَدْ سئل عَن نعت الفقير فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 إرسال النفس فِي أحكام اللَّه تَعَالَى وقيل: نعت الفقير ثلاثة أشياء حفظ سره وأداء فرضه وصيانة فقره وقيل: لأبي سَعِيد الخراز لَمْ تأخر عَنِ الفقراء رفق الأغنياء قَالَ لثلاث خصال، لأن مَا فِي أيديهم غَيْر طيب ولأنهم غَيْر موفقين ولأن الفقراء مرادون بالبلاء وقيل: أوحى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام: إِذَا رأيت الفقراء فسائلهم كَمَا تسائل الأغنياء فَإِن لَمْ تفعل فاجعل كُل شَيْء علمتك تَحْتَ التراب. وروي عَن أَبِي الدرداء أَنَّهُ قَالَ: لأن أقع من فَوْقَ قصر فأنحطم أحب إِلَى من مجالسه الغني لأني سمعت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول إياكم ومجالسة الموتى قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ ومن الموتي؟ قَالَ: الأغنياء وقيل للربيع بْن خيثم: قَدْ غلا السعر قَالَ: نحن أهون عَلَى اللَّه من أَن يجيعنا إِنَّمَا يجيع أولياءه وَقَالَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى وطلب النَّاس الغنى فاستقبلهم الفقر. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي يَقُول: سمعت الْحَسَن بْن علوية يَقُول: قيل ليحي بْن معاذ: مَا الفقر؟ قَالَ: خوف الفقر قيل: فَمَا الغنى؟ قَالَ: الأمن بالله تَعَالَى وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: سمعت ابْن الكريني يَقُول: إِن الفقير الصادق ليحترز من الغنى حذرا أَن يدخله الغنى فيفسد عَلَيْهِ فقره كَمَا أَن الغنى يحترز من الفقر حذرا أَن يدخل عَلَيْهِ فيفسد عَلَيْهِ غناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وسئل أَبُو حفص بماذا يقدم الفقير عَلَى ربه عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: وَمَا للفقير أَن يقدم بِهِ عَلَى ربه تَعَالَى سِوَى فقره وقيل: أوحى اللَّه تَعَالَى لي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام: أتريد أَن يَكُون لَك يَوْم الْقِيَامَة مثل حسنات النَّاس أجمع قَالَ نعم قَالَ عد المريض وكن لثياب الفقراء فاليا فجعل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام عَلَى نَفْسه فِي كُل شَهْر سبعة أَيَّام يطوف عَلَى الفقراء يفلي ثيابهم ويعود المرضى وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ خمسة أشياء من جوهر النفس فَقِير يظهر الغنى وجائع يظهر الشبع ومحزون يظهر الفرح ورجل بينه وبين رجل عداوة يظهر لَهُ المحبة ورجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يظهر ضعفا وَقَالَ بشر بْن الحرث: أفضل المقامات اعتقاد الصبر عَلَى الفقر إِلَى القبر وَقَالَ ذو النون: علامة سخط اللَّه عَلَى العبد خوفه من الفقر. وَقَالَ الشبلي: أدنى علامات الفقر أَن لو كانت الدنيا بأسرها لأحد فأنفقها فِي يَوْم ثُمَّ خطر بباله أَن لو أمسك منها قوت يَوْم مَا صدق فِي فقره. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول تكلم النَّاس فِي الفقر والغنى أيهما أفضل وعندي أَن الأفضل أَن يعطى الرجل كفايته ثُمَّ يصان فِيهِ. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد بْن ياسين يَقُول: سمعت ابْن الجلاء يَقُول وَقَدْ سألته عَنِ الفقر فسكت حَتَّى خلا ثُمَّ ذهب ورجع عَن قريب ثُمَّ قَالَ كَانَ عندي أربعة دوانيق فاستحييت من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَن أتكلم فِي الفقر فذهبت وأخرجتها ثُمَّ قعد وتكلم فِي الفقر. وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الدمشقي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن المولد يَقُول سألت ابْن الجلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 مَتَى يستحق الفقير اسم الفقر فَقَالَ: إِذَا لَمْ يبق عَلَيْهِ بقية منه فَقُلْتُ: كَيْفَ ذاك فَقَالَ: إِذَا كَانَ لَهُ فليس لَهُ وإذا لَمْ يكن لَهُ فَهُوَ لَهُ وقيل: صحة الفقر أَن لا يستغني الفقير فِي فقره بشيء إلا بمن إِلَيْهِ فقره، وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ إظهار الغنى فِي الفقر أَحْسَن من الفقر. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت هلال بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت النقاش يَقُول: سمعت بنانا الْمِصْرِي يَقُول: كنت بمكة قاعدا وشاب بَيْنَ يدي فجاءه إِنْسَان وحمل إِلَيْهِ كيسا فِيهِ دراهم ووضعه بَيْنَ يديه، فَقَالَ: لا حاجة لي فِيهِ، فَقَالَ: فرقة عَلَى المساكين، فلما كَانَ العشاء رأيته فِي الوادي يطلب شَيْئًا لنفسه، فَقُلْتُ: لو تركت لنفسك مِمَّا كَانَ معك شَيْئًا؟ قَالَ لَمْ أعلم أني أعيش إِلَى هَذَا الوقت. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت عَلِي بْن بندر الصيرفي يَقُول: سمعت محفوظا يَقُول: سمعت أبا حفص يَقُول: أَحْسَن مَا يتوسل بِهِ العبد إِلَى مولاه دوام الفقر إِلَيْهِ عَلَى جَمِيع الأحوال، وملازمة السنة فِي جَمِيع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال. وسمعته يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت المرتعش يَقُول: ينبغي للفقير أَن لا تسبق همته خطوته. وسمعته يَقُول سمعت أبا الفرج الورثاني يَقُول: سمعت فاطمة أخت أَبِي عَلِيّ الروذباري تقول سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول: كَانَ أربعة فِي زمانهم واحد كَانَ لا يقبل من الإخوان ولا من السلطان شَيْئًا وَهُوَ يُوسُف بْن أسباط ورث من أَبِيهِ سبعين ألف درهم وَلَمْ يأخذ منها شَيْئًا وَكَانَ يعمل الخوص بيده. وآخر كَانَ يقبل من الأخوان والسلطان جميعا وَهُوَ أَبُو إِسْحَاق الفزاري، فكان مَا أخذه من الإخوان ينفقه فِي المستورين الَّذِينَ لا يتحركون، والذي كَانَ يأخذه من السلطان كَانَ يخرجه إِلَى أهل طرسوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 والثالث: كَانَ يأخذ من الإخوان ولا يأخذ من السلطان وَهُوَ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ يأخذ من الأخوان ويكافئ عَلَيْهِ. الرابع: كاني يأخذ من السلطان ولا يأخذ من الأخوان وَهُوَ مجلد بْن الْحُسَيْن كَانَ يَقُول السلطان لا يمن والإخوان يمنون. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول فِي الْخَبَر من تواضع لغنى لأجل غناه ذهب ثلثا دينه: إِنَّمَا ذَلِكَ، لأن المرء بقلبه ولسانه ونفسه، فَإِذَا تواضع لغنى بنفسه ولسانه ذهب ثلثا دينه فلو اعتقد فضله بقلبه كَمَا تواضع لَهُ بلسانه ونفسه ذهب دينه كُلهُ، وقيل: أقل مَا يلزم الفقير فِي فقره أربعة أشياء: علم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذكر يؤنسه، وقيل: من أراد الفقر لشرفه مَات فقيرا، ومن أراد الفقر لئلا يشتغل عَنِ اللَّه تَعَالَى مَات غينا، وَقَالَ المزين: كانت الطرق إِلَى اللَّه أَكْثَر من نجوم السماء فَمَا بقى منها طريق إلا طريق الفقر وَهُوَ أصح الطرق. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن يُوسُفَ القزويني يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن المولد يَقُول: سمعت الْحَسَن بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت النوري يَقُول: نعت الفقير السكون عِنْدَ العدم، والإيثار عِنْدَ الوجود. وسمعته يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول سئل الشبلي عَن حقيقة الفقر فَقَالَ: أَن لا يستغني بشيء دُونَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وسمعته يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن خلف المغربي يَقُول: قَالَ لي أَبُو سهل الخشاب الكبير الفقر فقر وذل، فَقُلْتُ: لا بَل فقر وعز، فَقَالَ: فقر وثرى، فَقُلْتُ: لا بَل فقر وعرش. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق يَقُول: سئلت عَن معني قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاد الفقر أَن يَكُون كفرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 قَالَ: فَقُلْتُ: آفة الشيء وضده عَلَى حسب فضيلته وقدره فكلما كَانَ فِي نَفْسه أفضل فضده وآفته أنقص كالإيمان لما كَانَ أشرف الخصال كَانَ ضده الكفر، فلما كَانَ الخطر عَلَى الفقر الكفر دل عَلَى أَنَّهُ أشرف الأوصاف. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا نصر الهروي يَقُول: سمعت المرتعش. يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: إِذَا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم فَإِن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه فَقُلْتُ: يا أبا القاسم وهل يَكُون فَقِير يوحشه العلم؟ فَقَالَ: نعم الفقير إِذَا كَانَ صادقا فِي فقره فطرحت عَلَيْهِ علمك ذاب كَمَا يذوب الرصاص فِي النار. وسمعته يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت مظفرا القرمسيني يَقُول: الفقير هُوَ الَّذِي لا يَكُون لَهُ إِلَى اللَّه حاجة قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم: وَهَذَا اللفظ فِيهِ أدنى غموض لمن سمعه عَلَى وصف الغفلة عَن مرمى الْقَوْم وإنما أشار قائله إِلَى سقوط المطالبات وانتفاء الاختيار والرضا بِمَا بجريه الحق سبحانه وَقَالَ ابْن خفيف: الفقر عدم الإملاك والخروج من أحكام الصفات وَقَالَ أَبُو حفص: لا يصح لأحد الفقر حَتَّى يَكُون العطاء أحب إِلَيْهِ من الأخذ وليس السخاء أَن يعطى الواجد المعد إِنَّمَا السخاء أَن يعطى المعدم الواجد. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن بَكْر يَقُول: سمعت الدقي يَقُول: سمعت ابْن الجلاء يَقُول: لولا شرف التواضع لكان حكم الفقير إِذَا مشى أَن يتبختر وَقَالَ يُوسُف بْن أسباط: منذ أربعين سنة مَا ملكت قميصين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 وَقَالَ بَعْضهم: رأيت كأن الْقِيَامَة قَدْ قامت وقيل: أدخلوا مَالِك بْن دِينَار ومحمد بْن واسع الْجَنَّة فنظرت أيهما يتقدم فتقدم مُحَمَّد بْن واسع سألت عَن سبب تقدمه فقيل لي إنه كَانَ لَهُ قيمص واحد ولمالك قميصان وَقَالَ مُحَمَّد المسوحي: الفقير الَّذِي لا يرى لنفسه حاجة إِلَى شَيْء من الأسباب. وسئل سهل بْن عَبْد اللَّهِ مَتَى يستريح الفقير فَقَالَ: إِذَا لَمْ ير لنفسه غَيْر الوقت الَّذِي هُوَ فِيهِ وتذكروا عِنْدَ يَحْيَي بْن معاذ الفقر والغنى فَقَالَ: لا يوزن غدا لا الفقر ولا الغنى وإنما يوزن الصبر والشكر فيقال يشكر ويصبر وقيل: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى بَعْض الأنبياء عَلَيْهِم السَّلام إِن أردت أَن تعرف رضاي عَنْك فانظر كَيْفَ رضا الفقراء عَنْك وَقَالَ الزقاق من لَمْ يصحبه التقى فِي فقره أكل الحرام المحض. وقيل: كَانَ الفقراء فِي مجلس سُفْيَان الثوري كأنهم الأمراء. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد الفراء يَقُول: سمعت أبا بَكْر بْن طاهر يَقُول: من حكم الفقير أَن لا يَكُون لَهُ رغبة فَإِن كَانَ ولا بد فلا تجاوز رغبته كفايته وأنشدنا الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ: أنشدني عَبْد اللَّهِ بْن إِبْرَاهِيم بْن العلاء قَالَ أنشدني أَحْمَد بْن عَطَاء لبعضهم: قَالُوا غدا العيد ماذا أَنْتَ لابسه ... فَقُلْتُ خلعة ساق حبه جرعا فقر وصبر هما ثوباي تحتهما ... قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا أحرى الملابس أَن تلقى الحبيب بِهِ ... يَوْم التزاور فِي الثوب الَّذِي خلعا الدهر لي مأتم إِن غبت يا أملي ... والعيد مَا كانت لي مرأى ومستمعا وقيل إِن هذه الأبيات لأبي عَلِي الروذباري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وَقَالَ أَبُو بَكْر الْمِصْرِي وَقَدْ سئل عَنِ الفقير الصادق فَقَالَ: الَّذِي لا يملك ولا يميل وَقَالَ ذو النون الْمِصْرِي: ودوام الفقر إِلَى اللَّه تَعَالَى مَعَ التخليط أحب إِلَى من دوام الصفاء مَعَ العجب. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الشيرازي يَقُول: سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت أبا بَكْر الجوال يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الحصري يَقُول: مكث أَبُو جَعْفَر الحداد عشرين سنة يعمل كُل يَوْم بدينا وينفقه عَلَى الفقراء ويصوم ويخرج بَيْنَ العشاءين فيتصدق عَلَيْهِ من الأبواب. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الْحُسَيْن بْن يُوسُفَ القزويني يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن المولد يَقُول: سمعت الْحَسَن بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت النوري يَقُول نعت الفقير السكون عِنْدَ العدم والبذل والإيثار عِنْدَ الوجود وسمعته يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِيّ الكتاني يَقُول: كَانَ عندنا بمكة حرسها اللَّه تَعَالَى فتى عَلَيْهِ أطمار رثة وَكَانَ لا يداخلنا ولا يجالسنا فوقعت محبته فِي قلبي ففتح لي بمائتي درهم من وجه حلال فحملتها إِلَيْهِ ووضعتها عَلَى طرف سجادته وقلت لَهُ إنه فتح لي ذَلِكَ من وجه حلال تصرفه فِي بَعْض أمورك فنظر إِلَى شزرا ثُمَّ كشف عما هُوَ مستور عنى وَقَالَ اشتريت هذه الجلسة مَعَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الفراغ بسبعين ألف دِينَار غَيْر الضياع والمستغلات تريد أَن تخدعني عَنْهَا بِهَذِهِ وقام وبددها وقعدت ألتقط فَمَا رأيت كعزه حِينَ مر ولا كذلي حِينَ كنت ألتقطها وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف: مَا وجبت عَلَى زكاة الفطر أربعين سنة ولى قبول عظيم بَيْنَ الخاص والعام. سمعت الشيخ أبا عَبْد اللَّهِ بْن باكويه الصوفي يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن خفيف يَقُول ذَلِكَ وسمعته يَقُول: سمعت أبا أَحْمَد الصغير يَقُول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 سألت أبا عَبْد اللَّهِ بْن خفيف عَن فَقِير يجوع ثلاثة أَيَّام وبعد ثلاثة يخرج ويسأل مقدار كفايته إيش يقال فِيهِ فَقَالَ: يقال فِيهِ مكد كلوا واسكتوا فلو دَخَلَ فَقِير من هَذَا الباب لفضحكم كلكم. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ الصوفي يَقُول: سمعت الدقي يَقُول وَقَدْ سئل عَن سوء أدب الفقراء مَعَ اللَّه تَعَالَى فِي أحوالهم فَقَالَ: انحطاطهم من الحقيقة إِلَى العلم. وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الطبري يَقُول: سمعت خيرا النساج يَقُول دخلت بَعْض المساجد وإذا فِيهِ فَقِير فلما رآني تعلق بي وَقَالَ: أيها الشيخ تعطف عَلَى فَإِن محنتي عظيمة فَقُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: فقدت البلاء وقويت بالعافية فنظرت فَإِذَا قَدْ فتح عَلَيْهِ بشيء من الدنيا. وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد يَقُول: سمعت أبا بَكْر الوراق يَقُول طوبي للفقير فِي الدنيا والآخرة فسألوه عَنْهُ فَقَالَ: لا يطلب السلطان منه فِي الدنيا الخراج ولا الجبار فِي الآخرة الحساب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 بَاب التصوف قَالَ الأستاذ: الصفاء محمود بكل لسان وضده الكدورة وَهِيَ مذمومة. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الأَصْبَهَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَي الطَّلْحِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَوْفَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ , عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ , عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ , قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ، فَقَالَ: ذَهَبَ صَفْوُ الدُّنْيَا وَبَقِيَ الْكَدَرُ فَالْمَوْتُ الْيَوْمَ تُحْفَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. قَالَ الأستاذ: هذه التمسية غلبت عَلَى هذه الطائفة فيقال: رجل صوفي وللجماعة صوفية ومن يتوصل إِلَى ذَلِكَ يقال لَهُ: متصوف وللجماعة المتصوفة وليس يشهد لِهَذَا الاسم من حيث العربية قياس والاشتقاق والأظهر فِيهِ أَنَّهُ كاللقب فأما قَوْل من قَالَ إنه من الصوف وتصوف إِذَا لبس الصوف، كَمَا يقال: تقمص إِذَا لبس القميص فذلك وجه لكن الْقَوْم لَمْ يختصوا بلبس الصفو ومن قَالَ إنهم منسوبون إِلَى صفة مَسْجِد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالنسبة إِلَى الصفة لا تجيء عَلَى نَحْو الصوفي ومن قَالَ: إنه من الصفاء فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد فِي مقتضى اللغة وقول من قَالَ: إنه مشتق من الصف فكأنهم فِي الصف الأَوَّل بقلوبهم من حيث المحاضرة من اللَّه تَعَالَى فالمعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضى هذه النسبة إِلَى الصف ثُمَّ إِن هذه الطائفة أشهر من أَن يحتاج فِي تعيينهم إِلَى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق وتكلم النَّاس فِي التصوف مَا معناه وَفِي الصوفي من هُوَ فَكُل عبر بِمَا وقع لَهُ واستقصاء جميعه يخرجنا عَنِ المقصود من الإيجاز وسنذكر بَعْض مقالاتهم فِيهِ عَلَى حد التلويح إِن شاء اللَّه تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن يَحْيَي الصوفي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ التميمي يَقُول: سئل أَبُو مُحَمَّد الجريري عَنِ التصوف فَقَالَ: الدخول فِي كُل خلق سنى والخروج من كُل خلق دنى. سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن عمار الهمداني يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد المرعشي يَقُول سئل شيخي عَنِ التصوف فَقَالَ: سمعت الجنيدي وَقَدْ سئل عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ أَن يميتك الحق عَنْك ويحييك بِهِ. سمعت أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن مُحَمَّد الفارسي يَقُول: سمعت أبا الفاتك يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن مَنْصُور وَقَدْ سئل عَنِ الصوفي فَقَالَ: وحداني الذات لا يقبله أحد ولا يقبل احدا. وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير يَقُول: سمعت أبا عَلِي الوراق يَقُول: سمعت أبا حمزة البغدادي يَقُول: علامة الصوفي الصادق أَن يفتقر بَعْد الغنى ويذل بَعْد العز ويخفى بَعْد الشهرة، وعلامة الصوفي الكاذب أَن يستغنى بَعْد الفقر ويعز بَعْد الذل ويشتهر بَعْد الخفاء. وسئل عَمْرو بْن عُثْمَان المكي عَنِ التصوف فَقَالَ: أَن يَكُون العبد فِي كُل وقت بِمَا هُوَ أولى بِهِ فِي الوقت. وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَلِيّ القصاب: التصوف أخلاق كريمة ظهرت فِي زمان كريم من رجل كريم مَعَ قوم كرام. وسئل سمنون عَنِ التصوف فَقَالَ: أَن تملك شَيْئًا ولا يملك شَيْء. وسئل رويم عَنِ التصوف فَقَالَ: استرسال النفس مَعَ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا يريد. وسئل الجنيد عَنِ التصوف فَقَالَ: هُوَ أَن تكون مَعَ اللَّه تَعَالَى بلا علاقة. سمعت عَبْد اللَّهِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يَقُول: أخبرني مُحَمَّد بْن الفضل قَالَ: سمعت عَلِي بْن عَبْد الرحيم الواسطي يَقُول: سمعت رويم بْن أَحْمَد البغدادي يَقُول: التصوف مبني عَلَى ثَلاث خصال: التمسك الفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار. وَقَالَ معروف الكرخي: التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مِمَّا فِي أيدي الخلائق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 وَقَالَ حمدون القصار: اصحب الصوفية فَإِن للقبيح عندهم وجوها من المعاذير وليس للحسن عندهم كبير موقع يعظمونك بِهِ. وسئل الخراز عَن أهل التصوف فَقَالَ: أقوام اعطوا حَتَّى بسطوا ومنعوا حَتَّى فقدوا ثُمَّ نودوا من أسرار قريبة ألا فابكوا عَلَيْنَا وَقَالَ الجنيد: التصوف عنوة لا صلح فِيهَا. وَقَالَ أَيْضًا: هُمْ أهل بَيْت واحد لا يدخل فيهم غيرهم. وَقَالَ أَيْضًا: التصوف ذكر مَعَ اجتماع ووجد مَعَ استماع وعمل مَعَ اتباع. وَقَالَ أَيْضًا: الصوفي كالأرض يطرح عَلَيْهَا كُل قبيح ولا يخرج منها إلا كُل مليح. وَقَالَ أَيْضًا: إنه كالأرض يطؤها البر والفاجر وكالسحاب يظل كُل شَيْء وكالقطر يسقى كُل شَيْء. وَقَالَ إِذَا رأيت الصوفي يعنى بظاهره فاعلم أَن باطنه خراب. وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: الصوفي من يرى دمه هدرا وملكه مباحا. وَقَالَ النوري: نعت الصوفي الكون عِنْدَ العدم والإيثار عِنْدَ الوجود. وَقَالَ الكتاني: التصوف خلق فمن زاد عليك فِي الخلق فَقَدْ زاد عليك فِي الصفاء. وَقَالَ أَبُو عَلِي الروذباري: التصوف الإناخة عَلَى بَاب الحبيب وإن طرد عَنْهُ. وَقَالَ أَيْضًا: صفوة القرب بَعْد كدورة البعد. وقيل: أقبح من كُل قبيح صوفي شحيح. وقيل: التصوف كف فارغ وقلب طيب. وَقَالَ الشبلي: التصوف الجلوس مَعَ اللَّه بلا هُمْ. وَقَالَ أَبُو مَنْصُور: الصوفي المشير عَنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَإِن الخلق أشاروا إِلَى اللَّه تَعَالَى. وَقَالَ الشلبي: الصوفي منقطع عَنِ الخلق متصل بالحق كقوله تَعَالَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] قطعه عَن كُل غَيْر ثُمَّ قَالَ: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 وَقَالَ أَيْضًا: الصوفية أطفال فِي حجر الحق. وَقَالَ أَيْضًا: التصوف برقة محرقة. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ العصمة عَن رؤية الكون وَقَالَ رويم: مَا تزال الصوفية بخير مَا تنافروا فَإِذَا اصطلحوا فلا خير فَهُمْ وَقَالَ الجريري: التصوف مراقبة الأحوال ولزوم الأدب. وَقَالَ المزين: التصوف الانقياد للحق. وَقَالَ أَبُو تراب النشخبي: الصوفي لا يكدره شَيْء ويصفو بِهِ كُل شَيْء. وقيل: الصوفي لا يتبعه طلب ولا يزعجه سبب. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سئل ذو النون عَنِ التصوف فَقَالَ: هُمْ قَوْل آثروا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُل شَيْء فأثرهم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُل شَيْء. وَقَالَ الواسطي: كَانَ للقوم إشارات ثُمَّ صارت حركات ثُمَّ لَمْ يبق إلا حسرات. وسئل النووي عَنِ الصفوي فَقَالَ: من سمع السماع وآثر الأسباب. سمعت أبا خاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول قُلْت: للحصري من الصوفي عندك؟ فَقَالَ: الَّذِي لا تقله الأَرْض ولا تظله السماء قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم: إِنَّمَا أشار إِلَى حال المحو، وقيل: الصوفي من إِذَا استقبله حالان أَوْ خلقان كلاهما حسن كَانَ مَعَ الأحسن، وسئل الشبلي لَمْ سموا بِهَذِهِ التسمية؟ فَقَالَ: لبقية بقيت عَلَيْهِم من نفوسهم ولولا ذَلِكَ لما تعلقت بِهِمْ تسمية. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سئل ابْن الجلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 مَا معنى صوفي فَقَالَ: لَيْسَ نعرفه فِي شرط العلم ولكن نعرف فقيرا مجردا من الأسباب كَانَ مَعَ اللَّه تَعَالَى بلا مكان ولا يمنعه الحق سبحانه من علم كُل مكان فسمى صوفيا وَقَالَ بَعْضهم: التصوف إسقاط الجاه وسواد الوجه فِي الدنيا والآخرة وَقَالَ أَبُو يعقوب المزايلي: التصوف حال تضمحل فِيهَا معالم الإِنْسَانية وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ السيرواني: الصوفي يَكُون مَعَ الواردات لا مَعَ الأوراد. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: أَحْسَن مَا قيل فِي هَذَا الباب قَوْل من قَالَ هَذَا طريق لا يصلح إلا لأقوام قَدْ كنس اللَّه بأرواحهم المزابل وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يوما: لَمْ يكن للفقير إلا روح فعرضها عَلَى كلاب هَذَا الباب فلم ينظر كلب إِلَيْهَا وَقَالَ الأستاذ أَبُو سهل الصعلوكي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التصوف الإعراض عَنِ الاعتراض وَقَالَ الحصري: الصوفي لا يوجد بَعْد عدمه ولا يعدم بَعْد وجوده قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم القشيري: وَهَذَا فِيهِ إشكال، ومعنى قَوْله لا يوجد بَعْد عدمه أي إِذَا فنيت آفاته لا تعود تلك الآفات، وقوله: ولا يعدم بَعْد وجوده يعنى إِذَا اشتغل بالحق لَمْ يسقط بسقوط الخلق فالحادثات لا تؤثر فِيهِ ويقال: الصوفي المصطلم عَنْهُ بِمَا لاح لَهُ من الحق ويقال: الصوفي مقهور بتصريف الربوبية مستور بتصرف العبودية ويقال: الصوفي لا يتغير فَإِن تغير لا يتكدر. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد الرازي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الْمِصْرِي يَقُول: سمعت الخراز يَقُول: كنت فِي جامع قيروان يَوْم جمعة فرأيت رجلا يدور فِي الصف وَيَقُول تصدقوا عَلَى فَقَدْ كنت صوفيا فضعفت فرفقته بشيء فَقَالَ لي: مر ويلك لَيْسَ من ذَلِكَ وَلَمْ يقبل الرفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 بَاب الأدب قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] قيل: حفظ آداب الحضرة وَقَالَ تَعَالَى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] جاء فِي التفسير عَنِ ابْن عَبَّاس فقهوهم وأدبوهم. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الصَّفَّارُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا غَنَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ , عَنْ عَائِشَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: حَقُّ الْوَلِدِ عَلَى وَالِدِهِ أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ وَيُحْسِنَ مَرْضَعَهُ وَيُحْسِنَ أَدَبَهُ ويحكى عَن سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّهُ قَالَ: من لَمْ يعرف مَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ فِي نَفْسه وَلَمْ يتأدب بأمره ونهيه كَانَ من الأدب فِي عزله وروي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أدبني فأحسن أدبي وحقيقة الأدب اجتماع خصال الخير فالأديب الَّذِي اجتمع فِيهِ خصال الخير ومنه المأدبة اسم للمجمع. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: العبد يصل بطاعته إِلَى الْجَنَّة وبأدبه فِي طاعته إِلَى اللَّه تَعَالَى وسمعته يَقُول رأيت من أراد أَن يمد يده فِي الصلاة عَلَى أنفه فقبض عَلَى يده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 قَالَ الأستاذ: وإنما أشار إِلَى نَفْسه لأنه لا يمكن الإِنْسَان أَن يعرف من غيره أَنَّهُ قبض عَلَى يده وَكَانَ الأستاذ أَبُو عَلِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لا يستند إِلَى شَيْء وَكَانَ يوما فِي مجمع فأردت أَن أضع وسادة خلف ظهره لأني رأيته غَيْر مستند فتنحى عَنِ الوسادة قليلا فتوهمت أَنَّهُ توفى الوسادة لأنه لَمْ يكن عَلَيْهَا خرقة أَوْ سجادة فَقَالَ: لا أريد الاستناد فتأملت بعده حاله فكان لا يستند إِلَى شَيْء. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد البصري يَقُول: سمعت الجلاجلي البصرى يَقُول التوحيد موجب يوجب الإيمان فمن لا إيمان لَهُ فلا توحيد لَهُ والإيمان موجب بوجب الشريعة فمن لا شريعة لَهُ فلا إيمان لَهُ ولا توحيد والشريعة موجب يوجب الأدب فمن لا أدب لَهُ لا شريعة لَهُ ولا إيمان ولا توحيد وَقَالَ ابْن عَطَاء: الأدب الوقوف مَعَ المستحسنات فقيل: وَمَا معناه؟ قَالَ: أَن تعامل اللَّه تَعَالَى بالأدب سرا وعلنا فَإِذَا كنت كَذَلِكَ كنت أديبا وإن كنت أعجميا ثُمَّ أنشد: إِذَا نطقت جاءت بكل ملاحة ... وإن سكتت جاءت بكل مليح أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْن قَالَ: سمعت عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ الجريري يَقُول منذ عشرين سنة مَا مددت رجلي وقت جلوسي فِي الخلوة فَإِن حسن الأدب مَعَ اللَّه تَعَالَى أولى. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إِلَى القتل رَوَى عَنِ ابْن سيرين أَنَّهُ سئل أي الآداب أقرب إِلَى اللَّه تَعَالَى فَقَالَ: معرفة ربوبيته وعمل بطاعته والحمد لِلَّهِ عَلَى السراء والصبر عَلَى الضراء. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ إِذَا ترك للعارف أدبه مَعَ معروفه فَقَدْ هلك مَعَ الهالكين. سمعت الأستاذ أبا عَلِي يَقُول: ترك الأدب موجب يوجب الطرد فمن أساء الأدب عَلَى البساط رد إِلَى الباب ومن أساء الأدب عَلَى الباب رد إِلَى سياسة الدواب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وقيل: للحسن البصري قَدْ أَكْثَر النَّاس فِي علم الآداب فَمَا أنفعها عاجلا وأوصلها جلا فَقَالَ: التفقه فِي الدين والزهد فِي الدنيا والمعرفة مِمَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عليك وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: من تأدب بأدب اللَّه تَعَالَى صار من أهل محبة اللَّه تَعَالَى وَقَالَ سهل: الْقَوْم استعانوا بالله تَعَالَى عَلَى أمر اللَّه تَعَالَى وصبروا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى آداب اللَّه تَعَالَى وَرَوَى عَنِ ابْن مبارك أَنَّهُ قَالَ: نحن إِلَى قليل من الأدب أحوج منا إِلَى كثير من العلم. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سَعِيد يَقُول: سمعت الْعَبَّاس بْن حمزة يَقُول: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحوارى قَالَ: قَالَ الْوَلِيد بْن عتبة قَالَ ابْن المبارك: طلبنا الأدب حِينَ فاتنا المؤدبون وقيل: ثَلاث خصال لَيْسَ معهن غربة مجانبة أهل الريب وحسن الأدب وكف الأذى وأنشدنا الشيخ أَبُو عَبْد اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا المعنى: يزين الغريب إِذَا مَا اغترب ... ثَلاث فمنهن حسن الأدب وثانيه حسن أخلاقه ... وثالثه اجتناب الريب ولما دَخَلَ أَبُو حفص بغداد قَالَ لَهُ الجنيد لَقَدْ أدبت أَصْحَابك أدب السلاطين فَقَالَ: أَبُو حفص حسن الأدب فِي الظاهر عنوان حسن الأدب فِي الباطن. وعن عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ أنه قَالَ: الأدب للمعارف التوبة للمستأنف. سمعت مَنْصُور بْن خلف المغربي يَقُول: قيل لبعضهم يا سيئ الأدب فَقَالَ: لست بسيء الأدب فقيل لَهُ: من أدبك فَقَالَ: أدبني الصوفية سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا النصر الطوسي السراج يَقُول النَّاس فِي الأدب عَلَى ثَلاث طبقات أما أهل الدنيا فأكثر آدابهم فِي الفصاحة , والبلاغة , وحفظ العلوم , وأسماء الملوك , وأشعار العرب , الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وَأَمَّا أهل الدين فأكثر آدابهم فِي رياضة النفوس , وتأديب الجوارح , وحفظ الحدود , وترك الشهوات , وَأَمَّا أهل الخصوصية فأكثر آدابهم فِي طهارة القلوب ومراعاة الأسرار والوفاء بالعهود وحفظ الوقت وقلة الالتفات إِلَى الخواطر وحسن الأدب فِي مواقف الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب. وحكى عَن سهل بْن عَبْد اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: من قهر نَفْسه بالأدب فَهُوَ يعبد اللَّه تَعَالَى بالإخلاص وقيل: كمال الأدب لا يصفو إلا للأنبياء عَلَيْهِم السَّلام والصديقين وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ قَدْ أَكْثَر النَّاس فِي الأدب ونحن نقول: هُوَ معرفة النفس وَقَالَ الشبلي: الانبساط بالقول مَعَ الحق سبحانه ترك الأدب وَقَالَ ذو النون المصري: أدب العارف فَوْقَ كُل أدب، لأن معرفة مؤدب قلبه وَقَالَ بَعْضهم: يَقُول الحق سبحانه: من ألزمته القيام مَعَ أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب ومن كشفت لَهُ عَن حقيقة ذاتي ألزمته العطب فاختر أيهما شئت الأدب أَوِ العطب. وقيل: مد ابْن عَطَاء رجله يوما بَيْنَ أَصْحَابه وَقَالَ: ترك الأدب بَيْنَ أهل الأدب أدب ويشهد لهذه الحكاية الْخَبَر الَّذِي رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عنده أَبُو بَكْر وعمر فدخل عُثْمَان فغطى فخذه وَقَالَ: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة نبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن حشمة عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وإن عظمت عنده فالحالة الَّتِي بينه وبين أَبِي بَكْر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كانت أصفى، وَفِي قريب من معناه أنشدوا: فِي انقباض وحشمة فَإِذَا ... صادفت أهل الوفاء والكرم أرسلت لنفسي عَلَى سجيتها ... وقلت مَا قُلْت غَيْر محتشم وَقَالَ الجنيد إِذَا صحت المحبة سقطت شروط الأدب وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: إِذَا صحت المحبة تأكدت عَلَى المحب ملازمة الأدب وَقَالَ النوري: من لَمْ يتأدب للوقت فوقته مقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وَقَالَ ذو النون المصري: إِذَا خرج المريد عَنِ استعمال الأدب فَإِنَّهُ يرجع من حيث جاء. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ يَقُول فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] قَالَ: لَمْ يقل: ارحمني لأنه حفظ آداب الْخَطَّاب وَكَذَلِكَ عيسى عَلَيْهِ السَّلام حيث قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] وَقَالَ: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] وَلَمْ يقل لَمْ أقل رعاية لآداب الحضرة. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت أبا الطيب بْن الفرحان يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول جاءني بَعْض الصالحين يَوْم الجمعة فَقَالَ لي: ابعث معي فقيرا يدخل عَلَى سرورا ويأكل معى شَيْئًا فالتفت فَإِذَا أنا بفقير شهدت فِيهِ الفاقة فدعوته وقلت لَهُ: امض مَعَ هَذَا الشيخ وأدخل عَلَيْهِ سرورا فمضى فلم ألبث أَن جاءني الرجل وَقَالَ لي: يا أبا القاسم لَمْ يأكل ذَلِكَ الرجل إلا لقمة وخرج فَقُلْتُ: لعلك قُلْت: كلمة جفاء عَلَيْهِ فَقَالَ لي: لَمْ أقل لَهُ شَيْئًا فالتفت فَإِذَا أنا بالفقير جالس فَقُلْتُ لَهُ: لَمْ تتم عَلَيْهِ السرور فَقَالَ: يا سيدي خرجت من الكوفة وقدمت بغداد وَلَمْ آكل شَيْئًا وكرهت أَن يبدو سوء أدب منى من جهة الفاقة فِي حضرتك فلما دعوتني سررت إذ جرى ذَلِكَ ابتداء منك فمضيت وأنا لا أرضى لَهُ الجنان فلما جلست عَلَى مائدته سِوَى لقمة وَقَالَ كُل فهذا أحب إِلَي من عشرة آلاف درهم لما سمعت هَذَا منه علمت أَنَّهُ دنيء الهمة فتظرفت أَن آكل طعامه فَقَالَ الجنيد: ألم أقل لَك إنك أسأت أدبك مَعَهُ فَقَالَ: يا أبا القاسم التوبة فسأله أَن يمضي مَعَهُ ويفرحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 بَاب أحكامهم فِي السفر قَالَ اللَّه تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ الأَزْرَقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جَرِيحٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّ عَلِيًّا الأَزْدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ عَلَّمَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى الْبَعِيرِ خَارِجًا عَلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ {13} وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13-14] ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى وَهَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ، فَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ: آيِبُونَ نَائِبُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ قَالَ الأستاذ: لما كان رأى كثير من هذه الطائفة اختيار السفر أفردنا لذكر السفر فِي هذه الرسالة بابا لكونه من أَعْظَم شأنهم، وَهَذِهِ الطائفة مختلفون، فمنهم من آثر الإقامة عَلَى السفر، وَلَمْ يسافر إلا لفرض كحجة الإِسْلام والغالب عَلَيْهِم الإقامة مثل الجنيد , وسهل بْن عَبْد اللَّهِ , وأبي يَزِيد البسطامي , وأبي حفص , وغيرهم، وَمِنْهُم من آثر السفر وكانوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَن خرجوا من الدنيا مثل أَبِي عَبْد اللَّهِ المغربي، وإبراهيم بْن أدهم وغيرهم، وكثير مِنْهُم سافروا فِي ابتداء أمورهم فِي حال ابتداء شبابهم أسفارا كثيرة، ثُمَّ قعدوا عَنِ السفر فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 آخر أحوالهم مثل أَبِي عُثْمَان الحيرى والشبلي وغيرهم، ولكل مِنْهُم أصول بنوا عَلَيْهَا طريقتهم. واعلم أَن السفر عَلَى قسمين: سفر بالبدن وَهُوَ الانتقال من بقعة إِلَى بقعه، وسفر بالقلب وَهُوَ الارتقاء من صفة إِلَى صفة، فترى ألفا يسافر بنفسه وقليل من يسافر بقلبه. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: كَانَ بفرخك قرية بظاهر نيسابور شيخ من شيوخ هذه الطائفة وَلَهُ عَلَى هَذَا اللسان تصانيف سَأَلَهُ بَعْض النَّاس هل سافرت أيها الشيخ فَقَالَ: سفر الأَرْض أم سفر السماء؟ سفر الأَرْض لا، وسفر السماء بلى، وسمعته رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: جاءني بَعْض الفقراء يوما وأنا بمرو فَقَالَ لي: قطعت إليك شقة بعيدة، والمقصود لقاؤك، فَقُلْتُ لَهُ: كَانَ يكفيك خطوة واحدة لو سافرت عَن نفسك وحكاياتهم فِي السفر تختلف عَلَى مَا ذَكَرْنَا من أقسامهم فِي أحوالهم. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمى يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِيّ العلوي يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت أحنف الهمداني يَقُول: كنت فِي البادية وحدي فأعييت فرفعت يدي وقلت: يا رب ضعيف زمن وَقَدْ جئت إِلَى ضيافتك فوقع فِي قلبي أَن يقال لي: من دعاك؟ فَقُلْتُ: يا رب هِيَ مملكة تحتمل الطفيلي، فَإِذَا أنا بهاتف من ورائي فالتفت فَإِذَا أعرابي عَلَى راحلة فَقَالَ: يا أعجمي إِلَى أين قُلْت: إِلَى مَكَّة حرسها اللَّه تَعَالَى. قَالَ: أودعاك قُلْت: لا أدرى، فَقَالَ: أليس قَالَ: من استطاع إِلَيْهِ سبيلا، فَقُلْتُ: المملكة واسعة تحتمل الطفيلي , فَقَالَ: أطفيلي أَنْتَ؟ يمكنك أَن تخدم الجمل؟ قُلْت: نعم , فنزل عَن راحلته وأعطانيها وَقَالَ: سر عَلَيْهَا. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد النجار يَقُول: سمعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 الكتاني وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْض الفقراء أوصني قَالَ اجتهد أَن تكون كُل ليلة ضيف مَسْجِد، وأن لا تموت إلا بَيْنَ منزلين. ويحكى عَنِ الحصري أَنَّهُ كَانَ يَقُول: جلسة خير من ألف حجة، وإنما أراد جلسة تجمع الهم عَلَى نعت الشهود ولعمري أَنَّهَا أتم من ألف حجة عَلَى وصف الغيبة عَنْهُ. سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد الصوفي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي التميمي يَقُول حكى عَن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الفراغاني أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نسافر مقدار عشرين سنة وأنا وأبو بَكْر الزقاق والكتاني لا نختلط بأحد ولا نعاشر أحد فَإِذَا قدمنا بلدا فَإِن كَانَ فِيهِ شيخ سلمنا عَلَيْهِ وجالسناه إِلَى الليل ثُمَّ نرجع إِلَى مَسْجِد فيصلى الكتاني فِي أول الليل إِلَى آخره ويختم الْقُرْآن ويجلس الزقاق مستقبل القبلة، وكنت أستلقي متفكرا ثُمَّ نصبح ونصلي صلاة الفجر عَلَى وضوء العتمة، فَإِذَا وقع معنا إِنْسَان ينام كُنَّا نراه أفضلنا. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت عيسى القصار يَقُول: سئل رويم عَن أدب السفر فَقَالَ: أَن لا يجاوز همه قدمه، وحيثما وقف قلبه يَكُون منزله، وحكى عَن مَالِك بْن دِينَار أَنَّهُ قَالَ: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام اتخذ نعلين من حديد وعصا من حديد ثُمَّ سح فِي الأَرْض واطلب الآثار والعبر حَتَّى تنخرق النعلان وتنكسر العصا، وقيل: كَانَ أَبُو عَبْد اللَّهِ المغربي يسافر أبدا ومعه أَصْحَابه وَكَانَ يَكُون محرما , فَإِذَا تحلل من إحرامه ثانيا , وَلَمْ ينسج لَهُ ثوب , ولا طال لَهُ ظفر ولا شعر , وَكَانَ يمشي مَعَهُ أَصْحَابه بالليل وراءه فكان إِذَا حاد أحدهم عَنِ الطريق يَقُول يمينك يا فُلان يسارك يا فُلان وَكَانَ لا يمد يده إِلَى مَا وصلت إِلَيْهِ يد الآدميين وَكَانَ طعامه أصل شَيْء من النبات يؤخذ فيقطع لأجله. وقيل: كُل صاحب تقول لَهُ قم فَيَقُول: إِلَى أين، فليس بصاحب وَفِي معناه أنشدوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 إِذَا استنجدوا لَمْ يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم لأي مكان وحكى عَن أَبِي عَلِيّ الرباطي قَالَ: صحبت عَبْد اللَّهِ المروزي وَكَانَ يدخل البادية قبل أَن أصحبه بلا زاد ولا راحلة فلما صحبته قَالَ لي: أيما أحب إليك تكون أَنْتَ الأمير أم أنا؟ فَقُلْتُ: لا بَل أَنْتَ فَقَالَ: وعليك الطاعة فَقُلْتُ: نعم فأخذ مخلاة ووضع فِيهَا زادا وحملها عَلَى ظهره فَإِذَا قُلْت: أعطني حَتَّى أحملها قَالَ الأمير: أنا وعليك الطاعة. قَالَ: فأخذنا المطر ليلة فوقف إِلَى الصباح عَلَى رأسي وعليه كساء يمنع عنى المطر , فكنت أقول فِي نفسي يا ليتني مت وَلَمْ أقل لَهُ أَنْتَ الأمير ثُمَّ قَالَ لي إِذَا صحبت إِنْسَانا فاصحبه كَمَا رأيتني صحبتك. وقدم شاب عَلَى أَبِي الروذباري فلما أراد الخروج قَالَ: يَقُول الشيخ شَيْئًا فَقَالَ: يا فتى كَانُوا لا يجتمعون عَن موعد ولا يتفرقون عَن مشورة. وعن المزين الكبير قَالَ: كنت يوما مَعَ إِبْرَاهِيم الخواص فِي بَعْض أسفاره فَإِذَا عقرب تسعى عَلَى فخذه فقمت لأقتلها فمنعني وَقَالَ دعها كُل شَيْء مفتقر إلينا ولسنا مفتقرين إِلَى شَيْء غَيْر اللَّه. وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ النصيبيني: سافرت ثلاثين سنة مَا خطت قط خرقة عَلَى مرقعتي ولا عدلت إِلَى موضع علمت أَن لي فِيهِ رفيقا ولا تركت أحدا يحمل معي شَيْئًا. واعلموا أَن الْقَوْم استوفوا آداب الحضور من المجاهدات ثُمَّ أرادوا أَن يضيفوا إِلَيْهَا شَيْئًا فأضافوا أحكام السفر إِلَى ذَلِكَ رياضة لنفوسهم حَتَّى أخرجوها عَنِ المعلومات وحملوها عَلَى مفارقة المعارف كي يعيشوا مَعَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بلا علاقة ولا واسطة فلم يتركوا شَيْئًا من أورادهم فِي أسفارهم وَقَالُوا الرخص لمن كَانَ سفره ضرورة ونحن لا شغل لنا ولا ضرورة فِي أسفارنا عَلَيْنَا. سمعت أبا صادق بْن حبيب قَالَ: سمعت النصرأباذي يَقُول: ضعفت فِي البادية مرة فأيست من نفسي فوقع بصري عَلَى القمر وَكَانَ ذَلِكَ بالنهار فرأيت مكتوبا عَلَيْهِ {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 137] فاستقللت وفتح عَلِي من ذَلِكَ الوقت هَذَا الْحَدِيث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 وَقَالَ أَبُو يعقوب السوسي: يحتاج المسافر إِلَى أربعة أشياء فِي سفره: علم يسوسه، وورع يحجزه، ووجد يحمله، وخلق يصونه وقيل: سمي السفر سفرا لأنه يسفر عَن أخلاق الرجال. وَكَانَ الكتاني إِذَا سافر الفقير إِلَى اليمن ثُمَّ رجع إِلَيْهِ مرة أُخْرَى يأمر بهجرانه وإنما كَانَ يفعل ذَلِكَ، لأنهم كَانُوا يسافرون إِلَى اليمن ذَلِكَ الوقت لأجل الرفق. وقيل: كَانَ إِبْرَاهِيم الخواص لا يحمل شَيْئًا فِي السفر وَكَانَ لا يفارقه الإبرة والركوة أما الإبرة فلخياطة ثوبه إِن تمزق سترا للعورة وَأَمَّا الركوة فللطهارة وَكَانَ لا يرى ذَلِكَ علاقة ولا معلوما. وحكي عَن أَبِي عَبْد اللَّهِ الرازي قَالَ: خرجت من طرسوس حافيا وَكَانَ معي رفيق فدخلنا بَعْض قرى الشام فجاءني فَقِير بحذاء فامتنعت من قبوله فَقَالَ: لي رفيق البس هَذَا فَقَدْ عييت فَإِنَّهُ قَدْ فتح عليك بِهَذَا النعل بسببي فَقُلْتُ: مَالِك فَقَالَ: نزعت نعلي موافقة لَك ورعاية لحق الصحبة. وقيل: كَانَ الخواص فِي سفر ومعه ثلاثة نفر فبلغوا مسجدا فِي بَعْض المفاوز وبأنوا فِيهِ وَلَمْ يكن عَلَيْهِ بَاب وَكَانَ برد شديد فناموا فلما أصبحوا رأوه واقفا عَلَى الباب فَقَالُوا لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: خشيت أَن تجدوا البرد وَكَانَ قَدْ وقف طول ليلته. وقيل: إِن الكتاني استأذن أمه فِي الحج مرة فأذنت لَهُ فخرج فأصاب ثوبه البول فِي البادية فَقَالَ: إِن هَذَا لخلل فِي حالي، فانصرف، فلما دق بَاب داره أجابته أمه ففتحت فرآها جالسة خلف الباب فسألها عَن جلوسها فَقَالَتْ لَهُ مذ خرجت اعتقدت أَن لا أبرح عَن هَذَا الموضع حَتَّى أراك. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الدمشقي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن المولد يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم القصار يَقُول سافرت ثلاثين سنة أصلح قلوب النَّاس للفقراء. وقيل: زار رجل دَاوُد الطائي فَقَالَ لَهُ: يا أبا سُلَيْمَان كانت نفسي تنازعني إِلَى لقائك منذ زمان فَقَالَ: لا بأس إِذَا كانت الأبدان هادئة والقلوب ساكنة فالتلاقي أيسر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 سمعت أبا نصر الصوفي وَكَانَ من أَصْحَاب النصرأباذي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: خرجت من البحر بعمان وَقَدْ أثر فِي الجوع فكنت أمر فِي السوق فبلغت حانوت حلاوى فرأيت فِيهِ حملانا مشوية وحلواء فتعلقت برجل وقلت اشتر لي من هذه الأشياء فَقَالَ: لماذا ألك عَلِي شَيْء أَوْ عندي دين فَقُلْتُ: لابد أَن تشتري لي من هَذَا فرآني رجل فَقَالَ: خله يا فتى إِن الَّذِي يجب عَلَيْهِ أَن يشترى لَك مَا تريد أنا لا هُوَ اقترح عَلِي واحكم بِمَا تريد ثُمَّ اشترى لي مَا أردت ومر. وحكى عَن أَبِي الْحُسَيْن الْمِصْرِي قَالَ: اتفقت مَعَ الشجري فِي السفر من طرابلس فسرنا أياما لَمْ نأكل شَيْئًا فرأيت قرعا مطبوخا فأخذت آكله فالتفت إِلَى الشيخ وَلَمْ يقل شَيْئًا فرميت بِهِ وعلمت أَنَّهُ كرهه ثُمَّ فتح عَلَيْنَا بخمسة دنانير فدخلنا قرية فَقُلْتُ: يشترى لنا شَيْئًا لا محالة فمر وَلَمْ يفعل ثُمَّ قَالَ لعلك تقول نمشي جياعا وَلَمْ تشتر لنا شَيْئًا هُوَ ذا، فوافى الْيَهُودِيَّة قرية عَلَى الطريق وثم رجل صاحب عيال إِذَا دخلناها يشتغل بنا فادفعها إِلَيْهِ لينفقها عَلَيْنَا وعلى عياله فوصلنا إِلَيْهِ ودفع الدنانير إِلَى الرجل فأنفقها فلما خرجنا قَالَ لي: إِلَى أين يا أبا الْحُسَيْن؟ فَقُلْتُ: أسير معك فَقَالَ: لا إنك تخونني فِي قرعة وتصحبني لا تفعل وأبي أَن أصحبه سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الشيرازي يَقُول: سمعت أبا أَحْمَد الصغير يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن خفيف يَقُول: كنت فِي حال حداثني استقبلني بَعْض الفقراء فرأى فِي أثر الضر والجوع فأدخلني داره وقدم إِلَى لحما طبخ بالكشك واللحم متغير فكنت آكل الثريد وأتجنب اللحم لتغيره فلقمني لقمة فأكلتها بجهد ثُمَّ لقمني ثانية فبلغتني مشقة فرأى ذَلِكَ فِي وخجل وخجلت لأجله فخرجت وانزعجت فِي الحال للسفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 فأرسلت إِلَى والدتي من يحمل إلي مرقعتي فلم تعارضني الوالدة ورضيت بخروجي فارتحلت من القادسية مَعَ جَمَاعَة من الفقراء فتهنا ونفد مَا كَانَ معنا وأشرفنا عَلَى التلف فوصلنا إِلَى حي من أحياء العرب وَلَمْ نجد شَيْئًا واضطررنا إِلَى أَن اشترينا مِنْهُم كلبا بدنانير وشووه وأعطوني قطعة من لحمه فلما أردت أكله فكرت فِي حالي فوقع لي أَنَّهُ عقوبة خجل ذَلِكَ الفقير فتبت فِي نفسي وسكت فدلونا عَلَى الطريق فمضيت وحججت ثُمَّ رجعت معتذرا إِلَى الفقير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 بَاب الصحبة قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] قَالَ الأستاذ الإِمَام أَبُو القاسم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لما أثبت سبحانه للصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصحبة بَيْنَ أَنَّهُ أظهر عَلَيْهِ الشفقة فَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فالحر شفيق عَلَى من يصحبه. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِيَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَى أَلْقَى أَحْبَابِي؟ فَقَالَ أَصْحَابُهُ: بِأَبِينَا أَنْتَ وَأُمِّنَا أَوَلَسْنَا أَحْبَابَكَ؟ فَقَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، أَحْبَابِي قَوْمٌ لَمْ يَرُونِي وَآمَنُوا بِي وَأَنَا إِلَيْهِمْ بِالأَشْوَاقِ لأَكْثَرَ. والصحبة عَلَى ثلاثة أقسام: صحبة مَعَ من فوقك وَهِيَ فِي الحقيقة خدمة وصحبة مَعَ من دونك وَهِيَ تقضي عَلَى المتبوع بالشفقة والرحمة وعلى التابع بالوفاق والحرمة وصحبة الأكفاء والنظراء وَهِيَ مبنية عَلَى الإيثار والفتوة فمن صحب شيخا فوقه فِي الرتبة فأدبه ترك الاعتراض وحمل مَا يبدو منه عَلَى وجه جميل وتلقى أحواله بالإيمان بِهِ سمعت مَنْصُور بْن خلف المغربي وسأله بَعْض أَصْحَابنا كم سنة صحبت أبا عُثْمَان المغربي فنظر إِلَيْهِ شزرا وَقَالَ: إني لَمْ أصحبه بَل خدمته مدة وَأَمَّا إِذَا صحبك من هُوَ دونك فالخيانة منك فِي حق صحبته أَن لا تنبهه عَلَى مَا فِيهِ من نقصان فِي حالته. كتب أَبُو الخير التبناتي إِلَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير: وزر جهل الفقراء عليكم لأنكم اشتغلتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 بنفوسكم عَن تأديبهم فبقوا جهلة. وَأَمَّا إِذَا صحبت من هُوَ فِي درجتك فسبيلك التعامي عَن عيوبه وحمل مَا ترى منه عَلَى وجه من التأويل جميل مَا أمكنك فَإِن لَمْ تجد تأويلا عدت إِلَى نفسك بالتهمة وإلى التزام اللائمة. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: قَالَ أَحْمَد بْن أَبِي الحواري قُلْت: لأبي سُلَيْمَان الداراني: إِن فلانا لا يقع من قلبي، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: وليس يقع أَيْضًا من قلبي ولكن يا أَحْمَد لعلنا أتينا من قبلنا لسنا من جملة الصالحين فلسنا نحبهم وقيل: صحب رجل إِبْرَاهِيم بْن أدهم فلما أراد أَن يفارقه قَالَ لَهُ الرجل: إِن رأيت فِي عيبا فنبهني عَلَيْهِ فَقَالَ إِبْرَاهِيم: إني لَمْ أر بك عيبا لأني لاحظتك بعين الوداد فاستحسنت منك مَا رأيت فسل غيري عَن عيبك، وَفِي معناه أنشدوا: وعين الرضا عَن كُل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا وحكى عَن إِبْرَاهِيم بْن شيبان أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا لا نصحب من يَقُول نعلي. سمعت أبا حاتم الصوفي يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: قَالَ أَبُو أَحْمَد القلانسي وَكَانَ من أستاذي الجنيد صحبت أقواما بالبصرة فأكرموني فَقُلْتُ مرة لبعضهم: أين إزاري فسقطت من أعينهم. وسمعت أبا حاتم يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت الدقي يَقُول: سمعتا لزقاق يَقُول منذ أربعين سنة أصحب هَؤُلاءِ فَمَا رأيت رفقا لأَصْحَابنا إلا من بَعْضهم لبعض أَوْ مِمَّن يحبهم ومن لَمْ يصحبه التقوى والورع فِي هَذَا الأمر أكل الحرام النص. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: قَالَ رجل لسهل بْن عَبْد اللَّهِ: أريد أَن أصحبك يا أبا مُحَمَّد فَقَالَ: إِذَا مَات أحدنا فمن يصحبه الباقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 فَقَالَ: اللَّه تَعَالَى فَقَالَ: فليصحبه الآن. وصحب رجل رجلا مدة ثُمَّ بدا لأحدهما المفارقة فاستأذن صاحبه فَقَالَ: بشرط أَن لا تصحب أحدا إلا إِذَا كَانَ فوقنا وإن كَانَ أَيْضًا فوقنا فلا تصحبه لأنك صحبتنا أولا فَقَالَ الرجل: زال من قلبي إرادة المفارقة. سمعت أبا حاتم الصوفي يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت الدقي يَقُول: سمعت الكتاني يَقُول صحبني رجل وَكَانَ عَلَى قلبي ثقيلا فوهبت لَهُ شَيْئًا ليزول مَا فِي قلبي فلم يزل فحملته إِلَى بَيْتِي وقلت لَهُ: ضع رجلك الآن عَلَى خدي فأبي فَقُلْتُ: لابد ففعل واعتقدت أَن لا يرفع رجله من خدي حَتَّى يرفع اللَّه تَعَالَى من قلبي مَا كنت أجده فلما زال عَن قلبي مَا كنت أجده قُلْت لَهُ: ارفع رجلك الآن وَكَانَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم يعمل فِي الحصاد وحفظ البساتين وغيره ويتفق عَلَى أَصْحَابه وقيل: كَانَ مَعَ جَمَاعَة من أَصْحَابه فكان يعمل بالنهار وينفق عَلَيْهِم ويجتمعون بالليل فِي موضع وَهُوَ صيام فكان يبطئ فِي الرجوع من العمل فَقَالُوا ليلة تعالوا نأكل فطورنا دونه حَتَّى يعود بَعْد هَذَا أسرع فأفطروا وناموا فلما رجع إِبْرَاهِيم وجدهم نياما فَقَالَ: مساكين لعلهم لَمْ يكن لَهُمْ طَعَام فعمد إِلَى شَيْء من الدقيق كَانَ هناك فعجنه وأوقد عَلَى النار ووضع الملة فانتبهوا وَهُوَ ينفخ فِي النار واضعا محاسنه عَلَى التراب فَقَالُوا لَهُ: فِي ذَلِكَ فَقَالَ: قُلْت: لعلكم لَمْ تجدوا فطورا فنمتم فأحببت أَن تستيقظوا والملة قَدْ أدركت فَقَالَ بَعْضهم لبعض: انظروا إيش الَّذِي عملنا وَمَا الَّذِي بِهِ يعاملنا وقبل كَانَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم إِذَا صحبه أحد شارطه عَلَى ثلاثة أشياء أَن تكون الخدمة والأذان لَهُ وأن تكون يده فِي جَمِيع مَا يفتح اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِم من الدنيا كيدهم فَقَالَ لَهُ يوما رجل من أَصْحَابه: أنا لا أقدر عَلَى هَذَا فَقَالَ: أعجبني صدقك وَقَالَ يُوسُف بْن الْحُسَيْن: قُلْت لذي النون: مَعَ من أصحب؟ فَقَالَ: مَعَ من لا تكتمه شَيْئًا يعلمه اللَّه تَعَالَى منك - وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ لرجل: إِن كنت مِمَّن يخاف السباع فلا تصبحني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحَسَن العلوي يَقُول: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حمدان قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو القاسم بْن منبه قَالَ: سمعت بشر بْن الحرث يَقُول: صحبة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار. وحكى الجنيد قَالَ لما دَخَلَ أَبُو حفص بغداد كَانَ مَعَهُ إِنْسَان أصلع لا يتكلم بشيء فسألت أَصْحَاب أَبِي حفص عَن حاله فَقَالُوا هَذَا رجل أنفق عَلَيْهِ مائة ألف درهم واستدان مائة ألف درهم أنفقها عَلَيْهِ ولا يرخص أَبُو حفص لَهُ أَن يتكلم بحرف وَقَالَ ذو النون لا تصحب مَعَ اللَّه تَعَالَى إلا بالموافقة ولا مَعَ الخلق إلا بالمناصحة ولا مَعَ النفس إلا بالمخالفة ولا مَعَ الشَّيْطَان إلا بالعداوة. وَقَالَ رجل لذي النون: مَعَ من أصحب؟ فَقَالَ: مَعَ من إِذَا مرضت عادك وإذا أذنبت تاب عليك. سمعت الأستاذ أبا عَلِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: الشجر إِذَا نبت بنفسه وَلَمْ يستنبته أحد يورق ولكنه لا يثمر كذاك المريد إِذَا لَمْ يكن لَهُ أستاذ يتخرج بِهِ لا يجئ منه شَيْء، وَكَانَ الأستاذ أَبُو عَلِي يَقُول: أخذت هَذَا الطريق عَنِ النصرأباذي والنصراباذي , عَنِ الشبلي والشبلي , عَنِ الجنيد والجنيد , عَنِ السري والسري , عَن معروف الكرخي , ومعروف الكرخي , عَن دَاوُد الطائي , وَدَاوُد الطائي لقى التابعين. وسمعته رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: لَمْ أختلف إِلَى مجلس النصرأباذي قط إلا اغتسلت قبله قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم القشيري: وَلَمْ أدخل أنا عَلَى أستاذ أَبِي عَلِي فِي وقت بدايتي إلا صائما وكنت أغتسل قبله وكنت أحضر بَاب مدرسته غَيْر مرة فأرجع من الباب احتشاما منه أَن أدخل عَلَيْهِ فَإِذَا تجاسرت مرة ودخلت المدرسة كنت إِذَا بلغت وسط المدرسة يصحبني شبه خدر حَتَّى لو غرز فِي إبرة مثلا لعلي كنت لا أحس بِهَا , ثُمَّ إِذَا قعدت لواقعة وقعت لي لَمْ أحتج أَن أسأله بلساني عَنِ المسألة , فكما كنت أجلس كَانَ يبتدئ بشرح واقعتي وغير مرة رأيت منه هَذَا عيانا وكنت أفكر فِي نفسي كثيرا أَنَّهُ لو بعث اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي وقتي رسولا إِلَى الخلق هل يمكنني أَن أزيد من حشمته عَلَى قلبي فَوْقَ مَا كَانَ منه رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فكان لا يتصور لي أَن ذَلِكَ ممكن ولا أذكر أني فِي طول اخْتِلاف إِلَى مجلسه ثُمَّ كوني مَعَهُ بَعْد حصول الوصلة أَن جرى فِي قلبي أَوْ خطر ببالي عَلَيْهِ قط اعتراض إِلَى أَن خرج رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى من الدنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيّ الْجُرْجَانِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ , قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد العبدي , قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عوانة , قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُس , قَالَ: حَدَّثَنَا خلف بْن تميم أَبُو الأحوص عَن مُحَمَّد بْن النضر الحارثي قَالَ: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام كن يقظانا مرتادا لنفسك أخدانا وكل خدن لا يؤاتيك عَلَى مسرة فأقصه ولا تصحبه , فَإِنَّهُ يقسي قلبك وَهُوَ لَك عدو وأكثر من ذكري تستوجب عَلَى شكري والمزيد من فضلي. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن المعلم , يَقُول: سمعت أبا بَكْر الطمستاني , يَقُول: اصحبوا مَعَ اللَّه تَعَالَى فَإِن لَمْ تطيقوا فاصبحوا مَعَ من يصحب مَعَ اللَّه تَعَالَى لتوصلكم بركات صحبتهم إِلَى صحبة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 بَاب التوحيد قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ فَوْرَكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ خَرْزَاذَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَسِيحُ بْنُ حَاتِمٍ الْعُكْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُجْبِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَاتِمٍ الْعَتَكِيِّ , عَنِ ابْنِ أَبِي صَدَقَةَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِلا التَّوْحِيدَ فَقَالَ لأَهْلِهِ: إِذَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْتَحِقُونِي ثُمَّ ذَرُوا نِصْفِي فِي الْبَرِّ وَنِصْفِي فِي الْبَحْرِ فِي يَوْمِ رِيحٍ فَفَعَلُوا فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلرِّيحِ: أَدِّي مَا أَخَذْتِ فَإِذَا هُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ فَقَالَ: اسْتِحْيَاءً مِنْكَ فَغَفَرَ لَهُ. قَالَ الأستاذ: التوحيد هُوَ الحكم بأن اللَّه واحد والعلم بأن الشيء واحد أَيْضًا توحيد يقال وحدته إِذَا وصفته بالوحدانية كَمَا يقال: شجعت فلانا إِذَا نسبته إِلَى الشجاعة ويقال فِي اللغة: وحد يحد فَهُوَ واحد ووحد ووحيد كَمَا يقال: فرد فَهُوَ فارد وفرد وفريد وأصل أحد وحد فقلبت الواو همزة والواو المفتوحة قَدْ تقلب همزة كَمَا تقلب المك { [والمضمومة ومنه امْرَأَة أسماء بمعنى وسماء من الوسامة ومعنى كونه سبحانه واحدا عَلَى لسان العلم قيل: هُوَ الَّذِي لا يصح فِي وصفه الوضع والرفع بخلاف قولك إِنْسَانا واحدا لأنك تقول إِنْسَان بلا يد ولا رجل فيصح رفع شَيْء منه والحق سبحانه أحدي الذات بخلاف اسم الجملة الحاملة وَقَالَ بَعْض أهل التحقيق: معنى أَنَّهُ واحد نفي القسيم لذاته ونفي التشبيه عَن حقه وصفاته ونفى الشريك مَعَهُ فِي أفعاله ومصنوعاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 والتوحيد ثلاثة: توحيد الحق للحق وَهُوَ علمه بأنه واحد وخبره عَنْهُ بأنه واحد وَالثَّانِي: توحيد الحق سبحانه للخلق وَهُوَ حكمه سبحانه بأن العبد موحد وخلقه توحيد العبد والثالث: توحيد الخلق للحق سبحانه وَهُوَ علم العبد بأن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ واحد وحكمه وإخباره عَنْهُ بأنه واحد فَهَذِهِ جملة فِي معنى التوحيد عَلَى شرط الإيجاز والتحديد واختلفت عبارات الشيوخ عَن معنى التوحيد سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت يُوسُف بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت ذا النون الْمِصْرِي يَقُول: وَقَدْ سئل عَنِ التوحيد فَقَالَ: أَن تعلم أَن قدرة اللَّه تَعَالَى فِي الأشياء بلا مزاج وصنعه للأشياء بلا علاج وعلة كُل شَيْء صنعه ولا علة لصنعه ومهما تصور فِي نفسك شَيْء فالله عَزَّ وَجَلَّ بخلافه وسمعته يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَطَاء يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن صَالِح يَقُول: قَالَ الجريري: لَيْسَ لعلم التوحيد إلا لسان التوحيد. وسئل الجنيد عَنِ التوحيد فَقَالَ: إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته أَنَّهُ الْوَاحِد الَّذِي لَمْ يلد وَلَمْ يولد بنفي لأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى: 11] وَقَالَ الجنيد: إِذَا تناهت عقول العقلاء فِي التوحيد تناهت إِلَى الحيرة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن بْن مقسم يَقُول: سمعت جَعْفَر بْن مُحَمَّد يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول ذَلِكَ، وسئل الجنيد عَنِ التوحيد فَقَالَ: معنى تضمحل فِيهِ الرسوم وتندرج فِيهِ العلوم ويكون اللَّه تَعَالَى كَمَا لَمْ يزل. وَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 الحصري أصولنا فِي التوحيد خمسة أشياء: رفع الحدث وإفراد القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان، ونسيان مَا علم وجهل. سمعت مَنْصُور بْن خلف المغربي يَقُول: كنت فِي صحن الجامع بِبَغْدَادَ يَعْنِي: جامع الْمَنْصُور والحصري يتكلم فِي التوحيد فرأيت ملكين يعرجان إِلَى السماء فَقَالَ أحدهما لصاحبه: الَّذِي يَقُول هَذَا الرجل علم التوحيد والتوحيد غيره يَعْنِي: كنت بَيْنَ اليقظة والنوم وَقَالَ فارس: التوحيد هُوَ إسقاط الوسائط عِنْدَ غلبة الحال والرجوع إِلَيْهَا عِنْدَ الأَحْكَام وأن الحسنات لا تغير الأقسام من الشقاوة والسعادة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا بَكْر بْن شاذان يَقُول: سمعت الشبلي يَقُول: التوحيد صفة الموحد حقيقة وحلية الموحد رسما. وسئل الجنيد عَن توحيد الخاص فَقَالَ: أَن يَكُون العبد شبحا بَيْنَ يدي اللَّه سبحانه تجري عَلَيْهِ تصاريف تدبيره فِي مجاري أحكام قدرته فِي لجج بحار توحيده بالفناء عَن نَفْسه وعن دعوة الخلق لَهُ وعن استجابته بحقائق وجوده ووحدانيته فِي حقيقة قربه بذهاب حسه وحركته لقيام الحق سبحانه لَهُ فيما أراد منه وَهُوَ أَن يرجع آخر العبد إِلَى أوله فيكون كَمَا كَانَ قبل أَن يَكُون وسئل البوشنجي عَنِ التوحيد فَقَالَ: غَيْر مشبه الذات ولا منفي الصفات. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن العنبري يَقُول: سمعت سهل بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول وَقَدْ سئل عَن ذَات اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: ذَات اللَّه تَعَالَى موصوفة بالعلم غَيْر مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار فِي دار الدنيا وَهِيَ موجودة بحقائق الإيمان من غَيْر حد ولا إحاطة ولا حلول وتراه العيون فِي العقبى ظاهرا فِي ملكه وقدرته قَدْ حجب الخلق عَن معرفة كنه ذاته ودلهم عَلَيْهِ بآياته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 فالقلوب تعرفه والعقول لا تدركه ينظر إِلَيْهِ المؤمنون بالأبصار من غَيْر إحاطة ولا إدراك نهاية، وَقَالَ الجنيد: أشرف كلمة فِي التوحيد مَا قاله أَبُو بَكْر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سبحان من لَمْ يجعل لخلقه سبيلا إِلَى معرفته إلا بالعجز عَن معرفته. قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم: لَيْسَ يريد الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لا يعرف، لأن عِنْدَ المحققين العجز عجز عَنِ الموجود دُونَ المعدوم كالمقعد عاجز عَن قعوده إذ لَيْسَ بكسب لَهُ لا فعل والقعود موجود فِيهِ كَذَلِكَ العارف عاجز عَن معرفته والمعرفة موجودة فِيهِ لأنها ضرورية وعند هذه الطائفة المعرفة بِهِ سبحانه فِي الانتهاء ضرورة فالمعرفة الكسبية فِي الابتداء وإن كانت معرفة عَلَى التحقيق فلم يعدها الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَيْئًا بالإضافة إِلَى المعرفة الضرورية كالسراج عِنْدَ طلوع الشَّمْس وانبساط شعاعها عَلَيْهِ. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن سَعِيد البصرى بالكوفة يَقُول: سمعت ابْن الأعرابي يَقُول: قَالَ الجنيد: التوحيد الَّذِي انفرد بِهِ الصوفية هُوَ إفراد القدم عَنِ الحدث والخروج عَنِ الأوطان وقطع المحاب وترك مَا علم وجهل وأن يَكُون الحق سبحانه مكان الجميع. وَقَالَ يُوسُف بْن الْحُسَيْن: من وقع فِي بحار التوحيد لا يزداد عَلَى ممر الأوقات إلا عطشا وَقَالَ الجنيد: علم التوحيد مباين لوجوده ووجوده مفارق لعمله. وَقَالَ الجنيد أَيْضًا: علم التوحيد طوي بساطه منذ عشرين سنة والناس يتكلمون فِي حواشيه. سمعت بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد الأَصْبَهَانِي يَقُول: وقف رجل عَلَى الْحُسَيْن بْن مَنْصُور فَقَالَ: من الحق الَّذِي يشيرون إِلَيْهِ فَقَالَ: معل الأنام ولا يعتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وسمعته يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت الشبلي يَقُول: من اطلع عَلَى ذرة من علم التوحيد ضعف عَن حمل بقة لثقل مَا حمله. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سئل الشبلي فقيل لَهُ: أَخْبَرَنَا عَن توحيد مجرد وبلسان حق مفرد فَقَالَ: ويحك من أجاب عَنِ التوحيد بالعبارة فَهُوَ ملحد ومن أشار إِلَيْهِ فَهُوَ ثنوي ومن أومأ إِلَيْهِ فَهُوَ عابد وثن ومن نطق فِيهِ فَهُوَ غافل ومن سكت عَنْهُ فَهُوَ جاهل ومن توهم أَنَّهُ واصل فليس لَهُ حاصل ومن رأى أَنَّهُ قريب فَهُوَ بعيد ومن تواجد فَهُوَ فاقد وكل مَا ميز تموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم فِي أتم معانيكم فَهُوَ مصروف مردود إليكم محدث مصنوع مثلكم وَقَالَ يُوسُف بْن الْحُسَيْن: توحيد الخاصة أَن يَكُون بسره ووجده وقلبه كَأَنَّهُ قائم بَيْنَ يدي اللَّه تَعَالَى يجري عَلَيْهِ تصاريف تدبيره وأحكام قدرته فِي بحار توحيده بالفناء عَن نَفْسه وذهب حسه لقيام الحق سبحانه لَهُ فِي مراده منه فيكون كَمَا هُوَ قبل أَن يَكُون فِي جريان حكمه سبحانه عَلَيْهِ وقيل: التوحيد للحق سبحانه والخلق طفيلي، وقيل: التوحيد إسقاط الياءات لا تقول لي وبي ومني وإلي وقيل لأبي بَكْر الطمستاني: مَا التوحيد فَقَالَ: توحيد , وموحد , وموحد , هذه ثلاثة قَالَ رويم: التوحيد محو آثار البشرية وتجرد الألوهية. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول فِي آخر عمره وَكَانَ قَد اشتدت بِهِ العلة فَقَالَ: من أمارات التأييد حفظ التوحيد فِي أوقات الحكم ثُمَّ قَالَ كالمفسر لقوله مشيرا إِلَى مَا كَانَ فِيهِ من حاله: هُوَ أَن يقرضك بمقاريض القدرة فِي إمضاء الأَحْكَام قطعة قطعة وأنت شاكر حامد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وَقَالَ الشبلي: مَا شم روائح التوحيد من تصور عنده التوحيد وَقَالَ أَبُو سَعِيد الخراز: أول مقام لمن وجد علم التوحيد وتحقق بِذَلِكَ فناء ذكر الأشياء عَن قلبه وانفراده بالله عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ الشبلي لرجل أتدري لَمْ لا يصح توحيدك فَقَالَ: لا قَالَ لأنك تطلبه بك وَقَالَ ابْن عَطَاء: علامة حقيقة التوحيد نسيان التوحيد وَهُوَ أَن يَكُون القائم بِهِ واحدا ويقال: من النَّاس من يَكُون فِي توحيده مكاشفا بالأفعال يرى الحادثات بالله تَعَالَى وَمِنْهُم من هُوَ مكاشف بالحقيقة فيضمحل إحساسه بِمَا سواه فَهُوَ يشاهد الجمع سرا بسر وظاهره بوصف التفرقة. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت عَلِي بْن مُحَمَّد القزويني يَقُول: سمعت القنفد يَقُول: سئل الجنيد عَنِ التوحيد فَقَالَ: سمعت قائلا يَقُول: وغنى لي من قلبي وغنيت كَمَا غنى وكنا حينما كَانُوا وكانوا حينما كُنَّا فَقَالَ السائل: أهلك الْقُرْآن والأخبار فَقَالَ: لا ولكن الموحد يأخذ أعلى التوحيد من أدنى الْخَطَّاب وأيسره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 بَاب أحوالهم عِنْدَ الخروج من الدنيا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] يَعْنِي: طيبة نفوسهم ببذلهم مهجهم لا يثقل عَلَيْهِم رجوعهم إِلَى مولاهم. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الأَصْبَهَانِيُّ , قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ الشَّيْبَانِيُّ بِالْكُوفَةِ , قَالَ: حَدَّثَنَا الْخَضْرُ بْنُ أَبَانٍ الْهَاشِمِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَدِيَّةَ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيُعَالِجَ كَرْبَ الْمَوْتِ وَسَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَإِنَّ مَفَاصِلَهُ لَيُسَلِّمُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ تَقُولُ عَلَيْكَ السَّلامُ تُفَارِقَنِي وَأُفَارِقُكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الأَصَمُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا الْخَضْرُ بْنُ أَبَانٍ الْهَاشِمِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا سَوَّارٌ , قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ , عَنْ ثَابِتٍ , عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ , فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ: أَرْجُو اللَّهَ تَعَالَى وَأَخَافُ ذُنُوبِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَيْئَانِ لا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ. قَالَ الأستاذ: واعلم أَن أحوالهم فِي حال النزع مختلفة فبعضهم الغالب عَلَيْهِ الهيبة وبعضهم الغالب عَلَيْهِ الرجاء وَمِنْهُم من كشف لَهُ فِي تلك الحالة مَا أوجب لَهُ السكون وجميل الثقة حكى أَبُو مُحَمَّد الجريري قَالَ: كنت عِنْدَ الجنيد فِي حال نزعه وَكَانَ يَوْم الجمعة ويوم نيروز وَهُوَ يقرأ الْقُرْآن فختم فَقُلْتُ: فِي هذه الحالة يا أبا القاسم فَقَالَ: ومن أولى بِذَلِكَ منى وَهُوَ ذا تطوى صحيفتي. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: بلغني عَن أَبِي مُحَمَّد الهروي أَنَّهُ قَالَ: مكثت عِنْدَ الشبلي الليلة الَّتِي مَات فِيهَا فكان يَقُول طول ليلته هذين البيتين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 كُل بَيْت أَنْتَ ساكنه ... غَيْر محتاج إِلَى السرج وجهك المأمول حجتنا ... يَوْم يَأْتِي النَّاس بالحجج وحكى عَن عَبْد اللَّهِ بْن منازل أَنَّهُ قَالَ: إِن حمدون القصار أوصى إِلَى أَصْحَابه أَن لا يتركوه فِي حال الْمَوْت بَيْنَ النسوان وقيل لبشر الحافي وَقَد احتضر كأنك يا أبا نصر تحب الحياة , فَقَالَ: القدوم عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ شديد وقيل: كَانَ سُفْيَان الثَّوْرِي إِذَا قَالَ لَهُ بَعْض أَصْحَابه إِذَا سافر تأمر بشغل يَقُول: إِن وجدت الْمَوْت فاشتره لي فلما قربت وفاته كَانَ يَقُول كُنَّا نتمناه فَإِذَا هُوَ شديد. وقيل: لما حضرت الْحَسَن بْن عَلِي بْن أَبِي طَالِب الوفاة بكى، فقيل لَهُ مَا يبكيك؟ فَقَالَ: أقدم عَلَى سيد لَمْ أره، وَأَمَّا حضرت بلالا الوفاة , قَالَت امرأته. : واحزناه، فَقَالَ: بَل واطرباه غدا نلقى الأحبة، محمدا وحزبه. وقيل: فتح عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ عينيه عِنْدَ الوفاة وضحك وَقَالَ لمثل هَذَا فليعمل العاملون، وقيل: كَانَ مكحول الشامي الغالب عَلَيْهِ الحزن فدخلوا عَلَيْهِ فِي مرض موته وَهُوَ يضحك فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَلَمْ لا أضحك وَقَدْ دنا فراق من كنت أحذره، وسرعة القدوم عَلَى من كنت أرجوه وآمله. وَقَالَ رويم: حضرت وفاة أَبِي سَعِيد الخراز وَهُوَ يَقُول فِي آخر نَفْسه: حنين قلوب العارفين إِلَى الذكر وتذكارهم وقت المناجاة للسر أديرت كؤوس للمنايا عَلَيْهِم فأغفو عَنِ الدنيا كإغفاء ذي السكر همومهم جوالة بمعسكر بِهِ أهل ود اللَّه كالأنجم الزهر فأجسامهم فِي الأَرْض قتلى بحبه وأرواحهم فِي الحجب نَحْو العلا تسرى فَمَا عرسوا إلا بقرب حبيبهم وَمَا عرجوا عَن مس بؤس ولا ضر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وقيل للجنيد إِن أبا سَعِيد الخراز كَانَ كثير التواجد عِنْدَ الْمَوْت فَقَالَ: لَمْ يكن بعجيب أَن تطير روحه اشتياقا. وَقَالَ بَعْضهم: وَقَدْ قربت وفاته: يا غلام اشدد كتافي وعفر خدي ثُمَّ قَالَ: دنا الرحيل ولا براءة لي من ذنب، ولا عذر أعتذر بِهِ، ولا قوة أنتصر بِهَا، أَنْتَ لي أَنْتَ لي ثُمَّ صاح صيحة وَمَاتَ فسمعوا صوتا استكان العبد لمولاه فقبله، وقيل لذي النون الْمِصْرِي عِنْدَ موته: مَا تشتهى؟ قَالَ: أَن أعرف قبل موتى بلحظة، وقيل: لبعضهم وَهُوَ فِي النزع قل اللَّه فَقَالَ: إِلَى مَتَى تَقُولُونَ قل: اللَّه وأنا محترق بالله تَعَالَى، وَقَالَ بَعْضهم: كنت عِنْدَ ممشاد الدينوري فقدم فَقِير وَقَالَ: سلام عليكم، فردوا عَلَيْهِ السَّلام فَقَالَ: هل هاهنا موضع نظيف يمكن الإِنْسَان أَن يموت فِيهِ. قَالَ: فأشاروا عَلَيْهِ بمكان وَكَانَ ثُمَّ عين ماء فجدد الفقير الوضوء وركع مَا شاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ومضى إِلَى المكان الَّذِي أشاروا إِلَيْهِ ومد رجليه وَمَاتَ. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول كَانَ أَبُو الْعَبَّاس الدينوري يتكلم يوما فِي مجلسه فصاحت امْرَأَة تواجدا فَقَالَ: لَهَا موتى فقامت المرأة فلما بلغت بَاب الدار التفتت إِلَيْهِ وَقَالَتْ قَدْ مت ووقعت ميتة، وَقَالَ بَعْضهم: كنت عِنْدَ ممشاد الدينوري عِنْدَ وفاته فقيل لَهُ: كَيْفَ تجد العلة فَقَالَ: سلوا العلة عنى كَيْفَ تجدني فقيل: قل: لا اللَّه إلا اللَّه فحول وجهه إِلَى الجدار وَقَالَ أفنيت كلى بكلك هَذَا جزاء من يحبك، وقيل: لأبي مُحَمَّد الديبلي وَقَدْ حضرته الوفاة قل لا اللَّه إلا اللَّه فَقَالَ: هَذَا شَيْء قَدْ عرفناه وَبِهِ نفنى، ثُمَّ أنشأ يَقُول: تسربل ثوب التيه لما هويته وصد وَلَمْ يرض بأن أك عبده وقيل للشبلي عِنْدَ وفاته: قل: لا اللَّه إلا اللَّه، فَقَالَ: قَالَ سلطان حبه أنا لا أقبل الرشا فسلوه بحقه لَمْ بقتلى تحرشا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الصوفي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ التميمي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَطَاء يَقُول: سمعت بَعْض الفقراء يَقُول: لما مَات يَحْيَي الإصطخري جلسنا حوله، فَقَالَ: لَهُ رجل منا قل: أشهد أَن لا اللَّه إلا اللَّه فجلس مستويا ثُمَّ أخذ بيد واحد منا وَقَالَ لَهُ: قل أشهد أَن لا اللَّه إلا اللَّه ثُمَّ أخذ بيد آخر حَتَّى عرض الشهادة عَلَى جَمِيع الحاضرين ثُمَّ مَات. ويحكى عَن فاطمة أخت أَبِي عَلِي الروذباري أَنَّهَا قَالَتْ: لما قرب أخي أَبِي عَلِي الروذباري وَكَانَ رأسه فِي حجري فتح عينيه وَقَالَ: هذه أبواب السماء قَدْ فتحت، وَهَذَهِ الجنان قَدْ زينت، وَهَذَا قائل يَقُول لي: يا أبا عَلِيّ قَدْ بلغناك الرتبة القصوى وإن لَمْ تردها، ثُمَّ أنشأ يَقُول: وحقك لا نظرت إِلَى سواكا بعين مودة حَتَّى أراكا أراك معذبي بفتور لحظ وبالخد المورد من جناكا ثُمَّ قَالَ: يا فاطمة الأَوَّل ظاهر وَالثَّانِي فِيهِ إشكال. سمعت بَعْض الفقراء يَقُول: لما قربت وفاة أَحْمَد بْن نصر رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ واحد: قل: أشهد أَن لا اللَّه إلا اللَّه فنظر إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: لا تترك الحرمة بالفارسية بي حرمتي مكن. وَقَالَ بَعْضهم: رأيت فقيرا يجود بنفسه غريبا والذباب عَلَى وجهه فجلست أذب الذباب عَن وجهه ففتح عينيه وَقَالَ من هَذَا؟ أنا منذ كَذَا سنة فِي طلب وقت يصفو لي فلم يتفق إلا الآن جئت أَنْتَ توقع نفسك فِيهِ مر عافاك اللَّه تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو عمران الإصطخري: رأيت أبا تراب فِي البادية قائما ميتا لا يمسكه شَيْء. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: كَانَ سبب وفاة أَبِي الْحُسَيْن النوري أَنَّهُ سمع هَذَا الْبَيْت: لا زلت أنزل من ودادك منزلا تتحير الألباب عِنْدَ نزوله. فتواجد النوري وهام فِي الصحراء فوقع فِي أجمة قصب وَقَدْ قطعت وبقى أصولها مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 السيوف فكان يمشى عَلَيْهَا ويعيد الْبَيْت إِلَى الغداة والدم يسيل من رجليه ثُمَّ وقع مثل السكران فتورمت قدماه وَمَاتَ. وحكى أَنَّهُ قيل لَهُ عِنْدَ النزع: قل: لا اللَّه إلا اللَّه فَقَالَ: أليس إِلَيْهِ أعود. وقيل: مرض إِبْرَاهِيم الخواص فِي الْمَسْجِد الجامع بالري وكانت بِهِ علة الإسهال فكان إِذَا قام مجلسا يدخل الماء ويتوضأ فدخل الماء مرة فخرجت روحه. سمعت منصورا المغربي يَقُول: دَخَلَ عَلَيْهِ ويسف بْن الْحُسَيْن عائدا لَهُ بَعْد مَا أتى عَلَيْهِ أَيَّام لَمْ يعده وَلَمْ يتعهده فلما رآه قَالَ للخواص أتشتهي شَيْئًا؟ قَالَ نعم قطعة كبد مشوي قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم: لعل الإشارة فِيهِ أَنَّهُ أراد أشتهي قلبا يرق لفقير وكبدا تشتوي وتحترق لغريب لأنه كالمستجفي ليوسف بْن الْحُسَيْن حيث لَمْ يتعهده. وقيل: كَانَ سبب موت ابْن عَطَاء أَنَّهُ أدخل عَلَى الوزير فكلمه الوزير بكلام غليظ فَقَالَ لَهُ ابْن عَطَاء: اهدأ يا رجل فأمر فضرب بخفه عَلَى رأسه فمات منه. سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الصوفي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي التميمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الدقي يَقُول: كُنَّا عِنْدَ أَبِي بَكْر الزقاق بالغداة فَقَالَ: إلهي كم تبقيني هاهنا فَمَا بلغ الغداة الأولى حَتَّى مَات. وحكى عَن أَبِي عَلِيّ الروذباري أَنَّهُ قَالَ: رأيت فِي البادية حدثا فلما رآني قَالَ: أما يكفيه أَن شغفني بحبه حَتَّى علني ثُمَّ رأيته يجود بروحه فَقُلْتُ لَهُ: قل: لا اللَّه إلا اللَّه فأنشأ يَقُول: أيا من لَيْسَ لي عَنْهُ وإن عذبني بد ويا من نال من قلبي منالا مَا لَهُ حد وقيل للجنيد: قل: لا إله إلا اللَّه , فَقَالَ: مَا نسيته فأذكره , وَقَالَ: حاضر فِي القلب يعمره لست أنساه فأذكره فَهُوَ مولاي ومعتمدي ونصيبي منه أوفره سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الصوفي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي التميمي يَقُول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 سألت جَعْفَر بْن نصير بكران الدينوري وَكَانَ يخدم الشبلي مَا الَّذِي رأيت منه؟ فَقَالَ: قَالَ لي عَلَى درهم مظلمة وَقَدْ تصدقت عَن صاحبه بألوف فَمَا عَلَى قلبي شغل أَعْظَم منه ثُمَّ قَالَ: وضئني للصلاة ففعلت فنسيت تخليل لحيته وَقَدْ أمسك عَلَى لسانه فقبض عَلَى يدي وأدخلها فِي لحيته ثُمَّ مَات فبكى جَعْفَر وَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي رجل لَمْ يفته حَتَّى فِي آخر عمره أدب من آداب الشريعة. سمعت عَبْد اللَّهِ بْن يُوسُفَ الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن بْن عَبْد اللَّهِ الطرسوسي يَقُول: سمعت علوشا الدينوري يَقُول: سمعت المزين الكبير يَقُول: كنت بمكة حرسها اللَّه تَعَالَى فوقع بي انزعاج فخرجت أريد المدية، فلما وصلت إِلَى بئر ميمونة إِذَا أنا بشاب مطروح فعدلت إِلَيْهِ وَهُوَ ينزع فَقُلْتُ لَهُ: قل: لا اللَّه إلا اللَّه ففتح عينيه وأنشأ يَقُول: أنا إِن مت فالهوى حشو قلبي وبداء الهوى تموت الكرام فشهق شهقة ثُمَّ مَات فغسلته وكفنته وصليت عَلَيْهِ فلما فرغت من دفنه سكن مَا كَانَ بي من إرادة السفر فرجعت إِلَى مَكَّة حرسها اللَّه تَعَالَى. وقيل: لبعضهم: أتحب الْمَوْت؟ فَقَالَ: القدوم عَلَى من يرجى خيره خير من البقاء مَعَ من لا يؤمن شره. وحكى عَنِ الجنيد أَنَّهُ قَالَ: كنت عِنْدَ أستاذي ابْن الكرنبي وَهُوَ يجود بنفسه فنظرت إِلَى السماء فَقَالَ: بَعْد ثُمَّ نظرت إِلَى الأَرْض فَقَالَ: بَعْد يَعْنِي: أَنَّهُ أقرب إليك من أَن تنظر إِلَى السماء أَوْ إِلَى الأَرْض بَل هُوَ وراء المكان سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر الطوسي يَقُول: سمعت بَعْض أَصْحَابنا يَقُول قَالَ أَبُو يَزِيد عِنْدَ موته: مَا ذكرتك إلا عَن غفلة ولا قبضتني إلا عَلَى فترة. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت الوجيهي يَقُول: سمعت أبا عَلِي الروذباري يَقُول: دخلت مصر فرأيت النَّاس مجتمعين فَقَالُوا كُنَّا فِي جنازة فنى سمع قائلا يَقُول: كبرت همة عَبْد طمعت فِي أَن تراكا فشهق شهقة وَمَاتَ منذ ثلاثين سنة تعرض عَلَى الْجَنَّة بِمَا فِيهَا فَمَا أعرتها طرفي , وَقَالُوا لَهُ عِنْدَ النزع: كَيْفَ تجد قلبك؟ فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 وقيل: دَخَلَ جَمَاعَة عَلَى ممشاد الدينوري فِي مرضه فَقَالُوا: مَا فعل اللَّه بك وَمَا صنع؟ فَقَالَ: منذ ثلاثين سنة تعرض عَلِي الْجَنَّة بِمَا فِيهَا فَمَا أعرتها طرفي، وَقَالُوا لَهُ عِنْدَ النزع: كَيْفَ تجد قلبك؟ فَقَالَ: منذ ثلاثين سنة فقدت قلبي. سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد الصوفي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي التميمي يَقُول: قَالَ الوجيهي: كَانَ سبب موت ابْن بنان أَنَّهُ ورد عَلَى قلبه شَيْء فهام عَلَى وجهه فلحقوه فِي وسط متاهة بَنِي إسرائيل فِي الرمل ففتح عينيه وَقَالَ ارتع فهذا مرتع الأحباب وخرجت روحه. وَقَالَ أَبُو يعقوب النهرجوري: كنت بمكة حرسها اللَّه تَعَالَى فجاءني فَقِير مَعَهُ دِينَار فَقَالَ: إِذَا كَانَ غدا فأنا أموت فأصلح لي بنصف هَذَا قبرا والنصف الثَّانِي لجهازي فَقُلْتُ فِي نفسي: دوخل الشاب فَإِنَّهُ قَدْ أصابهم فاقة الحجاز فلما كَانَ الغد جاء ودخل الطواف ثُمَّ مضى وامتد عَلَى الأَرْض فَقُلْتُ: هوذا يتماوت فذهبت إِلَيْهِ فحركته فَإِذَا هُوَ ميت فدفنته كَمَا أمر. وقيل: لما تغيرت الحال عَلَى أَبِي عُثْمَان الحيرى مزق ابنه أَبُو بَكْر قميصا ففتح أَبُو عُثْمَان عينيه وَقَالَ: يا بَنِي إِن خلاف السنة فِي الظاهر من رياء فِي الباطن. وقيل: دَخَلَ ابْن عَطَاء عَلَى الجنيد وَهُوَ يجود بنفسه فسلم فأبطأ فِي الجواب ثُمَّ رد وَقَالَ اعذرني فلقد كنت فِي وردى ثُمَّ مَات، وحكى أَبُو عَلَى الروذباري قَالَ: دم عَلَيْنَا فَقِير فمات فدفنته وكشفت عَن وجهه لأضعه فِي التراب ليرحم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ غربته ففتح عينيه وَقَالَ يا أبا عَلِيّ أتذللني بَيْنَ يدي من دللني فَقُلْتُ: يا سيدي أحياة بَعْد موت فَقَالَ لي: بلى أنا حي وكل محب لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حي لا يضرنك غدا بجاهي يا روزباري. ويحكى عَنِ ابْن سهل الأصفهاني , أَنَّهُ قَالَ: أترون أنى أموت كَمَا يموت النَّاس مرض وعيادة إِنَّمَا أدعى فيقال: يا عَلِي فأجيب فكان يمشي يوما فَقَالَ: لبيك وَمَاتَ سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن خفيف يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن المزين قَالَ: لما عرض أَبُو يعقوب النهرجوري مرض وفاته قُلْت: لَهُ وَهُوَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 النزع قل لا اللَّه إلا اللَّه فتبسم إلي وَقَالَ: إياي تعنى؟ وعزة من لا يذوق الْمَوْت مَا بيني وبينه إلا حجاب العزة وانطفأ من ساعته , فكان المزين يأخذ بلحيته وَيَقُول: حجام مثلي يلقن أولياء اللَّه تَعَالَى الشهادة واخجلتاه منه، وَكَانَ يبكى إِذَا ذكر هذه الحكاية. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن المالكي: كنت اصحب خيرا النساج سنين كثيرة فَقَالَ لي: قبل موته بثمانية أَيَّام أنا أموت يَوْم الخميس وقت المغرب وأدفن يَوْم الجمعة قبل الصلاة وستنسى هَذَا فلا تنس قَالَ أَبُو الْحُسَيْن: فأنسيته إِلَى يَوْم الجمعة فلقيني من أخبرني بموته فخرجت لأحضر جنازته فوجدت النَّاس راجعين يقولون: يدفن بَعْد الصلاة فلم أنصرف وحضرت فوجدت الجنازة قَدْ أخرجت قبل الصلاة كَمَا قَالَ فسألت من حضر وفاته فَقَالَ: إنه غشي عَلَيْهِ ثُمَّ أفاق ثُمَّ التفت إِلَى ناحية الْبَيْت وَقَالَ: قف عافاك اللَّه فإنما أَنْتَ عَبْد مأمور وأنا عَبْد مأمور الَّذِي أمرت بِهِ لا يفوتك والذي أمرت بِهِ يفوتني فدعا بماء فجدد وضوءه وصلى ثُمَّ تمدد وغمض عينيه فرؤي فِي المنام بَعْد موته فقيل لَهُ: كَيْفَ حالك؟ فَقَالَ: لا تسل لكني تخلصت عَن دنياكم الوضرة. وذكر أَبُو الْحُسَيْن الحمصي مصنف كتاب بهجة الأسرار أَنَّهُ لما مَات سهل بْن عَبْد اللَّهِ انكب النَّاس عَلَى جنازته وَكَانَ فِي البلد يهودي نيف عَلَى السبعين فسمع الضجة فخرج لينظر مَا كَانَ فلما نظر إِلَى الجنازة صاح وَقَالَ: أترون مَا أرى فَقَالُوا: لا إيش ترى؟ فَقَالَ: أرى أقواما ينزلون من السماء يتمسحون بالجنازة ثُمَّ إنه تشهد وأسلم وحسن إسلامه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمى يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر بْن قَيْس بمصر يَقُول: سمعت أبا سَعِيد الخراز يَقُول: كنت بمكة حرسها اللَّه تَعَالَى فجزت يوما بباب بَنِي شيبة فرأيت شابا حسن الوجه ميتا فنظرت فِي وجهه فتبسم فِي وجهي وَقَالَ لي: يا أبا سَعِيد أما علمت أَن الأحباء أحياء وإن مَاتُوا وإنما ينقلون من دار إِلَى دار وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: بلغني أَنَّهُ قيل لذي النون الْمِصْرِي عِنْدَ النزع أوصنا , فَقَالَ: لا تشغلوني فإني متعجب من محاسن لطفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الرازي يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان الحيرى يَقُول سئل أَبُو حفص فِي حال وفاته مَا الَّذِي تعظنا بِهِ فَقَالَ: لست أقوى عَلَى القول ثُمَّ رأى من نَفْسه قوة فَقُلْتُ لَهُ: قل حَتَّى أحكي عَنْك فَقَالَ: موعظتي الانكسار بكل القلب عَلَى التقصير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 بَاب المعرفة بالله قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] جاء فِي التفسير وَمَا عرفوا اللَّه حق معرفته. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدْلُ , قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْعَتَكِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَشْرَسَ , قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عِيسَى الشَّجَرِيُّ , عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ , عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ , عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: إِنَّ دِعَامَةَ الْبَيْتِ أَسَاسُهُ، وَدِعَامَةَ الدِّينِ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالْيَقِينُ وَالْعَقْلُ الْقَامِعُ. فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي , مَا الْعَقْلُ الْقَامِعُ؟ قَالَ: الْكَفُّ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَالْحِرْصُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ الأستاذ: المعرفة عَلَى لسان الْعُلَمَاء هُوَ العلم، فَكُل علم معرفة وكل معرفة علم، وكل عالم بالله عارف، وكل عارف عالم وعند هَؤُلاءِ الْقَوْم المعرفة صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته ثُمَّ صدق اللَّه تَعَالَى فِي معاملاته ثُمَّ تنقى عَن أخلاقه الرديئة وآفاته ثُمَّ طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكافه فحظي من اللَّه تَعَالَى بجميل إقباله وصدق اللَّه تَعَالَى فِي جَمِيع أحواله وانقطع عَنْهُ هواجس نَفْسه وَلَمْ يصغ بقلبه إِلَى خاطر يدعوه إِلَى غيره فَإِذَا صار من الخلق أجنبيا ومن آفات نَفْسه بريا ومن المساكنات والملاحظات نقيا ودام فِي السر مَعَ اللَّه تَعَالَى مناجاته وحق فِي كُل لحظة إِلَيْهِ رجوعه , وصار محدثا من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره يسمى عِنْدَ ذَلِكَ عارفا وتسمى حالته معرفة بالجملة فبمقدار أجنبيته عَن نَفْسه تحصل معرفته بربه عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ تكلم المشايخ فِي المعرفة فَكُل نطق بِمَا وقع لَهُ وأشار إِلَى مَا وجده فِي وقته. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: من أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة من اللَّه تَعَالَى فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 وسمعته يَقُول: المعرفة توجب السكينة فِي القلب كَمَا أَن العلم يوجب السكون فمن ازداد معرفته ازدادت سكينته. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن زَيْد يَقُول: سمعت الشبلي يَقُول لَيْسَ لعارف علاقة ولا لمحب شكوى ولا لعبد دعوى ولا لخائف قرار ولا لأحد من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فرار، وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَهَّاب يَقُول: سمعت الشبلي يَقُول: وَقَدْ سئل عَنِ المعرفة؟ فَقَالَ: أولها اللَّه تَعَالَى وآخرها مالا نهاية لَهُ. وسمعته يَقُول: سمعت أَبِي يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس الدينوري يَقُول: قَالَ أَبُو حفص: مذ عرفت اللَّه تَعَالَى مَا دَخَلَ قلبي حق ولا باطل. قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم: وَهَذَا الَّذِي أطلقه أَبُو حفص فِيهِ طرف من الإشكال وأجل مَا يحتمله أَن عِنْدَ الْقَوْم المعرفة توجب غيبة العبد عَن نَفْسه لاستيلاء ذكر الحق سبحانه عَلَيْهِ فلا يشهد غَيْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ولا يرجع إِلَى غيره فكما أَن العاقل يرجع إِلَى قلبه وتفكره وتذكره فيما يسنح لَهُ من أمر أَوْ يستقبله من حال فالعارف رجوعه إِلَى ربه فَإِذَا لَمْ يكن مشتغلا إلا بربه تَعَالَى لَمْ يكن راجعا إِلَى قلبه وكيف يدخل المعنى قلب من لا قلب لَهُ، وفرق بَيْنَ من عاش بقلبه وبين من عاش بربه عَزَّ وَجَلَّ. وسئل أَبُو يَزِيد عَنِ المعرفة فَقَالَ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] قَالَ الأستاذ: هَذَا معنى مَا أشار إِلَيْهِ أَبُو حفص. وَقَالَ أَبُو يَزِيد: للخلق أحوال ولا حال للعارف لأنه محيت رسومه وفنيت هويته بهوية غيره وغيبت آثاره بآثار غيره. وَقَالَ الواسطي: لا تصح المعرفة وَفِي العبد استغناء بالله وافتقار إِلَيْهِ قَالَ الأستاذ: أراد الواسطي بِهَذَا أَن الافتقار والاستغناء من أمارات صحو العبد وبقاء رسومه لأنهما من صفاته، والعارف محو فِي معروفه فكيف يصح لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ لاستهلاكه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 فِي وجوده أَوْ لاستغراقه فِي شهوده إِن لَمْ يبلغ الوجود مختطف عَن إحساسه بكل وصف هُوَ لَهُ، ولهذا قَالَ الواسطي أَيْضًا: من عرف اللَّه تَعَالَى انقطع بَل خرس وانقمع. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أحصى ثناء عليك. هذه صفات الَّذِينَ بَعْد مرماهم، فأما من نزلوا عَن هَذَا الحد فَقَدْ تكلموا فِي المعرفة وأكثروا. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْن قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سَعِيد الرازي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّاس بْن حمزة قَالَ: سمعت أَحْمَد بْن أَبِي الحواري قَالَ: سمعت أَحْمَد بْن عَاصِم الأنطاكي يَقُول: من كَانَ بالله أعرف كَانَ لَهُ أخوف وَقَالَ بَعْضهم من عرف اللَّه تَعَالَى تبرم بالبقاء وضاقت عَلَيْهِ الدنيا بسعتها. وقيل: من عرف اللَّه تَعَالَى صفا لَهُ العيش وطابت لَهُ الحياة وهابه كُل شَيْء وذهب عَنْهُ خوف المخلوقين وأنس بالله تَعَالَى. وقيل: من عرف اللَّه تَعَالَى ذهب عَنْهُ رغبة الأشياء وَكَانَ بلا فصل ولا وصل وقيل: المعرفة توجب الحياء والتعظيم كَمَا أَن التوحيد يوجب الرضا والتسليم وَقَالَ رويم: المعرفة للعارف مرآة إِذَا نظر فِيهَا تجلى لَهُ مولاه وَقَالَ ذو النون الْمِصْرِي: ركضت أرواح الأنبياء فِي ميدان المعرفة فسبقت روح نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرواح الأنبياء عَلَيْهِم السَّلام إِلَى روضة الوصال وَقَالَ ذو النون الْمِصْرِي: معاشرة العارف كمعاشرة اللَّه تَعَالَى يحتملك ويحلم عَنْك تخلقا بأخلاق اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وسئل بْن يزدانيار مَتَى يشهد العارف الحق سبحانه فَقَالَ: إِذَا بدا الشاهد وفني الشواهد وذهب الحواس واضمحل الإخلاص وَقَالَ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور: إِذَا بلغ العبد إِلَى مقام المعرفة أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ بخواطره وحرس سره أَن يسنح فِيهِ غَيْر خاطر الحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 وَقَالَ: علامة العارف أَن يَكُون فارغا من الدنيا والآخرة. وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: المعرفة غايتها شيئان: الدهشة والحيرة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سَعِيد يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سهل يَقُول: سمعت سَعِيد بْن عُثْمَان يَقُول: سمعت ذا النون الْمِصْرِي يَقُول: أعرف النَّاس بالله تَعَالَى أشدهم تحيرا فِيهِ. وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا عُمَر الأنطاكي يَقُول: قَالَ رجل للجنيد من أهل المعرفة أقوام يقولون: إِن ترك الحركات من بَاب البر والتقوى فَقَالَ الجنيد: إِن هَذَا قَوْل قوم تكلموا بإسقاط الأعمال وَهُوَ عندي عظيم والذي يسرق ويزني أَحْسَن حالا من الَّذِي قَوْل هَذَا فَإِن العارفين بالله أخذوا الأعمال عَنِ اللَّه تَعَالَى وإلى اللَّه تَعَالَى رجعوا فِيهَا ولو بقيت ألف عام لَمْ أنقص من أعمال البر ذرة وقيل لأبي يَزِيد بماذا وجدت هذه المعرفة فَقَالَ: ببطن جائع وبدن عار، وَقَالَ أَبُو يعقوب النهرجوري قُلْت لأبي يعقوب السوسي: هل يتأسف العارف عَلَى شَيْء غَيْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: وهل يرى غيره فيتأسف عَلَيْهِ قُلْت: فبأي عين ينظر إِلَى الأشياء فَقَالَ: بعين الفناء والزوال وَقَالَ أَبُو يَزِيد: العارف طيار والزاهد سيار، وقيل: العارف تبكى عينه ويضحك قلبه وَقَالَ الجنيد لا يَكُون العارف عارفا حَتَّى يَكُون كالأرض يطؤه البر والفاجر وكالسحاب يظل كُل شَيْء وكالمطر يسقى مَا يحب وَمَا لا يحب وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولا يقضى وطره من شيئين بكاؤه عَلَى نَفْسه وثناؤه عَلَى ربه عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ أَبُو زَيْد: إِنَّمَا نالوا المعرفة بتضييع مَا لَهُمْ والوقوف مَعَ ماله. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الفارسي يَقُول: سمعت يُوسُف بْن عَلِي يَقُول لا يَكُون العارف عارفا حقا حَتَّى لو أعطى مثل ملك سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلام لَمْ يشغله عَنِ اللَّه عز وجل طرفة عين. وسمعته يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الفارسي يَقُول: سمعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 ابْن عَطَاء يَقُول: المعرفة عَلَى ثلاثة أركان الهيبة والحياء والأنس. وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت يُوسُف بْن الْحُسَيْن يَقُول قيل لذي النون الْمِصْرِي بم عرفت ربك قَالَ: عرفت ربي بربي ولولا ربي لما عرفت ربي، وقيل: العالم يقتدي بِهِ والعارف يهتدى بِهِ وَقَالَ الشبلي العارف لا يَكُون لغيره لاحظا ولا بكلام غيره لافظا ولا يرى لنفسه غَيْر اللَّه تَعَالَى حافظا وقيل: العارف أَنَس بذكر اللَّه تَعَالَى فأوحشه من خلقه وافتقر إِلَى اللَّه تَعَالَى فأغناه عَن خلقه وذل لِلَّهِ تَعَالَى فأعزه فِي خلقه، وَقَالَ أَبُو الطيب السامري: المعرفة طلوع الحق عَلَى الأسرار بمواصلة الأنوار وقيل: العارف فَوْقَ مَا يَقُول والعالم دُونَ مَا يَقُول وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الداراني: إِن اللَّه تَعَالَى يفتح للعارف وَهُوَ عَلَى فراشه مَا لا يفتح لغيره وَهُوَ قائم يصلي وَقَالَ الجنيد: العارف من نطق الحق عَن سره وَهُوَ ساكت وَقَالَ ذو النون: لكل شَيْء عقوبة وعقوبة العارف انقطاعه عَن ذكر اللَّه تَعَالَى. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت الوجيهي يَقُول: سمعت أبا عَلِي الروذباري يَقُول: سمعت رويما يَقُول رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين. وَقَالَ أَبُو بَكْر الوراق: سكوت العارف أنفع وكلامه أشهى وأطيب وَقَالَ ذو النون: الزهاد ملوك الآخرة وَهُمْ فقراء العارفين. وسئل الجنيد عَنِ العارف فَقَالَ: لون الماء لو إنائه يَعْنِي: أَنَّهُ بحكم وقته. وسئل أَبُو يَزِيد عَنِ العارف فَقَالَ: لا يرى فِي نومه غَيْر اللَّه تَعَالَى ولا فِي يقظته غَيْر اللَّه تَعَالَى ولا يوافق غَيْر اللَّه تَعَالَى ولا يطالع غَيْر اللَّه تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد الدمشقي يَقُول: سئل بَعْض المشايخ: بم عرفت اللَّه تَعَالَى؟ فَقَالَ: بلمعة لمعت بلسان مأخوذ عَنِ التمييز المعهود ولفظة جرت عَلَى لسان هالك مفقود يشير إِلَى وجد ظاهر ويخبر عَن سر ساتر هُوَ هُوَ أظهره وغيره بِمَا أشكله ثُمَّ أنشد: نطقت بلا نطق هُوَ النطق إنه ... لَك النطق لفظا أَوْ يبين عَنِ النطق تراءيت كي أخفى وَقَدْ كنت خافيا ... وألمعت لي برقا فأنطقت بالبرق وسمعته يَقُول: سمعت عَلِي بْن بندار الصيرفي يَقُول: سمعت الجريري يَقُول: سئل أَبُو تراب عَن صفة العارف فَقَالَ: الَّذِي لا يكدره شَيْء ويصفو بِهِ كُل شَيْء. وسمعته يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول: العارف تضيء لَهُ أنوار العلم فيبصر بِهِ عجائب الغيب. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: العارف مستهلك فِي بحار التحقيق كَمَا قَالَ قائلهم: المعرفة أمواج تغط ترفع وتحط. وسئل يَحْيَي بْن معاذ عَنِ العارف فَقَالَ: رجل كَانَ بائن ومرة قَالَ: كائن فبان. وَقَالَ ذو النون: علامة العارف ثلاثة لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ولا يعتقد باطنا من العلم ينقض عَلَيْهِ ظاهرا من الحكم ولا تحمله كثرة نعم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ عَلَى هتك أستار محارم اللَّه تَعَالَى وقيل: لَيْسَ بعارف من وصف المعرفة عِنْدَ أبناء الآخرة فكيف عِنْدَ أبناء الدنيا؟ وَقَالَ أَبُو سَعِيد الخراز: المعرفة تأتي من عين الجود وبذل المجهود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت جعفرا يَقُول: سئل الجنيد عَن قَوْل لذي النون الْمِصْرِي فِي صفة العارف كَانَ ههنا فَذَهَبَ فَقَالَ: الجنيد العارف لا يحصره حال عَن حال ولا يحجبه منزل عَنِ التنقل فِي المنازل، فَهُوَ مَعَ أهل كُل مكان بمثل الَّذِي هُوَ فِيهِ يجد مثل الَّذِي يجدون , وينطق فِيهَا بمعالمها لينتفعوا بِهَا. وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الفضل يَقُول: المعرفة حياة القلب مَعَ اللَّه تَعَالَى. وسمعته يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت الكتاني يَقُول: سئل أَبُو سَعِيد الخراز هل يصير العارف إِلَى حال يجفو عَلَيْهِ البكاء؟ فَقَالَ: نعم، إِنَّمَا البكاء فِي أوقات سيرهم إِلَى اللَّه تَعَالَى فَإِذَا نزلوا إِلَى حقائق القرب وذاقوا طعم الوصول من بره زال عَنْهُم ذَلِكَ قَالَ: وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الفضل يَقُول: المعرفة حياة القلب مَعَ اللَّه تبارك وتعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 بَاب المحبة قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] . أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا السُّلَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ , عَنْ مَعْمَرٍ , عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ لَمْ يُحِبَّ لِقَاءَ اللَّهِ لَمْ يُحِبَّ اللَّهُ تَعَالَى لِقَاءَهُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبِيدٍ الصَّفَّارُ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَي , عَنْ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ , عَنْ هِشَامَ الْكِتَّانِيِّ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَن جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ , عَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ: مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ , وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ كَتَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ , وَأَكْرَهُ مُنَسَأَتِهِ , وَلا بَدَلُهُ مِنْهُ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ , وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ , وَمَنْ أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمَعًا , وَبَصَرًا , وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْد قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ , قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى , قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ , عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَبْدَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ , ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يَضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَبْدَ. قَالَ مَالِك: لا أحسبه إلا قَالَ فِي البغض مثل ذَلِكَ قَالَ الأستاذ: المحبة حالة شريفة , شهد الحق سبحانه بِهَا للعبد , وأخبر عَن محبته لعبد فالحق سبحانه يوصف بأنه يحب العبد , والعبد يوصف بأنه يحب الحق سبحانه , والمحبة عَلَى لسان الْعُلَمَاء هِيَ الإرادة , وليس مراد الْقَوْم بالمحبة الإرادة , فَإِن الإرادة لا تتعلق بالقديم , اللَّهُمَّ إلا أَن تحمل عَلَى إرادة التقرب إِلَيْهِ , والتعظيم لَهُ. نحن نذكر من تحقيق هذه المسألة طرفا إِن شاء اللَّه تَعَالَى: فمحبة الحق سبحانه للعبد إرادته لإنعام مخصوص عَلَيْهِ , كَمَا أَن رحمته لَهُ إرادة الإنعام , فالرحمة خاص من الإرادة , والمحبة أخص من الرحمة , فإرادة اللَّه تَعَالَى لأن يوصل إِلَى العبد الثواب والإنعام تسمى رحمة وإرادته , لأن يخصه بالقربة والأحوال العلية تسمى محبة، فإرادته سبحانه صفة واحدة , فبحسب تفاوت متعلقاتها تختلف أسماؤها، فَإِذَا تعلقت بالعقوبة تسمى غضبا، وإذا تعلقت بعموم النعم تسمى رحمة، وإذا تعلقت بخصوصها تسمى محبة. وقوم قَالُوا: محبة الحق سبحانه للعبد مدحه لَهُ , وثناؤه عَلَيْهِ بالجميل , فيعود معنى محبته لَهُ عَلَى هَذَا القول إِلَى كلامه , وكلامه قديم. وَقَالَ قوم: محبته للعبد من صفات فعله , فَهُوَ إحسان مخصوص يلقى اللَّه العبد بِهِ , وحالة مخصوصة يرقيه إِلَيْهَا , كَمَا قَالَ بَعْضهم: إِن رحمته بالعبد نعمته مَعَهُ. وقوم من السلف قَالُوا: محبته من الصفات الخبرية , فأطلقوا اللفظ , وتوقفوا عَنِ التفسير , فأما مَا عدا هذه الجملة مِمَّا هُوَ فِي المعقول من صفات محبة الخلق , كالميل إِلَى الشيء , والاستئناس بالشيء , وكحالة يجدها المحب مَعَ محبوبه من المخلوقين , فالقديم سبحانه يتعالى عَن ذَلِكَ. وَأَمَّا محبة العبد لِلَّهِ تَعَالَى , فحالة يجدها من قلبه تلطف عَنِ العبارة , الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 وَقَدْ تحمله تلك الحالة عَلَى التعظيم لَهُ , وإيثار رضاه , وقلة الصبر عَنْهُ , والاهتياج إِلَيْهِ , وعدم القرار من دونه , ووجود الاستئناس بدوام ذكره لَهُ بقلبه، وليست محبة العبد لَهُ سبحانه متضمنة ميلا , ولا اختطاطا , كَيْفَ وحقيقة الصمدية مقدسة عَنِ اللحوق , والدرك والإحاطة. والمحب بوصف الاستهلاك فِي المحبوب أولى منه بأن يوصف بالاختطاط، ولا توصف المحبة بوصف , ولا تحد بحد أوضح , ولا أقرب إِلَى الفهم من المحبة والاستقصاء فِي المقال عِنْدَ حصول الإشكال , فَإِذَا زال الاستعجام والاستبهام سقطت الحاجة إِلَى الاستغراق فِي شرح الْكَلام وعبارات النَّاس عَنِ المحبة كثيرة , وتكلموا فِي أصلها فِي اللغة , فبعضهم قَالَ: الحب اسم لصفاء المودة، لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حبب الأسنان وقيل: الحباب: مَا يعلو الماء عِنْدَ المطر الشديد فعلى هَذَا المحبة غليان القلب وتوارنه عِنْدَ العطش والاهتياج إِلَى لقاء المحبوب وقيل: إنه مشتق من حباب الماء بفتح الحاء وَهُوَ معظمه فسمى بِذَلِكَ، لأن المحبة غاية معظم مَا فِي القلب من المهمات وقيل: اشتقاقه من اللزوم والثبات يقال: أحب البعير وَهُوَ أَن يبرك فلا يقوم فكأن المحب لا يبرح بقلبه عَن ذكر محبوبه وقيل: الحب مأخوذ من الحب وَهُوَ القرط قَالَ الشاعر: تبينت الحية النضناض منه ... مكان الحب تستمع السرارا وسمى القرط حبا , إِمَّا للزومه للأذن , أَوْ لقلقه , وكلا المعنيين صحيح فِي الحب، وقيل: هُوَ مأخوذ من الحب , والحب جمع حبة , وحبة القلب: مَا بِهِ قوامه، فسمى الحب حبا باسم محله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وقيل: الحب والحب: كالعمر والعمر , وقيل: هُوَ مأخوذ من الحبة بكسر الحاء , وَهِيَ بزور الصحراء , فسمى الحب حبا , لأنه لباب الحياة , كَمَا أَن الحب لباب النبات , وقيل: الحب هِيَ الخشبات الأربع الَّتِي توضع عَلَيْهَا الجرة فسميت المحبة حبا لأنه يتحمل عَن محبوبه كُل عز وذل وقيل: هُوَ من الحب الَّذِي فِيهِ الماء لأنه يمسك مَا فِيهِ فلا يسع فِيهِ غَيْر مَا امتلأ بِهِ كَذَلِكَ إِذَا امتلأ القلب بالحب فلا مساغ فِيهِ لغير محبوبه، وَأَمَّا أقاويل الشيوخ فِيهِ فَقَالَ بَعْضهم: المحبة الميل الدائم بالقلب الهائم. وقيل: المحبة إيثار المحبوب عَلَى جَمِيع المصحوب. وقيل: موافقة الحبيب فِي المشهد والمغيب. وقيل: محو المحب بصفاته وإثبات المحبوب بذاته وقيل: مواطأة القلب لمرادات الرب وقيل: خوف ترك الحرمة مَعَ إقام الخدمة. وَقَالَ أَبُو يَزِيد البسطامي: المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك. وَقَالَ سهل: الحب معانقة الطاعة ومباينة المخالفة، وسئل الجنيد عَنِ المحبة فَقَالَ: دخول صفات المحبوب عَلَى البدل من صفات المحب أشار بِهَذَا إِلَى استيلاء ذكر المحبوب حَتَّى لا يَكُون الغالب عَلَى قلب المحب إلا ذكر صفات المحبوب والتغافل بالكلية عَن صفات نَفْسه والإحساس بِهَا. وَقَالَ أَبُو عَلِي الروذباري: المحبة: الموافقة، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ القرشي: حقيقة المحبة أَن تهب كَذَلِكَ لمن أحببت فلا يبقى لَك منك شَيْء، وَقَالَ الشبلي: سميت المحبة محبة لأنها تمحو من القلب مَا سِوَى المحبوب، وَقَالَ ابْن عَطَاء: المحبة إقامة العتاب عَلَى الدوام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: المحبة لذة ومواضع الحقيقة دهش، وسمعته يَقُول: العشق مجاوزة الحد فِي المحبة , والحق سبحانه لا يوصف بأنه يجاوز الحد , فلا يوصف بالعشق , ولو جمع محاب الخلق كلهم لشخص واحد لَمْ يبلغ ذَلِكَ استحقاق قدر الحق سبحانه فلا يقال: إِن عبدا جاوز الحد فِي محبة اللَّه تَعَالَى فلا يوصف الحق سبحانه بأنه يعشق ولا العبد فِي صفته سبحانه بأنه يعشق فنفى العشق ولا سبيل لَهُ إِلَى وصف الحق سبحانه لا من الحق للعبد ولا من العبد للحق سبحانه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمى يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت الشبلي يَقُول: المحبة أَن تغار عَلَى المحبوب أَن يحبه مثلك، وسمعته يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الفارسي يَقُول: سمعت ابْن عَطَاء يَقُول وَقَدْ سئل عَنِ المحبة فَقَالَ: أغصان تغرس فِي القلب فتثمر عَلَى قدر العقول، وسمعته يَقُول: سمعت النصرأباذي يَقُول: محبة توجب حقن الدماء، ومحبة توجب سفك الدماء، وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِي العلوي يَقُول: سمعت جَعْفَر يَقُول: سمعت سمنونا يَقُول: ذهب المحبون لِلَّهِ تعالي بشرف الدنيا والآخرة، لأن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: المرء مَعَ من أحب فَهُمْ مَعَ اللَّه تَعَالَى. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: حقيقة المحبة مالا ينقص بالجفاء، وَقَالَ يَزِيد بالبر، وَقَالَ لَيْسَ بصادق من ادعى محبته وَلَمْ يحفظ حدوده. وَقَالَ الجنيد: إِذَا صحت المحبة سقطت شروط الأدب، وَفِي معناه سمعت الأستاذ أبا عَلِي ينشد: إِذَا صفت المودة بَيْنَ قوم ... ودام وداهم سمج الثناء وَكَانَ يَقُول: لا ترى أبا شفيقا يبجل ابنه فِي الْخَطَّاب والناس يتكلمون فِي مخاطبته والأب يَقُول: يا فُلان، وَقَالَ الكتاني: المحبة الإيثار للمحبوب. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا سَعِيد الأرجاني يَقُول: سمعت بندار بْن الْحُسَيْن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 يَقُول: رؤي مجنون بَنِي عامر فِي المنام فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك؟ فَقَالَ: غفر لي وجعلني حجة عَلَى المحبين، وَقَالَ أَبُو يعقوب السوسي: حقيقة المحبة أَن ينسى العبد حظه من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وينسى حوائجه إِلَيْهِ، وَقَالَ الْحُسَيْن بْن مَنْصُور حقيقة المحبة قيامك مَعَ محبوبك بخلع أوصافك. سمع الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: قيل للنصرأباذي: لَيْسَ لَك من الحبة شَيْء؟ . فَقَالَ: صدقوا ولكن لي حسراتهم فَهُوَ ذا أحترق فِيهِ، وسمعته يَقُول: قَالَ النصرأباذي المحبة مجانية السلو عَلَى كُل حال، ثُمَّ أنشد: ومن كَانَ فِي طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلى لَهَا غَيْر ذائق وأكثر شَيْء نلته من وصالها ... أماني لَمْ تصدق كلمحة بارق وَقَالَ مُحَمَّد بْن الفضل المحبة سقوط كُل محبة من القلب إلا محبة الحبيب، وَقَالَ الجنيد: المحبة إفراط الميل بلا نيل، ويقال: المحبة تشويش فِي القلوب يقع من المحبوب، ويقال: المحبة فتنة تقع فِي الفؤاد من المراد، وأنشد ابْن عَطَاء: غرست لأهل الحب غصنا من الهوى ... وَلَمْ يك يدري مَا الهوى أحد قبلي فأورق أغصانا وأينع صبوة ... وأعقب لي مرا من الثمر المحلي وكل جَمِيع العاشقين هواهم ... إذ نسبوه كَانَ من ذَلِكَ الأصل وقيل الحب أوله ختل وآخره قتل سمعت الأستاذ أبا عَلِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول فِي معنى قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبك للشيء يعمى ويصم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 فَقَالَ: يعمى عَنِ الغير غيرة وعن المحبوب هيبة ثُمَّ أنشد: إِذَا مَا بدا لي تعاظمته ... فأصدر فِي حال من لَمْ يرد سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمى يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن فاتك يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: سمعت الْحَارِث المحاسبي يَقُول المحبة ميلك إِلَى الشيء بكليتك ثُمَّ إيثارك لَهُ عَلَى نفسك وروحك وَمَالِك ثُمَّ موافقتك لَهُ سرا وجهرا ثُمَّ علمك بتقصيرك فِي حبه. وسمعته يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي يَقُول: سمعت عَبَّاس بْن عصام يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: سمعت السرى يَقُول لا تصلح المحبة بَيْنَ اثنين حَتَّى يَقُول الْوَاحِد للآخر: يا أنا. وَقَالَ الشبلي: المحب إِذَا سكت هلك والعارف إِن لَمْ يسكت هلك وقيل: المحبة نار فِي القلب تحرق مَا سِوَى مراد المحبوب وقيل: المحبة بذل المجهود والحبيب يفعل مَا يشاء. وَقَالَ النوري: المحبة هتك الأستار وكشف الأسرار. وَقَالَ أَبُو يعقوب السوسي: لا تصح المحبة إلا بالخروج عَن رؤية المحبة إِلَى رؤية المحبوب بفناء علم المحبة. وَقَالَ جَعْفَر. قَالَ الجنيد: دفع السرى إِلَى رقعة. وَقَالَ هذه لَك خير من سبع مائة قصة أَوْ حَدِيث يعلو فَإِذَا فِيهَا: ولما ادعيت الحب قَالَتْ كذبتني فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا فَمَا الحب حَتَّى يلصق القلب بالحشا وتذبل حَتَّى لا تجيب المناديا وتنحل حَتَّى لا يبقي لَك الهوى سِوَى مقلة تبكى بِهَا وتناجيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 وَقَالَ ابْن مسروق: رأيت سمنونا يتكلم فِي المحبة , فتكسرت قناديل الْمَسْجِد كلها. سمعت مُحَمَّد بْن الْحَسَن يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن فاتك يَقُول: سمعت سمنونا وَهُوَ جالس فِي الْمَسْجِد يتكلم فِي المحبة إذ جاء طير صَغِير فقرب منه , ثُمَّ قرب فلم يزل يدنو حَتَّى جلس عَلَى يده , ثُمَّ ضرب بمنقاره الأَرْض حَتَّى سال منه الدم , ثُمَّ مَات. وَقَالَ الجنيد: كُل محبة كانت لغرض إِذَا زال الغرض زالت تلك المحبة وقيل: حبس الشبلي فِي المارستان , فدخل عَلَيْهِ جَمَاعَة. فَقَالَ: من أنتم؟ قَالُوا: إنا محبوك يا أبا بَكْر فأقبل يرميهم بالحجارة ففروا. فَقَالَ: إِن ادعيتم محبتي فاصبروا عَلَى بلائي وأنشد الشبلي: يا أيها السيد الكريم ... حبك بَيْنَ الحشا مقيم يا رافع النوم عَن جفوني ... أَنْتَ بِمَا مر بي عليم سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمى يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت النهرجوري يَقُول: سمعت عَلِي بْن عُبَيْد يَقُول: كتب يَحْيَي بْن معاذ إِلَى أَبِي يَزِيد سكرت من كثرة مَا شربت من كأس محبته فكتب إِلَيْهِ أَبُو يَزِيد غيرك شرب بحور السموات وَالأَرْض وَمَا رَوَى بَعْد ولسانه خارج وَيَقُول: هل من مزيد؟ وأنشدوا: عجبت لمن يَقُول ذكرت إلفي ... وهل أنسى فأذكر مَا نسيت أموت إِذَا ذكرتك ثُمَّ أحيا ... ولولا حسن ظني مَا حييت فأحيا بالمنى وأموت شوقا ... فكم أحيا عليك وكم أموت شربت الحب كأسا بَعْد كأس ... فَمَا نفذ الشراب وَمَا رويت وقيل أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى عيسى عَلَيْهِ السَّلام: إني إِذَا اطلعت عَلَى قلب عَبْد فلم أجد فِيهِ حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي ورأيت بخط الأستاذ أَبِي عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَعْض الكتب المنزلة: عبدي أنا وحقك لَك محب فبحقي كن لي محبا. وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ: من أعطى شَيْئًا من المحبة وَلَمْ يعط مثله من الخشية فَهُوَ مخدوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 وقيل: المحبة مَا يمحو أثرك. وقيل: المحبة سكر لا يصحو كصاحبه إلا بمشاهدة محبوبه ثُمَّ السكر الَّذِي يحصل عِنْدَ الشهود لا يوصف، وأنشدوا: فأسكر الْقَوْم دور كأس ... وَكَانَ سكري من المدير وَكَانَ الأستاذ أَبُو عَلِي الدقاق ينشد كثيرا: لي سكرتان وللندمان واحدة ... شَيْء خصصت بِهِ من بينهم وحدي وَقَالَ ابْن عَطَاء: المحبة إقامة العتاب عَلَى الدوام. وَكَانَ للأستاذ أَبِي عَلِي جارية تسمى فيروز وَكَانَ يحبها إذ كانت قَدْ خدمته كثيرا , فسمعته يَقُول كانت فيروز تؤذيني يوما وتستطيل عَلِي بلسانها. فَقَالَ: لَهَا أَبُو الْحَسَنِ القارئ لَمْ تؤذين هَذَا الشيخ؟ فَقَالَتْ: لأني أحبه. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ مثقال خردلة من الحب أحب إِلَى من عُبَادَة سبعين سنة بلا حب: وقيل: إِن شابا أشرف عَلَى النَّاس فِي يَوْم عيد. وَقَالَ: من مَات عشقا فليمت هكذا لا خير فِي عشق بلا موت وألقى نَفْسه من سطح عال فوقع ميتا. وحكي أَن بَعْض أهل الهند عشق جارية فرحلت الجارية فخرج الرجل فِي وداعها فدمعت إحدى عينيه دُونَ الأخرى فغمض الَّتِي لَمْ تدمع أربعا وثمانين سنة وَلَمْ يفتحها عقوبة لَهَا لأنها لَمْ تبك عَلَى فراق حبيبته، وَفِي معناه أنشدوا: بكت عيني غداة البين دمعا ... وَأُخْرَى بالبكا بخلت عَلَيْنَا فعاقبت الَّتِي بخلت بدمع ... بأن غمضتها يَوْم التقينا وَقَالَ بَعْضهم: كُنَّا عِنْدَ ذي النون الْمِصْرِي فتذاكرنا المحبة. فَقَالَ ذو النون: كفوا عَن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها ثُمَّ أنشأ يَقُول: الخوف أولى بالمسيء إِذَا تأله والحزن والحب يجمل بالتقى وبالنقي من الدرن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: من نشر المحبة عِنْدَ غَيْر أهلها فَهُوَ فِي دعواه دعى. وقيل ادعى رجل الاستهلاك فِي محبة شخص. فَقَالَ لَهُ الشاب: كَيْفَ هَذَا وَهَذَا أَخِي أَحْسَن مني وجها وأتم جمالا؟ فرفع الرجل رأسه يلتفت وكانا عَلَى سطح فألقاه من السطح. وَقَالَ هَذَا أجر من يدعي هوانا وينظر إِلَى سوانا. وَكَانَ سمنون يقدم المحبة عَلَى المعرفة والأكثرون يقدمون المعرفة عَلَى المحبة وعند المحققين المحبة استهلاك فِي لذة والمعرفة شهود فِي حيرة وفناء فِي هيبة. وَقَالَ أَبُو بَكْر الكتاني: جرت مسألة فِي المحبة بمكة أَيَّام الموسم فتكلم الشيوخ فِيهَا وَكَانَ الجنيد أصغرهم سنا فَقَالُوا لَهُ: هات مَا عندك يا عرقي , فأطرق رأسه ودمعت عيناه , ثُمَّ قَالَ: عَبْد ذاهب عَن نَفْسه , متصل بذكر ربه , قائم بأداء حقوقه , ناظر إِلَيْهِ بقلبه , أحرق قلبه أنوار هويته , وصفا شربه من كأس وده , وانكشف لَهُ الجبار من أستار غيبه , فَإِن تكلم فبالله , وإن نطق فعن اللَّه , وإن تحرك فبأمر اللَّه , وإن سكن فمع اللَّه فَهُوَ بالله وَلِلَّهِ ومع لِلَّهِ , فبكى الشيوخ وَقَالُوا: مَا عَلَى هَذَا مزيد جبرك اللَّه تَعَالَى يا تاج العارفين. وقيل: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام: يا دَاوُد , إني حرمت عَلَى القلوب أَن يدخلها حبي وحب غيري فِيهَا. أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيّ. قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد بْن القاسم قَالَ: حَدَّثَنَا هميم بْن همام قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن الْحَارِث قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَفَّان قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاس خادم الفضيل بْن عياض قَالَ: احتبس بول الفضيل فرفع يديه وَقَالَ: اللَّهُمَّ بحبي لَك إلا أطلقته عني. قَالَ: فَمَا برحنا حَتَّى شفى. وقيل: المحبة الإيثار كامرأة الْعَزِيز لما تناهت فِي أمرها قَالَتْ: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] وَفِي الابتداء {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] فوركت الذنب فِي الابتداء عَلَيْهِ وَفِي الانتهاء نادت عَلَى نفسها بالخيانة. سمعت الأستاذ أبا عَلِي , يَقُول ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وحكى عَنْ أَبِي سَعِيد الخراز أَنَّهُ قَالَ: رأيت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعذرني فَإِن محبة اللَّه تَعَالَى شغلتني عَن محبتك. فَقَالَ: يا مبارك من أحب اللَّه تَعَالَى فَقَدْ أحبني، وقيل: قَالَتْ رابعة فِي مناجاتها: إلهي أتحرق بالنار قلبا يحبك فهتف بِهَا هاتف مَا كُنَّا نفعل هكذا فلا تظني بنا ظن السوء. وقيل: الحب حرفان حاء وباء فالإشارة فِيهِ أَن من أحب فليخرج عَن روحه وبدونه وكالإجماع من إطلاقات الْقَوْم أَن المحبة هِيَ الموافقة وأشد الموافقات الموافقة بالقلب والمحبة توجب انتفاء المباينة، فَإِن المحب أبدا مَعَ محبوبه وبذلك ورد الْخَبَر: حَدَّثَنَا الإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فَوْرَكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ حرزَاذَ. قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ , عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , عَنِ الأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي وَائِلٍ , عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحِبَّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ. فَقَالُ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ الرازي، يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان الحيري يَقُول: سمعت أبا حفص يَقُول: أَكْثَر فساد الأحوال من ثلاثة فسق العارفين وخيانة المحبين وكذب المريدين. قَالَ أَبُو عُثْمَان: فسق العارفين إطلاق الطرف واللسان والسمع إِلَى أسباب الدنيا ومنَافِعها وخيانة المحبين اختيار هواهم عَلَى رضا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فيما يستقبلهم وكذب المريدين أَن يَكُون ذكر الخلق ورؤيتهم تغلب عَلَيْهِم عَلَى ذكر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ورؤيته، وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا القاسم الجوهري يَقُول: سمعت أبا عَلِي ممشاد بْن سَعِيد العكبري , يَقُول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 راود خطاف خطافة فِي قبة سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلام فامتنعت عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهَا: لَمْ تمتنعين عَلِي وإن شئت قلبت القبة عَلَى سُلَيْمَان فدعاه سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلام. وَقَالَ لَهُ: مَا حملك عَلَى مَا قُلْت. فَقَالَ يا نبي اللَّه إِن العشاق لا يؤاخذون بأقوالهم. فَقَالَ: صدقت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 بَاب الشوق قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} [العنكبوت: 5] أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي قماشٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زُرَارَةَ , عَنْ حَمَّادِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ: صَلَّى بِنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ صَلاةً فَأَوْجَزَ فِيهَا فَقُلْتُ: خَفَّفْتَ أَبَا الْيَقْظَانِ. فَقَالَ: وَمَا عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَقَدْ دَعَوْتُ اللَّهَ بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا قَامَ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَسَأَلَهُ عَنِ الدَّعَوَاتِ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبُ , وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي , وَتَوَفَّنِي مَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي , اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ , وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ , وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ , وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لا يَبِيدُ , وَقَرَّةَ عَيْنٌ لا تَنْقَطِعُ , وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ , وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَأَسْأَلُكَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ , وَشَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءٍ مُضِرَّةٍ , وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ , اللَّهُمَّ زَيْنًا بِزِينَةِ الإِيمَانِ , اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ. قَالَ الأستاذ: الشوق اهتياج القلوب إِلَى لقاء المحبوب وعلى قدر المحبة يَكُون الشوق سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يفرق بَيْنَ الشوق والاشتياق وَيَقُول الشوق يسكن باللقاء والرؤية والاشتياق لا يزول باللقاء وَفِي معناه أنشدوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 مَا يرجع الطرف عَنْهُ رؤيته ... حَتَّى يعود إِلَيْهِ الطرف مشتاقا سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت النصرأباذي يَقُول: للخلق كلهم مقام الشوق وليس لَهُمْ مقام الاشتياق ومن دَخَلَ فِي حال الاشتياق هام فِيهِ حَتَّى لا يرى لَهُ أثر ولا قرار وقيل: جاء أَحْمَد بْن حامد الأسود إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ. فَقَالَ: رأيت فِي المنام أنك تموت إِلَى سنة فلو استعددت للخروج. فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ: لَقَدْ أجلتنا إِلَى أمد بعيد أعيش أنا إِلَى سنة لَقَدْ كَانَ لي أَنَس بِهَذَا الْبَيْت الَّذِي سمعته من هَذَا الثقفي يَعْنِي: أبا عَلِي: يا من شكا شوقه من طول فرقته اصبر لعلك تلقى من تحب غدا وَقَالَ أَبُو عُثْمَان: علامة الشوق حب الْمَوْت مَعَ الراحة. وَقَالَ يَحْيَي بْن معاذ: علامة الشوق فطام الجوارح عَنِ الشهوات سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقق يَقُول: خرج دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام يوما إِلَى بَعْض الصحارى منفردا فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: مالي أراك يا دَاوُد وحدانيا؟ . فَقَالَ: يا إلهي استأثر الشوق إِلَى لقائك عَلَى قلبي فحال بيني وبين صحبة الخلق , فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: ارجع إليهم فإنك إِن أتيتني بعبد آبق أثبتك فِي اللوح المحفوظ جهبذا. وقيل: كانت عجوز قدم بَعْض أقاربها من السفر فأظهر قومها السرور والعجوز تبكي , فقيل لَهَا: مَا يبكيك؟ فَقَالَتْ: ذكرني قدوم هَذَا الفتى يَوْم القدوم عَلَى اللَّه تَعَالَى , وسئل ابْن عَطَاء عَنِ الشوق. فَقَالَ: احتراق الأحشاء وتلهب القلوب وتقطع الأكباد. وسئل أَيْضًا عَنِ الشوق فقيل لَهُ: الشوق أعلى أم المحبة؟ . فَقَالَ: المحبة، لأن الشوق منها يتولد. وَقَالَ بَعْضهم: الشوق لهيب ينشأ بَيْنَ أثناء الحشا يسنح عَنِ الفرقة فَإِذَا وقع اللقاء طفئ وإذا كَانَ الغالب عَلَى الأسرار مشاهد المحبوب لَمْ يطرقها الشوق وقيل لبعضهم: هل تشتاق؟ . فَقَالَ: لا إِنَّمَا الشوق إِلَى غائب وَهُوَ حاضر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] قَالَ: معناه: شوقا إليك فستره بلفظ الرضا وسمعته رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: من علامات الشوق تمنى الْمَوْت عَلَى بساط العوافي كيوسف عَلَيْهِ السَّلام لما ألقى فِي الجب لَمْ يقل: توفني ولما أدخل السجن لَمْ يقل توفني ولما دَخَلَ عَلَيْهِ أبواه وخر الأخوة لَهُ سجدا , وتم لَهُ الْمَلِك والنعم قَالَ توفني مسلما وَفِي معناه أنشدوا: نحن فِي أكمل السرور ولكن ... لَيْسَ إلا بكم يتم السرور عيب مَا نحن فِيهِ يا أهل ودي ... أنكم غيب ونحن حضور وَفِي معناه أنشدوا: من سره العيد الجديد ... فَقَدْ عدمت بِهِ السرور كَانَ السرور يتم لي ... لو كَانَ أحبابي حضورا وَقَالَ ابْن خفيف: الشوق ارتياح القلوب بالوجد ومحبة اللقاء والقرب. وَقَالَ أَبُو يَزِيد: إِن لِلَّهِ عبادا لو حجبهم فِي الْجَنَّة عَن رؤية لاستغاثوا من الْجَنَّة كَمَا يستغيث أهل النار من النار. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد اللَّهِ الصوفي , قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاس الهاشمي بالبيضاء , قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الخزاعي , قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الأَنْصَارِي , قَالَ: سمعت الْحُسَيْن الأَنْصَارِي يَقُول: رأيت فِي النوم كأن الْقِيَامَة قَدْ قامت وشخص قام تَحْتَ العرش فَيَقُول الحق سبحانه: يا ملائكتي من هَذَا فَقَالُوا: اللَّه أعلم. فَقَالَ: هَذَا معروف الكرخي سكر من حبي فلا يفيق إلا بلقائي، وَفِي بَعْض الحكايات فِي مثل هَذَا المنام أَنَّهُ قيل: هَذَا معروف الكرخي خرج من الدنيا مشتاقا إِلَى اللَّه فأباح اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ النظر إِلَيْهِ. وَقَالَ فارس: قلوب المشتاقين منورة بنور اللَّه تَعَالَى فَإِذَا تحرك اشتياقهم أضاء النور مَا بَيْنَ السماء وَالأَرْض فيعرضهم اللَّه تَعَالَى عَلَى الملائكة فَيَقُول: هَؤُلاءِ المشتاقون إِلَى أشهدكم أنى إليهم أشوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول فِي قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسألك الشوق إِلَى لقائك. قَالَ كَانَ الشوق مائة جزء تسعة وتسعون لَهُ وجزء متفرق فِي النَّاس فأراد أَن يَكُون ذَلِكَ الجزء لَهُ أَيْضًا فغار أَن يَكُون شظية من الشوق لغيره، وقيل: شوق أهل القرب أتم من شوق المحجوبين ولهذا قيل: وأبرح مَا يَكُون الشوق يوما إِذَا دنت الخيام من الخيام وقيل إِن المشتاقين يتحسسون حلاوة الْمَوْت عِنْدَ وروده لما قَدْ كشف لَهُمْ من روح الوصول أحلى من الشهد سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي يَقُول: سمعت جعفرا يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: سمعت السرى يَقُول: الشوق أجل مقام للعارف إِذَا تحقق فِيهِ وإذا تحقق فِي الشوق لَهَا عَن كُل شَيْء يشغله عمن يشتاق إلهي. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الحيري فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} [العنكبوت: 5] هَذَا تعزية للمشتاقين معناه: أني أعلم أَن اشتياقكم إِلَى غالب وأنا أجلت للقائكم أجلا وعن قريب يَكُون صولكم إِلَى من تشتاقون إِلَيْهِ. وقيل: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام: قل لشبان بَنِي إسرائيل لَمْ تشغلون أنفسكم بغيري وأنا مشتاق إليكم مَا هَذَا الجفاء. وقيل: أوحى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام لو يعلم المدبرون عني كَيْفَ انتظاري لَهُمْ ورفقي بِهِمْ وشوقي إِلَى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إِلَى , وانقطعت أوصالهم من محبتي , يا دَاوُد هذه إرادتي فِي المدبرين عني فكيف إرادتي فِي المقبلين إِلَى وقيل: مكتوب فِي التوراة: شوقناكم فلم تشتاقوا وخوفناكم فلم تخافوا ونحنا لكم فلم تنوحوا. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول بكى شُعَيْب حَتَّى عمي فرد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بصره عَلَيْهِ، ثُمَّ بكى حتى عمي، فرد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بصره عَلَيْهِ، ثُمَّ بكى حَتَّى عمى، فأوحى اللَّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 تَعَالَى إِلَيْهِ: إِن كَانَ هَذَا البكاء لأجل الْجَنَّة فَقَدْ أبحتها لَك وإن كَانَ لأجل النار فَقَدْ أجرتك منها. فَقَالَ: لا بَل شوقا إليك فأوحى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ لأجل ذَلِكَ أخدمتك نبيي وكليمي عشر سنين، وقيل: من اشتاق إِلَى اللَّه اشتاق إِلَيْهِ كُل شَيْء وَفِي الْخَبَر اشتاقت الْجَنَّة إِلَى ثلاثة عَلِي وعمار وسلمان. سمعت الأستاذ أبا عَلِي يَقُول: قَالَ بَعْض المشايخ أنا أدخل السوق والأشياء تشتاق إلي وأنا عَن جميعها حر، سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عُمَر الرملي، يَقُول: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر الإِمَام. قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدَّثَنَا مرحوم. قَالَ: سمعت مَالِك بْن دِينَار يَقُول: قرأت فِي التوراة: شوقنا كم فلم تشتاقوا وزمرنا لكم فلم ترقصوا. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن فرحان يَقُول: سمعت الجنيد وَقَدْ سئل من أي شَيْء يَكُون بكاء المحب إِذَا لقى المحبوب؟ . فَقَالَ: إِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ سرورا بِهِ ووجدا من شدة الشوق إِلَيْهِ ولقد أَن أخوين تعانقا. فَقَالَ: أحدهما واشوقاه. وَقَالَ الآخرة واوجداه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 بَاب حفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عَلَيْهِم قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي قصة مُوسَى مَعَ الخضر عليهما السَّلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] . قَالَ الإِمَام: لما أراد صحبة الخضر حفظ شرط الأدب فاستأذن أولا فِي الصحبة ثُمَّ شرط عيه الخضر أَن لا يعارضه فِي شَيْء ولا يعترض عَلَيْهِ فِي حكم ثُمَّ لما خالفه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام تجاوز عَنْهُ المرة الأولى وَالثَّانِيَة , فلما صار إِلَى الثالثة والثلاث آخر حد القلة وأول حد الكثرة سامه الفرقة. فَقَالَ: هَذَا فراق بيني وبينك. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْن الأَهْوَازِيُّ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَالِمٍ الْقَزَّازُ. قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ بَيَانٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الرِّجَالِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلا قَيَّضَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: بدء كُل فرقة المخالفة يَعْنِي بِهِ: أَن من خالف شيخه لَمْ يبق عَلَى طريقته وانقطعت العلقة بينهما وإن جمعتهما البقعة فمن صحب شيخا من الشيوخ ثُمَّ اعترض عَلَيْهِ بقلبه فَقَدْ نقض عهد الصحبة ووجبت عَلَيْهِ التوبة عَلَى أَن الشيوخ قَالُوا: حقوق الأستاذين لا توبة عَنْهَا. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: خرجت إِلَى مرو فِي حياة شيخي الأستاذ أَبِي سهل الصعلوكي وَكَانَ لَهُ قبل خروجي أَيَّام الجمعة بالغدوات مجلس دور الْقُرْآن والختم فوجدته عِنْدَ رجوعي قَدْ رفع ذَلِكَ المجلس وعقد لأبي الغفاني فِي ذَلِكَ الوقت مجلس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 القول فداخلني من ذَلِكَ شَيْء فكنت أقول فِي نفسي قَد استبدل مجلس الختم بمجلس القول. فَقَالَ لي يوما: يا أبا عَبْد الرَّحْمَنِ مَا يَقُول النَّاس فِي فَقُلْتُ: يقولون: رفع مجلس الْقُرْآن ووضع مجلس القول. فَقَالَ: من قَالَ لأستاذه لَمْ لا يفلح أبدا ومن المعروف أَن الجنيد. قَالَ دخلت عَلَى السرى يوما فأمرني شَيْئًا فقضيت حاجته سريعا فلما رجعت إِلَيْهِ ناولني رقعة. وَقَالَ هَذَا لمكان قضائك لحاجتي سريعا فقرأت الرقعة فَإِذَا فِيهَا مكتوب سمعت حاديا يحدو فِي البادية: أبكي وهل يدريك مَا يبكيني ابكي حذارا أَن تفارقيني وتقطعي حبلي وتهجريني ويحكى عَن أَبِي الْحَسَن الهمداني العلوي. قَالَ كنت ليلة عِنْدَ جَعْفَر الخلدي وكنت أمرت فِي بَيْتِي أَن يعلق طير فِي التنور وَكَانَ قلبي مَعَهُ. فَقَالَ لي جَعْفَر: أقم عندنا الليلة فتعللت بشيء ورجعت إِلَى منزلي فأخرج الطير من التنور ووضع بَيْنَ يدي فدخل كلب من الباب وحمل الطير عِنْدَ تغافل الحاضرين فأتى بالجوزاب الَّذِي تحته فتعلق بِهِ ذيل الخادمة فانصب فلما أصبحت دَخَلَ عَلَى جَعْفَر فحين وقع بصره عَلِي. قَالَ: من لَمْ يحفظ قلوب المشايخ سلط عَلَيْهِ كلب يؤذيه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي الطوسي يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الدينوري يَقُول: سمعت الْحَسَن الدامغاني يَقُول: سمعت عمي البسطامي يحكي عَن أَبِيهِ: أَن شقيقا البلخي , وأبا تراب النخشبي قدما عَلَى أَبِي يَزِيد فقدمت السفرة وشاب يخدم أبا يَزِيد فقالا لَهُ: كُل معنا يا فتى. فَقَالَ: أنا صائم. فَقَالَ أَبُو تراب: كُل ولك أجر صوم شَهْر فأبى. فَقَالَ: شقيق كُل ولك أجر صوم سنة فأبي. فَقَالَ أَبُو يَزِيد دعوا من سقط من عين اللَّه تَعَالَى فأخذ ذَلِكَ الشاب فِي السرقة بَعْد سنة فقطعت يده. سمعت الأستاذ أبا عَلِي يَقُول: وصف سهل بْن عَبْد اللَّهِ رجلا بالولاية خبازا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 بالبصرة فسمع رجل من أَصْحَاب سهل بْن عَبْد اللَّهِ ذَلِكَ فاشتاق إِلَيْهِ فخرج إِلَى البصرة فأتى حانوت الخباز فرآه يخبز وَقَدْ تنقب لمحاسنه عَلَى عادة الخبازين. فَقَالَ فِي نَفْسه: لو كَانَ هَذَا وليا لَمْ يحترق شعره بغير نقاب ثُمَّ إنه سلم عَلَيْهِ وسأله شَيْئًا. فَقَالَ الرجل: إنك استصغرتني فلا تنتفع بكلامي وأبي أَن يكلمه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمع عَبْد الرَّحْمَنِ الرازي أبا عُثْمَان الحيرى يصف مُحَمَّد بْن الفضل البلخي ويمدحه فاشتاق إِلَيْهِ فخرج إِلَى زيارته فلم يقع بقلبه من مُحَمَّد بْن الفضل مَا اعتقد فرجع إِلَى أَبِي عُثْمَان وسأله. فَقَالَ: كَيْفَ وجدته. فَقَالَ: لَمْ أجده كَمَا ظننت. فَقَالَ: لأنك استصغرته وَمَا استصغر أحد أحدا إلا حرم فائدته ارجع إِلَيْهِ بالحرمة فرجع إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ فانتفع بزياراته. ومن المشهور أَن عُمَر بْن عُثْمَان الْمَكِّي رأى الْحُسَيْن بْن مَنْصُور يكتب شَيْئًا. فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هُوَ ذا أعارض الْقُرْآن فدعا عَلَيْهِ وهجره. قَالَ الشيوخ: إِن مَا حل بِهِ بَعْد طول المدة كَانَ لدعاء ذَلِكَ الشيخ عَلَيْهِ. سمعت الأستاذ أبا عَلِيّ الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول لما نفى أهل بلخ مُحَمَّد بْن الفضل من البلد دعا عَلَيْهِم. وَقَالَ اللَّهُمَّ امنعهم الصدق فلم يخرج من بلخ بعده صديق. سمعت أَحْمَد بْن يَحْيَي الأبيوردي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: من رضى عَنْهُ شيخه لا يكافأ فِي حال حياته لئلا يزول عَن قلبه تعظيم ذَلِكَ الشيخ فَإِذَا مَات الشيخ أظهر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مَا هُوَ جزاء رضاه ومن تغير عَلَيْهِ قلب شيخه لا يكافأ فِي حال حياة ذَلِكَ الشيخ لئلا يرق لَهُ فإنهم مجبولون عَلَى الكرم فَإِذَا مَات ذَلِكَ الشيخ فحينئذ يجد المكافأة بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 بَاب فِي السماع قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17-18] اللام للام فِي قَوْله: {الْقَوْلَ} [الزمر: 18] تقتضي التعميم والاستغراق والدليل عَلَيْهِ أَنَّهُ مدحهم باتباع الأحسن. وَقَالَ تَعَالَى: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] جاء فِي التفسير أَنَّهُ السماع. واعلم أَن سماع الأشعار بالألحان الطيبة , والنغم المستلذة , إِذَا لَمْ يعتقد المستمع محظورا وَلَمْ يسمع عَلَى مذموم فِي الشرع وَلَمْ ينجر فِي زمام هواه وَلَمْ ينخرط فِي سلك لهوه مباح فِي الجملة ولا خلاف أَن الأشعار أنشدت بَيْنَ يدي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه سمعها وَلَمْ ينكر عَلَيْهِم فِي إنشادها فَإِذَا جاز استماعها بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان هَذَا ظاهر من الأمر ثُمَّ مَا يوجب للمستمع توفر الرغبة عَلَى الطاعات وتذكر مَا أعد اللَّه تَعَالَى لعباده المتقين من الدرجات ويحمله عَلَى التحرز من الزلات ويؤدي إِلَى قلبه فِي الحال صفاء الواردات مستحب فِي الدين ومختار فِي الشرع وَقَدْ جرى عَلَى لفظ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ قريب من الشعر وإن لَمْ يقصد أَن يَكُون شعرا. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ. قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ. قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ , عَنْ حُمَيْدٍ. قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَتِ الأَنْصَارُ يَحْفُرُونَ الْخَنْدَقَ فَجَعَلُوا، يَقُولُونَ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 فَأَجَابَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشَ الآخِرَةِ فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ. لَيْسَ هَذَا اللفظ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وزن شعر لكنه قريب منه وَقَدْ سمع السف والأكابر الأبيات بالألحان فممن قَالَ بإباحته من السلف مَالِك بْن أَنَس وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء وَأَمَّا الحداء فإجماع مِنْهُم على إجازته وَقَدْ وردت الأخبار واستفاضت الآثار فِي ذَلِكَ وَرَوَى عَنِ ابْن جريج أَنَّهُ كَانَ يرخص فِي السماع فقيل لَهُ: إِذَا أتى بك يَوْم الْقِيَامَة ويؤتى بحسناتك وسيئاتك ففي أي الجانبين سماعك. فَقَالَ: لا فِي الحسنات ولا فِي السيئات يَعْنِي أَنَّهُ من المباحات. وَأَمَّا الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ لا يحرمه ويجعله فِي العوام مكروها حَتَّى لو احترف بالغناء أَوِ اتصف عَلَى الدوام بسماعه عَلَى وجه التلهي ترد بِهِ الشهادة ويجعله مِمَّا يسقط المروءة ولا يلحقه بالمحرمات وليس كلامنا فِي هَذَا النوع من السماع فَإِن هذه الطائفة جلت رتبتهم عَن أَن يستمعوا بلهو أَوْ يقعدوا للسماع بسهو أَوْ يكونوا بقلوبهم مفكرين فِي مضمون لغو , أَوْ يستمعون عَلَى صفة غَيْر كفء , وَقَدْ رَوَى عَنِ ابْن عُمَر آثار فِي إباحة السماع , وَكَذَلِكَ عَن عَبْد اللَّهِ ابْن جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب وَكَذَلِكَ عَن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أجمعين وَكَذَلِكَ فِي الحداء وغيره وأنشد بَيْنَ يدي النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأشعار فلم ينه عَنْهَا وَرَوَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استنشد الأشعار ومن المشهور الظاهر أَنَّهُ دَخَلَ بَيْت عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وفيه جاريتان حَدَّثَنَا تغنيان , فلم ينههما. أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ , قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُبَابُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّسْتُرِيُّ , قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الأَشْعَثِ , قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْمُرْسَانِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ , عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَعِيدُنَا هَذَا الْيَوْمَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ الضَّبِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ , عَنِ الأَجْلَحِ , عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ , عَنْ جَابِرٍ , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا أَنْكَحَتْ ذَاتَ قَرَابَتِهَا مِنَ الأَنْصَارِ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: أَهْدَيْتُمُ الْفَتَاةَ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ. قَالَ: فَأَرْسَلْتِ مَنْ يُغَنِّي؟ قَالَتْ: لا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الأَنْصَارَ فِيهِمْ غَزَلٌ فَلَوْ أَرْسَلْتُمْ مَنْ يَقُولُ: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ فَحَيُّونَا وَحَيَّاكُمْ أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ فَوْرَكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ خَرْزَاذَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدٍ , عَنْ صَدَقَةَ بِنْتِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَتْ: حَدَّثَنَا عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ , عَنْ زَاذَانَ , عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يُؤَيِّدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا. دل هَذَا الْخَبَر عَلَى فضيلة الصوت الْحَسَن وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ الضَّبِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَبِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ , عَنْ قَتَادَةَ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكُلِّ شَيْءٍ حِيلَةٌ وَحِيلَةُ الْقُرْآنِ الصَّوْتُ الْحَسَنُ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْد. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكَرِيمِيُّ. قَالَ: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَبُو عَاصِمٍ. قَالَ حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْبَجَلِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ: صَوْتُ وَيْلٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، وَصَوْتُ مِزْمَارٍ عِنْدَ نَغَمَةٍ مفهوم الْخَطَّاب يقتضي إباحة غَيْر هَذَا فِي غَيْر هذه الأحوال وإلا بطل التخصيص والأخبار فِي هَذَا الباب تكثر والزيادة عَلَى هَذَا القدر من ذكر الروايات تخرجنا عَنِ المقصود من الاختصار، وَقَدْ رَوَى أَن رجلا أنشد بَيْنَ يدي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أقبلت فلاح لَهَا ... عارضان كالسيج أدبرت فَقُلْتُ لَهَا ... والفؤاد فِي وهج هل عَلَى ويحكما ... إِن عشقت من حرج فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا وإن حسن الصوت مِمَّا أنعم اللَّه تَعَالَى بِهِ عَلَى صاحبه من النَّاس، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] قيل فِي التفسير: من ذَلِكَ الصوت الْحَسَن وذم اللَّه سبحانه الصوت الفظيع. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] واستلذاذ القلوب واشتياقها إِلَى الأصوات الطيبة واسترواحها إِلَيْهَا مِمَّا لا يمكن جحوده , فَإِن الطَّفْل يسكن إِلَى الصوت الطيب , والجمل يقاسي تعب السير ومشقة الحمولة فيهون عَلَيْهِ بالحداء. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] وحكى إِسْمَاعِيل بْن علية. قَالَ: كنت أمشي مَعَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وقت الهاجرة فجزنا بموضع يَقُول فِيهِ أحد شَيْئًا، فَقَالَ: مل بنا إِلَيْهِ، ثُمَّ. قَالَ: أيطربك هَذَا؟ فَقُلْتُ: لا، فَقَالَ: مَالِك حسن، وَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أذن اللَّه تَعَالَى لشيء كإذنه لبني يتغنى بالقرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن مَلْحَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ , عَنْ عَقِيلٍ , عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ تَعَالَى لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» . وقيل: إِن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يستمع لقراءته الجن والإنس والطير والوحش إِذَا قرأ الزبور، وَكَانَ يحمل من مجلسه أربع مائة جنازة مِمَّن قَدْ مَات مِمَّن سمعوا قراءته. وَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي مُوسَى الأشعري: لَقَدْ أعطي مزمارا من مزامير آل دَاوُد. وَقَالَ معاذ لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو علمت أنك تسمع لحبرته لَك تحبيرا أَخْبَرَنَا أَبُو حاتم السجستاني. قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن عَلِي البراج. قَالَ: حكى أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن دَاوُد الدينوري الرقى. قَالَ: كنت فِي البادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب وأضافني رجل مِنْهُم فرأيت غلاما أسود مقيدا هناك ورأيت جمالا قَدْ ماتت بفناء الْبَيْت. فَقَالَ لي الغلام: أَنْتَ الليلة ضيف وأنت عَلَى مولاي كريم فتشفع لي فَإِنَّهُ لا يردك، فَقُلْتُ: لصاحب الْبَيْت: لا آكل طعامك حَتَّى تحل هَذَا العبد. فَقَالَ هَذَا الغلام: قَدْ أفقرني وأتلف مالي، فَقُلْتُ: فَمَا فعل؟ فَقَالَ لَهُ صوت طيب وكنت أعيش من ظهر هذه الجمال فحملها أحمالا ثقيلة وحدا لَهَا حَتَّى قطعت مسيرة ثلاثة أَيَّام فِي يَوْم واحد، فلما حط عَنْهَا ماتت كلها ولكن قَدْ وهبته لَك وحل عَنْهُ القيد، فلما أصبحنا أحببت أَن أسمع صوته فسألته ذَلِكَ فأمر الغلام أَن يحدو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 عَلَى جمل كَانَ عَلَى بئر هناك يستقى عَلَيْهِ، فحد الغلام فهام الجمل عَلَى وجه وقطع حباله وَلَمْ أظن أني سمعت صوتا أطيب منه، فوقعت لوجهي حَتَّى أشار إِلَيْهِ بالسكوت. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمى يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الْعَزِيز يَقُول: سمعت أبا عُمَر الأنماطي يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول وَقَدْ سئل: مَا بال الإِنْسَان يَكُون هادئا فَإِذَا سمع السماع اضطرب؟ فَقَالَ: إِن اللَّه تَعَالَى لما خاطب الذر فِي الميثاق الأَوَّل بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] استفرغت عذوبة سماع الْكَلام الأرواح، فلما سمعوا السماع حركهم ذكر ذَلِكَ. سمعت الأستاذ ابا الدقاق , يَقُول: السماع حرام عَلَى العوام لبقاء نفوسهم مباح للزهاد لحصول مجاهداتهم مستحب لأَصْحَابنا لحياة قلوبهم. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر الصوفي يَقُول: سمعت الوجيهي يَقُول: سمعت أبا عَلِي الروذباري يَقُول: كَانَ الْحَارِث بْن أسد المحاسبي يَقُول: ثَلاث إِذَا وجدن متع بهن وَقَدْ فقدناها: حسن الوجه مَعَ الصيانة، وحسن الصوت مَعَ الديانة، وحسن الإخاء مَعَ الوفاء. وسئل ذو النون الْمِصْرِي عَنِ الصوت الْحَسَن. فَقَالَ: مخاطبات وإشارات أودعها اللَّه تَعَالَى كُل طيب وطيبة. وسئل مرة أُخْرَى عَنِ السماع. فَقَالَ: وارد حَتَّى يزعج القلوب إِلَى الحق، فمن أصغى إِلَيْهِ بحق تحقق، ومن أصغى إِلَيْهِ بنفس تزندق. وحكى جَعْفَر بْن نصير عَنِ الجنيد أَنَّهُ قَالَ: تنزل الرحمة عَلَى الفقراء فِي ثلاثة مواطن: عِنْدَ السماع، فإنهم لا يَسْمَعُونَ إلا عَن حق ولا يقولون إلا عَن وجد، وعند أكل الطعام، فإنهم لا يأكلون إلا عَن فاقة , وعند مجاراة العلم , فإنهم لا يذكرون إلا صفة الأولياء. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد بْن جَعْفَر يَقُول: سمعت أبا بَكْر بْن ممشاد الدينوري يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: السماع فتنة لمن طلبه ترويح لمن صادفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 وحكى عَنِ الجنيد أَنَّهُ قَالَ: السماع يحتاج إِلَى ثلاثة أشياء: الزَّمَان والمكان والإخوان. وسئل الشبلي عَنِ السماع. فَقَالَ: ظاهره فتنة وباطنه عبرة، فن عرف الإشارة حل لَهُ استماع العبرة، وإلا فَقَد استدعى الْفِتْنَة وتعرض للبلية. وقيل: لا يصلح السماع إلا لمن كانت لَهُ نفس ميتة وقلب حي فنفسه ذبحت بسيوف المجاهدة وقلبه حي بنور الموافقة. وسئل أَبُو يعقوب النهرجوري عَنِ السماع فَقَالَ: حال يبدي الرجوع إِلَى الأسرار من حيث الاختراق. وقيل: السماع لطف عِنْدَ الأرواح لأهل المعرفة سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: السماع طبع إلا عَن شرع وخرق إلا عَن حق وفتنة إلا عَن عبرة، ويقال: السماع عَلَى قسمين: سماع بشرط العلم والصحو فمن شرط صاحبه معرفة الأسامي والصفات وإلا وقع فِي الكفر المحض، وسماع بشرط الحال فمن شرط صاحبه الفناء عَن أحوال البشرية والتنقي من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة، وحكى عَن أَحْمَد بْن أَبِي الحوري أَنَّهُ قَالَ: سألت أبا سُلَيْمَان عَنِ السماع. فَقَالَ: من اثنين أحب إلي من الْوَاحِد، وسئل أَبُو الْحَسَنِ النوري عَنِ الصوفي فَقَالَ: من سمع السماع وآثر الأسباب. وسئل أَبُو عَلِي الروذباري عَنِ السماع يوما. فَقَالَ: ليتنا تخلصنا منه رأسا برأس. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول: سمعت من ادعى السماع وَلَمْ يسمع صوت الطيور وصرير الباب وتصفيق الرياح فَهُوَ فَقِير مدع. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يَقُول: سمعت أبا الطيب أَحْمَد بْن مقاتل العكي يَقُول: قَالَ جَعْفَر: كَانَ ابْن زيري من أَصْحَاب الجنيد شيخا فاضلا فربما كَانَ يحضر موضع سماع فَإِن استطابه فرش إزاره وجلس، وَقَالَ الصوفي: مَعَ قلبه وإن لَمْ يستطبه، قَالَ، السماع لأرباب القلوب ومر وأخذ نعله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن بَكْر يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد المجيد الصوفي يَقُول: سئل رويم عَن وجود الصوفية عِنْدَ السماع. فَقَالَ: يشهدون المعاني الَّتِي تعزب عَن غيرهم فتشير إليهم إِلَى إلي فيتنعمون بِذَلِكَ من الفرح ثُمَّ يقطع الحجاب فيعود ذَلِكَ الفرح بكاء فمنهم من يخرق ثيابه وَمِنْهُم من يصيح وَمِنْهُم من يبكي كُل إِنْسَان عَلَى قدره سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد التميمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي يَقُول: سمعت الحصري يَقُول فِي بَعْض كلامه: إيش أعمل بسماع ينقطع إِذَا انقطع من يسمع منه ينبغي أَن يَكُون سماعك متصلا غَيْر منقطع قَالَ: وَقَالَ الحصري: ينبغي أَن يَكُون ظمأ دائم وشرب دائم فكلما ازداد شربه ازداد ظمؤه. وجاء عَن مجاهد فِي تفسير قَوْله تَعَالَى: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] أَنَّهُ السماع من الحور العين بأصوات شهية نحن الخالدات فلا نموت أبدا، نحن الناعمات فلا نبؤس أبدا. وقيل: السماع نداء والوجد قصد سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا عُثْمَان المغربي يَقُول: قلوب أهل الحق قلوب حاضرة وأسماعهم أسماع مفتوحة. وسمعته يَقُول: سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي يَقُول: المستمع بَيْنَ استتار وتجل، فالاستتار يوجب التلهيب والتجلي يورث الترويح , والاستتار يتولد منه حركات المريدين , وَهُوَ محل الضعف والعجز والتجلي يتولد منه سكون الواصلين وَهُوَ محل الاستقامة والتمكين , وَذَلِكَ صفة الحضرة وليس فِيهَا إلا الذبول تَحْتَ موارد الهيبة. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف: 29] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الحيري: السماع عَلَى ثلاثة أوجه: فوجه منها للمريدين، والمبتدئين يستدعون بِذَلِكَ الأحوال الشريفة وتخشى عَلَيْهِم فِي ذَلِكَ الْفِتْنَة والمرآت، وَالثَّانِي للصادقين يطلبون الزيادة فِي أحوالهم ويستمعون من ذَلِكَ مَا يوافق أوقاتهم، والثالث لأهل الاستقامة من العارفين فهؤلاء لا يختارون عَلَى اللَّه تَعَالَى فيما يرد عَلَى قلوبهم من الحركة والسكون. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: سمعت أبا الفرج الشيرازي يَقُول: سمعت أبا عَلِي الروذباري يَقُول: قَالَ أَبُو سَعِيد الخراز: من ادعى أَنَّهُ مغلوب عِنْدَ الفهم يعنى فِي السماع وأن الحركات مالكة فعلامته تحسين المجلس الَّذِي هُوَ فِيهِ بوجده، قَالَ الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: فذكرت هذه الحكاية لأبي عُثْمَان المغربي فَقَالَ: أدناه وعلامته الصحيحة أَن لا يبقى فِي المجلس محقق إلا أَنَس بِهِ ولا يبقى فِيهِ مبطل إلا استوحش منه، وَقَالَ بندار بْن الْحُسَيْن: السماع عَلَى ثلاثة أوجه: مِنْهُم من يسمع بالطبع، وَمِنْهُم من يسمع بالحال، وَمِنْهُم من يسمع بالحق، فالذي يسمع بالطبع يشترك فِيهِ الخاص والعام، فَإِن جبلة البشرية استلذاذ الصوت الطيب، والذي يسمع بالحال فَهُوَ يتأمل مَا يرد عَلَيْهِ من ذكر عتاب أَوْ خطاب , أَوْ وصل , أَوْ هجر , أَوْ قرب , أَوْ بَعْد , أَوْ تأسف عَلَى فائت , أَن تعطش إِلَى آت , أَوْ وفاء بعهد , أَوْ تصديق لوعد , أَوْ نقض لعهد , أَوْ ذكر قلق , أَوِ اشتياق , أَوْ خوف فراق , أَوْ فرح وصال , أَوْ حذر انفصال , أَوْ مَا جرى مجراه. وَأَمَّا من يسمع بحق فيسمع بالله تَعَالَى , وَلِلَّهِ ولا يتصف بِهَذِهِ الأحوال الَّتِي هِيَ ممزوجة بالحظوظ البشرية فإنها مبقاة مَعَ العلل، فيسمعون من حيث صفاء التوحيد بحق لا بحظ. وقيل: أهل السماع عَلَى ثَلاث طبقات: أبناء الحقائق يَرْجِعُونَ فِي سماعهم إِلَى مخاطبة الحق سبحانه لَهُمْ، وضرب يخاطبون اللَّه تَعَالَى بقلوبهم بمعاني مَا يَسْمَعُونَ، فَهُمْ مطالبون بالصدق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 فيما يشيرون بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وثالث هُوَ فَقِير مجرد قطع العلاقات من الدنيا والآفات يَسْمَعُونَ بطيبة قلوبهم وَهَؤُلاءِ أقربهم إِلَى السلامة. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا عَلِي الروذباري يَقُول: وَقَدْ سئل عَنِ السماع. فَقَالَ: مكاشفة الأسرار إِلَى مشاهدة المحبوب، وَقَالَ الخواص: وَقَدْ سئل مَا بال الإِنْسَان يتحرك عِنْدَ سماع غَيْر الْقُرْآن ولا يجد ذَلِكَ فِي سماع الْقُرْآن؟ . فَقَالَ: لأن سماع الْقُرْآن صدمة لا يمكن لأحد أَن يتحرك فِيهِ لشدة غلبته وسماع القول ترويح فيتحرك فِيهِ. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الرازي يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: إذ رأيت المريد يحب السماع فاعلم أَن فِيهِ بقية من البطالة. وسمعته يَقُول: سمعت عَلِي بْن عَبْد اللَّهِ البغدادي يَقُول: سمعت أبا سَعِيد الرملي يَقُول: قَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: السماع علم استأثر اللَّه تَعَالَى بِهِ لا يعلمه إلا هُوَ. وحكى أَحْمَد بْن مقاتل العكي. قَالَ: لما دَخَلَ ذو النون الْمِصْرِي بغداد اجتمع إِلَيْهِ الصوفية ومعهم قوال فاستأذنوه أَن يَقُول بَيْنَ يديه شَيْئًا فأذن فابتداء يَقُول: صغير هواك عذبني فكيف بِهِ إِذَا احتنكا وأنت جمعت من قلبي هوى قَدْ كَانَ مشتركا أما ترثي لمكتئب إِذَا ضحك الخلى بكى قَالَ: فقام ذو النون وسقط عَلَى وجهه والدم يقطر من جبينه ولا يسقط عَلَى الأَرْض، ثُمَّ قام رجل من الْقَوْم يتواجد. فَقَالَ لَهُ ذو النون: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 218] فجلس الرجل. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول فِي هذه الحكاية: كَانَ ذو النون صاحب إشراف عَلَى ذَلِكَ الرجل حيث نهبه أَن ذَلِكَ لَيْسَ مقامه وَكَانَ ذَلِكَ الرجل صاحب إنصاف حيث قبل ذَلِكَ منه فرجع وقعد. سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد التميمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي الصوفي يَقُول: سعت الرقي يَقُول: سمعت ابْن الجلاء يَقُول: كَانَ بالمغرب شيخان لهما أصحاب وتلامذة يقال لأحدهما: جبلة وللثاني: رزيق فزار رزيق يوما جبلة فِي أَصْحَابه فقرأ رجل من أَصْحَاب رزيق شَيْئًا , فصاح واحد من أَصْحَاب جبلة وَمَاتَ , فلما أصبحوا. قَالَ جبلة لرزيق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 أين الَّذِي قرأ بالأمس؟ فليقرأ , فقرأ آية فصاح جبلة صيحة فمات القارئ. فَقَالَ جبلة: واحد بواحد والبادي أظلم. وسئل إِبْرَاهِيم المارستاني عَنِ الحركة عِنْدَ السماع؟ فَقَالَ: بلغني أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام قص فِي بَنِي إسرائيل فمزق واحد مِنْهُم قميصه فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ قل لَهُ: مزق لي قلبك ولا تمزق ثيابك. وسأل أَبُو عَلِي المغازلي الشبلي. فَقَالَ: رُبَّمَا يطرق سمعي آية من كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فتجدوني عَلَى ترك الأشياء والإعراض عَنِ الدنيا، ثُمَّ أرجع إِلَى أحوالي وإلى النَّاس، فَقَالَ الشبلي: مَا اجتذبك إِلَيْهِ فَهُوَ عطف منه عليك ولطف، وَمَا رددت إِلَى نفسك فَهُوَ شفقة منه عليك، لأنه لَمْ يصح لَك التبري من الحول والقوة فِي التوجه إِلَيْهِ. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مقاتل العكي يَقُول: كنت مَعَ الشبلي فِي مَسْجِد ليلة من شَهْر رمضان وَهُوَ يصلي خلف إمام لَهُ وأنا بجنبه فقرأ الإِمَام: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] فزعق زعقة قُلْت: طارت روحه وَهُوَ يرتعد وَيَقُول: بمثل هَذَا يخاطب الأحباب يردد ذَلِكَ كثيرا. وحكى عَنِ الجنيد أَنَّهُ قَالَ: دخلت عَلَى السرى يوما فرأيته عنده رجلا مغشيا عَلَيْهِ فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟ فَقَالَ: سمع آية من كتاب اللَّه تَعَالَى، فَقُلْتُ: تقرأ عَلَيْهِ ثانيا فقرأ فأفاق، فَقَالَ لي: من أين علمت هَذَا؟ فَقُلْتُ: إِن قميص يُوسُف ذهب بسببه عين يعقوب عليهما السَّلام ثُمَّ بِهِ عاد بصره فاستحسن مني ذَلِكَ. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن علوان يَقُول: كَانَ شاب يصحب الجنيد فكان إِذَا سمع شَيْئًا من الذكر يزعق، فَقَالَ: لَهُ الجنيد يوما: إِن فعلت ذاك مرة أُخْرَى لَمْ تصحبني فكان إِذَا سمع شَيْئًا يتغير ويضبط نَفْسه حَتَّى كَانَ يقطر كُل شعرة من بدنه بقطرة، فيوما من الأيام صاح صيحة تلفت نَفْسه. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: حكى لي بَعْض إخواني عَن أَبِي الْحُسَيْن الدراج. قَالَ: قصدت يُوسُف بْن الْحُسَيْن الرازي من بغداد فلما دخلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 الري سألت عَن منزله فَكُل من أسأل منه يَقُول لي: إيش تفعل بِذَلِكَ الزنديق؟ فضيقوا صدري حَتَّى عزمت عَلَى الانصراف فبت تلك الليلة فِي مسجد ثُمَّ قُلْت جئت هذه البلدة فلا أقل من زيارته فلم أزل أسأل عَنْهُ حَتَّى دفعت إِلَى مسجده وَهُوَ قاعد فِي المحراب وبين يديه رجل وعليه مصحف فِيهِ يقرأ وإذا هُوَ شيخ بهي حسن الوجه واللحية، فدنوت منه وسلمت عَلَيْهِ فرد السَّلام، وَقَالَ: من أين؟ فَقُلْتُ: من بغداد قصدت زيارة الشيخ. فَقَالَ: لو أَن فِي بَعْض البلدان. قَالَ: لَك إِنْسَان أقم عندي حَتَّى أشتري لَك دارا أَوْ جارية أكان يمنعك عَن زيارتي؟ فَقُلْتُ: يا سيدي مَا امتحنني اللَّه تَعَالَى بشيء من ذَلِكَ ولو كَانَ لا أدري كَيْفَ كنت أكون، فَقَالَ: تحسن أَن تقول شَيْئًا فَقُلْتُ: نعم وقلت: رأيتك تبني دائبا فِي قطيعتي ... ولو كنت ذا حزم لهدمت مَا تبني فأطبق المصحف وَلَمْ يزل يبكي حَتَّى ابتلت لحيته وثوبه حَتَّى رحمته من كثرة بكائه ثُمَّ قَالَ لي: يا بَنِي لا تلم أهل الري عَلَى قولهم يُوسُف بْن الْحُسَيْن زنديق ومن وقت الصلاة هُوَ ذا أقرأ الْقُرْآن فلم تقطر من عيني قطرة وَقَدْ قامت عَلَى الْقِيَامَة بِهَذَا الْبَيْت. سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الصوفي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ الطوسي يَقُول: سمعت الرقي يَقُول: سمعت الدراج يَقُول: كنت أنا وابن القوطي مارين عَلَى الدجلة بَيْنَ البصرة والأبلة وإذا نحن بقصر حسن لَهُ منظر وعليه رجل وبين يديه جارية تغني وتقول: فِي سبيل اللَّه ود كَانَ مني لَك يبذل كُل يَوْم تتلون غَيْر هَذَا بك أجمل وإذا شاب تَحْتَ المنظرة بيده ركوة وعليه مرقعة بسمع. فَقَالَ: يا جارية بحياة مولاك أعيدي: كُل يَوْم تتلون غَيْر هَذَا بك أجمل فَقَالَ الشاب: قولي فأعادت، فَقَالَ: الفقير هَذَا والله تلوني مَعَ الحق وشهق شهقة خرجت روحه. فَقَالَ صاحب القصر للجارية: أَنْتَ حرة لوجه اللَّه تَعَالَى، وخرج أهل البصرة وفرغوا من دفنه والصلاة عَلَيْهِ فقام صاحب القصر. وَقَالَ: أليس تعرفوني؟ أشهدكم أَن كُل شَيْء لي فِي سبيل اللَّه وكل مماليكي أحرار ثُمَّ أتزر بإزار وارتدى برداء وتصدق بالقصر ومر فلم يرد لَهُ بَعْد ذَلِكَ وجه ولا سمع لَهُ أثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الصوفي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي الطوسي يَقُول: سمعت يَحْيَي بْن الرضا العلوي. قَالَ: سمع أَبُو سلمان الدمشقي طوافا ينادي: يا سعتر برى فسقط مغشيا عَلَيْهِ فلما أفاق سئل. فَقَالَ: حسبته يَقُول: اسع تر برى: وسمع عتبة الغلام رجلا يَقُول: سبحان رب السماء إِن المحب لفي عناء، فَقَالَ عتبة: صدقت. وسمع رجل آخر ذَلِكَ القول. فَقَالَ: كذبت فَكُل واحد سمع من حيث هُوَ. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن عَلِي بْن مُحَمَّد الصوفي يَقُول: سمعت رويما وَقَدْ سئل عَنِ المشايخ الَّذِينَ لقيهم فِي السماع. فَقَالَ: كالقطيع إِذَا وقع فِيهِ الذئب. وحكى عَن أَبِي سَعِيد الخراز قَالَ: رأيت عَلِي بْن الموفق فِي السماع يَقُول: أقيموني فأقاموه فقام وتواجد ثُمَّ قَالَ: أنا الشيخ الزفان، وقيل: قام الرقي ليلة إِلَى الصباح يقوم ويسقط عَلَى هَذَا الْبَيْت والناس قيام يبكون والبيت: بالله فاردد فؤاد مكتئب ... لَيْسَ لَهُ من حبيبه خلف سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد التميمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ الصوفي يَقُول: سمعت عَلِي بْن الْحُسَيْن بْن حمد بْن أَحْمَد بالبصرة يَقُول: سمعت أَبِي يَقُول: خدمت سهل بْن عَبْد اللَّهِ سنين كثيرة فَمَا رأيته تغير عِنْدَ سماع شَيْء كَانَ يسمعه من الذكر وَالْقُرْآن وغيره، فلما كَانَ فِي آخر عمره قرئ ببين يديه {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] رأيته تغير وارتعد وكاد يسقط، فلما رجع إِلَى حال صحوه سألته عَن ذَلِكَ. فَقَالَ: يا حبيبي ضعفنا. وحكى ابْن سالم. قَالَ: رأيته مرة أُخْرَى قرئ بَيْنَ يدينه {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 فتغير وكاد يسقط , فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ. : ضعفت وَهَذَهِ صفة الأكابر لا يرد عَلَيْهِ وارد وإن كَانَ قويا إلا وَهُوَ أقوى منه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: دخلت عَلَى أَبِي عُثْمَان المغربي وواحد يستقى الماء من البئر عَلَى بكرة، فَقَالَ: يا أبا عَبْد الرَّحْمَنِ أتدري إيش تقول البكرة؟ فَقُلْتُ: لا، فَقَالَ: تقول: اللَّه اللَّه. سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ طَاهِرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رُوَيْمًا يَقُولُ: رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ نَاقُوسٍ. فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: «أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ هَذَا؟» قَالُوا: لا، قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ حَقًّا حَقًّا إِنَّ الْمَوْلَى حَمْدٌ يَبْقَى سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد التميمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَلِي الكرخي الوجيهي يَقُول: كَانَ جَمَاعَة من الصوفية مستجمعين فِي بَيْت الْحَسَن القزاز ومعهم قوالون يقولون ويتواجدون فأشرف عَلَيْهِم ممشاد الدينوري فسكتوا. فَقَالَ: ارجعوا إِلَى مَا كنتم فِيهِ فلو جمع ملاهي الدنيا فِي أذني مَا شغل همي ولا شفي بَعْض مَا بي، وبهذا الإسناد عَنِ الوجيهي. قَالَ: سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول: بلغنا فِي هَذَا الأمر إِلَى مكان مثل حد السَيْف إِن ملنا كَذَا ففي النار. وَقَالَ خير النساج: قص مُوسَى بْن عمران صلوات اللَّه عَلَيْهِ عَلَى قوم قصة فزعق واحد مِنْهُم فانتهره مُوسَى فأوحى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: يا مُوسَى بطيبي فاحوا وبحبي باحوا وبوجدي صاحوا فلم تنكر عَلَى عبادي؟ وقيل: سمع الشبلي قائلا يَقُول: الخيار عشرة بدانق، فصاح. وَقَالَ: إِذَا كَانَ الخيار عشرة بدانق فكيف الشرار وقيل: إِذَا تغنت الحوار العين فِي الْجَنَّة ترددت الأشجار. وقيل: كَانَ عون بْن عَبْد اللَّهِ يأمر جارية لَهُ حسنة الصوت فتغني بصوت حزين حَتَّى تبكي الْقَوْم. وسئل أَبُو سُلَيْمَان الداراني عَنِ السماع. فَقَالَ: كُل قلب يريد الصوت الْحَسَن فَهُوَ ضعيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 يداوى كَمَا يداوى الصَّبِي إِذَا أريد أَن ينام، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: إِن الصوت الْحَسَن لا يدخل فِي القلب شَيْئًا إِنَّمَا يحرك من القلب مَا فِيهِ. قَالَ ابْن أَبِي الحواري: صدق اللَّه وأبوه سُلَيْمَان: وَقَالَ الجريري: كونوا ربانيين أي سماعين من اللَّه قائلين بالله تَعَالَى. وسئل بَعْضهم عَنِ السماع. فَقَالَ: بروق تلمع ثُمَّ تخفى، وأنوار تبدو ثُمَّ تخفي مَا أحلاها لو بقيت مَعَ صاحبها طرفة عين ثُمَّ أنشأ يَقُول: خطرة فِي السر منه خطرت خطرة البرق ابتدي ثُمَّ اضمحل أي زور لَك لو قصدا سرى ومسلم بك لو حقا فعل وقيل السماع فِيهِ نصيب لكل عضو فَمَا يقع إِلَى العين تبكي وَمَا يقع إِلَى اللسان يصيح، وَمَا يقع عَلَى اليد تمزق الثياب وتلطم، وَمَا يقع إِلَى الرجل ترقص. وقيل: مَات بَعْض ملوك العجم وخلف ابنا صغيرا فأردوا أَن يبايعوه فَقَالُوا: كَيْفَ نصل إِلَى عقله وذكائه ثُمَّ توافقوا عَلَى أَن يأتوا بقوال يَقُول شَيْئًا فَإِن أَحْسَن الإصغاء علموا كياسته فأتوا بقوال , فلما قَالَ القوال شَيْئًا ضحك الرضيع فقبلوا الأَرْض بَيْنَ يديه وبايعوه. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: اجتمع أَبُو عَمْرو بْن نجيد والنصراباذي والطبقة فِي موضع، فَقَالَ النصراباذي: أنا أقول: إِذَا اجتمع الْقَوْم فواحد يَقُول شَيْئًا ويسكت الباقون خير من أَن يغتابوا أحدا. فَقَالَ أَبُو عَمْرو: لأن تغتاب ثلاثين سنة أنجى لَك من أَن تظهر فِي السماع مَا لست بِهِ. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول: النَّاس فِي السماع ثلاثة: متسمع ومستمع وسامع، فالمتسمع يسمع بوقت، والمستمع يسمع بحال، والسامع يسمع بالحق. وسألت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى غَيْر مرة شبه طلب رخصة فِي السماع وَكَانَ يحيلني عَلَى مَا يوجب الإمساك عَنْهُ ثُمَّ بَعْد طول المعاودة. قَالَ: إِن المشايخ قَالُوا مَا جمع قلبك إِلَى اللَّه سبحانه وتعالى فلا بأس بِهِ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الأَهْوَازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ يَعْلَى الرَّازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ بَدْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَرُونُ أَبُو حَمْزَةَ , عَنِ الْعَذَافِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ أَوْحَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنِّي جَعَلْتُ فِيكَ عَشَرَةَ آلافِ سَمْعٍ حَتَّى سَمِعْتَ كَلامِي، وَعَشَرَةَ آلافِ لِسَانٍ حَتَّى أَجَبْتَنِي، وَأَحَبُّ مَا تَكُونُ إِلَيَّ وَأَقْرَبَهُ إِذَا أَكْثَرْتَ الصَّلاةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل: رأى بَعْضهم النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام. فَقَالَ: الغلط فِي هَذَا أَكْثَر، يَعْنِي: بِهِ السماع. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن شاذان يَقُول: سمعت أبا بَكْر النهاوندي يَقُول: سمعت عليا السائح يَقُول: سمعت أبا الْحَارِث الأولاسي يَقُول: رأيت إبليس لعنه اللَّه فِي المنام عَلَى بَعْض سطوح أولاس وأنا عَلَى سطح وعلى يمينه جَمَاعَة وعلى يساره جَمَاعَة وعليهم ثياب نظاف، فَقَالَ لطائفة مِنْهُم: قولوا فَقَالُوا: وغنوا فاستفزعني طيبة حَتَّى هممت أَن أطرح نفسي من السطح ثُمَّ قَالَ: ارقصوا فرقصوا أطيب مَا يَكُون ثُمَّ قَالَ لي: يا أبا الحاث مَا أصبت شَيْئًا أدخل بِهِ عليكم إلا هَذَا. سمع مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي يَقُول: اجتمعت ليلة مَعَ الشبلي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ: القوال شَيْئًا فصاح الشبلي وتواجد قاعدا، فقيل لَهُ: يا أبا بَكْر مَالِك من بَيْنَ الْجَمَاعَة قاعدا فقام وتواجد. وَقَالَ: لي سكرتان وللندمان واحدة شَيْء خصصت بِهِ من بينهم وحدي وسمعته يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا عَلِي الروذباري يَقُول: جزت بقصر فرأيت شابا حسن الوجه مطروحا وحوله ناس، فسألت عَنْهُ فَقَالُوا: إنه جاز بِهَذَا القصر وفيه جارية تغني: كبرت همة عَبْد طمعت فِي أَن تراكا أَوْ مَا حسب لعين أَن ترى من قَدْ رآكا فشهق شهقة وَمَاتَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 بَاب كرامات الأولياء قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم: ظهور الكرامات عَلَى الأولياء جائز والدليل عَلَى جوازه أَنَّهُ أمر موهوم حدوثه فِي العقل لا يؤدي حصوله إِلَى رفع أصل من الأصول فواجب وصفه سبحانه بالقدرة عَلَى إيجاده وإذا وجب كونه مقدورا لِلَّهِ سبحانه فلا شَيْء يمنع جواز حصوله وظهور الكرامات علامة صدق من ظهرت عَلَيْهِ فِي أحواله، فمن لَمْ يكن صادقا فظهور مثلها عَلَيْهِ لا يَجُوز، والذي يدل عَلَيْهِ أَن تعريف القديم سبحانه إبانا حَتَّى تفرق بَيْنَ من كَانَ صادقا فِي أحواله وبين من هُوَ مبطل من طريق الاستدلال أمر موهوم، ولا يَكُون ذَلِكَ إلا باختصاص الولي بِمَا لا يوجد مَعَ المفتري فِي دعواه، وَذَلِكَ الأمر هُوَ الكرامة الَّتِي أشرنا إِلَيْهَا ولا بد أَن تكون هذه الكرامة فعلا ناقضا للعادة فِي أَيَّام التكليف ظاهرا عَلَى موصوف بالولاية فِي معنى تصديقه فِي حاله وتكلم النَّاس فِي الفرق بَيْنَ الكرامات وبين المعجزات من أهل الحق فكان الإِمَام أَبُو إسحاق الإسفرايِيني رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: المعجزات دلالات صدق الأنبياء ودليل النبوة لا يوجد مَعَ غَيْر النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَن العقل المحكم لما كَانَ دليلا للعالم فِي كونه عالما لَمْ يوجد إلا مِمَّن يَكُون عالما وَكَانَ يَقُول: الأولياء لَهُمْ كرامات شبه إجابة الدعاء فأما جنس مَا هُوَ معجزة للأنبياء فلا، وَأَمَّا الإِمَام أَبُو بَكْر بْن فورك رَحِمَهُ اللَّهُ فكان يَقُول: المعجزات دلالات الصدق ثُمَّ إِن ادعى صاحبها النبوة فالمعجزات تَدُل عَلَى صدقه فِي مقالته، وإن أشار صاحبها إِلَى الولاية المعجزة عَلَى صدقه فِي حاله، فتسمى كرامة ولا تسمى معجزة، وإن كانت من جنس المعجزات دلت للفرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: من الفرق بَيْنَ المعجزات والكرامات أَن الأنبياء عَلَيْهِم السَّلام مأمورون بإظهارها والولي يجب عَلَيْهِ سترها وإخفاؤها والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعي ذَلِكَ ويقطع القول بِهِ والولي لا يدعيها ولا يقطع بكرامته لجواز أَن يَكُون ذَلِكَ مكرا. وَقَالَ: أوحد فنه فِي وقته الْقَاضِي أَبُو بَكْر الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِن المعجزات تختص بالأنبياء، والكرامات تكون للأولياء كَمَا تكون للأنبياء، ولا تكون للأولياء معجزة، لأن من شرط المعجزة اقتران دعوى النبوة بِهَا والمعجزة لَمْ تكن معجزة لعينها وإنما كانت معجزة لحصولها عَلَى أوصاف كثيرة، فَمَتَى اختل شرط من تلك الشرائط لا تكون معجزة، وأحد تلك الشرائط دعوى النبوة، والولي لا يدعي النبوة، والذي يظهر عَلَيْهِ لا يَكُون معجزة، وَهَذَا القول الَّذِي نعتمده ونقول بِهِ، بَل ندين بِهِ فشرائط المعجزات كلها أَوْ أكثرها توجد فِي الكرامة إلا هَذَا الشرط الْوَاحِد والكرامة فعل لا محالة محدث، لأن مَا كَانَ قديما لَمْ يكن لَهُ اختصاص بأحد وَهُوَ ناقض للعادة وتحصل فِي زمان التكليف وتظهر عَلَى عَبْد تخصيصا لَهُ وتفضيلا وَقَدْ تحصل باختياره ودعائه وَقَدْ لا تحصل، وَقَدْ تكون بغير اختياره فِي بَعْض الأوقات، وَلَمْ يأمر الولي بدعاء الخلق إِلَى نَفْسه ولو أظهر شَيْئًا من ذَلِكَ عَلَى من يَكُون أهلا لَهُ لجاز. واختلف أهل الحق فِي الولي هل يَجُوز أَن يعلم أَنَّهُ ولى أم لا، فكان الإِمَام أَبُو بَكْر بْن فورك رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: لا يَجُوز ذَلِكَ لأنه يسلبه الخوف ويوجب لَهُ الأمن وَكَانَ الأستاذ أَبُو عَلِي الدقاق رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول بجوازه وَهُوَ الَّذِي نؤثره ونقول بِهِ وليس ذَلِكَ بواجب فِي جَمِيع الأولياء حَتَّى يَكُون كُل ولي يعلم أَنَّهُ ولي واجبا ولكن يَجُوز أَن يعلم بَعْضهم كَمَا يَجُوز أَن لا يعلم بَعْضهم فَإِذَا علم بَعْضهم أَنَّهُ ولي كانت معرفته تلك كرامة لَهُ انفرد بِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وليس كُل كرامة لولي يجب أَن تكون تلك بعينها لجميع الأولياء، بَل لو لَمْ يكن للولي كرامة ظاهرة عَلَيْهِ فِي الدنيا لَمْ يقدح عدمها فِي كونه وليا بخلاف الأنبياء فَإِنَّهُ يجب أَن تكون لَهُمْ معجزات، لأن النَّبِي مبعوث إِلَى الخلق فبالناس حاجة إِلَى معرفة صدقة ولا يعرف إلا بالمعجزة وبعكس ذَلِكَ حال الولي لأنه لَيْسَ بواجب عَلَى الخلق ولا عَلَى الولي أَيْضًا العلم بأنه ولى والشعرة من الصَّحَابَة صدقوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخبرهم بِهِ أنهم من أهل الْجَنَّة. وقول من قَالَ لا يَجُوز ذَلِكَ لأنه يخرجهم من الخوف فلا بأس أَن يخافوا تغيير العاقبة والذي يجدونه فِي قلوبهم من الهيبة لا يَجُوز ذَلِكَ لأنه يخرجهم من الخوف فلا بأس أَن يخافوا تغيير العاقبة والذي يجدونه فِي قلوبهم من الهيبة والتعظيم والإجلال للحق سبحانه يَزِيد ويربو عَلَى كثير من الخوف. واعلم أَنَّهُ لَيْسَ للولي مساكنة إِلَى الكرامة الَّتِي تظهر عَلَيْهِ ولا لَهُ ملاحظة فربما يَكُون لَهُمْ فِي ظهور جنسها قوة يقين وزيادة بصيرة لتحققهم أَن ذَلِكَ فعل اللَّه فيستدلون بِهَا عَلَى صحة مَا هُمْ عَلَيْهِ من العقائد وبالجملة فالقول بجواز ظهورها عَلَى الأولياء واجب وعليه جمهور أهل المعرفة، ولكثرة مَا تواتر بأجناسها الأخبار والحكايات صار العلم بكونها وظهورها عَلَى الأولياء فِي الجملة علما قويا انتفى عَنْهُ الشكوك، ومن توسط هذه الطائفة وتواتر عَلَيْهِ حكاياتهم وأخبارهم لَمْ تبق لَهُ شبهة فِي ذَلِكَ عَلَى الجملة. ومن دلائل هذه الجملة نص الْقُرْآن فِي قصة سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلام حيث قَالَ: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] وَلَمْ يكن نبيا والأثر عَن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صحيح أَنَّهُ. قَالَ: يا سارية الجبل فِي حال خطبته يَوْم الجمعة وتبليغ صوت عُمَر إِلَى سارية فِي ذَلِكَ الوقت حَتَّى تحرزوا من مكامن العدو من الجبل فِي تلك الساعة. فَإِن قيل: كَيْفَ يَجُوز إظهار هذه الكرامات الزائدة فِي المعاني عَلَى معجزات الرسل، وهل يَجُوز تفضيل الأولياء عَلَى الأنبياء عَلَيْهِم السَّلام. قيل: هذه الكرامات لاحقة بمعجزات نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن كُل من لَيْسَ بصادق فِي الإِسْلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 لا تظهر عَلَيْهِ الكرامة، وكل نبي ظهرت كرامته عَلَى واحد من أمته فَهِيَ معدومة من جملة معجزاته، إذ لو لَمْ يكن ذَلِكَ الرسول صادقا لَمْ تظهر عَلَى يد من قَالَ: تابعه الكرامة، فأما رتبة الأولياء فلا تبلغ رتبة الأنبياء عَلَيْهِم السَّلام للإجماع المنعقد عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَبُو يَزِيد البسطامي سئل عَن هذه المسألة. فَقَالَ: مثل مَا حصل للأنبياء عَلَيْهِم السَّلام كمثل زق فِيهِ عسل ترشح منه قطرة فتلك القطرة مثل مَا لجميع الأولياء وَمَا فِي الظرف مثل لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فصل ثُمَّ هذه الكرامات قَدْ تكون إجابة دعوة وَقَدْ تكون إظهار طَعَام فِي أوان فاقة من غَيْر سبب ظاهر أَوْ حصول ماء فِي زمان عطش، أَوْ تسهيل قطع مسافة فِي مدة قريبة، أَوْ تخليص من عدم، أَوْ سماع خطاب من هاتف أَوْ غَيْر ذَلِكَ من فنون الأفعال الناقضة للعادة. واعلم أَن كثيرا من المقدورات يعلم اليوم قطعا أَنَّهُ لا يَجُوز أَن يظهر كرامة للأولياء وبضرورة أَوْ شبه ضرورة يعلم ذَلِكَ، فمنها حصول إِنْسَان لا من أبوين وقلب جماد بهيمة أَوْ حيوان وأمثال هَذَا كثير. فصل فَإِن قيل: فَمَا معنى الولي؟ قيل: يحتمل أمرين أحدهما: أَن يَكُون فعيلا مبالغة من الفاعل كالعليم والقدير وغيره، ويكون معناه من توالت طاعته من غَيْر تخلل معصية، ويجوز أَن يَكُون فعيلا بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول وجريح بمعنى مجروح، وَهُوَ الَّذِي يتولى الحق سبحانه حفظه وحراسته عَلَى الإدامة والتوالي فلا يخلق لَهُ الخذلان الَّذِي هُوَ قدر العصيان وإنما يديم توفيقه الَّذِي هُوَ قدرة الطاعة. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 فصل فَإِن قيل: فهل يَكُون الولي معصوما؟ قيل: إِمَّا وجوبا كَمَا يقال فِي الأنبياء فلا، وإما أَن يَكُون محفوظا حَتَّى لا يصر عَلَى الذنوب إِن حصلت هنات أَوْ آفات أَوْ زلات فلا يمتنع ذَلِكَ فِي وصفهم، ولقد قيل للجنيد: العارف يزنى يا أبا القاسم فأطرق مليا ثُمَّ رفع رأسه وَقَالَ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] . فصل فَإِن قيل: فهل يسقط الخوف عَنِ الأولياء؟ قيل: أما الغالب عَلَى الأكابر فكان الخوف وَذَلِكَ الَّذِي قُلْنَا فيما تقدم عَلَى جهة الندرة غَيْر ممتنع، وَهَذَا السري السقطي يَقُول: لو أَن واحدا دَخَلَ بستانا فِيهِ أشجار كثيرة وعلى كُل شجرة طير يَقُول لَهُ بلسان فصيح: السَّلام عليك يا ولي اللَّه فلو لَمْ يخف أَنَّهُ مكر لكان ممكورا وأمثال هذه من حكاياتهم كثيرة. فصل فَإِن قيل: فهل تجوز رؤية اللَّه بالأبصار اليوم فِي الدنيا عَلَى جهة الكرامة. فالجواب عَنْهُ أَن الأقوى فِيهِ أَنَّهُ لا يَجُوز لحصول الإجماع عَلَيْهِ ولقد سمعت الإِمَام أبا بَكْر بْن فورك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يحكي عَن أَبِي الْحَسَن الأشعري أَنَّهُ قَالَ: فِي ذَلِكَ قولين فِي كتاب الرؤية الكبير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 فصل فَإِن قيل: فهل يَجُوز أَن يَكُون وليا فِي الحال ثُمَّ تتغير عاقبته. قيل: من جعل من شرط الولاية حسن الموافاة لا يَجُوز ذَلِكَ، ومن قَالَ: إنه فِي الحال مؤمن عَلَى الحقيقة وإن جاز أَن يتغير حاله بَعْد لا يبعد أَن يَكُون وليا فِي الحال صديقا ثُمَّ يتغير وَهَذَا الَّذِي نختاره نحن، ويجوز أَن يَكُون من جملة كرامات ولي أَن يعلم أَنَّهُ مأمون العاقبة، وأنه لا نتغير عاقبته فلتلتحق هذه المسألة بِمَا ذَكَرْنَا أَن المولى يَجُوز أَن يعلم أَنَّهُ ولى. فصل فَإِن قيل: فهل يزايل الولي خوف المكر قيل: إِن كَانَ مصطلما عَن شاهده مختطفا عَن إحساسه بحاله فَهُوَ مستهلك عَن فيما استولى عَلَيْهِ، والخوف من صفات الحاضرين بِهِمْ. فصل فَإِن قيل: فَمَا الغالب عَلَى الولي فِي حال صحوه؟ قيل صدقه فِي أداء حقوقه سبحانه ثُمَّ رفقه وشفقته عَلَى الخلق فِي جَمِيع أحواله، ثُمَّ انبساط رحمته لكافة الخلق، ثُمَّ دوام تحمله عَنْهُم بجميل الخلق وابتدائه لطلب الإحسان من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إليهم من غَيْر التماس مِنْهُم وتعليق الهمة بنجاة الخلق وترك الانتقام مِنْهُم والتوقي عَنِ استشعار حقد عَلَيْهِم مَعَ قصر اليد عَن أموالهم وترك الطمع بكل وجه، وقبض اللسان عَن بسطه بالسوء فيهم، والتصاون عَن شهود مساويهم ولا يَكُون خصما لأحد فِي الدنيا ولا فِي الآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 واعلم أَن، أجل الكرامات الَّتِي تكون للأولياء: دوام التوفيق للطاعات، والعصمة عَنِ المعاصي والمخالفات، ومما يشهد من الْقُرْآن عَلَى إظهار الكرامات عَلَى الأولياء قَوْله سبحانه فِي صفة مريم عَلَيْهَا السَّلام وَلَمْ تكن نبيا ولا رسولا: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران: 37] وَكَانَ يَقُول: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] فتقول مريم: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 37] وقوله سبحانه: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25] وَكَانَ فِي غَيْر أوان الرطب، وَكَذَلِكَ قصة أَصْحَاب الكهف والأعاجيب الَّتِي ظهرت عَلَيْهِم من كَلام الكلب معهم وغير ذَلِكَ، ومن ذَلِكَ قصة ذي القرنين وتمكينه سبحانه لَهُ مِمَّا لَمْ يمكن لغيره، ومن ذَلِكَ: مَا أظهر عَلَى يد الخضر عَلَيْهِ السَّلام من إقامة الجدار وغيره من الأعاجيب وَمَا كَانَ يعرفه مِمَّا خفى عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام كُل ذَلِكَ أمور ناقضة للعادة اختص الخضر عَلَيْهِ السَّلام بِهَا وَلَمْ يكن نبيا، وإنما كَانَ وليا. ومما روي من الأخبار فِي هَذَا الباب حَدِيث جريج الراهب. أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ الإِسْفِرَايِينِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ رَجَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ أَبُو عَوَانَةَ وَحَدَّثَنِي الصَّغَانِيُّ وَأَبُو أُمَيَّةَ قَالا: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَذِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلا ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَبِيٌّ فِي زَمَنِ جُرَيْجٍ، وَصَبِيٌّ آخَرٌ، فَأَمَّا عَنْ عِيسَى فَقَدْ عَرَفْتُمُوهُ، وَأَمَّا جُرَيْجٌ فَكَانَ رَجُلا عَابِدًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَتْ لَهُ أُمٌّ فَكَانَ يَوْمًا يُصَلِّي إِذِ اشْتَاقَتْ إِلَيْهِ أُمُّهُ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ الصَّلاةُ خَيْرٌ أَمْ آتِيهَا؟ ثُمَّ صَلَّى فَدَعَتْهُ. فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى فَاشْتَدَّ عَلَى أُمِّهِ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَتْ زَانِيَةٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَتْ لَهُمْ: أَنَا أَفْتِنُ جُرَيْجًا حَتَّى يَزْنِيَ. فَأَتَتْهُ فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ، وَكَانَ رَاعٍ يَأْوِي بِاللَّيْلِ إِلَى أَصْلِ صَوْمَعَتِهِ، فَلَمَّا أَعْيَاهَا رَاوَدَتِ الرَّاعِيَ عَلَى نَفْسِهَا فَأَتَاهَا فَوَلَدَتْ ثُمَّ قَالَتْ: وَلَدِي هَذَا مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَاهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ وَشَتَمُوهُ، ثُمَّ إِنَّهُ صَلَّى وَدَعَا ثُمَّ نَخَسَ الْغُلامَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ بِيَدِهِ: يَا غُلامُ مَنْ أَبُوكَ؟ . فَقَالَ: الرَّاعِي، فَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ. وَقَالَ: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ , أَوْ قَالَ: مِنْ فِضَّةٍ. فَأَبِيَ عَلَيْهِمْ وَبَنَاهَا كَمَا كَانَتْ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَإِنَّ امْرَأَةً كَانَ مَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا تُرْضِعُهُ إِذْ مَرَّ بِهَا شَابٌّ جَمِيلُ الْوَجْهِ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ الصَّبِيُّ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَانَ يَحْكِي الْغُلامُ وَهُوَ يَرْضَعُ، ثُمَّ مَرَّ بِهَا أَيْضًا امْرَأَةٌ ذَكَرُوا أَنَّهَا سَرَقَتْ وَزَنَتْ وَعُوقِبَتْ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّ الشَّابَّ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ قِيلَ إِنَّهَا زَنَتْ، وَلَمْ تَزْنِ، وَقِيلَ: سَرَقَتْ وَلَمْ تَسْرِقْ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ. وَهَذَا الْخَبَر رُوِيَ فِي الصحيح ومن ذَلِكَ حَدِيث الغار وَهُوَ مشهور ومذكور فِي الصحاح. أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ الإِسْفِرَايِينِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الدِّمَشْقِيُّ , وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْقَاسِمِ الدَّيْرَعَاقُولِيُّ , وَأَبُو الْخَصِيبِ بْنُ الْمُسْتَنِيرِ الْمِصِّيصِيُّ , قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ. قَالَ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْطَلَقَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَآوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ فَقَالُوا: إِنَّهُ وَاللَّهِ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: إِنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْتُ لا أَغْبُقُ قَبْلَهُمَا أَهْلا وَلا مَالا فَعَاقَنِي طَلَبُ الشَّجَرِ يَوْمًا، فَلَمْ أَرُحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَجَلَسْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَجِئْتُهُمَا بِهِ فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، فَتَحَرَّجْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَكَرِهْتُ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 أَغْبُقَ قَبْلَهُمَا أَهْلا وَلا مَالا، فَقُمْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدِي أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرِجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ انْفِرَاجًا لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ. فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ وَكَانَتْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَرَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةِ دِينَارٍ أُعْلِيَ أَنْ تُخَلِّي بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفَعَلْتُ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ لا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَفِضَّ الْخَاتَمَ إِلا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ , وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا , اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ مُغْلِقَ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرِجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ قَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أُجُورَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَرَتْ أَجْرُهُ فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أُجْرَتِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أُجْرَتِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالرَّقِيقِ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لا تَسْتَهْزِئْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لا اسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا , اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرِجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا مِنَ الْغَارِ يَمْشُونَ. وَهَذَا حَدِيث صحيح متفق عَلَيْهِ ومن ذَلِكَ الْحَدِيث الَّذِي قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: إِن البقرة كلمتهم أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الإِسْفِرَايِينِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ , عَنِ ابْنِ شَهَابٍ , قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ: " بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْتَفَتَتِ الْبَقَرَةُ وَقَالَتْ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ. فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ. فَقَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنْتُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ومن ذَلِكَ حَدِيث أويس القرني وَمَا شهد عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من حاله وقصته ثُمَّ التقاؤه مَعَ هرم بْن حيان وتسليم أحدهما عَلَى صاحبه من غَيْر معرفة تقدمت بينهما، وكل ذَلِكَ أحوال ناقضة للعادة، وتركنا حَدِيث أويس لشهرته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 وَقَدْ ظهر عَلَى السلف من الصَّحَابَة والتابعين ثُمَّ عَلَى من بعدهم من الكرامات مَا بلغ حد الاستفاضة، وَقَدْ صنف فِي ذَلِكَ كتب كثيرة سنشير إِلَى طرف منها عَلَى وجه الإيجاز إِن شاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. فمن ذَلِكَ: أَن ابْن عُمَر كَانَ فِي بَعْض الأسفار فلقي جَمَاعَة وقفوا عَلَى الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا يسلط عَلَى ابْن آدم مَا يخافه ولو أَنَّهُ لَمْ يخف غَيْر اللَّه لما سلط عَلَيْهِ شَيْء، وَهَذَا خبر معروف. وروي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث العلاء بْن الحضرمي فِي غزاة فحال بينه وبين الموضع قطعة من البحر فدعا اللَّه باسمه الأعظم ومشوا عَلَى الماء. وروي أَن عتاب بْن بشير وأسيد بْن حضير خرجا من عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأضاء لهما رأس عصا أحدهما كالسراج. وروي أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ يدي سلمان وأبي الدرداء قصعة فسبحت حَتَّى سمعا التسبيح. وروي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه لَهُ لو أقسم عَلَى اللَّه لأبره وَلَمْ يفرق بَيْنَ شَيْء وشيء فيما يقسم بِهِ عَلَى اللَّه سبحانه، وَهَذَهِ الأخبار لشهرتها أضربنا عَن ذكر أسانيدها. وحكى عَن سهل بْن عَبْد اللَّهِ أَنَّهُ. قَالَ: من زهد فِي الدنيا أربعين يوما صادقا من قلبه مخلصا فِي ذَلِكَ ظهرت لَهُ الكرامات، ومن لَمْ تظهر لَهُ فلعدم الصدق فِي زهده، فقيل لسهل: كَيْفَ تظهر لَهُ الكرامة؟ . فَقَالَ: يأخذ مَا يشاء كَمَا يشاء من حَدِيث يشاء. أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجَشُونُ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ ذَكَرَ كَلِمَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 إِذْ سَمِعَ رَعْدًا فِي السَّحَابِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي السَّحَابِ أَنِ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ , فَجَاءَ ذَلِكَ السَّحَابُ إِلَى سَرْحَةٍ , فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِيهَا فَاتَّبَعَ السَّحَابَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي حَدِيقَةٍ. فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ . فَقَالَ: فُلانُ ابْنُ فُلانٍ بِاسْمِهِ. قَالَ: فَمَا تَصْنَعُ بِحَدِيقَتِكَ هَذِهِ إِذْ صَرَمْتَهَا؟ . فَقَالَ: وَلِمَ تَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ؟ . قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ أَنِ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ. قَالَ: أَمَا إِذَا قُلْتَ فَإِنِّي أَجْعَلُهَا أَثْلاثًا فَأَجْعَلُ لِنَفْسِي وَأَهْلِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ عَلَيْهَا ثُلُثًا وَأَجْعَلُ لِلْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلَ ثُلُثًا سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: دخلنا تستر فرأينا فِي قصر سهل بْن عَبْد اللَّهِ بيتا كَانَ النَّاس يسمونه بَيْت السباع فسألنا النَّاس عَن ذَلِكَ، فَقَالُوا: كَانَ السباع تجيء إِلَى سهل وَكَانَ يدخلهم هَذَا الْبَيْت ويضيفهم ويطمعهم اللحم ثُمَّ يخليهم. قَالَ أَبُو نصر: ورأيت أهل تستر كلهم متفقين عَلَى هَذَا لا ينكرونه وَهُم الجمع الكثير. سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد التميمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ الصوفي يَقُول: سمعت حمزة بْن عَبْد اللَّهِ العلوي يَقُول: دخلت عَلَى أَبِي الخير التيناتي وكنت أعتقدت فِي نفسي أَن أسلم عَلَيْهِ وأخرج ولا آكل عنده طعاما، فلما خرجت من عنده ومشيت قدرا فَإِذَا بِهِ خلفي وَقَدْ حمل طبقا عَلَيْهِ طَعَام. فَقَالَ: يا فتى كُل هَذَا فَقَدْ خرجت الساعة من اعتقادك. وأبو الخير التيناتي مشهور بالكرامات. حكى عَن إِبْرَاهِيم الرقي أَنَّهُ قَالَ: قصدته مسلما عَلَيْهِ فصلى صلاة المغرب فلم يقرأ الفاتحة مستويا فَقُلْتُ: فِي نفسي: ضاعت سفرتي فلما سلمت خرجت للطهارة فقصدني السبع، فعدت إِلَيْهِ وقلت: إِن الأسد قصدني فخرج وصاح عَلَى الأسد. وَقَالَ: ألم أقل لَك لا تتعرض لضيافتي؟ وتنحى وتطهرت فلما رجعت. قَالَ: اشتغلتم بتقويم الظواهر فخفتم الأسد واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الأسد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 وقيل: كَانَ لجعفر الخلدي فص فوقع يوما فِي دجلة وَكَانَ عنده دعاء مجرب للضالة ترد فدعا بِهِ فوجد الفص فِي وسط أوراق كَانَ يتصفحها. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: إِن ذَلِكَ الدعاء يا جامع النَّاس ليوم لا ريب فِيهِ أجمع عَلِي ضالتي. قَالَ أَبُو نصر السراج: أراني أَبُو الطيب العكي جزءا ذكر فِيهِ من ذكر هَذَا الدعاء عَلَى ضالة وجدها وَكَانَ الجزء أوراقا كثيرة. سألت أَحْمَد الطابراني السرخسي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقُلْتُ لَهُ: هل ظهر لَك شَيْء من الكرامات؟ . فَقَالَ: فِي وقت إرادتي وابتداء أمري رُبَّمَا كنت أطلب حجرا استنجى بِهِ فلم أجد فتناولت شَيْئًا من الهواء فكان جوهرا فاستنجيت بِهِ وطرحته ثُمَّ قَالَ: وأي خطر للكرامات؟ إِنَّمَا المقصود منه زيادة اليقين فِي التوحيد فمن لا يشهد غيره موجودا فِي الكون فسواء أبصر فعلا معتاد أَوْ ناقصا للعادة. سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد الصوفي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن البصري يَقُول: كَانَ بعبادان رجل أسود فَقِير يأوى إِلَى الخرابات فحملت معي شَيْئًا وطلبته فلما وقعت عينه عَلِي تبسم وأشار بيده إِلَى الأَرْض، فرأيت الأَرْض كلها ذهبا تلمع ثُمَّ قَالَ: هات مَا معك فناولته وهالني أمره وهربت. سمعت منصورا المغربي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَطَاء الروذباري يَقُول: كَانَ لي استقصاء فِي أمر الطهارة فضاق صدري ليلة لكثرة مَا صببت من الماء وَلَمْ يسكن قلبي فَقُلْتُ: يا رب عفوك فسمعت هاتفا يَقُول: العفو فِي العلم فزال عني ذَلِكَ. سمعت مَنْصُور المغربي يَقُول: فرأيته يوما قعد عَلَى الأَرْض فِي الصحراء وَكَانَ عَلَيْهَا آثار الغنم بلا سجادة فَقُلْتُ: أيها الشيخ هذ آثار الغنم. فَقَالَ: اختلف الْفُقَهَاء فِيهِ. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد الرازي يَقُول: سمعت أبا سُلَيْمَان الخواص يَقُول: كنت راكبا حمارا يوما وَكَانَ الذباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 يؤذيه فيطأطئ رأسه فكنت أضرب رأسه بخشبة فِي يدي فرفع الحمار رأسه وَقَالَ: اضرب فإنك عَلَى رأسك هُوَ ذا تضرب. قَالَ الْحُسَيْن: فَقُلْتُ: لأبي سُلَيْمَان: لَك وقع هَذَا؟ فَقَالَ: نعم كَمَا تسمعني. وذكر عَنِ ابْن عَطَاء أَنَّهُ قَالَ: سمعت أبا الْحَسَن النوري يَقُول: كَانَ فِي نفسي شَيْء من هذه الكرامات فأخذت قصبة من الصبيان وقعت بَيْنَ زورقين ثُمَّ قُلْت: وعزتك لئن لَمْ يخرج لي سمكة فِيهَا ثلاثة أرطال لأغرقن نفسي. قَالَ: فخرج لي سمكة فِيهَا ثلاثة أرطال فبلغ ذَلِكَ الجنيد , فَقَالَ: كَانَ حكمه أَن تخرج لَهُ أفعى تلدغه. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمى , يَقُول: سمعت أبا الفتح يُوسُف بْن عُمَر الزاهد القواس بِبَغْدَادَ. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عطية. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الكبير بْن أَحْمَد قَالَ: سمعت أبا بَكْر الصائغ. قَالَ: سمعت أبا جَعْفَر الحداد أستاذ الجنيد. قَالَ: كنت بمكة فطال شعري وَلَمْ يكن معي قطعة من الحديد آخذ بِهَا شعري فتقدمت إِلَى مزين توسمت فِيهِ الخير وقلت: تأخذ شعري لِلَّهِ تَعَالَى؟ . فَقَالَ: نعم وكرامة. وَكَانَ بَيْنَ يديه رجل من أبناء الدنيا فصرفه وأجلسني وحلق شعري ثُمَّ دفع إلي قرطاسا فِيهِ دراهم. وَقَالَ: استعن بِهَا عَلَى بَعْض حوائجك، فأخذتها واعتقدت أَن أدفع إِلَيْهِ أول شَيْء يفتح عَلِي بِهِ. قَالَ: فدخلت الْمَسْجِد فاستقبلني بَعْض إخواني. وَقَالَ لي: جاء بَعْض إخوانك بصرة من البصرة من بَعْض خوانك فِيهَا ثلاث مائة دِينَار. قَالَ: فأخذت الصرة وحملتها إِلَى المزين وقلت: هذه ثلاث مائة دِينَار وتصرفها فِي بَعْض أمورك. لي: ألا تستحي يا شيخ؟ تقول لي: احلق شعري لِلَّهِ ثُمَّ آخذ عَلَيْهِ شَيْئًا، انصرف عافاك اللَّه. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: سمعت ابْن سالم يَقُول لما مَات إِسْحَاق بْن أَحْمَد دَخَلَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ صومعته فوجد فِيهَا سفطا فِيهِ قارورتان فِي واحدة منهما شَيْء أحمر وَفِي الأخرى شَيْء أبيض، ووجد شوشقة ذهب وشوشقة فضة. قَالَ: فرمى بالشوشقتين فِي الدجلة وخلط مَا فِي القارورتين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 بالتراب، وَكَانَ عَلَى إِسْحَاق دين. قَالَ ابْن سالم: قُلْت لسهل: إيش كَانَ فِي القارورتين؟ . قَالَ: أحدهما لو طرح منها وزن درهم عَلَى مثاقيل من النحاس صار ذهبا والأخرى لو طرح منها مثقال عَلَى مثاقيل من الرصاص صار فضة، فَقُلْتُ: إيش عَلَيْهِ لو قضى منه دينه فَقَالَ: أي دوست خاف عَلَى إيمانه. وحكى عَنِ النوري أَنَّهُ خرج ليلة إِلَى شط دجلة فوجدها وَقَد التزق الشَّيْطَان فانصرف. وَقَالَ: وعزتك لا أجوزها إلا فِي زورق. سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: أملي عَلَيْنَا الوجيهي حكاية عَن مُحَمَّد بْن يُوسُفَ البناء. قَالَ: كَانَ أَبُو تراب النخشبي صاحب كرامات فسافرت مَعَهُ سنة وَكَانَ مَعَهُ أربعون نفسا ثُمَّ أصابتنا مرة فاقة، فعدل أَبُو تراب عَنِ الطريق وجاء بعذق موز فتناولنا وفينا شاب فلم يأكل. فَقَالَ لَهُ أَبُو تراب: كُل. فَقَالَ: الحال الَّذِي اعتقدته ترك المعلومات وصرت أَنْتَ معلومي فلا أصحبك بَعْد هَذَا فَقَالَ لَهُ أَبُو تراب: كن مَعَ مَا وقع لَك. وحكى أَبُو نصر السراج عَن أَبِي يَزِيد. قَالَ: دَخَلَ عَلِي أَبُو عَلِي السدي وَكَانَ أستاذه وبيده جراب فصبها فَإِذَا هِيَ جواهر فَقُلْتُ: من أين لَك هَذَا؟ فَقَالَ: وافيت واديا ههنا فَإِذَا هُوَ يضيء كالسراج، فحملت هَذَا فَقُلْتُ: فكيف كَانَ وقتك الَّذِي وردت فِيهِ الوادي. فَقَالَ: وقت فترة عَنِ الحال الَّتِي كنت فِيهَا وقيل لأبي يَزِيد: فُلان يمشي فِي ليلة إِلَى مَكَّة. فَقَالَ: الشَّيْطَان يمشي فِي ساعة من المشرق إِلَى المغرب فِي لعنة اللَّه. وقيل لَهُ: فُلان يمشي عَلَى الماء ويطير فِي الهواء فَقَالَ الطير: يطير فِي الهواء والسمك يمر عَلَى الماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 وَقَالَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ: أكبر الكرامات أَن تبدل خلقا مذموما من أخلاقك. سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد التميمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي الصوفي يَقُول: سمعت ابْن سالم يَقُول: سمعت أَبِي يَقُول: كَانَ رجل يقال لَهُ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَحْمَد يصحب سهل بْن عَبْد اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ يوما: رُبَّمَا أتوضأ للصلاة فيسيل الماء بَيْنَ يدي قضبان ذهب وفضة، فَقَالَ سهل: أما علمت أَن الصبيان إِذَا بكوا يعطون خشخاشة ليشتغلوا بِهَا؟ . سمعت أبا حاتم السجستاني يَقُول: سمعت أبا نصر السراج يَقُول: أخبرني جَعْفَر بْن مُحَمَّد. قَالَ: حَدَّثَنِي الجنيد. قَالَ: دخلت عَلَى السرى يوما. فَقَالَ: لي عصفور كَانَ يجيء فِي كُل يَوْم فأفت لَهُ الخبز فيأكل من يدي فنزل وقتا من الأوقات فلم يسقط عَلَى يدي، فتذكرة فِي نفسي إيش السبب، فذكرت أني أكلت ملحا بأبزار، فَقُلْتُ فِي نفسي: لا آكل بعدها وأنا تائب منه فسقط عَلَى يدي وأكل. وحكى أَبُو عَمْرو الأنماطي. قَالَ: كنت مَعَ أستاذي فِي البادية فأخذنا المطرد فدخلنا مسجدا نستكن فِيهِ وَكَانَ السقف يكف، فصعدنا السطح ومعنا خشبة تزيد إصلاح السقف فقصر الخشب عَنِ الجدار، فَقَالَ: أستاذي: مده فمددتها فركبت الحائط من ههنا ومن ههنا. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد النجار يَقُول: سمعت الرقي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الدقاق يَقُول: كنت مارا فِي تيه بَنِي إسرائيل فخطر ببالي أَن علم الحقيقة مباين للشريعة فهتف بي هاتف من تَحْتَ شجرة كُل حقيقة لا تتبعها الشريعة فَهِيَ كفر وَقَالَ بَعْضهم: كنت عِنْدَ خير النساج فجاءه رجل. وَقَالَ: أيها الشيخ رأيتك أمس وَقَدْ بعت الغزل بدرهمين فجئت خلفك فحللتهما من طرف إزارك وَقَدْ صارت يدي منقبضة عَلَى كفي. قَالَ: فضحك خير وأومأ بيده إِلَى يدي ففتحها ثُمَّ قَالَ: امض واشتر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 بهما لعيالك شَيْئًا ولا تعد لمثله. وحكى عَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد السلمي. قَالَ دخلت عَلَى ذي النون الْمِصْرِي يوما فرأيت بَيْنَ يديه طستا من ذهب وحوله الند والعنبر يسجر. فَقَالَ لي: أَنْتَ مِمَّن يدخل عَلَى الملوك فِي حال بسطهم ثُمَّ أعطاني درهما فأنفقت منه إِلَى بلخ. وحكى عَن أَبِي سَعِيد الخراز. قَالَ: كنت فِي بَعْض أسفاري وَكَانَ يظهر لي كُل ثلاثة أَيَّام شَيْء فكنت آكله وأستقل بِهِ، فمضى ثلاثة أَيَّام وقتا من الأوقات وَلَمْ يظهر شَيْء فضعفت وجلست فهتف بي هاتف أيما أحب إليك سبب أَوْ قوة فَقُلْتُ: القوة فقمت من وقتي ومشيت اثنى عشر يوما لَمْ أذق شَيْئًا وَلَمْ أضعف. وعن المرتعش. قَالَ: سمعت الخواص يَقُول: تهت فِي البادية أياما فجاءني شخص وسلم عَلِي. وَقَالَ لي: تهت؟ فَقُلْتُ: نعم، فَقَالَ: ألا أدلك عَلَى الطريق؟ ومشى بَيْنَ يدي خطوات ثُمَّ غاب عَن عيني وإذا أنا عَلَى الجاد فبعد ذَلِكَ مَا تهت ولا أصابني فِي سفر جوع ولا عطش. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت عُمَر بْن يَحْيَي الأردبيلي يَقُول: سمعت الرقي يَقُول: سمعت ابْن الجلاء يَقُول: لما مَات أَبِي ضحك عَلِي المغتسل فلم يجسر أحد يغسله وَقَالُوا: إنه حي حَتَّى جاء واحد من أقرانه وغسله. وسمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد التميمي يَقُول: سمعت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي يَقُول: سمعت طَلْحَة القصائري يَقُول: سمعت المفتاحي صاحب سهل بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: كَانَ سهل يصبر عَنِ الطعام سبعين يوما، وَكَانَ إِذَا أكل ضعف وإذا جاع قوى. وَكَانَ أَبُو عُبَيْد البسري إِذَا كَانَ أول شَهْر رمضان يدخل بيتا وَيَقُول لامرأته: طيني عَلَى الباب وألقي إلي كُل ليلة من الكوة رغيفا فَإِذَا كَانَ يَوْم العيد فتح الباب ودخلت امرأته الْبَيْت فَإِذَا بثلاثين رغيفا فِي زاوية الْبَيْت فلا أكل ولا شرب ولا نام ولا فاتته ركعة من الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وَقَالَ أَبُو الْحَارِث الأولاسي مكثت ثلاثين سنة مَا يسمع لساني إلا من سرى ثُمَّ تغيرت الحال، فمكثت ثلاثين سنة لا يسمع سرى إلا من ربي. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ غلام شعوانة. قَالَ: سمعت عَلِي بْن سالم يَقُول: كَانَ سهل بْن عَبْد اللَّهِ أصابته زمانة فِي آخر عمره فكان إِذَا حضر وقت الصلاة انتشرت يداه ورجلاه فَإِذَا فرغ من الفرض عاد إِلَى حال الزمانة. وحكى عَنْ أَبِي عمران الواسطي. قَالَ: وبقيت أنا وامرأتي عَلَى لوح وَقَدْ ولدت فِي تلك الحالة صبية فصاحت بي وَقَالَتْ لي: يقتلني العطش، فَقُلْتُ: هُوَ ذا يرى حالنا، فرفعت رأسي فَإِذَا رجل فِي الهواء جالس وَفِي يده سلسلة من ذهب وفيها كوز من ياقوت أحمر. وَقَالَ: هاك اشربا. قَالَ: فأخذت الكوز وشربنا منه أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي. قَالَ: حَدَّثَنَا بكران بْن أَحْمَد الجيلي. قَالَ: سمعت يُوسُف بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت ذا النون الْمِصْرِي يَقُول: رأيت شابا عِنْدَ الْكَعْبَة يكثر الركوع والسجود فدنوت منه وقلت: إنك تكثر الصلاة! . فَقَالَ: أنتظر الإذن من ربي فِي الانصراف. قَالَ: فرأيت رقعة سقطت عَلَيْهِ مكتوب فِيهَا من الْعَزِيز الغفور إِلَى عبدي الصادق انصرف مغفورا لَك مَا تقدم من ذنبك وَمَا تأخر. وَقَالَ بَعْضهم: كنت بمدينة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مسجده مَعَ جَمَاعَة نتجارى الآيات ورجل ضرير بالقرب منا يسمع فتقدم إلينا وَقَالَ: أنست بكلامكم، اعلموا أَنَّهُ كَانَ لي صبية وعيال وكنت أخرج إِلَى البقيع أحتطب، فخرجت يوما فرأيت شابا عَلَيْهِ قميص كتان ونعله فِي أصبعه، فتوهمت أَنَّهُ تائه، فقصدته أسلب ثوبه، فَقُلْتُ لَهُ: انزع مَا عليك، فَقَالَ: سر فِي حفظ اللَّه فَقُلْتُ: الثَّانِيَة والثالثة. فَقَالَ: لابد فَقُلْتُ: لابد فأشار بأصبعيه من بعيد إِلَى عيني فسقطتا فَقُلْتُ: بالله عليك من أَنْتَ، فَقَالَ: إِبْرَاهِيم الخواص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 وَقَالَ ذو النون الْمِصْرِي كنت وقتا فِي السفينة. فسرقت قطيفة فاتهموا بِهَا رجلا فَقُلْتُ: دعوه حَتَّى أرفق بِهِ وإذا الشاب نائم فِي عباءة فأخرج رأسه من العباءة. فَقَالَ لَهُ ذو النون: فِي ذَلِكَ المعنى، فَقَالَ لي: تقول ذَلِكَ؟ أقسمت عليك يارب أَن لا تدع واحدا من الحيتان إلا جاء بجوهرة. قَالَ: فرأينا وجه الماء حيتانا فِي أفواههم الجوهر , ثُمَّ ألقى الفتى نَفْسه فِي البحر ومر إِلَى الساحل: وحكى عَن إِبْرَاهِيم الخواص. قَالَ: دخلت البادية مرة فرأيت نصرانيا عَلَى وسطه زنار فسألني الصحبة فمشينا سبعة أَيَّام. فَقَالَ لي: يا راهب الحنفية هات مَا عندك من الانبساط، فَقَدْ جعلنا فَقُلْتُ: إلهي لا تفضحني من هَذَا الكافر فرأيت طبقا عَلَيْهِ خبز وشواء ورطب وكوز ماء فأكلنا وشربنا ومشينا سبعة أَيَّام ثُمَّ بأدرت، وقلت: يا راهب النصارى هات مَا عندك فَقَد انتهت النوبة إليك، فاتكأ عَلَى عصاه ودعا فَإِذَا بطبقين عليهما أضعاف مَا كَانَ عَلَى طبقي، قَالَ: فتحيرت وتغيرت وأبيت أَن آكل، فألح عَلِي فلم أجبه، فَقَالَ: كُل فإني أبشرك ببشارتين أحدهما: أنى أشهد أَن لا اللَّه إلا اللَّه وأشهد أَن محمدا رَسُول اللَّهِ وحل الزنار والأخرى: أني قُلْت: اللَّهُمَّ إِن كَانَ لِهَذَا العبد خطر عندك فافتح عَلِي بِهَذَا، ففتح، قَالَ: فأكلنا ومشينا وحج وأقمنا بمكة سنة ثُمَّ إنه مَات ودفن بالبطحاء. وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْمُبَارَكِ الصوري: كنت مَعَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم فِي طريق بَيْت المقدس فنزلنا وقت القيلولة تَحْتَ شجرة رمان فلصينا ركعات، فسمعت صوتا من أصل الرمان يا أبا إِسْحَاق أكرمنا بأن تأكل منا شَيْئًا فطأطأ إِبْرَاهِيم رأسه. فَقَالَ: ثَلاث مرات ثُمَّ قَالَ: يا مُحَمَّد كن شفيعا إِلَيْهِ ليتناول منا شَيْئًا، فَقُلْتُ: يا أبا سحق لَقَدْ سمعت، فقام وأخذ رمانتين فأكل واحدة وناولني الأخر فأكلتها وَهِيَ حامضة وكانت شجرة قصيرة، فلما رجعنا مررنا بِهِ فَإِذَا هِيَ شجرة عالية ورمانها حلو وَهِيَ تثمر فِي كُل عام مرتين وسموها رمان العابدين ويأوي إِلَى ظلها العابدون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الفرحان يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الخصاف يَقُول: حَدَّثَنِي جَابِر الرحبي. قَالَ أَكْثَر أهل الرحبة عَلِي الإنكار فِي بَاب الكرامات فركبت السبع يوما ودخلت الرحبة وقلت أين الَّذِينَ يكذبون أولياء اللَّه؟ . قَالَ: فكفوا بَعْد ذَلِكَ عني. سمعت منصورا المغربي يَقُول: رأى بَعْضهم الخضر عَلَيْهِ السَّلام. فَقَالَ لَهُ: هل رأيت فوقك أحدا؟ . فَقَالَ: نعم كَانَ عَبْد الرازق بْن همام يَرْوِي الأحاديث بالمدينة والناس حوله يستمعون فرأيت شابا بالبعد مِنْهُم رأسه عَلَى ركبته فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا عَبْد الرازق يَرْوِي أحاديث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم لا تسمع منه؟ . فَقَالَ: إنه يروى عَن ميت وأنا لست بغائب عَنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقُلْتُ لَهُ: إِن كنت كَمَا تقول فمن أنا؟ فرفع رأسه. وَقَالَ: أَنْتَ أَخِي أَبُو الْعَبَّاس الخضر، فعلمت أَن لِلَّهِ عبادا لَمْ أعرفهم وقيل: كَانَ لإبراهيم بْن أدهم صاحب يقال لَهُ يَحْيَي يتعبد فِي غرفة لَيْسَ إِلَيْهَا سلم ولا درج، فكان إِذَا أراد أَن يتطهر يجئ إِلَى بَاب الغرفة وَيَقُول لا حول ولا قوة إلا بالله ويمر فِي لهواء كَأَنَّهُ طير ثُمَّ يتطهر فَإِذَا فرغ يَقُول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويعود إِلَى غرفته. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد اللَّهِ الصوفي. قَالَ: سمعت عُمَر بْن مُحَمَّد بْن أحد الشيرازي بالبصرة. قَالَ: سمعت أبا مُحَمَّد جَعْفَر الحذاء بشيراز. قَالَ: كن أتأدب بأبي عُمَر الإصطخري فكان إِذَا خطر لي خاطر خرج إِلَى إصطخر فربما أجابني عما أحتاج إِلَيْهِ من غَيْر أَن أسأله، وربما سألت فأجاني ثُمَّ شغلت عَنِ الذهاب فكان إِذَا خطر عَلَى سرى مسألة أدبني من إصطخر فيخاطبني بِمَا يرد عَلَى وحكى بَعْضهم قَالَ: مَات فَقِير فِي بَيْت مظلم فلما أردنا غسله تكلفنا طلب سراج فوقع فِي كوة ضوء فأضاء الْبَيْت فغسلناه، فلما فرغنا ذهب الضوء كَأَنَّهُ لَمْ يكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 وعن آدم بْن أَبِي إياس. قَالَ: كُنَّا بعسقلان وشاب يغشانا ويجالسنا ويتحدث معنا فَإِذَا فرغنا قام إِلَى الصلاة يصلي. قَالَ: فودعني يوما. وَقَالَ: أريد الإسكندرية فخرجت مَعَهُ وناولته دريهمات فأبي أَن يأخذها فألححت عَلَيْهِ، فألقى كفا من الرمل فِي ركوته واستقى من ماء البحر. وَقَالَ: كُلهُ، فنظرت فَإِذَا هُوَ سويق بسكر كثير. فَقَالَ لَك من كَانَ حاله مَعَهُ مثل هَذَا يحتاج إِلَى دراهم: ثُمَّ أنشأ يَقُول: بحق الهوى يا أهل ودي تفهموا لسان وجود بالوجود غريب حرام عَلَى قلب تعرض للهوى يَكُون لغير الحق فِيهِ نصيب ولغيره: لَيْسَ فِي القلب والفؤاد جميعا موضع فارغ يراه الحبيب هُوَ سؤلي ومنيتي وحبيبي وَبِهِ مَا حييت عيشي يطيب وإذا مَا السقام حل بقلبي لَمْ أجد غيره لسقمي طبيب وحكى عَن إِبْرَاهِيم الآجري. قَالَ: جاءني يهودي يتقاضى عَلِي فِي دين كَانَ لَهُ عَلِي وأنا قاعد عِنْدَ الأتون أوقد تَحْتَ الآجر، فَقَالَ لي اليهودي: يا إِبْرَاهِيم أرني آية أسلم عَلَيْهَا، فَقُلْتُ لَهُ: تفعل؟ . قَالَ: نعم، فَقُلْتُ: انزع ثوبك فنزع فلففته ولففت عَلَى ثوبه ثوبي وطرحته فِي النار ثُمَّ دخلت الأتون وأخرجت الثوب من وسط النار وخرجت من الباب الآخر فَإِذَا ثيابي بحالها لَمْ يصبها شَيْء وثيابه فِي وسطها حراقة فأسلم اليهودي، وقيل: كَانَ حبيب العجمي يرى بالبصرة يَوْم التروية ويوم عرفة بعرفات. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الفرغاني يَقُول: تزوج عَبَّاس بْن المهتدي امْرَأَة، فلما كانت ليلة الدخول وقع عَلَيْهِ ندامة، فلما أراد الدنو منها زجر عَنْهَا فامتنع من وطئها وخرج، وبعد ثلاثة أَيَّام ظهر لَهَا زوج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 قَالَ الأستاذ: هَذَا هُوَ الكرامة عَلِي الحقيقة حيث حفظ عَلَيْهِ العلم، وقيل: كَانَ الفضيل عَلَى جبل من جبال منى. فَقَالَ: لو أَن وليا من أولياء اللَّه تَعَالَى أمر هَذَا الجبل أَن يميد لماد، قَالَ: فتحرك الجبل. فَقَالَ: اسكن لَمْ أردك بِهَذَا، فسكن الجبل، وَقَالَ عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد لأبي عَاصِم البصري: كَيْفَ صنعت حِينَ طلبك الْحَجَّاج؟ . قَالَ: كنت فِي غرفتي فدقوا عَلِي الباب فدخلوا فدفعت بي دفعة فَإِذَا أنا عَلَى أَبِي قبيس بمكة، فَقَالَ لي عَبْد الْوَاحِد: من أين كنت تأكل؟ . قَالَ: كانت تصعد إلي عجوز كُل وقت إفطاري بالرغيفين اللذين كنت آكلهما بالبصرة. فَقَالَ: عَبْد الْوَاحِد: تلك الدنيا أمرها اللَّه تَعَالَى أَن تخدم أبا عَاصِم، وقيل: كَانَ عامر بْن عَبْد قَيْس يأخذ عطاءه ولا يستقبله أحد إلا أعطاه شَيْئًا، وَكَانَ إِذَا أتى منزله رمى إِلَيْهِ بالدراهم فيكون بمقدار مَا أخذه لَمْ ينقص شَيْئًا. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الشيرازي يَقُول: سمعت أبا أَحْمَد الكبير يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن خفيف يَقُول: سمعت أبا عُمَر الزجاجي يَقُول: دخلت على الجنيد وكنت لا أريد أَن أخرج إِلَى الجد فأعطاني درهما صحيحا فشددته عَلَى مئزري فلم دَخَلَ منزلا إلا وجدت رفقاء وَلَمْ أحتج إلى الدرهم، فلما حجبت ورجعت إِلَى بغداد دخلت عَلَى الجنيد فمد يده. وَقَالَ: هات فناولته الدرهم. فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ، فَقُلْتُ: كَانَ الحتم نافذا. وحكى عَن أَبِي جَعْفَر الأعور. قَالَ: كنت عِنْدَ ذي النون الْمِصْرِي فتذاكرنا حَدِيث طاعة الأشياء للأولياء. وَقَالَ ذو النون: من الطاعة أَن أقول لِهَذَا السرير يدور فِي أربع زوايا الْبَيْت، ثُمَّ يرجع إِلَى مكانه فيفعل قَالَ: فدار السرير فِي أربع زوايا الْبَيْت وعاد إِلَى مكانه. وكانت هناك شاب فأخذ يبكي حَتَّى مَات فِي الوقت، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 وقيل: إِن واصلا الأحدب قرأ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] . فَقَالَ: رزقي فِي السماء وأنا أطلبه فِي الأَرْض، والله لا طلبته أبدا، فدخل خربة ومكث يومين فلم يظهر عَلَيْهِ شَيْء فاشتد عَلَيْهِ، فلما كَانَ اليوم الثالث إِذَا بدوخلة من رطب وَكَانَ لَهُ أخ أَحْسَن منه نية فصار مَعَهُ فأذن قَدْ صارتا دوخلتين، فلم يزل ذَلِكَ حمالهما حَتَّى فرق بينهما الْمَوْت. وَقَالَ بَعْضهم: أشرفت عَلَى إِبْرَاهِيم بْن أدهم وَهُوَ فِي بستان يحفظه وَقَدْ أخذه النوم، وإذا حية فِي فِيهَا طاقة نرجس تروحه بِهَا، وقيل: كَانَ جَمَاعَة مَعَ أيوب السجستاني فِي السفر فأعياهم طلب الماء. فَقَالَ أيوب: أتسترون عَلِي مَا عشت؟ فَقَالُوا: نعم، فدور دائرة فنبع الماء فشربنا. قَالَ: فلما قدموا البصرة أخبر بِهِ حماد بْن زَيْد. فَقَالَ: عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد شهدت مَعَهُ ذَلِكَ اليوم. وَقَالَ بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ كُنَّا مَعَ ذي النون الْمِصْرِي فِي البادية فنزلنا تَحْتَ شجرة أم غَيْلان فقلنا: مَا أطيب هَذَا الموضع لو كَانَ فِيهِ رطب، فتبسم ذو النون. وَقَالَ: أتشتهون الرطب، وحرك الشجرة. وَقَالَ: أقسمت عليك بالذي ابتدأك وخلقك شجرة إلا نثرت عَلَيْنَا رطبا جنيا ثُمَّ حركها فنثرت رطبا جنيا، فأكلنا وشبعنا ثُمَّ نمنا فانتبهنا وحركنا الشجرة فنثرت عَلَيْنَا شوكا. وحكى عَن أَبِي القاسم بْن مَرْوَان النهاوندي. قَالَ: كنت أنا وأبو بَكْر الوراق مَعَ أَبِي سَعِيد نمشي عَلَى ساحل البحر نَحْو صيدا فرأى شخصا من بعيد. فَقَالَ: اجلسوا لا يخلوا هَذَا الشخص أَن يَكُون وليا من أولياء اللَّه. قَالَ: فَمَا لبثنا أَن جاء شاب حسن الوجه وبيده ركوة ومعه محبرة وعليه مرقعة فالتفت أَبُو سَعِيد إِلَيْهِ منكرا عَلَيْهِ لحمله المحبرة مَعَ الركوة، فَقَالَ لَهُ: يا فتى كَيْفَ الطريق إِلَى اللَّه تَعَالَى؟ . فَقَالَ: يا أبا سَعِيد أعرف إِلَى اللَّه طريقين طريقا خاصا وطريقا عاما، فأما الطريق العام: فالذي أَنْتَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الطريق الخاص: فلهم، ثُمَّ مشى عَلَى الماء حَتَّى غاب عَن أعيننا، فبقى أَبُو سَعِيد حيران مِمَّا رأى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 وَقَالَ الجنيد: جئت مَسْجِد الشونيزية فرأيت فِيهِ جَمَاعَة من الفقراء يتكلمون فِي الآيات، فَقَالَ فَقِير مِنْهُم: أعرف رجلا لو قَالَ لهذه الأسطوانة كوني ذهبا نصفك ونصفك فضة كانت. قَالَ الجنيد: فنظرت فَإِذَا الأسطوانة نصفها ذهب ونصفها فضة. وقيل: حج سُفْيَان الثَّوْرِي مَعَ شيبان الراعي فعرض لَهُمْ سبع. فَقَالَ: سُفْيَان لشيبان: أما ترى هَذَا السبع؟ فَقَالَ: لا تخف، فأخذ شيبان أذنه فعركها فبصبص وحرك ذنبه. فَقَالَ: سُفْيَان مَا هذه الشهرة؟ فَقَالَ: لولا مخافة الشهرة لما وضعت زادي إلا عَلَى ظهره حَتَّى آتى مَكَّة. وحكى أَن السرى لما ترك التجارة كانت أخته تنفق عَلَيْهِ من ثمن غزلها فأبطأت يوما. فَقَالَ لَهُ السري: لَمْ أبطأت؟ فَقَالَتْ: لأن غزلي لَمْ يشتر وذكروا أَنَّهُ مخلط، فامتنع السرى عَن طعامها، ثُمَّ إِن أخته دخلت عيه يوما فرأت عجوزا تكنس بيته وتحمل كُل يَوْم إِلَيْهِ رغيفين، فحزنت أخته وشكت إِلَى أَحْمَد بْن حنبل. فَقَالَ: أَحْمَد بْن حنبل للسري فِيهِ. فَقَالَ: لما امتنعت من أكل طعامها قيض اللَّه لي الدنيا لتنفق عَلِي وتخدمني. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد اللَّهِ الصوفي. قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِي بْن هرون. قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَد التميمي. قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن القاسم الخواص. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُور الطوسي. قَالَ كنت عِنْدَ أَبِي محفوظ معروف الكرخي فدعا لي ورجعت إِلَيْهِ من الغد وَفِي وجهه أثر. فَقَالَ لَهُ إِنْسَان: يا أبا محفوظ كُنَّا عندك بالأمس وَلَمْ يكن بوجهك هَذَا الأثر، فَمَا هَذَا؟ فَقَالَ: سل عما يعنيك. فَقَالَ الرجل: بمعبودك أَن تقول فَقَالَ: صليت البارحة ههنا واشتهيت أَن أطوف بالبيت فمضيت إِلَى مَكَّة وطفت ثُمَّ ملت عَلَى زمزم لأشرب من مائها فزلقت عَلَى الباب فأصاب وجهي مَا تراه، وقيل: كَانَ عتبة الغلام يقعد فَيَقُول يا ورشان إِن كنت أطوع لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ منى فتعال واقعد عَلَى كفى، فيجيء الورشان ويقعد عَلَى كفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 وحكى عَنْ أَبِي عَلِي الرازي أَنَّهُ قَالَ: مررت يوما عَلَى الفرات فعرضت لنفسي شهوة السمك الطري فَإِذَا الماء قَدْ قذف سمكة نحوي وإذا رجل يعدو وَيَقُول: أشويها لَك؟ فَقُلْتُ: نعم فشواها فقعدت وأكلتها. وقيل: كَانَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم فِي رقعة فعرض لَهُم السبع فَقَالُوا: يا أبا إِسْحَاق قَدْ عرض لنا السبع فجاء إِبْرَاهِيم. وَقَالَ: يا أسد إِن كنت أمرت فينا بشيء فامض وإلا فارجع، فرجع الأسد ومضوا. وَقَالَ حامد الأسود. : كنت مَعَ الخواص فِي البرية فبتنا عِنْدَ شجرة وجاء السبع فصعدت الشجرة إِلَى الصباح لا يأخذني النوم ونال إِبْرَاهِيم الخواص والسبع يشم من رأسه عَلَى قدمه، ثُمَّ مضى، فلما كانت الليلة الثَّانِيَة بتنا فِي مَسْجِد فِي قرية فوقعت بقة عَلَى وجهه فضربته فأن أَنَّهُ فَقُلْتُ: هذه عجب البارحة لَمْ تجزع من الأسد والليلة تصيح من البق. فَقَالَ: أما البارحة فتلك حالة كنت فِيهَا بالله عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا الليلة فَهَذِهِ حالة أنا فِيهَا بنفسي. وحكي عَن عَطَاء الأزرق أَنَّهُ دفعت إِلَيْهِ امرأته درهمين من ثمن غزلها ليشتري الدقيق لَهُمْ، فخرج من بيته فلقي جارية تبكي. فَقَالَ لَهَا: مَا بالك فَقَالَتْ: دفع إلي مولاي درهمين أشتري لَهُمْ شَيْئًا فسقطا مني فأخاف أَن يضربني، فدفع عَطَاء الدرهمين إِلَيْهَا ومر وقعد عَلِي حانوت صديق لَهُ مِمَّن يشق الساج وذكر لَهُ الحال وَمَا يخاف من سوء خلق امرأته، فَقَالَ لَهُ صاحبه: خذ من هذه النشارة فِي هَذَا الجراب لعلكم تنتفعون بِهَا فِي سجر التنور، إذ لَيْسَ يساعدني الإمكان فِي شَيْء آخر، فحمل النشارة وفتح بَاب داره ورمى بالجراب ورد الباب ودخل الْمَسْجِد إِلَى مَا بَعْد العتمة ليكون النوم أخذهم ولا تستطيل عَلَيْهِ المرأة، فلما فتح الباب وجدهم يخبزون الخبز، فَقَالَ: من أين لكم هَذَا الخبز؟ فَقَالُوا: من الدقيق الَّذِي كَانَ فِي الجراب لا تشتر غَيْر هَذَا الدقيق، قَالَ: أفعل إِن شاء اللَّه تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر بْن بركات يَقُول: كنت أجالس الفقراء ففتح عَلِي بدينار فأردت أَن أدفعه إليهم ثُمَّ قُلْت فِي نفسي: لعلي أحتاج إِلَيْهِ فهاج بي وجع الضرس فقلعت سنا فوجعت الأخرى حَتَّى قلعتها، فهتف بي هاتف إِن لَمْ تدفع إليهم الدينار فلا يبقى فِي فمك سن واحدة. . قَالَ الأستاذ: وَهَذَا فِي بَاب الكرامة أتم من أَن كَانَ يفتح عَلَيْهِ دنانير كثيرة بنقض العادة. وحكى أَبُو سُلَيْمَان الداراني. قَالَ: خرج عامر بْن عَبْد قَيْس إِلَى الشام ومعه شكوة إِذَا شاء صب منها ماء يتوضأ للصلاة وإذا شاء صب منها لبنا يشربه. وَرَوَى عُثْمَان بْن أَبِي العاتكة قَالَ: كُنَّا فِي غزاة فِي أرض الروم فبعث الوالي سرية إِلَى موضع وجعل الميعاد يَوْم كَذَا، قَالَ: فجاء الميعاد وَلَمْ تقدم السرية فبينا أَبُو مُسْلِم يصلى إِلَى رمحه الَّذِي ركزه فِي الأَرْض جاء طير إِلَى رأس السنان. وَقَالَ: إِن السرية قَدْ سلمت وغنمت وسيردون عليكم يَوْم كَذَا فِي وقت كَذَا، فَقَالَ: أَبُو مُسْلِم للطير: من أَنْتَ رحمك اللَّه تَعَالَى؟ فَقَالَ: أنا مذهب الحزن عَن قلوب الْمُؤْمِنيِنَ، فجاء أَبُو مُسْلِم إِلَى الوالي وأخبره، فلما كَانَ اليوم الَّذِي قَالَ، أتت السرية عَلَى الوجه الَّذِي قَالَ وعن بَعْضهم. قَالَ: كُنَّا فِي مركب فمات رجل كَانَ معنا عليل فأخذنا فِي جهازه وأوردنا أَن نلقيه فِي البحر فصار البحر جافا ونزلت السفينة فخرجنا وحفرنا لَهُ قبرا ودفناه، فلما فرغنا استوى الماء وارتفع المركب وسرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وقيل: إِن النَّاس أصابتهم مجاعة بالبصرة فاشترى حبيب العجمي طعاما بالنسيئة وفرقه على المساكين وأخذ كيسه فجعله تَحْتَ رأسه فلما جاءوا يتقاضونه أخذه وإذا هُوَ مملوء دراهم فقضى منها ديونهم. وقيل: أراد إِبْرَاهِيم بْن أدهم أَن يركب السفينة فأبوا إلا أَن يعطيهم دِينَار فصلى على الشط ركعتين. وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنهم قَدْ سألوني مَا لَيْسَ عندي فصار الرمل دنانير. حدثنا محمد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيز بْن الفضل. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد المروزي. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن سُلَيْمَان. قَالَ: قَالَ أَبُو حمزة نصر بْن الفرج خادم أَبِي مُعَاوِيَة الأسود. قَالَ: كَانَ أَبُو مُعَاوِيَة ذهب بصره فَإِذَا أراد أَن يقرأ نشر المصحف فيرد اللَّه عَلَيْهِ بصره فَإِذَا أطبق المصحف ذهب بصره. وَقَالَ أَحْمَد بْن الهيثم المتطيب قَالَ لي بشر الحافي قل لمعروف الكرخي: إِذَا صليت جئتك، قَالَ: فأديت الرسالة وانتظرته فصلينا الظهر وَلَمْ يجئ ثُمَّ صلينا العصر ثُمَّ المغرب ثُمَّ العشاء فَقُلْتُ فِي نفسي: سبحان اللَّه مثل يَقُول شَيْئًا ثُمَّ لا يفعل لا يَجُوز أَن يفعل وانتظرته وأنا فَوْقَ مَسْجِد عَلَى مشرعة، فجاء بشر بَعْد هوى من الليل وعلى رأسه سجادة فتقدم إلى دجلة ومشى عَلَى الماء فرميت بنفسي من السطح وقبلت يديه ورجليه، وقلت: ادع لي فدعا لي، وَقَالَ: استره عَلِي. قَالَ: فلم أتكلم بِهَذَا حَتَّى مَات. أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّهِ الشيرازي. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفرج الورثاني. قَالَ: سمعت عَلِي بْن يَعْقُوبَ بدمشق. قَالَ: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بْن أَحْمَد يَقُول سمعت قاسما الجرعي يَقُول: رأيت رجلا فِي الطواف لا يَزِيد عَلَى قَوْله: إلهي قضيت حوائج الكل وَلَمْ تقض حاجتي، فَقُلْتُ: مَالِك لا تزيد على هذا الدعاء؟ فَقَالَ: أحدثك، اعلم أنا كُنَّا سبعة أنفس من بلدان شتى فخرجنا إِلَى الجهاد فاسرنا الروم ومضوا بنا لنقتل، فرأيت سبعة أبواب فتحت من السماء وعلى كُل بَاب جارية حسناء من الحور العين فقدم واحد منا فضربت عنقه، فرأيت جارية منهن هبطت إِلَى الأَرْض بيدها منديل فقبضت روحه حَتَّى ضرب أعناق ستة منا فاستوهبني بَعْض رجالهم، فَقَالَت الجارية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 أي شَيْء فإنك يا محروم؟ وغلقت الأبواب، فأنا يا أَخِي متأسف متحسر عَلَى مَا فاتني، قَالَ قاسم الجرعي: أراه أفضلهم لأنه رأى مَا لَمْ يروا وعمل عَلَى الشوق بعدهم. وسمعته يَقُول: سمعت أبا النجم أَحْمَد بْن الْحُسَيْن بخورستان يَقُول: سمعت أبا بَكْر الكتاني يَقُول: كنت فِي طريق مَكَّة فِي وسط السنة فَإِذَا أنا بهميان ملآن يلتمع دنانير فهممت أَن أحمله لأفرقه بمكة عَلَى الفقراء، فهتف بي هاتف إِن أخذته سلبناك فقرك. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حمد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي. قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الخياط. قَالَ: سمعت أبا عَلِي الروذباري يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس الشرفي يَقُول: كُنَّا مَعَ أَبِي تراب النخشبي فِي طريق مَكَّة، فعدل عَنِ الطريق إِلَى ناحية. فَقَالَ لَهُ بَعْض أَصْحَابه أنا عطشان فضرب برجله الأَرْض فَإِذَا عين من ماء زلال، فَقَالَ الفتى: أحب أَن أشربه فِي قدح، فضرب بيده إِلَى الأَرْض فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن مَا رأيت فشرب وسقانا، وَمَا زال القدح معنا إِلَى مَكَّة. فَقَالَ لي أَبُو تراب يوما: مَا يَقُول أَصْحَابك فِي هذه الأمور الَّتِي يكرم اللَّه بِهَا عباده؟ فَقُلْتُ: مَا رأيت أحدا إلا وَهُوَ يؤمن بِهَا، فَقَالَ: من لَمْ يؤمن بِهَا فَقَدْ كفر، إِنَّمَا سألتك من طريق الأحوال فَقُلْتُ: مَا أعرف لَهُمْ قولا فِيهِ. قَالَ: بلى قَدْ زعم أَصْحَابك أَنَّهَا خدع من الحق وليس الأمر كَذَلِكَ، إِنَّمَا الخدع فِي حال السكون إِلَيْهَا، فأما من لَمْ يقترح من ذَلِكَ وَلَمْ يساكنها فتلك مرتبة الربانيين. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عبلة الصوفي. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفرج الورثاني. قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الخلدي بطرسوس. قَالَ: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن الجلاء يَقُول: كُنَّا فِي غرفة سري السقطي بِبَغْدَادَ فلما ذهب من الليل شَيْء لبس قميصا نظيفا وسراويل ورداء ونعلا وقام ليخرج فَقُلْتُ: إِلَى أين فِي هَذَا الوقت. فَقَالَ: أعود فتحا الموصلي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 فلما مشى فِي طرقات بغداد أخذه العسس وحبسوه، فلما كَانَ من الغد أمر بضربه مَعَ المحبوسين فلما رفع الجلاد يده ليضربه وقفت يده فلم يقدر أَن يحركها فقيل للجلاد: اضرب، فَقَالَ: بحذائي شيخ واقف يَقُول: لا تضربه فتقف يدي لا تتحرك، فنظروا من الرجل فَإِذَا هُوَ فتح الموصلي فلم يضربوه. أَخْبَرَنَا الشيخ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي. قَالَ: حَدَّثَنَا الحرق الخطابي. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الفضل قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِم. قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْن يَحْيَي البصر. قَالَ: كَانَ أناس من قريش يجلسون إِلَى عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد فأتوه يوما وَقَالُوا: إنا نخاف من الضيقة والحاجة، فرفع رأسه إِلَى السماء. وَقَالَ: اللَّهُمَّ إني اسألك باسمك المرتفع الَّذِي تكرم بِهِ من شئت من أوليائك وتلهمه الصفي من أحبابك أَن تأتينا برزق من لدنك تقطع بِهِ علائق الشَّيْطَان من قلوبنا وقلوب أَصْحَابنا هَؤُلاءِ، فأنت الحنان المنان القديم الإحسان، اللَّهُمَّ الساعة الساعة، قَالَ: فسمعت والله قعقعة للسقف ثُمَّ تناثرت عَلَيْنَا دنانير ودراهم، فَقَالَ عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد: استغنوا بالله عز عَن غيره، فأخذوا ذَلِكَ وَلَمْ يأخذ عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد شَيْئًا. سمعت أبا عبد اللَّه الشيرازي يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي الجوزي بجند يسابور. قَالَ: سمعت الكتاني يَقُول: رأيت بَعْض الصوفية وَكَانَ غريبا مَا كنت أثبته قَدْ تقدم إلى الْكَعْبَة. وَقَالَ: يا رب مَا أدري مَا يَقُول هَؤُلاءِ يَعْنِي الطائفين فقيل لَهُ: انظر مَا فِي هذه الرقعة، قَالَ: فطارت الرقعة فِي الهواء وغابت. وسمعته يَقُول: سمعت عَبْد الْوَاحِد بْن بَكْر الورثاني يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِي بْن الْحُسَيْن الْمُقْرِي بطرسوس يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن الجلاء يَقُول: اشتهت والدتي عَلَى والدي يوما من الأيام سمكا، فمضى والدي إِلَى السوق وأنا مَعَهُ فاشترى سمكا ووقف ينتظر من يحمله فرأى صبيا وقف بحذائه مَعَ صبي، فَقَالَ: عم تريد من يحمله؟ فَقَالَ: نعم، فحمله ومشى معنا فسمعنا الأذان. فَقَالَ: الصَّبِي أذن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 المؤذن وأحتاج أَن أتطهر وأصلي فَإِن رضيت وإلا فاحمل السمك ووضع الصَّبِي السمك ومر. فَقَالَ: أَبِي فنحن أَن نتوكل فِي السمك فدخلنا الْمَسْجِد فصلينا وجاء الصَّبِي وصلى فلما خرجنا فَإِذَا بالسمك موضوع مكانه فحمله الصَّبِي ومضى معنا إِلَى دارنا فذكر والدي ذَلِكَ لوالدتي فَقَالَتْ قل لَهُ حَتَّى يقيم عندنا ويأكل معنا فقلنا لَهُ. فَقَالَ: إني صائم فقلنا فتعود إلينا بالعشى. فَقَالَ: إِذَا حملت مرة فِي اليوم لا أحمل ثانيا ولكني سأدخل الْمَسْجِد إِلَى المساء ثُمَّ أدخل عليكم فمضى فلما أمسينا دَخَلَ الصَّبِي وأكلنا فلما فرغنا دللناه عَلَى موضع الطهارة ورأينا فِي أَنَّهُ يؤثر الخلوة فتركناه فِي بَيْت فلما كَانَ فِي بَعْض الليل كَانَ لقريب لنا بنت زمنه فجاءت تمشي فسألناها عَن حالها فَقَالَتْ قُلْت يا رب بحرمة ضيفنا أَن تعافيني فقمت قَالَتْ: فمضينا لنطلب الصَّبِي فَإِذَا الأبواب مغلقة كَمَا كانت وَلَمْ نجد الصَّبِي. فَقَالَ أَبِي: فمنهم صَغِير وَمِنْهُم كثير. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَارِث الخطابي. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الفضل. قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِم. قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْن يَحْيَي البصري. قَالَ: أتيت عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد وَهُوَ جالس فِي ظل فَقُلْتُ لَهُ لو سألت اللَّه أَن يوسع عليك الرزق لرجوت أَن يفعل. فَقَالَ: ربي أعلم بمصالح عباده ثُمَّ أخذ حصى من الأَرْض ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِن شئت أَن تجعلها ذهبا فعلت فَإِذَا هِيَ والله فِي يده ذهب فألقاها إِلَى. وَقَالَ أنفقاه أَنْتَ فلا خير فِي الدنيا إلا للآخرة. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت الْحُسَيْن بْن أَحْمَد الفارسي يَقُول: سمعت الدقي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مَنْصُور يَقُول: قَالَ لي أستاذي أَبُو يعقوب السوسي: غسلت مريدا فأمسك إبهامي وَهُوَ عَلَى المغتسل فَقُلْتُ: يا بَنِي خل يدي أنا أدري أنك لست بميت وإنما هِيَ نقلة من دار إِلَى دار فخلى يدي وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر أَحْمَد بْن مُحَمَّد الطرسوسي يَقُول: سمعت إِبْرَاهِيم بْن شيبان يَقُول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 صحبني شاب حسن الإرادة فمات فاشتغل قلبي بِهِ جدا وتوليت غسله فلما أردت غسل يديه بدأت بشماله من الدهشة فأخذها مني وناولني يمينه فَقُلْتُ: صدقت يابني أنا غلطت. وسمعته يَقُول: سمعت أبا النجم الْمُقْرِي البردعي بشيراز يَقُول: سمعت الدقي يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن مَنْصُور يَقُول: سمعت أبا يعقوب السوسي يَقُول: جاءني مريد بمكة. فَقَالَ: يا أستاذ أنا غدا أموت وقت الظهر فخذ هَذَا الدينار فاحفر لي بنصفه وكفني بنصفه الآخر ثُمَّ لما كَانَ الغد جاء وطاف بالبيت ثُمَّ تباعد وَمَاتَ فغسلته وكفنته ووضعته فِي اللحد ففتح عينيه فَقُلْتُ: أحياة بَعْد موت؟ . أنا حي وكل محب لِلَّهِ حي. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحَسَن البغدادي يَقُول: سمعت أبا عَلِي بْن وصيف المؤدب يَقُول تكلم سهل بْن عَبْد اللَّهِ يوما فِي الذكر. فَقَالَ: إِن الذكر لِلَّهِ عَلَى الحقيقة لو هُمْ أَن يَحْيَي الموتى لفعل ومسح يده عَلَى عليل بَيْنَ يديه فبرئ وقام. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الشيرازي يَقُول: أخبرني عَلِي بْن إِبْرَاهِيم بْن أَحْمَد. قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَحْمَد. قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن عُمَر. قَالَ: سمعت بشر بْن الْحَارِث يَقُول: كَانَ عَمْرو بْن عتبة يصلي والغمام فَوْقَ رأسه والسباع حوله تحرك أذنابها. وسمعته يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن مفلج يَقُول: سمعت المغازلي يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول كانت معي أربعة دراهم فدخلت عَلَى السرى وقلت هذه أربعة دراهم حملتها إليك. فَقَالَ: أبشر يا غلام بأنك تفلح كنت أحتاج إِلَى أربعة دراهم فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ ابعثها عَلَى يد من يفلح عندك وسمعته يَقُول: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن أَحْمَد الطبري. قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيم بْن يَحْيَي. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِبْرَاهِيم اليماني. قَالَ خرجنا نسير عَلَى ساحل البحر مَعَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم فانتهينا إِلَى غيضة فِيهَا حطب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 يابس كثير وبالقرب منه حصن فقلنا لإبراهيم بْن أدهم لو أقمنا الليلة هنا وأوقدنا من هَذَا الحطب. فَقَالَ: افعلوا فطلبنا النار من الحصن فأوقدنا وَكَانَ معنا الخبز فأخبجنا نأكل. فَقَالَ واحد منا: مَا أَحْسَن هَذَا الجمر لو كَانَ لنا لحم نشويه عَلَيْهِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيم بْن أدهم: إِن اللَّه تَعَالَى لقادر عَلَى أَن يطعمكموه. قَالَ فبينا نحن كَذَلِكَ إِذَا بأسد يطرد أيلا فلما قرب منا وقع فاندقت عنقه فقام إِبْرَاهِيم بْن أدهم وَقَالَ: اذبحوه فَقَدْ أطعمكم اللَّه فذبحناه وشوينا من لحمه وأسد واقف ينظر إلينا. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا القاسم عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي الشجري يَقُول: سمعت حامدا الأسود يَقُول: كنت مَعَ إِبْرَاهِيم الحواص فِي البادية سبعة أَيَّام عَلَى حالة واحدة، فلما كَانَ السابع ضعفت فجلست فالتفت إلي وَقَالَ: مَالِك؟ فَقُلْتُ: ضعفت. فَقَالَ: أيما أغلب عليك الماء أَوِ الطعام؟ فَقُلْتُ: الماء. فَقَالَ: الماء وراءك فالتفت فَإِذَا عين ماء كاللبن الحليب فشربت وتطهرت وإبراهيم ينظر وَلَمْ يقربه. فلما أردت القيام هممت أَن أحمل منه. فَقَالَ: أمسك فَإِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يتزود منه. سمعت أبا عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الدباس البغدادي يَقُول: سمعت فاطمة أخت أَبِي عَلِي الروذباري تقول سمعت زيتونة خادمة أَبِي الْحُسَيْن النوري وكانت تخدمه، وخدمت أبا حمزة والجنيد قَالَتْ: كَانَ يَوْم بارد فَقُلْتُ للنوري: أحمل إليك شَيْئًا؟ فَقَالَ: نعم، فَقُلْتُ: إيش تريد؟ . قَالَ خبز ولبن فحملت وَكَانَ بَيْنَ يديه فحم وَكَانَ يقلبها بيده وَقَد اشتعلت فأخذ يأكل الخبز واللبن يسيل عَلَى يده وعليها سواد الفحم فَقُلْتُ: فِي نفسي: مَا أقذر أولياءك يا رب مَا فيهم أحد قَالَ فخرجت من عنده فتعلقت بي امْرَأَة وَقَالَتْ: سرقت لي رزمة ثياب وجروني إِلَى الشرطي فأخبر النوري بِذَلِكَ فخرج وَقَالَ للشرطي لا تتعرضوا لَهَا فإنها ولية من أولياء اللَّه تَعَالَى. فَقَالَ الشرطي: كَيْفَ أصنع والمرأة تدعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 قَالَ: فجاءت جارية ومعها الرزمة المطلوبة فاسترد النوري المرأة. وَقَالَ لَهَا لا تقولين بعدها: مَا أقذر أولياءك، قَالَتْ فَقُلْتُ: تبت إِلَى اللَّه تَعَالَى. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الشيرازي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن فارس الفارسي يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن خيرا النساج يَقُول: سمعت الخواص يَقُول: عطشت فِي بَعْض أسفاري وسقطت من العطش فَإِذَا أنا بماء رش عَلَى وجهي ففتحت عيني فَإِذَا برجل حسن الوجه راكب دابة شهباء فسقاني الماء. وَقَالَ كن رديفي وكنت بالحجارة فَمَا لبث إلا يسيرا. فَقَالَ لي: ترى فَقُلْتُ: أرى الْمَدِينَة. فَقَالَ: انزل وأقرئ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني السَّلام وقل: أخوك الخضر يقرئك السَّلام. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمى يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحَسَن البغدادي يَقُول: قَالَ أَبُو الحديد سمعت المظفر الجصاص يَقُول: كنت أنا ونصر الخراط ليلة فِي موضع فتذكرنا شَيْئًا من العلم. فَقَالَ الخراط: إِن الذاكر لِلَّهِ تَعَالَى فائدته فِي أول ذكره أَن يعلم أَن اللَّه تَعَالَى ذكره فبذكر اللَّه تَعَالَى ذكره. قَالَ فخالفته. فَقَالَ: لو كَانَ الخضر عَلَيْهِ السَّلام ههنا لشهد بصحته. قَالَ فَإِذَا نحن بشيخ يجئ بَيْنَ السماء وَالأَرْض حَتَّى بلغ إلينا وسلم. وَقَالَ صدق الذاكر لِلَّهِ تَعَالَى بفضل ذكر اللَّه تَعَالَى لَهُ ذكره فعلمنا أَنَّهُ الخضر عَلَيْهِ السَّلام. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: جاء رجل إِلَى سهل بْن عَبْد اللَّهِ. وَقَالَ: إِن النَّاس يقولون إنك تمشي عَلَى الماء. فَقَالَ: سل المؤذن المحلة فَإِنَّهُ رجل صَالِح لا يكذب قَالَ. فسألته: فَقَالَ المؤذن لا أدري هَذَا ولكنه كَانَ فِي بَعْض هذه الأيام نزل الحوض ليتطهر فوقع فِي الماء فلو لَمْ أكن أنا لبقي فِيهِ. قَالَ الأستاذ أَبُو عَلِي الدقاق: إِن سهلا كَانَ بتلك الحالة الَّتِي وصف، ولكن اللَّه تَعَالَى يريد أَن يستر أولياءه فأجرى مَا وقع من حَدِيث المؤذن والحوض سترا لحال سهل وسهل كَانَ صاحب الكرامات، وَفِي قريب من هَذَا المعنى مَا حكى عَن أَبِي عُثْمَان المغربي. قَالَ رأيته بخط أَبِي الْحُسَيْن الْجُرْجَانِيّ. قَالَ أردت مرة أَن أمضي إِلَى مصر فخطر لي أَن أركب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 السفينة ثُمَّ خطر ببالي أني أعرف هناك فخفت الشهرة فمر مركب فبدا لي فمشيت عَلَى الماء ولحقت بالمركب ودخلت السفنية والناس ينظرون وَلَمْ يقل أحدا إِن هَذَا ناقض للعادة أَوْ غَيْر ناقض فعرفت أَن الولي مستور وإن كَانَ مشهورا. ومما شاهدنا من أحواله الأستاذ أَبِي عَلِيّ الدقاق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ معاينة أَنَّهُ كَانَ بِهِ علة حرقة البول وَكَانَ يقوم فِي ساعة غَيْر مرة حَتَّى كَانَ يجدد الوضوء غَيْر مرة لركعتي فرض وَكَانَ يحمل مَعَهُ قارورة فِي طريق المجلس وربما كَانَ يحتاج إِلَيْهَا فِي الطريق مرات ذاهبا وجائيا وَكَانَ إِذَا قعد عَلَى رأس الكرسي يتكلم لا يحتاج إِلَى الطهارة ولو وَلَم امتد بِهِ المجلس زمانا طويلا وكنا نعاين ذَلِكَ منه سنين وَلَمْ يقع لنا فِي حياته أَن هَذَا شَيْء نقاض لعادته وإنما وقع لي هَذَا وفتح عَلِي علمه بَعْد وفاته. فِي قريب من هَذَا مَا يحكي عَن سهل بْن عَبْد اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أصابته زمانه فِي آخر عمره وَكَانَ ترد عَلَيْهِ القوة فِي أوقات الفرض فيصلي قائما ومن المشهور أَن عَبْد اللَّهِ الوزان كَانَ مقعدا وَكَانَ فِي السماع إِذَا ظهر بِهِ وجد يقوم ويستمع. سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد المالكي. قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُف بْن أَحْمَد البغدادي. قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحواري. قَالَ حججت أنا وأبو سُلَيْمَان الداراني فبينا نحن نسير إِذَا سقطت السطحية مني فَقُلْتُ: لأبي سُلَيْمَان فقدت السطحية وبقينا بلا ماء وَكَانَ برد شديد. فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: يا راد الضالة ويا هاديا من الضلالة اردد عَلَيْنَا الضالة فَإِذَا واحد ينادى من ذهبت لَهُ سطيحة. قَالَ: فَقُلْتُ أنا فأخذتها فبينا نحن نسير وَقَدْ تدرعنا بالفراء لشدة البرد فَإِذَا نحن بإِنْسَان عَلَيْهِ طمران وَهُوَ يترشح عرقا. فَقَالَ: أَبُو سُلَيْمَان تعال ندفع إليك شَيْئًا مِمَّا عَلَيْنَا من الثياب. فَقَالَ: يا أبا سُلَيْمَان أتشير إلي بالزهد وأنت تجد البرد أنا أسيح فِي هذه البرية منذ ثلاثين سنة وَمَا انتفضت ولا ارتعدت يلبسني اللَّه فِي البرد فيحا من محبته ويلبسني فِي الصيف مذاق برد محبته ومر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 وسمعته يَقُول: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بْن عَلِي التكريتي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِي الكتاني بمكة يَقُول: سمعت الخواص يَقُول: كنت فِي البادية مرة فسرت فِي وسط النهار فوصلت إِلَى شجرة وبالقرب منها ماء فنزلت فَإِذَا أنا بسبع عظيم أقبل فاستسلمت فلما قرب مني إِذَا هُوَ يعرج فحمحم وبرك بَيْنَ يدي ووضع يده فِي حجري فنظرت فَإِذَا يده منتفخة فِيهَا قيح ودم فأخذت خشبة وشققت الموضع الَّذِي فِيهِ القيح وشددت عَلَى يده خرقة ومضى فَإِذَا أنا به بَعْد ساعة ومعه شبلان يبصان لي وحملا إلي رغيفا. وسمعته يَقُول حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِي السائح. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْد اللَّهِ بْن مطرف. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَن العسقلاني. قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الحواري. قَالَ: اشتكى مُحَمَّد بْن السماك فأخذنا ماءه وانطلقنا بِهِ إِلَى الطبيب وَكَانَ نصرانيا فبينا نحن بَيْنَ الحيرة والكوفة استقبلنا رجل حسن الوجه طيب الرائحة نقي الثوب. فَقَالَ لنا: إِلَى أين تريدون فقلنا: نريد فلانا الطبيب نريه ماء ابْن السماك. فَقَالَ: سبحان اللَّه تستعينون عَلَى ولي اللَّه بعدو اللَّه اضربوا بِهِ الأَرْض وارجعوا إِلَى ابْن السماك وقولوا لَهُ ضع يدك عَلَى موضع الوجع وقل: {وبالحق أنزلنه وبالحق نزل} ثُمَّ غاب عنا فلم نره فرجعنا إِلَى أبن السماك فأخبرناه بِذَلِكَ فوضع يده عَلَى موضع الوجع. وَقَالَ مَا قَالَ الرجل فعوفي فِي الوقت. فَقَالَ ذَلِكَ: كَانَ الخضر عَلَيْهِ السَّلام. سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد الصوفي يَقُول: سمعت عمي البسطامي يَقُول كُنَّا قعودا فِي مجلس أَبِي يَزِيد البسطامي. فَقَالَ: قوما بنا نستقبل وليا من أولياء اللَّه تَعَالَى فقمنا مَعَهُ فلما بلغنا الدرب فَإِذَا إِبْرَاهِيم بْن شيبة الهروي. فَقَالَ لَهُ أَبُو يَزِيد: وقع فِي خاطري أَن أستقبلك وأشفع لَك إِلَى ربي. فَقَالَ إِبْرَاهِيم بْن شيبة لو شفعك فِي جَمِيع الخلق لَمْ يكن بكثير إِنَّمَا هُمْ قطعة طين فتحير أَبُو يَزِيد من جوابه. قَالَ الأستاذ وكرامة إِبْرَاهِيم فِي استصغار ذَلِكَ أتم من كرامة أَبِي يَزِيد فيما حصل لَهُ من الفراسة وصدق لَهُ من الحالة فِي بَاب الشفاعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت يُوسُف بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت ذا النون الْمِصْرِي يَقُول وَقَدْ سَأَلَهُ سالم المغربي عَن أصل توبته. فَقَالَ: خرجت من مصر إِلَى بَعْض القرى فنمت فِي الطريق ثُمَّ انتبهت وفتحت عيني فَإِذَا أنا بقنبرة عمياء سقطت من شجرة عَلَى الأَرْض فانشقت الأَرْض فخرج منها سكرجتان إحداهما من ذهب والأخرى من فضة وَفِي إحداهما سمسم وَفِي الأخرى ماء ورد فأكلت من هذه وشربت من هذه فَقُلْتُ: حسبي تبت ولزمت الباب إِلَى أَن قبلني وقيل: أصاب عَبْد الْوَاحِد بْن زَيْد فالج فدخل وقت الصلاة واحتاج إِلَى الوضوء. فَقَالَ: من ههنا فلم يحبه أحد فخاف فوت الوقت. فَقَالَ: يا رب أحللني من وثاقي حَتَّى أقصي طهارتي ثُمَّ قَالَ: فصح حَتَّى أكمل طارته ثُمَّ عاد إِلَى فراشه وصار كَمَا كَانَ. وَقَالَ أيوب الجمال: كَانَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الديلمي إِذَا نزل منزلا فِي سفر عمد إِلَى حماره. وَقَالَ فِي أذنه: كنت أريد أَن أشدك فالآن لا أشدك وأرسلك فِي هذه الصحراء لتأكل الكلأ فَإِذَا أردنا الرحيل فتعال فَإِذَا كَانَ وقت الرحيل يأتيه الحمار. وقيل: زوج أَبُو عَبْد اللَّهِ الديلمي ابنته واحتاج إِلَى مَا يجهزها بِهِ وَكَانَ لَهُ ثوب يخرج بِهِ كُل وقت فيشتري بدينار فخرج لَهُ ثوب. فَقَالَ لَهُ البياع: إنه يساوي أَكْثَر من دِينَار فلم يزالوا يزيدون فِي ثمنه حَتَّى بلغ مائة دِينَار وَقَالَ النضر بْن شميل: ابتعت إزارا فوجدته قصيرا فسألت ربي تَعَالَى أَن يمغط لي ذراعا ففعل. قَالَ الأستاذ: أي يمد من مغط القوس وَهُوَ مده. قَالَ النضر: ولو استزدته لزادني وقيل: كَانَ عامر بْن عَبْد قَيْس سأل أَن يهون عَلَيْهِ طهوره فِي الشتاء فكان يؤتى بِهِ وَلَهُ بخار وسأل ربه أَن ينزع شهوة النِّسَاء من قلبه فكان لا يبالي بهن وسأله أَن يمنع الشَّيْطَان من قلبه وَهُوَ فِي صلاته فلم يجب إِلَيْهِ. وَقَالَ بشر بْن الْحَارِث: دخلت الدار فَإِذَا أنا برجل فَقُلْتُ: من أَنْتَ دخلت داري بغير إذني. فَقَالَ: أخوك الخضر فَقُلْتُ: ادع اللَّه لي. فَقَالَ: هون اللَّه عليك طاعته فَقُلْتُ: زدني. فَقَالَ: وسترها عليك. وَقَالَ إِبْرَاهِيم الخواص دخلت خربة فِي بَعْض الأسفار فِي طريق مَكَّة بالليل فَإِذَا فِيهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 سبع عظيم فخفت فهتف بي هاتف أثبت فإنك حولك سبعين ألف ملك يحفظونك , أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن. قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الفرج الورثاني. قَالَ: سمعت أبا الْحَسَن عَلِي بْن مُحَمَّد الصوفي يَقُول: سمعت جَعْفَر الدبيلي يَقُول: دَخَلَ النوري الماء فجاء لص فأخذ ثيابه ثُمَّ إنه جاء ومعه الثياب وَقَدْ جفت يده. فَقَالَ النوري: قَدْ رد عَلَيْنَا الثياب فرد عَلَيْهِ يده فعوفي. وَقَالَ الشبلي: اعتقدت وقتا أَن لا آكل إلا من الحلال فكنت أدور فِي الباري فرأيت شجرة تين فمددت يدي إِلَيْهَا لآكل فنادتني الشجرة: احفظ عليك عقدك لا تأكل مني فإني ليهودي. وَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بْن خفيف دخلت بغداد قاصدا إِلَى الحج وَفِي رأسي نخوة الصوفية وَلَمْ آكل الخبز أربعين يوما وَلَمْ أدخل عَلَى الجنيد وخرجت وَلَمْ أشرب الماء إِلَى زبالة وكنت عَلَى طهارتي فرأيت ظبيا عَلَى رأس البئر وَهُوَ يشرب وكنت عطشانا فلما دنوت من البئر ولي الظبي وإذا الماء فِي أسفله فمشيت وقلت: يا سيدي مالي محل هَذَا الظبي فسمعت من خلفي جربناك فلم تصبر ارجع وخذ الماء فرجعت فَإِذَا البئر ملأى ماء فملأت ركوتي وكنت أشرب منه وأتطهر إِلَى الْمَدِينَة وَلَمْ ينفد ولما استقيت سمعت هاتفا يَقُول: إِن الظبي جاء بلا ركوة ولا حبل وأنت جئت مَعَ الركوة والحبل فلما رجعت من الحج دخلت الجامع فلما وقع بصر الجنيد عَلِي. قَالَ: لو صبرت لنبع الماء من تَحْتَ رجلك لو صبرت صبر ساعة. سمعت حمزة بْن يُوسُفَ السَّهْمِيّ الْجُرْجَانِيّ يَقُول: سمعت أبا أَحْمَد بْن عدي الحافظ يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن حمزة بمصر يَقُول: حَدَّثَنِي عَبْد الْوَهَّاب وَكَانَ من الصالحين. قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن سَعِيد البصري: بينا أنا أمشي فِي بَعْض طرق البصرة إذ رأيت أعرابيا يسوق جملا فالتفت فَإِذَا الجمل قَدْ وقع ميتا ووقع الرجل والقتب فمشيت ثُمَّ التفت فَإِذَا الأعرابي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 يَقُول: يا مسبب كُل سبب ويا مولي من طلب رد عَلِي مَا ذهب من جمل يحمل الرحل والقتب وإذ الجمل قائم والرحل والقتب فوقه. وقيل: إِن شبلا المروزي اشتهي لحما فأخذ بنصف درهم فاستقبلته منه حدأة فِي الطريق فدخل شبل مسجدا ليصلي فلما رجع إِلَى منزله قدمت امرأته إِلَيْهِ لحما. فَقَالَ: من أين هَذَا؟ فَقَالَتْ: تنازعت حدأتان فسقط هَذَا منهما. فَقَالَ شبل: الحمد لِلَّهِ الَّذِي لَمْ ينس شبلا وإن كَانَ شبل كثيرا ينساه أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الْوَاحِد بْن بَكْر الورثاني. قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن دَاوُد يَقُول: سمعت أبا بَكْر بْن مَعْمَر يَقُول: سمعت ابْن أَبِي عُبَيْد البسري يحدث عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ غزا سنة من السنين فخرج فِي السرية فمات المهر الَّذِي كَانَ تحته وَهُوَ فِي السرية. فَقَالَ: يا رب أعرناه حَتَّى نرجع إِلَى بسرى يَعْنِي قريته فَإِذَا المهر قائم فلما غزا ورجع إِلَى بسرى. قَالَ: يا بَنِي خذ السرج عَنِ المهر فَقُلْتُ: إنه عرق فَإِن أخذت السرج داخله الريح. فَقَالَ: يا بَنِي إنه عارية. قَالَ: فلما أخذت السرج وقع المهر ميتا وقيل: كَانَ بَعْضهم نباشا فتوفيت امْرَأَة فصلى النَّاس عَلَيْهَا وصلى هَذَا النباش ليعرف القبر فلما جن عَلَيْهِ الليل نبش قبرها فَقَالَتْ: سبحان اللَّه رجل مغفور لَهُ يأخذ كفن امْرَأَة مغفورة. قَالَ: هبي أنك مغفور لَك فأنا من أين؟ فَقَالَتْ: إِن اللَّه تَعَالَى غفر لي ولجميع من صلى عَلِي وأنت قَدْ صليت عَلَيّ فتركتها ورددت التراب عَلَيْهَا ثُمَّ تاب الرجل وحسنت توبته. سمعت حمزة بْن يُوسُفَ يَقُول: سمعت أبا الْحَسَن إِسْمَاعِيل بْن عَمْرو بْن كامل بمصر يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد نعمان بْن مُوسَى الحيري بالحيرة يَقُول: رأيت ذا النون الْمِصْرِي وَقَدْ تقاتل اثنان أحدهما من أولياء السلطان والآخر من الرعية فعدا الَّذِي من الرعية عَلَيْهِ فكسر ثنيته فتعلق الجندي بالرجل. وَقَالَ: بيني وبينك الأمير فجاوزوا بذي النون. فَقَالَ لَهُم النَّاس: اصعدوا إِلَى الشيخ فصعدوا إِلَيْهِ فعرفوه مَا جرى فأخذ السن ثُمَّ بلها بريقه وردها إِلَى فم الرجل فِي الموضع الَّذِي كانت فِيهِ وحرك شفتيه فتعلقت بإذن اللَّه تَعَالَى فبقي الرجل يفتش فاه فلم يجد الأسنان إلا سواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن الْقَطَّان بِبَغْدَادَ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِي إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الصفار. قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن عرفة بْن يَزِيد. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن إدريس الأودي , عَن إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد , عَنْ أَبِي سبرة النخعي. قَالَ: أقبل رجل من اليمن فلما كَانَ فِي بَعْض الطريق نفق حماره فقام فتوضأ ثُمَّ صلى ركعتين ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إني جئت مجاهدا فِي سبيلك ابتغاء مرضاتك وأنا أشهد أنك تحيي الموتي وتبعث من فِي القبور ولا تجعل لأحد عَلِي منة اليوم أطلب منك أَن تبعث حماري فقام الحمار ينفض أذنيه. سمعت حمزة ابْن يُوسُف يَقُول: سمعت أبا بَكْر النابلسي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الهمذاني يَقُول بقيت فِي برية الحجاز أياما لَمْ آكل شَيْئًا فاشتهيت باقلا حارا وخبزا من بَاب الطاق فَقُلْتُ أنا فِي البرية وبيني وبين العراق مسافة بعيدة فلم أتم خاطري إلا وأعرابي من بعيد ينادي باقلا حار وخبز فتقدمت إِلَيْهِ فَقُلْتُ عندك باقلا حارا وخبز. فَقَالَ نعم وبسط مئزرا كَانَ عَلَيْهِ وأخرج خبزا وباقلا. وَقَالَ لي: كُل فأكلت ثُمَّ قَالَ لي: كُل فأكلت ثُمَّ قَالَ لي: كُل فأكلت فلما. قَالَ فِي الرابعة قُلْت: بحق الَّذِي بعثك إِلَى إلا مَا قُلْت لي من أَنْتَ. فَقَالَ: الخضر وغاب عني فلم أره. سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس بْن الخشاب البغدادي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الفرغاني يَقُول: سمعت أبا جَعْفَر الحداد يَقُول جئت الثعلبية وَهِيَ خراب ولي سبعة أَيَّام لَمْ آكل شَيْئًا فدخلت القبة وجاء قوم خراسانيون أصابهم جهد فطرحوا أنفسهم عَلَى بَاب القبة فجاء أعرابي عَلَى راحلة وصب تمرا بَيْنَ أيديهم فاشتغلوا بالأكل وَلَمْ يقولوا لي شَيْئًا وَلَمْ يرني الأعرابي فلما كَانَ بَعْد ساعة فَإِذَا بالأعرابي جاء. وَقَالَ لَهُمْ معكم غيركم فَقَالُوا نعم هَذَا الرجل داخل القبة. قَالَ: فدخل الأعرابي. وَقَالَ لي: إيش أَنْتَ لِمَ لَمْ تتكلم مضيت فعارضني إِنْسَان. فَقَالَ لي: قَدْ خلفت إِنْسَانا لَمْ تطعمه وَلَمْ يمكني أَن أمضي وتطولت عَلِي الطريق لأني رجعت عَن أميال وصب بَيْنَ يدي التمر الكثير ومضى فدعوتهم فأكلوا وأكلت. سمعت حمزة بْن يُوسُفَ يَقُول: سمعت أبا طاهر الرقى يَقُول: سمعت أَحْمَد بْن عَطَاء يَقُول: كلمني جمل فِي طريق مَكَّة رأيت جمالا والمحامل عَلَيْهَا وَقَدْ مدت أعناقها فِي الليل فَقُلْتُ: سبحان من يحمل عَنْهَا مَا هِيَ فِيهِ فالتفت إلي جمل. وَقَالَ لي قل: جل اللَّه فَقُلْتُ: جل اللَّه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت الْحَسَن بْن أَحْمَد الفارسي يَقُول: سمعت الرقى يَقُول: سمعت أبا بَكْر بْن معر يَقُول: سمعت أبا زرعة الجنبي يَقُول: مكرت بي امْرَأَة فَقَالَتْ: ألا تدخل الدار فتعود مريضا فدخلت فأغلقت الباب وَلَمْ أر أحدا فعلمت مَا فعلت فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ سودها فاسودت فتحيرت وفتحت الباب فخرجت فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ ردها إِلَى حالها فردها عَلَى مَا كانت. سمعت حمزة بْن يُوسُفَ يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد الغطريفي يَقُول: سمعت السراج يَقُول: سمعت أبا سُلَيْمَان الرومي يَقُول: سمعت خليلا الصياد يَقُول: غاب عني ابني مُحَمَّد فوجدنا عَلَيْهِ وجدا شديدا فأتيت معروفا الكرخي , فَقُلْتُ: يا أبا محفوظ غاب ابني وأمة واجدة. فَقَالَ: مَا تشاء؟ فَقُلْتُ: ارع اللَّه أَن يرده. فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن السماء سماؤك وَالأَرْض أرضك وَمَا بينهما لَك، ائت بمحمد. قَالَ خليل فأتيت بَاب الشام فَإِذَا هُوَ واقف فَقُلْتُ: يا مُحَمَّد فَقَالَ: يا أبت كنت الساعة بالأنبار. قَالَ الأستاذ واعلم أَن الحكايات فِي هَذَا الباب تربو عَلَى الحصر والزيادة عَلَى مَا ذكرناه تخرجنا عَنِ المقصود من الإيجار وَفَيْمَا ذكرناه مقنع فِي هَذَا الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 بَاب رؤيا الْقَوْم قَالَ اللَّه تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] قيل: هِيَ الرؤيا الحسنة يراها المرء أَوْ ترى لَهُ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الأَهْوَازِيُّ. قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَصْرِيُّ. قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِنْقَرِيُّ. قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ قَبْلَكَ هِيَ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ يَرَاهَا الْمَرْءُ أَوْ تُرَى لَهُ أَخْبَرَنَا السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَلَوِيُّ. قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ زَيْدٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ يَحْيَي بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَتْفِلُ عَنْ يَسَارِهِ وَلْيَتَعَوَّذْ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبْدُوسٍ الْمُزَكِّيُّ. قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَمْزَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْبَزَّارُ. قَالَ: حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى. قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ وَأَبِي عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي. ومعنى الْخَبَر أَن تلك الرؤيا رؤيا صدق وتأويلها حق وأن الرؤيا نوع من أنواع الكرامات وتحقيق الرؤيا خواطر ترد عَلَى القلب وأحوال تتصور فِي الوهم إِذَا لَمْ يستغرق النوم جَمِيع الاستشعار فيتوهم الإِنْسَان عِنْدَ اليقظة أَنَّهُ كَانَ رؤية فِي الحقيقة وإنما كَانَ ذَلِكَ تصورا وأوهاما تقررت فِي قلوبهم وحين زال عَنْهُم الإحساس الظاهر تجردت تلك الأوهام عَنِ المعلومات بالحس والضرورة فقوبت تلك الحالة عِنْدَ صاحبها فَإِذَا استيقظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 ضعف تلك الأحوال الَّتِي تصورها بالإضافة إِلَى حال إحساسه بالمشاهدات وحصول العلوم الضرورية ومثاله كالذي يَكُون فِي ضوء السراج عِنْدَ اشتداد الظلمة فَإِذَا طلعت الشَّمْس عَلَيْهِ غلبت ضوء السراج , فيتقاصر نور السراج بالإضافة إِلَى ضياء الشَّمْس فمثال حال النوم كمن هُوَ فِي ضوء السراج ومثال المستيقظ كمن تَعَالَى عَلَيْهِ النهار فَإِن المستيقظ يتذكر مَا كَانَ متصورا لَهُ فِي حال نومه ثُمَّ إِن تكل الأحاديث والخواطر الَّتِي كانت ترد عَلَى قلبه فِي حال نومه مرة تكون من قبل الشَّيْطَان ومرة من هواجس النفس ومرة بخواطر الْمَلِك ومرة تكون تعريفا من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بخلق تلك الأحوال فِي قلبه ابتداء وَفِي الْخَبَر أصدقكم رؤيا أصدقكم حَدِيثا واعلم أَن النوم عَلَى أقسام نوم غفلة ونوم عادة وَذَلِكَ غَيْر محمود بَل هُوَ معلول لأنه أَخُو الْمَوْت. وَفِي بَعْض الأخبار المروية: النوم أَخُو الْمَوْت. وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] وقيل: لو كَانَ فِي النوم خير لكان فِي الْجَنَّة نوم. وقيل: لما ألقى اللَّه عَلَى آدم النوم فِي الْجَنَّة أخرج منه حواء وكل بلاء بِهِ إِنَّمَا حصل حِينَ حصلت حواء. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: لما قَالَ إِبْرَاهِيم لإسماعيل عليهما السَّلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] . قَالَ: يا أبت هَذَا جزاء من نام عَن حبيبه ولو لَمْ تنم لما أمرت بذبح الولد. وقيل: أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلام كذب من ادعى محبتي فَإِذَا جنه الليل نام عني والنوم ضد العلم ولهذا قَالَ الشبلي: نعسة فِي ألف سنة فضيحة. وَقَالَ الشبلي: اطلع الحق عَلِي. فَقَالَ: من نام غفل ومن غفل حجب. وَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 الشبلي يكتحل بالملح بعده حَتَّى كَانَ لا يأخذه النوم، وَفِي معناه أنشدوا: عجبا للمحب كَيْفَ ينام ... كُل نوم عَلَى المحب حرام وقيل: المريد أكله فاقة ونومه غلبة وكلامه ضرورة. وقيل: لما نام آدم عَلَيْهِ السَّلام بالحضرة قيل لَهُ هذه حواء لتسكن إِلَيْهَا هَذَا جزاء من نام بالحضرة. وقيل: إِن كنت حاضرا فلا تنم فَإِن النوم بالحضرة سوء أدب وإن كنت غائبا فأنت من أهل الحسرة والمصيبة والمصاب لا يأخذه النوم، وَأَمَّا أهل المجاهدات فنومهم صدقة من اللَّه عَلَيْهِم وأن لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يباهي بالعبد إذ نام فِي سجوده يَقُول: انظروا إِلَى عبدي روحه عندي وجسده بَيْنَ يدي. قَالَ الأستاذ يَعْنِي: روحه فِي محل النجوى وبدنه عَلَى بساط العبادة. وقيل: كُل من نام عَلَى الطهارة يؤذن لروحه أَن تطوف بالعرش وتسجد لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9] سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: شكا رجل إِلَى بَعْض المشايخ من كثرة النوم. فَقَالَ: اذهب واشكر اللَّه تَعَالَى عَلَى العافية فكم من مريض فِي شهوة غمضة من النوم الَّذِي تشكو منه. وقيل: لا شَيْء أشد عَلَى إبليس من نوم العاصي يَقُول: مَتَى ينتبه ويقوم حَتَّى يعصى اللَّه. وقيل: أَحْسَن أحوال العاصي أَن ينام إِن لَمْ يكن الوقت لَهُ لَمْ يكن عَلَيْهِ. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: تعود شاه الكرماني السهر فغلبه النوم مرة فرأى الحق سبحانه فِي النوم فكان يتكلف النوم بَعْد ذَلِكَ فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: رأيت سرور قلبي فِي منامي فأحببت التنعس والمناما وقيل: كَانَ رجل لَهُ تلميذان فاختلفا فيما بينهما. فَقَالَ أحدهما: النوم خير، لأن الإِنْسَان لا يعصى فِي تلك الحالة. وَقَالَ الآخر: اليقظة خير لأنه يعرف اللَّه تَعَالَى فِي تلك الحالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 فتحاكما إِلَى ذَلِكَ الشيخ. فَقَالَ: أما أَنْتَ الَّذِي قُلْت بتفضيل النوم فالموت خير لَك من الحياة، وَأَمَّا أَنْتَ الَّذِي قُلْت بتفضيل اليقظة فالحياة خير لَك من الْمَوْت. وقيل: اشترى رجل مملوكة فلما دَخَلَ الليل. قَالَ: افرشي الفراش فَقَالَتْ: المملوكة يا مولاي ألك مولى؟ . قَالَ: نعم فَقَالَتْ: ينام؟ قَالَ: لا , قَالَتْ: ألا تستحي أَن تنام ومولاك لَمْ ينم. وقيل: قَالَتْ بنية لسعيد بْن جُبَيْر: لَمْ لا تنام. فَقَالَ: إِن جهنم لا تدعني أَن أنام. وقيل: قَالَتْ بت لمالك بْن دِينَار: لَمْ لا تنام؟ فَقَالَ: إِن أباك يخاف البيات. وقيل: لما مَات الرَّبِيع بْن خيثم قَالَتْ بنية لأبيها من جيرانه: يا أبت الأسطوانة الَّتِي كانت فِي دار جارنا أين ذهبت؟ فَقَالَ: إنه كَانَ جارنا الصالح يقوم من أول الليل إِلَى آخره فتوهمت البنية أَنَّهُ كَانَ سارية لأنها كانت لا تصعد السطح إلا بالليل فتجده قائما. وَقَالَ بَعْضهم: فِي النوم معان ليست فِي اليقظة منها: أَنَّهُ يرى المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة والسلف الماضين فِي النوم ولا يراهم فِي اليقظة وَكَذَلِكَ يرى الحق فِي النوم وَهَذَهِ مزية عظيمة وقيل: رأى أَبُو بَكْر الآجري الحق سبحانه فِي النوم. فَقَالَ لَهُ: سل حاجتك. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغفر لجميع عصاة أمة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: أنا أولى بِهَذَا منك سل حاجتك. وَقَالَ الكتاني رأيت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام. فَقَالَ لي: من تزين لِلنَّاسِ بشيء يعلم اللَّه تَعَالَى منه خلافه شأنه اللَّه. وَقَالَ الكتاني: أَيْضًا رأيت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام فَقُلْتُ: ادع اللَّه أَن لا يميت قلبي. فَقَالَ: قل كُل يَوْم أربعين مرة يا حي يا قيوم لا اللَّه إلا أَنْتَ فَإِن اللَّه يَحْيَي قلبك ورأى الْحَسَن بْن عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عيسى بْن مريم عليهما السَّلام فِي المنام. فَقَالَ: إني أريد أَن أتخذ خاتما فَمَا الَّذِي أكتب عَلَيْهِ. فَقَالَ: اكتب عَلَيْهِ لا اللَّه إلا اللَّه الْمَلِك الحق المبين فَإِنَّهُ فِي آخر الإنجيل وَرَوَى عَن أَبِي يَزِيد أَنَّهُ: قَالَ رأيت ربي عَزَّ وَجَلَّ فِي المنام فَقُلْتُ: كَيْفَ الطريق إليك. فَقَالَ: اترك نفسك وتعال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 وقيل: رأى أَحْمَد بْن خضرويه ربه فِي المنام. فَقَالَ: يا أَحْمَد كُل النَّاس يطلبون مني إلا أبا يَزِيد فَإِنَّهُ يطلبني. وَقَالَ يَحْيَي بْن سَعِيد الْقَطَّان: رأيت ربي فِي المنام فَقُلْتُ: يا رب كم أدعوك فلا تستجيب لي. فَقَالَ تَعَالَى: يا يَحْيَي إني أحب أَن أسمع صوتك. وَقَالَ بشر بْن الْحَارِث: رأيت أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عَلِي بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي المنام فَقُلْتُ: يا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عظني. فَقَالَ: مَا أَحْسَن عطف الأغنياء عَلَى الفقراء طلبا لثواب اللَّه تَعَالَى وأحسن من ذَلِكَ نية الفقراء عَلَى الأغنياء ثقة بالله تَعَالَى فَقُلْتُ لَهُ: يا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ زدني. فَقَالَ: قَدْ كنت ميتا فصرت حيا وعن قريب نصير ميتا عز بدار الفناء بَيْت فابن بدار البقاء بيتا وقيل: رؤي سُفْيَان الثَّوْرِي فِي المنام فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك. فَقَالَ: رحمني فقيل مَا حال عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ. فَقَالَ: هُوَ مِمَّن يلج عَلَى ربه كُل يَوْم مرتين. سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول رأى الأستاذ أَبُو سهل الصعلوكي أبا سهل الزجاجي فِي المنام وَكَانَ الزجاجي يَقُول بوعيد الأبد. فَقَالَ لَهُ: مَا فعل اللَّه بك. فَقَالَ الزجاجي: الأمر ههنا أسهل مِمَّا كَانَ نظنه. ورؤي الْحَسَن بْن عَاصِم الشيباني فِي المنام فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه بك. فَقَالَ: وإيش يَكُون من الكريم إلا الكرم ورؤي بَعْضهم فِي المنام فسئل عَن حاله. فَقَالَ. حاسبونا فدققوا ثُمَّ منوا فاعتقوا ورؤي حبيب العجمي فِي المنام فقيل لَهُ: مت يا حبيب العجمي. فَقَالَ: هيهات ذهبت العجمة وبقيت النعمة وقيل: دَخَلَ الْحَسَن البصري مسجدا ليصلي فِيهِ المغرب فوجد إمامهم حبيبا العجمي فلم يصل خلفه لأنه خاف أَن يلحن لعجمه فِي لسانه فرأى فِي المنام تلك الليلة قائلا يَقُول لَهُ لِمَ لَمْ تصل خلفه لو صليت خلفه لغفر لَك مَا تقدم من ذنبك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 ورؤي مَالِك بْن أَنَس فِي المنام فقيل لَهُ مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك. فَقَالَ: غفر لي بكلمة كَانَ يقولها عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رؤية الجنازة: سبحان الحي الَّذِي لا يموت. ورؤي الليلة الَّتِي مَات فِيهَا الْحَسَن البصري كأن أبواب السماء مفتحة وكأن مناديا ينادي ألا أَن الْحَسَن البصري قدم عَلَى اللَّه تَعَالَى وَهُوَ عَنْهُ راض سمعت أبا بَكْر بْن أشكيب يَقُول: رأيت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي فِي المنام عَلَى حالة حسنة فَقُلْتُ: يا أستاذ بم وجدت هَذَا. فَقَالَ: بحسن ظني بربي. وقيل: رؤي الجاحظ فِي المنام فقيل لَهُ مَا فعل اللَّه بك. فَقَالَ: فلا تكتب بخطك غَيْر شَيْء يسرك فِي الْقِيَامَة أَن تراه وقيل: رأى الجنيد إبليس فِي منامه عريانا. فَقَالَ لَهُ: ألا تستحي من النَّاس. فَقَالَ: هَؤُلاءِ لا ناس إِنَّمَا النَّاس أقوام فِي مَسْجِد الشونيزية أضنوا جسدي وأحرقوا كبدي. قَالَ الجنيد: فلما انتبهت غدوت إِلَى الْمَسْجِد فرأيت جَمَاعَة وضعوا رءوسهم عَلَى ركبهم متفكرين فلما رأوني قَالُوا: لا يغرنك حَدِيث الخبيث ورؤي النصرأباذي بمكة بَعْد وفاته فِي النوم فقيل لَهُ مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك. فَقَالَ: عوتبت عتاب الأشراف ثُمَّ نوديت يا أبا القاسم أبعد الاتصال انفصال فَقُلْتُ لا يا ذا الجلال فَمَا وضعت فِي اللحد حَتَّى لحقت بالأحد ورؤي ذو النون الْمِصْرِي فِي المنام فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه بك فَقَالَ: كنت أسأله ثَلاث حوائج فِي الدنيا فأعطاني البعض وأرجو أَن يعطيني الباقي كنت أسأله أَن يعطيني من العشرة الَّتِي عَلَى يد رضوان واحدا ويعطيني بنفسه وأن يعذبني عَنِ الْوَاحِد الَّذِي بيد مَالِك بعشرة ويتولى هُوَ وأن يرزقني أَن أذكره بلسان الأبدية. وقيل: رؤى الشبلي فِي المنام بَعْد موته فقيل لَهُ مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك. فَقَالَ: لَمْ يطالبني بالبراهين عَلَى الدعاوي إلا عَلَى شَيْء واحد قُلْت: يوما لا خسارة أَعْظَم من خسران لاجنة ودخول النار. فَقَالَ لي: وأي خسارة أَعْظَم من خسارة لقائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 سمعت الأستاذ أبا عَلِي يَقُول: رأى الجريري الجنيد فِي المنام. فَقَالَ: كَيْفَ حالك يا أبا القاسم؟ . فَقَالَ: طاحت تلك الإشارات وبادت تلك العبارات وَمَا نفعنا إلا تسبيحات كُنَّا نقولها بالغدوات. وَقَالَ النباجي: تشهيت يومان شَيْئًا فرأيت فِي المنام كأن قائلا يَقُول: أيجمل بالحر المريد أَن يتذلل للعبيد وَهُوَ يجد من مولاه مَا يريد. وَقَالَ ابْن الجلاء: دخلت الْمَدِينَة وبي فاقة فتقدمت إِلَى القبر وقلت: أنا ضيفك فغفوت فرأيت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أعطاني رغيفا فأكلت نصفه وانتبهت وبيدي النصف. وَقَالَ بَعْضهم: رأيت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام يَقُول: زوروا ابْن عون فَإِنَّهُ يحب اللَّه ورسوله وقيل: رأى عتبة الغلام حوراء فِي المنام عَلَى صورة حسنة فَقَالَتْ لَهُ: يا عتبة أنا لَك عاشقة فانظر أَن لا تعمل من الأعمال شَيْئًا يحال بيني وبينك. فَقَالَ عتبة: طلقت الدنيا ثلاثا لا رجعة لي عَلَيْهَا حَتَّى ألقاك. سمعت منصورا المغربي يَقُول: رأيت شيخا فِي بلاد الشام كبير الشأن وَكَانَ الغالب عَلَيْهِ الانقباض فقيل لي: إِن أردت أَن ينبسط هَذَا الشيخ معك فسلم عَلَيْهِ وقل: رزقك اللَّه الحور العين فَإِنَّهُ يرضى منك بِهَذَا الدعاء فسألت عَن سببه فقيل: إنه رأى شَيْئًا من الحور فِي منامه فبقى فِي قلبه شيء من ذَلِكَ , فمضيت وسلمت عَلَيْهِ , وقلت: رزقك اللَّه الحور العين فانبسط الشيخ معي وقيل: رأى أيوب السختياني جنازة عاص فدخل دهليز لئلا يحتاج إِلَى الصلاة عَلَيْهَا فرأى بَعْضهم الميت فِي المنام. فَقَالَ لَهُ: مَا فعل اللَّه بك. فَقَالَ: غفر لي. وَقَالَ لي: قل لأيوب السختياني {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} [الإسراء: 100] وقيل: رؤي الليلة الَّتِي مَات فِيهَا مَالِك بْن دِينَار كأن أبواب السماء قَدْ فتحت وقائلا يَقُول: ألا إِن مَالِك بْن دِينَار أصبح من سكان الْجَنَّة. وَقَالَ بَعْضهم: رأيت الليلة الَّتِي مَات فِيهَا دَاوُد الطائي نورا وملائكة صعودا وملائكة نزولا فَقُلْتُ: أي ليلة هذه فَقَالُوا: ليلة مَات فِيهَا دَاوُد الطائي وَقَدْ زخرفت الْجَنَّة لقدوم روحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 قَالَ الأستاذ أَبُو القاسم: رأيت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق فِي المنام فَقُلْتُ لَهُ: مَا فعل اللَّه بك. فَقَالَ: لَيْسَ للمغفرة هنا كبير خطر أقل من حضر ههنا خطرا فلأن أعطى كَذَا وكذا وقع لي فِي المنام أَن ذَلِكَ الإِنْسَان الَّذِي عناه قتل نفسا بغير حق. وقيل: لما مَات كرز بنوبرة رأى فِي المنام كأن أهل القبور خرجوا من قبورهم وعليهم ثياب جدد بيض فقيل: مَا هَذَا؟ قيل: إِن أهل القبور كسوا ثيابا جدد لقدوم كرز عَلَيْهِم ورؤي يُوسُف بْن الْحُسَيْن فِي المنام فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه بك. فَقَالَ: غفر لي فقيل بماذا. فَقَالَ: لأني مَا خلطت جدا بهزل قط ورؤي عَبْد اللَّهِ الزراد فِي المنام فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك. فَقَالَ: أوقفني وغفر لي كُل ذنب أقررت بِهِ فِي الدنيا إلا واحدا استحييت أَن أقربه فوقفني فِي العرق حَتَّى سقط لحم وجهي فقيل لَهُ: وَمَا ذاك. فَقَالَ: نظرت يوما إِلَى شخص جميل فاستحيت أَن أذكره. سمعت أبا سَعِيد الشحام يَقُول: رأيت الشيخ الإِمَام أبا الطيب سهلا الصعلوكي فِي المنام فَقُلْتُ أيها الشيخ. فَقَالَ: دع الشيخ فَقُلْتُ: وتلك الأحوال الَّتِي شاهدتها. فَقَالَ: لَمْ تغن عنا شَيْئًا فَقُلْتُ: مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك. فَقَالَ: غفر لي بمسائل كانت يسأل عَنْهَا العجز. سمعت أبا بَكْر الرشيدي الفقيه يَقُول: رأيت محمدا الطوسي المعلم فِي المنام. فَقَالَ: قل لأبي سَعِيد الصفار المؤدب: وكنا عَلَى أَن لا نحول عَنِ الهوى فَقَدْ وحياة الحب حلتم وَمَا حلنا تشاغلتم عنا بصحبة غيرنا وأظهرتم الهجران مَا هكذا كُنَّا لعل الَّذِي يقضى الأمور بعلمه سيجمعنا بَعْد الممات كَمَا كُنَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 قَالَ: فانتبهت وقلت ذَلِكَ لأبي سَعِيد الصفار. فَقَالَ: كنت أزور قبره كُل يَوْم جمعة فلم أزره هذه الجمعة وحكى عَن بَعْضهم أَنَّهُ قَالَ: رأيت فِي المنام رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحوله جَمَاعَة من الفقراء فبينما هُوَ كَذَلِكَ إذ نزل من السماء ملكا وبيد أحدهما طست وبيد الآخر إبريق فوضع الطست بَيْنَ يدي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغسل يده ثُمَّ أمر حَتَّى غسلوا أيديهم ثُمَّ وضع الطست بَيْنَ يدي. فَقَالَ أحدهما للآخر: لا تصب عَلَى يده فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أليس قَدْ رَوَى عَنْك أنك قُلْت: المرء مَعَ من أحب. فَقَالَ: بلى فَقُلْتُ: وأنا أحبك وأحب هَؤُلاءِ الفقراء. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صب عَلَى يده فَإِنَّهُ مِنْهُم وحكي عَن بَعْضهم أَنَّهُ كَانَ يَقُول أبدا: العافية العافية فقيل لَهُ: مَا معنى هَذَا الدعاء. قَالَ: كنت حمالا فِي ابتداء أمري وكنت حملت يوما صدرا من الدقيق فوضعته لأستريح فكنت أقول يا رب لو أعطيتني كُل يَوْم رغيفين من غَيْر تعب لكنت أكتفي بهما فَإِذَا رجلان يختصمان فتقدمت أصلح بينهما فضرب أحدهما رأسي بشيء أراد أَن يضرب بِهِ خصمه فدمى وجهي فجاء صاحب الربع فأخذهما فلما رآني ملوثا بالدم أخذني وظن أنني مِمَّن تشاجر فأدخلني السجن وبقيت فِي السجن مدة أوتى كُل يَوْم برغيفين فرأيت ليلة فِي المنام قائلا يَقُول لي: إنك سألت الرغيفين كُل يَوْم من غير نصب وَلَمْ تسأل العافية فانتبهت وقلت: العافية العافية فرأيت بَاب السجن يقرع وقيل: أين عُمَر الحمال وخلوا سبيلي، وحكي عَنِ الكتاني أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عندنا رجل من أَصْحَابنا هاجت عينه فقيل لَهُ: ألا تعالجها. فَقَالَ: عزمت أَن لا أعالجها حَتَّى تبرأ. قَالَ: رأيت فِي المنام كأن قائلا يَقُول: لو كَانَ هَذَا العزم عَلَى أهل النار كلهم لأخرجناهم من النار. وحكى عَنِ الجنيد أَنَّهُ. قَالَ: رأيت فِي المنام كأني أتكلم عَلَى النَّاس فوقف عَلَى ملك. فَقَالَ: أقرب مَا تقرب بِهِ المتقربون إِلَى اللَّه تَعَالَى ماذا فَقُلْتُ: عمل خفى بميزان وَفِي. قَالَ: فولى الْمَلِك عنى وَهُوَ يَقُول: كَلام موفق والله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 وَقَالَ رجل للعلاء بْن زِيَاد: رأيت فِي النوم كأنك من أهل الْجَنَّة. فَقَالَ: لعل الشَّيْطَان أراد أمرا فعصمت منه فأشخص إِلَى رجلا يعينه وقيل: رؤى عَطَاء السلمي فِي النوم فقيل لَهُ: لَقَدْ كنت طويل الحزن فَمَا فعل اللَّه تَعَالَى بك. فَقَالَ: أما والله لَقَدْ أعقبني ذَلِكَ راحة طويلة وفرحا دائما فقيل لَهُ: ففي أي الدرجات أَنْتَ. فَقَالَ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: 69] الآية وقيل: رؤى الأوزاعي فِي المنام. فَقَالَ: مَا رأيت هاهنا درجة أرفع من درجة الْعُلَمَاء ثُمَّ درجة المحزونين. وَقَالَ النباجي: قيل لي فِي المنام: من وثق بالله فِي رزقه زَيْد فِي حسن خلقه وسمحت نَفْسه فِي نفقته وقلت وساوسه فِي صلاته وقيل: رؤيت زبيدة فِي المنام فقيل لَهَا: مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك. فَقَالَتْ: غفر لي فقيل بكثرة نفقتك فِي طريق مَكَّة فَقَالَتْ: لا أما إِن أجرها عاد إِلَى أربابها ولكن غفر لي بنيتي ورؤي سُفْيَان الثَّوْرِي فِي المنام فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك. قَالَ: وضعت أول قدمي عَلَى الصراط وَالثَّانِي فِي الْجَنَّة. وَقَالَ أَحْمَد بْن أَبِي الحواري رأيت فِي النوم جارية مَا رأيت أَحْسَن منها يتلألأ وجهها نورا فَقُلْتُ مَا أنور وجهك فَقَالَتْ: تذكر الليلة الَّتِي بكيت فِيهَا فَقُلْتُ: نعم فَقَالَتْ: حملت إِلَى دمعتك فمسحت بِهَا وجهي فصار وجهي هكذا وقيل: رأي يَزِيد الرقاشي النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام فقرأ عَلَيْهِ. فَقَالَ: هذه القراءة فأين البكاء. وَقَالَ الجنيد: رأيت فِي المنام كأن ملكين نزلا من السماء. فَقَالَ أحدهما لي: مَا الصدق فَقُلْتُ: الوفاء بالعهد. فَقَالَ الآخر: صدق ثُمَّ صعدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 ورؤي بشر الحافي فِي المنام فقيل لَهُ مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك. فَقَالَ: غفر لي. وَقَالَ أما استحييت يا بشر منى كنت تخافني ذَلِكَ الخوف وقيل: رؤي أَبُو سُلَيْمَان الداراني فِي المنام فقيل لَهُ مَا فعل اللَّه بك. فَقَالَ: غفر لي وَمَا كَانَ شَيْء أضر عَلَى من إشارات الْقَوْم. وَقَالَ عَلِي بْن الموفق كنت أفكر يوما فِي سبب عيالي والفقر الَّذِي بِهِمْ فرأيت فِي المنام رقعة فِيهَا مكتوب بسم اللَّه الرحمن الرحيم يا ابْن الموفق أتخشى الفقر وأنا ربك فلما كَانَ وقت الفلس أتاني رجل بكيس فِيهِ خمسة آلاف دِينَار. وَقَالَ: خذها إليك يا ضعيف اليقين. وَقَالَ الجنيد رأيت فِي المنام كأني واقف بَيْنَ يدي اللَّه تَعَالَى. فَقَالَ لي: يا أبا القاسم من أين لَك هَذَا الْكَلام الَّذِي تقول فَقُلْتُ: لا أقول إلا حقا. فَقَالَ: صدقت. وَقَالَ أَبُو بَكْر الكتاني: رأيت فِي المنام شابا لَمْ أر أَحْسَن منه فَقُلْتُ: من أَنْتَ. فَقَالَ: التقوى قُلْت: فأين تسكن. قَالَ: فِي كُل قلب حزين ثُمَّ التفت فَإِذَا امْرَأَة سوداء كأوحش مَا يَكُون فَقُلْتُ: من أَنْتَ فَقَالَتْ: الضحك فَقُلْتُ: وأين تسكنين فَقَالَتْ: فِي كُل قلب فرح مرح. قَالَ: فانتبهت واعتقدت أَن لا أضحك إلا غلبة وحكى عَن أَبِي عَبْد اللَّهِ بْن خفيف أَنَّهُ قَالَ: رأيت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام كَأَنَّهُ قَالَ لي: من عرف طريقا إِلَى اللَّه تَعَالَى سلكه ثُمَّ رجع عَنْهُ عذبه اللَّه تَعَالَى عذابا لَمْ يعذبه أحدا من العالمين. ورؤي الشبلي فِي المنام فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه تَعَالَى بك. فَقَالَ: ناقشني حَتَّى أيست فلما رأى يأسي تغمدني برحمته. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان المغربي: رأيت فِي النوم كأن قائلا يَقُول لي: يا أبا عُثْمَان اتق اللَّه فِي الفقر ولو فِي قدر سمسمة. وقيل: كَانَ لأبي سَعِيد الخراز ابْن مَات قبله فرآه فِي المنام. فَقَالَ لَهُ: بَنِي أوصني. فَقَالَ: يا أبت لا تعامل اللَّه عَلَى الجبن. فَقَالَ: يا بَنِي زدني. فَقَالَ: لا تخالف اللَّه تَعَالَى فيما يطالبك بِهِ. فَقَالَ: زدني. فَقَالَ: لا تجعل بينك وبين اللَّه قميصا. قَالَ: فَمَا لبس القميص ثلاثين سنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وقيل: كَانَ بَعْضهم يَقُول فِي دعائه: اللَّهُمَّ الشيء الَّذِي لا يضرك وينفعنا لا تمنعه عنا فرأى فِي المنام كَأَنَّهُ قيل لَهُ: وأنت فالشيء الَّذِي يضرك ولا ينفعك فدعه. وحكى عَن أَبِي الفضل الأصبهاني أَنَّهُ قَالَ: رأيت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المنام فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , سل اللَّه أَن لا يسلبني الإيمان. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذاك شَيْء قَدْ فرغ اللَّه تَعَالَى منه وحكى عَن أَبِي سَعِيد الخراز , قَالَ: رأيت إبليس فِي المنام فأخذت عصاي لأضربه فقيل لي: إنه لا يفزع منها إِنَّمَا يفزع هَذَا من نور يَكُون فِي القلب. وَقَالَ بَعْضهم كنت أدعو لرابعة العدوية فرأيتها فِي النوم تقول هداياك تأتينا عَلَى أطباق من نور مخمرة بمناديل من نور ويروى عَن سماك بْن حرب أَنَّهُ قَالَ: كف بصري فرأيت فِي المنام كأن قائلا يَقُول لي: ائت الفرات فانغمس فِيهِ وافتح عينيك. قَالَ: ففعلت فأبصرت وقيل: رؤي بشر الحافي فِي المنام فقيل لَهُ: مَا فعل اللَّه بك. فَقَالَ: لما رأيت ربي عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ لي: مرحبا يا بشر لَقَدْ توفيتك يَوْم توفيتك وَمَا عَلَى الأَرْض أحب إلي منك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 بَاب الوصية للمريدين قَالَ الأستاذ: لما أثبتنا طرفا من سير الْقَوْم وضممنا إِلَى ذَلِكَ أبوابا من المقامات أردنا أَن نختم هذه الرسالة بوصية للمريدين نرجو من اللَّه تَعَالَى حسن توفيقهم لاستعمالها وأن لا يحرمنا القيام بِهَا ولا يجعلها حجة عَلَيْنَا فأول قدم للمريد فِي هذه الطريقة ينبغي أَن يَكُون عَلَى الصدق ليصح لَهُ البناء عَلَى أصل صحيح فَإِن الشيوخ قَالُوا إِنَّمَا حرموا الوصول لتضييعهم الأصول كَذَلِكَ سمعت الأستاذ أبا عَلِي يَقُول فتجب البداءة وبتصحيح اعتقاد بينه وبين اللَّه تَعَالَى صاف عَنِ الظنون والشبه خال من الضلال والبدع صادر عَنِ البراهين والحجج ويقبح بالمريد أَن ينتسب إِلَى مذهب من مذاهب من لَيْسَ من هذه الطريقة وليس انتساب الصوفي إِلَى مذهب من مذاهب المختلفين سِوَى طريقة الصوفية إلا نتيجة جهلهم بمذاهب أهل هذه الطريقة فَإِن هَؤُلاءِ حججهم فِي مسائلهم أظهر من حجج كُل أحد وقواعد مذاهبهم أقوى من قواعد كُل مذهب والناس إِمَّا أَصْحَاب النقل والأثر وإما أرباب العقل والفكر وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عَن هذه الجملة فالذي لِلنَّاسِ غيب فَهُوَ لَهُمْ ظهور والذي للخلق من المعارف مقصود فلهم من الحق سبحانه موجود فَهُمْ من أهل الوصول والناس أهل الاستدلال وَهُمْ كَمَا قَالَ القائل: ليلي بوجهك مشرق وظلامه من النَّاس ساري فالناس فِي سدف الظلام ونحن فِي ضوء النهار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 وَلَمْ يكن عصر من الأعصار فِي مدة الإِسْلام إلا وفيه شيخ من شيوخ هذه الطائفة مِمَّن لَهُ علوم التوحيد وإمامة الْقَوْم ألا وأئمة ذَلِكَ الوقت من الْعُلَمَاء استسلموا لِذَلِكَ الشيخ وتواضعوا لَهُ وتبركوا بِهِ ولولا مزية وخصوصية لَهُمْ وإلا كَانَ الأمر بالعكس هَذَا أَحْمَد بْن حنبل كَانَ عِنْدَ الشَّافِعِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فجاء شيبان الراعي. فَقَالَ أَحْمَد: أريد يا أبا عَبْد اللَّهِ أَن أنبه هَذَا عَلَى نقصان علمه ليشتغل بتحصيل بَعْض العلوم. فَقَالَ: الشَّافِعِي لا تفعل فلم يقنع. فَقَالَ لشيبان: مَا تقول فيمن نسى صلاة من خمس صلوات فِي اليوم والليلة ولا يدري أي صلاة نسبها مَا الواجب عَلَيْهِ يا شيبان. فَقَالَ شيبان: يا أَحْمَد هَذَا قلب غفل عَنِ اللَّه تَعَالَى فالواجب أَن يؤدب حَتَّى لا يغفل عَن مولاه بَعْد فغشى عَلَى أَحْمَد فلما أفاق قَالَ لَهُ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ ألم أقل لَك لا تحرك هَذَا وشيبان الراعي كَانَ أميا مِنْهُم فَإِذَا كَانَ الأمي مِنْهُم هكذا فَمَا الظن بأئمتهم وَقَدْ حكى أَن فقيها من أكابر الْفُقَهَاء كانت حلقته بجنب حلقة الشبلي فِي جامع الْمَنْصُور وَكَانَ يقال لِذَلِكَ الفقيه: أَبُو عمران وَكَانَ تتعطل عَلَيْهِم حلقتهم لكلام الشبلي فسأل أَصْحَاب أَبِي عمران يوما الشبلي عَن مسألة فِي الحيض وقصدوا إخجاله فذكر مقالات النَّاس فِي تلك المسألة والخلاف فِيهَا فقام أَبُو عمران وقبل رأس الشبلي. وَقَالَ: يا أبا بَكْر استفدت فِي هذه المسألة عشر مقالات لَمْ أسمعها وَكَانَ عندي من جملة مَا قُلْت ثلاثة أقاويل وقيل: أجتاز أَبُو الْعَبَّاس بْن سريج الفقيه بمجلس الجنيد رحمها اللَّه تَعَالَى فسمع كلامه فقيل لَهُ: مَا تقول فِي هَذَا الْكَلام. فَقَالَ: لا أدري مَا يَقُول ولكني أرى لِهَذَا الْكَلام صولة ليست بصولة مبطل وقيل لعبد اللَّه بْن سَعِيد بْن كلاب: أَنْتَ تتكلم عَلَى كَلام كُل أحد وههنا رجل يقال لَهُ: الجنيد فانظر هل تعترض عَلَيْهِ أم لا فحضر حلقته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 فسأله الجنيد عَنِ التوحيد فأجابه فتحير عَبْد اللَّهِ. وَقَالَ: أعد عَلِي مَا قُلْت، فأعاد لا بتلك العبارة فَقَالَ عَبْد اللَّهِ: هَذَا شَيْء آخر لَمْ أحفظه تعيده عَلِي مرة أُخْرَى فأعاد بعبارة أُخْرَى. فَقَالَ عَبْد اللَّهِ: لَيْسَ يمكنني حفظ مَا تقول أمله عَلَيْنَا. فَقَالَ: إِن كنت أجزته فأنا أميله. فقام عَبْد اللَّهِ وَقَالَ بفضله واعتراف بعلو شأنه فَإِذَا كَانَ أصول هذه الطائفة أصح الأصول ومشايخهم أكبر النَّاس وعلماؤهم أعلم النَّاس فالمريد الَّذِي لَهُ إيمان بِهِمْ إِن كَانَ من أهل السلوك والتدرج إِلَى مقاصدهم فَهُوَ يساهم فِيهَا خصوا بِهِ من مكاشفات الغيب فلا يحتاج إِلَى التطفل عَلَى من هُوَ خارج عَن هذه الطائفة وإن كَانَ يريد طريقة الاتباع وليس بمستقل بحاله ويريد أَن يعرج فِي أوطان التقليد إِلَى أَن يصل إِلَى التحقيق فليقلد سلفه وليجر عَلَى طريقة هذه الطبقة فإنهم أولى بِهِ من غيرهم ولقد سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت الشبلي يَقُول: مَا ظنك بعلم علم الْعُلَمَاء فِيهِ تهمة وسمعته يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَبِي عَلِي بْن مُحَمَّد المخرمي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الفرغاني يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول لو علمت أَن لِلَّهِ علما تَحْتَ أديم السماء أشرف من هَذَا العلم الَّذِي نتكلم فِيهِ مَعَ أَصْحَابنا وإخواننا لسعيت إِلَيْهِ ولقصدته وإذا أحكم المريد بينه وبين اللَّه تَعَالَى عقده فيجب أَن يحصل من علم الشريعة إِمَّا بالتحقيق وإما بالسؤال عَنِ الأئمة مَا يؤدي بِهِ فرضه وإن اختلف عَلَيْهِ فتاوى الْفُقَهَاء يأخذ بالأحوط ويقصد أبدا لخروج من الخلاف فَإِن الرخص فِي الشريعة للمستضعفين وأَصْحَاب الحوائج والأشغال وَهَؤُلاءِ الطائفة لَيْسَ لَهُمْ شغل سِوَى القيام بحقه سبحانه ولهذا قيل: إِذَا انحط الفقير عَن درجة الحقيقة إِلَى رخصة الشريعة فَقَدْ فسخ عقده مَعَ اللَّه تَعَالَى ونقض عهده فيما بينه وبين اللَّه تَعَالَى ثُمَّ يجب عَلَى المريد أَن يتأدب بشيخ فَإِن لَمْ يكن لَهُ أستاذ لا يفلح أبدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 هَذَا أَبُو يَزِيد يَقُول: من لَمْ يكن لَهُ أستاذ فإمامه الشَّيْطَان وسمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق يَقُول: الشجرة إِذَا نبتت بنفسها من غَيْر غارس فإنها تورق لكن لا تثمر كَذَلِكَ المريد إِذَا لَمْ يكن لَهُ أستاذ يأخذ منه طريقته نفسا فنفسا فَهُوَ عابد هواه لا يجد نفاذا ثُمَّ إِذَا أراد السلوك فبعد هذه الجملة يجب أَن يتوب إِلَى اللَّه سبحانه من كُل زلة فيدع جَمِيع الزلات سرها وجهرها وصغيرها وكبرها ويجتهد فِي إرضاء الخصوم أولا ومن لَمْ يرض خصومه لا يفلح لَهُ من هذه الطريقة بشيء وعلى هَذَا النحو جروا ثُمَّ بَعْد هَذَا يعمل فِي حذف العلائق والشواغل فَإِن بناء هَذَا الطريق عَلَى فراغ القلب وَكَانَ الشبلي يَقُول للحصري فِي ابتداء أمره إِن خطر ببالك من الجمعة إِلَى الجمعة الثَّانِيَة الَّتِي تأتيني فِيهَا غَيْر اللَّه تَعَالَى فحرام عليك أَن تحضرني وإذا أراد الخروج عَنِ العلائق فأولها الخروج عَنِ المال فَإِن ذَلِكَ الَّذِي يميل بِهِ عَنِ الحق وَلَمْ يوجد مريد دَخَلَ فِي هَذَا الأمر ومعه علاقة من الدنيا إلا جرته تلك العلاقة عَن قريب إِلَى مَا منه خرج فَإِذَا خرج عَنِ المال فالواجب عَلَيْهِ الخروج عَنِ الجاه فَإِن ملاحظة الجاه مقطعة عظيمة وَمَا لَمْ يستو عِنْدَ المريد قبول الخلق وردهم لا يجيء منه شَيْء بَل أضر الأشياء لَهُ ملاحظة النَّاس إياه بعين الإثبات والتبرك بِهِ لإفلاس النَّاس عَن هَذَا الْحَدِيث وَهُوَ بَعْد لَمْ يصحح الإرادة فكيف يصح أَن يتبرك بِهِ فخرجهم من الجاه واجب عَلَيْهِم، لأن ذَلِكَ سم قاتل لَهُمْ فَإِذَا خرج عَن ماله وجاهه فيجب أَن يصحح عقيدته بينه وبين اللَّه تَعَالَى وأن لا يخالف شيخه فِي كُل مَا يشير عَلَيْهِ , لأن الخلاف للمريد فِي ابتداء أمره عظيم الضرر , لأن ابتداء حاله دليل عَلَى جَمِيع عمره ومن شرطه أَن لا يَكُون لَهُ بقلبه اعتراض عَلَى شيخه فَإِذَا خطر ببال المريد أَن لَهُ فِي الدنيا والآخرة قدرا أَوْ قيمة أَوْ عَلَى بسيط الأَرْض أحدا دونه لَمْ يصح لَهُ فِي الإرادة قدم لأنه يجب أَن يجتهد ليعرف ربه لا ليحصل لنفسه قدرا وفرق بَيْنَ من يريد اللَّه تَعَالَى وبين من يريد جاه نَفْسه إِمَّا فِي عاجله وإما فِي آجله ثُمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 يجب عَلَيْهِ حفظ سره حَتَّى عَن زره إلا عَن شيخه , ولو كتم نفسا من أنفاسه عَن شيخه فَقَدْ خانه فِي حق صحبته , ولو وقع لَهُ مخالفة فيما أشار عَلَيْهِ شيخه فيجب أَن يقر بِذَلِكَ بَيْنَ يديه فِي الوقت ثُمَّ يستسلم لما يحكم بِهِ عَلَيْهِ شيخه عقوبة لَهُ عَلَى جنايته ومخالفته إِمَّا بسفر يكلفه أَوْ أمر مَا يراه ولا يصح للشيوخ التجاوز عَن زلات المريدين، لأن ذَلِكَ تضييع لحقوق اللَّه تَعَالَى وَمَا لَمْ يتجرد عَن كُل علاقة لا يَجُوز لشيخه أَن يلقنه شَيْئًا من الأذكار بَل يجب أَن يقدم التجربة لَهُ فَإِذَا شهد قلبه للمريد بصحة العزم فحينئذ يشترط عَلَيْهِ أَن يرضى بِمَا يستقبله فِي هذه الطريقة من فنون تصاريف الْقَضَاء فيأخذ عَلَيْهِ العهد بأن لا ينصرف عَن هذه الطريقة بِمَا يستقبله من الضر والذل والفقر والأسقام والآلام وأن لا يجنح بقلبه إِلَى السهولة ولا يترخص عِنْدَ هجوم الفاقات وحصول الضرورات ولا يؤثر الدعة ولا يستشعر الكسل فَإِن وقفة المريد شر من فترته والفرق بَيْنَ الفترة والوقفة أَن الفترة رجوع عَنِ الإرادة وخروج منها فَإِذَا جربه شيخه فيجب عَلَيْهِ أَن يلقنه ذكر من الأذكار عَلَى مَا يراه شيخه فيأمر أَن يذكر ذَلِكَ الاسم بلسانه ثُمَّ يأمره أَن يسوى قلبه مَعَ لسانه ثُمَّ يَقُول لَهُ اثبت عَلَى استدامة هَذَا الذكر كأنك مَعَ ربك أبدا بقلبك ولا يجري عَلَى لسانك غَيْر هَذَا الاسم مَا أمكنك ثُمَّ يأمره أَن يَكُون أبدا فِي الظاهر عَلَى الطهارة وأن لا يَكُون نومه إلا غلبة وأن يقلل من غذائه عَلَى التدريج شَيْئًا بَعْد شَيْء حَتَّى يقوي عَلَى ذَلِكَ ولا يأمره أَن يترك عادته بمرة فَإِن فِي الْخَبَر إِن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ثُمَّ يأمره بإيثاره الخلوة والعزلة ويجعل اجتهاده فِي هذه الحالة لا محالة فِي نفي الخواطر الدنية والهواجس الشاغلة للقلب. واعلم أَن فِي هذه الحالة قلما يخلو المريد فِي أوان خلوته فِي ابتداء إرادته من الوساوس فِي الاعتقاد لا سيما إِذَا كَانَ فِي المريد كياسة قلب وكل مريد لا تستقبله هذه الحالة فِي ابتداء إرادته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 وَهَذَا من الامتحانات الَّتِي تستقبل المريدين فالواجب عَلَى شيخه إِن رأى فِيهِ كياسة أَن يحيله عَلَى الحجج العقلية فَإِن بالعلم يتخلص لا محالة المتعرف مَا يعتريه من الوساوس وإن تفرس شيخه فِيهِ القوة والثبات فِي الطريقة أمره بالصبر واستدامة الذكر حَتَّى تسطع فِي قلبه أنوار القبول وتطلع فِي سره شموس الوصول وعن قريب يَكُون ذَلِكَ ولكن لا يَكُون هَذَا إلا لأفراد المريدين فأما الغالب فأن تكون معالجتهم بالرد إِلَى النظر وتأمل الآيات بشرط تحصيل علم الأصول عَلَى قدر الحاجة الداعية للمريد. واعلم أَنَّهُ يَكُون للمريدين عَلَى الخصوص بلايا من هَذَا الباب وَذَلِكَ أنهم إِذَا خلوا فِي مواضع ذكرهم أَوْ كَانُوا فِي مجالس سماع أَوْ غَيْر ذَلِكَ يهجس فِي نفوسهم ويخطر ببالهم أشياء منكرة يتحققون أَن اللَّه سبحانه منزه عَن ذَلِكَ وليس تعتريهم شبهة فِي أَن ذَلِكَ باطل ولكن يدوم ذَلِكَ فيشتد تأذيهم بِهِ حَتَّى يبلغ ذَلِكَ حدا يَكُون أصعب شتم وأقبح قَوْل وأشنع خاطر بحيث لا يمكن المريد إجراء ذَلِكَ عَلَى اللسان وإبداؤه لأحد وَهَذَا أشد شَيْء يقع لَهُمْ، فالواجب عِنْدَ هَذَا ترك مبالاتهم بتلك الخواطر واستدامة الذكر والابتهال إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ باستدفاع ذَلِكَ وتلك الخواطر ليست من وساوس الشَّيْطَان وإنما هِيَ من هواجس النفس فَإِذَا قابلها العبد بترك المبالاة بِهَا ينقطع ذَلِكَ عَنْهُ ومن آداب المريد بَل من فرائض حاله أَن يلازم موضع إرادته وأن لا يسافر قبل أَن تقبله الطريق وقبل الوصول بالقلب إِلَى الرب فَإِن السفر للمريد فِي غَيْر وقته سم قاتل ولا يصل أحد مِنْهُم إِلَى مَا كَانَ يرجى لَهُ إِذَا سافر فِي غَيْر وقته وإذا أراد اللَّه بمريد خيرا ثبته فِي أول إرادته وإذا أراد اللَّه بمريد شرا رده إِلَى مَا خرج عَنْهُ من حرفته أَوْ حالته وإذا أراد اللَّه بمريد محنة شرده فِي مطارح غربته هَذَا إِذَا كَانَ المريد يصلح للوصول. فأما إِذَا كَانَ شابا طريقته الخدمة فِي الظاهر بالنفس للفقراء وَهُمْ دونهم فِي هذه الطريقة رتبة فَهُوَ وأمثاله يكتفون بالترسم فِي الظاهر فينقطعون فِي الأسفار وغاية نصيبهم من هذه الطريقة حاجات يحصلونها وزيارات لمواضع يرتحل إِلَيْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 ولقاء شيوخ بظاهر سلام فيشاهدون الظواهر ويكتفون بِمَا فِي هَذَا الباب من السير فهؤلاء الواجب لَهُمْ دوام السفر حَتَّى لا تؤديهم الدعة إِلَى ارتكاب محظور فَإِن الشاب إِذَا وجد الراحة والدعة كَانَ فِي معرض الْفِتْنَة وإذا توسط المريد جمع الفقراء والأَصْحَاب فِي بدايته فَهُوَ مضر لَهُ جدا وإن امتحن واحد بِذَلِكَ فليكن سبيله احترام الشيوخ والخدمة للأَصْحَاب وترك الخلاف عَلَيْهِم والقيام بِمَا فِيهِ راحة فَقِير والجهد أَن لا يستوحش منه قلب شيخ ويجب أَن يَكُون فِي صحبته مَعَ الفقراء أبدا خصمهم عَلَى نَفْسه ولا يَكُون خصم نَفْسه عَلَيْهِم ويرى لكل واحد مِنْهُم عَلَيْهِ حقا واجبا، ولا يرى لنفسه واجبا عَلَى أحد، ويجب أَن لا يخالف المريد أحدا وإن علم أَن الحق مَعَهُ يسكت ويظهر الوفاق لكل أحد، وكل مريد يَكُون فِيهِ ضحك ولجاج ومماراة فَإِنَّهُ لا يجيء منه شَيْء، وإذا كَانَ المريد فِي جمع من الفقراء إِمَّا فِي سفر أَوْ حضر فينبغي أَن لا يخالفهم فِي الظاهر فِي أكل ولا صوم ولا سكون ولا حركة بَل يخالفهم بسره وقلبه فيحفظ قلبه مَعَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وإذا أشار عَلَيْهِ بالأكل مثلا يأكل لقمة أَوْ لقمتين ولا يعطى النفس شهوتها وليس من آداب المريدين كثرة الأوراد بالظاهر فَإِن الْقَوْم فِي مكابدة إخلاء خواطرهم ومعالجة أخلاقهم ونفي الغفلة عَن قلوبهم لا فِي تكثير أعمال البر الَّذِي لا بد لَهُمْ منه إقامة الفرائض والسنن الراتبة فأما الزيادات من الصلوات النافلة فاستدامة الذكر بالقلب أتم لَهُمْ ورأس مال المريد الاحتمال عَن كُل أحد بطيبة النفس وتلقى مَا يستقبله بالرضا والصبر عَلَى الضر والفقر وترك السؤال والمعارضة فِي القليل والكثير فيما هُوَ حظ لَهُ ومن لَمْ يصبر عَلَى ذَلِكَ فليدخل السوق فَإِن من اشتهى مَا يشتهيه النَّاس فالواجب أَن يحصل شهوته من حيث يحصلها النَّاس من كد اليمين وعرق الجبين، وإذا التزم المريد استدامة الذكر وآثر الخلوة فَإِن وجد فِي خلوته مَا لا يجده قبله إِمَّا فِي النوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 وإما فِي اليقظة أَوْ بَيْنَ اليقظة والنوم من خطاب يسمع أَوْ معنى يشاهد مِمَّا يَكُون نقضا للعادة فينبغي أَن لا يشتغل بِذَلِكَ ألبته ولا يسكن إِلَيْهِ ولا ينبغي أَن ينتظر حصول أمثال ذَلِكَ فَإِن ذَلِكَ كُلهُ شواغل عَنِ الحق سبحانه ولا بد لَهُ فِي هذه الأحوال من وصف ذَلِكَ لشيخه حَتَّى يصير قلبه فارغا عَن ذَلِكَ ويجب عَلَى شيخه أَن يحفظ عَلَيْهِ سره فيكتم عَن غيره أمره ويصغر ذَلِكَ فِي عينه فَإِن ذَلِكَ كُلهُ اختبارات والمساكنة إِلَيْهَا مكر فليحذر المريد عَن ذَلِكَ وعن ملاحظتها وليجعل همته فَوْقَ ذَلِكَ، واعلم أَن أضر الأشياء بالمريد استئناسه بِمَا يلقي إِلَيْهِ فِي سره من تقريبات الحق سبحانه لَهُ ومنته عَلَيْهِ بأني خصصتك بِهَذَا وأفردتك عَن أشكالك فَإِنَّهُ لو قَالَ بترك هَذَا فعن قريب سيختطف عَن ذَلِكَ مِمَّا يبدو لَهُ من مكاشفات الحقيقة وشرح هذه الجملة بإثباته فِي الكتب معتذر ومن أحكام المريد إِذَا لَمْ يجد من يتأدب بِهِ فِي موضعه أَن يهاجر إِلَى من هُوَ منصوب فِي وقته لإرشاد المريدين ثُمَّ يقيم عَلَيْهِ ولا يبرح عَن سدته إِلَى وقت الإذن. واعلم أَن تقديم معرفة رب الْبَيْت عَلَى زيارة الْبَيْت واجب فلولا معرفة رب الْبَيْت مَا وجبت زيارة الْبَيْت والشبان الَّذِينَ يخرجون إِلَى الحج من هَؤُلاءِ الْقَوْم من غَيْر إشارة الشيوخ فَهِيَ بدلالات نشاط النفوس فَهُمْ متوسمون بِهَذِهِ الطريقة وليس سفرهم عَلَى أصل والذي يدل عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لا يزداد سفرهم إلا وتزداد تفرقة قلوبهم فلو أنهم ارتحلوا من عِنْدَ أنفسهم بخطوة لكان أحظى لَهُمْ من ألف سفرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 ومن شرط المريد إِذَا أراد شيخا أَن يدخل عَلَيْهِ بالحرمة وينظر إِلَيْهِ بالحشمة فَإِن أهله الشيخ لشيء من الخدمة عد ذَلِكَ من جزيل النعمة. فصل ولا ينبغي للمريد أَن يعتقد فِي المشايخ العصمة بَل الواجب أَن يذرهم وأحوالهم فيحسن بِهِم الظن ويراعي مَعَ اللَّه تَعَالَى حده فيما يتوجه عَلَيْهِ من الأمر والعلم كافيه فِي التفرقة بَيْنَ مَا هُوَ محمود وَمَا هُوَ معلول. فصل وكل مريد بقى فِي قلبه لشيء من عروض الدنيا مقدار وخطر قاسم الإرادة لَهُ مجاز وإذا بقى فِي قلبه اختيار فيما يخرج عَنْهُ من معلومه فيريد أَن يخص بِهِ نوعا من أنواع البر أَوْ شخصا دُونَ شخص فَهُوَ متكلف فِي حاله وبالخطر أَن يعود سريعا إِلَى الدنيا، لأن قصد المريد فِي حذف العلائق الخروج منها لا السعي فِي أعمال البر وقبيح بالمريد أَن يخرج من معلومه من رأس ماله وقنيته ثُمَّ يَكُون أسير حرفة وينبغي أَن يستوي عنده وجود ذَلِكَ وعدمه حَتَّى لا ينافر لأجله فقيرا ولا يضايق بِهِ أحد ولو مجوسيا. فصل وقبول قلوب المشايخ للمريد أصدق شاهد لسعادته ومن رده قلب شيخ من الشيوخ فلا محالة يرى غب ذَلِكَ ولو بَعْد حِينَ ومن خذل بترك حرمة الشيوخ فَقَدْ أظهر رقم شقاوته وَذَلِكَ لا يخطى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 فصل ومن أصعب الآفات فِي هذه الطريقة صحبة الأحداث ومن ابتلاه اللَّه تَعَالَى بشيء من ذَلِكَ فبإجماع الشيوخ ذَلِكَ عَبْد إهانة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وخذله بَل عَن نَفْسه شغله ولو بألف ألف كرامة أهله وهب أَنَّهُ بلغ رتبة الشهداء لما فِي الْخَبَر تلويح بِذَلِكَ أليس قَدْ شغل ذَلِكَ القلب بمخلوق وأصعب من ذَلِكَ تهوين ذَلِكَ عَلَى القلب حَتَّى يعود ذَلِكَ يسيرا وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] وَهَذَا الواسطي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُول: إِذَا أراد اللَّه هوان عَبْد ألقاه إِلَى هَؤُلاءِ الأنتان والجيف سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الصوفي يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن أَحْمَد النجار يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الحصري يَقُول: سمعت فتحا الموصلي يَقُول: صحبت ثلاثين شيخا كَانُوا يعدون من الأبدال كلهم أوصوني عِنْدَ فراقي إياهم وَقَالُوا: اتق معاشرة الأحداث ومخالطتهم ومن ارتقى فِي هَذَا الباب عَن حالة الفسق وأشار إِلَى أَن ذَلِكَ من بلاء الأرواح وأنه لا يضر وَمَا قالوه من وساوس القائلين بالشاهد وإيراد حكايات عَن بَعْض الشيوخ لما كَانَ الأولى بِهِمْ إسبال الستر عَلَى هناتهم وآفاتهم فذلك نظير الشرك وقرين الكفر فليحذر المريد من مجالسة الأحداث ومخالطتهم فَإِن اليسير منه فتح بَاب الخذلان وبدء حال الهجران ونعوذ بالله من قضاء السوء. فصل ومن آفات المريد مَا يتداخل النفس من خفي الحسد للإخوان والتأثر بِمَا يفرد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أشكاله من هذه الطريقة وحرمانه إياه ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 وليعلم أَن الأمور قسم وإنما يتخلص العبد عَن هَذَا باكتفائه بوجود الحق وقدمه عَن مقتضى جوده ونعمه فَكُل من رأيت أيها المريد قدم الحق سبحانه رتبته فاحمل أَنْتَ غاشيته فَإِن الظرفاء من القاصدين عَلَى ذَلِكَ استمرت سنتهم. فصل واعلم أَن من حق المريد إِذَا اتفق وقوعه فِي جَمِيع إيثار الكل بالكل فيقدم الجائع والشبعان عَلَى نَفْسه ويتلمذ لكل من أظهر عَلَيْهِ التشيخ وإن كَانَ هُوَ أعلم منه ولا يصل إِلَى ذَلِكَ إلا بتبريه عَن حوله وقوته وتوصله إِلَى ذَلِكَ بطول الحق ومنته. فصل وَأَمَّا آداب المريد فِي السماع فالمريد لا تسلم لَهُ الحركة فِي السماع بالاختيار البتة فَإِن ورد عَلَيْهِ وارد حركة وَلَمْ يكن فِيهِ فضل قوة فبمقدار الغلبة يعذر فَإِذَا زالت الغلبة يجب عَلَيْهِ القعود والسكون فَإِن استدام الحركة مستجلبا للوجد من غَيْر غلبة وضرورة لَمْ يصح فَإِن تعود ذَلِكَ يبقى متخلفا لا يكاشف بشيء من الحقائق فغاية أحواله حينئذ أَن يطيب قلبه وَفِي الجملة أَن الحركة تأخذ من كُل متحرك وتنقص من حاله مريدا كَانَ أَوْ شيخا إلا أَن يَكُون بإشارة من الوقت أَوْ غلبة تأخذ عَنِ التمييز فَإِن كَانَ مريدا أشار عَلَيْهِ الشيخ بالحركة فتحرك عَلَى إشارته فلا بأس إِذَا كَأَنَّهُ الشيخ مِمَّن لَهُ حكم عَلَى أمثاله وَأَمَّا إِذَا أشار عَلَيْهِ الفقراء بالمساعدة فِي الحركة فيساعدهم فِي القيام وَفِي أداء مالا يجد منه بدا مِمَّا يراعى عَنِ الاستيحاش لقلوبهم ثُمَّ إِن صدقه فِي حاله يمنع قلوب الفقراء من سؤالهم عِنْدَ المساعدة معهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 وَأَمَّا طرح الخرقة فحق المريد أَن لا يرجع فِي شَيْء خرج منه ألبته، اللَّهُمَّ إلا أَن يشير إِلَيْهِ شيخ بالرجوع فِيهِ فيأخذه عَلَى نية العارية بقلبه ثُمَّ يخرج عَنْهُ بعده من غَيْر أَن يستوحش قلب ذَلِكَ الشيخ وإذا وقع بَيْنَ قوم عادتهم طرح الخرق وعلم أنهم يَرْجِعُونَ فِيهَا فَإِن لَمْ يكن فيهم شيخ تجب حشمته وحرمته وَكَانَ طريق هَذَا المريد أَن لا يعود فِي الحرقة فالأحسن أَن يساعدهم فِي الطرح ثُمَّ يؤثر بِهِ القوال إِذَا رجعوا هُمْ فِيهَا ولو لَمْ يطرح فَإِنَّهُ يَجُوز إِذَا علم من عادة الْقَوْم أنهم يعودون فيما طرحوا فَإِن القبيح إِنَّمَا هُوَ سنتهم فِي العودة إِلَى الخرق لا فِي مخالفته لَهُمْ عَلَى أَن الأولى الطرح عَلَى الموافقة ثُمَّ ترك الرجوع فِيهِ ولا يسلم للمريد البتة عَنِ التقاضي عَنِ القول، لأن صدق حاله يحمل القول عَلَى التكرار ويحمل غيره عَلَى الاقتضاء ومن تبرك بمريد فَقَدْ جار عَلَيْهِ لأنه يضره لقلة قوته فالواجب عَلَى المريد ترك تربية الجاه عِنْدَ من قَالَ بتركه وإثباته. فصل وإن ابتلى مريد بجاه أَوْ معلوم أَوْ صحبة حدث أَوْ ميل إِلَى امْرَأَة أَوِ استنامة إِلَى معلوم وليس هناك شيخ يدله عَلَى حاله يتخلص من ذَلِكَ فعند ذَلِكَ حل لَهُ السفر والتحول عَن ذَلِكَ الموضع ليشوش عَلَى نَفْسه تلك الحالة ولا شَيْء أضر لقلوب المريدين من حصول الجاه لَهُمْ قبل خمود بشريتهم ومن آداب المريد أَن لا يسبق علمه هذه الطريقة منازلته فَإِنَّهُ إِذَا تعلم سير هذه الطائفة وتكلف الوقوف عَلَى معرفة مسائلهم وأحوالهم قبل تحققه بِهَا بالمنازلة والمعاملة بَعْد وصوله إِلَى هذه المعاني ولهذا قَالَ المشايخ: إِذَا حدث العارف عَنِ المعارف فجهلوه فَإِن الأخبار عَنِ التنازل دُونَ المعارف، ومن غلب علمه منازلته فَهُوَ صاحب علم لا صاحب سلوك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 فصل ومن آداب المريدين أَن لا يتعرضوا للتصدر، وأن يَكُون لَهُمْ تلميذا ومريدا فَإِن المريد إِذَا صار مرادا قبل خمود بشريته وسقوط آفته فَهُوَ محجوب عَنِ الحقيقة لا تنفع أحدا إشارته وتعليمه. فصل وإذا خدم المريد الفقراء فخواطر الفقراء رسلهم إِلَيْهِ فلا ينبغي أَن يخالف المريد مَا حكم باطنه عَلَيْهِ من الخلوص فِي الخدمة وبذلك الوسع والطاقة. فصل ومن شأن المريد إِذَا كَانَ طريقته خدمة الفقراء الصبر عَلَى جفاء الْقَوْم مَعَهُ وأن يعتقد أَنَّهُ يبذل روحه فِي خدمتهم ثُمَّ لا يحمدون أثرا فيعتذر من تقصيره ويقر بالجناية عَلَى نَفْسه تطييبا لقلوبهم وإن علم أَنَّهُ بريء الساحة إِذَا زادوه فِي الجفاء فيجب أَن يزيدهم فِي الخدمة والبر. سمعت الإِمَام أبا بَكْر بْن فورك يَقُول: إِن فِي المثل إِذَا لَمْ تصبر عَلَى المطرقة فلماذا كنت سندانا، وَفِي معناه أنشدوا: رُبَّمَا جئته لأسلفه العذر ... لبعض الذنوب قبل التجني فصل وبناء هَذَا الأمر وملاكه عَلَى حفظ آداب الشريعة وصون اليد عَنِ المد إِلَى الحرام والشبهة وحفظ الحواس عَنِ المحظورات وعد الأنفاس مَعَ اللَّه تَعَالَى عَنِ الغفلات وأن لا يستحل مثلا سمسمه فِيهَا شبهة فِي أوان الضرورات فكيف عِنْدَ الاختيار ووقت الراحات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 ومن شأن المريد دوام المجاهدة فِي ترك الشهوات فَإِن من وافق شهوته عدم صفوته، وأقبح الخصال بالمريد رجوعه إِلَى شهوة تركها لِلَّهِ تَعَالَى. فصل ومن شأن المريد حفظ عهوده مَعَ اللَّه تَعَالَى فَإِن نقض العهد فِي طريق الإرادة كالردة عَنِ الدين لأهل الظاهر، ولا ينبغي للمريد أَن يعاهد اللَّه تَعَالَى عَلَى شَيْء باختيار مَا أمكنه فَإِن فِي لوازم الشرع مَا يستوفى منه كُل وسع. قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي صفة قوم: {ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] . فصل ومن شأن المريد قصر الأمل فَإِن الفقير ابْن وقته فَإِذَا كَانَ لَهُ تدبير فِي المستقبل وتطلع لغير مَا هُوَ فِيهِ من الوقت، وأمل فيما يستأنفه لا يجيء منه شَيْء. فصل ومن شأن المريد أَن لا يَكُون لَهُ معلوم وإن قل لا سيما بَيْنَ الفقراء فَإِن ظلمة المعلوم تطفئ نور الوقت. فصل ومن شأن المريد بَل من طريقة سالكي هَذَا المذهب ترك قبول رفق النسوان فكيف التعرض لاستجلاب ذَلِكَ، وعلى هَذَا درج شيوخهم وبذلك نفذت وصاياهم، ومن استصغر هَذَا فعن قريب يلقي مَا يفتضح فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 فصل ومن شأن المريد التباعد عَن أبناء الدنيا فَإِن صحبتهم سم مجرب، لأنهم ينتفعون بِهِ وَهُوَ ينتقص بِهِمْ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] وأن الزهاد يخرجون المال عَنِ الكيس تقربا إِلَى اللَّه تَعَالَى وأهل الصفاء يخرجون الخلق والمعارف من القلب تحققا بالله تَعَالَى. قَالَ الأستاذ الإِمَام أَبُو القاسم عَبْد الكريم بْن هواز القشيري: فَهَذِهِ وصيتنا إِلَى المريدين، نسأل اللَّه الكريم لَهُم التوفيق وأن لا يجعلها وبالا عَلَيْنَا، وَقَدْ نجز لنا إملاء هذه الرسالة فِي أوائل سنة ثمان وثلاثين وأربع مائة نسأل اللَّه الكريم أَن لا يجعلها حجة عَلَيْنَا ووبالا بَل تكون لنا وسيلة ونوالا، إِن الفضل منه مألوف، وَهُوَ بالعفو موصوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585