الكتاب: جلاء العينين في محاكمة الأحمدين المؤلف: نعمان بن محمود بن عبد الله، أبو البركات خير الدين، الآلوسي (المتوفى: 1317هـ) قدم له: علي السيد صبح المدني - رحمه الله - الناشر: مطبعة المدني عام النشر: 1401 هـ - 1981 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- جلاء العينين في محاكمة الأحمدين ابن الألوسي الكتاب: جلاء العينين في محاكمة الأحمدين المؤلف: نعمان بن محمود بن عبد الله، أبو البركات خير الدين، الآلوسي (المتوفى: 1317هـ) قدم له: علي السيد صبح المدني - رحمه الله - الناشر: مطبعة المدني عام النشر: 1401 هـ - 1981 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ـ[جلاء العينين في محاكمة الأحمدين]ـ المؤلف: نعمان بن محمود بن عبد الله، أبو البركات خير الدين، الآلوسي (المتوفى: 1317هـ) قدم له: علي السيد صبح المدني - رحمه الله - الناشر: مطبعة المدني عام النشر: 1401 هـ - 1981 م [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مضت سبعة قرون على وفاة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية، ولازال الناس في أمره مختلفين: فقد رأى بعينيه معارضيه، وسمع بأذنيه أقوالهم فيه، وقرأ بنفسه ما كتبوه عنه وعن آرائه، ولم يكن معارضوه ممن لا يلتفت إليهم بل كانوا من العلماء المبرزين الذين إذا قالوا سمع قولهم، وإذا أفتوا التزمت فتواهم. كانوا - رحمهم الله - في بعض نقدهم لشيخ الإسلام ابن تيمية مغالين أشد غلو حتى كفر بعضهم من نعته بشيخ الإسلام. باحثوه في مسائل فروعية، وأنكروا عليه فيها مذهبه أبغض نكير مع أنها من المسائل الخلافية منذ كانت وإلى يومنا هذا. ثم ناقشوا قوله في مباحث أصول الدين وفي الصفات على وجه اخً. وكان لاختلاف المذهب أثر قوي في انتقادهم، فهم في الغالب أشاعرة أو ما تريدية وكانوا قد ألفوا في ديار الشام ومصر والمغرب مذهب أبي الحسن الأشعري واطمأنوا إليه وأصبح المعتقد الثابت السائد الذي لا يزيغ عنه إلا هالك كما اطمأنوا إلى الصوفية وطرقهم، فلا تجد عالماً إلا وقد التزم طريقة صوفية يأخذ عن شيخها حزبه وورده، ويأمل في الوصول على يديه، وفي النجاة باتباعه. فلا غرابة إذن أن يحمل هؤلاء وأتباعهم حملتهم الشعواء على من جاء يقلب الموازين ويحرك المياه الآسنة، ويثور على حياة عقلية راكدة. ومجتمع علمي قانع ووسط ثقافي مترد. ولا غرابة إذن أن يصدع ابن تيمية برأيه خاصة والتتار يدوسون بلاد الإسلام ... وما أشبه الليلة بالبارحة. ومن عجيب أمر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الزمان لم يطو أثره وتأثيره فيما طوى من أثار وتأثير علماء كثيرين بل لم يخل قرن أو عصر من إثارة ذكره وذكر سيرته وآرائه وأقواله لا في المذهب الحنبلي فحسب بل في مختلف المذاهب ... . ففي القرن الثامن انشغل به تلاميذه ومحبوه وأنصاره يترجمون له ويبرزون فضله ومكانته ويردون عنه انتقادات معارضيه. وفي القرن التاسع حرر ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري ترجمة واسعة لشيخ الإسلام مال فيها إلى نصرته. وفي القرن العاشر نقل جلال الدين السيوطي في الأشباه والنظائر النحوية مبحثاً لشيخ الإسلام في حرف ((لو)) بعد الثناء الجميل عليه. وكان الشيخ إبراهيم الكوراني الشافعي ذابا عن ابن تيمية منافحاً عنه، ذاهباً مذهبه في عقيدة السلف مناصراً لها متأثراً الشيخ في كثير من القضايا.وكذلك كان الشيخ ملا علي القاري الحنفي شارح الشقا، والشيخ أبو المعالي علي بن محمد سعيد السويدي الشافعي مؤلف كتاب ((العقد الثمين في بيان مسائل الدين)) والشيخ أبو الثناء شهاب الدين الألوسي الشافعي الحنفي صاحب روح المعاني في التفسير، والد مؤلف كتابنا هذا جلاء العينين في محاكمة الأحمدين. ومؤلف هذا الكتاب من أعلام بغداد في القرن التاسع عشر إذ توفي رحمه الله سنة 1899 ميلادية، فهو شاهد على حيوية فكر ابن تيمية الذي شغل الناس منذ كان وإلي أيامنا هذه كما أوضحنا سالفاً. فقد اطلع على كلام ابن حجر الهيتمي في مؤلفه الفتاوي الحديثية فوجده ينسب لابن تيمية مالم يقله، ويتعسف في تفسير بعض ماقاله، ويحيد عن منهج العلماء في النقد وتقليب الرأي، فوصف ابن تيمية بأنه: ((عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه ... . فإنه مبتدع ضال جاهل غال ... أجارنا الله من مثل طريقته وعقيدته وفعله ... .) إلخ. ولما رأي بعض طلاب العلم قد تعلق بأقوال ابن حجر من غير فهم ولا نقد ولا بحث امتثل لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} وإعمالا للآية الكريمة التزم المنهج الموضوعي، فهو ليس ضد رجل من الرجال وإنما هو ضد قول من الأقوال وليس ضد مذهب من المذاهب بل ضالته الحق لذلك كان، كلامه مع الكلام ولذلك ساق خمسين ترجمة في الكتاب لمن دارت معهم أو حولهم معارك ابن تيمية، سواء كانوا خصومه أو من أنصاره أو ممن انتقدهم ابن تيمية. فقد ترجم لابن تيمية ولمن نبغ من أسرته. وترجم لبعض النابهين من تلاميذ الشيخ الذين أخذوا عنه مباشرة. وترجم للذين سلكوا مسلكه فيما بعد حتى مطلع القرن الرابع عشر. ثم ترجم لمشاهير الصوفية والفلاسفة الذين حمل عليهم ابن تيمية، وكانوا من وراء كثير مما قيل عنه، وممن وراء حملة ابن حجر عليه. وفي أثناء ذلك يورد أقوال العلماء في التصرف والصوفية وفي الفلاسفة ويبين أن شيخ الإسلام لم يكن أول منتقد للحلاج وابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وغيرهم - ولا أول من عاب ابن سينا، ولا أول من أخذ علي الغزالي في إحياء علوم الدين، ولا أول مشنع علي الرافضة والشيعة والمعتزلة والمتكلمين. فإذا كان التاريخ نقد هذه الاتجاهات معروفاً عند كل مطلع فابن تيمية إذن ليس بدعا من العلماء، فلم هذه الحملة عليه؟ ثم ينتقل المؤلف إلى عرض واف للمسائل التي خالف فيها ابن تيمية غيره أو انفرد بها من مسائل الصفات، وأفعال العباد، وفي بعثة الرسل، وخلق الجنة والنار، وغير ذلك من أمور العقيدة. ويستطرد الكاتب في مباحثه، فيتعرض لمسائل الفقه سواء كانت في العبادات كمسائل الوضوء والتيمم والطهارة والحيض، أو كانت من مسائل الطلاق وأنواعه. أو من مباحث البيوع، وغير ذلك من مباحث الفقه. ورغم مرور سبعة قرون على وفاة شيخ الإسلام رحمه الله، ومرور قرن من الزمان على وفاة مؤلف جلاء العينين وأربعين عاما على الطبعة الأولى للكتاب، فما زالت تلك القضايا محل نقاش كبير لم يحسم. فهذا في رأينا دليل على حيوية ثقافة هذه الأمة، وشاهد صدق على أثر الإسلام في نفسها ووجدانها، وإن كان البعض يراها غير ذلك. وإلا فأي قضية من قضايا الفكر الإنساني استقر فيها رأي الناس ونفضوا أيديهم منها. فهذا كتاب يجعلك مشاركاً في تلك القضايا بل يدعوك إلى تأملها، وإلى أخذ موقف من كل قضية وردت فيه، بل هو كتاب يطوف بك على مختلف علوم السلف من فقه وحديث وتوحيد وتصوف وأصول. فرحم الله مؤلفه وأجزل له الثواب. الناشر بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الكتاب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه خاتم المرسلين. بعقل العالم الأمين، الحجة الثبت، والواثق بنفسه وبعلمه. وبروح المؤمن المخبت، الصادق المخلص، العف الأمين؛ أخذ: ((نعمان بن محمود بن عبد الله، أبو البركات، خير الدين الآلوسي)) يناقش (شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر الشافعي الهيتمي) فيما آثاره حول (ابن تيمية) من شكوك وريب، واتهامات وافتراءات. و (نعمان بن محمود) هذا هو الواعظ الفقيه الباحث المولود سنة (1252هـ - 1836م) وهو من أعلام الأسرة الآلوسية في العراق، ولد ونشأ ببغداد وولي القضاء في بلاد متعددة، منها ((الحّلة)) ، وترك المناصب؛ وزار مصر في طريقه إلى الحج سنة 1295هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 قصد ((الآستانة)) سنة 1300هـ فمكث سنين، وعاد يحمل لقب رئيس المدرسين، فعكف على التدريس والتصنيف إلى أن توفي ببغداد (سنة 1317هـ-1899م) . يقول عنه الأثري: ((كان عقله أكبر من علمه، وعلمه أبلغ من إنشائه، وإنشاؤه أمتن من نظمه، وكان جواداً وفياً، زاهداً، حلو الفاكهة، سمح الخلق)) . ومن كتبه: [جلاء العينين في محاكمة الأحمدين] ابن تيمية وابن حجر، و [الجواب الفسيح لما لفقه عبد المسيح] و [غالية المواعظ] و [صادق الفجرين] في علىّ ومعاوية، و [شقائق النعمان] في الرد على بعض معاصريه (1) . والكتاب الذي نقدمه للقارئ العربي اليوم هو [جلاء العينين، في محاكمة الأحمدين] . وإذا كان لنا أن ننوه بفضل الكتاب وجدواه، فإن أول ذلك أن نشير إلى تلك الروح النبيلة التي كانت تسود الكتاب في أثناء عرضه للقضية الخطيرة، قضية ((اتهام ابن تيمية)) لقد التزم (الآلوسي) هذه الروح، حتى في أحرج المواقف، وأعنف الجدال، وأحر الخصومة. لم يلجأ إلى السباب، والشتم، ولا إلى المهاترة؛ فأعطانا بهذا صورة واضحة الملامح؟، بينة المعالم، عن علمه وفضله ونبله، وسعة أفقه وشمول معرفته.   (1) نقلنا ترجمة (الآلوسي) هذه عن الجزء التاسع من الأعلام الزركلي ط3. (وانظر المجلد الثاني ط4 ص42) ح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 إذ أن (العالم الثبت) لا يلجأ إلى المهاترات، وإنما يلجأ إلى استقامة الدليل واستهانة الحجة، ووضوح البرهان. وهذا ما فعله (الآلوسي) في كتابه هذا. ويكفيك أن تعلم أنه بالرغم من حب الرجل (لابن تيمية) وإعجابه به، يقابل اتهام (ابن حجر الهيتمي) له بكل تعقل واتزان فأنت تقرأ له في أول الكتاب، وهو بصدد تعريفه بطرفي الخصومة يقول عن (ابن حجر) وهو من هو في عداء ابن تيمية: ((وهو صاحب التأليفات المرضية، والعلوم اللدنية، علامة الأواجر، والبحر الزاخر، ذو التصنيفات التي هي في منهاج التحقيق تحفة الناظر)) . وصاحب التأليفات المرضية هذا هو الذي يقول: ((ابن تيمية عبد خذله الله تعالى وأضله، وأعماه وأصمه وأذله، بذلك صرح الأئمة الذي بينوا فساد أحواله، وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته، وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي، وولده التاج، والشيخ الإمام العز بن جماعة، وأهل عصرهم من الشافعية والمالكية، والحنفية)) . ((ولم يقتصر اعتراضه على متأخري الصوفية، بل اعترض على مثل عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، كما يأتي)) . ((والحاصل: أنه لا يقام لكلامه وزن، بل يرمي في كل وعر وحزن، ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال، جاهل غال، عامله الله تعالى بعدله وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله)) . ولكنه الاعتداد بالنفس. فإن الرجل (الآلوسي) بما عنده من علم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 يثق بأنه سيأتي على بنيان (ابن حجر) من القواعد، فيذروه قاعاً صفصفاً لا نرى فيه عوجاً ولا أمتا وقد فعل. إإن المنهج الذي ارتضاه (الآلوسي) رحمه الله! - في كتابه هذا (جلاء العينين) - وهو منهج المناقشة في هدوء، وبدون استعمال الألفاظ النابية - منهج نرتضيه نحن أيضاً بل ندعو إليه، ونحرض عليه. إذ لا يليق بالداعية إلى الحق أن يكون سباباً، أو فحاشاً، أو شتاماً , ولأننا طولبنا كمسلمين أن نجادل بالتي هي أحسن. ولكن ليس معنى هذا أن نترحم على الكفرة والملاحدة والخارجين على الله، وعلى آياته. كما فعل الشيخ (الآلوسي) رحمه الله في بعض حديثه عن ابن عربي والحلاج وابن سبعين وابن الفارض فإن في ذلك تعظيم لشأنهم نوع تعظيم، وفيه ما فيه من شر ووبال. هذا ما نأخذه على صاحب الكتاب رحمه الله وأثابه؛ ونأخذ عليه أيضاً موقفه من (الحلاج) وشركائه، فإنه يقول: ((وأما قول من قال: إن من اعتقد ولاية الحلاج، وابن الفارض، كفر فليس بجيد منه، لأن إطلاق الكفر على من اعتقد شيئاً محتملاً خطأ)) . ونحن نتساءل ما هي الولاية التي يمكن أن تنسب للحلاج ومن نحا نحوه؟ أهي ولاية الشيطان؟ أم أنها ولاية الله العامة، التي يتولى بها شئون خلقه أجمعين؟ ربما أما أن تكون ولاية الخاصة - لعباده المؤمنين - فهذا ما ننفيه ونسرف في نفيه، ونبالغ في هذا الإسراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 من هو (الحلاج) ؟ إنه القائل: ((أنا الحق)) و ((ما في الجبة إلا الله)) ومن هو (ابن الفارض) ؟ إنه القائل: لها صلواتي في المقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل واحد ناظر إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة أما نحن فنقول بكفرهما، بل ونذهب إلى أبعد من هذا فنقول بكفر من يشك في كفرهما. كما روى (الشيخ الآلوسي) عن (المقرى) . وهذا الذي أخذناه على الشيخ لا يهون من فائدة كتابه، ولا يقلل من جدواه فهو كتاب وسع بين دفتيه ثقافة شاملة، ومعرفة كاملة، وناقش قضية هامة، الناس في حاجة إلى تعرف وجه الحق فيها من زمان، وبخاصة في هذا الزمان! إن اتهام (ابن تيمية) وهو الرجل المجاهد المناضل، في سبيل الله، وفي سبيل دينه، أمر ينبغي أن يعطي قدراً كبيراً جداً، من العناية والرعاية. فإن (ابن تيمية) وما ذهب إليه من آراء؛ يعتبر عاملاً هاماً في الثقافة الإسلامية. فإذا ما أراد مريد من الناس (كالهيتمي) - مثلاً - أن يشطب ابن تيمية، من تاريخ الفكر الإسلامي فلا ينبغي أن نتركه يفعل، بل لا بد أن نجادله ونناقشه، ونسرف في مجادلته ومناقشته، حتى يبين وجه الحق، ويثوب غارب الصواب. وخيراً فعل (الشيخ الآلوسي) فقد أفاد وأجاد، وقد قام بعمل مشكور، في هذا السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 لم يكن (ابن حجر الهيتمي) أول أعداء (ابن تيمية) والناقمين عليه، وأيضاً لم يكن آخرهم. ولم يكن ابن تيمية أول من نال الناس منه. ووقعوا في عرضه، ولن يكون آخرهم. هو خلقٌ بشريٌ قديم، من يوم أن قتل (قابيل) أخاه (هابيل) . وسيستمر هذا الخلق القديم، مادام هناك بشر، ومادام هناك نوابغ ومادام هناك متفوقون. ولن يضير (ابن تيمية) ، ولن يضير غير (ابن تيمية) من العاملين للخير والرشاد والهدى، أن تنطلق حولهم الأكاذيب، ما داموا صادقين وماداموا مخلصين. لكن من هو (ابن تيمية) هذا؟ هو: (تقي الدين أبو العباس أحمد) يقول عنه (ابن الوردي) ((: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث)) . ويقول عنه (عماد الدين الواسطي) : ((فوالله ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علماً وعملاً وحالاً وخلقاً واتباعاً وكرماً وحلماً)) . ويقول عنه (ابن دقيق العيد) : ((سائر العلوم بين عينيه يأخذ ما شاء منها ويترك ما شاء)) . ويقول (الحافظ المزي) : ((ما رأيت مثله،؟ ولا رأى هو مثل نفسه)) . أما أبوه: فهو (شهاب الدين أبو أحمد عبد الحليم) . يقول (الذهبي) : ((وكان إماماً محققاً، كثير الفنون، وكان من أنجم الهدى)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وأما جده: فهو (مجد الدين أبو البركات عهد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر محمد بن الخضر بن علي ابن تيمية) . يقول عنه (الحافظ عز الدين) : ((حدث بالحجاز والعراق والشام وحران وصنف ودرس وكان من أعيان العلماء، وأكابر الفضلاء)) . ويقول (الذهبي) : ((وكان معدم النظير في زمانه، رأسا في الفقه وأصوله، وصنف التصانيف واشتهر اسمه وبعد صيته)) . هذا هو ابن تيمية، وهذا أبوه، وهذا جده، ذرية بعضها من بعض، في العلم والفضل والنبل. ولد ابن تيمية في يوم الإثنين 10 من ربيع الأول سنة 661هـ، وتوفي ليلة الإثنين 29 من ذي القعدة سنة 728 هـ. رحمه الله! ((ما أبقي صديقاً لعمر)) كلمة قالها أمير المؤمنين تصور إلى مدى بعيد ما نحن فيه. فالرجل العظيم دائماً - بما خطه لنفسه من مبادئ ومثل لا تقبل الضيم ولا تقر الهوان يكثر أعداؤه والحاقدون عليه؛ لأنه لا يخادع، ولا يوارب، ولا يتملق. وكذلك كان (ابن تيمية) ؛ وكذلك كان الناس معه، لقد عاداه الناس، وكادوا له، وقعدوا له بكل صراط يوعدون ويصدون ويعوقون. ثم ماذا؟ ثم لقي كل مصرعه، وضاع بين الضجيج، وبقي (ابن تيمية) في تقدير التاريخ، وفي خلد الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 مات شيخ الإسلام، وبكاه خلق كثير، ويكفي أن تعلم أن عدد من صلى عليه حزر بخمسمائة ألف رجل وخمس عشر ألف امرأة. يقول أحد الذين شهدوا جنازته: ((ولم يتخلف فيما أعلم إلا ثلاثة أنفس، كانوا قد اشتهروا بمعاندته، فاختفوا من الناس خوفاً على أنفسهم، بحيث غلب على ظنهم أنهم متى خرجوا رجمهم الناس)) . وهكذا تكون عاقبة المحسنين الطيبين، يجعل الله لهم لسان صدق في الناس. وصدق الإمام أحمد - رضي الله عنه -، في حديث له مع أعدائه والحاقدين عليه: ((قولوا لأهل البدع، بيننا وبينكم الجنائز)) . رضي الله عن (ابن تيمية) . ورضي الله عن أشياخه الذي أثروا فيه. وتلاميذه الذين تأثروا به. فلقد كان دائرة معارف واسعة في الأصول والفقه والتفسير والحديث وشتيت من المعارف والفنون. مما جعل له الصدارة والإمامة. ووضعه بحق في ذلك المركز الجليل الخطير، مشيخة الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وبعد: فهذا هو كتاب (جلاء العينين) بين يديك. ستجد فيه علماً غزيراً، وخيراً كثيراً. سيحدثك عن كل ما تريد وفوق ما تريد. وسيتركك هادئ النفس مستريح الضمير طيب الوجدان، بما سيقدمه لك من هدى ويقين ونور. والذي عليك هو أن تقبل عليه، وإقبال الهيم على المورد العذب الصافي، فتعب منه عللاً بعد نهل. والله يكلؤك، ويرعاك، ويسدد خطاك. والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات والسلام على نبيه فخر الكائنات، على السيد صبح المدنى رحمه الله وعفا عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي انتصر لأوليائه المتقين، والصلاة والسلام على أنبيائه المعصومين، لاسيما على فاتحة عين العلماء، وخاتمة الأصفياء، وعلى آله المحفوظين من المعايب، وأصابه الذين اتبعوا الحق فنالوا أحمد المراتب، وعلى من اقتدى بهم من الأئمة الأكارم، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، والمجتهدين والعلماء العاملين من ورثة الرسل الأعاظم. [سبب تأليف الكتاب] ((أما بعد)) - فيقول العبد نعمان خير الدين ابن السيد محمود أفندي شهاب الدين مفتي الحنفية ببغداد،المفسر الشهير بالآلوسي، غفر الله سبحانه لهما وستر عيوبهما يوم التناد، ولطف بهما باللطف القدوسي. إني لما رأيت بعض العبارات في خاتمة الفتاوي الشهيرة بـ ((الفتاوى الحديثية)) لصاحب التأليفات المرضية، والعلوم الدينية، علامة الأواجر والبحر الزاخر، ذي التصنيفات التي هي في منهاج التحقيق تحفة الناظر: شهاب الدين احمد بن محمد بن علي بن حجر الشافعي الهيتمي - لا زال صيب المغفرة والرضوان على قبره يمهى - قد أزرى فيها، وشنع بظاهرها وخافيها، على جامع العلوم الربانية، ومحور التصنيفات العديدة، ذي الآراء السديدة، المؤيدة للشريعة الأحمدية، إمام الأمة في عصره، ومجمع علوم الئمة في دهره، ترجمان القرآن، وآخر مجتهدي الزمان ذي الكرامات الساطعة، والبراهين اللامعة، حجة الأنام، شيخ الإسلام: تقي الدين أحمد أبي العباس الشهير بابن تيمية الحراني الحنبلي، نفعنا الله تعالى والمسلمين بعلومه وأسكنه في المقام العلي، رماه فيها بثالثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الأثافي (1) ؟، وعزا إليه - وحاشاه - كل عيب ضافي، ونسب إليه بعض العقائد المخالفة لأهل السنة، التي لم يكن البعض منها مسطوراً في كتبه، وليس له في البعض الآخر سوء المقاصد، مع أنه قد صرح في سائر تأليفاته بخلاف تلك المرويات وبضد هاتيك المعزوات (2) ، وكذا في وقت المحنة. فتبين عند النقاد أنه منا بريء، وعن ضرها عرى، وبعضها افتراء صرف في معاصريه الراوين، أو الحسدة والمخالفين، الذين لايذكرون موقفهم بين يدي رب العالمين. ولما تعلقت في هذه الأذهان عبارة منها بسمع كثير من الطلاب، العارين عن الإطلاع على تفصيل الأدلة من الكتاب والسنة، ولم يميزوا القشر من اللباب - وقد قيل في المثل ((من يسمع يخل)) (3) . شوقتني كثرة السائلين وأجر فصل الخطاب بين المتجادلين، وحثني اتباع قول النبي الأمين عليه أفضل صلاة المصلين، وأزكى سلام المسلمين: ((من أنعش حقاً جرى له أجره حتى يأتي الله تعالى يوم القيامة فيوفيه ثوابه)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من قال في مؤمن ماليس فيه حبسه الله تعالى في ردغة الخبال (4) حتى يأتي بالمخرج)) وقوله سبحانه وتعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا يكتمونه} [آل عمران187] وغير ذلك من الآيات الكريمة والأحاديث العظيمة إلى بيان ما في هذه العبارات وأشباهها في بعض الكتب المتفرقات وتحرير أقوال العلماء في   (1) الأثافي: جمع الأثفية - بضم الهمزة وكسرها - وهي الحجارة التي تنصب وتجعل القدر عليها. (م) (2) في (ص) المفريات والقعل (عزا) واوي. (3) يخل: أي يتخيل. ومعناه من يسمع أخبار الناس ومعابيهم يقع في نفسه المكروه. (م) (4) الردغة - بسكون الدال وفتحها -: الطين والوحل الكثير. وطبقة الخبال: ما سال من جلود أهل النار. (م) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 تلك المسائل، وبسط الأدلة واختلافات المجتهدين الأماثل، وسرد كلام هذين الأحمدين، بما يثبت فؤاد المنصف ويقر من متبع الحق العين، ليتبين بحوله تعالى، أن كثيراً من نقل الشيخ ((ابن حجر)) عنه ليس بصحيح، وتقبيحه لكانة أقواله غير مقرون بالترجيح، وأنه غير مبتدع في الدين، أو سلك غير سبيل المؤمنين. فحررت هذه العجالة، مبينا فيها - إن شاء الله تعالى - لكل واحد من هذين الشيخين أقواله، مع نقل ما يتعلق بها من كلام المحققين، والجهابذة المتقدمين والمتأخرين، الذين هم نظراء هذين الإمامين وقرناء، ليقف الناظر الورع على الحقيقة، ويلحق العارف الذكي بتصوره تصديقه، متحرياً للحق المبين متبعاً - إن شاء الله تعالى - لقوله عز من قائل: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [المائدة 8] آملا لثمرة قوله عليه الصلاة والسلام: ((المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وماولوا)) . داعياً بما رواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يصلي يقول: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون أهدني لما اختلفت فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) . والملتمس ممن اطلع على هذا الكتاب وطلب تميز الخطأ من الصواب أنه يتذكر وقوفه عند الله سبحانه ليحفظ لسانه وقلمه وجنانه، من الاعتراض على ما حررته قبل الاستقضاء لما زبرته (1) ، فإن نبينا صلى الله تعالى عليه   (1) كتبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 يقول: ((إذا أردت أمراً فعليك بالتؤدة حتى يريك الله تعالى منه المخرج)) رواه في الإفاضة، ولقد أجاد من قال: [كامل] . من لم يشافه عالماً بأصوله ... فيقينه في المشكلات ظنون من أنكر الأشياء دون تيقن ... وتثبت فمعائد مفتون الكتب تذكرة لمن هو عالم ... وصوابها بمحالها معجون والفكر غواص عليها مخرج ... والحق فيها لؤلؤ مكنون هذا، وإن إمام دار الهجرة (1) يقول: (كل أحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر) مشيراً إلى سيد المرسلين، وإمام المعصومين. وأسأل المولى العليم أن يحفظنا من باطل الأقاويل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وسميته (جلاء العينين، بمحاكمة الأحمدين) فأقول مستمداً ممن بيده التوفيق والهداية لأقوم طريق. [ابن حجر ينال من ابن تيمية] قال العلامة ابن حجر في كتابه المذكور ما نصه: (وسئل - نفع الله تعالى به - بما لفظه لابن تيمية: اعتراض على متأخري الصوفية وله خوارق في الفقه والأصول فما محصل ذلك؟) فأجاب بقوله: ابن تيمية عبد خذله الله تعالى وأضله، وأعماه وأصمه وأذله، بذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله، وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كتاب الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد: أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة، وأهل عصرهم من الشافيعة والمالكية والحنفية. ولم يقتصر اعتراضه على متأخري الصوفية بل اعتراض على مثل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وعلى بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما يأتي. والحاصل، أنه لا يقام لكلامه وزن، بل يرمى في كل وعر وحزن ويعتقد   (1) الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فيه أنه مبتدع ضال وجاهل غال. عامله الله تعالى بعدله، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله آمين. أقول: هذا مبدأ كلام ابن حجر في فتاواه، وسيأتي إن شاء الله تعالى تكملة ما زبره وأملاه. ومما يلزم قبل الشروع في البيان، ترجمة هؤلاء الأعيان، ومن يلتحق بهم ويتقوى المقصد بذكرهم على قد الإمكان. ولنذكر بحوله تعالى ما حرره العلماء في حق ابن تيمية من معاصريه والمتأخرين الفضلاء. فاعلم: أنه ما في تاريخ مؤرخ الإسلام ((الحافظ الذهبي)) الشافعي، وتاريخ الحافظ ((ابن حجر العسقلاني)) شارح البخاري، وتاريخ ((الحافظ ابن كثير)) وتاريخ ((فوات الوفيات)) للفاضل الكتبي، وتاريخ العالم ابن العماد المسمى بـ ((شذرات الذهب)) وتاريخ الشيخ عمر بن الوردى وغيرهم. [ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية] هو شيخ الإسلام (1) ، وحافظ الأنام، المجتهد في الأحكام: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي. وفي ((تاريخ إربل)) : أن جده سئل عن اسم تيمية، فأجاب: أن جده حج وكانت امرأته حاملاً، فلما كان بتيماء - بلدة قرب تبوك - رأى جارية حسنة الوجه قد خرجت من خباء، فلما رجع وجد امرأته قد وضعت جارية، فلما رفعوها إليه قال: ياتيمية ياتيمية، يعني أنها تشبه التي رآها بتيماء فسمى بها. انتهى (2) . وقد ولد بحران يوم الإثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة.   (1) وانظر الأعلام ط4 جـ1 ص144 ففيه ترجمة ومراجع أخرى. (2) وفي تاريخ ابن خلكان في ترجمة محمد بن أبي القاسم ابن تيمية بعد حكاية القصة أنه كان ينبغي أن تكون تيماوية لأن النسبة إلى تيماء: تيماوي لكنه هكذا قال واشتهر كما قال. انتهى (هـ. ص) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وقدم به والده وبأخويه عند استيلاء التتار على البلاد إلى دمشق سنة سبع وستين وستمائة. فأخذ الفقه والأصول عن والده، وسمع عن خلق كثيرين، منهم الشيخ شمس الدين زين ن المنجا، والمجد بن عساكر. وقرأ العربية على ابن عبد القوى، ثم أخذ كتاب سيبويه فتأمله وفهمه. وعنى بالحديث ن وسمع الستة والمسند مرات. وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من سائر العلوم. ونظر في الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، ورده على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل. وتأهل للفتوى والتدريس وله دون العشرين سنة، وتضلع في علم الحديث وحفظه حتى قالوا: إن كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فهو ليس بحديث. وأمده الله تعالى بكثرة الكتب، وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم وبطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيأ فينساه. وألف في أغلب العلوم والتأليفات العديدة وصنف التصانيف المفيدة في التفسير والفقه والأصول والحديث والكلام والردود على الفرق الضالة والمبتدعة، وله الفتاوى المفصلة وحل المسائل المعضلة. ومن تصنيفاته التي تبلغ ثلثمائة تصنيف: ((تعارض العقل والنقل)) أربع مجلدات، ((والجوا الصحيح)) - رداً على النصارى - أربع مجلدات و ((وشرح عقيدة الأصفهاني)) مجلد، و ((الرد على الفلاسفة)) أربع مجلدات، وكتاب ((إثبات المعاد)) والرد على ابن سينا. وكتاب ((ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً)) و ((المعجزات والكرامات)) وكتاب ((إثبات الصفات)) مجلد وكتاب ((العرش)) وكتاب ((رفع الملام عن الأئمة الأعلام)) وكتاب ((الرد على الإمامية)) رداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 على ابن المطهر الحلى - مجلدين كبيرين. وكتاب ((الرد على القدرية)) وكتاب ((الرد على الاتحادية والحلولية)) وكتاب ((في فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما)) على غيرهما. وكتاب ((تفضيل الأئمة الأربعة)) . وكتاب ((شرح العمدة)) في الفقه أربع مجلدات. وكتاب ((الدرة المضية في فتاوى ابن تيمية)) وكتاب ((المناسك الكبرى والصغرى)) . ((والصارم المسلول على من سب الرسول)) وكتاب في ((الطلاق)) وكتاب في ((خلق الأفعال)) و ((الرسالة البغدادية)) وكتاب ((التحفة العراقية)) وكتاب ((إصلاح الراعي والرعية)) وكتاب ((في الرد على تأسيس التقديس)) للرازي - في سبع مجلدات. وكتاب ((في الرد على المنطق)) وكتاب ((الفرقان)) وكتاب ((منهاج السنة النبوية)) وكتاب ((الاستقامة)) مجلدين، وغير ذلك. [الحافظ الذهبي يتحدث عن ابن تيمية] قال (الذهبي) : وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد، وترجمه في معجم شيوخه بترجمة طويلة، منها قوله: شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علماً ومعرفة وشجاعة، وذكاء وتنويراً إلهياً، وكرماً ونصحاً للأمة، وأمراً بالمعروف ونهيا عن المنكر. سمع الحديث وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته، وخرج ونظر في الرجال والطبقات، وحصل مالم يحصل غيره. وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقائق معانيه بطبع سيال، وخاطر وقاد إلى مواضع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها. وبرع في الحديث وحفظه فقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث، مع شدة استحضاره له وقت الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين. وأتقن العربية أصولاً وفروعاً ونظر في العقليات، وعرف أفعال المتكلمين، ورد عليهم ونبه على خطئهم، وحذر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذي في ذات الله تعالى من المخالفين، وأخيف في نصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 السنة المحفوظة حتى أعلى الله تعالى مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محنته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً كثيرة من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً وعلى طاعته، وأحيا به الشام بل الإسلام بعد أن كاد ينثلم، خصوصاً في كائنة التتار. وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلى، فلو حلفت بين الركن والمقام: إني ما رأيت بعيني مثله، وإنه ما رأى مثل نفسه لما حنثت. انتهى. [الحافظ ابن كثير أيضاً] (وقال الحافظ ابن كثير) : وفي رجب سنة سبعمائة وأربع راح الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مسجد النارنج وأمر أًصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيما ن وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة. وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه، فحسد وعودى، ومع هذا لا تأخذه في الله لومة لائم. ولم يبال بمن عاداه ولم يصلوا غليه بمكروه. وأكثر ما نالوا منه الحبس، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين. وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه كما سيأتي. انتهى. قيل: من جملة أسباب حبسه خوفهم أنه ربما يدعى ويطلب الإمارة، فلقي أعداؤه عليه طريقاً من ذلك، فحسنوا للأمراء حبسه لسد تلك المسالك. [ما كتبه الزملكاني] وكتب (الشيخ كمال الدين الزملكاني) : كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علم الشرع أو غيره إلا ماق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. [كلام للسيوطي في ابن تيمية] (قلت) : ورأيت في كتاب النثر الذائب في الإفراد والغرائب، من فنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 كتاب ((الأشباه والنظائر النحوية)) للإمام السيوطي عليه الرحمة مانصه: جواب سؤال سائل عن حرف ((لو)) لسيدنا وشيخنا الإمام العالم الأوحد، الحافظ المجتهد الزاهد، العابد القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين، ذي العلوم الرفيعة، والفنون الهديعة، محي السنة، ومن عظمت به لله تعالى علينا المنة، ودامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهدية المحجة: تقي الدين أبي العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحرانى، أعلى لله تعالى مناره، وشيد من الدين أركانه. [كامل] ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلت عن الحصر هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر هو آية في الخلق ظاهرة ... أنواره أربت على الفجر نقلت هذه الترجمة من خط العلامة فريد دهره ووحيد عصره: الشيخ كمال الدين بن الزملكاني: بسم الله الرحمن الرحيم، نقلت من خط الحافظ علم الدين البرازلى. قال سيدنا وشيخنا العلامة، القدوة الحافظ الزاهد العابد الورع إمام الأئمة، وخير مفتى الفرق، علامة الهدى ن ترجمان القرآن حسنة الزمان عمدة الحفاظ فارس المعاني والألفاظ ركن الشريعة ذو الفنون البديعة ناصر السنة قامع البدعة: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني، أدام الله تعالى بركته ورفع درجته. الحمد لله الذي علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الباهر البرهان. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجان، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه تسليماً يرضى به الرحمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 سألت وفقك الله تعالى عن معنى حرف ((لو)) وكيف يتخرج قول عمر - رضي الله عنه -: ((نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه)) على معناها المعروف. وذكرت أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضيت الجواب اقتضاء أوجب أن أكتب في ذلك ما حضرني الساعة، مع بعد عهدي بما بلغني ما قاله الناس في ذلك وأنه لا يحضرني الساعة ما أراجعه في ذلك فأقول.. اهـ بحروفه. ثم ساق الإمام السيوطي آخر الجواب إلى نهايته وأقر المترجم على ترجمته فإن أردته فارجع إلى الأشباه والنظائر فإن فيه جلاء الأبصار والبصائر (1) . [رأى الحافظ ابن سيد الناس في ابن تيمية] وكتب (الحافظ ابن سيد الناس) : الفيته ممن أدرك العلوم حظاً ن وكاد يستوعب السنن والآثار حفظاً - إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته،وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته ولا أرفع من درايته. يرز في كل علم على أبناء جنسه، ولا رأت عيني مثل نفسه. [رأى ابن الوردى] وقال (ابن الوردى) في تاريخه - وقد عاصره ورآه -: وكانت له خبرته تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ومعرفة بفنون الحديث مع حفظه لمتونه الذي انفرد به وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإله المنتهى في غزوة إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: (كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث) ، ولكن الإحاطة لله تعالى. غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقى. وأما التفسير   (1) وكذا المدقق ابن هشام في شرح الشذور نقل عنه بعض الأقوال النحوية معبراً عنه بالإمام العلامة وكذا غيرهما ممن سلمت له بالإمامة (هـ. ص) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فسلم إليه وكان يكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة نحواً من أربعة كراريس. وله التآليف العظيمة في كثير من العلوم، وما يبعد أن تصانيفه تبلغ خمسمائة مجلد وله الباع الطويل في معرفة مذهب الصحابة والتابعين. قل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة. وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة. وبقي سنين يفتي بما قام الدليل عنده. ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية وكان دائم الابتهال، كثير الاستعانة قوي التوكل ثابت الجأش له أوراد وأذكار يديمها لا يداهن ولا يحابي، محبوباً عند العلماء والصلحاء والأمراء والتجار والكبراء وصار بينه وبين بعض معاصريه وقعات مصرية وشاميه لبعض مسائل أفتى فيها بما قامت عنده الأدلة الشرعية. واجتمع بالسلطان محمود غازان السفاك المغتال وتكلم معه بكلام خشن ولم يهبه، وطلب منه الدعاء فرفع يديه ودعا دعاء منصف أكثره عليه وغازان يؤمن على دائه، انتهى ملخصاً. وأطال في ترجمته. [رأى الواسطى] وقال العلامة الشيخ عماد الدين الواسطى في حقه بعد ثناء طويل جميل مالفظه: فو الله، ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علماً وعملاً وحالاً وخلقاً واتباعاً وكرماً وحلماً وقياماً في حق الله تعالى عند انتهاك حراماته أصدق الناس عقداً، وأصحهم علماً وعزماً وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفاً وأكملهم اتباعاً لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة اهـ. [رأى ابن دقيق العيد] ونقل في الشذرات عن (الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد) ، وقد سئل عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الشيخ ابن تيمية بعد اجتماعه به كيف رأيته؟ قال: رأيت رجلاً سائر العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء منها ويترك ما شاء. فقيل له: فلم لاتتناظران؟ قال: لأنه يحب الكلان وأحب السكوت. [رأى العلامة السبكي] وقال ابن مفلح في طبقاته: كتب (العلامة تقي الدين السبكي) إلى (الحافظ الذهبي) في أمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما نصه. فالمملوك يتحقق قدره وزخارة بحره وتوسعته في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وأنه بلغ في ذلك كل المبلغ الذي يتجاوزه الوصف، والمملوك يقول ذلك دائماً. وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ماجمعه الله تعالى من الزهادة والورع ن والديانة ونصرة الحق والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وفي غرابة مثله في هذا الزمان بل في أزمان. اهـ. [رأى الحافظ ابن حجر العسقلاني] وقال (الحافظ ابن حجر العسقلاني) في ترجمته المطنبة: إن الفتنة لما ثارت على الشيخ ابن تيمية من جهة بعض كلماته تعصب له القاضي الحنفي ونصره. وسكت القاضي الشافعي ولم يكن له ولا عليه. وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ نصر ابن المنبجي، لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن عربي، فكتب يعاتبه على ذلك. لكونه بالغ في الحط من (1) ابن عربي وتكفيره؛ فصار هو يحط من ابن تيمية؛ ويغري بيبرس الجاشنكير. وكان بيبرس يفرط في محبته ويعظمه. واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين ابن الحرير انتصر للشيخ ابن تيمية وكتب في حقه محضراً بالثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب به في خطه ثلاثة عشر سطراً من جملتها: أنه منذ ثلثمائة سنة ما رأى الناس مثله اهـ.   (1) (ص) على. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قلت: وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتابنا هذا ما حرره الشيخ ابن تيمية للشيخ نصر المنبجي وما يتعلق بالقاضي السبكي عليهم الرحمة. ونقل الإمام العسقلاني أيضاً عن الحافظ الذهبي أنه قال: حضر عند شيخنا أبو حيان المفسر فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل! ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها وهي: [بسيط] . لما أتانا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فرد ماله وزر على محياه من سيما الألى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر حبر تسربل منه دهره حبراً ... بحر تقاذف من أمواجه الدرر قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذ مصت مضر وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طارت له شرر يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان ينتظر يشير بهذا إن أنه المجدد - وقد صرح بذلك أيضاً العماد الواسطى - ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ الشيخ ابن تيمية القول في سيبويه، فناظره أبو حيان بسببه ثم عاد ذاماً له، وصير ذلك ذنباً لا يغتفر. ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما كان سيبويه نبي النحو ولا معصوماً، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعاً ما تفهمها أنت. فكان ذلك سبب مقاطعته إياه. وذكره في تفسيره ((البحر)) بكل سوء، وكذا في مختصره ((النهر)) اهـ. وقد ترجمته علماء المذاهبا المعاصرون له وغيرهم بتراجم مفصلة، وأثنوا عليه بالثناء الحسن، وذكروا له كرمات عديدة، ومواظبة على الطاعات والبعادات وتجنباً عن البدع، وشدة اتباع للسنن وطريقة السلف الصالح. وأنه لم يتزوج حتى مات. وكان أبيض اللون أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 شحمتى أذنيه، عيناه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين جهوري الصوت. وقد ذكر نبذة من اختياراته (العلامة ابن رجب) المتوفى سنة سبعمائة وخمس وتسعين في ((طبقاته)) وفصل أيضاً سيرته وأحواله والثناء عليه. وقد توفي سنة سبعمائة وثمان وعشرين، سحر ليلة الإثنين عاشر ذي القعدة الحرام في السجن؛ فأخرج إلى جامع دمشق فصلوا عليه، فكان يوماً مشهوداً، لم يعهد بدمشق مثله وبكى الناس بكاء شديداً وتبركوا بماء غسله واشتد الزحام على نعشه ودفن بمقابر الصوفية بعد أن وصلوا عليه مراراً. وحزر من حضر جنازته بمائتي ألف، ومن النساء بخمسة عشر ألفا. وختمت له ختمات كثيرة. ورثي بقصائد بليغة منها قصيدة الشيخ عمر بن الوردى وهي: [الوافر] . عثا في عرضه قوم سلاط ... لهم من نثر جوهره التقاط تقي الدين أحمد خير حبر ... خروق المعضلات به تخاط توفي وهو محبوس فريد ... وليس له إلى الغلى الدنيا انبساط ولو حضروه حين قضى لألفوا ... ملائكة النعيم به أحاطوا قضى نحباً وليس له قرين ... ولا لنظيره ألف القماط فتى في علمه أضحى فريداً ... وحل المشكلات به يناط وكان إلى التقى يدعو البرايا ... وينهي فرقة فسقوا ولا طوا وكان الجن تفرق من سطاه ... بوعظ للقوب هو السياط فيا لله ما قد ضم لحد ... ويا لله ما غطى البلاط هم حسدوه لما لم ينالوا ... مناقبة فقد مكروا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كسالى ... ولكن في أذاه لم نشاط وحبس الدر في الأصداف فخر ... وعند الشيخ في السجن اغتباط بآل الهاشمي له اقتداء ... فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 بنو تيمية كانوا فبانوا ... نجوم العلم أدركها انهباط ولكن يا ندامة حابسيه ... فشك الشرك كان به يماط ويا فرح اليهود بما فعلتم ... فإن الضد يعجبه الخباط ألم يك فيكمو رجل رشيد ... يرى سجن الإمام فيستشاط إمام لا ولاية كان يرجو ... ولا وقف عليه ولا رباط ولا جاراكمو في كسب مال ... ولم يعهد له بكم اختلاط ففيم سجنتموه وغظتموه ... أما لجزا أذيته اشتراط وسجن الشيخ لايرضاه مثلي ... ففيه القدر مثلكم انحطاط أما والله لولا كتم سرى ... وخوف الشر لانحل الرباط وكنت اقول ما عندي ولكن ... بأهل العلم ما حسن اشتطاط فما أحد إلى الإنصاف يدعو ... وكل في هواه له انخراط سيظهر قصدكم يا حابسيه ... ونبئكم إذا نصب الصراط فها هو مات عنكم واسترحتم ... فعاطوا ما أدرتم أن تعاطوا وحلوا واعقدوا من غير رد ... عليكم وانطوى ذاك البساط اهـ مطلب فيمن ابتلى وأوذى من العلماء [المؤمنون يفتنون] قلت: وما زال الناس ولا سيما الكبراء والعلماء يبتلون في الله تعالى ويصبرون. وقد كانت الأنبياء عليهم السلام يقتلون، وأهل الخير في الأمم السالفة يقتلون ويحرقون وينشر أحدهم بالمنشار وهو ثابت على دينه ولولا كراهية التطويل لذكرت من ذلك ما يطول. وقد سُم أبو بكر وقتل عمر وعثمان وعلي وسُم الحسن وقتل الحسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وابن الزبير، وصُلب حبيب بن عدي، وقتل الحجاج عبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن خبير وغيرهما وقتل زيد بن على. وأما من ضُرب من كبار العلماء فكثيرون، منهم: عبد الرحمن بن أبي ليلى - ضربه الحجاج أربعمائة سوط ثم قتله. وسعيد بن المسيب - ضربه عبد الملك بن مروان مائة سوط، وصب عليه جرة ماء في يوم شات، وألبس جبة صوف. وخبيب بن عبد الله بن الزبير، ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد مائة سوط، وذلك أنه حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دُولاً. فكان عمر إذا قيل له: أبشر. قال: كيف بخبيب على الطريق! ؟ وأبو عمرو بن العلاء، ضربه بنو أمية خمسمائة سوط. والإمام موسى الكاظم - سجنه هرون حتى مات. والإمام أبو حنيفة - توفي في السجن بعد أن ضرب. وقيل: أُوجر سماً. والإمام مالك بن أنس، ضربه المنصور (1) أيضاً سبعين سوطاً في يمين المكره وكان مالك يقول: لا يلزمه اليمين. والإمام أحمد، امتحن وسجن وضرب في أيام بني العباس. وللشيخ ابن تيمية في هؤلاء الأئمة أسوة. لو أردنا استقصاء ما ذكره معاصره من الثناء عليه وبيان سيرته ومفصل أحواله لأفضى بنا إلى الطول، والقلم - لا مللت - ملُول، ويكفى من القلادة ما أحاط بالجيد.   (1) كذا بالأصل وهو غير صحيح والذي في كتب التاريخ: أن الذي ضرب الإمام مالكاً هو جعفر بين سليمان والي المدينة من قبل المنصور وابن عمه ولما علم المنصور بضرب الإمام وما نزل به أعظم من ذلك إعظاماً شديداً وأنكره على ابن عمه وكتب بعزله واعتذر للإمام مالك (م) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فصل:في تبرئة الشيخ مما نسب إليه وثناء المحققين المتأخرين عليه. [شهادة الكورانى] (منهم) : الفهامة ذو العلوم الدنية، صوفى الفقهاء، وفقيه الصوفية:الشيخ إبراهيم بن حسن الكورانى المدنى الشافعي، المتوفى سنة الف ومائة وواحدة؛ فقد قال في كتابه ((إفاضة العلام في تحقيق مسألة الكلام)) ما لفظه: وفيما نقلناه من نصوصه - يعني ابن تيمية - وقررناه على وجه موافق للكتاب والسنة وعقيدة السلف: كفاية لبيان حاله في اعتقاده، وبراءة ساحته من القولا بالتجسيم، والقول بالجهة على الوجه المحذور عند كل لبيب منصف. ثم قال: ثم إن ابن القيم وإن كان على عقيدة شيخه كما عند المشنعين عليهما، فتبرئة شيخه عما نسب إليه تبرئة له أيضاً، وتصحيح اعتقاده وتطبيقه على الكتاب والسنة وعقيدة السلف تصحيح لاعتقاده وتطبيق. ولكنا ننقل من كلامه ما يؤكد ذلك إلى آخر ما قال، مما أطنب فيه وأطاب بما يزيل الإشكال. [شهادة السويدي البغدادي] (ومنهم) - أمير المؤمنين في الحديث، علامة العراق الشيخ علي أفندي السويدي البغدادي الشافعي؛ فإنه قد كتب على عبارة السبكى في التشنيع على الشيخ ابن تيمية ما نصه: هذه الدعوى من السبكى تحتاج إلى بينة، مع أن نصوص المتقدمين وأحوالهم تخالفه؛ وعلى تقدير الجواز فكيف يقال بحقه: إن عدل عن الصراط المستقيم من يقصر التوجه على الرب المتعال؟ فلا وجه لرد السبكى عليه بمثل هذا الكلام. مع اقتفاء ابن تيمية طريق خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. انتهى ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وقد نقله عنه ولده العلامة الشيخ محمد الأمين في شرح كتابه ((العقد الثمين)) وأقره. [شهادة الآلوسي والد المؤلف] (ومنهم) - شيخنا ومولانا الوالد عليه الرحمة والرضوان فإنه قال في رسالته الاعتقادية ما نصه: ولقد اطلعت على رسالة للشيخ ابن تيمية، وهي معتبرة عند الحنابلة، وطالعتها كلها فلم أر فيها شيئاً مما ينبز ويرمى به في العقائد، سوى ما ذكرنا من تشديده في رد التأويل، وتمسكه بالظواهر؛ مع التفويض والمبالغة في التنزيه، مبالغة معها بأنه لا يعتقد تجسيما ولا تشبيهها؛ بل يصرح بذلك تصريحاً لا خفاء فيه، والعجب ممن يترك صريح لفظه بنفي التشبيه والتجسيم، ويأخذ بلازم قوله الذي لا يقول به، ولا يسلم لزومه. وعلى كل حال فهو كما قال كثير من المشايخ محي الدين. اهـ. وقال: أيضاً في رحلته ((نزهة الألباب)) عندما سأله في القسطنطينية المحمية شيخ الإسلام عن أمر المتشابه ما نصه: ثم أنجز الكلام إلى ابن تيمية فقال: إنه قائل بالجسمية؛ فقلت: حاشاه! ومذهبه في المجسم أنه مطلقا غير مسلم. فقال: إنه يقول العرش قديم نوعاً؛ فقلت: لم نجد لنسبته إليه من غير الدوانى نقلاً يليق أن يمنح سمعاً فقال: له مخالفة للأئمة الأربعة في بعض المسائل الفقهية: فقلت: شبهته في تلك المخالفة بحسب الظاهر قوية، وله في بعض ذلك سلف، كما يعرفه من تتبع المذاهب ووقف، وقد مدحه غير واحد من العلماء الأعلام. وقد سمعت من شيخي أنه رأى كتاباً في ترجمة من لقب بشيخ الإسلام فقال: قد ذمه العلامة السبكي؛ فقلت: كم من جليل غداً من ذم عصريه (1) يبكي! فآه من أكثر المعاصرين. فهم بأيدي ظلمهم لحبات القلوب عاصرين. اهـ. ثم ذكر ما قاله العلماء في المتشابه، فإن أردته فارجع إليه.   (1) كذا بالأصل، ولعلها ((معاصريه)) (م) . قال مُعِد الكتاب للشاملة: ولا إشكال فيما في الأصل، فـ ((عَصْرِيُّه)) أي من معه في نفس العصر كما تقول ((بَلَدِيّه)) أي من معه في نفس البلد،، والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 (ومنهم) عالم بلد الله الحرام، والمشاعر العظام، المنلا على الهروى القارى؛ فإنه أثنى عليه، وبرأه مما نسب غليه في ((شرحه الشمائل)) وغيره من تأليفاته. (ومنهم) أبو عبد الله محمد بن جمال الدين يوسف الشافعي اليمني. (ومنهم) شيخنا السيد العلامة ابو الطيب الحسيني البخاري القنوجي، فسح الله تعالى في مدته؛ فإنه ترجم له ترجمة حافلة في كتابه ((إتحاف النبلاء المتقين)) و ((أبجد العلوم)) وأثنى عليه ثناء كريماً، وذكر كلام أهل الفتيا من أصحاب المذاهب الأربعة في الثناء عليه؛ ومنهم العينني الحنيفي، وأطال فيه إلى أوراق. (ومنهم) - كثيرون يطول الكتاب بذكرهم؛ فمن أراد أن يستوعب طيب نشرهم، فليرجع إلى كتب التواريخ والطبقات، فإن فيها المطالب المفصلات. وسيأتي إن شاء الله تعالى بعضها في هذه الورقات. فصل: (في قول العلامة ابن حجر المتقدم سابقاً) ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد أبي الحسن السبكي، وولده التاج والعز بن جماعة، وأهل عصرهم إلى آخره. أقول: إن أكثر المنتقدين من المعاصرين وأشدهم في الوقوع فيه: الإمام السبكي. ومن المتأخرين الشاذ النادر وهم على أقسام: فمنهم من شنع لداء المعاصرة ومنهم لشهوة كاذبة من غير تحقيق ومنهم لمخالفة في العقيدة، ومنهم حباً في ابن عربي وأتباعه، ومنهم اقتداء بشيخه المنافس له. وسيتضح لك ذلك كمال الاتضاح بعون العليم الفتاح. والمقصد في هذا الفصل ترجمة بعض المنتقدين رحمهم الله تعالى، ونفعنا بعلومهم أجمعين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وكلهم إن شاء الله تعالى يجاوزن برفيع الدرجات؛ فقد ورد: ((إنما الأعمال بالنيات)) . (ترجمة الإمام السبكي) (فمنهم السبكي) - وهو على ما في ((الشذرات)) وغيره: الإمام العلامة شيخ الإسلام علم الأعلام، تقي الدين بن عبد الكافي السبكي الشافعي الأصولي اللغوي البياني الجدلي الخلافي النظار. قال السيوطي: ((ولد مستهل صفر سنة ستمائة وثلاث وثمانين وقرأ على علم الدين العراقي، وابن الرفعة، والباجي، وأبي حيان وغيرهم. وتخرج به خلق في أنواع العلوم واقر له الفضلاء وولى قضاء الشام بعد الجلال القزويني وصنف الكتب المطولة والمختصرة ومن شعره: [كامل] إن الولاية ليس فيها راحة ... إلا ثلاث يبتغيها العاقل حكم بحق أو إزالة باطل ... أو نفع محتاج سواها باطل وتوفي في مصر سنة سبعمائة وست وخمسين وسأل أن يولى القضاء مكانه ولده تاج الدين فأجيب إلى ذلك - رحمهما الله تعالى. مطلب (في رد اليافعي على السبكي) قلت: وله أبيات من بعض ردوده على الشيخ ابن تيمية، وقد ردها الشيخ محمد ابن الشيخ جمال الدين اليافعي الشافعي اليمني لا بأس بذكرها مع ردها تتميما للفائدة وهي: [بسيط] الحمد لله حمداً أستزيد به ... فضل الإله وآتى ما أمرت به وأستعين به في كل معضلة ... تأنى فما خاب عبد يستعين به فهو الإله الكريم الواحد الأحد الـ ... نمرد المجير لعهد يستجير به ثم الصلاة على المختار ما طلعت ... شمس وما قد سرى نجم بغيهبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وبعد فاسمع كلاما قد تقوله ... قاضي القضاة تقي الدين انتبه أعني أبا الحسن السبكي حين غدا ... يبغى من الأمر مالا يستقل به فقال ذلك إذ رد الإمام على ... حزب الروافض رداً غير مشتبه اعني ابن تيمية الحير الذي شهدت ... بفضله فضلاء الناس والنبه فاستحسن الرد حتى راح يمدحه ... بما أزال من الأشكال والشبه لكنه بعد هذا المدح خالفه ... وقال أبيات شعر غير منجيه (مطلب كلام السبكي) [بسيط] إن الروافض قوم لا خلاق لهم ... من أجهل الناس في علم وأكذبه والناس في غنية رد إفكهم ... لهجنة الرفض واستقباح مذهبه وابن المطهر لم تطهر خلائقه ... داع إلى الرفض غال في تعصبه لقد تقول في الصحب الكرام ولم ... يستحي من إفتراء غير منتبه ولابن تيمية رد عليه وفي ... بمقصد الرد [و] استيفاء أضربه لكنه خلط الحق المبين بما ... يشوبه كدر في صفو مشربه يحاول الحشو أنى كان فهو له ... حثيث سير بشرق أو بمغربه يرى حوادث لا مبدا لأولها ... في الله سبحانه عما يظن به لو كان حياً يرى قولى ويسمعه ... رددت ما قال رداً غير مشتبه كما رددت عليه في الطلاق وفي ... ترك الزيادة أقفو إثر سَبْسَبه (1) وبعده لا أرى للرد فائدة ... هذا وجوهره مما أضن به فالرد يجسن في حالين: واحدة ... لقطع خصم قوي في تقلبه وحالة لانتفاع الناس حيث به ... هدى وربح جزيل في تكسبه وليس للناس في علم الكلام هدى ... بل بدعة وضلال في تطلبه   (1) السبسب: المفازة، أو الأرض المستوية البعيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ولى يد فيه لولا ضعف سامعه ... جعلت نظم بسيطي في مهذَّبه هذا الذي قاله السبكي مرتجلاً ... وللبسيط أُنَمِّى بعض أضربه (الجواب من اليافعي) فقال مرتجلاً للحق منتصراً ... عبد يرد عليه في تأدبه يأيها الرجل الحامي لمذهبه ... ألزمت نفسك أمراً ما أمرت به تقول في باغضي صحب الرسول ومن ... يريك سبهم أصلاً لمذهبه والناس في غنية عن رد إفكهم ... هذا هو الإفك لكن ما شعرت به بل رده واجب نصحاً ومعذرة ... ونصرة لسبيل الحق من شبه إذا تقول في الصحب الكرام فما ... ذا توجبون عليه يا أولي النبه وقد علمتم بأن الشخص داعية ... إلى الضلال بلا ترديد مشتبه وما عزوتم إلى الشيخ الجليل أبي الـ ... ـعباس أحمد أمر لا يخص به في قولكم خلط الحق المبين بما ... يشوبه كدر في صفو مشربه يحاول الحشو أنى كان فهو له ... حثيث سير بشرق أو بمغربه يرى حوادث لا مبدأ لأولها ... في الله سبحانه عما يظن به لقد علتم بأن السادة السلف الـ ... ـماضين ما خرجوا عما أقربه هم القرون الألى في نص سيدنا ... حازوا الفخار بأمر غير مشتبه لئن رددت عليه في مقالته ... فقد رددت عليهم فادر وانتبه ثم الأئمة أهل الحق كلهم ... يرون ما قاله من غير ما جبه فودكم ليس مخصوصاً بواحدهم ... بل بالجميع وهذا موضع الشبه هلا جمعت الألى قالوا مقالته ... ليستبين خطاهم من مصوبه فكلهم خلط الحق المبين بما ... يشوبه كدر في صفو مشربه فكلهم كان حشوياً لديك يرى ... وكلهم أنت تقفو إثر سَبْسَبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وانظر إلى مطلب حاولته طلباً ... فنسبه المرء تلقى عند مطلبه وخذ أدلة ما قالوه واضحة ... من الكتاب ودع ما قد هذوت به فللإله صفات الذات قد وردت ... بها النصوص بلا ريب ولا شبه كما تراها على قسمين قائمة ... بها يقينا يراها من أقر به هو القديم بأوصاف منزهة ... عن الحديث كما تأتيك فانتبه حي سميع بصير قادر صمد ... فرد جليل عظيم الشأن فارض به فهذه كلها ذاتية وردت ... ومثلها في المعاني غير مشتبه كذاك فعلية فانظر مثالها ... وقس عليه وراع الفرع تنج به يحب يبغض يرضى يستجيب يرى ... يجيء يأتي بلا كيف ولا شبه وخالق قبل مخلوق يكونه ... وقاهر قبل مقهور يكون به وراحم قبل مرحوم فيرحمه ... ورازق قبل مرزوق بأضر به عن أمره صدر المخلوق أجمعه ... والأمر ويحك لا شك يقوله به وقد تكلم رب العرش بالكتب الـ ... ـمنزلات كلاماً لا شبيه به ولم يزل فاعلاً أو قاتلاً أزلاً ... إذا يشاء وهذا الحق فارض به هذى حوادث لامبدا لأولها ... بالنص فافهمه يانومان وانتبه إذ هل صفات الموصوف تقوم به ... قديمة مثله من غير ما شبه ومذهب القوم مروى كما وردت ... من غير شائبة التكييف والشبه ولا يرون بتعطيل الصفات كما ... يقول جهم ومن والاه في الشُّبه (1) حاشية الله إلا عابد صنما ... يدلى بأخبث معبود وأغربه ولا يعطل إلا عابد عدما ... وليس تدري له رباً يلوذ به سوى أباطيل ما يختاره عبثا ... يرى أمانيه تسرى لمركبه   (1) هو جهم بن صفوان (م) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 لا يستفيق إلى ما جاء من أثر ... بمفرد القول منه أو مركبه والجهم معبوده يبغي تطلبه ... وليس يفهم إلا ما أشار به والاتحادي مع أهل الحلول لهم ... تخلل كنفاة الجهم فادربه من دربة دحلوا في كل مفسدة ... راجت عليهم ومالوا ميل مغربة وما رددت عليه في الطلاق فما ... حققت عقلاً ولا نقلا ظفرت به بل فاسد القصد أعيا الذهن منك كما ... هو عادة الله في قال لمذهبه نزلت حول حماه كى تنازله ... فما علوت عليه بل علوت به وقد أجابك فيها خير أجوبة ... كالسيف جالت منايا عند مضربه أخذت منه علوماً فانتصرت بها ... على سواه وكانت من مهذبه وحزتها مجملات من مفصلة ... ففضل الآن ما أجملت تحظ به وهكذا كل من سارت ركائبه ... يقفو خطاه فسائل من مجربه وإن تبجحت في رد فلست له ... كفئاً ولا أهل هذا العصر فانتبه كم بحر علم اتاه صار ساقيه ... وكم أزال صدى جهل بصيبه وما نرى لكمو في الخلق فائدة ... غير التنعم في النعماء من شبه أين الثريا مكانا في ترفعها ... من الثرى قال هذا كل منتبه من ذا يقيس نقى الجلد من دون الـ ... ـدنيا وأمراضها يوماً بأجر به لو كان عندكمو انصاف مكرمة ... أو نقد معرفة أو ذهن منتبه لكنت تقفو وراه قفو مجتهد ... علماً وديناً وأمراً تفلحن به لو وفق الله اهل الأرض قاطبة ... إلى الصواب لساروا خلف مذهبه وما نستقيم إليه عند ذكركمو ... ترك الزيارة أمراً لا يقول به فقد أجابكمو فيها بأجوبة ... أزال فيها صدا الإشكال والشبه وقد تبين هذا في مناسكه ... لكل ذي فطنة في القول والنبه رميتموه ببهتان يشان به ... فالله ينصفه ممن رماه به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وفي الجواب أمور من تدبرها ... سقى الأنام بها من صفو مشربه ولم يكن مانعاً نفس الزيارة بل ... شد الرحال إليها فوق مركبه مستمسكاً بصحيح القول متبعاً ... خير القرون الألى جاءوا بمذهبه مع الأئمة أهل الحق كلهم ... قالوا كما قال قولاً غير مشتبه وقد علمت يقيناً حين وافقة ... أهل العراق على فتياه فانتبه هذا وقد قلت فيما قلت مرتجلاً ... فيما تقدم قولاً غير منجبه لو كان حيا يرى قولي ويسمعه ... رددت ما قال قولاً غير مشتبه فابرز ورد ترى والله أجوبة ... مثل الصواعق تردى من تمر به عقلاً ونقلاً وآيات مفصلة ... من كل أروع شهم القول منبته ماضي الجنان كحد السيف فكرته ... يريك نظما ونثراً في تأدبه وقاد ذهن إذا جالت قريحته ... يكاد يخشى عليه من تلهبه فمنزل القول في أعلى منازلهم ... فليس ذو منصب ينجو بمنصبه وانظر إلى من طغى في الأرض من أمم ... ولا تكن سالكاً في إثر سبسبه إن الإله يجازي كل ذي عمل ... بمثل إحسانه أو قبح مكسبه هذا جوابك يا هذا موازنة ... بحرا وقامية في النظم والشبه والحمد لله حمداً لا نفاد له ... جار على مر ما يقضي وأطيبه ثم الصلاة على خير الورى شرفاً ... محمد المرسل الهادي لمذهبه وآله والصحاب الغر قاطبة ... ما أشرق الحق من أنوار كوكبه وانتهت - وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه المباحث المجملة بالعبارات المفصلة والدلائل المكملة؛ فلا تغفل. (ترجمة القاضي تاج الدين السبكي) (ومنهم) - ولده تاج الدين - فهو قاضي القضاة عبد الوهاب بن علي السبكي. ولد بالقاهرة سنة سبعمائة وسبع وعشرين، وسمع بها من جماعة، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قدم دمشق مع والده واشتغل على والده وغيره، وقرأ على ((المزي)) ، ولازم الإمام الذهبي وتخرج به ثم عزل من القضاء بأخيه بهاء الدين وتوجه إلى مصر على وظائف أخيه ثم عاد إلى القضاء وولى الخطابة ثم عزل وحصل له فتنة شديدة وسجن بالقلعة نحو ثمانين يوماً، ثم عاد إلى القضاء ودرس بمدارس كثيرة. وقال ابن كثير: جرى عليه من المحن والشدائد مالم يجبر على قاض مثله. ونقل الشيخ عبد الوهاب الشعرانى في كتابه ((الأجوبة المرضية)) : أن أهل زمانه رموه بالكفر واستحلال شرب الخمر والزنا وأنه كان يلبس الغيار والزنار بالليل ويخلعهما بالنهار، وتحزبوا عليه وأتوا به مقيداً مغلولاً من الشام إلى مصر، وجاء معه خلائق من الشام يشهدون عليه؛ ثم تداركه اللطف على يد الشيخ جمال الدين الإسنوى. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: حصل فنوناً من العلم: من الفقه والأصول وكان ماهراً فيه، والحديث وشارك في العربية وكان له بد في النظم والنثر جيد البديهة ذا بداهة وطلاقة لسان وذكاء مفرط صنف تصانيف عدة على صغر سنه، ومن جملة تصنيفاته: شرح مختصر ابن الحاجب سماه ((برفع الحاجب)) وشرح منهاج البيضاوي، والقواعد، وطبقات الفقهاء وغير ذلك. توفي شهيداً بالطاعون سنة سبعمائة وإحدى وسبعين. ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى. (ترجمة العز بن جماعة) (ومنهم) - العز بن جماعة فهو عز الدين عبد العزيز بن محمد بن جماعة الكناني الحموى الدمشقي المولد، المصري الشافعي: أخذ النحو عن أبي حيان، وولى قضاء الديار المصرية مدة طويلة، وكان يتمنى أن يموت بأحد الحرمين فاستعفى عن القضاء، ثم حج فمات ودفن بالمعلى إلى جانب الفضيل بن عياض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وأبى القاسم القشيرى سنة سبعمائة وست وستين. وله بعض التأليفات، منها: مناسك الحج على المذاهب الأربعة. وكان خيراً صالحاً - رحمه الله تعالى. وأقول: إن الشيخ ابن حجر قد صرح في كلامه السابق بذكر هؤلاء الثلاثة فلزمت ترجمتهم. ثم أجمل بعد ذلك بقوله: وغيرهم؛ فلزم أيضاً تكميلاً للاطلاع ترجمة بعض من اؤلئك الغير. (ترجمة الزملكاني) (فمنهم) الزملكاني - وهو القاضي كمال الدين أبو المعالي محمد بن الإمام علاء الدين على الزملكاني، انتهت إليه رياسة مذهب الشافعي. قال ابن الوردى في تاريخه: طلب من حلب على البريد إلى حضرة السلطان ليولى القضاء بالشام؛ فتوفى بمدينة بلبيس وحمل إلى القاهرة فدفن بالقوافة سنة سبعمائة وسبع وعشرين. وكان غزير العلم، كثير الفنون، مسدد الفتاوى، دقيق الذهن - رحمه الله تعالى. اهـ. وقال في كتاب (كشف الظنون في أسماء الكتب والفنون) : بحث ابن تيمية وابن الزملكاني في مسألة الطلاق، وفي حرمة شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين فصنفوا فيه منها الأبحاث الجلية وكتاب الدرة اليتيمة. وبالغ العلماء في رده حتى صرح بكفر من أطلق عليه شيخ الإسلام، فانتدب حافظ الشام الشمس بن ناصر الدين الشافعي المتوفى سنة ثمانمائة واثنين واربعين فجمع كتاباً سماه ((الرد الوافر على من زعم أن من أطلق على ابن تيمية شيخ الإسلام كافر)) انتهى. وذكر السخاوى: أن الحافظ ابن حجر العسقلاني قرأ عليه - يعني على الشمس - وهو أيضاً قرأ على ابن حجر، وله مصنفات عديدة. وسيأتي إنشاء الله تعالى هذا البحث مع أدلة الطرفين في محله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 (ترجمة أبي حيان) (ومنهم أبو حيان الظاهري وقيل الشافعي - وهو العلامة أثير الدين محمد بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي وقد قدمنا سبب انحرافه عن الشيخ ابن تيمية بعد ان مدحه بالأبيات المارة آنفاً. قال ابن الوردى: وله مصنفات جليلة، منها تفسير القرآن العظيم، وهو المسمى باليحر، وشرح التسهيل وغير ذلك. وكان يستهزئ بالفضلاء من أهل القاهرة، ويتحملونه لحقوق اشتغالهم عليه ومن حسن شعره قوله: [طويل] . وقابلني في الدرس أبيض ناعم ... وأسمر لدن أورثا جسمى الردى فذا هز من عطفيه رمحاً مثقفاً ... وذا سل من جفنيه عضباً مهنداً (ترجمة ابن حجر الهيتمي) ولنذكر أيضاً ترجمة الشيخ ابن حجر المذكور، ضضوعفت لنا وله الأجور - فهو واحد العصر، ثاني القطر، علامة المنقول فهامة المعقول شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر، نسبة على ما قيل إلى جد من أجداده كان ملازماً للصمت تشبيها له بالحجر. الهيتمي السعدي الأنصاري الشافعي، ولد بمصر سنة تسع وتسعمائة وتوفي سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة - بالتاء قبل السين - بمكة زادها الله تعالى شرفاً وكان مقيماً بها. وله تأليفات مفيدة منها: تحفة المحتاج في أربع مجلدات، والزواجر والصواعق، وشرح الهمزية والفتاوى الفقهية والحديثية وغير ذلك وأخذ عن القاضي زكريا وغيره والهيتمي نسبة إلى محله من إقليم الغربية بمصر. (ترجمة ابن حجر العسقلاني) وأما ابن حجر الآخر - فهو شيخ الإسلام، أمير المؤمنين في الحديث، شهاب الدين أحمد بن علي محمد بن حجر، نسبة إلى حجر قوم تسكن الجنوب العسقلاني الأصل، المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة، الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ولد سنة سبعمائة وثلاث وسبعين، وصار حافظ الإسلام وحجة الأعلام ومحي السنة ورحل الناس إليه من الأقطار وله تصانيف كثيرة مشهورة منها: فتح الباري في شرح صحيح البخاري. واقتفى آثار السلف وتوفي سنة ثمانمائة واثنتين وخمسين وهو من مشايخ القاضي زكريا وإنما ترجمت هنا هذا الفاضل لييز بينهما من لم يكن مطلعاً على تراجم الأفاضل - رحمهم الله تعالى. فصل: يشتمل على مقصدين المقصد الأول: في تراجم بعض آباء الشيخ ابن تيمية وأقربائه (ترجمة المجد ابن تيمية) (فمنهم) - جده شيخ الإسلام مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن علي بن تيمية الحرانى الفقيه الحنبلي الإمام المقرئ المحدث المفسر الأصولى النحوي، واحد الحفاظ الأعلام، ولد سنة تسعين وخمسمائة تقريباً بحران، وحفظ القرآن وسمع من عمه الخطيب فخر الدين، ثم ارتحل إلى بغداد مع ابن عمه سيف الدين عبد الغني وأقام بها ست سنين يشتغل بالعلوم، ثم رجع إلى حران فاشتغل على عمه فخر الدين. قال الذهبي: وقال لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية: وكان الشيخ جمال الدين بن مالك يقول: ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين الحديد لداود. وقال الحافظ عز الدين: حدث بالحجاز والعراق والشام وحران وصنف ودرس وكان من أعيان العلماء وأكابر الفضلاء. وقال الذهبي: قال شيخنا: كان جدنا عجباً في حفظ الأحاديث وسردها وحفظ مذاهب الناس بلا كلفة قال الذهبي: وكان معدوم النظير في زمانه، رأساً في الفقه وأصوله، وصنف التصانيف واشتهر وبعد وصيته، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فرد زمانه في معرفة المذهب مفرط الذكاء متين الديانة كبير الشأن ومن تصنيفاته: تفسير القرآن العظيم، والمنتقى في الأحاديث والمحرر في الفقه ومنتهى الغاية وغير ذلك. قال ابن رجب في طبقانه: كان المجد يفتى أحياناً: أن الطلاق الثلاث المجموعات غنما يقع منها واحدة فقط. توفي يوم عيد الفطر بعد صلاة الجمعة سنة اثنين وخمسين وستمائة بحران وتوفيت ابنة عمه زوجته بدرة المكناة بأم البدر قبله بيوم الأحد، وروت بالإجازة عن ضياء الخريف - رحمهم الله تعالى. (ترجمة عبد الحليم بن تيمية) (ومنهم) - والده شهاب الدين أبو أحمد عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية، نزيل دمشق. ولد سنة سبع وعشرين وستمائة بحران. وسمع من والده وغيره. وأتقن العلوم ودرس وأفتى وصنف وصار شيخ البلد بعد أبيه. قال الذهبي: وكان إماماً محققاً كثير الفنون وكان من أنجم الهدى وإنما اختفى من نور القمر وضوء الشمس - يشير إلى أبيه وابنه. وكان له كرسي بالجامع يتكلم عليه أيام الجمع من حفظه توفى سلخ ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وستمائة، ودفن بسفح قاسيون - رحمه الله تعالى. (ترجمة عبد الغني بن تيمية) (ومنهم) - أبو محمد سيف الدين عبد الغني بن فخر الدين عبد الله بن تيمية الحرانى الحنبلي، وخطيب حران وابن خطيبها وعظ ودرس وصنف وله كتاب ((الزوائد على تفسير الوالد)) ورحل إلى بغداد، وسمع من علمائها، توفي سنة تسع وثلاثين وستمائة. (ترجمة شرف الدين بن تيمية) (ومنهم) - المفتى الزاهد القدوة شرف الدين عبد الله بن عبد الحليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ابن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية أخو الشيخ تقي الدين. ولد سنة ست وتسعين وستمائة بحران. وقدم مع أهله إلى دمشق رضيعاً فخضر بها على جماعة، واشتغل بالعلوم، وبرع في الفرائض والحساب وعلم الهيئة وفي الأصلين والعربية والحديث ودرس بالحنبلية مدة وكان قانعاً زاهداً عابداً ورعاً كثير الصدقات ولد كرامات وحج مراراً وجلس مع أخيه مدة في الديار المصرية وقد استدعى غير مرة وحده للمناظرة فناظر وأفحم الخصم، وأثنى عليه الزملكاني والذهبي في معجمه كثيراً توفي بدمشق، صلى عليه بالجامع، وحمل إلى القلعة فصلى عليه أخوه شيخ الإسلام وعبد الرحمن وغيرهما ثم صلى عليه مراراً فدفن بمقابر الصوفية سنة سبع وعشرين وسبعمائة - رحمه الله تعالى. (ترجمة محمد بن تيمية) (ومنهم) - على ما في تاريخ ابن خلكان: أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله المعروف بابن تيمية الحرانى. الخطيب الواعظ الفقيه الحنبلي كان فاضلاً تفرد في بلاده بالعلم وكان المشار إليه في الدين. أخذ العلوم عن جماعة، وقدم بغداد وصنف في المذاهب وله ديوان خطب مشهور وتفسير القرآن الكريم، وله قبول تام عند الخاص والعام وكان أبوه أحد الأبدال والزهاد وذكره المؤرخون وأثنوا عليه. توفي في سنة اثنتين وعشرين وستمائة بحران. انتهى ملخصاً. (ترجمة زينب بنت تيمية) (ومنهم) - زينب بنت عبد الله بن عبد الحليم بن تيمية الحنبلية قال الحافظ ابن حجر: سمعت من الحجار وغيره ن وحدثت وأجازت لى قال في الشذرات: وتوفيت سنة تسع وتسعين وسبعمائة - رحمها الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المقصد الثاني: في ترجمة بعض تلامذته الكرام المشهورين وترجمة المثنين عليه من العلماء المتأخرين على طريق الاختصار لتكمل الفائدة لذوي الأبصار فأقول: (ترجمة الإمام ابن القيم) (منهم) - العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن بكر بن أيوب بن سعد الزرعي ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي المفسر النحوي الأصولي المتكلم الشهير بابن القيم الجوزية. قال في الشذرات: بل هو المجتهد المطلق. قال ابن رجب: ولد شيخنا سنة إحدى وتسعين وستمائة ولازم الشيخ تقي الدين بن تيمية، وأخذ عنه وتفنن في كافة علوم الإسلام وكان عارفاً في التفسير لا يجاري فيه وبأصول الدين وإليه فيه المنتهى، وبالحديث ومعانيه ودقائق الاستنباط فيه لا يلحق في ذلك. وبالفقه والأصول والعربية وله فيها اليد الطولى، وبعلم الكلام والتصوف. حبس مدة لإنكاره ((جد الرحيل إلى قبر الخليل)) وكان ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى ولم اشاهد مثله في عبادته وعمله بالقرآن والحديث وحقائق الإيمان وليس هو بالمعصوم ولكن لم أر في معناه مثله وقد امتحن وأوذي مرات وحبس مع شيخه شيخ الإسلام تقي الدين في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ، وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن وبالتدبر والتفكر ففتح عليه من ذلك خير كثير وحصل له بجانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة وتسلط ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف والخواص في غوامضهم وتصانيفه وحج مرات كثيرة وجاور بمكة وكان اهل مكة يتعجبون من كثرة طوافه وعبادته. وسمعت عليه قصيدته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 النونية في السنة وأشياء من تصانيفه غيرها وأخذ عنه العلم خلق كثير في حياة شيخه وإلى أن مات وانتفعوا به. قال القاضي برهان الدين الزرعي: وما تحت أديم السماء أوسع علماً منه ودرس يالصدرية وأم بالجوزية وكتب بخطه ما لا يوصف كثرة وصنف تصانيف كثيرة جداً في أنواع العلوم وحصل له من الكتب ما لم يحصل لغيره. فمن تصانيفه: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته وسفر الهجرتين ومراحل السائرين والكلم الطيب وزاد المسافرين وزاد المعاد - أربع مجلدات، وهو كتاب جليل وكتاب نقد المنقول وكتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين - ثلاث مجلدات كتاب بدائع الفوائد - مجلدان. النونية الشهيرة بالشافعية الكافية. الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. ونزهة المشتاقين وكتاب الداء والدواء. وكتاب مفتاح دار السعادة - مجلد ضخم غريب الأسلوب واجتماع الجيوش الإسلامية وكتاب الطرق الحكمية وكتاب عدة الصابرين وكتاب إغاثة اللهفان وكتاب الروح وكتاب الصراط المستقيم والفتح القدسي. والتحفة المكية والفتاوى وغير ذلك. توفي ثالث عشر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ودفن بمقبرة الباب الصغير بعد أن صلى عليه بمواضع عديدة، وكان قد رأى قبل موته شيخه تقي الدين في النوم وسأله عن منزلته فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر ثم قال له: وأنت كدت تلحق بنا ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة - رحمهم الله تعالى انتهى. باختصار. (ترجمة الحافظ الذهبي) (ومنهم) - الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان ابن قايماز - بالزاي - التركماني الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 قال في الشذرات: قال التاج السبكي في طبقاته الكبرى: شيخنا وأستاذنا محدث العصر. اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ بينهم عموم وخصوص: المزي والبرازلي والذهبي والشيخ الوالد لا خامس لهم في عصرهم. فأما أستاذنا أبو عبد الله فبحر لا نظير له وكنز هو الملجأ إذا نزلت المعضلة إمام الوجود حفظاً وذهب العصر معنى ولفظاً وشيخ الجرح والتعديل ورجل الرجال في كل سبيل كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يخبر عنها أخبار من حضرها تحمل المطى إلى جواره وتضرب النزل المهارى أكبادها فلا تبرح حتى تحل بداره وهو الذي خرجنا في هذه الصناعة وأدخلنا في عداد الجماعة جزاه الله تعالى عنا أحسن الجزاء وجعل حظه من عرصات الجنان موفر الأجزاء. وكان مولده سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وأخذ عن شيوخ كثيرين منهم: هبة الله بن عساكر، وشيخ الإسلام ابن دقيق العيد توفي يوم الإثنين ثالث ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ومن شعره: [متقارب] تولى كأن شبابي لم يكن ... وأقبل شيب علينا تولى ومن عاين المنحنى والنقا ... فما بعد هذين إلا المصلى انتهى باقتصار. ونقل في الشذرات عن ((المنهل الصافي)) بعد ترجمة حسنة: أن له تصانيف كثيرة مفيدة؛ منها: تاريخ الإسلام الكبير - في إحدى وعشرين مجلداً. ومختصره في عدة مجلدات. ومختصر العبر من غبر. ومختصر آخر، وآخر وآخر. واختصر تهذيب الكامل للمزي ومنها ميزان الاعتدال في نقد الرجال والمغنى في الضغفاء ومختصر آخر ومنها طبقات الحفاظ والتجريد في أسماء الصحابة ومنها مختصر تاريخ بغداد للخطيب ومنها مختصر تاريخ ابن السمعاني واختصر وفيات المنذري. واختصر تاريخ دمشق بعشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 مجلدات واختصر تاريخ نيسابور للحاكم. واختصر المحلى لابن حزم الظاهري واختصر الفاروق لشيخ الإسلام الأنصاري.واختصر رد الرافضة للشيخ ابن تيمية واختصر المعلم لابن عبد البر. واختصر سلاح المؤمن. ومنها كتاب سيرة الحلاج وكتاب الكبائر وكتاب العرش وكتاب أحاديث الصفات وكتاب الشفاعة وكتاب صفة النار وكتاب رؤية الباري سبحانه وكتاب التلويح وكتاب تقويم البلدان وترجمة السلف وهالة البدر والمعجم الكبير والوسط والصغير، وغير ذلك مما يطول ذكره. ومن شعره: [كامل] العلم قال الله قال رسوله ... إن صح والإجماع فاجهد فيه وحذار من نصب الخلاف جهالة ... بين الرسول وبين رأى فقيه انتهى باختصار. وقد توفى بدمشق. قال ابن الوردى: صلى على الشيخ شمي الدين الذهبي - منقطع النظير في معرفة أسماء الرجال والمحدث الكبير - صلاة الغائب بحلب وكان قد أضر في آخر عمره - رحمه الله تعالى. ترجمة ابن كثير (ومنهم) - الحافظ الكبير عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصري ثم الدمشقي الفقيه الشافعي ولد سنة سبعمائة وقدم دمشق مع أخيه وله سبع سنين وألف في صغره ((أحكام التنبيه)) وكان كثير الاستحضار قليل النسيان جداً. قال الذهبي: هو الإمام المحدث البارع ووصفه بحفظ المتون وأطنب في ترجمته. قال ابن حبيب: سمع وجمع وصنف وأطرب الأسماع بالفتاوى وشنف وحدث وأفاد وطارت أوراق فتاويه إلى البلاد واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير ومن تصانيفه: التاريخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 المسمى ((بالبداية والنهاية)) وكتاب في جمع المسانيد العشرة وطبقات الشافعية وسيرة وشرح قطعة من البخاري وغير ذلك وقد أخذ عن جماعة أجلهم الشيخ ابن تيمية وقد أكثر عنه وتلامذته كثيرة منهم: العلامة ابن حجر العسقلاني. وقال فيه: أحفظ من أدركناه لمتون الحديث وأعرفهم بجرحها وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي غليه إلا واستفدت منه. وقال ابن قاضي شبهة: كانت له خصوصية بالشيخ ابن تيمية ومناصفة منه واتباع له في كثير من آرائه وكان يفتي برأيه في مسألة الطلاق، وامتحن بسبب ذلك وأوذي وتوفي في شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه تقي الدين - رحمهما الله تعالى. (ترجمة شمس الدين ابن قداه) (ومنهم) - على ما في الشذرات: الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي، الجماعيلى الأصل ثم الصالحي الفقيه الحنبلي المقرئ المحدث الحافظ الناقد النحوي المتفنن الجبل الراسخ ولد في رجب سنة أربع أو خمس أو ست وسبعمائة وتوفى سنة أربع وأربعين في جمادى الآخرة وعمره أربعون سنة أو أقل وسمع من خلق كثير منهم: الحجار، وعنى بالحديث وفنونه وبرع في ذلك وأفتى ودرس، ولازم شيخ الإسلام ابن تيمية مدة، وأخذ عن الذهبي وغيره وقد ذكر في طبقات الحفاظ قال: وصنف التصانيف الكثيرة بعضها كمل وبعضها لم يكمل لهجوم المنية عليه وله توسع في العلوم والفقه والأصلين وذهن سيال وعدة محفوظات. وعدله ابن رجب في طبقاته ما يزيد على سبعين مصنفاً ودفن بسفح قاسيون - انتهى ملخصاً. قلت: ومن تأليفاته كتاب الصارم المنكي في الرد على ابن السبكي في مسألة شد الرجل لزيارة القبور وهو كتاب يدل على كمال إطلاعه في الرجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وغزارة علمه وستأتي بعض عباراته في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. (ترجمة ابن قاضي الجبل) (ومنهم) - قاضي القضاة شرف الدين أبو العباس أحمد بن الحسين بن عبد الله بن أبي بكر محمد بن أحمد بن قدامة الحنبلي. قال في ((الشذرات)) : هو الشيخ الإمام جمال الإسلام، صدر الأئمة الأعلام شيخ الحنابلة المقدسي الأصل ثم الدمشقي المشهور بابن قاضي الجبل. مولده سنة ثلاث وتسعين وستمائة وكان متفنناً عالماً بالحديث وعلله والنحو واللغة والأصلين والمنطق وله في الفروع القدم العالى. قرأ على الشيخ نقي الدين ابن تيمية عدة تصنيفات في علوم شتى وأذن له في الإفتاء فأفتى في شبيته وسمع من غيره وفي مشايخه كثرة ثم طلب في آخر عمره إلى مصر ليدرس بمدرسة السلطان حسن وأقام بها مدة وأخذوا عنه ورأس على أقرانه إلى أن ولى القضاء بدمشق إلى أن توفي قال الذهبي فيه: هو مفتى الفرق، سيف المناظرين وبالغ ابن رافع وابن حبيب في مدحه. وله اختيارات في المذهب معها بيع الوقف للحاجة وتبعه على ذلك جماعة وكلهم تبع لشيخ الإسلام. توفي بمنزله بالصالحية في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة. ومن شعره: [مجزوء الكامل المرفل] الصالحية جنة ... والصالحون بها أقاموا فعلى الديار أهلها ... منى التحية والسلام وقوله رحمه الله تعالى: [وافر] نبي أحمد وكذا إمامي ... وسيخي أحمد كالبحر طامى واسمي أحمد ولذاك أرجو ... شفاعة أشرف الرسل الكرام (ترجمة الطوفى الصرصري) (ومنهم) - البحر العباب، والغيث الذي يقصر عنه السحاب: أبو الربيع سليمان نجم الدين بن عبد القوي الصرصري البغدادي الحنبلي، المعروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 جابن البوقي ولد سنة بضع وستمائة بقرية طوفي من أعمال صرصر قرية تبعد عن بغداد بفرسخين. وتوفي في رجب سنة ست عشرة وسبعمائة في بلد الخليل، وله تفسير يسمى بالإشارات الإلهية والمباحث الأصولية، ليس له في بابه نظير؛ قاله في طبقات الحنابلة وقال في ((الشذرات)) : إنه الحنبلي الأصولي المتفنن، دخل بغداد فحفظ المحرر في الفقه وقرأ العربية والأصول والفرائض والمنطق جالس فضلاء بغداد وحصل منهم فنوناً وسمع منهم الحديث وسافر إلى دمشق وسمع بها الحديث ولقي الشيخ ابا العباس أحمد بن تيمية وغيره ثم سافر إلى مصر فسمع بها الحديث وقرأ على أبي حيان مختصره لكتاب سيبويه وحج وجاور بالحرمين وقرأ بهما كثيراً من الكتب وأقام بالقاهرة مدة، وصنف تصانيف كثيرة منها: الإكسير في قواعد التفسير وشرح مقامات الحريري - في مجلدات، وغير ذلك. قيل: وكان مع ذلك كله شيعياً حتى أنه قال في نفسه: أشعرى حنبلي رافضي هذه إحدى العبر (1) ؛ حتى أنه صنف كتاباً سماه العذاب الواصب على أرواح النواصب وقد حبس وطيف به لأجل ذلك، ثم سافر إلى الجح وجاور ثم تزل إلى الشام. وتوفي في بلد الخليل عليه السلام انتهى ملخصاً. وإنما ذكرته لشهرة أقواله والإطلاع على غريب حاله؛ وإلا فهو ليس من تلامذة الشيخ المختصين بل من جملة الملاقين الآخذين. والله سبحانه أعلم بحقائق الأمم الغابرين الناقلين.   (1) قوله أشعري.. إلخ ((هكذا بالأصل الذي بأيدينا. والظاهر أنه بيت شعر، واستقامة وزنه هكذا: أشعري وحنبلي وكذا ... رافضي هذه إحدى العبر فليحرر. اهـ مصححه)) . (هـ. ص) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 (ترجمة ابن الوردى) (ومنهم) - زين الدين عمر بن مظفر بن عمر بن محمد الوردى المصري الحلبي الشافعي قال ابن العماد: كان إماماً بارعاً في اللغة والفقه والنحو والأدب متفنناً في العلم ونظمه في الطبقة القصوى وله فضائل مشهورة وله تصانيف كثيرة منها شرح ألفية ابن مالك وألفية ابن معطى واللباب وتذكرة الغريب ومنطق الطير في التصوف وغير ذلك توفي مطعونا بحلب سنة تسع وأربعين وسبعمائة وقال ابن قاضي شهبة: وله ديةان شعر ومقامات. وناب في الحكم بحلب وفي شبيبته عن ابن النقيب ثم عزل نفسه وحلف لا بلى القضاء لمنام رآه وكان ملازماً للاشتغال والتصنيف وشاع ذكره واشتهر صيته قال السيوطي ومن نظمه: [سريع] لا تقصد القاضي إذا أدبرت ... دنياك واقصد من جواد كريم كيف ترجى الرزق من عند من ... يفتى بأن الفلس مال عظيم ومنه قوله: [سريع] سبحان من سخر لى حاصدى ... يُحدث لى في غيبتى ذكراً لا أكره الغيبة من حاسد ... يفيدنى الشهوة والأجرا قلت: وهو من أعظم المحبين الموالين للسيخ ابن تيمية فقد قال في ترجمته المطنبة في تاريخه مانصه: لقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون. وكان معظماً لحرمات الله تعالى، دائم الابتهال قوى التوكل وهو أكبر من ينبه على فضله مثلى؛ فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت إني ما رأيت بعيني مثله ولا أرى هو مثل نفسه في العلم. انتهى باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 (ترجمة زين الدين الحراني) (ومنهم) - زين الدين أبو حفص عمر بن سعد الله الحراني الدمشقي الفقيه، قال الذهبي: عالم ذكي، خبير بصير بالفقه والعربية سمع الكثير وتخرج على الشيخ ابن تيمية ولازمه وولى نيابة الحكم. وحدث ابن الشيخ السلامية عنا أنه قال: لم أقض قضية إلا وأعددت لها الجواب بين يدي الله تعالى. ولد سنة خمس وثمانين وستمائة وتوفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة شهيداً بالطاعون - رحمه الله تعالى. (ترجمة ابن مفلح) (ومنهم) - أقضى القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح بن محمد ابن مفرج المقدسي، ثم الصالحي الحنبلي. قال ابن العماد: هو الشيخ الإمام العالم العلامة وحيد دهره وفريد عصره شيخ الإسلام وأحد الأئمة الأعلام تفقه وبرع ودرس وأفتى وناظر وحدث وأفاد وناب في الحكم عن قاضي القضاة المرداوي وتزوج ابنته وكان آية وغاية في نقل مذهب الإمام أحمد - رضي الله عنه -. وقال أبو البقاء السبكي: ما رأت عيناي أحداً أفقه منه وكان ذا حفظ من زهد وتعفف وورع ودين ومتين. وذكره الذهبي في ((المعجم)) فقال: شاب عالم، له عمل ونظر في رجال السنن. ناظر وسمع وكتب وتقدم ولم ير في زمانه في المذاهب الأربعة من له محفوظات أكثر منه فمن محفوظاته: المنتقى في الأحكام. وقال ابن القيم: ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد ابن مفلح وحسبك هذه الشهادة من مثل هذا الإمام. وحضر عند الشيخ تقي الدين ونقل عنه كثيراً وكان يقول له: ما أنت ابن مفلح، بل أنت ابن مفلح وكان أخبر الناس بمسائله واختياراته حتى أن العلامة ابن القيم كان يراجعه في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وله مشايخ كثيرون منهم: المزىّ والذهبي وكذلك الشيخ تقي الدين السبكي يثنى عليه كثيراً. قال ابن كثير: وله مصنفات كثيرة منها على ((المقنع)) نحو ثلاثين مجلداً وعلى ((المنتقي)) وكتاب الفروع أربع مجلدات وهو من أجل الكتب وقد اشتهر في الآفاق. وله كتاب في أصول الفقه: والآداب الشرعية الكبرى والوسطى والصغرى توفي ليلة الخميس ثاني رجب سنة ثلاث وستين وسبعمائة بالصالحية دفن بالروضة بالقرب من الشيخ موفق الدين وله بضع وخمسون سنة - رحمه الله تعالى -. (ترجمة شرف الدين ابن المنجا) (ومنهم) - الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمد بن المنجا بن عثمان التنوخي الدمشقي الحنبلي، ولد سنة خمس وسبعين وستمائة. قال الذهبي في معجمه: كان إماماً فقيهاً حسن الفهم سمع وتفقه وأفتى ودرس بالسمارية وكان من خواص أصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية وملازميه حضراً وسفراً وكان مشهوراً بالتقوى والخصال الجميلة والعلم والشجاعة توفي سنة أربع وعشرين وسبعمائة ودفن بقاسيون - رحمه الله تعالى. [ترجمة بعض تلامذة الإمام الذين تأثروا به ولم يعاصروه] وأقول حيت انتهى - ما قصد إيراده من ذكر بعض تلامذته ومن تخرج بملازمته - فلنذكر بعضا من الطبقات التي بعدهم من الأئمة الثقات: (ترجمة ابن ناصر) (فمنهم) - حافظ دمشق الشام شمس الدين محمد بن أبي بكر بن عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 بن محمد القيسى الدمشقي الشهير بابن ناصر الدين الشافعي ولد سنة سبع وسبعين وسبعمائة وحفظ القرآن وعدة متون وحصل العلوم وأكب على الحديث ولازم الشيوخ وصار حافظ الشام بلا منازع واشتهر اسمه وبعد صيته وله تصانيف عديدة منها: افتتاح القارى لصحيح البخاري، وعقود الدرر في علوم الأثر وأتحاف السالك وله مصنفات في المعراج والوفاة النبوية ونفحات الأخيار والرد الوافر في الانتصار للشيخ ابن تيمية كما تقدم وله غير ذلك وتوفي بدمشق سنة اثنين وأربعين وثمانمائة ودفن بمقبرة باب الفراديس - رحمه الله تعالى. (ترجمة الشيخ إبراهيم الكوراني) (ومنهم) - نزيل المدينة المنورة الشيخ إبراهيم بن شهاب الدين حسن الشهرزورى الشهراني الكوراني الكردي الشافعي. قال الشيخ مصطفى الحموى: هو محقق العلوم على اختلاف أنواعها، ومقيد شواردها ومؤهل أطلال المعارف بعد إقواء رباعها نادرة الإعصار وعديم الشكل في سائر الأمصار حامل لواء الشريعة والحقيقة وغائص بحار الأنظار الدقيقة أظهر نوعاً من المعارف لايدرك أهل زمانه جنسه فصار ملة واحدة وطريقة منزهة من كل خسة فهو إمام الأمة وحبر الملة ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ففيه الصوفيه وصوفي الفقهاء وعالم الصلحاء وصالح العلماء وارث علوم الأولياء ووارد موارد الأصفياء ولد في شوال سنة خمس وعشرين وألف ببلاد شهران من جبال الكرد ونشأ في عفة وصيانة وديانة وأخذ في طلب العلم ببلاده على مشايخ قطره وفاز منه بالحظ الأوفى وقرأ التفسير على المنلا محمد بن شريف الكوراني الصديقي وما ترك شيئاً من العلوم إلا وحققه في بلاده إلا علمى التصوف والحديث ففي بلاد العرب وخرج بعد وفاة والده قاصداً لأداء الفريضة وسنة الزيارة فمر على بغداد فأقام بها قدر عامين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ثم سافر إلى الشام وبقي فيها أربعة أعوام ثم ذهب إلى المدينة المنورة على ساكنهها أفضل الصلاة والسلام ولم يزل - إلى أن مات فيها - يتعهد الخلوة أياماً وينقطع للذكر حتى انتقل إلى رحمة الله تعالى وراضوانه عصر يوم الأربعاء - الذي ورد أنه لايفتح فيه قبر منافق - الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ألف ومائة وواحدة ودفن بعد المغرب ببقيع الغرقد وله مصنفات كثيرة؛ منها: شرحان على عقيدة شيخه القشاشى أحمد ومسلك الاعتدال إلى آية خلق الأفعال ومسلك السداد وإعمال الفكر والرويات وإفاضةى العلام في تحقيق مسألة الكلام وتنبيه العقول على تنزيه الصوفيه عن اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول ومطلع الجود وإتجاف الخلف بعقيدة السلف. واللعمة والسنية وجناح النجاح واقتفاء الآثار ومجلى المعاني حاشية على عقائد الدوانى وجلاء الأنظار ونوال الطول والأمم لإيقاظ الهمم وإسعاف الخيف وغير ذلك. انتهى ملخصاً. قلت: وكان سلفي العقيدة ذاباً عن شيخ الإسلام ابن تيمية وكذا يذب عما وقع في كلمات الصوفية مما ظاهره الحلول أو الاتحاد أو العينية - نفعنا الله تعالى به وأكرمه بجنات عليه، آمين. (ترجمة منلا على القارئ) (ومنهم) - المنلا على بن محمد بن سلطان الهروى القارئ الملكي الحنفي قال الحموى في ترجمته: علامة الزمان، وواحد العصر والأوان، وعالم بلد الله الحرام والمشاعر العظام. قرأ العلم ببلاده ثم رحل إلى مكة المكرمة وتديرها. وله شيوخ كثيرون منهم: شيخ الإسلام ابن جعفر الهيتمي وكان كثير الاعتراض عليه، وشديد التعصب على الشافعية. وله مصنفات كثيرة؛ منها: شرح الشفاء وشرح الشمائل. وشرح النخبة. وشرح الشاطبية. وشرح الجزرية ولخص القاموس وسماه الناءوس. ورسالة في ابن عربي والحط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 منه بقوله بإيمان فرعون وغير ذلك، وله وسائل لا تحصى كثرة وتوفي بمكة المكرمة سنة ألف وأربعة عشر ودفن بالمعلى ولما بلغ خبر موته علماء مصر وصلوا عليه بالجامع الأزهر صلاة الغيبة في مجمع حافل يجمع آلاف نسمة - رحمه الله تعالى - انتهى ملخصاً. قلت: وكان كثير الذبّ أيضاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن القيم وكامل التعظيم لهما ومما قاله في شرح الشمائل ما نصه: ومن طالع شرح منازل السماء السائرين تبين له أنهما كانا من أكابر أهل السنة والجماعة ومن أولياء هذه الأمة، انتهى. وأطال في كثير من تأليفاته ببيان حالهما والتنويه بقدرهما ومن أراد ذلك فليرجع إلى ما هنالك. (ترجمة العلامة السويدي البغدادي) (ومنهم) - أمير المؤمنين في الحديث الشيخ النحرير أبو المعالي على أفندي الشافعي ابن الفهامة الشيخ محمد سعيد بن أبي البركات عبد الله الشهير بالسويدي البغدادي العباسي. قال في ((النزهة)) من ترجمة طويلة ما نصه: وكان لأهل السنة برهاناً ولعلماء المحدثين سلطاناً ما رأيت أكثر منه حفظاً ولا أعذب منه لفظاً، ولا أحسن منه وعظاً ولا أفصح منه لساناً ولا أوضح منه بياناً ولا أكمل منه وقاراً ولا آمن منه جاراً ولا أكثر منه حلماً ولا أكبر منه بمعرفة الرجال علماً ولا أغرب منه عقلاً ولا أوفر منه في فنه فضلاً ولا ألين منه جانباً ولا آنس منه صاحباً اختارت روحه - في دمشق الشام - من الملأ الأعلى رفيقاً، وهو يقرأ قوله تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أؤلئك رفيقاً} [النساء69] وجاء تاريخ وفاته - أسكنه الله تعالى أعلى جناته - إن المدارس تبكي عند فقد على. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وذلك سنة الألف والمائتين والسابعة والثلاثين في السابع والعشرين من رجب الأصم. أحله الله تعالى في النعيم الأتم. وقد مر عليك ثناؤه على الشيخ ابن تيمية وستأتي أيضاً بعض عبارته المرضية وله تأليفات مفيدة ورسائل عديدة ومن أجلها: كتاب ((العقد الثمين في بيان مسائل الدين)) وقد شرحه ولده الفهامة صاحب التصنيفات الجليلة ((أبو الفوز محمد الآمين)) وقد توفي عند رجوعه من الحج في بلاد نجد الأربعين والمائتين والألف. وله أيضاً كتاب ((شرح التعرف في الأصلين والتصوف)) وكتاب ((رد الإمامية)) وشرح ((مقاصد الإمام النووي الكبير والصغير)) - ((سبائك الذهب في الأنساب)) وغير ذلك. (ترجمة شهاب الدين مفتى الحنفية ببغداد الألوسي البغدادي) (ومنهم) : مفتى مدينة السلام مولانا ووالدنا وأستاذنا ابو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي الشافعي مفتى الحنفية ببغداد الشهير بالآلوسي، وابن العلامة ولى الله تعالى بلا نزاع السيد عبد الله أفندي. قال صاحب ((حديقة الورود)) : هو أستاذنا ومقتدانا إنسان عين الزمان بل عين إنسان نوع الإنسان وسر الليالي المضمر في خاطر الدهر بل نذرها الذي وقت به لهذا العصر كشاف رموز الحقائق وغواص بحر الدقائق شيخ علماء العراق بل بدر الآفاق علامة الفضلاء وسند النبلاء وحيد الدهر بالانفاق كريم الذات بديع الأخلاق خاتمة المفسرين وسعد المحققين وفخر علماء المسلمين والواصل إلى رتبة الاجتهاد الذي شرق وغرب ذكره في البلاد أخذ العلوم عم علماء محققين وأجلاء مدققين وقد ألف ودرس وهو دون العشرين وكان حسن المنظر والمحاضرة والمفاكهة فصيح اللسان ورعاً تقياً عفيفاً فريداً في وعضه وجودة خطه وقوة حافظته حتى إنه قال: ما استودعت ذهني شيئاً فخانني وقد ولد يوم الجمعة منتصف شعبان في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 العام السابع عشر بعد الألف والمائتين وتوفي سنة السبعين بعد المائتين والألف ضحوة يوم السبت الخامس والعشرين من ذي القعدة الحرام. وجاء تاريخ وفاته. [بسيط] حور الجنان به حفت مؤرخة ... جنات روح المعاني قبر محمود وقد آلف تأليف عديدة منها تفسيره ((روح المعاني)) عشر مجلدات ضخام، وهو تفسير ليس له نظير والله تعالى در ((الفاروقى)) (1) القائل فيه: [طويل] يقولون قد مات الشهاب أبو الثناء ... وباتت عليه أعين العلم باكية فقلت لهم ما مات من زال شخصه ... وروح معانيه إلى الحشر باقية وله شرح ((درة الغواص)) و ((حاشية شرح القطر)) و ((الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية)) وكتاب ((الفيض الوارد)) و ((حواش على حواشي عبد الحكيم)) وكتاب ((الطراز المذهب)) وكتاب ((النفحات القدسية)) وشرح ((البرهان)) و ((نشوة الشمول)) و ((نشوة المدام)) و ((نزهة الألباب وغرائب الاغتراب)) وشرح العينية، وحواشي مير في الآداب، والأجوبة اللاهورية وكتاب ((الاستعارة)) والمقامات وغير ذلك - انتهى باختصار. وقال في ((أريج الند والعود)) : إن شيخنا قد ألفت في ترجمته رسائل مفصلة، وبينت أحواله وسيرته في مجلات مطولة. وقد كان نادرة الأوان وممدوحاً بكل لسان حصل العلوم النقلية والعقلية فتفرد بها، ودرس العربية والبيان والحديث والتفسير ووقف على غامضه فيه تفسيره الشهير، والكلام والرياضي الأصلين وقصدته العلماء من الأقطار البعيدة، ونزلت في داره وحضروا عنه وأفتى خمس عشرة سنة بسيرة مرضية وانقادت له الخواص والعوام وهابته الأمراء الفخام وبعد وصيته في سائر بلاد الإسلام ولم يسمع بمثله في كافة الأقاليم منذ سنين عديدة مع تقوى وصلاح وديانة قوية،   (1) هو عبد الباقي الفاروقي الشاعر العراقي. توفي 1289هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وسخاء وكرم وصدقات خفيه وقد صنف ودرس وانتفع به خلق كثير وله التصنيفات الحسنة في علوم شتى والنثر العجيب الذي لم يسبق إلى حسن أسلوبه والاستحضار الكامل والفكر الواصل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذب عن السنة وكان لا يمل من التدريس والتأليف وكان ذا حافظة غريبة وفطنة عجيبة وقد انتهت إليه الرياسة في بغداد وأخذت عنه علماؤها الأمجاد وصار أستاذ الكل في الكل والمعول عليه في العقد والحل: [بسيط] . لا يبلغ الواصف المطرى خصائصه ... وإن يكن سابقاً في كل ما وصفا توفي سنة السبعين بعد المائتين والألف وعمره نحو ثلاث وخمسين سنة ودفن بالقرب من الشيخ معروف الكرخي وقبره مشهور يزار ويوم وفاته حل بالمسلمين خطب عظيم ونقص جسيم وكثر عليه من المسلمين الضجيج والعويل والأنين. رحمه الله تعالى، ولا زالت نعمه عليه تتوالى. آمين. انتهى ملخصاً. وأقول: قد مر لك نقلى كلام الوالد عليه الرحمة فيه والتبجيل له بظاهره وخافيه وسيأتي إن شاء الله تعالى أيضاً ما تستحليه. (ترجمة مسند الوقت أحمد ولى الله الدهلوي) (ومنهم) : ناطق هذه الدورة وحكيمها وقائد هذه الطبقة وزعيهما الشيخ الأجل مسند الوقت: أحمد ولى الله المحدث الدهلوي رحمه الله تعالى. وله رسالة في التفهيمات الإلهية فيها الذب عن شيخ الإيلام ابن تيمية قال فيها: والذي أعتقده أنا، وأحب أن يعتقده جميع المسلمين في علماء الإسلام حملة الكتاب والسنة والفقه الذابين عن عقيدة أهل السنة والحديث، أنهم عدول بتعديل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((يحمل هذا العلم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 كل حلف عدوله)) (1) وإن كان بعضهم قد تكلم فيهم بما لا يرضيه هذا المعتقدة إذا كان قولهم ذلك غير مردود عليهم بنص الكتاب والسنة والإجماع وكان قولهم ذلك محتملاً وكان مجال ومساغ للخوض فيه سواء كان قولهم ذلك في أصول الدين أو في المباحث الفقهية أو في الحقائق الوجدانية وعلى هذا الأصل اعتقدنا في شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى. فإنا قد تحققنا من حاله أنه عالم بكتاب الله ومعانيه اللغوية والشرعية وحافظ لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثار السلف عارف بمعانيهما اللغوية والشرعية أستاذ في النحو واللغة محور لمذهب الحنابلة فروعه وأصوله فائق في الذكاء ذو لسان وبلاغة في الذب عن عقيدة أهل السنة لم يؤثر عنه فسق ولا بدعة اللهم إلا هذه الأمور التي ضيق عليه لأجلها وليس شيء منها إلا ومعه دليله من الكتاب والسنة وآثار السلف فمثل هذا الشيخ عزيز الوجود في العالم ومن يطيق أن يلحق شأوره في تحريره وتقديره والذين ضيقوا عليه ما بلغوا معشار ما آتاه الله تعالى، وإن كان تضييقه ذلك ناشئاً من اجتهاد ومشاجرة العلماء في مثل ذلك ما هي إلا كمشاجرة الصحابة - رضي الله عنهم - فيما بينهم والواجب في ذلك كف اللسان إلا بخير - انتهى. ثم أجاب عن مسائله التي ضيقوا عليه فيها. (ترجمة العلامة الشوكاني) (ومنهم) - شيخ الإسلام والمسلمين وارث علوم سيد المرسلين العلامة المجتهد المطلق الإمام العلامة الرباني، قاضي القضاة بن علي الشوكاني اليماني - رضي الله عنه - فإنه أثنى عليه في مؤلفاته الممتعة النافعة في مسألة الاستواء ومسألة الطلاق الثلاث وغيرهما. وشرح   (1) تمامه؛ ((ينقون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) . رواه البيهقي في كتاب المدخل مرسلاً عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذرى اهـ من هامش الأصل. (هـ. ص) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 كتاب ((المنتقى في الأخبار)) لجده، وأتى بما لم تستطعه الأوائل. وترجم له في كتابه ((البدر الطالع)) وقال: تقي الدين أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام شيخ الإسلام إمام الأئمة المجتهد المطلق نظر في الرجال والعلل وتفقه وتمهر وتقدم وصنف ودرس وأفتى وفاق الأقران وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف كذا في ((اندرر)) للحافظ ابن حجر. وأقول أنا: لا أعلم بعد ((ابن حزم)) مثله وما أظن أنه سمح الزمان ما بين عصري الرجلين بمن يشابههما أو يقاربهما وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه ولعل فتاواه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر وكان قولاً بالحق لاتأخذه في الله لومة لائم ولا كان متلاعباً بالدين ولا يتفرد بمسائل بالتشهى ولا يطلق لسانه بما اتفق بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة لمن تقدمه من الأئمة تعتريه حدة في البحث وغضب وصدمة للخصوم تزرع له عداوة في النفوس ولولا ذلك لكان كلمة إجماع فإن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بأنه بحر لا ساحل له وكنز ليس له نفاد والناس قسمان في شأنه: فبعض منهم مقصر به عن المقدار الذي يستحقه بل يريمه بالعظائم وبعض آخر يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بالكتاب والسنة فإنه لا بد أن يستنكره المقصرون ويقع له معهم محنة ثم يكون أمره الأعلى وقوله الأولى ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره وهكذا كان حال هذا الإمام فإنه بعد موته عرف الناس مقداره واتفقت الألسن بالثناء عليه إلا من لا بعتد به وطارت مصنفاته واشتهرت مقالاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 قال: وقد ترجمه جماعة وبالغوا في الثناء عليه، ورثاه كثير من الشعراء. وقال جمال الدين السرمدي في ((أماليه)) : ومن عجائب زمننا في الحفظ ابن تيمية كان يمر بالكتاب وكان يمر بالكتاب مطالعة فينتقش في ذهنه وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه وقد ترجم له ((الصفدي)) وسرد في أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار ومن أنفعها كتابه في ((إبطال الحيل)) فإنه نفيس جداً وكتابه ((المنهاج في الرد على الرافضي)) في غاية الحسن. وقال ((ابن سيد الناس اليعمرى)) في ترجمته: إنه برز في كل فن على أبناء جنسه ولم ترعين من رآه مثله ولا أرت عينه مثل نفسه وقد خالف الأئمة الأربعة في مسائل عدة صنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة وقد أثنى عليه كثير من أكابر علماء عصره فمن بعدهم ووصفوه بالتفرد وأطلقوا في نعته عبارات ضخمة، وهو حقيق بذلك. انتهى حاصله. قلت: وكان زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة أكثر أهل زمانه في العقا والنهى وأوفرهم في الفهم والفقه والبصيرة والذكاء حسدوه لكمال عقله وجمال عمله وعلمه وعادوه لصدعه بالحق وإيثارة على الخلق؛ وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في عباده المؤمنين المخلصين له في الدين. (ترجمة الإمام الأجر أبي الطيب) (صديق بن حسن أيده الله تعالى) (ومنهم) - شيخنا الإمام الكبير السيد العلامة الأمير البدر المنير البحر الحبر في التفسير والحديث والفقه والأصول والتاريخ والأدب والشعر والكتابة والتصوف والحكمة والفلسفة وغيرها: أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي (1) ، حماه الله تعالى وعافاه وعن الشرور وقاه وهو الذي نطقت ألسن الخلائق بثنائه،   (1) المشهور بصديق حسن خان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وأذعنت الأعداء لفضله وفرط ذكائه ولد يوم الأحد لعله التاسع عشر من شهر جمادى الأولى من سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف الهجرية. أخذ العلم عن أكابر أطراف وطنه ثم ارتحل إلى مدينة دهلي وهي إذ ذاك مشحونة بعلماء الدين؛ فأخذ عن شيوخها في المعقول والمنقول لا سيما من آخرهم وأفضضلهم الشيخ صدر ين الدهلوي تلميذ الشيخ عبد العزيز بن مسند الوقت الشيخ الأجل أحمد ولى الله المحدث الدهلوي ثم ارتحل إلى بهو وبال وسافر إلى الحجاز وحج وزار النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخذ من علماء اليمن الميمون تلاميذ العلامة المجتهد المطلق: محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى وجمع في ذلك كتاباً سماه ((سلسلة العسجد في ذكر مشايخ السند)) ، وذكر فيه أخذ عنه ومن أجاز له والأسانيد التي تلقاها عن شيوخه وبقي عاكفاً في الحرمين نحو ثمانية أشهر ثم عاد إلى بهوبال، واستوطن واستقر هنالك بنشر العلم ويفيد العلماء وينصر السنة المطهر ويروح كتبها ويؤلف ومؤلفاته الشريفة الممتعة النافعة باللسان العربي ولغة الفرس والهند تربو على ستين كتاباً منها: تفسيره المرسوم ((بفتح البيان في مقاصد القرآن)) وهو الجامع بين الرواية الصحيحة والدراية الصريحة؛ وليس قرية وراء عبادان ومنها ((الروضة الندية في شرح الدرر البهية)) في فقه الحديث ليس له نظير في هذا الباب. ومنها ((مسك الختام شرح بلوغ المرام)) بالفارسي. ومنها ((عون لباري لحل أدلة صحيح البخاري)) ومنها ((حصول المأمول في علم الأصول)) أي أصول الفقه. و ((البلغة إلى أصول اللغة)) و ((الإكسير في أصول التفسير)) إلى غير ذلك مما لايحصى كثرة. وقد سرد أسماء كتبه صاحب المواهب و ((كنز الرغائب)) في كتاب ((قرة الإعيان ومسرة الأذهان)) (1) ولبعضهم كتاب وسيط في ترجمته الشريفة سماه ((قطر الصيب في ترجمة الإمام أبي الطيب)) وقد طبعت مصنفاته أكثرها في هذه   (1) وهو كتاب في تفريظ صديق حسن خان طبع في مطبعة الجوائب لصاحبها أحمد فارس الشدياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الأيام بمصر القاهرة وقسطنطينية. وياله من تحقيق وبيان وقد سارت بها الركبان من بلدان إلى بلدان إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف استدل ورجح ويحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه وما رأيت أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه ولا أشد استحضاراً للسنة المطهرة وعزوها منه هذا، ومع ما هو عليه من الكرم والجود والشجاعة وجمع الفؤاد والبراعة والفراغ من ملاذ النفس ومن خالطه وعرفه ينسبني إلى التقصير فيه ومن نابذة وخالفه قد ينسبني إلى التعالى فيه وهو أبيض ربعة من القوم قليل الشيب لهذا العهد شعره إلى شحمة أذنيه فصيح سريع القراءة سريع الكتابة سريع الحفظ والمطالعة لا يبالي في الله لومة لائم من أهل الابتداع ولا تمنعه صولة صائل في تحرير الحق الحقيق بالاتباع. ولا يناظر أحداً من الناس ولا يخاطبهم بشيء من الرد لكونهم مكابرين لا مناظرين ولا جاهلين ولا عالمين وليس له خصوم إلا بعض المقلدة وأهل البدعة المقصرين عن بلوغ رتبته في الدنيا وقد ترجم له في كتبته الشريفة بما يغني عن الإطالة في هذا المقام وترجم له غيره من علماء الدنيا شرقاً وغرباً يميناً وشمالاً أيضاً فلا ضرورة لنا ولا حاجة بنا إلى تمام الكلام على هذا المرام. والمقصود هنا أنه حماه الله تعالى أثنى على شيخ الإسلام ابن تيمية في مؤلفاته عليها ثناء حسنا، ونقل عن جمع جم من أكابر السلف والخلف الأثنية الكثيرة عليه، فإن شئت زيادة الاطلاع على هذه الحال فارجع إلى ذلك المقال. وبقي من المثنين عليه علماء كثيرون وأئمة من أهل سائر المذاهب ذوي الفضائل والمناقب لا يسعنا لضيق الوقت سرد أسمائهم وبسط ثنائهم. وأما الحنابلة فهم بأجمعهم له معظمون ولعقيدته قابلون ولكلامه سامعون كما سمعت أقوال كبرائهم وسيأتيك إن شاء الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 كثير من عباراتهم فتدبر هذا وذاك وهو سبحانه المرجو لهدانا وهداك. فصل: (في الجرح والتعديل) فإن قلت: قد تبين أن من العلماء من هو قادح في الشيخ ابن تيمية وإن كانوا أقل من الفرقة الراضية المرضية؛ إلا أنه من القاعدة التي عليها التعويل أن الجرح مقدم على التعديل فما الجواب المميز للخطأ عن الصواب؟ قلت: قال العلامة شيخ مشايخنا وافضل المتأخرين في عصرنا: السيد محمد أمين بن عابدين الدمشقي محشى ((الدر المختار)) في كتابه ((سل الحسام الهندي لنصرة الشيخ خالد النقبندى)) : إن هذه القاعدة المعروفة بين أهل التفريغ والتأصيل من أن الجرح مقدم على التعديل إنما هي في غير من اشتهرت عدالته وظهرت ديانته وفي غير من علم أن التكلم فيه ناشئ عن عداوة أو جهالة وغباوة فقد قال الحافظ الباجي: الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحه وكان هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره؛ فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة وإلا فلو فتحنا هذا الباب وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقة لما سلم لنا أحد من الأئمة إذ وما من إمام وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون وقد عقد الحافظ أبو عمر بن عبد البر في ((كتاب)) العلم بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض - بدأ فيه بحديث الزبير - رضي الله عنه - ((دب غليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء)) الحديث وروى بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ((استمعوا إلى العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم اشد تغايراً من التيوس في زروبها (1)) ) . مطلب (لا يؤخذ بقول العلماء في طعن بعضهم بعضاً) وعن مالك بن دينار يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض، ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه لذلك وإليه أشار ((الرافعي)) بقوله: ينبغي أن يكون المزكون برآء من الشحناء والعصبية في المذهب خوفاً من أن يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية فاسق وقد وقع هذا لكثير من الأئمة جرحوا بناء على معتقدهم وهم المخطئون والمجروح مصيب، انتهى. وقد أطال في هذا المقام وهو لعمري على رأس المخالف أمضى من حسام وقال أيضاً في حاشيته على ((الدر المختار)) في بحث الإمام أبي حنيفة وذكر مناقبه ورد الطاعنين فيه ما نصه: إن الإمام - رضي الله عنه - لما شاعت فضائله جرت عليه العادة القديمة من إطلاق ألسنة الحاسدين فيه حتى طعنوا في اجتهاده وعقيدته مما هو مبرأ منه قطعاً لقصد أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره كما تكلم بعضهم في مالك وبعضهم في الشافعي وبعضهم في أحمد بل تكلم فرقة في أبي بكر وعمر وفرقة في عثمان وعلى وفرقة كفرت جميع الصحابة [طويل] ... ومن ذا الذي ينجو من الناس سالماً ... وللناس قال بالظنون وقيل وقال الذهبي والعسقلاني: إن قول الأقران بعضهم في بعض غير مقبول؛ لا سيما إذا لاح أنه لعداوة أو لمذهب إذ لحسد لاينجو منه إلا من عصمه الله تعالى. قال الذهبي: وما علمت أن عصراً سلم أهله من ذلك إلا عصر النبيين   (1) جميع (زرب) حظيرة الغنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 عليهم الصلاة والسلام انتهى. ونحو ذلك ما نقله ((الإمام الشعراني)) في ميزاته عن ((طبقات التاج السبكي)) ما نصه: ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع جميع الأئمة الماضين، وألا تنظر إلى كلام بعض الناس فيهم إلا ببرهان واضح ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن بحسب قدرتك فافعل وإلا فاضرب صفحاً عما ترى بينهم، فإنك يا أخي لم تخلق لمثل هذا وإنما خلقت للاشتغال بما يعنيك من أمر دينك. قال: ولا يزال الطالب عندي نبيلاً حتى يخوض فيما جرى بين الأئمة فتلحقه الكآبة وظلمة الوجه فإياك ثم إياك أن تصغي لما وقع بين ((أبي حنيفة وسفيان الثوري)) أو بين ((أحمد بن صالح والشعبي)) أو بين ((أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي)) وهلم جرا إلى الزمان الشيخ ((عز الدين ابن عبد السلام)) ، و ((والشيخ تقي الدين بن الصلاح)) فإنك إن فعلت إن فعلت ذلك خفت أئمة أعلام ولأقوالهم محامل ربما لم يفهمها غيرهم فليس لنا إلا الترضي عنهم والسكوت عما جرى بينهم كما نسكت عما جرى بين الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين. قال: وكان ((الشيخ عز الدين بن عبد السلام)) يقول: إذا بلغك أن أحداً من الأئمة شدد النكير على أحد من أقرانه فإنما ذلك خوفاً على أحد من أقرانه فإنما ذلك خوفاً على أحد ان يفهم من كلامه خلاف مراده لا سيما علم العقائد فإن الكلام في ذلك أشد. انتهى. مطلب (فيمن طعن في معاصروه) وقال أيضاً ((الشعراني)) في كتابه ((الأجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية)) كما وقع أيضاً ((للشيخ عز الدين بن عبد السلام)) من رمى أهل زمانه بالكفر - من أجل كلمة قالها - في عقيدته، وحرضوا (1) السلطان عليه ثم تداركه الله تعالى بلطفه.   (1) في (ص) و (م) حرفوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وكذا نكروا على ((الشيخ تاج الدين السبكي)) ورموه بالكفر واستحلال شرب الخمر وأتوا به مغلولاً مقيداً من الشام إلى مصر ومعه خلائق يشهدون عليه وأنكروا على إمام الحرمين (1) شيخ ((الغزالي)) وحسدوه وآذوه: فبرعه له ولد واشتغل بالعلم وصار يدرس نياتة عن والده فأطمعوه السم فقتلوه وأفتوا بكفر ((الإمام الغزالي)) بألفاظ وجدوها في كتابه ((الأحياء)) وحرقوا ما وجدوه في أرض المغرب من نسخ الأحياء. وكان من جملة من قام عليه ((القاضي عياض)) وضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أبي الخوارزم في المنام بقارع فلم يزل أثر الضرب على جنبيه حتى مات والواقعة مشهورة. ومن جملة ما شنعوا على ((الغزالي)) قوله: ((ليس في الإمكان ابدع مما كان)) وأمر ((الإمام أبي حنيفة)) و ((أحمد بن حنبل)) من الحبس والضرب مشهور وما قاساه ((الإمام الشافعي)) من أهل مصر لما ادعى الاجتهاد المطلق وكذا ((الإمام مالك)) من أهل عصره، وما قاساه ((الإمام البخاري)) حتى أخرجوه من بخارى إلى مدينة خرتنك فمات بها. وما قاساه ((سعد ابن أبي وقاص)) وتشكي أهل الكوفة عليه عند ((عمر)) رضي الله تعالى عنهما أنه لا يحسن أن يصلى. وغير ذلك مما يضيق عن تعدادهم هذا الكتاب فإن أردته فارجع إلى المصنفات المفصلة والكتب المطولة. وفي كتاب ((هداية السائل إلى أدلة السائل)) لشيخنا ((أبي الطيب القنوجي)) حماه الله تعالى: قد فتح باب التقليد والمتذهب عداوات وتعصبات قل من سلم منها إلا من عصمه الله تعالى قال: وذكر ((الحافظ الذهبي)) في ترجمة ((أحمد بن عبد الله الهناني)) أن ((نعيما الأصفاني)) قال: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به؛ لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو المذهب أو الحسد،   (1) الإمام الجويني جاور بمكة وأفتى ودرس بالمدينة سنوات وتوفي بنيسابور 478هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ولا ينجو منه إلا من عصمه الله تعالى، وما علمت عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى النبيين والصديقين فلو شئت لسردت من ذلك كراريس، انتهى. [لغرض أو مرض هوجم ابن تيمية] (واقول) : إذا أحطت خبراً بما تلوناه ونمليه عليك، واستمسكت بزمام الحق والأنصاف الموضوع بين يديك تعلم أن كلام بعض الطاعنين في ((الشيخ ابن تيمية)) بل معدود من جملة ما نسب إلى أمثاله من المغزوات (1) المتقدمة المسطورة. فأما ((القاضي السبكي)) ومتا بعوه، فلداء المعاصرة نافسوه، وغدوا بكل نقيصة رامية ولأمور رامية ولأمور يطول شرحها مع معاديه. وأما ((أبو حيان)) فقد جرى أيضاً بينهما كما جرى بين الأقران في كل زمان. وأما غيرهما فللمخالفة المذهبية في بعض المسائل الفرعية الاجتهادية وبعض الاعتقادية. ومنهم من طعن من غير تحقيق وروية. ومنهم لاعتراضه على بعض كلمات الصوفية المغاير ظاهرها للشريعة المطهرة الأحمدية ولأنه سلفى الاعتقاد كالأئمة الأمجاد وطاعنوه كما نعلم خلفيون ولآيات الصفات مؤولون، وشتان بين مفوض لأخبار الصفات ومؤول للآحاديث والآيات البينات وكل منهم إن شاء الله تعالى قصد الخير ((وإنما الأعمال بالنيات)) وسيجىء تفصيل هذه المجملات وينكشف عن وجه الحقيقة غيهب الشبهات بعناية الله سبحانه وتوفيقه.   (1) ص. م - العزوبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فصل: (في كلام العلامة ابن حجر فيما يتعلق بكتب الصوفية) (ابن تيمية والتصوف والمتصوفة) قال الشيخ ((ابن حجر)) عليه الرحمة في كتابه المذكور: وحاصل ما أشير إليه في السؤال أنه قال في بعض كلامه: إن في كتب الصوفية ما هو مبني على أصول الفلاسفة المخالفين لدين المسلمين فتلقى ذلك بالقبول من يطلع فيها من غير أن يعرف حقيقتها كدعوى أحدهم أنه مطلع على اللوح المحفوظ؛ فإنه عند الفلاسفة كابن سينا وأتباعه ((النفس الفلكية)) ويزعم أن نفوس البشر تتصل بالنفس الفلكية، أو بالعقل الفعال يقظة أو مناماً وهم يدعون أن ما يحصل من المكاشفة يقظة أو مناماً هو بسبب اتصالها بالنفس الفلكية عندهم وهي سبب حدوث الحوادث العالم فإذا اتصلت بها النفس البشر انتقش فيها ما كان في النفس الفلكية وهذه الأمور لم يذكرها قدماء الفلاسفة وإنما ذكرها ابن سينا ومن يتلقى عنه. ويؤخذ ذلك من بعض كلام ((أبي حامد الغزالي)) وكلام ((ابن عربي)) ((وابن سبعين)) وأمثال هؤلاء الذي تكلموا في التصوف والحقيقة على قاعدة الفلاسفة لاعلى أصول المسلمين ولقد خرجوا بذلك إلى الإلحاد كإلحاد الشيعة والإسماعيلية والقرامطة الباطنية بخلاف عباد أهل السنة والحديث ومتصوفيهم، ((كالفضيل)) (1) وسائر رجال الرسالة وهؤلاء أعظم الناس إنكاراً لطرق من هو خير من الفلاسفة كالمعتزلة والكلابية فكيف بالفلاسفة؟ وأهل التصوف ثلاثة أنصاف: قوم على مذهب اهل السنة كهؤلاء المذكورين   (1) الفضيل بن عياض والرسالة للقشيري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وقوم على طريقة بعض أهل الكلام من الكلابية وغيرهم. وقوم خرجوا إلى طريق الفلسفة؛ مثل مسلك من سلك رسائل ((إخوان الصفا)) وقطعة توجد في كلام ((أبي حيان التوحيدي)) . وأما ((ابن عربي)) و ((ابن سبعين)) ونحوهما فجاءوا فلسفية غيروا عباراتها، وأخرجوا في قالب التصوف. و ((ابن سينا)) تكلم في آخر ((الإشارات)) على مقام العارفين بحسب ما يليق بحاله وكذا معظم من لم يعرف الحقائق الإيمانية. و ((الغزالي)) ذكر شيئاً من ذلك في بعض كتبه، لا سيما في الكتاب ((المضنون به على غير أهله)) و ((مشكاة الأنوار)) ونحو ذلك. حتى ادعى صاحبه ((أبو بكر ابن العربي)) فقال: شيخنا دخل في نظر الفلاسفة وأراد أن يخرج منهم فما قدر؛ لكن ((أبو حامد)) يكفر الفلاسفة في غير موضع وبين فساد طريقتهم وأنها لا تحصل المقصود واشتغل في آخر عمره ((بالبخاري)) ومات على ذلك. وقيل: أنه رجع عن هذه الكتب ومنهم من يقول: إنها مكذوبة عليه وكثر كلام الناس فيه لأجلها؛ ((كالمازوي والطرطوشي وابن الجوزي وابن عقيل)) وغيرهم. انتهى حاصل الكلام ((ابن تيمية)) . وهو يناسب ما كان عليه من سوء الاعتقاد حتى في أكابر الصحابة ومن بعدهم إلى أهل عصره وربما أداه ذلك إلى تبديع كثير منهم. ومن جملة من تتبعه: الولى القطب العارف ((أبو الحسن الشاذلي)) نفعنا الله تعالى به وبعلومه ومعارفه في ((حزبه الكبير وحزب البحر)) وقطعة من كلامه كما تتبع ((ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين)) وتتبع أيضاً ((الحلاج الحسين بن منصور)) ولا زال يتتبع الأكابر حتى تمالأ عليه أهل عصره ففسقوه وبدعوه (1) بل كفره كثير منهم.   (1) اتهموا بالبدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقد كتب إليه بعض أجلاء عصره علماً ومعرفة سنة خمس وسبعمائة: من فلان إلى الشيخ الكبير العالم إمام أهل عصره بزعمه - أما بعد، فإنا أحببناك في الله زماناً وأعرضنا عما يقال عنك إعراض الغفلة إحساناً إلى أن ظهر لنا خلاف موجبات المحبة بحكم ما يقتضيه العقل والحس وهل يشك في الليل عاقل إذا غابت الشمس، وإنك أظهرت أنك قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والله تعالى أعلم بقصدك ونيتك ولكن الإخلاص مع العمل ينتج ظهور القبول وما رأينا آل أمرك إلا إلى هتك الأستار والأعراض باتباع من لايوثق بقوله من أهل الأهواء والأغراض؛ فهو سائر زمانه يسب الأوصاف والذوات وام يقنع بسب الأحياء حتى كفر الأموات ولم يكفه التعرض على من تأخير من صالحي السلف حتى تعدى إلى الصدر الأول من له أعلى المراتب في الفضل فياويح من هؤلاء! خصماؤه يوم القيامة وهيهات أن لايناله غضب وأنى له بالسلامة! وكنت ممن سمعه وهو على منبر جامع الجبل بالصالحية وقد ذكر ((عمر بن الخطاب)) - رضي الله عنه - فقال: إن عمر غلطات وبليات وأي بليات! وأخبرني عنه السلف أن ذكر ((علي بن أبي طالب)) - رضي الله عنه - في مجلس آخر فقال: إن علياً أخطأ في أكثر من ثلاثمائة مكان فياليت شعري! من أين يحصل لك الصواب، إذا أخطأ على - كرم اللع تعالى وجهه - بزعمك وعمر بن الخطاب؟ والآن قد بلغ هذا الحال منتهاه والأمر إلى مقتضاه ولا ينفعني إلا القيام في أمرك ودفع شرك؛ لأنك قد أفرطت في الغى، ووصل أذاك إلى كل ميت وحي وتلزمني الغيرة شرعاً من الله ولرسوله ويلزم ذلك جميع المؤمنين وسائر عباد الله المسلمين بحكم ما تقوله العلماء وهم أهل الشرع وأرباب السيف الذين بهم الوصل والقطع إلى أن يحصل منك الكف عن أعراض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الصالحين - رضي الله عنهم - أجمعين. انتهى ما قاله، ونقله ((ابن حجر)) عليه الرحمة. (أقول) : كان ينبغي من ((ابن حجر)) أن يعزو هذا الكلام إلى الكتاب الذي نقله منه ونسبه إلى ابن تيمية. ثم نظر بعين التدبر والإنصاف إليه على تقدير صحته بهذه العبارة فهل يقتضي هذا التهور العظيم والطعن الوخيم! وسيقف بحوله سبحانه على تفصيله كالدر النظم. الفصل الأول: (في عقيدة الإمام ابن تيمية) اعلم أولاً أن عقيدة الشيخ ابن تيمية الموافقة للكتاب والسنة وأقول سلف الأمة مستفيضة مفصلة في تصنيفاته وحبه وتعظيمه للصحابة الكرام - لاسيما ((الشيخين)) - طافحة به عباراته وذلك أظهر من الشمس في رابعة النهار خصوصاً لمن تتبعها في تأليفاته ونقلها بأسرها يفضي إلى الملل إلا أنى أحرر لك البعض: ((وعن البحر اكتفاء بالوشل)) فمنه قوله: ... [كامل] يا سائلى عن مذهبي وعقيدتي ... رزق الهدى من للهداية يسأل اسمع كلام محقق في قوله ... لا ينثنى عنه ولا يتبدل حب الصحابة كلهم لي مذهب ... ومودة القربى بها أتوسل ولكلهم قدر وفضل ساطع ... لكنما الصديق منهم أفضل وأقول في القرآن ما جاءت به ... آيانه فهو القديم المنزل وجميع آيات الصفات أمرها ... حقاً كما نقل الطراز الأول وأرد عهدتها إلى نقالها ... وأصونها عن كل ما يتخيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 قبحاً لمن نبذ القرآن وراءه ... وإذا استدل يقول قال الأخطل (1) والمؤمنون يرون ربهم حقاً ... وإلى السماء بغير كيف ينزل وأقر بالميزان والحوض الذي ... أرجو بأني منه ريا أنهل وكذا الصراط بمد فوق جنهم ... فموجد ناج وآخر مهمل والنار يصلاها الشقي بحكمة ... وكذا التقى إلى الجنان سيدخل ولكل حي عاقل في قبره ... عمل يقارنه هناك ويسأل هذا اعتقاد الشافعي ومالك ... وأبي حنيفة ثم أحمد ينقل فإن اتبعت سبيلهم فموفق ... وإن ابتدعت فما عليك معول وقال من جملة رسالة كتبها للجماعة المنتدبين للشيخ العارف ((عدي ابن مسافر)) ما نصه: وأهل السنة أيضاً في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسط بين الغالية الذين يغلون في ((علي)) - رضي الله عنه - فيقضلونه على ((أبي بكر وعمر)) رضي الله تعالى عنهما ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما وأن الصحابة ظلموا وفسقوا وكفروا والأمة بعدهم كذلك وربما جعلوه نبياً أو إلهاً - وبين الجافية الذين يعتقدون كفره وكفر ((عثمان)) رضي الله تعالى عنهما ويستحلون دماءهم ودماء من تولاهما! ويستحلون سب ((علي وعثمان)) ونحوهما، أو يقدحون في خلافة ((علي)) وإمامته وكذلك في سائر أبواب السنة هم وسط لأنهم متمسكون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. انتهى   (1) قوله مراده عليه بالرحمة بقول الأخطل: إن الكلام لفى الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلاً اهـ. من هامش الأصل. (هـ، ص) , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 [إجلاله للصحابة] وقال أيضاً فيها ما لفظه: وكذلك يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة؛ فإن الله تعالى قد أثنى على أصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - من السابقين والتابعين لهم بإحسان وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه وذكرهم في آيات من كتابه مثل قوله سبحانه: {محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار} الآية [الفتح 29] وقوله تعالى: {لقد رضي الله عنه المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} [الفتح 18] . وفي الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) . وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين ((على بن أبي طالب)) كرم الله وجهه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - ((أبو بكر وعمر)) واتفق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة ((عثمان)) بعد ((عمر)) رضي الله تعالى عنهما. وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم تصير ملكاً)) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنتي وبسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواخذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) فكان أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه آجر الخلفاء الراشدين المهديين. وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. ودلائل ذلك فضائل الصحابة كثيرة ليس هذا موضعها. وكذلك نؤمر بالإمساك عما شجر بينهم ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وبعضهم كانوا مجتهدين فيه إما مصيبين لهم أجران وإما مثابين على عملهم الصالح مغفور له خطؤهم وما كان لهم من السيئات وقد سبق لهم من الله الحسنى فإن الله تعالى يغفرها لهم إما توبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو غير ذلك فإنهم خير قرون هذه الأمة، انتهى بحروفه. وقال أيضاً في كتابه (اعتقاد الفرقة الناجية) ما نصه: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وصفهم الله تعالى في قوله: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} الآية [الحشر 10] . وطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أتفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنو الإجماع من فضائلهم ومراتبهم فيفضلون من أنفق قبل الفتح - وهو صلح الحديبية - وقاتل، على من أنفق من بعده وقاتل ويقدمون المهاجرين على الأنصار ويؤمنون بأن الله تعالى قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضع عشرة: ((اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة؛ كما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - بل وقد - رضي الله عنهم - ورضوا عنه ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالعشرة، و ((ثابت بن قيس بن شماس)) وغيرهم من الصحابة ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين ((علي بن أبي طالب)) وغيره: من أن خير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام ((أبو بكر ثم عمر)) ، ويثلثون ((بعثمان)) ، ويربعون ((بعلي)) رضي الله تعالى عنهم، كما دلت عليه الآثار، وكما اجتمعت الصحابة على تقديم ((عثمان)) في البيعة مع أن أهل السنة قد اختلفوا في ((عثمان وعلي)) بعد اتفاقهم على تقديم ((أبي بكر وعمر)) ايهما أفضل فقدم قوم ((عثمان)) وأربعوا ((بعلي)) وقدم قوم ((علياً)) ، وقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم ((عثمان ثم علي)) . وإن كانت هذه المسألة مسألة ((عثمان وعلي)) رضي الله تعالى عنهما ليست من الأصول التي يضل فيها عند جمهور أهل السنة. لكن المسألة التي يضل فيها المخالف مسألة الخلافة وذك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان، ثم علي)) - رضي الله عنهم - أجمعين. ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله ويتولون أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحفظون فيهم وصيته حيث قال يوم غديرخم: ((أذكركم الله في أهل بيتي)) . وقال أيضاً ((للعباس)) عمه وشكا إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: ((والذي نفسي بيده، إن الله اصطفى ((إسماعيل)) واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)) - إلى أن قال - ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون،إما مخطئون مجتهدون وإما مصيبون مجتهدون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ماليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به أفضل به من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم. ثم إذا كان قد صدر من أحد منهم ذنب فيكون قد تاب منه وأتى بحسنات تمحوه أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلى ببلاء في الدنيا كفر به عنه فإذا كان في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها يجتهدون إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا أجر واحد والخطأ مغفور لهم. ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله تعالى على أيديهم من خوارق العادة من أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن سلف الأمم في سورة الكهف وغيره، وعن صدر هذه الأئمة من الصحابة والتابعين وسائر التابعين قرون الأمة وهي موجودة إلى يوم القيامة. انتهى ما هو المقصود منه بحروفه. وقال في تفسير قوله تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل} الآية [يوسف 110] ما نصه: وكان أبو بكر أكثر علماً وإيماناً من عمر رضي الله تعالى عنهما وإن كان عمر - رضي الله عنه - محدثاً كما جاء في الحديث الصحيح أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: ((قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر)) فهو - رضي الله عنه - المحدث الملهم الذي صرف الله تعالى الحق على لسانه وقلبه. انتهى. وقال أيضاً في فتاواه: مسألة في رجل قال في ((علي بن أبي طالب)) - رضي الله عنه - أنه ليس من أهل البيت ولا تجوز الصلاة عليه والصلاة عليه بدعة. والجواب: أما كون علي - رضي الله عنه - من أهل البيت فهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين وهو أوضح من أن يحتاج إلى دليل؛ بل هو أفضل أهل البيت، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أراد كساءه على ((علي وفاطمة وحسن وحسين)) وقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) . وأما الصلاة عليه منفرداً فهذا بناء على أنه: هل يصلي على غير النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 - صلى الله عليه وسلم - على وجه الانفراد مثل أن يقول: اللهم - صلى الله عليه وسلم - على عمر أو على؟ وتنازع العلماء في ذلك: فمذهب مالك والشافعي وطائفة من الحنابلة أنه لايصلي على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - منفرداً كما روى ابن عباس أنه قال: لا أعلم الصلاة تنبغي على أحد إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وذهب أحمد وأكثر أصحابه إلى أنه لا بأس بذلك لأن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال لعمر: صلى الله عليك. وهذا القول أصح وأولى ولكن إفراد واحد من الصحابة والقرابة كعلي أو غيره بالصلاة عليه مضاهاة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: بحيث يجعل شعاراً مقروناً باسمه فهذا هو البدعة والله أعلم. انتهى. ونقل ((السفاريني)) عنه أنه قال ما نصه: الكل مقر بأن ((معاوية)) ليس كفئاً لعلى كرم الله وجهه في الخلافة، ولا يجوز أن يكون معاوية خليفة مع إمكان استخلاف على - رضي الله عنه - لسابقته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله فإنها كانت معروفة عندهم كإخوانه أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ولم يكن بقي من أهل الشورى غيره وغير سعد لكن ((سعداً)) قد ترك هذا الأمر وكان قد انحصر في على وفي عثمان رضي الله تعالى عنهما. فلما توفي عثمان لم يبق لها معين إلا على - رضي الله عنه -. وإنما وقع ما وقع من الشر بسبب قتل عثمان - رضي الله عنه - ومعاوية لم يدع الخلافة ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتله على - رضي الله عنه - على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة ولا كانوا يرون أنه يبدأ علياً بقتال بل لما رأى أن لهؤلاء شوكة وهم خارجون عن طاعته رأى أن يقاتلهم حتى يردوا إلى الواجب وهم رأوا أن عثمان - رضي الله عنه - قتل مظلوماً باتفاق وقتلته في عسكر علي - رضي الله عنه - وهم غالبون لهم شوكة وعلى كرم الله تعالى وجهه لم يمكنه دفعهم كما لم يمكنه الدفع عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 عثمان فرأوا الآراء الفاسدة أن يبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف. وكان من جهال الفريقين من يظن بالإمامين على وعثمان رضي تعالى عنهما ظنوناً كاذبة منهم من يزعم أن علياً - رضي الله عنه - أمر بقتل عثمان - رضي الله عنه - وكان علي - رضي الله عنه - يحلف وهو البار الصادق بلا يمين أنه لم يقتله ولا راضى بقتله ولم يمالى قتله وهذا معلوم منه بلا ريب رضوان الله تعالى وكان أناس من محبي على ومن مبغضه يشيعون ذلك عنه فمحبوه يقصدون الطعن على عثمان، وأنه كان يستحق القتل وأن علياً أمر بقتله. ومبغضوه يقصدون الطعن على علي - رضي الله عنه - وأنه أعان على قتل الخليفة المظلوم الشهيد الذي صبر نفسه ولم يدفع عنها، ولم يسفك دم مسلم في الدفع عنه وأمثال هذه الأمور التي تنسب إلى المشنعين العثمانية والعلوية وكل من الطائفتين مقر بأن معاوية ليس بكفء لعلى - رضي الله عنه - وقد ولى الخلافة ووقعت له المبايعة لما قتل عثمان فقد جاء الناس يهرعون إليه فقالوا له: نبايعك فمد يدك فلا بد للناس من أمير فقال كرم الله تعالى وجهه: ليس ذلك إليكم إنما ذلك لأهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى علياً فقالوا: ما نرى أحداً أحق بها منك مد يدك نبايعك فبايعوه وهرب مروان وولده. انتهى. ثم ذكر تمام القصة قتل عثمان ومحاربة معاوية لعلي - رضي الله عنه -، ثم فيما قال البخاري في ((صحيحه)) من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل ينفض التراب عن ((عمار)) وهم يبنون المسجد النبوي ويقول: ((ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)) : قال وجعل عمار يقول: أعوذ بالله تعالى من الفتن. وفي رواية: ((ويح عمار تقتله الفئة الباغية فيدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار)) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس سره: ومن رضي بقتل عمار - رضي الله عنه - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 كان حكمه حكمها، أي حم الفئة الباغية التي قتلته ويروى أن ((معاوية)) تأول ذلك وقال قتله من أخرجه، فألزمه ((على)) بقوله: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذن قتل ((حمزة)) حين أخرجه لقتال المشركين. قال الشيخ: لا يب أن قول على - رضي الله عنه - عنه هذا هو الصواب انتهى. فإذا وعيت ما تلوناه عليك تبين لك أن حكاية من رمى الشيخ ابن تيمية باستنقاصه للصحابة ذوي النفوس الزكية كلام ولا أصل له ولا أساس؛ بل هو من عمل من يوسوس في صدور الناس فنعوذ بالله من سر الوسواس الخناس. والحمد لله وحده. وبه أيضاً تبين للمصنف وكلامنا معه أن ما نسبه الشيخ ابن حجر إلى شيخ الإسلام من سوء الاعتقاد في أكابر الصحابة الكرام لا أصل له. وكذا أغلب ما نسب غليه كما ستقف - إن شاء الله تعالى عليه. الفصل الثاني: [ابن تيمية والشاذلي] وأما قوله: (ومن جملة من تتبعه القطب أبو الحسن الشاذلي إلى آخره) فيحتاج دفعه إلى تفصيل وتأصيل، وهو أن الشيخ ((ابن تيمية)) وغير واحد من العلماء ذهبوا إلى عدم جواز القسم على الله سبحانه بأحد من خلقه وكتبوا بذلك رسائل عديدة، وكذا شدد كثير من الأجله النكير على من تكلم بكلمات مغايرة للمسلك الشرعي، ككلمات بعض الصوفية المغاير ظاهرها للشريعة المطهرة المنورة. وسيأتي مفصل البحثين في محله. والشيخ ((الشاذلي)) رحمه الله تعالى لما صدر منه بعض التعبيرات المخالفة بحسب الظاهر للقواعد الشرعية، وإن أولت عند أربابها بالتأويلات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 المرضية وكان الدين لا محاباة فيه وكل أحد يؤخذ منه ويرد عليه - كما قال إمام دار الهجرة - إلا المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وكان العلماء مأمورين برد ما يخالف ظاهر الشريعة المطهرة فلعل الشيخ ابن تيمية تصدى طمعاً بالنصيحة في تصنيفاته لبيان ما يرد عنده على الشيخ الشاذلي في بعض عباراته وأنت تعلم أن هذه شنشنة العلماء والأكابر ولو أردنا تعداد من رد عليه ود لخرج كتابنا من الصدد ونضبت المحابر وسيتبين بحوله سبحانه ما للشيخ الشاذلي من الكلمات التي صارت غرضاً لسهام الناقدين الثقات من ترجمة حاله وبعض أقواله: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه (ترجمة أبي الحسن الشاذلي) قال الذهبي في ((العبر)) : الشاذلي أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الحميد المغربي الزاهد شيخ طائفة الشاذلية، سكن الإسكندرية وصحبه بها جماعة وله في التصوف مشكلة توهم ويتكلف له في الاعتذار عنها وعنه أخذ الشيخ أبو العباس المرسي. اهـ. وقال ((ابن الوردي)) في تاريخه: له عبارات في التصوف مشكلة رد عليها الشيخ ابن تيمية. وقال الشيخ عبد الرءوف المناوي في ((طبقات الأولياء)) : على أبو الحسن الشاذلي السيد الشريف من ذرية محمد بن الحسن زعيم الطائفة الشاذلية نسبة إلى شاذلة قرية بأفريقية نشأ ببلده فاشتغل بالعلوم الشرعية حتى أتقنها وصار بناظر عليها مع كونه ضريراً، ثم سلك منهاج التصوف وجد واجتهد حتى ظهر صلاحه وخيره وله أحزاب محفوظة وأحوال ملحوظة قيل له: من شيخك؟ فقال: أما فيما مضى ((فعبد السلام بن مشيش)) وأما الآن فإنى أسقي من عرشة أبحر: خمسة سماوية وخمسة أرضية ولما قدم الإسكندرية كان بها ((أبو الفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الواسطى)) فوقف بظاهرها واستأذنه لا تسع رأسين فمات أبو الفتح في تلك الليلة وذلك لأن من دخل بلداً على فقير بغير إذنه فمهما كان أحدهما أعلى سلبه أو قتله ولذلك ندبوا الاستئذان. قال ابن دقيق العيد: ما رأيت أعرف بالله منه، ومع ذلك آذوه وأخرجوه بجماعته من المغرب وكتبوا إلى نائب الإسكندرية إنه يقدم عليكم مغربي زنديق وقد أخرجناه من بلدنا فاحذروه فدخل الإسكندرية فآذوه فظهرت له كرمات أوجبت اعتقاده. ومن كلامه: كل علم تسبق إليك فيه الخواطر، وتميل النفس وتلتذبه فارم به وخذ بالكتاب والسنة. وكا إذا ركب تمشى أكابر الفقراء وأهل الدنيا حوله، وتنشر الأعلام على رأسه، وتضرب الكئوسات بين يديه، وينادي النقيب أمامه بأمره له: من أراد القطب الغوث فعليه بالشاذلي. ومن كلامه: لولا لجام الشريعة على لساني لأخبرتكم بما يحدث في غد وما بعده إلى يوم القيامة. وحج مراراً ومات بصحراء عيذاب قاصداً للحج في أواجر ذي القعدة ودفن هناك سنة ست وخمسين وستمائة. اهـ. وفي ((الأجوبة المرضية)) للشيخ ((عبد الوهاب الشعراني)) : ومما أنكروه على الشاذلي قوله في حزب البحر: نسألك العصمة في الحركات والسكنات والخطرات والإرادات وقالوا: العصمة لا تكون غلا للأنبياء، فكيف يسألها وما ذاك إلا من الجهل وأجاب عنه بأنه ما سأل 'لا لعلمه بأنه غير معصوم، والمراد الحفظ وأنها واجبة للأنبياء لمقام النبوة وجائزة للأولياء لا لمقام الولاية بل ربما يكون لخاصية في نفس الولى. اهـ. ملخصاً. وفي شرح العارف ((عبد الرحمن بن محمد الفارسي)) الحزب الشاذلي: وجد بخط سيدى أبي العباس المرسي عن سيخه الشاذلي أنه كان يقول لي؛ إذا عرضت لك إلى الله تعالى حاجة فأقسم عليه بي وقال في حزبه في خطابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وتضرعه لربه سبحانه وتعالى: وليس من الكرم ألا تحسن إلا لمن أحسن إليك وأنت المفضال الغني؛ بل من الكرم أن تحسن لمن أساء إليك وأنت الرحيم العلي. فكتب عليه الشارح المذكور ما نصه: رأيت بخط سيدي عبد النور ما صورته: فيه إشكال وتوهم المخالفة؛ لقوله تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الإسراء 7] . وكذا وجدت منسوباً لسيدي ((أبي عبد الله بن عباد)) ما نصه: ينبغي أن يسقط إليك من قوله أحسن وأساء للآية الكريمة، غير أنه لا يقدر أحد أن يبدل لفظ الشيخ لأنه يرى من نور الولاية ما لا يراه غيره. انتهى ما نقله الشارح باقتصار. وأنت تعلم أن باب التأويل واسع، ومنه الحمل على المشاركلة أو المجاز إن كنت تدافع. وكذا في بعض أحزابه كلمات تصوف، تؤول بالتكلف وكذا التوسل والإقسام بغير الميلك العلام، كالنبي الكريم عليه أفضل الصرلاة والسلام. وهو كما قاله شارحه محل خلاف، بين الأئمة الأسلاف فمنهم من قصره على سيد المرسلين كالشيخ عز الدين، ومنهم من جوزه بكافة الصالحين ومنهم من خصه برب العالمين وستمر بك الأدلة إن شاء الله تعالى مفصلة في هذه المجلة، فخذ ما أجمل الآن وكن من الشاكرين. الفصل الثالث: [المعترضون على الصوفية كثيرون] قوله فيما مر آنفاً: (كما تتبع ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين، تتبع أيضاً الحلاج الحسين بن منصور ولا زال يتتبع الأكابر ... إلى آخره) فتهور بارد وتشنيع كاسد وقول عاطل ينبغي أن لا يصدر عن مثل هذا الفاضل لأن الشيخ ابن تيمية ليس أول معترض عليهم وعلى أمثالهم من أرباب الوحدة فكم له سلف في ذلك، وكم له محذر عن تلك المهالك. فليت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 شعري لم خصه دون الناس القادحين، وجعله سبابة التندم (1) من بين العالمين السالفين وستقف إن شاء الله تعالى على تفصيل الأقوال بالبيان المبين ي، مع أنى ممن يحسن الظن بالشيخ الأكبر محي الدين، ولا أعد نفسي من المنكرين غير أنى مع ممن يحرم مطالعة كتبه المخالف ظاهرها للشرع المبين فأقول: (ترجمة الإمام محي الدين بن العربي) أما ابن عربي - بلا ألف ولام أوبهما - فهو أبو بكر محي الدين محمد ابن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي، نفعنا الله بعلومه الربانية وجعلنا من المتمسكين بالكتاب والسنة السنية ولد بمرسية سنة ستين وخمسمائة ونشأ بها وانتقل إلى أشبيلية سنة ثمان وسبعين. ثم ارتحل وطاف البلدان فطرق بلاد الشام والروم والمشرق، ودخل بغداد وحدث بها بشىء من مصنفاته وله التآليف الكثيرة المشهورة وتوفي رحمه الله تعالى في الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة بدمشق في دار القاضي محي الدين بن الزكي وحمل إلى قاسيون فدفن في تربته المعلومة، كما قاله غير واحد من المؤرخين. قلت: وللشيخ المشار إليه، لا زالت الرحمة منهلة عليه: اختيارات في المسائل الفقهية وغيرها منها: بجواز مسح الرجلين في الوضوء. ومنها قوله: بجوار السجود في التلاوة إلى أي وجهة كانت. ومنها جواز إمامة المرأة للسناء والرجال ومنها قوله: إن الماء الذي تخالطه النجاسة ولم يتغير أحد أو صافه مطهر غير طاهر في نفسه. قال: وما أعرف هذا القول لأحد. ومنها أن غسل يوم الجمعة فرض، وإليه ذهب أيضاً بعض العلماء. . ومنها أنه لا يؤثر نزع الخف في طهارة القدم. ومنها أنه لا يجوز ان يسمى الله تعالى   (1) يشير بهذا إلى قول الشاعر: غيري جنى وأنا المعذب فيكمو ... فكأنى سبابة المتندم (م) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 مختاراً كما نقله عنه ((الجبلي)) ومنها الفول بإيمان فرعون. ومنها عدم القضاء على تارك الصلاة ومنها أنه لا حد لأقل الحيض. ومنها أن الحاضر إذا عدم الماء جاز له التيمم. ومنها القول بجواز عبور الجنب في المسجد والإقامة فيه وقراءته للقرآن إذا لم يكن وارثاً إلا أن في القراءة كراهة. ومنها أن الطهارة للصلاة على الجنازة وسجود التلاوة ليست بشرط ومنها عدم انتفاض الطهارة بأكل لحوم الإبل، لكن المصلى بالوضوء المقدم عاص. قال: وهذا القول ما قاله به أحد قبلنا انتهى. وفي بعض هذه الأقوال يوافقه بعض الرجال كما سنبينه إن شاء الله تعالى في محله. وله اختيارات وأقوال أخر لا تسعها هذه المجلة، ومن أدارها فليرجع إلى فتوحاته وغيرها من تصنيفاته ففيها الغرائب، التي لا يدركها إلا ذو الذهن الثاقب والله سبحانه الموفق. والناس فيه ثلاثة أقسام: [الناس في ابن عربي أقسام ثلاثة] (القسم الأول) : من نص على التكفير بناء على كلامه المخالف للشريعة المطهرة وألفوا في ذلك الرسائل العديدة المطولة والمختصرة، فمنها للعلامة السخاوي، ومنها للفهامة المدقق السعد التفتازاني، ومنها للمحقق المنلا على القارى. ومنهم من ذكره في تصنيفاته ولم يؤلف فيه كتاباً مستقلاً كالإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، فإنه ذكره في ((لسان الميزان)) وحط عليه، ونسب إليه سوء الاعتقاد - وابي حيان المفسر في تفسيريه ((البحر والنهر)) قال في الشذرات: ولقد بالغ ابن المقوى في روضه فحكم بكفر من شك في كفر طائفة ابن عربي. ونقل الشيخ على القارئ عن شيخ الإسلام ((ابن دقيق العيد)) القائل في آخر عمره: لي أربعون سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله تعالى. وقد سألت شيخنا سلطان العلماء عبد العزيز ابن عبد السلام عن ابن عربي فقال: شيخ سوء كذاب. يقول بقدم العالم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ولا يحرم فرجاً. وقال: وسئل عنه شيخنا العلامة المحقق الحافظ المغتى المصنف ((أبو زرعة أحمد ابن شيخنا الحافظ العراقي الشافعي)) فقال: لا شك في اشتمال ((الفصوص)) المشهورة على الكفر الصريح الذي لايشك فيه، وكذلك فتوحاته المكية فإن صح صدور ذلك عنه واستمر عليه إلى وفاته فهو كافر مخلد في النار بلا شك - قال: وكذلك شيخ الإسلام ((سراج الدين البلقيني)) صرح بكفر ابن عربي - وكذا رضي أبو بكر محمد المعروف بابن الخياط، والقاضي شهاب الدين أحمد الناشري الشافعيان وجملة من العلماء. وقال العلامة أبو حيان عند تفسير قوله تعالى في المائدة {لقد كفر الذين قالوا} الآية (1) ما نصه: ذكر تعالى أن من النصارى من قال: إن المسيح هو الله، ومنهم من قال: هو ابن الله، ومنهم من قال: هو ثالث ثلاثة. وتقدم أنهم ثلاثة طوائف: ملكانية، ويعقوبية، ونسطورية، وكل منهم يكفر بعضهم بعضاً. ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تسربل بالإسلام ظاهراً وانتمى إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة، ومن ذهب ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج، والشوزى وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق وابن الفارض وأتباع هؤلاء كابن سبعين والششترى تلميذه وابن مطرف المقيم بمرسية، والصفار المقتول بغرناطة، وان التاج، وابن الحسن المقيم كان بلودقة وممن رأينا يرمى بهذا المذههب المعون العفيف التلمساني وله في ذلك أشعار كثيرة، وابن عياش المالقي الأسود الأقطيع المقيم كان بدمشق وعبد الواحد المؤخر المقيم كان بصعيد مصر والبلى العجمى الذي تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة من ديار مصر وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ الششترى المقيم كان بحارة زويلة في القاهرة والشريف عبد العزيز المنوفى وتلميذه عبد الغفار التومى.   (1) قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثلاث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد} [المائدة 73] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله تعالى ذلك - وشفقة على ضعفاء المسلمين، وليحذوا منهم اشد من الفلاسفة الذين كذبوا الله ورسله ويقولون بقدم العالم وينكرون البحث وقد أولع جهلة من ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله تعالى وأولياءه والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين. انتهى بحروفه. وقال العلامة القارى أيضاً: ثم اعلم أن من اعتقد حقية عقيدة ابن عربي فكافر بالإجماع من غير نزاع وإنما الكلام فيما إذا أول كلامه بما يقتضي حسن مرامه وقد عرفت من تأويلات من تصدي لتحقيق هذا المقام أنه ليس هناك ما يصح أو يصلح عنه دفع الملام. بقي من شك وتوهم أن هناك بعض التأويل إلا أنه عاجز عن ذلك القيل. فقد نص العلامة ابن المقرى كما سبق أن من شك في كفر اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر وهو أمر ظاهر وحكم باهر. وأما من توقف فليس بمعذور في أمره، بل توقفه سبب كفره. اهـ. وقال في آخر الرسالة: فالواجب على الحكام في دار الإسلام: أن يحرقوا من كان على هذه المعتقدات الفاسدة والتأويلات الكاسدة، فإنهم أنجس ممن ادعى أن علياً هو الله، وقد أحرقه على - رضي الله عنه - ويجب إحراق كتبهم المؤلفة ويتعين على كل أحد أن يبين فساد شقاقهم فإن سكوت العلماء واختلاف الآراء صار سبباً لهذه الفتنة وسائر الفتنة وسائر أنواع البلاء، فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة اللاحقة المطابقة للسعادة السابقة. آمين. انتهى. وقد أطال في كتابه البحث بما له وعليه، فإن أردته فارجع إليه. (القسم الثاني) : من يجعله من أكابر الأولياء العارفين، وسند العلماء العاملين بل يعده من جملة المجتهدين قال في ((الشذرات)) : قال الشيخ ((عبد الرءوف المناوي)) في ((طبقات الأولياء)) : كان عارفاً بالآثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 والسنن قوي المشاركة في العلوم أخذ الحديث عن جمع، وكان يكتب الإنشاء لبعض ملوك المغرب ثم تزهد وساح ودخل الحرمين والشام وله في كل بلد دخلها مآثر، انتهى. وقال بعضهم: برز منفرداً مؤثراً لتخلي والانعزال عن الناس ما أمكنه حتى إنه لم يكن يجتمع به إلا الأفراد ثم آثر التأليف فبرزت عنه مؤلفات لا نهاية لها تدل على سعة باعه، وتبحره في العلوم الظاهرة والباطنة وإنه بلغ مبلغ الاجتهاد في الاختراع والاستنباط وتأسيس القواعد والمقاصد التي لا يدري بها ولا يحيط بها إلا من طالعتها بحقها غير أنه وقع في بعض تصانيف تلك الكتب كلمات كثيرة أشكلت ظواهرها وكانت سبباً لاعتراض كثيرين لم يحسنوا الظن به، ولا يقولون كما قال غيرهم من الجهابذة المحققين. إن ما أوهمته تلك الظواهر ليس هو المراد، وإنما المراد أمور اصطلح عليها متأخرو أهل الطريق غيرة عليها حتى لا يدعيها الكذابون فاصطلحوا على الكناية عنها بتلك الألفاظ الموهمة خلاف المراد غير مبالين بذلك لأنه لا يمكن التعبير عنها بغيرها - انتهى. ومن هذا القسم المجد صاحب القاموس (1) فقد أثنى عليه بعبارات رائقة كما حكاها في ((الدر المختار)) والشيخ النابلسي (2) وابن كمال باشا والشيخ عبد الوهاب الشعراني والشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني المدنى وكثير من الفضلاء. (القسم الثالث) : من اعتقد ولايته وحرم النظر في كتبه. قال العلامة ((ابن عابدين)) في حاشية الدر و ((ابن العماد الحنبلي)) في تاريخه الشذرات: منهم الجلال السيوطي عليه الرحمة فإنه قال في كتابه ((تنبيه الغبي بتبرئه ابن العربي)) : والقول الفيصل في ابن عربي اعتقاد ولايته وتحريم النظر في   (1) مجد الدين الفيروزبادي. (2) الشيخ عبد الغني النابلسي الصوفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 كتبه فقد نقل عنه هو أنه قال: نحن قوم يحرم النظر في كتبنا قال: وذلك لأن الصوفية تواطأوا على ألفاظ اصطلحوا عليها وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها فمن أجمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر كفرهم نص على ذلك ((الغزالي)) في بعض كتبه. وقال: إنه شبيه بالمتشابه من القرآن والسنة ومن حمله على ظاهره كفر - انتهى ملخصاً. وقال العلامة الحصكفي في (الدر المختار في باب الردة) ما نصه: وفي معروضات شيخ الإسلام أبي السعود ما نصه: من قال عن ((فصوص الحكم)) للشيخ محي الدين إنه خارج عن الشريعة، وقد صنفه للإضلال ومن طالعه ملحداً ماذا يلزمه؟ أجاب: نعم فيه كلمات تباين الشريعة وتكلف بعض المتصلفين لإرجاعها إلى الشرع، لكنا تيقنا أن بعض اليهود افتراها على الشيخ قدس سره، فيجب الاحتياط بترك مطالعة تلك الكلمات وقد صدر أمر سلطاني بالنهي فيجب الاجتناب من كل وجه. انتهى، فليحفظ. انتهى. وقال الفهامة المدقق مولانا الوالد قدس سره في رحلته (1) ما نصه: مما هو خاتم التحقيق فصه، فاستطرد السؤال عن السادة الصوفية، أفاض الله تعالى علينا من فيوضاتهم القدسية، فقلت: أما من كان منهم كأبي القاسم الجنيد، مولاى سيد الطائفة سعيد بن عبيد عليه الرحمة والرضوان فذاك الذي لا ينتطح في علو شأنه كبشان. وأما من كان كالشيخ الأكبر قدس سره، فذاك الذي أشكل على الأكثر أمره، وقد كثر ما دحوه كما قد كثر قادحوه والذي أنا أميل إليه وأعول في سرى وعلنى عليه. أنه ظاهر كثير مما قاله هذا الصنف باطل، لايقول به ناقص جاهل فضلاً عن فاضل كامل، بل لا يكاد يخفى بطلانه على ابن يوم فكيف يخفى طول العمر على أولئك القوم فهم أجل من أن يقولوا بذاك، ويعتقدوا عقد عقائدهم على ما هناك فلابد أن يكون   (1) المفسر شهاب الدين الآلوسي في رحلته ((نشوة الشمول في السفر إلى إسلامبول)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 له معنى صحيح هم به قائلون وله نفس الأمر معتقدون وفي كهفه قائلون أن ذلك المعنى صعب المنال لايرقى إليه بسلالم المقال وإنما يرحل إليه على رواحل الرياضات والسهر ويهتدي للوقوف عليه بمصابيح الأذكار والفكر وكثيراً ما يتوقف ذلك على السلوك على يد عارف خريت (1) يزيل بأنفاسه وأنوار نبراسه عن عين سختيت (2) فالحزم الكف عن الوقيعة فيهم وشد الحزام للارتواء من وقيعة صافيهم نعم التكلم بمثل ذلك الكلام مما لا يخلوا عن كدر. نعم إلا أن تصح دعواهم: أن الانتفاع بذاك أكثر من الضرر وقد دل المعقول والمنقول على صحة ما قيل: لا ينبغي أن يترك الخير الكثير للشر القليل. لكن قيل: إن إثبات صحة تلك الدعوى أصعب عند كل أحد من رفع أحد ورضوى وسمعت من بعض من ينسب للعرفان: أن كلام القوم المشتمل على ذلك مثل بعض آى القرآن فهو وإن لم يحظ بجلالة قدره وصف الواصفين يضل الله به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين فقيل: ليس للقوم أن يضلوا أحداً فهم في ربقة التكليف لن يخرجوا منها أبداً. فقال: هم مظاهر لجميع الأسماء الإلهية فما عليهم أن ضل بكلامهم بعض البرية؟ فقيل له: هذا كعك من ذلك العجين ولا يكاد يلوكه ذو درد (3) من ضعفاء المؤمنين وأبدى بعض غير ما ذكر لما أبدوه عذراً فقال: إنما قالوا ما قالوه سكراً؟ ولعمري: إنه أبرد من هواء المحراب في كانون، ولا يكاد بروج على إطلاقه إلا على صبي أو مجنون ويرده أنهم أملوا منه للطلاب وكم وكم ملأوا منه إهاب كتاب وأدهى من ذلك وأمر ما قيل في الاعتذار عن حضرة الشيخ الأكبر: إن نحو ما في ((الفصوص)) مما يخالف الظواهر   (1) الخريت - كسكيت -: الدليل الحاذق (م) . (2) السخيت: الغبار الشديد (م) . (3) الدرد - محركة - ذهاب الأسنان (م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 والنصوص مما دسه بعض اليهود ليحل به من ضعفاء المؤمنين العقود ولا يكاد يقبل هذا إلا فتى، النقصان أبوه وأمه، والبلاهة - عافانا الله تعالى وإياكم - خاله وعمه. نعم قد دس من بغض على بعض العلماء وأدخل من دخل في الدين شيئاً من الافتراء، ثم ظهر الأمر للمنصف بالرجوع إلى نسخة المنصف أو بنحو ذلك مما تتضح به المسالك غلا أن ذاك عن هذا بمعزل وبعيد عنه بألف ألف منزل. وبالجملة، إن أمر التكلم والتدوين لا ينكشف غباره إلا عن أعين أرباب التمكين. ثم ما قلناه هو من بعض الأمور لا في جميع ما هو في كتب القوم مسطور، غذ منه ما هو حرى بالقبول يشهد له المعقول والمنقول ولم يتعرض له برد ولم يتعرض عليه أحد. ومنه ما هو من الأمور الكشفية ولا تعلق له أصلاً بالأمور الدينية، كالذي يذكر في شأن أرض السمسمة مما أكثر فيه الهياط والمياط (1) ولا يكاد يلج في خريطة ذهن جغرافي حتى يلج الجمل في سم الخياط فاعتقاد مثل هذا وإنكاره بحسب الظاهر في الديانة سيان، والأولى جعله من عالم المثال وتسليمه لأهل ذلك الشأن: [خفيف] وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار ومنه ما قيل عن اجتهاد ورأى، لكنه خالف ظواهر الأخبار والآى. فلا يبعد من قائله الغلط، فمن ذا الذي لم يغلط من المجتهد قط؟ من ذلك القول بنجاة فرعون فقد قال الشيخ الأكبر اجتهاداً وعز ناصر له فرعون وقد تناقض كلامه بذلك في كتابين فختم في ((الفصوص)) وختم على القول بنجاة وفتح في ((الفتوحات)) عليه باب الحين بل تناقض في الفتوحات نفسها كما لا يخفى على من أحاط خبراً بدرسها وقد غلظه بذلك معظم المتقدمين والمنتقدين ولكن قال المنصف منهم: غلطه فيه عفو كغلط سائر المجتهدين، ومن الشافعية من أكفر القائل بنجاة ذلك اللعين لمخالفته ما ثبت بإجماع أهل   (1) الضجيج والشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الصدر الأول من صدور المسلمين مع مخالفته لما نطقت به ظواهر الاى والأخبار النبوية كالحديث الذي ذكره العلامة ابن حجر الهيتمي في ((فتاواه الحديثية)) ، فقد تضمن أن فرعون وغلام الخضر عليه السلام طبعا على الكفر ولم يولدا كغيرهما على فطرة الإسلام والحق عندي عدم الإكفار في هذا الباب. وللجلال الدواني وهو شافعي رسالة في إيمانه (1) لكن أنكر نسبتها غليه الشهاب والعجب أن التشنيع على الشيخ الأكبر في هذه المسألة شائع بين كل غاد ورائح مع أنه اضطرب فيها هو أعظم منها من نجاة المهلكين غير قومي لوط وصالح والآيات الدالة على عدم نجاة أولئك المهلكين أظهر في المراد من الآيات الدالة على كفر ذلك اللعين وما أحسن قول ((مالك)) الإمام الحبر: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر وأشار ذلك الإمام إلى قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام فأقنع بذلك وإياك والتكفير فإنه لعمري أمر مر خطير. ولا تظن أن الخطأ في بعض المسائل ينقص شيئاً أو يورث شيئاً في حق الكامل ثم إني على العلات أقول غير مكترث باعتراض مكثار جهول: لا ينبغي لمن تلوث بالقاذورات الدنيوية وتلبث بأثقال الشهوات النفسانية عن العروج إلى الحظائر القدسية أن يدخل في مضايق القوم فيوجب على نفسه مزيد التعب واللوم وقد اشتهر عن بعضهم وتحقق أنه قال: من طالع كتبنا وليس منا تزندق وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني: إن بعض الخواص قال لشيخنا على الخواص: ما لي لا أفهم كلام أخي فلان؟ فقال: كيف تفهم كلامه وله ثواب واحد ولك ثوبان! وكم رأيت أنا من ترك الصلاة والصيام بل أخرج عنقه عن ربقة جميع شعائر الإسلام لما أنكر عليه من أنكر قرأ له قول الشيخ الأكبر: العبد رب والرب عبد ... فليت شعري من المكلف؟   (1) وهي رسالة ((إيمان فرعون)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وجعل يواري بالقطن المندوف، لهب الاعتراض الوهاج وينسج لعورته سترة من حلج قول ((الحسين بن منصور الحلاج)) : [هزج] جحودي لك تقديس ... وعقلي فيك منهوس فما آدم إلا كا ... وما في الكون إبليس إلى غير ذلك مما هو مبني على القول بوحدة الوجود التي أبى القول بها كثير من أرباب وحدة الشهود وهي على تقدير صحتها في نفس الأمر ليس فيها صريح نقل وإنها لطور ما وراء طور العقل فلا تصطاد بعنكبوت الفكر وإن دق. وإنما تفيض على طاهرى السر من جانب حضرة الفياض المطلق وقول الشيخ عبد الغني النابلسي عن ابن كمال: يجب على السلطان جبر الناس على القول بها على كل حال مما لا أرى له صحة أصلا وإن كان قد قاله فلا مرحباً به ولا أهلاً فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجبر على ذلك أحداً. وقولا الشيخ ((إبراهيم الكوراني)) إن كلمة التوحيد تدل على ذلك وإن تكلف له لا يتم أبداً والإمام الرباني مجدد الألف الثاني يقول: قد يعرض للسالك القول بذلك لكنه لا يبقى ولا يستقر عليه إذا ترقى بل يعلم بلامين أن هناك وجودين وحقيقتين متمايزتين، ويقول: أين التراب من رب الأرباب وذكر قدس سره أنه اعتراه ذلك في أثناء مسيره ثم ترقى عنه بفضل الله تعالى ولطفه سبحانه إلى غيره وأنت تعلم أن كثيراً من الفلاسفة يقول بذلك وكلامهم فيما ظاهر فيما يأتي أن يكون اعتقاد الوحدة حالاً من أحوال السالك. وبالجملة خطر القول بالوحدة كثير ولا يخفى ما هو الأسلم على الصغير والكبير وما كان الله تعالى بمقتضي فضله وعدله ليكلف العبد بما وراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 طور عقله ثم يرسل إليه رسولاً لا يفصح له بسلوك ذلك المنهاج بل بكل أمره إلى أن يفصح له بعد برهة من الزمان الحلاج: ونهاية الكلام تفويض أمر القائلين بذلك إلى الملك العلام مع اعتقاد أن منهم الأجلة الكبار، والسابقين لا يشق لهم غبار - انتهى. وإنما سقته بطوله لأنه جمع الأقوال بإشاراته الحسنة وتفصيله. (ترجمة ابن الفارض) (وأما ابن الفارض) فهو - على ما في ((تاريخ ابن خلكان)) - أبو حفص وأبو القاسم عمر بن أبي الحسن على بن المرشد بن علي الحموي الأصل المصري المولد والدار والوفاة المعروف بابن الفارض المنعوت بالشرف له ديوان شعر لطيف وأسلوبه فيه رائق ظريف. وكانت ولادته سنة ست وسبعين وخمسمائة بالقاهرة وتوفي بها يوم الثلاثاء في الثامن من جمادى الأولى سنة اثنين وثلاثين وستمائة ودفن من الغد بسفح المقطم. اهـ. باقتصار. وقال أبو الفلاح ((عبد الحي بن أحمد بن عماد)) في تاريخه ((الشذرات)) ولما قدم أبوه من حماة مصر فقطنها وصار يثبت الفروض للنساء على الرجال بين يدي الحكام ثم ولي نيابة الحكم فغلب عليه التلقيب بالفارض ثم ولد بمصر ((عمر)) في ذي القعدة سنة ست وستين وخمسمائة فنشأ تحت كنف أبيه في عفاف وصيانة وتزهد فلما ترعرع اشتغل بفقه الشافعية وأخذ الحديث عن ((ابن عساكر)) وغيره ثم حبب إليه الخلاء وسلوك طريق الصوفية فصار يسيح في الجبل ومرة إلى أوديته وفي بعض المساجد المهجورة في خربات القرافة مرة ثم يعود إلى والده وهكذا حتى ألف الوحشة وألفه الوحش فصار لا ينفر منه ومع ذلك لم يفتح عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فذهب إلى مكة وبقي في بواديها خمس عشرة سنة ثم رجع إلى مصر فأقام بقاعة الخطابة بالأزهر وعكف عليه الأئمة وقصد بالزيارة وذكر له بعض الكرامات والناس فيه صنفان كما علمت كما قال المناوى ما نصه: والحاصل أنه اختلف في شأن صاحب الترجمة وابن عربي والعفيف التلمساني والتمونوي وابن هود وابن سبعين وتلميذه الششترى وابن مظفر والصفار من الكفر إلى القطبانية. وذكر التصانيف من الفريقين في هذه القضية ولا أقول كما قال بعض الأعلام: سلم تسلم والسلام بل أذهب إلى ما ذهب إليه بعضهم: إنه يحب اعتقادهم وتعظيمهم ويحرم النظر في كتبهم على من لم يتأهل لتنزيل ما فيها من الشحطات على قوانين الشريعة المطهرة وقد وقع لجماعة من الكبار الرجوع عن الإنكار. اهـ. وقال الكمال الأذفوى: وأحسن ديوانه القصيدة التي مطلعها: [كامل] قلبي يحدثني بأنك متلفى ... روحى فداك عرفت أم لم تعرف واللامية التي أولها: هو الحب فاسلم بالحشى ما الهوى سهل. والكافية التي أولها: ته دلالا فأنت أهل لذاكا. قال: وأما النائية فهي عند أهل العلم - يعني الظاهر - غير مرضية، مشعرة بأمور ردية وكان عشاقاً يعشق مطلق الجمال وذكر الفوصى في ((الوحيد)) أنه كان للشيخ جوار بالهنسا يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشبابة وهو يرقص ويتواجد ولكل قوم مشرب! وقيل: لما حضرته الوفاة رأى الجنة مثلت له فبكى وقال: [بسيط] إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي فقيل له: هذا مقام كريم. فقال: رابعة وهي امرأة تقول: ((وعزتك ما عبدتك رغبة في جنتك بل لمحبتك وليس هذا ما قطعت عمري في السلوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 غليه وقد شنع عليه المنكرون في ذلك فقالوا: لما كشف له الغطاء وتحقق أنه غير الله وأنه لا حلول ولا اتحاد قال ذلك ورؤى في النوم فقيل له: لم لا مدحت المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في ديوانك؟ فقال: [طويل] أرى كل مدح في النبي مقصراً ... وإن بالغ المثنى عليه وأكثراً إذا الله أثنى بالذي هو أهله ... عليه فما مقدار ما يمدح الورى ويقال: إنه لما نظم قوله: [كامل] وعلى تفنن واصفيه بوصفه ... يفنى الزمان وفيه مالم يوصف فرح وقال: لم يمدح بمثله النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعض الناس يقول: باطن كلامه كله مدح فيه عليه الصلاة والسلام. وأنت تعلم أن غالبه لا يصلح لذلك. اهـ. ملخصاً. وكتب شيخنا أبو يوسف مصره، من أحيا القلوب بترغيبه وزجره: السيد محمد امين افندي واعظ الحضرة القادرية في بغداد المحمية المتوفى سنة 1273 على عبارة (الجوهر) للعلامة محمد بن عبد الرحيم الحنفي المنقولة في تأويل بعض كلمات الصوفية وإنها قد صدرت منهم في شطحاتهم وسكوتهم وغيبتهم عن المؤاخذات الشرعية كبعض عباراتهم المشعرة بالحلول والاتحاد، مثل قولهم بعضهم: ما في الجبة إلا الله وأنا الحق وغير ذلك مما صاروا فيه هدفاً للنقاد ما نصه: أقول فإذا كان الأمر كذلك فما الواجب لتدوين هذه العبارات الموهمة في ذلك في الأسفار وإشاعتها في سائر الأمصار حتى تمسك بها الإباحية الأشرار وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار وانظر نظر منصف هل يعذر مدونها عند الله تعالى بناء على أن محملها في نفس الأمر كما ذكره المؤلف مع ماورد عن النبي الأمين المأمون - صلى الله عليه وسلم -: ((كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)) . ولعمر الله إن المنكر لها معذور كل العذر بل مثاب يوم الجزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 كل الثواب والأجر وكيف لا يجب إنكار ما سأذكره لك وهو مما دونوه جزء من كل وقل من جل وهو ما قاله ابن الفارض في تائيته الكبرى: [طويل] لها صلواتي في المقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل واحد ناظر إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وماكان لى صلى سواى ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعة وما قاله ((الجيلي عبد الكريم)) في كتابه المسمى ((بالإنسان الكامل)) في تركيب {قل هو الله أحد} من أن الضمير في ((قل)) يعود إلى الإنسان الكامل ويعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - ((وهو)) أيضاً يعود إلى الضمير الذي في ((قل)) العائد إليه لأن الضمائر إلا على متقدم بناء على زعمه فيكون المعنى الإنسان الكامل الله أحد تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؟ وهل هذا من الشحطات والسكر!؟ أم من الضلالات والكفر؟ نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. اهـ، ومن خطه نقلته. (ترجمة ابن سبعين) وأما ((ابن سبعين)) قطب الدين فهو ((أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر الأشبيلي المرسى)) الرقوطى الأصل، الصوفى المشهور. قال ((الإمام الذهبي)) : كان من زهاد الفلاسفة ومن القائلين بوحدة الوجود له تصانيف وأتباع يقدمهم يوم القيامة. اهـ. وقال الشيخ ((عبد الرءوف المناوى)) في ((طبقاته)) : درس العربية والآداب في الأندلس ثم انتقل إلى سبتة وانتحل التصوف على قاعدة زهد الفلاسفة وتصوفهم وعكف على مطالعة كتبهم وجد واجتهد وجال في بلاد المغرب ثم رحل وحج وشاع ذكره وكثرت أتباعه على رأى أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الوحدة المطلقة وأملى عليهم كلاماً في العرفان على رأى الاتحادية وصنف في ذلك أوضاعاً كثيرة وتلقوها عنه وأثبتوها في البلاد. وقد ترجمه ((ابن حبيب)) فقال: صوفى متفلسف متزهد يدخل البيت لكن من غير أبوابه وله أقوال تميل إليها بعض القلوب وينكرها بعض. وقال ((لأبي الحسن الششترى)) عندما لقيه وقد سأله عن وجهته وأخبره بقصد الشيخ ((أبي أحمد)) : إن كنت تريد الجنة فشأنك ومن قصدت وإن كنت تريد رب الجنة فهلم إلينا وأما ما نسب إليه من آثار السيمياء وغيره فكثير جداً وله علم الحروف والأسماء اليد الطولى. ومما شنع عليه أنه ذكر في ((كتاب البدء)) : أن صاحب الإرشاد ((إمام الحرمين)) إذا ذكر ((أبو جهل)) فهو ثالث الرجلين وأنه قال في شأن ((الغزالي)) : إدراكه (1) في العلوم أضعف من خيط العنكبوت. وقد حكى عن قاضي القضاة ((ابن دقيق العيد)) أنه قال: جلست معه في ضحوة إلى قرب الظهر وهو يسرد كلاماً تعقل مفرداته ولا تفهم مركباته والناس فيه بين مكفر ومقلد وتوفي بمكة - زادها الله شرفاً - سنة تسع وستين وستمائة اهـ. (ترجمة الحلاج) (وأما الحلاج) فهو على ما قال ((ابن خلكان)) : أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج من أهل البيضاء وهي بلدة بفارس ونشأ بواسطة والعراق وصحب ((ابا القاسم الحنيد)) وغيره والناس في أمره مختلفون فمنهم من يبالغ في تعظيمه ومنهم من يكفره ورأيت في ((مشكاة الأنوار)) لأبي حامد الغزالي فصلا طويلا في حاله وقد اعتذر عن الألفاظ التي كانت تصدر   (1) (ص. م) أدركته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 عنه مثل قوله: أنا الحق: ما في الجبة إلا الله وهذه الإطلاقات التي ينبة السمع عنها وعن ذكرها وحملها على محامل حسنة وأولها. قال: هذا من فرط المحبة وشدة الوجد وجعل هذا مثل قول القائل: [رمل] : أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا. اهـ وقال ((شهاب الدين بن أبي عدسة)) المتوفى سنة 856 في تاريخه ((نظم الجمان)) ما نصه: قال ((الحافظ الذهبي)) في ((العبر)) : إن ((الحلاج)) سافر إلى الهند وتعلم السحر وحصل له به حال شيطاني وهرب منه الحال الإيماني ثم بدت منه كفريات أباحت دمه وكسرت صنمه واشتبه على الناس السحر بالكرامات فضل به خلق كثير كداب من مضى ومن يكون إلى مقتل الدجال. والمعصوم من عصمه الله تعالى. وقال أيضاً: قال ناس ساحر فأصابوا، وقال ناس: به مس من جنون فما أبعدوا لأن الذي كان يصد منه لا يصدر عن عاقل إذ ذلك موجب حتفه أو هو كالمصروع او المصاب الذي يخبر بالمغيبات وقال ناس من الأنعام: بل هو رجل عارف ولى لله تعالى، صاحب كرامات فليقل ما شاء فجهلوا من وجهين: أحدهما أنه ولى. والثاني: أن الولى يقول ما شاء فلن يقول إلا الحق. قال ((الصولى)) : جالست ((الحلاج)) فرأيت جاهلا يتغافل وغبياً يتباله وفاجرا يتزهد وكان ظاهره أنه ناسك فإذا علم أن أهل بلد يرون الاعتزال اعتزل أو التشنيع تشيع أو السنن تسنن. وكان يعرف الشعبذة واليكمياء والتطبب وادعى الربوبية وصار يقول لأصحابه: أنت آدم ولهذا أنت نوح ولهذا أنت محمد ويدعى التناسخ وأن أرواح الأنبياء إليهم. وقال ((ابن الشحنة)) : وجدوه يقول: من نظف بيتاً وصلى فيه كذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وطاف به كذا وتصدق بكذا أغناه عن الحج ونقله عن كتاب للحسن البصري فلم يوجد وقد أفتى العلماء بقتله. وقال ((السلمى)) في ((تاريخ الصوفية)) : ((الحلاج)) كافر خبيث قتل في ذي القعدة سنة ثلاثمائة وتسع وقد هتك ((الخطيب)) حاله في ((تاريخه)) وأوضح أنه كان ساحراً مموها سيئ الاعتقاد. (وقال) ((القشيري)) في ((الرسالة)) في (باب حفظ قلوب المشايخ) : ومن المشهور أن ((عمرو بن عثمان)) دخل عليه وهو يكتب شيئاً بمكة في أوراق فقال له: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن. قال غير واحد: إن علماء بغداد اتفقوا على كفره ثم أجمعوا على قتله وصلبه. (قلت) : وهو أعرف وأعلم بحاله منا وتخطئه واحد أولى من تخطئه إجماع العلماء في ذلك العصر، وأمره إلى الله سبحانه وتعالى اهـ. بحروفه. (وقال) : الفاضل ((ابن الأثير)) في تاريخه ((الكامل)) : وفي سنة 309هـ قتل ((الحسين بن منصور الحلاج)) الصوفى وأحرق وكان ابتداء حاله أنه كان يظهر الزهد والتصوف ويظهر الكرامات ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ويمد يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب {قل هو الله أحد} ويسميها دراهم القدرة ويخبر الناس بما أكلوا وما صنعوا في بيوتهم ويتكلم بما في ضمائرهم فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول وبالجملة: فالناس اختلفوا فيه اختلافهم في ((المسيح عليه السلام)) . فمن قائل: إنه حل فيه جزء إلهي ويدعى فيه الربوبية. ومن قائل إنه ولى الله تعالى: وإن الذي يظهر منه جملة كرامات الصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ومن قائل: إنه مشعبذ وممخرق وساحر كذاب ومتكهن والجن تطيعه فتأتيه بالفاكهة في غير أوانها. وأما سبب قتله: فإنه نقل عنه عند عوده إلى بغداد إلى الوزير ((حامد بن العباس)) أنه أحيا جماعة وأنه يحيى الموتى وأن الجن يخدمونه وأنهم يحضرون عنده بما يشتهى وأنهم قدموه على جماعة من حواشي الخليفة وأن ((نصر الحاجب)) قد مال إليه غيره فالتمس ((حامد)) الوزير من ((المقتدر بالله)) أن يسلم إليه ((الحلاج)) وأصحابه فدفع عنه ((نصر الحاجب)) فألح الوزير فأمر ((المقتدر)) بتسليمه فأخذه وأخذ معه إنساناً يعرف ((بالشموى)) وغيره قيل: إنهم يعتقدون أنه إله، فقررهم فاعترفوا أنهم قد صح عندهم أنه إله وأنه يحيى الموتى وقابلوا ((الحلاج)) على ذلك فأنكره وقال: أعوذ بالله أن ادعى الربوبية أو النبوة وإنما أنا رجل اعبد الله عز وجل ثم جرى معه قصص يطول شرحها ثم كتب القاضي بإباحة دمه وكتب بعده من حضر المجلس وأرسل الوزير الفتاوى إلى الخليفة فأذن في قتله فسلم إلى صاحب الشرطة فضرب ألف سوط فما تأوه ثم قطع يده ثم رجله ثم قتل وأحرق بالنار فلما صار رماداً ألقى في الدجلة ونصب الرأس ببغداد وأرسل إلى خراسان لأنه كان له بها أصحاب. فأقبل بعض أصحابه يقولون: إنه لم يقتل وإنما ألقى شبهه على دابة وأنه يجئ بعد أربعين يوماً. وبعضهم يقول: لقيته على حمار بطريق النهروان وأنه قال لهم: لا تكونوا مثل هؤلاء البقر يظنون إني ضربت وقتلت - انتهى باقتصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 [رأى ابن حجر العسقلاني في الحلاج ومن على شاكلته] وقد سئل الحافظ الإمام ((شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني)) رحمه الله تعالى: في رجل ذكر أن ((حسيناً الحلاج)) ليس بولى وذكر بعض الفقهاء أن من اعتقد ولايته كفر ثم ذكر أيضاً أن ((عمر بن الفارض)) ليس بولى وأن في كلامه الاتحاد ثم ذكر أيضاً أن ((يحيى الصرصري)) يعتقد قدم الحروف ثم إن جماعة من الصوفية أنكروا عليه والمسئول من صدقات مولانا شيخ الإسلام أن يبين لنا حقيقة ذلك بما تطمئن به النفوس مثابين على ذلك إن شاء الله تعالى. فأجاب: الذي نقله الرجل المذكور عن ((الحلاج)) هو قول أهل العلم من الفقهاء وتابعهم أكثر أهل الزهد من المشايخ. وذلك واضح في رسالة الأستاذ ((أبي القاسم القشيري)) رحمه الله تعالى. وخالف في ذلك بعضهم. وغالب هؤلاء: الصوفية الذي مزجوا التصوف بالفلسفة ومنهم ((محيى الدين بن عربي)) ((وشرف الدين بن الفارض)) وكلامهم في الاتحاد ظاهر. ففي كلام ((ابن عربي)) في ((الفصوص)) من ذلك فضائح وفي القصيدة التائية الكبرى ((لابن الفارض)) التصريح بالاتحاد والحث عليه وقد تأول ذلك كثير من أهل العلم وذكروا له وجوها من التأويل ولكن ظاهر كلامهم منابذ لظاهر كلام أهل المشرع. وأما قول الرجل المذكور: إن من اعتقد ولاية ((الحلاج وابن الفارض)) كفر، فليس بجيد منه لأن إطلاق الكفر على من اعتيد شيئاً محتملا خطأ. وأما قوله في حق ((الصرصري)) فهو كما قال فكلامه صريح فيما ذكر وهو على طريقة الحنابلة ولهم في ذلك منازعات وأما إطلاقه: أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ((الحلاج)) ليس بولى فهو على حكم الظاهر والله أعلم بالسرائر قاله ((أحمد ابن علي بن حجر الشافعي)) - انتهى. قال ((أحمد بن خلكان)) : والحلاج - بفتح الحاء وتشديد اللام - وإنما لقب بذلك لأنه جلس على حانوت حلاج واستقضاه شغلاً فقال الحلاج: أنا مشتغل بالحلج فقال له: امض في شغلي حتى أحلج عنك فمضى الحلاج فتركه فلما عاد رأى قطنه جميعه محلوجاً. انتهى باقتصار. وحيث تبين لك أقوال العلماء فيه اتضح لك سقم كلام ((العلامة ابن حجر)) بظاهره وخافيه ولا بأس بأن نذكر شيئاً من كلام شيخ الإسلام ((ابن تيمية)) لتقف على حججه الساطعة المرضية. [ابن تيمية يرد القول بولاية الحلاج من وجوه] فأقول: قد قال في بعض فتاويه ما نصه: إن القول بولاية الحلاج مردود بوجوه: (منها) : أن الأئمة الدين وفقهاء المسلمين اتفقوا على حل دم الحلاج وأمثاله. (الثاني) : أن الاطلاع على أولياء الله تعالى لا يكون إلا ممن يعرف طرق الولاية وهو الإيمان والتقوى ومن أعظم الإيمان والتقوى أن يجتنب مقالة أهل الإلحاد كأهل الحلول والاتحاد. فمن وافق الحلاج على مثل هذه المقالة لم يكن عارفاً بالإيمان والتقوى فلا يكون عارفاً بطرق أولياء الله تعالى فلا يجوز أن يميز بين أولياء الله سبحانه وغيرهم. (الثالث) : أن هذا القائل قد أخبر أنه يوافقه على مقالته فيكون من جنسه فشهادته له بالولاية شهادة اليهودي والنصراني والرافضي لنفسه أنه على الحق وشهادة المرء لنفسه فيما لا يعلم فيه كذبه ولا صدقه مردودة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 فكيف تكون لنفسه ولطائفته الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم أهل الضلال؟ (الرابع) : أن يقال: أما كون ((الحلاج)) عند الموت فيما بينه وبين الله تعالى أو لم يتب فهذا غيب يعلمه الله سبحانه وتعالى منه. وأما كونه كان يتكلم بهذا عند الاصطلام (1) فليس كذلك بل كان يصنف الكتب ويقوله وهو حاضر يقظان وقد تقدم أن غيبة العقل تكون عذراً في رفع القلم، وكذلك الشبهة التي ترفع معها قيام الحجة قد تكون عذراً في الباطن وإن لم تكن عذراً في الظاهر فهذا لو فرض لم يجز أن يقال: قتل ظلماً ولا يقال له إنه موافق له على اعتقاده ولا يشهد بما لا يعلم فكيف إذا كان الأمر بخلاف ذلك؟ وغاية المسلم المؤمن إذا عذر الحلاج أن يدعى فيه الاصطلام أو الشبهة وأما أن يوافقه على ما قتل عليه فهذا حال أهل الزندقة والإلحاد. وكذلك من لم يجوز قتل مثله فهو مارق من دين الإسلام ونحن إنما علينا أن نعرف التوحيد الذي أمرنا به ونعرف طريق الله سبحانه الذي أمرنا به وقد علمنا بكيهما: أن ما قاله الحلاج باطل وأنه يجب قتل مثله وأما نفس الشخص المعين هل كان في الباطن له أمر يغفر الله تعالى له من توبة أو غيرها فهذا أمر إلى الله تعالى ولا حاجة لأحد إلى العلم بحقيقة ذلك والله تعالى أعلم - انتهى.   (1) تقطيع الأعضاء فربما يقصد هنا الألم وما يسببه من غيبوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 * * * (مكتوب شيخ الإسلام ابن تيمية) (وقال أيضاً) من جملة كتاب كتبه سنة أربع وستمائة للشيخ ((أبي الفتح نصر المنبجي)) المتوفى سنة 719 ما نصه: وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتاباً اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارة لطيفة إلى حال هؤلاء ولم يكن القصد به والله أحداً بعينه وغنما الشيخ هو مجمع المؤمنين فعلينا أن نعنيه في الدين والدنيا بما هو اللائق به. وأما هؤلاء الاتحادية فقد أرسل إلى الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم وقد كتبت في ذلك كتاباً ربما يرسل إلى الشيخ. وقد كتب سيدنا الشيخ ((عماد الدين)) في ذلك رسائل - والله تعالى يعلم وكفى به عليماً - لولا أنى أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى السالكين إليه من أعظم الواجبات وهو شبيه بدفع من التتار عن المؤمنين ولم يكن للمؤمنين بالله تعالى ورسوله حاجة إلى أن يكشف أسرار الطريق وتهتك أستارها، ولكن الشيخ أحسن الله تعالى إليه يعلم أن مقصود الدعوة النبوية بل المقصود بخلق الخلق وإنزال الكتب وإرسال الرسل أن يكون الدين كله لله هو دعوة الخلائق إلى خالقهم بما قال تعالى: {إنا أرسلناك بالحق شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} [الأحزاب 45، 46] وقال سبحانه: {قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} [يوسف 108] وقال تعالى: {إنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض ألا إلى الله تصير الأمور} [الشورى 52، 53] . وهؤلاء موهوا على السالكين التوحيد - الذي أنزل الله تعالى به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الكتب وبعث به الرسل - بالاتحاد الذي سموه توحيداً وحقيقته تعطيل الصانع وجحود الخالق. وإنما كنت قديماً ممن يحسن الظن بابن عربي وتعظيمه لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من ((الفتوحات والكنه، والمحكم المربوطة والدرة الفاخرة ومطالع النجوم)) ونحو ذلك ولم يكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ولم نطالع (الفصوص) ونحوه وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه ونكشف حقيقة الطريق فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء وجب البيان. وكذلك كتب إلينا من أطراف الشام رجال سالكون أهل صدق وكلب أن أذكر النكت الجامعة لحقيقة مقصودهم والشيخ - أيده الله تعالى بنور قلبه وذكاء نفسه وحق قصده - من نصحه للاسلام وأهله ولإخوانه السالكين يفعل في ذلك ما يرجو به رضوان اله سبحانه ومغفرته في الدنيا والآخرة. هؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر لم يعرف لهم خبر من حين ظهرت دولة التتار وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين وذلك أن القسمة رباعية فإن كل واحد من الاتحاد والحلول إما معين في شخص وإما مطلق أما الاتحاد والحلول المعين كقول النصارى والغالية في الأئمة من الرافضة وفي المشايخ من جهال الفقراء والصوفية فإنهم يقولون به في معنى إما بالإتحادية كاتحاد الماء واللبن وهو قول ((اليعقوبية)) وهم السودان ومن الحبشة والقبط وإما بالحلول وهو قول ((النسطورية)) وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول ((الملكانية)) . (وأما) الحلول المطلق: وهو أن الله تعالى بذاته حال في كل شيء فهذا تحكيه اهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية وكانوا يكفرونهم بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام: فما علمت أحداً سبقهم غليه إلا من أنكر وجود الصانع مثل فرعون والقرامطة وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض هي نفس وجود المخلوقات فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره ولا أنه رب العالمين ولا أن غنى وما سواه فقير ولكن تفرعوا على ثلاثة طرق وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم لأنه أمر مبهم. (الأول) أن يقولوا: عن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها أبدية أزلية حتى الحيوان والنبات والمعادن والحركات والسكنات وأن وجود الحق فاض على تلك الذوات فوجودها وجود الحق وذواتها ليست الحق ويفرقوا بين الوجود والثبوت فما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك. ويقولون: إن الله سبحانه لم يعط أحداً شيئاً ولا أغنى أحداً ولا أسعده ولا أشقاه وإنما وجوده فاض على الذوات فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك. ويقولون: إن هذا هو سر القدر وإن الله تعالى إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في العدم خارجاً عن نفسه المقدسة. ويقولون: إن الله تعالى لا يقدر أن يغير ذرة من العالم وأنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها الله سبحانه فيكون علمهم وعلم الله تعالى من معدن واحد وأنهم يكونوا أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسل. ويقولون: إنهم لم يعبدوا غير الله ولا يتصور أن يعبدوا غير الله تعالى. وأن عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله سبحانه. وأن قوله تعالى {وقضى ربك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء 23] معنى حكم لا معنى أمر فما عبد غير الله في كل معبود فإن الله تعالى ما قضى بشيء إلا وقع. ويقولون إن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية. وإن قوم نوح قالوا {لا تذرن آلهتيكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً} [نوح 23] لأنهم لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منهم لأن الحق في كل معبود وجهاً يعرفه من عرفه وينكره من أنكره. وأن الفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية وأن العارف منهم يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد فإن الجاهل يقول: هذا حجر وشجر والعارف يقول: هذا محل إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر فإن النصارى إنما كفروا لأنههم خصصوا أن عباد الأصنام ما أخطأوا إلا من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر والعارف يعبد كل شئ والله أيضاً يعبد كل شئ لأن الأشياء غذاؤه بالأسماء والأحكام وهو غذاؤها بالوجود وهو فقير إليها وهي فقيرة غليه وهو حليل كل شئ بهذا المعنى ويجعلون أسماء الله الحسنى هي مجرد نسبة وإضافة بين الوجود والثبوت وليست أموراً عدمية. ويقولون: من أسمائه الحسنى العلي. عن ماذا وما ثم إلا هو؟ وعلى ماذا وما ثم غيره؟ فالمسمى محدثات وهي العلية لذاتها وليست إلا هو. وما نكح سوى نفسه وما ذبح سوى نفسه والمتكلم هو عين المستمع وإن ((موسى)) إنما عتب على ((هارون)) حيث نهاهم عن عبادة العجل لضيفه وعدم اتساعه وإن ((موسى)) كان أوسع في العلم فعلم أنهم لم يعبدوا إلا الله وأن أعلى ما عبد الهوى وأن كل من اتخذ إلهه هواه فما عبد إلا الله. ((فرعون)) كان عندهم من أعظم العارفين وقد صدقه السحرة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 قوله: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات 24] وفي قوله {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص 38] . وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين وأقول: إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول ((فرعون)) المنكر لوجود الخالق الصانع حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون ويقولون: نحن على قول فرعون وهذه المعاني كلها هي قول صاحب ((الفصوص)) والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} [الحشر 10] . والمقصود: أن حقيقة ما تضمنه كتاب ((الفصوص)) المضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاء به وهو ما إذا فهم المسلم بالاضطرار أن جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الأولياء والصالحين بل جميع عوام أهل الملل من اليهود والنصارى والصابئين يبرءون إلى الله تعالى من بعض هذا القول فكيف منه كله؟ ونعلم أن المشركين عباد الأوثان والكفار أهل الكتاب يعترفون بوجود الصانع الخالق البارئ المصور الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ربهم ورب آبائهم الأولين رب المشرق والمغرب ولا يقول أحد منهم: إنه عين المخلوقات. ولا نفس المصنوعات كما يقوله هؤلاء حتى إنهم يقولون: لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله. وهذا مركب من أصلين: (أحدهما) أن المعدوم شئ ثابت في العدم كما يقوله كثير من ((المعتزلة والرافضة)) وهو مذهب باطل بالعقل للكتاب والسنة والإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وكثير من متكلمة أهل الإثبات ((كالقاضي أبي بكر)) (1‍) كفر من يقول بهذا وإنما غلط هؤلاء من حيث لم يفرقوا بين علم الله بالأشياء قبل كونها وأنها مثبتة عنده في أم الكتاب في اللوح المحفوظ وبين ثبوتها في الخارج عن علم الله تعالى. فإن مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة أن اله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق قبل أن يخلقها فيفرقون بين الوجود العلمي وبين الوجود العيني الخارجي ولهذا كان أول ما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق 1-5] فذكر المراتب الأربعة: وهي الوجود العيني الذي خلقه وذكر الوجود الرسمي المطابق للفظي الدال على العلمي وبين أن الله تعالى علمه ولهذا ذكر أن التعليم بالقلم مستلزم للمراتب الثلاثة. وهذا القول - أعنى قول من يقول: إن المعدوم شئ ثابت في نفسه خارج عن علم الله تعالى - وإن كان باطلاً ودلالته واضحته لكنه قد ابتدع في الإسلام من نحو أربعمائة سنة وابن عربي وافق أصحابه وهو أحد أصلى مذهبه الذي في الفصوص. (والأصل الثاني) : أن وجود المحدثات المخلوقات هو عين وجود الخالق ليس غيره ولا سواه وهذا هو الذي ابتدعه وانفرد به عن جميع من تقدمه من المشايخ والعلماء وهو قول بقية الاتحادية لكن ابن عربي أقربهم إلى الإسلام وأحسن كلاماً في مواضع كثيرة - فإنه يفرق بين المظاهر والظاهر فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه ويأمر بالسلوك   (1) هو أبو بكر الباقلاني صاحب التمهيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات ولهذا كثير من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم فينتفعون بذلك وإن كانوا لا يفقهون حقائقه ومن فهمها منهم ووافقه فقد تبين قوله. (وأما) صاحبه ((الصدر الرومي (1)) ) فإنه كان متفلسفاً فهو أبعد عن الشريعة والإسلام ولهذا كان الفاجر ((التلمساني)) ((الملقب بالعفيف)) (2) يقول: كان شيخي القديم متروحناً متفلسفاً والآخر فيلسوفاً متروحناً يعني الصدر الرومي فإنه كان قد أخذ عنه ولم يدرك ((ابن عربي)) في كتاب ((مفتاح غيب الجمع والوجود)) وغيره يقول: إن الله تعالى هو الوجود المطلق والمعين كما يفرق بين الحيوان والجسم المطلق والجسم المعين والمطلق لا يوجد إلا في الخارج مطلقاً ولا يوجد المطلق إلا في الأعيان الخارجة فحقيقة قوله: إنه ليس سبحانه وجود أصلاً ولا حقيقة ولا ثبوت إلا نفس الوجود القائم بالمخلوقات ولهذا يقول هو وشيخه: إن الله تعالى لا يرى أصلاً وأنه ليس في الحقيقة اسم ولا صفه ويصرحون بأن ذات الكلب والخنزير والبول والعذرة عين وجوده. تعالى الله عما يقولون!! . وأما ((الفاجر التلمساني)) فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر فإنه لا يفرق بين الوجود والثبوت - كما يفرق ((ابن عربي)) - ولا يفر بين المطلق والمعين والثبوت - كما يفرق ابن عربي - ولا يفرق بين المطلق والمعين - كما يفرق ((الرومى)) - ولكن عنده ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه. وأن العبد إنما يشهد السوى ما دام محجوباً فإذا انكشف حجابه رأى أنه ما ثم غير يبين له الأمر ولهذا كان يستحل جميع المحرمات حتى حكى عنه   (1) جلال الدين الرومي صاحب ((المنثوى)) توفي 672هـ. (2) الشاعر عفيف الدين سليمان بن علي، اشتغل بالتصوف وشرح بعض كتبه توفي سنة 690 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الثقات: أنه كان يقول البنت والأم والأجنبية شئ واحد ليس في ذلك حرام علينا وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام فقلنا: حرام عليكم. وكان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما التوحيد في كلامنا. وكان يقول: أنا ما أمسك شريعة واحدة وإذا أحسن القول يقول: القرآن يوصل إلى الجنة وكلامنا يوصل إلى الله تعالى وشرح الأسماء الحسنى على هذا الأصل الذي له. ولد ديوان شعر قد صنع فيه أشياء وشعره في صناعة الشعر جيد ولكنه كما قيل: ((لحم خنزير في طبق صيني)) وصنف ((للنصيرية)) عقيدة. وحقيقة أمرهم: أن الحق بمنزلة البحر وأجزاء الموجودات بمنزلة أمواجه. وأما ((ابن سبعين)) فإنه في ((البدو والإحاطة)) يقول أيضاً بوحدة الوجود وأنه ما ثم غيره وكذلك ((ابن الفارض)) في آخر ((نظم السلوك)) لكن لم يصرح هل يقول بمثل قول التلمساني أو قول الرومي أو قول ابن عربي وهم إلى كلام التلمساني أقرب. ولكن ما رأيت فيهم من كفر هذا الكفر الذي ما كفره أحد قط مثل التلمساني. وآخر يقال له ((البلباني)) من مشايخ شيراز ومن شعره: [متقارب] وفي كل شئ له آية ... تدل على أنه عينه وأيضاً: [طويل] وما أنت غير الكون بل انت عينه ... ويفهم هذا الشر من هو ذائقه وأيضاً: [طويل] وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواكم وأيضاً: [كامل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ما بال عيسك لا يقر قرارها ... وإلام ظلك لا يني متنقلاً فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا وأيضاً: [سريع] ما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من حمد ولا ذم وإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشارع في الحكم وأيضاً: [بسيط] يا عاذلى أنت تنهاني وتأمرني ... والوجد أصدق نهاء وأمار فإن أطعك وأعص الوجد عدت عمي ... عن العيان إلى أوهام أخبار فعين ما أنت تدعوني إليه إذا ... حققته تره المنهى يا جاري وأيضاً: [طويل] وما البحر إلا الموج لا شئ غيره ... وإن فرقته كثرة المتعدد إلى أمثال هذه الأشعار وفي النثر ما لا يحصى ويوهمون الجهال أنهم مشايخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة مثل: ((سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ومالك ابن أنس والأوزاعي وإبراهيم بن أدهم وسفيان الثوري والفضيل بن عياض ومعروف الكرخي والشافعي وأبي سليمان وأحمد بن حنبل وبشر الحافي وعبد الله بن المبارك وشقيق البلخي)) ومن لا يحصى كثرة - إلى مثل المتأخرين مثل: ((الجنيد بن محمد القواريري وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان المكي)) ومن بعدهم إلى ((أبي طالب المكي)) - إلى مثل ((الشيخ عبد القادر الكيلاني والشيخ عدى والشيخ أبي البيان والشيخ أبي مدين والشيخ عقيل والشيخ أبي الوفاء والشيخ رسلان والشيخ عبد الرحيم والشيخ عبد الله اليونيني والشيخ القرشي)) وأمثال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجاز والشام والعراق ومصر والمغرب وخراسان من الأولين والآخرين. كل هؤلاء متفقون على تكفير هؤلاء ومن هو أرجح منهم وأن الله سبحانه ليس هو خلقه ولا جزء من خلقه ولا صفة لخلقه بل هو سبحانه وتعالى متميز بنفسه المقدسة بائن بذاته المعظمة عن مخلوقاته وبذلك جاءت الكتب الأربعة الإلهية من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن عليه فطر الله تعالى عباده وعلى ذلك دلت العقول. وكثيراً ما كنت أظن أن ظهور مثل هؤلاء أكبر أسباب ظهور التتار واندراس شريعة الإسلام وأن هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذاب الذي يزعم أنه هو الله فإن هؤلاء عندهم كل شيء هو الله ولكن بعض الأشياء أكبر من بعض وأعظم. أما على رأى صاحب ((الفصوص)) فإن بعض المظاهر والمستجليات يكون أعظم لعظم ذاته الثابتة في العدم وأما على رأى ((الرومي)) فإن بعض المتعينات يكون أكبر فإن بعض جزيئات الكلى أكبر من بعض وأما على البقية فالكل أجزاء منه وبعض جزيئات الكلى وبعض الجزء أكبر من بعض فالدجال عند هؤلاء مثل فرعون من كبار العارفين وأكبر من الرسل بعد نبينا ((محمد - صلى الله عليه وسلم - وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام)) فموسى قاتل فرعون الذي يدعى الربوبية ويسلط الله تعالى مسيح الهدى الذي قيل فيه إنه الله تعالى وهو برئ من ذلك على مسيح الهدى والضلالة الذي قال إنه الله.. ولهذا كان بعض الناس يعجب من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنه أعور)) وكونه قال: واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت. ((وابن الخطيب)) أنكر أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 هذا لأن ظهور دلائل الحدوث والنقص على الدجال أبين من أن يستدل عليه بأنه أعور. فلما رأينا حقيقة قول هؤلاء الاتحادية وتدبرنا ما وقعت فيه النصارى والحلولية ظهر سبب دلالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته بهذه العلامة فإنه بعث رحمة للعالمين. فإذا كثير من الخلق يجوز ظهور الرب في البشر أو يقول إنه هو البشر كان الاستدلال على ذلك بالعور دليلا على انتفاء الإلهية عنه. وقد خاطبني قديماً شخص من خيار أصحابنا كان يميل إلى الاتحاد ثم تاب منه وذكر هذا الحديث فبينت له وجهه وجاء إلينا شخص كان يقول: إنه خاتم الأنبياء الأولياء فزعم أن ((الحلاج)) لما قال: أنا الحق فكان الله تعالى هو المتكلم على لسانه كما يتكلم الجني على لسان المصروع وأن أصحابه لما سمعوا كلام الله تعالى من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من هذا الباب - فبينت له فساد هذا وأنه لو كان كذلك كان الصحابة بمنزلة ((موسى ابن عمران)) وكان من خاطبه هؤلاء أعظم من موسى لأن موسى سمع الكلام الإلهي من الشجرة وهؤلاء يسمعون من الجن الناطق وهذا يقوله قوم من الاتحادية لكن أكثرهم جهال لا يفرقون بين الاتحاد العام والمطلق الذي يذهب إليه الفاجر ((التلمساني)) وذووه وبين الاتحاد المعين الذي يذهب إليه النصارى والغالية. (وقد) كان سلف الأمة وسادات الأئمة يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود كما قال عبد الله بن المبارك والبخاري وغيرهما وإنما كانوا يلوحون تلويحاً وقل أن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان. وأما هؤلاء الاتحادية فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية ولكن السلف والأئمة اعلم بالإسلام وبحقائقه فإن كثيراً من الناس قد لا يفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 تغليظهم في ذم المقالة حتى يتدبرها ويرزق نور الهدى فلما اطلع السلف على سر القول نفروا منه وهذا كما قال بعض الناس متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء وذلك لأن متكلمهم ليس في قلبه تأله ولا تعبد فهو يصف ربه بصفات العدم والموات وأما المتعبد ففي قلبه تأله وتعبد والقلب لا يقصد إلا موجوداً لا معدوماً فيحتاج أن يعبد المخلوقات إما الوجود المطلق وإما بعض المظاهر كالشمس والقمر والبشر والأوثان وغير ذلك فإن قول الاتحادية يجمع كل شرك في العالم وهم لا يوحدون الله سبحانه وتعالى وإنما يوحدون القدر المشترك بينه وبين المخلوقات فهم بربهم يعدلون ولهذا حدث الثقة أن ابن سبعين كان يريد الذهاب إلى الهند وقال: إن أرض الإسلام لا تسعه لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء حتى النبات والحيوان وهذا حقيقة قول الاتحادية. وأعرف ناساً لهم اشتغال بالفلسفة والكلام وقد تألهوا على طريق هؤلاء الاتحادية فإذا أخذوا يصفون الرب سبحانه بالكلام قالوا: ليس بكذا ليس بكذا وصفوه بأنه ليس هو المخلوقات كما يقوله المسلمون لكن يجحدون صفات الخالق التي جاءت بها الرسل عليهم السلام. وإذا صار لأحدهم ذوق ووجد تأله وسلك طريق الاتحادية وقال: إنه هو الموجودات كلها. فإذا قيل له: أين ذلك النفي من هذا الإثبات؟ قال: ذلك وجدى وهذا ذوقي. فيقال لهذا الضال: كل ذوق ووجد لا يطابق الاعتقاد فأحدهما أو كلاهما باطل وإنما الأذواق والمواجيد نتائج المعارف والاعتقادات فإن علم القلب وحاله متلازمان فعلى قدر العلم والمعرفة يكون الوجد والمحبة والحال. ولو سلك هؤلاء طريق الأنبياء والمرسلين عليهم السلام الذين أمروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله واتبعوا طريق السابقين الأولين لسلكوا طريق الهدى ووجدوا برد اليقين وقرة العين فإن الأمر كما قال بعض الناس: إن الرسل جاءوا بإثبات مفصل ونفى مجمل والصابئة المعطلة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل. فالقرآن مملوء من قوله تعالى: {إن الله بكل شيء عليم - وعلى كل شيء قدير - وأنه سميع بصير وسع كل شيء رحمة وعلماً} وفي النفي {ليس كمثله شيء - ولم يكن له كفواً أحد - هل تعلم له سمياً - سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين} . (وهذا) الكتاب مع أني قد أطلت فيه الكلام على الشيخ أيده الله تعالى بالإسلام ونفع المسلمين ببركة أنفاسه وحسن مقاصده ونور قلبه فإن ما فيه نكت مختصرة فلا يمكن شرح هذه الأشياء في كتاب ولكن ذكرت للشيخ أحسن الله تعالى غليه ما اقتضى الحال أن أذكره وحامل الكتاب مستوفز عجلان وأنا أسأل الله العظيم أن يصلح أمر المسلمين عامتهم وخاصتهم ويهديهم إلى ما يقربهم وأن يجعل الشيخ من دعاة الخير الذين قال الله سبحانه فيهم: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران 104] انتهى. فاتضح لديك مما تلى عليك أن الشيخ ابن تيمية غير منفرد بالطعن فيمن ذكر ولم تحمله على ما قال نفسانية أو شحناء معاصرة حتى زبر ما زبر بل لما عنده من أنه أخذ بضبع القاصرين وأداء لواجب النصحية في الدين كما بين أيضاً غيره من العلماء العاملين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الفصل الرابع: في الكلام على ما نقله الشيخ ابن حجر من عبارة شيخ الإسلام مشتملاً على بيان مقصده وترجمة أحوال من ذكر بوجه مختصر [ابن حجر لا يلتزم أدب المناظرة في النقل] فأقول: قوله قال في بعض كلامه إلخ - لا يخفى عليك أنه كان الأولى أن يغزو الشيخ ابن حجر هذه العبارة إلى ما نقله منه وألا يريه بالحاصل عنه لأن هذا موضع خصام! فالحرى إتمام النقل ليتضح المرام على أنى أقول: إن لهذا النقل أصلاً ولا نقص ابن تيمية شيئاً عند ذوي الفضل إذا هو ممكن التوجيه بالوجه الوجيه كما سيتضح للمنصف النبيه إن شاء الله تعالى. (قوله في كتب الصوفية ما هو مبني) إلخ - التصوف كما قال الإمام الغزالي: تجريد القلب لله تعالى واحتقار ما سواه. قال: وحاصله يرجع إلى عمل القلب والجوارح وقا السخاوي: إن السرى السقطى قدس سره سئل عن التصوف فقال: اسم لثلاثة معان: وهو الذي لا يطفئنور معرفته نور وروعه ولا يتكلم بباطن ينقضه عليه ظاهر الكتاب ولا تحمله الكرامات من الله تعالى على هتك أستار محارم الله تعالى. انتهى. [الصوفى المثالى] والصوفى: من اتصف بذلك، (وقال) الشيخ ابن تيمية: إن هذا التعبير عن الزاهد بالصوفى حدث في أثناء المائة الثانية؛ لأن لباس الصوف كان يكثر في الزهاد ومن قال: إنه نسبة إلى الصفة التي ينسب إليها كثير من الصحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ويقال فيهم أهل الصفة أو نسبة إلى الصفاء أو الصف الأول أو صوفة بن مروان بن أد بن طابخة أو صوفة القفا - فهي أقوال ضعيفة، انتهى. وقال القطب النوراني الشيخ عبد القادر الكيلاني في كتابه (الفتح الرباني) : الصوفى من صفا باطنه وظاهره بمتابعة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فكلما ازداد صفاؤه خرج من بحر وجوده ويترك إرادته واختياره ومشيئته من صفاء قلبه. انتهى. وما أحسن قول من قال: [بسيط] تنازع الناس في الصوفى واختلفوا ... وكلهم قال قولاً غير معروف ولست أمنح هذا الاسم غير فتى ... صافى فصوفى حتى سمى الصوفى (واعلم) : أن الصنف الأول هم المقبولون عند القوم السالمون من القدح واللوم فقد قال سيد الطائفة الصوفية وإمام الطريقة الحقيقة الشرعية جنيد البغدادي عليه رحمة الهادي: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال: من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدي به في هذا العلم لأن علمنا ومذهبنا مقيد بالكتاب والسنة. (وقال) : أبو يزيد البسطامى لبعض أصحابه: قم حتى تنظر إلى هذا الرجل الذي قد شههر نفسه بالولاية - وكان رجلاً مشهوراً بالزهد - فمضينا فلما خرج من بيته ودخل المسجد رمى ببزاقة تجاه القبلة فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه، فقال: هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه؟ (وقال) : لو نظرتم إلى رجل أعطى الكرامات حتى تربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء فعل الشرعية وإلا فهي استدراج. (وقال) : أبو سليمان الداراني: ربما تقع في قلبي النكتة من نكت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة. (وقال) ذو النون المصرى: ومن علامات المحب لله سبحانه متابعة حبيب الله محمد - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله وأخلاقه وأوامره وسننه. (وقال) بشر الحافى: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال لي: ((يا بشر هل تدري بم رفعك الله تعالى من بين أقرانك قلت: قال: باتباعك سنتى وخدمتك الصالحين ونصيحتك لإخوانك ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار)) . (وقال) ابو سعيد الخرار: كل فيض باطن يخالفه ظاههر فهو باطل انتهى قاله القشيري في الرسالة. (وقال) سيدي الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره النوراني: جميع الأولياء لا يستمدون غلا من كلام الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعملون إلا بظاهرهما. (وقال) الشيخ الأكبر محي الدين من جملة أبيات افتتح بها الباب الثامن والثلثمائة من الفتوحات وهي: [رمل] فنجاة النفس في الشرع فلا ... تك إنسانا رأى ثم حرم واعتصم بالشرع في الكشف فقد ... فاز بالخير عبيد قد عصم كل علم يشهد الشرع له ... فهو علم فبه فلتعتصم فإذا خالفه العقل فقل ... طورك الزم مالكم فيه قدم [الصوفى المنحرف] وإن ترد أن تطلع على حقائق السلوك السنى والتصوف الإحساني فعليك بكتاب شيخنا السيد البدر أبي الطيب القنوجي - حماه الله - الذي سماه (رياض المرتاض وغياض العرباض) وكتاب (حظيرة القدس وذخيرة الأنس) له فإنهما غاية في الباب ونهاية في تلك الآداب ومن حصل له هذان السفران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فهو كما قيل: ((أللِّبَأ وابن طاب (1)) ) وأما غير هذا القسم من الصوفية كالمتصوفة المغايرين في حركاتهم وأفعالهم للسنة النبوية ((فهم المذمومون والجماعة المخالفون للطائفة المرضية)) فقد قال صاحب الطريقة المحمدية من بعد ما تكلم على البدعة: فظهر من هذا بطلان ما يدعيه بعض المتصوفة في زماننا إذا أمكر عليهم بعض أمورهم المخالفة للشرع الشريف: إن حرمة ذلك في العلم الظاهر وإنا أصحاب اعلم الباطن وأنه حلال فيه وإنكم تأخذون من الكتاب وإنا نأخذ من صاحبه محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا أشكلت علينا مسألة استفتيناها منه، فإذا حصل قناعة وإلا رجعنا إلى الله تعالى بالذات فنأخذ منه وإنا بالخلوة وهمة شيخنا نصل إلى اله تعالى فتكشف لنا العلوم فلا يحتاج إلى الكتاب والمطالعة والقراءة على الأستاذ وإن الوصول إلى الله تعالى لا يكون إلا برفض الظاهر والشرع ولو كنا على الباطل لما حصل لنا تلك الحالات السنية والكرامات العلمية من مشاهدة الأنوار ورؤية الأنبياء الكبائر وإنا إذا صدر منا مكروه أو حرام نبهنا بالرؤيا في المنام فنعرف بها الحلال والحرام وإن ما فعلناه مما قلتم إنه لحرام لم ننبه عنه في المنام فعلمنا أنه حلال إلى غير ذلك من النزهات. (وهذا) كله إلحاد وضلال لأنه صرح العلماء أن الإلهام ليس من أسباب المعرفة بالأحكام وكذلك الرؤيا خصوصاً إذا خالف الكتاب والسنة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام. انتهى. (وقال) الإمام الغزالي في الأحياء: من قال إن الباطن يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه للإيمان. (ونقل) الوالد عليه الرحمة في تفسيره عن الإمام الرباني مجدد الالف الثاني قدس سره أنه قال في مواضع عديدة في   (1) اللبأ - كعنب: أول اللبن في النتاج. وابن طاب: نوع من تمر المدينة منسوب إلى ((ابن طاب)) رجل من أهلها يريد أنه جمع بين نفيسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 مكتوباته: إن الإلهام ل يحل حراماً ولا يحرم حلالاً ففي المكتوب الثالث والأربعين من المجلد الأول: أن قوماً مالوا إلى الإلحاد والزندقة يتخيلون أن المقصود الأصلي وراء الشريعة حاشاً وكلاً؟ نعوذ بالله سبحانه من هذا الاعتقاد السوء فكل من الطريقة والشريعة عين الآخر لا مخالفة بينهما بقدر رأس الشعيرة وكل ما خالف الشريعة مردود وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة. (وقال ايضاً) في أثناء المكتوب السادس والثلاثين: للشريعة ثلاثة أجزاء: علم وعمل وإخلاص فما لم تتحقق هذه الأجزاء لم تتحقق الشريعة وإذا تحققت الشريعة حصل رضا الحق سبحانه وتعالى وهو فوق جميع السعادات الدنيوية والأخروية ورضوان من الله أكبر فالشريعة متكلفة بجميع السعادات ولم يبق مطلب وراء الشريعة فالطريقة والحقيقة اللتان امتاز بهما الصوفية كلتاهما خادمتان للشريعة في تكميل الجزء الثالث الذي هو الإخلاص فالمقصود منهما تكميل الشريعة لا أمراً آخر وراء ذلك - إلى آخر ما قال. (وقال) عليه الرحمة في أثناء المكتوب التاسع والعشرين بعد تحقيق كثير فتقرر أن طريق الوصول إلى درجات القرب الإلهي جل شأنه سواء كان قرب النبوة أو قرب الولاية منحصر في طريق الشريعة التي دعا إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصار مأموراً بها في آية: {قل هذه سبيل أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} [يوسف 108] وآية {قل إن كنتم تحبون الله ورسوله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران 31] تدل على ذلك أيضاً - إلى آخر ما قال. (قال) الوالد نفعنا الله تعالى به في تفسيره سورة الكهف: والذي ينبغي أن يعلم ان كلام العارفين المحققين وإن دل على أن لا مخالفة بين الشريعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 والطريقة والحقيقة في الحقيقة ولكنه يدل أيضاً على أن في الحقيقة كشوفاً وعلوماً غيبية ولذا تراهم يقولون: علم الحقيقة هو العلم اللدنى وعلم المكاشفة وعلم الموهبة وعلم الأسرار والعلم المكنون وعلم الوارثة، إلا أن هذا لا يدل على المخالفة فإن الكشوف والعلوم الغيبية ثمرة الإخلاص الذي هو الجزء الثالث من أجزاء الشريعة فهي بالحقيقة مترتبة على الشريعة ونتيجة لها ومع هذا ر تغير تلك الكشوف والعلوم الغيبية حكماً شرعياً ولا تقيد مطلقاً ولا تطلق مقيداً خلافاً لما توهمه بعضهم رقصة الخضر لا تصلح دليلاً. وكذا قول أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين من العلم: فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع منى هذا البلعوم)) لأن الخضر أوحى إليه إن قلنا بنبوته أو الإلهام كان شرعاً إذ ذاك. والوعاء الآخر يحتمل أن يكون علم الفتن. وما وقع من بني أمية وذم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأناس معينين منهم ولا شك أن بث ذلك في تلك الأعصار يجر إلى القتل - انتهى باختصار. وقد أطال في هذا البحث وأطاب فعليك به إن أردته فقلما تجده في كتاب. قال الشيخ ولى الله الدهلوي في التفهيمات - وقد ذكر عنه أنه أنكر وجود القطب والغوث والخضر والذي تدعيه الشيعة أنه المهدى وحق له ذلك -: فالسنى ما دام على شرطه من اعتقدا ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع والسكوت عما لا يثبت بها لا يعتقد ذلك ومن أثبت ذلك من الصوفية فإنه لم يثبت عن كتاب ولا سنة اللهم إلا الكشف وليس من أدلة الشرع والذي أفهم من كلامه أنه يريد أن هذا قول مبتدع باطل اعتقاده من حيث الشرع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ولو كان قطع الإنكار لم يستحق التكفير ولا التفسيق أيضاً. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 [ابن تيمية كان يتشدد في سد ذرائع البدع] واعلم أن الشيخ ابن تيمية عليه الرحمة لما كان كثير التشدد في سد ذرائع البدع وثقيل القول على من خالف ظاهر الشرع المتبع وغزير الاعتراض على بعض المصنفين المختلط كلامهم بفلسفة المتفلسفين ظن كثير ممن ليس له اطلاع بأقواله الفسيحة البقاع أنه ينكر كرامات الأولياء ويوهن ما يجري من الخارق على يد الأتقياء وهذا ظن فاسد كما سيعرفه كل بصير ناقد في رسالتنا هذه ليتحقق الرائج من الكاسد: فقد قال في كتابه (الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن) ما نصه: [رأى ابن تيمية في الولاية والأولياء] فأولياء الله تعالى المتقون: هم المهتدون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيفعلون ما أمر به وينتهون عما نهى عنه ويتقدون به فيما يبين لهم أن يتبعوه فيه فيؤيدهم الله تعالى بملائكته وروح منه ويقذف الله تعالى في قلوبهم من أنواره ولهم الكرامات التي يكوم الله عز وجل بها أولياءه المتقين. وخيار أولياء الله تعالى كراماتهم حجة في الدين أو لحاجة في المسلمين مثل ما كانت معجزات نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهي في الحقيقة تدخلفي معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام التي جمعت نحو ألف معجزة. وكرامات أصحابه والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جداً. (مثل ما كان) اسيد بن حضير يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيا أمثال السرج وهي الملائكة فنزلت تسمع لقراءته وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين. (وكان) سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 (وعباد بن بشير وأسيد بن حضير) خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة فأضاء لهما طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما رواه البخاري وغيره. (وخرجت أم أيمن) مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حساً على رأسها فرفعته فإذا دلو برشاء ابيض معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها. (وسفينة) مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر الأسد أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمشى معه الأسد حتى أوصله إلى مقصده. (وخالد بن الوليد) حاصر حصناً فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السم فشربه فلم يضره. (وعمر) - رضي الله عنه - نادى سارية من المنبر والقصة مشهورة ومثله كثير. (ومثل ذلك) ما جرى لأبي مسلم الخولاني الذي ألقي في النار فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجله وهي ترمي بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل تفقدون من متاعكم شيئاً حتى أدعوا الله تعالى فيه؟ فقال بعضهم: فقدت مخلاة، فقال: اتبعني فاتبعه فوجدوها قد تعلق بشئ فأخذها. (وطلبه) الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له: اشهد أني رسول الله قال: ما أسمع. قال: اشهد أن محمد رسول الله، قال: نعم. فأمر بنار فألقى فيها فوجدوه قائماً يصلي وقد صارت برداً وسلاماً فقال: عمر الحمد الله الذي لم يمتنى حتى أراني من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 (وصلة بن اشيم) مات فرسه وهو في الغزو فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق على منة ودعا الله سبحانه فأحياه له فلما وصل إلى بيته قال: يابني خذ سرج الفرى فإنه عارية: فأخذ سرجه فمات وقد وقع له مثير من ذلك. (وكان سعيد بن المسيب) في أيام الحرة يسمع الآذان من قبر البني - صلى الله عليه وسلم - أوقات الصلاة وكان المسجد قد خلا فلم يبق فيه غيره. (وكان إبراهيم التميمى) يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئاً. (وكان عبد الواحد بن زيد) أصابه الفالج فسأل ربه سبحانه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء فكان تطلق له أعضاؤه وقت الوضوء ثم يعود بعده. وهذا باب واسع قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع. (وأما) ما نعرفه نحن عياناً ونعرفه في هذا الزمان فكثير. (ومما) ينبغي أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل فإذا احتاج إليها الضعيف أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسدد حاجته ويكون من هو أكمل ولاية لله تعالى منه مستغنياً عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدى الخلق أو لحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمنه عليه الصلاة والسلام ومسيلمة الكذاب والحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة وكانت الشياطين تخرج رجله من القيد وتمنع السلاح أن ينفذ فيه وتسبح الرخامة إذا نقرها بيده وغير ذلك ولم ينفذ فيه الرمح حتى سمى الله فقتله. (وقال) فيه: وليس من شرط ولى الله تعالى أن يكون معصوماً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 بل يجوز ان يخفى عليه بعض علم الشريعة ويجوز ان يشتبه عليه بعض أمور الدين. (وقال) عمرو بن عبيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل وكثير من الناس يغلط هنا فيظن في شخص انه ولى وأنه يقبل منه كل ما يقوله ويفعله وإن خالف الشرع. (ولهذا) كان عمر يشاور الصحابة ويناظرهم وينازعونه في أشياء فيقرهم ولا يقول لهم: أنا محدث ملهم فينبغي لكم أن لا تعارضوني. اهـ باختصار. (وأنت) تعلم أن المعتزلة تنكر كرامات الأولياء وأهل السنة والجماعة يثبتونها والشيعة خصتها بالأئمة الإثنى عشر وبعض المالكية أنكرها أيضاً لسد الذرائع المتوصل بها إلى كل باطل بالحقيقة. (وقال) الجمهور: إن الخارق للعادة ينقسم إلى إرهاص ومعجزة وكرامة ومعونة واستدراج وإن أردت الإحاطة بالتفصيل والأدلة فعليك بالكتب المفصلة والله سبحانه الموفق. [لم يكن ابن تيمية وحده هو الذي حارب الفلاسفة] (قوله الفلاسفة) أبو الفتح الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) : الفلسفة باليونانية: محب الحكمة والفيلسوف هو فيلاسوفاً وفيلاً هو المحب وسوفاً هو الحكمة والحكمة قولية وفعلية ثم إنه فصلهما فإن أردته فارجع غليه. [الغزالي يرمى الفلاسفة بالكفر] (وقال) الإمام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال ما ملخصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فصل: [في أصنافهم وشمول سمة الكفر كافتهم] (واعلم) أنهم على كثرة فوقهم واختلاف مذاهبهم ثلاثة اقسام: الدهريون والطبيعيون والإلهيون. (فأما) الدهريون: فهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر للعالم وزعموا أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه وكذلك يكون أبداً وهؤلاء الزنادقة. (وأما) الطبيعيون فهم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعجائب الحيوان والنبات وأكثروا في علم تشريح الأعضاء فرأوا فيها العجائب فاضطروا إلى الاعتراف بقادر حكيم لكنهم جحدوا الأخرة وهؤلاء ايضاً الزنادقة. (وأما) الإلهيون: وهم المتأخرون منهم سقراط وهو استاذ افلاطون وأفلاطون أستاذ إرسطاطاليس هو الذي رتب لهم المنطق وهذب العلوم وهؤلاء ردوا على الصنفين الأولين ثم رد إرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن قبله من الإلهميين إلا أنه استبقى أيضاً من رذائل كفرهم فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وغيرهما. (ثم قال) : وعلومهم بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه ستى أقسام: رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية وسياسية وخلقية. (أما الرياضية) فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئات العالم وليس يتعلق شئ منها بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً. (وأما المنطقيات) فلا يتعلق شئ منها بالدين نفياً وإثباتاً. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 (قلت) لكن قال صاحب السلم فيه: [رجز] والخلف في جواز الاشتغال ... به على ثلاثة أقوال فابن الصلاح والنواوى حرما ... وقال قوم ينبغي أن يعلما والقولة المشهورة الصحيحة ... جوازه لكامل القريحة ممارس السنة والكتاب ... ليهتدي به إلى الصواب (قال) : وأما علم الطبيعيات فهو بحث عن أجسام العالم: السموات وكواكبها وما تحتها من الأجسام كالماء والهواء والتراب والنار والحيوان والنبات والمعادن وليس من شرط الدين إنكاره. (وأما الإلهيات) ففيها أكثر أغاليطهم وكفرهم. (وأما السياسيات) فمجموع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية السلطانية وقد أخذوها من الكتب المنزلة ونحوهما. (وأما الخلقية) فكلامهم فيما يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها وذكر أجناسها وكيفية معالجتها ومجاهدتها وإنما أخذوه من الصوفية وهم المتألهون فمزجوا كلام النبوة وكلام الصوفية بكتبهم فتولد من مزجهم آفتان: آفة في حق القابل وآفة في حق الراد - اهـ باختصار وتلخيص. وقال كاتب جلبي في كتابه (كشف الظنون) : العلوم الفلسفية أربعة أنواع: رياضية، ومنطقية وطبيعية وإلهية - (فالرياضية) على أربعة أقسام: (الأول) علم الارتماطيقى وهو معرفة خواص العدد وما يطابقها من معاني الموجودات التي ذكرها فيثاغورس نيقوماخس وتحته علم الوفق، وعلم الحساب الهندي وعلم الحساب القبطي والزنجي وعلم عقد الأصابع (الثاني) علم الجو مطريا وهو علم الهندسة بالبراهين المذكورة في إقليدس ومنها علمية وعملية وتحتها علم المساحة وعلم التكسير وعلم رفع الأثقال وعلم الحيل المائية والهوائية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 والمناظر والحرب. (الثالث) علم الاسطر قومياً وهو علم النجوم بالبراهين المذكورة في المجسطى وتحته علم الهيئة والميقات والزيج والأحكام والتحويل (الرابع) علم المويسقى، وتحته علم افيقاع والعروض. ((الثاني)) العلوم المنطقية وهي خمسة أنواع: (الأول) أنولوطيقيا، وهو معرفة صناعة الشعر. (الثاني) بطوريقا وهو معرفة صناعة الخطب. (الثالث) بوطيقا وهو معرفة صناعة الجدل (الرابع) الولوطيقى وهو معرفة صناعة البرهان (الخامس) سوفسطيقا وهو معرفة المغالطة. ((الثالث)) العلوم الطبيعية وهي سبعة أنواع: (الأول) علم المبادى وهو معرفة خمسة اشياء لا ينفعك عنها جسم وهي: الهيولى والصورة والزمان والمكان والحكمة. (الثاني) علم السماء والعالم وما فيه. (الثالث) علم الكون والفساد. (الرابع) علم حوادث الجو (الخامس) علم المعادن (السادس) علم النبات (السابع) علم الحيوان ويدخل فيه علم الطب وفروعه. ((الرابع)) العلوم الإلهية وهي خمسة انواع: (الأول) علم الواجب وصفته. (الثاني) علم الروحانيات وهي معرفة الجواهر البسيطة العقلية والفعالية التي هي الملائكة. (الثالث) العلوم النفسانية وهي معرفة النفوس المتجسدة والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية من الفك المحيط إلى مركز الأرض (الرابع) علم السياسيات، وهي خمسة أنواع: (الأول) علم سياسة البنوة (الثاني) علم سياسة الملك وتحته الفلاحة والرعايا وهو الأول المحتاج إليه في أول الأمر لتاسيس المدن. و (الثالث) علم قود الجيش ومكايد الحرب والبيطرة والبيزرة وآداب الملوك. (الرابع) علم المدنى معلم سياسة العامة وعلم سياسة الخاصة وهي سياسة المنزل (الخامس) علم سياسة الذات وهو علم الأخلاق. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقال العلامة ابن القيم في (إغاثة اللهان) كما نقله السفارينى: والفلاسفة فرق شتى لا يحصيهم غلا الله تعالى وأحصى منهم اثنتا عشرة فرقة مختلفة اختلافاً كثيراً منهم: أصحاب الرواق وأصحاب الظلة والمشاءون وهم شعية أرسطو. وفلسفتهم هي الدائرة اليوم وهي الني يحكيها ابن سينا والفارابي وابن الخطيب وغيرهم ومنهم الفيثاغوريسية والإفلاطونية ولا تجد منهم اثنين متفقين فملاحدتهم هم أهل التعطيل فغنهم عطلوا الشرائع والمصنوع عن الصانع بل عطلوا العالم والصانع. [رأى لابن تيمية في الفلاسفة] وقال الشيخ ابن تيمية في شرح الأصفهانية وابن القيم: ولأرسطوا أقوال يسخر منها العقلاء منها أن الله تعالى لا يعلم شيئاً من الموجودات لأنه لو علم شيئاً لكمل بمعلوماته كما حكاه عنه أبو البركات البغدادي فيلسفوف الإسلام. وحقيقة ما كان عليه من الكفر بالله ورسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وقد درج على إثره غير واحد من الملاحدة المتسترين بالإسلام ويعظمونه فوق تعظيم الأنبياء عليهم السلام ويسمونه المعلم الأول لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية ((والمعلم الثاني من الفلاسفة: أبو نصر الفارابي إلا أنه من فلاسفة الإسلام وهو الذي وضع لهم التعاليم الصوتية ووسع لهم المنطق. والمعلم الثالث: أبو علي بن سينا فإنه بالغ في تهذيب الفلسفة وقربها من شريعة الرسل. قال ابن القيم: وحسبك جهلاً بالله تعالى من يقول: إنه تعالى لو علم الموجودات لحقه الحلال واستكمل بغيره وحسبك خذلاناً إحسان الظن بهم وأنهم ذوو العقول وحسبك من جهلهم ما قالوه في سلسلة الموجودات وصدور العالم عن العقول العشرة والنفوس التسعة إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة لا علم له بما صدر عنه ولا قدرة له عليه ولا إرادة وأنه لم يصدر عنه إلا واحد قال الشيخ: وصرح أفلاطون بحدوث العالم وخالفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 تلميذه ارسطو وليس له حجة وانتهى باختصار والله ولي التوفيق. [هل يعلم الولى بلغيب؟] (قوله كدعوى أحدهم أنه مطلع على اللوح المحفوظ إلخ) قال الوالد عليه الرحمة في باب الإشارة من تفسير قوله تعالى: {ولا يمسه إلا المطهرون} ما نصه: وإذا كانت هذه الجملة صفة للكتاب المكنون المراد منه اللوح المحفوظ وأريد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام وكان المعنى لا يطلع عليه إلا الملائكة عليهم السلام كان في ذلك رد على من يزعم أن الأولياء يرون اللوح المحفوظ ويطلعون على ما فيه وحمل المطهرين على ما يعم الملائكة والأولياء الذين طهرت نفوسهم وقدست ذواتهم حتى التحقوا بالملائكة عليهم السلام لا ينفع في البحث مع أهل الشرع فإن مدار استدلالاتهم على الأحكام الشرعية الظواهر على أنه لم يسمع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه ينظر يوماً وهو مع أصحابه إلى اللوح المحفوظ واطلع على شئ مما فيه وقال لهم: إنى رأيت اللوح المحفوظ واطلعت على كذا وكذا فيه وكذلك لم يسمع عن النبي أجلة أصحابه الراشدين أنه وقع لهم ذلك. وقد وقعت بينهم مسائل اختلفوا فيها وطال نزاعهم في تحقيقها إلى أن كاد يغم هلال الحق فيها ولم يراجع أحد منهم لكشفها اللوح المحفوظ. وذكر بعض العلماء أن سدرة المنتهى ينتهي علم من تحتها إليها وأن اللوح فوقها بكثير وبكل من نطقت الآثار وهو يشعر بعدم اطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ ومع هذا كله من ادعى وقوع الاطلاع فعليه البيان وأنى به وهذا الذي سمعت مبني ما نطقت به الأخبار في صفة اللوح المحفوظ وأنه جسم كتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة. (وأما) إذا قيل فيه غير ذلك انجز البحث إلى وراء ما سمعت واتسعت الدائرة ومن ذلك قولهم: أن الألواح أربعة: لوح القضاء السابق على المحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 والإثبات هو لوح العقل الأول ولوح القدر أي لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كلمات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ ولوح النفس الجزيئة السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم شكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه ولوح الحيوان القابل للصور في عالم الشهادة ويقولون أيضاً ما يقولون، وينشد المنتصر له: [خفيف] وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار هذا ولا تظنن أن نفي رؤيتهم للوح المحفوظ نفي لكراماتهم الكشفية وإلهاماتهم الغيبية معاذ الله تعالى من ذلك وطرق إطلاع الله تعالى من شاء من أوليائه على من يشاء من علمه غير منحصر بإراءته اللوح المحفوظ ثم إن الإمكان مما لا نزاع فيه وليس الكلام إلا في الوقوع وورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجلة أصحابه كالصديق والفاروق وذي النورين وباب مدينة العلم - والنقطة تحت الباء - - رضي الله عنهم - أجمعين - انتهى. وقال في آخر تفسير سورة ((الرعد)) بعد أن نقل طبق هذا عنهم ما نصه: ((وهو كلام فلسفي)) انتهى. وقال الشيخ محيى الدين في الباب (316) من كلام في القلم ما بعضه: وعدد هذه الأقلام التي تجري على حكم كتابتها الليل والنهار ثلثمائة قلم وستون قلماً على عدد درج الفلك وكل قلم له علم من الله تعالى خاص ليس لغيره ومن ذلك القلم ينزل العلم إلى درجة معينة من درجات الفلك فإذا نزل في تلك الدرجة ما نزل من الكواكب التي يقطعها بالسير من الثمانية الأفلاك يأخذ من تلك الدرجة من العلم المودع من ذلك القلم بقدر ما تعطيه قوة روحانية ذلك الكوكب فيتحرك بذلك فلكها فيبلغ الأثر إلى العناصر فتقبل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ذلك الأثر بحسب استعداد ذلك العنصر ثم يسرى ذلك الأثر من العناصر في المولدات فيحدث فيها ما شاء الله بحسب ما قبلته من الزيادة والنقصان في جسم ذلك المولد أو في قواه أو في روحه وفي علمه وجهله ونسيانه وغفلته وحضوره وتذكره ويقظته كل ذلك بتقدير العزيز العليم - انتهى. (وقد) أطال الكلام ولتلزم خوف الملل دواتها الأقلام. وقال في الباب (307) من كلام كثير ما نصه: فلنذكر من ذلك حال أهل الله تعالى مع هذا الأمر الإلهي إذا نزل فيهم وذلك أن المحقق من أهل الله تعالى يماين نزوله وتخلله في الجو والأكر إذا فارق السماء الدنيا تارة ثلاث سنين وحينئذ يظهر في الأرض فكل شيء فكل شيء يظهر في الأرض فعند انقضاء ثلاث سنين من نزوله من السماء في كل نفس ومن هنا ينطق أهل الكشف بالغيوب التي تظهر عتهم فإنهم يرونها قبل نزولها ويخبرون بما يكون فيها في السنين المستقبلة وما تعطيهم أرواح الكواكب وحركات الأفلاك النازلة في خدمة الأمر الإلهي فإذا عرف المنجم كيف يأخذ من هذه الحركات ما فيها من الآيات أصاب الحكم وكذلك الكهان والعرافون إذا صدقوا عرفوا ما يكون قبل كونه أي قبل ظهور أثر عينه في الأرض وإلا فمن أين يكون في قوة الإنسان أن يعلم ما يحدث من حركات الأفلاك في مجاريها ولكن التناسب الروحاني الذي بيننا وبين أرواح العالمين بما يجري به في الخلق تنزل بصورتها التي اكتسبته من تلك الحركات والأنوار الكوكبية على أوزانها، فإن لها مقادير ما تخطئ وهمة هذا المنجم التعاليمي وهمة هذا الكائن قد انصبغت روحانيته بما توجهت إليه همته فوقعت المناسبة بينه وبين مطلوبه فأفاضت عليه روحانية المطلوب بما فيها في وقت نظره فحكم بالكوائن الطارئة في المستقبل. (وأما) العارفون فإنهم عرفوا أن لله وجها خاصاً في كل موجود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فهم لا ينظرون أبداً إلى كل شئ من حيث أسبابه وإنما ينظرون فيه من الوجه الذي لهم من الحق فينظر بعين حق فلا يحظئ ابداً إلى آخر ما قال مما لا يخطو إليه من الخيال. (وأنت تعلم) أن علماء الظاهر لا يقنعهم هذا مع وجود قوله سبحانه: {ولو كنت أعلم الغيب} [الأعراف: 188] {وأن الله عنده علم الساعة} [لقمان:34] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أتى كاهناً أو منجماً. .)) الحديث فتدبر ولا تغفل. قال الدالد عليه الرحمة في الإشارة من تفسير قوله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة} [لقمان: 34] الآية: ذكر غير واحد حكايات عن الأولياء متضمنة لإطلاع الله تعالى إياهم على ماعدا علم الساعة من الخمس وقد علمت الكلام في ذلك وأغرب ما رأيت ما ذكره الشعراني عن بعضهم: أنه كان يبيع المطر على أرض من يشترى من هـ شيئاً. ومن له عقل مستقيم لا يقبل مثل هذه الحكاية وكم للقصاص أمثالها من رواية! – انتهى. وقال أيضاً في باب الإشارة من سورة ((الصافات)) ما نصه: وتنزل الملائكة على الأولياء مما قال بعه الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وقد يطلقون على بعض الأولياء وأنبياء الأولياء قال الشعراني في ((رسالة الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح)) : أنبياء الأولياء هم ولى أقامة الحق تعالى في تجل من تجلياته وأقام له مظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - ومظهر جبريل عليه السلام فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا فزع من خطابه وفرغ من قلب هذا الولى عقل صاحب هذا المشهد مجيع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية ويأخذها هذا الولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 كما أخذها المظهر المحمدي فيرد إلى حسه وقد وعي ما خاطب الروح به مظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلم صحته علم يقين بل عين يقين فمثل هذا يعمل بما شاء من الأحاديث لا التفات له إلى تصحيح غيره أو تضعيفه فقد يكون ما قال بعض المحدثين بأنه صحيح لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام وقد يكون ما قالوا فيه: أنه ضعيف سمعه هذا الولى من الروح الأمين يلقيه على حقيقة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما سمع بعض الصحابة حديث جبريل في بيان الإسلام والإيمان والإحسان فهؤلاء هم أولياء الأنبياء ولا ينفردون قط بشريعة ولا يكون لهم خطاب بها إلا يتعريف أن هذا هو شرع محمد - صلى الله عليه وسلم - أو يشاهدون المنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - في حضرة التمثل الخارج عن ذاتهم والدخل المعبر عنه بالمبشرات في حق النائم غير أن الولى يشترك مع النبي في إدراك ما تدركه العامة في النوم حال اليقظة فهؤلاء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل مرتبة. تعبد هارون بشريعة موسى عليه السلام مع كونه نبياً وهم الذين يحفظون الشريعة الصحيحة التي لا شك فيها أنفسهم وعلى هذه الأمة فهم أعلم الناس بالشرع غير أن غالب علماء الشريعة لا يسلمون لهم ذلك وهم لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم لأنهم ليسوا مشرعين فهم حفاظ الحال النبوي والعلم اللدنى والسر الإلهى وغيرهم حفاظ الأحكام الظاهرة وقد بسطنا الكلام على ذلك في الميزان - انتهى. وقال أيضاً فيها: اعلم أن بعض العلماء أنكر نزول الملك على قلب غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدم ذوقه له والحق أنه ينزل ولكن بشريعة نبيه عليه الصلاة والسلام فالخلاف إنما ينبغي أن يكون فيما ينزل به الملك لا في نزول الملك وإذا نزل على غير نبي لا يظهر له حال الكلام أبداً إنما يسمع كلامه ولا يرى شخصه أو يرى شخصه من غير كلام فلا يجمع بين الكلام والرؤية إلا نبي، والسلام - انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 (ترجمة ابن سينا) قوله (كابن سينا) - هو كما في تاريخ ابن الوردى وابن خلكان وغيرهما: أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا البخاري والده من بلخ وسكن بخارى أيام الأمير نوح ثم تزوج امرأة بقرية أفشنه وبها ولد أبو علي المذكور الملقب بالرئيس وختم القرآن وهو ابن عشر سنين وقرأ الحكمة على أبي عبد الله الناتلي وحل أقليدس والمجسطى والطب وهو ابن ثماني عشرة سنة ثم انتقل من بخارى إلى جرجانية وغيرها ثم اتصل بخدمة مجد الدولة بن بويه بالرى ثم خدم قابوس بن وشمكير ثم قصد علاء الدولة بن كاكوية بأصبهان وتقدم عنده ثم مرض بالصرع والقولنج وترك الحمية ومضى إلى همذان مريضاً ومات بها سنة أربعمائة وثمانية وثلاثين وعمره ثمان وخمسون سنة وكفره حجة الإسلام الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) وكفر الفارابي أيضاً. (قال) في المنقذ من الضلال: إن مجموع ما غلطا فيه من الإلهيات يرجع إلى عشرين أصلاً يجب تكفيرهما في ثلاثة منها وتبديعهما في سبعة عشر. أما السائل الثلاث فقد خالفها فيها كافة الإسلاميين (الأولى) قالوا: إن الأجساد لا تحشر وأن المثاب والمعاقب هي الأرواح (الثانية) قولهم: أن الله سبحانه وتعالى يعلم الكليات لا الجزيئات. (الثالثة) قولهم بقدم العالم واعتقاد هذا كفر صريح نعوذ بالله تعالى منه. (قال) ابن خلكان: ثم إن ابن سينا لما أيس من العافية - على ما فيل - ترك المعداواة واغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة ثم مات بهمذان يوم الجمعة من شهر رمضان وقيل ما في السجن وولادته كانت سنة ثلثمائة وسبعين - والله تعالى أعلم - وله نحو مائة مصنف منها: كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 (الشفاء) في الحكمة والإشارات وفي الطب القانون وغيره وله شعر ومنه القصيدة الشهيرة في الروح وهي: هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع وستأتي تتمتها في بحث الروح إن شاء الله تعالى. (قوله: ويزعم أن نفوس البشر تتصل بالنفس الفلكية. الخ) وفي كتاب التهافت للغزالي: أن الفلاسفة زعموا أن نفوس السموات مطلعة على جميع الجزيئات الحادثة في هذا العالم وأن المراد باللوح المحفوظ نفوس السموات وأنه تنعكس جزيئات العالم بها ثم تعقبه القاضي أبو الوليد بن رشد المالكي بما نصه: قلت: هذا الذي حكاه لم يقله أحد من الفلاسفة في علمى إلا ابن سينا: أعني أن الأجرام السماوية لاتتخيل فضلا عن أن تتخيل خيالات لا نهاية لها. والإسكندر يصرح في مقالته المسماة (مبادى الكل) أن هذه الأجرام ليست متخيلة لأن الخيال إنما كان في الحيوان من أجل السلامة وهذه الأجرام لا تخاف الفساد فالخيالات في حقها باطلة وكذلك الحواس - انتهى. ثم في موضع آخر: وأما ما حكاه في الرؤيا عن الفلاسفة فلا أعلم أحداً قال به من العلماء القدماء إلا ابن سينا، والذي يقوله القدماء في أمر الوحي والرؤيا إنما هو عن الله تعالى بتوسط موجود روحاني ليس بجسم وهو واهب العقل الإنساني عندهم الذي يسمونه العقل الفعال وفي الشرع يسمى ملكاً - انتهى وهو مطابق لما نقله أبو العباس ابن تيمية، فلا تغفل. (ترجمة الإمام أبي حامد الغزالي) (قوله: وأبو حامد) هو حجة الإسلام علم الأعلام: محمد بن محمد بن محمد ابن أحمد الغزالي الطوسى الفقيه الشافعي الأصولى ولد سنة خمسين وأربعمائة وتوفي سنة خمسة بالطابران ولم يكن للشافعية في آخر عصره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 مثله اشتغل في مبدأ أمره بطوس ثم قدم نيسابور واختلف إلى درس إمام الحرمين أبي المعالى الجويني ثم قدم بغداد وفوض إليه التدريس في النظامية ببغداد وأعجب به أهل العراق ثم ترك جميع ما كان عليه في سنة ثمان وثمانين واربعمائة وسلك طريق الزهد والانقطاع وقصد الحج فلما رجع توجه إلى الشام فأقام بدمشق مدة يذكر الدروس ثم انتقل إلى بيت المقدس واجتهد بالعبادة ثم قصد مصر وأقام بالاسكندرية مدة ثم عاد إلى وطنه بطوس ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها بالمدرسة النظامية فاجاب ثم ترك ذلك وعاد إلى وطنه واتخذ خانقاه للصوفية ومدرسة للمشتغلين بالعلم في جواره ووزع أوقاته على وظائف الخير وذكر علاء الدين الصيرفي في كتابه (زاد السالكين) : أن القاضي أبا بكر بن العربي قال رأيت الإمام الغزالي في البرية وبيده عكازه وعليه مرقعة وعلى عاتقه ركوة وقد كنت رأيته ببغداد يحضر دروسه نحو أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفضلهم ويأخذون عنه بالعلم قال: فدنوت منه وسلمت عليه وقلت له: يا إمام أليس تدريس العلم ببغداد خيراً لك من هذا؟ قال: فنظر إلى شزراً وقال: لما طلع بدر السعادة في فلك الإرادة وجنحت شمس الوصال في مغارب الوصول: [طويل] تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل ... وعدت إلى تصحيح أول منزل ونادت بي الأشواق مهلا فهذه ... منازل من تهوى رويدك فانزل غزلت لهم غزلاً دقيقاً فلم أجد ... لغزلي نساجاً فكسرت مغزلى وله التصنيفات الجليلة، منها: الوسيط والبسيط والوجيز والخلاصة في الفقه وإحياء العلوم: وله في أصل الفقه: المستصفى والمنحول والمنتحل في علم الجدل والتهافت على الفلاسفة ومعيار العلم والمقاصد والمضنون به على أهله وشرح أسماء الله الحسنى المسمى بالمقصد الأسنى ومشكاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الأنوار والمنقذ من الضلال وحقيقة القول وغير ذلك وشهرته وشهرتها تغني عن التطويل وقد انتقد عليه غير واحد من العلماء وشنعوا عليه ما حرره في بعض كتبه كما جرت إرادة الله تعالى في الذين خلوا من الفضلاء. فمن ذلك ما وراه كثير من المؤرخين: أن القاضي عياضاً المالكي صاحب كتاب ((الشفاء)) كان شديد التعصب للسنة والتمسك بها حتى أمر بإحراق كتب الغزالي لأمر توهمه منها. وقال في ((كشف الظنون)) : وأول ما دخل إلى المغرب أنكر فيه بعض المغاربة أشياء فصنف (الإملاء في الرد على الإحياء) ثم رأى ذلك المصنف رؤيا ظهرت فيها كرامة الشيخ وصدق نيته فتاب عن ذلك ورجع إلى الاعتقاد في حقه كذا قال المولى أبو الخير وأشار إلى حكاية ابن حرازم التي نقلها ابن السبكي في طبقاته عن الشيخ ياقوت العرشي عن أبي العباس المرسي، عن أبي الحسن الشاذلي، وهي أن الشيخ ابن حرازم خرج على أصحابه ومعه كتاب فقال أتعرفون؟ هذا الإحياء. وكان الشيخ المذكور يطعن في الغزالي وينهى عن قراءة الأحياء فكشف لهم الشيخ المذكور عن جسمه فإذا هو مضروب بالسياط وقال: أتاني الغزالي في النوم ودعاني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما وقفنا بين يديه قال يا رسول الله، هذا يزعم أني أقول عليك ما لم تقل فأمر بضربي فضربت - هكذا نقلها المناوى في طبقاته. قال أبو الفرج ابن الجوزى: قد جمعت أغلاط الكتاب وسميته (إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء) أشرت إلى بعض ذلك في كتاب (تلبيس إبليس) . وقال سبطه أبو المظفر: وضعه على مذاهب الصوفية وترك فيه قانون الفقه فأنكروا عليه ما فيه من الأحاديث التي لم تصح - انتهى. قال المولى أبو الخير وأما الأحاديث التي لم تصح لا ينكر على إيرادها لجوازه في الترغيب والترهيب انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 [مما أخذ عن الغزالي] (أقول) : وذلك ليس على إطلاقه بل بشرط أن لا يكون موضوعاً وقد صنف الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن حسين العراقي المتوفى سنة ست وثمانمائة كتابين في تخرج أحاديثه وكذا غيره وللغزالي كتاب في حل مشكلاته سماه (الأجوبة المسكتة، عن الأسئلة المبهتة) وللاحياء مختصرات كثيرة - انتهى باختصاره ومما انتقدوه عليه كما في الأجوبة المرضية لعبد الوهاب الشعراني قوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان قالوا: وهذا يفهم منه العجز وهو كفر وجوابه على ما قال الشيخ محيى الدين في فتوحاته: إنه ما تم إلا مرتبتان: مرتبة قدم ومرتبة حدوث فالمرتبة الأولى للحق تعالى وحده والثانية للخلق. فلو خلق فلا يخرج عن رتبة الحدوث فلا يقال: هل يقدر الحق تعالى أن يخلق قديماً يساويه في القدم لأنه سؤال سهل مهمل في غاية المحال - انتهى. وأجاب عبد الكريم الجيلى بأن كل واقع في الوجود قد سبق به العلم القديم فلا يصح أن يرقى عن رتبته في العلم الإلهي ولا ينزل عنها وأجاب الشاذلي في الإمكان أبدع حكمة من هذا العالم بحكم عقلنا بخلاف ما استأثره الله تعالى بعلمه - انتهى. (ومنها) قوله في الأحياء وتقريره لقول ابي سليمان الدرانى: إذا طلب الرجل الحديث أو سافر في طلب المعاش أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا. (ومنها) ما أجاب به من سأله عن رجل يدخل البادية بلا زاد من قوله: هذا من فعل رجال الله تعالى قيل له: فإن مات؟ فقال: الدية على العاقلة. وقد أجاب عنها وعن غيرها الشعراني بما هو مبسوط في تأليفاته لا سيما ((الأجوبة المرضية)) فإن أردته فارجع إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 [ليس ابن تيمية أول من انتقد الغزالي] وإذا علمت ما ذكرناه عرفت ابن تيمية شيخ الإسلام ليس بأول منتقد على حجة الإسلام ثم برأه مما نسب إليه وحكى قول من قال إنها مكذوبة عليه وأنه توفي وهو لصحيح البخاري ملازم ونابذ لما صدر منه من تصنيفاته في زمنه المتقادم على أنه قد جرت عادة العلماء المتقدين والمتأخرين باعتراض بعضهم على بعض حتى يتضح الصواب للمنصفين فاقنع بهذا ولا تك من المعترضين وخذه وكن من الشاكرين. (قوله: كإلحاد الشيعة والإسماعيلية والقرامطة) الإلحاد على ما قال الراغب: الميل عن الحق والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله عز وجل وإلحاد إلى الشرك بالأسباب فالأول ينافى الإيمان ويبطله والثاني يوهن عراه ولا يبطله من ومن هذا النحو قوله تعالى {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج 25] وقوله تعالى {الذين يلحدون في آياتنا} [فصلت 40] وقوله تعالى: {الذين يلحدون في أسمائه} [الأعراف 18] والإلحاد في أسمائه على وجهين: أحدهما أن يوصف بما لا يصح وصفه به والثاني أن يتأول أوصافه على ما لا يليق به انتهى. [فرق الشيعة وعقائدهم] وأما الشيعة فهم في الزمن الأول اثنان وعشرون فرقة. وأصول ذلك كله ثلاث فرق: غلاة وإمامية وزيديه، وقد صاروا إلى ذا الآن أكثر من ذلك ولا يعكر هذا على حديث الثلاث وسبعين فرقة كما بين في محله وقد ظهرت في عصرنا - أي في القرن الثالث عشر - فرقة الشيخية المنشعبة من الإمامية وهم أتباع الشيخ أحمد الأحسائي والكشفية وهم أتباع تلميذه كاظم الرشتى الحسينى المتوفى سنة بضع وخمسين بعد المائتين والألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ومزج مذهب التصوف بالكشف الذي يضحك الأطفال والوحدة التي لا تقبلها عقول كثير من الرجال قال الوالد عليه الرحمة في باب الإشارة عند تفسير قوله تعالى: {ويخلق ما لا تعلمون} [النحل 8] ما نصه: وممن زعم الانتظام في سلكهم الكثيفية الملقبون أنفسهم بالكشفية وذكروا من ذلك أشياء لا يشك العاقل في أنها لا أصل لها بل إذا عرض كلامهم في ذلك على الأطفال والمجانين لم يشكوا في أنه حديث خرافة صادر عن محض التخييل وإنا نسأل الله تعالى أن لا يبتلى مسلماً بمثل ما ابتلاهم وقد عزمت حين رأيت بعض كتبهم كشرح القصيدة الكاظمية التي ألفها بعض معاصرينا منها مما اشتمل على ذلك - على أن أصنع عليها كتاباً لكن لاستغال بخدمة كلامه سبحانه والعلم بأن تلك الخرافات لا تروح إلا على من سلب منه الإدارك حرفنى عن الكتابة - انتهى ملخصاً. (قلت) : ومن جملة عقائدهم الباطلة وأقوالهم العاطلة ما نقله الوالد قدس سره في تفسير قوله تعالى: {كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} [القمر 42] من قولهم: إن المراد بالآيات كلها على كرم الله تعالى وجهه فإنه الإمام المبين المذكور في قوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه في أمام مبين} [يس 12] وأنه - رضي الله عنه - ظهر مع موسى عليه السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا وهذا من الغلوم بمكان فنعوذ بالله تعالى من مثل هذا الهذيان. ثم تشبعت من الكشفية الفرقة الركنية: وهي المنسوبة لتلميذه كريم خان القاجاري وكذا ظهرت في هذا القرن الفرقة القرتية: وهم أتباع قرة العين وهي امرأة ظهرت في بلاد إيران وتبعها جملة من الشيعة وفرت إلى بغداد وأبقيت بأمر ولى الأمر والي بغداد في دارنا وكنت قد رأيتها وأنا دون البلوغ ثم ذهبت إلى طهران فقتلت بأمر الشاه وكذا الفرقة المعروفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 بالبابية: وهم أتباع محمد حسين وأخيه اللذين ادعيا أنهما الباب واشتهر عنهم أنهم يبيحون المحرمات ويسقطون التكاليف الشرعية وأنهم يدعون الوحى ويظهرون الكتب السماوية وقد تستروا بدعوى الصوفية حتى تبعهم خلق كثير من الشيعة وغيرهم حتى من اليهود والنصارى على ما قيل وهجموا على الشاه وأرادوا قتله فسلم ثم أوقع بهم وأفنى منهم طوائف كثيرة ونفى رئيسهم من بغداد والآن يوجد منهم أفراد متعددة في كثير من البلاد وكذا الفرقة المشهورة بالينجرية وهم اتباع سيد أحمد خان الكشميري الدهلوي وهذه الطائفة قد نبغت في مملكة الهند بعد سنة ألف ومائتين وثلاث وسبعين الهجرية وجهدت الأفكار الأدلة القرآنية وما فيها من وجود الملائكة والجن وأحلت المنخنقة من الحيوان حتى ادعى زعيمها في هذه الأيام الرسالة وفاه بها بعض أفراخه في بعض رسائله نعوذ بالله من الكفر والخذلان! ومرادهم بذلك نصرة الفرقة الضالة في تنفيذ إراداتهم وإبطال الإسلام لكسب الجاه والدول لهم فنسأل الله تعالى أن يحفظنا مما يخزينا يوم التناد ويجعلنا من المتبعين يوم التناد ويجعلنا من المتبعين لهدى سيد العباد - صلى الله عليه وسلم -. وأما الإسماعيلية: ففرقة منها أيضاً ويلقبون بالباطنية لقولهم بباطن الكتاب وأصل دعوتهم مبنية على إبطال الشرائع فإن قوماً من المجوس راموا كسر شوكة الإسلام ولم يمكنهم التصريح بذلك فأخذوا في تأويل الشريعة على وجه يعود إلى قواعد أسلافهم ورئيسهم في ذلك حمدان قرمط. ومنهم - بل صاحب إظهار دعوتهم - أبو سعيد الجنابي فظهر على البحرين واجتمع عليه جماعة من الأعراب والقرامطة فقوى امرهم ثم قتل أبو سعيد سنة إحدى وثلثمائة وهم إباحية وربما خلطوا كلامهم بكلام الفلاسفة. وقال الشهاب الخفاجي: القرامطة هم طائفة من الملحدين قال السمعاني في الأنساب: القرمطى - بكسر القاف وسكون الراء وكسر الميم والطاء المهملة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 سبة لطائفة خبيثة وهم من أهل هجر والأحساء وأصلهم رجل من سواد الكوفة يقال له قرامط. وقيل: حمدان بن قرمط وقيل: إنما سموا قرامطة لأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى عامراً يمشي وهو من أهل المدينة فقال: إنه ليقرمط في مشيه أي يقارب خطاه ومنه الخط القرمط وعلى هذا فهو عربي وقيل: إنه معرب وأن جدهم كان يسمى كرمد فغيروه فالكاف عجمية مأخوذة من الكرمية وهي الحرارة وهو رجل أحمد العينين من سواد الكوفة وكان ظهوره سنة ثمان وسبعين ومائتين وزعم أنه انتقل إليه كلمة المسيح وجعل الصلاة ركعتين بعد الصبح وركعتين بعد المغرب والصوم يومين بالنيروز والمهرجان ويتأول القرآن ويحرفه وكانت له وقائع وحروب ودعاة وخلفاء وكل ذلك مفصل في تاريخ الكامل والوفيات وغيرهما حتى ظهر منهم سليمان بن الحسين الجباني فعاث في البلاد وافسد ودخل مكة يوم التروية سنة سبع عشرة وثلثمائة في خلافة المقتدر فقتل الحجاج ورماهم بزمزم وقلعه باب الكعبة وأخذ كسوتها وأخذ الحجر الأسود فبقي سنين ثم ردوه مكسوراً فنصب في محله وكانت مدة خروجهم ستاً وثمانين سنة. وقيل: هم أربعة أرادوا إفساد دين الإسلام فقسموا الدنيا أربعة أقسام لكل منهم قسم ولم يتم لهم الأمر ولله سبحانه الحمد. وفي تاريخ ابن خلدون: أن الإسماعيلية قالوا بإمامة إسماعيل بالنص من أبيه جعفر الصادق رضي الله عنهما وفائدة النص عندهم وإن كان مات قبل أبيه إنما هو بقاء الإمامة في عقبه ويسمون أيضاً بالباطنية نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور ويسمون أيضاً الملحدة - انتهى. ومن أراد استقصاء هذه المذاهب فعليه بالمطولات لاسيما بالخطط للريزى رحمه الله تعالى. (ترجمة الفضيل بن عياض) (قوله كالفضيل) فهو كما في (الوفيات) : أبو على الفضيل بن عياض ابن مسعود بن بشر التميمي الطالقاني الأصل الفنديني الزاهد المشهور أخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 رجال الطريقة كان في أول أمره شاطراً يقطع الطريق بين أبي ورد وسرخس وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينا هو يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [فقال: يارب، قد آن! فرجع وآواه الليل إلى خربة فإذا فيها رفقة فقال بعضهم: نرتحل. وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلاً على الطريق يقطع الطريق علينا فتاب الفضيل وأمنهم وكان من كبار السادات ويحكى أن الرشيد قال يوماً: ما أزهدك؟ فقال له الفضيل: أنت أزهد مني قال وكيف ذلك؟ قال: لأني أزهد في الدنيا وأنت تزهد في الآخرة والدنيا فانية والآخرة باقية وقال: إذا أحب الله عبداً أكثر غمه وإذا أبغض عبداً أوسع عليه دنياه وقال: ترك العمل لأجل الناس هو الرياء والعمل لأجل الناس هو الشرك وقال: إني لأعصي الله تعالى فأعرف ذلك في خلق حمارى وخادمى. وقال: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام لأنه إذا صلح الإمام أمن العباد وقال: لأن يلاطف الرجل أهل مجلسه ويحسن خلقه معهم خير له من قيام ليله وصيام نهاره وقدم الكوفة وسمع الحديث بها ثم انتقل إلى مكة زاهداً لله تعالى شرفاً. وتوفي بها سنة سبع وثمانين ومائة رحمه الله تعالى ومناقبه كثيرة من أراد تفصيلها فعليه بالكتب المطولة. (ترجمة القشيرى) (قوله: وسائر رجال الرسالة) هي رسالة الإمام القشيرى المتحوية على تراجم الصوفية والصالحين. وهو عبد الكريم بن هوزان بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القاسم القشيرى والفقيه الشافعي. قال في الوفيات: كان العلامة في الفقه والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر والكتابة وعلم التصوف جمع بين الشريعة والحقيقة أصله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 من ناحية استوا من العرب الذين قدموا خراسان قدم إلى نيسابور ولازم الشيخ أبا علي الحسن بن علي النيسابورى المعروف بالدقاق وحضر درس أبي بكر محمد الطوسى ثم اختلف إلى الأستاذ أبي بكر بن فورك فقرأ عليه ثم تردد إلى الأستاذ أبي أسحق الأسفرايينى ثم نظر في كتب القاضي أبي بكر الباقلاني وسلك مسلك المجاهدة والتجريد وأخذ في التصنيف فصنف التفسير الكبير وسماه (التيسير في علم التفسير) وصنف الرسالة في رجال الطريقة وخرج إلى الحج في رفقة فيها الشيخ أبو محمد الجوينى والد إمام الحرمين وأحمد بن الحسين البيهقي وجمعة من المشاهير فسمع معهم الحديث ببغداد والحجاز وكان إماماً في مجالس الوعظ والتذكير وقال الباخرزي في (دمية القصر) : لو قرع الصخر بصوت تحذيره لذاب ولو ربط إبليس في مجلسه لتاب وترجمة الخطيب البغدادي وأثنى عليه توفي بنيسابور سنة خمس وستين وأربعمائة وكان ولده عبد الرحيم إماماً كبيراً أشبه أباه في علومه وقدم بغداد ووعظ في المدرسة النظامية وجرى له مع الحنابلة خصام بسبب الاعتقاد لأنه تعصب للأشاعرة - وانتهى الأمر إلى فتنة قتل فيها جماعة من الفريقين وركب أحد أولاد نظام الملك فسكنها. (والقشيرى) نسبة إلى قشير بن كعب قبيلة كبيرة - انتهى ملخصاً. [عقيدة المعتزلة وفرقهم] (قوله: كالمعتزلة) اعلم أن أول بدعة ظهرت بدعة القدر وهي أن الإنسان خالق لأفعاله وبدعة الإرجاء وهي أن المعصية لا تضر مع الإيمان. وبدعة التشيع والخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهذه البدع ظهرت في القرن الثاني والصحابة - رضي الله عنهم - موجودون وقد أنكروا على أهلها ثم ظهرت بدعة الاعتزال ولم يزل المسلمون على النهج الأول ولزوم ظاهر السنة وما كان عليه الصحابة إلى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 حدثت الفتنة بين المسلمين والبغي على أئمة الدين وظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء وكثرت المسائل والواقعات والرجوع إلى العلماء في المهمات فاشغلوا بالنظر والاستدلال وأخذوا في التبويب والتأصيل فأسس فرقة المعتزلة قواعد الخلاف ونهجت منهج الفرقة والانحراف ونفت الرؤية والصفات وكان أول من اعتزل مجلس الحسن البصري واصل بن عطاء الغزالي رئيس المعتزلة. قال غير واحد من العلماء: كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملي وهو أول خلاف حدث في الملة هل هو كافر أو مؤمن؟ فقلت الخوارج: إنه كافر. وقال الجماعة: إنه مؤمن وقالت طائفة: نقول هو فاسق لا مؤمن ولا كافر منزلة بين منزلتين وخلدوه في النار فقال الحسن البصري - رضي الله عنه -: اعتزلوا عنا، فاعتزلوا حلقة الحسن وأصحابه فسموا معتزلة وسموا هم أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد لقولهم بوجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي على الله تعالى ونفى الصفات القديمة عنه وكانا في أيام عبد الملك بن هشام بن عبد الملك. وقال بعض العلماء: وقف على مجلس الحسن البصري رجل فقال: يا إمام ظهر في هذا الزمان جماعة يكفرون صاحب الكبيرة - يعني بهم الخوارج - وجماعة يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة - يعني المرجئة - فما نعتقده من ذلك؟ فأطرق الحسن مفكراً في الصواب فبدار واصل بن عطاء بالجواب فقال: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً وقام إلى أسطوانة في المسجد يقرر مذهبه: ويثبت المنزلة بين المنزلتين ويقول: الناس ثلاثة: مؤمن، كافر، ولا مؤمن ولا كافر، وهو صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة فقال له الحسن: اعتزل عنا واصل فسموا المعتزلة لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ورفيق واصل في الاعتزال وقرينه عمرو بن عبيد المتكلم الزاهد وكان من العلم والعمل والزهد والورع والديانة على جانب عظيم حتى إن الحسن البصري لما سئل عنه أجاب السائل: لقد سألت عنه أجاب السائل لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته وكأن الأنبياء ربته إن قام أمر قعد به وإن قعد بأمر قام به وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له وإن نهى عن كل شيء كان أترك الناس له ما رأيت ظاهراً أشبه بباطن ولا باطناً أشبه بظاهر منه - انتهى. ويروى أن واصل بن عطاء تكلم مرة بكلام فقال عمرو بن عبيد: لو بعث نبي ما كان يتكلم بأحسن من هذا وفصاحة واصل مشهورة وكان يلثغ بالراء فكان يجتنبها حتى كأنها ليست من حروف الهجاء. ثم خلفه الجبائي أبو علي وكان الإمام الأشعري من أصحابه ثم فارقه كما سيأتي إن شاء الله تعالى ببيان سببه. [عقيدة الجهمية] والمعتزلة عشرون فرقة يضلل بعضهم بعضاً وكثير من أقوال جهم بن صفوان توافق أقوالهم الهزلية منهم. وإن كانت المعتزلة كلهم جهمية فقد نقل غير واحد من العلماء أن أول من حفظ عنه أنه قال مقالة التعطيل للصفات في الإسلام الجعد بن درهم الذي ضحى به خالد القشيرى وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت إليه. قال السفاريني نقلاً عن شيخ الإسلام: وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعظم وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الجعد هذا فيما قيل: من أهل حران وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين والنمرود هو ملك الصابئة المشركين - اسم جنس - ككسرى لملك الفرس وقيصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 لملك الروم - وأخذها الجهم أيضاً قيما ذكر الإمام أحمد - رضي الله عنه - عن السمنية وبعض فلاسفة الهند وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات - انتهى. وحكى بعضهم أن جهم بن صفوان الترمذي كان يدعو الناس إلى مذهبه الباطل وهو أن الله تعالى عالم لا علم له قادر لا قدرة له وكذا في سائر الصفات وكان جلس يوماً يدعو الناس لمذهبه وحوله أقوام كثيرة فجاء أعرابي ووقف حتى سمع مقالته فأرشده الله تعالى إلى بطلان هذا المذهب فأنشأ يقول: [طويل] ألا إن جهما كافر بان كفره ... ومن قال يوماً قول جهم فقد كفر لقد جن جهم إذ يسمى إلهه ... سميعاً بلا سمع بصيراً بلا بصر عليماً بلا رضياً بلا رضا ... لطيفاً بلا لطف خبيراً بلا خبر أيرضيك أو لو قال يا جهم قائل ... أبوك امرؤ حر خطير بلا خطر مليح بلا ملح بهي بلا بها ... طويل بلا طول يخالفه القصر حليم بلا حلم وفي بلا وفا ... فبالعقل موصوف وبالجهل مشتهر جواد لا جود قوي بلا قوى ... كبير بلا كبر صغير بلا صغر امدحا تراه أم هجاء وسبة ... وهز أكفاك الله يا أحمق البشر فإنك شيطان بعثت لأمة ... تصيرهم عما قريب إلى سقر فألهمه الله عز وجل حقيقة مذهب أهل السنة ورجع كثير من الناس ببركة أبياته وكان عبد الله بن المبارك يقول: إن الله تعالى بعث الأعرابي رحمة لأولئك - انتهى. ومما يحكى أيضاً أن القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي دخل على الصاحب ابن عباد وكان معتزلياً أيضاً وكان عنده الأستاذ أبو إسحق الأسفراينى من أئمة أهل السنة الأشعرية فقال عبد الجبار على الفور: سبحان من تنزه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 عن الفحشاء! فقال أبو إسحق فوراً: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء فقال له عبد الجبار - وفهم أنه قد عرف مراده -: أيريد أن يعصى؟ فقال أبو إسحق: أيعصى ربنا قهراً؟ فقال له عبد الجبار: أرأيت إن منعنى الهدى وقضى على بالردى أحسن إلى أم أساء. فقال له أبو إسحق: إن كان منعك ما هو لك فقد أساء وإن كان منعك ما هو فيختص برحمته من يشاء فانصرف الحاضرون وهم يقولون: والله ليس عن هذا جواب. انتهى. [مناظرة شعرية بين أهل السنة والمعتزلة حول رؤية الله] ونقل الإمام جلال الدين السيوطى في حاشيته على تفسير الفاضى البيضاوي والكوراني في شرح القشاشية عن الزمخشرى أنه قال في بحث رؤية الله تعالى يوم القيامة ما نصه: ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً! ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم والقول ما قال بعض العدلية فيهم: [كامل] لجماعة سموا هواهم سنة ... لجماعة حمر لعمرى موكفه قد شبهوا بخلقه وتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفة قال ابن المنير: انتقل إلى الهجاء وقد أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت - رضي الله عنه - في المنافخة وهجاء المشركين فناسب وقلت: [كامل] وجماعة كفروا برؤية ربهم ... هذا ووعد الله ما لن يخلقه وتلقبوا عدلية قلنا أجل ... عدلوا بربهم فحسبهم سفه وتلقبوا الناجين كلا إنهم ... إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وقال أبو حيان: وقد نظم القاضي أبو بكر بن خليل فقال: [كامل] شبهت جهلاً صدر أمة أحمدٍ ... وذوى البصائر بالحمير الموكفه وزعمت أن قد شبهوا معبودهم ... وتخوفوا فتستروا بالبلكفه ورميتهم عن نبعة سويتها ... رمى الوليد غدا يمزق مصحفه وجب الخسار عليك فانظر منصفاً ... في آية الأعراف فهى المنصفه أترى الكليم أتى بجهل ما أتى ... وأنى شيوخك ما أتوا عن معرفة من ليس يدرك كيف يحجب نفسه ... نهنه نهى أسماجك المتكلفة وبآية الأنعام ويك خذلتهم ... فوقعتم دون المراقى المزلفه خلق الحجاب فمن وراء حجابه ... سمع الكليم كلامه إذ شرفه خلق الحجاب لنفسه سبحانه ... فتشوفته الأنفس المتشوفه لو كان كالمعدوم عندك ما يرى ... ذهب التمدح في هذا هذاء السفسفه لو صح في الإسلام عقدك لم تقل ... بالمذهب المهجور من نفى الصفه شتت يا مغرور أو عطلت إذ ... ضاهيت في الإلحاد أهل الفلسفة إن الوجوه إليه ناظرة بذا ... جاء الكتاب فقلتم هذا السفه نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى ... فهوى الهوى بك في المهاوى المتلفة فالنفي مختص بدار بعدها ... لك لا أبالك موعد لن تخلفه وقال الشيخ سعد الدين: لقد عورض ما أنشده وأنشأه من الهذيان: لجماعة كفروا برؤية ربهم ... ولقائه فهم حمير موكفه فكما هم علموا بلا كيف فنحن نرى فلم ينفعهم بالبلكفة هم عطلوه عن الصفات وعطلوا ... عند الفعال فيالها من متلفه هم نازعوه الخلق حتى أشركوا ... بالله زمرة حاكة وأساكفه هم غلقوا أبواب رحمته التي ... هي لا تزال على العصاة موكفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ولهم قواعد في العقائد رذلة ... ومذاهب مهجورة مستنكفه يبكي كتاب الله من تأويلهم ... بدموعه المنلهة المستوكفه وكذا أحاديث النبي دموعها ... منهم على الخدين غير مكفكفه فالله أمطر من سحاب عذابه ... وعقابه أبداً عليهم أوكفه وقال الإمام فخر الدين الجاربردى - وهو ممن اجتمع بالقاضي البيضاوي وأخذ عنه: عجباً لقوم ظالمين تستروا ... بالعدل ما فيهم لعمرى معرفة قد جاءهم من حيث لا يدرونه ... تعطيل ذات الله مع نفى الصفة وعزا الشيخ الفقيه عبد الحق الدهلوى رحمه الله هذه الأبيات في كتابه (أخبار الأخيار) إلى الشيخ العارف العلامة أحمد الشرعي الترك المتوفى سنة ثمان وعشرين وتسعمائة والله أعلم وقال آخر: والله يعلم والعلوم كثيرة ... أي الفريقين اهتدى بالمعرفة ولسوف يعلم كل عبد ما جنى ... يوم الحساب إذا وقفنا موقفه فاذكر بخير أمة لم تعتقد ... إلا الثناء عليه ذاناً أو صفه ودع المراء ولا تطلع فيه الهوى ... فالحق في أيدي الرجال المنصفه وقال تاج الدين السبكي: لجماعة جاروا وقالوا إنهم ... للعدل أهل ما لهم من معرفة لم يعرفوا الرحمن بل جهلوا ومن ... ذا أعرضوا للجهل عن لمح الصفة. اهـ وأنت تعلم أن ما قاله جار الله افتراء على الأشياخ فقد أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز وجل: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة 23] . قال: ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة كما نقله السيوطى في (الدر المنثور) وستأتي تتمة هذا إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وإن اردت كمال الاستقضاء لفرقهم وعقائدهم فعليك بالكتب الكلامية. [علم الكلام بين مادحيه وقادحيه] (قوله: قوم على طريقة بعض أهل الكلام من الكلامية) علم الكلام وهو معرفة العقائد عن أدلتها وسمي بذلك لأن عنوان مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا أو لأن مسألة الكلام كانت أشهر مباحثه وأكثرها نزاعاً وجدلا حتى أنه قتل كثير من أهل الحق لعدم قولهم بخلق القرآن. أو لأنه يورث قدرة الكلام في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم كالمنطق للفلسفة لأنهم يسمون العلم العاصم عن الخطأ في الفكر منطقاً لظهور القوة النطقية فكذلك المتكلمون يسمون العلم الباحث عن الواجب تعالى وصفاته وعن الممكن بأقسامه كلاماً لظهور قوة التكلم به. وقيل غير ذلك كما بسطه السعد في شرح (النسفية) . وهذا العلم هو أصل الواجبات وأساس المشروعات غير أنه قد ورد في ذمة من الأئمة عدة عبارات وما ذاك إلا لحشوه بفلسفة المتفلسفين والمقالات المستوجبة لفساد عقائد كثير من ضعفاء المسلمين. (وقال) العلامة السفارينى في شرحه لعقيدته المنظومة: قد ذم السلف الصالح الخوض في علم الكلام والتوفيق فيما زعموا أن قضايا برهانية وحجج قطيعة يقينية وقد شحنوا ذلك بالقضايا المنطقية والمدارك الفلسفية والتخيلات الكشفية والمباحث القرمطية وكان أئمة الدين مثل مالك وسفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق والفضيل بن عياض وأبي يوسف وبشر الحافي يبالغون في ذم الكلام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذه التأويلات التي ذكرها ابن فورك ويذكرها الرازي في (تأسيس التقديس) ويوجد منها في كلام غالب المتكلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 من الجبائي وعبد الجبار وأبي الحسن البصري وغيرهم هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسى القائل بخلق القرآن في أيام الرشيد وأراد قتله فاختفى ورد عليه الإمام الدارمى عثمان بن سعيد أحد مشاهير أئمة السلف من علماء السلف في زمن البخاري وقال أبو الفتح نصر المقدسي في كتابه ((الحجة على تارك المحجة)) بإسناده عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الإمام الشافعي يقول: ما رأيت أحداً ارتدى بالكلام فأفلح ولما كلمه حفص الفرد من أهل الكلام قال: لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله تعالى عنه خلا الشرك بالله عز وجل خير له من أن يبتلى بالكلام وقال: حكمى في أصحاب الكلام أن يصفعوا وينادي بهم في العشائر والقبائل: هذا جزاء من ترك السنة وأخذ في الكلام. وقال الإمام أحمد: عليكم بالسنة والحديث وما ينفعكم وإياكم والخوض والمراء فإنه لا يفلح من أحب الكلام وقال: لا أحب لأحد أن يجالسهم ويخالطهم أو يأنس بهم فكل من أحب الكلام لم يكن آخر أمره إلا إلى البدعة فإن الكلام لا يدعوهم إلى خير فلا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال وعليكم بالسنة والفقه الذي تنتفون به ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء أدركنا الناس وما يعرفون هذا ويجانبون أهل الكلام وقال: من أحب الكلام لم يفلح وعاقبة الكلام لا تئول إلى خير والمنقول عن العلماء من السلف الصالح من ذم علم الكلام وأهله كثير مذكور في الكتب المطولة. وقال العلامة السفارينى: فإن قلت إذا كان علم الكلام بالمثابة التي ذكرت والمكانة التي عنها برهنت فكيف ساغ للأئمة الخوض فيه والتنقيب عما يحتويه؟ قلت: العلم الذي نهينا عنه الذي ألف فيه، إذ المنهى عنه هو المشحون بالفلسفة والتأويل وصرف الآيات القرآنية عن معانيها الظاهرة والأخبار النبوية عن حقائقها الباهرة دون علم السلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ومذهب الأثر وما جاء في الذكر الحكيم وصحيح الخبر فهو لعمري ترياق القلوب الملسوعة بأراقم الشبهات وشفاء الصدور المصدوعة بتزاحم المحدثات فهو فرض عين على كل نبيه لدحض كل مبتدع سفيه. اهـ ملخصاً. (وقال) العلامة شيخ مشايخنا خالد النقشبندى الشافعي قدس سره في رسالته المؤلفة في الكسب ما نصه: ولأجل هذا أيضاً ترى كتب الأشعرى في العقائد مشحونة بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة والخوض في كثير من التأويلات والتدقيقات ثم اعتذر في كتابه ((الإبانة في أصول الديانة)) الذي هو آخر مؤلفاته وعليه التعويل في مذهب الأشعري كما صرح به غير واحد وقال فيها: لولا الاضطرار بسبب منازعه المبتدعة لما تكلمت بشيء من ذلك وصرح بأن مذهبه في المتشابهات التفويض مثل مذهب السلف لكن المبتدعة ألجئوا إلى التأويل وترى كتب الماتريدى نفسه أكثر ما فيها المسائل من غير دلائل ومتأخروا أصحابه رجعوا في التدوين إلى سياق الأشعرى لشيوع الابتداع والرفض والجبر والاعتزال وشدة الاحتياج إلى التحرير والتدقيق والاستدلال وكل هذا ظاهر عند من له باع في هذا الفن. وبه يندفع في حق كلا الإمامين أفاويل من ظن فيهما بعض الظن، والعبد المسكين لكون مذهبه مذهب السلف وطريقة الصديقية عين طريقة الأصحاب وأجلة التابعين - عز عليه الخوض فيما نهوا عنه - لكن لما رأيت المسألة مع كونها من أمهات المسائل الدينية وأساس كثير من العقائد اليقينية وقع فيها الخلط وعدم الضبط شرعت فيها اقتداء بالإمام الأشعرى ومتأخري أصحاب المذهبين. اهـ ما هو المراد منه. (وقال) السفارينى: وروى الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي في كتاب العرش بسنده إلى أبي الحسن القيرواني قال: سمعت الأستاذ أبا المعالي الجوينى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 يقول: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به وقال الفقيه أبو عبد الله الدسمى قال: حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الفقيه قال: دخلنا على الإمام أبي المعالى الجوينى نعوده في مرض موته فأقعد فقال لنا: أشهدوا أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها السلف الصالح وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور - يعني أنهن مؤمنات بالله عز وجل على فطرة الإسلام لم يدرين ما علم الكلام قال الحافظ الذهبي: وقد كان شيخنا الفتح القشيرى رحمه الله تعالى يقول: [طويل] تجاوزت حد الأكثرين إلى العلا ... وسافرت واستسبقتهم في المفاوز وخضت بحاراً ليس بدرك قعرها ... وسيرت نفسي في قسيم المفاوز ولججت في الأفكار ثم تراجع اختياري إلى استحسان دين العجائز اهـ [رأى ابن تيمية في المتكلمين] وقال الشيخ ابن تيمية في الحموية وغيرها من تصنيفاته ما ملخصه: وقد تدبرت كتب الاختلاف التي فيها المقالات مثل كتاب الأشعري المؤلف أولاً والشهرستاني والوراق أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنف أهل الكلام فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم وأما ما كان عليه السلف فلا يوجد فيها والحاذق منهم الذي غرضه الحق يصرح بالحيرة في آخر عمره إذا لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض وكثير منهم ترك الجميع ورجع إلى دين العامة كما قال أبو المعالي: لقد خضت البحر الخضم وخليت الإسلام ودخلت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجوبني وهأنذا أموت على عقيدة أمي وكذلك الشهرستاني مع أنه أخبر من هؤلاء بالمقالات وصنف كتابه المعروف وقال فيه: [طويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسرحت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائراً ... على ذقن أو قارعاً سن نادم فأخبر أنه لم يجد إلا شاكاً مريباً أو من اعتقد ثم ندم لما تبين منه خطؤه الأول وكذلك الأموى الغالب عليه الحيرة وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد بل في الموضع الواحد منه ينصر قولاً وفي موضع آخر منه أو من كتاب آخر ينصر نقيضه ولهذا استقر أمره على الحيرة وذكر أبياته: [طويل] نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعى العالمين ضلال وأرواحنا وحشة في جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول دهرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وقوله: (فما رأيتها تشفى عليلاً ولا تروى غليلاً) وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفية سوى أنه جمع قيل وقالوا وأنه لم يجد فيها ما تشفى عليلاً ولا يروى غليلاً فإنه من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة لمذهب السلف الذي عليه المعقول والمنقول بل يذكر في المسألة عدة أقوال وقول السلف الذي هو الحق لا يعرفه ولا يذكره وكذا غيره من أهل الكلام مختلفون في آرائهم وكثير منهم من يجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه وما يخالف رأيه هو المتشابه الذي يجب تأويله وتقويضه وإذا ذكرت النصوص التي يحتج بها عليه يتأولها تأويلاً لو فعله غيره لأقام القيامة عليه ويتأول الآيات بما يعلم بالاضطرار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرده وبما لا يدل عليه اللفظ أصلاً وكثير ممن سمع ذم الكلام مجملاً وذم الطائفة الفلانية مجملاً ولا يعرف التفاصيل من الفقهاء وأهل الحديث ومن كان متوسطاً في الكلام لم يصل إلى الغايات التي منها تفرقوا تجده يذم القول وتأويله بعبارة ويقبله بعبارة ويقرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 كتب التفسير والفقه وشروح الحديث وفيها المقالات التي يذمها فيقبلها من أشخاص أخر ذكروها بعبارة أخرى أو في ضمن تفسير آية أو حديث غير ذلك وهذا مما يوجد منه كثير والسالم من سلمه الله تعالى حتى إن هؤلاء يعظم أئمة ويذم أقوالاً وقد يلعن قائلها أو يكفره وقد قالها تلك الأئمة الذين يعظمهم ولو علم أنهم قالوه لما لعن القائل وكثير من الأقاويل التي لا يرتضيها إذا سمعها ولم يعرف قائلها ربما تكون من الأحاديث النبوية ولو ذكرت ما أعرفه من ذلك لذكرت خلقاً من أهل البدع الكبار كمعتزلى ونحوه ومن المنتسبين إلى السنة من كرامى وأشعرى ونحوهم وكذلك من صنف على طريقتهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم وهذا كله رأيته في كتبهم في مسائل الصفات والقرآن ومسائل القدر ومسائل أحكام الإيمان والإسلام ومسائل الوعد والوعيد وغير ذلك اهـ وأنت تعلم أن أمثال هذه العبارات لا يستلزم التفكير لمن قيلت في حقه بل مراد الشيخ التقريع على حشو كتبهم من التأويلات الكلامية المستوجبة لطعن علماء السلف فيها ولا يخفى على من تتبع كتب من ذكرهم حال عباراتهم التي حرروها وتجنب السلف عنها وصانوا ألسنتهم عن وضرها وإن كان مقصد مصنفيها الرد على قائلها ونيتهم خالصة في قمح شبه أهل الأهواء ودفع فاسد الآراء لكن بقي أن الشيخ ابن تيمية عليه الرحمة قد شدد النكير على من خالف طرائق السلف في التقرير والتحرير وأغلظ الكلام في حق من زلت منه الميدان الأقدام وكل ذلك باجتهاد واجب حماية السنة وإمتثالاً لقوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه} وإن وخزته ممن عاصره أو غيره الأسنة وتجرع غصص المحنة وكل من المعترض والمعترض عليه لم ينل مرتبة العصمة وهذه عادة الله تعالى الجارية في هذه الأمة ونسأل الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أن يرزقنا العلوم الدينية ويجعلنا من المتمسكين بالسنة السنية والطريقة المرضية. آمين. [التعريف برسائل إخوان الصفا] (قوله: رسائل إخوان الصفا) هي على ما في (كشف الظنون وشرح عقيدة السفارينى) إحدى وخمسون رسالة وهي أصل مذهب القرامطة وربما نسبوها إلى جعفر الصادق - رضي الله عنه - ترويجاً وقد صنفت بعد المائة الثالثة في دولة بني بويه أملاها أبو سليمان محمد بن نصر البستى المعروف بالمقدسى وأبو الحسن على بن هارون الزنجانى وأبو أحمد النهر جورى والعرفى زيد بن رفاعة كلهم حكماء اجتمعوا وصنفوا هذه الرسائل على طريق الفلسفة الخارجة عن مسلك الشريعة المطهرة وفي فتاوى الشيخ ابن حجر المذكورة ما نصه:نسبها كثير إلى جعفر الصادق وهو باطل وإنما الصواب أن مؤلفها مسلمة بن قاسم الأندلسي كان جامعاً لعلوم الحكمة من الإلهيات والطبيعيات والهندسة والتنجيم وعلوم الكيمياء وغيرها وإليه انتهى علم الحكمة بالأندلس وعنه أخذ حكماؤها وتوفي سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة وممن ذكره ابن بشكوال وكتابه فيه أشياء حكمية وفلسفية وشرعية وممن شدد النكير عليه ابن تيمية لكنه يفرط في كلامه فلا يعتبر بجميع ما يقوله. اهـ فتدبره وأنصف وأقول: إني قد طالعت كثيراً من الرسائل المذكورة فرأيتها كما أشار الشيخ ابن تيمية وأنها مشوبة بالتصوف المشوب بفلسفة المتفلسفين والأبحاث التي تمجها أسماع المتشيعين فإن أردت كمال الوقوف عليها فارجع إليها ولنعم ما قيل: [طويل] رسائل إخوان الصفاء كثيرة ... ولكن إخوان الصفا قليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 [ترجمة أبي حيان التوحيدى] (قوله: أبي حيان التوحيدى) : هو على بن محمد التوحيدى البغدادى له من التصانيف: كتاب الإمتاع والمؤانسة وكتاب البصائر والذخائر والصديق والصداقة والمقايسات وكتاب مثالب الوزيرين وهو الكتاب الذي ضمنه معايب ابن العميد والصاحب بن عباد وتحامل عليها وعدد نقائصهما وسلب ما اشتهر عنهما من الفضائل والأفضال وتوفي سنة ثلثمائة وثمانين والتوحيدى نسبة للتوحيد صنف من التمر وكان أبوه ببغداد وعلى ذلك حمل بعض شراح ديوان المتنبي قوله: [خفيف] يترشفن في فمي رشفات ... هن عندي أحلى من التوحيد [ابن سينا يرى أن علم الغيب بالنسبة للبشر جار على السنن الطبيعي] (قوله: وابن سينا تكلم في آخر الإشارات.الخ) - لا يخفى عليك أن ما نقله الشيخ ابن تيمية عن المتفلسفين من الحكماء الإسلاميين مستفيض في كتبهم الحكمية كما حكاه الإمام الغزالي فيما تقدم ولا يسعنا نقل جميعه الآن لتبدد الفكر وضيق الزمان غير أن ابن سينا ذكر أحوال العارفين في آخر الإشارات وروج على القاصرين زيف هاتيك العبارات فمن ذلك قوله إشارة: إذا بلغك أن عارفاً حدث عن غيب فأصاب متقدماً ببشرى أو نذير فصدق ولا يتعسرن عليك الإيمان به فإن لذلك في مذاهب الطبيعة أسباباً معلومة إشارة التجربة والقياس مطابقان على أن النفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما في حالة المنام فلا مانع من أن يقع مثل ذلك النيل في حالة اليقظة إلا ما كان إلى زواله سبيل ولارتفاعه إمكان وأما التجربة فالتسامح والتعارف يشهدان به وليس أحد من الناس إلا وقد جرب ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 في نفسه. اللهم إلا أن يكون أحدهم فاسد المزاج نائم قوى التخيل والذكر وأما القياس فاستبصر فيه من تنبيهات: تنبيه قد علمت فيما سلف أن الجزيئات منقوشة في العالم العقلي نقشاً على وجه كلي ثم تنبهت لأن الأجرام السماوية لها نقوش ذوات إدراكات جزيئة وإرادات جزيئة تصدر عن رأى جزئي ولا مانع لها من تصور اللوازم الجزيئة من الكائنات عنها في العالم العنصري ثم إن كان ما يلوحه ضرب من النظر مستوراً إلا على الراسخين في الحكمة المتعالية أن لها بعد العقول المفارقة التي هي لها كالمبادئ نفوساً ناطقة غير منطبعة في مورادها بل لها معها علاقة ما كما لنفوسنا مع أبداننا وأنها تنال بتلك العلاقة كمالا ماحقاً صار للأجسام السماوية زيادة معنى في ذلك لتظاهر رأى جزئي وآخر كلي ويجتمع له مما نبهناك عليه أن للجزيئات في العالم العقلي نقشاً على هيئة كلية وفي العالم النفساني نقشاً على هيئة جزيئة شاعرة بالوقت والنقشان معاً اهـ. وهو كلام فلسفي لا يؤمن به خلفي فضلا عن سلفي إذ لا يخلو عند العارفين من علل فباطنه سم وظاهره عسل فتدبر وتأمل. وأنت تعلم أن الحكماء أثبتوا العقول العشرة وأنها أزلية أبدية وادعوا أن لها إدراكاً وتوسطاً بين البارئ سبحانه وبين العالم الجسماني فالعقل الذي يصدر عنه الفلك الأعظم مبدأ للعقل الثاني وللفلك الأعظم ثم يصدر عن كل عقل وفلك وذلك إلى العقل التاسع فيصدر عنه فلك القمر. وعقل عاشر وهو عندهم المبدأ الفياض والمدبر لما تحت فلك القمر وهو العقل الفعال ويسمى بلسان الشرع جبريل وأدلتهم وأجوبتها في محلها فإن أردتها فارجع إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 [بحث في الرؤيا] بقي أن الرؤيا كما في (روح المعاني) : مصدر رأى الحلمية الدالة على ما يقع في النوم سواء كان مرثياً أم لا على ما هو المشهور والرؤية: مصدر رأى البصرية الدالة على إدراك مخصوص وفرق بين مصدر المعنيين بالتأنيثين ونظير ذلك: القرب للتقرب المعنوي بعبادة وتحوها والقربى للتقرب النسبي وحقيقتها عند أهل السنة كما قال النووي: أن الله سبحانه يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وقد جعل سبحانه تلك الاعتقادات علماً على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال. ثم إن ما يكون علماً على ما يسر بخلقه بغير حضرة الشيطان وما يكون علماً على ما يضر يخلقه بحضرته ويسمى الأول رؤيا وتضاف إليه تعالى إضافة تشريف والثاني حلماً وتضاف إلى الشيطان وعلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان)) وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها من الله تعالى فليحمد الله تعالى وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنها الشيطان فليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ومن شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لن تضره)) . وصح عن جابر عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)) وقيل هي أحاديث الملك الموكل بالأرواح إن كانت صادقة ووسوسة الشيطان والنفس إن كانت كاذبة ونسب هذا إلى المحدثين. وقال غير واحد من المتفلسفة: هي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المخيلة إلى الحس المشترك والصادق منها إنما يكون باتصال النفس بالملكوت لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 بينهما من التناسب. وذكر بعض أكابر الصوفية ما يقرب من هذا. ثم اعلم أن المشهور أن الرؤيا الصادقة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة ووجه ذلك عند جمع: أنه - صلى الله عليه وسلم - بقي ستة أشهر يرى الوحي مناماً ثم جاءه الملك يقظة وستة أشهر بالنسبة إلى ثلاث وعشرين سنة جزء من ست وأربعين وروى جزء من خمسة وأربعين جزءاً وروى أنها جزء من أربعين وروى أنه جزء من سبعين فلعله إشارة إلى كثرة أجزاء النبوة. اهـ ملخصاً. ثم اعلم أن الناس اختلافاً في النفس وكذا في الروح فلنذكر ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى تتميما إن شاء الله تعالى للفائدة في أبحاث مختصرة: البحث الأول [الروح] اختلف الناس في الروح والنفس وهل هما شيء واحد أم شيئان؟ فحكى ابن يزيد عن أكثر العلماء أنهما شيء واحد فقد صح في الأخبار إطلاق كل منها على الآخر. قال الوالد في (روح المعاني) : وما أخرجه البراز بسند صحيح عن أبي هريرة رفعه: ((أن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يود لو خرجت نفسه والله تعالى يحب لقاءه وأن المؤمن تصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين ستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا. .)) الحديث - ظاهر في ذلك وقال ابن حبيب:هما شيئان فالروح هو النفس المتردد في الإنسان والنفس أمر غير ذلك لها يدان ورجلان ورأس وعينان وهي التي تلتذ وتتألم وتفرح وتحزن وأنها هي التي تتوفى في المنام وتخرج وتسرح وترى الرؤيا والجسد دونها بالروح فقط لا يلتذ ولا يفرح حتى تعود واحتج بقوله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 {الله يتوفى الأنفس} الآية. وحكى ابن منده عن بعضهم: أن النفس طينية نارية والروح نوريه روحانية وعن آخر: أن النفس ناسوتية والروح لا هوتية وذكر أن أهل الأثر على المغايرة وأن أقوام النفس بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدي لابن آدم من نفسه لا تريد إلا الدنيا. وقال الوالد عليه الرحمة: روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن في ابن آدم نفساً وروحاً بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي بها العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحرك فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم وهو قول بالفرق بين النفس والروح. ونسبة بعضهم إلى الأكثرين ويعبر عن النفس بالنفس الناطقة وبالروح الأمرية وبالروح الإلهية وعن الروح بالروح الحيوانية وكذا بالنفس الحيوانية والثانية كالعرش للأولى. قال بعض الحكماء المتأهلين: إن القلب الصنوبري فيه بخار لطيف هو عرش للروح الحيوانية وحافظ لها وآلة يتوقف عليها آثارها والروح الحيوانية عرش ومرآة للروح الإلهية التي هي النفس الناطقة وواسطة بينها وبين البدن بها يصل حكم تدبير النفس إليه - إلى أن قال الوالد -: وأخرج ابن أبي حاتم أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ((العجب من رؤيا الرجل إنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤياه كأخذ باليد ويرى الرجل الريا فلا تكون رؤياه شيئاً؟)) فقال علي كرم الله وجهه: ((أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين يقول الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} [الزمر 42] فالله يتوفى الأنفس كلها فما رأت وهي عنده سبحانه في السماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فهي الرؤيا الصادقة وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهي الكاذبة لأنها أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها فعجب عمر من قوله رضي الله عنهما. اهـ باختصار. وملخص تفسير هذه الآية كما قال: {الله يتوفى الأنفس} أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها تعلق فيها عنها {حين موتها} أي في وقت موتها {والتي لم تمت} أي يتوفى الأنفس التي لم تمت وقوله تعالى: {في منامها} متعلق بتوفي أي يتوفاها في وقت نومها - على أن مناماً اسم زمان وجوز كونه ميمياً بأن يقطع سبحانه تعلقها بالأبدان تعلق التصرف عنها أيضاً. فتوفى الأنفس حين الموت وتوفيها في وقت النوم بمعنى قبضها عن الأبدان وقطع تعلقها بها تعلق التصرف إلا أن توفيها حين الموت قطع لتعلقها بها تعلق التصرف ظاهراً وباطناً وتوفيها في وقت النوم قطع لذلك ظاهراً فقط {فيمسك} الأنفس {التي قضى} في الأزل {عليها الموت} ولا يردها إلى أبدانها {ويرسل الأخرى وهي النائمة إلى أبدنها {إلى أجل مسمى} هو الوقت المضروب للموت حقيقة. اهـ وبقي في الآية كلام من أحب الاطلاع عليه فليرجع إلى ذلك التفسير ففيه ما يحير الإفهام ويعذ كالزلال النمير. البحث الثاني [في الإنسان] ذهب جمهور المتكلمين إلى أنه عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم المحسوس وهو الذي يشير إليه الإنسان بقوله ((أنا)) وأبطله الإمام بحجج للبحث فيها مجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وقيل: إن الإنسان هو الروح الذي في القلب وقيل إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ وقيل: إنه أجزاء نارية مختلطة بالأرواح القلبية والدماغية وهي المسماة بالحرارة الغريزية وقيل هو الدم الحال في البدن وقيل إلى نحو ألف قول. والمعول عليه عند المحققين قولان: الأول: أن الإنسان عبارة عن جسم نوراني علوى حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس سار فيه سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحاً لقبول الفيض لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان والروح عبارة عن ذلك الجسم - واستحسن هذا الإمام فخر الدين. وقال المحقق ابن القيم في كتابه (الروح) : إنه الصواب وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة وذكر له مائة دليل وخمسة أدلة فليراجع فإنه كتاب مفيد جداً يهب للروح روحاً ويورث للصدر شرحاً. الثاني: أنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه لكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف. قال الوالد: وهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة وذهب إليه جماعة عظيمة من المسلمين منهم الشيخ أبو القاسم الأصفهاني وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي ومن المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 المفيد ومن الكرامية جماعة ومن أهل المكاشفة والرياضة أكثرهم. ومن أراد الإحاطة بالأدلة والتفصيل فليرجع إلى كتب الإمام الرازي كالمباحث الإشرافية وكتب أبي علي وشهاب الدين المقتول وإلى كتاب الروح والنفس لابن القيم وروح المعاني وغيرها. البحث الثالث [الروح حادثة أم هي قديمة؟] اختلف الناس أيضاً في حدوث الروح وقدمه أجمع المسلمون على أنه حادث حدوثاً زمانياً كسائر أجزاء العالم إلا أنهم اختلفوا في أنه هل هو حادث قبل البدن أم بعده؟ فذهب طائفة إلى الحدوث قبل منهم محمد بن نصر المروزى وأبو محمد بن نصر المروزى وأبو محمد بن حزم الظاهري صاحب الملل والنحل وحكاه إجماعاً وليس كذلك واستدل لذلك بما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منا اختلف)) . قال ابن الجوزى في تبصرته: قال أبو سليمان الخطابي: معنى هذا الحديث الإخبار عن كون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد وبقوله تعالى: {وإذا أخذ ربك كم بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى} [الأعراف 172] الآية، وقوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة} [الأعراف 11] الآية وذهب آخرون منهم حجة الإسلام الغزالي إلى الحدوث بعد. ومن أدلة ذلك كما قال ابن القيم الحديث الصحيح: ((إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً دماً ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح)) . ووجه الاستدلال أن الروح لو كان مخلوقاً قبل لقيل ثم يرسل إليه الملك بالروح فيدخله فيه ويجاب عنه بما لا يخفى عليك. وذهب أفلاطون ومن تقدمه من الفلاسفة إلى قدم الروح وردهم مفصل في الكتب الكلامية من أحب الاطلاع فليرجع إليها. البحث الرابع [مستقر الأرواح في البرزخ] اختلف الناس في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة. فقال كثيرون: إن أرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين. وقالت طائفة: على أفنية قبورها. وقال الإمام مالك بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت وروى عبد الله ابن الإمام عن أبيه أن أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة. وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين: أن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببر هوت بئر بحضرموت. وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة وقال طائفة: أرواح المؤمنين في بئر زمزم وأرواح الكفار ببئر بر هوت. وقال طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن شماله وقال ابن حزم وطائفة: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وقال ابن عبد البر:أرواح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين على أفنية القبور. وقال فرقة: مستقرها العدم المحض وهذا قول مخالف للنصوص القرآنية والنبوية وإجماع الصحابة والتابعين. وقالت فرقة:مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح كالسبع والكلب والحشرات وهذا قول التناسخية منكرى المعاد وهو خارج عن أقوال أهل الإسلام. وإن أردت تفصيل أدلة هذه الأقوال فعليك بكتاب الروح لابن القيم عليه الرحمة - قال: ولا يضيق عطنك عن كون الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت وتسمع سلام المسلم عليها عند قبرها وتدنو حتى ترد عليه السلام. وللروح شأن آخر غير شأن البدن وهذا جبريل صلوات الله تعالى عليه رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - وله ستمائة جناح منها جناحان قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب وكان يدنو من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يضع ركبته ويديه على فخذيه وما أظنك يتسع بطانك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السموات حيث هو مستقره وقد دنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الدنو فإن التصديق بهذا له قلوب خلقت له وأهلت لمعرفته. ومن لم يتسع بطانه لهذا فهو يضيق أن يتسع للإيمان بالتنزيل الالهي إلى سماء الدنيا كل ليلة وهو فوق سمواته على عرشه ولا يكون فوقه شئ ألبته. بل هو العالي على كل شيء وعلوه من لوازم ذاته وكذلك دنوه عشية عرفة من أهل الموقف وكذلك مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه وإشراق الأرض بنوره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وكذلك مجيئه إلى الأرض قبل يوم القيامة حين يقبض من عليها ولا يبقى بها أحد كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد - هذا وهو فوق سمواته على عرشه)) اهـ. البحث الخامس [هل تموت الروح؟] اختلف الناس أيضاً في الروح: هل تموت أم لا؟ فذهبت طائفة إلى أنها تموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت وإذا كانت الملائكة يموتون فالأرواح البشرية أولى. وقالت طائفة: إنها لا تموت للأحاديث الدالة على نعيمها وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى إلى الجسد قال في روح المعاني: والصواب أن يقال: موت الروح هو مفارقتها الجسد فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت وإن أريد أنها تعدم وتضمحل فهي لا تموت بل تبقى مفارقة ما شاء الله تعالى ثم تعود إلى الجسد وتبفى معه في نعيم أو عذاب أبد الآبدين. اهـ. [قصيدة ابن سينا في الروح ومعارضه الدهلوى لها] وللروح معان أخر ليس هذا موضع ذكرها من أرادها فليرجع إلى كتب التفسير والله سبحانه ولى التوفيق ومن المنظومات في أمر الروح ما قاله أبو على بن سينا وهو قوله: [كامل] هبطت إليك من المحل الأرفع ... ررقاء ذات تعزز وتمنع محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع أنفت وما أنست فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ومنازلاً بفراقها لم تقنع وأظنها نسيت عهوداً بالحمى ... عن ميم مركزها بذات الأجرع حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... بين المعالم والطلول الخضع علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بمدامع تهمى ولم تتقطع تبكي وقد ذكرت عهوداً بالحمى ... درست بتكرارا الرياح الأربع وتظل ساجعة على الدمن التي ... نقص عن الأوج الفسيح المربع إذ عاقها الشرك الكثيف فصدها ... ودنا الرحيل إلى القضاء الأوسع حتى إذا قرب المسير عن الحمى ... ما ليس يدرك بالعيون الهجع سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت ... والعلم يرفع كل من لم يرفع وغدت تغرد فوق ذروة شاهق ... عال إلى قعر الحضيض الأوضع فلأي شيء أهبطت من شامخ ... طويت على الفذاللبيب الأروع إن كان أهبطها الإله لحكمة ... لتكون سامعة لما لم تسمع فهبوطها إن كان ضربة لازب ... في العالمين فخرقها لم يرقع وتعود عالمة بكل خفية ... حتى لقد غربت المطلع وهي التي قطع الزمان طريقها ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع فكأنما برق تألق بالحمى ... عنه فنار العلم ذات تشعشع فانعم برد جواب ما أنا فاحص وقد زد عليه العارف العلامة الشيخ رفيع الدين بن مسند الوقت أحمد ولى الله الدهلوي رحمهما الله تعالى في قصيدة بديعة وهي هذه: [كامل] : عجباً لشيخ فيلسوف ألمعى ... خفيت لعينيه منارة مشرع هلا تقطن أن بعث النفس في الأ ... بدان ينشأ من مواطن شفع منها مواطن عاممات الحكم أو ... مختصة مترتبات الموقع ولكلها حكم وغايات بها ... تستوجب التخصيص في المتفرغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وجميعها للنفس غايات على ... أن التفاوت ثابت لم أمنع لتغالب الأشداد في تلك الأنـ ... ـابيب قارب بفوز الينبع فأعمم غايات الوجود بروزنا ... في روضة الإمكان يدخل يرتعى وشمول أطوار الوقوع مراده ... إلا الذي قال النظام له دع والغيض لا يرضى تخلف ما به ... حفت دواعى كونه بالمجمع كطوافح الأفلاك في حركاتها ... ورواشح الأنواع في المستنقع ومدبرات في معارج نزهة ... عن صولة التأثير ذات تضلع ونفوس إنسان وجن أفعمت ... من همة تطفى شديدة مقرع ولها سياق ينتشى الجزئى عن الـ ... أصل الجليل المستمر الأوسع وكفى كمالاً للفروع بأنه ... يوفى به حق لأصل أبرع ووراءه في الخلق دور يعتنى ... تعميرها عند الإله الأرفع أو ما ترى لو لم يكن في دارنا ... هذا أناس كان مثل البلقع وانظر لكثرة اختلاف هوائهم ... فبه أقام السوق للمتطلع أو ليس أسبغ ثم أطول مدة ... للعيش من دنياك دار المرجع فانظر لو سعتها وكثرة ما بها ... من طيب لذات وهول مفظع ولئن سما العرفان فيك تراهما ... ملكين قدرهما على الموضع هل يرتجى جود الحكيم ليحرما ... متطلبين عن الغذاء المشبع فمصائب ذابت بها لحياتها ... طبخ لها للمضغ أو لتجرع وضروب أعمال عليها أغربت ... كتوابل مزجت لجودة منجع ووفاتها من قوة جذابة ... بهما وترجع لاجترار المبلع وشدائد لحقت بها بعد البلى ... كالهضم يعوض في بطون الجوع أو ليس فيما يغتذى ما يستحيـ ... ـل بأعين أو ظفرة للأصبع فكما هناك ذخائر للأنبياء ... والصالحين وجمع أهل تطوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ومنائح تعطى بإيمان فأفعال ... وأحوال كصدق تخشع فكذا لنفس الساذجين ونيلها ... من بسط استعدادها المتوقع وسواهما طبع العناصر يقتضى ... أن يرتقى عن كل وضع أوضع فإذا اكتست من اعتدال خلعة ... جذبت لها نفساً لأجل تمتع والنفس تسقط نحوها بتعشق ... لتناسب المعنى العديم المدفع فتناسب المعنى يهيج مليها ... بالجسم لا سمع لما لم تسمع كالطير يهوى إن رأى في فخه ... حباً ولا يدري مكيد الأخدع ولقانص فيه منافع جمة ... كالأكل أو حلب لمال البيع فإذا رأت يأساً عن المطلوب كـ ... ـرت وهي ترغب في جوار المبدع ولها طريف العيش أو مألوفه ... أو حسرة من فعلها المتصنع وتقدم النفس المطيعة والعنيـ ... ـدة كالمعد كمال نفس تبع وكذا نفوس الضائعين فربما ... تفضى بقوة لا حق وتمنع أو ليس جر نوابت الأغصان للتـ ... ـثمير من عادات قوم زرع والحر في يوم يضعف في غد ... تسخين ضوء الشمس عند تقشع ولربك المتعال منك تقاول ... ويحب إعذاراً لعذر المدعى وجميع أنفسنا هنالك لم تزل ... من حفظها عهد المحبة تدعى فأثارها دون الحجاب ليبتلى ... ذا الصدق من ذي الافتنان المبدع وأتاح فيهم أنفساً مخطوفة ... لزيادة التفتين أو لتشفع ولهم بهم ربط متين النسج لا ... ينفعك طول الدهر بالموت النعى فتقر أعينهم ويكثر جمعهم ... بهم وحزنهم على المتضيع وله خطاب بالتلطف نحوهم ... في البسط أطنب من كتاب مشبع ولئن تقل بنزولها لتعدد الـ ... أعراض لست عن الصواب بمهطع فلها هناك تكاسف ومواقف ... ومعاملات شرحها لم يصدع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وحديث إبليس وآدم عبرة ... لك إن تكن من ذي العيون الهجع والفكر يرشدك المعارف جملة ... إن كنت تنظر فيه نظرة أصمع وله تعالى من صفات كماله ... ما يقتضي آثارها بتنوع أو ليس عطلها وكف المشتهى ... عنها بشر ذي فساد أشيع فهو الشكور البرذو البطش الشديـ ... ـد مبادر بالفضل لا عن مطمع وهو الخبير بظاهر الأشياء والمـ ... ـبطون فيها دون لب الأروع فيعامل الأقوام باستعدادهم ... وغداً فيبدى السر للمتبع فعسى تراهم كالرقوم على بسا ... ط ذات ألوان غرائب صوع أوضاعها بتناسب وجهاتها ... بتقابل في ضابط كمرصع أو مثل عد في بيوت الوفق كسـ ... ـر ثم سير فاستوى بتوزع فلو انقلبت بواحد بطل النظا ... م ولا يرى من لم يحط بمرقع ولئن دريت حياتها ومماتها ... وإلام نقلتها بسير مسرع لعرفت أن النفس قبل حلولها ... بالجسم مثل البذر لما يزرع والبذر مختلف القوام سلامة ... وسواءها من كل أوصاف تعى وثمارها متفاوت وصنوفها ... متكاثر من جنسها المتنوع وجميع قوتها بها مكنونة ... وخدودها عن خالها تتنصع ما شأنها إلا شعور مجمل ... بذواتها والمبدأ المترفع وبها أحاط بها وشاكل لونها ... وجميعها بتوحد مستجمع إياك أن ترمى إليها شنعة ... بنفورها عن أن تحل بمربع فهناك كانت للقضاء مطيعة ... كملائك لم تدر غير تخضع أفضى بها الأفراح حين ترعرع وتجاذب بين القوى ذاك الذي ... ر غصونها في موطن متوسع وطباعها لا يقتضي إلا انتشا ... وجمالها يقوى كمثل البرقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ومحل هاتيك القوى هي نسمة ... وحدوثها من إختلاط الأربع وركوبها متن النسيمة بدؤها ... وبها الرحيل إلى فضاء المرتع فيها استعدت للمعاد مخلداً ... ـتيفاء ما عن وصله لم تمنع وبهالها السلطان في العقبى على اسـ ... ل وغيرها عن حده لم يرفع وهي المطية للترقى في الكما ... ولو أنه كالبارق المتلمع فهبوطها في الجسم سنخ كمالها ... من عيشة تغمى وضر موجع وانظر لما تبلى به في عمرها ... بالقصد والأخرى كدفع المضجع تجد الأمور لشعبتين فشعبة ... فالقلب لا يهدا بغير تطلع فإذا أتاها سائح لضرورة ... بقبوله أو لفظه لتبشع بل لا يزال يقوم فيها حاكما ... أو عزمة أو هاجس لم يوقع وله مراتب مثل فعل نافذ ... نبه يصير كمثل ثوب مجزع وله رضا وتلذذ في حكمه ... أشخاص منثل الندب لم يتقلع ونقوشها هي لا تزال تلازم الـ ... ونتائج عن غرسها في المزرع وجميع ما تلقى تماثيل لها ... من خلقها وطباعها المتطبع وجميع هاتيك القضايا أصلها ... متبجحاً عجباً ولو ذا المبخع وعسى ترى الإنسان في آرائه ... يأساً بليغاً مقنطاً عن مفزع فاعرف بأن الأشقياء إذا رأوا ... سارت نفوسهم بكل تشجع فلهم إذن شأن عجيب نحوه ... أنوار فطرتها بغير تلفع أما نفوس الساذجين فتشتهى ... وسلامة عن جذب أيدى النزع وبلوغها المأوى بغير تعمل ... وفكاك أسر مثل ما للأخلع ومقام إدلال على رب الورى ... هو للنفوس بأسرها كالمنبع والإرتقاء بعجلة نحو الذي ... ومن أين انعقدت لكنت بمقنع والله إن يكشف عليك صميمها ... كل الطبائع من وفور تشعشع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 أو ما سمعت عناية البارى اقتضت ... قامت به أزلاً بغير تكعكع فهناك فاضت كلها معقولة ... وكذا اقتران لوازم لم تنزع لا يدخل التعليل في تحديدها ... بل كاندراج الضوء في المتشعشع وقيامها ما كان شبه عوارض ... وتوحدت فيه لفرط تمصع فله مراتب في الفضاء تباينت ... ـماء على أعلى المراتب سطع والعارفون يرونها أظلال أسـ ... حتى اتقلت كالنجوم الطلع فتعاورت أيدى العقول نظامها ... فحكى المرائى كل سر مودع تلقى على لوح النفوس شعاعها ... أحكامها فبدا الشخوص بأجمع فتشعبت آثارها وتركبت ... ترتاده أبداً بغير المقطع وتميزت أعينانها بجميع ما ... أرأيتها انتقشت بما لم يطبع ولها الهيولى مثل شمعة خاتم ... فيها وكان له الطباع كمولع وهل الكمال سوى تحصل ما انطوى ... لا ريب ليس يفوت عند تمزع فكمال أنواع بدت وصنوفها ... ل كمثل أعمى ليس يسمع أقطع إن لم يكن فرد على ذاك الكما ... قطعاً وإن يطرب له أو يجزع وكماله الشخصي ليس بفائت ... أخرى فليست قوة الشعرا معى وإذا انتهيت إلى هنا فالصمت إلى ... في صنع رب قاهر متمنع وهل اللسان يفى بنشر دقائق ... لأصول مشائية لم أتبع لا تنكرن على حيث وجدتنى ... ومرادنا الحق الذي فينا رعى فالحق أعظم أن يحاط بمسلك ... بعقال فن واحد كالأضلع والشيخ قيد نفسه ودهاءه ... والحمد للهادى الرفيع الأنفع ثم الصلاة على النبي وآله تضمنت هذه القصيدة الجواب عن السؤال المذكور بسبعة أوجه: الوجه الأول: بالنظر إلى فيض القضاء. والسابع: بالنظر إلى فيض القدر. والرابع: بالنظر إلى صفات التشريع والكلام، والخامس: بالنظر إلى صفات التدبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وحسن الانتظام، والثالث: بالنظر إلى النشأة الدنيا، والثاني: بالنظر إلى اقتضاء النشأة العقبى، والسادس: بالنظر إلى طبائع النفوس أنفسها. وبعض هذه الوجوه السبعة يشتمل على عدة وجوه جزئية في ضمنها فهذا تفصيل لقوله ((مواطن شفع)) والله سبحانه أعلم وأحكم. اهـ. (قوله: الغزالي ذكر شيئاً من ذلك في بعض كتبه إلى آخره) أما هذان الكتابان فلم أظفر بهما إلا أنه ذكر في بحث طويل لعجائب القلب من إحياء العلوم ما نصه: فإذن للقلب بابن مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة وباب مفتوح إلى الحواس المتمسكة بعالم الملك والشهادة وعالم الشهادة والملك أيضاً يحاكى عالم الملكوت نوعاً من المحاكاة فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباس من الحواس فلا يخفى عليك وأما انفتاح بابه الداخل إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوح المحفوظ فتعلمه علماً يقيناً بالتأمل من عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل أو كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس؛ وإنما ينفتح ذلك الباب لمن انفر بذكر الله تعالى. فعلوم الأولياء والأنبياء تتأتى من داخل القلب من الباب المنفتح إلى عالم الملكوت وعلوم العلماء والحكماء تتأتى من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك وعجائب علم القلب وتردده بين عالمي الشهادة والغيب لا يمكن أن يستقضى في علم المعاملة. اهـ. فتبر ولا تغفل. (ترجمة الإمام أبي بكر بن العربي) (قوله: أبي بكر بن العربي) قال ابن خلكان: هو محمد بن عبد الله بن محمد ابن عبد الله بن أحمد المعروف بابن العربي المعافرى الأندلسى الأشبيلى الحافظ المشهور وقال ابن بشكوال: هو الحافظ ختام علماء الأندلس لقيته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 بمدينة أشبيلية فأخبرني أنه رحل إلى المشرق مع أبيه وأنه دخل الشام ولقي بها أبا بكر محمد بن الوليد الطرطوشى وتفقه عنده ودخل بغداد وسمع بها من جماعة ثم دخل الحجاز فحج. ثم عاد إلى بغداد وصحب بها أبا بكر الشاشى وأبا حامد الغزالي وغيرهما من العلماء ثم صدر عنهم ولقي بمصر والإسكندرية جماعة من المحدثين فاستفاد منهم ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاثة وتسعين وأربعمائة وقدم إلى أشبيلية بعلم كثير. وكان من أهل التفنن في العلوم متكلماً في أنواعها وكانت ولادته سنة ثمان وستين وأربعمائة ووفاته سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ودفن بفاس انتهى. [الدس في بعض الكتب] (قوله: ومنهم من يقول إنها مكذوبة عليه) أقول: كما وقع في كتب بعض الأجلة من دس الحسدة في بعض كتبهم كلمات شنيعة وعبارات فظيعة بل قد ألف بعض أصحاب المذاهب المبتدعة كتبا لترويج مذهبهم وعنونوها باسم علماء السنة كاحكاه في التحفة الإثني عشرية. وقال الشعراني في الأجوبة المرضية: وقد فعلوا ذلك في كتابي المسمى (بالبحر المورود في المواثيق والعهود) فإن بعض الحسدة كتب له منه نسخة ودس فيها أموراً تخالف الشريعة. وطاف بها في الجامع الأزهر وغيره وثارت الفتنة حتى أرسلت لهم نسختي السالمة من الدس التي كان مشايخ الإسلام قد أجازوها ومدحوها ففتشوها فلم يجدوا فيها شيئاً مما دسة الحسدة يغفر الله تعالى لهم. وقد بلغني أن الإمام مصطفى القرماني الحنفي شرح مقدمة أبي الليث السمر قندي شرحاً عظيماً ودخل به مصر ليطلع عليه علماء مذهبه فدس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فيه بعض الحسدة في باب (آداب الخلاء) : ولا يستقبل الشمس ولا القمر لأن إبراهيم الخليل كان يعبدهما فأفتوا بقتله فخرج في الليل من مصر هارباً ولم يرجع إليها. انتهى (قلت) : ومن ذلك ما دسه بعض الحسدة المخالفين على الشيخ ابن تيمية أنه كفر حبر الأمة ابن عباس في كتابه (الصراط المستقيم في الرد على أهل الجحيم) كما نقله في (كشف الظنون عن الحصنى في كتابه الذي ألفه في الرد عليه. فانظر بعين الإنصاف كيف يتصور من شيخ الإسلام الذي قام في انتصار السنة أتم قيام وبلغت مصنفاته نحو الأربعمائة كتاب واشتهرت سيرته وتحققت عدالته ومحبته وتعظيمه لكافة الأصحاب وذب عن الصحابة أقوال المفترين وجعلهم كلهم أئمة وأخذ في كثير من اختياراته بأقوال ذلك الإمام دون غيره من الصحابة الكرام - أم يكفر ابن عباس! فما هذا الافتراء إلا من شيطان خناس أعاذنا الله تعالى من أمثاله ولا رمانا بمثل مفتريات أقواله ولقد أحسن القائل: [بسيط] إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شراً أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا (ترجمة الإمام المازرى) (قوله: المازرى) - هو محمد بن علي التميمى الفقيه المالكي المحدث أحد الأعلام المشار إليهم في حفظ الحديث والكلام عليه وشرح صحيح مسلم وله في كتب متعددة وكذا في غير توفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة بالمهدية والمازرى: نسبة إلى مازار - بالزاي - وهي بلدة بجزيرة صقلية قاله في الوفيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 (ترجمة الإمام الطرطوشي) (قوله الطرطوشي) - هو محمد بن الوليد بن محمد القرشي الأندلسي الطرطوشي (بضم الطاءين المهملتين) نسبة إلى طرطوشة بالشين المعجمة وهي مدينة في آخر بلاد المسلمين بالأندلس على ساحل البحر المعروف بابن أبي زندقة - بالراء وسكون النون وفتح الدال والقاف - وهي لفظة أفرنجية قيل: إن معناها رد تعال وهو الفقيه المالكي الزاهد صحب أبا الوليد الباجي بمدينة سرقسطة فأخذ عنه مسائل الخلاف وسمع منه وقرأ الأدب على أبي محمد بمدينة أشبيلية ورحل إلى دمشق سنة ست وسبعين وأربعمائة وحج ودخل بغداد والبصرة وتفقه على أبي بكر محمد الشاشى الفقيه الشافعي وسكن الشام مدة ودرس بها وكان إماماً عالماً عاملاً زاهداً ورعاً متواضعاً متقشقا متللاً من الدنيا وكان كثيراً ما ينشد: [رمل] إن لله عباداً فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا فكروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحى وطنا جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا ولما دخل على شاهنشاه وكان بجانبه رجل نصراني فوعظ شاهنشاه حتى بكى وأنشد: [سريع] ياذا الذي طاعته قربة ... وحقه مفترض واجب إن الذي شُرفت من أجله ... يزعم هذا أنه كاذب وأشار إلى النصراني فأقامه شاهنشاه من موضعه وله تصانيف كثيرة منها (سراج الهدى، وسراج الملوك) وله طريقته في الخلاف وكانت ولادته سنة إحدى وسبعين وأربعمائة تقريباً وتوفي سنة عشرين وخمسمائة قال ابن خلكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 (ترجمة الإمام ابن الجوزي) (قوله ابن الجوزي) - هو أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد وينتهى نسبه إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - البغدادي الفقيه الحنبلي الواعظ الحافظ. قال ابن خلكان: كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ صنف في فنون عديدة وكتبه أكثر من أن تعد وكتب بخطه شيئاً كثيراً والناس يغالون في ذلك يقولوا: إنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس. وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل: ويقال: إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به ففعل ذلك فكفت وفضل منها وله أشعار لطيفة منها قوله يخاطب أهل بغداد: [متقارب] عذيرى من فتية بالعراق ... قلوبهم بالجفا قلب يرون العجيب كلام الغريب ... وقول القريب فلا يعجب ميازيبهم إن تندت بخير ... إلى غير جيرانهم تقلب وعذرهم عند توبيخهم ... مغنية الحى لا تطرب وله أجوبة نادرة منها: أنه وقع النزاع بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فرضى الكل بما يجيب به. فسألوه وهو على الكرسي في مجلس وعظه فقال أفضلهما من كانت ابنته تحته ونزل وله محاسن كثيرة يطول شرحها. ولد تقريباً سنة ثمان وخمسمائة وتوفي ليلة الجمعة ثاني عشر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة ببغداد ودفن بباب حرب. انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 قلت: وسمعت من بعض الناس أن قبره في بعض البساتين التي هي شرق مسجد السيد سلطان على. والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك. قيل: وأوصى أن يكتب على قبره: [رمل] يا كثير الصفح عن من ... كثير الذنب لديه جاءك المذنب يرجو الـ ... ـعفو عن جرم يديه أنا ضيف وجزاء الضـ ... ـيف إحسان إليه ومن تصنيفاته تفسير القرآن الكريم المسمى: (بزاد المسير) أتى فيه بأشياء غريبة والتبصرة في المواعظ وكتاب الصفات وترجمة وترجمة الإمام أحمد والتاريخ الكبير ومختصر الإحياء وصفوة الصفوة والموضوعات في الحديث أربعة أجزاء وغير ذلك. والجوزي - بفتح الجيم وواو وزاي معجة - نسبه إلى فرضة الجوز وهو موضع مشهور وقيل: إن جده كان مشرعه الجوزى مكان من جانب الغربي ببغداد وكان أبوه يعمل الصفر بنهر القلائين في الجانب الغربي منها. ومع فضائله المشهورة ومناقبه المسطورة لم يسلم أيضاً من تنقير أقلام المعترضين على كلامه في البعض وبعض مسائل الدين فقد انتقده ابن الأثير بسبب انتقاده للإمام الغزالي الشهير. وقال أيضاً ابن رجب الحنبلي، كما نقله عنه في الشذرات بما نصه: نقم عليه جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم لميلة إلى التأويل في بعض كلامه واشتد نكيرهم عليه في ذلك ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف وهو وإن كان مطلعاً على الأحاديث والآثار فلم يكن بذاك. يحل شبه المتكلمين ويبين فسادها وكان معظما لأبي الوفاء ابن عقيل متابعاً لأكثر ما يجده من كلامه وإن كان قد رد عليه في بعض المسائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وكان ابن عقيل بارعاً في الكلام ولم يكن تام الخبرة بالحديث والآثار فلهذا يضطرب في هذا الباب وتتلون فيه آراؤه وأبو الفرج تابع له في هذا التلون. انتهى. (قلت) : وممن انتقده أيضاً الشيخ في شرح الأصبهانية فإن أردت التفصيل فعليك به والله الموفق للصواب. (ترجمة ابن عقيل) (قوله: وابن عقيل) - وهو على ماقاله ابن الأثير في الكامل: أبو الوفاء على ابن عقيل بن محمد بن عقيل شيخ الحنابلة في وقته ببغداد وكان حسن المناظرة سريع الخاطر وكان قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته على أبي الوليد فأراد الحنابلة قتله فاستجار بباب المراتب عدة سنين ثم أظهر التوبة حتى تمكن من الظهور. وله مصنفات من جملتها: كتاب الفنون توفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. وقال في الشذرات: أبو الوفا على بن عقيل البغدادي الطفري شيخ الإسلام الحنابلة وصاحب التصانيف ومؤلف كتاب الفنون الذي يزيد على أربعمائة مجلد وكان إماماً مبرزاً كثير العلوم حاذق الذكاء مكباً على التصنيف عديم النظير. قال ابن السلفي: ما رأيت مثله وما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه وقوة حجته. توفي وعمره ثلاث وثمانون سنة وله مشايخ كثيرون. قال ابن الجوزي: كان قوي الدين حافظاً للحدود وكان كريماً ينفق ما يجد ومن أكبر تصانيفه كتاب الفنون مائتا مجلد. وقال الحافظ الذهبي في تاريخه: لم يصنف في الدنيا أكبر منه حدثني من رأى منه المجلد الفلاني بعد الأربعمائة وقال بعضهم: هو ثمانمائة مجلد وله غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ولقد تكلم يوماً مع أبي الحسن الكياهراسي في مسألة فقال له الكياهراسي ليس بمذهبك فقال: أنا لي اجتهاد متى طالبني خصمى بحجة كان عندي ما أدفع به عن نفسي وأقوم له بحجتى - انتهى. وكان ابن عقيل كثير التعظيم للإمام أحمد وأصحابه والرد على مخالفيهم وله مسائل كثيرة ينفرد فيها منها: أن الربا لا يجري إلا في الأعيان الستة المنصوص عليها: أن المشروع في عطية الأولاد التسوية بين الذكور والإناث ومنها: أنه يجوز استئجار الشجر المثمر تبعاً للأرض لمشقة التفريق بينهما. ومنها: الزروع والثمار التي تسقى بماء نجس طاهرة مباحة وإن لم تسق بعده بماء طاهر ومنها: أنه لا يجوز وطء المكاتبة وإن اشترط وطؤها في عقد الكتابة ومنها: أنه لا زكاة في حلى المواشط المعد للكراء إلى غير ذلك. توفي بكرة الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى سنة خمس عشرة وخمسمائة وصلى عليه في جامع القصر والمنصور. قال ابن ناصر: حزرتهم بثلثمائة ألف ودفن قرب الإمام أحمد قاله ابن رجب ونقل عنه أنه قال: تقلبت على الدول فما أخذتني دولة ولا عامة اعتقد أنه الحق وأوذيت من أصحابي حتى طلب دمى وأوذيت في دولة النظام بالطلب والحبس وقلت: يامن خفت لأجله لا تخيب ظني فيك فعصمني الله تعالى. انتهى. فصل: وأما قول الشيخ ابن حجر: وقد كتب إليه بعض أجلاء عصره - إلى آخره - فكتاب غير ملتئم المباني وتحريره متوعر المعاني لا يعرف قائله وقد استبان فيما سبق باطله مما سردته من كلام شيخ الإسلام وعقائده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الشهيرة بين الأنام وتصانيفه في مناقب الصحابة الكرام لا سيما الفاروق الإمام فما هذا إلا بهتان من الناقلين صريح وعزو غير مقرون بتصحيح وتدليس فيه مافيه كما لا يخفى على المنصف النبيه. وأظنه من كتابه أبي العصر الذي ذكرنا جوابه فيما مر والشيخ في الحقيقة قد تكلم في حق البعض موافقاً في ذلك لغيره كما تقدم. وقد بسطنا ذلك فتذكر - فما في العهد من قدم وأما بحثه في الصحابة الكرام فقد ذكرت لك ما يكذب عنه من نقض وإبرام. ولعله أن يكون يوماً ما ذكر شيئاً راجعاً إلى تقليد المفضول والآخذ بروايته مع وجود الأفضل كما وقع في كافة المذاهب من أخذهم مثلاً بقول ان عباس أو ابن مسعود أو ابن عمر أو عثمان بن عفان دون غيرهم ممن هو أعلم بعد النبيين من كافة الناس كما سنبينه - إن شاء الله تعالى - في بحث الاجتهاد وهذا من الأمور المسلمة المستفيضة لدى مطلع على مآخذ المجتهدين نقاد فغيرت النقلة وبدلت وزورت وحرفت. وما أحسن ما نقله شيخ مشايخنا خالد النقشبندى - نور الله تعالى مرقده - في رسالته في الكسب عن السنوسي في بحث الأشعري ما نصه: لا نسلم صحة هذا القول منه ولئن سلم فلعله صدر عنه في مباحثة جدلية لإفحام الخصم قويت منافرته عن الحق فاحتال في جذبه إلى الحق بنحو من السرقة ولذا قال المشايخ: ما ينقل عن عالم في المباحثة لا يجوز جعله مذهباً. انتهى. فخذ ما فصلناه وتلقى ما سنمليه وما زبرناه فلعلك إن شاء الله تعالى تدفع به سوء الظن عن ذلك الإمام الجليل والله يقول الحق وهو يهدى السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 [أكاذيب تدفعها حقائق] قال العلامة ابن حجر الهيتمي: واعلم أنه خالف الناس في مسائل نبه عليها التاج السبكي وغيره مما خرق فيه الإجماع قوله في يمين الطلاق: أنه لا يقع بل عليه كفارة يمين ولم يقل بالكفارة أحد من المسلمين قبله وإن طلاق الحائض لا يقع وكذا الطلاق في طهر جامع فيه وإن الصلاة إذا تركت عمداً لا يجب قضاؤها وإن الحائض يباح لها الطواف بالبيت ولا كفارة عليها وإن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة. وكان هو قبل ادعائه ذلك نقل إجماع المسلمين على خلافه وإن المكوس حلال لمن أقطعها وإنها إذا أخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاة وإن لم يكن باسم الزكاة ولا رسمها وإن المائعات لا تنجس بموت حيوان فيها كألفارة وإن الجنب يصلى تطوعه بالليل ولا يؤخره إلى أن يغسل قبل الفجر وإن كان بالبلد. وإن شرط الواقف غير معتبر بل لو وقف على الشافعية صرف إلى الحنفية وبالعكس وعلى الفقهاء صرف إلى الصوفية وأمثال ذلك. ومن مسائل الحسن والقبح التزم كل ما يرد عليها وأن مخالف الإجماع لا يكفر ولا يفسق وإن ربنا - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبير! - محل الحوادث وأنه مركب تفتقر ذاته افتقار الكل للجزء - تعالى الله عن ذلك وتقدس! ، وأن القرآن محدث في ذات الله - تعالى الله عن ذلك -! وأن العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله تعالى مخلوقاً دائماً فجعله موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار. وقوله بالجسمية والانتقال وأنه بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر تعالى الله عن هذا الافتراء الشنيع القبيح والكفر الصريح وخذل تبعيه وشتت شمل معتقديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وقال:إن النار تفنى وإن الأنبياء غير معصومين وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاجاه له ولا يتوسل به وإن إنشاء السفر إليه بسبب الزيارة معصية لا تقصر الصلاة فيه وإن التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظها وإنما بدلت معانيها. انتهى. ويلزم أهل المذهب الجسمية والمحاذاة والاستقرار فلعله في بعض الأحيان كان يصرح بتلك اللوازم فنسب إليه سيما ومن نسب إليه ذلك من أئمة الإسلام المتفق على جلالته وإمامته وديانيه وأنه الثقة العدل المحقق المدقق فلا يقول شيئاً إلا عن ثبت وتحقق ومزيد احتياط وتحر. سيما إن نسب إلى مسلم ما يقتضى كفره وردته وضلاله وإهدار دمه. فإن صح عنه مكفر أو مبدع يعامله الله تعالى بعدله وإلا يغفر الله تعالى لنا وله - انتهى كلام ابن حجر. (أقول) وبالله التوفيق: إن هذا الكلام العاطل على حلى التحقيق يتلو عنده كل ذي عقل سليم: سبحانك هذا بهتان عظيم لأن عقيدة هذا الشيخ الجليل مشهورة لدى كل قبيل ومسطورة في تأليفاته الشهيرة وتصنيفاته وفتاويه وهو الذي رد أصحابها من أهل الزيغ والضلال كالمجسمة وغلاة المتصوفة والفلاسفة الجهال. نعم قد ذهب إلى بعض هذه المسائل الفرعية وكم له سلف فيها وأدلة شرعية ولا بدع إذا اجتهد فيها موافقاً لغيره من الأئمة كما وقع أمثال ذلك من علماء الأمة ولو أخطأ فيها فلا لوم عند المنصف عليه. فياليت شعري! لماذا توجه سهام القدح دون سائر العلماء إليه ولو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 أردنا تعداد من ذهب إلى بعض الأقوال المخالفة لأكثر المذاهب لا تسع المقال وهذا الشيخ ابن عربي الذي زكاه وبكل سوء من أجله وأجل الحلاج وأمثاله لابن تيمية رماه - ذهب إلى أكثر من ذلك واختار أعظم مما هنالك كما هو مذكور في فتوحاته المكية وفصوصه الحكمية مما مر في ترجمته ونقلته عنه أيضاً العلماء في كتبهم مما هو بصحة نقلهم. وليس القصد بهذا الكلام الحط على ذلك الهمام بل البيان أن لعلماء أقوالاً لا تتلقاها بالقبول كافة الآراء وسيظهر بحوله تعالى قريباً لك الحي من اللىّ ويبين لكل لبيب الحق من الغي بالتفريع والتأصيل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ولنذكر قبل بيان هذه المسائل فصلين متلازمين ومتقارنين كالفرقدين من سماء كتب الأفاضل في بيان حكم الاجتهاد وتأصيله والتقليد بتفصيله ليكونا إن شاء الله تعالى نافعين فيما نحن بصدد ذكره مستحضرين لتحرى الحق عند اضطراب فكره. الفصل الأول في الاجتهاد [تعريفه وشروطه] وهو لغة: بذل الوسع فيما فيه كلفة مأخوذ - كما نقل ابن أبي زرعة عن الماوردى - من جهاد النفس وكدها في طلب المراد. وفي الاصطلاح - على ما في جمع الجوامع - استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم. والفقيه والمجتهد لفظان مترادفان وهو البالغ العاقل أي ذو ملكة يدرك بها العلوم أي ما من شأنه أن يعلم وهذه الملكة العقل وقيل العقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 نفس العلم أي الإدراك ضرورياً كان أو نظرياً وأن يكون فقيه النفس أي قوى الفهم على التصرف قال أبو إسحق: ومن كان موصوفاً بالبلادة والعجز عن التصرف فليس من أهل الاجتهاد وفي إنكاره للقياس خلاف وان يكون عارفاً بالدليل العقلي وهو البراءة الأصلية ويأنا مكلفون بالتمسك به ما لم يرد دليل ناقل عنه من نص أو إجماع أو غيرهما وأن يكون عارفاً بلغة العرب بالعربية وهو النحو إعراباً وتصريفاً وبأصول الفقه ليقوى على معرفة الأدلة وكيفية الاستنباط وبالبلاغة ليتمكن من الاستنباط قيل في الدرجة المتوسطة بحيث يميز العبارة الصحيحة من الفاسدة والراجحة من المرجوحة وأن يكون عارفاً بالكتاب والسنة ولا يعتبر العلم بجميعها ولا حفظهما. قال العلامة السبكي: المجتهد من هذه العلوم ملكة له وأحاط بمعظم قواعد الشرع ومارسها بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع ويعتبر - على ما قيل - كونه خبيراً بمواقع الإجماع كي لا يخرقه والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وشرط المتواتر والآحاد والصحيح والضعيف أو حال الروآت وسير الصحابة. ولا يشترط فيه علم الكلام وتفاريع الفقه والذكورة والحرية وكذا العدالة على الأصح. وقال الغزالي: إنها شرط. وهذا المجتهد المطلق ودونه مجتهد المذهب وهو المتمكن من تخريج الوجوه على نصوص إمامه. وادعى بعضهم أن هذا النوع قد انقطع أيضاً وهو مردود قال ابن الصلاح: والذي رأيته من كلام الأئمة مشعر بأنه لا يتأذى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد والذي به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأد فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها الاستمداد في الفتوى. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ودونه في المرتبة مجتهد الفتيا وهو المتبحر في مذهبه المتمكن من ترجيح قول على آخر وهذا أدنى المراتب وما بقي بعده إلا العامى ومن في معناه. [هل يتجزأ الاجتهاد؟] والاجتهاد قد يتجزأ على الصحيح أي يحصل الإنسان رتبة الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض فما تمكن فيه من الاجتهاد اجتهد فيه وما لم يتمكن فيه قلد مجتهداً وقد سئل الإمام مالك الله تعالى عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين: لا أدي وكذا الإمام ابو حنيفة توقف في مسائل شهيرة. والمصيب في العقليات واحد كحدوث العالم وثبوت البارئ سبحانه وصفاته وبعثة الرسل ونافى الإسلام مخطئ آثم كافر وقال الجاحظ: لا يأتم في العقليات للاجتهاد. وزاد العنبري: كل مصيب والإجماع على خلاف قولهما. وأما المسألة التي قاطع فيها من مسائل الفقه فقال الأشعري والباقلاني وأبو يوسف ومحمد وابن سريج: كل مجتهد فيها مصيب ثم قال الأولان لأن حكم الله تعالى تابع لظن المجتهد وقال الثلاثة: هنالك ما لو حكم لكان به والصحيح وفاقا للجمهور أن المصيب واحد. قال الفهامة صدر الشريعة في التنقيح: فالمجتهد عندنا يحظىء ويصيب وعند المعتزلة كل مجتهد مصيب. هذا بناء في كل حادثة حكماً معيناً عند الله تعالى وعندهم لا بل الحكم ما أدى إليه الاجتهاد كل مجتهد فإذا اجتهدوا في حادثة فالحكم عند الله في حق كل واحد مجتهده ثم ذكر أدلتهم وأدلتنا ومن جملتها قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} [الأنبياء: 79] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة)) وفي حديث آخر جعل للمصيب أجرين وللمخطئ واحداً. وقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن أصبت فمن الله تعالى وإن أخطأت فمني ومن الشيطان. انتهى باقتصار. وفي إغاثة اللهفان للإمام ابن القيم في الكلام على الحديث المروى في صحيح مسلم عن بريدة ((كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أو صاه)) الحديث ما ملخصه والحديث صريح في أن حكم الله سبحانه في الحادثة واحد معين وأن المجتهد يصيبه تارة ويخطئه لقوله عليه الصلاة والسلام: ((فإن سألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري أتصيب حكم الله تعالى فيهم أم لا)) وقد نص الأئمة الأربعة على ذلك صريحاً. قال أبو عمرو بن عبد البر: ولا أعلم خلافاً بين الحذاق من شيوخ المالكيين - ثم عدهم - ثم قال: كل يحكى أن مذهبه مالك رحمه الله تعالى في اجتهاد المجتهدين والقياسيين إذا اختلفوا فيما يجوز التأويل فيه من نوازل الأحكام أن الحق من ذلك عند الله واحد من أقوالهم إلا أن كل مجتهد إذا اجتهد كما أمر وكان من أهل الصناعة ومعه آلة الاجتهاد فقد أدى ما عليه وهو مأجور على قصده الصواب. وهذا القول هو الذي عليه أكثر أصحاب الشافعي قال: المشهور من قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال الإمام أحمد: إذا اختلفت الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ رجل بأخذ الحديثين وأخذ آخر بحديث آخر ضده فالحق عند الله تعالى في واحد وعلى الرجل أن يجتهد ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وفي الحديث: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) انتهى. [هل يجوز أن يخلو الزمان عن مجتهد؟] قال ابن أبي زرعة في شرح جمع الجوامع: وقد اختلفوا في جواز خلو الزمان عن مجتهد فذهب الأكثرون إلى جواز خلوه عن مجتهد مطلق ومقيد وهو المجتهد في مذهب المجتهد وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) . وذهبت الحنابلة إلى عدم جواز الخلو محتجين بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) . قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في شرح العنوان وهو المختار عندنا: لكن إلى الحد الذي ينتقض به القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان. ويوافقه قوله في خطبة شرح الإلمام: والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة والأمة الشريفة لا بدلها من سالك أداء الحق على واضح المحجة إلى أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى ويتتابع بعده مالا يبقى معه إلا قدوم الأخرى. وقال والده الشيخ مجد الدين في كتابه تلقيح الأفهام عن المجتهد في هذه الأعصار: وليس ذلك لتعذر حصول آلة الاجتهاد بل لإعراض الناس في اشتغالهم عن الطريق المفضية إلى ذلك. انتهى ما حكاه ابن أبي زرعة. وقال الفهامة الشعراني في الميزان نقلاً عن الجلال السيوطي إن الاجتهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 المطلق على قسمين: مطلق غير منتسب كما عليه الأئمة الأربعة ومطلق منتسب كما عليه أكابر أصحابهم الذين ذكرناهم كأبي يوسف ومحمد قال: ولم يدع الاجتهاد المطلق غير المنتسب بعد الأئمة الأربعة الإمام محمد بن جرير الطبري ولم يسلم له ذلك اهـ. ويحتمل أن العلماء الذين كانوا يفتون الناس على المذاهب الأربعة أطلعهم الله تعالى على عين الشريعة الأولى وشهدوا اتصال جميع أقوال الأئمة المجتهدين بها - إلى أن قال: ولما ادعى الجلال السيوطي - رحمه الله تعالى - مقام الاجتهاد المطلق المنتسب كان يفتي الناس بالأرجح من مذهب الشافعي فقالوا له: لم لا نفتيهم بالأرجح عندك؟ فقال: لم يسألوني ذلك وإنما سألوني عما عليه الإمام وأصحابه: فيحتاج من يفتى الناس على الأربعة المذاهب أن يعرف الراجح عند أهل كل مذهب ليفتى به المقلدين، إلا أن يعرف من السائل أنه يعتمد علمه ودينة وينشرح صدره لما يفتيه ولو كان مرجوحاً فمثل هذا لا يحتاج إلى الاطلاع ما هو الأرجح عند أهل كل مذهب - انتهى. ونقل أيضاً في الميزان عن الإمام أحمد أنه كان يقول: كثرة التلقيد عمى في البصيرة كأنه يحث العلماء على أن يأخذوا أحكام دينهم من عين الشريعة ولا يقنعوا بالتقليد من خلف حجاب أحد المجتهدين. وروى الطبراني مرفوعاً: ((أن شريعتي جاءت على ثلثمائة وستين طريقة ما سلك أحد طريقة منها إلا نجا)) ونقل عن الشيخ محيى الدين أنه قال في الفتوحات: لا ينبغي لأحد أن يخطئ مجتهداً أو بطعن في كلامه لأن الشرع الذي هو حكم الله تعالى قد قرر حكم المجتهد فصار شرعاً لله تعالى بتقرير الله تعالى إياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 قال: وهذه مسألة يقع في محظورها كثير من أصحاب المذاهب لعدم استحضارهم ما ينبههم عليه مع كونهم عالمين به فكل من خطأ مجتهداً بعينه فكأنه خطأ الشارع فيما قرره حكماً - انتهى. (قلت) الظاهر أن يشير بهذا إلى أن كل مجتهد مصيب وقد قال في الباب التاسع والستين من الفتوحات وكان ينبغي في هذه المسألة وأمثالها أن لا يتصور خلاف ولكن جعل الله تعالى هذا الخلاف رحمة لعباده واتساعاً فيما كلفهم من عبادته. لكن فقهاء زماننا حجروا وضيقوا على الناس ما وسع الشرع عليهم فقالوا للمقلد إذا كان حنفي المذهب: لا تطلب رخصة الشافعي فيما نزل بك وكذلك قالوا في حق كل واحد منهم وهذا من أعظم الرزايا والحرج في الدين والله سبحانه يقول: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] والشرع قد قرر حكم المجتهد له في نفسه ولمن قلده فأنف فقهاء زماننا من ذلك وزعموا أن ذلك يؤدي إلى التلاعب بالدين. وهذا غاية الجهل منهم فليس الأمر والله كما زعموا مع إقرارهم على أنفسهم أنهم ليسوا بمجتهدين ولا حصلوا درجة الاجتهاد ولا نقلوا عن أئمتهم أنهم سلكوا هذا المسلك فكذبوا أنفسهم في قولهم: إنهم ما عندهم استعداد للاجتهاد والذي حجروه على المقلدين ما يكون إلا باجتهاد نعوذ بالله تعالى من الغي والخذلان؟ فما أرسل الله تعالى رسول إلا رحمة للعالمين وأي درجة أعظم من تنفيس هذا الكرب المهم والخطب الملم - انتهى. وله مثل هذا في غير موضع وسيأتي بعضه في فصل التقليد إن شاء الله تعالى وقال جد والدي لأمه العلامة الشيخ حسين العشارى الشافعي في حاشيته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 على الحضرمية: جوز بعضهم تقليد غير الأربعة كالصحابة - رضي الله عنهم - في حق ونفسه بشرط أن يعلم نسبة ذلك القول إلى قائله وقد نظم ذلك بعضهم فقال: [رجز] . وجاز تقليد لغير الأربعة ... في حق نفسه ففي هذا سعه لا في قضاء مع إفتاء ذكر ... هذا عن السبكي الإمام مشتهر وقال الشيخ محيى الدين ابن عربي قدس سره في فصل صلاة الكسوف من الفتوحات ما نصه: فإن أخطأ المجتهد فلا وزر عليه وهو مأجور، وإن ظهر له النص وتركه لقياسه الجلى في زعمه فلا عذر له عند الله تعالى وهو مأثوم وأكثر ما يكون هذا من الفقهاء المقلدين للأئمة الذين قالوا لهم: لا تقلدونا واتبعوا الحديث إذا وصل إليكم المعارض لما حكمنا فيه فإن الحديث مذهبنا وإن كنا لا نحكم بشيء إلا بدليل يظهر لنا في نظرنا أنه دليل وما يلزمنا غير ذلك لكن ما يلزمكم اتباعنا ولكن يلزمكم سؤالنا وفي كل وقت في النازلة الواحدة قد يتغير الحكم عند المجتهد ولهذا كان يقول مالك رحمه الله تعالى إذا سئل في نازلة: هل وقعت؟ فإن قيل: لا يقول:لا أفتى. وإن قيل له: نعم أفتى في ذلك الوقت بما أعطاه دليله. فأبت المقلدة من فقهاء زماننا أن توفي حقيقة تقليدها لإمامها باتباعها للحديث الذي أمرها به إمامها وقلدته في الحكم مع وجود المعارض فعصت الله تعالى في قوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه} [الحشر7] وعصت الرسول في قوله {فاتبعوني} وعصت إمامها في قوله: خذوا بالحديث إذا بلغكم واضربوا بكلامي الحائط. فهؤلاء في كسوف دائم سرمد عليهم إلى يوم القيامة فلا هم مع الله سبحانه وتعالى ولا مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا مع إمامهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فهم في براءة من الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإمامهم فلا حجة لهم عند الله تعالى فانظروا مع من يحشر هؤلاء - انتهى. وفي الدرر المنثورة للإمام الشعراني ما نصه: لم يبلغنا أن أحداً من السلف أمر أحداً أن بتقيد بمذهب معين ولو وقع ذلك منهم لوقعوا في الأثم لتفويتهم العمل بكل حديث لم يأخذ به ذلك المجتهد الذي أمر الخلق باتباعه وحده والشريعة حقيقة إنما هو مجموع ما هو بأيدي المجتهدين كلهم لا بيد مجتهد واحد ولم يوجب الله تعالى على أحد التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين بخصوصه لعم عصمته. ومن أين جاء الوجوب والأئمة كلهم قد تبرءوا من الأمر باتباعهم وقالوا: إذا بلغكم حديث فاعملوا به واضربوا بكلامنا الحائط. انتهى. وقال الشيخ محيى الدين في الباب الثامن والثمانين: ولا يجوز ترك آية أو خبر صحيح لقول صاحب أو إمام ومن يفعل ذلك فقد ضل ضلالا مبيناً وخرج عن دين الله تعالى - انتهى [فتوى للإمام ابن تيميه عن التقليد] وقد سئل الشيخ تقي الدين عن رجل تفقه على مذهب من المذاهب، وتبصر فيه وأشتغل بعده بالحديث، فوجد أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخاً ولا مخصصاً ولا معارضاً، وذلك المذهب فيه ما يخالف تلك الأحاديث، فهل له العمل بالمذهب؟ أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالحديث ومخالفة مذهبه؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. وقد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى أفترض على العباد طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها عليه الصلاة والسلام و - رضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الله عنه - يقول: أطيعوني ما أطعت الله تعالى، فإذا عصيت الله عز وجل فلا طاعة لي عليكم. وأتفق كلهم على أنه ليس أحد معصوماً في كل ما أمر الله تعلى عنه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال غير واحد من الأئمة كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام. وهؤلاء الأمة الأربعة رحمهم الله تعالى أجمعين قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب. قال الإمام أبو حنيفة: هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن داء برأى خير منه قبلناه. ولهذا لما أجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس وسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضروات، ومسألة الأجناس، فأخبر مالك رحمه الله تعالى بما دلت عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت لقولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. ومالك - رحمه الله تعالى - كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فأعرضوا قولي على الكتاب والسنة، أو كلام هذا معناه. والشافعي رحمه الله تعالى كان يقول: إذا صح الحديث بخلاف قولي فأضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي. وفي مختصر المزني لما أختصره ذكر أنه أختصر من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه. قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده أو تقليد غيره من العلماء. والإمام أحمد - رحمه الله تعالى - كان يقول: من ضيق علم الرجل أن يقلد دينه الرجال. وقد قال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لم يسلموا من أن يغلطوا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 )) ((من يرد به الله خيراً يفقهه في الدين)) ولازم ذلك: أن من لم يفقه الله عز وجل في الدين لم يرد به خيراً. فيكون التفقه في الدين فرضاً، والتفقه في الدين: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية، فمن يعرف ذلك لم يكن متفقهاً في الدين، لكن من الناس من قد يعجز عنها فيلزمه ما يقدر عليه. ومن كان قادراً على الاستدلال. فقيل يحرم عليه التقليد مطلقاً. وقيل: يجوز مطلقاً. وقيل: يجوز عند الحاجة، كما إذا ضاق عن الإستدلال، وهذا القول عدل الأقوال إن شاء الله تعالى. والإجتهاد ليس هو أمر لا يقبل التجزؤ والأنقسام، بل يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة، دون فن وباب ومسألة، وكل فاجتهاده بحسب وسعه. فمن نظر في مسألة، قد تنازع العلماء فيها فرأى مع أحد القولين نصوصاً لم يعلم لها معارضاً بعد نظر مثله فهو بين الأمرين: إما أن يتبع قول القائل الأخير لمجرد كونه الإمام الذى أشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة، بل مجرد عادة تعارضها عادة غيره، وأشتغاله بمذهب إمام آخر. وإما أن يتبع القول الذى ترجح في نظرة بالنصوص الدالة عليه، فحينئذ موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام، وتبقى النصوص النبوية سالمة في حقه عن المعارض بالعمل، فهذا هو الذى يصلح، وغنما تنزلنا هذا التنزيل لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر، وليس أجتهاده تاماً في هذه المسألة لضعف آلة الاجتهاد في حقه، إما إذا قدر على الإجتهاد التام الذى يعتقد معه ان القول الآخر ليس معه ما يدفع النص، فهذا يجب عليه أتباع النصوص، وإن لم يفعل كان متبعاً للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله تعالى ورسوله. بخلاف من يكون القول الآخر حجة راجحة على هذا النص، ويقول أنا لا أعلمها، فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فأتقوا الله ما أستطعتم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 [التغابن 16] والذى نستطيعه من العلم في هذه المسألة قد دل على ان هذا القول هو الراجح، فعليك أن تتبع ذلك. ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضاً راجحاً كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير إجتهاده. وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين من الحق فهو محمود عليه، بخلاف إقراره بقول لا حجة معه عليه، وترك قول الذى وضحت حجته. أو الإنتقال من قول إلى قول بمجرد عادة وإتباع هوى، فهذا مذموم وإذا كان المقلد قد سمع حديثاً وتركه لا سيما إذا كان قد رواه أيضاً عدل فمثل هذا إذا وجد لا يكون عذراً في ترك النص. وقد بينا فيما كتبناه في الدفع عن الأئمة الأعلام نحو عشرين عذراً في ترك العمل ببعض الأحاديث، وبينا أنهم معذورون في الترك لتلك الأعزار، وإنما نحن معذورون في تركها لهذا الترك. فمن ترك الحديث لاعتقاده لم يصح، أو رواية مجهول ونحو ذلك، ويكون غيره قد علم صحته وثقة روايته فقد زال عذر ذلك في حق هذا. ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه، أو القياس أو عمل لبعض الأمصار قد تبين لآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر ومقدم على القياس والعمل، لم يكن عذر ذلك الرجل عذراً بحقه، فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان وحقها منها أمر لا يضبط طرفاه، لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقداً أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار أهل المدينة النبوية وغيرها الذين يقال لهم: لا يتركون الحديث إلا لإعتقادهم أنه منسوخ أو معارض براجح. وقد بلغ من بعدهم أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه، بل قد عمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 به أو سمعه منهم، أو نحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض لا للنص. وإذا قيل لهذا المستفتى المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه معارضة فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، وليست من هذا أولى. ولكن نسبة هؤلاء الأئمة إلى هؤلاء نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلى وأبن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم من الأئمة وغيرهم. فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، فإذا تنازعوا في شئ ردوه إلى الله ورسوله، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع آخر، وكذلك موارد النزاع بين الأئمة. وقد ترك الناس قول عمر وأبن مسعود - رضي الله عنه - في مسألة تيمم الجنب، وأخذوا بقول أبي موسى الأشعري وغيره لما أحتج بالكتاب والسنة. وتركوا قول عمر - رضي الله عنه - في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان لما كان روى من لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هذه وهذه سواء)) . وقد كان لبعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة فقال له: قال أبو بكر قال عمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون قال أبو بكر قال عمر لما سئل عنها فأمر بها، فعارضوه بقول عمر. فبين أن عمر لم يرد ما يقولونه، فألحوا عليه فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع أم عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم من أبن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ولو فتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي في أمته. وهذا تبديل للدين، وشبيه بما عاب الله تعالى به النصارى في قوله {أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا الله إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة 31] والله سبحانه أعلم أنتهى. ونقل عن الشيخ عبد الوهاب الشعراني ما يؤكد هذا أنه قال في الدرر المنثورة ما نصه: ومنع أهل الله تعالى من العمل بقول مجتهد مات لاحتمال أنه لو عاش إلى اليوم ربما كان يرجع عنه، فلا يعمل بكلام أحد بعد موته تقليداً من غير معرفة دليله إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وربما تدين مقلد في مذهب بقول إمام من طريق الرأى، فصحت الأحاديث في مذهب آخر بضد ذلك الرأى، فوقف مع مذهبه ففاته العمل بالأحاديث الصحيحة فأخطأ طريق السنة. وقول بعض المقلدين: لولا أن الرأى إمامي دليلاً ما قال به، جمود وقصور وتعصب، مع ان نفس إمامة قد تبرأ من العمل بالرأى ونهى غيره عن أتباعه. فقد كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: حرام على من لم يعرف دليلى أن يفتى بكلامي. وكان يقول لمن أفتاه: هذا رأى أبي حنيفة، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو الأولى والصواب. ونقل عن الإمام المزني أنه قال في أول كتابه المختصر: كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ينهى عن تقليده وتقليد غيره، وكان يقول: إذا رأيتم كلامي يخالف السنة فخذوا بالسنة واضربوا بكلامي الحائط. وكان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقيل للإمام أحمد بن حنبل. لم لا تصنع لأصحابك كتاباً في الفقه؟ قال: أو لأحد كلام مع كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -! ؟ أنتهى. وإن شئت زيادة الإطلاع على مباحث الاجتهاد، فعليك أولاً بكتاب (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول) للعلامة المجتهد الرباني شيخ شيوخنا قاضي القضاة محمد بن على الشوكاني - رحمه الله تعالى - وثانياً بكتاب شيخنا العلامة ابي الطيب الحسيني البخاري القنوجي (حصول المأمول من علم الأصول - وثالثاً برسالة ولده السعيد أبي الخير المسماه (بالطريقة المثلى في الإرشاد إلى أتباع ما هو الأولى) ، ففي تلك ما يكفى المسترشد، ويشفى المجتهد والمقلد. الفصل الثاني في التقليد وهو أخذ قول الغير من غير معرفة دليله. قال أبن ابي زرعة في شرح جمع الجوامع: وقد أختلف العلماء في تقليد المفضول من المجتهدين مع التمكن من تقليد الفاضل هلى مذاهب: أحدها - وهو المشهور - جوازه، وقد كانوا يسألونه الصحابة مع وجود أفاضلهم. الثاني - منعه، وبه قال الإمام أحمد وابن سريج، وأختاره للقاضي حسين وغيره. الثالث - أنه يجوز لمن يعتقده فاضلاً أو مساوياً لغيره، فإن أعتقده دون غيره أمتنع أستفتاؤه. وكذلك أختلفوا في جواز تقليد الميت على أقوال: أحدها - وبه قال الجمهور - جوازه، وعبر عنه الشافعي رحمه الله تعالى بقوله: المذاهب لا تموت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 بموت أربابها. الثاني - منعه مطلقاً. وعزاه الإمام الغزالي في (المنحول لإجماع الأصوليين) واختاره الإمام فخر الدين. الثالث - يجوز مع فقد حي ولا يجوز مع وجوده - أنتهى ملخصاً. وقال الشيخ محيى الدين في الباب الثامن والثمانين: والتقليد في دين الله لا يجوز عندان، لا تقليد حي ولا ميت. أنتهى فتدبر. وقال شيخ مشايخنا ابن عابدين الشامي: ذكر في التحرير وشرحه أنه يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل. وبه قال الحنفية والمالكية وأكثر الحنابلة والشافعية. وفي رواية عن أحمد وطائفة كثيرة من الفقهاء: لا يجوز ثم ذكر أنه لو ألتزم مذهباً كأبي حنيفة والشافعي قيل يلزمه وقيل لا، وهو الأصح. أنتهى بإقتصار. ومن جملة كلام له في التقليد ما نصه: فتحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان إلتزام مذهب معين، وانه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلداً فيه غير إمامه، مستجمعاً شروطه. ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله إمام آخر لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض. وقال أيضاً: إن له التقليد بعد العمل على ما قال في البرزازية: أنه روى عن أبي يوسف أنه صلى الجمعة مغتسلاً من الحمام، ثم أخبر بفأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة إذا بلغ قلتين لم يحمل خبثاً. انتهى. وقال في (الدار المختار وحاشيته) : إن الحكم الملفق باطل بالإجماع، كمتوضئ سال من بدنه دم، ولمس امرأة ثم صلى، فإن هذه الصلاة ملفقة من مذهب الشافعي والحنفي، والتلفيق باطل فصحته منتفية - أنتهى. وبقى في المسألة كلام، من أراد فليرجع إليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 [فتوى للإمام ابن تيمية حول جواز تقليد غير الأربعة] ورأيت في مختصر فتاوى الشيخ أبن تيمية ما نصه: مسألة فيمن صلى منفرداً حلف الصف هل تصح صلاته أم لا؟ والأحاديث الواردة في ذلك هل هي صحيحة أم لا؟ والأئمة القائلون بهذا من غير الأئمة الأربعة، كحماد بن ابي سليمان، وأبن المبارك، وسفيان الثوري، والأوزاعي، قد قال عنهم رجل - أعنى هؤلاء المذكورين -: هؤلاء لا يلتفت إليهم، فصاحب هذا الكلام ما حكمه؟ وهل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة، كما يجوز تقليد الأئمة الأربعة أم لا؟ الجواب - الحمد لله: الصحيح من قول العلماء أنه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف لأن في ذلك حديثين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المصلي خلف الصف بالإعادة وقال ((لا صلاة لفذ خلف الصف)) وقد صحح الحديثين غير واحد من أئمة الحديث، وإسنادهما مما تقوم به الحجة، إلى ان قال: وأما الأئمة المذكورون فمن سادات أئمة الإسلام. فإن الثوري إمام أهل العراق وهو عندهم من أجل أقرانه كابن ابي ليلى والحسن بن صالح، وأبي حنيفة رحمهم الله تعالى، وله مذهب باقٍ إلى اليوم بارض خراسان. والأوزاعي إمام أهل الشام، وما زالوا على مذهبه إلى المائة الرابعة، بل أهل المغرب كانوا على مذهبه قبل أن يدخل إليهم مذهب مالك. وحماد ابن ابي سليمان هو شيخ الإمام أبي حنيفة، ومع هذا، فهذا القول هو قول أحمد بن حنبل وإسحق بن راهوية، وغيرهما، ومذهب أحمد باقٍ إلى اليوم وهو مذهب داود بن علي وأصحابه، ومذهبهم باق إلى اليوم. وليس في الكتاب والسنة فرق بين الأئمة المجتهدين بين شخص وشخص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 فمالك، والليث بن سعد والأوزاعي، والثوري هؤلاء أئمة في زمانهم وتقليد كل منهم كتقليد الآخر، لا يقول مسلم: إنه لا يجوز تقليد هذا دون هذا، ولكن من منع تقليد هؤلاء في زماننا فإنما يمنعه لأحد شيئين: أحدهما - اعتقاده أنه لم يبق من يعرف مذهبهم، وتقليد الميت فيه نزاع مشهور، فمن منعه قال: هؤلاء موتى، ومن سوغه قال: لا بد أن يكون في الأحياء من يعرف قول الميت. والثاني - أن يقول: الإجماع اليوم قد أنعقد على خلاف هذا القول ويبني ذلك على مسألة معروفة في أصول الفقه، وهو أن الصحابة مثلاً أو غيرهم من اهل الأعصار إذا أختلفوا في مسألة على قولين، ثم أجمع التابعون والعصر الثاني على إحداهما، فهل يكون هذا إجماعاً برفع ذلك الخلاف. وفي المسألة نزاع مشهور في مذهب أحمد وغيره من العلماء، فمن قال: إن أجماع أهل العصر الثاني لا يسوغ الأخذ بالقول الآخر، وأعتقد أن أهل العصر أجمعوا على ذلك فركب من هذين الاعتقادين المنع. ومن علم أن الخلاف القديم حكمه باقٍ وأن الأقوال لا تموت بموت قائلها فإنه يسوغ الذهاب إلى القول الآخر المجتهد الذى وافق أجتهاده. وأما التقليد فيفيبتنى على مسألة تقليد الميت، وفيها قولان مشهوران أيضاً في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. واما إذا كان القول الذى يقول به هؤلاء الأئمة أو غيرهم قد قال به بعض العلماء الباقية مذاهبهم، فلا ريب أن قوله مؤبد بموافقة هؤلاء، ويعتضد به ويقابل بهؤلاء من خالفهم، فيقابل الثوري والأوزاعي أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى، إذ الأئمة متفقة على أنه إذا أختلف مالك والأوزاعي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أو الثوري وأبو حنيفة لم يجز أن يقال قول هذا أصوب دون هذا إلا بحجة والله اعلم. أنتهى. [هل يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب؟] قال الشعراني عليه الرحمة في ((الميزان)) : ورأيت فتوى للجلال السيوطي عليه الرحمة مطولة قد حث فيها على أعتقاد أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم وإن تفاوتوا في العلم والفضل، ولا يجوز لأحد التفضيل الذي يؤدي إلى نقص في غير إمامة، قياساً على ما ورد في تفصيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فقد حرم العلماء التفضيل المؤدي إلى نقص نبي أو أحتقاره، ولا سيما إن أدي ذلك إلى خصام ووقيعة في الأعراض. وقد وقع الاختلاف بين الصحابة في الفروع وهم خير الأمة، وما بلغنا أن أحداً منهم خاصم من قال بخلاف قوله، ولا عاداه ولا نسبه إلى خطأ ولا قصور نظر. وفي الحديث: ((أختلاف أمتى رحمة)) وكان الاختلاف على من قبلنا عذاباً. أنتهى. ومعنى رحمة: أى توسعة على الأمة. ولو كان أحد من الأئمة مخطئاً في نفس الأمر لما كان أختلافهم رحمة. قال: وقد أستنبطت من حديث: ((أصحابي كالنجوم بايهم أقتديتم أهتديتم)) أننا إذا أقتدينا بأي إمام كان، أهتدينا، لأنه - صلى الله عليه وسلم - خيرنا في الأخذ بقول من شئنا منهم من غير تعيين. أنتهى. وقد دخل هارون الرشيد على الإمام مالك - رضي الله عنه - عنه فقال له: دعني أبا عبد الله أفرق هذه الكتب التى ألفتها وأنشرها في بلاد الإسلام، وأحمل عليها الأمة، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن أختلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة، فكل يتبع ما صح دليله عنده، وكل على هدى، وكل يريد الله تعالى. أنتهى. وقال أيضاً: وكان الإمام الزناتي من أئمة المالكية يقول: يجوز تقليد كل من أهل المذاهب في النوازل، وكذلك يجوز الإنتقال من مذهب إلى مذهب، لكن بثلاثة شروط: الأول - أن لا يجمع بينهما على وجه الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد. الثاني - أن يعتقد فيمن يقلده الفضل ببلوغ أخباره إليه. الثالث - أن لا يقلد وهو في عماية من دينه، كأن يقلد في الرخصة من غير شروطها. انتهى. وقال القرافي: يجوز الانتقال من جميع المذاهب إلى بعضها بعضاً في كل ما لا ينتقض فيه حكم حاكم، وفي ذلك في أربعة مواضع: أن يخالف الإجماع أو النص، أو القياس الجلي، أو القواعد. انتهى. وإن اردت أن تطلع على حكم التقليد جملة وتفصيلاً فأرجع إلى كتب مؤلفة من هذا الباب - كعقد الجيد للشيخ الأجل ولي الله المحدث الدهلوي، وأدب الطلب، والقول المفيد للعلامة الشوكاني، والإقليد لولد شيخنا العلامة أبي النصر حماهما الله تعالى - يتضح عليك ما هو الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، والسداد من العوج. وقال الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى: وممن بلغنا أنه أنتقل من مذهب إلى أخر من غير نكير عليه من علماء عصره، الشيخ عبد العزيز ابن الخزاعي، كان من أكابر المالكية، فلما قدم الإمام الشافعي بغداد تبعه وقرا عليه كتبه ونشر علمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ومنهم محمد بن عبد الله كان على مذهب الإمام مالك، فلما قدم الشافعي إلى مصر انتقل إلى مذهبه ثم رجع، ومنهم أبو جعفر بن نصر الترمذي رأس الشافعية بالعراق، كان حنفياً فلما حج أنتقل إلى مذهب الشافعي. ومنهم أبو جعفر الطحاوي، كان شافعياً وتفقه على حاله المزني، ثم تحول حنفياً بعد ذلك. ومنهم الخطيب البغدادي الحافظ، كان حنبلياً ثم عمل شافعياً. ومنهم ابن فارس صاحب كتاب المجمل في اللغة، كان شافعياً تبعاً لوالده ثم أنتقل إلى مذهب مالك. ومنهم السيف الآمدي الأصولي المشهور، كان حنفياً ثم تحول إلى مذهب الشافعي. ومنهم الشيخ محمد بن الدهان النحوي، كان حنبلياً أنتقل إلى مذهب الشافعي، ثم تحول حنفياً حين طلب الخليفة نحوياً يعلم ولده النحو ثم تحول شافعياً. ومنهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، كان أولاً مالكياً ثم تحول إلي مذهب الشافعي. ومنهم الإمام أبو حيان النحوي، كان أولاً على مذهب أهل الظاهر، ثم عمل شافعياً. ومنهم غير من ذكر. أنتهى. (قلت) : ومنهم عماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي، كان شافعياً ثم صار حنبلياً. قال في الشذرات: هو الزاهد القدوة، ولد بشرقي واسط، ودخل بغداد، وأقام بالقاهرة مدة ثم قدم الشام، وأنتقل إللا مذهب الإمام أحمد، صاحب الشيخ تقى الدين أحمد بن تيميه، حتى قال فيه هو حنيذ وقته، وتمذهب بمذهب السلف، توفى بدمشق سنة إحدى وسبعمائة. أنتهى ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 تتمة [التقليد في أصول الدين] قد اتضح لك التقليد في المسائل الفقهية، وبقى الكلام في جواز التقليد في أصول الدين، وهو علم العقائد المشهور بعلم الكلام. فأعلم أن في جواز التقليد فيه أقوالاً: أحدها - وبه قال الجمهور - المنع، وفي التنزيل ذمه في الأصول بقوله سبحانه حكاية عن الكافر: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف 23] والحث عليه في الفروع بقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء 7] والثاني - الجواز، وحكي عن العنبري وغيره إجماع السلف على قبول كلمتى الشهادة من الناطق بها من غير أن يقال له: هل نظرت أو تبصرت بدليل، الثالث - وجوب التقليد وتحريم النظر والبحث فيه، فمنهم من جعل سببه أن النظر فيه لا يفضى إلى العلم الذى هو المطلوب ومنهم من قال يفضى إليه، ولكن ربما أوقع الناظر في شبهة فيكون سبب ضلالة. قال ابن أبي زرعة: وظاهر كلام الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - بوافق هذا المذاهب حيث قال: رأيي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجويد،وينادي عليهم في العشائر: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأشتغل بعلم الأوائل. وقال: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح. وعلى الأول وهو المنع من التقليد فيه حكى عن الأشعري - زيادة في ذلك - إن إيمان المقلد لا يصح، وأنه يقول بتكفير العوام. وأنكره الأستاذ أبو القاسم القشيري وقال: هذا كذب وزور. وقال إمامنا الأستاذ أبو منصور الماتريدي: أجمع أصحابنا على أن العوام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 مؤمنون عارفون بالله تعالى، وانهم حشو الجنة للأخبار والإجماع فيه لكن منهم من قال: لا بد من نظر عقلي في العقائد، وقد حصل لهم منه القدر الكافي، فإن فطرتهم جبلت على توحيد الصانع وقدمه وحدوث الموجودات وإن عجزوا عن التعبير عنه على إصطلاح المتكلمين، والعلم بالعبارة علم زائد لا يلزمهم - أنتهى. وقال إمامنا الأعظم في الفقه الأكبر: وإذا أشكل على الإنسان شئ من دقائق علم التوحيد فينبغي له - أى فيجب عليه - أن يعتقد ما هو الصواب عند الله تعالى - أى بطريق الإجمال - إلى أن يجد عالماً يسأله ولا يسعه تأخير الطلب - أى عند تردده - في صفة من صفات الجلال ونعوت الجمال ولا يعذر بالوقوف فيه، ويكفر - أي في الحال - إن توقف على بيان الأمر في الآستقبال، لأن التوقف موجب للشك،وهو فيما يفترض اعتقاده كالإنكار. أنتهى بزيادة من الشرح. ثم قال الشارح النحرير: ولذا أبطلوا قول الثلجي من أصحابنا حيث قال في القرآن: أقول بالمتفق، وهو أنه كلامه تعالى، ولا أقول مخلوق أو قديم. هذا، والمراد به من دقائق علم التوحيد أشياء يكون الشك فيها منافياً للإيمان بذات الله تعالى وصفاته،ومعرفة كيفية المؤمن به بأحوال آخرته، فلا ينافى أن إمامنا أبا حنيفة توقف في بعض الأحكام. فالاختلاف فيها رحمة، والاختلاف في علم التوحيد ضلالة وبدعة، والخطأ في علم الأحكام مغفور بل صاحبه مأجور، بخلافه في علم الكلام فإنه كفر وزور - أنتهى. (قلت) : فلذا قال ابن عساكر: إن الأئمة الأربعة في العقائد متفقون فليحفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 فصل ولما كان هذا الكتاب يستطرد فيه بعض العقائد المعزبة إلى الحنبلي والأشعري لزم ترجمة الذاتين المنسوب إليهما ذلك، لتكون تذكرة لي وللطالبين، ولما قيل: إن الرحمة تنزل عند ذكر الصالحين، وليعرف الواقف جلالة هذين الإمامين، وغزارة هذين البحرين، وانه إذا حقق، وامعن النظر ودقق، وتبين له أن عقيدتهما تسقى من ماء واحد، وليس بينهما خلاف يفضى إلى التبديع عند البصير الناقد، وكلاهما إن شاء الله تعالى من الفرقة التى هي مصداق الحديث الشهير، والآخذان بما كانت عليه الصحابة من غير تحريف وتغيير. (ترجمة الإمام أحمد بن حنبل) فالأول - الفقيه الأورع، والأعلم الأزهد، الإمام الرباني، المجتهد الشيباني، مقتدي المحدثين، رابع المجتهدين، محيى السنة، الصابر على المحنة: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال، المتصل نسبه بعدنان، المروزي الأصل. خرجت أمة من مرو وهي حامل به فولدته في بغداد في شعر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة. وقيل: إنه ولد بمرو وحمل إلى بغداد وهو رضيع، وتوفى ضحوة نهار الجمعة لثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين ببغداد، ودفن بمقبرة باب حرب. وقد أستولت دجلة على جميع هذه المقبرة من نحو مائة وخمسين سنة أو أكثر، وكانت واقعة بين مقبرة الخيزران التى فيها الإمام الأعظم أبو حنيفة ومقبرة الإمام موسى الكاظم رحمه الله تعالى. وقد حرز من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفاً. وقيل: أسلم يوم موته عشرون ألفاً من النصارى واليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 والمجوس. وقد صنف غير واحد من الأفاضل في ترجمة هذا الحبر الكامل كتباً ورسائل، ولا سيما العلامة أبن الجوزي قد أتى بالعجب العجاب، في كتابه المشتمل على مائة باب، وسنذكر منه على وجه الاختصار جملاً تنشرح بها الصدور والأبصار. (فأقول) : قال صالح ابن الإمام أحمد: ولد أبي سنة أربع وستين ومائة في ربيع، وجئ به من مرو حملاً. وكذا روى ولده عبد الله عن أبيه أنه قال: قدمت بي أمى حاملاً من خراسان. وقال أبو زرعه عنه: أصله بصري وخطته بمرو، وتوفى أبوه وهو طفل، ونشأ ببغداد وطلب بها العلم والحديث من شيوخنا، ثم رحل بعد ذلك في طلب العلم إلى البلاد كالكوفة والبصرة وما والاها، والمدينة والشام واليمن والجزيرة، وكتب عن علماء كل بلد، وقال: أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف. ومشايخه كثيرون ومن أجلهم: عبد الرزاق بن همام، وقد رحل إليه إلي اليمن، وقال: ما قد علينا مثل أحمد بن حنبل. وقال وكيع: ما قدم الكوفة مثل أحمد. وقال قتيبة بن سعد: إذا رأيت الرجل يجب أحمد بن حنبل فأعلم أنه صاحب سنة. فقال مزاحم الخاقاني مضمناً لذلك: [طويل] . لقد صار في الآفاق أحمد محنة وأمر الورى فيها فليس بمشكل ترى ذا الهوى جهلاً لأحمد مبغضاً ... ... وتعرف ذا التقوى يجب أبن حنبل (قلت) : ورأيت في تاريخ الخطيب البغدادي نحو هذين البيتين لأبن أعين وهما: أضحى ابن حنبل محنة مأمونة وبحب أحمد يعرف المتنسك وإذا رأيت لأحمد متنقصاً ... فأعلم بأن ستوره ستهتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 قال: وقال الهمداني: أحمد محنة يعرف به المسلم من الزنديق. وقال الدورقي: من سمعتموه يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهموه على الإسلام. أنتهى. وقال أبو زرعة: كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث. وقال أبو القاسم أبن الحنبلي: كان أحمد إذا سئل عن المسالة كان علم الدنيا بين عينيه. وقال إبراهيم الحربي: رأيت أحمد بن حنبل فرأيت كأن الله تعالى جمع له علم الأولين والآخرين، من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء. وقال حرملة ابن يحيى: سمعت الشافعي يقول: خرجت من بغداد وما خلفت فيها أحداً أروع، ولا أتقى، ولا أفقه - وأظنه قال ولا أعلم - من أحمد بن حنبل. وقال حين دخوله إلى مصر: ما خلفت بالعراق أحداً يشبه أحمد بن حنبل. وقال على بن المديني: إن الله عز وجل أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة، كفاك بالمديني شاهداً. وقال أبو همام: ما رأيت مثل أحمد، ولا أرى أحمد مثله. وقال أبو عمير عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها. وقال محمد بن إبراهيم: هو عندي أفضل من سفيان الثوري وأفقه منه. وقال بشر الحافي: قال أحمد مقام الأنبياء، وقد تداولته أربعة خلفاء، بعضهم بالضراء، وبعضهم بالسراء، فكان فيها معتصماً بالله عز وجل. تداوله المأمون، والمعتصم، والواثق بعضهم بالضرب والحبس، وبعضهم بالإخافة والترهيب، فما كان في هذه الحال إلا سليم الدين، غير تارك له من أجل ضرب ولا حبس. ثم أمتحن أيام المتوكل بالتكرم والتعظيم، وبسطت الدنيا عليه فما ركن إليها، ولا أنتقل عن حالته الأولى رغبة في الدنيا، حتى حكى عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 المتوكل أنه قال: إن أحمد ليمنعنا من بر ولده، أي لشدة ورعه عن أخذ ولده من أموال الملوك شيئاً. (قلت) : ومن زيادة ورعه ما نقله الوالد نور الله تعالى ضريحه في كتابه ((الطراز المذهب)) أنه كان يشرب من الآبار، لم يشرب من ماء دجله لاغتصابها الأراضي، ووقوع الماء من دلاء المستقين فيها بعد ملكهم له. ومن العجائب أنها اغتصبت أيضاً قبره - رضي الله عنه - وكافة القبور المجاورة له. وما حكاه ابن الجوزي والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: أنه كان يزرع داره ويخرج الزكاة عنها في كل سنة، يذهب في ذلك إلى قول عمر أمير المؤمنين في أرض السواد، فقد روى الشعبي أنه - رضي الله عنه - بعث عثمان بن حنيف فمسح السواد - أي سواد العراق - فوجده ستة وثلاثين ألف ألف جريب، فوضع على كل جريب درهماً وقفيزاً. ويقال: إن حدوده من لدن تخوم الموصل مارا مع الماء إلى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة طولاً، وأما عرضه فمنقطع الجبل من حلوان إلى منتهى طرف القادسية المتصل بالعذيب من أرض العرب. قال الخطيب بعد كلام كثير، ما منه: أنه ذكر غير واحد من العلماء ان بغداد دار غصب، وان أنقاض أبنيتها تباع دون الأرض، لأن الأنقاض ملك لأصحابها، واما الأرض فلا حق لهم فيها إذ كانت غصباً. وأجازت طائفة بيعها، وأحتجت بأن عمر - رضي الله عنه - أقر السواد في أيدى أهله، وجعل أخذ الخراج منهم عوضاً عن ذلك. ثم قال: وتحصل أن أرض بغداد ملك لأربابها، يصح أن تورث وتستغل وتباع، وعلى ذلك من أدركنا من العلماء والقضاة والشهود والفقهاء، وبهم يقتدى - أنتهى. وقال الإمام أحمد: ما كتبت حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد عملت به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 [كتاب للإمام أحمد عن السنة] قال الشيخ جمال الدين أبو الفتوح عبد الرحمن بن على الحوزي: أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم قال: ثنا عبد الله بن محمد الأنصاري، قال ثنا أبو يعقوب الحافظ قال: ثنا محمد بن أحمد بن الفضيل، قال: ثنا أبو عبد الله محمد بن بشر بن بكر، قال: ثنا أبو بكر أحمد بن محمد البردعي التميمي، قال: لما أشكل على مسدد بن مسرهد أمر الفتنة وما وقع فيه الناس من الاختلاف في القدر والرفض والاعتزال وخلق القرآن والإرجاء، كتب إلى أحمد بن حنبل: أكتب لي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما ورد الكتاب على أحمد بكي وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون!! بزعم هذا البصري أنه أنفق في العلم مالاً عظيماً وهو لا يهتدي إلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتب إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله لذى جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، وينهون عن الردى، ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الجهالة والردى. فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس! ينفون عن دينه الله تعالى تحريف الغالين، وأنتحال المبطلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا أعنه الفتنة، مختلفين في الكتاب ويقولون على الله وفي الله - تعالى الله عما يقولون الظالمون علواً كبيراً -! وفي كتابه بغير علم، فنعوذ بالله من كل فتنة مضلة! وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً. أما بعد: وفقنا الله تعالى وإياكم لكل ما فيه رضاه، وجنبنا وإياكم كل ما فيه سخطه، وأستعملنا وإياكم عمل الخاشعين له العارفين به، فإنه المسئول ذلك. وأوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم ولزوم السنة والجماعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فقد علمنا ما حل بمن خالفها فيمن أتبعها، فإنه بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله ليدخل العبد الجنة بالسنة يتمسك بها)) فأذكركم أن لا تؤثروا على القرىن شيئاً، فإنه كلام الله، وما تكلم الله تعالى به فليس بمخلوق، وما أخبر به عن القرون الماضية فغير مخلوق، وما في اللوح فغير مخلوق، ون قال مخلوق فهو كافر بالله عز وجل، ومن لم يكفرهم فهو كافر. ثم من بعد كتاب الله سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحديث عنه وعن المهديين من صحابة النبيو التابعين من بعدهم، والتصديق بما جاءت به الرسل. وأتباع السنة والنجاة، وهي التى نقلها أهل العلم كابراً عن كابر: واحذروا رأى جهم، فإنه صاحب رأى وخصومات. وأما الجهمية فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم أنهم قالوا: أفترقت الجهمية على ثلاث فرق، فقال بعضهم: القرآن كلام الله وهو مخلوق. وقال بعضهم: القرآن كلام الهل وسكت، وهم الواقفة. وقال بعضهم: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، فهؤلاء كلهم جهمية، وأجمعوا على أن من كان هذا قوله فحكمه إن لم يتب لم تحل ذبيحته، ولا تجوز قضاياه. والإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، زيادته إذا أحسنت ونقصانه إذا أسأت. ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، فإن تاب رجع إلى الإيمان، ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك بالله العظيم، أو برد فريضة من فرائض الله تعالى جاحداً لها، فإن تركها تهاوناً أو كسلاً كان في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. واما المعتزلة - فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم أنهم يكفرون بالذنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فمن كان منهم كذلك فقد زعم أن آدم كافر، وأن إخوة يوسف كفار حين كذبوا أباهم. وأجمعت المعتزلة أن من سرق حبة فهو في النار، تبين منه امرأته، ويستأنف الحج إن كان حج، فهؤلاء الذين يقولون هذه المقالة كفار، وحكمهم أن لا يكلموا، ولا تؤكل ذبائحهم حتى يتوبوا. وأم الرافضة - فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم أنهم قالوا: إن علياً أفضل من أبي بكر، وإن إسلام علي أقدم من إسلام أبي بكر، فمن زعم أن علياً أفضل من أبي بكر فقد رد الكتاب والسنة، لقول الله عز وجل: {محمد رسول الله والذين معه} [الفتح 29] فقدم أبا بكر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقدم علياً، وقال: ((لو كنت متخذاً خليلاً لأتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن الله قد أتخذ صاحبكم خليلاً)) يعني نفسه. ومن زعم أن إسلام علي كان أقدم من إسلام أبي بكر فقد أخطأ، لأنه أسلم أبو بكر وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، وعلي يومئذ ابن سبع سنين، لم تجر عليه الأحكام والحدود والفرائض. ونؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومرة من الله، وأن الله خلق الجنة قبل خلق الخلق، وخلق للجنة أهلاً،ونعيمها دائم فمن زعم أنه يبيد من الجنة شئ فهو كافر، وخلق النار وخلق للنار أهلاً وعذابها دائم، وأن الله تعالى يخرج قوماً من النار بشفاعة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، أن أهل الجنة يرون ربهم بأبصارهم لا محالة، وأن الله كلم موسى تكليماً، وأتخذ إبراهيم خليلاً. والميزان حق، والصراط حق، والأنبياء حق، وعيسى ابن مريم عبد الله ورسوله، والإيمان بالحوض والشفاعة، والإيمان بالعرش والكرسي، والإيمان بملك الموت أنه يقبض الأرواح،ثم ترد الأرواح إلى الأجساد ويسألون عن الإيمان والتوحيد، والرسل. والإيمان بالنفخ في الصور والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وان القبر الذى في المدينة قبر النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعه أبو بكر وعمر. وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله عز وجل والدجال خارج في هذه الأمة لا محالة، وينزل عيسى ابن مريم إلى الأرض فيقتله بباب لد (1) . وأما أنكرته العلماء من أهل السنة فهو منكر. وأحذروا البدع كلها، ولا عين تطرف بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من أبي بكر، ولا بعد أبي بكر عين تطرف من افضل من عمر، ولا بعد عمر عين تطرف أفضل من عثمان. قال أحمد: كنا نقول أبو بكر وعمر وعثمان، ونسكت عن علي حتى صح لنا حديث ابن عمر بالتفصيل. قال أحمد: هم والله الخالفاء الراشدين المهديون، وان نشهد للعشرة أنهم في الجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وصلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة ابن الجراح. فمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة شهدنا له بالجنة: ورفع اليدين في الصلاة زيادة في الحسنات، والجهر بآمين عند قول الإمام ((ولا الضالين)) والدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، ولا تخرج عليهم بالسيف، ولا تقاتل في الفتنة، ولا تتأل على أحد من المسلمين أن تقول: فلان في الجنة، وفلان في النار إلا العشرة الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وصفوا الله بما وصف الله به نفسه، واتقوا عن الله سبحانه ما نفاه عن نفسه واحذروا الجدل مع أصحاب الأهواء، والكف عن مساوى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتحدث بفضائلهم، والإمساك عما شجر بينهم. ولا تشاور أهل البدع في دينك، ولا ترافقه في سفرك. ولا نكاح إلا   (1) لد: بلدة فلسطين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 بولي وخاطب وشاهدي عدل، والمتعة حرام إلى يوم القيامة، والصلاة خلف كل بر وفاجر: صلاة الجمعة وصلاة العيدين، الصلاة على من مات من أهل القبلة وحسابهم على الله. والخروج مع كل إمام خرج في غزوة أو حجة والتكبير على الجنازة أربع، فإن كبر الإمام خمساً فكبر معه، كفعل على ابن أبي طالب. قال عبد الله بن مسعود: كبر ما كبر إمامك. قال أحمد: خالفني الشافعي، فقال: إن زاد على أربع تكبيرات تعاد الصلاة. واحتج على بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى على جنازة فكبر أربعاً. والمسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة. وصلاة الليل والنهار مثنى مثنى. ولا صلاة قبل العيد. وإذا دخلت المسجد فلا تجلس حتى تصلى ركعتين تحية المسجد. والوتر ركعة، والإقامة فرد أحب إلى أهل السنة. امامنا الله تعالى وإياكم على الإسلام والسنة، ورزقنا وإياكم العلم، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. أنا أبو البركات بن علي البزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الطرنئبي قال: ثنا هبة الله بن الحسن الطبري، واخبرنا محمد بن ناصر الحافظ، ثنا الحسن ابن أحمد الفقيه قال ثنا على بن محمد، ثنا سليمان المنقري، قال ثنا عبدوس بن مالك العطار قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإقتداء بهم، وترك البدع، كل بدعة فهي ضلالة، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين. والسنة عندنا: آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والسنة تفسير القرآن، وهي دلائل القرآن، وليس في السنة قياس ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول والأهواء، إنما هو الاتباع وترك الهوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ومن السنة اللازمة التى من ترك منها خصلة لم يقبلها ويؤمن بها يكون من أهلها -: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه. والإيمان بها لا يقال لم، ولا كيف، إنما هو التصديق والإيمان بها. ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كفى ذلك واحكم له فعليه الإيمان به والتسليم له مثل حديث الصادق المصدوق، ومثل ما كان مثله في القدر، ومثل أحاديث الرؤية كلها وإن نبت عن الأسماع وأستوحش منها المستمع، فإنما عليه الإيمان بها، وأن لا يرد منها حرفاً واحداً، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات. وألا تخاصم أحداً ولا تناظره، ولا تتعلم الجدال، فإن الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه، منهي عنه. لا يكون صاحبه وإن أصاب بكلامه السنة من أهل السنة، حتى بدع الجدال. ونسلن ونؤمن بالآثار. والقرآن كلام الله وليس بمخلوق، ولا نضعف أن نقول ليس بمخلوق، فإن كلام الله سبحانه ليس ببائن منه، وليس منه شئ مخلوقاً. وإياك ومناظرة من أحدث فيه، ومن قال باللفظ وغيره، ومن وقف فيه فقال: لا أدرى مخلوق أو ليس بمخلوق، إنما هو كلام الله عز وجل وليس بمخلوق. والإيمان بالرؤية يوم القيامة كما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث الصحاح.وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى ربه فإنه مأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحيح، رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس ورواه على ابن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس. والحديث عندنا على ظاهرة كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به على ظاهرة، ولا تناظر فيه أحداً. والإيمان بالميزان يوم القيامة، كما جاء ((يوزن العبد يوم القيامة فلا يزن جناح بعوضة)) وتوزن أعمال العباد كما جاء في الآثر، والتصديق به والإعراض عمن رد ذلك وترك مجادلته، وان الله تعالى يكلم العباد يوم القيامة ليس بينهم وبينه ترجمان، والإيمان به والتصديق والإيمان بالحوض، وان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حوضاً يوم القيامة ترد عليه امته عرضه مثل طوله مسيرة شهر، آنيته كعدد نجوم السماء على ما صحت به الأخبار من غير وجه والإيمان بعذاب القبر، وان هذه الأمة تفتن في قبورها، وتسأل عن الإيمان والإسلام، ومن ربه ومن نبيه، ويأتيه منكر ونكير كيف يشاء الله وكيف أراد، والإيمان به والتصديق به، والإيمان بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبقوم يخرجون من النار بعد ما أحترقوا وصاروا فحماً، فيؤمر بهم إلى نهر على باب الجنة كما جاءفي الآثر كيف يشاء وكما يشاء، إنما هو الإيمان والتصديق به. والإيمان بالمسيح الدجال خارج مكتوب بين عينيه كافر، والأحاديث التى جاءت فيه، والإيمان بأن ذلك كائن، وأن عيسى ابن مريم - عليه السلام - ينزل فيقتله بباب لد. والإيمان قول وعمل يزيد وينقص، كما جاء في الخبر: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)) . ومن ترك الصلاة فقد كفر. وليس من الأعمال شئ تركه كفر إلا الصلاة، ومن تركها فهو كافر، وقد أحل الله تعالى قتله. والنفاق هو الكفر أن يكفر بالله وبعبد غيره ويظهر الإسلام في العلانية مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من كن فيه فهو منافق)) على التغليظ نرويها كما جاءت ولا نفسرها وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً ضلالاً يضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 بعضكم رقاب بعض)) ، ومثل: ((إذا ألتقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) ، ومثل: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) ، ومثل: ((من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)) ، ومثل: ((كفر بالله من تبرأ من نسب وإن دق)) ، ونحو هذه الأحاديث مما قد صح وحفظ، فإنا نسلم له وإن لم نعلم تفسيرها، ولا نتكلم فيه ولا نجادل فيه، ولا نفسر هذه الأحاديث إلا مثل ما جاءت، ولا نردها إلا بأحق منها. وارجم حق على من زنى وقد أحصن إذا أعترف أو قامت عليه بينه، قد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمت الأئمة الراشدون. قال: ولا نشهد على أهل القبلة بعمل يعمله بجنة ولا نار، نرجو للصالح ونخاف على المسئ المذنب، ونرجو له رحمة الله تعالى، ومن لقى الله بذنب تجب له به النار تائباً غير مصر عليه، فإن الله سبحانه يتوب عليه، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ومن لقيه وقد أقيم عليه حد في الدنيا من الذنوب التى أستوجب بها العقوبة فأمره إلى الله تعالى، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، ومن لقيه من كافر عذبه ولم يغفر له. قال: ومن الإيمان الاعتقاد أن الجنة والنار مخلوقتان، كما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت الجنة فرأيت قصراً ودخلت في النار فرأيت كذا)) فمن زعم أنهما لم يخلقا فهو مكذب بالقرآن وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار. ومن مات من اهل القبلة موحداً يصلى عليه ويستغفر له، ولا يحجب عنه الاستغفار، ولا تترك الصلاة عليه لذنب أذنبه صغيراً كان أو كبيراً وأمره إلى الله عز وجل. وقتال اللصوص والخوارج جائز إذا عرضوا للرجل في نفسه وماله ويدفع عنهما بكل ما يقدر، وليس له إذا فارقوه أو تركوه أن يطلبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ولا يتبع آثارهم، ليس لأحد إلا الإمام أو ولاة المسلمين، إنما له أن يدفع عن نفسه في مقامه ذلك، وينوى بجهده أن لا يقتل أحداً، فإن أتى على يديه في دفعه عن نفسه وماله رجوت له الشهادة، كما جاء في الأحاديث وجميع الآثار في هذا، إنما أمر بقتاله ولم يؤمر بقتله ولا أتباعه، ولا يجهز عليه إن صرع وإن كان جريحاً، وغن أخذه أسيراً فليس له أن يقتله ولا يقيم عليه الحد، ولكن يرفع أمره إلى من ولاه الله تعالى فيحكم فيه. والسمع والطاعة للأئمة وامير المؤمنين البر والفاجر. ومن ولي الخلافة فاجتمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين. والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك. وقسمة الفئ وإقامة الحدود إلى الأئمة ماضٍ، ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم. ورفع الصدقات إليهم جائزة نافذة، من دفعها إليهم أجزأت عنه براً كان أو فاجراً. وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولي جائزاً إمامته - ركعتين، من أعادهما فهو مبتدع تارك الآثار مخالف للسنة، ليس له من فضل الجمعة شئ إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا، برهم وفاجرهم، فالسنة أن يصلى معهم ركعتين ويدين بأنها تامة - ولا يسكن في صدرك شك، ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين، وقد كان الناس أجمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو الغلبة - فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية. ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق. أخبرنا المحمدان بن عبد الملك وابن ناصر، قالا حدثنا أحمد بن الحسن المعدل، قال حدثنا المبارك بن عبد الجبار، وأحمد بن المظفر، الثمار، قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 أخبرنا عبد العزيز بن علي القربيسي، قال حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الحافظ، قال ثنا الحسن بن إسماعيل الربعي، قال: قال لي أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والصابر لله عز وجل تحت المحنة. أجمع سبعون رجلاً من التابعين وأئمة المسلمين وأئمة السلف وفقهاء الأمصار، على؟ أن السنة التى توفي عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولها الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والصبر تحت حكمه، والأخذ بما أمر الله به والنهي عما نهى الله تعالى عنه، وإخلاص العمل لله، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين، والمسح على الخفين، والجهاد مع كل خليفة بر وفاجر، والصلاة على من مات من أهل القبلة. والإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والقرآن كلام الله منزل على قلب نبيه - صلى الله عليه وسلم - غير مخلوق من حيث تلى، والصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من عدل أو جور، ولا نخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا، ولا يكفر أحد من اهل التوحيد وإن عملوا بالكبائر والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأفضل الناس بعد رسول الله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والترحم على جميع أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولاده وأصهاره رضوان الله عليهم أجمعين. فهذه السنة آلزموها تسلموا أخذها بركة، وتركها ضلالة. أنتهى بحروفه وقد أمتحن في مسألة خلق القرآن وضرب وحبس، فصبر على ذلك حتى أنار الله تعالى به السنة، وخذل به اهل البدعة. [محنة القول بخلق القرآن] قال الدميري: وحكي أن الشافعي - رحمه الله تعالى - لما حضر في مصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 رأى في المنام سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول له: أبشر أحمد ابن حنبل بالجنة على بلوى تصيبه، فإنه يدعى إلى القول بخلق القرآن فلا يجيب إلى ذلك، بل يقول: هو منزل غير مخلوق. فلما أصبح الشافعي - رضي الله عنه - كتب صورة ما رآن في منامه وأرسله مع الربيع إلى بغداد إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فلما وصل بغداد قصد منزل أحمد وأستأذن عليه فأذن له، فلما دخل عليه قال: هذا كتاب أخيك الشافعي، فقال له: هل تعلم ما فيه:؟ قال لا، ففتحه وقرآه وبكى وقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. ثم أخبره بما فيه فقال: الجائزة؟ وكان عليه قميصان احدهما على جسده والآخر فوقه فنزع الذى على جسده ودفعه إليه فأخذه ورجع إلى الشافعي فقال له الشافعي: ما أجازك؟ قال: أعطاني القميص الذى على جسده، فقال له: أما انا فلا أفجعك فيه، ولكن أغسله وأئتنى بماء غسله، واتاه بالماء فأفاضه على سائر جسده. انتهى. وما أحسن ما ينسب إليه فيه قول [كامل] قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل ما تعدت منزله إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في الباب السادس والستين ما ملخصه: إنه لم يزل الناس على قانون السلف وقولهم: إن القرآن كلام الله غير مخلوق حتى نبعث المعتزلة فقالت بخلق القرآن، وكانت تستر ذلك. وكان القانون محفوظاً في زمن هارون الرشيد كما قال محمد بن نوح سمعت هارون الرشيد أمير المؤمنين يقول: بلغني أن بشراً المريسى زعم ان القرآن مخلوق؟ على إن اظفرني الله به لأقتلنه قتله ما قتلها أحد قط. قال أحمد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فكان بشر متوارياً في أيامه نحواً من عشرين سنة حتى مات هارون، فظهر ودعا إلى الضلالة. ولما ولي المأمون خالطه قوم من المعتزلة فحسنوا له القول بخلق القرآن، وكان يتردد في حمل الناي على ذلك ويراقب الأشياخ، ثم قوى عزمه فحمل الناس عليه حتى سافر المأمون إلى بلاد الروم فكتب وهو بالرقة إلى أسحق ابن إبراهيم صاحب الشرطة ببغداد بامتحان الناس فامتحنهم. قال صالح ابن الإمام أحمد: ثم أمتحن القوم جميعاً غير أربعة: أبي ومحمد ابن نوح وعبد الله بن عمر القواريري والحسن بن حماد سجادة، ثم أجاب عبد الله بن عمر والحسن بن حماد، وبقى ابي ومحمد بن نوح في الحبس فمكثا أياماً في الحبس، ثم ورد الكتاب من طرطوس بحملها مقيدين زملين فصرنا معهما إلى الأنبار، فسأل أبو بكر الأحوال أبي فقال: يا أبا عبد الله، إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا. ولما رحلنا من الرحبة عرض لنا رجل في جوف الليل فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا. فقال للجمال على رسلك! ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة هاهنا ثم قال: أستودعك الله تعالى ومضى. فسئل عنه فقيل: هو رجل من ربيعة يقال له جابر بن عامر يذكر بخير وقال أحمد: ما سمعت كلمة منذ وقعت في الأمر الذى وقعت فيه اقوى من كلمة أعرابي كلمنى بها في رحبة طوق. قال: يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً قال: فقوى قلبي. قال ابن أبي حاتم: فكان كما قال، لقد رفع الله عز وجل شأن أحمد بن حنبل بعد ما أماحن وعظم عند الناس، وارتفع أمره جداً. قال صالح قال أبي: لما صرنا إلى أذنه ورحلنا منها وذلك في جوف الليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وفتح لنا بابها، فإذا رجل قد دخل فقال: البشرى؟ قد مات الرجل! قال أبي: وكنت أدعو الله عز وجل أن لا أراه، فبويع المعتصم بالروم ورجع فرد أحمد إلى بغداد في سنة ثمان وعشر ومائتين. فمات محمد بن نوح في الطريق ودفن كما قيل بعانة، وصلى عليه الإمام أحمد، ورد مقيداً فمكث بالياسرية أياماً، ثم رد إلى الحبس في دار أكتريت له، ثم نقل إلأى حبس العامة في درب الموصلي فامتحنه المعتصم بخلق القرآن. وكان أحمد بن أبي داود على قضاء القضاة، قال أحمد: لما كان في شهر رمضان سنة تسع حولت إلى دار إسحق بن إبراهيم، فوجه إلى في كل يوم برجلين أحدهما يقال له أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيث فلا يزالان يناظراني حتى إذا أرادا الإنصراف بقيد فزيد في قيودي فصار في رجلي أربعة أقياد. فلما كان اليوم الثالث دخل على أحد الرجلين فناظرني فقلت له: ما تقول في علم الله؟ قال: علم الله مخلوق، فقلت له: كفرت! فلما كان في الليلة الرابعة وجه المعتصم إلى أسحق فأمره بحملي إليه فأدخلت إلى إسحق، فقال: يا أحمد، إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف، إنه قد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يلقيك في موضع لا ترى الشمس فيه أليس قد قال الله عز وجل: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} [الزخرف 3] أفيكون مجعول إلا مخلوقاً؟ فقلت له: قد قال الله عز وجل: {فجعلهم كعصف مأكول} [الفيل 5] أفخنقهم؟ فسكت. ثم قال أذهبوا به. قال أحمد: فما صرنا إلى الموضع المعروف بباب البستان، أخرجت وجئ بدابة فحملت عليها وعلى الأقياد معي أحد يمسكني، فكدت غير مرة أخر على وجهي لثقل القيود فجئ بي إلى دار المعتصم فأدخلت حجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وأدخلت إلى بيت وأقفل علي الباب، وذلك في جوف الليل، وليس في البيت سراج، فأردت أن أتمسح للصلاة فمددت يدى فغذا أنا بإناء فيه ماء وطشت موضوع فتوضأت للصلاة وصليت، فلما كان من الغد أخرجت تكتى من سروالي وشددت بها الأقياد أحملها وعطفت سراويلي، فجاء رسول المعتصم فقال: أجب، فأخذ بيدي وأدخلني عليه والتكة بيدي أحمل بها الأقياد، وإذا هو جالس وابن أبي داود حاضر، وقد جمع خلقاً كثيراً من أصحابه ومعهم أبو عبد الرحمن الشافعي. قال إبراهيم بن محمد بن الحسن: فأجلس بين يدي وكانوا هولوا عليه وقد كانوا ضربوا عنق رجلين، فنظر أحمد إلى أبي عبد الرحمن الشافعي فقال: أي شئ تحفظ عن الشافعي في المسح؟ فقال ابن أبي داود: أنظروا رجلاً هو ذا يقوم لضرب العنق يناظر في الفقه؟ ! . قال صالح قال أبي: لما دخلت إليه قال لي - يعني المعتصم -: أدنه أدنه فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: أجلس فجلست، وقد أثقلتنى القيود فمكثت قليلاً ثم قلت: تأذن في الكلام؟ فقال: تكلم فقلت: إلام دعا الله ورسوله؟ فسكت هنيهة، ثم قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فقلت أنا أشهد ان لا إله إلا الله، ثم قلت: إن جدك ابن عباس قال لما قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن الإيمان فقال: ((أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تعطوا الخمس من المغنم)) قال أبي فقال: لولا أنى وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك. ثم قال: يا عبد الرحمن بن إسحق: ألم آمرك أن تدفع المحنة؟ قال أبي: فقلت: الله أكبر، إن في هذا لفرجاً للمسلمين. ثم قال لهم: ناظروه وكلموه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ثم قال: يا عبد الرحمن كلمه، فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن فقلت له: ما تقول في علم الله تعالى فسكت. فقال لي بعضهم: أليس قال الله عز وجل {خالق كل شئ} [الرعد 16] والقرآن أليس هو شيئاً؟ قال أبي: فقلت قال الله عز وجل {تدمر كل شئ بأمر ربها} [الأحقاف 25] فدمرت إلا ما أراد الله عز وجل. وقال بعضهم: قال الله عز وجل {ما ياتيهم من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء 2] أفيكون محدث إلا مخلوقاً؟ قال أبي: فقلت له قال الله عز وجل {ص والقرآن ذي الذكر} [ص الآية 1] والذكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولا لام؟ قال أبي: وذكر بعضهم حديث عمران بن حصين: ان الله عز وجل خلق الذكر؟ فقلت: هذا خطأ حدثنا غير واحد أن الله عز وجل كتب الذكر. وأحتجوا على بحديث ابن مسعود: ((ما خلق الله عز وجل من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي)) . قال ابي: فقلت إنما يوقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض، ولم يقع على القرآن. قال: فقال بعضهم حديث خباب: ((يا هنتاه تقرب إلى الله تعالى بما أستطعت فإنك لم تتقرب إليه بشئ أحب إليه من كلامه)) . قال: هذا كذا هو، فجعل ابن أبي داود ينظر إليه كالمغضب. قال: وكان يتكلم هذا فأرد عليه. فإذا أنقطع الرجل منهم أعترض ابن أبي داود فيقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضال مضل مبتدع! قال أبي: فيقول: كلموه وناظروه فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا أنقطعوا يقول لي - يعني المعتصم -: ويحك يا أحمد؟ ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقول به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وحكي محمد بن إبراهيم أن أبن ابي داود أقبل على أحمد يكلمه، فلم يلتفت إليه أحمد حتى قال المعتصم لأحمد: ألا تكلم أبا عبد الله؟ فقال أحمد: لست أعرفه من اهل العلم فأكلمه. وقال صالح: جعل ابن أبي داود يقول: يا أمير المؤمنين، والله لئن أجابك لهو أحب لي من مائة ألف دينار. فيعدد من ذلك ما شاء الله تعالى. قال: فقال المعتصم: والله لئن أجابني لأطلقن عنه بيدي، ولأركبن إليه بجندي ولأطأن عتبته! ثم قال: يا أحمد، والله إني عليك لشفيق، وإني لأشفقن عليك كشفقي على هارون ابني، ما تقول!! فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فلما كال المجلس ضجر وقال: قوموا وحبسني وعبد الرحمن بن إسحق يكلمني وقال: ويحك أجبني؟ وقال لي: ما أعرفك، ألم تكن تأتينا؟ فقال له عبد الرحمن بن إسحق: يا أمير المؤمنين أعرفه من ثلاثين سنة، يرى طاعتك والحج والجهاد معكم، قال فيقول: والله إنه لعالم، وإنه لفقيه، وما يسوءني أن يكون مثله معي يرد عني أهل الملل. ثم قال لي: ما كنت تعرف صالحاً الرشيدي؟ قال، قلت: قد سمعت باسمه. قال: كان مؤدبي، وكان في ذلك الموضع جالساً وأشار إلى ناحية من الدار، فسألته عن القرآن فخالفني، فأمرت به فوطئ وسحب. ثم قال لي: يا أحمد أجبني إلى شئ لك فيه أدني فرج حتى أطلق عنك بيدي، قال قلت: أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله فطال المجلس فقام ودخل، ورددت إلى الموضع الذى كنت فيه. فلما كان بعد المغرب وجه إلى برجلين من أصحاب ابن أبي داود يبيتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 عندي، ويناظراني ويقيمان معي، حتى إذا كان وقت الإفطار جئ بالطعام ويجتهدان بي أن أفطر فلا أفعل. قال ابي: ووجه إلى - يعني المعتصم - ابن أبي داود في بعض الليل فقال: إن أمير المؤمنين يقول: ما تقول؟ فأرد عليه مثل ما كنت أرد. فقال ابن أبي داود: والله لقد كتب أسمك في السبعة: يحيى بن معين وغيره فمحوته، ولقد ساءني أخذهم إياك. ثم يقول إن أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك ضرباً بعد ضرب، وإن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس، ويقول إن أجابني جئت إليه حتى أطلق عنه بيدي، ثم انصرف. فلما أصبح - وذلك اليوم الثاني - جاء رسوله وأخذ بيدي حتى ذهب بي إليه فقال لهم: ناظروه كلموه فجعلوا يناظرونني ويتكلم هذا من ههنا فأرد عليه، ويتكلم هذا من ههنا فأرد عليه، فإذا جاءوا بشئ من الكلام مما ليس في كتاب الله عز وجل ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا فيه خبر قلت: ما أدرى ما هذا، قال: يقول يا أمير المؤمنين: إذا توجهت له الحجة علينا ثبت، وإذا كلمناه بشئ يقول لا أدري ما هذا. فقال: ناظروه، فقال رجل: يا أحمد، أراك تذكر الحديث وتنتحله؟ قلت: ما تقول في {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء 1] فقال: خص الله عز ودل بها المؤمنين. فقلت: ما تقول إن كان قائلاً أو عبداً أو يهودياً؟ قال: فسكت. وإنما احتجت عليهم بهذا، لأنهم كانوا يحتجون بظاهر القرآن، وحيث قال لي: أراك تنتحل الحديث، فلم يزالوا كذلك إلى أن قرب الزوال، فلما ضجر قال لهم: قوموا، وخلا بي وبعبد الرحمن بن إسحق، فلم يزل يكلمني. ثم قال فدخل ورددت إلى الموضع، فلما كان الليل نام من معي من أصحابي وأنا متفكر في أمري، فإذا برجل طويل يتخطي الناس حتى دنا مني فقال: أنت أحمد بن حنبل؟ فسكت، فقالها ثانية فسكت، فقالها ثالثة: أنت أبو عبد الله أحمد بن حنبل؟ قلت: نعم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أصبر ولك الجنة. ولما مسني حر السوط ذكرت قول ذلك الرجل. قال أحمد: فلكا كانت الليلة الثالثة قلت: خليق أن يحدث غداً من أمري شئ فقلت لبعض من كان معي الموكل بي: أطلب لي خيطاً فجاءني بخيط فشددت به الأقياد ورددت التكة إلى سراويلي مخافة أن يحدث من أمري شئ فأعتري، فلما كان الغد في اليوم الثالث وجه إلى فأدخلت إلى الدار غاصة فجعلت أدخل من موضع إلى موضع، وقوم معهم بالسيوف، وقوم معهم السياط وغير ذلك ولم يكن في اليومين الماضيين كثير أحد من هؤلاء. فلما أنتهيت إليه قال أقعد، ثم قال: ناظروه وكلموه، فجعلوا يناظرونني ويتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، وجعل صوتي يعلو أصواتهم، فجعل بعض من على رأسي قائم يومئ إلى بيده. فلما طال المجلس نحاني، ثم خلا بهم ثم نحاني، وردني إليه قال: ويحك يا أحمد! أجبني حتى أطلق عنك بيدي، فرددت عليه نحواً مما كنت أرد، فقال لي: عليك - وذكر اللعن - ثم قال: خذوه واسحبوه وأخلعوه، فسحبت ثم خلعت. وكان صار إلى شعر من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - فصررته في كم قميصي، فوجه إلى إسحق بن إبراهيم: ما هذا مصروراً في كم قميصك؟ فقلت: شعر من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: وسعى بعض القوم إلى القميص ليخرقه علي فقال له المعتصم: لا تخرقوه، فنزع القميص عني فظننت أنه إنما درئ عن القميص الخرق بسبب الشعر الذى كان فيه. وجلس المعتصم على كرسي ثم قال: العقابين والسياط، فجئ بالعقابين والسياط، فمدت يداى فقال بعض من حضر خلفى: خذ ثاني الخشبتين بيدك وشد عليهما، فلم أفهم ما قال، فتخلعت يداى. قال محمد بن إبراهيم: ذكروا ان المعتصم لان في أمر أحمد لما علق في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 العقابين ورأى ثبوته وتصميمه وصلابته في أمره حتى أغراه ابن أبي داود وقال له: إن تركته قيل إنك تركت مذهب المأمون وسخطت قوله فهاجمه ذلك على ضربه. وقال أحمد؟ ثم قال للجلادين تقدموا، فجعل يتقدم إلى الرجل منهم فيضربني سوطين فيقول له المعتصم: شد قطع الله يدك، ثم يتنحى ثم يتقدم الآخر فيضربني سوطين وهو في ذلك يقول: شدوا قطع الله أيديكم. فلما ضربت تسعة عشر سوطاً قال إلى فقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك، إنى والله عليك شفيق! وجعل عجيف ينسخني بقائمة سيفه وقال: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم. وجعل بعضهم يقول: ويلك! الخليفة على رأسك قائم. وقال بعضهم يا أمير المؤمنين، دمه في عنقى أقتله. وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم، وانت في الشمس قائم. فقال لي: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أقول به، ثم رجع فجلس ثم قال للجلاد: تقدم، أوجع، قطع الله يدك. ثم قام الثانية فجعل يقول: ويحك يا أحمد أجبني. فجعلوا يقبلون علي ويقولون: ويلك يا أحمد، إمامك على رأسك قائم، وجعل عبد الرحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الآمر ما تصنع. وجعل المعتصم يقول: ويحك، أجبني إلى شئ لك فيه من أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي. فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به. فرجع وجلس فقال للجلادين: تقدموا، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين، ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك. قال أحمد: فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أطلقت عني. فقال لي رجل ممن حضر: إنا كببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك باربة ودسناك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 قال أحمد، فما شعرت بذلك. أتوني بسويق فقالوا لي: أشرب وتقيأ. فقلت لست أفطر. ثم جئ بي إلى دار إسحق بن إبراهيم فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من الصلاة قال لي: صليت والدم يسيل في ثوبك؟ فقلت: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً. قال أبو الفضل: ثم خلى عنه فصار إلى منزله، فمكث في السجن منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب وخلي عنه ثمانية وعشرين شهراً. وقال إبراهيم بن مصعب الشرطي: ما رأيت أحداً لم يداخل السلطان ولا خالط الملوك أثبت قلباً من أحمد يومئذ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذباب. وأخبر أبو العباس الرقي: إنهم دخلوا على أحمد لما كان في الرقة، وهو محبوس فجعلوا يذاكرونه ما يروى في التقية من الأحاديث، فقال: كيف تصنعون بحديث خباب ((إن من كان قبلكم كان ينشر بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه)) قال: فيئسنا منه. وقال له المروذي لما أرادوا أن يقدموه للضرب: يا أستاذ، قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء 29] فقال: يا مروذي، أخرج أنظر أي شئ ترى؟ قال: فخرجت إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقاً من الناس لا يحصى عددهم إلا الله عز وجل، والصحف في أيديهم، والأقلام والمحابر في أذرعتهم. فقال لهم المرودي: أي شئ تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه فقال المروذي: مكانكم فدخل إلى أحمد وقال له: رأيت قوماً بأيديهم الصحف والأقلام، ينتظرون ما تقول فيكتبونه. قال: يا مروذي، أضل هؤلاء كلهم أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء كلهم. قلت: هذا رجل هانت عليه نفسه في الله عز وجل فبذلها وقد صح عنه عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الصلاة والسلام أنه قال: ((يبتلى الرجل على حسب دينه)) ، فسبحان من أيده وبصره وقواه ونصره. وقال ميمون بن الأصبغ: كنت ببغداد فسمعت ضجة فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أحمد بن حنبل يمتحن، فأتيت منزلي فأخذت مالا له حظ وذهبت به إلى من يدخلني إلى المجلس، فأدخلوني فإذا بالسيوف قد جردت، وبالرماح قد ركزت، وبالتراس قد نصبت، والسياط قد طرحت، فألبسوني قباء أسود ومنطقة وسيفاً، ووقفوني حيث أسمه الكلام، فأتى أمير المؤمنين وجلس على كرسي، وأتى بأحمد بن حنبل فقال له: وقرابتي من رسول الله لأضربنك بالسياط، أو تقول كما أقول، ثم التفت إلى الجلاد فقال: خذه إليك. فلما ضرب سوطاً قال: بسم الله. فلما ضرب الثاني قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما ضرب الثالث قال: القرآن كلام اله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فضرب تسعة وعشرين سوطاً. وكان تكة أحمد حاشية ثوب فأنقطعت فنزل السروايل إلى عانته، فقلت الساعة ينتهك، فرمى أحمد طرفه نحو السماء وحرك شفتيه، فما كان باسرع من أن بقى السراويل لم ينزل. قال ميمون: ورحلت إليه بعد سبعة أيام فقلت: يا أبا عبد الله، رأيتك يوم ضربوك قد أنحل سراويلك فرفعت طرفك نحو السماء، ورأيتك تحرك شفتيك فأى شئ قلت؟ قال قلت: اللهم إني أسألك باسمك الذى ملأت به العرش إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي ستراً. وقال على بن محمد القرشي: لما جرد، وبقى في سراويله، وبينما هو يضرب أنحل السراويل، فجعل يحرك شفتيه بشئ فرأيت يدين خرجتا من تحته، وهو يضرب فشدتا السراويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وقال محمد بن إسما عيل: سمعت بعضهم يقول: ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطاً لو ضربتها فيلاً لهرته. وأخبرنا الراشدي أنه كان يقول عند الضرب: بك أستغيث يا جبار السماء والأرض. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: كنت كثيراً أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم، غفر الله تعالى لأبي الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم. فقلت يا أبت، من أبا الهيثم؟ قال لا تعرفه؟ قلت لا. قال: أبو الهيثم الحداد، اليوم الذى أخرجت فيه للسياط، ومدت يدي للعقابين، إذ أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لى تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضربت ثمانية عشر ألف سوطاً بالتفاريق، وضربت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين. قال: فضربت ثمانية عشر سوطاً بدل ما ضرب ثمانية عشر ألفاً. وخرج الخادم فقال: عفا عنه أمير المؤمنين. قال أبو القاسم البغوي: رأيت أحمد بن حنبل داخلاً إلى جامع المدينة وعليه كساء أخضر، وبيده نعلاه، حاسر الرأس، فرأيت شيخاً آدم طوالاً أبيض اللحية، وكان على دكة المنارة قوم من أصحاب السلطان فنزلوا واستقبلوه وقبلوا رأسه ويده، وقالوا له: أدع على من ظلمك، فقال: ليس بصابر من دعا على ظالم. وحكى أبو عمر المخزومي قال: كنت بمكة أطوف بالبيت مع سعيد ابن منصور، فإذا صوت من ورائي: ضرب أحمد بن حنبل اليوم. وفي رواية أخرى: قال لي سعيد: أتسمع ما أسمع؟ قلت: نعم، فجاء الخبر أنه ضرب في ذلك اليوم. قال أبو غالب: في العشر الأواخر من رمضان سنة عشرين أو تسع وعشرين ومائتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 قال أحمد: لما ضربت بالسياط جاء ذاك الطويل اللحية - يعني عجيفاً - فضربني بقائم السيف، فقلت: جاء الفرج تضرب عنقي فأستريح. فقال له ابن سماعة: يا أمير المؤمنين، أضرب عنقه ودمه في رقبتي. فقال له أحمد بن أبي داود: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإنه إن قتل أو مات في دارك قال الناس: صبر حتى قتل، فاتخذه الناس إماماً وثبتوا على ما هو عليه، لا، ولكن أطلقه الساعة فإن مات خارجاً من منزلك شك الناس في أمره، وقيل: أخرج أحمد بعد أن أجتمع الناس على الباب وضجوا حتى خاف السلطان، فخرج وقال للناس: تعرفونه؟ قالوا: نعم هذا أحمد بن حنبل. قال: فأنظروا إليه أليس هو صحيح البدن؟ قالوا: نعم. فلما قال قد سلمته إليكم هدأ الناس وسكتوا فخرج. وقد أجل الإمام أحمد من أمر بضربه أو حضر. قال إبراهيم الحربي: أحل أحمد بن حنبل من حضر ضربه وكل من شايع فيه والمعتصم، وقال: لولا أن ابن أبي داود داعية لأحللته. وقال عبد الله ابن أحمد: قرأت على ابي ((أن لله عز وجل باباً في الجنة لا يدخله إلا من عفا عمن ظلمه)) فقال لي: يا بني، ما خرجت من دار أبي أسحق (1) حتى أحللته ومن معه إلا رجلين: ابن أبي داود وعبد الرحمن بن أسحق، فإنهما طلبا دمي، وأنا أهون على الله عز وجل من أن يعذب في أحداً أشهدك أنهما في حل. قال صالح: وقد كان أثر الضرب بيناً في ظهر أبي إلى أن توفى رحمه الله تعالى. وبعد أن خرج قطع الحديث إلى ان مات المعتصم، فحدث في سنة سبع وعشرين، ثم قطع الحديث من غير منع من السلطان، ولكن كتب الحسن   (1) كنية المعتصم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 بن علي بن الجعد، وهو يؤمئذ قاضي بغداد إلى ابن أبي دواد: أن أحمد قد أنبسط في الحديث، فبلغ ذلك أحمد فأمسك عن الحديث من غير أن يمنع. وكانت ولاية المعتصم ثمان سنين وثمانية أشهر. ثم ولي الواثق أبو جعفر بن المعتصم في ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين، وحسن له ابن أبي داود امتحان الناس بخلق القرآن ففعل ذلك ولم يعرض لأحمد، إما لما علم من صبره، أو لما خاف من تأثير عقوبته، لكنه أرسل إليه لا تساكني بأرض. فاختفى الإمام أحمد بقية حياة الواثق. قال إبراهيم بن هانئ النيسابوري: أختفى عندي أحمد بن حنبل ثلاث ليال. ثم قال: أطلب لي موضعاً حتى أدور إليه، فقلت: لا آمن عليك يا أبا عبد الله. فقال لي: النبي - صلى الله عليه وسلم - أختفى في الغار ثلاثة أيام ثم دار، وليس ينبغي أن نتبع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرخاء ونتركها في الشدة. ثم بعد التنقل في الأماكن عاد إلى منزله فاختفى فيه إلى أن مات الواثق. قال ابن الجوزي: روى أن الواثق ترك امتحان الناس بسبب مناظرة جرت بين يديه، رأى بها أن الأولى ترك الإمتحان. فقد حكى طاهر بن خلف عن المهتدي باله قال: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرنا ذلك المجلس، فأتى بشيخ مخصوب مقيد فقال أبي: أئذنوا لأبي عبد الله وأصحابه - يعني ابن أبي داود - قال - فأدخل الشيخ، فقال: السلام عليكم يا أمير المؤمنين، فقال: لاسلام الله عليك. فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبك! قال الله تعالى:: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 [النساء 86] والله ما حييتنى بها ولا بأحسن منها! فقال ابن أبي داود يا أمير المؤمنين، الرجل متكلم. فقال له: كلمه فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن؟ قال الشيخ: لم تنصفني ولي السؤال، فقال له: سل، فقال الشيخ: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق. فقال: هذا شئ علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون؟ أم شئ لم يعلموه؟ فقال: شئ لم يعلموه. فقال: سبحان الله! شئ لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت؟ فخجل فقال: أقلني، قال: المسألة بحالها؟ قال: نعم. قال: ما تقول في القرآن؟ فقال: مخلوق. فقال: هذا شئ علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون؟ أم شئ لم يعلموه؟ فقال: شئ لم يعلموه؟ فقال: علموه ولم يدعوا الناس إليه. فقال: ألا وسعك ما وسعهم؟ قال: ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة وأستلقى على قفاه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شئ لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر إلى أخره. ثم دعا عمار الحاجب فأمر أن ترفع عنه القيود ويعطيه أربعمائة دينار، ويأذن له في الرجوع إلى الشام. وسقط من عينيه ابن أبي داود. وتروى هذه بصورة أخرى مذكورة في الأصل. وقال المهتدي: إن الواثق مات وقد تاب عن القول بخلق القرآن. ولما بويع بعده المتوكل جعفر بن المعتصم سنة أثنتين وثلاثين ومائتين، وسنة ست وعشرون سنة فاظهر الله عز وجل به السنة، وكشف تلك الغمة، فشكره الناس على ما فعل، وأمر العلماء أن يجلسوا للناس، وان يحدثوا بالأحاديث التى فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية، حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 جلس عثمان بن أبي شيبة في مدينة المنصور (1) ووضع له سريد واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس في مسجد الرصافة، وانشد بعضهم: [رمل] ذهبت دولة أصحاب البدع ... ووهي حبلهم ثم أنقطع وتداعى بانصرام شملهم ... حزب إبليس الذى كان جمع هل لهم يا قوم في بدعهتهم ... من فقيه أو إمام متبع ومنها: [رمل] أوفتى الإسلام أعني أحمداً ... ذاك لو قارعه الفيل قرع لم يخف سطوتهم إذا خوفوا ... لا ولا سيفهم لما لمع وقد بعث المتوكل بعد مضي خمس سنين من ولايته لتيسيير أحمد بن حنبل فقد نقل غير واحد أنه وجه المتوكل إلى أسحق بن إبراهيم بأمره بحمله إليه فوجه أسحق إليه وقال له: إن أمير المؤمنين قد كتب إلي يأمرني بإشخاصك إليه فتأهب لذلك. وقال له: أجعلني في حل من حضوري ضربك. فقال: أحمد: قد جيعلت كل من حضر في حل. فقال له: أسألك عن القرآن مسألة مسترشدة لا مسألة امتحان، فقال له الإمام أحمد: القرآن كلام الله عز وجل: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] ففرق بين الخلق والأمر. فقال أسحق: الأمر مخلوق؟ فقال أحمد: سبحان الله! أمخلوق يخلق مخلوقاً! فقال أسحق: وعمن يحكي أنه ليس بمخلوق؟ فقال: جعفر بن محمد قال: ليس بخالق ولا مخلوق، فسكت إسحق وأرسل له المتوكل بعشرة آلاف درهم معونة لسفره إليه   (1) هي بغداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فأخذها بعد الرد والكرم الكثير، وفرقها على أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم. وكان يقول عند مواصلة المتوكل له: وهذا أمر أشد على من ذاك ذاك فتنة الدين الضرب والحبس، كنت أحمله في نفسي، وهذا فتنة الدنيا. ولم يقبل شيئاً من ماله. قال ابن الجوزي: وإنما أخترنا مذهبه على مذهب غيره لمرجحات منها: شهادة العلماء والصلحاء في تفرده بالعلم والتقوى، والزهد والورع. ومنها سعة أطلاعه بالكتاب والسنة، والغوص في المعاني. ومنها تأخره عن غيره من المجتهدين، وضم علمهم إلى علمه، وأنفراده بفتاوي الصحابة والتابعين. وأما القياس فله فيه من الاستنباط ما يطول شرحه، وكذا العلوم العربية، ومنها أتباع كثير من العلماء والأولياء المقطوع بولايتهم له. (قلت) ولا سيما العالم الرباني، والوالي الكيلاني، سيدي محيى الدين الشيخ عبد القادر نور الله تعالى روضة قبره، وجعله من الفائزين برحمته عند حشره ونشره، الذى قال في حقه الشيخ ابن تيمية: إن كراماته قد ثبتت بالتواتر، بين الأكابر والأصاغر، فإنه قدس كان لمذهبه خير مشيد بل المروج المجدد. ومما ينسب للإمام أحمد من الشعر قوله: [طويل] إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيب لهونا عن الأيام حتى تتابعت ... ذنوب على آثارهن ذنوب فياليت أن الله يغفر ما مضى ... ويأذن في توبتنا فنتوب إذا ما مضى القرن الذى أنات فيهم ... وخلفت في قرن فأنت غريب أنتهى ملخصاً باقتصار. وأقتطافاً من تلك الروضة اليانعة الأزهار. وإنما أطلنا في هذه القصة الكلام لخلو كثير من التواريخ عنها، وليلتقط الناظر بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الفوائد منها، وإن أردت تفصيل أحوال هذا الإمام: من زهد وورع وعلم وصلاة وصيام، فعليك بالترجمة الأصلية وغيرها من الطبقات والتواريخ البهية. تتمة [نقلة فقه الإمام أحمد] مطلب من نقل الفقه عن الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -. قال الإمام أبو أسحق إبراهيم بن علي بن يوسف القيروز ابادي المعروف ((بالشيرازي)) المتوفي سنة 476 في كتابه طبقات الفقهاء: إن أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى عليه نقل عنه الفقه جماعة، منهم: أبنه صالح وكني أبا الفضل، وولي القضاء بأصفهان، ومات بها سنة ست وستين ومائتين وله ثلاث وستون سنة. ومنهم أبنه الآخر عبد الله وكنيته أبو عبد الرحمن، وكان عالماً بعلل الحديث وأسماء الرجال، مات ببغداد سنة تسعين ومائتين وله تسع وتسعون سنة وقبر في مقابر باب التبن. وأوصى أن يدفن هناك وقال: قد بلغني أن هناك نبياً مدفوناً، ولا أكون في جوار نبي أحب إلى من أن أكون في جوار أبي. ومنهم أبو علي حنبل بن أسحق، مات سنة ثلاث وتسعين ومائتسن. ومنهم أبو بكر المروذي وخرج إلى الغزو فشيعه الناس، فخرزوا بسر من رأى سوى من رجع نحواً من خمسين ألفاً، فقيل: يا أبا بكر، هذا علم قد نشر لك، فبكى ثم قال: ليس هذا العلم لي، إنما هو علم أحمد بن حنبل. وكان يقول: قليل التقوى يهزم كثير الجيش، مات سنة خمس وسبعين ومائتين، ودفن قريباً من أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ومنهم أبو بكر أحمد بن هانئ الكلبي الأثرم. وكان حافظاً للحديث. ومنهم أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وهو إمام في الحديث، مات سنة خمس وسبعين ومائتين، وله ثلاث وتسعون سنة. ومنهم أبو إسحق إبراهيم الحربي إمام في الحديث، وله مصنفات كثيرة، مات سنة خمس وثمانين ومائتين. ثم حصلت الرواية عن أحمد في طبقة أخرى. فمنهم أبو بكر أحمد بن هرون الخلال، له مصنفات كثيرة في الفقه، وله كتاب الجامع في المذهب، واخذ العلم عن المروذي، وصالح وعبد الله أبني أحمد مات سنة إحدى عشرة وثلثمائة. ومنهم أبو علي الحسين بن عبد الله الخرقى، مات سنة تسع وتسعين ومائتين. ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن بشار الزاهد، وكان يروى مسائل صالح، توفى سنة ثلاث عشرة وثلثمائة. ومنهم أبو محمد البهربهاري. ثم أنتقل إلى طبقة أخرى. منهم أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي صاحب المختصر، وخرج من بغداد لما ظهر سب السلف، ومات بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلثمائة. ومنهم أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن يزداد بن معروف صاحب أبي بكر الخلال، وله كتب في الفقه، توفي سنة ثلاث وستين وثلثمائة، وله ثمان وسبعون سنة. ومنهم أحمد بن سليمان النجار الفقيه، وله كتاب الخلاف. ومنهم أبو الحسن أحمد بن جعفر بن المنادي، مات سنة ست وثلاثين وثلثمائة وأبو على النجاد، وأبو أسحق إبراهيم بن أحمد المعروف ((بابن شاقلا)) مات سنة تسع وستين، وابو الحسين بن عبد العزيز بن الحرث النميمي، مات سنة إحدى وتسعين وثلثمائة، وابو حفص عمر بن أحمد البرمكي، أبو الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الخيرزي، وأبو عبد الله بن بطة العبكري، وأبو حفص عمر بن المسلم العبكري صاحب ابن بطة، ثم أبو عبد الله الحسن بن علي بن مروان بن حامد، مات سنة ثلاث وأربعمائة في طريق مكة. ومنهم القاضي أبو على محمد بن أحمد بن أبو موسى الهاشمي، وكان حسن الفتيا معظماً لأهل العلم. قال الشيخ المصنف: حضرت حلقته وانتفعت به كثيراً وكان أخص الهاشميين بالقادر بالله، مات سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وله مصنفات حسنة. ومنهم أبو علي بن شهاب العبكري، مات سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وكان فقيهاً شاعراً. ومنهم أبو طاهر الغباري، مات سنة أثنين وثلاثين وأربعمائة. ومنهم أبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز التميمي، واخوة أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز. ومنهم أبو إسحق إبراهيم بن عمر البرمكي، وكان زاهداً صالحاً يفتى الناس في الجامع. مات سنة خمس وأربعين وأربعمائة، ودفن ليلة عرفة - رحمهم الله تعالى. انتهى. (قلت) : وكم برع في هذا المذهب من إمام فاضل، عالم تسير إليه الرواحل، وكم قلده من ولي كامل، وزاهد واصل. وآخر من سدد هذا المذهب، ونقح وهذب - آل قدامه، وآل تيميه، وابن قدامه الجوزية، ومن أخذ عنهم في البلاد الشامية، غير أن علماء المذاهب الثلاثة ومقلديهم أكثر وبحار تأليفاتهم بحسب الظاهر أغزر، فقد قال ابن عقيل: إن أكثر أصحاب أحمد من تعلق منهم باطراف العلم يخرج إلى التوغل في العلم والزهد. وأصحاب المذاهب كالحنفية والشافعية، فتوليتهم بالولايات تكون سبباً لكثرة أشتغالهم ونشرهم للعلم وتدريسهم. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ومما يستظرفه الأدباء في هذا المطلب ما أنشده العلامة الخفاجي في (ريحانة الألباء) عند ترجمة زين العابدين الحنبلي قوله: [طويل] يقولون لي قد قل مذهب أحمد وكل قليل في الأنام ضئيل فقلت لهم مهلاً غلطتم بزعمكم ألم تعلموا أن الكرام قليل ((وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل)) [ترجمة الإمام أبو الحسن الأشعري] (والثاني) - الحبر الامام أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحق ابن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن هلال بن أبي بردة، عامر بن أبي موسى الأشعري، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحكم من قبل علي - رضي الله عنه - في المسألة المشهورة. والأشعري - على ما قال السمعاني: نسبة لأشعر أحد أجداده، وأسمه نبت. وقد ولد والشعر على بدنه. ولد أبو الحسن سنة سبعين وقيل: ستين ومائتين بالبصرة. وتوفي سنة أثنين وثلاثين وثلثمائة. وقيل سنة ثلاثين فجأة ببغداد. ودفن بين الكرخ وباب البصرة في مشرعة الروايا. ورأيت في بعض تعاليق الوالد عليه الرحمة أنه المحل الذى يعرف الآن بالسيف سيف الثمن وفيه قبر يزار. قال ابن الوردي. وطمس قبره خوفاً عليه من الحنابلة. ولولا السلطان لنبشوه، ولا زالت الوقائع بين الحنابلة والأشعرية في بغداد وسائر البلاد، حتى أن القشيري عبد الكريم - كما نقل ابن خلكان - جرى له خصام معهم لما ورد بغداد لأنه تعصب للأشاعرة. وأنتهى الأمر إلى فتنة قل فيها جماعة من الفريقين حتى حضر نظام الملك وسكنها. (قلت) وسيأتي تصريحه في كتابه (الإبانة) إنه رجع إلى مذهب احمد في العقائد وعليه مات رحمه الله تعالى. وشهرته تغني عن الإطالة في تعريفه. واعلم أن الصحابة كانوا على المذهب المعروف بمذهب السلف، إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر، وأول من قاله معبد الجهني، وكان يجالس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الحسن البصري، ثم صلبه الحجاج بأمر عبد الملك. وحدث أيضاً في زمن الصحابة مذهب الخوارج، فقاتلهم علي كرم الله تعالى وجهه. وكذا حدث في أيامه الغلو فيه، حتى حرق بالنار جماعة من المغالين. ثم حدث بعد عصر الصحابة مذهب جهم بن صفوان، ونفي الصفات وعظمت الفتنة. وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال بعد المائتين، كما تقدم تفصيله، فنهى أئمة الاسلام عنه، وذموا علم الكلام وانتشر ذلك المذهب، ثم حدث مذهب التجسيم المضاد للاعتزال فظهر محمد بن كرام السجستاني بعد المائتين، وهو زعيم الكرامية، حج ومات بزغرة من أرض الشام، ودفن بالمقدس، وكان له أتباع كثيرون مواظبون على التعبد وكذا في بلاد المشرق. قال المقريزي في خططه: كان لطائفتي الشافعية والحنفية، وكانت بين الكرامية والمعتزلة بالمشرق مناظرات وفتن كثيرة. (قلت) : وكذلك بينهم وبين الأشاعرة، فقد قال في ((العبر)) وفي سنة خمسمائة وخمس وتسعين كانت فتنة فخر الدين الرازي، وذلك أنه قدم خراة ونال إكراماً عظيماً من الدولة، فاشتد ذلك على الكرامية، فاجتمع هو والزاهد مجد الدين بن القدوة فاستطال فخر الدين عليه وشتمه، فلما كان من الغد جلس ابن عم مجد الدين فوعظ الناس وقال: {ربنا آمنا بما أنزلت وأتبعنا الرسول فأكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران 53] أيها الناس، لا نقول إلا ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما قول أرسطو وكفريات ابن سينا، وفلسفة الفارابي فلا نعلمها، فلأي شئ يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام، يذب عن دين الله تعالى؟ وبكى فأبكى الناس وضجت الكرامية وثاروا من كل ناحية، فأرسل السلطان الجند فسكنهم وأمر الرازي بالخروج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 قال المقريزي: هذا وأمر الشيعة يفشو في الناس، حتى حدث سنة أربع وستين بسواد الكوفة مذهب القرامطة المنسوبين إلى حمدان المعروف بقرمط، فانتشر أمرهم في الأقطار، ومال كثيرون إلى قولهم الذى سموه علم الباطن، وهو تأويل شرائع الإسلام وصرفها عن ظواهرها. هذا، وقد كان المأمون لما شغف بالعلوم القديمة بعث إلى الوم من عرب له كتب الفلاسفة، فأنتشر مذهبهم وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، فانجر على الإسلام بسببها ما لا يوصف من البلاء وأنتشرت هذه المذاهب كلها شرقاً وغرباً. والأشعري كان قد نشأ على الاعتزال. وتتلمذ أول مرة لزوج أمه أبي على الجبائي المعتزلة، واقتدي برأيه عدة سنين، حتى صار من أئمة المعتزلة، ثم رجع عن القول بخلق القرآن، وغيره من أقاويلهم الفاسدة، ورقى كرسيه يوم الجمعة في البصرة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي: أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، أن الله تعالى لا يرى بالأبصار، وإن أفعال الشر أنا أفعلها وانا تائب مقلع معتقد الرد على المعتزلة، مبين لفضائحهم ومعايبهم. وأخذ في الرد عليهم، وسلك بعض طريق أبي محمد عبد الله بن محمد سعيد بم كلاب القطان (1) . وبقى على قواعده، وصنف تصانيف كثيرة، وناظر شيخه الجبائي في وجوب الأصلح على الله تعالى، فمنعه الأشعري وقال: ما تقول في ثلاثة أخوة أحدهم كان براً مؤمناً نقياً، والثاني: كافراً فاسقاً شقياً، والثالث: كان صبياً. فماتوا، فكيف حالهم؟ قال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات وأما الصغير فمن أهل السلم، فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى   (1) القطان: هو رئيس الطائفة الكلابية. اهـ. منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 درجات الزهد يؤذن له؟ فقال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن أخاك إنما وصل إلى هذه الدرجة بحسب طاعته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات؟ فقال الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس مني، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة؟ فقال الجبائي: يقول البارى جل وعلا: أعلم أنك لو بقيت لعصيت وصرت مستحقاً للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك. فقال الأشعري: فلو قال الأخ الكافر: يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم رعيت مصلحته دوني؟ فقال الجبائي: وسوست؟ فقال الأشعري: ما وسوست، ولكن وقف حمار الشيخ على القنطرى - يعني أنه أنقطع - وكان فيه دعابة ومزاح كثير. وقيل: كان حنفي المذهب، ومعتزلي الكلام، وكان المعتزلة قد رفعوا رءوسهم، حتى اظهر الله تعالى الأشعري، ورجع عن الاعتزال، فحجرهم في أقماع السمسم. وقد روى ابن عساكر بسنده في كتابه ((تبيين كذب المفترى)) كما نقله الكوراني: أن أبا الحسن الأشعري رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فشكا إليه بعض ما به من تعارض الأدلة، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ((عليك بسنتي)) . ورآه ثلاث مرات آخر، فقال له في كل مرة ذلك: ((يا علي أنصر المذاهب المروية عني فإنها الحق)) . قال: فقلت - أي في الثالثة - يا رسول الله، كيف أدع مذهباً تصورت مسائله، وعرفت أدلته منذ ثلاثين سنة لرؤيا، فقال لي: ((لولا أعلم أن الله سيمدك بمدد من عنده لما قمت عنك حتى أبين لك وجوهها)) - إلى أن قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فجد فيه، فإن الله سيمددك بمدد من عنده)) . قال: فاستيقظت وقلت: ماذا بعد الحق إلا الضلال، وأخذت في نصرة الأحاديث، فكان ياتيني شئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 والله ما سمعته من خصم قط، ولا رايته في كتاب، فعلمت أن ذلك من إمداد الله تعالى الذى بشرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [من أتباع الأشعري] وقد تبعه كثير من العلماء في مذهبه، منهم القاضي أبو بكر الباقلاني وابن فورك، وأبو أسحق الأسفراييني، وأبو أسحق الشيرازي، وأبو حامد الغزالي، وأبو الفتح الشهرستاني، والفخر الرازي ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه، واستدلوا له في مصنفات كثيرة، وانتشر مذهبه في العراق، وانتقل إلى الشام. فلما ملك صلاح الدين الأيوبي ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدين الماراني على مذهب الأشعري، ونشا عليه منذ كانا في خدمة المالك العادل نو الدين بدمشق، فحمل الأيوبيون الناس في دولتهم على التمذهب به، فتمادي ذلك في جميع أيامهم، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك، واتفق توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت المعروف ((بالمهدي)) إلى العراق، واخذ عن أبي حامد الغزالي مذهب الأشعري، فلما عاد إلى المغرب قام في المصامدة يفقههم ويعلمهم. ولما مات قام بعده خليفته عبد المؤمن صاحب الدولة هناك، ولقب أولاده وشيعته بالموحدين، ولذلك صارت دولة الموحدين تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المهدي المعلوم المعصوم. وكثيراً ما أراق الدماء بسبب ذلك، حتى عم مذهب الأشعري أكثر امصار المسلمين، وكأنه نسي غيره من المذاهب، لم يخالفه إلا الحنابلة، وأنقسم الناس فيه إلى قسمين، كما أن أتباعه أنقسموا إلى قسمين أيضاً. قال العلامة تقي الدين أحمد المقريزي: وقد أنتشر مذهب الأشعري في الأمصار بحيث نسى غيره، حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه إلا أن يكون مذهب الحنابلة، فإنهم على ما كان السلف لا يرون تأويل ما ورد من الصفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 إلى أن كان بعد السبعمائة من سنى الهجرة أشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، فتصدي للانتصار لمذهب السلف، وبالغ في الرد على الأشعرية، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة وعلى الصوفية، فافترق الناس فيه فريقين: فريق يقتدي به ويعول على أقواله ويعمل برأيه ويرى أنه شيخ الإسلام، وأجل حفاظ الأنام وفريق يبدعه ويضلله، ويزرى عليه بإثبات الصفات، وينتقد عليه مسائل معروفة، وكانت له ولهم خطوب كثيرة وحسابه وحسابهم على الله الذى لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء ‍وله إلى وقتنا هذا أتباع بالشام ومصر وكذا بين الأشاعرة والماتريدية أتباع أبي المنصور محمد بن محمود الماتريدي، وهم طائفة الفقهاء الحنفية - من الخلاف في العقائد ما هو مشهور في موضعه: وهذا إذا تتبع يبلغ بضع عشرة مسألة، كان بسببها في أول الأمر تباين وتنافر، وقدح كل منهم في عقيدة الآخر، إلا أن الأمر آل أخيراً إلى الإغضاء - ولله الحمد - أنتهى. [عقيدة الأشعري] وقال غير واحد: والأشاعرة من حيث هم يسمون أيضاً الصفاتية، لإثباتهم صفات الله تعالى القديمة، ثم افترقوا في الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، كالاستواء والنزول والإصبع واليد والقدم والصورة وغيرها فرقتين: فرقة تؤول جميع ذلك على وجوه محتملة. وفرقة لم تتعرض للتأويل ولا صاروا إلى التشبيه، ويقال لهؤلاء الأشعرية الأثرية. ومقالات الأشعري المعروفة الآن لدى المصنفين مشعرة بأن مذهبه يخالف المعتزلة والمشبهة لأنه أمر متوسط كما صرح به في كتابه ((الإبانة)) من قوله: وقولنا الذى نقول به، وديانتنا التى ندين بها التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أبو عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أحمد بن حنبل - نضر الله تعالى وجهه، ورفع درجته - قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل - إلى آخر ما قال مما سنذكره إن شاء اله تعالي في بعض المحال. ونقل عنه شيخ الإسلام أمه قال في كتابه لاذى صنفه في اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين ذكر فرق الخوارج والروافض والمرجئة والمعتزلة وغيرهم ثم قال مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث. جملة قول أهل السنة وأصحاب الحديث الإقرار بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء عن الله عز وجل، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون من ذلك شيئاً، وأن الله واحد أحد فرد صمد، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبه ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق وأن النار حق، وان الساعة حق آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش أستوى} [طه 5] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خلقت بيدي} [ص: 75] وكما قال: {بل يداه مبسوطتان} [المائدة 64] وأن له عينين كما قال {تجرى بأعيننا} [القمر 14] وأن له وجهاً كما قال {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن 27] وأن لله أسماء لا يقال غير اله، ولا يقال كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علماً كما قال {أنزله بعلمه} [النساء 166] وكما قال تعالى: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} [فاطر 11، وفصلت 47] واثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله تعالى كما نفته المعتزلة. وأثبتوا له القوة كما قال: {أو لم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت 15] وذكر مذهبهم في القدر إلى أن قال: ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ والوقف بدعة. ومن قال باللفظ والوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن غير مخلوق، ولا يقال مخلوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ويقرون أن الله سبحانه يرى بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون. وذكر قولهم في الإسلام والحوض والشفاعة وأشياء أخر، إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، إلى ان قال: وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون من دينهم، ويسلمون للروايات الصحيحة ولما جاءت به الآثار التى جاءت بها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهوا بذلك إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. لا يقولون: كيف، ولا لم، لأن ذلك بدعة، إلى أن قال: ويقرون أن الله عز وجل يجئ يوم القيامة كما قال {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر 22] وأنه يقرب من خلقه كيف يشاء كما قال: نحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق16] إلى أن قال: ويرون مجانبه كل داع إلى بدعة والتشاغل بقراءة القرآن وكتابه الآثار، والنظر في الفقه مع الاستكانة، والتواضع وحسن الخلق، وبذل المعروف، وكف الآذى وترك الغيبة والنميمة وتفقد المأكل والمشرب. قال: فهذه جملة ما يامرون به، ويستسلمون إليه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان. أنتهى. وقال الوالد عليه الرحمة: إن مذهب الإمام الأشعري عند كثير من المحققين والعلماء المصنفين هو مذهب الإمام أحمد، لكن كثرت المقالة بين متأخري الأشاعرة والحنابلة، حتى أدى ذلك إلى تضليل كل من الفريقين صاحبه، وذلك في مسائل تمسكت فيها الحنابلة بظواهر الكتاب والسنة، كالاستواء والنزول والوجه، وغير ذلك من أحاديث الصفات. وأولها كثير من الشاعرة قاصدين فيه كمال التنزيه لله تعالى عن لوازم الأجسام، فبالغ لذلك جمع من الحنابلة في ردهم وتخطئهم مبرءون مما نسب إليهم، ومذهبهم الأسلم الأحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وكذا الأشعرية أيضاً منزهون مما يرمون به التعطيل والتحريف لكلام الله تعالى عن مواضعه. والكل على هدى يدينون دين الحق. والمخالفون شرذمة قليلة من الطرفين. أنتهى ملخصاً. وقال الشيخ تاج الدين السبكي في كتابه ((معيد النعم)) : إن الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة في العقائد يد واحدة كلهم على رأى أهل السنة والجماعة، إلا رعاعاً من الحنفية والشافعية لحقوا بأهل الاعتزال، ورعاعاً من الحنابلة لحقوا بأهل التجسيم وبرأ الله تعالى المالكية فلم ير مالكي إلا أشعري، العقيدة. أنتهى باختصار. ومن أراد أن يتبين له صحة مذهب الأشعري، وأنه مذهب أهل السنة والجماعة واتباعه للإمام أحمد، فليطالع كتاب ابي القاسم ابن عساكر المسمى (بتبيين كذب المفترى فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري) وستأتى تتمة هذه الأبحاث مفصلة في هذا الكتاب، إن شاء اله تعالى العليم الوهاب. خاتمة سيأتي إن شاء الله تعالى في كتابي هذا بعض العبارات المؤيدة لمذهب السلف، ولما نحن بصدده من إماطة الكلف من كتاب ((الأسماء والصفات)) للإمام البيهقي، لازال رفيع الدرجات، فاقتضى الحال ترجمته، ليرى المدقق سيرته، ويعرف الطالب طويته. [ترجمة الإمام البيهقي] فقد قال أحمد بن خلكان في كتابه ((وفيات الأعيان)) : أبو بكر أحمد ابن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى البيهقي الخسر وجردى، الفقيه الشافعي، الحافظ الكبير المشهور، واحد زمانه، وفرد أقرانه في الفنون من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله في الحديث، ثم الزائد عليه في أنواع العلوم. أخذ الفقه عن أبي الفتح ناصر بن محمد العمرى المروزى، غلب عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الحديث واشتهر به، ورجل في طلبه إلى العراق والجبال والحجاز، وسمع بخراسان من علماء عصره، وكذلك ببقية البلاد التى انتهى إليها. وشرع في التصنيف فصنف فيه كثيراً حتى قيل تبلغ تصانيفه ألف جزء. وهو أول من جمع نصوص الشافعي في عشر مجلدات. ومن مشهور مصنفاته: السنن الكبير والصغير، ودلائل النبوة، والسنن والآثار، وشعب الإيمان، ومناقب الشافعي المطلبي، ومناقب أحمد بن حنبل، وكتاب الأسماء والصفات وغير ذلك. وكان قانعاً من الدنيا بالقليل. وقال إمام الحرمين في حقه: ما من شافعي المذهب إلا وللشافعي عليه منة إلا البيهقي، فإنه له على الشافعي منة. وكان من أكثر الناس نصراً لمذهب الشافعي. وطلب إلى نيسابور لنشر العلم فأجاب وانتقل إليها، وكان على سيرة السلف، وأخذ عنه الحديث جماعة من الأعيان. مولده في شعبان سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وتوفي في العاشر من جمادي الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة بنيسابور، ونقل إلى بيهق (بفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناه من تحت وبعدها الهاء المفتوحة ثم قاف مكسورة (1)) وهي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخاً منها. وخسر وجرد من قراها (وهي بضم الخاء المعجمة) رحمه الله تعالى. فصل وقد آن الشروع في أجوبة ما عزاه الشيخ ابن حجر عليه الرحمة إلى الشيخ ابن تيمية قدس سره، مع تفصيل ما أجمله وتقييد ما أطلقه، وبيان ما أهمله، وبالله سبحانه، وهو الملهم لصواب والإبانة.   (1) كذا في الأصل. ويلاحظ أنها ممنوعة من الصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 (قوله: نبه عليها التاج السبكي) لا يخفى عليك بعد ما أحطت خبراً بما تقدم من عبارة سل الحسام الهندى والنزهة وغيرهما أن نقل التاج السبكي وأبيه العلامة غير مقبولا في حق الشيخ. ويكفي في ذلك شاهداً كتاب ((الصارم المنكي في الرد على السبكي)) الذى ألفه الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي، المتقدمة ترجمته، الآتية إن شاء الله تعالى في محلها (1) - عبارته. لا سيما قد ورد في بعض الآثار: ((إن الحب والعداوة يثوارثان)) غير أن بعض القوال في الحقيقة قد أختارها الشيخ مستدلاً بأدلة يأتى تفصيلها بعون الحق المتعال. [رأى ابن تيمية في يمين الطلاق] (قوله: قوله في يمين الطلاق إنه لا يقع بل عليه كفارة يمين إلخ) قال الشيخ ابن تيمية في فتاواه ما نصه: إذا حلف الرجل بالحرام فقال: الحرام يلزمني لا أفعل كذا، أو الحل على حرام لا أفعل كذا أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت كذا، أو ما يحل على المسلمين يحرم على إن فعلت كذا، ونحو ذلك وله زوجة؟ ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف. ولكن القول الراجح: أن هذه يمين من الأيمان، لا يلزمه بها طلاق لو قصد بذلك الحلف بالطلاق، وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عنه، حتى لو قال: أنت حرام، ونوى به الطلاق عند عامة العلماء. وفي ذلك أنزل الله تعالى القرآن، فإنهم كانوا يعدون الظهار طلاقاً، والإيلاء طلاقاً، فرفع الله تعالى ذلك كله، وجعل في الظهار الكفارة الكبرى، وجعل الإيلاء يميناً يتربص فيها الرجل أربعة أشهر، فأما أن يمسك بمعروف، واما أن يسرح بإحسان. كذلك قال كثير من السلف والخلف: إنه إذا كان مزوجاً فحرم   (1) قوله ((في محلها)) أى في بحث شد الرحال. أهـ. من هامش الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 امرأته، أو حرم الحلال مطلقاً كان أو مظاهراً. وهذا مذهب أحمد. وإذا حلف بالظهار أو الحرام لا يفعل شيئاً وحنث في يمينه، أجزأته الكفارة في مذهبه. لكن قيل: إن الواجب كفارة الظهار، وسواء حلف أو أوقع، وهو المنقول عن احمد. وقيل: بل إن حلف أجزأته كفارة يمين، وإن أوقعه لزمته كفارة ظهار. وهذا اقوى وأقيس على أصول أحمد وغيره. فالحلف بالظهار يجزئه الحالف بالنذر إذا قال: إن فعلت كذا فعلي الحج، أو مالي صدقة وكذلك إذا حلف بالعتق يجزئه كفارة عند أكثر السلف من الصحابة والتابعين. وكذلك الحلف بالطلاق يجزئ أيضاً فيه كفارة يمين، كما أفتى به من السلف والخلف جمع. والثابت عن الصحابة لا يخالف ذلك بل معناه يوافقه، فهو يمين يحلف بها المسلمون في ايمانهم ففيها كفارة يمين كما دل عليه الكتاب والسنة. وأما إذا كان مقصود الرجل أن يظاهر أو يطلق أو يعيق فهذا يلزمه ما أوقعه، سواء معلقاً أو منجزاً ولا يجزئه كفارة يمين. والله تعالى أعلم. انتهى. [الطلاق المخالف للسنة] وفي الميزان للشعراني ما تعلم منه الاختلاف أيضاً في مشبه هذه المسألة ما نصه: ومن ذلك قول أبي حنيفة: لو قال لزوجته أنت علي حرام، فإن نوى الطلاق بذلك كان طلاقاً، وإن نوى الطلاق ثلاثاً كان ثلاثاً، وإن نوى أثنتين أو واحدة فإن نوى التحريم ولم ينو الطلاق، أو لم يكن لديه نية فهو يمين، وهو مول إن تركها أربعة أشهر، وقعت عليه طلقة بائنة. وإن نوى الظهار كان مظاهراً، وإن نوى اليمين كانت يميناً، ويرجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 إلى بيته كم أراد بها، واحدة او أكثر، سواء المدخول بها وغيرها. مع قول مالك: إن ذلك طلاق ثلاثاً إن كانت مدخلاً بها، وواحدة إن كانت عير مدخول بها. ومع قول الشافعي: إن نوى بذلك الطلاق أو الظهار كان ما نواه وإن نوى اليمين لم يكن يميناً، ولكن عليه كفارة يمين. ومع قول أحمد في أظهر روايتيه: إن ذلك صريح في الظهار نواه أو لم ينوه، وفيه كفارة الظهار، والثانية أنه طلاق. أنتهى. فتبين مما مر آنفاً أن نقل الشيخ ابن حجر عن الشيخ ابن تيمية، ليس على إطلاقه. وقوله ((لم يقله أحد قبله)) غير مسلم. كيف وقد قال به جمع من السلف والخلف. ومع هذا فهي مسألة كأمثالها يساغ فيها الاجتهاد، فكن ممن تامل وانصف. (قوله: وأن طلاق الحائض لا يقع، وكذا الطلاق في طهر جامع فيه) أقول: سيأتى إن شاء الله تعالى الكلام على هذا في بحث الطلاق الثلاث، وان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض ((ما هكذا أمرك الله تعالى؟ إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة)) وما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمر: ((مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء)) فقد أخرج الشافعي ومالك والشيخان عن ابن عمر: أنه طلق امراته وهي حائض، وذكر ذلك عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((ليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها طاهراً قبل أن يمسها، فتلك العدة التى امر الله تعالى ان يطلق لها النساء - وقرا عليه الصلاة والسلام)) - {يأيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن} [الطلاق: 1] وكان ابن عمر يقرأ كذلك، وكذلك ابن عباس. قال الوالد عليه الرحمة في تفسيره روح المعاني: وفي وقوع الثلاث بلفظ واحد، وكذا في وقوع الطلاق مطلقاً في الحيض خلاف، فعند الإمامية لا يتبع الطلاق بلفظ الثلاث، ولا في حالة الحيض، لأنه بدعة محرمة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ونقله غير واحد عن ابن المسيب وجماعة من التابعين. أنتهى. وجمهور الفقهاء جعلوه بدعياً ويقع الطلاق به. قال في الدر المختار. والبدعي ثلاث متفرقة، او ثنتان بمرة أو مرتين في طهر واحد لا رجعة فيه، أو واحدة في طهر وطئت فيه، أو واحدة في حيض موطوءة أى مدخول بها وتجب رجعتها فيه، فإذا طهرت طلقها إن شاء. انتهى. وإنما كان بدعياً محرماً لتطويل عدة المطلقة إذ ذاك. فتدبر. وقال السيد العلامة أبو الطيب حماه الله تعالى في الروضة الندية: هذه المسألة من المعارك التى لا يجول في حافاتها إلا الأبطال، ولا يقف على تحقيق في ابوابها إلا أفراد الرجال، والمقام يضيق عن تحريرها على وجه ينتج المطلوب، فمن رام الوقوف على سرها فعليه بمؤلفات ابن حزم، كالمحلى ومؤلفات ابن القيم كالهدى. وقد جمع الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير في ذلك رسالة حافلة وقرر ما ألهم الله إليه. وذكر الإمام العلامة محمد الشوكاني في شرحه للمنتقى أطرافاً من ذلك قال: والحاصل أن الأتفاق كائن على أن الطلاق المخالف لطلاق السن يقال له طلاق بدعة، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ((أن كل بدعة ضلالة)) ولا خلاف أيضاً أن هذا الطلاق مخالف لما شرعه الله في كتابه، وبينه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر، وما خالف ما شرعه الله ورسوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 فهو رد لحديث عائشة عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)) وهو حديث متفق عليه. فمن زعم أن هذه البدع يلزم حكمها، وان هذا الامر الذى ليس من أمره - صلى الله عليه وسلم - يقع من فاعله ويعتد به لم يقبل إلا بدليل ولا دليل. انتهى. [تارك الصلاة عمداً هل يقضى] (قوله: وإن الصلاة إذا تركت عمداً لا يجب قضاؤها) - قلت: وإلى هذا ذهب أيضاً الشيخ محيى الدين ابن عربي في فتوحاته، ونصه: وصل في فصل (العامد والمغمى عليه) - أختلف العلماء فيه، فمن قائل: إن العامد يجب عليه القضاء. ومن قائل: لا يجب عليه القضاء، وبه أقول، وما أختلف فيه أحد أنه آثم، وأما المغمى عليه، فمن قائل: لا قضاء عليه، وبه أقول. ومن قائل: بوجوب القضاء وهو الأحسن عندي، فإنه إن لم تكتب له في نفس الأمر فريضة كتبت له نافله فهو الأحوط. والقائلون بوجوب القضاء: منهم من أشترط القضاء في عدد معلوم فقالوا: يقضى في الخمس فما دونها، (وصل الاعتبار في ذلك) . وأما العامد في ترك ما أمره الله تعالى به فلا قضاء عليه، فإنه ممن أضله الله على علم، فينبغي أن يسلم إسلاماً جديداً فإنه مجاهر. أنتهى. قال الشيخ ابن تيمية في الفتاوى: مسألة في رجل من اهل القبلة ترك الصلاة مدة سنين، ثم تاب بعد ذلك، وواظب على ادائها، فهل يجب عليه قضاء ما فاته منها أم لا؟ الجواب: الحمد لله. أما من ترك الصلاة أو فرضاً من فرائضها فإما أن يكون قد ترك ذلك ناسياً له بعد علمه بوجوبه، وإما أن يكون جاهلاً بوجوبه، إما أن يكون له عذر يعتقد معه جواز التأخير، وإما أن يكون عالماً عامداً. فأما الناسي للصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فعليه أن يصليها إذا ذكرها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المستفيضة عنه باتفاق الأئمة، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها)) لا كفارة لها إلا ذلك. وقد أستفاض في الصحيح وغيره أنه نام هو واصحابه عن صلاة الفجر في السفر فصلوها بعدما طلعت الشمس. السنة والفريضة بأذان وإقامة. وكذلك من نسى طهارة الحدث وصلى ناسياً فعليه أن يعيد الصلاة بالطهارة بلا نزاع، حتى لو كان الناسي إماماً كان عليه أن يعيد الصلاة، ولا إعادة على المأمومين إذا لم يعلموا عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي واحمد في المنصوص المشهور عنه، كما جرى ذلك لعمر وعثمان. واما من نسى طهارة الخبث فإنه لا إعادة عليه، وهو مذهب مالك واحمد في أصح الروايتين عنه، والشافعي في احد قوليه، لأن هذا من باب فعل المنهي عنه، وتلك من ترك المأمور به، ومن فعل ما نهى عنه ناسياً فلا إثم عليه بالكتاب والسنة، كما جاءت به السنة فيمن أكل في رمضان، وهو مذهب ابي حنيفة والشافعي وأحمد. وطرد ذلك فيمن تكلم في صلاته ناسياً، ومن تطيب ولبي ناسياً كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وكذلك من فعل المحلوف عليه ناسياً كما هو أحد القولين عن الشافعي وأحمد. وههنا مسائل قد تنازع العلماء فيها، كمثل من نسى الماء في رحله وصلى بالتيمم، وأمثال ذلك ليس هذا موضع تفصيلها. واما من ترك الصلاة جاهلاً بوجوبها مثل من أسلم في دار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه فهذه المسألة للفقهاء فيها ثلاثة أقوال: وجهان في مذهب أحمد، أحدهما - عليه الإعادة مطلقاً، وهو قول الشافعي، واحمد الوجهين في مذهب أحمد. والثاني - عليه الإعادة إذا تركها بدار الإسلام دون دار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الحرب، وهو مذهب ابي حنيفة، لأن دار الحرب دار جهل يعذر فيه بخلاف دار الإسلام. والثالث - لا إعادة عليه مطلقاً، وهو الوجه الثاني في مذهب أحمد وغيره. وأصل هذين الوجهين أن حكم الشارع هل ثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره: أحدها - يثبت مطلقاً والثاني - لا يثبت مطلقاً. والثالث - يثبت حكم الخطاب المبتدأ دون الخطاب الناسخ، كقضية أهل قباء، وكالنزاع المعروف في الوكيل إذا عزل فهل يثبت حكم العزل في حقه قبل العلم؟ وعلى هذا لو ترك الطهارة الواجبة لعدم بلوغ النص مثل أن يأكل لحم الإبل ولم يتوضا ثم يبلغه النص ويتبين له وجوب الوضوء، ويصلى في أعطان الإبل ثم يبلغه ويتبين له النص فهل عليه إعادة ما مضى؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد، ونظيره أن يمس ذكره ويصلى ثم يتبين له وجوب الوضوء من مس الذكر. والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة، لأن الله تعالى عفا عن الخطأ والنسيان، ولأنه قال: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء 15] فمن لم يبلغه أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شئ معين لم يثبت حكم وجوبه عليه، ولهذا لم يامر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر وعماراً لما أجبنا فلم يصل عمر وصلى عمار بالتمرع - أن يعيد واحد منهما. وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب يمكث أياماً لم يصلى. وكذلك لم يامر من أكل من الصحابة حتى يتبين الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء. كما لم بأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ بالقضاء. ومن هذا الباب المستحاضة إذا مكث مدة لا تصلى لاعتقادها عدم وجوب الصلاة عليها، ففي وجوب القضاء عليها قولان: أحدهما - لا إعادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 عليها كما نقل عن مالك وغيره: أن المستحاضة التى قامت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني حضت حيضة شديدة كبيرة منكرة، منعتنى الصلاة والصيام أمرها بما يجب في المستقبل ولم يأمرها بقضاء صلاة الماضي. وقد ثبت عندي بالنقل المتواتر أن في النساء والرجال بالبوادي وغير البوادي من يبلغ ولا يعلم أن الصلاة عليه واجبة، بل إذا قيل للمرأة: ثلى تقول: حتى أكبر واصير عجوزاً، ظانة أنه لا يخاطب بالصلاة إلا المرأة الكبيرة العجوز، ونحوها، وفي أتباع الشيوخ ناس كثيرون لا يعلمون أن الصلاة واجبة عليهم. فهؤلاء لا يجب عليهم في الصحيح قضاء الصلاة، سواء كانوا كفاراً أو معذورين بالجهل، وكذلك من كان منافقاً زنديقاً يظهر الإسلام ويبطن خلافه، وهو لا يصلى أو يصلى أحياناً بلا وضوء ولا يعتقد وجوب الصلاة، فإنه إذا تاب من نافقه وصلى فإنه لا قضاء عليه عند جمهور العلماء. والمرتد الذى كان يعتقد وجوب الصلاة ثم أرتد والعياذ بالله تعالى عن الإسلام، ثم عاد لا يجب عليه قضاء ما تركه حال الردةعند جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه، فإن المرتدين الذين أرتدوا على عهده - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن أبي سرح وغيره مكثوا على الكفر مدة ثم أسلموا ولم يؤمر أحد منهم بقضاء ما تركوه. وكذلك المرتدون على عهد أبي بكر لم يؤمروا بقضاء الصلاة. وأما من كان عالماً بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة. وذهب طائفة منهم ابن حزم وغيره إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء. وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعمداً. والله تعالى أعلم أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ونقل ابن رجب عن الشيخ ابن تيمية أنه قال: لكنه يكثر من النوافل. ورأيت في بعض كتب المالكية ما نصه: من تعمد ترك صلاته حتى يخرج وقتها فعليه القضاء والاستغفار إذا كان مستيقناً، ومن ظهر عليه ترك صلاته مستخفاً بها ومتوانياً عنها أمر بفعلها، فإن أمتنع من ذلك هدد وضرب فغن أقام على أمتناعه قتل حداً لا كفراً، وورثه ورثته ودفن في مقابر المسلمين ت (1) المشهور القضاء مع العمد، وقاله ح وش. وقال ابن حبيب: لا يجب القضاء وابن حنبل بناء على أن ترك الصلاة مع الأعتراف بوجوبها كفر والكافر لا يصلى: المرتد إذا مات لا يقضى واحتجا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين المؤمن والكافر ترك الصلاة)) لنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خمس صلوات أفترضهن الله عز وجل، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وتمم ركوعهن وخشوعهن له عند الله عهد، إن يشأ يعذبه وإن يشأ يدخله الجنة)) أخرجه أبو داود وابن عبد الرحمن السلمي لا يقضى المتعمد، لأن عموم قوله عليه الصلاة والسلام: ((من نام عن صلاة أو نسيها)) أن المتعمد لا يقضى. لما أنه آثم فهو اولى بالتغليظ عليه القضاء. وفي بعض الطرق: لا كفارة لها إلا ذلك. والإثم أولى بلا تكفير أو تقول: المراد بالناسي التارك مطلقاً، لقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} أى تركوا مع العمد. أنتهى. (قلت) : ولعل ما ذكره الأصوليون من قولهم. إذا خرج المكلف الواجب عن وقته المعين له شرعاً فهل يجب القضاء بالأمر السابق، بمعني أنه   (1) إشارة للتتائي، ح وش الآيتان إشارة للحطاب والخرش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 يستلزمه لا أنه عينه، أم لا يجب القضاء إلا بأمر جديد؟ فيه مذهبان وبالأول قال القاضي عبد الجبار من المعتزلة، والرازي الإمام فخر الدين، وحكى عن الشيرازي أبي إسحاق، وبالثاني قال الأكثرو، أنتهى. أصل لقول من لا يوجب القضاء لأنه لم يرد فيه أمر جديد، بل الأمر الجديد ورد في حق الناسي والنائم عمداً كما مر فتدبر. [هل يباح للحائض الطواف بدون كفارة] (قوله: وإن الحائض يباح لها الطواف بالبيت ولا كفارة عليها) - أقول: هذا قول لأبي حنيفة أيضاً وغيره، فقد قال الشيخ أحمد بن أحمد الطيبى الشافعي في منظومة في تقليد ابي حنيفة رحمه الله تعالى: [رجز] ولم يقل شرط الطواف الطهر ... فإن يضق بنفساء الأمر أو حائض وهجمت وطافت ... فهو صحيح وفدت وتابت فإن يكن حجاً فدت ببدنة ... أو اعتماراً فبشاة بينه أهـ قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه الميزان ما نصه: ومن ذلك قول الشافعي وأحمد: إن المرأة إذا حاضت قبل طواف الإفاضة لم تنفر حتى تطهر وتطوف، ولا يلزم الجمال حبس الجمل لها بل ينفر مع الناس ويركب غيرها، مع قول مالك إنه يلزمه حبس الجمل أكثر من مدة الحيض وزيادة ثلاثة أيام، مع قول أبي حنيفة إن الطواف لا يشترط فيه طهارة فتطوف وتدخل مع الحاج، وقد أفتى البارزى النساء اللاتى حضن في الحج بذلك ونقله عن جماعة من الشافعية، انتهى. وفي فتاوى المرشدي الحنفي ما نصه: وسئل عن عبارة في أختلاف الأئمة إذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة لم تنفر حتى تطوف وتطهر، ولا يلزم الجمال حبس الجمل أكثر من مدة الحيض وثلاثة أيام. وعند ابي حنيفة رحمه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 تعالى ان الطواف لا يشترط فيه الطهارة، فهل يجوز تقليده، أم يكفيها الأخذ بقوله؟ فأجاب عدم اشتراط الطهارة له عنده صحيح، وأخذه من قوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج 29] والنص مطلق، والطهارة فيه ثبتت بفعله عليه الصلاة والسلام. ودار ذلك بين كونها بياناً وبين كونها سنة، فتوسطنا في ذلك وقلنا بالوجوب، فيقع الطواف بين الحدثين معتداً به لكونه يجبر مع الحدث الأصغر بشاة، ومع الأكبر ببدنة، والله تالى اعلم. انتهى. ونقل الشيخ محمد سعيد السويدي الشافعي البغدادي في رسالته المؤلفة في التقليد عن البارزي أيضاً فيمن حاضت قبل طواف الركن: أنه يجوز لها تقليد كل واحد من الأئمة الأربعة. انتهى. وفي فتاوى الشيخ ما نصه: سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحم بن تيمية الحراني نفعنا الله تعالى بعلومه عن المرأة إذا جاءها الحيض في وقت الطواف ما الذى تصنع؟ فأجاب: الحمد لله، الحائض تقضى المناسك كلها إلا الطواف بالبيت فإنها تجتهد أن لا تطوف بالبيت إلا وهي طاهر، فإن عجزت عن ذلك ولم يمكنها التخلف عن الركوب حتى تطهر وتطوف فإنها إذا طافت طواف الزيارة وهي حائض أجزأها في أحد قولي العلماء. ثم قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لو لم يكن لها عذر لكن وجب عليها بدنة. والإمام أحمد رحمه الله تعالى أوجب على ترك الطهارة ناسياً دماً وهو شاة واما هذه العاجزة عن الطواف وهي غير طاهر فإن أخرجت دماً فهو أحوط، وإلا فلا يتبين أن عليها شيئاً، فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وقال تعالى: {واتقوا الله ما أستطعتم} [التغابن 16] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما أستطعتم)) وهذه لا تستطيع إلا هذا، والصلاة أعظم من الطواف، ولو عجز المصلى عن شرائطها من الطهارة أو ستر العورة أو استقبال القبلة صلى على حسب حاله، فالطواف أولى بذلك. كما لو كانت مستحاضة ولا يمكنها أن تطوف إلا مع النجاسة نجاسة الدم بدون الطهارة، فإنها تصلى وتطوف على هذه الحالة باتفاق المسلمين، وإذا توضأت وتطهرت فعلت ما تقدر عليه. وينبغي للحائض إذا طافت أن تغتسل وتتحفظ كما تفعله عند الإحرام وقد أسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحائض طواف الوداع وأسقط عن أهل السقاية والرعاية المبيت بمنى لأجل الحاجة ولم يوجب عليهم دماً، فإنهم معذورون في ذلك بخلاف غيرهم. وكذلك من عجز عن الرمي بنفسه لمرض ونحوه فإنه يستنيب من يرمى عنه ولا شئ عليه، وليس من ترك الواجب للعجز كمن تركه لغير ذلك. والله تعالى أعلم، أنتهى فليفهم. [هل يرد الطلاق الثلاث إلى واحدة] (قوله: وإن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة إلخ) - أقول: قد أختلف أقوال الصحابة والتابعين والعلماء المتقدمين والمتأخرين في وقوع الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد، كما أنهم أختلفوا في وقوعه حالة الحيض، وقد كثرت الأدلة من الطرفين، وبسطت الأجوبة من الجانبين في كتبهم المفضلة، فمن الحنابلة الشيخ ابن تيمية في فتواه وغيرها، وتلميذه ابن قيم الجوزية في أعلام الموقعين وغيره، ومن الشافعية الشيخ ابن حجر في تحفة المحتاج وغيره، ومن الحنفية ابن الهمام في فتح القدير، وخير الدين الرملي، وابن عابدين في حاشيته على الدر المختار، والوالد في اماكن من تفسيره وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وكثرت الرسائل في ذلك، ولنذكر مختصر مازبروه، وتلخيص ما ذكروه. فمن ذلك ما قاله العلامة ابن القيم: إنه قد ذهب إلى عدم وقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة جمع من الصحابة، منهم الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعن علي وابن مسعود روايتان: ومن التابعين عكرمة وطاوس، ومن تابعيهم محمد ابن إسحق، وأفتى به داود بن علي على مذهب أهل الظاهر. قال: وأفتى به بعض أصحاب الإمام أحمد، الإمام أحمد نفسه. أنتهى، ثم بسط بقية الأدلة، فإن أردتها فارجع إليه. وقال الوالد عليه الرحمة ونفعنا الله تعالى به في تفسير سورة البقرة عند قوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة 229] من كلام مطنب: لو طلق بلفظ واحد لا يقع إلا بواحدة كما هو مذهب الإمامية، وبعض أهل السنة، ومنهم الشيخ أحمد بن تيميه ومن أتبعه احتجاجاً بهذه الآية، وقياساً على شهادات اللعان ورمي الجمرات، فإنه لو أتى بالاربعة بلفظ واحد لا تعد له أربعاً بالإجماع. وكذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجز إجماعاً. ومثل ذلك لو حلف ليصلين على النبي - صلى الله عليه وسلم - ألف مرة فقال: صلى الله تعالى على النبي ألف مرة، فإنه لا يكون باراً ما لم يأت بآحاد الألف، وتمسكاً بما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة، فقال عمر: إن الناس قد أستعجلوا في امر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه. وذهب بعضهم إلى أن مثل ذلك ما لو طلق في مجلس واحد ثلاث مرات فإنه لا يقع إلا واحدة أيضاً، لما أخرج البيهقي عن أبن عباس قالوا: طلق ركانة امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول الله - صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 عليه وسلم -: ((كيف طلقتها)) قال: طلقتها ثلاثاً، قال: ((في مجلس واحد)) ؟ قال: نعم: قال: ((فإنما تلك واحدة، فأرجعها إن شئت)) فراجعها. وأجاب الجمهور بأن القياس على شهادات اللعان والرمي في غير محله، ألا ترى أنه لا يمكن الاكتفاء ببعض ذلك بوجه، ويمكن الاكتفاء ببعض وحدات الثلاث في الطلاق، ولعظم امر اللعان لم يكتف به غلا بالإتيان بالشهادات واحدة واحدة، مؤكدة بالإيمان، مقرونة خامستها باللعن، فلعل الرجوع أو الإقرار يقع في البين فيحصل الستر، أو يقام الحد، ويكفر الذنب ورمي الجمرات وتسبيعها أمر تعبدي، وما ذكروا في مسألة الحالف في الصلاة فأمر أقتضاه القصد والعرف، وأما الآية فليست نصاً في المقصود، ولهذا ورد عن أهل البيت ما يؤيد مذهب أهل السنة، فعن مسلم عن جعفر بن محمد أنه قال: معاذ الله! ما هذا من قولنا؟ من طلق ثلاثاً فهو كافر كما قال. أنتهى باقتصار. وإن أردت تفصيل أدلة الطرفين وأجوبتهما فعليك به ولا تغفل. وقال العلامة ابن عابدين: والطلاق البدعي - أي الحرم - ثلاث متفرقة في طهر واحد. وكذا بكلمة واحدة بالأولى. وعن الإمامية: لا يقع بلفظ الثلاث ولا في حالة الحيض، لأنه بدعة محرمة. وعن ابن عباس: يقع به واحدة، وبه قال ابن إسحاق، وطاوي وعكرمة، لما في مسلم ان ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابي بكر وسنتين من خلافة عمر - رضي الله عنه - طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد أستعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، وذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من ائمة المسلمين إلى أن يقع ثلاث. قال في الفتح بعد سوق الأحاديث الدالة عليه: وهذا يعارض ما تقدم واما إمضاء عمر الثلاث عليهم مع عدم مخالفة الصحابة له ولعلمه بانها كانت واحدة فلا يمكن إلا وقد أطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ، أو لعلمهم بانتهاء الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 لذلك، لعلهم بإناطته بمعان علموا أنتفاءها في الزمن المتأخر. وقول بعض الحنابلة: توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مائة ألف عين راته فهل صح لكم عنهم أو عن عشر عشر عشرهم القول بوقوع الثلاث باطل. واما أولاً - فإجماعهم ظاهر، لأنه لم ينقل عن أحد منهم أنه خالف عمر حين أمضى الثلاث، ولا يلزم في نقل الحكم الإجماعي عن مائة ألف تسمية كل في مجلد كبير لحكم واحد على انه إجماع سكوتي. وأما ثانياًُ - فالعبرة في نقل الإجماع نقل ما عن المجتهدين والمائة الألف لا يبلغ عدة المجتهدين الفقهاء منهم أكثر من عشرين، كالخلفاء والعبادلة وزيد بن ثابت ومعاذ وأنس وأبي هريرة، والباقون برجعون إليهم ويستفتون منهم , قد ثبت النقل عن أكثرهم صريحاً بإيقاع الثلاث، ولم يظهر لهم مخالف فماذا بعد الحق إلا الضلال، وعن هذا قلنا: لو حكم حاكم بانها واحدة لم ينفذ حكمه، لأنه لا يسوغ الاجتهاد فيه فهو خلاف لا اختلاف. وغاية الأمر فيه أن يصير كبيع أمهات الأولاد، أجمع على نفيه وكن في الزمن الأول يبعن. انتهى. وأنت تعلم ان الحنابلة القائلين بعدم وقوع الثلاث يناقشون في هذه المقدمات، لأن الإجماع لم يتم، لما ثبت أن أبن عباس لم يوافق، وكذا الزبير وعبد الرحمن وغير واحد من الصحابة والتابعين وتابع التابعين، ولم ينعقد إجماع القرون الثلاثة على ذلك كما تقدم، كما سيتضح من بحث الإجماع الآتى إن شاء الله تعالى، وأن هذه المسالة يعدونها كسائر المسائل الخلافية التى لم يقم الإجماع عليها فللاجتهاد فيها مجال، كذا قالوا. وقال الوالد عليه الرحمة في سورة الطلاق من كلام طويل تفسيره ما نصه: والمراد بإرسال الثلاث دفعة واحدة ما يعم كونها بألفاظ متعددة، كأن يقال: أنت طالق، أنت طالق، أو بلفظ واحد، كان يقال: أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 طالق ثلاثاً، وفي وقوع هذا ثلاثاًُ خلاف، وكذا في وقوع الطلاق مطلقاً في الحيض، فعند الإمامية لا يقع الطلاق بلفظ الثلاث، ولا في حالة الحيض لأنه بدعة محرمة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ونقله غير واحد عن ابن المسيب وجماعة من التابعين. وقال قوم منهم - فيما قيل - طاوس وعكرمة: الطلاق ثلاث بفم واحد يقع به واحدة. وروى هذا أبو داود عن ابن عباس، وهو أختيار الشيخ ابن تيمية من الحنابلة. وفي الصحيحين أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابي بكر وصدراً من خلافة عمر - رضي الله عنه -؟ قال: نعم. وفي رواية لمسلم: أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر: إن الناس قد أستعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فامضاه عليهم. ومنهم من قال في المدخول بها: يقع ثلاث وفي الغير واحدة، لما في مسلم وأبي داود والنسائي أن أبا الصهباء كان كثير السؤال من ابن عباس قال: أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاًُ قبل أن يدخل بها جعلوا ذلك واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر.؟ الحديث. والذى ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من ائمة المسلمين ومنهم الأئمة الأربعة - وقوع الثلاث بفم واحد. ثم أجاب بما تقدم بعضه وأطال، وبسط القيل والقال، فإن أردت كمال الوقوف على هذه المسألة فارجع إليه وإلى الكتب المفصلة. غير أنه قد تبين أن هذا القول لم ينفرد به الشيخ ابن تيمية، وأن شبهته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 في ذلك قوية، ومع ذا، فهي من المسائل الاجتهادية. هذا، ومن الغريب ما ذكرت الشيخ عبد الغني النابلسي عليه الرحمة في شرحه للطريقة المحمدية في هذه المسألة ما نصه: وقد رايت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته في المطلقة بالثلاث في المجلس الواحد، كيف حكمه عندك يا رسول الله؟ فقال: ((هي ثلاث)) كما قال ((لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره)) فقلت له إن جماعة من أهل الظاهر حكموا أنها واحدة؟ فقال: ((هؤلاء حكموا بما وصل إليهم وأصابوا، وحكى أنا في المسألة ما ذكرت لك)) وفي رؤيا طويلة، فمن ذلك الوقت صرت أقول بهذا الحكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انتهى بحروفه. قال العلامة الشوكاني في الدرر البهية: الراجح عدم الوقوع. انتهى - وهو الحق كما حققه شيخنا العلامة أبو الطيب القنوجي حماه الله تعالى في (الروضة الندية) فإن شئت زيادة الاطلاع فارجع إليه، والله سبحانه أعلم. [حكم المكوس وهل تقوم مقام الزكاة؟] (قوله: وإن المكوس حلال لمن أقطعها، وأنها إذا أخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاة، وإن لم يكن باسم الزكاة ولا رسمها) . أقول: في القاموس: مكس في البيع يمكس: إذا جئ مالا. والمكس النقص والظلم. ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية. أو درهم كان يأخذه المصدق بعد فراغه من الصدقة.انتهى. وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل صاحب مكس الجنة)) يعني العشار. فعلي هذا أن المكوس ما يؤخذ من التجار بغير وجه شرعي. (قلت) : إن هذا القول المجمل لم يصحح نقله عن الشيخ ابن تيميه، غير أنه قد صرح فقهاؤنا رحمهم الله تعالى أنه لو أخذ السلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 من شخص أموالاً مصادرة، ونوى أداء الزكاة إليه، فعلى قول المشايخ المتأخرين يجوز. قال العلامة ابن عابدين في رد المختار: والصحيح أنه لا يجوز، وبه تفنى، لأنه ليس للظالم ولاية أخذ الزكاة من الأموال الباطنة. ثم قال: وفي مختارات النوازل: السلطان الجائر إذا أخذ الخراج يجوز، ولو أخذ الصدقات أو الجبايات أ, أخذ مالا مصادرة إن نوى الصدقة عند الدفع قيل: يجوز أيضاً، وبه يفتى. وكذا إذا دفع إلى كل جائر بنية الصدقة، لأنهم بما عليهم من التبعات صاروا فقراء والأحوط الإعادة، انتهى. وهذا موافق لما صححه في المبسوط، وتبعه في الفتح فقد أختلف التصحيح والإفتاء في الأموال إذا نوى المتصدق بها على الجائر وعلمت ما هو الأحوط. قلت: وشمل ذلك ما يأخذه المكاس، لأنه وإن كان في الأصل هو العاشر الذى ينصبه الإمام لكن اليوم لا ينصب لأخذ الصدقات، بل لسلب أموال الناس ظلماً بدون حماية فلا تسقط الزكاة بأخذه، كما صرح به في البزازية. فإذا نوى التصدق عليه كان على الخلاف المذكور، انتهى ما في رد المختار باختصار. وفي الحاوى للزاهدى نقلاً عن جمع التفارق: أنه ينوى الزكاة بما أخذه منه الظالم ظلماً، وإن كان يأخذه الظالم على غير جهة الزكاة. ونقل أيضاً عن بعضهم: أن من أمتنع عن الزكاة فأخذها الإمام كرهاً ووضعها في أهله أجزأ، لأن الإمام ولاية أخذ الصدقات فقام أخذه مقام دفع المالك. قال مجد الأئمة فيه إشكال، لأن النية فيه شرط ولم توجد. انتهى. فقد تبين أن هذه المسالة أيضاً خلافية، فإذا ذهب إلى أختيار أحد القولين فيها الشيخ ابن تيميه فلا يعاب، كما لا يخفى على من تضلع من المسائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الشرعية وأما ما نسب إليه أولاً أيضاً من جواز إقطاع المكوس، فالظاهر أنه ليس بصحيح العزو إليه كما سيأتى أمثال ذلك نعم، وجدت عبارة في فثاويه فلعلها هي المأخذ في عزو ما ذكر إليه مع أنها ليس فيها ما يصحح حمل ذلك عليه، فلا بأس بذكرها وهب قوله. فصل: [في المظالم المشتركة] مثل المشتركين في قرية إذا طلب منهم شئ يؤخذ على اموالهم أو عدد رءوسهم أو عدد دوابهم، كما يوضع على المتبايعين للثياب ونحوها بتأويل وجوب الجهاد بأموالهم وغيرها، مع ما دخل في ذلك من الظلم. ومثل ما يطلبه الولاة أحياناً، كعند قدوم سلطان، أو حدث ولد له. ومثل المقاتلة الذين يسيرون حجاجاً أو تجاراً، ومثل الذين يقعدون على الجسور وأبواب المدائن فيأخذون شيئاً، فهؤلاء المكرهون على أداء هذه الأموال التى لا تجب شرعاً، وأخذها ظلم عليهم - لزم العد فيها يطلب منهم، وليس لبعضهم أن يظلم بعضاً فيما يطلب منهم، بل أما أن يؤدي قسطه فيكون عادلاً، وإما أن يؤدي زائداً على قسطه فيعين شركاء فيكون محسناً. وليس له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذلك حتى يؤخذ ذلك من بقية الناس، بأن يجعل قسطه ايضاً عليهم لوجوه، منها: انه يفضى إلى أن الضعفاء الذين ليس لهم ناصر يؤخذ منهم جميع ذلك المال. ومنها أنه يعلم أن قسطه يوضع على غيره فكأنه قد أمر به. ومنها أن المسلمين إذا احتاجوا إلى مال يجمعونه لدفع عدوهم وجب على القادرين الاشتراك في ذلك. فعلى هذا إذا تغيب بعضهم أو امتنع من الأداء وأخذ من غيره حصته كان عليه أن يؤدي قدر نصيبه إلى من أدى عنه - في أظهر قولي العلماء - ويعاقب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أدائه (1) كما يعاقب على سائر الحقوق الشرعية. وكذلك من خلص ماله من قطاع الطريق، أو عسكر ظالم، أو متول ظالم، ولم يخلصه إلا بما أدى عنه فإنه يرجع بذلك عليه، وهو محسن إليه بذلك، وإن لم يكن مؤتمناً على ذلك ولا مكرهاً على الأداء عنه - وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان! ومن جعله في هذا متبرعاً ولم يعطه شيئاً فقد قابل الإحسان بالإساءة. والمسألة خلافية، وما ذكرناه أعدل وأقرب للأدلة الشرعية. أنتهى مختصراً. [هل تنجس المائعات بموت حيوان] (قوله: وإن المائعات لا تنجس بموت حيوان فيها كالفأرة) - أقول: اختلف الأئمة في مقدار الماء الذى إذا وقعت فيه نجاسة لا يتنجس إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة، فعند الشافعي وأحمد في المشهور عنه: إذا بلغ قلتين لا يحمل خبثاً. وعند أبي حنيفة: يتنجس الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة وإن تغير أحد أوصافه، إلا إذا كان جارياً أو غير جار لكنه كثير، فإنه لا يندس إلا إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة فإنه ينجس. وقدر الكثير عنده بالغدير العظيم الذى لا يتحرك طرفه بتحرك الطرف الآخر، أو بما كان عشره أذرع في عشرة أذرع، فيكون وجه الماء مائة ذراع. وعند مالك: الماء لا ينجس ولو كان قليلاً إلا إذا تغير أحد أوصافه. وهذا كله مبسوط في كتب المذاهب. وأختلفوا أيضاً في أن النجاسة هل تزال بكل مائع طاهر، أم بالماء خاصة فقالت الأئمة الثلاثة: لا تزال النجاسة إلا بالماء. وقال إمامنا الأعظم أبو حنيفة رحمه الله تعالى: تزال بكل مائع مزيل   (1) قوله ((على أدائه)) لعله ((على عدم أدائه)) أهـ. هامش الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 غير الأدهان فإنها لا تزال بها النجاسة، وأما الخل ونحوه فإنه تزال به النجاسة. واختلفوا ايضاً في ان سائر المائعات كالخل ونحوه إذا وقعت فيه نجاسة هل ينجس مطلقاً ولو كان كثيراً، أو لا ينجس الكثير كالماء الكثير؟ فيه خلاف، وهذا هو موضوع هذه المسألة، ولنذكرك إن شاء الله تعالى أقوال العلماء في ذلك. وحاصل قول الشيخ ابن تيميه فيما هنالك، حتى يتضح الحالك، ويبدو للسالك أنه قد سلك واضح المسالك. فقد قال المحقق الحصكفى الحنفى في الدر المختار: وحكم سائر المائعات كالماء في الأصح حتى ولو وقع بول في عصير عشر في عشر، أى في حوض كبير لا يتحرك طرفه بتحرك الأخر المقدر بعشر في عشر، لم يفسد ذلك العصير أى لم يظهر أثر النجاسة. ولو سال دم رجله مع العصير لا ينجس. ويحل شربه، لأنه جعل في حكم الماء عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمد. انتهى بتوضيح من المحشى. وقال في موضع آخر في باب المياه أيضاً، ثم المختار: طهارة المتنجس بمجرد جريانه، وكذا البئر وحوض الحمام. قال محشيه العلامة ابن عابدين بعد كلام كثير في تطهير ماء الحوض الصغير والأواني، وأنه هل يطهر بمجرد خروج الماء منها أم لا؟ والخلاف في ذلك ما نصه: وأخبرني شيخنا حفظه الله تعالى أن بعض أهل عصره في حلب أفتى بذلك، أى بمطلق السيلان منها حتى في المائعات، وإنهم أنكروا عليه ذلك، وأقول مسألة العصير تشهد لما أفتى به، وقد مر أن حكم المائعات كالماء في الأصح. فالحاصل أن ذلك له شواهد كثيرة، فمن أنكره وأدعى خلافه يحتاج إلى إثبات مدعاه بنقل صريح لا بمجرد أنه لو كان كذلك لذكروه في تطهير المائعات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 كالزيت ونحوه. على أنه في القهستاني أن المائع كالماء والدبس (1) وغيرهما طهارته إما بإجرائه مع نجسه، وإما بالخلط مع الماء، كما إذا جعل الدهن في الخابية ثم صب فيه ماء مثله، وحرك ثم ترك حتى يعلو وثقب أسفلها حتى يخرج الماء، هكذا يفعل ثلاثاً، فإنه يطهر كما في الزاهدي أنتهى باختصار. وفي فتاوى الشيخ ابن تيميه ما ملخصه: مسائل في الزيت اليسير تقع فيه النجاسة، مثل الفأرة ونحوها، وماتت فيه هل ينجس أم لا؟ وإذا قيل ينجس فهل يجوز أن يكاثر بغيره حتى يبلغ قلتين أم لا؟ وإذا قيل تجوز المكاثرة هل يلقى الطاهر على النجس أو بالعكس، أو لا فرق؟ وإذا لم تجز المكاثرة وقيل بنجاسته هل لهم طريق في الانتفاع به مثل الاستصباح به أو غسله إذا قيل يطهر بالغسل أم لا؟ وإذا كانت المياه النجسة اليسيرة تطهر بالمطاثرة هل تطهر سائر المائعات بالمكاثرة أم لا؟ . الجواب - أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة فهل تنجس؟ إن كانت كثيرة فوق القلتين، أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقاً إلا بالتغيير؟ . أولاً ينجس الكثير إلا بالتغير كما إذا بلغت قلتين؟ فيه عن أحمد ثلاث روايات: أحدها - أنها تنجس ولو مع الكثرة، وهو قول الشافعي وغيره. والثانية - أنها كالماء سواء كانت مائية أو غير مائية، وهو قول طائفة من السلف والخلف كابن مسعود وابن عباس والزهري وابي ثور وغيرهم نقله المروزي عن ابي ثور. وحكي ذلك لأحمد، فقال: إن أبا ثور شبهه بالماء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ذكر ذلك الخلال في جامعة عن المروزي، وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أن حكم المائعات عندهم حكم الماء ومذهبهم في المائعات معروف فيه إذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الأخر لم يتنجس كالماء عندهم. وأما أبو ثور فإنه يقول بالقلتين كالشافعي. والقول أنها كالماء، يذكر قولاً في مذهب مالك رحمه الله تعالى، وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين. وروى عن ابن نافع من المالكية في الحباب التى بالشام للزيت تموت فيه الفأرة: أن ذلك لا يضر الزيت. وقال ابن الماجشون في الزيت وغيره تقع فيه الميتة ولم يتغير أوصافه وكان كثيراً: لم ينجس بخلاف موتها فيه. ففرق بين موتها فيه ووقوعها فيه. ومذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر: أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة إلا السمن إذا وقعت فيه فأرة، كما يقولون: إن الماء لا ينجس إلا إذا بال فيه بائل. والثالثة - يفرق بين المائع المائي كخل الخمر وغير المائي كخل العنب، فيلحق الأول بالماء دون الثاني. وفي الجملة للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال: أحدها - أنها كالماء. والثاني أنها أولى بعدم التنجس من الماء لأنها طعام وإدام فإتلافها فيه فساد، ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء، أو مباينة لها من الماء. والثالث - أن الماء أولى بعدم التنجس منها لأنه طهور. وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، وذكرنا حجة من قال بالتنجس وأنهم احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن كان جامداً فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم، وإن كان مائعاً فلا تقربوه)) رواه أبو داود وغيره. وبينا ضعف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 هذا الحديث، وطعن البخاري والترمذي وأبو حاتم الرازي والدارقطني وغيرهم فيه، أنهم بينوا أنه غلط فيه معمر على الزهري. قال أبو داود في الفأرة تقع في السمن: حدثنا مسدد حدثنا سفيان حدثنا الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن ميمونة: ((أن فأرة وقعت في سمن فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألقوها وما حولها وكلوا)) واما حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه)) قال محمد بن إسماعيل: فيه خطأ، والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة. وبتقدير صحة قوله ((إن كان مائعاً فلا تقربوه)) فإنما يدل على نجاسة القليل الذى وقعت فيه النجاسة كالسمن المسئول عنه، فإنه من المعلوم أنه لم يكن عند السائل سمن فوق القلتين يقع فيه فأرة، حتى يقال: إنه يفيد العموم، إذ السمن الذي يكون عند أهل المدينة أو في أوعيتهم يكون في الغالب قليلاً، فلو صح هذا اللفظ لم يدل إلا على نجاسة القليل. فأما المائعات الكثيرة إذا وقعت فيها نجاسة فلا يدل على نجاستها نص لا صحيح ولا ضعيف ولا لإجماع ولا قياس صحيح. ومن ينجسه ظن أن النجاسة إذا وقعت في ماء أو مائع سرت فيه كله فنجسته. وقد عرف بأن هذا لم يقل بطرده أحد من المسلمين، فإن طرده يوجب نجاسة البحر. بل الذين قالوا هذا الأصل منهم من أستثنى ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الآخر، ومنهم من أستثنى في بعض النجاسات ما لا يمكن نزحه ومنهم من استثنى ما فوق القلتين، وعلل بعضهم المستثنى بمشقة التنجيس وبعضهم بعدم وصول النجاسة إلى الكثير، وبعضهم يتعذر التطهير. وهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 العلل موجودة في كثير من الأذهان، فإنه يكون في الحب العظيم قناطير مقنطرة من الزيت. ولا يمكنهم صيانته عن الواقع، فالعسر والحرج بتنجيس هذا عظيم جداً. ولهذا لم يرد في تنجيس الكثير أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن الصحابة. وأختلف قول الإمام أحمد في تنجس الكثير، وأما القليل فإنه ظن صحة حديث معمر فأخذ به. وقد أطلع غيره على العلة القادحة فيه، ولو أطلع عليها لم يقل به. وروى عن ابن عباس أنه سئل عن فأرة كانت في سمن؟ قال: تؤخذ الفأرة وما حولها. قلت: يا مولانا إن أثرها في السمن كله؟ فقال للسائل عضضن بهن ابيك؟ إنما كان أثرها في السمن وهي حية وإنما ماتت حيث وجدت. وعن أبي حزن بن أبي السود الدؤلى قال: سئل ابن مسعود عن فأرة وقعت في سمن فقال: إنما حرم من الميتة لحمها ودمها. قلت: فقول معمر ((فلا تقربوه)) متروك عند عامة السلف والخلف، فإن جمهورهم يجزون الاستصباح به، وكثير منهم يجوز بيعه أو تطهيره، وهذا مخالف لقوله ((فلا تقربوه)) ثم ذكر مذهب مالك وغيره في الماء وأنه لا يندس عند مالك بوقوع النجاسة إذا لم يتغير. وذكر عن الغزالي أنه قال: وددت أن مذهب الشافعي في المياه كمذهب مالك - إلى أن قال - وفي الجملة هذا القول هو الصواب. وذلك أن الله تعالى حرم الخبائث التى هي الميتة، والدم، ولحم الخنزير ونحو ذلك، فإذا وقعت هذه في الماء أو غيره واستهلكت لم يبق هناك دم ولا ميتة ولا لحم خنزير اصلاً، كما أن الخمر إذا أستهلكت في المائع لم يكن الشارب لها شارباً للخمر، إذا أستحالت بنفسها وصارت خلاً كانت طاهرة بالاتفاق. وهذا على أصل من يقول: إن النجاسة إذا أستحالت طهرت، وهذا قوى كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأهل الظاهر، وأحد القولين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 في مذهب مالك وأحمد. فإن انقلاب النجاسة ملحاً ورماداً ونحو ذلك هو كانقلابها ماء، فلا فرق بين أن يستحيل ملحاً أو رماداً أو ماءً أو هواءاً ونحو ذلك. وهذه الأدهان والألبان والأشربة الحلوة والحامضة وغيرها من الطيبات والخبيثة قد أستهلكت واستحالت فيها، فكيف يحرم الطيب الذى أبيح؟ وإذا قيل: إنه خالطه الخبيث فحرم. فالجواب عنه: أن بئر بضاعة لما ذكر له عليه الصلاة والسلام أنه يلقى فيه الحيض ولحوم الكلاب، فقال عليه الصلاة والسلام: ((الماء طهور ولا ينجسه شئ - وقال: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)) . وفي لفظ ((لم ينجسه شئ)) إلى أن قال: ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول هو رواية عن أحمد يعني بعدم تنجس الماء القليل إذا لم يتغير، قال في المائعات كذلك، كما قاله الزهري وغيره. فهؤلاء لا ينجسون شيئاً من املائعات إلا بالتغير، كما ذكره البخاري لكن المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء، وكذلك في المائعات إذا سويت به. أنتهى ملخصاً. وقد أطنب وفصل فمن أراد كمال الإطلاع على هذا المفضل، فعليه الكتاب المفصل. وفي شرح العيني لصحيح البخاري عند حديث: سئل عن فأرة سقطت في سمن فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم)) ما نصه: أن الجمهور ذهبوا إلى نجاسة المائع بوقوع النجاسة فيه، وإذا كان جامداً يطرح ما حول النجس وشد قوم فجعلوا المائع كله كالماء. وسلك داود ابن على مسلكهم. أنتهى. فقد تبين لك أن الشيخ ابن تيميه لم ينفرد بهذا القول لما سرد من أدلته النقلية والعقلية، فافهم والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 [هل للجنب أن يصلى التطوع ليلاً قبل أن يغتسل؟] (قوله: وإن الجنب يصلى تطوعه بالليل ولا يؤخره إلى أن يغتسل قبل الفجر وإن كان بالبلد) - أقول: إن هذه المسألة لها نظائر مصححة عند كثير من الأئمة. وللمجتهد فيها مدار على قيامها بغيرها من المسائل الآتية، وهو الذى يلوح من كلام الشيخ محيى الدين ابن عربي في الفترحات، كما سيأتى ذلك إن شاء الله تعالى فيما حكاه ابن رجب فلا تغفل. [شرط الواقف هل يعتبر أو لا؟] (قوله: وإن شرط الواقف غير معتبر، بل لو وقف على الشافعية صرف إلى الحنفية إلى آخره) - أقول: إنهم في الحقيقة صرحوا أن شرط الواقف كنص الشارع، يعني لا يخالف، لكن صرحوا ايضاً بأنه قد يخالف في مسائل منها - كما في رد المختار للعلامة محمد أمين بن عابدين - أنه لو شرط الواقف أن يتصدق بفاضل الغلة على من يسأل في مسجد كذا فللقيم التصديق على سائل غير ذلك المسجد، أو خارج المسجد، أو على من لا يسأل: أنتهى. ومثله في حاوى الزاهدى، فليمكن قول الشيخ ابن تيميه من هذا القبيل أو اجتهاداً منه كما اجتهد في كثير من المسائل علماء المذاهب الأربعة، ومن يتتبع يعرف، فاعرف ذاك، والله تعالى يتولى هدانا وهداك -. [اختيارات أخرى ذهب إليها ابن تيميه] (قوله: وأمثال ذلك) - أقول: لعله يعني بها المسائل التى ذكرها العلامة ابن رجب الحنبلي في ترجمته الطويلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فقد قال ابن العماد في الشذرات ما نصه: قال ابن رجب: كانت العلماء والصلحاء والجند والأمراء والتجار وسائر العامة تحبه لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً بلسانه وعلمه وله مفردات، أختار ارتفاع الحدث بالمياه المعتصرة كماء الورد ونحوه. القول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا أن يتغير، قليلاً كان أو كثيراً. القول بجواز المسح على النعلين والقدمين، وكل ما يحتاج في نزعه من الرجل إلى معالجة باليد أو بالرجل الأخرى، فإنه يجوز المسح عليه مع القدمين واختار أن المسح على الخفين لا يتوقف مع الحاجة، كالمسافر على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد، ويتوقف مع إمكان النزاع وتيسره، واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها. واختار جواز التيمم بخشية فوات الوقت في حق المعذور، كمن أخر الصلاة عمداً حتى تضايق وقتها. وكذا من خشى فوات الجمعة والعيدين وهو محدث، واختار أن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت وشق عليها النزول في الحمام وتكرره انها تتيمم وتصلى. واختار أن لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضين، ولا لسن الياس، وان ذلك إلى ما تعرفه مل امرأة من نفسها. وأختار أن تارك الصلاة عمداً لا يجب عليه القضاء ولا يشرع له، بل يكثر من النوافل. وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، كما هو مذهب الظاهرية. وأختار القول بأن البكر لا تستبرئ وإن كانت كبيرة، كما هو قول ابن عمر - رضي الله عنه - واختاره البخاري. والقول بان من أكل في شهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 رمضان معتقداً أنه ليل، وكان نهاراً لا قضاء عليه، كما هو الصحيح عن عمر - رضي الله عنه -، وإليه ذهب بعض التابعين وبعض الفقهاء بعدهم. والقول بجواز المسابقة بلا محلل وإن أخرج المستبقان. والقول باستبراء المختلعة بحيضة، وكذلك الموطوءة بشبهة والمطلقة آخر ثلاث طلقات. والقول بإباحة وطء الوثنيات بملك اليمين. وجواز طواف الحائض ولا شئ عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهراً. والقول بجواز بيع الأصل بالعصير كالزيتون بالزيت، والسمسم بالشيرج متفاضلاً، وجعل الزائد من الثمن في مقابلة الصنعة. والقول بالتكفير في الحلف بالطلاق، وهو من الأقوال المشهورة التى جرى بسبب الإفتاء بها محن وقلاقل، وأن الثلاث بلفظة لا يقع إلا واحدة. وأن الطلاق المحرم لا يقع. وله في ذلك مؤلفات كثيرة لا تحصر ولا تنضبط أهـ. وأنت تعلم أن كثيراً من ذلك هو قول لأحد المذاهب الربعة أو لداود الظاهري، أو لأحد الصحابة الكرام، أو أحد التابعين. وقد بينت البعض فيما سبق، وسأبين الباقي إن شاء الله تعالى فيما سيلحق. والحاصل - أن هذه الأقوال والاختبارات إما له فيها سلف، أو أدلة بحسب الظاهر قويات فلا تغفل. [رأى ابن تيميه في الحسن والقبح] (قوله: ومن مسائل الأصول مسألة الحسن والقبح التزم كل ما يرد عليها - أقول: يا لله العجب! من إجمال هذا النقل والتشنيع على هذا القول كما لا يخفى عدم حسنه عند ناقد بصير، لأن هذه المسألة كما ستقف إن شاء الله تعالى على تفصيلها، أختلف العلماء في تفريعها وتأصيلها. فعند الأشعرية هما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 شرعيان. وعند غالب الحنفية وكثير من أصحاب المذاهب وجمهور المعتزلة عقليان. فإذا خالف الشيخ ابن تيمية قول السادة الأشعرية ووافق قوله غير واحد من الحنفية أو الشافعية أو الحنبلية، هل ينبغي أن يعد ذلك من الأقوال المطعونة والآراء المرذولة، بحيث إذا سمع هذا التجهيل جاهل، أو عالم عن الاختلاف غافل، يظن أن الشيخ ابن تيمية قد تفرد بهذه المسألة، وشذ عن أهل السنة النبوية، ولم يعلم أنه قد أختلف فيها أيضاً من فحول الأئمة الماتريدية، فاستمع الآن ما تنقله لك من كتب الاسلاف التى هي كفيلة بتبيان الخلاف. قال العلامة صدر الشريعة الحنفى في التوضيح شرح التنقيح: هذه المسألة من أمهات مسائل الأصول، ومهمات مباحث المعقول والمنقول، ومع ذلك هي مبنية على مسائل الجبر والقدر التى زلت في بواديها أقوام الراسخين، وضلت في مباديها أفهام المتفكرين، وغرقت في بحارها عقول المتبحرين. وحقيقة الحق فيها - أعنى الحق بين الإفراط والتفريط - سر من أسرار الله تعالى التى لا يطلع إلا خواص عباده. وهأنذا بمعزل من ذلك، لكن أوردت مع العجز عن درك الإدراك قدر ما وقفت عليه، ووقفت لإيراده. أعلم أن العلماء قد ذكروا أن الحسن والقبح يطلقان على ثلاثة معان: الأول: كون الشئ ملائماً للطبع ومنافراً له. والثاني: كونه صفة كمال، وكونه صفة نقصان. والثالث: كون الشئ متعلق المدح عاجلاً والثواب آجلاً، وكونه متعلق الذم عاجلاً والعقاب آجلاً. فالحسن والقبح بالمعنيين الأولين يثبتان بالعقل أتفاقاً، أما بالمعني الثالث فقد أختلفوا فيه، فعند الأشعري لا يثبتان بالعقل بل بالشرع فقط. فهذا بناء على أمرين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 أحدهما - أن الحسن والقبح ليسا لذات الفعل وليس للفعل صفة يحسن الفعل أو يقبح لأجلها عند الأشعري. وثانيهما - أن فعل العبد ليس باختياره عنده، فلا يوصف بالحسن والقبح ومع ذلك جوز كونه متعلق الثواب والعقاب بالشرع، بناء على أن عنده لا يقبح من الله تعالى أن يثبت العبد أو يعاقبه على ما ليس باختياره، لأن الحسن والقبح لا ينسبان إلى أفعال الله تعالى عنده. فالحسن والقبح بالمعني الثالث يكونان عند الأشعري بمجرد كون الفعل مأموراً به ومنهياً عنه. فالحسن عنده ما أمر به والقبيح ما نهى عنه. وعند المعتزلة ما يحمد على فعله سواء يحمد عليه شرعاً أو عقلاً. والقبح ما يذم على فعله. ثم بعد ما أبطل دليل الأشعري بما يطول نقله قال: وعند بعض أصحابنا يعني الحنفية والمعتزلة حسن بعض أفعال العباد وقبحها يكونان لذات الفعل أو لصفة له ويعرفان عقلاً أيضاً، لأن وجوب تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - إن توقف على الشرع يلزم الدور، وإن لم يتوقف على الشرع كان واجباً عقلاً فيكون حسناً عقلاً. وأيضاً وجوب تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - موقوف على حرمة الكذب، فهي إن ثبتت شرعاً يلزم الدور، وإن ثبتت عقلاً يلزم قبحاً عقلاً. ثم قال: ولما أثبتنا الحسن والقبح العقليين - وفي هذا القدر لا خلاف بيننا وبين المعتزلة - أردنا أن نذكر بعد ذلك الخلاف بيننا وبينهم، وذلك في امرين: أحدهما - أن العقل عندهم حاكم مطلقاً بالحسن والقبح على أن الله تعالى وعلى العباد. أما على الله تعالى فلأن الأصلح واجب على الله تعالى بالعقل، فيكون تركه حراماً على الله تعالى. والحكم بالوجوب والحرمة يكون حكماً بالحسن والقبح ضرورة. وأما على العباد فلأن العقل عندهم يوجب الأفعال عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ويبيحها ويحرمها من غير أن يحكم الله تعالى فيها بشئ من ذلك. وعندنا، الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى، وهو متعال عن أبي يحكم غيره، وعن أن يجب عليه شئ، وهو خالق أفعال العباد، جاعل بعضها حسناً وبعضها قبيحاً وله في كل قضية كلية أو جزئية حكم معين، وقضاء مبين، وإحاطة بظواهره وبواطنها، وقد وضع فيها ما وضع من خير أو شر، ومن نفع أو ضر، ومن حسن أو قبح. وثانياً - أن العقل عندهم يوجب العلم بالحسن والقبح بطريق التوليد بأن يولد العقل العلم بالنتيجة عقب النظر الصحيح. وعندنا العقل آلة لمعرفة بعض من ذلك، إذ كثير مما حكم الله تعالى بحسنه أو قبحه لم يطلع العقل على شئ منه، بل معرفته موقوفة على تبليغ الرسل، لكن البعض منه قد أوقف الله تعالى العقل على انه غير مولد للعلم، بل أجرى عادته بخلق بعضه من غير كسب، وبعضه بعد الكسب. أى ترتيب العقل المقدمات المعلومة ترتيباً صحيحاً على ما مر أنه ليس لما قدرة إيجاد الموجودات، وترتيب الموجودات ليس بإيجاده. أهـ. ملخصاً. وكتب السعد في تلويحه على قوله ((وعندنا الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى)) ما نصه: لا يقال هذا مذهب الأشاعرة بعينه، لأنا نقول: الفرق هو أن الحسن والقبح عند الأشاعرة لا يعرفان إلا بعد كتاب ونبي وعلى هذا المذهب قد يعرفها العقل بخلق الله تعالى علماً ضرورياً بهما، إما بلا كسب كحسن تصديق النبي وقبح الكذب الضار، وإما مع كسب كالحسن والقبح المستفادين من النظر في الأدلة وترتيب المقدمات، وقد لا يعرفان إلا بالنبي والكتاب كأكثر أحكام الشرع. أهـ. ملخصاً. وقال التاج السبكي في جمع الجوامع: الحسن والقبح بمعنى ملاءمة الطبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ومنافرته وصفة الكمال والنقص - عقلي وبمعنى الذم عاجلاً والعقاب آجلاً - شرعي، خلافاً للمعتزلة. قال شارحه ولي الدين أحمد الشهير بابي زرعه العراقي الشافعي: الحسن والقبح يطلق بثلاثة اعتبارات: أحدها - ما يلائم الطبع وينافره، كقولنا: إنقاذ الفريق حسن، وإتهام البرئ قبيح. الثاني - صفة الكمال والنقص، كقولنا: العلم حسن والجهل قبيح وهو بهذين الاعتبارين عقلى بلا خلاف، أى أن العقل يستقل بإدراكها من غير توقف على الشرع. الثالث: ما يوجب المدح أو الذم الشرعي عاجلاً، والثواب أو العقاب آجلاً وهو موضع الخلاف. والمعتزلة قالوا: هو عقلى أيضاً، يستقل العقل بإدراكه. وهل أهل السنة: هو شرعي لا يعرف إلا بالشرع. أهـ. ونقل العلامة السفاريني عند شرح قوله: [رجز] وربنا يخلق باختيار من غير حاجة ولا اضطرار لكنه لا يخلق الخلق سدى كما أتى في النص فاتبع الهدى ما نصه: قال شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله تعالى روحه: ونشا من هذا الاختلاف نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في مسألة التحسين والتقبيح العقلي، فأثبت ذلك المعتزلة والكرامية، وغيرهم، ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، واهل الحديث وغيرهم - رضي الله عنه -، ونفى ذلك الأشعرية ومن وافقهم من اصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وأتفق الفريقان على أن الحسن والقبيح إذا فسر أيكون الفعل نافعاً للفاعل ملائماً له، وكونه ضاراً للفاعل منافراً له أنه تمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا، وليس كذلك، بل جميع الأفعال التى أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم، وجميع الأفعال التى نهى الله تعالى عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 والحمد والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له. والذم والعقاب المترتب على معصيته ضار للفاعل مفسدة له. والمعتزلة اثبتت الحسن في افعال الله تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله تعالى. قال الشيخ: ومنازعوهم لما أعتقدوا ان لا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم، نفوا ذلك وقالوا: القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته، وكل ما يقدر ممكناً من الأفعال فهو حسن، إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول، وأولئك - يعني المعتزلة - اثبتوا حسناً وقبحاً لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته. وعندهم لا يقوم بذاته ولا وصف ولا فعل ولا غير ذلك، وغن كانوا قد يتناقضون. ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح، فجعلوا يوجبون على الله سبحانه من جنس ما يوجبون على العبد، ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد، ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته، فلا يثبتون له مشيئه عامة ولا قدرة تامة. فلا يجعلونه على كل شئ قديراً، ولا يقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يقرون بانه خالق كل شئ. ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه، فإنه سبحانه قال: {ومن يعلم من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} [طه 112] أى لا يخال أن يظلم فيحمل عليه من سيئات غيره، ولا يهضم من حسناته. والحاصل - أن فعل الله تعالى وتقدس وأمره لا يكون لعلة في قول مرجوح - أختاره كثير من علمائنا وبعض المالكية والشافعية، وقاله الظاهرية والأشعرية والجهمية. والقول الثاني - أنها لعلة وحكمة، أختاره الطوفي، وهو مختار شيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الإسلام ابن تيميه وابن القيم وابن قاضي الجبل وحكاه عن إجماع السلف وهو مذهب الشيعة والمعتزلة. لكن المعتزلة تقول بوجوب الصلاح، ولهم في الأصلح قولان. والمخالفون لهم يقولون بالتعليل لا على منهج المعتزلة. قال شيخ الإسلام: لأهل السنة في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه قولان، والأكثرون على التعليل والحكمة، وهل هي منفصلة عن الرب ولا تقوم به، أو قائمة مع ثبوت الحكم المنفصل، لهم فيه أيضاً قولان. وهل يتسلسل الحكم أولا بتسلسل، أو يتسلسل في المستقبل دون الماضي؟ فيه أقول. قال: احتج المثبتون للحكمة والعلة بقوله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} [المائدة 32] وقوله تعالى: {كي لا يكون دولة} [الحشر 7] وقوله سبحانه: {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم} [البقرة 143] ونظائرها، ولأنه تعالى حكيم شرع الأحكام لحكمة ومصلحة، لقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] والإجماع واقع على اشتمال الأفعال على الحكم والمصالح، جوازاً عند أهل السنة، ووجوباً عند المعتزلة، فيفعل ما يريد بحكمته. وتقدم أن النافين للحكمة والعلة احتجوا بما أحتجوا به انه يلزم من قدم العلة قدم المعلول وهو محال، ومن حدوثها افتقارها إلى علة أخرى، وأنه يلزم التسلسل. قال الإمام الرازي. وهو مراد المشايخ بقولهم: كل شئ صنعه ولا علة لصنعه. وما أجاب به من قال بالحكمة، وانها قديمة لا يلزم من قدم العلة قدم معلولها، كالإدارة فإنها قديمة ومتعلقها حادث. والحاصل - أن شيخ الإسلام وجمعاً من تلامذته أثبتوا الحكمة والعلة أفعال الباري سبحانه واقاموا على ذلك من البراهين ما لعله لا يبقى في مخيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الفطين، السالم من ربقة تقليد الأساطين - أدنى اختلاج وأقل تخمين، منها قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} [القيامة 36] وقوله تعالى {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} [المؤمنون 115] وغير ذلك. واما الإمام شمس الدين ابن القيم قد أجلب وأجنب، واتى بما يقضى منه العجب، في كتابه ((شرح منازل السائرين)) و ((مفتاح دار السعادة)) وغيرهما فمن أراد تنمية البحث والأدلة فليرجع إليهما، وإلى شرح عقيدة السفاريني عليه الرحمة. وقال أيضاً عند شرح قوله: [رجز] فكل ما منه تعالى يحمل لأنه عن فعله لا يسئل ما بعضه: مذهب الأشاعرة أن أفعال البارى تعالى ليست معللة بالأغراض والمصالح، ويقولون: إنه سبحانه يفعل هذه الحوادث عند الأسباب، واللام للعاقبة لا للتعليل. ومذهب الماتريدية: امتناع خلو فعله عن المصلحة، كما قال السعد. والحق أن تعليل بعض الأفعال لا سيما الأحكام الشرعية بالحكم والمصالح ظاهر، وأنه مذهب سلف الأمة. والقول الوسط كما حكاه الشيخ في ((شرح الأصبهانية)) لأنه تعالى خلق كل شئ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ويثبتون لله تعالى حكمة يفعل لأجلها قائمة به عز وجل. أهـ. وقال بعض الأشاعرة: إنهم يقولون بالحكمة والمصلحة في نفس الآمر لأنهم يمنعون العبث في افعاله سبحانه، كما يمنعون الغرض، ولذلك كان التعبدي من الأحكام ما لا يطلع على حكمته لا مالا حكمه له، على أن بعضهم نقل عن الأشاعرة أنهم إنما يمنعون وجوب التعليل لا أنهم يحيلونه، كما صرح به ابن عقيل الحنبلى، واستغربه بعض الأشاعرة، أهـ. وقال أيضاً عند شرح قوله: [رجز] فلم يحب عليه فعل الأصلح ولا الصلاح ويح من لم يفلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 خلافاً للمعتزلة. فمعتزلة البصرة قالوا بوجوب الأصلح في الدين، وقالوا تركه بخل ويفه يجب تنزيه البارى تعالى عنه، ومنهم الجبائي. وذهب معتزلة بغداد إلى وجوب الصلح في الدين والدنيا معاً، لكن بمعنى الأوفق في الحكمة والتدبير. وهذه المسألة مترجمة في كتب القوم بمسألة وجوب الصلاح والأصلح أنتهى. قلت: والكلام فيها مبسوط في محله. وقصة الأشعري مع الجبائي المتقدمة لك في ترجمته قاضية بحقية مذهب أهل السنة ثم قال: تنبيه - مذهب القول بالصلاح والأصلح مبني فيما قاله متكلموا الأشاعرة وغيرهم على قاعدتين: إحداهما - تحسين العقل وتقبيحه في الأحكام الشرعية. الثانية - استلزام الأمر للإدارة، فإن قلت: قد أسلفت أن أسلافك مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيرهما لهم الميل الاستدلال لإثبات التعليل والحكمة في الخلق والأمر، وذلك من اصول القول بالصلاح والأصلح. ثم هنا أبطلت هذا القول، وذكرت من لوازمه ما لا جواب عنه فما تصنع في هذه اللوازم التى ألزمت بها المعتزلة وما الجواب عنها إذا وجهت إليكم؟. قلت: لا ريب، إنما نثبت لله وما أثبته لنفسه، وشهدت به الفطرة والعقول من الحكمة في خلقه وأمره، فكل ما خلقه وامر به فله فيه حكمه بالغة. وآية ظاهرة لأجلها خلقه وأمر به. لكن نقول: إن الله تعالى في خلقه كالفرق بين الفعلين، وكالفرق بين الوصفين والذاتين، فليس كمثله شئ في وصفه ولا في فعله ولا في حكمه مطلوبة له. بل الفرق بين الخالق والمخلوق في ذلك كله أعظم فرق وابينه وأوضحه عند العقول والفطر، وعلى هذا فجميع ما ألزمت به الفرق القائلة بالصلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 والأصلح، بل واضعاف ما ذكر من الإلزاميات فيه حكمة يختص بها لا يشاركه فيها غيره، ولأجلها حسن منه ذلك، وقبح من المخلوقين لانتفاء تلك الحكمة في حقهم. وهذا كما يحسن منه تعالى مدح نفسه والثناء عليها، وإن قبح من اكثر خلقه ذلك. ويليق بجلالة الكبرياء والعظمة، ويقبح من خلقه تعاطيها كما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه حكى عن الله تعالى أنه قال: ((الكبرياء إزارى والعظمة ردائى، فمن نازعني واحداً منها عذبته)) وكما يحسن منه إماتة خلقه وابتلاؤهم وامتحانهم بانواع المحن، ويقبح ذلك من خلقه. وهذا أكثر من أن تذكر أمثلته، فليس بين الله تعالى وبين خلقه جامع يوجب أن يحسن منه ما حسن منهم، ويقبح منه ما قبح منهم، وإنما تتوجه تلك الإلزامات على من قاس أفعال الله تعالى بأفعال العباد، دون من أثبت له حكمه يختص بها لا تشبه ما للمخلوقين من الحكمة، فهو عن تلك الإلزامات بمعزل، ومنزلة منها أبعد منزل. ونكتة الفرق أن بطلان الصلاح والأصلح لا يستلزم بطلان الحكمة والتعليل كما أن التعليل الذى نثبته غير الذى تثبته المعتزلة كما مر، فإن المعتزلة أثبتوا لله شريعة عقلية، وأوجبوا عليه فيها وحرموا بمقتضى عقولهم. فالمعتزلة يوجبون على اله تعالى ويحرمون بالقياس على عباده، ولا ريب أن هذا من أفسد القياس وأبطله كما نبه عليه وبينه الإمام المحقق ابن القيم في كتابه: (مفتاح دار السعادة) . وأما زعم المعتزلة استلزام الآمر للإرادة فباطل لا يعول عليه وبالله تعالى التوفيق. أهـ. فإذا أحطت خبراً بما تقرر علمت أن في المسألة أقوالاً، وأن العلماء قد كثر بينهم لذلك القيل والقال. فخذ ما طابق الكتاب وأترك الجدال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 تتمة [أفعال العباد] مسألة أفعال العباد من أعظم المسائل الدينية. والمذاهب الشهيرة ثلاثة: فمذهب المعتزلة - أن الإنسان خالق لأفعاله، سواء كانت خيراً أم شراً، وسموا لذلك بالقدرية، وهم لقبوا أنفسهم بالعدلية لذلك، ثم أقترفوا فرقتين، فالأولى تنكر سبق علم الله تعالى بالأشياء قبل وجودها، وقد أنقرضت هذه. الثانية - كما قال الحافظ ابن حجر في فتح البارى - إنهم مطبقون على أنه سبحانه عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأنها مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال. والمتأخرون منهم أنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فراراً من تعلق القديم بالحادث. وذهبت الجبرية أنه لا فعل للعبد أصلاً، وأن حركاته بمنزلة حركات الجمادات لا قدرة له عليها، ولا قصد ولا اختيار. فالمعتزلة على ما قال غير واحد من أهل السنة: ضاهت المجوس. والجبرية شابهت المشركين الذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ} [الأنعام 148] . وذهب السلف الصالح، وكثير من الأشاعرة وغيرهم إلى أن أفعالنا مخلوقة لله سبحانه وتعالى، لكنها كسب لنا كما قال الفهامة الشيخ محمد السفاريني الشامي الحنبلي في منظومته: [رجز] أفعالنا مخلوقة لله ... لكنها كسب لنا يا لا هي وكل ما يفعله العباد ... من طاعة وضدها مراد لربنا من غير ما أضطرار ... منه لنا فافهم ولا تمارى والكسب عند المتكلمين: ما وقع من الفاعل مقارناً لقدرة محدثة اختيار. وقيل: هو ما خلقه الله تعالى في محل قدرة المكتسب على وفق إرادته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 في كسبه. وهذا هو المذهب الوسط، والقول العارى عن الخطر والشطط، إذ لا جبر ولا تفويض. إليه رجعوا كلام الأشعري، وإليه أشار باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه بقوله للسائل عن القدر: أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين: لا جبر ولا تفويض. ولله تعالى در من قال: [وافر] تنكب عن طريق الجبر واحذر ... وقوعك في مهاوى الاعتزال وسر وسطاً طريقاً مستقيماً ... كما سار الإمام أبو المعالى وما أعلى ما رواه الثقات عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - لما سئل أيضاً عن القدر فقال: وما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشا لم يكن خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجرى الفتى والمسن على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن فمنهم شقى ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن هذا والبحث طويل عريض. وإن أجببت زيادة الاطلاع فعليك برسائل الشيخ إبراهيم الكوراني، وشرح الأصفهانية، ونزهة والدنا وتفسيره روح المعاني، وتفسير الإمام الرازى، وغير ذلك من كتب الكلام، والله سبحانه اعلام بما جرت به الأقلام. [حكم مخالف الإجماع] (قوله: وإن مخالف الإجماع لا يكفر ولا يفسق) . أقول: الصحيح أن مخالف الإجماع لا يكفر. فقد قال أبو زرعة في شرح جمع الجوامع نقلاً عن الرافعي أنه قال: كيف نكفر من خالف الإجماع، ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع وإنما نبدعه. أهـ. وقال العلامة السيد محمد أمين الشامي في حاشيته في باب المرتد: والحق أن المسائل الإجماعية تارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 يصحبها التواتر عن صاحب الشرع كوجوب الخمس، وقد لا يصحبها فالأول - يكفر جاحده لمخالفته التواتر لا لمخالفته الإجماع. أهـ. ثم نقل في نور العين عن رسالة الفاضل الشهير حسام جلبي من عظماء علماء السلطان سليم بن بايزيدخان ما نصه: إذا لم تكن الآية أو الخبر المتواتر قطعي الدلالة، أو لم يكن الخبر متواتراً، أو كان قطعياً لكن فيه شبهة، او لم يكن الإجماع إجماع الجميع، أو كان ولم يكن إجماع الصحابة، أو كان ولم يكن إجماع جميع الصحابة، أو كان إجماع جميع الصحابة ولم يكن قطعياً، بأن لم يثبت بطريق التواتر، أو كان قطعياً لكن كان إجماعاً سكونياً - ففى كل من هذه الصور لا يكون الجحود كفراً، يظهر ذلك لمن نظر في كتب الأصول. فاحفظ هذا الأصل فإنه ينفعك في استخراج فروعه حتى تعرف منه صحة ما قيل: إنه يلزم الكفر في موضع كذا، ولا يلزم في موضع آخر. أهـ. وقال الشيخ محيى الدين (في الباب الثامن والثمانين من الفتوحات) والإجماع إجماع الصحابة - رضي الله عنه - بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما عدا عصرهم فليس بإجماع يحكم به. وصورة الإجماع: أن يعلم أن المسألة بلغت لكل واحد من الصحابة فقال فيها بذلك الحكم الذى قال به الآخر، إذ لم يبق منهم أحد إلا وقد وصل إليه ذلك الأمر، وقد قال فيه بذلك الحكم. فإن نقل عن واحد منهم خلاف في شئ وجب رد الحكم فيه إلى الكتاب والخبر النبوي، فإنه خير وأحسن تأويلاً. ولا يجوز أن يدان الله تعالى بالرأى، وهو القول بغير حجة ولا برهان، لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع. وإن كنا لا نقول بالقياس فلا نخطئ مثبته إذا كانت العلة الجامعة معقولة جلية، يغلب على الظن أنها مقصودة للشارع، وغنما منعنا نحن الأخذ بالقياس لأنه زيادة في الحكم، وفهمنا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الشارع أنه يريد التخفيف عن هذه الأمة، وكان يقول: ((أتركوني ما تركتكم)) أهـ. وقد أجمل الشيخ ابن حجر عفا الله تعالى عنه هذا القول ولم يعزه أيضاً إلى محله. وقد أطنب الأصوليين في بحث مخالفة الإجماع وتقسيمه، فإن أردت التفصيل فعليك بكتبهم. وأما حجية الإجماع فقد قال بها الشيخ ابن تيمية، ففى فتاواه ما نصه: (مسألة في إجماع العلماء - هل يجوز للمجتهد خلافه وما معناه؟ أجاب: معنى الإجماع أن يجمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم. فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن كثيراً من المسائل يظن بعض الناس فيها إجماعاً ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة. وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم فليس حجة لازمة ولا إجماعاً باتفاق المسلمين. بل قد ثبت عنهم رضي الله تعالى أنهم نهوا الناس عن تقليدهم وأمروا إذا رأوا قولاً في الكتاب والسنة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة ويدعوا أقوالهم. ولهذا كان الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة لا يزالون إذا ظهر لهم دلالة الكتاب والسنة على ما يخالف قول متبوعهم اتبعوا ذلك، مثل مسافة القصر فإن تحديدها بثلاثة أيام وستة عشر فرسخاً لما كان قولاً ضعيفاً كان طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم يرى قصر الصلاة في السفر الذى دون ذلك، كالسفر من مكة إلى عرفة، فإنه قد ثبت أن أهل مكة قصروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى وعرفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وكذلك طائفة من أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد قالوا: إن جمع الطلاق الثلاث واحدة، لأن الكتاب والسنة عندهم إنما يدل على ذلك، وخالفوا أئمتهم. وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة رأوا غسل الدهن النجس، وهو خلاف قول الأئمة الأربعة. وطائفة من أصحاب أبي حنيفة رأوا تحليف الناس بالطلاق، وهو خلاف قول الأئمة الأربعة، بل ذكر ابن عبد البر أن الإجماع منعقد على خلافه. وطائفة من أصحاب مالك وغيرهم قالوا: من حلف بالطلاق فإنه يكفر يمينه، وكذلك من حلف بالعتاق. وكذلك قال طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي أن من قال: الطلاق يلزمني لا يقع به طلاق، ومن حلف بذلك لا يقع به طلاق. وهذا منقول عن أبي حنيفة نفسه. أهـ. باقتصار. قلت: ومن ذلك الأقوال الزفرية (1) التى نقلتها الأئمة الحنفية، فإن الفتوى فيها على قول زفر لقوة أدلته، ولم يلتفت فيها على قولهم. وأشباه ذلك كثير لمن تتبع أقوال علماء المذاهب الأربعة. أهـ. فتدبر وافهم. [عقيدة ابن تيميه في كلام الله] (قوله: وإن ربنا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً - محل الحوادث، تعالى الله عن ذلك وتقدس - إلى قوله - وغن القرآن محدث في ذات الله تعالى. أقول: عني بذلك مسألة الكلام على ما ذهبت متكلم بكلام ازلي بحروف وأصوات. وهذا التشنيع أيضاً قد اتبع فيه السبكي كما تقدم لك في منظومته حيث قال: [بسيط] يحاول الحشو أنى كان فهو له ... حثيث سير بشرق أو بمغربه   (1) نسبة إلى زفر بن الهزيل الإمام المعروف، وهو أحد اصحاب أبي حنيفة النعمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 يرى حوادث لا مبدأ لأولها ... في الله سبحانه عما يظن به وجواب اليافعي له بقوله: ... المنزلات كلاماً لا شبيه به وقد تكلم رب العرش بالكتب ... إذا يشاء وهذا الحق فارفض به ولم يزل فاعلاً أو قائلاً أزلاً الأبيات السالفات: وانت تعلم أن عدم قيام الحوادث بذاته تعالى مما أتفق عليه أهل السنة (1) إلا الكرامية، فقد قال السعد في شرح المواقف: إنه تعالى يمتنع أن يقوم بذاته حادث. ولا بد قبل الشروع في الحجاج من تحرير محل النزاع، ليكون التوارد بالنفي والإثبات على شئ واحد فنقول: الحادث هو الموجود بعد العدم، وأما مالا وجود له وتجدد، ويقال له متجدد، ولا يقال له حادث فثلاثة أقسام: الأول - الأحوال ولم يجوز تجددها في ذاته تعالى إلا أبو الحسن من المعتزلة فإنه قال: بتجدد العالمية فيه بتجدد المعلومات. الثاني - الإضافات أى النسب، ويجوز تجددها اتفاقاً من العقلاء حتى يقال: كأنه تعالى موجود مع العلم بعد أن لم يكن معه. الثالث - السلوب، فما نسب إلى ما يستحيل إنصاف البارئ تعالى به امتنع تجدده، كما في قولنا: إنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض. فإن هذه سلوب يمتنع تجددها وإلا جاز، فإنه تعالى موجود مع كل حادث، وتزول عنه هذه المعية إذا عدم الحادث، فقد تجدد له صفة سلب بعد ان لم تكن. وإذا عرفت هذا الذى ذكرناه فقد اختلف في كونه تعالى محل الحوادث، أى الأمور الموجودة بعد عدمها، فمنعه الجمهور من العقلاء من أرباب الملل وغيرهم. وقال المجوس: كل حادث هو من صفات الكمال قائم به، أى   (1) على هامش الأصل؟ ((ولعل الصواب أخذاً مما يأتى: أهل السنة وغيرهم إلا الكرامية والمجوس. فلعل السقط من الناسخ)) أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 يجوز أن تقوم به الصفات الكمالية الحادثة مطلقاً. وقال الكرامية: يجوز أن يقوم به الحادث لا مطلقاً، بل كل حادث يحتاج البارئ إليه في إيجاده للخلق، ثم اختلفوا في ذلك الحادث فقيل: هو الإدارة، وقيل هو قوله: كن. واتفقوا على أن الحادث القائم بذاته يسعى حادثاً، ومالاً يقوم بذاته من الحوادث يسمى محدثاً لا حادثاً. ولهم في إثبات امتناع بذاته لجاز أزلاً واللازم سبحانه ثلاثة وجوه: الأول - لو جاز قيام الحادث بذاته لجاز أزلاً واللازم باطل. الثاني - صفاته تعالى صفات كمال، فخلوه عنها نقص، والنقص عليه محال إجماعاً، فلا يكون شئ من صفاته حادثاً وإلا كان خالياً عنه قبل حدوثه. الثالث: أنه تعالى لا يتأثر عن غيره، ولو قام به حادث لكانت ذاته متأثرة عن الغير متغيرة به، وأوردا عليها ما يطول ذكره، فإن أردته فارجع إليه. ثم قال: واحتج الخصم بوجوه ثلاثة: منها الاتفاق على انه متكلم سميع بصير، ولا يتصور إلا بوجود المخاطب والمسموع والمبصر، وهي حادثة فوجب حدوث هذه الصفات القائمة بذاته تعالى. وأجابوا عنه بان الحادثة تعلقه، وان ذلك التعليق إضافة من الإضافات فيجوز تجددها وتغيرها، إذ الكلام عند الأشاعرة معنى نفسي قديم قائم بذاته تعالى لا يتوقف على وجود المخاطب بل يتوقف عليه تعلقه، وكذا السمع والبصر. وقالت الكرامية: العقلاء يوافقوننا في قيام الصفة الحادثة بذاته سبحانه وإن أنكرونا باللسان، فإن الجبائية قالوا بإدارة وكراهية حادثتين لا في محل، لكن المريدية والكارهية حادثتان في ذاته تعالى، وكذا السامعية والمبصرية تحدث بحدوث المسموع والمبصر. وابو الحسين يثبت علوماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 متجددة. والأشعرية يثبتون النسخ، وهو إما رفع الحكم القائم بذاته أو انتهائه، وهما عدم بعد الوجود فيكونان حادثين. أهـ. ملخصاً. وإن أردت الأجوبة فعليك بالكتب المطولة. وأما ما ذكرنا من مسألة الكلام عند الحنابلة فهو مذهب المحدثين والسلف الصالحين، وهو أحد تسعة أقوال على ما حماه العلامة الملا على القارى في شرحه الفقه الأمبر: أحدها - أن كلام الله تعالى هو ما يفيض على النفوس من المعاني، إما من العقل الفعال، وهو جبريل عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة. وثانيهاً - أنه مخلوق خلقه الله تعالى منفصلاً عنه، وهو قول المعتزلة. وثالثهاًُ - أنه معنى واحد قائم بذات الله تعالى هو الأمر والنهي، والخبر والاستخبار، إن عبر بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإليه ذهب ابن كلاب ومن وافقه كالأشعرية. ورابعها - أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وإليه ذهبت طائفة من المتكلمة وأهل الحديث. وخامسها - انه حروف وأصوات، لكن تكلم الله تعالى بها بعد أن لم يكن متكلماً، وإليه ذهبت الكرامية وعيرهم. وسادسها - أنه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهو قول صاحب المعتبر وإليه ذهب الرازي في المطالب العالية. وسابعها - أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته وهو ما خلقه في عيره، وإليه ذهب أبو منصور الماتريدي. وثامنها - أنه مشترك بين المعنى القائم بالذات وهو الكلام النفسي وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات، وهو قول أبي المعالي ومن تبعه. (قلت) والأظهر أن معنى الأول حقيقة، والثاني مجاز. وتاسعها - أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو متكلم به بصوت يسمع، وغن نوع الكلام قديم وإن لم تكن صورة المعين قديماً، وهو المأثور عن أئمة الحديث والسنة أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وانت تعلم أن هذه المسألة من أعظم مسائل الدين، وقد تحيرت فيها آراء المتقدمين والمتأخرين، وأضطربت فيها الأقوال، وكثرت بسببها الأهوال، وأثارت فتناً، وجلبت محناً، وكم سجنت إماماً، ونكبت أقواماً وقد أرشد الله تعالى إليها اهل السنة والجماعة، كما سياتيك بيانه إن شاء الله تعالى، وما تستلذ سماعه. (فأقول) : إن المشهور من هذه المذاهب والمبسوطة أدلتها في اكثر الكتب أربعة: وهي مذهب الحنابلة القائلين بقدم الكلام اللفظي، وإنه غير مخلوق. ومذهب الأشاعرة المثبتين للكلام النفسي وقدمه، وعدم خلقه وعدم الكلام اللفظي. ومذهب الكرامية المثبتين للكلام اللفظي وحدوثه. ومذهب المعتزلة القائلين بخلق القرآن وحدوثه. ونفي الكلام النفسي. وستتضح لك إن شاء الله تعالى أقوالهم المجملة بادلتها المفصلة. فقد قال العلامة الملا جلال الدواني في شرحه للعقائد العضدية: ولا خلاف بين أهل الملة في كونها تعالى متكلماً، أى موصوفاً بهذه الصفة: لكن اختلفوا في تحقيق كلامه، هل هو نفسي أم لفظي، وحدوثه وقدمه. وذلك أنهم لما رأوا قياسين متعارضين النتيجة وهما كلام الله تعالى مؤلف من حروف وأصوات مترتبة متعاقبة في الوجود، وكل كا هو كذلك فهو حادث، فكلام الله تعالى حادث - أضطروا إلى القدح في أحد القياسين ضرورة أمتناع حقيقة النقيضين، فمنع كل طائفة بعض المقدمات. فالحنابلة ذهبوا إلى أن كلام الله تعالى حروف وأصوات وهي قديمة، ومنعوا أن كل ما هو مؤلف من حروف واصوات مترتبة فهو حادث، بل قال بعضهم بقدم الجلد والغلاف. (وأقول) : وهذا غير مقبول عند محققى الحنابلة، بل هو منكر منسوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 إلي بعضهم، وقد كثر قادحوه منهم كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ذلك. ثم قال: وقيل: إنهم إطلاق لفظ الحادث على الكلام النفسي، كما قال بعض الأشاعرة: إن كلامه تعالى ليس قائماً بلسان أو قلب، ولا حالاً في مصحف أو لوح، ومنع إطلاق القول بحدوث كلامه، وإن كان المراد هو اللفظي رعاية للأدب واحتراز الوهم إلى حدوث الكلام الأزلي. والمعتزلة قالوا بحدوث كلامه، وإنه مؤلف من أصوات وحروف وهو قائم بغيره. ومعنى كونه متكلماً عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في الجسم كاللوح المحفوظ أو كجبريل أو النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو غيرها كشجرة موسى - عليه السلام -، فهم منعوا ان المؤلف من الحروف والأصوات صفة الله تعالى قديمة. والكرامية لما رأوا أن مخالفة الضرورة التى ألتزمها الحنابلة أشنع من مخالفة الدليل، أن ما التزمه المعتزلة من كون كلامه تعالى صفة لغيره، وان معنى كونه متكلماً كونه خالقاً للكلام في الغير مخالف للعرف واللغة - ذهبوا إلى أن كلامه تعالى صفة له مؤلفة من احروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى، فمنعوا أن كل ما هو صفة له فهو قديم. والأشاعرة قالوا: كلامه تعالى معنى واحد بسيط، قائم بذاته تعالى قديم فهم منعوا أن كلامه تعالى مؤلف من الحروف والأصوات. ولا نزاع بين الشيخ والمعتزلة في حدوث الكلام اللفظي، وإنما نزاعهم في إثبات الكلام النفسي وعدمه. وذهب المصنف إلى أن مذهب الشيخ - يعني الأشعري - أن الألفاظ أيضاً قديمة، وأفرد في ذلك مقالة ذكر فيها ان لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ، وأخرى على القائم بالغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 فالشيخ لما قال: هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وهو القديم عنده، واما العبارات فإنما سميت كلاماً مجازاً لدلالتها على ما هو الكلام الحقيقي، حتى صرحوا بأن الألفاظ حداثة على مذهبه ولكنها ليست كلاماً له تعالى حقيقة. وهذا الذى فهموه له لوازم كثيرة فاسدة، كعدم تكفير من أنكر كلامية ما بين دفتى المصاحف، مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة، وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه تعالى حقيقة، إلى غير ذلك مما يخفى على المتفطنين في الأحكام الدينية، فوجب حمل كلام الشيخ على انه أراد به المعنى الثاني، فيكون الكلام النفسي عنده أمراً شاملاً للفظ والمعنى جميعاً قائماً بذاته تعالى. أهـ. فقوله ((المعنى الثاني)) أى فوجب أن يحمل قوله: الكلام هو المعنى النفسي على أنه اراد بالمعنى المعنى الثاني وهو القائم بالغير، لا ما فهمه الأصحاب من أن مراده به مدلول اللفظ فيكون المعنى النفسي عند الشيخ أمراً شاملاً للفظ القائم بذات الله تعالى ولمدلوله القائم به. وقال الوالد عليه الرحمة في الفوائد التى حررها أول تفسيره: إن الذى انتهى إليه كلام أئمة الدين، كالماتريدي والأشعري وغيرهما من المحققين أن موسى - عليه السلام - سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت، كما تدل عليه النصوص التى بلغت في الكثرة مبلغاً لا ينبغي معه تأويل، ولا يناسب في مقابلته قال وقيل. أهـ. ولنذكر هذه الفائدة بتمامها، فإنها توقفك من مسالة الكلام على غوامضها (فأقول) : قال عليه الرحمة ما نصه: إن الإنسان له كلام بمعنى التكلم الذى هو مصدر، وكلام بمعنى التكلم به الذى هو الحاصل بالمصدر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ولفظ الكلام لغة للثاني، قليلاً كان أو كثيراً، حقيقة كان أو حكماً وقد يستعمل استعمال المصدر كما ذكر الرضى. وكل من المعنيين إما لفظي أو نفسي. فالأول من اللفظي، فعل الإنسان باللسان وما يساعده من المخارج. الثاني منه - كيفية في الصوت المحسوس. والأول من النفسي فعل قلب الإنسان ونفسه الذى لم يبرز إلى الجوارح. والثاني منه - كيفية في النفس إذ لا صوت محسوساً عادة فيها، وإنما هو صوت معنوي مخيل. أما الكلام اللفظي بمعنييه فمحل وفاق. اما النفسي فمعناه الأول تكلم الإنسان بكلمات ذهنية، وألفاظ مخيلة يرتبها في الذهن على وجه إذا تلفظ بها بصوت محسوس كانت عين كلماته اللفظية. ومعناه الثاني - هو هذه الكلمات الذهنية، والألفاظ المخيلة المترتبة ترتيباً ذهنياً منطبقاً عليه الترتيب الخارجي والدليل على ان النفس كلاماً بالمعنيين الكتاب والسنة، فمن الآيات قوله تعالى: {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكاناً} [يوسف 77] فإن ((قال)) بدل من ((أسر)) أو استئناف بياني، كأنه قيل: فماذا قال في نفسه في ذلك الإسرار؟ فقيل: قال أنتم شر مكاناً. وعلى التقديرين فالآية دالة على ان للنفس كلاماً بالمعنى المصدري، قولاً بالمعنى الحاصل بالمصدر وذلك من ((أسر)) والجملة بعدها. وقوله تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى} [الزخرف 80] وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - السر بما اسره ابن آدم في نفسه. وقوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك} [الأعراف 25] وقوله تعالى: {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الآمر شئ ما قتلنا ههنا} أي يقولون في انفسهم كما هو الأسرع أنسياقاً إلى الذهن. والآيات في ذلك كثيرة. ومن الأحاديث ما رواه الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سأله رجل فقال: إنى لأحدث نفسي بالشئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 لو تكلمت به لأحبطت أجرى، فقال: ((لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن)) فسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الشئ المحدث به كلاماً مع أنه كلمات ذهنية، والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا صارف عنها. وقوله تعالى في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ... ... .)) الحديث. وفيه دليل على أن للعبد كلاماً نفسياً بالمعنيين، وللرب أيضاً كلاماً نفسياً كذلك ولكن أين التراب، من رب الأرباب. فالمعنى الأول للحق تعالى شأنه صفة أزلية منافية للآفة الباطنية التى هي بمنزلة الخرس بالتكلم الإنساني اللفظي، ليس من جنس الحروف والألفاظ أصلاً، وهي واحدة بالذات تتعدد تعليقاتها بحسب تعدد المتكلم به. وحاصل الحديث: من تعلق تكلمه بذكر اسمى، تعلق تكلمي بذكر أسمه، والتعليق من الأمور النسبية التى لا يضر تجددها، وحدوث التعليق إنما يلزم في التعليق النتجيزي ولا ننكره، وأما التعليق المعنوي التقديري وتعلقه فأزليان، ومنه ينكشف وجه صحة نسبة السكوت عن اشياء ((رحمة غير نسيان)) كما في الحديث، إذا معناه أن تكلمه الزلي لم يتعلق ببيانها مع تحقيق أتصافه أزلاً بالتكلم النفسي، وعدم هذا التعليق الخاص لا يستدعى انتفاء الكلام الأزلي كما لا يخفى. والمعنى الثاني - له تعالى كلمات غيبية، وهي ألفاظ حكمية مجردة عن المواد مطلقاً، نسبية كانت أو خيالية أو روحانية، وتلك الكلمات أزلية مترتبة من غير تعاقب في الوضع الغيبي العلمي لا في الزمان إذ لا زمان، والتعاقب بين الأشياء من توابع كونها زمانية، ويقربه من بعض الوجوه وقع البصر على سطور الصفحة المشتملة على كلمات مترتبة في الوضع الكتابي دفعه، فهي مع كونها مترتبة لا تعاقب في ظهورها، فجميع معلومات الله الذى هو نور السماوات والأرض مكشوفة له ازلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 كما هي مكشوفة له فيما لا يزال. ثم تلك الكلمات الغيبية المترتبة وضعياً أزلياً يقدر بينها التعاقب فيما لا يزال، والقرآن كلام الله تعالى المنزل بهذا المعنى، فهو كلمات غيبية مجردة من المواد، مترتبة في علمه أزلاً غير متعاقبة تحقيقاً بل تقديره عند تلاوة الألسنة الكونية الزمانية. ومعنى تنزيلها: إظهار صورها في المواد الروحانية والحسية من الألفاظ المسموعة والذهنية والمكتوبة. ومن هنا قال السنيون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور، مقروء بالألسن، مسموع بالآذان، غير حال في شئ منها، وهو في جميع هذه المراتب قرآن حقيقة شرعية معلوم من الدين بالضرورة. فقولهم: ((غير حال)) إشارة إلى مرتبة النفسية الأزلية، فإنه من الشئون الزاتية ولم تفارق الذات ولا تفارقها أبداً، ولكن الله أظهر صورها من الخيال والحس فصارت كلمات مخيلة، وملفوظة مسموعة، ومكتوبة مرئية، فظهر في تلك المظاهر من غير حلول إذ هو فرع الانفصال وليس فليس (1) فالقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وإن تنزل في هذه المراتب الحادثه ولم يخرج عن كونه منسوباً إليه. أما في مرتبة الخيال فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أغنى الناس حملة القرآن من جعله الله في جوفه)) واما في مرتبة اللفظ فلقوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} [الأحقاف 21] واما في مرتبة الكتابة فلقوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} [البروج 22] وقول الإمام أحمد: لم يزل الله متكلماً كيف يشاء، وإذا شاء بلا كيف، إشارة إلى مرتبتين: الأولى - إلى كلامه في مرتبة التجلى والتنزيل إلى مظهر له، كقوله - صلى الله   (1) قوله، ((وليس فليس)) أي ليس انفصال فليس حلول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 عليه وسلم -: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة اجنحتها خضعاناً لقوله كانه سلسلة على صفوان)) الحديث. والثاني - إلى مرتبة الكلام النفسي، إذ الكيف من توابع مراتب التنزلات، والكلام في مرتبة الذات مجرد عن المادة فارتفع الكيف بارتفاعها. فالحاصل - لم يزل الله متكلماً موصوفاً بالكلام من حيث تجلي، ومن حيث لا، فمن حيث تجليه في مظهر لكلامه كيف وإذا شاء لم يتكلم بما اقتضاه مظهر تجليه فيكون متكلماً بلا كيف كما كان ولم يزل. والأشعري إذا حققت الحال وجدته قائلاً: بأن الله تعالى كلاماً بمعنى التكلم، وكلاماً بمعنى التكلم به، وإنه بالمعنى الثاني لم يزل منصفاً بكونه أمراً ونهياً وخبراً، فإنها أقسام المتكلم به، وغن الكلام النفسي بالمعنى الثاني حرفه غير عارضة للصوت في الحق والخلق، غير أنها في الحق كلمات، غيبية مجردة عن المواد أصلاً، غذ كان الله تعالى ولم يكن شئ غيره. وفي الخلق كلمات مخيلة ذهنية، فهي في مادة خيالية، فكلمات الكلام النفسي في جنابة كلمات حقيقية لكنها ألفاظ حكمية، ولا يشترط اللفظ الحقيقي في كون الكلمات حقيقة، إذ أطلق الفاروق الكلمة على أجزاء مقالته المخيلة في خبر يوم السقيفة. والأصل في الإطلاق الحقيقة، فالأجزاء كلمات حقيقة لغوية، مع أنها ليست ألفاظاً كذلك، إذ ليست حروفها عارضة لصوت. واللفظ الحقيقى ما كانت حروفه عارضة، وهو لكونه صورة اللفظ النفسي الحكمي دال عليه، وهو دال في النفس على معناه بلا شبهة ولا أنفكاك، فيصدق على اللفظ النفسي بمعناه أنه مدلول اللفظ الحقيقي ومعناه، فتفسير المعنى النفسي المشهور عن الأشعري بمدلول اللفظ وحده كما نقله صاحب المواقف عن الجمهور لا ينافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 تفسيره بمجموع اللفظ والمعنى كما فسره هو ايضاً. وذلك في قوله على النفسي، وفي قول الجمهور على الحقيقى. ولا شك حينئذ أن مجموع النفسي ومعناه من حيث المجموع يصدق عليه أنه مدلول اللفظ الحقيقي وحده، لأن اللفظ الحقيقى لكونه صورة النفسي في مرتبة تنزله دال عليه، ويدل على أن المراد المجموع قول إمام الحرمين في الإرشاد: ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس وهو القول، اى المقول الذى يدور في الخلد، وهو اللفظ النفسي الدال على معناه بلا انفكاك. نعم، عبارة صاحب المواقف غير واضحة في المقصود، وله مقاله مفردة في ذلك، ومحصولها كما قال السيد قدس سره: أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ. وأخرى على الأمر القائم بالغير. فالشيخ لما قال: الكلام النفسي هو المعنى النفسي، فهم الأصحاب منه أن مرداده مدلول اللفظ وحده، وهو القديم عنده. وأما العبارات فإنها تسمى كلاماً مجازاً لدلالتها على ما هو كلام حقيقي، حتى صرحوا بأن الألفاظ خاصة حادثة على مذهبه أيضاً، لكنها ليست كلامه حقيقة. وهذا الذى فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة، كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتى المصحف مع انه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله حقيقة، وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي، وكعدم كون المقروء والمحفوظ حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية. فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني، فيكون الكلام النفسي عنده أمراً شاملاً للفظ والمعنى جميعاً قائماً بذات الله تعالى، وهو مكتوب في المصاحف، مقروء بالألسن، محفوظ في الصدور، وهو غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة. وما يقال من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة فجوابه. ان ذلك الترتيب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة فالتلفظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعاً بين الأدلة. وهذا الرأى ذكرناه وإن كان مخالفاً لما عليه متأخروا اصحابنا إلا أنه بعد التأمل يعرف حقيقته. أهـ. واعترضه الدواني بوجوه قال: أما أولاً - فلأن مذهب الشيخ إن كلامه تعالى واحد وليس بامر ولا نهي ولا خبر، وإنما يصير أحد هذه الأمور بحسب التعلق. وهذه الأوصاف ما تنطبق على الكلام اللفظي، وإنما يصح تطبيقه على المعني المقابل للفظ بضرب من التكلف. واما ثانياً - فلآن كون الحروف والألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتب يفضى إلى كون الأصوات مع كونها أعراضاً سيالة موجودة بوجود لا تكون فيه سيالة، وهو سفسطة من قبيل أن يقال: الحركة توجد في بعض الموضوعات من غير ترتب وتعاقب بين أجزائها. وأما ثالثاً - فلأنه يؤدي إلى أن يكون الفرق بين ما يقوم بالقارئ من الألفاظ، وبين ما يقوم بذاته تعالى اجتماع الأجزاء وعدم اجتماعها بسبب قصور الآلة. فنقول: هذا الفرق إ أوجب اختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته من جنس الألفاظ، وغن لم يوجب وكان ما يقوم بالقارئ وما يقوم بذاته تعالى بسبب حقيقة واحدة، والتفاوت بينهما وإنما يكون باجتماعه وعدمه اللذين هما من عوارض الحقيقة الواحدة كان بعض صفاته الحقيقة مجانساً لصفات المخلوقات. وأما رابعاً - فلأن لزوم ما ذكره من المفاسد وهم، فإن تكفير من أنكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى إنما هو إذا اعتقد أنه ليس كلام الله بمعنى أنه ليس بالحقيقة صفة قائمة بذاته بل هو دال على الصفة القائمة بذاته، ولا يجوز تكفيره اصلاً، وهو مذهب أكثر الأشاعرة ما خلا المصنف وموافقيه. وما علم من الدين من كون ما بين الدفتين كلام الله حقيقة، وإنما هو بمعنى كونه دالاً على ما هو كلام الله تعالى حقيقة لا على أنه صفة قائمة بذاته تعالى، وكيق يدعى أنه من ضروريات الدين مع أنه خلاف ما نقله عن الأصحاب؟ وكيف بزعم أن هذا الجم الغفير من الأشاعرة أنكروا ما هو من ضروريات الدين حتى يلزم تكفيرهم! حاشاهم عن ذلك! . واما خامساً - فلأن الأدلة على النسخ لا يمكن حملها على التلفظ بل ترجع إلى الملفوظ، كيف وبعضها مما لا يتعلق بالتلفظ به كما نسخ حكمه وبقى تلاوته! . أهـ. والجواب أما عن الأول - فهو أن الحق عز أسمه له كلام بمعنى التكلم، وكلام بمعنى المتكلم له، وما هو أمر واحد المعنى الأول، وهو صفة واحدة تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به من الكتب والكلمات وانها ليست من جنس الحروف والألفاظ لا الحقيقة ولا الحكمية، وما ذكر في الأعتراض ينطبق عليه بلا كلفة. والدليل على أن المنعوت بهذه الأوصاف عند الشيخ هو المعنى الأول نقل الإمام أن الكلام الأزلي لم يزل متصفاً بكونه أمراً نهياً خبراً. ولا شك أن هذه أقسام المتكلم به، وكل ما كان قائلاً بانقسام الثاني كان المنعوت بالوحدة ذاتاً، والتعدد تعلقاً، المعنى الأول عنده جمعاً بين الكلامين. واما عن الثاني - فهو أن ذلك إنما يلزم إذا أريد من اللفظ الحقيقي وأما إذا أريد النفسي الحكمي فلا ورود، لأن الألفاظ النفسية كلها مجتمعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الأجزاء في الوجود العلمي مع كونها مرتبة كما ذكره هو نفسه. وكلام صاحب المواقف محتمل للتأويل كما تقدم، فليحمل عليه سعياً بالإصلاح مهما أمكن. وأما الثالث - فهو أن الإيراد مبني على ظن أن المراد باللفظ الحقيقي مع أنه محتمل لأن يراد النفسي كما يقتضيه ظاهر تشبيه بالقائم بنفس الحافظ. واما الرابع - فهو أن الكلام النفسي عند اهل الحق هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى، ولكن ظاهر كلام صاحب المواقف يدل على أنه فهم من ظاهر كلام بعض الأصحاب أن مرادهم بالمعنى هو المقابل للفظ مجرداً عن اللفظ مطلقاً، ودق سمعهم يقولون: إن الكلام اللفظي ليس كلامه تعالى حقيقة بل مجازاً، فإذا أنضم قولهم بنفي كونه حقيقة شرعية إلى أقوالهم في ظنه أن النفسي هو المعنى المقابل للفظ، لزم من هذا ما هو في معنى القول بكون اللفظي من مخترعات البشر، ولا يخفى استلزامه للمفاسد، ولكن لم يريدوا بالمجاز الشرعي، فإن إطلاق كلام الله تعالى المسموع متواتراً فلا يتأتى نفيه لأحد. بل المراد أن الكلام إنما يتبادر منه ما هو وصف للمتكلم وقائم به يقتضيه حقيقة الكلام، وذات المتكلم في الحق والخلق على الوجه اللائق بكل. وأما ما يتلى فهو حروف عارضة للصوت الحادث، ولا شك أنه ليس قائماً بذاته تعالى من حيث هو هو، بل هو صورة من صور كلامه القديم القائم به تعالى، ومظهر من مظاهر تنزلاته، فهو دال على الحقيقى القائم فسمى كلاماً حقيقة شرعية لذلك. وفيه إطلاق لاسم الحقيقة على الصورة فيكون مجازاً من هذا الوجه، وإلى هذا يشير كلام التفتارانى فلا يلزم شئ من المفاسد، واعتراض صاحب المواقف مبني على ظنه. واما الخامس - فهو أن كلام صاحب المواقف ليس نصاً في أن الضمير راجع إلى التلفظ، بل يحتمل أن يكون راجعاً إلىلا الملفوظ، وذلك أنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 المعنى الذى في النفس لا ترتب فيه، كما هو قائم بنفس الحافظ ولا ترتب فيه، وقد مر أن المراد به مجموع اللفظ والمعنى، كما يقتضيه ظاهر التشبيه بالقائم بنفس الحافظ، ولا شك أنه لا ترتب فيه، أى لا تعاقب فيه في الوجود العلمي، وحينئذ فقوله نعم الترتب إنما يحصل في التلفظ، معناه أن الترتب في المعنى النفسي الذى هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى إنما يحصل في التلفظ الخارجي لضرورة عدم مساعدة الآلة. فقوله: وهو الذى هو حادث، أى الملفوظ بالتلفظ الخارجي الذى هو الصورة حادث، لا اللفظ النفسي، وتحمل الأدلة التى تدل على الحدوث وعلى حدوثه، أى الملفوظ بالتلفظ الخارجي وعلى هذا لا ورود للاعتراض أصلاً. ومنهم من أعترض ايضاً بانهم اشترطوا في المعجزة أن تكون فعل الله تعالى، أو ما يقوم مقامه، كالنزول، فلا يكون القرآن اللفظي الذى هو معجزة قديماً صفة له تعالى. ولا يخفى أن المعجزة هو القرآن في مرتبة تنزله إلى الألفاظ الحقيقية العربية. فكونه لفظاً حقيقياً عربياً مجعول بالنص فيكون معجزة بلا شبهة، والقديم على ما حقق هو القرآن اللفظي النفسي الذى هو مجموع اللفظ النفسي والمعني. وهذا واضح لمن ساعدته العناية. وقد شنع على الشيخ الأشعري في هذا المقام أقوام تشابهت قلوبهم واتحدت أغراضهم، واختلفت أساليبهم. وها أنا بحوله تعالى راد لاعتراضاتهم بعد نقلها، غير هياب ولا وكل، وإن اتسع علم أهلها. فالبعوضة قد تدمى مقلة الأسد، وفضل الله تعالى ليس مقصوراً على أحد. (فأقول) : قال تلميذ مولانا الدواني عفيف الدين الإيجى ما حاصله: إن هذا الذى تدعيه الأشاعرة من أن للكلام معنى آخر يسمى النفسي باطل، فإنا إذا قلنا: زيد قائماً، فهناك أربعة اشياء: الأول - العبارة الصادر عنه. والثاني - مدلول هذه العبارة، وما وضع له هذه الألفاظ من المعاني المقصودة بها. الثالث - علمه - علمه تلك النسبة وانتفائها. الرابع - ثبوت تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 النسبة وانتفاؤها في الواقع، والأخيران ليسا كلاماً اتفاقاً، والأول يمكن أن يكون كلام الله حقيقة على مذهبهم، فبقى الثاني، وكذا تقول في الأمر والنهي ههنا ثلاثة أمور: الأول - الإرادة والكراهة الحقيقية. الثاني - اللفظ الصادر عنه. الثالث - مفهوم لفظه ومعناه. والأول ليس كلاماً اتفاقاً. والثاني كذلك على مذهبهم، فبقى الثالث وبه صرح أكثر محققيهم. وكونه كلاماً نفسياً ثابتاً لله - تعالى شأنه - محكوماً عليه بأحكام مختلفة باطل من وجوه: الأول - أنه مخالف للعرف واللغة، فإن الكلام فيها ليس إلا المراكب من الحروف. الثاني - أنه لا يوافق الشرع، إذ قد ورد فيما لا يحصى كتاباً وسنة أن الله تعالى ينادى عباده، ولا ريب أن النداء لا يكون إلا بصوت، بل قد صرح به في الأخبار الصحيحة، وباب المجاز وغن لم يغلق بعد إلا أن حمل ما يزيد على نحو مائة ألف من الصرائح على خلاف معناها مما لا يقبله العقل السليم. الثالث - أن ما قالوه من كون هذا المعنى النفسي واحداً يخالف العقل، فإنه لا شك أن مدلول اللفظ في الأمر يخالف مدلوله في النهي، ومدلول الإنشاء، بل مدلول أمر مخصوص غير مدلول أمر أخر، وكذا في الخبر. ولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن وسائر الكتب السماوية، فيلزم أن يكون كل واحد مشتملاً على ما أشتمل عليه الآخر، وليس كذلك، وكيف يكون معنى واحداً خبراً وإنشاء محتملاً للتصديق والتكذيب، وغير محتمل، وهو جمع بين النفي والإثبات. أهـ. ولا يخفى أن مبنى جميع أعتراضاته على فهمه أن مرادهم بالمعنى النفسي هو مدلول اللفظ وحده، أى المعنى المجرد عن مقارنة اللفظي مطلقاً ولو حكمياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وقد عرفت أنه ليس كذلك، بل المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهو الذى يدور في الخلد، وتدل عليه العبارات، كما صرح به إمام الحرمين، وعليه إذا قال القائل: زيد قائم، فهناك أربعة أشياء كما ذكر المعترض وشئ خامس تركه وهو المراد، وهي هذه الجملة بشرط وجودها في الذهن بألفاظ مخيلة ذهنية على معانيها في النفس، وهذا يعنونه بالكلام النفسي فلا محذور. (ونقول) على سبيل التفصيل: أما الأول - فجوابه إنه إنما تتم المخالفة إذا لم يكن عندهم مجموع اللفظ والمعنى، فحيث كان لا مخالفة لأن الكلام حينئذ مركب من الحروف إلا أنها نفسية غيبية في الحق، خيالية في الخلق. وأما الثاني فجوابه أن هذا الذى لا يحصى ليس فيه سوى أن الحق سبحانه وتعالى متكلم بكلام حروفه عارضة للصوت، إلا أنه لا يتكلم إلا به، فلا ينتهض ما ذكر حجة على الشيخ، بل إذا أمعنت النظر رأيت حجة له، حيث بين أن الله تعالى لا يتكلم بالوحي لفظاً حقيقياص إلا على طبق ما في علمه، وكل ما كان كذلك كان الكلام اللفظي صورة من صور الكلام النفسي، ودليلاً من أدلة ثبوتها. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. وأما الثالث - فجوابه أن المنعوت بانه واحد بالذات تتعدد تعلقاته هو الكلام بمعنى صفة المتكلم ووحدته مما لاشك لعاقل فيها. وأما الكلام النفسي بمعنى المتكلم به فليس عنده واحداً، بل نص في الإبانة على أنقسامه إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل، فلا اعتراض. وقال النجم سليمان الطوفي: إنما كان الكلام حقيقة في العبارة مجازاً في مدلولها لوجهين: أحدهما: أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هوالعبارة والمبادرة دليل الحقيقة. الثاني - أن الكلام مشتق من الكلم، لتأثيره في نفس السامع، والمؤثر إنما هو العبارات لا المعاني النفسية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 بالفعل نعم، وهي مؤثرة للفائدة بالقوة، والعبارة مؤثرة بالفعل، فكانت أول بان تكون حقيقية، وأخرى مجازاً. وقال المخالفون: أستعمل لغة في النفسي والعبارة. قلنا: نعم، لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه، والمجاز فيما ذكرتموه، والأول ممنوع، قالوا: الأصل في الإطلاق الحقيقة. قلنا: والأصل عدم الإشتراك. ثم إن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات، والكثرة دليل الحقيقة. وأما قوله تعالى: {يقولون في أنفسهم} [المجادلة 8] فمجاز دل على المعنى النفسي بقرينة ((في أنفسهم)) ولو أطلق لما فهم إلا بالعبارة. وأما قوله تعالى: {واسروا قولكم} [الملك 13] الآية - فلا حجة فيه، لأن الإسرار خلاف الجهر، وكلاهما عبارة عن ان يكون أرفع صوتاً من الآخر، وأما بيت الأخطل وهو: إن الكلام لفى الفؤاد وإنما ... إلخ فالمشهور: إن البيان. وبتقدير أن يكون الكلام فهو مجاز عن مادته وهو في التصورات المصححة له، إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاماً. ثم هو مبالغة من هذا الشاعر بترجيح الفؤاد على اللسان. أنتهى. وفيه ما لا يخفى. واما أولاً - فلأن ما أدعاه من التبادر إنما هو لكثرة استعماله في اللفظي لمسيس الحاجة إليه، لا لكونه الموضوع له خاصة بدليل استعماله لغة وعرفاً في النفسي، والأصل في الإطلاق الحقيقة. وقوله: ((والأصل عدم الإشتراك)) قلنا: نعم، وإن أردت به الإشتراك اللفظي ونحن لا ندعيه وإنما ندعى الاشتراك المعنوي، وذلك أن الكلام في اللغة بنقل النحويين: ما يتكلم به قليلاً كان أو كثيراً، حقيقة أو حكماً. وأما الثانية - فلأن ما أدعاه من ان المؤثر في نفس المسامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية، الأمر فيه بالعكس بدليل أن الإنسان إذا سمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 كلاماً لا يفهم معناه لا تؤثر ألفاظه في نفسه شيئاً. وقد يتذكر الإنسان في حالة سروره كلاماً يحزنه، وفي حالة حزنه كلاماً يسره فيتأثر بهما، ولا صوت ولا حرف هناك، وإنما هي حروف وكلمات مخيلية نفسية، وهو الذى عناه الشيخ بالكلام النفسي. وعلى هذا فالسمع في قولهم لتأثيره في نفس السامع ليس بقيد واللتأثير في النفس مطلقاً معتبر في وجه التسمية. وأما ثالثاً - فلأن ما قاله في قوله تعالى {يقولون في أنفسهم} من أنه مجاز على المعنى النفسي فيه بقرينه ((في أنفسهم)) ولو أطلق لما فهم إلا العبارة يرده قوله تعالى: {يقولون بأفواههم - وفي ىية - بالسنتهم ما ليس في قلوبهم} إذا لو كان مجرد ذكر ((في انفسهم)) قرينة على كون القول مجازاً في النفسي لكان ذكر ((بأفواههم)) و ((ألسنتهم)) قرينة على كونه مجازاً في العبارة واللازم باطل فكذا الملزوم. نعم، والتقييد على دليل على ان القول مشترك معنى بين النفسي واللفظي وعين بن المراد من فردية فهو لنا لا علينا. واما رابعاً - فلأن ما ذكرناه في قوله تعالى: {وأسروا} الآية تحكم بحت لأن السر كما قال الزمخشري: ما حدث به الرجل نفسه أو غيره من مكان خال ويساعده الكتاب والآثر واللغة، كما لا يخفى على المتتبع. وأما خامساً: فلأن ما ذكره في بيت الأخطل خطل من وجوه: أما أولاً فعلى تقدير أن يكون المشهور ((البيان)) بدل ((الكلام)) يكفينا في البيان لأنه اسم مصدر بمعنى ما يبين به، أو مصدر بمعنى التبيين. وعلى الأول هو بمعنى الكلام ولا فرق بينهما إلا في اللفظ. وعلى الثاني هو مستلزم للكلام النفسي بمعنى المتكلم به، عن كان المراد التبيين القلبي، اعنى ترتيب القلب للكلمات الذهنية على وجه إذا عبر عنها باللسان فهم غيره ما قصده منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 واما ثانياً - فلأن قوله ((وبتقدير)) ان يكون)) إلخ إقرار بالكلام النفسي من غير شعور. واما ثالثاً - فلأن دعوى المجاز تحكم مع كون الأصل في الأطلاق الحقيقة. واما رابعاً - فلأن دعوى أن ذلك مبالغة من هذا الشاعر خلاف الواقع بل هو تحقيق من غير المبالغة كما يفهم مما سلف، فما ذكره هذا الشاعر كلمة حكمة سواء نطق بها على بينة من الأمر أو كانت منه رمية من غير رام، فإن معناه موجود في حديث أبي سعيد ((العينان دليلان، والأذنان قمعان والسان ترجمان - إلى أن قال - والقلب ملك فإذا صلح)) الحديث. وفي حديث أبي هريرة ((القلب ملك وله جنود - إلى ان قال - واللسان ترجمان)) الحديث. فما قيل: إن هذا الشاعر نصراني عدو الله ورسوله؟ أفيجيب أطراح كلام الله ورسوله تصحيحاً لكلامه، أو حمله على المجاز صيانة لكلمة هذا الشاعر عنه. وايضاً يحتاجون إلى أثبات هذا الشعر والشهرة غير كافية، فقد فتش ابن الخشاب دواوين الأخطل العتيقة فلم يجد فيها البيت. أنتهى - كلام أوهن وأوهى من بيت العنكبوت، وأنه لأوهن البيوت. أما أولاً - فلأن كلام هذا العدو موافق لكلام الحبيب حتى لكلام المنكرين للكلام النفسي حيث اعترفوا به في عين إنكارهم. وأما ثانياً - فلأنا أغناها الله تعالى ورسوله من فضله عن إثبات هذا الشعر. واما ثالثاً - فلأن عدم وجدان ابن الخشاب لا يدل على انتفائه بالكلية كما لا يخفى. والحاصل. ان الناس أكثروا القال والقيل، في حق هذا الشيخ الجليل، وكل ذلك من باب [وافر] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفم السقيم نعم، البحث دقيق، ولا يرشد إليه إلا توفيق، كم أسهر اناساً، وأطثر وسواساً، أثار فتنة، وأورث محنة، وسجن أقواماً واضر إماماً: [وافر] مرام شط العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد ولكن بفضل الله تعالى قد أتينا فيه بلب اللباب، وخلاصة ما ذكره والأصحاب، وقد اندفع به كثير مما أشكل على الأقوام، وخفى على أفهام ذوى الأفهام، ولا حاجة معه إلى ما قاله المولى المرحوم غني زاده في التخلص عن هاتيك الشبه ما نصه: ثك اعلم أنى ما حررت البحث بعثني فرط الإنصاف، إلى أنه لا ينبغي لذى الفطرة السليمة أن يدعى قدم اللفظ لاحتياجه إلى هذه التطليفات، وكذا كون الكلام عبارة عن المعنى القديم لركاكة توصيف الذات به، وكيف ومعنى قصة نوح مثلاً ليس بشئ يمكن أتصاف الذات به إلا بتحمل بعيد. فالحق الذى لا محيد عنه هو ان المعاني كلها موجودة في العلم الأزلي بوجود علمي قديم، لكن لما كان في ماهية بعضها داعية البروز في الخارج بوجود لفظي حادث حسمياً يستدعيه حدوث الحوادث فيما لا يزال أقتضى الذات أقتضاؤ أزلياص إبراز ذلك البعض في الخارج بذلك الوجود الحادث فيما لا يزال. فهذا الاقتضاء صفة قديمة للذات هو بها في الأزل مسماه يكون فيما لا يزال، والمغايرة بينه وبين صفة العلم ظاهرة، وهذا هو غاية الغاية الغاايات في هذا الباب. والحمد لله على ما خصني بفهمه من بين أرباب الألباب. أهـ. وفيه أن غاية الغايات في الجسارة على باب الأرباب، وإحداث صفة قديمة ما انزل الله بها من كتاب إذ لم يردفي كتاب الله ولا في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا روى عن صحابي ولا تابعي تسمية ذلك الإقتضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 كلاماً، بل لا يقتضيه عقل ولا نقل، على انه لا يحتاج إليه، عند من أخذت العناية بيديه. هذا، وإذا سمعت ما تلوناه، ووعيت ما حققناه فاسمع الآن تحقيق الحق، في كيفية سماع موسى - عليه السلام - كلام الحق. فأقول: الذي أنتهى إليه كلام ائمة الدين، كالماتريدي والأشعري وغيرها من المحققين: أن موسى - عليه السلام - سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كم تدل عليه النصوص التى بلغت في الكثرة مبلغاً لا ينبغي معه تأويل، ,لا يناسب في مقابلته قال وقيل، بل قد ورد إثبات الصوت لله تعالى شأنه في أحدايث لا تحصى، واخبار لا تستقصى. وروى البخاري في الصحيح: ((يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان)) . ومن علم أن الله الحكيم أن يتجلى بما شاء وكيف شاء، وانه منزه في تجليه، قريب في تعاليه، لا تقيده المظاهر عند أرباب الأذواق، إنه لخ الإطلاق الحقيقي حتى عن قيد الإطلاق، زالت عنه إشكالات، واتضحت لديه متشابهات، ومما يدل على ثبوت التجلى في المظهر لله تعالى قول ابن عباس، ترجمان القرآن في قوله تعالى: {أن بورك من النار} [النمل 8] كما الدر المنثور. يعني تبارك وتعالى نفسه، كان نور رب العالمين في الشجرة. وفي رواية عنه ((كان الله في النور ونودي من النور)) وفي صحيح مسلم: ((حجابه النور)) وفي رواية له ((حجابه النار)) ودفع الله تعالى توهم التقييد بما ينافي التنزيه بقوله: {وسبحان الله} أي عن التقييد بالصورة والمكان والجهة وإن نادى، لأنه لكونه موصوفاً بصفة رب العالمين فلا يكون ظهوره المتجلي {أنا الله العزيز} فلا أتقيد لعزتى ولكني {الحكيم} فاقتضت حكمتى الظهور والتجلي في صورة مطلوبك. فالمسموع على هذا حرف وصوت سمعهما موسى من الله تعالى المتجلي بنوره في مظهر النار لما اقتضاه الحكمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 فهو - عليه السلام - كليم الله بلا واسطة لكن من وراء حجاب مظهر النار، وهو عين تجلى الحق تعالى له. اما ما شاع عن الأشعري من القول بسماع النفسي القائم بذاته تعالى فهو من باب التجويز والإمكان، لا أن موسى - عليه السلام - سمع ذلك بالفعل، إذ هو خلاف البرهان. ومما يدل على جواز سماع الكلام النفسي بطريق خرق العادة قوله تعالى في الحديث القدسي: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به)) الحديث ومن الواضح أن الله تعالى إذا كان بتجليه النوري المتعلق بالحروف غيبية كانت أو خيالية أو حسية - سمع العبد على الوجه اللائق الجامع أ ((ليس كمثله شئ)) عند من يتحقق معنى الإطلاق الحقيقي، صح أن يتعلق سمع العبد بكلام ليس حروفه عارضة لصوت، لأنه بالله يسمع إذ ذاك، واله سبحانه يسمع السر والنجوى. والإمام الماتريدي أيضاً يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كلام التوحيد، فما نقله ابن الهمام عنه من القول بالاستحالة العادية فلا خلاف بين الشيخين عند التحقيق. ومعنى قول الأشعري: إن كلام الله تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تالٍ وقراءة كل قارئٍ - أن المسموع أولاً وبالذات عند التلاوة إنما هو الكلام اللفظي الذى حروفه عارضة لصوت القارئ بلا شك، لكن الكلمات اللفظية صور الكلمات الغيبية القائمة بذات الحق، فالكلام النفسي مسموع بعين سماع الكلام اللفظي، لأنه صورته لا من حيث الكلمات الغيبية فإنها لا تسمع إلا على طريق خرق العادة. وقول الباقلاني: إنما نسمع التلاوة، دون المتلو، والقراءة دون المقروء يمكن حمله على انه أراد إنما يسمع أولاً وبالذات التلاوة، أى المتلو اللفظي الذى حروفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 عارضة لصوت التالي، لا النفسي الذى حروفه غيبية مجردة عن المواد الحسية والخيالية، فلا نزاع في التحقيق أيضاً. والفرق بين سماع موسى - عليه السلام - سمع من اله عز وجل بلا واسطة لكن من وراء حجاب، ونحن إنما نسمعه من العبد التالي بعين سماع الكلام اللفظي المتلو بلسانه العارض من حروفه لصوته، لا من الله تعالى المتجلى من وراء حجاب العبد فلا يكون سماعاً من الله بلا واسطة. وهذا واضح عند من له قدم راسخةفي العرفان، وظاهر عند من قال بالمظاهر من تنزيه الملك الديان. وأنت إذا أمعنت النظر في قول أهل السنة: القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق وهو مقروء بالسنتنا مسموع بآذاننا، محفوظ في صدورنا، مكتوب في مصاحفنا غير حال في شئ منها رايته قولاً بالمظاهر، ودلا على أن تنزل القرآن القديم القائم بذاته تعالى فيها غير قادح في قدمه، لكونه غير حال في شئ منها مع كون كل منها قرآناً حقيقة شرعية بلا شبهه. وهذا عين الدليل على ان تجلي القديم في مظهر حادث لا ينافي قدمه وتنزيهه، وليس من باب الحلول والتجسيم، ولا قيام الحوادث بالقديم، ولا ما يشاكل ذلك من شبهات تعرض لمن لا رسوخ له في هاتيك المسالك، ومنه يظهر معنى القرآن في صورة الرجل الصاحب يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر، وظهوره خصماً لمن حمله، فخالف أمره، وخصماً دون من حمله فحفظ الأمر، بل من احاط خبراً بأطراف ما ذكرناه، وطاف فكره المتجرد عن مخيط الهوى في كعبة حرم ما حققناه - أندفع عنه كل غشكال في هذا الباب. وحيث تحرر الكلام في الكلام على مذهب أهل السنة، واندفع عنه بفضل الله تعالى كل محنة، فلا باس بأن نحكى بعض الأقوال (فنقول) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أما المعتزلة فاتفقوا كافة على أن معنى كونه تعالى متكلماً: أنه خالق الكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية، كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية. وأتفقوا أيضاً على أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات، وأنه محدث مخلوق. ثم أختلفوا فذهب الجبائي وابنه أبو هاشم إلى انه حادث في محل. ثم زعم الجبائي أن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قارئ كلاماً لنفسه في محل القراءة، وخالفه الباقون. وذهب أبو الهذيل بن العلاف واصحابه إلى أن بعضه في محل وهو قوله {كن} وبعضه لا في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار. وذهب الحسن بن محمد النجار إلى أن كلام البارى إذا قرئ فهو عرض، وإذا كتب فهو جسم. وذهبت الإمامية والخوارج والحشوية إلى أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات. ثم اختلف هؤلاء فذهب الحشوية إلى انه قديم أزلي قائم بذات الرب تعالى، لكن منهم من زعم أنه من جنس كلام البشر. وبعضهم قال لا، بل الحروف حرفان، والصوت صوتان: قديم وحادث والقديم منهما ليس من جنس الحادث. وأما الكرامية فقالوا: إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم، وقد يطلق على الأقوال والعبارات، وعلى كلا التقديرين فهو قائم بذات الله تعالى، لكن إن كان بالاعتبار الأول فهو قديم متحد لآكثر فيه، وغن كان بالاعتبار الثاني فهو حادث متكثر. واما الواقفية فقد أجتمعوا على أن كلام الرب تعالى كان بعد أن لم يكن لكن منهم م توقف في إطلاق اسم القديم والمخلوق عليه. ومنهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق وأطلق وأطلق أسم الحادث. ومن القائلين بالحدوث من قال ليس جوهراً ولا عرضاً. وذهب بعض المعترفين بالصانع إلى أنه لا يوصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بكونه متكلماً لا بكلام ولا بغير كلام. والذى أوقع الناس في حيص وبيص أنهم رأوا قياسين متعارضي النتيجة، وهما كلام الله تعالى صفة له، وكل ما هو صفة له فهو قديم، فكلام الله قديم، وكلام الله تعالى مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما هو كذلك فهو حادث، فكلام الله تعالى حادث فقوم ذهبوا: إلى أن كلامه تعالى حروف وأصوات وهي قديمة، ومنعوا ان كل ما هو مؤلف من حروف واصوات فهو حادث، ونسب إليهم اشياء برآء منها وآخرون قالوا بحدوثه، وأنه مؤلف من اصوات وحروف، وهو قائم بغيره، ومعنى كونه متكلماً عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في جسم، كاللوح أو ملك كجبريل، أو غير ذلك. فهم منعوا أن المؤلف من الحروف والأصوات صفة الله تعالى. وأناس لما رأوا مخالفته الأولين للضرورة الظاهرة التى هي اشنع من مخالفة الدليل، أو مخالفة الآخرين فيما ذهبوا إليه للعرف واللغة ذهبوا إلى ان كلامه صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى. فهم منعوا أن كل ما هو صفة له تعالى فهو قديم. وجمع قالوا: كلامه تعالى معنى واحد بسيط قائم بذاته تعالى قديم، فهم منعوا أن كلامه تعالى مؤلف من الحروف والأصوات، وكثر في حقهم القال والقيل، والنزاع الطويل. وبعضهم تحير فوقف، وحبس ذهنه في مسجد الدهشة واتعكف. وعندي القياسان صحيحان والنتيجتان صادقتان، ((ولكل مقام مقال)) ، ((ولكل كلام أحوال)) ولا أظنك تحوجني إلى التفصيل بعد ما وعاه فكرك الجميل، بل ولا تكلفني رد هذه الأقوال اشنيعة التى هي لديك إذا أخذت العناية بيديك كسراب بقيمة، فليطر شحرور القلم إلى روضة أخرى، وليغرد بفائدة لعلها أولى من افطالة وأحرى. والله تعالى الموفق - انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 [فتوى لابن تيميه عن كلام الله] ولنذكر من كلام الشيخ ابن تيميه - أعلى الله تعالى درجته - في ذلك، حتى يتبين لك أنه سلك من المذاهب الأحمد معروف المسالك، فقد قال في فتاويه ما نصه: وسئل عن رجلين تنازعاً، فقال أحدهما: القرآن حرف وصوت. وقال الآخر: ليس هو بحرف ولا صوت. وقال أحدهما: النقط التى في المصحف والشكل من القرآن. وقال الآخر ليس ذلك من القرآن. فما الصواب من ذلك حتى نعتقده. فأجاب: الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس. ويخلطون فيها الحق بالباطل، فالذى قال: إن القرآن حرف وصوت. إن أراد بذلك أن هذه القرآن الذى يقرؤه المسلمون هو كلام الله عز وجل، الذى نزل به الروح الأمين، على سيدنا محمد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، وان جبريل سمعه من الله تبارك وتعالى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبريل، والمسلمون سمعوه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك} [النحل 102] وقال تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} [الأنعام 114] فقد أصاب في ذلك. فإن هذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع. ومن قال: إن القرآن العربي لم يتكلم الله تعالى به، وإنما هو كلام جبريل - عليه السلام - أو غيره، عبر به عن المعنى القائم بذات الله تعالى، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقها. فهو قول باطل من وجوه كثيرة. فإن هؤلاء يقولون: إنه معنى واحد قائم بالذات، وغن معنى التوراة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 والإنجيل والقرآن واحد، لأنه لا يتعدد ولا يتبعض، وإنه إن عبر عنه بالعربي كان قرآناً، وبالعبرية كان توراة، وبالسريانية كان إنجيلاً، فيجعلون آية الكرسي، وآية الدين، وقل هو الله أحد، وتبت يدا أبي لهب، والتوراة والإنجيل، وغيرها معنى واحداً. وهذا قول فاسد بالعقل والشرع وهو قول أحدثه ابن كلاب لم يسبقه إليه أحد من السلف. وغن أراد القائل بالحرف والصوت أن الأصوات المسموعة من القراء والمداد الذى في المصاحف قديم أزلي فقد اخطأ في ذلك وابتدع، وقال ما يخالف العقل والشرع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((زينوا القرآن باصواتكم)) فبين أن الصوت صوت القارئ، والكلام كلام الله تعالى، كما قاله سبحانه: {وإن أحد من المشركين استجارك فأحره حتى يسمع كلام الله} [التوبة 6] فالقرآن الذى يقرؤه المسلمون كلام الله تعالى لا كلام غيره، كما ذكر الله تعالى ذلك. وفي السنن عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول: ((ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشاًَ قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)) وقالوا لأبي بكر الديق - رضي الله عنه - لما قرا عليهم: {آلم غلبت الروم} [الروم 2] هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله تعالى. والناس إذا بلغوا كلام النبي كقوله: ((إنما الأعمال بالنيات)) يعلمون أن الحديث الذى يسمعونه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه، والمحدث بلغة عنه بصوت النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالقرآن أولى أن يكون كلام الله تعالى إذا بلغته الرسل عنه، وقرأته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الناس بأصواتهم، والله عز وجل تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وصوت العبد ليس هو صوت الرب، ولا مثل صوته، فإن الله ليس كمثله شئ، لا في ذاته ولا في أفعاله. وقد نص أئمة المسلمين على ما نطق به الكتاب والسنة من أن الله تبارك وتعال ينادي بصوت،وان القرآن كلامه تكلم به بحروفه ليس منه شئ كلاماً لغيره، لا جبريل ولا غيره، وان العباد يقولونه باصوات أنفسهم وافعالهم، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ، والكلام كلام البارى تبارك وتعالى. وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب، بل يجعل هذا هو هذا، فينتفيهما جميعاً أو يثبتهما جميعاً. فإذا نفى الحرف والصوت نفى ان يكون صوت العبد صفة لله تعالى، ثم جعل كلام الله تعالى الفرق دون ذاك النفي الذى فيه نوع من الإلحاد والتعطيل، حيث جعل الكلام المتنوع شيئاً واحداً لا حقيقة له عند التحقيق. وغذا اثبت جعل صوت الرب سبحانه هو صوت العبد أو سكت عن التمييز بينهما مع قوله إن الحروف متعاقبة في الوجود، مقترنة في الذات، قيمة أزلية الأعيان، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد أو تتحد بصفة، فقال بنوع في الحلول والاتحاد يفضى إلى نوع من التعطيل. وقد علم أن نفي الفرق والمباينة بين الخالق وصفاته، والمخلوق وصفاته خطأ وضلال، لم يذهب إليه احد من سلف الأمة وائمتها، بل هم متفقون على التمييز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 بين صوت الرب وصوت العبد، ومتفقون على أن الله تعالى تكلم بالقرآن الذى أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - حروفه ومعانيه، وأن ينادي عباده بصوته. ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد، وعلى أنه ليس شئ من أصوات العباد، ولا مداد المصاحف قديماً، بل القرآن مكتوب في مصاحق المسلمين، مقروء بالسنتهم، محفوظ بقلوبهم وهو كله كلام الله تعالى. والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط، لأنهم كانوا عرباً لا يلحنون. ثم لما حدث الحن نقط الناس المصاحف وشكلوها، فإن كتبت بلا شكل ولا تلفظ جاز، ولم يكره في أظهر قولى العلماء، وهو إحدى الروايتين عن احمد رحمه الله تعالى، وحكم النقط والشكل حكم الحروف، فإن الشكل يبين إعراب القرآن كما يبين النقط والحروف، والمداد الذى تكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط مخلوق، وكلام الله تعالى العربي الذى أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط وبغير شكل ونقط ليس بمخلوق. وحكم الإعراب حكم الحروف، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه، بل هو تابع للحروف المنطوقة. والشكل والنقط لا يستقل بنفسه، بل هو تابع للحروف المرسومه، فلهذا لا يحتاج إلى تجريدهما وإفرادهما بالكلام، بل القرآن الذى يقرؤه المسلمون هو كلام الله سبحانه معانيه وحروفه وإعرابه، والله تبارك وتعالى تكلم بالقرآن العربي الذى أنزله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والناس يقرءمنه بأفاعلهم وأصواتهم. والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله عز وجل، وهو القرآن العربي الذى انزله على نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، سواء كتب بشمل ونقط أو بغير شكل ونقط. والمداد الذى كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق. والقرآن الذى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 كتب في المصحف هو كلام اله تبارك وتعالى منزل غير مخلوق. والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين، لأن كلام الله تعالى مكتوب فيها، واحترام النقط والشكل إذا كتب المصحف منقوطاً كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين. ولهذا قال أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما: حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه. والله تعالى تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه فجميعه كلام الله تعالى. فلا يقال: بعضه كلام كلام الله تعالى، وبعضه ليس كلام الله عز وجل. وهو سبحانه نادى موسى - عليه السلام - بصوت سمعه موسى، فإنه سبحانه قد اخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن، كما قال تعالى: {هل أتلك حديث موسى. إذ ناداه ربه بالوادى المقدس طوى} [النازعات 16] والنداء لا يكون إلا صوتاً باتفاق أهل اللغة. وقد قال الله تعالى: {أنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده واوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وايوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً. ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً} [النساء 163، 164] ، فمن قال: إن موسى لم يسمع صوتاً بل ألهم معنى لم يفرق بين موسى وغيره. وقد قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} [البقرة 253] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وقال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل فيوحي بغذنه ما يشاء} [الشورى 51] ، فقد فرق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب كما كلم الله موسى، فمن سوى بين هذا وهذا كان ضالاً. وقد قال الإمام أحمد وغيره من الأئمة: لم يزل الله عز وجل متكلماً إذا شاء، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتكلم بشئ بعد شئ، كما قال تعالى {فلما أتاها نودي يا موسى} [طه 11] فناداه حين أتاها لم يناده قبل ذلك. وقال تعالى: {فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشحرة، وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} [طه 121] فهو سبحانه ناداهما حين أكلا منها لم ينادهما قبل ذلك. وكذلك قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الأعراف 11] بعد أن خلق آدم - عليه السلام - وصوره لم يأمره قبل ذلك. وكذا قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران 59] . فأخبر أنه قال له ((كن فيكون)) بعد أن خلقه من تراب. ومثل هذا في القرآن كثير، يخبر أنه تكلم في وقت معين، ونادى في وقت معين، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه لما خرج من باب الصفا قرأ قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة 158] . قال: ((نبدأ بما بدأ الله تعالى به)) فأخبر أن الله تعالى بدأ بالصفا قبل المروة. والسلف اتفقوا على أن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين. ثم قالت طائفة: وهو معني واحد، وهو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل منهي. والخبر بكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وإن عبر عنه بالعبيرية مان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً. وهذا قول مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفة: هو حروف وأصوات قديمة الأعيان، لازمة لذات الله تعالى لم تزل لازمة لذاته، وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معاً أزلاً وأبداً، لم يسبق منها شئ سيئاً. وهذا أيضاً مخالف للشرع والعقل. وقالت طائفتان: إن الله عز وجل لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وإنه في الأزل كان متكلماً بالنداء الذى سمعه موسى - عليه السلام -، وإنما تجدد استماع موسى لا أنه ناداه حين أتى الوادى المقدس، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى ولكن تلك الساعة سمع النداء. وهؤلاء وافقوا الذين قالوا: إن القرآن مخلوق في اصل قولهم: إن الرب سبحانه لا تقوم به الأمور الاختيارية، فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وقالوا هذه حوادث، والرب جل جلاله لا تقوم به الحوادث، فخالفوا صحيح المنقول، وصريح المعقول. واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم، واخطئوا في ذلك 0 فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا. وادعوا أن الرب سبحانه لم يكن قادراُ في الأزل على كلام يتكلم به ولا فعل يفعله، وانه صار قادراً بعد أن لم يكن قادراً بغير أمر حدث. أو يغيرون العبارة فيقولون: لم يزل قادراص، لكن يقولون: إن المقدور كان ممتنعاً، وأن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً عليه من غير تجدد شئ. وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا: كان قادراً في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال على ما يمكن في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يثبتونه قادراً في حال كون المقدور عليه ممتنعاً عندهم، لو يفرقوا بين نوع الكلام والفعل وبين عينه، كما لم يفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الفلاسفة بين هذا وهذا، بل المتفلسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه: فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول. فإن الأدلة لا تدل على قدم شئ بعينه من العالم، بل تدل على أن ما سوى الله تعالى مخلوق حادث بعد أن لم يكن، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته، كما تدل على ذلك الدلائل القطعية والفاعل بمشيئته لا يكون شئ من مفعوله لازماً لذاته بصريح العقل. واتفاق عامة العقلاء، بل وكل فاعل لا يكون شئ من مفعوله لازماً لذاته، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة فكيف بالفاعل بالإرادة؟ وما يذكر من أن المعلول يقارن علته إنما يصح فيما كان من العلل يجرى مجرى الشروط، فإن الشرط يجب أن يتقدم على المشروط بل يقارنه كما تقدم الحياة العلم، واما ماكان فاعلاً سواء علة أو لم يسم علة فلابد أن يتقدم على الفعل المعين، والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شئ من مفعولاته، ولا يعرف العقلاء عاقلاً قط يلتزمه مفعول معين، وقول القائل: حركت يدى فتحرك الخاتم، هو من باب المشروط لا من باب الفاعلين. ولأنه لو كان العالم قديماً لكان فاعله موجباً بذاته في الأزل ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه، ولو كان كذلك لم يحدث شئ من الحوادث. وهذا خلاف المشاهدة. وإن كان هو سبحانه لم يزل قادراً على الكلام والفعل، بل لم يزل متكلماً إذا شاء، وفاعلاً لما يشاء، ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال منعوتاً بنعوت الجلال والإكرام، والعالم فيه من الإحكام والاتقان مادل على علم الرب سبحانه، وفيه من الاختصاص مادل على مشيئته، وفيه من الإحسان مادل على علم الرب تعالى وفيه من الاختصاص مادل على مشيئته، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته، وفيه من الحوداث ما دل على قدرة الرب تعالى، مع أن الرب عز وجل مستحق لصفات الكمال لذاته، فإنه مستحق لكل كمال ممكن الوجود لا نقص فيه، منزه عن كل نقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وهو سبحانه ليس كفؤ في شئ من أمور، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفضيل، منزه فيها عن التشبييه والتمثيل، ومنزه عن النقائض مطلقاً، فإن وصفه بها من اعظم الأباطيل، وكماله من لوازم ذاته المقدسة لا يستفيده من غيره، هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء وما جعله فيهم من صفات الإحياء، وخالق صفات الكمال أحق بها ممن لا كفء له فيها. وأصل أضطراب الناس في مسألة الكلام - أن الجهمية والمعتزلة لما ناظرت الفلاسفة في مسالة حدوث العالم اعتقدوا ان ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثاً، بناء على أن مالا يتناهى لا يمكن وجوده، والتزموا أن الرب سبحانه كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام، بل كان ذلك ممتنعاً عليه، وكان معطلاً عن ذلك. وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادراً في الأزل على الفعل فيما لا يزال مع امتناع الفعل عليه في الأزل، فيجمعون بين النقيضين حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته، إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له اولاً، والأزل لا أول له، والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين. ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث وهو الفعل المعين وبين ما يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام، بل هذا يكون دائماً، وإن كان كل من آحاده حادثاً كما يكون دائماً في المستقبل، وإن كان كل آحاده فانياً بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائماً، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصريح النقل. لهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك، لم ينافه إلا شرذمة من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله الذين يزعمون أن الممكن المفعول قد يكون قديماً واجب الوجود بغيره، فخالفوا بذلك جماهير العقلاء، مع مخالفتهم أرسطو وأتباعه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك، وإن قالوا بقدم الإفلاك، وأرسطو أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين، بناء على إثبات علة غنائية لحركة الفلك بتحرك الفلك للتشبيه بها لم يثبتوا له فاعلاً مبدعاً، ولم يثبتوا ممكناً قديماً واجباً بغيره. وهم وغن كانوا أجهل بالله تبارك وتعالى وأكفر من متأخريهم، فهم يسلمون لجمهور العقلاء أن ما مكناً بذاته فلا يكون محدثاً مسبوقاً بالعدم. فاحتاجوا أن يقولوا: كلامه مخلوق منفصل عنه. وطائفة وافقتهم على امتناع وجود مالا نهاية له، لكن قالوا له: تقوم به الأمور الاختيارية فقالوا: إنه في الأزل لم يكن متكلماً، بل ولا كان الكلام مقدوراً له، ثم صار متكلماً بلا حدوث حادث بكلام بقوم به، وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم. وطائفة قالت: إذا قال القرآن غير مخلوق فلا يكون إلا قديم العين لازماً لذات الرب سبحانه، فلا يتكلم بمشيئته وقدرته. ثم منهم من قال: هو معني واحد قديم، فجعل ىية الكرسي، وآية الدين، وسائر أيات القرآن والتوراة والأنجيل، وكل كلام يتكلم الله به - معنى واحداً لا يتعدد ولا يتبغض. ومنهم من قال: إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات. وهؤلاء أيضاً وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم: إنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه وبمشيئته قدرته، وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية. وقالوا إنه لم يستوا على عرشه بعد ان خلق السماوات والأرض، ولا ياتى يوم القيامة، ولم يناد موسى حين ناداه، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات، ولا تفرحه توبة التائبين. وقالوا في قوله عز وجل: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} [التوبة 105] ونحو ذلك: إنه لا يراها إذا وجدت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 بل إما أنه لم يزل رائياً لها، وإما أنه يتجدد شئ موجود بل تعدد معدوم، إلى أمثال هذه المقالات التى خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة مع مخالفة صريح العقل. والذى ألجأهم إلى ذلك موافقتهم للجهمية على أصل قولهم في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام، وخالفوا السلف والأئمة في قولهم: لم يزل الله تعالى متكلماً إذا شاء، ثم افترقوا أحزاباً أربعة كما تقدم: الخلقية والحدوثية، والاتحادية، والافتراقية. وشر من هؤلاء الصابئة والفلاسفة الذين يقولون: إن الله سبحانه لم يتكلم بكلام قائم بذاته، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته، لا قديم النوع ولا قديم العين، ولا حادث ولا مخلوق، بل كلامه عندما يفيض على نفوس الأنبياء عليهم السلام. ويقولون: إنه كلمة موسى من سماء عقله، وقد يقولون: إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات فإنه إنما يعلمها على وجه كلي. ويقولون مع ذلك: إنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله. وقولهم: نفسه ومفعولاته حق، كما قال تعالى:: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك 14] لكن قولهم مع ذلك: أنه لا يعلم الأعيان المعينة جهل وتناقض، فإن نفسه المقدسة معينة، والأفلاك معينة، وكل موجود معين، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئاً من الموجودات، إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وهم إنما ألجأ لهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للبارئ تعالى مع ان هؤلاء يقولون: إن الحوادث تقوم بالقديم، وإن الحوادث لا أول لها، لكن نفوا ذلك عن البارئ عز وجل، لاعتقادهم أنه لا صفة له، بل هو وجود مطلق. وقالوا: إن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 والعلم والعالم شئ واحد، والمريد والإرداة شئ واحد. فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، وجعلوا الصفات هي الموصوف. ومنهم من يقول: بل العلم هو المعلوم، كما يقوله الطوسي صاحب شرح الإشارات، فغنه أنكر على ابن سينا إثباته لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه. وابن سينا أقرب إلى الصواب، لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به، وجعل الصفة عين الموصوف، وكل صفة هي الأخرى. ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول: معاني الكلام شئ واحد، لكنهم ألزموا قولهم لأولئك فقالوا: إذ جاز المعاني المتعددة شيئاً واحداً جاز أن يكون العلم هو القدرة هي الإرادة. فاعترف حذاق أولئك بان هذا الإلزام لا جواب عنه. ثم قالوا: وإذ جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى جاز أن تكون الصفة هي الموصوف. فجاء ابن عربي وابن سبعين والقونوى ونحوهم من الملحدة فقالوا: إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الاخرى، والصفة هي الموصوف جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق هو الموجود الممكن المحدث المخلوق، فقالوا: إن وجود كل مخلوق هو وجود الخالق. وقالوا: الوجود واحد، ولم يفرقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين والكلام الواحد بالنوع. وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد الذى قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه، وقالوا: هو يتكلم بحرف وصوت قديم. قالوا: أولاً إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته. ولا تسبق الباء السين، بل لما نادى موسى فقال: {أننى أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني} [طه 14] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 {إنى أنا الله رب العالمين} [القصص 30] كانت الهمزة والنون وما بينهما موجوداً في الأزل يقارن بعضها بعضاً، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله تعالى. ثم قال فريق منهم: إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القراء. وقال بعضهم: بل المسموع صوتان قديم وحادث. وقال بعضهم: اشكال المداد قديمة أزلية. وقال بعضهم: محل المداد قديم أزلي. وحكى عن بعضهم أنه قال: المداد قديم أزلي. وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ولا يفهمون معناه، بل منهم من يظن أن معناه أنه قديم في علمه، ومنهم من يظن أن معناه أنه متقدم على غيره، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق، ومنهم من لا يميز ما هو له فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات، ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات مع الصفات. وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل. والصواب في هذا الباب وغيره مذهب سلف الأمة وأئمتها - أنه سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وان كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسة - عليه السلام - بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حين أتى لم يناده قبل ذلك، وان صوت الرب تبارك أسمه لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم، وقدرته لا تماثل قدرتهم، وانه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته، ليس في مخلوقاته شئ من ذاته وصفاته القائمة بذاته، ولا في ذاته شئ من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل ولا تحاد الذين عطلوا اللذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات أو الصفات باطلة، وهذه المور مبسوطة في غير الموضع، وقد بسطناها في الواجب الكبير. والله تعالى اعلم بالصواب، والحمد لله تعالى وحده - أنتهى بحروفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وقال السفاريني في شرح العقيدة ما نصه: وقد روى في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على اربعين حديثاً، وأخرج الإمام أحمد عالبها واحتج به. واخرج الحافظ ابن حجر أيضاً في شرح البخاري، واحتج بها البخاري وغيره من أئمة الحديث 0 على ان الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت. وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه، واعتمدوا على ذلك منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله من شبهات الحدوث وسمات النقص. كما قالوا في سائر الصفات معتمدين على ما صح عندهم عن صاحب الشريعة المعصوم في أقواله وأفعاله، الذى لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم -. وممن ذهب إلى مذهب السلف والحنابلة من قدم الكلام وانه بحروف وصوت من متأخري محققى الأشاعرة: صاحب المواقف. أنتهى باقتصار. (قلت) : وممن ذهب إليه ايضاً من المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني الشافعي الأشعري في كتابه ((إفاضة العلام بتحقيق مسألة الكلام)) وهو كتاب قلما يوجد مثله في تحقيق هذه المسألة التى حيرت الأفهام، وقد حاكم فيها الحنابلة مع الأشعرية، واثبت الكلام النفسي الذى نفته بعض الحنابلة، وحقق اللفظي المنفي عند كثير من الأشاعرة، ونقل ما يؤيد ذلك من كلام ذينك الإمامين، وأن الأئمة الأربعة في أصول الدين عير مختلفين، بل تراهم في القول بتوحيد الله تعالى وتنزيهه في ذاته وصفاته مؤتلفين. وان الأشعري رحمه الله تعالى على مناهجهم أجمعين، كما قاله ابن عساكر في كتابه ((تبيين كذب المفترى على ابى الحسن الأشعري)) فإن أردت التفصيل فعليك بذلك الكتاب الذى يعز له مثيل. ونقل أيضاً الكوراني في رسالته المسماه ((بنوال الطول في تحقيق الإيجاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 بالقول)) عن الشيخ محيى الدين بن عربي أنه قال: لله تعالى تجل في صورة يقبل القول والكلام بترتب الحروف قد ذكرناه في التجلي الإلهي الذى خرجه مسلم في الصحيح، وهو من رواية ابي سعيد الخدري، وفيه: ((أتاهم رب العالمين في أدنى صورة عن التى رأوه فيها - ثم قال بعده - ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته التى رأوه فيها اول مرة)) . وعن البخاري بلفظ ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التى رأوه فيها أول مرة)) والأحاديث في ذلك بلغت مبلغ التواتر - أنتهى. ثم قال فيها: إن الكلام النفسي بمعنى المتكلم به قديم لا تعاقب بين كلماته، أما الكلام اللفظي المسموع من التجلي الإلهي في الصورة فبين كلماته ترتب زماني وتعاقب. واخرج الطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعاً ((أن الله تعالى ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة في ثلاثة ايام ... .)) الحديث. وهذا صريح في تعاقب الكلمات وترتيبها بحسب الزمان وصريح الأحاديث أن الله تعالى هو الذى كلم موسى - عليه السلام - بلا واسطة رسول، لكنه من وراء حجاب الظاهر بصورة النار. وغذا ثبت ذكر الصوت في الأحاديث المتعددة وجب الإيمان به. انتهى ملخصاً. (وقال) أيضاً في شرح منظومة شيخه الشيخ أحمد القشاشى المدنى ما نصه: قال الجامى رحمه الله تعالى: ولنذكر في هذا المقام كلام الصوفية ليتضح ما هو الحق، قال حجة الإسلام: الكلام على ضربين: أحدهما يطلق في حق الباري تعالى. والثاني في حق الآدميين أما الكلام الذى نسب إليه تعالى فهو صفة من صفات الربوبية فلا تشابه بين صفات البارى وصفات الآدميين - إلى أن قال - فإذن كلام البارى تعالى ليس شيئاً سوى إفادته وإفاضته مكنونات علمه على من يريد إكرامه، كما قال: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} [الأعراف 143] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 شرفه بقربه، وقربه بقدسه، وشافهه بأجل صفاته، وكلمه بعلم ذاته، فكما شاء تكلم، وكما أراد سمع. أنتهى. ثم ساق عن غيره من أكابر المحققين مامنه: أعلم أن الله تعالى قد أخبرنا بنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه سبحانه يتجلى يوم القيامة في صور مختلفة فيعرف وينكر، ومن كانت حقيقته تقبل التجلى فلا يبعد أن يكون الكلام بالحروف المتلفظ بها المسماه كلام الله تعالى لبعض تلك الصور كما يليق بجلاله فكما نقول تجلى في صورة كما يليق بجلاله، كذلك نقول تكلم بحرف وصوت كما يليق بجلاله، ونحمله محمل الفرح والضحك، والعين والقدم، واليد، اليمين، وغير ذلك مما قدر ورد في الكتاب مما يجب الإيمان به على المعنى المعقول من غير كيفية ولا تشبيه، فإنه يقول: {ليس كمثله شئ} [الشورى 11] مع عقل المعنى. ثم ساق عن غيره من الأكابر كلاماً في تحقيق الكلام إلى أن قال في آخر ذلك: فالذى يظهر من كلام هؤلاء الأكابر أن الكلام الذى هو صفته سبحانه ليس سوى إفادته وإفاضته مكنونات علمه على ما يريد إكرامه، وان الكتب المنزلة المنظومة من حروف وكلمات كالقرآن وامثاله أيضاً كلامه لكنها في بعض صور تلك الإفادة والإفاضة ظهرت بتوسط العلم والإرادة والقدرة في البرزخ الجامع بين الغيب والشهادة، يعني عالم المثال من بعض مجاليه الصورية المثالية كما يليق به سبحانه. فالقياسان المذكوران في صدر البحث ليسا بمتعارضين في الحقيقة، فإن المراد بالكلام في القياس الأول الصفة القائمة بذاته سبحانه، وفي الثاني ما ظهر في البرزخ من بعض المجالي الإلهية والاختلاف الواقع بين فرق المسلمين لعدم الفرق بين الكلامين. انتهى. (أقول) : دل كلام هؤلاء الأكابر على ان الحق سبحانه له أن يتجلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 في أي صورة شاء مع تنزيهه عن كل صورة في كل حال، وينبغي لطالب الحق غير الجامد على المألوف من الرسوم المقررة - أن يتنبه لنفاسة هذا الكلام، وجلالة هذه الفائدة الصادرة عن مقام الرسوخ في العلم من طريق الوهب والله يجتبى إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب. انتهى فليتدبر. [كلام نفيس لابن القيم في الموضوع] (ومن جملة) كلام للشيخ ابن القيم في مبدأ كتابه ((المنظومة النونية، المسماه بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية)) ما نصه: فلا نجحد صفات ربنا تبارك وتعالى لتسمية الجهمية والمعتزلة لنا مجسمة مشبهه خشوية: [طويل] فإن كان تجسيماً ثبوت صفاته ... لديكم فإنى اليوم عبد مجسم ورضي الله تعالى عن الشافعي حيث يقول: إن (1) كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي وقدس الله تعالى روح القائل وهو شيخ الإسلام ابن تيميه إذ يقول: إن كان نصبا حب صحب محمد ... فليشهد الثقلان أني ناصبي فصل: [عقيدة ابن القيم وشيخه في القرآن] وأما القرآن فإنى أقول: إنه كلام اله عز وجل منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود: تكلم الله تعالى به صدقاً، وسمعه منه جبريل حقاً، وبلغه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وحياً، وإن كهيعص، وحم عسق، وآلر، وقّ، ون، عين كلام الله تعالى حقيقة. وأن الله تعالى تكلم بالقرآن العربى الذى سمعه الصحابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن جميعه كلام الله   (1) في الأصل في الموضعين: ((وإن كان)) بالواو، وبها لا يستقيم وزن الشعر، وهو من بحر الكامل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 تعالى وليس قول البشر. ومن قال: إنه قول البشر فقد كفر، والله يصليه سقر. ومن قال: ليس لله سبحانه بيننا كلام فقد جحد رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله تعالى بعثه يبلغ عنه كلامه، والرسول إنما يبلغ كلام مرسله، فإذا انتفى كلام المرسل أنتفت رسالة الرسول , أقول: إن الله تبارك وتعالى فوق سماواته مستو على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شئ من ذاته، ولا في ذاته شئ من مخلوقاته، فقلب المعطل متعلق بالعدم، فهو أحقر الحقير. وقلب المشبه عابد الصنم الذي قد نحت بالتصوير والتقدير، والموحد قلبه متعبد لمن ليس كمثله شئ وهو السميع البصير. أنتهى. وقال في النظم ما بعضه: [كامل] [مقتطفات من نونية ابن القيم] وله الحياة كمالها فلأجل ذا ... ما للمات عليه من سلطانِ وله الكمال المطلق العارى عن التشبيه ... والتمثيل بالإنسان والله ربي لم يزل متكلماً ... وكلامه المسموع بالآذان صدقاً وعدلاً أحكمت كلماته ... طلباً وإخباراً بلا نقصان ورسوله قد عاد بالكلمات من ... لدغ ومن عين ومن شيطان أيعاذ بالمخلوق حاشاه من الـ ... إشراك وهو معلم الإيمان بل عاذ بالكلمات وهي صفاته ... سبحانه ليست من الأكوان وكذلك القرآن عين كلامه المـ ... سموع منه حقيقة ببيان هو خلق ربي كله لا بعضه ... لفظاً ومعنا ما هما خلقان تنزيل رب العالمين وقوله الـ ... لفظي والمعنى بلا روغان (1) لكن أصوات العباد وفعلهم ... كمدادهم والرق مخلوقان   (1) في الأصل ((اللفظ)) بدون ياء، وبدونها لا يستقيم الوزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 والصوت للقارى ولكن الكلا ... م كلام رب العرش ذي الإحسان هذا إذا ما كان ثم وساطة ... كقراءة المخلوق للقرآن فإذا انتفت تلك الوساطة مثل ما ... قد كلم المولود من عمران فهنالك المخلوق نفس السمع لا ... شئ من المسموع فافهم ذان هذى مقالة أحمد ومحمد ... وخصومهم من بعد طائفتان إحداهما زعمت بأن كلامه ... خلق له ألفاظه ومعانى والآخرون أبوا وقالوا شطره ... خلق وشطر قام بالرحمن زعموا القرآن عبارة وحكاية ... قلنا كما زعموه قرآنان هذا الذي نتلوه مخلوق كما ... قال الوليد وبعده الفئتان والآخر المعنى القديم فقائم ... بالنفس لم يسمع من الديان والآمر عين النهى واستفهامه ... هو عين أخبار وذو وجدان وهو الزبور وعين توراة وإنجـ ... يل وعين الذكر والفرقان الكل شئ واحد في نفسه ... لا يقبل التبعيض في الأذهان ما إن له كل ولا بعض ولا ... حرف ولا عربى ولا عبراني ودليله في كل ذاك بيت قاله ... فيما يقال الأخطل النصراني ومنه [كامل] وإذا أردت مجامع الطرق التى ... فيها افتراق الناس في القرآن فمدارها أصلان قام عليهما ... هذا الخلاف هما له ركنان هل قوله بمشيئة أم لا وهل ... في ذاته أم خارج هذان أصلاً اختلاف جميعه أهل الأرض في ... القرآن فاطلب مقتضى البرهان ثم الألى قالوا بغير مشيئة ... وإرادة منه فطائفتان إحداهما جعلته معنى قائماً ... بالنفس أو قالوا بخمس معانى والله أحدث هذه الألفاظ كي ... تبديه معقولا إلى الأذهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وكذلك قالوا إنها ليست هي القـ ... رآن بل دلت على القرآن ولربما سمى بها القرآن ... تسمية المجاز وذاك وضع ثان وكذلك اختلفوا فقيل حكاية ... عنه وقيل عبارة لبيان إن كان ما يحكى حمحكى وهـ ... ذا اللفظ والمعنى فمختلفتان ولذا يقال حكى الحديث بعينه ... إذ كان أوله نظير الثاني فلذاك قالوا لا نقول حكاية ... ونقول ذاك عبارة الفرقان والآخرون يرون هذا البحث لفـ ... ظياً وما فيه كبير معاني فصل: في مذهب الاقترانية والفرقة الأخرى فقالوا إنه ... لفظ ومعنى ليس منفصلان واللفظ كالمعنى قديم قائم ... بالنفس ليس يقابل الحدثان فالسين عند الباء لا مسبوقة ... لكن هما حرفان مقترفان والقائلون بذا يقولوا إنما ... ترتيبهما في السمع بالآذان ولها اقتران ثابت لذواتها ... فاعجب لذا التخليط والهذيان لكن زاغونيهم قد قال إن ... ذواتا ووجودها غيران فترتب لوجودها لا ذاتها ... يا للعقول وزيغة الأذهان ليس الوجود سوى حقيقتها لدى ... الأذهان بل في هذه الأعيان لكن إذا أخذ الحقيقة خارجاً ... ووجودها ذهناً فمختلفان والعكس أيضاً مثل ذا فإذا هما أتحـ ... دا اعتباراً لم يكن شيئان وبذا يزول جميع إشكالانهم ... في ذاته ووجوده الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فصل: في مذهب القائلين بأنه متعلق بالمشيئة والإرادة والقائلون بأنه بمشيئة ... وأرادة أيضاً فهم صنفان إحداهما جعلته خارج ذاته ... كمشيئة للخلق والأكوان قالوا وصار كلامه بإضافة التـ ... شريف مثل البيت للأركان ما قال عندهم ولا هو قائل ... والقول لم يسمع من الديان فالقول مفعول لديهم قائم ... بالغير كالأغراض والأكوان هذى مقلة كل وجهى وهم ... فيها الشيوخ معلم الصبيان لكن أهل الإعتزال قديمهم ... لم يذهبوا ذا المذهب الشيطاني وهم الألى اعتزلوا عن الحسن الرضا ... البصرى ذاك العالم الرباني وكذاك اتباع على مناهجهم ... من قبل جهم صاحب الحدثان لكنما متأخروهم بعد ذ ... لك وافقوا جهماً على الكفران فهم بذا جهمية أهل اعتزا ... ل ثوبهم أضحى له علمان ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان واللا لكائى الإمام حكاه عنـ ... هم بل حكاه قبله الطبراني فصل: في مذهب الكرامية والقائلون بأنه بمشيئة ... في ذاته أيضاً فهم نوعان إحداها جعلته مبدوءاً به ... نوعاً حذار تسلسل الأعيان فيسد ذاك عليهم في زعمهم ... إثبات خالق هذه الأكوان فلذاك قالوا: إنه ذو أول ... ما للفناء عليه من سلطان وكلامه كفعاله وكلاهما ... ذو مبدأ بل ليس ينتهيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 قالوا ولم ينصف خصوم جعجعوا ... واتوا بتشنيع بلا برهان قلنا كما قالوه في أفعاله ... بل بيننا بون من الفرقان بل نحن أسعد منهم بالحق إذ ... قلنا هما بالله قائمتان وهموا فقالوا لم يقم بالله لا ... فعل ولا قول فتعطيلان لفاعله ومقاله شر وأبـ ... طل من حلول حوادث ببيان تعطيله عن فعله وكلامه ... شر من التشنيع بالهذيان هذى مقالات ابن كرام وما ... ردوا عليه قط بالبرهان أبى وما قال أقرب منهم ... للعقل والآثار والقرآن لكنهم جاءوا له بجعاجع ... وفراقع وقراقع بشنان فصل: في ذكر مذهب أهل الحديث والآخرون أولو الحديث كأحمد ... ومحمد وأئمة الإيمان قالوا بأن الله حقاً لم يزل ... متكلماً بمشيئة وبيان إن الكلام هو الكمال فكيف يخـ ... لو عنه في ازل بلا إمكان ويصير فيما لم يزل متكلماً ... ماذا اقتضاه له من الإمكان وتعاقب الكلمات أمر ثابت ... للذات مثل تعاقب الأزمان والله رب العرش قال حقيقة ... حاميم مع طه بغير قرآن بل أحرف مترتبات مثل ما ... قدر رتبت في مسمع الإنسان وقتان في وقت محال هكذا ... حرفان أيضاً يوجدان بآن من واحد متكلم بل يوجدا ... بالرسم أو يتكلم الرجلان هذا هو المعقول أما الأقترا ... ن فليس معقولاً لذى الأذهان وكذا كلام من سوى متكلم ... أيضاً محال ليس في إمكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 إلا لمن قام الكلام به فذا ... ك كلامه المعقول في الأذهان أيكون حي سامعاً أو مبصراً ... من غير ما سمع وغير عيان والسمع والإبصار قام بغيره ... هذا المحال وواضح البهتان فكلامه حقاً يقوم به وإلـ ... لا لم يكن متكلماً بقرآن والله قال وقائل وكذا يقو ... ل الحق ليس كلامه بالفانى ويكلم الثقلين يوم معادهم ... حقاً فيسمع قوله الثقلان إلى أن قال: فصل وأتى ابن حزم بعد ذاك فقال ما ... للناس قرآن ولا إثنان بل أربع كل يسمى بالقرا ... ن وذاك قول بين البطلان هذا الذى يتلى وآخر ثابت ... في الرسم يدعى المصحف العثماني والثالث المحفوظ بين صدورنا ... هذى الثلاث خليفة الرحمن والرابع المعنى القديم كعلمه ... كل يعبر عنه القرآن وأظنه قد رام شيئاً لم يجد ... عنه عبارة ناطق ببيان إن المعين ذو مراتب أربع ... عقلت فلا تخفى على إنسان في العين ثم الذهن ثم اللفظ ثـ ... م الرسم حين تخطه ببيان وعلى الجميع الإسم يصدق لكن ا ... لأولى به الموجود في الأعيان بخلاف قول ابن الخطيب فإنه ... قد قال إن الوضع للأذهان فالشيء شيء واحد لا أربع ... فدهى ابن حزم قلة الفرقان (1) والله أخبر أنه سبحانه ... متكلم بالوحي والفرقان وكذا أخبرنا بأن كلامه ... بصدور أهل العلم والإيمان   (1) لعله ((قلة العرفان)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وكذاك أخبر أنه المكتوب في ... صحف مطهرة من الشيطان وكذاك أخبر أنه المتلو والـ ... مقروء عند تلاوة الإنسان والكل شئ واحد لا أنه ... هو أربع وثلاثة وأثنان وتلاوة القرآن أفعال لنا ... وكذا الكتابة فهي خط بنان لكنما المتلو والمكتوب والـ ... محفوظ قول الواحد الرحمن والعبد يقرؤه بصوت طيب ... وبضده فما له صوتان وكذاك يكتبه بخط جيد ... وبضده فما له خطان أصواتنا ومدادنا وأداتنا ... والرق ثم كتابة القرآن ولقد أتى في نظمه بجهالة ... من قال قول الحق غير جبان إن الذى هو في المصاحف مثبت ... بأنامل الأشياخ والشبان هو قول ربى آية وحروفه ... ومدادنا والرق مخلوقان فشقى وفرق بين متلو ومصـ ... نوع وذاك حقيقة العرفان الكل مخلوق وليس كلامه الـ ... متلو مخلوقاً هنا شيئان فعليك بالتفصيل والتمييز فالـ ... إطلاق والإجمال دون بيان قد أفسدوا هذا الوجود وخبطوا الـ ... أذهان والآراء كل زمان وتلاوة القرآن في تعريفها ... باللام وقد يعنى بها شيئان يعنى بها المتلو فهو كلامه ... هو غير مخلوق كذى الأكوان ويراد أفعال العباد كصوتهم ... وأدائهم وكلاهما خلقان هذا الذي نصت عليه أئمة الـ ... إسلام أهل العرف والعرفان وهو الذى قصد البخارى الرضا ... لكن تقاصر قاصر الأذهان عن فهمه كتقاصر الأذهان عن ... قول الإمام الأعظم الشيباني في اللفظ لما أن نفى الضدين عنـ ... ـه وأهتدى للنفى ذو عرفان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فاللفظ يصلح مصدراً فعلنا ... كتلفظ بتلاوة القرآن وكذاك يصلح نفس ملفوظ به ... وهو القران فذان محتملان فلذاك أنكر أحمد الإطلاق في ... نفى وإثبات بلا فرقان منه: ... للمسلمين بإفك ذي بهتان واتى ابن سينا القرمطى مصانعاً ... ـفعال علة هذه الأكوان فرآه فيضاً فاض من عقل هو والـ ... طمت على ما قال كل لسان ومنه: ... ـذا الخلق من جن ومن إنسان وأنت طوائف الأتحاد بملة ... عين الوجود وعين ذي الأكوان قالوا كلام الله كل كلام هـ ... وصفاته ما ههنا قولان إذ أصلهم إن الإله حقيقة ... حملت إليك رخيصة الأثمان فكلاهما وصفاتها هو قوله ... ألفيتها أبداً بذا التبيان هذى مقالات الطوائف كلها ... أبصرت ذا الحسن والإحسان وأظن لو فتشت كتب الناس ما ... خرقوا سياج العقل والقرآن زفت إليك فإن يكن لك ناظر ... بل ناد في ناديهم بأذان فاعطف على الجهمية المغل الألى ... ـسموع من لغة بكل لسان! شرد بهم من خلفهم واكسرهم ... ـمسلوب معناه لذى الأذهان! أفسدتم المعقول والمنقول والمـ ... ويصح غفار بلا غفران! أيصح وصف الشئ بالمشتق للـ ... لكن يقول قام إنسان أيصح علام ولا علم له ... وعليكم في ذاك محذوران فلئن زعمم أنه متكلم ... ـناه به وثبوته للثانى أو غيره فيقال هذا باطل ... قلب الحقائق أقبح البهتان نفى اشتقاق اللفظ للموجود معـ ... ذاك ابن حنبلٍ الرضا الشيبانى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 أعنى الذي ما قام معناه به ... متكلماً إن شاء ذو إحسان ومنه: ... بالذات لم يفقد من الرحمن والآخرون أولو الحديث كأحمد ... إحسان ايضاً في مكان ثانى قد قال إن الله حقاً لم يزل ... أبداً إله الخلق ذا سلطان جعل الكلام صفات فعل قائم ... بل فاعلاً ما شاء ذا إحسان وكذاك نص على دوام الفعل بالـ ... قلنا صدقتم وهو ذو إمكان ومنه: ... هل بين ذينك من فرقان! إن كان رب العرش حقاً لم يزل ... نقل ولا نظر ولا برهان! فكذاك أيضاً لم يزل متكلماً منه: فلئن زعمتم أن ذاك تسلسل كتسلسل التأثير في مستقبل والله ما افترقا لذى عقل ولا أنتهى نقل ما هو المراد منه. وإن أردت تفصيل البحث في ذلك مع الأجوبة والمذاهب المفصلة فارجع إليه. وقال الشيخ عبد القادر الكيرنى قدس سره والنورانى في كتابه ((الغنية ما نصه)) : فصل ونعتقد أن القرآن كلام الله عز وجل، وكتابه وخطابه، ووحيه الذى نزل به جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين} [الشعراء 193] هو الذى بلغه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 أمتثالا لأمر رب العالمين: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة 67] . وروى عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: ((هل من رجل يحملنى إلى قومه فإن قريشاً منعونى أن أبلغ كلام ربي)) . وقال عز وجل: {وإن أحد من المشركين أستجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة 6] ، وكلام الله تعالى هو القرآن الشريف غير مخلوق كيفما قرئ وتلى وكتب، وكيفما تفرقت به قراءة قارئ، ولفظ لافظ وحفظ حافظ. هو كلام الله تعالى وصفه من صفات ذاته، غير محدث، ولا مبدل، ولا مغير، ولا مؤلف، ولا منقوص، ولا مصنوع، ولا مزاد فيه. منه بدأ تنزيله، وإليه يعود حكمه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: ((إن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر خلقه)) . وذلك أن القرآن الشريف منه تبارك وتعالى خرج، وإليه يعود حكمه، فمعناه أن تنزيله وظهوره منه عز وجل، وإليه يعود حكمه الذى هو العبادات من أداء الأوامر وأنتهاء النواهى، لأجله تفعل وتترك، فالأحكام عائدة إليه عز وجل. وقيل: منه بدأ حكماً وإليه يعود علماً. هو كلام الله تعالى في صدور الحافظين وألسن الناطقين، في اكف الكاتبين وملاحظة الناظرين، ومصاحف أهل الإسلام، وألواح الصبيان حيثما رؤى ووجد. فمن زعم أنه مخلوق أو عبارته، أو التلاوة غير المتلو، أو قال: لفظى بالقرآن مخلوق، فهو كافر بالله العظيم، ولا يخالط، ولا يؤاكل، ولا يناكح، ولا يجاور، بل يهجر ويهان، ولا يصلى خلفه، ولا تقبل شهادته، ولا تصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ولا يته في نكاح وليه، ولا يصلى عليه إذا مات، فإن ظفر به استتيب ثلاثاُ كالمرتد، فإن تاب وإلا قتل. سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عمن قال: لفظى بالقرآن مخلوق؟ فقال: كفر. وقال رحمه الله تعالى: فمن قال القرآن كلام الله ليس بمخلوق والتلاوة مخلوقة كفر. وروى عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القرآن فقال ((كلام الله غير مخلوق)) . وروى عن عبد الله ابن عبد الغفار - وكان مولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتاقة - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا ذكر الله (1) فقولوا كلام الله غير مخلوق فمن قال مخلوق فهو كافر)) . وقال الله عز وجل: {ألا له الخلق والآمر} [الأعراف 54] ففصل بين الخلق والأمر، فلو كان أمره الذى هو ((كن)) الذى به يخلق الخلق مخلوقاً له كان ذلك تكراراً وعيباً لا فائدة فيه، كأنه قال: ألا له الخلق والخلق، والله تعالى منزه عن ذلك. وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما فسروا قوله عز وجل: {قرآنا عربياً غير ذى عوج} [الزمر 28] أنه غير مخلوق. وقد هدد الله تعالى الوليد بن المغيرة المخزومي حين سمى القرآن قول البشر ((بسقر)) فقال: {إن هذا إلا سحر يؤثر. وإن هذا إلا قول البشر. سأصليه سقر} فكل من قال: القرآن عبارة أو مخلوق أو لفظي بالقرآن مخلوق فله سقر، كما قال للوليد إلا أن يتوب. وقال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة 6] ولم يقل حتى يسمع كلامك يا محمد. وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر 1] .   (1) على هامش الأصل: ((قوله إذا ذكر الله)) هكذا بالأصل، ولعله: ((إذا ذكر القرآن أو كلام الله، كما يدل عليه السابق واللاحق)) . أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 يعنى القرآن الذى هو في الصدور. وقال الله عز وجل: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف 204] . وقال تعالى: {وقرآنا فرقناه لقرأه على الناس على مكث} [النساء 106] والناس إنما سمعوا قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه، فلفظه بالقرآن هو القرآن. ومدح الله سبحانه وتعالى الجن الذين سمعوا قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: {إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد} [الجن 1] الآية. وقال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} [الأحقاف 39] وسمى الله تعالى قراءة جبريل عليه السلام للقرآن قرآنا فقال جل وعلا: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة 16] وقال تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} [المزمل 20] وأجمع المسلمون على أن من قرأ فاتحة الكتاب في صلاة أنه قارئ كتاب الله تعالى، وأن من حلف ألا يتكلم فقرأ القرآن لم يحنث، فدل على أنه ليس بعبارة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاوية بن الحكم - رضي الله عنه -: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الآدميين، وإنما هي القرآن والتسبيح، التهليل وتلاوة القرآن)) فأخبر أن تلاوة القرآن هي القرآن، فعلم بذلك أن التلاوة هي المتلو، والله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أمر المؤمنين بالقراءة في الصلاة ونهيا عن الكلام، فلو كانت قراءتنا كلامنا لا كلام الله تعالى لكنا مرتكبين للنهى في الصلاة. فصل ونعتقد أن القرآن حروف مفهومة، وأصوات مسموعة، لأن بها يصير الأخرس والساكت متكلماً ناطقاً، وكلام الله عز وجل لا ينفك عن ذلك فمن ذلك فقد كابر حسه وعميت بصيرته. قال الله عز وجل: {آلم ذلك الكتاب. حم. طسم. تلك آيات الكتاب} فقد ذكر حروفاً وكنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 عنها بالكتاب: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله} [لقمان 27] فأثبت لنفسه كلمات متعددة غير متناهية الأعداد. وكذلك {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي} [الكهف 109] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرءوا القرآن تؤجرون عليه بكل حرف عشر حسنات، أما إنى لا أقول ألم حرف ولكن الألف عشر واللام عشر والميم عشر فذلك ثلاثون)) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف)) وقال تعالى في حق موسى عليه السلام: {وإذ نادى ربك موسى - وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} [مريم 52] وقال تعالى: لموسى عليه السلام: {إننى أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدنى} [طه 14] كل هذا لا يكون إلا صوتاً، ولا يجوز أن يكون هذا النداء وهذا الاسم والصفة إلا لله عز وجل دون غيره من الملائكة وسائر المخلوقات. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان يوم القيامة يأتى الله عز وجل في ظلل من الغمام فيتكلم بكلام طلق ذلق فيقول وهو أصدق القائلين: أنصتوا فطالما أنصت لكم منذ خلقتكم أرى أعمالكم وأسمع أقوالكم، فإنما هي صحائفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) . وروى البخارى في صحيحه بإسناده عن عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يحشر الله سبحانه وتعالى العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان)) . وروى عبد الرحمن بن محمد المحاربى عن الأعمش عن مسلم بن مسروق عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع صوته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 أهل السماء فيخرون سجداً حتى إذا فزع عن قلوبهم - قال: سكن عن قلوبهم - نادى أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق قال كذا وكذا. يعنى ذكر الوحي. وعن عبد الله بن الحرث عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ((إن الله تبارك وتعالى إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماوات صوتاً كصوت الحديد إذا وقع على الصفا فيخرون له سجداً، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير)) . قال محمد بن كعب: قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: بم شبهت صوت ربك حين كلمك من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوت ربي الرعد حين لا يرتجع. وهذه الآيات والأخبار تدل على أن كلام الله عز وجل صوت لا كصوت الآدميين، كما أن علمه وقدرته وبقية صفاته لا تشبه صفات الآدميين، كذلك صوت. وقد نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى على إثبات الصون في رواية جماعة من الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين خلاف ما قالت الأشعرية، من أن كلام الله تعالى معنى قائم بنفسه، والله حسيب كل مبتدع ضال مضل، والله سبحانه لم يزل متكلماً وقد احاط كلامه بجميع معانى الأمر والنهى والاستخبار. وقال ابن خزيمة رحمه الله تعالى: كلام الله تعالى متواصل لا سكوت فيه ولا صمت. وقيل لأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: هل يجوز أن نقول إن الله تعالى متكلما ويجوز عليه السكوت؟ فقال رحمه الله تعالى: نقول في الجملة: إن الله تعالى لم يزل متكلماً، ولو ورد الخبر بأنه سكت لقلنا به، ولكنا نقول: إنه متكلم كيف شاء بلا كيف ولا تشبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فصل: [حروف المعجم أمخلوقة هي أو قديمة؟] وكذلك حروف المعجم غير مخلوقة، سواء كان ذلك في كلام الله تعالى أو في كلام الآدميين، وقد أدعى قوم من أهل السنة انها قديمة في القرآن الشريف محدثة في غيره. وهذا خطأ منهم، بل القول السديد هو الأول من مذهب أهل السن بلا فرق، لقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس 72] وهي حرفان، فلو كانت ((كن)) مخلوقة لا حتاجت إلى ((كن)) أخرى تحلق بها إلى ما لا نهاية له، وقد تقدمت أدلة كثيرة من الآيات فلا نعيدها. وأما من السنة فما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعثمان بن عفان لما سئل عن اب ت ث إلى آخر الحروف فقال: ((الألف من اسم الله الباعث (1) والوارث)) حتى أتى إلى آخرها فذكر أنها كلمة من اسماء الله تعالى وصفاته، وأسماؤه عز وجل غير مخلوقة. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث على كرم الله وجهه لما سأله عن معنى أبجد هوز حصى إلى آخرها: ((يا على، ألا تعرف تفسير أبي جاد؟ الألف من اسم الله عز وجل الذى هو الله، والباء من اسم الله الذى هو البارى، والجيم من أسم الله الذى هو الجليل ... ..)) إلى آخرها. فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من أسماء الله تعالى وهي في كلام الآدميين. وقد نص احمد بن حنبل رحمه الله تعالى على قدوم حروف الهجاء، فقال في رسالته إلى أهل نيسابور وجرجان: ومن قال إن حروف التهجى محدثة فهو   (1) وجد على هامش الأصل ما نصه: قوله والتاء من اسم الله الخ لعله سقط بعده الذى هو التواب والثاء من اسم الله الخ اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 كافر باله عز وجل، ومتى حكم ذلك مخلوق فقد جعل القرآن مخلوقاً، ولما قيل له رحمه الله تعالى: إن فلاناً (1) يقول: إن الله تعالى لما خلق الحروف أنضجعت اللام وانتصبت الألف: لا أسجد حتى أؤمر، فقال أحمد: هذا كفر من قائله. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لا نقول بحدوث الحروف، فإن اليهود ما هلكت بهذا، ومن قال بحدوث حرف من الحروف فقد قال بحدوث القرآن، ولأنه لا يخلو إما أن يقال: هي قديمة في القرآن فوجب أن تكون قديمة في غيره، لأنه لا يجوز أن يكون الشيء الواحد قديماً وهو بعينه محدث. فإن ذلك في القرآن فكذلك في غيره. فإن قالوا: فهذا يفضى إلى جميع الكلام أن يكون قديماً قيل يلزم القرآن لما لم يقل ذلك فيه كذلك في حروف الهجاء (2) أهـ بحروفه. وقال الشيخ محمد صفى الدين البخارى نزيل نابلس المتوفى سنة ألف ومائة وتسع وتسعين في كتابه ما نصه: ذكر ما جاء عن الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - في مسألألة الحروف والصوت - حدث أبو طالب قال: جاءنى في كتاب من طرطوس أن سريا السقطي قال: لما خلق الله تعالى الحروف سجدت إلا الألف فإنها قالت: لا أسجد حتى أؤمر، فقال: هذا كفر. قلت: هذا إسناد صحيح. وقال صالح ابن الإمام أحمد، سمعت أبي يقول: من زعم أن أسماء الله تعالى مخلوقة فقد كفر. وقال عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية تأليفه: سالت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله تعالى موسى لم يتكلم بصوت؟ فقال أبي: بلى، تكلم جل ثناؤه بصوت، هذه الأحاديث نرويها   (1) قوله: ((أن فلاناً يعنى السرى)) اهـ من هامش الأصل. (2) كذا في الأصل وهو غير واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 كما جاءت. وقال أبي: حديث ابن مسعود: ((إذا تكلم الله تعالى سمع له صوت كمر السلسلة على الصفوان)) قال: وهذه الجهمية تنكره، وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس. ثم قال: حدثنا المحاربى عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال: ((إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي سمع صوته أهل السمع فيخرون سجداً)) . قلت: قوله هذه الأحاديث نرويها كما جاءت، أى لا نتصرف فيها بتأويل ولا تشبيه، ونؤمن بأن الصوت صفة من صفات ذاته لا تشبه صفات المخلوقين. أهـ. وقال العلامة عبد الرحمن بن الجوزى في كتابه ((تلبيس إبليس)) ما نصه: الطريق السليم من تلبيس إبليس ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وتابعوه بإحسان من إثبات الخالق سبحانه وصفاته على ما وردت به الآيات والأخبار من غير تفسير ولا بحث عما ليس في قوة البشر إدراكه، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق. قال على كرم الله وجهه: ما حكمت مخلوقاً إنما حكمت القرآن وإنه للمسموع، لقوله تعالى: {حتى يسمع كلام الله} [التوبة 6] وأنه في المصاحف لقوله عز وجل: {في رق منشور} [الطور 3] ولا نتعدى مضمون الآيات ولا نتكلم في ذلك برأينا. وقد كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ينهى أن يقول الرجل: لفظى بالقرآن مخلوق، لئلا يخرج عن الأتباع للسلف إلى حدث. وعن عمرو بن دينار قال: أدركت تسعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (1) : من قال: القرآن مخلوق فهو كافر: وقال عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الصبى في الكتاب والأعرابي، واله عما سواهما أهـ. باختصار.   (1) كذا في الأصل. ولعله: ((كل يقول)) بزيادة لفظ ((كل)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وقال أبو محمد على بن حزم الظاهرى المتوفى سنة 456 رداً على الأشعرية في كتابه ((الملل والنحل)) ما نصه: وقالوا كلهم: إن شاء الله تعالى له إلا كلام واحد، وليس كلمات متكثرة. قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد لتكذيبهم الله عز وجل في قوله: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً} [الكهف 109] وفي قوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعد سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله} [لقمان 27] ومع هذا، فقولهم: ليس لله عز وجل إلا كلام واحد أسخف قول سمع، لأنه لا يعقل، ولا يفهم، ولا جاء به نص ولا قام به دليل، ولا يتشكل في هاجس! وإنما هو هذيان محض. ويقال لهم: لا يخلو القرآن عندكم من انه كلام الله عز وجل، أو ليس هو كلام الله تعالى؟ ! فإن قالوا: ليس هو كلام الله عز وجل كفروا من قرب، وكفوا الناس مئونتهم. وإن قالوا: بل هو كلام الله قلنا لهم: فالقرآن بلا شك مائة سورة وأربع عشرة سورة، فيها ستة آلاف آية ونيف، كل سورة منها اهل الإسلام غير الأخرى، وكل آية غير الأخرى، فكيف يقول هؤلاء النوكى: إنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد؟ ما هذا إلا من الكفر البارد، والقحة السمجة. ونعوذ بالله تعالى من الضلال! وقالوا كلهم: إن القرآن لم ينزل به جبريل على قلب محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما نزل بشئ آخر وهو العبارة عن القرآن، والقرآن ليس هو ألبته عندنا إلا على المجاز، وإن الذى نرى في المصاحف، ونسمع من القراء، ونقرأ في الصلاة، ويحفظ في الصدور ليس هو القرآن، ولا هو كلام الله عز وجل، بل هو شئ آخر، وإن كلام الله عز وجل لم يفارق ذات الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 قال أبو محمد: وهذا من أعظم الكفر، لأنه تكذيب لله عز وجل في قوله سبحانه: {نزل الروح الأمين. على قلبك} [الشعراء 194] وقال تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة 6] وقال تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور اللذين أتوا العلم} [العنكبوت 49] وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرءوا القرآن)) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنى أحب أن أسمعه من غيري)) يعنى القرآن. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الذي يقرأ القرآن مع السفرة)) ونهى - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض الحرب. مع إجماع عامة المسلمين وخاصتهم وجاهلهم وعالمهم على القول: حفظ فلان القرآن إلى آخر قل أعوذ برب الناس. وقال السمنانى نصاً: إن الباقلانى وشيوخه قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أطلق القول بأن ما أنزل الله تعالى عليه هو القرآن وهو كلام الله عز وجل، إنما هو معنى أنه عبارة عن كلام الله تعالى، وأنه بفهم به أمره تعالى ونهيه فقط. وقال أبو محمد: ونقول لهم: أخبرنا عن قولكم: إن الذي في المصحف والقراءة المسموعة في المحاريب، كل ذلك إنما هو عبارة عن القرآن ماذا تعنون بذلك؟ وهل هو منكم إلا تمويه ضعيف؟ وهل كل ما في المصحف عبارة إلا عن معانيه التى ارادها الله عز وجل في شرع دينه من الإيمان، والصلاة والصيام، وغير ذلك، وأخبار الأمم السالفة، وصفة الجنة والنار والبعث وغيرها، مما لا يختلف من أهل الإسلام أحد في أن المعبر عن بذلك الكلام ليس هو كلام الله تعالى! ، لأن ذات الجنة وذات النار وحركات المصلى، وعمل الحاج، وعمل الصائم، أجساد عاد، وأشخاص ثمود ليس شئ من ذلك كلام الله عز وجل ولا قرآنا! فثبت أن ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 القرآن ولا كلام الله تعالى إلا العبارة المسموعة، والخط المكتوب في المصحف بلا شك، إذ لم يبق غير ذلك، أو الكفر، أو تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله - صلى الله عليه وسلم - في أن القرآن أنزل علينا وإلينا، وأنا نسمع كلام الله تعالى، فأوهمتم أهل الضعف أن الذى هو عند جميع أهل الإسلام كلام الله تعالى، القرآن ليس هو القرآن ولا كلام الله تعالى، ثم أوهمتموهم باستخفافكم أن حركات المصلى وذات النار والجنة هي كلام الله تعالى وهي القرآن! فهل في الضلال والسخرية بضعفة المسلمين، والهزء بآيات الله تعالى أكثر من هذا! ولقد أخبرني على بن حمزة المرادى لصقلي الصوفي: أنه رأى بعض الأشعرية ينطح (1) المصحف برجله قال: فأكبرت ذلك، وقلت له. ويحك؟ تفعل هذا الفعل بالمصحف، وفيه كلام الله عز وجل! فقال لي: ويلك! والله ما فيه إلا السخام والسواد، وأما كلام الله تعالى فلا. أو كلاما هذا معناه. قال أبو محمد: وكتب لي أبو المرجا على بن زوار المصرى رحمه الله تعالى: أن بعض ثقات إخوانه من طلاب السنن أخبره أن رجلاً من الأشعرية قال له مشافهة على من يقول إن الله تعالى قال {قل هو الله أحد. الله الصمد} - ألف لعنة. قال أبو محمد: بل على من ينكر أن الله تعالى قالها - ألف ألف لعنة، وعلى من ينكر أنه سمع كلام الله عز وجل ويقرأ كلام الله عز وجل ألف ألف لعنة تترى عليه من عند الله عز وجل، ثم من ملائكته وأنبيائه وجميع الصالحين من الإنس والجن. فإن قول هذه الفرقة في هذه المسألة نهاية الكفر بالله عز وجل، ومخالفة القرآن وتكذيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومضادة جميع أهل الإسلام قبل حدوث هذه الطائفة الملعونة! .   (1) كذا في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 قال أبو محمد: وقالت الأشعرية كلها: إن الله تعالى لم يزل قائلاً لكل ما خلق أو يخلق في المستأنف ((كن كن)) إلا أن الأشياء لم تكن إلا حين كونها، صرح الأشعرى بذلك في كتابه المبتذل عند أصحابه الموسوم بالشرح والتفصيل، فقال فيه: إنه عز وجل لم يزل قائلاً لنوح عليه السلام ولغيره كل ما أخبر عز وجل أنه قاله أو أنه يقوله. قال أبو محمد: وهذا تكذيب منهم لله عز وجل مكشوف: إذ يقول عز وجل: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس 72] فبين عز وجل أنه لا يقول لشئ كن إلا إذا أراد تكوينه، وأنه تعالى إذا قال: كن، كان الشئ في الوقت بلا مهلة، ولا زمان بينهما، يعنى بين قوله عز وجل وبين كونه المقول له كن، لأن هذا هو مقتضى الفاء في اللغة التى بها نزل القرآن. فجمعوا إلى تكذيب الله عز وجل في خبريه جميعاً إيجاب أزلية العالم، لأن الله تعالى إذا كان لم يزل قائلاً لكل ما يكون كن، فالتكوين لم يزل. وهذه دهرية محضة أهـ كلام ابن حزم الظاهرى الأندلسي، وبقى ما لا تطاوعني على قله نفسي، بل لا يكاد إلى آخر الدهر يجرى به نِقْسى (1) ، وهو بالنسبة إلى مقام الأشعرية الرفيع الجناب، كطنين ذباب، أ, كصرير باب. وإنما نقلته لك لتزداد إطلاعاً على أختلاف العلماء في مسألة الكلام، وتعلم أنها كم زلت فيها أقدام أقوام، وان الأشعرية طائفتان كما تقدم، فاستمسك بالأثرية منهما، مقل: اللهم علمنا ما لم نعلم فهو الموفق للمذهب الأسلم، والسلام. فصل [البيهقي يستدل لكون القرآن غير مخلوق] ولنذكر بعض ما ذكره الإمام الحافظ ابو بكر أحمد الشافعي البيهقى في   (1) النقس - بالكسر - الذي يكتب به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 كتاب الصفات فإنه قال فيه: (باب ما جاء في إثبات صفة الكلام، وأ، هـ غير مخلوق) قال الله عز وجل: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربى لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً} [الكهف 109] . وقال تعالى: {لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله} [لقمان 27] وقال عز من قال: {وإن أحد من المشركين أستجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة 6] ولم يقل حتى يرى خلق الله، ونظائرها كثيرة. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تكفل الله عز وجل لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة)) رواه البخارى في الصحيح. وروى مسلم في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى)) وعن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين ((أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة - ثم يقول - كان أبوكم إبراهيم يعوذ بها إسماعيل وإسحق)) وعن على - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول عند مضجعه: ((اللهم إنى أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامة من كل شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم إنك تكشف المغرم والمأثم، اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك)) فاستعاذ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الخبر بكلمات الله عز وجل كما استعاذ بوجهه الكريم. فكما أن وجهه الذي أستعاذ به غير مخلوق، فكذلك كلمات الله تعالى التى أستعاذ بها غير مخلوقة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وكلام (1) الله تعالى واحد، وإنما جاء بلفظ الجمع على معنى التعظيم، وإنما سماها تامة لأنه لا يجوز أن يكون في كلامه سبحانه عيب أو نقص، كما يكون ذلك في كلام الآدميين. وبلغني عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أنه كان يستدل بذلك على أن القرآن غير مخلوق قال: وذلك لأنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص. وقال عليه الصلاة والسلام من حديث: ((فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)) . باب [القول والكلام يتواردان على معنى واحد] (ما جاء في إثبات صفة القول، وهو والكلام عبارتان عن معنى واحد) قال الله تعالى: {ولكن حق القول منى} [السجدة 13] وقال تعالى: {لقد حق القول على أكثرهم} [يس 7] وقال تعالى {من أصدق من الله قيلا} [النساء 122] وقال سبحانه {من أصدق من الله حديثاً} [النساء 87] وقال تعالى {فالحق والحق أقول} [ص 84] فأثبت الله جل ثناؤه لنفسه صفة القول في هذه الآيات. وقال عليه الصلاة والسلام: ((خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) وفي حديث الإسراء ((باب، إن أمتى ضعاف أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وابصارهم فخفف عنا. فقال: إنى لا يبدل القول لدى. هي كما كتبت عليك في أم الكتاب ولك بكل حسنة عشر أمثالها هي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك)) أخرجاه في الصحيح.   (1) قوله وكلام الله واحد هو عين ما تقوله المبتدعة من متأخرى الأشعرية ومخالف لما قاله سلف هذه الأمة من أن كلمات الله كثيرة لا نهاية لها واستدلوا بقوله ((قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي)) وقوله ((ولو أن ما في الأرض من شجرة اقلام)) الآية راجع مناظرة ابن حزم للأشعرية ص 263 وراجع كلام الإمام أحمد من ص 353 - 356، وكتبه محمد سلمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 باب [ما جاء في إثباته صفة التكليم والتكلم والقول سوى ما مضى] قال الله جل ثناؤه: {وكلم الله موسى تكليماً} [النساء 164] فوصف نفسه بالتكلم ووكده بالتكرار فقال {تكليماً} . وقال عز من قائل: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} [الأعراف 143] . وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله} [البقرة 253] وذكر في غير آية من كتابه ما كلم به موسى عليه السلام فقال: {يا موسى أنى انا ربك فأخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى. وأنا أخترتك فاستمع لما يوحى إننى أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدنى} [طه 12 - 14] . فهذا كلام سمعه عليه السلام من ربه بإسماع الحق إياه بلا ترجمان كان بينه وبينه، دله بذلك على ربوبيته، ودعاه إلى وحدانيته، وأمره بعبادته وإقامة الصلاة لذكره، وأخبر أنه أصطنعه لنفسه. وروى البخارى في الصحيح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحتج آدم وموسى فقال له أنت آدم الذى أخرجت ذريتم من الجنة. فقال له آدم أنت موسى الذى أصطفاك الله تعالى برسالته وكلامه تلومنى على أمر قد قدر قبل أن أخلق، فحج آدم موسى)) . وروى في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يجمع المؤمنون يومئذ فيهيمون لذلك اليوم ويقولون: لو استشفعنا على ربنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون له: يا آدم، أنت أبو الناس خلقك الله عز وجل بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شئ فاشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم، ويذكر لهم خطيئته، التى أصاب، ولكن أئتوا نوحاً أول رسول بعثه الله إلى الأرض. فيأتون نوحاٌ فيقول: لهم لست هناكم، ويذكر لهم خطيئته التى أصاب، ولكن أئتوا إبراهيم خليل الرحمن. فيأتون إبراهيم فيقول لهم: لست هناكم، ويذكر لهم خطاياه التى أصاب، ولكن أئتوا موسى عبداً آتاه الله التوراة وكلمه تكليماً. فيأتون موسى فيقول لهم: لست هناكم، ويذكر لهم خطيئته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 التى اصاب، ولكن أئتوا عيسى رسول الله وكلمته وروحه. فيأتون عيسى فيقول لهم: لست هناكم، ولكن أئتوا محمداً عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فيأتون، فأنطلق معهم فأستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعنى ما شاء الله أن يدعنى، ثم يقول لي: يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، فأحد لهم حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرفع الثانية فأستأذن على ربي فيؤذن لى، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً فيدعنى ما شاء الله أن يدعنى، ثم يقول لى: يا محمد، أرفع رأسك سل تعط، وأشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أحد ثانياً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع الثالثة فاستأذن على ربي فيؤذن لى، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعنى ما شاء الله أن يدعنى، ثم يقول: يا محمد، أرفع راسك سل تعط واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أحد لهم حداً فأدخلهم الجنة حتى ارجع فاقول: يارب، ما بقي في النار إلا من وجب عليه الخلود أو حبسه القرآن)) . وفي هذا أن موسى عليه السلام مخصوص أن الله عز وجل كلمه تكليماً، ولو كان إنما سمعه من مخلوق لم يكن له خاصية. وقوله في عيسى عليه السلام ((إنه كلمته)) فإنما يريد أن يكلمه الله تعالى صار مكوناً من غير أب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 باب [كيف يكلم الله البشر؟] {ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحى بإذنه ما يشاء} [الشورى 51] . قال بعض أهل التفسير: فالوحي الأول ما أرى الله سبحانه الأنبياء عليهم السلام في منامهم، كما أمر إبراهيم عليه لسلام في منامه بذبح أبنه. قال الشافعي رحمه الله تعالى: قال غير واحد من أهل التفسير: رؤيا الأنبياء وحي، لقول ابن إبراهيم الذى أمر بذبحه: أفعل ما تؤمر. وأما الكلام من وراء حجاب فهو كلام الله عز وجل موسى عليه السلام من وراء حجاب، والحجاب المذكور في هذا الموضع وغيره يرجع إلى الخلق دون الخالق. وأما الكلام بالرسالة فهو إرسال الروح الأمين بالرسالة إلى من شاء من عباده، قال الله عز وجل: {إنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء 193] . وقد ذهب الزهرى رحمه الله تعالى في تقسيم الوحى إلى زيادة بيان، وذلك فيما روى يونس بن زيد قال: سمعت الزهرى سئل عن قول الله عز وجل: {ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً} [الشورى 51] الآية. قال: نزلت هذه الآية من أوحى الله عز وجل إليه من النبيين، فالكلام كلام الله عز وجل الذى كلم به موسى من وراء حجاب، والوحى ما يوحى الله تعالى به إلى النبي من أنبيائه، فيثبت الله عز وجل ما أراه من وحيه في قلب النبي فيتكلم به النبي عليه السلام ويبينه، وهو كلام الله ووحيه. ومنه ما يكون بين الله تعالى ورسله، لا يكلم به أحد من الأنبياء أحداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 من الناس، ولكنه سر غيب بين الله تعالى ورسله. ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتبونه لأحد ولا يأمرون بكتابة ولكنهم يحدثون به الناس حديثاً، ويبينون بهم أن الله عز وجل أمرهم أن يبينوا للناس، ويبلغوهم من الوحى ما يرسل به إليه فيوحون وحياً في قلوب من يشاء من رسله. وقد بين الله وجل لنا في كتابه أنه يرسل جبريل عليه السلام إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال الله عز وجل في كتابه: {من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين} [البقرة 17] وذكر أنه الروح الأمين فقال: {وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين، على قلبك} [الشعراء 192 - 194] الآية - فذهب في الوحي الأول إلى أنه ما يوحى الله عز وجل به إلى النبي عليه السلام فيثبت ما أراد من وحيه في قلبه فيتكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يجمع حال اليقظة والنوم. وذهب فيما يوحى الله عز وجل إلى النبي بإرسال الملك إليه إلى أنه يكون على نوعين: أحدهما - أن ياتيه الملك فيكلمه بأمر الله عز وجل تكليماً، والآخر أن يأتيه فيلقى في روحه (1) ما أمر الله عز وجل، وكذلك بين في الأخار. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الحرث بن هشام سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، كيف يأتيك الوحي؟ قال: ((كل ذلك يأتى الملك أحياناً في مثل صلصلة الجرس فيصم عنى وقد وعيت ما قال وهو أشده على، ويتمثل في مثل الملك أحياناً رجلاً فليكلمنى فأعى ما يقول)) رواه البخارى في الصحيح. وروى المطلب بن حنطب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما تركت شيئاً مما أمركم الله عز وجل به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت   (1) كذا في الأصل ولعلها: ((روعه)) بالعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 شيئاً مما نهاكم الله تعالى عنه إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في روعى أنه لن تموت نفس حتى تستوفى رزقها فأجملوا في الطلب)) . باب [إسماع الرب ملائكته] ما جاء في إسماع الرب عز وجل بعض ملائكته كلامه الذى لم ينزل به موصوفاً ولا يزال به موصوفاً، وتنزيل الملك به إلى من أرسله إليه، وما يكون في أهل السماوات من الفزع عند ذلك. قال الله عز وجل: {حتى إذا فزع (1) عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير} [سبأ 23] قال سفيان بن عيينة: قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم، قالوا للذى قالوا (2) الحق وهو العلى الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، هكذا بعضهم فوق بعض - وصف سفيان بعضها فوق بعض قال - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا، وكذا الكلمة التى سمعت من السماء فيصدق بتلك الكلمة التى سمعت من السماء)) رواه البخاري. وروى رجاء بن حيوة بسنده أن يوحى بأمره وكلم الوحي فإذا تكلم أخذت السماوات رجفة، أو قال رعدة شديدة - خوفاً من الله عز وجل، فإذا   (1) على هامش الأصل: ((أى ذهب الفزع، كأنه نزع الفزع عن قلوبهم)) اهـ. (2) كذا في الأصل. وعبارة الحديث كما في تفسير سورة الحجر في صحيح البخاري: ((قالوا للذى قال الحق)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله تعالى سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام فيكلمه الله عز وجل من وحيه بما أراد، فيمضى جبريل عليه السلام على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فينتهى جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض)) . وروى البخاري في الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ((يقبض الله عز وجل الأرض، ويطوى السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟)) . وروى خليفة بن عدى قال: كنت عند رسول اله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجلان أحدهما يشكو العليلة، والآخر يشكو قطه السبيل، قال فقال: ((لا يأتى عليك إلا قليل حتى تخرج المرأة من الحيرة إلى مكة بغير خفير، ولا تقوم الساعة حتى يطوف أحدكم بصدقته فلا يجد من يقبلها منه، ثم ليفيض المال، ثم ليقفن أحدكم بين يدى الله عز وجل ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ولا ترجمان فيترجم له، فيقول: ألم أوتك مالاً فيقول: بلى، فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، وينظر عن يساره فلا يرى إلا النار، فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) رواه البخاري عن عبد الله عن أبي عاصم. ثم قال الشيخ الإمام أحمد - يعنى البيهقي -: والكلام هو نطق نفس المتكلم، بدليل ما رويناه عن أمير المؤمنين عمر في حديث السقيفة: فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: والله ما أردت بذلك إلا أنى قد هيأت كلاماً قد أعجبني. وفي رواية أخرى: وكنت زورت مقالة أعجبتنى، فسمى تزويره الكلام في نفسه كلاماً قبل التلفظ به. ثم إن كان المتكلم ذا مخارج سمع كلامه ذا حروف وأصوات. وإن كان المتكلم غير ذى مخارج سمع كلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 غير ذى حروف وأصوات، فالبارئ جل ثناؤه ليس بذى مخارج فكلامه ليس بحروف ولا أصوات، فإذا نحن تلوناه تلوناه بحروف وأصوات. وقد أخبرنا أبو عبد الحافظ قال: أخبرنا أبو العباس المحمود قال: حدثنا شعبة بن مسعود قال: حدثنا يزيد بن هرون قال: أخبرنا همام بن يحيى عن عبد الله بن أنيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الظالم قال: ((يحشر الله العباد - أو قال الناس - عراة غر لا بهما ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان)) . وهذا حديث ينفرد به القاسم بن عبد الواحد عن ابن عقيل، وابن عقيل والقاسم لم يحتج بهما الشيخان أبو عبد الله البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابورى، ولم يخرجا هذا الحديث في الصحيح بإسناده، وإنما أشار البخاري إليه في ترجمة الباب. واختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه. ولم تثبت (1) صفة الصوت في كلام الله تعالى في حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير حديثه، فليس بنا ضرورة إلى إثباته. وقد يجوز أن يكون الصوت إن كان ثابتاً راجعاً إلى غيره، كما رويناه عن ابن عبد الله بن مسعود موقوفاً ومرفوعاً: ((إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاة)) وفي حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان)) ففي هذين الحدثين الصحيحين دلالة على أنهم يسمعون عند الوحي صوتاً لكن للسماء ولأجنحة الملائكة، تعالى الله عن شبه المخلوقين علواً كبيراً!   (1) كيف وقد أثبت الإمام أحمد وغيره من السلف أن الله يتكلم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب والأحاديث كثيرة متواترة غير أن صوته لا يشبه صوت العباد وصوته يجرى مجرى الصفات فهو ليس كمثله وقوله هنا إن كلامه ليس بحرف ولا صوت هو من فلسفة المتأخرين وراجع الإمام أحمد في ص 353. كتبه محمد سليمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وأما الحديث الذى ذكره البخارى عن عمر بن حفص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله يا آدم فيقول: لبيك وسعديك، فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ... ..)) فهذا لفظ ينفرد به ابن حفص. أو معناه: ينادى آدم ملك بصوت. وأما الحديث الذى روى عن جابر بن عبد الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ((لما كلم الله عز وجل موسى يوم الطور قال له موسى: يارب، هذا كلامك الذى كلمتنى به يوم ناديتنى؟ فقال: يا موسى لا، إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولى قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك)) فلما رجع موسى إلى بنى إسرائيل قالوا له: يا موسى صف لنا كلام الرحمن؟ قال: قال: سبحان الله! من يطيق! قالوا: فشبهه لنا، قال: ألم تروا إلى أصوات الصواعق حين تقبل في أحلى حلاوة سمعتموه، فإنه قريب منه وليس به - فبعض رواته ضعيف الحديث. أنتهى ثم ذكر ما يقرب منه، ثم ضعف لبعض وأول الباقي. وأنت تعلم أن الأحاديث التى فيها إثبات الصوت تزيد على أربعين حديثاً، أخرج غالبها الإمام أحمد واحتج به، وكذا غيره من أئمة الحديث، كما حكاه الكوراني والسفاريني وغيرهما عن جمع السلف كما سيأتى. ثم قال الإمام البيهقي: والذي يدل على أ، كلام الله تعالى لم يزل ولا يزل وأنه لا يقال في كلامه إنه لم يكن ثم كان، أو كان ثم انقضى، فإنه لا يشبه كلامه كلام المخلوقين - أنه جل ثناؤه يقول لكل ما يريد إحداثه ((كن)) يعنى كن موجوداً فيكون، ولكل ما يريد فناءه ((كن)) يعنى فانياً فيفنى، وبقول لمن قرأ الفاتحة فقال: الحمد لله رب العالمين: حمدني عبدى، ولمن قال: الرحمن الرحيم: أثنى على عبدى، ولمن قال: مالك يوم الدين: مجدنى عبدى، ولمن قال إياك نعبد وإياك نستعين: هذه الآية بينى وبين عبدى، ولمن قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أهدنا الصراط المستقيم إلى آخرها: هذه لعبدى ولعبدى ما سال، ويقول لمن أصاب ذنباً فقال: يا رب قد أذنبت ذنباً فاغفره لي: علم عبدى أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدى. وروينا في الأبواب قبل هذا ما يقول الله عز وجل لملائكته وعباده لكل منهم في وقت واحد: كن، ولآخر: كن، ولواحد: حمدنى، ولآخر: أثنى على - وربنا ثناؤه يقول جميع ذلك في وقت واحد، ويحاسب الخلق أجمعين يوم القيامة، لا تشغله محاسبة واحد عن الآخر. دل على أن كلامه ليس بحروف ولا أصوات، وأنه لا يقال في كلامه إنه لم يكن ثم كان، ولا كان ثم انقضى، ثم يقال في كلام المخلوقين، وأن كلامه صفة قائمة بذاته تعالى لم يزل، غير أن تعلقه بالمعلوم يكون وقت وجوده. وبالله التوفيق، والله أعلم. أنتهى فتدبره. وقال أيضاً: باب [ما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين رضي الله تعالى عنهم في أن القرآن كلام الله غير مخلوق] عن ابن عباس في قوله عز وجل: {قرآنا عربياً غير ذي عوج} [الزمر 28] قال: غير مخلوق. وعن عكرمة قال: حمل ابن عباس جنازة فلما وضع الميت في قبره قال له الرجل: اللهم رب القرآن اغفر له. فقال ابن عباس: مه! لا تقل مثل هذا، منه بدأ وإليه يعود. قلت: قول ((منه بدأ)) معناه منه سمع، وبتعليمه تعلم، وبتفهيمه فهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وقوله: ((إليه يعود)) فمعناه وإليه تلاوتنا لكلامه، وقيامنا بحقه. وقيل: معناه هو الذي تكلم به، وهو الذى أمر به فيه ونهى عما خطر فيه، وإليه يعود، وهو الذي يسألك عما امرك به، ونهاك عنه. وقال أبو الفرج بن يزيد الكلاعى: قالوا لعلى كرم الله تعالى وجهه: حكمت كافراً ومنافقاً فقال: ما حكمت مخلوقاً! ما حكمت إلا القرآن. وعن موسى بن الربيع قال: سألت جعفر بن محمد - رضي الله عنه - عن القرآن؟ فقال: كلام الله قلت: فمخلوق؟ قال: لا. قلت: فما القول فيمن زعمر أنه مخلوق؟ قال: يقتل ولا يستتاب. وقال مالك ابن أنس: من يقول القرآن مخلوق هو عندي كافر فأقتلوه. وقال عبد الرحمن بن مهدى وقيل له: إن الجهمية يقولون: إن القرآن مخلوق فقال: إن الجهمية لم يريدوا ذا، وإنما أرادوا أن ينفوا أن يكون الرحمن على العرش أستوى، وأرادوا أن ينفوا أن يكون الله عز وجل كلم موسى، وقال الله عز وجل: {وكلم الله موسى تكليماً} [النساء 164] وارادوا أن ينفوا أن القرآن كلام الله، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. وقال وكيع: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر بالله العظيم. وقال أبو يوسف القاضي: كلمت أبا حنيفة سنة جرداء في أن القرآن مخلوق أم لا؟ فاتفق رأيه ورأيي على أن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر. وقال الربيع: لما كلم الشافعي حفص الفرد فقال حفص: القرآن مخلوق. قال له الشافعي: كفرت باله العظيم. وقال الربيع: سمعت البويطى يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، قال الله عز وجل: {إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 [النحل 49] فأخبرنا الله تعالى أنه يخلق الخلق ((بكن)) فمن زعم أن ((كن)) مخلوق فقد زعم أن الله جل جلاله يخلق الخلق بخلق. وقال البخاري: حدثوني عن وكيع أنه قال: لا تستخفوا بقولهم: القرآن مخلوق، فإنه من شر قولهم، وإنما يذهبون الله التعطيل. وقال الإمام البيهقي: قلت وقد روينا نحو هذا عن جماعة من فقهاء الأمصار وعلماؤهم، ولم يصح عندنا خلاف هذا القول عن احد من الناس في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهما أجمعين. واول من خالف الجماعة في ذلك الجعد بن درهم، فأنكره عليه خالد بن عبد الله القسرى وقتله وقد خطبهم في يوم أضحى بواسط فقال: ارجعوا أيها الناس فضحوا، تقبل الله منكم، فإنى مضح بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله عز وجل لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، سبحانه وتعالى عما يقول الجعد بن درهم. قال: ثم نزل فذبحه قال أبو رجاء: وكان يأخذ هذا الكلام من الجعد بن درهم، رواه البخاري في كتاب التاريخ. باب [الفرق بين التلاوة والمتلو] قال الله عز وجل: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر 17] وقال: {والطور. وكتاب مسطور. في رق منشور} [الطور 1 - 3] وقال: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [العنكبوت 49] وقال: {وإن أحد من المشركين أستجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة 6] فالقرآن الذي نتلوه هو كلام الله عز وجل، وهو متلو بألسنتنا على الحقيقة، و\مكتوب في مصاحفنا، محفوظ في صدرونا، مسموع في أسماعنا، عير حال في شئ منها، إذ هي من صفات غير بائنة منه، وهو كما أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 البارى سبحانه معلوم بقلوبنا / مذكور بألسنتنا، مكتوب في كتابنا، معبود في مساجدنا، مسموع بأسماعنا، غير حال في شئ منها وأما قراءنتا وكتابتنا وحفظنا فهو من أكسابه مخلوقة لا شك فيها. قال الله تعالى: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [الحج 77] وسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلاوة القرآن فعلاً في قوله عليه الصلاة والسلام ((لا حسد إلا في أثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل والنهار، فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتى هذا لفعلت كما يفعل. ورجل أتاه الله مالاً فهو ينفقه في حقه فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتى هذا عملت مثل ما يعمل)) قال يحيى بن سعيد: مازلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة. قال البخاري: حركاتهم وأصواتهم، وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف، المسطور المكتوب المحفوظ في القلوب، فهو كلام الله عز وجل ليس بخلق وعن ابن عباس في قوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر 17] لولا أن يسره على لسان الآدميين ما أستطاع أحد أن يتكلم بكلام الله عز وجل. وقال ابن المبارك: لا أقول القرآن خالق، ولا مخلوق، ولكنه كلام الله تعالى ليس منه ببائن. قال الشيخ البيهقى: قلت هذا هو مذهب السلف والخلف من أصحاب الحديث، أن القرأن كلام الله تعالى وهو صفة من صفات ذاته ليست ببائنة منه. وإذا كان هذا الأصل مذهبهم في القرآن، فكيف يتوهم عليهم خلاف ما ذكرنا في تلاوتنا وكتابتنا وحفظنا، إلا أنهم في ذلك على طريقين: منهم من فصل بين التلاوة والمتلو كما فصلنا. ومنهم من أحب ترك الكلام فيه مع إنكار قول من زعم أن لفظى بالقرآن غير مخلوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ولصحة ذلك أنا أبو عبد الله الحافظ قال: أنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: سمعت أبا بكر محمد بن إسحق يقول: سمعت ابا محمد فوران يقول: جاءني ابن شداد برقعة فيها مسائل وفيها: أن لفظي بالقرآن غير مخلوق، فدفعتها إلى أبي بكر المروزى فقلت له: أذهب بها إلى بن عبد الله - يعنى أحمد بن حنبل - وأخبره أن ابن ابي شداد ههنا، وهذه الرقعة قد جاء بها، فما كرهت منها وأنكرته فاضرب عليه فجاءنى بالرقعة وقد ضرب على موضع ((لفظي بالقرآن غير مخلوق)) وكتب: ((القرآن)) حيث تصرف غير مخلوق. ثم ذكر الإمام البيهقى أخرى مثلها، ثم قال: فهاتان الحكايتان تصرحان بأن أبا عبد الله أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - برئ مما خالف مذهب المحققين من أصحابنا، إلا أنه كان يستحب قلة الكلام في ذلك، وترك الخوض فيه مع إنكار ما خالف مذهب الجماعة. وفي مثل ذلك ما روى عن ابن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: سمعت أبي يقول: من قال لفظى بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو كافر. قال البيهقي: قلت فهذا تقييد حفظه عنه ابنه عبد الله، وهو قول يريد به القرآن قد غفل عنه غيره. ومما رويناه أن أبا بكر أحمد بن إسحق الفقيه رحمه الله تعالى أملى اعتقاده واعتقاد رفقائه على أبي بكر عثمان، وعرضه على محمد بن إسحق بن خزيمة فاستصوبه محمد بن إسحق وارتضاه. وكان فيما أملى من اعتقادهم: من زعم أن الله جل ذكره لم يتكلم إلا مرة، ولا يتكلم إلا ما تكلم به ثم انقضى كلامه، كفر بالله. بل لم يزل الله متكلماً، ولا يزال متكلماً لا مثل لكلامه، لأنه صفة من صفات ذاته فنفى اله عز وجل المثل عن كلامه، كما نفى المثل عن نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 ونفى النفاد عن كلامه كما نفى الهلاك عن نفسه، سبحانه، فقال تعالى: {كل شئ هالك إلا وجهه} [القصص 88] وقال: {قل لو كان البحر مداداً} [الكهف 109] الآية. فكلام اله تعالى غير بائن عن الله، ليس هو دونه ولا غيره، ولا هو هو. بل ربنا عالماً، ولا يزال عالماً، ولم يزل متكلماً، ولا يزال متكلماً، فهو الموصوف بالصفات العلا، لم يزل بجميع صفاته التى هي صفاته واحداً، ولا يزال وهو اللطيف الخبير، أنتهى باختصار، وحذف أسانيده الغزار، وهو خلاصة ما ذكره في بحث الكلام فتدبره، وما قبله، فقلما تجده في كتب الأعلام. ثم إني قد وقفت بعد تحرير هذا المقام على كتاب ((الجوائز والصلات في جمع الأسامي والصفات)) للسيد البدر أبى الخير الطيب الحسيني فوجدته مسك الختام، في بيان مسائل الصفات له سبحانه وتعالى، فمن شاء الإحاطة بهذا فعليه بذلك. [هل كان ابن تيمية دهرياً يقول بقدم العالم؟] قوله: (وإن العالم قديم النوع، ولم يزل مع الله تعالى مخلوقاً دائماً فجعله موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار) - أقول: قد نصب بعض العلماء هذا القول للشيخ محيى الدين ابن عربي عليه الرحمة، وذب عنه الشيخ الشعراني في ((الأجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية)) بما نصه: ومن ذلك دعوى المنكر أن الشيخ - رضي الله عنه - يقول بقدم العالم، وأنه دهرى الاعتقاد، وأن الأفلاك قديمة. وذلك من جملة ما افتراه على الشيخ فقد ذكر في عقيدته أول الفتوحات ما يكذب المفترى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وقد بسط الشيخ الكلام على نفى قدم العالم وحدوثه، وقدم الصفات في الباب ((الثامن والخمسين وخمسمائة)) من الفتوحات فراجعه إن شئت. وحاصله: أن العالم قديم في العلم الإلهي، من حيث كونه معلوم علم الله الذي لا افتتاح له، وأنه حادث في الظهور لعالم الشهادة. أنتهى باقتصار. ونسبه الملا جلال الدواني للشيخ ابن تيميه في العرش وحاشاه من القول بذلك، بل هو قول مفترى، عامل الله تعالى من أفتراه بعدله. وكيف يتخيل عاقل، أو يظن جاهل فضلاً عن فاضل، وأن الشيخ ابن تيميه يقول ذلك ويسلك أخوف المسالك: وهذه ترجمته قد سطرتها المؤرخون، وسيره حررتها العلماء العاملون، وأعظم شاهداً تآليفه وعقائده المنشورات في الأنام، وتأييده للكتاب وسنة خير الأنام عليه افضل الصلاة والسلام. وله في العقائد كتب مبسوطة، وفي رد الفلاسفة والدهرية والمبتدعة تصنيفات مقبولة مغبوطة. ولعمرى إن الشيخ ابن حجر هذا من غير تثبت واحتياط، ولا يقدر أن يصحح ما رواه عنه حتى يلج الجمل في سم الخياط. وقد رأيت في كتاب ملخص من بعض كتبه ما نصه: قوله عليه الصلاة والسلام: ((كان الله ولا شئ معه، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شئ)) نفى وجود المخلوقات من السماوات والأرض وما فيهما لا ينفى وجود العرش. ولهذا ذهب كثير من السلف إلى أن العرش متقدم على اللوح والقلم مستدلين بهذا الحديث، وحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول ما خلق الله تعالى القلم)) على هذا المذكور من الخلق في قوله {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} [هود 7] . وهذا نظير حديث ابي رزين: ((أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء)) فالخلق المذكور في هذا الحديث لم يدخل فيه العلماء. وذكر بعضهم أن هذا هو السحاب المذكور في قوله تعالي: {هل ينظرون إلى أن يأتيهم الله في ظل الغمام} [البقرة 210] وفيه آثار معروفة. أنتهى. وكتب الوالد عليه الرحمة على قول الداونى رحمه الله تعالى: وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيمية القول به في العرش إلى آخره ما نصه: حاشا لله تعالى أن يكون ذلك من تصانيفه! بل نسبته إليه كنسبة الرسالة التى فيها القول بإيمان فرعون ونجاته يوم القيامة إلى الشارح - يعنى الملأ جلال الدواني - فاحفظ ذلك. أنتهى. وكتب أيضاً على هذه العبارة العلامة الشيخ إبراهيم الكوراني في حاشيته المسماه: ((مجلى المعاني)) على الشرح المذكور ما نصه: لم أقف على هذا التصنيف للشيخ ابن تيميه، ولكن الحافظ ابن حجر في فتح الباى قال في حديث البخارى الذى أسنده في باب ((وكان عرشه على الماء كان الله ولم يكن شئ قبله)) تقدم في بدء الخلق بلفظ ((ولك يكن شئ غيره)) وفي رواية الإسماعيلي في صحيحه ((كان الله قبل كل شئ)) وهو بمعنى كان الله ولا شئ معه. وهي أصرح في الرد على حوادث لا أول لها في رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية ووقفت في كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التى في بدء الخلق لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق. أنتهى كلام الكورانى. ثم بعد هذا برأه مما نسب إليه كما قدمناه في التراجم فعض بالنواخذ عليه. (قلت) : ومن جملة ما يبرأ به الشيخ ابن تيميه عن القول بقدم العالم سواء كان القدم بالذات أم النوع - أنه قد صرح بكفر ابن سينا وأضرابه لقولهم بقدم العالم. وقال تلميذه المحقق في نونيته ما نصه: [كامل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 والله سابق كل شئ غيره ... ما ربنا والخلق مقترنان والله كان وليس شئ غيره ... سبحانه جل العظيم الشأن لسنا نقول كما يقول الملحد الزند ... يق صاحب منطق اليونان بدوام هذا العالم المشهود وا ... لأرواح في أزل وليس بفانى وقد قال غير واحد من العلماء: إن العالم محدث بإجماع أهل الملل، ولم يخالف فيه إلا الفلاسفة. قال ابن ابي زرعه: ومنهم الفارابى وابن سينا قالوا: إنه قديم بمادته وصورته، وقيل قديم المادة محدث الصورة. وضللهم المسلمون في ذلك وكفروهم، واستدلوا على ذلك بأدلة عقلية ونقلية، ومنها ما في صحيح البخاري عن عمران بن حصين. داء نفر من اليمن فقالوا: يا رسول الله، جئناك نتفقه في الدين ونسالك عن أول هذا الآمر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((كان الله ولم يكن شئ قبله، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شئ، وخلق السماوات والأرض)) وفي لفظ ((ثم خلق السماوات والأرض)) أنتهى. وقال الشيخ السفاريني عند شرح قوله: [الرجز] وسائر الأشياء غير الذات ... وغير ما الأسماء والصفات مخلوقة لربنا من العدم ... وضل من أثنى عليها بالقدم وربنا يخلق باختيار ... من غير حاجة ولا أضطرار ما ملخصه: وقد اخبر سبحانه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)) قال شيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الإسلام ابن تيميه في الأجوبة الاسكندرية: قد أخبرت الكتب الإلهية أن الله عز وجل خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فتلك الأيام ليست مقدرة بحركة الشمس والقمر، فإنه فيها خلق الشمس والقمر والأفلاك وسواء كانت بقدر هذه الأيام، أو كان كل يوم بقدر ألف سنة، وليس بين أهل الملل خلاف في أن الملائكة جميعهم مخلوقون. وقال في شرح الأصفهانية. أول من عرف منه القول بقدم العالم أرسطو وكان ضالاً مشركاً يعبد الأصنام - يعني المصورات في هياكلهم على صور الكواكب السيارة - وله في الهيئات كلام كله خطأ قد تعقبه في الرد عليه طوائف من المسلمين حتى الجهمية والمعتزلة، وفلاسفة الإسلام أنكروه عليه قال: وأما الأساطين قبله فلم يكونوا يقولون بقدم صور الفلك، وإن كان لهم في المادة أقوال أخر، وليس لأرسطو ولغيره حجة واحدة تدل على قدم شئ من العالم أصلاً. والحاصل - أن الله تعالى خالق لكل ما سواه، فليس معه شئ قديم بقدمه لا نفس ولا عقل ولا غيرهما. أنتهى. وقد مر لك شئ مما يتعلق بأقوالهم فتذكر، وإن أردت تكميل بحث الاختيار فعليك بشرح السفاريني، وكتب العقائد الكبار. وإذا أحطت خبراً بما تقدم تبينت لك براءة الشيخ ابن تيمية من هذا العزو الشنيع، غير أن تبرئته الشيخ الأكبر منه فيها نوع ما من الصعوبة وإن ذب عنه الشعراني، كما تقدم آنفاً، لما ذكره عبد الكريم الجبلى في الباب الثالث في الإرادة من كتاب الإنسان الكامل، ونقله عنه الوالد عليه الرحمة في المجمعة الوسطى: أن الشيخ الأكبر قدس سره قال في الفتوحات، وقد تكلم في سر الإرادة: إنه لا يجوز أن يسمى الله تعالى مختاراً، فإنه لا بفعل شيئاً بالاختيار، بل يفعله على حسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ما اقتضاه العالم من نفسه، وما أقتضى العالم من نفسه إلا هذا الوجه الذى هو عليه فيكون مختاراً. أنتهى. قال: وقد رد عليه عبد الكريم، ويكفى في ظاهر رده قوله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص 68] فتأمل، لأن المتبادر من كلام الشيخ قدس سره مشكل عند أهل السنة، والله تعالى العاصم. أنتهى كلام الوالد فتدبر. [وهل كان يقول بالحسمية والجهة والانتقال] (قوله بالجسمية والجهة والانتقال) - أقول: اجتمعت الفرقة الناجية أنه سبحانه منزه عن مشابهته لخلقه في ذاته وصفاته، وأنه سبحانه ليس بجسم، خلافاً للمجسمة والمشبهة فإنهم قالوا: إنه تعالى جسم، ثم اختلفوا فقالت الكرامية - وهم أصحاب أحمد بن كرام أى فرقة منهم -: وهو جسم أى موجود. وقوم آخرون منهم قالوا: هو جسم أى قائم بنفسه، فلا نزاع معهم على التفسير إلا في التسمية أى إطلاق لفظ الجسم عليه سبحانه، ومأخذها التوقيف ولا توقيف هنا. والمجسمة قالوا: هو جسم حقيقة، فقيل: مركب من لحم ودم، كمقاتل ابن سليمان وغيره قاتلهم الله أنى يؤفكون. وقيل هو نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء، وطوله شبعة أشبار من شبر نفسه. ومن المجسمة من يبالغ ويقول: إنه على صورة إنسان، فقيل: شاب أمرد جعد قطط أى شديد الجعودة. وقيل: هو شيخ أشمط الرأس واللحية. وقال السفاريني الحنبلي: هم أقسام، فمنهم مشبهه غلاة الشيعة، ومنهم مشبهه الحشوية قالوا: هو سبحانه من لحم ودم، وله الأعضاء، حتى قال بعضهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 لأصحابه: أعفوني من اللحية والفرج، وسلونى عما وراءهما، ومنهم مشبهه الكرامية أصحاب عبد الله بن أبى محمد بن كرام - كشداد - قالوا: إن الله تعالى على العرش من جهة العلو. وتجوز عليه الحركة والنزول، فقيل يملأ العرش. واختلفوا بعد أمتناه أو غيره. ومنهم من اطلق عليه لفظ الجسم. قالوا: وتحل الحوادث في ذاته تعالى، وإنما يقدر عليها دون الخارجة عن ذاته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! ولهم اعتقادات أخر من أرادها فليرجع إلى الكتب المفصلة: أنتهى. وقد شذ بعض من الحنابلة فأومأوا إلى التجسيم كأبى يعلى محمد بن الحسين الفراء، فقد قال ابن الوردى في ترجمته عنه: انتشر مذهب أحمد وله كتاب الصفات فيه كل عجيبة، ويدل على التجسيم المحض حتى كان ابن التميمى الحنبلى يقول: لقد نجس أبو يعلى الفراء، الحنابلة بشئ لا يغسله الماء. وكذا ابن الجوزى تكلم في ابن الزاغوانى الحنبلى ومن وافقه بمثل ذلك، وبين أن مذهب الإمام أحمد قد شانته بالتجسيم اقوال أولئك. وأما الإمام وسائر متابعته فحاشاهم من التجسيم، كما لا يخفى على منصف نبيه ومطلع سليم. وقال الأصفهاني في شرح الطوالع: أعلم أن جميع المجسمة اتفقوا على أنه تعالى في جهة. والكرامية اختلفوا فقال محمد بن الهضيم منهم: إنه تعالى في جهة فوق العرش لا نهاية لها، والبعد بينه وبين العرش أيضاً لا نهاية له. وقال بعض أصحابه: البعد متناه، وكلهم نفوا عنه خمساً من الجهات، واثبتوا له التحت الذى هو مكان غيره وباقى اصحاب محمد بن الهضيم قالوا بكونه على صورة أي صورة إنسان قلت: ولعل شبهتهم ما روى: ((أن الله خلق آدم على صورته)) وأمثال ذلك من المتشابه. وقالوا بمجيئه وذهابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 واحتج المصنف على نفى الجهة، ولم يحتج على نفى الجسمية، لأن نفى الجهة يستلزم نفي الجسمية، ولأن الحجة على نفي الجهة مشتملة على نفي الجسمية. إذا عرفت هذا فنقول: لو كان الله تعالى في جهة وحيز فإما أن ينقسم فيكون جسماً وكل جسم مركب ومحدث، فيكون الواجب مركباً ومحدثاً وهذا خلف. أولاً ينقسم فيكون جزءاً لا يتجزأ وهو محال بالاتفاق. وأيضاً لو كان الله تعالى في جهة وحيز لكان متناهي القدر، واللازم باطل فالملزوم مثله. قيل: والأولى أن يقال: لو كان الله تعالى جهة وحيز لكان قابلاً للقسمة والأشكال والأكوان، إى الحركة والسكون والاجتماع والافتراق، وكل ذلك في حقه تعالى محال، لأن وجوب الوجود ينافى هذه الأمور. واحتج المثبتون للجهة والحيز بالعقل والنقل، أما العقل فمن وجهين: الأولى: أن بديهة العقل حاكمة بان كل موجودين لابد وأن يكون أحدهما سارياً في الآخر، بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما هي الإشارة إلى الآخر كالجوهر وعرضه. أو أحدهما مبايناً عن الآخر في الجهة كالسماء والأرض، والله سبحانه ليس محلاً للعالم ولا حالا فيه، فيكون مبايناً عن العالم في الجهة. الثاني: الجسم يقتضي الحيز والجهة، لكونه موجوداً قائماً بنفسه فيكون مشاركاً للجسم في اقتضاء الحيز والجهة، فيكون في حيز وجهة. وأما النقل فآيات وأحاديث تشعر بالجسمية والجهة، منها قوله تعالى: {والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر 67] وقوله تعالى: {لما خلقت بيدى} [ص 75] وقوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} [الفتح 10] وقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 {الرحمن على العرش أستوى} [طه 5] وقوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر 10] وقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك} [الرحمن 27] . وقوله تعالى: {وجاء ربك} [الفجر 22] وقوله تعالى: {أأمنتم من في السماء} [الملك 19] وقوله تعالى: {يا هامان ابن لي صرحاً} [غافر 36] وقوله تعالى: {دنا فتدلى} [النجم 8] وقوله عليه الصلاة والسلام: ((قلب المؤمن بين أصبعين من اصابع الرحمن)) وقوله عليه السلام: ((يضع الجبار قدمه على النار)) وقوله عليه السلام: ((الكرسى موضع القدمين)) وقوله عليه السلام ((إن الله خلق آدم على صورته)) وقوله عليه السلام: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) وقوله عليه السلام: ((إن الله عز وجل خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال: مه، فقالت: هذا مكان العائد بك من القطيعة)) وقوله عليه السلام: ((إن نفس الرحمن من قبل اليمن)) وغير ذلك من الآيات والأحاديث. قال الأصفاني: أوجيب عن الوجه الأول بمنع الحصر، بأنا لا نسلم أن كل موجودين يجب أن يكون أحدهما سارياً في الآخر أو مبايناً له في الجهة، لجواز أن يكون مبايناً له في الذات والحقيقة لا في الجهة، ويمنع شهادة البديهة لاختلاف العقلاء فيه فإنه لو كان بديهة العقل شاهدة بأن كل موجودين لابد وأن يكون أحدهما سارياً في الآخر، أو مبايناً عنه في الجهة لما أختلف العقلاء فيه. وأجيب عن الوجه الثاني بأن الجسم يقتضى الحيز والجهة بحقيقة المخصوصة والله سبحانه لا يشاركه في اقتضاء الحيز والجهة. وأجيب عن الآيات المذكورة القابلة للتأويل: بأنها لظهورها لا تعارض القواطع العقلية التى لا تقبل التأويل لقطعها. وحينئذ إما أن تفوض علمها إلى الله تعالى كما هو مذهب السلف. وقول من أوجب الوقف على ((إلا الله)) في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران 7] ، وإما أن تؤول كاليد بالقدرة، والاستواء بالاستيلاء، كما هو مذهب المؤولين. وقول من عطف قوله تعالى: {والراسخون في العلم} على {إلا الله} والتأويلات مذكورة في المطولات، أنتهى. وأنت تعلم أن من السلف من يؤمن بظاهرها كالاستواء المعلوم حقيقته، المجهولة كيفيته بالنسبة للبارئ سبحانه، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، كما سيأتى تفصيل ذلك قريباً إن شاء الله تعالى. وعلى ذلك جرى الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وسائر الحنابلة السلفيين. قال ابن القيم في نونيته: [كامل] لسنا نشبه وصفه بصفاتنا ... إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخيله من أوصافه ... إن المعطل عابد البهتان من مثل الله العظيم بخلقه ... فهو النسيب لمشرك نصرانى أو عطل الرحمن عن أوصافه ... فهو الكفور وليس ذا إيمان وأنت تعلم أن المعتزلة والجهمية يعطلون الصفات ويؤولون الآيات، كما سيتضح في الأبحاث الآتيات. وأنهم اختلفوا في تكفيرهم، وصححوا أن المجسم والقائل بالجهة لا يكفر كما صرح به العز بن عبد السلام وغيره، كما سيأتى إن شاء الله تعالى. [تبرئة ابن تيمية مما نسبه إليه ابن حجر من التجسيم] وأما مارمى الشيخ ابن حجر ابن تيميه به فليس كما قال، بل هو عن ذلك بمعزل، وبعيد عنه بألف ألف منزل، فتأليفاته وعباراته التى سمعتها قاضية بكذب ماعزى إليه، وكذلك شهادات العلماء حاكمة باختلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 مازور عليه. فمن ذلك ما قاله الشيخ إبراهيم الكوراني الشافعي في حاشيته المسماه ((بمجلى المعاني على شرح عقائد الدوانى)) ما نصه: قوله: قيل ولعل وجه قول ابن تيمية بالتسلسل على سبيل التعاقب في العرش أنه من المجسمة الخ. أقول: ابن تيمية ليس قائلاً بالتجسيم، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسماً في رسالة تكلم فيها على حديث النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا. وقال في رسالة أخرى: من قال: إن الله تعالى يماثل المخلوقات فهو مفتر على الله سبحانه، بل هو على مذهب السلف من الإيمان بالمتشابهات مع التنزيه بليس كمثله شئ. ولكنه قائل بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة مع نفي اللوازم. ونقل عليه إجماع السلف - صرح في الرسالة القدرية، أنتهى نقل الكوراني. ورأيت بخط الوالد تغمده الله تعالى برحمته على هامش هذا البحث في الشرح وحاشيته ما نصه: حاشا لله تعالى أن يكون من المجسمة! بل هو أبرأ الناس منهم، نعم، يقول بالفوقية على المعنى الذى أراده الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك مذهب السلف في المتشابهات، وهو بمعزل عن التجسيم. وجلال الدين واضرابه أجهل الناس بالأحاديث وكلام السلف الصالح كما لا يحفى على العارف المنصف. أنتهى. والعجب من الشيخ ابن حجر كيف ينسب إليه هذه الأقوال من غير نقل عنه وإسناد، وقد قالوا: لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. ولنذكر بعض عبارات العلماء وما قاله الشيخ ابن تيميه وغيره من ائمة الملة الحنيفية ليتضح الحال، ويعرف بالحق الرجال. قال الحافظ أبو بكر أحمد البيهقي في كتابه الشهير ((بالأسماء والصفات ما نصه: (باب ماجاء في قول الله عز وجل: {الرحمن على العرش أستوى} [طه 5] وقوله {ثم استوى على العرش} [الرعد 2] وقال: {إن ربكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الله الذى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش} [يونس 3] وقال: {الله الذى رفع السماوات بغير عمر ترونها ثم أستوى على العرش} [الرعد 2] . أخبرنا أبو على الحسين بن محمد الروذبارى قال: أخبرنا أبو العباس محمد ابن يعقوب ابن محمد بن عبد الرحيم الهروى بالرملة قال نا آدم بن أبي إباس قال نا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع حدث عن أبي رزين العقيلى قال: قلت يا رسول الله، أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: ((كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه تبارك وتعالى)) وقد مضى الكلام في معنى هذا الحديث دون الاستواء. فأما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا - رضي الله عنه - كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه كنحو مذهبهم في امثال ذلك. اخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن على الجوهرى ببغداد، قال: حدثنا إبراهيم بن الهيثم نا محمد بن كثير المصيمصى قال: سمعت الأوزاعي يقول: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته. ونا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن الحرث الفقيه الأصبهاني قال نا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان المعروف ((بأبي الشيخ)) قال نا أبو جعفر أحمد اليزدى قال: سمعت محمد بن عمرو بن نصر النيسابورى يقول: سمعت يحيى بن يحيى يقول: كنا عند مالك بن انس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش أستوى، كيف استوى؟ قال: فاطرق مالك حتى علاه الرحضاء (1) ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير   (1) الرحضاء - بضم الراء وفتح الحاء -: العرق يغسل الجسم كثرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 معقول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً فأمر أن يخرج. وقال سفيان بن عيينة: كل ما وصف اله تعالى من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه. أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: هذه نسخة الكتاب الذى أملاه الشيخ أبو بكر أحمد بن إسحق بن ايوب رحمه الله تعالى في مذهب أهل السنة فيما جرى بين محمد بن اسحق بن خزيمة رحمه الله تعالى، وبين أصحابه، فذكر منها: الرحمن على العرش استوى بلا كيف. والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة. وعلى هذه لطريقة يدل مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وإليها ذهب أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، والحسين بن الفضل البجلى رحمه الله تعالى، ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى، وذهب أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري رحمه الله تعالى إلى أن الله عز وجل ثناؤه فعل في العرش فعلا سماه استواء، كما فعل في غيره فعلا سماه رزقاً ونعمة أو غيرهما من أفعاله، ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله: {ثم استوى على العرش} [يونس 3] و ((ثم)) للتراخى، والتراخى إنما يكون في الأفعال وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة. وذهب أبو الحسن على بن محمد بن مهدى الطبرى في آخرين من أهل النظر إلى أن الله تعالى في السماء فوق كل شئ مستو على عرشه، بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول: استويت على رأسى، واستوى الطير على قمة راسى، بمعنى علا في الجو فوجد فوق راسى. فالقديم سبحانه عال على عرشه ولا قائم، ولا مماض ولا مباين عن العرش، يريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 به مباينة الذات التى هي بمعنى الاعتزال والتباعد، لأن المماسة والمباينة التى هي ضدها، والقيام والقعود من اوصاف الأجسام، والله عز وجل أحد صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. ولا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام. وحكى الأستاذ: أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى هذه لطريقة عن بعض اصحابنا أنه قال: أستوى بمعنى علا، ثم قال: ولا يريد بذلك علوا بالمسافة والتحيز والسكون في مكان متمكناً فيه.. ولكن يريد معنى قول الله عز وجل: {أأمنتم من في السماء} [الملك 16] أى من فوقها، على معنى نفى الحد عنه، وانه ليس مما يحويه طبق أو يحبط به قطر. ووصف الله سبحانه بذلك طريقة الخبر، فلا يتعدى ما ورد به الخبر. قلت: وهو على هذه الطريقة من صفات الذات، وكلمة ((ثم)) تعلقت بالمستوى عليه لا بالاستواء، وهو كقوله تعالى: {ثم الله شهيد على ما تعملون} [يونس 46] يعنى: ثم يكون عملكم فيشهده. وقد اشار أبو الحسن على بن إسماعيل رحمه الله تعالى إلى هذه الطريقة حكاية فقال بعض أصحابنا: إنه صفة ذات، ولا يقال: لم يزل مستوياً على عرشه، كما أن العلم بأن الأشياء قد حدثت من صفات الذات. ولا يقال: لم يزل عالماً بأن قد حدثت ولما حدثت بعد. قال: وجوابي هو الأول، وهو أن الله تعالى مستو على عرشه، وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أنه لا تحله ولا يحلها، لا يمسها ولا يشبهها وليست البينونة بالعزلة، تعالى ربنا عن الحلول والمماسة علواً كبيراً. قال: وقد قال بعض أصحابنا: إن الأستواء صفة الله تعالى بنفى الاعوجاج عنه. وفيما كتب إلى الأستاذ أبي موسى بن أبي أيوب رحمه الله تعالى: أن كثيراً من مبادئ أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر والغلبة، ومعناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 أن الرحمن غالب العرش وقاهره. وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته، وأنها لم تقهره، وإنما خص العرش بالذكر لأنه اعظم المملوكات، فنبه بالأعلى على الأدنى. والاستواء بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة، كما يقال: استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها، قال الشاعر في بشر بن مروان: [رجز] قد استوى على العراق ... من غير سيف ودم مهراق (1) يريد أنه غلب أهله من غير محاربة. قال: وليس ذلك في الآية بمعنى الاستيلاء، لأن الاستيلاء عليه مع توقع ضعف. قال: ومما يؤيد ما قلناه قوله عز وجل: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت 11] والاستواء إلى السماء هو القصد إلى خلق السماء، فلما جاز أن يكون القصد إلى السماء الاستواء جاز أن يكون القدرة على العرش استواء. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى قال نا أبو العباس محمد ابن يعقوب نا محمد بن الجهم نا يحيى بن زياد الفراء في قوله عز وجل: {ثم استوى إلى السماء فسواهن} [البقرة 29] قال: الاستواء في كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوى الرجل وينتهى شبابه وقوته، أو يستوى من اعوجاج، فهذان وجهان. ووجه ثالث يقول: كان مقبلاً على فلان ثم استوى على يشاتمنى، وإلى وعلى سواء معنى أقبل إلى وعلى، فهذا معنى قوله سبحانه: {ثم استوى إلى السماء} [البقرة 29، وفصلت 11] والله تعالى أعلم. قال: وقد قال ابن عباس: ثم استوى صعد، وهذا كقولك للرجل: كان قاعداً فاستوى قائماً، وكان قائماً فاستوى قاعداً بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق   (1) تفسير الاستواء بمعنى الاستيلاء هو تأويل الجهمية والمعتزلة وقد أنكره أئمة اللغة كابن الأعرابي وغيره وأنكره الإمام أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 السماء، والقصد هو الإرداة، وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظه ((ثم)) تغلق بالخلق لا بالإرادة. وأما ما حكى عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي، والكلبي ضعيف. وفي رواية أخرى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء} أي صعد أمره إلى السماء {فسواهن} يعني خلق سبع سماوات. قال: أجرى النار على الماء، يعني فبخر البحر فصعد في الهواء فجعل السماوات منه. ويذكر عن ابي العالية في هذه الآية أنه قال: استوى يعنى أرتفع، ومراده من ذلك والله تعالى أعلم ارتفاع أمره وهو بخار الماء الذي منه وقع خلق السماء. فأما ما رواه محمد بن مروان عن الكلبي الكوفي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {ثم استوى على العرش} [الأعراف 54] يقول: استقر على العرش. ويقال: امتلأ به. ويقال: قائم على العرش وهو السرير. وبهذا الاسناد في موضع آخر عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} يقول: استوى عنده الخلائق، القريب والبعيد فصاروا عنده سواء. ويقال: استوى استقر على السرير. ويقال: أمتلآ به فهذه الرواية منكرة، وفيه أيضاً ركاكة، ومثله لا يليق بقول ابن عباس. وابو صالح هذا والكلبي ومحمد بن مروان كلهم متروك عند اهل العلم بالحديث، لا يحتجون بشئ من رواياتهم لكثرة المناكير فيها. ومما روى أبو الحسن بن مهدى الطبرى عن ابي عبد الله نفطويه قال: أخبرني أبو سليمان يعنى داود قال: كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 يا أبا عبد الله، ما معنى قوله سبحانه {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر. فقال الرجل: إنما معنى قوله ((استوى)) أى استولى. فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك؟ العرب لا تقول استولى على الشئ فلان، حتى يكون له فيه مضاد فايهما غلب قيل: قد استولى عليه، والله تعالى لا مضاد له، فهو على عرشه كما أخبره (1) . وقال الشيخ الأجل مسند الوقت أحمد ولى الله المحدث الدهلوى في التفهيمات وقد ذكر أنه قال: إن الله تعالى فوق العرش -: والتحقيق أن في هذه المسألة ثلاثة مقامات: أحدها - البحث عما يصح إثباته للحق توفيقاً وعما لا يصح توفيقاً والحق في هذا المقام أن الله تعالى أثبت لنفسه جهة الفرق، وأن الأحاديث متظاهرة على ذلك. وقد نقل الترمذي ذلك عن الإمام مالك ونظراته. ثانيها - أن العقل هل يحوز كون مثل هذا الكلام حقيقة أو يوجب حمله على المجاز؟ والحق في هذا المقام أن العقل يوجب أنه ليس على ظاهرة في نفس الأمر. ثالثها - أنه هل يجب تأويله أو يحوز وقفه على ظاهرة من غير تعيين المراد؟ والحق فيه انه لم يثبت في حديث صحيح أو ضعيف أنه يجب تأويله، ولا أنه لا يجوز استعمال مثل تلك العبارات من الأمة إلى قوله. وهذا الذي حققناه هو مذهب الشيخ أبا الحسن الأشعري عند التحقيق، أقرأ ابو طاهر المدنى بخط أبيه أن الشيخ أبا الحسن قال في كتابه: إنى على مذهب احمد في مسالة الصفات، وأن الله فوق العرش. وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله محمول على المقام الأول والثالث.   (1) قد أشرنا إلى كلام ابن الأعرابي في تفسير الاستواء فراجعه في تعليق ص 393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وإذا رجعنا إلى الوجدان فلا نشك في ان الله تعالى خصوصية مع العرش ليست مع غيره من مخلوقاته، ولا تجد عبارة في ذلك أفصح وأقرب من الاستواء على العرش، كما أنا لا نجد عبارة في أنكشاف المسموعات والمبصرات افصح من السمع والبصر. والله أعلم بحقائق الأمور. أنتهى. باب [فوقية الخالق سبحانه] قول الله عز وجل: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام 18، 61]- وقوله تعالى - {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} [النحل 50] عن أنس بن مالك قال: جاء زيد بن حارثة يشكو زينب،، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اتق الله وامسك عليك زوجك)) . قال أنس: فلو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتماً شيئاً لكتم هذه! وكانت تفخر على ازواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: زوجكن اهاليكن وزوجنى من فوق سبع سماوات. رواه البخاري في الصحيح. وعن أبي الزناد عن الأعرج عن ابي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتى غلبت غضبي)) رواه البخاري في الصحيح. وروى الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: مرت سحابة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ما تدرون ما هذا؟ فقلنا: السحاب، فقال: أو المزن، قالوا: قلنا: أو المزن، قال أو العنان. قلنا: أو العنان، فقال: هل تدرون بعد ما بين السناء والأرض؟ قلنا: لا، قال إحدى وسبعين، أو اثنين وسبعين، أو ثلاث وسبعين - قال: وإلى فوقها مثل ذلك حتى عدهن سبع سماوات على نحو ذلك. ثم قال: فوق السابعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 البحر أسفله من اعلاه ما بين سماء إلى سماء، ثم فوقه ثمانية أو عال ما بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم العرش فوق ذلك بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم إن الله تعالى فوق ذلك العرش)) أخرجه أبو داود في السنن. وعن وهب بن جرير عن أبيه عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عقبة عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال! استسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((سبحان الله! فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه فقال: ويحك! أتدرى ما الله، إن شاء أعظم من ذلك! إنه لا يستشفع به احد! إنه لفوق سبع سماوات على عرشه، وأنه عليه لهكذا - واشار وهب بيده - مثل القبة، وإنه ليئط به اطيط الرجل بالراكب)) أخرجه أبو داود في كتاب السنن، وقد تكلموا في محمد ابن إسحاق. وقد اشتغل أبو سليمان الخطابي في تأويله فقال: هذا الكلام إذا أجرى على ظاهرة كان فيه نوع من الكيفية، وهي عنه سبحانه وعن صفاته منفية، فعقل ان ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو كلام تقريب أريد به عظمة الله تعالى وجلاله سبحانه، وإنما قصد به إفهام السائل من حيث يدركه فهمه إذ كان أعرابياً جلفاً، لا علم له بمعاني ما دق من الكلام. وفي الكلام حذف وإضمار، فمعنى قوله ((أتدرى ما الله؟)) معناه أتدرى ما عظمة الله وجلاله. وقوله ((إنه ليئط به)) معناه: إنه ليعجز عن جلاله وعظمته حتى يئط به، إذ كان معلوماً أن أطيط الرحل بالراكب إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 يكون لقوة ما فوقه، وليعجزه عن احتماله، فقرر بهذا النوع من التمثيل عنده معنى عظمة الله - عز وجل وجلاله - وارتفاع عرشه، ليعلم أن الموصوف يعلو الشأن وجلالة القدر وفخامة الذكر لا يجعل شفيعاً إلى من هو دونه في القدر.، وأسفل منه في الدرجة، وتعالى الله أن يكون مشبهاً لشئ او مكيفاً بصورة خلق، أو مدركاً بحد، ليس كمثله شئ وهو السميع البصير. وروى سعد عن ابيه: أن سعد بن معاذ حكم على بني قريظة أن يقتل منهم كل من مرت عليه المواسى، وأن يقسم أموالهم وذراريهم، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لقد حكم اليوم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات)) . وعن أبي يزيد المديني: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر من ناس من أصحابه فلقيه عجوز فاستوقفته فوقف عليها فوضع يده على منكبيها، حتى قضت حاجتها، فلما فرغت قال له الرجل: حبست رجالات قريش على هذه العجوز! ؟ قال: ويحك! أتدرى من هذه؟ عجوز سمع الله عز وجل شكواها من فوق سبع سماوات! والله لو استوقفتنى إلى الليل لوقفت عليها إلا آتى صلاة ثم أعود إليها حتى تقضى حاجتها! . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تفكروا في كل شئ، ولا تفكروا في ذات الله تعالى، فإن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك)) وقال الفراء في قوله عز وجل: {وهو القاهر} [الأنعام 18، 61] الآية: كل شئ قهر شيئاً فهو مستعل عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 باب [قول الله عز وجل: {أأمنتم من في السماء} [الملك 16]] قال أبو عبد الله الحافظ قال الشيخ ابو بكر بن أحمد بن إسحاق بن أيوب الفقيه رحمه الله تعالى: قد تضع العرب ((في)) موضع ((على)) قال الله تعالى {فسيحوا في الأرض} [التوبة 2] وقال {لأصلبنكم في جزوع النخل} [طه 71] ومعناه على الأرض، وعلى النخل. وكذلك قوله سبحانه: {من في السماء} أي على العرش فوق السماء، كما صحت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: يريد ما مضى من الروايات. وروى عن أبي سعيد الخدري من حديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا تأمنونى؟ فأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءاً)) رواه البخاري ومسلم في الصحيح عن قتيبة بن سعد. وأخبرنا أبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسى، قال نا أبو العباس الأصم قال نا أبو العباس بن الوليد بن مزيد قال: أخبرني أبي قال نا الأوزاعى قال نا يحيى بن ابي كثير عن هلال بن ابي ميمونة قال: حدثني عطاء بن يسار قال: حدثني معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... . فذكر الحديث بطوله قال: ثم اطلعت غنيمة ترعاها جارية لي قبل احد والجوانية، فوجدت الذئب قد اصاب منها شاة، وأنا رجل من بنى آدم، آسف كما يأسفون، فصككنها صكة، ثم انصرفت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فعظم ذلك على فقلت: يا رسول الله: أفلا اعتقها؟ قال: ((بلى أئتنى بها)) قال: فجئت بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: ((اين الله؟ قالت الله في السماء، قال: فمن أنا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فقالت: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إنها مؤمنة فاعتقها)) . وروى فضالة بن عبيد: أن رجلين اقبلا يلتمسان لأبيهما الشفاء من البول، فأنطلق بهما إلى أبي الدرداء فذكروا وجع أبيهما له، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ربنا الذى في السماء تقدس أسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء والأرض، فاغفر لنا حوبنا وخطايانا إنك رب الطيبين، فأنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ إن شاء الله تعالى)) . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) . وعن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي حصين: ((كم تعبد اليوم من إله؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء. قال فأيهم تعد لرهبتك ورغبتك؟ قال: الذى في السماء، قال أما إنك إن أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك؟ قال: فلما أسلم حصين أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، علمني الكلمتين اللتين وعدتنيهما؟ قال: قل: اللهم ألهمنى رشدى، وعافني من شر نفسي)) ومعنى قوله في هذه الأخبار ((من في السماء)) أي فوق السماء على العرش، كما نطق به الكتاب والسنة. ثم معناه والله أعلم عند أهل النظر ما قدمنا ذكره. وقد قال بعض أهل النظر: معناه: في السماء إله. والأول أشبه بالكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 باب [قول الله عز وجل لعيسى ابن مريم] {إنى متوفيك ورافعك إلى} [آل عمران 55] وقوله تعالى: {بل رفعه الله إليه} [النساء 158] وقوله عز وجل: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج 4] وقوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر 10] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم)) رواه البخاري في الصحيح، وأخرجه مسلم. وإنما أراد نزوله من السماء بعد الرفع إليه. وعنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم فيقول: كيف تركتم عبادى؟ فيقولون: تركناهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) أخرجاه في الصحيح من وجه آخر. وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد مؤمن يتصدق يصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب ولا يصعد إلى السماء إلا طيب، إلا وهو يضعها في يد الرحمن أو في كف الرحمن فيربيها له كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله، وحتى أن التمرة لتكون مثل الجبل العظيم)) وقد مضى قول أهل النظر في معنى أمثال ذلك. وحكينا عن المتقدمين من أصحابنا ترك الكلام في أمثال ذلك. هذا، مع اعتقادهم نفى الحد والتشبيه والتمثيل عن الله سبحانه وتعالى. قال أبو داود: كان سفيان الثورى وشعبه وحماد بن زيد وحماد بن سلمه وشريك وأبو عوانة - لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، ويرون الحديث ولا يقولون: كيف، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر. قال أبو داود وهو قولنا قلت: وعلى هذا مضى أكابرنا. وقال على بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الحسن بن شقيق: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا فوق سبع سماوات على العرش استوى بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه ههنا - وأشار إلى الأرض. وكذا. زعموا أنه سبحانه بكل مكان. وأخبرنا أبو بكر بن الحرث الفقيه قال: أخبرنا أبو محمد بن حيان قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن نصر، قال: حدثنا يحيى بن يعلى قال: سمعت نعيم ابن حماد يقول: سمعت نوح بن أبي مريم أبا عصمة يقول: كنا عند أبي حنيفة أول ما ظهر، إذ جاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهماً فدخلت الكوفة فأظننى أقل ما رأيت عليها عشرة آلاف من الناس تدعو إلى رأيها: فقيل لها: إن ههنا رجلاً قد نظر في المعقول يقال له: أبو حنيفة فأتيه، فأتته فقالت: أنت الذى تعلم الناس المسائل، وقد تركت دينك؟ أين إلهك الذى تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث عنها سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إلينا وقد وضع كتاباً: إن الله تبارك وتعالى في السماء دون الأرض. فقال له رجل أرأيت قول الله تعالى: {وهو معكم} ؟ قال: هو كما تكتب إلى رجل أنى: معك وأنت غائب عنه. قلت: لقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية. وكذا قال سفيان الثورى في قوله تعالى: {وهو معكم} علمه. وقال الضحاك في {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم} [المجادلة 7] قال: هو الله عز وجل على العرش وعلمه معهم. انتهى باقتصار. وقال أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 باب [مجئ الله] ما جاء في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم اله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الأمر وإلى الله ترجع الأمور} [البقرة 210] وقوله تبارك وتعالى: {وجاء ربك والملك صفاً صفا} [البقرة 22] . عن أبي العالية في قوله تعالى: {هل ينظرون} الآية يقول: الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله تعالى يجئ فيما يشاء، وهي في القراءة ((هل ينتظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)) وهي كقوله سبحانه: {ويم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً} [البقرة 25] . قال الشيخ: فصح بهذا التفسير أن الغمام إنما هو مكان للملائكة ومركبهم، وأن الله عز وجل لا مكان له ولا مركب. وأما الإتيان والمجئ فعلى قول أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى ((يحدث الله عز وجل يوم القيامة قولا يسميه إتياناً ومجيئاً)) ، لا بأن يتحرك أو ينتقل، فإن الحركة والسكون والانتقال والاستقرار من صفات الأجسام، والله تعالى أحد صمد ليس كمثله شئ، وهو كقوله عز وجل: {فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} [النحل 26] لم يرد به إتياناً من حيث النقلة، وإنما أراد إحداث الفعل الذى به خرب بنيانهم، وخر عليهم السقف من فوقهم، فسمى ذلك الفعل إتياناً. وهكذا قال في اخبار النزول: إن المراد به فعل يحدثه الله عز وجل في سماء الدنيا كل ليلة يسميه نزولاً بلا حركة ولا نقلة - تعالى الله عن صفات المخلوقين. أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: حدثنا أحمد بن سليمان النجاد قال: قرئ على سليمان بن الأشعث وأنا أسمع قال: نا القعني عن مالك عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له؟ من يسألنى فأعطيه؟ من يستغفرنى فأغفر له)) وفي رواية ((ثم يقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم)) رواه مسلم في الصحيح، وله طرق أخر كثيرة. قال إسحق بن راهويه: دخلت يوماً على عبد الله بن طاهر فقال لى: يا أبا يعقوب، نقول: إن الله تعالى ينزل كل ليلة؟ فقلت: أيها الأمير، إن الله تعالى بعث إلينا نبياً، نقل إلينا عنه أخباراً بها نحلل الدماء وبها نحرم، وبها تحلل الفروج، وبها تحرم، وبها تباح الأموال، وبها تحرم، فإن صح ذا صح ذاك، وإن بطل ذا بطل ذاك. قال: فأمسك عبد الله. وقال إسحق بن إبراهيم الحنظلي: جمعنى وهذا المبتدع - يعنى إبراهيم ابن أبي صالح - مجلس الأمير ابن طاهر، وسالنى الأمير عن أخبار النزول فسردتها فقال إبراهيم: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء. فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء. قال فرضى عبد الله كلامى. قلت: فقد بين إسحق في هذه الحكاية أن النزول عنده من صفات الفعل، ثم أنه كان يجعله تزولا بلا كيف. قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى: هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث في الصفات كان مذهب السلف فيها (1) : أن الإيمان بها وإجراءها على ظاهرها، ونفى الكيفية عنها. وقال عبد بن المبارك: ينزل كيف يشاء. قال أبو سفيان في كتاب معالم السنن: هذا من العلم الذى أمرنا أن نؤمن بظاهره، ولا نكشف عن   (1) قوله: ((إن الإيمان بها)) لعل الظاهر إسقاط ((أن)) أهـ. من هامش الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 باطنه، وهو من جملة المتشابه الذى ذكره الله عز وجل في كتابه فقال: {هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات} الآية. فالمحكم منه يقع به العلم الحقيقى والعمل. والمتشابه يقع به الإيمان والعلم الظاهر، ويوكل باطنه إلى الله عز وجل، وهو معنى قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} وإنما حظ الراسخين في العلم أن يقولوا آمنا به كل من عند ربنا. وكذلك ما جاء في هذا الباب في القرآن، وقد زل بعض شيوخ أهل الحديث ممن يرجع إلى معرفته بالحديث والرجال فحاد عن هذه الطريقة حين روى حديث النزول، ثم اقبل على نفسه فقال: إن قال قائل: كيف ينزل ربنا إلى السماء؟ فقل له: ينزل كيف يشاء. فإن قال: هل يتحرك إذا نزل؟ فقل: إن شاء تحرك وإن شاء لم يتحرك. وهذا خطأ فاحش عظيم، والله تعالى لا يوصف بالحركة، لأن الحركة والسكون متعاقبان في محل واحد، وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون، وكلاهما من اعراض الحدث وأوصاف المخلوقين، والله تعالى متعال عنهما ليس كمثله شئ. فلو جرى هذا الشيخ على طريقة السلف الصالح ولم يدخل نفسه فيما لا يعنيه لم يكن يخرج به القول إلى مثل هذا الخطأ الفاحش. وإنما ذكرت هذا لكي يتوقى الكلام فيما كان من هذا النوع، فإنه ر يثمر خيراً ولا يفيد رشداً. ونسأله تعالى العصمة من الضلال، والقول بما لا يجوز من الفاسد المحال. وقيل: قد يكون النزول بمعنى إقبالك على الشئ لإرادة النية، وكذلك الهبوط والارتفاع والبلوغ والمصير، وأشباه هذا من الكلام. وقال أبو منصور الخمساوى: سئل أبو حنيفة - رضي الله عنه - عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 ذلك فقال: ينزل بلا كيف. وقال حماد بن زيد وكثير: ينزل نزولاً يليق بالربوبية بلا كيف، من غير أن يكون نزوله مثل نزول الخلق بلا تشبيه ولا تعطيل، جل الله سبحانه عما يقول المعطلة لصفاته والمشبه بها علواً كبيراً. أنتهى باقتصار. وقال إمام المالكية في عصره المعروف بينهم بخليفة مالك أبو محمد عبد الله بن ابي زيد القيرواني المتوفي سنة ست وتسعين وثلثمائة في كتابه المسمى ((باكورة السعد وزبدة المذهب)) ما نصه: السميع البصير العلي الكبير، وفوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه - أنتهى. وقال شارحه أحمد بن غنيم بعد أن ذكر تأويل الخلف لما ورد ذلك ما نصه: فلا ينبغى الأعتراض على المصنف بمثل ذلك مع وروده في القرآن، وما قيل إن هذه اللفظة وهي بذاته دست على المؤلف رده ابن ناجى قائلاً: ليس هذا من إطلاق المصنف، وإنما هو من إطلاق السلف الصالح والصدر الأول. أنتهى باقتصار. وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى المتوفى سنة سبعين ومائتين في كتابه ((تأويل مختلف الحديث)) ما نصه: والأمم كلها هربيها وعجميها تقول: إن الله تعالى في السماء، ما تركت على فطرها ولم ينقل عن ذلك بالتعليم. وفي الحديث: أن رجلاً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامة أعجمية للعتق، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أين الله؟ قالت: في السماء، قال فمن أنا، قالت: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: هي مؤمنة وأمر بعتقها)) وهذا أو نحوه. وقال أمية بن ابي الصلت: [خفيف] مجدوا الله للمجد أهل ربنا في السماء أضحى كبيراً الأبيات. وفي الأنجيل: أن المسيح عليه السلام قال: لا تحلفوا بالسماء فإنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 كرسى الله تعالى، وقال للحواريين: إن أنتم غفرتم للناس فإن ربكم الذى في السماء يغفر لكم ظلمكم. أنتهى وقال الوالد نور الله تعالى مرقده في روح المعاني عند تفسير قوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} قيل: هو استمارة تمثيلية، وتصوير لقهره سبحانه وعلو بالغلبة والقدرة. وجوز أن تكون الاستعارة في الظروف بان شبه الغلبة بمكان محسوس وقيل: إنه كناية عن القهر، والعلو بالغلبة، والقدرة. وقيل: إن ((فوق)) زائدة، وصحح زيادتها، وإن كانت اسماً - كونها بمعنى على، وهو كما ترى. والداعى إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضى القول بالجهة، والله تعالى منزه عنها، لأنها محدثة بإحداث العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود، ويلزم ايضاً من كونه سبحانه في جهة مفاسد لا تخفى، وأنت تعلم أن مذهب السلف غثبات الفوقية لله تعالى، كما نص عليه الإمام الطحاوى وغيره. واستدلوا لذلك بنحو ألف دليل، وقد روى أحمد في حديث الأوعال عن العباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والعرش فوق ذلك، والله تعالى فوق ذلك كله)) . وروى ابن ماجه يرفعه قال: بينا اهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا إليه رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد اشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم - ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم - {سلام قولاً من رب رحيم} فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شئ من النعيم ماداموا ينظرون إليه)) . وصح أن عبد الله بن رواحة أنشد بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبياته التى عرض بها عن القراءة لمرأته حين أتهمته بجاريته، وهي: [وافر] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 شهدت بأن وعد الله حق ... وان النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... وملائكة الإله مسومينا فأقره عليه الصلاة والسلام على ما قال وضحك منه. وكذا أنشد حسان ابن ثابت - رضي الله عنه - قوله شهدت بإذن الله أن محمداً ... رسول الذى فوق السماوات من عل وأن ابا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل وأن الذى عادى اليهود ابن مريم ... رسول إلى من عند ذى العرش مرسل وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم ... يقوم بذات الله فيهم ويعدل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وأنا أشهد)) . وروى عكرمه عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى حكاية عن إبليس عليه اللعنة: {ثم لآتينهم من بين ايديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وعن شمائلهم} أنه قال: لم يستطع ان يقول ((ومن فوقهم)) لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم. والآيات والأخبار التى فيها التصريح بما يدل على الفوقية كقوله تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} ، {وإليه يصعد الكلم الطيب} و {بل رفعه الله إليه} و {تعرج الملائكة والروح إليه} وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه مسلم: ((وأنت الظاهر فليس فوقك شئ)) كثيرة جداً. وكذا كلام السلف في ذلك، فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصارى في كتابه ((الفاروق)) بسنده إلى أبي مطيع البلخى أنه سال أبا حنيفة - رضي الله عنه - عمن قال: لا أعرف ربي سبحانه في السماء أم في الأرض؟ فقال: كفر، لأن الله تعالى يقول: {الرحمن على العرش استوى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وعرشه فوق سبع سماوات. فقالت: قلت: فإن على العرش، ولكن لا أدرى، العرش في السماء أم في الأرض. فقال - رضي الله عنه -: هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء، ومن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله تعالى في اعلى عليين، وهو يدعى من أعلى لا من أسفل. أنتهى. وأيد القول بالفوقية أيضاً بان الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك فإنه الحد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفاً بضد ذلك، لأن القابل للشئ لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية السفول، وهو مذموم على الإطلاق. والقول بأنا لا نسلم أنه قليل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بانه سبحانه لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى سلم بأنه جل شانه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات، فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة اظهر منه وأوضح. وإذا كانت صفة الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا إجماع كان نفيها عين الباطل، ولا سيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى. وذكر محمد بن طاهر المقدسى أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفى صفة العلو ويقول: كان الله تعالى ولا عرش، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وهو الآن على ما كان. فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التى نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنه ولا يسره، فكيف تدفع هذ الضرورة عن انفسنا؟؟ فلطم الإمام على رأسه ونزل، وأظنه قال: وبكى، وقال حيرنى الهمدانى. وبعضهم تكلف الجواب عن هذا: بأن هذا التوجه إلى فوق إنما هو لكون السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ثم هو ايضاً منقوض بوضع الجهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في جهة الأرض. ولا يخفى أن هذا باطل، وما أولاً - فلأن السماء قبلة الدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله تعالى به من سلطان، والذى صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فقد صرحوا بانه يستحب للداعى أن يستقبل القبلة، وقد استقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين. وأما ثانياً - فلأن القبلة ما يستقبله الداعى بوجهه كما يستقبل الكعبة في الصلاة وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلا لا يسمى قبلة أصلاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعى وجهه إلينا، ولم يثبت ذلك في شرع أصلاً. وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض! فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل، لا أن يميل إليه إذ هو تحته، بل هذا لا يخطر في قلب ساجد. نعم، سمع من بشر المريسى أنه يقول: سبحان ربي الأسفل. تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيراً. وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل، كما يقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم. وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة، فإن قول القائل ابتداء الله تعالى خير من عباده، أو خير من عرشه، من جنس قوله: الثلج بارد والنار حارة، والشمس أضواء من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، ونحو ذلك. وليس في ذلك أيضاً تمجيد ولا تعظيم لله تعالى، بل هو من أرذل الكلام، فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه، وهو الذى لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. على أن في ذلك تنقيصاً لله تعالى شأنه، ففى المثل السائر: [طويل] ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل للسيف خير من العصى نعم، إذا كان المقام يقتضى ذلك بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: { {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟} . وقوله تعالى: {آلله خير أم ما يشركون} ، {والله خير وأبقى} فهو أمر لا اعتراض عليه، ولا توجه سهام الطعن إليه. والفوقية بمعني الفوقية المطلقة في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضاً، وهي متحققة في ضمن الفوقية المطلقة، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة، كما يثبتون فوقية الذات، ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال صفاته - سبحانه وتعالى - منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه، ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ولا يعدلون عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً لئلا يثبتوا معنى فاسداً، وينفوا معنى صحيحاً، فهم يثبتون الفوقية كما أثبتها الله تعالى لنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى لا يحصره شئ ولا يحيط به شئ من المخلوقات، تعالى عن ذلك. وإن أريد بالجهة أمر عدمى وهو فوق العالم فليس هناك إلا الله تعالى وحده، فإذا قيل إنه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم، ومعني ذلك أنه فوق العالم حيث أنتهت المخلوقات. ونفاه لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفى العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة، وانه سبحانه كان قبلى الجهات. وأنه من قال: إنه تعالى في جهة كلام حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً، بل هي امر اعتبارى، ولا محذور في ذلك. [مذهب السلف. تنزيه. وتفويض. وتصديق] وبالجملة، يجب تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وتفويض علم ما جاء من المتشابهات إليه عز شأنه، والإيمان بها على الوجه الذى جاءت عليه. والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندى، على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف. والله تعالى أعلم بمراده. وقال أيضاً في تفسير سورة الحديد. وأنت تعلم أن الأسلم التأويل، فإنه قول على الله تعالى من غير علم، ولا نؤول إلا ما أوله السلف ونتبعهم فيما كانوا عليه، فغن أولوا أولنا، وإن فوضوا فوضنا، ولا نأخذ تأويلهم لشئ سلماً لتاويل غيره. اهـ باقتصار. ولعله يشير بهذا إلى ما قاله بعض الخلف أنه قد ورد عن الإمام أحمد أنه قال بالتأويل في ثلاثة أحاديث: أحدها قوله عليه الصلاة والسلام: ((الحجر الأسود يمين الله في أرضه)) . وثانيها: ((إنى لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وثالثها: ((أنا جليس من ذكرنى)) . وكذا إلى ما أوله من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((تأتى سورة البقرة وسورة كذا وكذا يوم القيامة كأنها غمامتان بثواب القارئ)) . وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الرحم يتعلق بحقوى الرحمن فيقول سبحانه: أصل من وصلك)) فهذا أيضاً مما لا بد فيه من التأويل، فإذا أولوا البعض فليؤولوا البعض الآخر. والجواب ما سمعت آنفاً فلا تغفل. قلت: وكذا أولوا الحديث الإدلاء الذى رواه أبو هريرة وأبو ذر والترمذى وغيره من حديث الحسن: ((لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله)) فهو إن صح على ما قاله الشيخ ابن تيمية في رسالة العرش الآتى بعضها: تقدير مفروض، أى لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لأنه لا يمكن أن يدلى أحد على الله تعالى شيئاً، لأنه عال بالذات، وإذا اهبط شئ إلى جهة الأرض وقف في المركز. أو كما قيل: يؤول بالعلم، أى على علم الله، وهو تأويل غير مرضى له - وتمام البحث فيها. وقال الوالد أيضاً في تفسير سورة الأعراف من كلام طويل ما بعضه: وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف الصالح في مثل ذلك تفويض المراد منه إلى الله تعالى، فهم يقولون: استوى على العرش على الوجه الذى عناه سبحانه، منزها عن الاستقرار والتمكن، وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء تفسير مرذول، إذ القائل به لا يسعه أن يقول كاستيلائنا، بل لابد أن يقول هو استيلاء لائق بذاته عز وجل. فليقل من أول الآمر: هو استواء لائق به جل وعلا. وقد أختار ذلك السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، وهو أعلم وأسلم وأحكم، خلافاً لبعضهم. ولعل لنا دعوة إلى هذا المبحث إن شاء الله تعالى أهـ. وقال في تفسير سورة السجدة عند قوله تعالى: {يدبر الأمر من السماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 إلى الأرض ثم يعرج إليه} الآية من كلام طويل ما بعضه: ويظهر لى أن المراد بالسماء جهة العلو في قوله تعالى: {أأمنتم من في السماء} وبعروج الأمر إليه صعود خبره، كما سمعت عن الجماعة. وأقوال: إن الآية من المتشابهة، واعتقد أن الله تعالى يدبر أمور الدنيا وشئونها، ويدبرها متقنة، وهو سبحانه مستو على عرشه، وذلك هو التدبير من جهة العلو، ثم يصعد خبر ذلك مع الملك إليه عز وجل إظهاراً لمزيد عظمته جلت عظته، وعظيم سلطنته عظمت سلطنته، إلى حكم هو - جل وعلا - أعلم بها، وكل ذلك بمعنى لائق به تعالى مجامع للتنزيه، مباين للتشبيه حسبما يقوله السلف في أمثاله. وقول بعضهم: العرش موضع التدبير وما دونه موضع التفضيل، وما دون السماوات موضع فيه رائحة مما ذكرناه. أهـ. ومن خطه نقلته. وقال في تفسير قوله تعالى حكاية عن فرعون: {يا هامان ابن لى صرحاً} الآية ما نصه: ورأيت لبعض السلفيين أن اللعين ما قال ذلك إلا لأنه سمع من موسى عليه السلام أو من أحد من المؤمنين وصف الله تعالى بالعلو، أو بانه سبحانه بالسماء، فحمله على معنى مستحيل في حقه تعالى لم يرده موسى عليه السلام ولا أحد من المؤمنين، فقال ما قال تهكما وتمويهاً على قومه. وللإمام في هذا المقال كلام رد به على القائلين بأن الله تعالى في السماء، ورد احتجاجهم بما أشعرت به الآية على ذلك وسماهم المشبهة، والبحث في ذلك طويل المجال، والحق مع السلف عليهم رحمة الملك المتعال، وحاشاهم ثم حاشاهم من التشبيه. أهـ. باقتصاره. وقال أيضاً العلامة الوالد رحمه الله تعالى في تفسيره روح المعانى عند قوله عز وجل: {الرحمن على العرش أستوى} من سورة طه ما نصه: والعرش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 في اللغة. وفي الشرع، سرير ذو قوائم له حمله من الملائكة عليهم السلام فوق السماوات مثل القبة ويدل على أن له قوائم ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد لطم وجهه فقال، يا محمد رجل من أصحابك قد لطم وجهى؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ((أدعوه، فقال، لم لطمت وجهه؟ فقال: يا رسول الله، إنى مررت بالسوق وهو يقول، والذى أصطفى موسى على البشر، فقلت يا خبيث! وعلى محمد - صلى الله عليه وسلم -! فأخذتنى غضبة فلطمته. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون وأكون أول من يفيق، فإذا انا بموسى عليه السلام آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدرى أفاق قبلى أم جوزى بصعقة الطور)) وعلى أن له حملة من الملائكة عليهم السلام قوله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به} [غافر 7] وما رواه أبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أذن لى أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش أن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة)) وعلى أنه فوق السماوات مثل القبة. ما رواه أبو داود أيضاً عن جبير بن محمد بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس ونهكت الأموال أو هلكت، فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى، ونستشفع بالله تعالى عليك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ويحك، أتدرى ما تقول! وسبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمازال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه - ثم قال - ويحك! إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه، شأنه شأن الله تعالى أعظم من ذلك. ويحك، أتدرى ما الله! إن الله تعالى فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته هكذا، وقال باصابعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 مثل القبة، وإنه ليثط به اطيط الرحل الجديد بالراكب)) ومن شعر أمية بن أبي الصلت: [خفيف] . مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيراً بالبناء العالى الذى بهر النا ... س وسوى فوق السماء سريراً شرجعاً لا يناله طرف العي ... ن ترى حوله الملائك صوراً (1) وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أنه مستدير من جميع الجوانب محيط بالعالم من كل جهة، وهو محدد الجهات، وربما سموه الفلك الأطلس، والفلك التاسع. وتعقبه بعض شرائح عقيدة الطحاوى بأنه ليس بصحيح، لما ثبت في الشرع من أن قوائم تحمله الملائكة عليهم السلام، وأيضاً أخرجاه في الصحيحين عن جابر أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ)) والفلك التاسع عندهم متحرك دائماً بحركة متشابهة. ومن تأويل ذلك على أن المراد باهتزازه استشار حملة العرش وفرحهم فلا بد من دليل، على أن سياق الحديث ولفظه - كما نقل عن أبي الحسن الطبرى وغيره - بعيد عن ذلك الاحتمال. وأيضاً جاء في صحيح مسلم من حديث جويرة بنت الحرث ما يدل على أن له زنة هي أثقل الأوزان. والفلك عندهم لا ثفيل ولا خفيف. وأيضاً العرب لا تفهم منه الفلك، والقرآن إنما نزل بما يفهمون. وقصارى ما يدل عليه خبر أبي داود عن جبير بن مطعم التقبيب، وهو لا يستلزم الاستدارة من جميع الجوانب كما في الفلك، ولا بد لها من دليل منفصل، ثم   (1) الشرجع - كجعفر -: الطويل، والسرير. والصور: جمع أصور، وهو المائل العنق لنظره إلى العلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 أن القوم إلى الآن بل إلى أن ينفخ في الصور لا دليل لهم على حصر الأفلاك في تسعة، ولا على أن التاسع اطلس لا كوكب فيه وهو غير الكرسى على الصحيح. فقد قال ابن جرير: قال أبو ذر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما الكرسى في العرش إلا كحلقة من حديد الفيت بين ظهرى فلاة من الارض)) وروى ابن أبي شبيهة في كتاب صفة العرش، والحاكم في مستدركه، وقال: إنه على شرط الشيخين، عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: الكرسى موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدرة إلا الله تعالى. وقد روى مرفوعاً والصواب وقفة الخبر. وقيل: العرش كناية عن الملك والسلطان، وتعقبه ذلك البعض بانه تحريف لكلام الله تعالى، وكيف يصنع قائل ذلك بقوله تعالى: ر ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} أيقول: ويحمل ملكه تعالى يؤمئذ ثمانية، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((فإذا أما بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش)) أيقول: آخذ بقائمة من قوائم الملك. وكلا القولين لا يقولهما من له أدنى ذوق. وكذا يقال: أيقول أهتز عرش الرحمن - أهتز ملك الرحمن وسلطانه. وفيما رواه البخارى وغيره مرفوعاً ((لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتى سبقت غضبي)) فهو عنده سبحانه فوق الملك والسلكان وهذا كذينك القولين. [ليس الاستواء بمعنى الاستيلاء] والاستواء على الشئ جاء بمعنى الارتفاع والعلو عليه، وبمعنى الاستقرار كما في قوله تعالى: {واستوت على الجودى} و {لتستوا على ظهوره} وحيث كان ظاهر ذلك مستحيلاً عليه تعالى. قيل: الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء، كما في قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 قد استوى بشر على العراق * وتعقب بأن الاستيلاء معناه، حصول الغلبة بعد العجز، وذلك محال في حقه تعالى، وأيضاً يقال: أستولى فلان على كذا، وإذا كان له منازع ينازعه وهو في حقه تعالى محال أيضاً. وأيضاً إنما يقال ذلك إذا كان المستولى عليه موجوداص قبل، والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه سبحانه. وأيضاً الاستيلاء واحد إلى كل المخلوقات، فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة. [أنتصار الرازى لتأويلات الخلف] واجاب الإمام الرازى بانه إذا فسر الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، ولا يخفى حال هذا الجواب على المصنف. وقال الزمخشرى: لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على العرش ألبتة، وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك، لأنه أشرح وأبسط وادل على صورة الامر. ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد أو بخيل، ولا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت. حتى إن من لم يبسط يده قط بالنوال، أو لم تكن له يد رأساً قيل فيه يده مبسوطة، لمساواته عندهم قولهم جواد، ومنه قوله تعالى {وقالت اليهود يد الله} الآية. عفوا الوصف بالبخل، ورد عليهم بانه جل جلاله جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط. أهـ. وتعقبه الإمام قائلاً: إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم يقولون ايضاً، المراد من قوله تعالى: {أخلع نعليك} الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور فعل. وقوله تعالى: {يا نار كونى برداً وسلاماً على إبراهيم} المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام عن يد ذلك الظالم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 غير أن يكون هناك نار وخطاب ألبته. وكذا القول في كل ماروى في كتاب الله تعالى، بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقة، إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه - وليت من لم يعرف شيئاً لم يخ فيه أهـ. ولا يخفى عليك أنه لا يلزم من فتح الباب في هذه الآية انفتاح تأويلات الباطنية فيما ذكر من الآيات. إذ لا داعى لها هناك، والداعى للتأويل بما ذكره الزمخشرى قوى عنده، ولعله الفرار من لزوم المحال مع رعاية جزاله المعنى. فإن ما أختاره أجزل من معنى الاستيلاء، سواء كان معنى حقيقياً للاستواء، كما هو ظاهر كلام الصحاح والقاموس وغيرهما أو مجازاً كما هو ظاهر جعلهم الحمل عليه تأويلاً. واستدل الإمام على بطلان إرادة المعنى الظاهر بوجوه: الأول: أنه سبحانه كان ولا عرش، لما خلق الخلق لم يحتج إلى ما كان غنبا عنه. الثاني: أن المستقر على العرش لابد أن يكون الجزء الفاصل منه في يمين العرش غير الجزء الحاصل منه في يساره، فيكون سبحانه في نفسه مؤلفاً وهو محال في حقه تعالى للزوم الحدوث. الثالث: أن المستقر على العرش إما أن يكون متمكناً من الانتقال والحركة، ويلزم حينئذ أن يكون سبحانه محل الحركة والسكون، وهو قول بالحدوث. أو لا يكون متمكناً من ذلك فيكون رجل وعلاً كالزمن بل أسوأ حالاً منه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. الرابع: أنه قيل بتخصصه سبحانه بهذا المكان وهو العرش احتيج إلى مخصص، وهو افتقار ينزه الله تعالى منه. وإن قيل: بأنه عز وجل يحصل بكل مكان لزم ما لا يقوله عاقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الخامس: أن يقول تعالى {ليس كمثله شئ} عام في نفي المماثلة، فلو كان جالساً لحصل من يماثله في الجلوس، فحينئذ تبطل الآية. السادس: أنه تعالى لو كان مستقراً على العرش لكان محمولاً للملائكة لقوله تعالى، {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} وحامل حامل الشئ حامل لذلك الشئ، وكيف يحمل المخلوق خالقه؟؟ السابع: أنه لو كان المستقر في المكان إلهاً ينسد باب القدح في إلهية الشمس والقمر. الثامن: أن العالم كرة، فالجهة التى هي فوق بالنسبة إلى قوم هي تحت بالنسبة إلى آخرين وبالعكس، فليزم من إثبات جهة الفوق للمعبود سبحانه إثبات الجهة المقابلة لها أيضاً بالنسبة إلى بعض. وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال: المعبود تحت. التاسع: أن الأمة اجتمعت على أن قوله تعالى {قل هو الله أحد] من المحكمات، وعلى فرض الاستقرار على العرش يلزم التركيب والانقسام، فلا يكون سبحانه أحداً في الحقيقة فيبطل ذلك الحكم. العاشر: أن الخليل عليه السلام قال: ((لا أحب الآفلين)) فلو كان تعالى مستقرا على العرش لكان جسماً ىفلاً أبداً، فيندرج تحت عموم هذا القول. أهـ. ثم إنه عفا الله تعالى عنه ضعف القول بأنا انقطع أنه ليس مراد الله تعالى ما يشعربه الظاهر، بل مراده سبحانه شئ آخر، ولكن لا نعين ذلك المراد خوفاً من الخطأ بأنه عز وجل لما خاطبنا بلسان العرب وجب ألا نريد باللفظ إلا موضوعه في لسانهم، وإذا كان لا معنى للاستواء في لسانهم إلا الاستقرار والاستيلاء وقد تعذر حمله على الاستقار فوجب حمله على الاستيلاء، وإلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 لزم تعطيل اللفظ وأنه غير جائز، وإلى نحو هذا ذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال في بعض فتاويه: طريقة التأويل بشرطه - وهو قرب التأويل - أقرب إلى الحق، لأن الله تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه، وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه، لأنه سبحانه قال: {ثم إن علينا بيانه} و {لتبين للناس ما نزل إليهم} . وهذا عام في جميع آيات القرآن، فمن وقف على الدليل أفهمه الله تعالى مراده من كتابه، وهو اكمل ممن لم يقف على ذلك، إذ لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وفيه توسط في المسألة. وقد توسط ابن الهمام في المسايرة وقد بلغ رتبة الاجتهاد كما قال عصرينا ابن عابدين الشامي في رد المختار حاشية الدار المختار - توسطاً أخص من هذا التوسط، فذكر ما حاصله: وجوب الإيمان بأنه تعالى استوى على العرش مع نفى التشبيه كون المراد استولى فأمر جائز الإرادة لا وواجبها، إذ لا دليل عليه. وإذا خيف على العامة عدم فهمهم بالاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسمية، فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء، فإنه قد يثبت إطلاقه عليه لغة في قوله: [طويل] فلما علونا واستوينا عليهم جعلناهم مرعى لنسر وطائر وقوله: قد أستوى بشر.. البيت المشهور. وعلى نحو ما ذكر: كل ما ورد مما ظاهرة الجسمية في الشاهد كالأصبع والقدم واليد. ومخلص ذلك التوسط في القريب بين أن تدعو الحاجة إليه لخلل في فهم العوام وبين أن لا تدعو لذلك. ونقل أحمد زروق عن أبي حامد أنه قال: لا خلاف في وجوب التأويل عند تعين شبهه لا ترتفع إلا به. وأنت تعلم أن طريقة كثير من الأعلام وأساطين الإسلام - الإمساك عن التأويل مطلقاً مع نفي التشبيه والتجسيم، منهم الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام أحمد، والإمام الشافعي، ومحمد بن الحسن، وسعد بن معاذ المروزى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وعبد الله بن المبارك، وأبو معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثورى: وإسحق بن راهوية، ومحمد بن أسماعيل البخاري، والترمذي، وأبو داود السجستاني. [الصفات بين المفوضين والمعطلين] ونقل القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد في كتاب الاعتقاد عن ابي يوسف عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في الله تعالى بشئ من ذاته، ولكن يصفه بما وصف سبحانه به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئاً تبارك الله تعالى رب العالمين. وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر. وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الروية والفكر. فنثبت هذه الصفات وننفى عنها التشبيه كما نفى سبحانه عن نفسه فقال: {ليس كمثله شئ} . وذكر الحافظ ابن حجر في فتح البارى: أنه قد اتفق على ذلك أهل القرون الثلاثة، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم -. وكلام إمام الحرمين في الإرشاد يميل إلى طريقة التأويل. وكلامه في الرسالة النظامية مصرح باختياره طريقة التفويض حيث قال فيها: والذى نرتضيه راياً وندين به عقداً اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع. والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الصحابة - رضي الله عنه -، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعاني المتشابهات مع أنهم كانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 منها. فلو كان تأويل هذه الظواهر مسنوناً أو محتوماً لأوشك أن يكون أهتماهم بها فوق الاهتمام بفرع الشريعة. وقد اختاره أيضاً الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذى وصفه في اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين، وفي كتابه الإبانة في أصول الديانة، وهو آخر مصنفاته فيما نقل. وقد قال البيضاوى في الطوالع: الأولى اتباع السلف في الإيمان بهذه الأشياء، يعنى المتشابهات، ورد العلم إلى الله تعالى بعد نفى ما يقتضى التشبيه والتجسيم. اهـ. وعلى ذلك جرى محققة الصوفية فقد جمع منهم أنهم قالوا: إن الناس ما احتاجوا إلى تأويل الصفات إلا من ذهولهم عن اعتقاد أن حقيقتة تعالى مخالفة لسائر الحقائق، وإذا كانت مخالفة فلا يصح في آيات الصفات قط تشبيه، إذ التشبيه لا يكون إلا مع موافقة حقيقته تعالى لحقائق، وذلك محال. وعن الشعرانى: أن من أحتاج إلى التأويل فقد جهل أولاً وآخراً. وأما أولاً - فبتعقله صفة التشبيه في جانب الحق وذلك محال، وأما آخراً فلتأويله ما أنزل الله تعالى على وجه لعله لا يكون مراد الحق سبحانه. وفي الدرر المنثورة له: أن المؤول انتقل من شرح الاستواء الجثماني على الاستيلاء على العرش المكانى بالتنزيه عنه إلى التشبيه بالأمر السلطاني الحادث، وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث آخر، فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى: {ليس كمثله شئ} ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلى في الاستواء بقول الشاعر: * قد أستوى ... ... ... ... . * ... ... ... ... ... البيت وأين استواء بشر على العراق من استواء الحق سبحانه على العرش؟ ؟ فالصواب أن يلزم العبد الأدب مع مولاه، وبكل معنى كلامه إليه عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ونقل الشيخ إبراهيم الكواني في تنبيه العقول عن الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال في الفتوحات أثناء كلام طويل، عجب فيه من الأشاعرة والمجسمة: الاستواء حقيقة معقولة معنوية، تنسب إلى كل ذات بحسب ما تعطيه حقيقة تلك الذات، ولا حاجة لنا إلى التكلف في صرف الاستواء عن ظاهرة. والفقير قد رأى في الفتوحات ضمن كلام طويل أيضاً في الباب الثالث منها ما نصه: ما ضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل، وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الفهم من غير نظر فيما يجب لله تعالى من التنزيه، فقادهم ذلك إلى الجهل المحض والكفر الصراح. ولو طلبوا السلامة وتركوا الأخبار والآيات على ما جاءت من غير عدول منهم فيها إلى شئ ألبته، ويكلون علم ذلك إلى الله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون لا ندرى، كان يكفيهم قول الله سبحانه: {ليس كمثله شئ} . ثم ذكر بعد في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - الذى رواه مسلم: ((إن قلوب بنى ادم كلها بين إصبعين من اصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء)) – والتخبير بين التفويض لكن بشرط نفي الجارحة ولابد، وتبين ما في ذلك اللفظ من وجوه التنزيه، وذكر أن هذا واجب على العالم عند تعينه في الرد على بدعى مجسم مشبه. وقال أيضاً فيما رواه عنه تلميذه المحقق إسماعيل بن سودكين، في شرح التجليات: ولا يجوز للعبد أن يتأول ما جاء من أخبار السمع لكونها لا تطابق دليله العقلى، كأخبار النزول وغيره، لأنه لو خرج الخطاب عما وضع له لما كان به فائدة. وقد علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم ثم رأيناه - صلى الله عليه وسلم - مع فصاحته، وسعة علمه وكشفه، لم يقل لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 إنه تنزل رحمته تعالى، ومن قال تنزل رحمته، فقد حمل الخطاب على الآدلة العقلية، والحق ذاته مجهولة، فلا يصح الحكم عليه بوصف مقيد معين. والعرب تفهم نسبة النزول مطلقاً، فلا تقديه بحكم دون حكم، وحيث تقرر عندها أنه سبحانه ليس كمثله شئ يحصل لها المعنى مطلقاً منزهاً، وربما يقال لك هذا يحيله العقل، فقل: الشأن هذا إذا صح أن يكون الحق من مدركات العقول: فإنه حينئذ تمضى عليه سبحانه أحكامها، أهـ. وقال تلميذه صدر الدين القونوى، في مفتاح الغيب بعد بسط كلام في قاعدة جليلة الشأن حاصلها: أن التغاير بين الذوات يستدعى التغاير في نسبه الأوصاف إليها ما نصه: وهذه قاعدة من عرفها أو كشف له عن سرها، عرف سر الآيات والأخبار التى توهم التشبيه عند أهل العقول الضعيفة، واطلع على المراد منها فيسلم من ورطتى التأويل والتشبيه، وعاين الأمر، كما ذكر مع كمال التنزيه. أهـ. وخلاصة الكلام في هذا المقام: أنه قد ورد في الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة ألفاظ توهم التشبيه والتجسيم، وما لا يليق بالله تعالى الجليل العظيم، فتشبث المجسمة والمشبهة بما توهمه، فضلوا وأضلوا، ونكبوا عن سوء السبيل وعدلوا. وذهب جمع إلى أنهم هالكون، وبربهم كافرون. وذهب آخرون إلى أنهم مبتدعون. وفصل بعض فقال: هم كفرة إن قالوا: هو سبحانه جسم كسائر الأجسام، ومبتدعة إن قالوا: جسم لا كالأجسام. وعصم الله تعالى أهل الحق مما ذهبوا إليه، وعولوا في عقائدهم عليه. فأثبت طائفة منهم ما ورد، كما ورد مع كماله التنزيه، للبرأ عن التجسيم والتشبيه. فحقيقة الاستواء، مثلاً المنسوب إليه تعالى شانه، لا يلزمها ما يلزم في الشاهد، فهو جل وعلا مستو على العرش مع غناه سبحانه عنه، وحمله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 بقدرته للعرش وحملته وعدم مماسته له وانفصال مسافة بينه تعالى وبينه. ومتى صح للمتكلمين أن يقولوا: إنه تعالى ليس عين العالم ولا داخلاً فيه ولا خارجاً عنه، مع أن البداهة تكاد تقضى ببطلان ذلك بين شئ وشئ - صح لهؤلاء الطائفة أن يقولوا ذلك في استوائه تعالى الثابت بالكتاب والسنة، فالله سبحانه وصفاته وراء طور العقل، فلا يقبل حكمه إلا فيما كان طور الفكر، فإن القوة المفكرة شأنها التصرف فيما في الخيال والحافظة من صور المحسوسات والمعاني الجزئية، ومن ترتيبها على القانون يحصل للعقل علم آخر يبنه وبين الأشياء مناسبة، وحيث لا مناسبة بين ذات الحق جل وعلا، وبين شئ لا يستنتج من المقدمات التى يرتبها معرفة الحقيقة فأكف الكيف مشلولة، وأعناق التطاول إلى معرفة الحقيقة مغلولة، وأقدام السعي إلى التشبيه مكبلة، وأعين الأبصار والبصائر عن الإدراك مسملة: [وافر] مرام شط مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تيبد وقد أخرج اللالكائى في كتاب السنة من طريق الحسن، عن أمه، عن أم سلمه رضي الله عنها قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. ومن طريق ربيعة بن عبد الرحمن انه سئل: كيف استوى على العرش؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى اله تعالى إرساله، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم. ومتى قالوا بنفي اللوازم بالكلية اندفع عنهم ما تقدم من الاعتراضات، وحفظوا عن سائر الأفات. وهذه الطائفة قيل هم السلف الصالح. وقيل: إن السلف بعد نفى ما يتوهم من التشبيه يقولون لا ندرى ما معنى ذلك، والله تعالى أعلم بمراده. واعترض بأن الآيات والأخبار المشتملة على نحو ذلك كثيرة جداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ويبعد غاية البعد أن يخاطب الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، العباد فيما يرجع إلى الاعتقاد بما لا يدرى معناه. وأيضاً قد ورد في الأخبار ما يدل على فهم المخاطب المعنى من مثل ذلك، فقد أخرج أبو نعيم عن الطبراني قال: ثنا عياش بن تميم، ثنا يحيى بن أيوب المقابرى، ثنا سلم بن سالم، ثنا خارجة بن مصعب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ((إن الله تعالى يضحك من يأس عباده وقنوطهم، وقرب الرحمة منهم)) . فقلت: بأبي أنت وامى يا رسول الله؟ أو يضحك ربنا؟ قال: نعم، والذى نفسى بيده إنه ليضحك، قلت: فلا يعدمنا خيراً إذا ضحك)) فإنها رضي الله تعالى عنها لو لم تفهم من ضحكة تعالى معنى لم تقل ما قالت. وقد صح عن بعض السلف أنهم فسروا، ففي صحيح البخارى قال مجاهد: استوى على العرش: علا على العرش. وقال أبو العالية: استوى على العرش: ارتفع. وقيل: إن السلف قسمان: قسم منهم بعد أن نفوا التشبيه عينوا المعنى الظاهر المعرى عن اللوازم. وقسم رأوا صحة تعيين ذلك، وصحة تعيين معنى آخر لا يستحيل عليه تعالى، كما فعل بعض الخلف فراعوا الأدب واحتاطوا في صفات الرب، فقالوا: لا ندرى ما معنى ذلك، أى ما المعنى المراد له عز وجل، والله تعالى أعلم بمراده. وذهب طائفة من المنزهين عن التشبيه والتجسيم إلى أنه ليس المراد الظواهر مع نفى اللوازم، بل المراد معنى معين هو كذا، وكثيراً ما يكون ذلك معنى مجازياً، وقد يكون معنى حقيقياً للفظ. وهؤلاء جماعة من الخلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وقد يتفق لهم تفويض المراد إليه جل وعلا أيضاً، وذلك إذا تعددت المعاني المجازية أو الحقيقة التى لا يتوهم منها محذور، ولم تقم عندهم قرينة ترجح واحداً منها فيقولون: يحتمل اللفظ كذا وكذا، والله تعالى أعلم بمراده من ذلك. ومذهب الصوفية على ما ذكره الشيخ إبراهيم الكوراني وغيره: إجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفى اللوازم والتنزيه بليس كمثله شئ، كمذهب السلف الأول، وقولهم بالتجلى في المظاهر على هذا النحو. وكلام الشيخ الأكبر قدس سره في هذا المقام مضطرب كما يشهد بذلك ما سمعت نقله عنه أولا مع ذكره في الفصل الثاني من الباب الثاني من الفتوحات، فإنه قال في عدد من الطوائف المنزهة، وطائفة من المنزهة أيضاً وهم العللية وهم اصحابنا، فرغوا قلوبهم من الفكر والنظر وأخلوها، وقالوا حصل في نفوسنا من تعظيم الله تعالى الحق جل جلاله بحيث لا نقدر أن نصل إلى معرفة ما جاءنا من عنده بدقيق فكر ونظر، فأشبهوا في هذا العقد المحدثين السالمة عقائدهم حيث لم ينظروا ولم يؤلوا بل قالوا: لنا أن نسلك طريقة أخرى في فهم هذه الكلمات، وذلك بأن تفرغ قلوبنا من النظر الفكرى، ونجلس مع الحق سبحانه بالذكر على بساط الأدب والمرقبة والحضور والتهيؤ لقبول ما يرد منه تعالى، حتى يكون الحق سبحانه متولى تعليمنا بالكشف والتحقق لما سمعوه تعالى يقول {واتقوا الله ويعلمكم الله} ، {وإن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} ، {وقل رب زدني علماً} ، {وعلمناه من لدنا علماً} فعند ما توجهت قلوبهم وهممهم إلى الله عز وجل لجأت إليه سبحانه، وألقت عنها ما أستمسك به الغير من دعوى البحث والنظر ونتائج العقول، كانت عقولهم سليمة وقلوبهم مطهرة فارغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 فعندما كان منهم هذا الإستعداد تجلى لهم الحق عياناً معلماً، فأطلعتهم تلك المشاهدة على معاني تلك الكلمات دفعة واحدة، فعرفوا المعنى التنزيهي الذى سيقت له، ويختلف ذلك بحسب اختلاف مقامات إيرادها، وهذا حال طائفة منا. وحال طائفة أخرى منا أيضاً ليس لهم هذا التجلى، لكن لهم الإلقاء والإلهام واللقاء والكتاب، وهم معصومون فيما يلقى إليهم بعلامات عندهم لا يعرفها سواهم، فيخبرون بما خوطروا به، وبما ألهموا وما ألقى إليهم أو كتب - أنتهى المراد منه. ولعل من يقول بإجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفي اللوازم كمذهب السلف الأول من الصوفية طائفة، لم يحصل لهم ما حصل لهاتين الطائفتين والفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء. هذا بقى هل يسمى ما عليه السلف تأويلاً أم لا. والمشهور عدم تسمية ما عليه المفوضة منهم تأويلاً، وسماه بعضهم تأويلاً كالذى عليه الخلف. قال اللقانى: أجمع الخلف ويعبر عنهم بالمؤولة، والسلف ويعبر عنهم بالمفوضة على تنزيه تعالى عن المعنى المحال الذى دل عليه الظاهر، وعلى تأويله وإخراجه عن ظاهرة المحال، وعلى الإيمان به بأنه من عند الله تعالى، جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أختلفوا في تعيين محمل له معنى صحيح، وعدم تعيينه بناء على أن الوقف على قوله تعالى: {والراسخون في العلم} أو على قول سبحانه {إلا الله} ويقال لتأويل السلف إجمالى، ولتأويل الخلف تفصيلى. أنتهى ملخصاً. وكان شيخنا العلامة علاء الدين يقول: ما عليه المفوضة تأويل واحد وما عليه المؤولة تأويلان. ولعله راجع إلى ما سمعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وأما ما عليه القائلون بالظواهر مع نفى اللوازم فقد قيل: إن فيه تاويلاً أيضاً لما فيه من نفى اللوازم، وظاهر الألفاظ أنفسها تقتضيها ففيه إخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر، وإخراج اللفظ عن ذلك لدليل لو مرجوحاً تأويل. ومعنى كونهم قائلين بالظواهر أنهم قائلون بها في الجملة. وقيل: لا تأويل فيه، لأنهم يعتبرون اللفظ من حيث نسبته إليه عز شأنه وهو من هذه الحيثية لا يقتضى اللوازم، فليس هناك إخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر. ألا ترى أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على رؤية اله تعالى في الآخرة مع نفى لوازم الرؤية في الشاهد من المقابلة والمسافة المخصوصة وغيرها، مع أنه لم يقل أحد إن ذلك من التأويل في شئ. وقال بعض الفضلاء: كل من فسر فقد أول، وكل من لم يفسر لم يؤول، لأن التأويل هو التفسير، فمن عدا المفوضة مؤولة، وهو الذى يقتضيه ظاهر قوله تعالى: {وما يعلم إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} بناء على أن الوقف على {إلا الله} ولا يخفى أن القول بأن القائلين بالظواهر مع نفى اللوازم الغير الداخلين في الراسخين في العلم، بناء على الوقف المذكور لا يتسنى مع القول بأنهم من السلف الذين هم هم. وقد يقال: إنهم داخلون في الراسخين، والتأويل بمعنى آخر يظهر بالتتبع والتأمل. وقد تقدم الكلام في المراد بالمتشابهات وذكرنا ما يفهم منه الاختلاف في معنى التأويل. [رأى المؤلف في الصفات] وأنا أميل إلى التأويل وعدم القبول بالظواهر مع نفى اللوازم في بعض ما ينسب إلى الله تعالى، مثل قوله سبحانه: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وقوله عز وجل: {يا حسرتا على العباد} كما في بعض القراءات، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - إن صح: ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن قبله أو صافحه فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه)) فأجعل الكلام فيه خارجاً مخرج التشبيه لظهور القرينة، ولا أقول الحجر الأسود من صفاته تعالى كما قال السلف في اليمين. وأرى من يقول بالظواهر ونفى اللوازم في الجمع بينه وبين القول بوحدة الوجود على الوجه الذى قاله محققو الصوفية مثل ما بين سواد العين وبياضها. وأميل ايضاً إلى القول بقبيب العرش، لصحة الحديث في ذلك، والأقرب إلى الدليل العقلى القول بكريته. ومن قال بذلك أجاب عن الأخبار السابقة بما لا يخفى على الفطن. وقال الشيخ الكبر محيى الدين قدس سره في الباب الحادى والسبعين والثلثمائة من الفتوحات: إنه ذو أركان أربعة، ووجوه أربعة هي قوائمه الصلية، وبين كل قائمتين قوائم وعددها معلوم عندنا ولا أبينها - إلى آخر ما قال. وبفهم كلامه أن قوائمه ليست بالمعنى الذى يتبادر إلى الذهن، وصرح بأنه أحد حملته، وأنه أنزل عند أفضل القوائم وهي خزانة الرحمة، وذكر أن العماء محيط به، وأن صورة العالم بجملته صورة دائرة فلكية - وأطال الكلام في هذا الباب، وأتى فيه بالعجب العجاب. وليس له في أكثر ما ذكره فيه مستند نعلمه من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومنه ما لا يجوز لنا ان تقول بظاهرة والظاهر أن العرش واحد. وقال: من قال من الصوفية بتعدده. ولا يخفى ما في نسبة الاستواء إليه تعالى بعنوان الرحمانية مما يزيد قوة الرجاء به جل وعلا، وسبحان من وسعت رحمته كل شئ. أنتهى. وإنما سقته بطوله لأنه قلما تجده في كتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وقال الوالد عليه الرحمة في كتابه النزهة من كلام طويل ما نصه: وأنت تعلم أ، القول بالظواهر مع التنزيه خال عن ذلك، وإلا أن تفويض العلم بالمراد فيه إلى الله تعالى لا يخلو عن خفاء لما أن فيه الجزم بأن المراد هو الظاهر، غاية ما في الباب أنه مجرد عن اللوازم كرؤيته تعالى مصدر المبنى للفاعل ومصدر المبنى للمفعول، فإن لوازمها بالمعنيين في الشاهد منفية فيه تعالى. وحيث إنى من المفوضين فيما عدا ما سمعت بالتفويض على حد ما عليه جمهور السلف، إلا أنى أعد الظاهر الذى جزموا – كما أشار غليه الجلال المحلى وغيره – بأنه غير مراد هو المعنى المستدعى للوازم، فأقول في الاستواء مثلاً: ليس المراد به المعنى الحقيقى بلوازمه قطعاً، لإباء قوله تعالى: {ليس كمثله شئ} مع الدليل العقلى عنه. بل المراد معنى لائق به عز وجل لا أعلمه هو سبحانه وتعالى يعلمه، وأقطع بذلك من غير تعيين. نعم، أقول هو محتمل لأن يكون المعنى المجرد عن اللوازم، ومحتمل لأن يكون غيره مما يليق به جل شانه وعز سلطانه. وربما ارجح الأول من الاحتمالين بان عليه جملة من السلف الصالح، وطائفة عظيمة من الصوفية الذين لا يؤثر بعلو شأنهم قدح قادح، لكن لا أجزم لأن مراد الله تعالى كما أجزم بأن الطاهر بلوازمه غير مراد له تعالى – فأنا والحمد لله تعالى مؤمن بما ورد في الله تعالى على المعنى أراده جل جلاله. ومن أين لعنكبوت العقل العروج بلعابه إلى رفيع قدس العرش وما حواه أدنى من ذرة بالنسبة إلى جنابه، وأقول بالوقف على قوله تعالى: {إلا الله} فقد حكاه محيى السنة البغوى في المعالم، وغيره في غيره عن أكثر الصحابة والتابعين والنحويين رضي الله تعالى عنهم اجمعين. وقال الأستاذ أبو منصور: إنه الأصح، وبالغ ابن السمعاني وغيره من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 الأجلة في نصرته، ولا يثنينى عن ذلك حكاية إمام الحرمين في البرهان: الوقف على ((العلم)) عن أكثر القراء والنحاة، ولا نقله ذلك فيه عن ابن عباس - رضي الله عنه -، وابن مسعود - رضي الله عنه -، ولا مبالغته في تأييده في التلخيص حتى قال: إن مقابلة قول باطل، لما أنه خلاف مقتضى مادان الله تعالى به في الرسالة النظامية كما قدمناه لك، وهى أبعد البرهان تأليفاً، وخلاف مقتضى ما نقله الألوف عن ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين. وقد أخرج عبد الرزاق في تفسيره والحاكم في المستدرك عن ابن عباس أنه كان يقرأ: وإن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به. وكذا لا يثنينى قول النووى عليه الرحمة في شرح صحيح مسلم: إنه الأصح، لأنه يبعد أن يخاطب اله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته. فإنه خلاف مقتضى ما ذهب إليه إمامه الشافعي - رضي الله عنه - مما أخرجه ابن أبي حاتم في مناقبه عن يونس بن عبد الأعلى عنه، ونقله العلامة الكوراني في تنبيه العقول، والبعد الذى ذكره ممنوع حيث كان الخطاب بذلك للابتلاء، وقد أبتلى سبحانه عباده بتكالبف كثيرة وعبادات وفيرة لم يعرف أحد السر فيها والسر في هذا الابتلاء قص جناح العقل، وكسر سورة الفكر، وإذهاب عجب طاوس النفس، ليتوجه القلب بشراشرة تجاه كعبة العبودية، ويخضع تحت سرادقات الربوبية، ويعترف بالقصور ويقر بالعجز عن الوصول إلى الحور المقصورات في هاتيك القصور. وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة. وكذا لا يثنينى وجوده ذكرها الخلف في ترجيح الوقف على ((العلم)) فقد رددتها والحمد لله تعالى في تفسيرى روح المعاني. وذكر مما يرجح الوقف على ((إلا الله)) ما فيه مقنع لمن أوتى قلباً سليماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وفهماً مستقيماً. (بقى شئ) وهو أن ابن السبكى قال في جمع الجوامع ما نصه: ولا يجوز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة خلافاً للحشوية، أنتهى. وكتب عليه شيخ الإسلام (1) ما نصه: المراد بما لا معنى له ما يتعذر التوصل إلى معناه ليصح محلاً للنزاع إذ لم يقل أحد بظاهر ذلك. أنتهى. فيلزم من ذلك وكون السلف قائلين إن المتشابه ما يتعذر التوصل إلى معناه كما أفصح به تعريف الحنفية إياه بما استأثر الله تعالى بعلمه دون ما لم يتضح معناه، كما عرفه به معظم الشافعية مخالفين لمقتضى ما روى عنه من قوله: إن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر، كون أولئك الأجلة الذين هم سادات الملة. كالحشوية الذين قال الحسن البصرى لما وجد قولهم ساقطاً وكانوا يجلسون في حلقتة أمامه: ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أى جانبها. أو الطعن في الحسن البصرى الذى هو أفضل التابعين عند اهل البصرة حيث رأى سقوط قول هو عين قول السلف القائلين بقولهم. وقد أخرج - كما قال الحافظ ابن حجر في شرح البخارى - أبو القاسم اللالكائى في كتاب السنة من طريق الحسن عن امه عن أم سلمة أنها قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. وقد كنت سالت شيخى علاء الدين الموصلى عن ذلك أثناء الدرس فقال: الفرق بيم مذهب السلف ومذهب الحشوية: أن مذهب الحشوية ورود ما يتعذر التوصل إلى معناه الرماد مطلقاً، فالاستواء مثلاً عندهم له معنى يتوصل إليه بمجرد سماعه من يعرف المعلومات اللغوية، إلا أنه غير مراد لأنه   (1) قوله شيخ الإسلام: الظاهر أنه القاضى زكريا. أنتهى منه. من هامش الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 خلاف ما يقتضيه دليل العقل والنقل، ومعنى آخر يليق به تعالى لا يعلمه إلا هو عز وجل. وقد يقال: الأولى في الجواب إبقاء كلام ابن السبكى على ظاهرة وعدم الالتفات إلى كلام شيخ الإسلام، وقوله: أنه لم يقل به أحد، فالمثبت لا سيما إذا كان كابن السبكى الإمام ابن الإمام - مقدم على النافي ولو كان كشيخ الإسلام، فتأمل جميع ما تلوناه عليك وهو يغنيك عن مراجعة كثير من الكتب إن أخذت العناية بيديك. وبقيت في هذا المقام أبحاث كثيرة يضيق عنها نطاق الكلام. وفي كتب الحنابلة من ذلك ما يجلو غياهب الأوهام، ويروى الغلل ويبرئ العلل والأسقام فمتى أشكل عليك أمر فارجع إليها ينشرح بإذن الله تعالى منك الصدر. أنتهى كلام الوالد، لا زال بنعيم متزايد. وقد مر عليك غير مرة أن كثيراً من المؤولة يسمى غالب السلفيين بالحشوية ولا سيما المعتزلة. وذكر الوالد في سبب التسمية ما تقدم. والشيخ ابن القيم نسبها في النونية إلى غير من تعلم كعمرو بم عبيد والله تعالى أعلم - بما نصه: [كامل] ومن العجائب قولهم لمن اقتدى ... بالوحي من أثر ومن قرآن ويظن يعنون حشوا في الوجو ... د وفضله من أمه الإنسان ويظن جاهلهم بأنهم حشوا ... رب العباد بداخل الأكوان إذ قولهم فوق العباد وفي السما ... ء الرب ذو الملكوت والسلطان ظن الحمير بأن في للظرف والر ... حمن محوى بظرف مكان والله لم يسمع بذا من فرقة ... قالته في زمن من الأزمان لا تبهتوا أهل الحديث به فما ... ذا قولهم تباً لذى البهتان بل قولهم إن السماوات العلا ... في كف خالق هذه الأكوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 حقاً كخردلة ترى في كف ممـ ... سكها تعالى الله ذو السلطان أتونه المحصور بعد أم السما ... يا قومنا ارتدعوا عن العدوان كم ذا مشبهة وذا حشوية ... فألبهت لا يخفى على الرحمن يا قوم إن كان الكتاب وسنة الـ ... مختار حشوا فاشهدوا ببيان أنا بحمد إلهنا حشوية ... صرف بلا جحد ولا كتمان تدرون من سمت شيوخكم بهـ ... ذا الاسم في الماضي من الأزمان سمى به عمرو لعبد الله ذا ... ك ابن الخليفة طارد الشيطان فورثتموا عمرً كما ورثوا لعبد ... الله أنى يستوى الإرثان تدرون من أولى بهذا الاسم وهو ... مناسب أحواله بوزان من قد حشى الأوراق والأذهان من ... بدع تحالف موجب القرآن هذا هو الحشوى لا أهل الحديـ ... ث أئمة انثلام والإيمان أنتهى. ويمكن التوفيق فتدبر. وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن قتيبة المتوفى سنة 271 في تأويل مختلف الأحاديث ما نصه: إن أصحاب البدع سموا أهل الحديث بالحشوية، والناتية والمجبرة والجبرية، وسموهم الغثاء، وهذه كلها أنباز لم يأت بها خير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كما أتى في القدرية أنهم مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا يشهدوا جنائزهم. وفي الرافضة برواية ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يكون قوم في آخر الزمان يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام ويلفظونه، فاقتلوهم فإنهم مشركون)) وفي المرجئة: ((صنفان من أمتى لا تنالهم شفاعتى لعنوا على لسان سبعين نبياً المرجئة والقدرية)) (1)   (1) لم يصح في الرافضة ولا المرجئة حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وفي الخوارج: ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وكلاب أهل النار)) هذه أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتلك أسماء مصنوعة. أنتهى. وقال الشيخ عبد القادر الكيلانى قدس سره: إن الباطنية تسمى أهل الحديث حشوية لقولهم بالأخبار وتعلقهم بالآثار. أنتهى فليحفظ. وقال في مسند الوقت الشيخ الأجل أحمد ولى الله المحدث الدهلوى في كتابه حجة الله البالغة: واستطال هؤلاء الخاضعون على معشر أهل الحديث وسموهم مجسمة ومشبهة، وقالوا: هم المتسترون بالبلكفة. وقد وضح على وضوحاً بيناً أن أستطالتهم هذه ليست بشئ، وأنهم مخطئون في مقالتهم رواية ودراية وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى. أنتهى. [مذهب ابن تيمية في الصفات] فصل وأما الشيخ ابن تيميه فقد ألف في الصفات كتباً عديدة، وأتى بمباحث فريدة، أيد فيها مذهب السلف، وصرح بأنه معتقد بجميع ما قالوه نابذاً لكلام الخلف. فمن ذلك ما في فتاويه: سئل شيخ الإسلام، وقامع البدعة في الأنام، ابو العباس أحمد بن تيمية نفعنا الله تعالى بعلومه الربانية - عن رجلين أختلفا في الاعتقاد فقال أحدهما: من يعتقد أن الله تعالى في السماء فهو ضال. وقال الآخر: لا ينحصر في مكان، وهما شافعيان - فبينوا لنا ما تتبعه من عقيدة الشافعي - رضي الله عنه -، وما الصواب في ذلك؟ فأجاب: الحمد لله. واعتقاد الشافعي رحمه الله تعالى هو اعتقاد سلف أئمة الإسلام كمالك والثورى والأوزاعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية، وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض وأبى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 سليمان الدارانى وسهل بن عبد الله التسترى وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين. وكذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو مما نطق به الكتاب والسنة. وقال الشافعي في أول خطبة الرسالة: الحمد لله الذى هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه، فبين رحمه الله تعالى أن الله سبحانه موصوف بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، قال: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا تتجاوز القرآن والحديث. وهكذا مذهب سائرهم أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصف به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، بل يثبتون له ما اثبته لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلا، ويعلمون أنه ليس كمثله شئ لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإنه كما أن ذاته سبحانه ليست مثل الدوات المخلوقة، فصفاته ليست كالصفات المخلوقة، بل سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، فهو حي قيوم، سميع بصير، عليم قدير، رءوف رحيم، وهو الذى خلق السماوات والأرض، وما بينهما في ستة ايام، ثم أستوى على العرش، وهو الذى كلم موسى تكليماً، وتجلى للجبل فجعله دكا، ولا يماثله شئ من الأشياء في شئ من صفاته، فليس كعلمه علم أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمة احد، ولا كاستوائه أحد، ولا كسمعه وبصره، ولا بصره، ولا كتكليمه تكليم أحد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ولا كتجليه تجلى أحد. والله سبحانه قد أخبرنا أن في الجنة لحماً ولبناً، وعسلاً وماء،وحريراً وذهباً. وقد قال ابن عباس، - رضي الله عنه - ليس في الدنيا مما في الأخرة إلا الأسماء، فإذا كانت المخلوقات الفانية ليست مثل هذه المخلوقات المشاهدة مع اتفاقها في الأسماء، فالخلق تعالى أعظم علواً ومباينة لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق وإن اتفقت الأسماء. وقد سمى نفسه حياً وعليماً، وسميعاً بصيراً، وملكاً رءوفاً رحيماً، وسمى ايضاً بعض مخلوقاته حياً وبعضها عليماً، وبعضها سميعاً بصيراً، وبعضها رءوفاً رحيماً، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم. وقال تعالى: {يخرج الحي من الميت} . وقال تعالى: {وبشروه بغلام عليم} . وقال تعالى: {بالمؤمنين رءوف رحيم} ، وهو سبحانه قد قال في كتابه: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً} [الملك 16، 17] وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال للجارية: ((أين الله؟ قالت: في السماء، قال من انا قالت: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أعتقها فإنها مؤمنة)) . وهذا الحديث رواه مالك والشافعي، وأحمد بن حنبل، ومسلم في صحيحه وغيرهم.ولكن ليس معنى ذلك أن الله عز وجل في جوف السماء، وان السماوات تحصره وتحويه، فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله سبحانه: فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شئ من ذاته، ولا في ذاته شئ من مخلوقاته. وقال مالك بن انس، رحمه الله تعالى: إن الله تعالى في السماء وعلمه في كل مكان. وقالوا لعبد الله بن المبارك: بماذا يعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، كما قال هذا وهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 قال الشافعي، رحمه الله تعالى: خلافة أبي بكر، حق قضاها الله تعالى في سمائه، وجمع عليها قلوب أوليائه. وقال الأوزاعي: كنا والتابعون متوافرون، نقر بأن الله سبحانه فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته، فمن اعتقد أن الله تعالى في جوف السماوات محصور محاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش، أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه فهو ضال مبتدع جاهل. ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، وأن محمداً لم يعرج به إلى ربه، ولا نزل القرآن من عنده فهو معطل فرعونى، ضال مبتدع، فإن فرعون كذب موسى في ان ربه فوق السماوات، وقال: {يا هامان ابن لي صرحاً لعلى ابلغ الأسباب، أسباب السماوات فاطلع إلى إله موسى وغنى لأظنه كاذباً} [غافر 37] ، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، صدق موسى عليه السلام أن ربه تعالى فوق السماوات، فلما كان ليلة المعراج، وعرج به إلى الله عز ودل، وفرض عليه خمسين صلاة، ذكر أنه رجع إلى موسى وقال له: ارجع إلى ربك فأسأله التخفيف لأمتك - وهذا الحديث في الصحاح، فمن وافق فرعون وخالف موسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام، فهو ضال، ومن مثل الله تعالى وشبهه بخلقه، فهو ضال. قال نعيم بن حماد: من شبه الله تعالى بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله تعالى ب نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله تعالى به نفسه، ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - تشبيهاً. وقد قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} ، [فاطر 10] وقال لعيسى عليه السلام: {إنى متوفيك ورافعك إلى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 [آل عمران 55] ، وقال: {بل رفعه الله إليه} [النساء 158] ، وقال {الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} [الأنعام 114] وقال: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} [الجاثية والأحقاف 2] وقال تعالى: {وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته [الأنبياء 20] ، فدل بذلك على ان الذين عنده هم قريبون إليه، وإن كانت المخلوقات تحت قدرته. فالقائل الذى قال: من لا يعتقد أن الله تعالى في السماء فهو ضال، إن أراد بذلك من لا يعتقد أن الله في جوف السماء بحيث تحصره وتحيط به فقد أخطأ. وإن أراد بذلك من لم يعتقد ما جاء به من الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الله تعالى فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فقد أصاب فإنه من لم يعتقد ذلك يكون مكذباً للرسول - صلى الله عليه وسلم - متبعاً غير سبيل المؤمنين بل يكون في الحقيقة معطلاً لربه نافياً له فلا يكون له في الحقيقة إله يعبده ولا رب يسأله ويقصده وهذا قول الجهمية ونحوهم من أتباع فرعون المعطل والله سبحانه فطر العباد عربهم وعجمهم على أنهم إذا ادعوا توجهت قلوبهم إلى العلو ولا يقصدونه تحت أرجلهم. ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارف قط يا ألله إلا وجد في قلبه قبل أن يتحرك لسانه معنى يطلب العلو ولا يلتفت يمنة ولا يسرة. وأما القائل الذي يقول: إن الله تعالى لا ينحصر في مكان إن أراد به أن الله تعالى لا ينحصر في جوف المخلوقات وأنه لا يحتاج إلى شيء منها فقد أصاب وإن أراد أن الله سبحانه وتعالى ليس فوق السماوات ولا هو مستو على العرش استواء لائقاً بذاته وليس هناك إله يعبد ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعرج به إلى الله تعالى فهذا جهمي فرعوني معطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ومنشأ الضلال أن يظن الظان أن صفات الرب سبحانه كصفات خلقه فيظن أن الله تعالى على عرشه كالملك المخلوق على سريره فهذا تمثيل وضلال. وذلك أن الملك مفتقر إلى سريره ولو زال سريره لسقط والله عز وجل غنى عن العرش وعن كل شيء وكل ما سواه محتاج إليه وهو حامل العرش وحملة العرش وعلوه عليه لا يوجب افتقاره إليه فإن الله تعالى قد جعل المخلوقات عالياً وسافلاً وجعل العالي غنياً عن السافل كما جعل الهواء فوق الأرض وليس هو مفتقراً إليها وجعل السماء فوق الهواء وليست محتاجة إليه فالعلى الأعلى رب السموات والأرض وما بينهما أولى أن يكون غنياً عن العرش وسائر المخلوقات وإن كان عالياً عليها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. والأصل في هذا الباب أن كل ما يثبت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجب التصديق به مثل علو الرب واستوائه على عرشه ونحو ذلك. وأما الألفاظ المبتدعة في النفى والإثبات، مثل قول القائل: هو في جهة أو ليس في جهة، وهو متحيز أو ليس بمتحيز، ونحو ذلك من الألفاظ التى تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نص لا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن الصحابة - رضي الله عنه - والتابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين - هؤلاء لم يقل أحد منهم: إن الله تعالى في جهة، ولا قال ليس هو في جهة، ولا قال: هو متحيز، ولا قال: ليس بمتحيز، بل ولا قال: هو جسم أو جوهر، ولا قال: ليس بجسم، ولا جوهر - فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب، ولا السنة، ولا الإجماع. والناطقون بها قد يريدون معنى صحيحاً، فإن يريدوا معنى صحيحاً يوافق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الكتاب والسنة كان ذلك مقبولاً منهم. وإن أرادوا معنى فاسجاً يخالف الكتاب والسنة، كان ذلك المعنى مردوداً عليهم. فإذا قال القائل: إن الله تعالى في جهة، قيل ما تريد بذلك؟ أتريد بذلك أنه سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به، مثل أن يكون في جوف السماوات، أم تريد بالجهة أمراً عدمياً وهو فوق العالم، فإنه ليس فوق العالم شئ من المخلوقات، فإن أردت الجهود الموجودة، وجعلت الله تعالى محصوراً في المخلوقات فهذا باطل. وإن أردت الجهة العدمية، وأردت الله تعالى وحده فوق المخلوقات بائن عنها، فهذا حق، وليس في ذلك أن شيئاً من المخلوقات حصره ولا أحاط به ولا علا عليه، بل هو العالى عليها المحيط بها، وقد قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} الآية. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن الله عز وجل يقبض الأرض يوم القيامة ويطوى السماوات بيمينه، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أين ملوك الأرض)) وقد قال ابن عباس - رضي الله عنه -: ((ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم)) وفي حديث آخر: ((أنه يرميها كما يرمى الصبيان للكرة فمن يكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى؟)) إلى هذا الحقر والصغار كيف تحيط به وتحصره؟ . ومن قال: إن الله تعالى ليس في جهة. قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السماوات رب يعبد، ولا على عرش إله، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعرج به إلى الله تعالى، والأيدى لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء، ولا تتوجه القلوب إليه، فهذا فرعوني معطل، جاحد لرب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وإن كان يعتقد أنه مقر به فهو جاهل متناقض في كلامه. ومن هنا دخل أهل الحلول والاتحاد وقالوا: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، وإن وجود المخلوقات هو وجود الخالق. وإن قال: مرادى بقولى: ليس فى جهة، أنه لا تحيط به المخلوقات فقد أصاب في هذا المعنى. وكذلك من قال: إن الله تعالى متحيز، أو قال ليس بمتحيز، إن أراد بقوله متحيز أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ. وإن اراد به منحاز عن المخلوقات بائن عنها عال فقد أصاب. ومن قال ليس بمتحيز، إن أراد المخلوقات لا تحوزه فقد اصاب. وإن أراد ليس ببائن عنها بل هو لا داخل فيها ولا خارج عنها فقد أخطأ. والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: أهل الحلول، والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة. فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وقد يقولون بالاتحاد والواحدة فيقولون: وجود المخلوقات وجود الخالق، كما صرح به ابن عربي في الفصوص وابن سبعين ونحوهما. وأما أهل النفى والجحود فيقولون: لا هو داخل العالم ولا خارج ولا مباين له ولا حال فيه، ولا فوق العالم ولا فيه، ولا ينزل منه شئ ولا يصعد إليه بشئ، ولا يتقرب إليه بشئ، ولا يدنو إليه بشئ، ولا يتجلى لشئ ولا يراه أحد، ونحو ذلك. وهذا قول متكلمة الجهمية المعطلة، كما أن الأول قول عباد الجهمية، فمتكلمة الجهمية لا يعبدون كل شئ، وكلامهم يرجع إلى التعطيل والجحود الذى هو قول فرعون. وقد علم أن الله تعالى كان قبل أن يخلق السماوات والأرض ثم خلقها فإما أن يكون دخل فيهما وهذا حلول باطل، وإما أن يكونا دخلاً فيه وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 أبطل وأبطل، وإما أن يكون الله سبحانه بائناً عنهما لم يدخل فيهما ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة. ولأهل الجحود والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما فطر الله تعالى عليه عباده، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة. فإن هذه الأدلة كلها متفقة على أن الله تعالى فوق مخلوقاته عال عليها، قد فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)) ثم قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: أقرءوا إن شئتم {فطرة الله التى فرط الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم 30] وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتاب، عليك بما فطرهم الله تعالى عليه، فإن الله سبحانه فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها. وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية ونحوهم فيريدون أن يغيروا فطرة الله تعالى ودينه عز وجل، ويوردون على النفس شبهات بكلمات متشبهات لا يفهم كثير من الناس مقصودهم بها، ولا يحسن أن يجيبهم، وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. وأصل ضلالهم تكلمهم بكلمات مجملة لا أصل لها في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا قالها أحد من أئمة المسلمين، كلفظ المتحيز والجسم والجهة ونحو ذلك. فمن كان عارفاً بحال شبهاتهم بينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ومن لم يكن عارفاً بذلك فليعرض عن كلامهم، ولا يقبل إلا ماجاء به الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الأنعام 68] . ومن تكلم في الله تعالى وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة فهو من الخائضين في آيات الله تعالى بالباطل. وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه، فينسبون إلى الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة رحمهم الله تعالى من الاعتقادات الباطلة ما لم يقولوه، ويقولون لمن أتبعهم هذا الذى نقوله اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طولبوا بالنقل الصحيح عن الأئمة تبين كذبهم في ذلك، كما تبين كذبهم فيما ينقلونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من البدع والأقوال الباطلة. ومنهم من إذا طولب بتحقيق نقله يقول: هذا القول قاله العقلاء والإمام الفلاني لا يخالف العقلاء، ويكون العقلاء طائفة من أهل الكلام الذين ذمهم الأئمة رحمهم الله تعالى. فقد قال الشافعي: حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام، فإن كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما فكيف حكمه فيمن يعارضهما بغيرهما. وكذلك قال أبو يوسف القاضي رحمه الله تعالى: من طلب الدين بالكلام تزندق. وكذلك قال أحمد بن حنبل: ما أرتدى أحد بالكلام فأفلح. وقال: علماء الكلام زنادقة، وكثير من هؤلاء قرءوا كتباً من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم ولم يهتدوا لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الله تعالى فوق الخلق للزم التجسيم والتحيز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ ولا ما أراد بها أصحابها. فإن ذكر لفظ الجسم في أسماء الله تعالى وصفاته لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولم يقل أحد منهم إن الله تعالى جسم، ولا أن الله تعالى ليس بجسم، ولا أن الله تعالى جوهر، ولا أن الله تعالى ليس بجوهر. ولفظ الجسم لفظ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن. ومن قال: إن الله تعالى مثل بدن الإنسان فهو مفتر على الله عز وجل، بل من قال: إن الله تعالى يماثل شيئاً من مخلوقاته فهو مفتر على الله ضال. ومن قال: إن الله تعالى ليس بجسم وأراد بذلك أنه لا يماثل شيئاً من المخلوقات فالمعنى صحيح وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال: إن الله تعالى ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي، بل القرآن العربي مخلوق، أو هو تصنيف جبريل عليه السلام أو نحو ذلك، فهو مفتر على الله فيما نفاه عنه وهذا أصل ضلال الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم على مذهبهم. فإنهم يظهرون للناس التنزيه وحقيقة كلامهم التعطيل، فيقولون: نجن لا نجسم بل نقول: الله ليس بجسم، ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسمائه وصفاته فيقولون: ليس لله تعالى علم ولا قدرة. ولا حياة ولا كلام ولا سمع ولا بصر. ولا يرى في الآخرة، ولا عرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تنزل منه شئ ولا يصعد إليه شئ، ولا يتجلى لشئ، ولا يقرب إلى شئ، ولا يقرب منه شئ، وأنه لم يتكلم بالقرآن بل القرآن مخلوق أو هو كلام جبريل عليه السلام، وأمثال ذلك من مقالات المعطلة الفرعونية الجهمية، والله تعالى يقول في كتابه: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام 103] أى لا تحيط به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فكما أنه يعلم ولايحاط به علماً، فكذلك هو سبحانهن يرى ولا يحاط به رؤية فهو سبحانه نفى الإدراك ولم ينف الرؤية، ونفى الإدراك يدل على عظمته تعالى، وأنه من عظمته لا يحاط به. واما نفى الرؤية فلا مدح فيه فإن المعدومات لا ترى، ولا مدح لشئ من المعدومات، بل المدح إنما يكون بالأمور الثبوتية لا بالأمور العدمية، وإنما يحصل المدح بالعدم إذا تضمن ثبوتاً، كقوله تعالى: {لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة 255] . فنزه سبحانه نفسه عن السنة والنوم، لأن ذلك يتضمن كمال حياته وقيوميته، كما قال تعالى: {وتوكل على الحي الذى لا يموت} [الفرقان 58] فهو سبحانه حي لا يموت، قيوم لا ينام، وكذلك قوله تعالى: {لقد خلقنا السماوات والأرض في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق 38] فنزه نفسه المقدسة عن مس اللغوب وهو الإعياء والتعب، ليتبين كمال قدرته. فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، موصوف بالحياة والعلم والقدرة، والسمع والبصر والكلام. منزه عن الموت والجهل والعجز والصم والبكم. وهو سبحانه لا مثل له في شئ من صفات الكمال. وهو منزه عن كل نقص وعيب، فإنه قدوس سلام، تمتنع عليه النقائص والعيوب بوجه من الوجوه. وهو سبحانه لا مثل له في شئ من صفات كماله، بل هو الأحد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. وهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيثبتون له ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينزهونه عما نزه عن نفسه من مماثلة المخلوقات - إثبات بلا تمثيل، وتنزيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 بلا تعطيل، قال عز شأنه: {ليس كمثله شئ وهو السميع البصير} [الشورى 11] فقوله {ليس كمثله شئ} رد على الممثلة، وقوله تعالى {وهو السميع البصير} رد على المعطلة. قال بعض العلماء: المعطل بعبد عدما، والممثل بعبد صنما. المعطل أعمى، والممثل أعشى، ودين الله سبحانه بين الغالى فيه والجافي عنه، وقد قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة 143] والسنة في الإسلام كالإسلام في الملل، وأهل السنة وسط في الصفات بين أهل التمثيل وأهل التعطيل، وهذا هو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. فنسأل الله تعالى العظيم أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم - وصلى الله تعالى وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين. أهـ. [كلام ابن تيمية في العرش وإحاطة الله بمخلوقاته] تنبيه وقد سئل عليه الرحمة أيضاً عن العرش، هل هو كرى أم لا، فإذا كان كرياً والله من ورائه محيط به، بائن عنه، فما فائدة توجه العبد إلى الله سبحانه حين الدعاء والعبادة فبقصد العلو دون غيره، إذ لا فرق حينئذ بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التى تحيط بالداعى، ومع هذا نجد في قلوبنا قصداً يطلب العلو لا يلتفت يمنه ولا يسره فأخبرنا عن هذه الضرورة التى نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها؟. فأجاب بجواب مفصل، قد كشف فيه هذا المفصل ولنذكر بعضا منه على وجه التخليص والاختصار، فقد يكتفى بالتهتان عن الوابل المدرار. فنقول: قال عليه الرحمة: إنه لقائل أن يقول: لم يثبت بدليل يعتمد أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرية، وإنما ذكره طائفة من المتأخرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 الذين نظروا في علم الهيئة فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع هو الأطلس محيط بها، وهو الذى يحركها الحركة المشرقية، وغن كان لكل فلك حركة تخصه،ثم سمعوا في أخبار الأنبياء ذكر عرش الله سبحانه وكرسيه والسماوات السبع فقالوا بطريق الظن. إن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أنه ليس وراء ذلك شئ - إما أنه ليس وراءه مخلوق. ثم إن منهم من رأى أنه هو الذى يحرك الأفلاك كلها فجعلوه مبدأ الحوادث، وربما سماه بعضهم الروح أو النفس، وجعله بعضهم في اللوح المحفوظ، وبعض الناس أدعى أنه علم ذلك بطريق الكشف. وذلك غير صحيح، بل أخذه عن هؤلاء المتفلسفة كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. والأخبار تدل على أن العرش مباين لغيره من المخلوقات وأنه قبل السموات والأرض فقد ثبت في صحيح البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كان الله ولم يكن شئ غيره على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض وأن له قوائم)) كما في حديث أبي سعيد: ((فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش)) وقد استدل من قال إنه مقبب بما رواه أبو داود من قوله عليه الصلاة والسلام: ((وأن الله تعالى على عرشه، وأن عرشه على سمواته وسمواته فوق أرضه هكذا - وقال بأصبعه - مثل القبة)) وهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك ولا مستدير مثل ذلك. لكن القبة يستلزم استدارة من العلو لا من جميع الجوانب إلا بدليل منفصل ولفظ الفلك يستدل به على الاستدارة مطلقاً كما قال ابن عباس في ((وكل في فلك)) في فلكة مثل فلكة المغزل وأما لفظ القبة فإنه لا يتعرض لهذا المعنى لا بنفي ولا إثبات لكن يدل على الاستدارة من العلو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 واعلم أن العرش سواء كان هذا الفلك التاسع أو جسماً محيطاً به أو كان فوقه من جهة وجه الأرض محيط به أو قيل فيه غير ذلك في غاية الصغير كما قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر:67] . (وفي الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقبض الله تبارك وتعالى يوم القيامة ويطوى السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض)) . (وفي الصحيحين) عن عبد الله بن عمر عنه عليه الصلاة السلام أنه قال: ((يطوى السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون! أين المتكبرون! ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون! اين المتكبرون!)) وفي لفظ: وبتميل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يمينه وعلى شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شئ. وفي رواية أخرى قال: قرأ على المنبر {والأرض جمعياً قبته يوم القيامة الآية. قال: ((مطوية في كفه يرى بها كما يرمى الغلام بالكرة)) ففي هذه الأحاديث وغيرها المتفق على صحتها ما يبين أن السموات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمته عز وجل أصغر من أن تكون مع قبضة لها إلا كالشي الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما تدحى الكرة. [أسماء الله وصفاته توقيفية دون زيادة ولا نقصان] ثم قال في الجواب: فما وصف الله تعالى من نفسه وأسمائه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه ولم نتكلف علم سواه فلا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف وإذ كان كذلك فهو قادر على أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 يقبضها ويدحوها كالكرة وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى وإن شاء لم يفعل. وبكل حال فهو مباين لها ليس بمجانب لها ومن المعلوم أن الواحد منا - والله المثل الأعلى - إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته وإن شاء لم يقبضها بل جعلها تحته فهو في الحالين مباين لها. وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها أم قيل إنه فوقها وليس محيطها بها كوجه الأرض الذي نحن عليها بالنسبة إلى جوفها وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها أو غير ذلك فعلى التقدير يكون العرش فوق المخلوقات والخالق سبحانه فوقه والعبد في توجهه إليه عز وجل يقصد العلو دون التحت. وتمام هذا البحث بأن يقال: لا يخلو إما أن يكون العرش كريا كالأفلاك ويكون محيطها بها وإما أن يكون فوقها وليس بكرى فإن كان الأول فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كرية وأن الجهة العليا هي جهة المحيط وهو الحدود وأن الجهة السلفى هي المركز. وليس للأفلاك إلا جهتان: العلو والسفل فقط، وأما الجهات الست فهي للحيوان فإن له ست جوانب: يؤم جهة فتكون أمامه ويخلف أخرى فتكون خلفه وجهة تحاذى شماله وجهة تحاذى يمينه وجهة تحاذى رأسه وجهة تحاذى رجليه. وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لا زمة بل هي بحسب النسبة والإضافة فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا لكن جهة العلو السفل للأفلاك لا تتغير فالمحيط هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 العلو والمركز هو السفل مع أن وجه الأرض التي وضعها الله تعالى للأنام وأرساها بالجبال هو الذي عليه الناس والبهائم وغيرهما. فأما الناحية الأخرى منها فالبحر محيط بها وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم ولو قدر أن هناك أحداً لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة ولا من في هذه تحت من في هذه كما أن الأفلاك محيطة بالمركز وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر تحت ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا بحسب بعد الناس عن خط الاستواء. فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة وهو الذي يسمى عرض البلد. فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض لا يقال إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان وهو تحت إضافي، كما لو كانت نملة تمشى تحت سقف فالسقف فوقها وإن كانت رجلاها تحاذيه. وكذلك من علق منكوساً فإنه تحت السماء وإن كان رجلاه تلى السماء. وكذلك قد يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك أن الجانب الآخر تحته، وهذا أمر لا يتنازع فيه أثنان ممن يقول: إن الأفلاك مستديرة، وهذا كما انه قول اهل الهيئة والحساب فهو الذى عليه علماء المسلمين، كما ذكره أبو الحسين المناوي، وأبو محمد بن حزم، وأبو الفرج بن الجوزى، وغيرهم، وهو المأخوذ من قول ابن عباس وغيره. ومن ظن أن من يكون في الفلك من ناحية يكون من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر فهو متوهم عندهم. فإذا كان الأمر كذلك، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 كان هو أعلاها وسقفها، وهو فوقها مطلقاًُ فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو. ومن توجه إلى الفلك الثامن أو التاسع مثلاً من غير جهة العلو بانفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش، أو إلى ما فوقه ‍! . وغاية ما يقدر أن يكون كرى الشكل، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السماوات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. وأما قول القائل: إذا كان كرياً والله من ورائه محيط بائن عنه فما فائدة التوجه إلى العلو دون التحت، ومع هذا نجد في قلوبنا قصد العلو؟ فيقال: هذا إنما ورد لتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم. وهذا غلط، فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون تحت الأرض مطلقاً. وهذا قلب للحقائق إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقاً. وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقى في الخرق شء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهى إلى المركز، حتى لو ألقى من تلك الناحية جحر آخر لالتقيا جميعاً في المركز، أى الذى هو النقطة المتوسطة في كرة الأرض. ولو قدر إن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجر لا لتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت الآخر، بل كلاهما فوق المركز وكلاهما تحت الفلك. وإذا كان مطلوب أحد ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا، لأن مطلوبه من تلك الجهة أقرب، لأنه لو قدر أن رجلاً أو ملكاً يصعد إلى السماء كان صعوده مما يلى، ولا يقول عاقل إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 الناحية أو يدهب يميناص أو شمالاً ثم يصعد. ولو أن رجلاً أراد مخاطبة القمر فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أنه قد يشرق ويغرب، فكيف بما هو فوق كل شئ لا يأفل ولا يغيب. سبحانه وتعالى! وكما أن حركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق وهو الخط المستقيم، فالطلب الإدارى الذى يقوم بقلوب العباد، كيف يعدل عن الصراط المستقيم - إلى أن قال: وحديث الإدلاء الذى رواه أبو هريرة، وأبو ذر، قد رواه الترمذى وغيره من حديث الحسن عن أبي هريرة وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع، فإن كان ثابتاً فمعناه موافق لهذا. فإن قوله عليه الصلاة والسلام: ((لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله)) إنما هو تقدير مفروض: أى لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلى احد على الله عز وجل شيئاً، لأنه عال بالذات. وإذا أهبط شئ إلى جهة الأرض وقف في المركز. والمقصود بيان إحاطة الخالق سبحانه، كما بين انه يقبض السماوات ويطوى الأرض، ونحو ذلك مما فيه من بيان إحاطته تعالى، ولهذا قرا في تمام الحديث: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم} [الحديد 3] . وهذا كله على تقدير صحته، فإن الترمذى لما رواه قال: وفسره بعض اهل العلم بانه هبط على علم الله. وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن فيه ما يدل على زعمه الباطل، من أنه سبحانه حال بذاته في كل مكان، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك. وكذلك تاويله بالعلم غير مستقيم، بلى على تقدير ثبوته، فالمراد به الإحاطة، ونحن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلمه أمسكنا عنه، وقد فطر الله تعالى الناس على التوجه في الدعاء إلى جهة العلو، وقال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التى فطر الناس عليها} [الروم 3] فجاءت الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وقد ثبت في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق عن يساره أو تحت رجله)) وفي رواية ((إنه أذن أن يبصق في ثوبه)) وفي حديث أبي رزين المشهور لما أخبر - صلى الله عليه وسلم - ((أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه)) فقال له أبو رزين: كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جمع؟ فقال: ((سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله تعالى، هذا القمر آية من آيات الله تعالى كلكم يراه مخلياً به فالله أكبر)) وفي الصحيحين ((لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة أولا ترجع إليهم أبصارهم)) . واتفق العلماء أن رفع المصلى بصره إلى السماء منهي عنه. وروى محمد بن سيرين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء حتى نزل: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده. فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلاً للفطرة، لأن الداعى المأمول بالذل لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه، خلافاً للجهمية الذين لا يفرقون بين العرش وقعر البحر، وقد قال تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} [البقرة 144] . [ما روى في الحجر الأسود أنه يمين الله وتأويله] ثم بين تأويل ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه)) وقال: قد ظنوا أن هذا وأمثاله محتاج إلى التأويل، وهذا وهم، لأنه لو كان هذا اللفظ ثابتاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في أن الحجر ليس هو من صفاته تعالى، وتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق، فلا تكون اليد حقيقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وقوله: ((فكأنما صافح الله تعالى)) إلخ. صريح في أن المصافح ليس مصافحاً له تعالى، لأن المشبه ليس هو المشبه به - إلى أن قال 0 فهذا كله بتقدير كرية العرش وأما إذا قدر أنه ليس بكرى الشكل بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض وأنه فوق الأفلاك الكرية كما أم وجه الأرض الموضوع للأنام فوق نصف الأرض الكري أو غير ذلك ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه فعلى كل تقدير لا يتوجه إلى الله تعالى إلا إلى العلو مع كونه على عرشه مبايناً لخلته وعلى ما ذكرناه لا يلزم شيء من المحذور والتناقض. وهذا يزيل كل شبهة تنشأ عن اعتقاد فاسد وهو أن يظن أن العرش إذا كان كريا والله تعالى فوقه كما تقضيه ذاته سبحانه عن مشابهة المخلوقين وجب فيما عند الزاعم أن يكون سبحانه كرياً ثم اعتقد أنه إذا كان كرياً فيصبح التوجه إلى ماهو كرى كالفلك التاسع من جميع الجهات وهذا خطأ فإن القول بأن العرش كرى لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها وفي أقدارها أو صفاتها بل قد تبين أنه سبحانه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. فإذا كانت الحمصة مثلاً في يد الإنسان أو تحته أو نحوه ذلك هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الانسان على ذلك وإحاطته بأن يكون الانسان كالفلك فالله تعالى وله المثل الأعلى أعظم من أن يظن به ذلك وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حق والأرض جمعياً قبضته يوم القيامة السموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون وإذا لم يكن كرياً فالأمر ظاهر مما تقدم. وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة والله تعالى أعلم. اهـ وقد أطنب هو وتلميذه العلامة ابن القيم في إثبات جهة العلة بأدلة شرعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وعقلية في تصنيفات مخصوصة سنية وقد أسلفنا لك شيئاً من ذلك فتدبره سالكا أحسن المسالك بحوله سبحانه وتوفيقه. [عقيدة الشيخ عبد القادر الكيلاني] وقال القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره النوراني في كتابه ((الفنية)) في باب معرفة الصانع ما بعضه: واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد {ليس كمثله شئ وهو السميع البصير} لا شبيه له ولا نظير، ولا عون ولا شريك. ليس بجسم فيمن، ولا بجوهر فيحس، ولا عرض فيقضى، ولا ذى تركيب أو آلة أو تأليف، أو مائية وتحديد، ولا طبيعة من الطبائع، ولا طالع من الطوالع، ولا ظلمة تظهر، ولا نور يزهر. هو حاضر الأشياء علماً، شاهد من غير مماسة. وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} خلق الخلائق وأفعالهم - إلى قال - يقبض ويبسط، يضحك ويفرح، يحب ويكره، ويبغض ويرضى ويغضب ويسخط، يرحم ويغفر، يعطي ويمنع. له يدان وكلتا يديه يمين قال جل وعلا: {والسماوات مطويات بيمينه} . وروى نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر {والسماوات مطويات بيمينه} وقال: ((تكون في يمينه يرمى بها كما يرمى الغلام بالكرة، ثم يقول أنا العزيز)) قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرك على المنبر حتى كان يسقط. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: يقبض الأرضين والسماوات جميعاً، فلا يرى طرفها من قبضته. وعن أنس بن مالك عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((المقسطون يوم القيامة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين)) وخلق آدم عليه السلام بيده على صورته، وغرس جنة عدن بيده، وغرس شجرة طوبي بيده، وكتب التوراة بيده، ناولها موسى من يده إلى يده، وكلمه تكليماً من غير واسطة ولا ترجمان، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ويوعيها مااراد، والسماوات والأرض يوم القيامة في كفه، كما جاء في الحديث: ((ويضع قدمه في جهنم فينزوى بعضها إلى بعض وتقول: قط قط)) ، ويخرج قوم من النار بعده، وينظر أهل الجنة في وجهه ويرونه ولا يضامون في رؤيته ولا يضارون كما جاء في الحديث ((يتجلى لهم ويعطيهم ما يتمنون)) وقال عز من قائل: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس 36] قيل: الحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجهه الكريم. وقال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة 22، 23] ويعرض عليه العباد يوم الفصل والدين، يتولى حسابهم بنفسه، ولا يتولى ذلك غيره. وان الله تعالى خلق سبع سماوات بعضها فوق بعض، وسبع أرضين بعضها أسفل من بعض، ومن الأرض العليا إلى السماء الدنيا خمسمائة عام. وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، والماء فوق السماء السابعة، وعرش الرحمن فوق الماء، والله تعالى على العرش، ودونه سبعون ألف حجاب من نور وظلمه وما هو أعلم به. وللعرش حملة يحملونه، قال الله عز وجل: {الذين يحملون العرش ومن حوله} [غافر 7] . وللعرش حد يعلمه الله تعالى {وترى الملائكة حافين حول العرش} [الزمر 75] وهو سبحانه منزه عن مشابهة خلقه، ولا يخلو من علمه مكان ولا يجوز وصفه بانه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش، كما قال تعالى: {الرحمن على العرش أستوى} وقال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} والنبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام الأمة لما قال لها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 أين الله؟ فأشارت إلى السماء: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لما قضى الله سبحانه الخلق كتب كتاباً على نفسه وهو عنده فوق العرش: إن رحمتى سبقت غضبي)) وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى العلو، كما قالت الأشعرية، ولا على معنى الاستيلاء والغلبة كما قالت المعتزلة، لأن الشرع لم يرد بذلك، وقد روى عن أم سلمه زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز وجل {الرحمن على العرش استوى} قالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به واجب، والجحود به كفر. وقد أسنده مسلم بن الحجاج عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيحه. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قبل موته بقريب: أخبار الصفات تمر كما جاءت بلا تشبيه، ولا تعطيل. وقال أيضاً في رواية بعضهم: لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شئ من هذه الأماكن في كتاب الله عز وجل أو حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أصحابه رضي الله عنهما أو عن التابعين. فإما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود، فلا يقال في صفات الرب عز وجل: كيف ولم؟ لا يقول ذلك إلا شاك. وقال أحمد في رواية عنه: نحن نؤمن بان الله تعالى على العرش كيف يشاء وكما شاء، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحدها حاد، لما روى عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار قال: قال الله تعالى في التوراة: ((أن الله فوق عبادى وعرشي فوق جميع خلقى، وأنا على عرشي أدبر عبادي، ولا يخفى على شئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 من عبادي)) . وكونه عز وجل على العرش مذكور في كل كتاب انزل على كل نبي أرسل بلا كيف، فالاستواء من صفات الذات بعد ما أخبرنا به وأكده في سبع آيات من كتابه والسنة الماثورة به، وهو صفة لازمة له ولائقة به كاليد والوجه والعين والسمع والبصر والحياة والقدرة، وكونه خالقاً ورازقاً ومحيياً ومميتاً، موصوف بها، ولا نخرج من الكتاب والسنة، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيهما، ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله عز وجل. كما قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى نفسه في كتابه فتفسيره قراءته ولم نتكلف غير ذلك، فغنه غيب لا مجال للعقل في إدراكه. وانه تعالى ينزل في كل ليلة إلى سماء الدنيا، كيف يشاء وكما يشاء. فيغفر لمن أذنب. ولا بمعنى نزول الرحمة وثوابه على ما أدعته المعتزلة والأشعرية للأحاديث الصحيحة في ذلك، منها مارواه الصديق - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ينزل الله عز وجل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لكل نفس إلا الإنسان في قلبه شحناء أو شرك بالله عز وجل)) . وقال يحيى بن معين: إذا قال لك الجهمي: كيف ينزل؟ فقل له: كيف صعد؟ وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب ينزل، فقل له: أنا مؤمن برب يفعل ما يشاء - أنتهى باقتصار. فتبين منه أن عقيدة الشيخ الجيلاني نفعنا الله تعالى بعلومه طبق عقيدة الشيخ ابن تيميه، وكذا سائر الحنابلة. والشيخ عبد القادر قدس سره من رؤسائهم كما هو المشهور في كافة التواريخ والطبقات، وهو المؤيد لمذهب الإمام أحمد، والمروج له في عصره بالعراق وسائر الآفاق. وأن ما نقله الشيخ ابن حجر في فتاواه عن الشيخ نجم الدين من رجوعه عن هذه العقيدة المحررة لا يعول عليه، لعدم وجود برهان على ما ذكره. وكذا لا عبرة بما صنعه بعض العلماء الخلفيين من رفع هذا البحث من كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 الفنية. لأن نقل هذه العقيدة عنه قدس سره مستفيض في كثير من كتب المؤلفين وزبر المتقدمين. واله سبحانه الموفق للحق المبين. [عقيدة الأشعري] روى غير واحد من المصنفين عن الشيخ أبي الحسن الأشعرى أنه قال: كتابه (الإبانة في أصول الديانة) وهو آخر كتاب صنفه، وعليه تعتمد أصحابه في الذب عنه عند من يطعن عليه ما نصه: فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة فإن قال قائل: قد أنكر قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذى به تقولون وديانتكم التى بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذى نقول به ودينانتنا التى ندين بها التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل نصر الله وجهه، ورفع درجته قائلون. ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل. والرئيس الكامل الذى أبان الله تعالى به الحق ودفع الضلال، وأوضح المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله تعالى عليه من إمام مقدم. وجليل معظم، وكبير مفخم. وجملة قولنا: إنا نقر بالله تعالى وكتبه ورسله. وبما جاء من عند الله تعالى ومما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا نرد من ذلك شيئاً، وأنه واحد لا إله إلا هو. فرد صمد. لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وإن محمداً عبده ورسوله. أرسله بالهدى ودين الحق. وأن الجنة حق. وأن النار حق. وأن الساعة آتية لا ريب فيها. وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 تعالى مستو على عرشه، كما قال {الرحمن على العرش استوى} وأن له وجهاً، كما قال: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وأن له يدين بلا كيف كما قال {بل يداه مبسوطتان} وأن له عينين بلا كيف، كما قال: {تجرى بأعيينا} وان من زعم أن أسماء الله تعالى غيره كان ضالاً. وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب بين أصبعين من اصابع الله عز وجل، يضع السماوات على اصبع، والأرضين على اصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التى رواها الثقات عدلاً عن عدل، ونصدق بجميع الروايات التى رواها وأثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا. وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لأهل الزيغ والتضليل. ونقول: إ، الله تعالى يقرب من عباده كيف يشاء، كما قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} ، وكما قال: {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} أنتهى ملخصاً. ونقل الشيخ إبراهيم في كتابه ((إمداد ذوى الاستعداد)) عن الحافظ ابن حجر العسقلاني أنه قال في فتح البارئ شرح صحيح البخاري ما نصه: وأخرج أبو القاسم اللائكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أم سلمه - رضي الله عنه - أنها قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. ومن طريق ربيعة بن عبد الرحمن أنه سئل: كيف استوى على العرش؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله تعالى إرساله وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وأخرج البيهقى بسند جيد عن الوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى على عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته سبحانه. ومن وجه آخر عن الأوزاعي قال في الجواب: هو كما وصف نفسه. وأخرج الببيهقى عن طريق يحي قال: كنا عند مالك بن أنس رحمه الله تعالى فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ قال: فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرخصاء. ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وأسند اللائكائي عن محمد بن الحسن الشيهاني قال: اتفق الفقهاء من المشرق إلى المغرب عن أن الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التى جاء بها الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب سبحانه من غير تشبيه ولا تعطيل. قال الحافظ ابن حجر عليه الرحمة: والآثار عن السلف الصالح كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. ثم قال: وقال إمام الحرمين في (الرسالة النظامية) : اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آى الكتاب وما يصح من السنة. وذهب أئمة السلف الصالح إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها وتقويض معانيها إلى الله عز وجل. والذى نرتضيه رأياً وندين الله تعالى به عقيدة أتباع سلف الأمة للدليل القاطع أن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الاضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع. أهـ. قال الحافظ ابن حجر: وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وغيرهم، وهم فقهاء الأمصار كالثورى والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم، وكذا أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما أتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم -. أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 ونقل عن الشيخ محيى الدين بن عربي، كما نقله عنه تلميذه ابن سودكين في شرح التجليات أنه قال: ولا يجوز للعبد أن يتأول ما جاء من أخبار السمع، لكونها لا تطابق دليله العقلى كأخبار النزول وغيره، لأنه لو خرج الخطاب عما وضع له لما كان بالخطاب فائدة، وقد علمنا أنه ارسل ليبين للناس ما نزل إليهم ثم رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - مع فصاحته وسعة علمه وكشفه، لم يقل لنا إنه ينزل رحمته. ومن قال ينزل رحمته فقد حمل الخطاب على الأدلة العقلية، والحق تعالى ذاته مجهولة فلا يصح الحكم عليه بوصف مقيد معين. والعرب تفهم نسبة النزول مطلقاً، فلا تقيده بحكم دون حكم خصوص. وقد تقرر عندها أنه تعالى ليس كمثله شئ فيحصل لها المعنى مطلقاً منزهاً. أهـ. وقال ابن الشحنة الحنفى في شرح الوهبانية ما نصه: وما ورد من النصوص الظاهرة في الجسمية والصورة والجوارح نفوض علمها إلى الله على ما هو دأب السلف إيثاراً للطريق الأسلم. أو نؤثرها تأويلات صحيحة على ما أختاره المتأخرون دفعاً عن الجاهلين، وجذباً لضبع العاجزين، وسلوكاً للسبيل الأحكم. وحكى والدى رحمه الله تعالى عن بعض المحققين: أن مذهب السلف أسلم وأحكم، والله تعالى أعلم. أهـ وقال جلال الدين الأسيوطي عليه الرحمه: [مجزوء الكامل] . فوض أحاديث الصفا ... ت ولا تشبه أو تعطيل إن رمت إلا الخوض في ... تحقيق معضلة فأول إن المفوض سالم ... مما تكلفه المؤول ونقل الخفاجي في شرح الشفاء عن الدارقطني في حديث: أن المقام المحمود للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أن يجلسه معه تعالى على العرش ما نصه: [متقارب] . حديث الشفاعة عن أحمد ... إلى أحمد المصطفى بسند وجاء الحديث بإقعاده ... على العرش أيضاً ولا يجحد أمروا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 ولا تنكروا أنه قاعد ... ولا تنكروا أنه يقعد. أهـ وقال الشيخ الكوراني في (شرح القشاشية) ما نصه: مذهب السلف كما هو الأسهل والأسلم، كذلك هو الأتقن والأحكم، إذ لا خلل فيه ولا خطر أصلاً. وأما صاحب التأويل بمجرد النظر الفكرى فهو على خطر، لأنه ليس على يقين في أنه أصاب، لبقاء الاحتمال عنده إن كان حاذقاً منصفاً، فالأولى بالناصح نفسه أن لا يسلك طريق التأويل بمجرد النظر العقلى، فإن الأمر وراء طور العقل، وفوق حده الذى حده الله تعالى له. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى، في (فتح البارى) : أخرجه ابن أبي حاتم في مناقب الإمام الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الإمام الشافعي يقول: لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر. وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الروية والفكر، فيثبت هذه الصفات وينفى عنه التشبيه، كما نفى سبحانه عن نفسه فقال: {ليس كمثله شئ} . أهـ. ولكن لما وقع الخوض في التأويل، كما ترى، واتسع الخرق على الراقع، لم ينجح النصح باتباع طريق السلف إلا فيمن شاء الله تعالى، وقليل ماهم. أنتهى. (قلت) : ويعجبني ما قاله علامة عصرنا، ومفتى مصرنا، من جارى الرافعى والنواوى محمد أفندى الشهير بالزهارى، ونصه: [مجزوء الرمل] وقصارى أمر من أو ل أن ظنوا طنونا فيقولون على الرحـ من ما لا يعلمونا وكذا ما قاله عصرينا أشعر أدباء زمانه ذو الفضائل المسلمة عبد الباقى أفندى الفاروقي عليه الرحمة وهو: [طويل] على عرشه الرحمن سبحانه استوى ... كما أخبر القرآن والمصطفى روى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وذاك استواء لائق بجنابه ... وابرأ من قولى له العرش قد حوى فمن قال مثل الفلك كان استواؤه ... على الجبل والجودى من شاهق هوى ومن يتبع ما قد تشابه يبتغي ... به فتنة أو يبغ تاويله غوى فلم اقل استولى ولست مكلفاً ... بتأويله كلاً ولم أقل احتوى ومن قال لى كيف استوى ولا أجيبه ... بشئ سوى أنى أقول له استوى. أهـ [ابن تيمية لم يكن بدعاً من الأئمة حينما رأى ما رأى] وقد تبين لك واتضح ما روى به السنة المرضية، ووافق أقوال الأئمة، وذهب إلى ما ذهب إليه كثير من علماء الأمة. فلا لوم عليه في ذلك عند المنصفين، ولا ينسب إليه الابتداع في الدين، فتأويله وكن من المستغفرين لما ولنفسك وللعلماء السالفين، رحمهم الله تعالى وإيانا أجمعين. وبه ايضاً تبين عدم صحة الشيخ ابن حجر عن الشيخ ابن تيميه أنه يقول: إنه سبحانه يقدر العرش وعدم الاعتبار بقوله. ويلزم أهل هذا المذهب الجسمية إلى آخره. ولنزدك توضيحاً لبيان أن لازم المذهب ليس بمذهب، كما أفصحت عنه عبارات المحققين، وتنبيهات السلفيين، والخلفيين، فقد قال فريد عصره العز بن عبد السلام الشافعي في قواعده الكبرى ما بعضه: وكذلك أختلف الناس، أهو في جهة؟ أم لا جهة له؟ وكل هذا مما يطول النزاع فيه ويعسر الوقوف على ادلته. وقد تردد أصحاب الأشعرى رحمهم الله تعالى في القدم والبقاء أهما من صفات السلب؟ أم من صفات الذات؟ وقد كثرت مقالات الأشعرى حتى جمعها ابن فورك في مجلدين، وكل ذلك مما لا يمكن تصويب المجتهدين فيه، بل الحق مع واحد منهم م، والباقون مخطئون خطأ معفواً عنه لمشقة الخروج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 منه، ولا سيما معتقد الجهة، فإن اعتقاده موجود ليس بمتحرك ولا ساكن ولا مغفل من العالم، ولا متصل به ولا داخل فيه ولا خارج عنه. لا يهتدى إليه أحد بأصل الخلقة في العادة، ولا يهتدى إليه إلا بعد الوقوف على أدلة صعبة المدرك، عسرة الفهم، فلأجل هذه المشقة عفا الله تعالى عنها في حق العامة، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - لا يلزم أحداً ممن أسلم بالبحث عن ذلك، بل كان يقرهم على ما يعلم أنه لا انفكاك لهم عنه. وقد رجع الأشعرى عند موته عن تكفير أهل القبلة، لأن الجهل بالصفات ليس جهلاً بالمواصفات. [لازم المذهب ليس بمذهب] فإن قيل: يلزم من الاختلاف في كونه سبحانه في جهة أن يكون حادثاً. قلنا: لازم المذهب ليس بمذهب، لأن المجسمة جازمون بأنه في جهة، وجازمون بأنه قديم أزلى ليس بمحدث، فلا يجوز أن ينسب إلى مذهب من يصرح بخلافة، وإن كان لازماً من قوله. والعجب أن الأشعرية أختلفوا في كثير من الصفات كالقدم والبقاء، والوجه واليدين. وفي الأحوال كالعالمية والقادرية. وفي تعدد الكلام وإيجاده، ومع ذلك لا يكفر بعضهم بعضاً. واختلفوا في تكفير نفاة الصفات. أهـ. وقال العلامة ابن القيم من كلام طويل في كتاب (الروح) ما نصه: وأما السلام على أهل القبور وخطابهم، فلا يدل على أن أرواحهم ليست في الجنة، وأنها على أفنية القبور فهذا سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام الذى روحه في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى يسلم عند قبره ويرد سلام الملمين عليه. وقد وافق ابن عمر رحمه الله تعالى على أن أرواح الشهداء في الجنة، ويسلم عليهم عند قبورهم، كما يسلم على غيرهم، كما علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نسلم عليهم. وكما كان الصحابة يسلمون على شهداء أحد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 وقد ثبت أن أرواحهم في الجنة تسرح حيث تشاء كما تقدم. ولا يضيق عطئك عن كون الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت، وتسمع سلام المسلم عليها عند القبر، وتدنو حتى ترد عليه السلام. وللروح شأن آخر غير شان البدن. وهذا جبريل صلوات الله تعالى عليه وسلامه، رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - وله ستمائة جناح، منها جناحان قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب وكان يدنو من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يضع ركبتيه ويديه على فخديه. وما أظنك يتسع بطانك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السماوات حيث هو مستقره، وقد دنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الدنو، فإن التصديق بهذا له قلوب خلقت له وأهلت لمعرفته. ومن لم يتسع بطانه لهذا فهو ضيق أن يتسع للإيمان الإلهي إلى سماء الدنيا كل ليلة، وهو فوق سماواته على عرشه، لا يكون فوقه شئ ألبته، بل هو العالى على كل شئ، وعلوه من لوازم ذاته. وكذلك دنوه عشية عرفة من أهل الموقف. وكذلك مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه وإشراق الأرض بنوره. وكذلك مجيئه إلى الأرض حين دحاها وسواها ومدها وبسطها وهيأها لما يردا منها. وكذلك مجيئه إليها قبل يوم القيامة حين يقبض من عليها ولا يبقى أحد، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد)) هذا، وهو فوق سماواته على عرشه. أهـ. وقد أطال في بحث الروح، وأنها تكون في السماوات في أعلى عليين وترد إلى القبر فترد السلام، وتعلم بالمسلم وهي في مكانها هناك. فإن أردت تكميل البحث فارجع إليه. والمراد هنا: إن ابن القيم ايضاً كشيخه ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 تيميه لم يقل أيضاً بالانتقال والحركة اللازميين للأستواء والنزول، بل ذهب إلى الإيمان بذلك مع نفي اللوازم فلا تغفل. وقال أيضاً في نونيته ما بعضه [كامل] . واحذر حكايات لأرباب الكلا ... م عن الخصوم كثيرة الهذيان فكموا بما ظنوه يلزمهم فقا ... لوا ذاك مذهبهم بلا برهان كذبوا عليهم باهتين لهم بما ... ظنوا يلزمهم من البهتان فحكى المعطل عن اولى الإثبات قو ... لهم بان الله ذو جثمان وحكى المعطل أنهم قالوا بأ ... ن الله ليس يرى لنا بعيان وحكى المعطل أنهم قالوا يجو ... ز كلامه من غير قصد معاني وحكى المعطل أنهم قالوا بتحـ ... ييز الإله وحصره بمكان وحكى المعطل أنهم قالوا الـ ... أعضاء جل الله من بهتان وحكى المعطل أن مذهبهم هو القشـ ... بيه للخلاف بالإنسان وحكى المعطل عنهم ما لم يقو ... لوه ولا أشياخهم بلسان ظن المعطل أن هذا لازم ... فلذا أتى بالزور والعدوان فعليه في هذا معاذير ثلا ... ث كلها متحقق البطلان ظن اللزوم وقذفهم بلزومه ... وتمام ذاك شهادة الكفران يا شاهداً بالزور ويلك لم تخف ... يوم الشهادة سطوة الديان يا قائل البهتان غط لوازماً ... قد قلت ملزماتها ببيان والله لازمها انتفاء الذات والأ ... وصاف والأفعال للرحمن والله لزمها أنتفاء الدين والـ ... قرآن والإسلام والإيمان ولزوم ذلك بين جداً لمن ... كانت له أذنان واعيتان والله لولا ضيق هذا النظم بيـ ... نت اللزوم بأوضح التبيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 إلى أن قال: والله لم ينقم علينا منكم ... أبدأ خلاف النص من إنسان لكن خلاف الأشعرى بزعمكم ... وكذبتم أنتم على الإنسان (1) كفرتم من قال ما قد قاله ... في كتبه حقاً بلا كتمان هذا وخالفناه في القرآن مثـ ... ل خلافكم في الفوق للرحمن فالأشعرى مصرح بالاستوا ... ء وبالعلو بغاية التبيان ومصرح أيضاً بإثبات اليديـ ... ين ووجه رب العرش ذى السلطان ومصرح أيضاً بإثبات الأصا ... بع مثل ما قد قال ذو البرهان ومصرح أيضاً بأن لربنا ... سبحانه عينان ناظرتان ومصرح ايضاً بإثبات النزو ... ل لربنا نحو الرفيع الداني ومصرح بفساد قول مؤول ... للاستواء بقهر ذى السلطان ومصرح أن الألى قالوا بذا التـ ... أويل أهل ضلالة ببيان ومصرح أن الذى قد قاله ... أهل الحديث وعسكر القرآن هو قوله يلقى عليه ربه ... وبه يدين الله كل أوان لكنه قد قال إن كلامه ... معنى يقوم بربنا الرحمن في القول خالفناه كفراً وكا ... ن خلافكم هو مقتضى الإيمان والله لا للأشعري تبعتم ... كلا ولا للنص بالأحسان. أهـ. وأنت تعلم أن الأشعرى أيضاً قائل كالسلف بالكلام اللفظي كما تقدم تحقيقه فلا تغفل. وفي شرح الشفاء للعلامة الشهاب الخفاجي ما نصه: واعلم أنه حكى عن الأشعري والقشيرى واصحابه، أنهم قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) قوله: على الإنسان، أى الإمام الأشعرى. أهـ. ومنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ليس بنى في قبره، وإن رسالته عليه أفضل الصلاة والسلام أنقطعت بموته. وقد شنع عليهم جماعة بذلك وقالوا بتكفيرهم. وقال السبكي: إنه افتراء عليهم، وقد كتب بذلك إلى الأفاق. وكيف يقال مع ما صح في الحديث من أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء في قبورهم يصلون، وإنما فهم هذا عنهم الكرامية، وادعوا أنه لازم لمذهبهم، ولا زم المذهب ليس بمذهب، فإنه - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره، باقٍ على ما كان عليه. انتهى. وقال العلامة العارف الشيخ إبراهيم الكوراني في شرح عقيدة القشاشي في بحث رؤية الله تعالى يوم القيامة: إن المعتزلة قد كفرت أهل السنة لقولهم برؤيته سبحانه يوم القيامة، ظناً منهم ان ذلك يستلزم التجسيم، وهذا ظن فاسد لأن أهل السنة يثبتونها بلا كيف، ومع التنزيه عن الجسم والجهة، حتى قال في الكشاف: ثم تعجب من المتسمين بالإسلام، والمتسمين بأهل السنة والجماعة، كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً، ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة فإنه من منصوبات اشياخهم. والقول ما قال بعض العدلية فيهم: * لجماعة سموا هواهم سنة * البيتين. أنتهى. وقد أفترى على أشياخ أهل السنة لأن هذا ليس من منصوبات الشياخ. بل أخرج ابن مردوية عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} قال: ينظرون إلى ربهم للا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة، كما نقله السيوطي في الدر المنثور. وهذا نص صريح في مذهب أهل السنة وقولهم بالبلكفة، فلا يحزنك قولهم: إن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، ستكتب شهادتهم ويسألون وهذا الحديث المحتج به للبلفكة له شواهد منها قوله تعالى: {فلما جاءها نودى من شاطئ الوادى الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إنى أنا رب العالمين} فإنه سبحانه تجلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وظهر في النار، كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {أن بورك من في النار} يعنى تبارك وتعالى نفسه، كأن نور رب العالمين في الشجرة، وفي رواية عنه قال: وكانت تلك النار نوراً، وكان الله تعالى في النور، ونودى موسى من النور. وقد صح ((حجابه النار، وحجابه النور)) والكل صحيح، فإن الله تعالى له تجلى الجلال والجمال. وإنما سمى حجاباً لكونه حجاباً على غيب الذات والهوية، فلا تشهد الذات المقدسة إلا في مظهر ومن حولها موسى والملائكة الحاضرين ثمة. وقال بعض المحققين: المراد ((بمن)) هنا أيضاً هو الله تعالى، أى بورك من تجلى في النار، ومن تجلى فيما حولها من سائر الأكوان، لقوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} هو صحيح أيضاً. ولما كان التجلى في المظهر يوم التقيد بالصورة والمكان والجهة قال تعالى إزالة لهذا التوهم: {وسبحان الله} نزهه عن التقيد بالصورة والمكان والجهة. وإن ناداك من النار من شاطئ الوادى الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة لكونه موصوفاً بوصف رب العالمين. وما هو كذلك لا يكون ظهوره في مظهر ما موجباً للتقيد بذلك، لأن رب العالمين له إلا الإطلاق الحقيقى الذى لا يقابله تقييد القابل لكل قيد شاء الظهور فيه، فيكون منزهاً عن التقيد بذلك في عين ظهوره فيه. ولهذا قال: يا موسى إنه - أى المنادى المتجلى في هذه البقعة المباركة أنا الله العزيز. ومقتضى العزة ان لا أكون متقيداً بهذا المظهر، ولكنى الحكيم، ومقتضى الحكمة الظهور في صورة مطلوبك. ووجه الشهادة أن الآية قد دلت بظاهرها الذى فسرها به ابن عباس ترجمان القرآن: أن الله تعالى هو المتجلى في النار بمقتضى حكمته، وانه منزه عن التقييد بذلك لربوبيته وعزته. فإذا رؤى يرى بلا كيف يقيد، وإن ظهر في مظهر له كيف. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وقول أهل السنة: إن الله تعالى يرى بلا كيف، ومعناه: أنه تعالى لا يتقيد بكيف يقتضيه مظهر التجلى، لا أنه لا يتجلى في مظهر له الكيف اصلاً، فإن هذا مع أنه لا يصح لم يلتزمه أهل السنة، فقد قال العلامة التفتازاني في شرح المقاصد بعد تقرير جواز اختلاف الرؤيتين أى الخلق والحق في الشروط واللوازم ما نصه: وهذا هو المراد بالرؤية بلا كيف، بمعنى خلوها عن الشرائط والكيفيات المعتبرة في رؤية الأجسام والأغراض، لا بمعنى الرؤية، أى المرئي في جميع الحالات والصفات على ما يفهمه أرباب الجهالات. فيعترضون بأن الرؤية فعل من أفعال العباد، أو كسب من اكسابهم، فبالضرورة يكون من الكيفيات. انتهى. وهذا كلام حسن يوضحه الحديث المذكور في قوله ولا محدود ولا صفة معلومة، فما نفي إلا حداً متعيناً ينحصر فيه من له ذلك الحد لا مطلق الحد وصفته معلومة متعينة فيها الموصوف لا مطلق الصفات. وقال الشيخ الأشعرى في الإبانة ما نصه: وأن له عينين بلا كيف. ثم قال: وغن الله يقرب من عباده كيف يشاء. انتهى. فنفى الكيف وأثبت، والكل صحيح عند من أحاط علماً بأن الحق سبحانه وتعالى له الإطلاق الحقيقى - ثم قال الكوراني: وإن فرضنا إن أثبات الرؤية يستلزم التجسيم لم يلزم من غثباتها كفر، لأن الأصح أن لزم المذهب ليس بمذهب، بل صريح التجسيم مع البلفكة ليس بكفر، كما في شرح العقائد العضدية للجلال الدواني، ونقله ابن حجر الهيتمى في كتاب (الأعلام بقواطع الإسلام) : لازم المذهب ليس بمذهب، ومن ثمة قال الأسنوى: المجسمة ملتزمون بالألوان وبالاتصال والانفصال مع انا لا نكفرهم على المشهور، كما دل عليه كلام الشرح والروضة في الشهادات. انتهى. قال: فالحاصل أن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 نفى أو اثبت ما هو صريح في النقص كفر، وما هو ملزوم للنقص فلا. ثم قال: مشى الغزالى في كتابه ((التفرقة بين الإسلام والزندقة)) والعز بن عبد السلام في فتاويه وغيرهما على عدم كفر القائلين بالجهة، وقال الشيخ ابن قاسم في حاشية التحفة: قوله: ((إن لازم المذهب)) ظاهرة إن كان لازماً بيناً (1) وهو ظاهر لجواز أن لا يعتقد اللازم وإن كان لزوم الجسمية لها لزوم بين. وقوله ((ليس بمذهب)) معناه: إنه لا يحكم به لمجرد لزومه، فإن اعتقدوه فهو مذهب، ويترتب عليه حكمه اللائق به - انتهى ما نقله. وقال الكوراني ملخصاً: نعم، إنه قد رمى بعض الحنابلة بالتجسيم واشتهر عنهم هذا المذهب الوخيم. وردهم أصحاب مذهبهم، وبينوا زيف مطلبهم. ومن الرادين العلامة الشهير عبد الرحمن الجوزى، فقد رأيت له رسالة في تأويل بعض الأحاديث النبوية، والتشنيع على من تعدى الطريقة الحنبلية. ومنها قوله: وانتدب للتصنيف ثلاثة: عبد الله بن حامد، وصاحب القاضي، ابن الزاغونى، فصنفوا كتباً شانوا بها المذاهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته، فاثبتوا صورة ووجها زائداً على الذات وعينين وفماً ولهوات وأضراساً وجبهة وهي السبحات، ويدين واصابع، وكفاً وخنصراً وإبهاماً، وصدراً وفخذاً،   (1) اللازم: ما يمتنع انفكاكه عن الشئ. واللازم الين: هو الذى يكفى تصوره مع تصور ملزومه في جزم العقل باللزوم بينهما كالانقسام بمتساويين بين الأربعة، فإن من تصور الأربعة وتصور الانقسام بمتساويين حزم بمجرد تصورهما بأن الأربعة منقسمة بمتساويين: واللازم الغير البين: ما يحتاج إلى برهان: إن أردت تفصيل ذلك فعليك بتعريفات السيد وكليبات أبي البقاء. انتهى منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وساقين ورجلين. وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس. وقالوا: يجوز أن يمس ويمس، ويدنى العبد من ذاته. وقال بعضهم، ويتنفس وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسموها بالصفات تسمية مبتدعة، لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، لم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث، ولم يقنعوا ان يقولوا صفة حتى قالوا صفات ذات، ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة مثل: يديه على نعمته وقدرته، ولا المجئ ولا الإتيان على معنى بر ولطف، ولا ساق على شدة. بل قالوا: نحملها على ظواهرها، والظاهر المعهود من نعوت الآدميين والشئ إنما يحمل على حقيقته إذا امكن، وهو يتحرجون عن التشبيه، ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السنة. وكلامهم صريح في التشبيه، وقد تبعهم خلق من العوام، فقد نصحت التابع والمتبوع، وقلت لهم: يا أصحابنا، أنتم أصحاب نقل واتباع، وإمامكم الأكبر احمد بن حنبل يقول وهو تحت السياط: كيف أقول ما لم يقل! فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه. ثم قلتم في الأحاديث: تحمل علي ظاهراه، وظاهر القدم الجارحة. فإنه لما قيل في عيسى روح اله اعتقدت النصارى أن الله سبحانه صفة هي روح ولجت في مريم ومن قال: استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات. ينبغي ألا يهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل، فإذا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له بالقدم. فلو أنكم قلتم: نقر الأحاديث ونسكت، ما أنكر عليكم احد، إنما حملكم إياها على الظاهر قبيح، فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس منه. ولقد كسيتم هذا المذهب شيئاً قبيحاً حتى لا يقال: حنبلى (1) إلا مجسم - إلى أن يقال - فرأيت الرد عليهم لازماً لئلا ينسب   (1) كذا في الأصل: ولعل ((ما)) ساقطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الإمام إلى ذلك. وإذا سكت نسيب إلى إعتقاد ذلك، ولا يهولنى أمر عظيم في النفوس، لأن العمل على الدليل وخصوصاً في معرفة الحق لا يجوز فيه التقليد وقد سئل الإمام أحمد عن مسألة فألفتى فيها، فقيل: هذا يقول لا يقول به ابن المبارك؟ فقال: ابن المبارك لم ينزل من السماء. وقال الإمام الشافعي - رضي الله عنه -: استخرت الله تعالى في الرد على الإمام مالك. أنتهى. وقال في آخر الرسالة في الكلام على الحديث المتمم ستين ما نصه: روى عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا رأيتم الريح فلا تسبوها فإنها من نفس الرحمن، تأتى بالرحمة وتأتى بالعذاب، فأسلوا الله تعالى خيرها، واستعيذوا بالله تعالى من شرها)) فالنفس بمعنى التنفيس عن المكروب. ومثله ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمين)) يعني تنفيسه عن المكروب، بنصره أهل المدينة من جانب اليمين. وهذا شئ لا يختلف فيه المسلمون. وقال ابن حامد: رأيت بعض أصحابنا يثبتون لله تعالى وصفاًَ في ذاته بأنه يتنفس. قال: وقالوا: الرياح الهابة مثل الرياح العاصفة والعقيم والجنوب والشمال والصبا والدبور مخلوقة إلا ريحاً من صفاته هي ذات نسيم حياتى، وهي من نفس الرحمن. قلت: على من يعتقد بهذا اللعنة، لأنه يثبت جسداً مخلوقاً، ما هؤلاء بمسلمين! اهـ المراد منه فليتدبر وليحفظ. [الأقوال في آيات الصفات وأحاديثها] فتحصل أن في آيات الصفات والأحاديث المتشابهة أقوالا: ((منها)) كما قال الحافظ ابن حجر في شرح الصحيح في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) : قول مدعى الجهة وهي جهة العلو، المستدل بهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 الحديث ونظائره، وهو قول غير واحد من السلف والصوفية. ((ومنها)) قول من اجرى ذلك على ظاهرة وهم المشبهة، تعالى الله عن قولهم. قال الحافظ: ((ومنها)) قول من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة. والعجب أنهم أولوا ما في القرآن من نحو ذلك، وأنكروا ما في الحديث إما جهلاً وإما عناداً. ((ومنها)) قول من اجراه على ما ورد مؤمناً به على طريق الإجمال، منزهاً لله تعالى عن الكيفية والتشبيه، وهم جمهور السلف ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة، والسفيانين والحمادين، والأوزاعي والليث وغيره. ((ومنها)) قول من أوله على وجه يليق، مستعمل في كلام العرب. ((ومنها)) قول من أفرط في التأويل، حتى كاد يخرج إلى نوع من التحريف. ((ومنها)) قول من فصل بين ما يكون تاويله قريباً مستعملاً في كلام العرب، وبين ما يكون بعيداً مهجوراً. فأول في بعض وفوض في بعض، وهو منقول عن مالك، وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد. قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف، والسكوت عن المراد. إلا أن يرد ذلك عن الصادق - صلى الله عليه وسلم - فيصار إليه - أنتهى - فعض بالنواجذ عليه. وإذا علمت الفكر بما حررناه ووعت أذنك ما سطرناه، أندفع ما شنع به العلامة ابن حجر على الشيخ ابن تيمية مما لم يصح به عنه اثر فمتفطن، ولا يضيق بك العطن، وهو الموفق للصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 [القول في فناء النار] (قوله: وقال إن النار تفنى) وقد شنع عليه أيضاً في كتابه الزواجر بما نصه: لا ينافي ذلك ما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو: ((ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها احد)) وذلك بعد ما يلبثون فيها احقاباً، لأن في سنده من قالوا: إنه غير ثقة، وصاحب أكذاب كثيرة عظيمة. نعم، نقل غير واحد هذه المقالة عن ابن مسعود وأبي هريرة. قال ابن تيميه: وهو قول عمر بن الخطاب، وابن عباس، وحماد بن سلمة، وبه قال على بن طلحة الوالبى، وجماعة من المفسرين. انتهى. ويرد ما نقله الحسن البصري قول غيره، قال العلماء: قال ثابت: سألت الحسن عن هذا فأنكره، والظاهر أن هؤلاء الذين ذكرهم لم يصح عنهم من ذلك شئ، وعلى التنزيل فمعنى كلامهم كما قال العلماء: ليس فيها احد من عصاة المسلمين. وأما مواضع الكفار فهي ممتلئة بهم، لا يخرجون عنها ابداً، كما ذكره تعالى في آيات كثيرة. وفي تفسير الفخر الرازى قال: إن عذاب الله تعالى منقطع وله نهاية واستدلوا بقوله تعالى: {إلا ماشاء ربك) وبـ {لا بثين فيها أحقابا} وبأن معصية الظلم متناهية، فالعقاب عليها بما لا يتناهى ظلم. انتهى مافي الرواجز. وسيتبين لك إن شاء الله تعالى تفصيل هذا المطلب، وينجلى ببسط المذاهب فيه الغيهب، فأقول: [هل الجنة والنار موجودتان؟ وأين؟ وهل هما ابديتان؟] أختلف أقوال المسلمين في وجود الجنة والنار الآن، وفي أبدية النار وعدم فنائها ومحلهما. فأهل السنة ذهبوا إلى أن النار كالجنة مخلوقة الآن. والمعتزلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 إلى عدم وجودها الان، وقالوا: بل ينشئها يوم المعاد لأن خلقها الآن عبث. وتأولوا الجنة في قصة آدم عليه السلام. والآيات القرآنية والأحاديث النبوية كافية في ردهم، دامغة لرءوسهم. واما محلهما - فالصحيح أن الجنة فوق السماء السابعة وسقفها العرش. وان النار في الأرض السابعة. وقيل: الجنة في السماء الرابعة. وقيل: كلاهما فوق السماوات. وقيل: النار تحت سبعة أبحر. وأخرج أبو الشيخ عن كعب في قوله تعالى: {والبحر المسجور} قال البحر يسجر فيصير جهنم. وأما أبديتهما فقد قال العلامة ابن القيم في كتابه ((حادى الأرواح)) أما أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد فمما يعلم بالاضطرار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر به، قال الله تعالى: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} [هود 108] أى غير مقطوع. ولا تنافي بين هذا وبين قوله تعالى: {إلا ما شاء ربك} نعم، أختلف السلف هذا الاستثناء فقال الضحاك: هو في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة. وقالت فرقة: العزيمة وقعت لهم من الله سبحانه بالخلود الدائم، إلا أن يشاء الله تعالى خلاف ذلك إعلاماً لهم مع خلودهم في مشيئة الله سبحانه. وهذا كما قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك} وغيره. ونظير ذلك مما يخبر به سبحانه عباده: أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقالت فرقة: المراد بالسماوات والأرض سماء الجنة وأرضها وهما باقيتان أبداً. وقيل غير ذلك. فقوله تعالى: {غير مجذوذ} وقوله سبحانه {أكلها دائم وظلها} ، {وما هم بمخرجين} والأحاديث العديدة في ذلك نصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 قاطعة في عدم فناء الجنة. ولم يقل بفنائها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أحد من ائمة المسلمين. ومن قال به فهو ضال مبتدع منحرف عن الصواب. وزعمت الجهمية، أن الجنة والنار يفنيان، وهو قول إمامهم جهم بن صفوان - وليس له في ذلك سلف. واما أبدية النار - ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف. والأصح عدم فنائها أيضاً، قال الفاضل السفارينى في كتابه ((البحور الزاخرة في أحوال الآخرة)) ناقلاً عن المحقق ابن القيم في ((حادى الأرواح)) وثمة أقوال سبعة - يعنى ما عدا القول المشهور لدى الجمهور: من دخول بعض عصاة المسلمين وخروجهم بالشفاعة، ورحمة رب العالمين، وتخليد الكفرة الفاجرين. احدها - من يدخل النار لا يخرج منها أبداً، بل كل من دخلها يخلد فيها، وهذا هو قول الخوارج والمعتزلة. الثاني - أن أهلها يعذبون فيها مدة ثم ينقلب عليهم، وتبقى طبيعتهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم. وهذا قول ابن عربي صاحب الفتوحات. وهو مخالف لما علم بالاضطرار من الايات القرآنية والأخبار المحمدية. الثالث - أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود. ثم يخرجون منها ويخلفهم فيها قوم آخرون. وهذا قول حكاه اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فاكذبهم نص اليهود على كذبهم - فهو قول اليهود ومن سلك هذا المسلك، فسلفه فيه اليهود أهل المكر والخداع، وقد علم فساده من الكتاب والسنة وإجماع الأمة. الرابع - قول من يقول: يخرجون منها وتبقى ناراً على حالها ليس فيها أحد يعذب، حكاه شيخ الإسلام عن بعض الفرق - والكتاب والسنة يردانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 الخامس - أنها تفنى بنفسها، لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقائه - وهذا قول جهم وشيعته، ولا فرق عنده، ولا فرق بين الجنة والنار. السادس - انها تفنى حركات أهلها وحياتهم، ويصيرون جماداً لا يتحركون ولا يحسون بألم - وهذا قول أبي الحسين العلاف، إمام المعتزلة. السابع - قول من يقول: بل ينفيها ربها وخالقها تبارك وتعالى فإنه جعل لها أمداً تنتهى إليه ثم نفنى ويزول عذابها. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى: ونقل هذا عن عمر بن حميد وهو من أجل علماء الحديث عن الحسن رحمه الله تعالى قد: قال عمر - رضي الله عنه -: لو لبث أهل النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 واعلم أن الإمام ابن القيم قدس الله تعالى روحه انتصر لهذا القول أنتصاراً عظيماً، ومال إليه ميلاً جسيماً، وذكر له خمسة وعشرين دليلاً، ثم رجع القهقرى وقال: إن قيل إلى أين أنتهى قدمك في هذه المسالة العظيمة؟ قيل: إلى قوله تعالى: {إن ربك فعال لما يريد} وإلى هنا انتهى قدم أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه فيها، حيث ذكر دخول أهل الجنة وأهل النار، وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء، وقال: ثم يفعل الله بعد ذلك ما يشاء، وما كان من خطإ فهو مني ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله بريئان منه. وقال السفاريني في شرح قصيدته: إن لشيخ الإسلام أيضاً ميلاً إلى هذا القول انتهى. وفي الدر المنثور للإمام السيوطي على تفسير هذه الأية في سورة هود ما نصه: أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر - رضي الله عنه - لو لبث في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه. وأخرج إسحق بن راهوية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سيأتى على جهم يوم لا يبقى فيها احد، وقرأ {فأما الذين شقوا} الآية – وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية: {خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها. وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهم اسرع الدارين عمراناً، وأسرعهما خراباً. انتهى – وفي شرح عقيدة الإمام الطحاوى بعد كلام طويل ما نصه: السابع – أنه سبحانه يخرج منها من يشاء كما ورد في السنة، ثم يبقيها ما يشاء ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهى إليه. الثامن - أن الله تعالى يخرج منها ما يشاء كما ورد في السنة ويبقى فيها الكفار بقاء لا لانقضاء كما قال الشيخ يعنى الطحاوى: وما عدا هذين القولين م الأقوال المتقدمة ظاهر البطلان. وهذان القولان لأهل السنة، ولينظر في دليلهما، فمن أدلة القول الأول قوله تعالى: {قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} وقوله تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ماشاء ربك إن ربك فعال لما يريد} ولم يات بعد هذين الاستثنائين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة، وهو قوله: {عطاء غير مجذوذ} وقوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} وهذا القول أعنى بفناء النار دون الجنة - منقول عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد وغيرهم، ورواه عن عمر عبد ابن حميد في تفسيره المشهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 قالوا: والنار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لما قضي الله تعالى الخلق كتب كتاباً فهو عندي فوق العرش: إن رحمتى سبقت غضبي)) رواه البخاري. وقالوا: والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه عذاب يوم عظيم، وأليم، وعقيم. ولا أخبر في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم. وقد قال تعالى: {قال عذابي أصيب به من اشاء ورحمتى وسعت كل شئ} وقال تعالى حكاية عن الملائكة: {ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلماً} فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته. وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، وليس في حكمه أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين، وأن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً. فمن مقتضى الحكمة أن الإحسان مراد لذاته، والانتقام مراد بالعرض، وقالوا: وما ورد من الخلود فيها والتأييد وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، وأنه غرام، كله حق مسلم لا نزاع فيه وذلك يقتضى الخلود في دار العذاب مادامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد. ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه. [أدلة القائلين بعدم فناء النار] ومن أدلة القائلين بعدم فنائها قوله تعالى: {ولهم عذاب مقيم - لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون - فلن نزيدكم إلا عذاباً - خالدين فيها أبداً - وما هم منها بمخرجين - وما هم بخارجين من النار - ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 في سم الخياط - لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها - إن عذابها كان غراماً} أى مقيماً لازماً. وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله. وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وان هذا حكم مختص بهم، فلو أخرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان، وغير ذلك من الأدلة. وكل مدع أجاب عن أدلة صاحبه في هذه المسألة - أنتهى بأقتصار. ونقل الوالد قدس الله تعالى روحه في تفسيره عن الفهامة ابن الجوزى: أنه ضعف بعض الآثار الواردة في ذلك كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص ((يأتى على جهنم يوماً ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها ابواب الموحدين)) . وأول البعض أيضاً بعضها قال: وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون، ولا عبرة بالمخالف، والقواطع أكثر من أن تحصى، ولا يقاوم أحد منها كثير من هذه الأخبار. ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف، لأن قوله تعالى. {لهم فيها زفير وشهيق، خالدين مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} يمكن أن يكون المراد بمن شاء فساق الموحدين، ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها. كما روى عن السدى، بل لا يكاد يصح القول بالنسخ في مثل ذلك. انتهى ملخصاً. وإن أردت تفصيل ما قيل في الآية الكريمة فعليك به وبالكتب المفصلة وقد صنف في ذلك علماء الإسلام مصنفات من آخرهم العلامة الشيخ مرعى الحنبلى جزءاً سماه ((توقيف الفريقين على خلود الدارين)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وأعلم أن ما نسب فيما تقدم للشيخ محيى الدين بن عربي قد أنكر صحته عنه الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه ((الأجوبة المرضية)) بما نصه: ومن ذلك دعوى المنكر أن الشيخ يقول بعدم خلود الكافرين في النار، وأما عذابهم فينقضى، ويخلق الله تعالى لهم مزاجاً يتلذذ بالنار حتى أنهم لو خرجوا منها إلى الجنة لتألموا بذلك - إلى آخر ما نقلوه عن الشيخ وحاشا الشيخ عنه، والذى هو أعظم المناء على الشريعة، أن يتلفظ بمثل ذلك، ويجعل المجرمين كالمسلمين، وإن وجد ذلك في بعض كتبه فهو مدسوس عليه بيقين وقد حكى هو الإجماع على خلودهم، وقال في عقيدته، أول الفتوحات: ونعتقد أن تأبيد العذاب على الكفار والمشركين والمنافقين حق وقال في الباب الرابع والستين منها: واعلم أن ابليس ومن تبعه من الكفار لا يخرجون من النار، لحديث: ((ينادى المنادى يوم القيامة يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)) . وذكر الشيخ عبد الكريم الجيلى في كتابه المسمى ((بالإنسان الكامل)) ((وشرح لباب الأسرار من الفتوحات)) ان مراد باهل النار يخرجون منها هم عصاة الموحدين لا الكفار. وقال: إياك أن تحمل كلام الشيخ محيى الدين أو غيره من الصوفية في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من العصاة على الكفار، فإن ذلك كذب وخطأ، وإذا احتمل الكلام وجهاً صحيحاً وجب المصير إليه. أهـ. وقال الشعراني: ثم إنه بتقدير صحة نسب ذلك إلى الشيخ محيى الدين. فالشيخ لم ينفرد بذلك، فقد قال جمع من الظاهرية، وفرقة من الحنابلة والفدرية بفناء انار، وأن الجرجير ينبت فيها، وأن اللبث في قوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} يرجع إلى نهاية في العدد على اختلاف وجوه الحقب في التفسير. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وقال الشيخ محيى الدين في كتاب ((لواقح الأنوار)) : إياك أن تفهم من سياق العلماء الخلاف فيمن يخرج من النار أنه في حق من كذب الرسل من الكفار، فإن ذلك خطأ، وإنما هو في حق امة الإجابة إذا ماتوا من غير توبة وآخذهم الله تعالى، أو أنه حكاية عن مذهب من يقول بتخليد العصاة من الموحدين إذا ماتوا على غير توبة. أهـ. قلت: ورأيت في الفتوحات في الباب الثاني والستين ما نصه: وأما قوله تعالى: {زدناهم عذاباً فوق العذاب} فذلك لطائفة مخصوصة، وهم الأئمة الذين أضلوا العامة، وأدخلوا عليهم الشبه المضلة، وقالوا لهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، وهو قوله تعالى: {ثم ازدادوا كفراً} وهو قوله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع اثقالهم} فإن له وزراً من كل عمل بالضلالة، فهذا قوله: زدناهم عذاباً فوق العذاب} فما أنزلوا من النار إلا منازل الاستحقاق، بخلاف أهل الجنة، فإن أهل الجنة نزلوا منها منازل استحقاق مثل الكفار، ومنازل ورائه ومنازل اختصاص. فلا بد لأهل النار من فضل الله تعالى ورحمته في نفس النار، فلا يموتون ولا يحيون فيعطيهم الله تعالى بعد انقضاء موازنة المدد بين العذاب والعمل نعيماً خيالياً مثل ما يراه النائم، وجلده، كما قال تعالى: {كلما نضجت جلودهم} هو كما قلنا خدرها، فزمان النضج والتبديل يفقدون الآلام، لأنه إذا انقضى زمان الإنضاج خمدت النار في حقهم، فيكونون في النار كالأمة التى دخلتها وليست من أهلها، فأماتهم الله تعالى إماتة فلا يحسون بما تفعله النار في أبدانهم ... والحديث بكماله ذكره مسلم في صحيحه. وهذا من فضل الله تعالى ورحمته. أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 [صاحب الكبيرة] تتمة أهل الجنة: هم المؤمنون بالله تعالى ورسله. وأهل النار هم الكفرة بالله تعالى ورسله. وعصاة المؤمنين: المرتكبون الكبائر غير مخلدين في النار عند أهل السنة والجماعة، خلافاً للمعتزلة كما هو مفصل في الكتب الكلامية. ومن العجائب ما في الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلى ونصه: ثم اعلم أن أهل النار أناساً هم عند الله تعالى افضل من كثير من اهل الجنة، وأدخلهم دار الشقاء ليتجلى عليهم فيها فيكونون محل نظرة من الأشقياء. وهذا سر غريب وأمر عجيب، يفعل ما يشاء ويختار. أهـ. وكتب عليه الوالد عليه الرحمة ما نصه: وأنت تعلم أن الله تعالى قال: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} أفترى من أخزاه الله تعالى يفضل من أجله دار رحمته ورضاه. سبحانك! هذا بهتان عظيم. فإن كان لصاحب الإنسان الكامل جواب عن ذلك يزعمه فنسأل الله تعالى أن يجعله من أولئك الإناس يوم الجزاء، ليكون محل نظرة عز وجل من الأشقياء. أهـ. ثم أعلم أنه قد تبين لك مما نقلناه من الأقوال: أن القول الصحيح، الحرى بالترجيح، هو بقاء الجنة والنار وساكنيهما من الأخيار والفجار، وإن الشيخ ابن تيمية لم يتبين عنه نقل صحيح فيما نسب إليه، ولئن سلم أنه مال لذلك فقد ذهب إليه بعض السلف، وأفراد من الخلف، كما تقدم آنفاً، فليس في ميله ما يوجب تكفيراً عند من أنصف. على أنا لا نعلم إن صح النقل عدم رجوعه عنه، وهو لا يعد عند المنصفين إلا من العلماء المجتهدين، وأى مجتهد قرنت بالصواب جميع أقواله، وصوبت كافة أحواله، وكم رجع مجتهد عن اجتهاده الأول، ونص على خلافه وعول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 ومع هذا فلعله اتبع في ذلك أقوال الفاروق، وباب مدينة العلم، وترجمان القرآن، وابن مسعود، وأبي هريرة القائل: أخذت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين ... الحديث الشهير. فتدبر جميع ما حررناه لك من كلام العلماء الأخيار، وأسأله سبحانه أن ينجينا وإياك من النار، ويسكننا الجنة دار القرار. آمين. [عصمة الأنبياء] (قوله: وقال الأنبياء غير معصومين) أقول: قد أجمل العلامة، ابن حجر هذا التشنيع، لم يبين المراد من ذلك، هل عدم العصمة قبل النبوة أم بعدها؟ وهل ذلك من الكبائر أو التغائر؟ ومع هذا فانت تعلم أن مسألة العصمة أختلفت فيها علماء الأمة، وأن الشيخ ابن تيمية ذكر في كتبه ما ذكره غيره مما يتعلق في مسألة العصمة، فقد نقل الشيخ السفاريني في شرح منظومته، انه قال: الناس متقفون على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى، فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين، ولكن هل بصدر منهم ما يستدركه الله تعالى فينسخ ما يلقى الشيطان ويحكم الله ىياته؟ هذا فيه قولان. قال. والمأثور عن السلف يوافق القول بذلك. قال: وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع: هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر، أو من بعضها، أو هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها. وقيل: لا يجب القول في العصمة إلا بالتبليغ فقط. وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل البعث أم لا؟ قال: والذى عليه الجمهور الموافق للاثارة: إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقاً. قال: ووقوع الذنب إذا لم يقر عليه ما يحصل منه تنفير ولا نقص؟ فإن التوبة النصوح يرفع بها صاحبها أكثر مما كان أو لا. وكذلك التأسي بهم إنما هو فيما أقروا عليه بدليل النسخ ونحوه. أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وقال السعد التفتاراني في شرح النسفية: إن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكذب، خصوصاً فيما يتعلق بأمر الشرائع وتبليع الأحكام / وإرشاد الأمة، أما عمداً فبالإجماع، وأما سهوا فعند الأكثرين. وفي عصمتهم عن سائر الذنوب تفصيل، وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور خلافاً للحشوية، وإنما الخلاف في أمتناعه بدليل السمع أو العقل، وأما سهواً فجوزه الأكثرون واما الصغائر فتجوز عمداً عند الجمهور خلافاً للجبائي واتباعه، وتجوز سهواً بالاتفاق، إلا بدليل على الخسة كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة، لكن المحققين اشترطوا أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه. هذا كله بعد الوحي، وأما قبله فلا دليل على أن امتناع صدور الكبيرة. وذهبت المعتزلة إلى امتناعها، لأنها تودب النفرة المانعة عن اتباعهم فتفوت مصلحة البعثة. والحق منع ما يوجب النفرة كعهر الأمهات والفجور، والصغائر الدالة على الخسة. ومنع الشيعة صدور الصغيرة والكبيرة قبل الوحي وبعده، لكنهم جوزوا إظهار الكفر تقيه. إذا تقرر هذا. فما نقل عن الأنبياء مما يشعر بكذب أو معصية، فما كان منقولاً بطريق الآحاد فمردود، وما كان بطريق التواتر فمصروف عن الظاهر إن أمكن. وإلا فمحمول على ترك الأولى أو كونه قبل البعثة. وتفصيل ذلك في الكتب المبسوطة. أهـ. وقال الوالد تغمده الله تعالى برحمته، وأسكنه فسيح جناته، في تفسير قوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى} ما نصه: وعصى آدم ربه، بما ذكر من أكل الشجرة، وأوعن الرشد حيث اغتر بقول العدو. وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 غوى أى فسد عليه عيشه، ومنه يقال: الغوى الرضاع. وقرئ ((فغوى)) بفتح الغين وكسر الواو وفتح الياء: أى فبشم من كثرة الأكل، من غوى الفصيل: إذا أنحم من اللبن، وبه فسرت القراءة الأخرى. وتعقب ذلك الزمخشرى فقال: وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفاً فيقول في فنى وبقى: فنى وبقى بالألف، ,هم بنو طيئ تفسير خبيث. وظاهر الآية يدل على أن ما وقع من الكبائر 0 وهو المفهوم من كلام الإمام - فإن كان صدور بعد البعثة تعمداً من غير نسيان ولا تأويل أشكل على ما اتفق عليه المحققون، والأئمة المتفقون، من وجوب عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد البعثة عن صدور مثل ذلك منهم على ذلك الوجه. ولا يكاد يقول بذلك إلا الأزارقة من الخوارج، فإنهم - عليهم ما يستحقون - جوزوا الكفر عليهم، وحاشاهم! فما دونه أولى بالتجويز، وإن كان صدوره قبل البعثة كما قال به جمع. وقال الإمام: إنه مذهبنا، فإن كان تعمداً أشكل على قول أكثر المعتزلة والشيعة بعصمتهم عليهم السلام عن صدور مثل ذلك تعمداً قبل البعثة أيضاً. نعم، لا إشكال فيه على ما قاله القاضي أبو بكر من أنه لا يمتنع عقلاً ولا سمعاً أن يصدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل نبوته معصية مطلقاً، بل لا يمتنع عقلاً إرسال من اسلم بعد كفره، ووافقه على ذلك - كما قال الآمدى في أبكار الأفكار - أكثر الأصحاب وكثير من المعتزلة. وإن كان سهواً كما يدل عليه قوله تعالى، {فنسى ولم نجد له عزماً} بناء على احد القولين فيه أشكل على ما نقل عن الشيعة من منع صدور الكبيرة سهواً قبل البعثة أيضاً، ولا إشكال فيه على ما سمعت عن القاضي أبي بكر، وإن كان بعد البعثة سهواً أشكل أيضاً عند بعض دون بعض، فقد عضد الملة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 المواقف: إن الأكثرين جوزوا صدور الكبيرة يعنى ما عدا الكفر والكذب فيما دلت المعجزة على صدقهم عليه السلام فيه سهوا على سبيل الخطأ منهم. وقال العلامة الشريف المختار خلافه. وذهب كثير إلى أن ما وقع صغيرة والآمر عليه هين، فإن الصغائر الغير المشعرة بالخسة تجوز - على ما ذكره العلامة الثاني في شرح العقائد - صدورها منهم عليه السلام عمداً بعد البعثة عند الجمهور، خلافاً للجبائي وأتباعه. ويجوز صدورها سهواً بالاتفاق. لكن المحققين اشترطوا على أن ينتهوا على ذلك فينتهوا عنه. نعم، ذكر في شرح المقاصد عصمتهم عن صدور ذلك عمداً. والأحوط نظراً إلى مقام آدم عليه السلام أن يقال: إن صدور ما ذكر منه كان قبل النبوة، وكان سهواً أو عن تاويل، إلا أنه عظم المر عليه وعظم لديه، نظراً إلى علو شانه، ومزيد فضل الله تعالى عليه وإحسانه. وقد شاع: ((حسنات الأبرار سيئات المقربين)) . ومما يدل على استعظام ذلك منه لعلو شأنه عليه السلام ما اخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابي عبد الله المغربي قال: تفكر إبراهيم في شأن آدم عليها السلام فقال: يارب، خلقته بيدك، ونفخت فيه من روحك، وأسجدت له ملائكتك، ثم بذنب واحد ملأت أفواه الناس من ذكر معصيته)) ؟ فأوحى الله تعالى إليه ((يا إبراهيم، أما علمت أن مخالفة الحبيب على الحبيب شديدة)) ؟ . وذكر بعضهم أن في استعظام ذلك منه عليه السلام زجراً بليغاً لأولاده عن أمثاله. وعلى العلات لا ينبغي لأحد أن ينسب إليه العصيان اليوم، وأن يخبر بذلك، إلا أن يكون تألياً لما تضمن ذلك، أو راوياً له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واما أن يكون مبتدئاً من قبل نفسه فلا. وقد صرح أبو بكر بن العربي بعدم جواز نسبة العصيان للآباء الأدنين إلينا المماثلين لنا، فكيف يجوز لأبينا الأقدم، والنبي المقدم الأكرم؟ وارتضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 ذلك القرطبي، وادعى أن ابتداء الإخبار بشئ من صفات الله تعالى المتشابهة كاليد والنزول أولى بالمنع وعدم الجواز. ثم إن ما وقع كان في الحقيقة بمحض قضاء الله تعالى وقدره، وإلا فقد روى عن أبي أمامه الباهلى والحسن: أن عقله عليه السلام مثل عقل جميع ولده. وعداوة إبليس عليه اللعنة له عليه السلام في غاية الظهور. وفي ذلك دليل على أنه لا ينتفع عقل، ولا يغني شئ في جنب تقدير الله تعالى وقضائه - أهـ. وأنت تعلم ما ورد في القرآن الكريم بما يخالف كقصة إبراهيم عليه السلام وغيرها، وقد أوله العلماء المفسرون، والأئمة المدققون، فإن أردت الإحاطة فعليك بكتب التفسير والعقائد، ففيهما، يرتوى كل ظمآن وارد. (واقول) : قد رمى حجة الإسلام الغزالي أيضاً بأكبر مارمى به الشيخ ابن تيمية في هذه المسالة الأصولية، حتى نسب إليه بعضهم تنقيص النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، ونسبوا ذلك الإمام إلى الكفر، وحاشاه في هذا المقام! فقد رأيت في فتوى الشيخ ابن تيمية أنه سئل عن رجلين تكلما في مسالة التكفير فقال أحدهما: إن من نقص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتكلم بما يدل على النقص كفر، ولو كفرنا كل عالم بمثل ذلك لزم أن نكفر الإمام الغزالي، فإنه ذكر في بعض كتبه تخطئه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مسألة تأبير النخل، فهل يلزم من ذلك تنقيصه - أرواحنا له الفداء. لم يلزم تعزيز من كفر العلماء؟ فأجاب بما ملخصه: إن كلام الغزالي المذكور ليس فيه تنقيص والعياذ بالله تعالى، لمقام سيد المرسلين، والنبي الأمين. ولا يجوز تكفير عالم من علماء المسلمين إذا اجتهد في مسألة واخطأ فيها، فإن تسليط الجهال على تكفير علماء الإسلام أعظم المنكرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وقد اتفق أهل السنة أن كل يؤخذ منه ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس كل من ترك كلامه لخطيئة يكفر أو يفسق، بل ولا يؤثم، وقال الله تعالى في دعاء المؤمنين: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا او أخطأنا} الآية. واتفق علماء المسلمين على انه لا يكفر أحد من علماء المسلمين المنازعين في عصمة الأنبياء عليهم السلام. فالذين قالوا: إنه يجوز عليهم الصغائر والخطأ، ,لا يقرون على ذلك لم يكفر أحد منهم بذلك، بإتفاق المسلمين فغن هؤلاء يقولون: إنهم معصومون من الإقرار على ذلك، ولو كفر هؤلاء لزم تكفير كثير من ائمة المذاهب الأربعة والأشعرية واهل الحديث والتفسير والصوفية، وهم ليسوا كفاراً باتفاق المسلمين، والذى حكاه عن الشيخ أبي حامد الغزالي قد قاله أيضاً الشيخ أبو حامد الأسفرايني، الذى هو غمام المذهب بعد الشافعي وابن سريج، وذلك قوله: إن عندنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز عليه الخطا، كما يجوز علينا، لكن الفرق بيننا وبينه أن تقر عليه والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر عليه، وإنما يسهوا ليسن لنا، كما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنما أسهو لأسن لكم)) وهذه المسالة قد ذكرها في أصول الفقه جماعة من العلماء، منهم هذا الشيخ أبو حامد، وأبو الطبيب الطبرى، والشيخ أبو إسحاق الشيرازى، وغيرهم. ومنهم من ادعى إجماع السلف على هذا القول، حق قال أبو الحسن الآمدى: إن أكثر الأشعرية والمعتزلة ليقولون بذلك، والمسالة عندهم من الظنيات، كما صرح بذلك الأستاذ أبو المعالى، فكيف يكفر علماء المسلمين مسائل الظنون، وذهابهم إلى عدم العصمة من الصغائر، وإلى الخطأ الذى لا يقرون عليه عليهم الصلاة والسلام، فمن نسب إلى هؤلاء الأئمة الكفر فعليه الإثم وشديد التعزير. أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 فقد تبين مما تقدم وتأخر: أن الشيخ ابن تيمية لم يقل إلا ما حرره كل أصولى وزبر، وما ابتدع قولاً من تلقاء نفسه، ولا ذكر في بحث العصمة شيئاً متبعاً فيه لوهمه، وحدسه، بل ذكر ما ذكرته الأفاضل، وفصل كما فصلت الأئمة الأوائل. وإن اردت الزيادة فعليك بكتب المتقدمين، وإلا فخذ هذا وكن من المنصفين، واتبع في التؤدة سبيل المؤمنين، وصل وسلم على كافة المعصومين لا سيما على من علمه وادبه رب العالمين، وآله وصحبه أجمعين. [كلام في التوسل والوسيلة والاستغاثة] (قال الشيخ ابن حجر حاكياً وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا جاه له ولا يتوسل به) . أقول: لازال ابن حجر عليه الرحمة يتتبع الشيخ ابن تيمية، ويشفع عليه في تأليفاته، ولا سيما في هذه المسالة. ففي كتابه ((الدر المنظم في زيارة القبر المعظم)) شنع بقوله أيضاً: من خرافات بعض المحرومين التى لم يقلها أحد قبله، ,صار بها بين المسلمين مثله، أنه أنكر الاستغاثة والتوسل به - صلى الله عليه وسلم -، وليس كما أفترى - أهـ. وقد اتبع بهذا السبكى، فقد نقل عنه المناوى في شرحه الكبير للجامع الصغير أنه قال: ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفيع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه. ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف، حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم، وابتدع ما لم يقله عالم قبله، وصار بين الإسلام مثله - أهـ. وانت تعلم أن هذا التشنيع مجمل، ويحتاج إلى بيان وتفصيل، وسرد ما للعلماء في ذلك من الأقاويل، ونقل أدلة المتوسلين، واجوبة المانعين، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 مجيزى التوسل لم يجعلوه خاصاً بسيد الرسل، وأن المانعين أقسام: فمنهم من عمم المنع، ومنهم من أستثنى خاتمة الأنبياء الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام. وإنى ذاكر إن شاء الله تعالى ذلك بفضول، وخاتمة بالتوسط المقبول. فاستمع ما نتلوه عليك، واتباع أسلمها مفوض إليك. [أدلة المجوزين للتوسل والإستغاثة] الفصل الأول في أدلة المجوزين للتوسل والإستغاثة بالأنبياء والصالحين، ولا سيما ذو الجاه العظيم، الرسول الشفيع الكريم، والنبي الرءوف الرحيم، عليه افضل الصلاة والتسليم. قال العلامة القسطلاني شارح البخارى في كتابه ((المواهب اللدنية)) ما نصه: وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرع، والاستغاثة والتشفع، والتوسل به - صلى الله عليه وسلم -. فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه. واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو التشفع، أو التوجه، لأنها من الجاه والوجاهة، ومعناه: علو القدر والمنزلة. وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه. ثم إن كلا من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ذكره في تحقيق النصرة ومصباح الظلام - واقع في كل حال قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا وبعد موته - صلى الله عليه وسلم -، في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة. فأما الحالة الأولى فحسبك ما قدمته في المقصد الأول من استشفاع آدم عليه السلام به لما خرج من الجنة، وقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 ((اللهم بحق محمد عليك اغفر لي خطيئتى)) ، وقول الله تعالى: ((يا آدم لو أستشفعت إلينا بمحمد في اهل السماوات والأرض لشفعناك)) . وفي حديث عمر ابن الخطاب عند الحاكم والبيهقى وغيرهما: ((وإذا سألتنى فقد غفرت لك)) ويرحم الله تعالى ابن جابر حيث يقول: [طويل] : به قد أجاب الله آدم إذ دعا ونجى في بطن السفينة نوح وما ضرت النار الخليل لنوره ومن أجله نال الفداء ذبيح وأما التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد خلقه في مدة حياته، فمن ذلك: الاستغاثة به عليه الصلاة والسلام عند القحط وعدم الأمطار. وكذلك الاستغاثة به من الجوع ونحو ذلك مما ذكرته في مقصد المعجزات، ومقصد العبادات في الاستسقاء. ومن ذلك استغاثة ذوى العاهات به - صلى الله عليه وسلم -. وحسبك ما رواه النسائي، والترمذي عن عثمان بن حنيف: أن رجلاً ضريراً أتاه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ادع الله تعالى أن يعافيني. قال: فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: ((اللهم إنى أسألك واتوجه إليك بحبيبك محمد نبي الرحمة، يا محمد أنى أتوجه بك إلى ربك في حاجتى لتقضى. اللهم شفعه في)) وصححه البيهقي وزاد: فقام وقد ابصر. وأما التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد موته في البرزخ فهو أكثر من ان يحصى، او يدرك باستقصا. وفي مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام للشيخ أبي عبد الله بن النعمان طرف من ذلك ولقد كان حصل لى داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين فاستغيث به - صلى الله عليه وسلم - ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وتسعين وثمانمائة بمكة، زادها الله تعالى شرفاً، فبينما أن نائم إذا رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف النبوى. ثم أستيقظت فلم أجد بي والله شيئاً مما كنت أجده، وحصل الشفاء ببركة النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وأما التوسل به - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة فمما قام عليه الإجماع، تواترت به الأخبار في حديث الشفاعة. أهـ. وقال السمهودى في تاريخ المدينة المسمى ((بخلاصة الوفا)) : التوسل والتشفيع به - صلى الله عليه وسلم - وبجاهه وببركته من سنن المرسلين، وسيرة السلف الصالحين، واستدل على ذلك أيضاً بما تقدم من حديث آدم عليه السلام والأعمى. وكذا مما رواه البيهقي والطبراني عن عثمان بن عفان بن حنيف - رضي الله عنه -: أن رجلاً لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فشكا ذلك لابن حنيف فقال له: أئت الميضاة قتوضأ ثم أئت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: اللهم انى اسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة. يا محمد، إنى أتوجه بك إلى ربك في حاجتى لتقضى، وتذكر حاجتك. فانطلق الرجل فصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاءه البواب حتى اخذ بيده فادخله على عثمان - رضي الله عنه - فأجلسه معه على الطنفسة، فقال له: ما حاجتك؟ فذكر حاجته وقضاها ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى الساعة، وما كانت لك من حاجة فأذكرها. ثم خرج ذلك الرجل من عنده فلقى عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله تعالى خيراً، ما كان ينظر في حاجتى حتى كلمته. فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته! ولكنى شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أو تصبر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد، وقد يشق علي. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ائت الميضأة فتوضأ، ثم صلى ركعتين، ثم أدع بهذه الدعوات ... )) . أهـ وبه استدل أيضاً ابن الجزرى، فذكر في ((الحصن الحصين)) : أن م آداب الدعاء أن يتوسل الداعي إلى الله تعالى بانبيائه والصالحين من عباده. وقال ابن الحاج المالكي في كتابه ((المدخل)) ما لفظه: وأما عظيم جناب الأنبياء، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم فياتى إليهم الزائر، ويتعين قصدهم من الأماكن البعيدة. فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل، والانكسار، والمسكنة، الفقر والفاقة، والاضطرار، والخضوع، ويحضر قلبه وخاطره إليهم، وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره، لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون، ويثني على الله بما هو أهله، ثم يصلى عليهم، ويترضى عن أصحابهم، ويترحم على التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه، ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم، ويحزم بالإجابة ببركتهم، ويقوى حسن ظنه في ذلك، وانهم باب الله تعالى المفتوح، وجرت سنة الله سبحانه على قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم. ومن عجز الوصول إليهم فليرسل بالسلام عليهم ويذكر ما يحتاج إليه من حوائجه ومغفرة ذنوبه، وستر عيوبه، إلى غير ذلك. فإنهم السادة الكرام لا يردون من سألهم ولا من توسل بهم، ولا من لجأ غليهم، وهذه في زيارة الأنبياء عليهم السلام. وأما زيارة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيزيد على ما ذكرنا اضعافاً مضاعفة. أهـ. وقال صاحب المبدع: يستحب الاستسقاء بمن ظهر صلاحه، لأنه اقرب إلى الإجابة، وقد استسقى عمر بالعباس - رضي الله عنه -، واستسقى معاوية بيزيد بن أبي الأسود الحرشي التابعي المشهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 وقال صاحب التلخيص من الحنابلة: لا ياس بالتوسل في الاستسقاء بالشيوخ، والعلماء المتقين. وقال في منتهى الإرادات للحنابلة: ويباح التوسل بالصالحين. وكذلك قال ابن مفلح الحنبلي في فروعه. وذكر السمهودى: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينزل في قبر أحد إلا خمسة قبور: قبر خديجة بمكة، واربعة بالمدينة: قبر ابن كان لخديجة في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبر عبد الله المزني، يقال له: ذو البجادين. وقبر ام رومان أم عائشة بنت ابي بكر - رضي الله عنه -. وقبر فاطمة بنت أسد بن هاشم بالروحاء. ففي المعجم للطبراني برجال الصحيح إلا روح بن صلاح ففيه مقال، وقد وثقه ابن حبان عن أنس قال: لما ماتت فاطمة بنت اسد دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس عند رأسها وقال ((رحمك الله يا أمى بعد أمي ... )) وذكر ثناءه عليها وتكفينها ببرده، وأمر بحفر قبرها. وقال: فلما بلغو اللحد حفره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فلما فرغ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاضطجع فيه ثم قال: ((الله الذى يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمى فاطمة بنت اسد، ووسع عليها مدخلها بحق الأنبياء الذين من قبلى، فإنك أرحم الراحمين)) . ثم قال السمهودى: وذكر المحبوب قد يكون سبباً للإجابة. وفي العادة أن من يتوسل بمن له قدر أجابة عند شخص أجابة إكراماً له. وقد يتوجه بمن له جاه إلى من هو أعلى منه، وإذا جاز التوسل بالأعمال الصالحة كما في حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر فدخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة، فدعو الله بأعمالهم ففرج عنهم، وهي مخلوقة، فالسؤال به - صلى الله عليه وسلم - أولى. وقد روى البيهقي عن مالك الدار - رضي الله عنه -، وكان خازن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -، فجاء رجل إلى قبر النبي - صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 وسلم - فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك، فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال له: ((أئت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنهم مسقون، وقل له: عليك الكيس الكيس)) وذكر شيئاً كثيراً مما وقع للعلماء والصالحين من الشدائد، فالتجئوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحصل لهم الفرج. ومما حكاه أبو محمد الشيلى قال: نزل برجل من اهل غرناطة علة عجز عنها الأطباء، فكتب عنه الوزير كتاباً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضمنه شعراً، فلما وصل الركب إلى المدينة الشريفة، وقرئ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الشعر برئ الرجل مكانه. وقد سئل العز بن عبد السلام عن التوسل بالذات الفاضلة؟ فقال: إن صح حديث الأعمى فهو مقصور على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون من خصوصياته. وتعقبه المجزون بقياس غيره عليه - صلى الله عليه وسلم -. ومن أدلتهم أنه قد أوجب الله تعالى أمره وتوقيره، وإلزام إكرامه، وقد كانت الصحابة تتبرك بآثاره وشعره، ولا شك أن حرمته - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته وتوقيره لازم كما كان حال حياته. وقد روى أن أبا جعفر المنصور ناظر مالكاً في المسجد النبوى، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد النبوى، فإن الله تعالى ادب قوماً فقال: {لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي} الآية. وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً فاستكان ابو جعفر وقال: يا أبا عبد الله، استقبل القبلة وأدعوا؟ أم أستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبل واستشفع به فيشفعه الله تعالى. قال الله سبحانه {ولو أنهم إذ ظلموا انفسهم جاءوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 فاستغفر الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} [النساء 6] وإذ قد ثبت تعظيمه وإجلاله له ميتاً - صلى الله عليه وسلم - كما كان حياً، وثبت أنه حي في قبره فطلب الشفاعة منه دخول في توقيره - صلى الله عليه وسلم -، ويكون طالب الشفاعة كمن طلب شيئاً ممن له قدرة عليه، وهو عليه الصلاة والسلام قادر على ذلك بوجه التسيب في الدعاء كما كان حياً، وكما كان وسيلة في التبليغ. فهو - صلى الله عليه وسلم - الوسيلة في دعائه لأمته، ويكون طلب ذلك منه ادعى للإجابة. وفي الصحيح عن أنس - رضي الله عنه -: أن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا أقحطوا استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا - صلى الله عليه وسلم - فاسقنا. قال: فيسقون. وفي رواية: ونستشفع إليك بشيبته،)) في ذلك يقول عباس بن عتبه بن ابي لهب: بعمي سقى الله الحجاز وأهله عشية يستسقى بشيبته عمر توه بالعباس في الحدب راغبا إليه فما إن زال حتى اتى المطر ومنا رسول الله فينا تراثه فهل أحد هذى المفاخر مفتخر وقال النووي وغيره: ثم يرجع الزائر إلى موقفه قبالة وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتوسل به ويستشفع به إلى ربه. ومن احسن ما يقول ما حكاه اصحابنا عن العتبى مستحسن له قال: كنت جالساً عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله تعالى يقول: {ولو أنهم ّذ ظلموا انفسهم جاءوك} الآية [النساء 64] ، وقد جئتك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول: [بسيط] يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسى الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 قال: ثم أنصرف. فحملتنى عيناي، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقال: ((يا عتبى، الحق الأعرابي فبشره بأن الله قد غفر له)) ، وممن ذكرها الإمام ابن الجوزى في كتابه ((مثير الغرام)) عن العتبى. قالوا: ونقل الواحدى في كتابه ((أسباب نزول القرآن)) عن ابن عباس، - رضي الله عنه - عند قوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} أنه قال: كانت أهل خيبر تقاتل غطفان اليهود، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كفروا به. قالوا: وما ورد في الأدعية المأثورة عن سيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - مثل: أسألك بحق السائلين عليك، ويحق ممشاى هذا إليك، يدل على جواز التوسل بأفعال العبد، فكيف بذاته الشريفة عليه الصلاة والسلام فالتوجه به اولى، والتوجه إلى حضرة الحق به أحرى. وقد روى البخارى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ألا أخبركم باهل الجنة؟ كل ضعيف مستضعف، لو أقسم على الله تعالى لأبره)) . قال العلماء: معناه لو حلف على الله ليفعلن كذا لأوقع مطلوبه فيبر بقسمه إكراماً له لعظم منزلته عنده، فهذا وعد الله تعالى لعباده الصالحين، فكيف بسيد المرسلين؟ ! وورد: إذا انفلتت دابة احدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله، وأعينوني (ثلاثا) . قال النووى: وقد حرب ذلك بعض أهل العلم، ونحن جربناه فصح، انتهى. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن عباده، - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الأبدال في أمتى ثلاثون رجلاً، بهم تقوم الأرض، وبهم تمطرون، وبهم تنصرون)) والأحاديث في مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 ذلك كثيرة، فمن وقف على هذه وامثالنا، تبين له ان الله سبحانه قد جعل من عباده في الأرض غياثاً يستغيث الناس بهم، لا مانع من ذلك عقلاً وشرعاً، لأن ذلك كله بإذن الله تعالى، ومن أقر بالكرامة لم يجد بداً من اعترافه بجواز ذلك وإن كانوا في برازخهم. فقد ورد في حديث المعراج: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على موسى وهو قائم يصلى في قبره، والصلاة تستدعى بدناً حياً، فنبينا - صلى الله عليه وسلم - أولى بهذه الحياة، والاستغاثة به في حياته - صلى الله عليه وسلم - ثابتة بالدعاء، فكذلك بعد انتقاله ورفاقه، والأحاديث الواردة في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام التى تضمنت الوعد لمن زار قبره الشريف - صلى الله عليه وسلم - بالشفاعة التى تتضمن البشارة بالموت على التوحيد، وذلك يفيد نيل المزيد. فكل ذلك من ثمرات زيارته والتشفيع به، ولم يزل الناس في جميع الأزمان من جميع البلدان مجمعين على زيارة قبره المنيف، رجاء الخير والبركة، والطمع في الشفاعة، ولا فرق بين ذكر التوسل والاستغاثة والتشفع، والتوجه به - صلى الله عليه وسلم - أو بغيره من الأنبياء، وكذا الأولياء. والاستغاثة: طلب الغوث. والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره، وغن كان أعلى منه. فالتوجه والاستغاثة به - صلى الله عليه وسلم -، وبغيره ليس لها معنى في قلوب المسلمين غير ذلك. ولم يقصد بها احد سواه. فمن لم ينشرح صدره لذلك، فليبك على نفسه. والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى. والنبي - صلى الله عليه وسلم - واسطه بينه وبين المستغيث، فهو سبحانه مستغاث، والغوث منه خلقاً وإيجاداً، والنبي - صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وسلم - مستغاث، والغوث منه تسباً وكسباً، ومستغاث به، والباء للاستغاثة. وصح عن ابن عباس أنه قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، يا عيسى، آمن بمحمد، ومر من ادركه من امتك أن يؤمنوا به، فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله، فسكن، فكيف لا يتوسل بمن له هذا الجاه الوسيع، والقدر المنيع، عند سيده ومولاه، المنعم عليه بما أولاه، صلى الله تعالى وسلم، وكرم وعظم. وهذا آخر أدلة المجوزين مختصرة من كتب المحققين ولا سيما العقد الثمين، وهو سبحانه الموفق لذلك المعين. [أدلة المانعين للتوصل] الفصل الثاني واما المانعون فقد اطالوا الكلام في هذا المقام، واللازم تبيين ملخص دعواهم، وتنقيح الأجوبة عن دلائل من جاراهم: (فأقول) : قد قال العلامة السويدى في ((العقد الثمين)) : أن الحاصل من متفرقات أقوالهم - أنه يجب إفراد الله تعالى، بعبادته، توحيده في معاملته، لأن الله سبحانه أرسل نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - داعياً إلى عبادة الله ناهياً عن عبادة غيره، وأنزل عليه كتاباً بين فيه أحوال المشركين، وما كانوا عليه من الشرك، وكان شركهم أن نصبوا أصناماً اعتقدوها مقربة لهم عند الله سبحانه، إما لكونها على صور ملائكة، وإما لكونهم اعتقدوا أن الله تعالى قد شرفها بذواتها، كما شرف الكعبة. وإما لكونها صور أنبياء، كما هو معلوم عند السابرين لأحوال المشركين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 فإن منهم من عبد المسيح. ومنهم من عبد عزيراً، ومنهم من عبد أناساً صالحين، كما قالوا في اللات وهو صنم في الطائف لثقيف، أو لقريش بنخلة في قراءة من شدد التاء: إنه كان رجلاً صالحاً يلت السويق بالسمن، فيطعمه للحجيج بمكة، فمات فعكفوا على قبره، وقد كانت عندهم بقية من دين إبراهيم الخليل عليه السلام، فكانوا يحجون ويلبون ويستغفرون. وكانوا ايضاً يفردون الله سبحانه وتعالى بالخلق والرزق وملك السماوات والأرض، ويملك السمع والأبصار، وأنه يجبر – اى يغيث – من يشاء، ولا يجار عليه – أى لا يمنع منه – إلى غير ذلك مما أخبر سبحانه عنهم بقوله: {ولئن سالتهم من خلق السماوات والأرض، وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} [العنكبوت 61] ، وقوله تعالى: {قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله} [المؤمنون 84] ، وقوله تعالى: {قل من رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم سيقولون لله} [المؤمنون 86] ، وقوله عز وجل: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله واتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} [الأنعام 40، 41] ، وقوله تعالى: {أم من خلق السماوات والأرض وانزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم ان تنبتوا شجرها أإله مع الله، بل هم قوم يعدلون. أم من جعل الرض قراراً ودعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أإله مع الله} [النمل 60، 61] أى فعل ذلك. وهذا استفهام إنكار، والمشركون مقرون بأنه لم يفعل هذا إله آخر مع الله سبحانه. ومن قال من المفسرين: هل مع الله إله آخر فقد وهم، فإنهم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى، كما دلت على ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد} [الأنعام 19] أى بما تشهدون، وقوله عز من قائل: {فما أغنت عنهم آلهتهم التى يدعون من دون الله من شئ} [هود 101] . وقال تعالى عنهم: {أجعل الآلهة إلاها واحداً إن هذا لشئ عجاب} [ص 5] ولما كان المشركون معترفون بأن الله تعالى هو الرب الواحد، خالق كل شئ، فاعل هذه الأمور الجسام، معد (1) للرغبات والرهبات، كما هو حديث حصين المشهور، وذلك بنقل الله تعالى عنهم معتقدهم في آيات كثيرة {ومن أصدق من الله قيلاً} وكانوا ايضاً يتخذون آلهتهم شفعاء لهم، تقربهم إلى الله زلفى، ويقولون عن الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله، كما قال سبحانه عن صاحب يس، وهو حبيب النجار المذكور في سورة يس، وكان ينحت الأصنام: {ومالى لا أعبد الذى فطرني وإليه ترجعون} الآية. فكان جل أحوال المشركين مع آلهتهم التوكل عليهم، والالتجاء إليهم بالشفاعة، ظناً منهم أنها نافعة عنده تعالى لهم فرد الله تعالى عليهم، وأبان معتقدهم المسئول لديهم، فأخبرنا سبحانه وتعالى في كتابه أن الشفاعة كلها بجميع انواعها له. قال تعالى: {قل لله الشفاعة جميعاً} ، وأنها لا تمون إلا من بعد إذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع له المشار إليه بما رواه البخارى: أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: من اسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: ((من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)) ، فهؤلاء المخلصون هم الذين اخلصوا الدين كله لله، فجعلوا الشفاعة، التوكل والرجاء، والالتجاء، وغير ذلك من خواص الألوهية حقوقاً ثابتة له سبحانه، لم يعطوها لغيره فوجدوه بها، وأخلصوا الدعوة له، فهم المؤمنون الموحدو، وبكتابه الذى أنزل على نبيه مهتدون.   (1) هكذا وردت هذه الكلمة في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 [حقيقة الشفاعة] وحقيقة الشفاعة الماذون فيها: أن الله سبحانه هو الذى يتفضل على أهل الإخلاص والتوحيد فيغفر لهم بواسطة دعاء الشافعين، الذين أذن لهم في المشفوع له ليكرمهم على حسب مراتبهم. وينال نبينا - صلى الله عليه وسلم - منه المقام المحمود الذى يغبطه به الأولون والآخرون. ولما كان عليه الصلاة والسلام يشفع لأمته بدعاء واستسقاء مما هو شفاعة منه لهم، فكذلك في عرصات القيامة، بفتح الله تعالى عليه في الدعاء فيشفعه، كما ورد في حديث الشفاعة. ومن تأمل بعين الأستبصار في الشفاعة المنفية أولاً علم ان المقصود بنفي الشفاعة نفى الشرك وهو أن لا يعبد إلا الله. والدعاء عبادة كما ورد، وقال سبحانه: {فلا تدعو مع الله أحداً} ولا يسأل غيره، ولا يتوكل عليه لا في شفاعة ولا في غيرها. فكما أنه ليس للمؤمن أن يتوكل على أحد في أن يرزقه، وإن كان الله تعالى ياتيه برزقه باسباب، كذلك ليس له أن يتوكل على غير الله تعالى في أن يغفر له ويرحمه في الآخرة بشفاعة وغيرها مما لم يأذن الله سبحانه به، إذ لا فرق بينهما، فالشفاعة التى نفاها القرآن مطلقاً، كما قال تعالى: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} ما كان فيها شرك، وتلك منفية مطلقاً. والشفاعة المثبتة ما تكون بعد الأذن يوم القيامة، ولا تكون الشفاعة إلا لمن أرتضى، فهذه الشفاعة من التوحيد، ومستحقها أهل التوحيد. فمن كان موحداً مخلصاً قطع رجاءه عن غير الله تعالى، ولم يجعل له ولياً ولا شفيعاً من دون الله سبحانه. إذا تبين هذا، فالمشركون قد كانت عبادتهم لآلهتهم هذا الالتجاء والرجاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 والدعاء لأجل الشفاعة معتقدين أنها المقربة لهم، فبسبب هذا الاعتقاد والالتجاء أريقت دماؤهم واستبيحت أموالهم. وقد ارسل - صلى الله عليه وسلم - بل جميع الرسل بكلمة التوحيد ليعدلهم عما هم عليه من الضلالات، وأوحيت عليهم إفراد الحق سبحانه بالألوهية، التى من أعظم خواصها هذا الالتجاء والرجاء، وألا يجعلوا الألوهية لغيره، وقد تعبدهم الله تعالى باعتقاد هذا التوحيد والعمل بمقتضى الشهادة المشتملة على التجريد والتفريد، اللذين هما حقيقة التوحيد. فهذا الالتجاء بطلب الشفاعة ورجائها عبادة لا تصلح إلا له عز وجل، وإنها من صرف حقوقه تعالى ومن الشرك (1) . (فإن قلت) : إن المشركين كانوا يعبدونهم ونحن لا نعبدهم؟ (فالجواب) : أن عبادتهم هي هذا الالتجاء الذى انت فيه، وكما أنك تدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - الذى بعث بإخلاص الدعوة لله تعالى، وحاشاه أن يرضى بذلك ولا يرضيه إلا ما يرضى ربه من التوحيد - فإنه عليه الصلاة والسلام قد أمر بإخلاص العبادة، ونهى عن الشرك، وحذر وبصر، وأرشدك وبلغ، ونصح الأمة، وأزل عنا الغمة، فهدانا إلى السبيل المستقيم، وتدعو غيره ملتجئاً إليهم بطلب الشفاعة منهم. كذلك الأولون كانوا يدعون صالحين وانبياء ومرسلين، طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين، كما قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} فبهذا الالتجاء والتوكل على هذه الشفاعة والرجاء أشركوا. (فإن قلت) : إن الأولين لا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وينكرون البعث، ويجعلون القرآن سحراً.   (1) كذا في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 فالجواب: إنه لا خلاف بين العلماء كلهم: أن الرجل إذا صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شئ وكذبه في آخر، أنه لم يدخل في الإسلام، كما إذا آمن ببعض القرآن وكفر ببعض، فما نحن فيه من هذا القبيل. (فإن قلت) : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مأذون بالشفاعة ونحن نطلبها ممن هو مأذون فيها. (فالجواب) : أنه عليه الصلاة والسلام الآن موعود بالشفاعة في اليوم الآخر ووعد الله حق، لكنها مشروطة ببعد الإذن ورضاه عن المشفوع فيه، فينبغي لمن أراد أن يدعو بطلب الشفاعة أن يقول: اللهم لا تحرمنى شفاعته عليه الصلاة والسلام، اللهم شفعه في، وأمثال ذلك. ولو كانت تطلب منه - صلى الله عليه وسلم - الآن لجاز لنا أن نطلبها أيضاً ممن وردت الشفاعة لهم، كالقرآن والملائكة والأفراط، وهم أطفال المؤمنين، والحجر الأسود، إذ قد روى أنه يشفع لمثل ربيعة ومضر، وبالصالحين، ولجاز لنا أن ندعوهم ونلتجئ إليهم ونرجوهم بهذه الشفاعة، إذ لا فرق بين الجمع بثبوت أصل الشفاعة لهم والإذن فيها، فنصير إذن والمشركون الولين في طريق واحد، ولم نفترق إلا بالأعمال الظاهرة: كالصوم والصلاة، وقول كلمة التوحيد من غير عمل بما فيها، ومن غير اعتقاد لحقيقتها. ولا يقدم على ذلك من له أدنى مسكة من عقل، أو فكرة فيما صح من النقل. ومن نظر بعين افنصاف، وتجنب سبيل الاعتساف، ونظر إلى ما كان عليه الأولون، وعرف كيف كان شركهم، وبماذا أرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف التوحيد، وما معنى الإله والتأله، وتبصر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 العبادات وأنواعها - تحقق أن هذا الألتجاء والتوكل والرجاء بمثل طلب الشفاعة هو الذى نهى عنه الأولون، وأرسل لأجل قمعه المرسلون، وبذلك نطق الكتاب، وبينه لنا خير من اوتى الحكمة وفصل الخطاب، سيما إذا استغيث بهم لدفع الشدائد والملمات، ولرفع الكرب المهمات، مما لا يقدر على دفعه إلا خالق الأرض والسماوات. وقد كان الأولون إذا وقعوا في شدة دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إذا هم يشركون. ومن فعل هذا بحالتى الشدة والرخاء، بل في قسمى المنع والعطاء فقد غلا وداوز حده، قال سبحانه: {له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [الرعد 14] . وإذا علمت هذا، فاعلم أن الاستغاثة بالشئ طلب الإغاثة والغوث منه، كما ان الاستغاثة بشئ: طلب الإعانة منه. فإذا كانت بنداء من المستغيث للمستغاث كان ذلك سؤالاً منه، وظاهر أن ذلك ليس توسلاً به إلى غيره، بل طلب منه، إذ قد جرت العادة أن من توسل بأحد عند غيره أن يقول لمستغاثه: أستغيثك على هذا الآمر بفلان، فيوجه السؤال إليه ويقصر أمر شكواه عليه، ولا يخاطب المستغاث به ويقول له ارجو منك، أو أريد منك، أو أستغيث بك، ويقول إنه وسيلتى إلى ربي، فإن هذا غير معروف، وإن كان كما يقول فما قدر عظم المتوسل إليه حق قدره وتعظيمه، وقد رجا وتوكل والتجأ إلى غيره. كيف واستعمال العرب يأبي عنه، فإن من يقول: صار لى ضيق فاستغيث بصاحب القبر فحصل الفرج، يدل دلالة جبلية على أنه قد طلب الغوث منه، ولم يفد كلامه أنه توسل به عند غيره، بل إنما يراد هذا المعنى إذا قال: توسلت أو أستغيث عند الله تعالى بفلان، أو يقول لمستغاثه وهو الله سبحانه: استعيث إليك بفلان، فيكون حينئذ مدخول الباء متوسلاً به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 ولايصح إرادة هذا المعنى إذا قلت: أستغثت بفلان، وتريد التوسل به، وسيما إذا كنت داعية وسائلة، بل قولك هذا نص على أن مدخول الباء مستغاث وليس بمستغاث به. والقرائن التى تكشفه من الدعاء له، وقصر الرجاء عليه شهود عدول، ولا محيد عما شهدت به ولا عدول. فهذه الاستغاثة، وتوجه القلب إلى المسئول بالسؤال والإبانة، محظور على المسلمين، لم يشرعها لأحد من أمته رسول رب العالمين. قال الشيخ محمد الأمين السويدى الشافعي: ولا يجوز ذلك إلا من جهل آثار الرسالة، ولهذا عمت الاستغاثة بالأموات عند نزول الكربات، يسألونهم ويتضرعون إليهم، فكان ما يفعلونه معهم أعظم من عبادتهم واعتقادهم في رب السماوات. أهـ. قال المانعون: وهل سمعتم ان أحداً في زمانه - صلى الله عليه وسلم - أو ممن بعده في القرون الثلاثة المشهود لأهلها بالنجاة والصدق، وهم أعلم منا بهذه المطالب، وأحرص على نيل مثل تيك الرغائب - استغاث بمن يزيل كربته التى لا يقدر على إزالتها إلا الله سبحانه، أم كانوا يقصرون الاستغاثة على مالك ولم يعبدوا إلا إياه. ولقد جرت عليهم أمور مهمة وشدائد مدلهمة في حياته - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته. فهل سمعت عن احد منهم انه استغاث بسيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -! أو قالوا: إنا مستغيثون بك يا رسول الله! أم بلغت أنهم لاذوا بقبره الشريف، وهو سيد القبور، حين ضاقت منهم الصدور! كلا! لا يمكن لهم ذلك، وإن الذى كان بعكس ما هنالك فلقد أثنى الله تعالى عليهم ورضي عنهم فقال عز من قائل: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} [الأنفال 9] مبيناً لما سبحانه أن هذه الاستغاثة هي اخص الدعاء، وأجلى احوال الالتجاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 ففي استغاثة المضطر بغيره تعالى عند كربته: تعطيل لتوحيد معاملته الخاصة به. (فإن قلت) : إن اللمستغاث بهم قدرة كسبيه وتسببية فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى. (قلنا له) : إن كلامنا فيمن يستغاث به عند المام ما لا يقدر عليه غلا الله تعالى، أو لسؤال ما لا يعطيه، ويمنعه إلا الله سبحانه، وأما فيما عدا ذلك مما يجرى فيه التعاون والتعاضد بين الناس، وإغاثة بعضهم ببعض فهذا شئ لا نقول به ولا ننكره؟ كما قال تعالى: {فاستغاثة الذى من شيعته على الذى من عدوه} [القصص 15] ، ونعد منعه جنوناً، كما نعد إباحة ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى شركاً وضلالاً. وكون العبد له قدرة كسبية، لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية، لا يستغاث به فيها لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعان به ولا يتوكل عليه، يلتجأ في ذلك. وأما مجئ جبريل عليه السلام لإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين القى في النار، وقوله: هل لك من حاجة؟ فقال: إما إليك، فإن ذلك مما يقدر عليه جبريل بإذن اله تعالى، لأنه كما قال سبحانه فيه: {شديد القوى} فلو أذن تعالى له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض، أو يرفع إبراهيم إلى السماء لفعل. فإذا علمت ذلك فلا يقال لحي او ميت قريب أو بعيد: أرزقنى، أو أمت فلاناً، أو أشف مريضى، إلى غير ذلك مما هو من الفعال الخاصة به عز وجل. وبالجملة، فالاستعاثة والاستعانة والاتوكل أغصان دوحة التوحيد، المطلوب من العبيد. بقى ههنا بوردة المجيزون على هؤلاء المانعين، وهو أنه لا شك أن عن عبد غير الله تعالى مشرك، وأن الدعاء المختص بالله سبحانه عباده، بل هو مخ العبادة، كما ورد في الحديث. ولكن لا نسلم أن طلب الإغاثة لمن استغيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 بهم شرك مطلقاً، وإنما يكون شركاً لو كان المستغيث معتقداً أنهم هم الفاعلون لذلك خلقاً وإيجاداً، فحينئذ يكون من الشرك الاعتقادى قطعاً. أما من اعتقدهم الفاعلين كسباً وتسيباً، وأن المؤثر الحقيقى هو الله تعالى، وإنما تسند هذه الأمور إليهم لكونها جرت على أيديهم فليس بمسلم. ولئن سلمنا فليس المقصود من طلب الإغاثة منهم وندائهم إلا التوسل بهم وبجاههم، وإن كان اللفظ يدل على الطلب منهم، لكن المقصود التشفيع والتوسل بهم إلى ربهم، وهو - صلى الله عليه وسلم - من اشرف الوسائل إليه سبحانه. وقد أمرنا عز وجل بطلب ما يتوسل إليه بقوله تعالى: {وابتغوا إليه الوسيلة} فكيف تخطرونها شركاً مخرجاً من الملة، وليس في قلوب المسلمين إلا هذا المعنى، وأن في الذى ذكرتموه تكفير أكثر الناس. وكيف تحكمون على إناس قد ظهروا شعائر انثلام من اذان وصلاة وصوم وحج وزكاة، يأتون بكلمة التوحيد، ويحبون الله تعالى وسيد المرسلين. وغاية المر أنهم لرهبتهم من ربهم ومعرفتهم بعلو مرتبة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما وعده الله سبحانه به من إرضائه، كما قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} ولا يرضى عليه الصلاة والسلام إلا بأن يقف لأمته في مثل هذه التوسلات فينالوا الرغبات. وليس في اقوالكم هذه إلا تنقص بحق هذا النبي الأمين. الذى أوجب الله تعالى علينا حبه أكثر من محبتنا لأنفسنا والقربين، وفي مثل ذلك تدعونه بشاعة في القول، وشناعة بطريق الأولى. فأجاب المانعون بقولهم: أما قولكم: أن ليس مقصودهم إلا التوسل والتشفيع، وإن تكلموا بما يفيد غيره،فإنه يدل على أن الشرك لا يكون إلا أعتقادياً، وأن اللفظ لا يكون كفراً إلا إذا طابق الاعتقاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 هذا يقتضى سد أبواب الشرائع،ومحو الأبواب التى ذكرها الفقهاء في الردة. ولا سيما ما ذكرته الحنفية من التكفير بألفاظ يذكرها بعض الناس من غير اعتقاد، كيف وأن الله سبحانه يقول: {ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} والكلمة التى قالوها كانت على جهة المزح مع كونهم في زمن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يجاهدون ويصلون، ويفعلون جميع الأوامر، وقال تعالى: {أبالله ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} ، وقد ذكر المفسرون: أنهم قالوها على جهة المزح. وكذلك العلماء كفروا بألفاظ سهلة جداً، وبأفعال تدل على ما هو دون ذلك، لا سيما الحنفية كما لا يخفى على من تتبع كتبهم. ولو قلنا: إن الألفاظ لا عبرة بها، وإنما العبرة للإعتقاد لأمكن لكل من تكلم بكلام يحكم على قائله بالردة اتفاقاً أن يقول: لم تحكمون بردتى! ؟ فيذكر احتمالاً، ولو بعيداً، يخرج به عما كفر فيه، ولما احتاج إلى توبة ولا توجه عليه لوم أبداً. وهذا ظاهر البطلان، ولساغ لكل أحد ان يتكلم بكل ما أراد، فتئسد الأبواب المتعلقة بأحكام الألفاظ. قالوا: وأما ما ذكرتم من انه - صلى الله عليه وسلم - من اشرف الوسائل فهي كلمة حق أريد بها بالطل، كقولهم: إنه ذو الجاه العريض، والمقام المنيع، ونحن أولى بهذا المقام منكم لاتباعنا لأقواله وأفعاله، واقتدائنا به - صلى الله عليه وسلم - في جميع احواله، مقنفين لأثاره، واقفين عند اخباره، فهو - صلى الله عليه وسلم - نبينا وهادينا إلى سبل الإسلام، ومنقذنا برسالته من مهاوى اولئك الجفاة الطغام. فلا نعمل إلا بأمره، ونتلقى ذلك بالسمع والطاعة في حلوه ومره. وقد أوجب سبحانه علينا ان نتبع سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 المؤمنين، ونهانا عن الغلو في الدين. وهذا طريق سلفنا الصالح، والاعتقاد الراجح. هذا، وإن نبينا عليه الصلاة والسلام، وأرواحنا واولادنا وأموالنا له الفداء، لا يرضى بما يغضب الرب المتعال. وكيف وقد بعث بحماية التوحيد من هذه الأقوال والأفعال، وقد قالت عائشة - رضي الله عنه -: ((كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه)) فليس لنا وسيلة إلى الله تعالى إلا طاعة رسوله، والأعمال الصالحة، والدعاء المبني على أصول الذل والافتقار وهو مخ العبادة. هذا، وقد اختلف العلماء بعد أن اتفقوا على استحباب سؤاله عز وجل به وباسمائه وبصفاته وأفعاله في جواز التوسل بالذوات المنفية والأماكن والأوقات الشريفة، فعن العز بن عبد السلام ومن تابعه: عدم الجواز إلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن الحنابلة في اصح القولين: إنه مكروه كراهة تحريم. وهذا إذا كان الداعي متوجهاً إلى ربه متوسلاً إليه بغيره، مثل أن يقول: أسألك بجاه فلان عبدك، أو بحرمته أو بحقه. وأما إذا توجه إلى ذلك الغير فطلب منه كما يفعله كثير من الجهلة فهو شرك كما تقدم. ونقل القدورى وغيره عن الحنفية عن أبي يوسف أنه قال: قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -:لا ينبغي لأحد أن يدعو الله تعالى إلا به. وذكر العلائي في شرح التنوير عن التتار خانية عن ابي حنفية أنه قال: لا ينبغي لأحد أن الله يدعو سبحانه إلا به. والدعاء المأذون فيه المامور به: ما استفيد من قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها} قال: وكذا لا يصلى أحد إلا على النبي عليه الصلاة والسلام. أهـ. وفي جميع متونهم: أن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والأولياء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 وبحق البيت والمشعر الحرام - مكروه كراهة تحريم، وهي كالحرام في العقوبة بالنار عند محمد، وعللوا ذلك بقولهم: لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. وأما حديث الخارج إلى الصلاة: أسالك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى، وبحق نبيك والأنبياء من قبله فغني لم أخرج أشراً ولا يطرأ، ولا رياء ولا سمعه، وبكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذنى من النار وان تدخلنى الجنة)) فرواه العوفى، وفي رواية وهن. وعلى فرض صحتها، فالمراد بهذا الحق ما أوجبه الله تعالى على نفسه، وذلك من أفعاله عز وجل، لأن حق السائلين الإجابة، وحق المطيعين الإثابة، وحق الأنبياء التقريب والتفضيل بما يخص أولئك العصابة، - صلى الله عليه وسلم - وذلك كقوله تعالى: {ولكان حقاً علينا نصر المؤمنين} . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله تعالى أن لا يعذبهم)) أو السؤال بالأعمال لأن الممشى إلى الطاعة امتثالاً لأمره عمل طاعة، وذلك من أعظم الوسائل المأمور بها في قوله تعالى: {يايها الذين أمنوا أتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} ومن نظر إلى الدعية الواردة في الكتاب والسنة وعن الصحابة والأئمة لم يجدها خارجة عما ذكرنا. [سقوط الاستدلال بحديث الأعمى] وقالوا في الجواب عن حديث الأعمى الذى رواه عثمان بن حنيف - رضي الله عنه -، الذى دل على الجواز في حياته عليه الصلاة والسلام، وفي الرواية الأخرى بعد وفاته، وهو ما نقل العلامة السويدى العمدة في الاستدلال عند المجوزين، لأن غيره من الأحاديث إما أن يكون ضعيفاً لا يصلح للاستدلال، أو انه دليل على المجوزين لا لهم، كحديث استسقاء عمر بالعباس - رضي الله عنه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 فاعلم أنه قد روى النسائى والترمذى عن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - أن رجلاً ضريراً أتاه عليه الصلاة والسلام فقال: أدع الله تعالى ان يعافيني؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن شئت أخرت وهو خير، إن شئت دعوت)) قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه. وفي رواية: ويصلى ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم اني اسألك) أى أطلب منك (وأتوجه إليك نبيك محمد) صرح باسمه مع ورود النهي عن ذلك قصر السؤال الذى هو أصل الدعاء على الملك المتعال، ولكنه توسل به الصلاة والسلام أى بدعائه كما قال عمر، كنا نتوسل إليك بنبيك عليه الصلاة والسلام. فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد. ولذا قال في آخره: اللهم فشفعه في. إذ شفاعته لا تكون إلا بالدعاء لربه قطعاً. ولو كان المراد بذاته الشريفة فقط، لم يكن لذلك التعقيب معنى، إذ التوسل بقوله: ((بنبيك)) كاف في إفادة هذا المعنى. وأيضاً قول الأعمى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أدع الله تعالى أن يعافيني، وجوابه عليه الصلاة والسلام له: ((إن شئت أخرت وهو خير وإن شئت دعوت)) ، وقول الأعمى ((فادعه)) دليل واضح، وبرهان راجح، على ان التوسل كان بدعائه لا بنفس ذاته المطهرة عليه الصلاة والسلام. وقوله: (يا محمد انى وجهت بدعائك بك إلى ربي) ، قال الطيبى: الباء في بك للأستعانة، أى استعنت بدعائك إلى ربي. وقوله: (إنى توجهت) بعد قوله: (أتوجه إليك) فيه معنى قوله تعالى: {من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه} فيكون خطاباً لحاضر معين في قلبه مرتبط بما توجه به عند ربه من سؤال نبيه عليه الصلاة والسلام، الذى هو عين شفاعته، ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية، المفيد كل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام، فكأنه استحضر وقت ندائه، ومثل ذلك كثير في المقامات الخطابية، والقرائن الاعتبارية، كما يقول المصلى في تشهده: السلام عليك ايها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته. ونقل السويدى عن أقتضاء الصراط المستقيم للشيخ: أن الإنسان يفعل مثل هذا كثيراَ، يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. فلفظ التوسل بالشخص، والتوجه به والسؤال به فيه إجمال، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، فإنه يراد به التسبب به لكونه داعياَ وشافعاً مثلاً، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به. فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد الإقسام والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل لا شىء منه ولا شىء من السائل؛ بل بذاته لمجرد الإقسام به على الله تعالى فهذا الثاني هو الذى نهوا عنه. وكذلك لفظ السؤال قد يراد به المعنى الأول، وهو التسبب به لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام. ومن الأول حديث الثلاثة الذين أووا إلى غار، وهو حديث مشهور؛ فهم دعوا الله تعالى بصلاح الأعمال؛ لأنها من أعظم ما يتوسل به العبد إليه تعالى ويسأله به؛ لأنه وعد الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله. اهـ. وقوله: (في حاجتي هذه لتقضى) أي ليقضيها ربي بشفاعته أي في دعائه، وذلك مشروع مأمور به؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام الدعاء، وكان يدعوا لهم. وكذلك يجوز الآن أن تأتي رجلاً صالحاً فتطلب منه الدعاء لك، بل يجوز للأعلى أن يطلبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 من الأدنى كما طلب النبي عليه أكمل الصلاة وأفضل السلام من الفاروق - رضي الله عنه - في عمرته بأن قال له: ((لا تنسنا يا أخي من دعائك)) . قال عمر: ما يسرني بها حمر النعم، وكذلك أمر أمته أن يسألوا له الوسيلة. وقال العلامة المناوى في شرحه الكبير للجامع الصغير: سأل الله تعالى أولا أن يأذن لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يشفع له، ثم أقبل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ملتمساً شفاعته له، ثم كرَّ مقبلاً على ربه أن يقبل شفاعته. والباء في ((بنبيك)) للتعدية وفي ((بك)) للاستعانة، وقوله: (اللهم فشفعه فيّ) أي أقبل شفاعته في حقي، والعطف بالفاء على معطوف عليه مقدر: أى أجعله شفيعاً لى فشفعه؛ فيكون قوله ((اللهم)) معترضة، وكل هذه المعاني التي ذكرت دالة على وجود شفاعته بذلك، وهو دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - له بكشف عاهته، وليس ذلك بمحظور، غاية الأمر أنه توسل من غير دعاء بل هو نداء الخاص، والدعاء أخص من النداء، إذ هو نداء عبادة شاملة للسؤال بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وإنما المحظور السؤال بالذوات لا مطلقاً، بل على معنى أنهم وسائل لله سبحانه بذواتهم. وأما كونهم وسئل بدعائهم فغير محظور، وإذا اعتقد أنهم وسائل لله عز وجل بذواتهم فسأل منهم الشفاعة للتقرب إليهم، فذلك عين ما كان عليه المشركون الأولون كما تقدم. قال الشارح: ثم اعلم أن المراتب في هذا الباب ثلاثة: أحدهما - أن الدعاء لغيره تعالى سواء كان المدعو حياً أو ميتاً، وسواء كان من الأنبياء أو غيرهم؛ بأن يقال: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا مستجير بك، أو نحو ذلك. فهذا شرك بالله تعالى، وهو مثل عبادة الأصنام في القرون الماضية. الثاني - أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله تعالى، أو نحو ذلك فهذا مما لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها السلف، وإن كان السلام على أهل القبور حائزاً، ومخاطبتم جائزة، كما كان عليه أصحابه يعلم أصحابه عليه الصلاة والسلام إذا زاروا القبور أن يقولوا: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون)) كما سيأتي. الثالث: أن يقول: أسألك بجاه فلان عبدك، أو بحرمته، أو نحو ذلك. فهذا الذي تقدم عن العز بن عبد السلام أنه أفتى أنه لا يجوز في غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن الحنابلة في أصح القولين، أنه مكروه كراهة تحريم، وهو ما تقدم نقله عن أبي حنيفة وأبي يوسف عليهما الرحمة، فتفطن. وأما ورود هذا الحديث عن عثمان بن حنيف في زمن أمير المؤمنين عثمان ففي سنده مقال. بل قال بعضهم: إن أمارات الوضع لائحة عليه، فكيف يعارض به الكتاب والسنة وعمل الصحابة؟ وهل سمعت أحداً منهم جاء إلى قبره الشريف فطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى؟ وهم حريصون على مثل هذه المثوبات لا سيما والنفوس مولعة بقضاء حوائجها؟ . نعم كان ابن عمر يأتي القبر المكرم ويقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف. وكذلك أنس وغيره. فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة؛ فلو صح عند أحدهم الطلب منه عليه الصلاة والسلام لرأيت أصحابه يتناوبون قبره المشرف زمراً زمراً. ومثل ذلك تتوفر الدواعي على نقله، ولأوسع الله تعالى طريقاً لم يتسع للصحابة والتابعين وصلحاء علماء الدين، وستأتي تتمة لهذا في بحث ((شد الرحال)) بعون الملك المتعال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 [توسل عمر بالعباس] وأما ما ذكره من الاستدلال بتوسل عمر بن الخطاب بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه تعالى عنهما، فالمراد بذلك أن يدعو لهم - يدل عليه ثبوت دعائه لهم بطلب السقيا، كما جاءت به بقيت الروايات. ومثله استسقاء معاوية في الشام بيزيد بن الأسود، فإنه قال: يا يزيد ارفع يديك؛ فرفع يديه ودعا ودعا الناس حتى سقوا. وهذا المعنى هو الذي عناه الفقهاء في باب الاستسقاء، ومرادهم التوجه إلى الله تعالى بدعاء الصالحين، فإن دعائهم أرجى للإجابة. ولو كان التوسل بالذوات هو المطلوب؛ والمدلول الذي أقاموا عليه الدليل، وهم بمقتضى دليلهم لا يخصون الأحياء بهذا التوسل، ويستحبون التوسل بالذوات الشريفة؛، ولو بندائهم ودعائهم، كما مر تقريره من دليلهم، وأنه على معنى الشفعاء يدعون لهم،وقالوا: لا مانع من ذلك عقلاً وشرعاً، فإنهم أحياء في قبورهم لكان التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الأمر المهم، وهم عنده بالمدينة أولى. ولكان قولهم كما في رواية البخارى عن أنس أن عمر - رضي الله عنه - استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنه وقال: ((اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون)) . من هذا الحديث: ((اللهم إنا كنا إذا أجدبنا - إلى آخره -)) عبثاً ضائعاً، بل مخلا بما يقولون ويدعون، لأنه لو كان الاستسقاء به عليه الصلاة والسلام جائزاً بعد موته - أرواحنا له الفداء - لما عدل عنه الفاروق. بل هذا الدليل الذى تمسكوا به من أقوى الأدلة وأرجحها وأظهرها على ما ندعيه من عدم الجواز، فهو عليهم لالهم، عند من له أدنى فهم وإنصاف والله يهدي السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 [حديث آدم] وأما حديث آدم الذى رواه الطبراني، وهو ما روى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما أقترف آدم الخطيئة قال: يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، قال الله تعالى: يا أدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال:: لأنك يا رب لما خلقتنى بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى أسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال عز وجل له: وإذا سألتنى بحقه غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك)) رواه البيهقى في دلائله من حديث عبد الرحمن، ورواه الحاكم وصححه، وذكره الطبراني وزاد فيه: ((وهو آخر الأنبياء من ذريتك)) ففيه ضعف كما ذكره المحدثون، وقد علم أيضاً جوابه مما مر من قوله: ((بحق انبيائك)) وما قاله أبو حنيفة، وأبو يوسف، فتفطن. وأما الدليل الذى ساقه القسطلاني أيضاً في المقصد الأول، وهو ما روى ((أنه لما خرج آدم من الجنة رأى مكتوباً على ساق العرش، وعلى كل موضع في الجنة اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - مقروناً باسم الله تعالى فقال: يارب هذا محمد من هو؟ فقال عز وجل: هذا ولدك الذى لولاه ما خلقتك. فقال: يارب بحرمة هذا الولد أرحم هذا الولد، فنودى: يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفعناك)) أنتهى، فلم يذكر رواته، ومع هذا لا يفيد ما هم فيه كما تحقق. [حديث الأعرابي] واما حديث الأعرابي لذى ذكر الأبيات فقد تفرد به البيهقى لبيان دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم -. وقد جرت عادة المحدثين في مثل ذلك المقام أن لا يتحاشوا عن إيراد الحدث الضعيف وهم جمع، فكيف بهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 الحديث الفرد، فكيف يثبت به حكم هو مبني الدين، وأساس ملة المسلمين؟ على أنه لا شاهد فيه أيضاً، لأنه دل على طلب الدعاء من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فإنهم لما حصل لهم الجدب فروا إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليدعو لهم بكشف ما أهمهم. وأما باقى الأحاديث فلا تخلو عن ضعف أو كذب رواه، أو غير ذلك مما يمنع العمل بموجبه، وإن نظرت إليها بعين الإيمان وجدت آثار الوضع لأئحة عليها، وأحوال الصحابة تدل على انهم غير معترفين بما فيها. ولو كان عندهم من ذلك أدنى رائحة لجاءوا إلى قبره المطهر في جميع ما ينوبهم على الرواحل، وتركوا عند ذلك جميع المشاغل، ولا زالت الصحابة تسد ذرائع التوسل الذى أدعاه المجزون، كما فعل عمر - رضي الله عنه - من قطع الشجرة التى بويع تحتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه عن أبي العالية، قال: لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له، فإخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعباً - رضي الله عنه - فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه فقرأته مثل ما أقرأ القرآن فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم واموركم ولحن كلامكم وما هو كائن بعد. فقلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه. قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم، أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلثمائة سنة. قلت: ما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 تغير منه شئ؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء، لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع. فلو كان الدعاء عند القبور سنة أو فضيلة لنصبوا عليه علماً عنده، ولكن كانوا أعلم بالله وبرسوله ودينه من الخلوف التى خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان درجوا على سبيلهم، فقد كان عندهم من قبور الصحابة عدد كثير في الأمصار، فما منهم من استغاث بها ولا دعا عندهم، ولا أستسقى بها ولا استنصر، ولو كان لتوفرت الدواعي على نقله، وقد عمت البلوى الآن والنذور من اعظم العبادات، وأجل الغربات، وتفاخروا بوضع الزينة على تلك المقابر، وألهاهم عن اتباع السنة التكاثر، وحسب كثير منهم أن ذلك من السنن، وفشا المنكر، وظهرت - والعياذ بالله تعالى - الفتن، حتى نسج العالم الخبير على فمه من السكوت لثام، وترك الأمر بالمعروف خوفاً من مناقشة الجهلة اللئام، فإنا لله! ولا حول ولا قوة إلا بالله! . [حديث مالك] (قال المانعون) : وأما حديث الإمام مالك الذى رواه صاحب الشفاء فهو معارض برواية المبسوط، ورواها أيضاً القاضي عياض وغيره: أن مالكاً قال: لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو، ولكن يسلم ويمضى. وقال ايضاً في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: إن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ور يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر عند القبر، فيسلمون ويدعون ساعة؟ فقال: لم يبلغني هذا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 أحد من اهل الفقه، ولا يصلح هذه المة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغنى عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر او أراده. وقد ورد عن السلف ما يوافقه. وهذه الرواية موافقة لمذهبه، لأن سد الذرائع مشهور من مذهبه، فحمل رواية الشفاء على السقوط أولى، لكون رواية المبسوط أصح وأوفق لمذهبه. غاية المر التعارض، وإذا تعارضت الروايتان لم يمكن الجمع بينهما فنسقطهما ونرجع إلى الأصل المرجوع إليه في الأقياس، والأصل ما ذكرناه لدلالة الكتاب والسنة، فالعمل به هو الواجب، سيما في مثل هذه المطالب. [التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم -] وأما ما ذكرتم من التبرك بآثاره الشريفة في حياته - صلى الله عليه وسلم -، أى آثار نفسه من اجزائه المقدسة المطهرة، ومماس أعضائه الشريفة من ملابسه، فذلك حق واجب علينا أيها المسلمون، ففديه بأنفسنا واولادنا، وذلك من تعظيمه وتبجيله وبالغ توقيره - صلى الله عليه وسلم -، وشرف وكرم. وما عدا ذلك من كل ما يرضي الله تعالى ويرضيه لا نقول به، ولا نعمل إلا بما ورد، فنعهد الله سبحانه بهذه الطاعة والتعظيم لنبيه المصطفى عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام، بالاتباع لا بالابتداع. واما استشفاع عمر بشيبه العباس - رضي الله عنه -، فالمراد بذلك ذكر ما يكون سبباً لاستدرار الرحمة، وتنزل النعمة، كما يقول الإنسان في دعائه: ((اللهم كبر سنى ووهن عظمى فارحم شيبتى)) سيما إذا كانت شيبته شابت في الإسلام. كما ورد في الحديث ((إن الله يستحى من ذى الشيبة المسلم أن يعذبه)) وسيما إذا كان الداعى مثل العباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصنو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 ابيه، فذكر الشيبة من قبيل ذكر الملزوم، وإرادة اللازم الذى هو الزمان المصروف في سبيل الله، فيكون من قبيل الكتابة عن الأعمال الصالحة، ولا يقدم عاقل على القول بالتوسل بذات الشبيه نفسها، بل بما تلبست به من الإيمان وطاعة الرحمن: وهذا على تقدير صحة الرواية بهذا، وإلا فهي ضعيفة. [قيمة المنامات والحكايات في الاستدلال] واما الحكاية العتبى عن الأعرابي واستحسان العلماء لذلك، وكذلك المنامات والحكايات التى أوردها في ذلك، والأقوال التى ذكرت معها من غير سند شرعي يستندون إليه، ولا طريق مرعى يوقفون الطلاب عليه - فلا نتعب أنفسنا بالجواب، ففيما ذكرناه كفاية لأولى الألباب. (قلت) : وقال الشيخ ابن تيمية في إقتضاء الصراط المستقيم، إنهم احتجوا بهذه الحكاية التى لا يثبت بها حكم شرعي، ولا سيما في مثل هذا الأمر، بل قضاء الله تعالى حاجة مثل هذا الأعرابي لها اسباب قد بسطت في محلها، وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضى أن يكون مشروعاً مأموراً به، فقد كان عليه الصلاة والسلام يسأل في حياته المسألة فيعطيها، وتكون محرمة في حق السائل، حتى قال: ((إنى لأعطي أحدهم العطية فيعطيها، وتكون محرمة في حق السائل، حتى قال: ((إنى لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها ناراً قالوا: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألونى، ويأبى الله تعالى لى البخل)) . وقد يفعل الرجل العمل الذى يعتقده صالحاً، ولا يكون عالماً أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع. وعامة العبادات المبتدعة المنهى عنها قد يفعلها بعض الناس، ويحصل بها نوع من الفائدة: وذلك لا يدل على أنها مشروعة، ولو لم نكن مفسدتها أعظم من مصلحتها لما نهى عنها. ثم الفاعل قد يكون متاولاً، أو مخطئاً مجتهداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 أو مقلداً، فيغفر له خطؤه، ويثاب على ما يفعله من الخير المشروع المقرن بغير المشروع، كالمجتهد المخطئ. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. أهـ. [الحياة البرزخية] (قال المانعون) : وبقى ما أدلوا (1) علينا من حياة الأنبياء عليهم السلام ليتوصلوا به إلى ترويح مدعاهم من استحسان دعائهم وطلب إغاثتهم، وأولوه بان مرادهم في ذلك الاستشفاع: طلب أن يدعوا لهم. لأنهم إذا كانوا احياء فلا مانع من ذلك. فنقول: القول بحياتهم حق ثابت بالأحاديث الصحيحة، فنعقتد حياتهم عليهم الصلاة والسلام، حياة برزخية فوق حياة الشهداء، وأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد جعل عند قبره الشريف ملك يبلغه سلام المسلمين الذين عند ضريحه المكرم والنائين عنه، ونعتقد أن الأنبياء عليهم السلام جميعهم طريون لا تأكل الأرض أجسامهم الشريفة للأحاديث الواردة في ذلك، منها حديث أوس - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((أفضل ايامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا على من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة على. قالوا: وكيف صلاتنا عليك؟ وقد أرمت - أى بليت 0 فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) أخرجه ابن حبان وغيره. ولكنا نمنع أن يطلب منهم شئ؟ فلا يسألون شيئاً بعد وفاتهم، كما تقدم، سواء كان لفظ استغاثة أو توجه أو استشفاع أو غير ذلك. فجميع ذلك من وظائف الألوهية، فلا يليق جعله لمن يتصف بالعبودية فإن ادعى أحد أن حياتهم - صلى الله عليه وسلم - إذا ثبتت الرواية بها   (1) أدلوا: توسلوا. أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وهي ما اخرجه أبو يعلى والبيهقى عن انس - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)) حياه حقيقية، كما هو الأصل في حمل الألفاظ على حقائقها، ولم نثبت قرينه على التجوز بها فينبغي الحياة على حقيقتها. أجبناه قائلين: لا شك أنه لا يرد بهذه الحياة الحقيقية ولو أريدت لاقتضت جميع لوازمها من اعمال وتكليف وعبادة ونطق وغير ذلك، وحيث أنتفت حقيقة هذه الحياة الدنيوية بانتفاء لوازمها، وبحصول الانتقال من هذه الحياة الدنيوية الحقيقية إلى تلك الحياة البرزخية المعبر عن هذا الانتقال بالموت الحال به - صلى الله عليه وسلم - وارواحنا له الفداء - كما قال تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر 30] . وقال عز من قائل: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران 144] . وحلول الموت به - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أحداً إنكاره. ولما جاء الصديق - رضي الله عنه -، وكان غائباً بالعالية، وقد أذن له - صلى الله عليه وسلم - بالذهاب فكشف عن وجهه الشريف المكرم قال له: روحي لك الفداء، طبت حياً وميتاً. وفي حديث سالم: أنه تلا الايتين المذكورتين عند ذلك، ثم صعد المنبر فقال في خطبته: يأيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت - وتلا هذه الآية، فتراجع الناس إلى عقولهم. وقال عمر: فو الله لكأنى لم اتل هذه الآية قط. وحيث انتفت الحياة الحقيقية بما ذكر وبغيره ثبتت الحياة البرزخية، وهي متفاوتة، فحياة الشهداء فوق حياة المؤمنين، وحياة الأنبياء عليهم السلام أعلى من حياة الشهداء. وقد شرف سبحانه هؤلاء الأحياء بالتشريفات العندية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 فقال عز من قائل في حق الشهداء الذين تتقاصر مرتبتهم عن الأنبياء {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران 169] . (فإن قلت) : قد ثبت في الحديث السابق أن الأنبياء يصلون، واخرج الإمام أحمد ومسلم عن انس بن مالك - رضي الله عنه - عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مررت ليلة اسرى بي على موسى قائماً يصلى في قبره. وفي رواية - عند الكثيب الأحمر)) فما الجواب عن ذلك؟ . (قلنا) : المراد من الصلاة المعنى اللغوى. أى يدعو وثيني عليه سبحانه ويذكره. وقال القرطبي: المراد الصلاة الشرعية، لظاهر الحديث، وأنها ليست بحكم التكليف بل بحكم الأكرام لهم والتشريف. ولا تدافع بين هذا وبين رؤيته إياه تلك الليلة في السماء السادسة، لأن للأنبياء عليهم السلام مراقع ومسارح ينصرفون فيما شاءوا ثم يرجعون إلى قبورهم. أو لآن أرواح الأنبياء بعد مفارقة البدن في الرفيق الأعلى، ولها إشراف على البدن وتعلق به، ويمكنون من التصرف والتقرب بحيث يرد السلام على المسلم، وبهذا التعلق رآه يصلى في قبره، ورآه في السماء السادسة. فلا يلزم كون موسى عليه السلام عرج به من قبره تلك الليلة ثم رد إليه بل ذلك مقام روحه واستقراره إلى يوم معاد الرواح إلى الأجساد. كما أن روح نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، وبدنه في ضريحه المطهر يرد السلام على من يسلم عليه. ومن غلظ طبعه عن إدراك هذا فلينظر إلى السماء في علوها وتعليقها وتأثيرها في الأرض، وحياة النبات والحيوان، ولينظر إلى النار كيف تؤثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 في الجسم البعيد، مع أن الارتباط الذى بين الروح والبدن اقوى واتم. وتتمة الأقوال، وبسط الأحوال لأهل البرزخ من نعيم واهوال - طور عظيم وحال يجب له التسليم. وقد فصل في الكتب المخصوصة، وأثبت بادلائل المنصوصة. وهذا آخر ما تلخص من اجوبة المانعين، وتحصل من كلام المدققين، فاصح سمعك لمناديه، ولا يحملنك الهوى فتعاديه. ولابد لك من ان تجول بجوار ذهنك في ميدان الكلامين، وتلج في لج البحرين، لتكرع من الأصفى الأعذب، وتعتقد حباص عقيدتك على الأسلم والأصوب، وذلك مفوض إليك، والسلام علينا وعليك، أدخلنا الله تعالى وإياك تحت شفاعة الشافعين، ولا سيما شفاعة نبينا سيد المرسلين، عليه وعلى آله وصحبه افضل صلاة المصلين، وازكى سلام المسلمين، والحمد لله رب العالمين. [مذهب ابن تيمية في التوسل] تتمه ولنذكر شيئاً من كلام الشيخ ابن تيمية ليستدل به على مرامه، وطويته في اعتصامه فاقول: قال في كتاب الاستغاثة في الرد على ابن السبكي ما نصه: وأما قول القائل: إن المتوسل إنما هو سائل لله تعالى، راج له، عالم أن النفع والضر بيده لا شريك له، وإنما توسل إليه بمن يحبه الله تعالى لشرف منزلته عنده، ليكون أقرب إلى الإجابة، وحصول المراد: كطلب الدعاء من الرجل الصالح فيقال: توسل العبد إلى الله تعالى بما يحب، لفظ مجمل، فغن اريد بما يحب الله تعالى أن يتوسل به إليه فهذا حق، والله تعالى يحب ان يتوسل إليه بالإيمان والعمل الصالح، والصلاة والسلام على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ومحبته وطاعته وموالاته. فهذه ونحوها هي من الأمور التى يحب الله تعالى أن يتوسل بها إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 وإن اريد أنه يتوسل إليه بما يحب ذاته، وإن لم يكن هناك ما يحب الله تعالى أن يتوسل به، فهذا باطل عقلاً وشرعاً. أما عقلاً فلأنه ليس في كون الشخص المعين محبوباً له ما يوجب كون حاجتى تقضى بالتوسل بذاته: إذا لم يكن منى ولا منه سبب تقضى به حاجتى، فإن كان منه دعاء لى، أو كان منه إيمان به وطاعة له، فلا ريب أن هذه وسيلة. واما نفس ذاته المحبوبة لله تعالى، فأى وسيلة لي فيها إذا لم يحصل لي السبب الذى أمرت به فيها، ولهذا لو توسل به من كفر به لم ينفعه، والمؤمن به ينفعه الإيمان به، وهو أعظم الوسائل. فتبين أن الوسيلة بين العباد وبين ربهم عز وجل الإيمان بالرسل وطاعتهم. وقول القائل للرجل: أدع لى: توسل بدعاء الصالحين، وهو من جملة الأسباب النافعة كشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. واما المشروع فيقال: إن العبادات مبناها على الاتباع لا الابتداع، وليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله. ألا ترى أنه ليس لأحد أن يصلى إلى قبره عليه لصلاة والسلام، ويقول هو احق بالصلاة إليه من الكعبة! وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح أنه قال: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) ومن لم يعتصم بالكتاب والسنة ضل وأضل. وليس في قوة أحد أن يفهم أسرار العبادات ومنافعها، ومضار ما ينهى عنه من ذلك. فعليه أن يسلم للشريعة، ويعلم أنها جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. وإذا رأى من العبادات التي يظنها حسنة ونافعة ما ليس بمشروع، علم أن ذلك لضرر فيها راجح على نفعها، ومفسدة راجحة على مصلحتها. إذ الشارع حكيم، لا يهمل المصالح. فإن قال: أنا إذا توسلت بذاته إنما توسلت بعملي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 المعلق به، وذلك أنه لحبى له، وتعظيمي إياه توسلت به. وهذا مما يحبه الله تعالى مني. قيل: حبك وتعظيمك له الذي هو من الإيمان به، وهو يدعوك إلى زيادة الإيمان به وطاعته، وهو الذي يحبه الله تعالى منك. وأما حبك وتعظيمك الذي لا نقصد به إلا قضاء حاجتك الدنيوية - فهذا لا يحبه الله تعالى منك. فإذا كان الداعي لم يؤمن به ولم يطعه، بل سأل الله تعالى به وتوسل به، وأحبه وعظمه ليقضي حاجته بالتوسل به؛ لم يكن ذلك مما يحبه الله عز وجل بالضرورة. ولم يأمر الله تعالى بذلك، بل لم يأمر الله تعالى إلا بالإيمان به والطاعة، وهذا إذا حصل كان أعظم الوسائل للعبد عند الله عز وجل. وإن لم يحصل فلا وسيلة للعبد عند الله تعالى. وقد بسط الكلام في غير هذا الموضع في حقيقة الدعاء. وما فيه من مشروع وغير مشروع، وأن من الدعاء ما يحصل به مقصود العهد أو بعض مقصوده،ويكون وبالا عليه، لأن ضرر ذلك أعظم من نفعه، كما قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخيفة إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف 55] . وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء)) وأعرف من يستغيث برجال أحياء، فتصور له صورهم تدفع عنه ما كان يحذر. ويحصل له ما كان يطلب، وأولئك الأحياء لا شعور لهم بذلك، وإنما هي شياطين تمثلت لتضل ذلك الداعي، كما كانت الإنس تستعيذ بالجن، فكانت رؤساء الجن تعيذهم من سفهائهم باستعاذة الإنس، قال الله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} [الجن 6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 والذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب ويعبدونها، تتنزل عليهم أرواح من الشياطين، وتقضى لهم كثيراً من الحاجات، ويسمونها روحانية ذلك الكواكب، وهو شيطان ينزل عليهم من يطير بصاحبه في الهواء، وينقله إلى بيت المقدس، ويدخل به النار فيمنعه حرها، إلى أمور كثيرة. فالسعادة والنجاة في الأعتصام بالكتاب والسنة، وأتباع ما شرع والدعاء من أجل العبادات، فينبغي للإنسان أن يلتزم الأدعية الشرعية، كما يتحرى في سائر عباداته الصورة الشرعية، فإن هذا هو الطريق المستقيم. وأما قوله: إنه يجوز الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو بغيره من الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث الله عز وجل فيه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله تعالى - فهذا قول لم يقله قبله أحد من علماء المسلمين، ولا من الصحابة والتابعين ولا غيرهم. وقائل هذه العبارة إما مفتر على الدين، أو مفتر على اللغة، مبلس على المسلمين. بل إطلاق القائل القول: بأنه يستغاث بالنبي أو الصالح أو غيرهما في كل ما يستغاث الله فيه - لا يفهم الناس في اللغة التى يعرفونها إلا ما هو كفر صريح. وقوله: على معنى أنه وسيلة من وسائل الله تعالى - لا يخرج مدلول هذا اللفظ في اللغة المعروفة عن أن يكون كفراً، فإن الاستغاثة بالشخص طلب الغوث منه. وقد قال هو: إن معنى الإستغاثة دائر على طلب الإغاثة، والتخليص من الكربة والشدة، سواء كان طلب ذلك من الخالق أو المخلوق. وإذا كان كذلك فهذا القول يقتضى أن يطلب من المخلوق كل ما يطلب من الخالق من الإستغاثة من المخلوق الحي أو الميت إزالة الأمراض والأسقام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 وكشف الجدب والقحط بإنزال المطر، وإسقاط الأنام، وكشف ضرر الكفار بأن ينصر عليهم المؤمنين الأبرار، بل ونطلب كشف شدة المعاصي بالمغفرة للمذنب العاصي. وبالجملة، فإذا كانت الإستغاثة طلب الإغاثة والتخليص من الكربة والشدة، سواء كان طلب ذلك من المخلوق أو من الخالق، وقد جوز الاستغاثة بمخلوق في كل ما يستغاث الله تعالى فيه - فقد لزم أن يطلب من هذا المخلوق كل ما يطلب من الله عز وجل. وإن قيل: إنه على معنى الوسيلة، فهذا لا ينجيه. فإنه من جوز أن يطلب من المخلوق كل ما يطلب من الله تعالى فهو كافر بإجماع المسلمين، بل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى لا يجوز طلبه من المخلوق اصلاً بإجماع المسلمين. ومن طلب من المخلوق غفران الذنوب وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات، والنصر على الأعداء في الدين - فهو كافر برب العالمين، ,قد قال تعالى: {قل أدعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً - إلى قوله تعالى - إن عذاب ربك كان محذوراً} [الأسراء 57] . قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة، فبين الله تعالى لهم: أن هؤلاء عبادى كما أنتم عبادى، يرجون رحمتى كما ترجون رحمتى، ويخافون عذابي، ,يتقربون إلى كما تتقربون إلى. وقد أخبر سبحانه عنهم: أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله عنهم، وهذا هو الإعاثة، كما قال لخاتم الرسل: {قل إنى لا أملك لكم ضراً ولا رشداً} . وقال سبحانه: {قل لا أملك لنفسى نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 [الأعراف 188] فمن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ماشاء الله يمتنع أن يملك ذلك لغيره. فإذا جوز هذا أن يطلب من المخلوق ما يطلب من الخالق سبحانه جاز أن يدعى أن الملائكة والأنبياء، والذين كانوا يدعونهم لم يطلبوا منهم ذلك إلا على أنهم وسيلة، لم يطلبوه لآعتقادهم أن ثم خالقاُ غير الله، فإن المشركين عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله هو الذى خلق السماوات والأرض كما أخبر عنهم بذلك في غير آية، كقوله سبحانه: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [الزمر 38] . وقوله تعالى: {قل لمن الرض ومن فيها إن كنتم تعلمون. سيقولون ذرة في السماوات ولا في الأرض، وما لهم فيها من شرك، وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ 23] . فبين سبحانه أن المدعو من دونه ليس له في ملك السماوات والأرض مثقال ذرة، ولا هو شريك في الملك، وأنه ليس ظهيراً لله، فإن الله سبحانه ليس له ظهير، ولا يحتاج إلى معين، أو مشير أو وزير أو غير ذلك، بل هو تعالى وحده خلق السماوات والأرض وما بينهما، لا يشركه في ذلك أحد، ولا يحتاج في شئ من ذلك إلى غيره، وما خلقه بأسباب فهو خلق الأسباب، والجميع فقراء إليه، وهو غني عن الجميع، ولهذا قال سبحانه: {أليس الله بكاف عبده} [الزمر 36] . فهو سبحانه يكفى عبده، ولا يحتاج العبد في كفاية الله تعالى إلى غيره. ثم قال: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} [سبأ 23] . كما قال سبحانه: {من ذا الذى يشفع عنده إلا بأذنه} [البقرة 255] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وقال في الملائكة: {ولا يشفعون إلا لمن أرتضى} [الأنبياء 28] . وامثال ذلك مما يبين فيه ان الشفاعة لابد فيها من إذن الشافع، فلم يثبت لما يدعى من دونه من الوسائط والوسائل - الملائكة والأنبياء وغيرهم أثراً في شئ من الأشياء إلا الشفاعة. فبين أنها لا تكون إلا بعد إذنه. ثم إذا جاز أن يقول الضال: إنه يطلب من مخلوق كل ما يطلب من الخالق من كشف الشدائد، فكذلك يطلب منه ما يطلب من الخالق من إعطاء الفوائد فحينئذ يجوز أن يطلب من المخلوق كل ما يطلب من الخالق مطلقاً. وهذا الكفر شر من كفر عبدا الأصنام، فإن أولئك لم يكونوا يطلبون من الأوثان كل ما يطلبون من الرحمن، بل لهم مطالب لا يطلبونها إلا من الله، كما قال تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون} [الأنعام 40، 41] . فبين أنه إذا جاء عذاب الله أو أتت الساعة لا يدعون إلا الله فلا يطلبون كشف الشدائد، وإنزال الفوائد إلا منه. فمن جوز طلب ذلك من المخلوق كان أضل من هؤلاء المشركين، وقد قال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} [الإسراء 67] . وقال عليه الصلاة والسلام لابن عباس: ((إذا سألت فأسأل الله، وإذا أستعنت فاستعن بالله ... ... ... )) الحديث. وقول القائل: لكونهم أسباباً ووسائل - فكلام مجمل. فإن أراد أنهم وسائط، والداعي يزعم أنهم شفعاء، فالآيات متضافرة على منعه. وإن أراد أن الداعي لا يطلب منهم، ولكن يطلب من الله تعالى بحرمتهم وجاههم فهذا لا يسمى استغاثة بالمسئول به. ومازلت أبحث عن هذه المسالة واكشف ما أمكننى من كلام السلف والأئمة والعلماء - هل يجوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل أحد منهم ذلك؟ فما وجدته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 ووقفت على فتياً للفقيه أبي محمد عبد السلام. أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما بالنبي عليه الصلاة والسلام فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك. وذكر القدورى في شرح الكرخي عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى. وفي بعض مناسك الحج المنقولة عن الإمام أحمد: أنه يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به. وبالجملة لو تكليم في مسألة التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره في الدعاء لكان كلامه فيها من جنس كلام العلماء، فإنها تحتاج إلى أدلة شرعية من جانب النفي والإثبات لعدم ظهور الحكم فيها. وأما الاستغاثة بالمخلوق بأن يطلب منه كل ما يطلب من الخالق، أو بأن يطلب من الغائب أو الميت ما يطلب من الحي الحاضر - فهذا ليس مما يخفى على عموم المؤمنين فضلاً عن علمائهم، وإن وقع في كثير من ذلك من وقع من العامة ونحوهم ممن فيه زهد وصلاح دين. فهؤلاء وامثالهم حقهم أن يرجعوا إلى العلم الموروث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويكون علمهم، عبادتهم مقيداً بالشريعة النبوية والعلم الموروث، لا يعبدونه سبحانه بما يخطر لهم من الأهواء والآراء. قال عمر بن عبد العزيز: من عبد الله تعالى بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. قال ابن مسعود وأبي كعب: اقتصاد في سنة: خير من اجتهاد في بدعة، وقد قال تعالى: {أم لهم شركاء، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} ، وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 [لا يعبد الله إلا بما شرع] وقد اتفق المسلمون على أنه ليس لأحد أن يعبد الله تعالى بما سنح له وأحبه، بل لا يعبده إلا بما كان عبادة لله عند الله تعالى، وهو العبادات الشرعية، فكل ما لم تثبت الأدلة الشرعية له عبادة لم يحكم بأنه عبادة. ودين الإسلام مبنى على اصلين: أحدهما: ألا نعبد إلا الله، والثاني: أن نعبده بما شرع ولا نعبده بالبدع، كما قال الفضيلي بن عياض في قوله تعالى: {ليبلونكم أيكم أحسن عملا} قال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا ابا على: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل. وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، فالخالص أن يكون لله، الصواب أن يكون على السنة. وبالجملة فقول القائل: يستغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. والصالح في كل ما يستغاث الله عز وجل فيه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله تعالى، كلام مجمل متشابه. وهؤلاء الجهلة يطلقون مثل هذا الكلام، ولا يميزون بين معانيه من اللغة، ولا بين ما شرع من ذلك، وما لا يشرع، ولكن الأقسام الواقعة في مثل هذا إذا اسغاثت به على نعنى التوسل به والاستغاثة بطلب تفريج الكربة، فإما أن يسأله نفس تفريج الكربة، وإما أن يسأل الله تعالى تفريج الكربة.، وإما أن يستشفع به فيسأل الله تعالى شفاعته، ويسأله أن يسأل الله سبحانه. وإما أن يسال الله تعالى به، ولا يسأله شيئاً. وأما أن يسأله فعل الله عز وجل مثل ما كانت الأمم تسأل الأنبياء الآيات وهو في الحقيقة سؤال لهم أن يسألوا الله تعالى. أو سؤال له تعالى أن يفعل لأجلهم، أو مركباً من الأمرين. فالسائل المستغيث بشئ على معنى التوسل به لابد أن يكون من أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 هذه الأقسام. ووجه التقسيم: أنه إما أن يسأل الله تعالى فقط، أو يسأل المخلوق فقط، أو يسألهما جميعاً، أ, يسأل سؤالاً مطلقاً، ولا يعين فيه المسئول. فأما الأول: فمثل أن يقول: اللهم إني أسألك بفلان. واما الثاني: فقد يسأله الله تعالى، وقد يسأله الفعل، كقول الأمم لكل نبي: اشفع لنا إلى ربك، وقول الأعرابي: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فأدع الله أن يغيثنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: ((اللهم أغثنا، اللهم اغثنا)) . وأما سؤاله الفعل، فمثل قول موسى عليه السلام. أرنا الله جهرة، وقول القائل: أسألك قضاء ديني، وأسألك نصرى على غيرى، فيطلب منه قضاء حاجته ولا يعين في دعائه أن يسأل الله تعالى أو لا يسأل. والثالث: مثل أن يقول: اللهم أني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة - يا محمد يا رسول الله إنى أتوجه بك إلى ربي في حاجتى ليقضيها اللهم فشفعه في. وأما الرابع: وهو السؤال المطلق، فمثل قول الحواريين: نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ومثل قول القائل: أنا أطلب قضاء دينى وانتصارى على عدوى، ولا يعين هل هو سؤال الله عز وجل فقط بجاه الشخص مثلاً، أو سؤاله الشخص أن يسأل، وأن يكون مطلوبه، أو السؤال لهما، أو السؤال لله بدعائه، أو السؤال له أن يدعو، أو أن يكون هذا الفعل. فهذه خمسة أقسام بل ستة كلها تدخل في قوله: يستغاث بالنبي والصالح في كل ما يستغاث الله تعالى فيه، على معنى أنه وسيلة من وسائل الله تعالى. واللفظ يعم الاستغاثة في كل حال، وفي حال حياته ومشهده، وفي حال مغيبه ومماته، و - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: ولفظ التوسل والتوجه يراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 به أن يتوسل إلى الله عز وجل، ويتوجه إليه بدعائهم وشفاعتهم - فهذا هو الذى جاء في ألفاظ السلف من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، كما في صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبيك عليه الصلاة والسلام فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. فهذا إخبار من عمر - رضي الله عنه - عما كانوا يفعلونه، وتوسل منهم بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك معاوية لما أستسقى بأهل الشام توسل بيزيد بن الأسود الجرشى، فقال معاوية - رضي الله عنه - عنه: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد ابن الأسود الجرشى. يا يزيد، أرفع يديك إلى الله تعالى فرفع يديه ورفع الناس. فهذا توسل منهم بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وسؤاله وشفاعته، ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس ودعاء يزيد بن الأسود. وهذا هو الذى ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء قالوا: يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أفضل. ومن هذا الباب ما في صحيح البخارى عن ابن عمر - رضي الله عنه - عنهما قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيستسقى، فما ينزل حتى يجيش الميزاب: [طويل] وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل ومن هذا الباب حديث الأعمى - فإنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أدع الله تعالى أن يعافيني. فقال: ((إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك)) قال: أدع الله تعالى، فإمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء. ((اللهم إنى اسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 يا محمد، إنى توجهت بك إلى ربي في حاجتى هذه لتقضى. اللهم فشفعه في)) فهذا أمره أن يطلب من الله تعالى أن يشفع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإنما يكون طلباً لتشفيعه فيه إذا تشفع فيه فدعا الله تعالى له، وكذلك في أول الحديث أنه طالب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له، فدل الحديث على ان النبي - صلى الله عليه وسلم - شفع له ودعا له، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره هو ان يدعو الله سبحانه، وأن يسأله قبول شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه. فهذا نظير توسلهم به في الاستسقاء حيث طلبوا منه أن يدعو الله عز وجل لهم، وهم دعوا الله تعالى أيضاً. وقوله يا محمد، إنى أتوجه بك إلى ربي في حاجتى هذه لتقضى. خطاب لحاضر في قلبه، كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وكما يستحضر الإنسان من يحبه أو يبغضه في قلبه ويخاطبه - وهذا كثير. فهذا كله يعين أن معنى التوسل به والتوجه به وبالعباس وغيرهما في كلامهم، هو التوسل والتوجه بالدعاء. وهذا مشروع بالاتفاق لا ريب فيه. ومن التوسل به أيضاً: التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته، وموالاته واتباع سنته، ونحو ذلك من اعمال البر المتعلقة به، فهذا أعظم القرب والوسائل إلى الله تعالى. فإن التوسل هو التوصل والتقرب، وما تقرب أحد إلى الله عز وجل بأعظم من طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل لا يتقرب إليه إلا بدلك، فمن عمل عملاً ليس عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود إلا بذلك، فمن عمل عملاً ليس عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود - إلى أن قال -: [نوعا الشفاعة] فالشفاعة نوعان: أحدهما - الشفاعة التى نفاها القرآن كالتى أثبتها المشركون ومن ضاهاهم من جهال الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 والثاني - أ، يشفع الشفيع بإذن الله تعالى، وهي التى اثبتها الله سبحانه، ,لهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتى ويسجد، قال عليه الصلاة والسلام: ((فأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن. فيقال: أى محمد، أرفع راسك، ,قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع)) فإذا أذن له في الشفاعة شفع - صلى الله عليه وسلم -. قال أهل هذا القول: ولا يلزم من جواز التوسل والاستشفاع به بحضرته بمعنى أن يكون هو داعياً للمتوسل به أن يشرع ذلك في مغيبه وبعد وفاته - أرواحنا له الفداء - صلى الله عليه وسلم - مع أنه هو لم يدع للمتوسل به، أو المتوسل أقسم به، أو سأل بذاته، كما أن الصحابة - رضي الله عنه - قد فرقوا بين الأمرين، كما تقدم. وذلك لأنه في حياته هو يدعو الله تعالى لمن توسل به ودعاؤه عليه السلام افضل دعاء مخلوق لمخلوق، فكيف يقاس هذا بمن لم يدع له الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يشفع له؟ ومن سوى بين ما دعا له الرسول وبين من لم يدع له، وجعل هذا المتوسل كهذا المتوسل فهو مخطئ. وأيضاً فإنه ليس في طلب الدعاء منه والتوسل بدعائه إلا الخير. وليس في ذلك محذور، فإن أحداً من الأنبياء عليهم السلام لم يعبد في حياته بحضوره، فإنه ينهى من يعبده ويشرك به. ولو كان شركاً أصغر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقل ما شاء الله وشاء محمد)) . الحديث. وأما بعد موته عليه السلام فيخاف الفتنة والإشراك به كما أشرك بالمسيح وعزيز وغيرهما، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) . أخرجه البخارى. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان: ألا نعبده إلا الله، وألا نعبده إلا بما شرع، ولا نعبده بالبدع. وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: {ليبلوكم ايكم أحسن عملاً} [الملك 2] . قال الفضيل: أخلصه واصوبه. وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} الشورى} [الشورى 21] ولهذا قال الفقهاء: والعبادات مبناها على التوقيف،: ما في الصحيحين عن عمر - رضي الله عنه - أنه قبل الحجر الأسود، وقال: والله، إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. والله سبحانه أمرنا باتباع رسوله عليه الصلاة والسلام، وطاعته ومحبته وضمن لنا بطاعته ومحبته محبة الله تعالى وكرامته، فقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران 31] الآية. وقال: {وإن تطيعوه وتهتدوا} وأمثال ذلك في القرآن كثير. ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا الباب عما مضت به السنة، ودل عليه الكتاب، وكان عليه سلف الأمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عنه فلا يقف ما ليس به علم، ولا يقول على الله ما لا يعلم، فإن الله عز وجل قد حرم ذلك كله، وقد جاء في الحديث ذكر ما يسأل الله تعالى به، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إنى اسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم)) رواه أبو داود وغيره. وفي لفظ: ((اللهم إني اسألك بأنى اشهد أن لا إله إلا أنت، الحد الصمد، الذى لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 [هل تنعقد اليمين بغير الله] وكذلك لا يستعاذ بالمخلوق، بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته، ولهذا احتج السلف كأحمد وغيره على أن كلام الله تعالى غير مخلوق فيما احتجوا به يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أعوذ بكلمات الله التامات)) قالوا: فقد استعاذ بها ولا يستعاذ بمخلوق. وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً)) فنهى عن الرقى فيها شرك، كالتى فيها الاستغاثة بالجن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والإقسام التى يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره التى تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل ما لا يعرف معناه خشية أن يكون فيه شرك، بخلاف ما كان من الرقى المشروعة فإنه جائز. فإذا كان لا جوز لأحد أن يقسم قسماً مطلقاً ولا قسماً على غيره إلا بالله ولا يستعيذ غلا بالله عز وجل. فالسائل بغير الله إما أن يكون مقسماً عليه، وإما أن يكون طالباً بذلك السبب، كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم، وكما نتوسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين. فإن كان ذلك إقساماً على الله تعالى بغيره فهذا لا يجوز، وإن كان سؤالاً بسبب يقتضى حصول المطلوب كالسؤال بالأعمال الصالحة مثل السؤال بالإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحبته موالاته فهذا جائز، إن كان سؤالاً بمجرد ذوات الأنبياء والصالحين فهذا غير مشروع، وقد نهى عنه غير واحد من العلماء، وقالوا: إنه لا يجوز. ورخص فيه بعضهم. والأول أرجح كما تقدم. وهو سؤال بسبب لا يقتضى حصول المطلوب، بخلاف من كان طالباً بالسبب المقتضى لحصول المطلوب، كالمطلب منه سبحانه بدعاء الصالحين وبالأعمال الصالحة فهذا جائز، لأن دعاء الصالحين سبب حصول مطلبنا الذى دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا. فإذا توسلنا بدعائهم وبأعمالنا كنا متوسلين إليه تعالى بوسيلة، قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا غليه الوسيلة} [المائدة 35] . والوسيلة: هي الأعمال الصالحة. وقال سبحانه: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} وأما لم نتوسل إليه تعالى بدعائهم ولا بأعمالنا ولكن توسلنا بنفس ذواتهم، لم يكن في نفس ذواتهم سبب يقتضى إجابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 دعائنا فكنا متوسلين بغير وسيلة. ولهذا لم يكن هذا منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلاً صحيحاً ولا مشهوراً عن السلف. وقد نقل في منسك المرزوى عن الإمام أحمد دعاء فيه السؤال بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز القسم به. وأكثر العلماء على النهي. وأما أن لهم الجاه فهو لا ريب فيه، إذ لهم الجاه العظيم عند الله تعالى وكذا لهم الشفاعة. وأما الإقسام على الله تعالى بالمخلوقين فلا يجوز، ولا يجوز أن يقسم بمخلوق أصلاً. [الوسيلة الجائزة والممنوعة] وأما التوسل إليه سبحانه بشفاعة الشفعاء المأذون لهم في الشفاعة فجائز. والأعمى كان قد طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء. وقوله: ((أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة)) أى بدعائه وشفاعته لي عليه الصلاة والسلام. ولهذا في تمام الحديث: ((اللهم فشفعه في)) فالذى في الحديث متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه، وقد قال الله تعالى: {واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام} فعلى قراءة الجمهور إنما يتساءلون به وحده لا بالرحم، وتساؤلهم بالله عز شأنه، هو كما قال المفسرون يتضمن تعاهدهم بالله تعالى وتعاقدهم به سبحانه. وليس كل سائل بالله مقسماً، فإنه لو أقسم شخص بالله ليفعلن كذا ولم يفعله لزم الحالف كفارة، ولو سأله بالله فلم يعطه لم تجب على السائل كفارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 وأما على قراءة الخفض فقد قال طائفة من السلف هو قولهم: أسألك بالله وبالرحم. وهذا إخبار عن سؤالها بالرحم. وقد يقال إنه ليس بدليل على جوازه، فإن كان دليلاً على جوازه فمعنى قولك: أسأل بالرحم، ليس إقساماً بالرحم، والقسم هنا لا يسوغ لكن بسبب الرحم، أى أن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً، فيكون سؤاله بالرحم كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة، وكسؤالنا بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته. ومن هذا الباب ما روى عن على بن ابي طالب كرم الله تعالى وجهه ان أبن أخيه عبد الله بن جعفر كان إذا ساله بحق جعفر أعطاه. وليس هذا من باب الإقسام فإن الإقسام بغيرجعفر أعظم، بل ههنا باء السبب، فحقه من باب حق الرحم، لأن حق عبد الله إنما وجب بسبب أبيه جعفر وحقه على علي - رضي الله عنه -. ومن هذا الباب الحديث الذى رواه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وابن ماجه مرفوعاً في دعاء الحارج إلى الصلاة: ((اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك ... ... .)) الحديث. وهذا الحديث في إسناده العوفى وفيه ضعف. فإن كان كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو من هذا الباب لوجهين: أحدهما - لأن فيه السؤال بحق السائلين، وبحق الماشين في طاعته. وحق السائلين أن يجيبهم، وحق الماشين أن يثبتهم. وهذا حق أوجبه هو سبحانه على نفسه، وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق سبحانه شيئاً، ومنه قوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} ، {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} ، {وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن} وفي الصحيح: ((حق الله تعالى على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله تعالى إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 وفي الصحيح: ((يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسي)) . وإذا كان حق السائلين له هو الإجابة والإثابة فذلك سؤال له بأفعاله، كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم أنى أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك)) فالاستعاذة بمعافاته التى هي فعله كالسؤال بإثباته التى هي فعله. الوجه الثاني - أمن الدعاء له سبحانه والعمل له سبب لحصول مقصود العبد، فهو كالتوسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين من امته. وقد تقدم أن الدعاء بالنبي والصالح إما أن يكون إقساماً به، وإما أن يكون تسبباً. فإن كان قوله ((بحق السائلين عليك)) إقساماً فلا يقسم على الله تعالى إلا به، كما صرحت به الحنفية وغيرهم. وإن كان تسبباً فهو تسبب وليس في شئ من ذلك دعاء له بمخلوق من غير دعاء منه. وإذا قال القائل: أسألك بحق الملائكة، أو بحق الأنبياء، أو الصالحين، فإن كان يقسم بذلك فهو لا يجوز أن يقوله، ولا بقول لغيره ـ أقسمت عليك بحق هؤلاء، فإذا لم يجز له أن يحلف به، ولا يقسم على مخلوق به، فكيف يقسم على الخالق به، وإن كان لا يقسم به، وإنما كان لا يقسم به وإنما تسبب به، فليس بمجرد ذوات هؤلاء سبب يوجب تحصيل مقصوده، بل لابد من سبب منه كالإيمان بالملائكة والأنبياء عليهم السلام أو منهم كدعائهم، ولكن كثيراً من الناس تعووا ذلك كما تعودوا الحلف بهم، حتى يقو أحدهم: وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله. وغذا قال القائل مرادهم بقولهم: أسألك بحق فلان أو بجاهة، أو أسالك به، أى أسالك بإيماني به ومحبتى له له وهذا من أعظم الوسائل. قيل: من قصد هذا المعنى فهو معنى صحيح، لكن ليس هذا مقصود عام هؤلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 فمن قال: أسألك بإيماني بك وبرسولك - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك فقد أحسن في ذلك، كما قال تعالى في دعاء المؤمنين: {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا فأغفر لنا ذنوبنا} الآيات. وقال تعالى: {الذين يقولون ربنا إننا آمنا فأغفر لنا ذنوبنا} الآية. وكان ابن مسعود يقول: اللهم أمرتنى فأطعتك، ودعوتنى فأجبتك، وهذا سحر فأغفر لي. ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين اصابهم المطر فأووا إلى الغار، وأنطبقت عليهم الصخرة، ثم دعوا الله بأعمالهم الصالحة، فأنكشفت عنهم، وهو ثابت في الصحيحين. وروى في كتاب الحلية لأبي نعيم: أن داود عليه السلام قال: يارب، بحق أبائى عليك، إبراهيم وإسحق ويعقوب، فأوحى الله عز وجل إليه: يا داود وأى حق لآبائك علي؟ وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فالإسرائيليات يعتقد عليها. وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه سائر ما يقدر عليه، وأما المخلوق الغائب والميت فلا يطلب منه شئ. يحقق هذا الأمر: أن التوسل به والتوجه به لفظ إجمال واشتراك بحسب الإصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين بدعائه وشفاعته. ودعاؤه وشفاعته - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الوسائل عند الله عز وجل. وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم عليه سبحانه بذلك، والله تعالى لا يقسم عليه بشئ من المخلوقات، بل لا يقسم بها بحال. فلا يقال: أقسمت عليك يارب بملائكتك ولا بكعبتك، كما لا يجوز أن يقسم الإنسان بهذه الأشياء، بل إنما يقسم بالله تعالى وبأسمائه وصفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 ولهذا جاءت السنة أن يسأل الله تعالى باسمائه وصفاته، فيقال: أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان. إلى آخره. وكذلك قوله: ((اللهم إنى أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، بأسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة)) . مع أن هذا الدعاء الأخير في جواز الدعاء به قولان: فقد قال الشيخ أبو الحسن القدورى في كتابه بشرح الكرخي المعروف به والمشهود عنه في باب الكراهية: فصل قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة - رضي الله عنه -: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله تعالى إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك. وأبو يوسف لم يكره الأول. وقال: أكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام. قال القدورى: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. وقال البلدجى في شرح المختار: وبكره أن يدعو الله تعالى إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق: وهذا من أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وغيرهما، ويقتضى المنع أن يسأل الله تعالى بغيره ولا يقال: إن الرب سبحانه اقسم بمخلوقاته فلم لا يجوز أن نقسم بمخلوقاته، لأن قسمة سبحانه من باب مدحه وذكر آياته، بخلافنا ولو أقسمنا بغيره لأن الشارع منع من ذلك. وأما القسم على الله تعالى مثل أن يقول: أقسمت عليك يارب لتفعلن كذا فهو جائز، كما كان يفعل البراء بن مالك وغيره من السلف. فقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((رب أشعث أغبر ذى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)) وفي حديث الربيع: ((عن من عباد الله تعالى من لو أقسم على الله لابره)) وهذا من باب الحلف بالله سبحانه ليفعلن هذا الآمر. فهذا إقسام عليه تعالى به ليس إقساماً عليه بمخلوق. وقوله: إن الاستغاثة به بعد موته - صلى الله عليه وسلم - ثابتة ثبوتها في حياته، لأنه عند الله تعالى في مزيد دائم لا ينقص جاهه، وهذا لفظ صحيح لو كان معنى الإستغاثة الإقسام والتوسل بذاته، فإن ذاته المطهرة - صلى الله عليه وسلم - بعد الموت لم تنقص، بل هي في مزيد دائم - بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام - لكن هذه المقدمة غير صحيحة كما عرفت. وأما إذا كان معنى الاستغاثة هو الطلب منه، فما الدليل على أن الطلب منه ميتاً كالطلب منه حياً، وعلو درجته عليه الصلاة والسلام بعد الموت لا تقتضى أن يسأل كما لا يقتضى أن يستفتى. ولا يمكن أحداً أن يذكر دليلاً شرعياً على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين مشروع، بل الأدلة الدالة على تحريم ذلك كثيرة. وهو قد أحتج بحديث الأعمى، وهو لاحجة فيه، لأن الحديث ليس فيه استغاثة بل قد توجه بدعائه وشفاعته. فإنه طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون بدعائه عليه الصلاة والسلام في الاستسقاء، وكما توسلوا بدعاء العباس بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -: وأما اشتكاء البعير إليه فهذا كاشتكاء الآدمى، وما زال الناس يستغيثون به في حياته عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام، كما يستغيثون به يوم القيامة. وقد قلنا إنه إذا طلب منه ما يليق بمنصبه فهذا لا نزاع فيه. والطلب منه في حياته والاستغاثة به في حياته فيما يقدر عليه لم ينازع فيها أحد، ولكن لا يمكن أحداً أن يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 يستغيثوا بميت لا نبي ولا غيره، لا في جلب منفعة ولا دفع مضرة، لا بهذا اللفظ ولا معناه، بل لم يشرع لهم أن يدعوا ميتاً ولا يسألوه، ولا يدعوا إليه ولا أن يستجيروا به ولا يقول أحد لميت: أنا في حسبك، وأنا في جوارك، ولا أن يخطو إلى قبر الميت خطوات، لا ان يتوجه إلى قبر ويسأله، ولا شرع لأحد أن يقول للميت: سل الله تعالى لى، ولا أدع الله تعالى لى، ولا شرع لهم أن يشكوا إلى ميت فيقول أحدهم مشتكياً إليه: على دين، أو آذاني فلان، ونحو ذلك، سواء كان عند القبر أو بعيداً عنه، وسواء كان الميت نبياً أو غيره. ولا شرع لأمته إذا كان لأحدهم حاجة أن يقصد قبر نبي أو صالح فيدعو لنفسه ظاناً أن الدعاء عند قبره يجاب. بل ولا شرع لأمته - صلى الله عليه وسلم - أن يقسموا على مخلوق، ولا شرع لأمته أن يتوسلوا إلى الله تعالى بذات ميت أصلاً، بل بذات حي، إلا أن بكون التوسل بما أمر الله تعالى عز وجل به من الإيمان به وطاعته، أو بدعاء المتوسل به وشفاعته. فإذا كان النبي عليه السلام والصالح له عند الله تعالى الجاه العظيم والقدر - لم ينتفع المتوسل به إلا بأحد أمرين: إما أن يتوسل بما أمر الله تعالى به من الإيمان به ومحبته وطاعته ونحو ذلك، فهذه هي والوسيلة التى أمر الله تعالى بها في قوله عز من قائل: {اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} . فالوسيلة تجمعها طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام. والأمر الثاني: أن يدعو له الرسول. فهذه أيضاً وسيلة إلى الله تعالى فإن دعاءه وشفاعته عند الله تعالى من أعظم الوسائل. واما التوسل بالذات مع قطع النظر عما تقدم، فلم يرد عن الصحابة والتابعين. والصحابة كانوا يتوسلون بدعائه عليه الصلاة والسلام وشفاعته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 ولهذا يتوسلون بعده بالعباس - رضي الله عنه -، ولو كان المتوسل بذاته المقدسة ممكناً بعد الموت لم يعدلوا إلى العباس. والأعمى إنما توجه بدعائه، وكذلك الصحابة في الأستسقاء، وكذلك الناس يوم القيامة، كما ورد في حديث الشفاعة. وأما مجرد الذات بعد الممات فلا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف، بل المنقول عنهم يناقض ذلك. ونص غير واحد من العلماء أن هذا لا يجوز، وإن نقل عن بعضهم جوازه، فقد قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول} الآية - إلى أن قال: ونحن نعلم بالضرورة أن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم ولا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها. كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، ونعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذى حرمه الله تعالى ورسوله. لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه. ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن بها وقال: هذا أصل دين الإسلام. وكان بعض أكابر الشيوخ من اصحابنا يقول: هذه أعظم ما بينته لنا لعلمه بأن هذا أصل دين الإسلام، وكان هذا وأمثاله يدعون الأموات ويسألونهم، ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه أعظم لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعون دعاء المضطر راجين قضاء حاجاتهم بدعائه أو الدعاء به أو الدعاء عند قبره. بخلاف عبادتهم لله تعالى، فإنهم يفعلونها في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق الشام خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور، يرجون عندها كشف الضر. وقال بعض الشعراء: يا خائفين من التتر لو دوا بقبر أبي عمر أو قال: عوذوا بقبر أبي عمر ينجيكم من الضرر (1) فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لا نهزموا، كما أنهزم من المسلمين يوم أحد لما أراد الله سبحانه ذلك. ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذى أمر الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وما يحصل بذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الأخرة لمن عرف هذا. وإن كان كثير من المقاتلين الذين اعتقدوا هذا قتالاً شرعياً أخرجوا على نياتهم، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله تعالى والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا به، ولا يستغيثون بملك مقرب، ولا نبي مرسل. فلما اصلح الناس أمورهم، وصدقا في الاستغاثة بربهم عز وجل نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً لم يتقدم نظيره، ولا انهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك، لما صح من توحيد الله تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ما لم يكن قبل ذلك. فإن الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويقوم الأشهاد. انتهى باقتصار.   (1) هكذا ورد هذا الشطر. وصحه إنشاده: ينجيكم من ذا الضرر. بزيادة لفظ ((ذا)) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وقال من جملة كلام طويل في فتاويه ما نصه: الثاني - أن يقال الميت أو للغائب من الأنبياء - عليهم السلام - والصالحين: أدع الله تعالى لي أو نحوه، فهذا مما لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التى لم يفعلها أحد من سلف الأمة وائمتها، وإن كان السلام على أهل القبور جائزاً، ومخاطبتهم جائزة، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يعلم اصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) وقال ابن عبد البر: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه فيسلم عليه إلا رد الله عز وجل عليه روحه حتى يرد عليه السلام)) . وفي سنن أبي داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله تعالى علي روحي حتى ارد السلام)) لكن ليس من المشروع أن يطلب منهم شيئاً. وفي موطأ الإمام مالك: ((أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف)) وكذلك أنس بن مالك وغيره من الصحابة - رضي الله عنه - نقل عنهم السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى. لا يدعون وهم مستقبلو القبر المكرم، وإن كان قد وقع في ذلك بعض طوائف من الفقهاء والمتصوفة ومن العامة ومن لا اعتبار بهم. فإنه لم يذهب إلى ذلك إمام متبع في قوله، لا من له في الأمة لسان صدق، بل قد تنازع العلماء في السلام على النبي عليه افضل الصلاة والسلام، فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة، ويستدبر القبر الشريف. وقال مالك والشافعي: بل يستقبل القبر، وعند الدعاء يستقبل القبلة، ويجعل القبر المكرم عن يساره أو عن يمينه، وهو الصحيح إذ لا محذور في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 انتهى باقتصار. وإن أردت كمال الوقوف على أدلته وتفصيل مراميه فارجع إلى تصنيفاته، والله الهادي لصوب الصواب، وبه الاستعانة وإليه المآب. وقول الولي الواصل والعارف الكامل، سيدى الشيخ عند القادر الكيلاني قدس سره النوراني في كتابه (الغنيمة) ما نصه: وأقل ما في الرضا أن يقطع عما سوى الله عز وجل، وقد ذم الله تعالى الطمع في غيره عز وجل، فروى عن يحيى بن كثير أنه قال: قرأت التوراة فرأيت فيها ان الله سبحانه وتعالى يقول: ملعون من كان ثقته بمخلوق مثله. وروى في بعض الأخبار: ((أن الله عز وجل يقول: وعزتى وجلالي وجودى ومجدى، لأقطعن أمل كل مؤمل أمل غيرى باليأس، ولألبسه ثوب المذلة بين الناس، ولأبعدنه من قربي، ولأقطعنه من وصلى. أيؤمل في الشدائد غيرى؟ ويطرق بالفكر أبواب غيرى؟ وهي مغلقة ومفاتحها بيدى)) . وروى في خبر آخر: أن الله عز وجل يقول: ((ما من عبد يعتصم دون خلقى أعلم ذلك من قلبه ونيته فتكيده السماوات والأرض ومن فيهن إلا جعلت له من ذلك مخرجاً. وما من عبد يعتصم بمخلوق دونى غلا قطعت أسباب السماء من فوقه، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم أهلكه في الدنيا وأتعبه فيها)) . وروى عن بعض الصحابة، رضوان الله تعالى اجمعين أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من تعزز بالناس ذل)) ، وقيل: ((من اتكل على مخلوق مثله ذل)) ، فكفاه الطمع بما يناله من إطلاع قلبه، وتشتت همه وذله ومسكنته، فقد اجتمع عليه أمران: ذل في الدنيا، وبعد من الله عز وجل بلا إزدياد في رزقه ذرة واحدة. وقال بعضهم: لآ أعرف شيئاً أضر على المريدين والطالبين من الطمع، ولا أخرب لقلوبهم، ولا أذل لهم، ولا اظلم لقلوبهم، ولا ابعد لهم، ولا أشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 تشبيتاً لهممهم، إنما كان كذلك لأنه شرك أينما كانوا، لأن الرجل منهم أشرك بالله عز وجل؟ حيث طمع في مخلوق مثله، لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا عطاء ولا منعاً، فجعل ملك الملوك لمملوكه، فأنى يكون له ورع، فلا يتحقق ورعه حتى ينسب الأشياء إلى مالكها عز وجل، ولا يطلبها من غيره. وقيل: الطمع له اصل وفرع، فاصله الغفلة، وفرعه الرياء والسمعة والتزين والتصنع، وحب إقامة الجاه عند الناس، وعن بعضهم: طمعت يوماً مرة في شئ من أمر الدنيا، فهتف بي هاتف وهو يقول: يا هذا، إنه لا يحمد بالحر المريد إذا كان يجد عند الله تعالى كل ما يريد أن يركن بقلبه إلى العبيد، وأعلم أنه لا يخطر على قلب مريد شئ من الطمع ويساكنه غلا لأجل كمال البعد عن الله عز وجل، حيث طمع في مخلوق مثله، وهو يرى أن مولاه مطلع عليه ثم لم يحجزه من ذلك. أهـ. ونقل الوالد عليه الرحمة، قدس سره، أنه قال في ((فتوح الغيب)) ما نصه: من اراد السلامة في الدنيا والأخرة، فيعلمه بالصبر والرضا، وترك الشكوى إلى خلقه، وإنزال حوائجه بربه عز وجل، ولزوم طاعته،وانتظار الفرج منه سبحانه، والانقطاع إليه. فحرمانه عطاء، وعقوبته نعماء، وبلاؤه دواء، ووعده حال، وقوله فعل، وكل أفعاله حسنة، وحكمه ومصلحة، غير أنه طوى عز وجل علم المصالح عن عباده، وتفرد به، فليس إلا الاشتغال بالعبودية، وأداء الأوامر واجتناب النواهي، والتسليم في القدر، وترك الاشتغال بالربوبية، والسكون عن لم وكيف ومتى. وتسند هذه الجملة إلى حديث ابن عباس قال: بينما انا رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: ((يا غلام، أحفظ الله يحفظك، وأحفظ الله تجده أمامك، وإذا سالت فأسأل الله، وإذا أستعنت فاستعن بالله، وجف القلم بما هو كائن، ولو جهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 العباد ان ينفعوك بشئ لم يقضه الله تعالى لم يقدروا عليه. فإن استطعت ان تعمل لله تعالى بالصدق في اليقين فأعمل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً. وأعلم ان النصر مع الصبر، وان الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) . فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة قلبه، وشعاره ودثاره وحديثه، فيعمل به من جهة حركاته وسكناته، حتى يسلم في الدنيا والآخرة، ويجد العزة برحمة الله تعالى عز وجل. انتهى بحروفه. وقال الوالد أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وإذا ذكر الله وحده اشمازت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} ما منه: وقد راينا كثيراً من الناس على نحو هذه الصفة التى وصف الله تعالى بها المشركين: يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم، توافق هواهم واعتقادهم فيهم، ويعظمون من يحكى لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده، ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن فعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره. وقد قلت يوماً لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادى: يا فلان أغثنى، فقلت له: قل يا الله، فقد قال سبحانه: {وإذا سالك عبادى عني فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} فغضب، وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء. وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولى اسرع إجابة من الله عز وجل. وهذا من الكفر بمكان. نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 وقال أيضاً في باب الإشارات على قوله تعالى: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً} [الحج 73] الآية، وإشارة إلى ذم الغالين في اولياء الله تعالى، حيث يستغيثون بهم في الشدة، غافلين عن الله تعالى، وينذرون لهم النذر. والعقلاء منهم يقولون: إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ننذر لله عز وجل، ونجعل ثوابه للولى - ولا يخفى أنهم في دعواهم الولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. ودعواهم الثانية لا باس لها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم، أو رد غائبهم، او نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب. ويرشدك إلى ذلك أنه لو قيل: أنذروا لله تعالى، واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنه احوج من اولئك الأولياء لم يفعلوا، ورايت كثيراً منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعاً في قبورهم، لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم. والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة، وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف - قاتلهم الله تعالى ما أجهلهم، وأكثر افتراءهم! منهم من يزعم انهم يخرجون من القبور، يتشكلون باشكال مختلفة. وعلماؤهم يقولون: إنما تظهر أرواحهم مشكلة، وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة اسد، او غزال أو نحوه - وكل ذلك باطل لا اصل له في الكتاب والسنة، وكلام سلف الأمة. وقد افسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية - نسال الله تعالى العفو والعافية. أنتهى. وقال الشيخ ابن عربي (في الباب الثاني والستين بعد المائتين من الفتوحات ما نصه) : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: ((يا موسى، لا تجعل غيرى موضع حاجتك، وسلنى حتى الملح تلقيه في عجينك)) . هذا تعليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 من الله لنبيه موسى عليه السلام. ولقد رايته سبحانه وتعالى في النوم فقال لي: وكلنى في أمورك؟ فوكلته، فما رأيت إلا عصمة محضة، لله الحمد على ذلك، جعلنا الله تعالى من الفقراء إليه به. فإن الفقر إليه تعالى به هو عين الغني، لأنه الغنى وأنت به فقير، فأنت الغني به عن العالمين، فأعلم ذاك. والله تعالى الموفق. أنتهى. وقال أيضاً (في الباب الثامن والسبعين بعد المائة) : فما ابتلى الله تعالى عباده إلا ليلجأوا في رفع ذلك إليه، ولا يلجأوا في رفعه إلى غيره، فإن فعلوا ذلك كانوا من الصابرين. وفي روح المعاني للوالد نور الله تعالى ضريحه: روى أنس - رضي الله عنه - قال: أوحى الله تعالى إلى يوسف عليه السلام: ((من استنقذك من القتل حين هم إخوتك ان يقتلوك؟ قال: أنت يا رب. قال: فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه؟ قال: أنت يا رب. قال: فمن أستنقذك من المرآة التى همت بك؟ قال: أنت يا رب. قال: فما بالك نسيتنى، وذكرت آدمياً؟ قال: يارب، كلمة، تكلم بها لسانى! قال: وعزتى لأخدنك في السجن بضع سنين)) أنتهى. وقال في باب الإشارات عل قوله تعالى: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} - قال الحنيذ قدس سره: أمنعنى وبنى ان نرى لأنفسنا وسيلة إليك غير الافتقار. وقيل: كل ما وقف العارف عليه غير الحق سبحانه فهو صنمه. وجاء: النفس هي الصنم الأكبر. أنتهى. وقال الإمام ابو حامد الغزالي في شرحه للأسماء الحسنى ما نصه: الكريم هو الذى إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالى كم أعطى، ولا لمن اعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفا عاتب وما أستقصى، ولا يضيه من لاذ به والتجأ، ويغنيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 عن الوسائل والشفعاء، فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكلف فهو الكريم المطلق، وذلك الله تعالى فقط. انتهى. وقال أيضاً في كتابه الإحياء: قال جعفر الصادق - رضي الله عنه -: الصدق هو المجاهدة وألا تختر على الله غيره، كما لم يختر عليك غيرك، فقال تعالى: {هو اجتباكم} وقيل: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: ((إنى إذا أحببت عبداً ابلتيته بلايا لا تقوم لها الجبال، لأنظر كيف صدقه، فإن وجدته صابراً اتخذته ولياً وحبيباً، وإن وجدته جزعاص يشكونى إلى خلقى خذلته ولا أبالى)) . فإذا من علامات الصدق كتمان المصائب والطاعات جميعاً، وكراهة إطلاع الخلق عليها. وقال في باب التوكل: قال الله عز وجل: {ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} [الأنفال 49] أى عزيز من أستجار به، لا يضيع من لاذ بجانبه، وألتجأ إلى ذمامه وحماه لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره. وقال تعالى: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} [الأعراف 194] بين ان كل ما سوى الله عز وجل عبد مسخر، حاجته مثل حاجتكم فكيف يتوكل عليه؟ وقال تعالى: {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه} [العنكبوت 17] . وقال سبحانه وتعالى: {ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون} [المنافقون 7] . وقال تعالى: {يدبر الآمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه} [يونس 3] وكل ما في القرآن من التوحيد فهو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار، والتوكل على الواحد القهار. وروى أنه لما قال جبريل لإبراهيم عليه السلام وقد رمى إلى النار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 بالمنجنيق ((ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا)) وفاء بقوله {حسبى الله ونعم الوكيل} إذ قال ذلك حين أخذ ليرمى، فإنزل الله تعالى: {وإبراهيم الذى وفى} . وأوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام: ((يا داود، ما من عبد يعتصم بي دون خلقى فتكيده السماوات والأرض إلا جعلت له مخرجاً)) . وقرأ الخواص قوله تعالى: {وتوكل على الحي الذى لا يموت} الآية. فقال: ما ينبغي بعد هذه الآية للعبد أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى. أنتهى. وقال من كلام طويل: الثانية أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل في حق أمه، فإنه لا يعرف غيرها، ولا يفرغ إلى أحد سواها، ولا يعتمد إلا إياها، فإن رآها تعلق في كل حال بذيلها ولم يخلعها، وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى لسانه: يا أماه، وأول خاطر يخطر على قلبه أمه، فإنها مفرغة. فإنه قد وثق بكفايتها، وكفالتها وشققتها. أنتهى باقتصار. (قلت) : وقال جدنا الأكرم، وسيدنا الأعظم، زين العابدين وابن سيد الساجدين، على جده وعليه افضل الصلاة والسلام في دعائه: اللهم إنى أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلى عليك، وصرفت وجهي عمن يحتاج إلى رفدك، وقليت مسألتى ممن لم يستغن عن فضلك، ورأيت أن أطلب المحتاج إلى المحتاج سفه في رأيه وضلة من عقله. فكم قد رأيت يا إلهي من إناس طلبوا العز بغيرك فذلوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الانقطاع فاتضعوا. فانت يا مولاى دون كل مسئول موضع مسالتى، ودونكل مطلوب إليه وبه حاجتى، أنت المخصوص قبل كل مدعو بدعوتى، ولا يشركك أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 في رجائى،ولا يتفق أحد معك في دعائي ولا ينظمه، وإياك ندائى لك - إلى آخر ما قال. وقال أيضاً من بعض دعاء طويل: ويا من لا ينقطع عنه سؤال السائلين، ويا من حوائج المحتاجين عنده، ويا من لا يعيبه دعاء الداعين، تمدحت بالغنى عن خلقك، وأنت اهل الغنى عنهم، ونسبتهم إلى الفقر وهم أهل الفقر إليك، فمن حاول سد خلته، ورام صرف الفقر عن نفسه بك، فقد طلب حاجته في مظانها، وأتى طلبته من وجهها، ومن توجه إلى أحد من خلقك، أو جعله سبباً لنجحها دونك؟ فقد تعرض، واستحق من عندك فوت الإحسان. اللهم ولى إليك حاجة قد قصر عنها جهدى، وتقطعت دونها حيلتى وسولت لي نفسى رفعها إلى من يرفع حوائجه إليك، ولا يستغنى في طلباته عنك، وهي زلة من زلل الخاطئين، وعثرة من عثرات المذنبين. ثم انتهيت بتذكيرك لي في غفلتى ونهضت بتوفيقك من زلتى، ورجعت بتسديدك من عثرتى، وقلت: سبحان الله! كيف يسأل محتاج محتاجاً! وأنى يرغب معدم إلى معدم، وإلى آخر ما قال، عليه رضوان الملك المتعال. الخاتمة [في التوسط بين القولين، وهو عند المنصف قرة عين الفريقين] . فقد قال الوالد عليه الرحمة في تفسير قوله تعالى {يايها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة 35] ما نصه: واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 وجعلهم وسيلة بين الله تعالى، وبين العباد، والقسم على الله بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: فلان أدع الله تعالى ليرزقنى كذا، ويزعمون ان ذلك من باب ابتغاء الوسيلة. ويروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا أعيتكم الأمور، فعليكم باهل القبور، أو فاستغيثوا بأهل القبور)) . وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل. وتحقيق الكلام في هذا المقام: أن الاستغاثة بمخلوق، وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه، ولا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حياً، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب، بل قد يطلب الفاضل من المفضول، فقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر - رضي الله عنه - لما استأذنه في العمرة: ((لا تنسنا يا أخى من دعائك)) وأمره أيضاً أن يطلب من اويس القرني رحمه الله تعالى عليه ان يستغفر له. وأمر أمته - صلى الله عليه وسلم - بطلب الوسيلة له، وبأن يصلوا عليه. وأما إذا كان المطلوب منه ميتاً، أو غائباً فلا يسترتب عالم أنه غير جائز، وانه من البدع التى لم يفعلها أحد من السلف. نعم، السلام على أهل القبور مشروع، ومخاطبتهم جائزة، فقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لا حقون، يرحم الله تعالى المستقدمين منكم، والمستأخرين، نسال الله تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا اجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم)) . ولم يرو عن أحد من الصحابة - رضي الله عنه - وهم احرص الخلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 على كل خير - انه طلب من ميت شيئاً، بل قد صح عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يقول، إذا دخل الحجرة النبوية زائراً: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا ابا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ولا يزيد على ذلك. ولا يطلب من سيد العالمين - صلى الله عليه وسلم -، أو من ضجيعيه المكرمين - رضي الله عنه - شيئاً، وهم أكرم من ضمته البسيطة، وأرفع قدراً من سائر من احاطت به الفلاك المحيطة. نعم الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة، والروضة المعظمة، أمر مشروع، فقد كانت الصحابة - رضي الله عنه - تدعو الله هناك، مستقبلين القبلة، ولم يرد عنهم أستقبال القبر الشريف عند الدعاء مع أنه أفضل من العرش. واختلف الأئمة في استقباله عند السلام، ففي مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يستقبل، بل يستدبر، ويستقبل القبلة وقال بعضهم: يستقبل وقت السلام، ويستقبل القبلة، ويستدبر وقت الدعاء، والصحيح المعول عليه: أنه يستقبل وقت السلام، وعند الدعاء يستقبل القبلة، ويجعل القبر عن اليمين أو اليسار. فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة، وعلة الإيجاد على الحقيقة - صلى الله عليه وسلم -، فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه الصلاة والسلام ليزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد. واما القسم على الله تعالى باحد من خلقه مثل أن يقال: اللهم إنى أقسم عليك، أو أسألك إلا ما قضيت لى حاجتى - فعن العز بن عبد السلام جواز ذلك في النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه سيد ولد آدم، ولا يجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء، والملائكة، والأولياء، لأنهم ليسوا في درجته. وقد نقل ذلك عنه المناوى في شرحه الكبير للجامع الصغير. ودليله في ذلك ما رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه -: أن ردلاً ضرير البصر اتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أدع الله تعالى ان يعافيني. فقال: ((إن شئت دعوت وغن شئت صبرت فهو خير لك)) قال: فأدعه. فامر عليه الصلاة والسلام أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم أنى أسألك وأتوجه بنبيك نبي الرحمة، يا رسول الله، إنى توجهت بك إلى ربي في حاجتى لتقضى لى، اللهم فشفعه في. ونقل عن أحمد مثل ذلك. ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقاً، وهو الذى يرشح به كلام التقى ابن تيميه، ونقله عن الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام. وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاد، أى بدعاء، أو شفاعة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، ففيه جعل الدعاء وسيلة، وهو جائز بل مندوب. والدليل على هذا التقدير قوله في أخر الحديث: ((اللهم فشفعه في)) بل في أوله أيضاً ما يدل على ذلك. وقد شفع السبكى كما هو عادته على التقى فقال: ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيميه فأنكر ذلك، وعدل عن الصراط المستقيم، وابتدع ما لم يقله عالم، وصار بين الأنام مثل. أنتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن اهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة - صلى الله عليه وسلم -. ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف كما سمعت أو نحو ذلك، كما ستسمع إن شاء الله تعالى، ومن ادعى النص فعليه البيان. وما رواه أبو داود في سننه وغيره من ان رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا نستشفع بك إلى الله تعالى، ونستشفع بالله تعالى عليك، فسبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رؤى ذلك في وجوه أصحابه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ويحك! أتدرى ما الله تعالى؟ إن الله تعالى لا يشفع به على أحد من خلقه، شأن الله تعالى أعظم من ذلك)) لا يصلح دليلاً على ما نحن فيه، حيث أنكر عليه قوله: ((نستشفع بك على الله)) لأن معنى الاستشفاع به - صلى الله عليه وسلم - طلب الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله تعالى. ولو كان الإقسام معنى للاستشفاع فلم أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مضمون الجملة الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله دليلاً لمن أدعى جواز الإقسام بذاته - صلى الله عليه وسلم - حياً وميتاً. وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقاً، قياساً عليه، عليه الصلاة والسلام بجامع الكرامة، وإن تفاوتت قوة وضعفاً. وذلك لأن ما في الخبر الثاني أستشفاع لا إقسام، وما في الخبر الول ليس نصاً في محل النزاع. وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالجي والتوسل به، وتساوى حالتى حياته ووفاته - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 ففي صحيح البخارى عن أنس: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا اقحطوا استسقى بالعباس - رضي الله عنه -، قال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك - صلى الله عليه وسلم - فتسقيا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا، فيسقون. فإنه لو كان التوسل به علينا الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار جائزاً لما دعوا إلى غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك نبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس، إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون ادنى مساغ لذلك. فعدلهم هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ,بحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وما يشرع من الدعاء، وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق - دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره، وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه - صلى الله عليه وسلم - مع التفاوت في الكرامة، الذى لا ينكره إلا منافق مما لا يكاد يسلم. على أنك قد علمت إن الإقسام به - صلى الله عليه وسلم - على ربه عز شانه حياً وميتاً مما لم يقم النص عليه. لا يقال إن في خبر البخارى دلالة على صحة الإقسام به عليه الصلاة والسلام حياً، وكذا بغيره كذلك. أما الأول فلقول عمر - رضي الله عنه -: كنا نتوسل بنبيك - صلى الله عليه وسلم -. وأما الثاني فلقوله: إنا نتوسل بعم نبيك - لما قيل: إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام، بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاؤه وشفاعته. ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا. وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 ذكر التقي: ان لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه، فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح. فمعناه في لغة الصحابة - رضي الله عنه -: أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته وذلك مما لا محذور فيه. واما في لغة كثير من الناس فمعناه: أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه، وهذا هو محل النزاع، وقد علمت الكلام فيه. وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل: اللهم أسألك بجاه فلان، فإنه لم يرد عن احد من السلف أنه دعا كذلك. وقال: إنما يقسم به تعالى وباسمائه وصفاته، فيقال: ((أسالك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا ألله المنان، بديع السماوات والارض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك. ... ... ..)) الحديث. ونحو ذلك من الأدعية المأثورة. وما يذكره به بعض العامة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى فإن جاهي عند الله عظيم)) لم يروه أحد من أهل العلم، وهو شئ في كتب الحديث. وما رواه القشيرى عن معروف الكرخي قدس سره أنه قال لتلامذته: إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاقسموا عليه بي، فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله - الآن. لا يوجد له سند يعول عليه عند المحدثين. واما مارواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الخارج إلى الصلاة: ((اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، فإنى لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياء ولا سمعه، ولكن خرجت إتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، ان تنقذني من النار، وان تدخلني الجنة)) ففي سنده العوفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 وفيه ضعف. وعلى تقدير ان يكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال فيه: إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثبتهم، والحق بمعنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع، فضلا لا وجوباً، كما في قوله تعالى: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} . وفي الصحيح من حديث معاذ ((حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم)) . فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة، وهما من صفات الله تعالى الفعلية، والسؤال بها مما لا نزاع فيه، فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اعوذ برضاك من، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)) ، فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثباته وإجابته، وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم، على ان التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود. ولا شك ان الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها. والناس قد افرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى، فأقسموا عليه عز شانه بمن ليس في العير ولا في النفير، وليس عنده من الجاه قدر قطمير. واعظم من ذلك أنهم يطلبون من اصحاب القبور نحو شفاء المريض، وإغناء الفقير، ورد الضالة، وتيسير كل عسير. وتوحي إليهم شياطينهم خبر: إذا أعيتكم الأمور. إلخ. وهو حديث مفترى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإجماع العارفين بحديثه، بم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شئ من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -: عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن على ذلك، فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة، والطلب من اصحابها! سبحانك هذا بهتان عظيم. وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره، أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 كاستغاثة المسجون بالمسجون. ومن كلام السجاد - رضي الله عنه -: أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رايه، وضلة في عقله. ومن دعاء موسى عليه السلام: ((وبك المستغاث)) وقال - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله عنه -: ((إذا أستعنت فاستعن بالله ... )) الخبر. وقال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} . وبعد هذا كله، أن لا أرى باساً في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الله حياً وميتاً. ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته. فيكون معنى قول القائل: إلهى أتوسل بجاه نبيك - صلى الله عليه وسلم -، أن تقضى لى حاجتى - إلهى أجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتى. ولا فرق بين هذا وقولك: إلهى أتوسل برحمتك أن تفعل كذا، إذ معناه أيضاً إلهى اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا. بل لا أرى باساً أيضاً بالإقسام على الله بجاهه - صلى الله عليه وسلم - بهذه المعنى. والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجرى ذلك في التوسل، والإقسام بالذات البحت. نعم، لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن احد من الصحابة - رضي الله عنه -، ولعل ذلك كان تحاشياً منهم عما يخشى أن يتعلق به في اذهان الناس إذ ذاك، وهم قريبو عهد التوسل بالأصنام - شئ ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين. وقد ترك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدم الكعبة وتاسيسها على قواعد إبراهيم، لكون القوم حديثى عهد بكفر، كما ثبت ذلك في الصحيح. وهذا الذى ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس، والفرار من دعوى تضليلهم، كما يزعمه البعض في التوسل بجاه عريض الجاه - صلى الله عليه وسلم -، لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من أستعمال الأدعية المأثورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 التى جاء بها الكتاب ومدحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في ان ما علمه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودرج عليه الصحابة الكرام - رضي الله عنه -، وتلقاه من بعدهم بالقبول - أفضل واجمع وانفع واسلم * فقد قيل ما قيل إن حقاً وإن كذباً *. بقى ههنا امران: الأول - أن التوسل بجاه غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بأس به ايضاً، وإن كان المتوسل بجاهه ممن علم أن له جاهاً عند الله تعالى، كالمقطوع بصلاحه، وولا يته. واما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه، لما فيه من الحكم الضمنى على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه - عز شانه - وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى. الثاني - ان الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل: يا سيدى فلان أغثني، وذلك ليس من التوسل المباح في شئ. واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وألا يحوم حول حماه، وقد عدة أناس من العلماء شركاء، وإن لا يكنه فهو قريب منه. ولا أرى احداً ممن يقول بذلك إلا وهو يعتقد أن الحي الغائب، أو الميت المغيب يعلم الغيب، أو يسمع النداء، ويقدر بالذات، أو بالغير على جلب الخير ودفع الذى، وإلا لما دعاه، ولا فتح فاه، وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوى الغني، الفعال لما يريد. ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من انه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذى المؤمنين، فقال الصديق - رضي الله عنه -: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق، فجاءوا إليه فقال: ((إنه لا يستغاث بي، إنه يستغاث بالله تعالى)) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 لم يشك في ان الاستغاثة باصحاب القبور الذين هم بين سعيد شغله نعيمه، وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقى ألهاه عذابه، وحبسه في النيران عن إجابة مناديه، والاصاخة إلى أهل ناديه - امر يجب اجتنابه ولا يليق بارباب العقول ارتكابه. ولا يغرنك ان المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته، وتنجح طلبته - فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل. وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذى استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به هيهات! هيهات! إنما هو شيطان اضله واغواه، وزين له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام، ليضل عبدتها الطغام. وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له. ولقد ساء ما يحكمون، لأن التطور والظهور، وإن كانا ممكنين، لكن لا في مثل هذه الصورة، وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسال الله تعالى باسمائه ان يعصمنا من ذلك، نتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم حسن المسالك. انتهى. وهو توسط عند ذوى العقول مقبول، موافق للمنقول والمعقول، ولا اظنك تجده في كتاب فهو اللباب لذوى الألباب. وقال الوالد عليه الرحمة ايضاً في باب الإشارة من تفسيره ما نصه: قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ترف في وجوه الذين كفروا المنكر ... .} الآية [الحج 71]- فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الايات الرادة عليهم ظهر عليهم التجهم والمبسور، وهم في زماننا كثيرون، فإنا لله وإنا غليه راجعون. وفي قوله تعالى: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ... ... ..} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 الأية [الحج 73]- إشارة إلى ذم الغالين في اولياء الله تعالى، حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى، وينذرون لهم النذور. والعقلاء منهم يقولون: إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما تنذر لله عز وجل، وتجعل ثوابه للولى. ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام، القائلين: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. ودعواهم الثانية لا بأس بها ولو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم، أو رد غائبهم، أو نحو ذلك. والظاهر من حالهم الطلب ويرشدك إلى ذلك أنه لو قيل: آنذروا لله تعالى، واجعلوا ثوابه لوالديكم، فإنهم أحود من اولئك الأولياء لم يفعلوا. [الاستغاثة بالمشايخ والموتى] وقال أيضاً عند تفسير قوله تعالى: {دعوا الله مخلصين له الدين ... ..} الاية - ما بعضه: فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك، وانت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير، وخطب جسيم، في بر أو بحر، ودعوا من لا يضر ولا ينفع، ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادى أبا الخميس والعباس، ومنهم من يستغيث باحد الأئمة، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة! ولا ترى فيهم أحداً يحص مولاه بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال، أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الاهوال، فبالله تعالى عليك، قل لي: أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلاً! وأى الداعيين أقوم قيلاً!؟ وإلى الله سبحانه المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، وغرقت سفينة الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهى عن المنكر صنوف الحتوف. أنتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 ومما يفتى به في هذا المقام ما انشد نيه لنفسه مفتى مصرنا مدينة السلام، وهو قوله [بسيط] . لا تدع في حاجة بازاً، ولا اسداً الله ربك لا تشرك به احداً وهو كلام يرشح منه التوحيد، ويكفى من القلادة ما أحاط بالجيد. تنبيه [إسراف بغيض] قد علمت الخلاف بين العلماء في جواز التوسل بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وجاه بعض الأئمة من الصالحين، وأحطت خبراً بالأحوط في ذلك وبقى قول لبعض معاصرينا ممن يدعى العلم، المعروف بالملا داود ابن سليمان بن جرجيس العاني، وهو من الغرابة بمكان، بكاد ان يفتخر به من ذوا ت الربع كل حيوان. فقد الف رسالة مشوبة بالهذيان، والآراء المضحكة للصبيان، وساق فيها ادلة على التوسل بسائر الحيوانات، وإثبات الجاه لكثير من الجمادات، فمنها قوله: وأعظم من ذلك وأوضح دلالة ما ذكره الفقهاء في باب الاستسقاء من إخراج البهائم والحيوانات في الاستسقاء للتوسل بها إلى الله تعالى، ومنها قوله: لا يخفى عليك مما قدمنا أن التوسل بالجمادات والحيوانات قد وقع في الأحاديث الصحيحة، والآثار الصريحة عن الصحابة، والتابعين، والسلف الصالحين مما يضيق عنه نطاق الحصر. انتهى بلفظه وحروفه. فانظر بعين التدبر والانصاف، إلى هذا التجرى على الشريعة والخبط وسوء الفهم والاعتساف. والعبد الحقير من فضله سبحانه، وان كنت قد رددته في كتاب مخصوص، وبينت في شقائقي أن يتوسل به ليس له دعوة وجاه منصوص. فقد لزم هنا أيضاً تنبيه أهل الإيمان على هذه القرمطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 والهذبان، لا سيما وقد نشر أمثاله في كتابه الذي سماه ((بصلح الاخوان)) لئلا يغتر به الغافل، فتروج عليه زخارف ما أودعه من الباطل، فتيقظ ولا تغفل، وهو سبحانه ولي التوفيق. [هل يشد الرحال لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -] (وقوله وإن إنشاء السفر إليه بسبب الزيارة معصية لا تقصر الصلاة فيه) أقول هذا أيضاً تشنيع يحتاج إلى تفصيل وسيع؛ فإن الشيخ ابن تيمية وغير واحد من العلماء ذهبوا إلى أن شد الرحل إلى المسجد النبوي مشروع مسنون، فإذا وصل قاصد المسجد صلى فيه، ثم توجه إلى القبر الشريف، وزار الزيارة المسنونة؛ مستدلين بحديث: ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاث)) كما سيأتي. وذهب كثير من العلماء إلى جواز شد الرحال لقصد الزيارة، مستدلين ببعض الآثار. ولنذكر من كلام الطائفتين شيئاً لتتضح أدلتهما لذوي الأبصار فنقول: قال الإمام النووي في شرح الصحيح في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) مانصه: واختلف العلماء في شد الرحال، وإعمال المطى إلى غير المساجد الثلاثة؛ كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك. فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا ك هو حرام. وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره. والصحيح عند اصحابنا - وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون - أنه لا يحرم ولايكره. قالوا: والمراد الفضيلة التامة إنما هي شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة. والله تعالى أعلم. انتهى. وقال الخفاجي في شرح الشفا: واختلف في هذا الهي، هل هو على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 ظاهرة التحريم كما ذهب إليه بعضهم؟ والصحيح أنه مؤؤل؛ أي لا تشدوا الرحال لنذر العبادة إلا لها، ولذا قالوا: لو نذر الصلاة في غيرها لم يلزمه شيء. فلا يكره شد الرحال لبعض الأماكن للتبرك بها، أو لزيارة من فيها من الصالحين أو لطلب العلم. اهـ. وقال العلامة ابن القيم تلميذ الشيخ في عقيدته النونية ما بعضه: [كامل] : والله لو يرضى الرسول سجودنا ... كنا نخر له على الأذقان والله ما يرضيه منا غير تجـ ... ـريد بتوحيد بلا طغيان ولقد نهى ذا الخلق عن اطرائه ... فعل النصارى عابدى الصلبان ولقد نهانا أن نصير قبره ... عيداً حذار الشرك بالديان ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثناً من الأوثان فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة جدران حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان ولقد غدا عند الوفاة مصرحا ... باللعن يصرخ فيهم باذان وعنى الألى جعلوا القبور مساجدا ... وهم اليهود وعابدو الأوثان والله لولا ذاك لزرت قبره ... لكنهم حجبوه بالحيطان قصدوا إلى تسنيم حجرته ليمـ ... ـتنع السجود له على الأذقان قصدوا موافقة الرسول وقصد الـ ... ـتجريد للتوحيد للرحمن يافرقة جهلت نصوص نبيهم ... ومراده وحقيقة الإيمان فسطوا علو أتباعه وجنوده ... بالبقى والعدوان والبهتان لا تعجلوا وتبينوا وتثبتوا ... فمصابكم ما فيه من حيران قلنا الذي قال الأئمة قبلنا ... وبه النصوص أتت على التبيان والقصد حج البيت وهو فريضة الـ ... ـرحمن واجبة إلى الأعيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 ورحالنا شدت إليه من بقا ... ع الأرض قا صيها كذاك الدابي من لم يزر بيت الإله فماله ... من حجة سهم ولا سهمان وكذا تشد رحالنا للمسجد الـ ... ـنبوي خير مساجد البلدان من بعد مكة قبل أو هذا على ... الإطلاق فيه الخلف منذ زمان وتراه عند النذر فرضا لكن الـ ... ـنعمان يأبى ذا وللنعمان أصل هو النافي الوجوب فإنه ... ما جنسه فرضا على إنسان ولنا براهين تدل بأنه ... بالنذر مفترض على الإنسان أمر الرسول لكل ناذر طاعة ... بوفائه بالنذر والإحسان وصلاتنا فيه بألف في سوا ... هـ ما خلا ذا الحجر والأركان وكذا صلاة قي قبا فكعمرة ... في أجرها والفضل للمنان فإذا أتينا المسجد النبوي ... صلينا التحية أولا ثنتان بتمام أركان لها وخشوعها ... وحضور قلب فعل ذى الإحسان ثم انثنينا للزيارة نقصد الـ ... ـقبر الشريف ولو على الأجفان فنقوم دون القبر وقفة خاضع ... متذلل في السر والإعلان فكأنه في القبر حى ناطق ... فالواقفون نواكس الأذقان ملكتهم تلك المهابة فاعترت ... تلك القوائم كثرة الرجفان وتفجرت تلك العيون بمائها ... ولطالما غاصت على الأزمان وأتى المسلم بالسلام بهيبة ... ووقار ذي علم وذى إيمان لم يرفع الأصوات حول ضريحه ... كلا ولم يسجد على الأذقان كلا ولم ير طائفاً بالقبر أسـ ... ـبوعاً كأن القبر بيت ثاني ثم انثنى بدعائه متوجها ... لله نحو البيت ذى الأركان هذا زيارة من غدا متمسكاً ... بشريعة الإسلام والعدناني من أفضل الأعمال هاتيك الزيا ... رة وهي يوم الحشر في الميزان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 لا تلبسوا الحق الذي جاءت به ... سنن الرسول بإعظم البطلان هذى زيارتنا ولم ننكر سوى الـ ... ـبدع المضلة يا أولى العدوان وحديث شد الرحال نص ثابت ... يجب المصير إليه بالبرهان ونقل المناوى في شرحه الكبير للجامع الصغير عن الإمام مالك، أنه منع شد الرحل لمجرد زيارة القبر المكرم، ونصه: ((من زار قبرى وجبت له شفاعتى)) أى من زارنى في قبرى، فقصد نفسها ليس بقربة، وكذا ذكره السبكى في الشفاء. وحمل عليه ما نقل عن مالك من منع شد الرحل لمجرد زيارة القبر المكرم من غير إرادته إتيان المسجد للصلاة فيه. أهـ. وفي بعض رواته مقال. فليراجعه من أراد الجدال. وقال الشيخ الأجل أحمد ولى الله الدهلوى في التفهيمات: وقد ذكر عنه - أى عن شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله - أنه منع السفر لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يروى كلامه ذلك بنقل صريح صحيح. فإنه لم يمنع الزيارة مطلقاً، بل منع السفر للزيارة بحديث ((لا تشد الرحال)) وبحديث ((لا تتخذوا مسجدى عيداً)) فإذا كان لقوله مساغ اجتهادى لا ينبغي أن يشدد عليه ذلك التشديد. أهـ. وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادى بن قدامه المقدسى الحنبلى المتقدم ذكره في كتابه المطنب المسمى (بالصارم المنكى في الرد على ابن السبكي) ما نصه: أما بعد: فإنى وقفت على الكتاب الذى ألفه بعض قضاة الشافعية في الرد على شيخ الإسلام تقى الدين أبي العباس أحمد بن تيميه في مسألة ((شد الرحال)) و ((إعمال المطى إلى القبور)) وذكر أنه قد سماه ((سن الغارة على من أنكر الزيارة)) ثم زعم أنه اختار أن يسميه ((شفاء السقام في زيارة خير الأنام)) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 فوجدته كتاباً مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة، والآثار المقبولة، أو تحريفها من مواضعها، وصرفها عن ظواهرها، بالتأويلات المستنكرة المردودة. ورأيت مؤلف هذا الكتاب رجلاً ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة سائراً في أشياء مما يعتقده إلى الشبه المخيلة، والحجج الداحضة، وربما خرج عن الإجماع في مواضع لم يسبق إليها، ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها. وهي في الجملة لون عجيب، وبناء غريب، تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك المجتهدين، فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد. ومرة يزعم فيما يقويه ويدعيه أنه من جملة المقلدين، فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد. نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا، ويرزقنا الهداية والسداد. هذا، مع أنه إن ذكر حديثاً مرفوعاً، أو أثراً موقوفاً، وهو غير ثابت، قبله إذا كان موافقاً لهواه. وإن نقل عن بعض الأئمة الأعلام كمالك أو غيره ما يوافق رأيه قبله، وإن كان مطعوناً فيه غير صحيح عنه. وإن كان مما يخالف رأيه رده ولم ينقله وإن كان صحيحاً ثابتاً عنه. وإن حكى شيئاً مما يتعلق بالكلام على الحديث، وأحوال الرواه عن أحمد من ائمة الجرح والتعديل كالإمام أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازى وأبي حاتم بن البستى، وأبي جعفر العقبي، وأبي أحمد عدى، وأبي عبد الله الحاكم صاحب المستدرك، وأبي بكر البيهقى، وغيرهم من الحفاظ. وكان مخالفاً لما ذهب إليه، لم يقبل قوله، ورده عليه وناقشه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 فيه - وإن كان ذلك الإمام قد أصاب في ذلك القول، ووافقه غيره من الأئمة عليه. وإن كان موافقاً لما صار إليه تلقاه بالقبول، وأحتج به واعتمد عليه. وإن كان ذلك الإمام قد خولف في ذلك القول، ولم يتابعه غيره من الأئمة عليه. وهذا هو عين الجور والظلم، وعدم القيام بالقسط، نسأل الله تعالى التوفيق، ونعوذ به من الخذلان واتباع الهوى. وهذا، مع أنه حمله إعجابه برأيه، وغلبه اتباع هواه على ان نسب سوء الفهم والغلط في النقل إلى جماعة من العلماء الأعلام، المعتمد عليهم في حكاية مذاهب الفقهاء واختلافهم، وتحقيق معرفة الأحكام، حتى زعم أن ما نقله الشيخ أبو زكريا النووى في شرح مسلم عن الشيخ أبي محمد الجويني من النهي عن شد الرحال، وإعمال المطى إلى غير المساجد الثلاثة كالذاهب إلى قبور الأنبياء والصالحين، وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك، هو مما غلط فيه أبو محمد، او أن ذلك مما وقع منه على سبيل السهو والغفلة. قال: ولو قاله هو - يعنى الشيخ أبا محمد - أو غيره أو ممن يقبل كلامه الغلط لحكمنا بغلطه، وإنه لم يفهم مقصود الحديث، فأنظر إلى كلام هذا المعترض المتضمن لرد النقل الصحيح بالرأى الفاسد، وأجمع بينه وبين ما حكاه عن شيخ انثلام من الافتراء العظيم والإفك المبين، والكذب الصراح وهو مما نقله عنه من انه جعل زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبور الأنبياء عليهم السلام معصية بالإجماع مقطوعاً بها. هكذا ذكر هذا المعترض عن بعض قضاة الشافعية عن الشيخ أنه قال: هذا القول الذى لا يشك عاقل من أصحابه، وعن أصحابه أنه كذب مفترى لم يقله قط، ولا يوجد في شئ من كتبه، ولا دل كلامه عليه، بل كتبه كلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 ومناسكه وفتاويه، وأقواله وأفعاله تشهد ببطلان هذا النقل عنه، ومن له أدنى علم وبصيرة يقطع بان هذا مفتعل مختلق على الشيخ. وأنه لم يقلد قط. وقد قال الله تعالى {يأيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات 6] ، وهذا المعترض يعلم أن ما نقله عن القاضي المشهور بما لا أحب حكايته عنه في هذا المقام عن شيخ الإسلام من هذا الكلام - كذب مفترى، لا يرتاب في ذلك، ولكنه يداهن، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه. ولقد أخبرني الثقة أنه ألف هذا الكتاب لما كان بمصر أن يلى لقضاء بالشام بمدة كثيرة ليتقرب به إلى القاضى الذى حكى عنه هذا الكتاب، ويخطى لديه، فخاب أمله، ولم ينفق ما عنده، وقد كان هذا القاضى الذى جمع المعترض كتابه هذا لأجله من أعداء الشيخ المشهورين، وقد زعم هذا المعترض أيضاً مع هذا الأمر الفظيع الذى أرتكبه من التكذيب بالصدق والتصديق بالكذب أن الفتاوى المشهورة التى أجاب بها علماء أهل بغداد موافقة الشيخ مختلفة موضوعة، وضعها بعض الشياطين. هكذا زعم، مع علم العام والخاص بأن هذه الفتاوى مما شاع خبرها وذاع اشتهر أمرها وانتشر، وهي صحيحة ثابتة متواترة عمن أفتى بها من العلماء. وقد رأيت أنا وغيرى خطوطهم بها - إلى أن قال: وليعلم قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض: أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شئ من كتبه، ولم ينه عنها ولك يكرهها، بل استحبها وحض عليها، ومصنفاته ومناسكه طافحة بذكر استجباب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر القبور. قال رحمه الله تعالى في بعض مناسكه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 [باب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -] إذا أشرف على مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدم، فإذا دخل استجب له أن يغتسل - نص عليه الإمام أحمد - فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى. وقال: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم أغفر لى دنبي، وأفتح لي ابواب رحمتك. ثم يأتى الروضة بين القبر والمنبر فيستقبل جدار القبر ولا يمسه، ولا يقبله، ويجعل القنديل الذى في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في في حياته بخشوع، وسكون، منكس الرأس غاض الطرف، مستحضراً جلالة موقفه. ثم يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك با نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين. أشهد أن لا إله إلا الله، ,أشهد أنك رسول الله، واشهد أنك بلغت رسالات ربك، ونصحت الأمة، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته. اللهم أته الوسيلة والفضيلة، وأبعثه مقاماً محموداً الذى وعدته، يغبطه الأولون والآخرون، اللهم - صلى الله عليه وسلم - على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى ىل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم أحشرنا في زمرته وتوفنا على سنته، واوردنا حوضه، وأسقنا بكأسه مشرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً. ثم يأتى أبا بكر وعمر - رضي الله عنه - فيقول: السلام عليك يا ابا بكر، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضجيعيه، ورحمة الله تعالى وبركاته، جزاكما الله تعالى عن صحبة نبيكما وعن الإسلام خيراً، سلام الله عليكما بما صبرتم فنعم عقبى الدار. قال: ويزور أهل البقيع، وقبور الشهداء إن أمكن. هكذا كلام الشيخ بحروفه، وكذلك سائر كتبه، وذكر فيها استحباب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر القبور، ولم ينكر زيارتها في موضع من المواضع، ولا ذكر في ذلك خلافاً إلا نقلاً عن غريبا ذكره في بعض كتبه عن بعض التابعين. وإنما تكلم في مسألة ((شد الرحال وإعمال المطي)) إلى مجرد زيارة القبور، وذكر في ذلك قولين للعلماء المتقدمين والمتأخرين: أحدهما - القول بإباحة ذلك مما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد. والثاني - أنه منهي عنه كما نص عليه إمام دار الهجرة مالك بن انس: ولم ينقل عن أحد من الأئمة الثلاثة خلافة، وإليه ذهب جماعة من اصحاب الشافعي وأحمد. هكذا ذكر الشيخ الخلاف في ((شد الرحال وإعمال المطى إلى القبور)) ولم يذكره في الزيارة الخالية عن شد رحل وإعمال مطى. والسفر إلى زيارة القبور مسألة، وزيارتها من غير سفر مسالة أخرى، ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة، وجعلها مسألة واحدة، وحكم عليهما بحكم واحد، وأخذ في التشنيع على من فرق بينهما، وبالغ في التنفير عنه فقد حرم التوفيق، وحاد عن سواء الطريق. وأحتج الشيخ لمن قال بمنع شد الرحال بالحديث المشهور المتفق على صحته من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدرى ((لا تشدوا الرحال إلا لإلى ثلاثة مساجد: مسجدى هذا، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)) هذا هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 الذى نقله الشيخ رحمه الله تعالى - حكى الخلاف في مسالة بين العلماء، وأحتج لأحد القولين بحديث متفق على صحته، فأى عتب عليه في ذلك! ولكن نعوذ بالله تعالى من الحسد والبغي واتباع الهوى، والله سبحانه المسئول أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من العمل الصالح، والقول الجميل، فإنه يقول الحق وهو يهدى السبيل. أنتهى. [فتوى لابن تيمية في زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -] وقال الشيخ ابن تيميه في فتاواه ما نصه: مسألة في رجل نوى زيارة قبر نبي من الأنبياء عليهم السلام مثل نبينا - صلى الله عليه وسلم - وغيره - فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة، وهل عي زيارة شرعية أم لا؟ وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من حج فلم يزرنى فقد جفاني، ومن زارنى بعد مماتى فكأنما زرانى في حياتى)) وقد روى عنه أنه قال: ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدى هذا)) . الجواب - الحمد لله رب العالمين. أما من سافر بمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له القصر؟ على قولين: أحدهما قول متقدمى العلماء الذين لا يجوزون القصر في سفر المعصية، كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفا ابن عقيل، وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين: انه لا يجوز القصر في مثل هذا، لأنه سفر منهى عنه. وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى: إن السفر المنهى عنه في الشريعة لا يقصر فيه. والقول الثاني - أنه يقصر، وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم كأبي حنيفة ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء، كأبي حامد الغزالي، وأبي الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 أبن عبدوس الحراني، وأبي محمد بن قدامه المقدسى، وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((زوروا القبور)) وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقوله: ((من زارنى بعد مماتى فقد زارنى في حياتى)) رواه الدارقطنى وابن ماجه. وأما ما يذكره بعض الناس في قوله: ((من حج فلم يزرني فقد جفاني)) فهذا لم يروه أحد من العلماء. وهو مثل قوله: ((من زارنى ضمنت له على الله الجنة)) فإن هذا أيضاً باطل باتفاق العلماء، لم يروه أحد، ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطنى. وقد احتج أبو محمد المقدسى على جواز السفر لزيارة القبور بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور مسجد قباء، وأجاب عن حديث ((لا تشدوا الرحال)) بان ذلك محمول على نفي الاستحباب. وأما الأولون فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تشدوا الرحال إلا ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدى هذا)) وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به، فلو نذر الرجل أن يصلى في مسجد أو مشهد، أو يعتكف فيه، أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة. ولو نذر أن يأتى المسجد الحرام لحج أو عمره، وجب عليه ذلك باتفاق العلماء ... ، ولو نذر أن ياتى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو المسجد القصى لصلاة أو أعتكاف، وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد، فإنهم يوجبون الوفاء بكل طاعة، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه ... )) الحديث، رواه البخارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 وأما السفر إلى بقعة يغر المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليها إذا نذره، حتى نص بعض العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء، لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان بالمدينة، لأن ذلك ليس بشد رحل كما في الصحيح: ((من تطهر في بيته ثم اتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة)) . وقالوا: ولأن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا استحبها أحد من ائمة المسلمين. فمن أعتقد ذلك عبادة وفعلها، فهذا مخالف للسنة وإجماع الأمة. وبهذا يظهر حجة ابي محمد، فإن زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمسجد قباء لم تكن بشد رحل، وهو يسلم لهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر. وقوله: إن قوله: ((لا تشد الرحال)) محمول على نفى الاستحباب - يجاب عنه من وجهين: أحدهما - أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح - ولا قربة وطاعة. ومن يعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربه وطاعة فقد خالف الإجماع. وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلا ذلك. وأما إذا قدر أن شد الرحل إليها لغرض مباح، فهذا جائز من هذا الباب. الوجه الثاني - أن النفي يقتضى النهي، والنهي يقتضى التحريم، وما ذكره من الأحاديث في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، ولم يحتج أحد من الأئمة منها بشئ، بل مالك إمام اهل المدينة النبوية، الذى هو أعلم الناس بحك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 م هذه المسالة كره أن يقول الرجل: زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان هذا اللفظ مشروعاً أو مأثوراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكرهه عالم المدينة. والإمام أحمد - رضي الله عنه - أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك إلا حديث ابي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من رجل يسلم على إلا رد الله تعالى علي روحي حتى أرد عليه السلام)) . وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه، وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا ابا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم أنصرف. وفي سنن ابي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تتخذوا قبرى عيداً وصلوا على أينما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني)) . وفي سنن سعيد بن منصور عن عبد الله بن حسين بن على بن ابي طالب رأى رجلاً يختلف إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو عنده، فقال: يا هذا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تتخذوا قبرى عيداً، صلوا على اينما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء. وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك، لا يدخل أحد عنده لا لصلاة هناك ولا لمسح بالقبر، ولا لدعاء، بل هذا إنما يفعلونه في المسجد. وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا عليه وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلين القبلة، ولم يستقبلوا القبر. قال أكثر الأئمة: يستقبل القبر عند السلام خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة أن يستقبل القبر عند الدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 واتفق الأئمة على أنه لا يتمسح بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقبله، وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من اصول الشرك بالله سبحانه أتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسراً} قالوا: هؤلاء كانوا قوماص صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صور على صورهم تماثيل، ثم طل عليهم المد فعبدوها وقد ذكر ذكر هذا المعنى البخارى في صحيحه عن ابن عباس، وذكره محمد ابن جرير الطبرى وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف. وأول من وضع الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد أهل البدع الرافضة، ونحوهم الذين يعطلون المساجد، ويعظمون المشاهد، يدعون بيوت الله سبحانه التى امر أن يذكر فيها اسمه ويعبد فيها وحده لا شريك له، ويعظمون المشاهد التىت يشرك فيها، ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطاناً. فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد لا المشاهد، كما قال الله تعالى: {قل أمر ربي بالقسط واقيموا وجوهكم عند كل مسجد} [الأعراف 29] وغير ذلك من الآيات. والله تعالى أعلم. انتهى. وقال ايضاص في موضع آخر منها ما نصه: وقد ذكر بعض المتأخرين من العلماء أنه لا بأس بالسفر إلى المشاهد، واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ياتى قباء كل سبت راكباً وماشياً، أخرجاه في الصحيحين. ولا حجة لهم فيه، لأن قباء ليس مشهداً بل مسجداً، وهي منهى عن السفر إليها باتفاق الأئمة. لأن ليس بسفر مشروع، بل لو سافر إلي قباء من دويرة أهله لم يجز، ولكن لو سافر إلى المسجد النبوى ثم ذهب منه إلى قباء. فهذا مستحب كزيارة أهل البقيع وشهداء أحد. أنتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 تتمه إذا علمت ذلك فأعلم أن من أدلة المجوزين لشد الرحل إلى الزيارة ما ذكره التقى السبكي في كتابه (شقاء السقام) وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من زار قبرى وجبت له شفاعتى)) رواه الدارقطنى. وفي رواية ((حلت له شفاعتى)) وقوله عليه السلام ((من جاءنى زائراً لا يعلمه حاجة إلا زيارتى كان حقاً علي أكون له شفيعاً يوم القيامة)) رواه الطبراني. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدى كتب له حجتان مبرورتان)) رواه ابن عباس. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حج وزار قبرى بعد وفاتي فكأنما زارنى في حياتى)) رواه الدارقطني. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)) رواه ابن عمر. وأطنب السبكي في الأدلة. والمانعون كالحافظ ابن قدامه في (الصارم المنكي) أولوا وضغفوا ما هنالك وإن أردت التفصيل فارجع إليه، وإن أحببت زيادة الاطلاع فعليك بشروح الشفاء للقاضي عياض، فتنزه منها بأصفى حياض، وأضفى رياض. ونهاية الكلام في هذا المقام: أن شيخ الإسلام لم ينفرد بهذا القول الذى شفع به عليه، بل ذهب إليه غيره من الأئمة الأعلام، وكثرت الأدلة من الجانبين، والردود من الطرفين. وأما محض الزيارة فلم يقل بحرمتها، بل ذهب إلى سنيتها كما تقدم، فلا تغفل عن التفرقة بين ذا وذاك، والله سبحانه يتولى هداى وهداك. [حكم زيارة القبور بلا شد الرحال] وأما زيارة القبور بلا شد رحال فقد أختلف فيها أيضاً (قال) الوالد عليه الرحمة في آخر تصنيفاته ما نصه: اعلم أولا أن زيارة القبور وإن لم تكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 بشد رحل لها مختلف فيها. قال ابن بطال في شرح البخارى، وقد نقله عنه الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادى الحنبلى المقدسى في كتابه (الصارم المبكي) - كره قوم زيارة القبور، لأنه روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث في النهي عنها، كحديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من زار القبور فليس منا)) . وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن الشعبي أنه قال: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور لزرت قبر أبنتي. وروى عبد الرزاق عن الثورى عن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا يكرهون زيارة القبور. وكثيراً ما يقول إبراهيم: كانوا يفعلون كذا، كانوا يكرهون كذا، والظاهر أنه يريد بهم شيوخه، ومن حمل عنه العلم من اصحاب على كرم الله تعالى وجهه، وابن مسعود - رضي الله عنه - وغيرهما. وعن ابن سيرين مثله. [السنن والبدع في زيارة القبور] وهذا قول ساقط، فإن أحاديث النهي منسوخة، فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها، فإنها تذكركم الآخرة)) . وثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - زار قبور شهداء أحد، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم أصحابه إذا رأوا القبور أن يقولوا: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله تعالى المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم)) ولعل النهي إنما كان اولاً، لما أن الزيارة كانت تفضى إلى أمور محظورة، وكان لجل النياحة عندها. وقيل لأنهم كانوا يتفاخرون بها، كما يشير إليه قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} على بعض التفاسير. نعم، أختلف القائلون بالنسخ، فقالت طائفة منهم: إنما نسخت الحرمة بالإباحة، فزيارة القبور عندهم مباحة لا مستحبة، وحكى هذا عن الإمام مالك والإمام أحمد. ووجه ذلك أن صيغة ((أفعل)) بعد الحظر إنما تفيد الإباحة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ((كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فأنتبذوا ولا تشربوا مسكراً)) وقد سئل الإمام مالك عن زيارة القبور فقال: كان نهى عنهما عليه الصلاة والسلام ثم اذن فيها. فلو فعل ذلك إنسان ولم يفعل الآخر لم ار بذلك بأساً، وليس من عمل الناس وفي رواية أخرى عنه أنه كان يضعف زيارتها. والذى عليه الأكثرون: أ، زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء الموتى مع السلام عليهم. وقد جاء الأمر بزيارتها غير رديف للنهي، ففي حديث ((زوروا القبور فإنها تذكر الأخرة)) . وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني في كتابه (آداب زيارة القبور) : ورد الأمر بزيارة القبور من حديث على كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وابن مسعود، وأنس، وبريدة، وعائشة، وأبي بن كعب، وأبي ذر، وأبي هريرة - رضي الله عنه -. ومقتضى التعليل في الآمر: أنه لا باس بزيارة قبور الكفار، لكن لا يجوز أمراً محرماً من شرك أو كذب، أو قول هجر، أو ندب أو نياحة، وكانت هي السبب فيه فهي حرام. وحكى المقدسى الحنبلى الإجماع على ذلك. وزيارة كثير من الناس، بل أكثرهم اليوم لقبور الصالحين من هذا القبيل. والآمر ظاهر لمن كان منصفاً ذا دين، فلا حاجة إلى التطويل وإذا لم يتضمن ذلك، بل كانت لمجرد إظهار الحزن على الميت لقرابته، أو صداقته فهي مباحة، كما يباح البكاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 على الميت بلا ندب، ولا نياحة. وإذا كانت للدعاء لصاحب القبر، وإيناسه بالسلام عليه فهي مستحبة، وهي من جنس الصلاة على الجنائز. وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام زار أهل البقيع مراراً، وزار شهداء أحد. وكان عليه الصلاة والسلام يعلم اصحابه ما يقولون عند الزيارة - وقد مر ذلك آنفاً. ويعلم من ذلك أن الغرض من الزيارة المشروعة نفع الميت لا الانتفاع به من نحو فيض أو غيره كما يزعمه كثير من الناس. فقد قالوا من تمام الزيارة لقبور الصالحين أن يعلق الزائر همته وروحه بالميت، لينعكس إليه ما يفاض على روحه من الأنوار التى لم تزل تفاض على روحه القدسية. فإنه بواسطة هذا التعليق والربط الروحان كمرآتين متقابلتين، ينعكس على إحداهما ما يشرق على الأخرى. وهذا زعم باطل لم يثبت بكتاب أو سنة، ولا نعلم أن أحداً من سلف الأمة أدعاه، ومن أدعى فعليه البيان كائناً من كان. بل قال بعض الأجلة: إنه لا ينبغي أن يدعو لغير الميت عند القبر، ولا يتوسل بصاحب القبر وإن جل، فلم يكن الصحابة - رضي الله عنه - يفعلون ذلك، وهم الذين ألزمهم الله تعالى كلمة التقوى، وكانوا احق بها وأهلها: [طويل] وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع أنتهى بحروفه. ومن الغريب أنه عليه الرحمة لم يكتب بعد هذا شيئاً في هذا الكتاب، وطوى الكتاب، ووقف قلمه حتى عرجت بعد أيام قلائل روحه الشريفة إلى الملك التواب. هذا، وإذا عرفت ما نقلناه علمت أن ما يفعله كثير من الناس في زيارتهم وندائهم لأصحاب القبور، وبناء المشاهد بالذهب والفضة، وتعليق الستور، وتقبيلها أمر محظور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 فقد قال أيضاً في شرح عقيدة الإمام الطحاوى الحنفى في الكلام على التوحيد (1) ما نصه: وإن كثيراً من أهل النظر يزعمون دليل التمانع هو قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء 22] لأعتقادهم أن توحيد الربوبية الذى قرروه هو توحيد الإلهية الذى بينه القرآن العظيم، ودعت إليه الرسل. وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذى دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر عنه سبحانه بقوله: {ولئن سألتهم} الآية. ولم يكونوا يعتقدون أن الأصنام أنها مشاركة له سبحانه في حلق العالم، لكنهم يعتقدون انها تماثيل قوم صالحين من الأنبياء وغيرهم، ويتخذونهم شفعاء. ويتوسلون بهم إلى الله تعالى. وهذا كان اصل شرك العرب، فعن ابن عباس وغيره في قوله تعالى: {وقالوا ولا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً} [نوح 23] . أنها أسماء قوم صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صورا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى العرب. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هياج الأسدى قال: قال لي على بن ابي طالب كرم الله تعالى وجهه: ألا أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرنى أن لا أدع قبراً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته.   (1) وقال السفاريني: أن التوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وهو أنه لا خالق ولا رزاق ولا محيى، ولا مميت إلا هو. وتوحيد الإلهية، وهو إفراده سبحانه بالعبادة والتأله له والخضوع والحب والتوجيه. وتوحيد الصفات، وهو أن يصفه بما وصف به نفسه كما هو مذهب السلف فليحفظ. أهـ. منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في مرض موته ((لعن الله اليهود والنصارى، أتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ مسجداً. وفي الصحيحين: أنه ذكر في مرض موته عليه الصلاة والسلام كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال: ((إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) . وفي صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال قبل ان يتوفى بخمس: ((إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك)) أهـ. (قلت) وقد تعاظم الأمر في هذه الأزمان، وظهرت البدع في كل مكان، وبنيت القبب المذهبة على القبور، ونذرت لها النذور، وجعلت عليها التشابيك من العين، وسرجت عليها السرج وقناديل اللجين، ووضعت عليها الأسلحة المجوهرة، وصرفت على سدنتها وبنائها القناطير المقنطرة، وطاف حولها الزائرون وتبرك بتقبيلها والتمسح باعتابها الداخلون، وطلبوا منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وجعلوا ذلك من أعظم الطاعات، ورموا من زجرهم عن هذا الفعل الشنيع بأعظم الهنات، وأسمعوه ما يكره من الكلمات، وصدق قول أحد الأئمة الأمناء: ورب جوهر علم لو ابوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأكثر عملهم في ذاك من الكبائر، كما صرحت به الجهابذة الأكابر. فقد قال الشيخ ابن حجر المذكور، ضوعفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 له الأجور في كتابه (الزواجر) ما نصه: ومن الكبائر أتخاذ القبور ساجد وإبقاء السرج عليها، واتخاذها أوثاناً، والطواف بها واستلامها، والصلاة إليها. أخرج الطبراني عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر)) . وروى الإمام أحمد والترمذى والنسائي وغيرهم عن ابن عباس: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)) . وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)) . وروى الشيخان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لعن الله - وفي رواية - قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة)) . وروى ((من شرار امتى من يتخذ القبور مساجد)) . وايضاً ((كانت بنو إسرائيل أتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فلعنهم الله تعالى)) . ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً. وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث، وقيس عليه كل تعظيم للقبر، كايقاد السرج عليه تعظيماً له وتبركا به، والطوائف به كذلك. وأما أتخاذها أوثاناً فجاء النهي عنه بقوله - صلى الله عليه وسلم - ((لا تتخذوا قبرى وثناً بعدى)) أى لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له أو نحوه. فإن أراد بقوله: واتخاذها أوثاناً هذا المعنى، أتجه ما قالوه: بل يكفر بشرطه. وأن أريد أن مطلق التعظيم الذى لم يؤذن فيه كبيرة ففيه بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 نعم، قال بعض الحنابلة: قصد الصلاة عند القبر تبركا به عين المحادة لله ورسوله. ومن أعظم أسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مسجداً وتجب إزالة كل منكر، وتجب المبادرة لهدمها، وعدم القباب التى على القبور، إذ هي اضر من مسجد الضرار، لأنها أسست على معصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه نهي ذلك، وأمر بهدم القبور. وتجنب إزالة كل قنديل أو سراج، ولا يصح وقفه ونذره. أهـ. وقال أيضاً: إن من الكبائر زيارة النساء لها، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) . وصرح أصحابنا بتحريم السراج على القبر، وإن قل، حيث لم ينفع به مقيم ولا زائر، وعللوه بالإسراف وإضاعة المال، والتشبه بالمجوس. فلا يبعد في هذا حينئذ أن يكون كبيرة. أنتهى ما في الزواجر باقتصار. قلت: وقد أختلف العلماء في زيارة النساء للقبور إذا لم تكن مشتملة على محرم من نوح وغيره. وأما إذا اشتملت على ما يفعله كثير من نساء زماننا قولاً وفعلاً، بل ما يفعله كثير من جهلة الرجال أيضاً فلا خوف في الحرمة إذ ذاك كما لا يخفى على المطلع الخبير. قال الشيخ على الحلبي الشافعي فيما كتبه على الغاية ما نصه: وكذلك يجب منعهن من زيارة كثير من قبور الأولياء في العراق وغيره، لما في ذلك من المفاسد التى يطول شرحها من تبرج بزينة، ولطم ونوح، واجتماع نساء ورجال واختلافهم جلوساً ومشياً، فلا يمترى عاقل في سد هذا الباب حسماً لمادة الفساد. بل يكره للرجل - والحالة هذه - فضلاً عن النساء، ولو قيل بالتحريم لم يبعد. أنتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 وإن أردت استيفاء بحث البناء على الأموات، فارجع إلى الكتب الفقهية المعتبرات، واكتف الآن بما سطرناه، واعتصم بما نقلناه، وأسأل البارى سبحانه هداه. ثم إني أقول بعد هذا كله: إن الذى عقدت حباً عقيدتى في فصله سنية شد الرحل إلى مرقد سيد الشفعاء، والرسول المقدم يوم الفزع الأكبر على الأصفياء. وهو من خصوصياته عليه أكمل الصلاة والسلام، كما ذهب إلى نحوه في الاستغاثة سلطان العلماء العز بن عبد السلام، لا سيما وقد تعددت الأحاديث في ذلك، وإن أول أو طعن البعض منها بضعف المسالك. وأما ما دعا ذاك القبر المطهر من الأنبياء التى لا يصحح تعيينها تواتر يفيد اليقين، وكذا مشاهد الأولياء الذين لم يرد في السفر إليهم أثر قوى عن السلف الصالحين، فعدم شد الرحل إليهم سداً للذرائع اصوب، وترك ما يريبك إلى ما لا يريبك أحب في المذاهب. كيف لا، وقد اتسع الخرق الآن على الراقعين، وقدم لسفر إلى مقابر الأولياء على سائر الفرائض كثير من الجاهلين، بل يقدمه أهل البدع على الحج، ويعد إيفاء نذره لأصحابنا بها افضل من العج والثج، ويحسب الطواف حول ذلك الميت شبه الطواف بين أركان البيت: فألهاهم عن الواجبات التفاخر بذلك والتكاثر. وظنوا ان أصلح الأمة من واظب على السفر إلى المقابر. وكأني بمن يقول: إنك قد خالفت القولين، ولم تسلك في احد الطريقين المتقدمين. فأقول له: إنى قد سلكت نحو ما ذكرت، لأنه الطريق الوسط، السالم عند المنصف الممعن من الشطط، ولا سيما إذا نوى المسجد النبوى معه فهو الأحوط. فإن أصبت ببياني هذا فلى الأجر إن شاء الله، وإن أخطأت فأسأله سبحانه أن يغفر لى ما أخطأت، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 [كيف بدلت التوراة والإنجيل] (قوله: ((وإن التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظها، وإنما بدلت معانيها)) ) أقول: إن هذا القول إن صح نقله لم ينفرد به ايضاً ابن تيميه، بل هو قول ابن عباس رضي الله عنهما. فقد قال الوالد عليه الرحمة تفسيره على قوله تعالى: {يسمعون كلام الله ثم يحرفونه} ما نصه: أى يسمعون التوراة، ويؤولونها تأويلاً فاسداً حسب أغراضهم. وإلى ذلك ذهب ابن عباس والجمهور على أن تحريفها تبديل كلام من تلقائهم، كما فعلوا ذلك في نعته - صلى الله عليه وسلم -، فإنه روى: أن من صفاته فيها أنه أبيض ربعه، فغيروه باسمر طويل، وغيروا آية الرجم بالتسخيم وتسويد الوجه، كما في البخارى. وقيل المراد: بكلام الله تعالى ما سمعوه على الطور. أهـ. باقتصار. قلت: ولعل معنى التحريف لغة فيه تقوية لمذهب ابن عباس، فقد قال الراغب في مفرداته: تحريف الشئ إمالته، كتحريف القلم، وتحريف الكلام أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين، قال عز وجل: {يحرفون الكلم عن مواضعه} . ومن بعد مواضعه {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه} [البقرة 75] أهـ. وهذا بناء على صحة العزو إليه. وأما ما رأيته فيما حرره لأبي نصر المنبجى من كتاب طويل ما نصه: وقد جاءت في الإنجيل الذى بأيدى النصارى كلمات مجملة، إن صح أن المسيح قالها فهذا معناها في قوله ((أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي)) ، ونحو ذلك. وبها ضلت النصارى حيث أتبعوا المتشابه كما ذكر الله تعالى عنهم في القرآن، ففيه إشارة إلى أنه ليس قائلاً بتبديل المعاني فقط. فالعزو حينئذ غير صحيح كما لا يخفى. فليتدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 [ابن حجر لا يعدل في القضية] تنبيه قد ظهر لك من جميع ما تقدم أن الشيخ ابن حجر نسب إلى شيخ الإسلام كثيراً من الأقوال التى لا أصل لها ولا سند في نقلها بخلاف ما إذا ذكر عن الشيخ الأكبر محيى الدين أو غيره من المتصوفين قولاً ليس لهم به مستمسك في الدين، ولا قاله أحد غيرهم من علاء المسلمين، فيأخذ حينئذ بتأويله وبتكليف لتعديله، ولله در القائل: [كامل] : فرصاص من أحببته ذهب كما ... ذهب الذى لم ترض عنه رصاص فمن ذلك ما قاله في الزواجر في بحث الإجماع على كفر فرعون بما نصه: فإنا وإن كنا نعتقد جلالة الشيخ محيى الدين فقوله بإيمانه مردود، فإن العصمة ليست إلا للأنبياء عليهم السلام، مع انه نقل عن بعض كتبه أنه صرح فيها بان فرعون مع هامان وقارون في النار، وإذا أختلف كلام إمام فيؤخذ بما يوافق الأدلة الظاهرة، ويعرض عما خالفها. أهـ باقتصار. فليت شعرى لِمَ لَمْ يجعل كثيرا من كلام الشيخ ابن تيميه - إن صح - مع هذا القبيل ويدرأ عنه سوء الظن وباطل الأقاويل، لكن كما قيل: [طويل] وعين الرضا عن كل عيب كليله ... كما أن عين السخط تبدى المساويا ومع هذا، فإنى أسأل الله عز وجل ان يغفر لى ولهم جميع العبد والخطأ والزلل. ويجزيهم عنا خير الجزاء، وهو الذى يختص برحمته من يشاء. فصل [ارتفاع الحدث بماء الورد] وحيث أنتهت الأجوبة عما ذكر العلامة ابن حجر من المسائل التى عزاها لشيخ الإسلام ابن تيميه وعرفت أجوبتها المرضية، فلنذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 إن شاء الله تعالى الأجوبة عما ذكره زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن احمد بن رجب البغدادى الدمشقى الحنبلى المتوفى سنة سبعمائة وخمس وتسعين - من المسائل التى اختارها ذلك الإمام أيضاً فنقول: (قال ابن رجب: أختار الشيخ ارتفاع الحدث بالمياه المعتصرة كماء الورد ونحوه) أقول: أنت تعلم أن هذه المسألة فيها خلاف كثير بين الأئمة، فمنهم من خصه بالماء. ومنهم من جوزه بالنبيذ. وحكى ابن القيم في (أعلام الموقعين) عن الحسن بن صالح بن حى، وحميد بن عبد الرحمن جواز الوضوء بالخل. وفي الهداية جواز عند الأئمة الحنفية بالماء الذى يقطر من المكرم. وبعضهم لم يجوزه بماء البحر. قال الشعراني الشيخ عبد الوهاب (في الميزان) : أتفق العلماء على أنه لا تصح الطهارة إلا بالماء، مع قول ابن ليلى والأصم بجواز الطهارة بسائر أنواع المياه المعتصرة من الأشجار ونحوها. أهـ. ولا يخفى أنهما من المجتهدين المشهورين، لا سيما ابن أبي ليلى فقد كان مجتهداً في زمن أبي حنيفة، حتى نقل العلامة الشيخ عبد العزيز الرجبى البغدادى في شرحه لكتاب الخراج لأبي يوسف أن أبا يوسف ترافع عنده أحد الملوك مع أحد الرعية، ونور الملك دعواه بشاهدين، ثم وقع في نفس الإمام انه غير محق في تلك الدعوى. والبينة. فقال الإمام له: إن خصمك يريد تحليفك على ان شاهديك شهدا بحق لعلمه أن الملك لا يحلف. فقال: شهود ويمين؟ فقال الإمام: إن ابن أبي ليلى يرى ذلك، وهو من كبار المجتهدين. فنكل حينئذ الملك عن اليمين أهـ. وترجمته في الطبقات والتواريخ مشهورة. ومما يقرب من هذا الخلاف الإمام الأعظم أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبقية الأئمة الثلاث من قوله بإزالة النجاسة الحقيقية بسائر المائعات المزيلات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 للنجاسة، كماء الورد والخل، ونحوهما، وقولهم: لا تزال إلا بالماء خاصة، فلا تغفل. [حكم المسح على النعلين وما جرى مجراهما] (قال ابن رجب: واختار القول بجواز المسح على النعلين والقدمين وكل ما يحتاج في نزعه من الرجال إلى معالجة باليد أو بالرجل الأخرى، فإنه يجوز المسح عليه مع القدمين) أقول: لم أر في تأليفاته التى بين يدى أنه أختار هذا القول، بل رأيته قال في فتاواه ما نصه: الخف إذا كان فيه خرق يسير، فيه نزاع مشهور، فأكثر الفقهاء على أنه يجوز المسح عليه كقول أبي حنيفة ومالك. والقول الثاني أنه لا يجوز كما هو المعروف في مذهب الشافعي وأحمد، قالوا: لأن ما ظهر من القدم ففرضه الغسل، وما أستتر ففرضه المسح، ولا يمكن الجمع بين البدل والمبدل، والقول الأول أرجح. أهـ. باقتصار. (قلت) : لعل من ذلك ما ذكره (في الميزان) عن الثورى أنه قال: أمسح على الخفين ما تعلقا بالقدم وإن تخرقا. أهـ. وأما دليل المسح على النعلين إن قال به فلعله ما رواه أبو داود في سننه قال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحرانى حدثنا محمد يعنى ابن سلمه، عن محمد بن اسحق، عن محمد بن طلحه ابن يزيد بن ركانه، عن عبيد الله الخولانى، عن ابن عباس قال: علي - يعنى علي بن أبي طالب. وقد أهراق الماء فدعا بوضوء فاتيناه بتور دخل فيه ماء حتى وضعناه بين يديه، فقال يا ابن عباس: ألا اريك كيق كان يتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: بلى. قال: فأصغى الإناء على يده فغسلها، ثم أدخل يده اليمنى فأفرغ بها على الأخرى، ثم غسل كفيه، ثم تمضمض واستنثر، ثم دخل يديه في الإناء جميعاً فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بها على وجهه، ثم ألقم إبهاميه ما أقبل من اذنيه، ثم الثانية ثم الثالثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 مثل ذلك، ثم أخذ بكفيه اليمنى قبضة من ماء فصبها على ناصيته فتركها تسف على وجهه، ثم غسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح راسه وظهور أذنيه ثم ادخل يديه جميعاً فأخذ حفنة من ماء فضرب بها على رجله وفيها النعل ففتلها بها، ثم الأخرى مثل ذلك. قال: قلت وفي النعلين. قال: قلت وفي النعلين قال: وفي النعلين. وما رواه أيضاً في سننه عن أوس بن ابي أوس الثقفى، قال: إنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى كظامة قوم فتوضأ ومسح على نعليه وقديمه ومسح على بن ابي طالب على الجوزبين، وروى ذلك عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما. [هل يتوقت المسح على الخفين؟] (قال ابن رجب: واختار أن المسح على الخفين لا يتوقف إلى آخره) أقل: هذا موافق لقول الإمام مالك، فقد قال محمد المالكى في التوضيح: إن المقيم لا يمسح عند مالك في رواية عنه. والمسافر يمسح مؤبداً. وفي الأخرى. المقيم كالمسافر مسح مؤبداً، وكذلك نقله المالكية الداماد من الحنفية في شرح الملتقى. وقال الشعراني من الشافعية: قال مالك: لا تتوقف مدة المسافر ولا المقيم، بل يمسح ما بداله مالم ينزعه أو يصبه جنابة. أهـ. (قلت) : ولعل المأخذ في ذلك ما رواه في الميزان عن البيهقى بسنده إلى أبي عمارة قال: ((قلت يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: نعم، فقلت: يوماً؟ قال يومين. فقلت: ويومين؟ قال وثلاثة. قلت: يا رسول الله وثلاثة؟ قال: نعم وما بدا لك)) وفي رواية ((وما شئت)) . وفي رواية ((قال نعم، حتى سبعاً)) ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم ما بدا لك)) أهـ. فلا تغفل. (قال ابن رجب: واختار المسح على اللفائف ونحوها) أقول: لم أطلع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 عليه في كتبه، لكن أنت تعلم ان مثل هذه المسائل فيها للإجتهاد مساغ ودلائل، لا سيما، وقد وقه في باب المسح اختلاف كثير، يعرفه المطلع الخبير فقد قال الشيخ محيى الدين عليه الرحمة في الفتوحات ما نصه: أما المسح على الخفين فاختلف علماء الشريعة فيه، فمن قائل بالجواز على الإطلاق، ومن قائل بمنع جوازه على الإطلاق، كابن عباس، ورواية عن مالك. ومن قائل بجواز المسح عليهما في السفر دون الحضر. واختلف علماء الشريعة في تحديد المسح على الخف، فمن قائل: إن القدر الواجب من ذلك مسح أعلى الخف وما زاد على ذلك فمستحب، وهو مسح أسفل الخف بقول على بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه: لو كان الدين بالرأى لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح أعلى الخف. وقال أشهب: إن الواجب مسح باطن الخف، ومسح الأعلى مستحب. واختلفوا في المسح على الجوربين، فمن قائل بالمنع على الإطلاق ومن قائل بالجواز إذا كان على صفة خاصة. فإما أن تكون من الكثافة والنحافة بحيث أن يصل ماء المسح إلى الرجل، وأو يكون مبطناً بجلد يجوز المشى فيه واى يمكن المشى فيه. واختلفوا في المتخرق (1) فمن قائل بجوازه إذا كان الخرق يسيراً من غير حد. ومن قائل بتحديد الخرق اليسير بثلاثة أصابع. ومن قائل بجوازه مادام ينطلق عليه اسم الخف وإن تفاحش خرقه، وهو الأوجه عندى. ومن قائل بمنع المسح إذا كان الخرق في مقدم الخف وإن كان يسيراً. والذى اقول به: إن هذه المسالة لا أصل لها ولا نص فيها في كتاب ولا سنة، فكان   (1) على هامش الأصل ما نصه: ونقل في الميزان عن الثورى أنه قال: أمسح على الخفين ما تعلقا بالقدم وإن تخرفا. قال: وكذلك كانت خفاف المهاجرين والأنصار مخرقة مشققة. أهـ. منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 الأولى إهمالنا لها، والذى أحوجنا إلى الكلام فيها خلاف علماء الشريعة المطهرة. والحق في ذلك عندنا إنما هو مع من قال يجوز مادام يسمى خفاً. وأختلفوا في وقت المسح، فمن قائل بالتوقيت فيه ثلاثة ايام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم. ومن قائل بان لا توقيت، وليمسح ما أراد ما لم يقم مانع كالجنابة. وأختلفوا في شرط المسح، فمن قائل: إن من شرط المسح أن يكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء. ومن قائل: إنه ليس من شرطه إلا طهارتهما من النجاسة، وبه أقول، والقول الأول أحوط. وشرط آخر أن لا يكون خف على خف، فمن قائل بجواز المسح عليهما، وبه أقول. ومن قائل بالمنع، وهكذا حكم الجرموق. أهـ. ملخصاً. (قلت) : واختلفوا في جواز المسح على العمامة، فأجازة الإمام أحمد إذا كانت محنكة، وقد أستوفى البحث عليها الوالد في الأجوبة العراقية فإن أردته، فأرجع إليه. [التيمم لخشية فوات الوقت] (قال ابن رجب: واختار جواز التيمم بخشية فوات الوقت في حق المعذور، كمن أخر لصلاة عمداً حتى تضايق وقتها، وكذا من خشى فوت الجمعة، والعيدين وهو محدث) - اقول: أما التيمم لصلاة العيدين وكذا الجنازة إذا خيف فوتهما فقد أجاز الإمام الأعظم خلافاً للثلاثة. وقال في الميزان: زمن تعذر عليه الماء في الحضر وخاف فوت الوقت فإن كان الماء بعيداً عنه، أو في بئر ولو أستقى منه خرج الوقت أنه يتيمم ويصلى، ثم إذا وجد الماء أعاد، مع قول مالك: إنه يصلى بالتيمم، ولا يعيد، ومع قول أبي حنيفة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 إنه يصبر إلى ان يقدر على الماء. أهـ. وقال المالكى في التوضيح على قول الماتن: وكذلك الحاضر الصحيح يخشى فوات الوقت على المشهور، ولا يعيد ما نصه: منشأ الخلاف هل تتناول الآية الحاضر أو هي مختصة بالمريض والمسافر، وذلك لأنه تعالى قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} الآية، فإن حملنا ((أو)) على بابها فيكون قوله {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء} مطلقاً، ولا يختص بمريض ولا مسافر، وإن جعلناهم بمعنى الواو خصت المريض والمسافر، لأن التقدير: وإن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط. والمشهور أظهر لحمل ((أو)) على حقيقتها. ومقابل المشهور لمالك أنه يطلب الماء وإن خرج الوقت. والمشهور أيضاً أنه لا إعادة عليه. أهـ. ملخصاً. والتيمم لصلاة الجنازة مختلف فيه عند المالكية أيضاً، وكذا لو خشى فوات الجمعة فقولان. قال الشارح في توضيحه: القول بالمنع لأشهب. قال: فإن فعل لم يجزه. والقول بالجواز حكاه ابن القصار وغيره. قال ابن عطاء الله: ومنشأ الخلاف هل الجمعة فرض يومها أو بدل عن الظهر. أهـ. وظاهر المذهب أنه لا يتيمم لها. قال ابن يونس: قال بعض المتأخرين: لو قيل يتيمم ويدرك الجمعة، ثم يتوضأ ويعيد احتياطاً ما بعد. أهـ. ما في التوضيح فليتدبر، وسيأتى قريباً ما يوضحه إن شاء الله تعالى. [اختيار لابن تيمية في التيمم] (قال ابن رجب: واختار أن المرأة إذا لم يمكنها من الاغتسال. إلخ) - أقول: هذا قريب مما مر. وقال الشيخ محيى الدين عليه الرحمة في الفتوحات (باب كون التيمم بدلاً عن الوضوء باتفاق، ومن الكبرى بخلاف) - أتفق بالشريعة أن التيمم بدل من الطهارة الصغرى والكبرى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 ونحن لا نقول فيها: إنها طهارة مشروعة مخصوصة اعتبرها الشرع، فإنه ما ورد شرع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا من الكتاب العزيز أن التيمم بدل، فلا فرق بين التيمم وبين كل طهارة مشروعة. وإنما قلنا مشروعة، لأنها ليست بطهارة لغوية. واتفق علماء الشريعة على أن التيمم يجوز للمريض والمسافر. واختلفوا في المريض يجد الماء ويخاف من استعماله، فمن قائل بجواز التيمم له، وبه أقول ولا إعادة عليه. ومن قائل: لا يتيمم مع وجود الماء، سواء في ذلك المريض والخائف. ومن قائل: يتيمم، وإن وجد الماء قبل خروج الوقت توضأ وأعاد، وإن وجد الماء بعده لا إعادة عليه. واختلفوا في الحاضر إذا عدم الماء، فمن قائل: يجوز التيمم له، وبه أقول. ومن قائل: لا يجوز التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء. واختلف العلماء في الخائف من البرد، وإذا غلب على ظنه أنه يمرض باستعماله، فمن قائل: يجوز التيمم. ومن قائل: لا يجوز، وبالأول أقول. واختلفوا فيه النية له، فمن قائل تحتاج. ومن قائل لا تحتاج، وبالأول أقول، لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة 5] ، والتيمم عبادة والإخلاص عين النية. واختلفوا في اشتراط دخول الوقت في هذه الطهارة، فمن قائل، به أقول. ومن قائل بعدم هذا الشرط فيها. واختلف العلماء في حد الأيدى في التيمم، فمن قائل مثل حدها في الوضوء. ومن قائل: هو مسح الكف فقط. ومن قائل: إن الاستحباب، والفرض الكفان. ومن قائل: إن الفرض إلى المناكب. والذى أقول به: إن أقل ما يسمى يداً في لغة العرب يجب، فما زاد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 أقل مسمى اليد إلى غاية فذلك له، وهو مستحب عندى. واختلفوا في عدد الضربات على الصعيد، فمن قائل: واحدة. ومن قائل: إثنان. ومن قائل: ضربتان لليدين، وضربتان للوجه. ومذهبنا من ضرب واحدة أجزأت عنه، وحديث الضربة الواحدة أثبت، فهو أحب إلى. أهـ. ملخصاً. (وأقول) : إنى لم أعثر عليه في فتاويه. نعم، ورأيت ما يوافقه حاكياً للأقوال، وهو قوله: مسألة - مسافر وصل الماء وقد ضاق الوقت ما يفعل؟ الجواب - إذا وصل الماء وقد ضاق الوقت، فإنه يصلى بالتيمم على قول جمهور العلماء. وكذا لو كان هناك بئر، ولكن لا يمكن أن يصنع حبلاً حتى يخرج الوقت فيتيمم. وقد قال بعض الفقهاء: إنه يغتسل ويصلى بعد خرود الوقت، وهو ضعيف. فإذا علم المسافر أنه لا يجد الماء حتى يفوت الوقت كان فرضاً عليه أن يصلى بالتيمم باتفاق الأئمة، وليس له التأخير حتى يجد الماء. وهذا بخلاف المستيقظ آخر الوقت والماء حاضر، فإن هذا مأمور أن يغتسل ويصلى ووقته من حين يستيقظ لا من حين طلوع الفجر. بخلاف من كان يقظان عند طلوع الفجر، أو عند زوالها مقيماً، أو مسافراً، فالوقت في حقه من حينئذ، والله تعالى اعلم. أهـ. ورأيت في محل آخر من فتاويه ما منه: ومن كان مستيقظاً في أول الوقت والماء بعيد عنه لا يدركه إلا بعد الوقت، فإنه يصلى في الوقت بالتيمم باتفاق العلماء. اما إذا استيقظ آخر وقت الفجر، وإذا اغتسل طلعت الشمس، فجمهور العلماء هنا يقولون: يغتسل ويصلى بعد طلوع الشمس، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأحد القولين في مذهب مالك رحمهم الله تعالى. وقال في القول الآخر: يتيمم أيضاً ويصلى في الوقت، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 تقدم في تلك المسائل. والصحيح هنا قول الجمهور، لأن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ، وقبل ذلك لم يكن وقتها في حقه. وإذا كان كذلك، فإذا استيقظ قبل طلوع الشمس فلم يمكنه الاغتسال والصلاة إلا بعد طلوعها، فقد صلاها في وقتها، ولم يفوتها عن وقتها في حقه بخلاف من استيقظ أول الوقت. وكذلك من نسى صلاة، فإذا ذكرها فإنه يغتسل ويصلى في اى وقت كان وهذا هو الوقت في حقه. وإذا لم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، كما استيقظ الصحابة لما ناموا عن الصلاة عام خيبر، فإنه يصلى بالطهارة الكاملة وإن أخرها إلى حين الزوال، ولا يصلى هنا بالتيمم. ويستحب أن ينتقل عن المكان الذى نام فيه كما انتقل - صلى الله عليه وسلم -. وبالجملة فليس لأجد شغل يسقط عنه فعل الصلاة في وقتها، بل لا بد أن يصليها في الوقت، لكن يصلى بحسب حاله، فما قدر عليه فعله وما عجز عنه سقط عنه. أهـ. (ولنذكر) من كلام أئمتنا الحنفية ما يقرب من أقوال الشيخ ابن تيميه، أو يوافقها بالقواعد المرعية، في هذه المسائل الفرعية. فمن ذلك ما ذكره في الدار المختار، وحاشيته رد المختار في بحث الغسل ما نصه: عليه غسل وثمة رجال لا يدعه وإن رأوه. والمرأة بين رجال ونساء تؤخره. لا بين نساء فقط. واختلف في الرجل بين رجال ونساء، أ, نساء فقد كما بسطه ابن الشحنة. وينبغي لها أن تتيمم وتصلى لعجزها شرعاً عن الماء. ولا يخفى أن تأخير الغسل لا يقتضى عدم التيمم، فإن المبيح له وهو العجز عن الماء قد وجد، والأشبه الإعادة بعد ذلك. واستظهر الرحمتى عدم الإعادة، قال: لأن العذر لم يأت من قبل المخلوق، فإن المانع لها الشرع والحياء، وهما من الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 وفي باب التيمم منهما: من عجز عن استعمال الماء تيمم لبعده ميلاً أربعة آلاف ذراع أو خطوة، أو لمرض يشتد أو يمتد، أو برد يهلك الجنب أو يمرضه، ولو في المصر، وإذا لم تكن له أجرة حمام، ولا ما يدفيه، أى من ثوب يلبسه أو مكان يؤويه. وكذلك يباح التيمم لخوف عدو أو عطش، أ, عدم آلة. وجاز التيمم لخوف فوت صلاة الجنازة، أى ولو كان الماء قريباً، أو كان المصلى جنباً أو كونه إماماً أو لا في الأصح، لأن المناط خوف الفوت لا إلى بدل. فجاز لكسوف، وخسوف، وسنن رواتب، كالسنن التى بعد الظهر والمغرب والعشاء والجمعة إذا أخرها، بحيث لو توضأ فات وقتها فله التيمم. قال الطحاوى: والظاهر أن المستحب كذلك لفوته وقته، كما إذا ضاق وقت الضحى عنه وعن الوضوء فتيمم له، لا يجوز التيمم لفوت الجمعة ووقت لفواتها إلى بدل، أى فبدل الجمعة يصلى ظهراً، وبدل الوقتيات قضاء. وقال زفر: يتيمم لفوات الوقت. وفي القنية: أنه رواية عن مشايخنا قال البرهان الحلبي: فالأحوط أن يتيمم ويصلى ثم يعيد، وإنما أختار المشايخ قول زفر لقوة دليله، وهو أن التيمم إنما شرع للحاجة إلى أداء الصلاة في الوقت، فيتيمم عند خوف فوته. قال ابن الهمام: ولم يتجه لهم عليه سوى أن التقصير جاء من قبله فلا يوجب الترخيص عليه، وهو إنما يتيمم إذا أخر لا لعذر. أهـ. وأقول: إذا أخر لا لعذر، فهو عاص. والمذهب عندنا أنه كالمطيع في الرخص. نعم، وتأخير إلى هذا الحد عذر جاء من قبل غير صاحب الحق، فينبغي أن يقال: يتيمم ويصلى، ثم يعيد الوضوء، كمن عجز بعذر من قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 العباد. ونقل الزاهدى في شرحه هذا الحكم عن الليث بن سعد. وقد ذكر ابن خلكان: أنه كان حنفي المذهب. أهـ. ما في الحلية. وهذا قول متوسط بين القولين، وفيه الخروج عن العهدة بيقين، ولا سيما وابن الهمام يميل إلى ترجيح قول زفر، وأنه رواية عن مشايخنا الثلاثة. ونظير هذا مسألة الضيف الجنب الذى خاف ريبة، فإنهم قالوا: يصلى بالتيمم مع وجود الماء، ثم يعيد. أهـ. باختصار. وإن أردت زيادة الاطلاع على نظائر هذه المسائل وتفصيل الدلائل فارجع إلى الكتب المطولة، وبما ذكرناه من أقوال العلماء والقواعد التى زبرتها الأجلاء، تبين توجيه ما أختاره الشيخ فتدبر ذلك، أظنك تسلك به إن شاء الله تعالى أحسن المسالك. [مدة الحيض] (قال ابن رجب: واختار أن لآحد لأقل الحيض، ولا لأكثرة ... ألخ) أقول: نقل في شرح الملتقى من كتب الحنفية أنه لأحد لأكثر الحيض، ولا لأقله عند الإمام مالك. وقال الشعراني في الميزان، وقال مالك والشافعي: إنه ليس لأمد انقطاع الحيض مدة معينة، وإنما الرجوع فيه إلى إعادة البلدان، فإنه يختلف باختلافها في الحرارة والبرودة. وفي الفتوحات: وأما أقل الحيض، فمن قال لا حد لأقله، وبه أقول، فإن أقل الحيض عندنا دفعه. أهـ. وفي الدرر البهية للشوكاني، وشرحه الروضة الندية لشيخنا أبي الطيب القنودي: ولم يأت في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة وكذلك الطهر، لأن ماورد في تقدير أقله وأكثره ما تقوم به الحجة وكذلك الطهر، لأن ما ور د في تقدير الحيض والطهر وأكثرهما، فهو إما موقوف، ولا تقوم به الحجة، أو مرفوع ولا يصح. فلا تعويل على ذلك ولا رجوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 إليه، بل المعتبر لذات العادة المتقررة هو العادة. وغير المعتادة تعمل بالقرائن المستفادة من الدم. أهـ. [مسافة القصر] (قال ابن رجب: وقال القصر يجوز في قصير السفر وطويله كالظاهرية) . أقول: من أدلة داود، أهل الظاهر على ذلك قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً} ، وخصوا أيضاً القصر بصلاة السفر. غير أنهم اختلفوا في مدته، فروى عن عمر أنه قال: يقصر في يوم تام، وبه قال الزهرى والأوزاعي. وقال ابن عباس: إذا زاد على يوم وليلة قصر. وقال أنس بن مالك: المعتبر خمس فراسخ. وقال الحسن: مسيرة ليلتين، وقال الشعبي والمخعي وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المدائن، وهي مسيرة ثلاثة أيام، وإليه ذهب إمامنا أبو حنيفة رحمه الله تعالى. وقال مالك والشافعي: أربعة برد، كل يريد أربعو فراسخ، كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد النبي - صلى الله عليه وسلم -، هو الذى قدر أميال البادية، كل ميل أثني عشر ألف قدم، وهي أربعة ألاف خطوة، فإن كل ثلاثة أقدم خطوة. فالحنفية استدلت بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يمسح المسافر ثلاثة أيام)) وهذا يقتضى أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام ألا يكون مسافراً وإذا لم يكن مسافراً لم تحصل له الرخص المشروعة في السفر. وأما الشافعية فاستدلوا بما رواه ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 وسلم - أنه قال: ((يأهل مكة، لا تقصرة في أدنى من اربعة برد من مكة إلى عسفان)) . قالت الظاهرية: أضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلاً قوياً في تقدير المدة. وأدلة الحنفية والشافعية تعارضت فتساقطت، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن، وهو مقطوع المتن والخبر، مظنون المتن لأنه خبر واحد. فكان القرآن أقوى دلالة فلزم العمل به. وإن أردت استقصاء أدلتهم وأدلة غيرهم فارجع إلى تفسير الفخر وغيره. وقد تراءى لك أن الشيخ ابن تيمية وافق في ذلك سادات، أقوالهم مرضية والحمد لله سبحانه. [هل تستبرأ البكر؟] (قال ابن رجب: واختار أن البكر لا تستبرأ) . أقول: قال في الميزان: قال الأئمة الثلاثة إنه لا فرق في وجوب الاستبراء بين الصغيرة والكبيرة، والبكر والثيب. وقال مالك: إنها إن كانت ممن يوطأ مثلها لا يجوز وطؤها قبل الاستبراء. وإن كانت ممن يوطأ مثلها جاز وطؤها من غير استبراء. وقال داود: لا يجب استبراء البكر. أهـ. وقد علمت من كلام ابن رجب أنه قول ابن عمر، واختاره البخارى أيضاً فليفهم. قال ابن رجب: واختار أن كل من أكل في شهر رمضان أنه دليل لا قضاء عليه. [هل يقضى من أكل في وقت الصوم يظنه بليل] أقول: قال الشعراني: أتفق الأئمة على أنه لو أكل شاكاً في طلوع الفجر ثم بان أنه طلع بطل صومه. وقال عطاء وداود وإسحق: إنه لا قضاء عليه. وحكى عن مالك: أنه يقضى في الفرض. أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 وقال ابن رجب: إنه الصحيح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وإليه ذهب بعض التابعين وبعض الفقهاء بعدهم. أهـ. فليحفظ. [المسابقة] (قال ابن رجب: والقول بجواز المسابقة بلا محل، وإن أخرج المستبقان) أقول: إنى عثرت في كتب الشيخ ابن تيمية عليه الرحمة التى عندى على مفصل بحث المسابقة، غير أنى وجدت له عبارة توافق أقوال العلماء استطردها في بحث حرمة الشطرنج والنرد ما نصها: قال الذين لم يحرموا الشطرنج كطائفة من اصحاب الشافعي عليه الرحمة وغيرهم اعتقدوا أن لفظ الميسر لا يدخل فيه إلا ما كان قماراً فيحرم لما كان فيه من أكل المال بالباطل، كما يحرم مثل ذلك في المسابقة والمناضلة، فإنه لو أخرج كل منهما السبق ولم يكن بينهما محلل حرموا ذلك لأنه قمار. وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار)) . أهـ. ولنذكر ما قاله علماء المذاهب الأربعة في بحث المسابقة على وجه الاختصار، لتتضح المسألة لذوى الأبصار. فاعلم أن المسابقة بين الخيل كما قال الإمام النووى والشافعي في شرح صحيح مسلم: أختلف العلماء فيها هل هي مباحة أم مستحبة؟ ومذهب اصحابنا أنها مستحبة. وأجمع العلماء على جواز المسابقة بغير عوض بين جميع أنواع الخيل: قويها مع ضعيفها، وسابقها مع غيره، سواء كان معها ثالث أو لا. فأما المسابقة بعوض فجائزة بالإجماع، لكن بشرط أن يكون العوض من غير المتسابقين، أو يكون بينهما، ويكون معهما محلل ثالث على فرس مكافئ لفرسيهما، ولا يخرج المحلل من عنده شيئاً ليخرج هذا العقد من صورة القمار. أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 وفي شرح المنهاج: ويجوز شرط المال من غيرهما، بأن يقول الإمام أو أحد الرعية من سبق منكما فله من بيت المال أو على كذا. ومن أحدهما فيقول: إذا سبقتنى فلك على كذا، وإن سبقتك فلا شئ عليك، لأن المقصد خلو العقد عن القمار، فإن المخرج حريص على أن يسبق كي لا يغرم. والآخر حريص عليه ليأخذ. وعن مالك لا يجوز. لأنه نوع من القمار، فإن شرط أن يسبق من سبق فله على الآخر. كذا لم يصح إلا بمحلل فرسه كفء لفرسيهما، لأن ذلك يخرج العقد عن صورة القمار. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أدخل فرساً بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار)) صحح ابن حبان. وقيل: لا يجوز. ولا اعتبار بالمحلل، لأن كلا منهما قد يغتم وقد يغرم وذلك قمار - والمذهب الأول. أهـ. وقال ابن حجر في التحفة: ولو كانوا عشرة وشرط لكل واحد سوى الأخير مثل أو دون من قبله جاز على ما في الروضة. أهـ، وقد نظم أسماءها شارح المنهاج فقال: [رجز] . مهمة خيل السبق عشره ... في الشرح دون الروضة المعتبرة وهي مجل ومصل تالى ... والبارع المرتاح بالتوالى ثم حظى عاطف مؤمل ... ثم السكيت والأخير الفسكل وفي الدر المختار الحنفي ما نصه: ولا بأس بالمسابقة في الرمي والفرس والبغل والحمار والإبل وعلى الأقدام، لأنه من أسباب الجهاد فكان مندوباً، وعند الثلاثة لا يجوز في الإقدام، أى بالجمل، أما بدونه فيباح في كل الملاعب. وحل الجعل إن شرط المال من جانب واحد، وحرم لو شرط من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 الجانبين لأنه يصبح قماراً، لأن القمر الذى يزداد تارة وينتقص أخرى وسمى القمار قماراً، لأن واحد من المقامرين ممن يجوز أن يذهب ماله إلى صاحبه، ويجوز أن يستفيد مال صاحبه وهو حرام بالنص. ولا كذلك إذا شرط من جانب واحد، لأن الزيادة والنقصان لا تمكن فيهما، بل في أحدهما تمكن الزيادة، وفي الآخر إلا نتقاض فقط فلا تكون مقامرة، لأنها مفاعلة منه إلا إذا أدخلا ثالثاً محللاً بينهما بفرس كفء لفرسيهما يتوهم أن يسبقهما، وإلا لم يجز. ثم إذا سبقهما أخذ منهما، وإن سبقاه لم يعطيهما، وفيما بينهما أيهما سبق أخذ من صاحبه. أهـ. بضم من الحاشية وبقى فيها زيادة بيان. وفي شرح الزرقاني لموطإ الإمام ما نصه: عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد ابن المسيب يقول: ليس برهان الخيل بأس، وغن لم يكن في حديث ابن عمر المذكور عند مالك والأئمة الستة، لأنه جاء في بعض طرقه عند احمد من رواية عبد الله عن نافع عن ابن عمران أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((سابق بين الخيل وراهن)) وقد اتفقوا على جواز المسابقة بعوض بشرط كونه من غير المتسابقين، كما قال: إذا دخل فيها محلل فإن سبق (بالبناء للفاعل) أخذ السبق (بفتحتين) أى الرهن الذى يوضع لذلك، وإن سبق لم يكن عليه شئ بشرط ألا يخرج المحلل من عنده شيئاً، ليخرج العقد من صورة القمار. وهو أن يخرج كل منهما سبقاً، فمن غلب أخذه، فهذا ممنوع اتفاقاً. وأجمعوا على جواز المسابقة بلا عوض، لكن قصرها مالك والشافعي على الخف والحافر والنصل لحديث: ((لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر)) رواه الترمذى. وخصه بعض العلماء بالخيل، أجازه عطاء في كل شيء. أهـ. وفي شرح الدليل من كتب الحنبلية ما نصه: الخامس: الخروج عن شبه القمار بأن يكون العوض من واحد، فإن أخرجا معاً بأن أخرج كل من المتسابقين شيئاً لم يجز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 إلا بمحلل لا يخرج شيئاً، ولا يجوز كون المحلل أكثر من واحد يكافئ مركوبة مركوبيها في المسابقة، فإن سبقا معاً أى سبق المخرجان المحلل ولم يسبق أحدهما الآخر أحرزا سبقيهما، أى أحرز كل واحد منهما ما أخرجه لأنه لا سابق فيهما. ولا شء للمحلل، لأنه لم يسبق واحداً منهما، ولم يأخذا من المحلل شيئاً لأنه لم يشترط عليه من سبقه شيئاً. وإن سبق أحدهما - أى أحد المخرجين - صاحبه أو سبق المحلل أحرز السبقتين، لأنهما قد جعلاه لمن سبق. أهـ. وبقى في صورة المسابقة كلام يطلب من محله. والحاصل أنى لم أعثر للشيخ ابن تيمية على كلام مغاير لكلامه الأول، أو لكلام الجمهور الذى عليه المعول، ولئن سلمنا صحة النقل عنه فيما يخالف الجمهور فلابد أن يكون لمستند من قياس أو خبر مأثور، أو اختيار لقول مجتهد مهجور، قد تبينت عنده ادلته، وثبتت لديه ارجحيته لقوة الدليل والله سبحانه الموفق للصواب وهو يهدى السبيل. فتدبر ولا تفغل. (قال ابن رجب: والقول باستبراء المختلعة بحيضه) - أقول وبالله تعالى التوفيق: قال العلامة ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين ما نصه: فصل [استبراء المختلعة] كلام دقيق لابن القيم في أنواع العدة وتعطيلها وأما تفريقه في العدة بين الموت والطلاق وعدة الحرة وعدة الأمة، بين الاستبراء والعدة، مع أن المقصود العلم ببراءة الرحم في ذلك كله، فهذا إنما يتبين وجهه إذا عرف الحكمة التى لأجلها شرعت العدة، وعرفت أجناس العدة وأنواعها. فأما المقام الأول - ففي شرع العدة حكم مع العلم ببراءة الرحم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 ألا يجتمع ماء الوطأين وأكثر، فتختلط الأنساب وتفسد. وفي ذلك من الفساد ما تمنعه الشريعة والحكمة. ومنها تعظيم خطر هذا العقد ورفع قدره، وإظهار شرفه. ومنها تطويل زمان الرجعة للمطلق، إذ لعله يندم فيصادف زمناً يتمكن من الرجعة. ومنها قضاء حق الزواج وإظهار تأثير فقده في المنع من التزين والتجمل، ولذلك شرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد. ومنها الاحتياط لحق الزوج ومصلحة الزوجة، وحق الولد والقيام بحق الله الذى أوجبه. ففي العدة أربعة حقوق، وقد أقام الشارع الموت مقام الدخول في استيفاء العقود عليه، فإن النكاح مدة الممر، ولهذا أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق، وفي تحريم الريبة عند جماعة من الصحابة ومن بعدهم، كما هو مذهب زيد بن ثابت - رضي الله عنه - والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه. فليس المقصود من العدة مجرد براءة الرحم، بل ذلك من بعض مقاصدها وحكمها. المقام الثاني في أجناسها. وهي أربعة في كتاب الله تعالى، وخامس في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فالجنس الأول من أرباب العدة - {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق 4] . الثاني - {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بانفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة 234] . والثالث - {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة 228] . والرابع - {واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن أرتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} [الطلاق 4] . والخامس - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة)) مقدم هذه الأجناس الحاكم عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 كلها - وضع الحل، فإذا وجد فالحكم له ولا التفات إلى غيره. وقد كان بين السلف نزاع في المتوفي عنها أنها أبعد الأجلين، ثم حصل الاتفاق على أنقضائها بوضع الحمل. وأما عدة الوفاة فتجب بالموت، سواء دخل بها أو لم يدخل، كما دل عليه عموم القرآن والسنة الصحيحة واتفاق الناس، فإن الموت لما كان انتهاء العقد وانقضاءه واستقرت به الأحكام من التوراث واستحقاق المهر، وليس المقصود بالعدة ههنا مجرد استبراء بحيضة واحدة، ولا ستواء الصغيرة والأيسة وذوات القرء في مدتها. فلما كان الأمر كذلك قالت طائفة: هي تعبد محض لا يعقل معناه. وهذا باطل لوجوه: منها - أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة، يعقله من عقله، ويخفى على من خفى عليه. ومنها - أن العدة ليست من باب العبادات المحضة، فإنها تجب في حق الصغيرة والكبيرة، العاقلة، والمجنونة، والمسلمة والذمية، ولا تفتقر إلى نية. ومنها - ان رعاية حق الزوجين والولد والزوج ظاهر فيها. والصواب أن يقال: هي تحريم لانقضاء النكاح لما كمل. ولهذا تجد فيها رعاية لحق الزوج وحرمة له. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من احترامه ورعاية حقوقه تحريم نسائه بعده، ولما كان نساؤه في الدنيا هن نساءه في الآخرة قطعاً لم يحل لأحد أن يتزوج بهن بعده بخلاف غيره، فإن هذا ليس معلوماً في حقه. فلو حرمت المرأة على غيره لتضررت ضرراً محققاً بغير نفع معلوم. ولكن لو تأيمت على أولادها كانت محمودة على ذلك. وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في أحترام حق الزوج، وتعظيم حرمة هذا العقد غاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 المبالغة من تربص سنة في شر ثيابها وحفش بيتها، فخفف الله تعالى عنهم ذلك بشريعته التى جعلها رحمة وحكمة ومصلحة ونعمة، بل هي من أجل نعمة عليهم على الإطلاق، فله الحمد كما هو أهله. وكانت أربعة أشهر وعشراً على وفق الحكمة والمصلحة، إذ لا بد من مدة مضروبة لها، وأولى المدد لذلك المدة التى يعلم فيها وجود الولد وعدمه، فإنه يكون أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين علقة، ثم أربعين مضغة - فهذا أربعة أشهر. ثم ينفخ فيه الروح في الطور الرابع، وقدر بعشرة أيام، لتظهر حياته بالحركة إن كان ثم حمل. فصل وأما عدة الطلاق فلا يمكن تعليلها بذلك، لأنها إنما تجب بعد المسيس بالاتفاق، ولا ببراءة الرحم، لأنها تحصل بحيضة كالاستبراء، وإن كان ببراءة الرحم بعض مقاصدها. ولا يقال: هي تعبد لما تقدم، وإنما يتبين حكمها إذا عرف ما فيها من الحقوق، ففيها حق الله سبحانه، وهو أمتثال أمره وطلب مرضاته. وحق للزوج المطلق، وهو اتساع زمن الرجعة له. وحق للزوجة، وهو استحقاقها النفقة والسكنى مادامت في العدة. وحق للولد، وهو الاحتياط في ثبوت نسبه، وأن لا يختلط بغيره. وحق للزوج الثاني، وهو أن لا يسقى ماؤه زرع غيره. فرتب الشارع على كل واحد من هذه الحقوق ما يناسبه من الأحكام، فرتب على رعاية حق لزوم المنزل، وأنها لا تخرج ولا تخرج، هذا موجب القرآن، ومنصوص إمام اهل الحديث أهل الرأى. ورتب على حق المطلق تمكينه من الرجعة مادامت في العدة، وعلى حقها استحقاق النفقة والسكنى، وعلى حق الولد ثبوت نسبه وإلحاقه بأبيه دون غيره، وعلى حق الزوج الثاني دخوله على بصيرة ورحم برئ غير مشغول بولد غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 فكان في جعلها ثلاثة قروء رعاية لهذه الحقوق، وتكميلاً لها. وقد دل القرآن على أن العدة حق للزوج عليها بقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمال كم لعيهن من عدة تعتدونها} فهذا دليل على ان العدة للرجل على المرأة بعد المسيس. وقال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} فجعل الزوج أحق بردها في العدة، فإذا كانت العدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر طالت مدة التربص، لينظر في أمرها هل يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان؟ كما جعل الله سبحانه للمولى تربص أربعة أشهر، لينظر في أمره هل يفئ أو يطلق، وكما جعل مدة تخيير الكفار أربعة أشهر، لينظروا في أمرهم ويختاروا لأنفسهم. فإن قيل: هذه العلة باطلة، فإن المختلعة والمسفوخ نكاحها بسبب من الأسباب، والمطلقة ثلاثاً، والموطوءة بشبهه، والمزنى بها تعتد ثلاثة قروء، ولا رجعة هناك، فقد وجد الحكم في صورة ثابتاً بنص أو إجماع، وأما كونه قولاً لبعض العلماء فلا يمكن النقض به. وقد أختلف الناس في عدة المختلعة، فذهب إسحاق وأحمد في أصح الروايتين عنه دليلاً أنها تعتد بحيضة واحدة. وهو مذهب عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس - رضي الله عنه -. وقد حكى إجماع الصحابة ولا يعلم له مخالف. وقد دلت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة دلالة صريحة. وعذر من خالفها أنها لم تبلغه أو لم تصح عنده، أو ظن الإجماع على خلاف موجبها، فهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر. أما رجحانه أثراً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المختلعة قط أن تعتد ثلاث حيض، بل قد روى اهل السنن عنه عليه الصلاة والسلام من حديث الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس ضرب أمرأته فكسر يدها، وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 فأتى أخوها يشتكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل عليه الصلاة والسلام إلى ثابت فقال: ((خذ الذى لها عليك، وخل سبيلها)) قال نعم. فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها. وذكر أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: أن أمرأة ثابت بن قيس أختلعت من زوجها، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أمرت أن تعتد بحيضة. قال الترمذى: الصحيح أنها تعتد بحيضة. وهذه الأحاديث لها طرق يصدق بعضها بعضاً. وأعل الحديث بعلتين: إحداهما: إرساله. والثاني: أن الصحيح فيه ((امرت)) بحذف الفاعل، والعلتان غير مؤثريتن فإنه قد روى من وجوه متصلة، ولا تعارض بين ((أمرت، وأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) إذ من المحال أن يكون الآمر لها بذلك غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وإذا كان الحديث قد روى بلفظ محتمل، ولفظ صريح يفسر المحتمل ويبينه فكيف يجعل المحتمل معارضاً للمفسر بل مقدماً عليه؟ ثم يكفى في ذلك فتاوى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو جعفر النحاس في كتاب الناسخ والمنسوخ: هو إجماع من الصحابة. وأما اقتضاء النظر له فإن المختلعة لم يبق لزوجها عليها عدة، وقد ملكت نفسها أو صارت أحق ببعضها، فلها أن تتزوج بعد براءة رحمها، فصارت العدة في حقها براءة الرحم. وقد رأينا الشريعة جاءت في غير هذا النوع بحيضة واحدة، جاءت في ذلك في المسبية والمملوكة بعقد معاوضة أو تبرع، والمهاجرة من دار الحرب، ولا ريب أنها جاءت بثلاثة أقراء في الرجعية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 والمختلعة فرع متردد بين هذين الأصلين، فينبغي إلحاقها بأشبهها بها، فنظرنا فإذا هي بذوات الحيضة أشبه. ومما يبين حكمة الشريعة في ذلك: أن الشارع قسم النساء إلى ثلاثة أقسام: أحدها - المفارقة قبل الدخول فلا عدة عليها إذ لا رجعة فيها. الثاني - المفارقة بعد الدخول إذا كان لزوجها عليها رجعة، فجعل عدتها ثلاثة قروء، ولم يذكر سبحانه العدة بثلاثة قروء إلا في هذا القسم، كما هو مصرح به في القرآن العظيم، كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بانفسهن ثلاثة قروء، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [البقرة 228] ، وكذا في سورة الطلاق لما ذكر الاعتداد بالأشهر الثلاثة في حق من إذا بلغت أجلها خبر زوجها بين إمساكها بمعروف أو مفارقتها بإحسان وهي الرجعية قطعاً فلم يذكر الأقراء وبدلها في حق بائن ألبته. القسم الثالث - من بانت عن زوجها وانقطع حقه عنها بسبى أو هجرة أو خلع فجعل عدتها حيضة بالاستبراء، ولم يجعلها ثلاثاً، إذ لا رجعة للزوج، وهذا في غاية الظهور والمناسبة. وأما الزانية والموطوءة بشبهة فموجب الدليل أنها تستبرأ بحيضة فقط ونص عليه أحمد في الزانية، واحتاره شيخنا ابن تيمية في الموطوءة بشبهة وهو الراجح، وقياسهما على المطلقة الرجعية من أبعد القياس وأفسده. فإن قيل: فهب هذا قد سلم لكم فيما ذكرتم من الصور، فإنه لا يسلم معكم في المطلقة ثلاثاً، فإن الإجماع منعقد على اعتدادها بثلاثة قروء مع انقطاع حق زوجها من الرجعة، والقصد مجرد استبراء رحمها. قيل: نعم، هذا سؤال وارد. وجوابه وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 أنه قد أختلف في عدتها، هل هي بثلاثة قروء أو بقرء واحد؟ فالجمهور، بل الذى لا يعرف الناس غيره أنها ثلاثة قروء، وعلى هذا فيكون وجهه أن المطلقة الثالثة كانت من جنس الأوليين فأعطيت حكمها ليكون باب الطلاق كله باباً واحداً، فلا يختلف حكمه، والشارع إذا علق الحكم بوصف لمصلحة عامة لم يكن تخلف تلك المصلحة والحكمة في بعض الصور مانعاً من ترتب الحكم، بل هذه قاعدة الشريعة وتصرفها في مصادرها ومواردها. الوجه الثاني - أن الشارع حرمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره عقوبة له، ولعن المحلل والمحلل له لمناقضتهما ما قصد الله سبحانه من عقوبة، وكان من تمام هذه العقوبة أن طول مدة تحريمها عليه، وكان ذلك أبلغ فيما قصده بتزوجها آخر نكاح رغبة مقصوداً، لا تحليل موجب اللعنة، ويفارقها وتعتد من فراقه ثلاثة قروء أخر - طال عليه الانتظار وعيل صبره فأمسك عن الطلاق الثلاث. وهذا واقع على وفق الحكمة والمصلحة والزجر، وكان التربص بثلاثة قروء في الرجعية نظراً للزوج، ومراعاة لمصلحته لما لم يوقع الثالثة المحرمة لها عليه. وههنا كان تربصها عقوبة له وزجراً لما أوقع الطلاق المحرم لما أحل الله له. وأكدت هذه العقوبة بتحريمها عليه إلا بعد زوج وإصابة وتربص ثان. وقيل: بل عدتها حيضة واحدة، وهو اختيار أبي الحسين بن اللبان، فإن كان مسبوقاً بالإجماع فالصواب اتباع الإجماع، وألا يلتفت إلى قوله، وإن لم يكن في المسألة إجماع فقوله ظاهر: والله تعالى أعلم. فإن قيل: قد جاءت السنة بأن المخبرة تعتد ثلاث حيض، كما رواه ابن ماجه من حديث عائشة - رضي الله عنه - قالت: أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض. قيل: ما أصرحه من حديث لو ثبت، ولكنه حديث منكر بإسناد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 مشهور. وكيف يكون عند أم المؤمنين هذا الحديث وهي تقول: الأقراء الأطهار، فإن صح الحديث وجب القول به ولم يسع مخالفته، ويكون حكمها حكم المطلقة ثلاثاً في اعتدادها بثلاثة قروء، ولا رجعة لزوجها عليها، فإن الشارع يخصص بعض الأعيان والأفعال والأزمان والأماكن ببعض الأحكام، وإن لم يظهر لنا موجب التخصيص. فكيف وهو ظاهر في مسألة المخيرة فإنها لو جعلت عدتها حيضة واحدة لبادرت إلى التزوج بعدها، أيس منها زوجها. فإذا جعلت ثلاث حيض طال زمن انتظارها وحسبها عن الأزواج، ولعلها تتذكر زوجها فيها وترغب في رجعته، ويزول ما عندها من الوحشة. ولو قيل: إن اعتداد المختلعة بثلاث حيض لهذا المعنى بعينه لكان حسناً على وفق حكمه الشارع، ولكن هذا مفقود في المسبية والمهاجرة والزانية والموطوءة بشبهة. فإذا قيل: فهب أن هذا كله قد سلم لكم، فكيف يسلم لكم في الآيسة والصغيرة التى لا يوطأ مثلها. قيل: هذا إنما يرد على من جعل علة العدة مجرد براءة الرحم فقط. ولهذا أجابوا عن هذا السؤال: بأن العدة ههنا شرعت تعبداً محضاً غير معقول المعنى. وأما من جعل هذا بعض مقاصج العدة فإن لها مقاصد أخرى من تكميل شان هذا العقد واحترامه، وإظهار خطره وشرفه، فجعل له حريم بعد انقطاعه بموت أو فرقة، فلا فرق في ذلك بين الآيسة وغيرها، ولا بين الصغيرة والكبيرة، مع أن المعنى الذى طولت له العدة في حق الرجعية والمطلقة ثلاثاً موجود بعينه في الآيسة والصغيرة. وكان مقتضى الحكمة التى تضمنت النظر في مصلحة الزوج في الطلاق الرجعي وعقوبته، وزجره في الطلاق المحرم - التسوية بين النساء في ذلك. وهذا ظاهر جداً وبالله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 التوفيق. أنتهى. وإنما سقته بطوله لأنه قلما يوجد في كتاب، ومنه اتضح سبب الاختيار في هذا الباب، والله تعالى أعلم بالصواب. [وطء الوثنيات بملك اليمين] (قال ابن رجب: والقول بإباحة وطء الوثنيات بملك اليمين) أقول: قال الشعراني في الميزان: واتفقوا على انه لا يجوز لمن يحل له نكاح الكفار وطء إمائهم بملك اليمين. خلافاً لأبي ثور فإنه قال: يجوز وطء جميع الإماء بملك اليمين على أى دين كن. أنتهى فليتدبر. [بيع الأصل بالعصير] (قال ابن رجب: والقول بجواز بيع الأصل بالعصير كالزيتون بالزيت والسمسم بالشيرج) قال الإمام النووى في شرح صحيح مسلم (عند حديث ابن عمر) : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة، والمزابنة: بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً. وبيع الزبيب بالعنب كيلاً، وعن كل ثمر بخرصه. وفي حديث أبي هريرة: رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أو سق ما نصه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرايا باتباع بخرصها. فيه تحريم بيع الرطب بالتمر، وهو المزابنة، كما فسر في الحديث، مشتقة من الزبن وهو المخاصمة والمدافعة. وقد أتفق العلماء على تحريم بيع الرطب بالتمر في غير العرايا، وأنه رباً. وأجمعوا أيضاً على تحريم بيع العنب بالزبيب. وأجمعوا أيضاً على تحريم بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية، وهي المحاقلة، مأخوذة من الحقل وهو الحرث، وموضع بالزرع. وسواء عند جمهورهم كان الرطب والعنب على الشجر أو مقطوعاً. وقال أبو حنيفة إن كان مقطوعاً جاز بيعه بمثله من اليابس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 وأما العرايا فهي أن يخرص الخارص بخلات فيقول: هذا الرطب الذى عليها إذا يبس تجئ منه ثلاثة أوسق من التمر مثلاص، فيبيعه صاحبه لأنسان بثلاثة أوسق تمر، ويتقابضان في المجلس، فيسلم المشترى التمر، ويسلم بائع الرطب الرطب بالتخليه. وهذا جائز فيما دون خمسة أو سق، ولا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق. وفي جوازه في خمسة أوسق للشافعي، أصححها: لا يجوز لأن الأصل تحريم بيع التمر بالرطب وجاءت العرايا رخصة. وشك الراوى في خمسة أوسق أو دونها فوجب الأخذ باليقين وهو دون خمسة أوسق، وبقيت الخمسة على التحريم. والأصح أنه لا يجوز ذلك للفقراء والأغنياء، وأنه لا يجوز في غير الرطب والعنب من الثمار. وفيه قول ضعيف: أنه يحتص بالفقراء. وقول أنه لا يختص بالرطب والعنب. هذا تفصيل مذهب الشافعي في العربة، وبه قال أحمد وآخرون، وتأولها مالك وأبو حنيفة على غير هذا، وظواهر الأحاديث ترد تأولهما. أهـ. وقال في الميزان. قال الأئمة الثلاثة: لا يجوز بيع حيوان يؤكل بلحم من جنسه. مع قول أبي حنيفة إن ذلك جائز. وقال مالك والشافعي: إنه لا يجوز بيع دقيق الحنطة بمثله، مع قول أحمد بجوازه، مع قول أبي حنيفة أنه يجوز بيع احدهما بالآخر إذا استويا في النعومة والخشونة. أهـ. ومن ذلك ومما سيأتى قريباً إن شاء الله تعالى تعلم وجه ما أختاره الشيخ ابن تيميه، وأنه من جملة المسائل الاجتهادية. فليفهم. [بيع الفضل بالمصنوع متفاضلاً] (قال ابن رجب: والقول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلى متفاضلاً وجعل الزائد مقابلاً للصنعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 وقال الإمام النووى في شرحه لصحيح مسلم: وقد أجمع المسلمون على تحريم الربا في الجملة وإن اختلفوا في ضابطه وتفاريعه، قال الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} والأحاديث فيه كثيرة مشهورة. ونص النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث على تحريم الربا في ستة أشياء: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح. فقال أهل الظاهر: لا ربا في غير هذه الستة بناء على أصلهم في نفى القياس. وقال جميع العلماء سواهم: لا يختص بالستة، بل يتعدى إلى ما في معناها وهو يشاركها في العلة. وأختلفوا في العلة التى هي سبب تحريم الربا في الستة، فقال الشافعي: العلة في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان، فلا يعتدى الربا منهما إلى غيرهما من الموزونات وغيرها لعدم المشاركة. قال: والعلة في الأربعة الباقية كونها مطعومة فيتعدى الربا منها إلى كل مطعوم. وأما مالك فقال: في الذهب والفضة كقول الشافعي - رضي الله عنه - وقال في الأربعة: العلة فيها كونها تدخر للقوت وتصلح له، فعداه إلى الزبيب لأنه كالتمر، وإلى القطنية (1) لأنها في معنى البر والشعير. وأما أبو حنيفة فقال: العلة في الذهب الفضة الوزن، وفي الأربعة الكيل فيتعدى إلى كل موزون من نحاس وحديد وغيرهما، وإلى كل مكيل كالجص والأشنان وغيرهما. وقال سعيد ابن المشيب واحمد والشافعي في القديم: العلة في الأربعة كونها مطعومة موزونة أو مكيلة بشرط الأمرين، فعلى هذا لا ربا في البطيخ والفرجل ونحوه مما لا يكال ولا يوزن.   (1) القطنية - بالضم وبالكسر - الثياب. وحبوب الأرض. أو ما سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر. أو هي الحبوب التى تطبخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 وأجمع العلماء على جواز بيع الربوى بربوى لا يشاركه في العلة متفاضلاً مؤجلاً، وذلك كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل. وأجمعوا على ظانه لا يجوز بيع الربوى بجنسه وأحدهما مؤجل، وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالاً، كالذهب بالذهب. وعلى أنه لا يجوز التفرق بين التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة، كالذهب بالفضة إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة، كالذهب بالفضة، والحنطة بالشعير. وعلى أنه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس إذا كان يداً بيد، كصاع حنطة بصاعي شعير، ولا خلاف بين العلماء في شء من هذا إلا ما سنذكره إن شاء الله تعالى عن ابن عباس في تخصسص الربا بالستة. قال العلماء: إذا بيع الذهب بذهب، أو الفضة بفضة سميت مراطلة. وإذا بيعت الفضة بذهب سميت صرفاً لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التفاضل والتفرق قبل القبض والتأجيل. وقيل: من صريفها وهو تصوبتهما في الميزان. أنتهى. [تفصيل مسائل الربا] وقال الشعراني في كتابه الميزان ما نصه: وقال جماعة من الصحابة: إن الربا خاص بالنسيئة، فلا يحرم التفاضل. أهـ. ولنذكر من كلام الفهامة ابن القيم ما يفصل مسائل الربا للمعترض والمتعلم، فقد قال في كتابه إعلام الموقعين ما نصه: فصل وأما حرمة بيع مد حنطة وحفنة، وجواز بيعة بقفيز شعير فهذا من محاسن الشريعة التى لا يهتدى إليها إلا أولو العقول الوافرة، ونحن نشير إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 حكمه ذلك إشارة بحسب عقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة. وشرع الرب سبحانه وحكمته فوق عقولنا، فيقول: الربا نوعان: جلى وخفى، فالجلى حرم لما فيه من الضرر العظيم. والخفى حرم لأنه ذريعة إلى الجلى. فتحريم الأول قاصداً، وتحريم الثاني وسيلة. فأما الجلى فربا النسيئة، وهو الذى كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده ألافاً مؤلفة. وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدوم محتاج. فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته ويصير عليه بزيادة يبذلها له تكليف بذلها ليفتدى من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته، ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر. فمن رحمة أرحم الراحمين، وحكمته وإحسانه إلى خلقه: أن حرم الربا ولعن آكله وموكله، وكاتبه وشاهديه، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذه كان من أكبر الكبائر. وسئل الإمام أحمد عن الربا الذى لا يشك فيه فقال: هو أن يكون له دين فيقول له: أتقضى أم تربي؟ فإن لم يقضه زاد في المال، وزاده هذا في الأجل. وقد جعل الله عز وجل الربا ضد الصدقة، فالمرابي ضد المتصدق، قال تعالى: {يمحق الله الربا ويربى الصدقات} [البقرة 276] ، وغير ذلك من الآيات. وفي الصحيحين: ((إنما الربا في النسيئة)) ومثل هذا يرد به حصر الكمال، وأن الربا الكامل إنما هو في النسيئة، كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} . وقول ابن مسعود: إنما العالم الذى يخشى الله تعالى. فصل [ابن القيم يرى أن ربا الفضل حرم سداً للذرائع] وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع، كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإنى أخاف عليكم الرماء)) : هو الربا. فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا درهماً بدرهمين، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذى بين النوعين. إما في الجودة، وإما في السكة، وإما في الثقل والخفة وغير ذلك - تدعو بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر، وهو عين ربا النسيئة، وهذه ذريعة قريبة جداً. فمن حكمة الشارع - صلى الله عليه وسلم - أن سد عليهم هذه الذريعة ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقداً او نسيئة، فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول وهي تسد عليهم باب المفسدة، فإذا تبين هذا فنقول: الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان، وهي: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح. فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها، فطائفة قصرت التحريم عليها، وأقدم من يروى عنه هذا مذهب قتادة، وهو مذهب أهل الظاهر، واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس. قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم يظهر فيه علة امتنع القياس. وطائفة حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه، هذا مذهب عمار وأحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 في ظاهر مذهبه، وأبي حنيفة، وطائفة خصته بالطعام وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً، وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن أحمد وقول الشافعي. وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه، وهو قول مالك، وهو أرجح هذه الأقوال، كما ستراه إن شاء الله تعالى. وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة: العلة فيهما مونها موزونين وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة. وطائفة أجمعوا على جواز إسلامهما في المزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقداً، فإن ما يجرى في الربا إذا أختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء، والعلة إذا أنتقضت من غير فرق مائز دل على بطلانها. وأيضاً فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمينة، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذى به بعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع. وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حاله واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة ترتفع وتنخفض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم، الضرر اللاحق بهم حين أتخذت الفلوس سلعة بعد الربح، فعم الضرر، وحصل الظلم، ولو جعلت ثمناً واحداً لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هب بغيرها لصلح أمر الناس. فلو ابيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير، مثل أن يعطى صحاحاً ويأخذ مكسرة أو خفاقاً، ويأخذ ثقالاً أكثر منها لصارت متجراص، وجر ذلك ربا النسيئة فيها ولا بد، فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعاً تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود إلى سائر الموزونات. فصل وأما الأصناف الربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها، لأنها أقوات العالم وما يصلحها، فمن رعاية مصالح العباد أن منعوا من بيع بعضها إلى اجل. سواء اتحد الجنس أو أختلف ومنعوا من بيع بعضها ببعض حالاً متفاضلاً وإن أختلف صفاتها، وجوز لهم التفاضل فيها مع أختلاف أجناسها. وسر ذلك والله تعالى أعلم إنه لو جوز بيع بعضها ببعض نساء لم يفعل ذلك أحد إلا إذا ربح، وحينئذ تشخ نفسه حالة لطمعه في الربح، فيعز الطعام على المحتاج ويشتد ضرره، وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير، ولا سيما أهل العمود والبوادى، وإنما يتناقلون الطعام بالطعام، فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النساء فيها لدخلها إما أن يربى، فيصير الصاع الواحد قفزاناً كثيرة عن النساء، ثم فطموا عن بيعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 متفاضلاً يداً بيد، إذ يجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نساء، وهو عين المفسدة. وهذا بخلاف الجنسين المتباينين فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما مختلفة ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرار بهم ولا يفعلونه، وفي تجويز النساء بينهما ذريعة إلى: إما أن يقتضى وإما أن يربى، فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يداً بيد كيف شاءوا، فحصلت لهم مصلحة المناولة واندفعت عنهم مفسدة: إما أن يقضى وإما أن يربى. وهذا بخلاف إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نساء فإن الحاجة داعية إلى ذلك، فلو منعوا بهم ولا متنع السلم الذى هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيره، والشريعة لا تأتى بهذا، وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نساء، وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا، فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم، وليس بذريعة إلى مفسدة راحجة. ومنعوا مما لا تدعوا الحاجة إليه، ويتذرع به غالباً إلى مفسدة راجحة. يوضح ذلك أن المفسدة من عنده صنف من هذه الأصناف وهو محتاج إلى الصنف الآخر، فإنه يحتاج إلى بيعة بالدراهم ليشترى الصنف الآخر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيباً)) (1) أو بيعه بذلك الصنف نفسه بما يساوى، وعلى التقديرين يحتاج إلى بيعه حالاً بخلاف ما لو مكن من النساء فإنه حينئذ بيعة بفضل، ويحتاج أن يشترى الصنف الآخر بفضل لأن صاحب ذلك الصنف يربى عليه كما أربي هو على غيره   (1) الجمع: تمر مختلط من أنواع متفرقة وليس مرغوباً فيه. والجنيب: نوع جيد معروف من أنواع التمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 فينشأ من النساء بكل واحد منهما، والنساء ها هنا في صنفين وفي النوع الأول في صنف واحد، وكلاهما منشأ الضرر والفساد. فإذا تأملت ما حرم فيه النساء رأيته إما صنفاً واحداً وصنفين، مقصودهما واحد أو متقارب كالدراهم والدنانير، والبر والشعير، والتمر والزبيب. وإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النساء كالبز والثياب، والحديد والزيت. يوضح ذلك أنه لو مكن من بيع مد حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة: فتطلب النقوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته، فمنعوا من ذلك حتى منعوا من التفرق قبل القبض إتماماً لهذه الحكمة، ورعاية لهذه المصلحة. فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول، والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر. وكما يفعل أرباب الحيل يطلقون العقد وقد توطئوا على أمر آخر، كما يطلقون عقد النكاح وقد أتفقوا على التحليل. ويطلقون بيع السلعة إلى أجل، وقد أتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن. فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا البيع حالاً، وأخروا الطلب لأجل الربح فيقعوا في نفس المحذور. وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بحسبها لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان. ومنعوا من التجارة في الأقوات. وهذا المعنى بعينه موجود في بيع البر والعين لأن البر ليس فيه صنعه يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم الذى قصد الشارع أن لا تفاضل بينها. فلهذا قال: برها وعينها سواء، فظهرت حكمة تحريم ربا النساء في الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد، وإن تحريم هذا تحريم المقاصد، وتحريم الآخر تحريم الوسائل، وسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 الذرائع، ولهذا لم يبح شئ من ربا النسيئة، أما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا، فإن ما حرم سد الذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد. وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صناعته محرمة كالأنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذى أنكره عبادة على معاوية، فإنه يتضمن مقابلة الصناعة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كالآت الملاهي. وأما إن كانت الصناعة مباحة، كخاتم الفضة، وحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك. فالشريعة لا تأتى به.، ولا تأتى بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها ألبته، بل يبيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج، والعسر، والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببر، وشعير وثياب. وتكليف الاستصباغ لكل من أحتاج إليه إما متعذر، أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع. وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذى تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلعة، فلو لم يجز بيعة بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليس فيها ما هو صريح في المنع. وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ينكر تخصيص العام، وتقييد المطلق بالقياس الجلى، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة. والجمهور يقولون: لم يدخل في ذلك الحلية، ولا سيما أن لفظ النصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 في الموضوعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير، كقوله الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير، وفي الزكاة، كقوله في الرقة ربع العشر، والرقة هي الورق، وهي الدراهم المضروبة. وتارة بلفظ الذهب والفضة، فإن حمل المطلق على المقيد كان نهياً عن الربا في النقدين، وإيجاباً للزكاة فيهما، ولا يقتضى ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما، بل فيه تفصيل فتجب الزكاة. ويجرى الربا في بعض صوره لا في كلها، وفي هذا توفيه الأدلة حقها وليس فيه مخالفة الدليل منها. يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجرى الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجرى بين الأثمان وبين سائر السلع وإن كانت من غير جنسها،فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها: إما أن تقضى، وإما أن تربى، إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها، لكن لو سد على الناس عليهم باب الدين، وتضرروا بذلك غاية الضرر. يوضحه: أن الناس على عهد نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، كانوا يتخذون الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها. ومن المعلوم بالضرورة: أنه كان يعطيها المحاويج، ويعلم أنهم يبيعونها ومعلوم قطعاً أنها لا تباع بوزنها، فإنه سفه. ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا يساوى يناراً، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله، وأفقه في دينه، وأعلم بمقاصد رسوله من أن يرتكبوا الحيل، أو يعلموها الناس، يوضحه: انه لا يعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلى إلا بغير جنسه، أو بوزنه والمنقول عنهم إنما هو في الصرف، يوضحه: أن التحريم ربا الفضل، إنما كان سداً للذريعة كما تقدم بيانه، وما حرم سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد، والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم. وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبيه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصنوعة صياغة مباحة أكثر من وزنها، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك. وتحريم التفاضل إنما كان سداً للذريعة. فهذا محض القياس، ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به وبالحيل، والحيل باطلة في الشرع. وغاية ما في ذلك فعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة المتقومة بالأثمان في المغصوب وغيرها. وإذا كان أرباب الحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوى فلساً، ويقولون: الخمسة في مقابلة الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوى الصياغة؟ وكيف تأتى الشريعة الكاملة الفاضلة التى بهرت العقول حكمة، وعدلاً، ورحمة وجلاله بإباحة هذا، وتحريم ذاك! وهل هذا إلا عكس العقول والفطر والمصلحة؟ والذى يقضى منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة، حتى منعوا بيع رطل زيت برطل زيت؟ وحرموا بيع الكسب والسمسم، وبيع النشا بالحنطة، وبيع الخل بالزبيب، ونحو ذلك. وحرموا بيع مد حنطة ودرهم. وجاءوا إلى ربا النسيئة ففتحوا للتحليل عليه كل باب، فتارة بالعينة وتارة بالمحلل، وتارة بالشرط المتقدم المتواطأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 عليه. ثم يطلقون العقد من غير اشتراط، وقد علم الله والكرام الكانبون، والمتعاقدون ومن حضر أنه عقد ربا، مقصوده وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة نقداً ليس. ودخول السلع كخروجها، حرف جاء لمعنى في غيره. فهلا فعلوا ههنا، كما فعلوا في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم! . وقالوا: قد يجعل وسيلة إلى الربا الفضل بان يكون المد في احد الجانبين يساوى بعض امد في الجانب الآخر فيقع التفاضل، فيالله العجب! كيف حرمت هذه الذريعة إلى ربا الفضل، وابيحت تلك الذرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتاً خالصاً! وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها، ومقابلة الصياغة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية، التى هي أساس كل مفسدة، وأصل كل بلية، وإذا حصحص الحق، فليقل المتعصب الجاهل ما قال، وبالله تعالى التوفيق. فإن قيل: الصفات لا تقابل بالزيادة، ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة باكثر منها من الرديئة، وبيع التمر الجيد بازيد منه من الردئ، ولما ابطل الشارع ذلك علم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة. قيل: الفرق بين الصفة التى هي أثر فعل الآدمي، وتقابل بالأثمان وتستحق عليها الأجرة، وبين الصفة التى حي مخلوقة لله سبحانه لا أثر للعبد فيها، ولا هي من صنعه. فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة، إذ ذلك يفضى إلى نقص ما شرعه من المنع من التفاضل، فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر، والعاقل لا يبيع جنساً بجنسه إلا لما بينهما من التفاوت، فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل ذلك، فلو جوز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفضل. وهذا بخلاف الصناعة التى جوز لهم المعارضة عليها معه، يوضحه أن المعارضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها مضمونه إلى غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 أصلها وجوهرها، إذ لا فرق بينهما في ذلك، يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بع المصوغ بوزنه واخسر صياغتك. ولا يقول له تحيل على بيع المصوغ باكثر من وزنه بأنواع الحيل. ولم يقل قط: لا تبعه إلا بغير جنسه، ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئاً من الأشياء بجنسه. فإن قيل: فهب أن هذا قد سلم لكم في المصوغ، فكيف يسلم لكم في الدراهم والدنانير المضروبة إذا بيعت بالسبائك مفاضلاً، وتكون الزيادة في لا تتقوم فيها الصياغة للمصلحة العامة المقصودة منها، فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة، فإن كان الضارب يضربها باجرة، فإن القصد بها أن تكون معياراً للناس لا يتجرون فيها كما تقدم، والسكة فيها غير مقابلة بالزيادة في العرف، فلو قوبلت بالزيادة فسدت المعاملة، وأنتقضت المصلحة التى ضربت لأجلها، أتخذها الناس سلعة واحتاجت إلى تقويم بغيرها، ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه، فيأخذ الرجل الدراهم ويرد نظيرها، وليس المصوغ كذلك. ألا ترى أن الرجل ياخذ مائة خفاقاً، ويرد خمسين ثقالاً بوزنها، ولا يابى ذلك الآخذ ولا القابض، ولا يرى أحدهما أنه قد خسر شيئاً، وهذا بخلاف المصوغ، والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلفاؤه لم يضربوا درهماً واحداً، وأول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان، وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار. فإن قيل: يلزمكم على هذا ان تجوروا بيع فروع الأجناس باصولها متفاضلاً، فجوزوا بيع دقيق الحنطة بالحب متفاضلاً، والزيت بالزيتون، والسمسم بالشيرج. قيل: هذا سؤال وارد أيضاً، وجوابه. أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع، أو تكون الصورة المحرمة بالقياس مساوية من كل وجه للمنصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 على تحريمها، والثلاثة متبقية في فروع الأجناس مع أصولها، وقد تقدم أن غير الأصناف الأربعة، ففرعها إن خرج عن كونه قوتاً لم يكن من الربوبيات، وإن كان قوتاً كان جنساً قائماً بنفسه، وحرم بيعه بجنسه الذى هو مثله متفاضلاً، كالدقيق بالدقيق، والخبر بالخبز، ولم يحرم بيعه بجنس آخر. وإن كان جنسهما واحداً. فلا يحرم السمسم بالشيرج، ولا الهريسة بالخبز، فإن هذه الصناعة لها قيمة، فلا تضيع على صاحبها، ولم يحرم بيعها باصولها كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا حرام إلا ما حرمه الله تعالى، كما أنه لا عبادة إلا ما شرعها الله تعالى، وتحريم الحلال كتحليل الحرام. فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بيع اللحم بالحيوان، فإنكم إن منعتموه نقضتم قولكم، وإن جوزتموه خالفتم النص، وإن النص كان قد منع من بيع اللحم بالحيوان، فهذا دليل على المنع من بيع الخبز بالبر، والزيت بالزيتون وكل ربوى بأصله. قيل: الكلام في هذا الحديث في مقامين: أحدهما في صحته، والثاني في معناه: أما الأول فهو حديث لا يصح موصولاً وإنما هو مرسل، فمن لم يحتج بالمرسل لم يرد عليه، ومن رأى قبول المرسل مطلقاً ومراسيل سعيد بن المسيب فهو حجة عنده. قال أبو عمر: لا أعلم أن حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان متصل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه ثابت، وأحسن أسانيده مرسل سعيد ابن المسيب كما ذكره مالك في مؤطأه. وقد أختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث والعمل به والمراد منه، وكان مالك يقول: معنى الحديث تحريم التفاضل في الجنس الواحد حيوانه بلحمه، وهو عنده من باب المزابنة والغرر والقمار، لأنه لا يدرى هل في الحيوان مثل اللحم الذى أعطي أو أقل أو أكثر، وبيع اللحم باللحم لا يجوز كتفاضلاً، وكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيب في جلده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 بلحم إذا كانا من جنس واحد. قالوا: وإذا أختلف الجنسان فلا خلاف عن مالك وأصحابه أنه جائز حينئذ بيع الحيوان باللحم. وأما أهل الكوفة كأبي حنيفة وأصحابه فلا يأخذون بهذا الحديث ويجوزون بيع اللحم بالحيوان مطلقاً وأما أحمد فيمنع بيعه بحيوان من جنسه، ولا يمنع بيعه بغير جنسه، وإن منعه بعض أصحابه. وأما الشافعي فيمنع بيعه بجنسه وبغير جنسه. وروى الشافعي عن ابن عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر الصديق فقسمت على عشرة أجزاء، فقال رجل: أعطوني منها بشاة. فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: لا يصلح هذا. قال الشافعي: ولست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفاً من الصحابة. والصواب في هذا الحديث إن ثبت أن المراد به إذا كان الحيوان مقصود اللحم كشاة يقصد لحمها فيباع بلحم، فيكون قد باع لحماً بلحم أكثر منه من جنس واحد، واللحم قوت موزون فيدخله ربا الفضل. وأما إذا كان الحيوان غير مقصود به اللحم كما إذا كان غير مأكول أو مأكولا بقصد لحمه كالفرس يباع بلحم إبل، فهذا لا يحرم بيعه به. بقى إذا كان الحيوان مأكولاً بقصد لحمه وهو من غير جنس اللحم، فهذا يشبه المزابنة بين الجنسين، كبيع صبرة تمر بصبرة زبيب. وأكثر الفقهاء لا يمنعون من ذلك، إذ غايته التفاضل بين الجنسين، والتفاضل المحقق جائز بينهما فكيف بالمظنون. وأحمد في إحدى الروايتين عنه يمنع ذلك، لا لأجل التفاضل، ولكن لأجل المزابنة وشبه القمار. وعلى هذا فيمتنع بيع اللحم بحيوان من غير جنسه والله تعالى أعلم. أهـ. وبهذا كله علمت أن مسائل الربا في بعض صورها أيضاً خلاف. وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 الشيخ عليه الرحمة قد وافق باقواله من جهة جماعة من الأسلاف، فتأمل أدلته أيها المنصف وزنها بميزان الإنصاف. ومع هذا فلعل له أدلة أخرى لم أطلع عليها، أو عدل بعد ذلك عن تلك الاختيارات الفرعية الاجتهادية والميل إليها. ومن عذر وقنع بما تيسر أكتفى بمجمل ما أملاه القلم الملول وسطر. والله سبحانه الهادى للصواب، وإليه في كل الأمور المآب. خاتمة [هل يجوز إهداء ثواب القراءة للنبي - صلى الله عليه وسلم -] ومن جملة الاختيارات المنسوبة إلى الشيخ ابن تيمية ما ذكره الفهامة ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار: عدم جواز قراءة الفاتحة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال في آخر باب الجنائز ما نصه: تتمه ذكر ابن حجر في الفتاوى الفقهية. أن الحافظ ابن تيمية زعم منع إهداء ثواب القراءة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن جنابه الرفيع لا يتجزا عليه إلا بما أذن فيه، وهو الصلاة عليه وسؤال الوسيلة له. قال: وبالغ السبكى وغيره في الرد بأن مثل ذلك لا يحتاج لأذن خاص، ألا ترى أن ابن عمر كان يعتمر عنه - صلى الله عليه وسلم - عمراً بعد موته من غير وصية. وحج ابن الموفق وهو في طبقة الجنيد عنه سبعين حجة، وختم ابن السراج عنه - صلى الله عليه وسلم - أكثر من عشرة آلاف ختمة، وضحى عنه مثل ذلك. أهـ. قلت: ورأيت نحو ذلك بخط مفتى الحنفية الشهاب أحمد بن الشلبي شيخ صاحب البحر نقلاً عن شرح الطيبة للنويرى، ومن جملة ما نقله: أن ابن عقيل من الحنابلة قال: يستحب إهداؤها له - صلى الله عليه وسلم -. أهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 قلت وقول علماؤنا: له أن يجعل ثواب عمله لغيره يدخل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أحق بذلك حيث أنقذنا من الضلالة، ففي ذلك نوع شكر وإسداء جميل له، والكامل قابل لزيادة الكمال. وما استدل به بعض المانعين من أنه تحصيل المحاصل، لأن جميع أعمال أمته في ميزانه. يجاب عنه: بأنه لا مانع من ذلك، فإن الله تعالى أخبرنا بأنه صلى عليه، ثم أمرنا بالصلاة عليه بأن نقول: اللهم صلًّ على محمد. والله تعالى أعلم. وكذا أختلف في إطلاق قول: أجعل ذلك زيادة في شرفه - صلى الله عليه وسلم -، فمنع منه شيخ الإسلام البلقيني والحافظ ابن حجر، لأنه لم يرد له دليل وأجاب عنه ابن حجر المسكى الحديثية بقوله تعالى: {قل رب زدنى علماً} وغيره. أهـ المراد منه. وفي كتاب الروح للحافظ ابن القيم بعد أن أيد وصول ثواب قراءة القرآن للأموات بادلة كثيرة قال ما نصه: فإن قيل فما تقولون في الإهداء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قيل: من الفقهاء المتأخرين من استحبه، ومنهم من لم يستحبه ورآه بدعة، لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - له أجر كل من عمل خيراً من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شئ، لأنه هو الذى دل امته على كل خير، وأرشدهم ودعاهم إليه. ومن دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من أتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شئ. وكل هدى وعلم فغنما ناله أمته على يده، فله - صلى الله عليه وسلم - مثل أجر من أتبعه، أهداه إليه أو لم يهده. والله تعالى أعلم. أهـ. وقد سئل عن ذلك العلامة نجم الدين ابن قاضى عجلون فأجاب بقوله: وقع الخلاف بين جمع من العلماء المتأخرين في إهداء الثواب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فمنهم من منعه لأنه لا يتجزأ على الجناب الرفيع إلا بما أذن فيه ولم يؤذن إلا بالصلاة عليه وسؤال الوسيلة له. ومنهم من جوزه. وقد توسع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 الناس في ذلك وتصرفوا بالتعبير عنه بعبارات متقاربة في المعنى، كقوله: في صحيفته - صلى الله عليه وسلم -، أو نقدمها إلى حضرته، أو زيادة في شرفه. وقد يقترن بذلك هيئات تخل في الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وما الحاجة إلى ارتكاب ذلك، مع أن جميع حسنات الأمة جارية في صحيفته. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) فالذى يتعين ترك ذلك كله، والاشتغال بما لا ريب فيه، كسؤال الوسيلة له - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة عليه غير ذلك من أعمال البر المأثورة في الشرع، فإنها بحمد الله كثيرة، وفيها ما يغنى عن الابتداع في الدين، والأمور المختلف فيها، واله تعالى أعلم بالصواب. أهـ. فتبين أن المسألة خلافية بين المتأخرين، وأن ابن تيمية لم ينفرد بهذا القول، ولكل وجهه فاختر لنفسك ما يحلو. [هل للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره] بقى أنه هل للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره أم لا؟ فاهل السنة على الأول، المعتزلة على الثاني. لكن استثنى مالك والشافعي العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة فلا يصل ثوابها إلى الميت عندهما بخلاف غيرهما، وهو المشهور عن الشافعي. والذى حرره المتأخرون من الشافعية وصول القراءة للميت إذا كانت بحضرته أو دعى له عقبها ولو غائباً، لأن محل القراءة تنزل الرحمة والبركة، والدعاء أرجى للقبول. ومقتضاه ان المراد انتفاع الميت بالقراءة لا حصول ثوابها له. وأما عندنا: فالواصل إليه نفس الثواب. وهذا إذا لم تكن القراءة بالأجرة. وأما إذا كانت بالأجرة فلا تجوز على قول الجمهور المفتى به. والله تعالى أعلم. وتفصيل البحث في الكتب الفقهية في الإجازة والجنائز، ولا سيما الحاشية المذكورة، وفتح القدير. فإن أردته فارجع إليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 [مطلب في إرسال العذبة] (ومن ذلك ما أعترض به ايضاً الشيخ ابن حجر في شرح الشمائل على ابن القيم وشيخه شيخ الإسلام في بيان سبب إرسال العذبة) . في حديث ابن عمر: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه)) ورساهما بالتجسيم. وأجاب العلامة الشيخ على القارى في شرحه عن ذلك، وسيتضح لك على وجه التفضيل ما هنالك. فنقول: قال القارئ ما نصه: قال ابن القيم عن شيخه ابن تيميه إنه ذكر شيئاً بديعاً وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ربه واضعاً يده على كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة. قال العراقى: لم نجد لذلك أصلاً. قال ابن حجر: بل هذا من قبيح رأيهما وضلالهما، إذ هم مبنى على ما ذهبا إليه وأطالا في الاستدلال له، والحط على أهل السنة في نفيهم له وهو إثبات الجهة والجسمية لله سبحانه، ولهماكم هذا المقام من القبائح وسوء الاعتقاد ما تصم عنه الآذان، ويقضى عليه بالزور والبهتان، قبحهما الله تعالى وقبح من يقول بقولهما. والإمام أحمد وأجلاء مذهبه مبرءون من هذه الوصمة القبيحة، كيف وهي كفر عند كثيرين! . (أقول) : قد صانهما الله تعالى من هذه السمة الشنيعة، والنسبة الفظيعة، ومن طالع شرح منازل السائرين تبين له أنهما كانا من أكابر أهل السنة والجماعة ومن أولياء هذه الأمة، وهما بريئان مما رماهما أعداؤهما من التشبيه والتمثيل، غير أنهما ذهبا في باب الصفات إلى مذهب السلف الذى عليه الأئمة الكرام، فإذا أنتفى عنهما التجسيم فالمعنى البديع الذى ذكره الشيخ في الحديث له وجه ظاهر، وتوجيه باهر، سواء رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 في المنام، أو تجلى الله سبحانه وتعالى عليه بالتجلى الصورى المعروف عند أرباب الحال. أهـ. باختصار. وقال المناوى في شرحه أيضاً بعد سوقه لكلام ابن حجر ما نصه: فنقول ابن حجر غير مستقيم. أما أولاً، فلأنهما قال: إن الرؤية المذكورة كانت في المنام، وهذه كتبهما حاضرة. وأما ثانياً فلأنا نؤمن بأن له يداً لا كيد المخلوق، وفلا مانع من وضعها وضعاً لا يشبه وضع المخلوق، بل وضع يليق بجلاله. وعجبت من الشيخ ابن حجر كيف أنكر هذا مع وجود خبر الترمذى ((أتانى ربي في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا أدرى، فوضع كفه بين كتفى فوجدت بردها بين ثنوتى - أى ثديى - وتجلى لى علم كل شئ)) أهـ. المراد منه. وتعقبه أيضاً الشيخ إبراهيم الكوراني في إفاضة العلام بقوله: أما إثبات الجهة والجسمية المنسوب إليهما فقد تبين حاله، وأنهما لم يثبتا الجسمية اصلاً بل صرحا بنفيهما في غير ما موضع من تصانيفهما، ولم يثبتا الجهة على وجه يستلزم محذوراً، وإنما أقرأ قوله تعالى: {أستوى على العرش} على ظاهره الذى يليق بجلال ذات الله تعالى، لا الظاهر الذى هو من نعوت المخلوقين حتى يستلزم الجسمية. وأما قول العراقى لم نجد له أصلاً، ففيه أن ما ذكر ابن القيم ليس فيه أن ما عزاه لشيخه منقول حتى يتجه عليه أنه لا أصل له، وإنما فيه أن ما عزاه لشيخه إبداء مناسبة بديعة لإرخاء العذبة فهمها مما هو منقول، وهو الحديث الذى أخرجه جماعة منهم أحمد والترمذى وغيرهما، وصححوه: ((أن الله تجلى لى في أحسن صورة)) وفي رواية: أتانى الليلة ربي في أحسن صورة - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 إلى أن قال - فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي ... ... ..)) الحديث وإذا كان هذا فهماً منه، واستنباطاً لا نقلاً لم يرد عليه قول العراقي، ولم يجد له اصلاً. فالمناسبة التى أبداها ابن تيمية مناسبة صحيحة غير مستلزمة للتجسيم، ولا مبنية عليه اصلاً كما ظنه ابن حجر. بل على صحة التجلى في المظهر مع التنزيه بليس كمثله شئ. وقد دل كلام ابن تيمية عليه الرحمة عموماً وخصوصاً على أن الحق سبحانه وتعالى بتجلى لما يشاء على أى وجه يشاء مع التنزيه بليس كمثله شئ في كل حال، حتى تجليه في المظهر، وهذا هو الغاية في الإيمان والعلم أيضاً. أهـ. باقتصار. فقد تبين لك تحامل العلامة ابن حجر، والتهور العارى عن الإصابة فيما سطر. فتدبر وأنصف. [حكم بيع المسجد إذا خرب] (ومن ذلك أنه ذهب إلى بيع المسجد إذا خرب كما تقدمت الإشارة إليه من بعض المترجمين) فاعلم أن الوالد رحمه الله تعالى نقل ذلك أيضاً عنه في مجمعته الوسطى بما نصه: قال شيخ الإسلام ابن تيميه في فتاواه: بيع المسجد إذا خرب فلم تمكن عمارته جائز عند الإمام أحمد وغيره من العلماء. واحتج أحمد بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نقل مسجد الكوفة القديم إلى مكان آخر، وصار الآخر سوقاً للتمارين، وأشتهرت القصة ولم تنكر. ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه. أهـ. قلت: وفي حاشية الدر المختار ما يقرب من ذلك، فقد نقل عن الخلاصة: أن المسجد إذا خرب، أو الحوض إذا خرب، ولم يحتج إليه لتفرق الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 عنه. صرفت أوقافه في مسجد آخر، أو حوض آخر. أ. هـ. وفي تنوير الأبصار: جعل شئ من الطريق مسجداً لضيقه جاز، لأنهما للمسلمين كعكسة. كما جاز الإمام الطريق مسجداً لا عكس. أهـ. وفي حاوى الزاهدى رامزاً للمحيط وشرف الأئمة ما نصه: حوض أو مسجد خرب، وتفرق الناس عنه فللقاضي أن يصرف أوقافه إلى مسجد آخر أو حوض آخر. وفي شرحه للزيادات: والمسجد إذا أستغنى عنه المسلمون، ولا يصلى فيه وخرب ما حوله يعود إلى صاحبه كما كان إن كان حياً، وإلى ورثته إن كان ميتاً. وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال ابو يوسف: يبقى مسجداً أبداً، فأما أوقاف المسجد فإن كان بانى المسجد ومتخذها واحداً يكون ميراثاً، وإن كانوا جماعة تصرف إلى أقرب المساجد في تلك المحلة، لأن قصد الواقف في الأول عمارة مسجده. وفي الثاني عمارة مسجد المحلة، وبالصرف إلى مسجد آخر في المحلة عمارتها. وقال أيضاً: ولو خرب أحد المسجدين في قرية واحدة فللقاضى صرف خشبة إلى عمارة الآخر إذا لم يعلم بانيه ولا وارثه، وإن علم صرفها هو بنفسه. أهـ. ومما نقلناه تبين لك أنه أيضاً لم ينفرد بالقول بهذه المسألة الاجتهادية ايضاً، كيف وهو مروى عن عمر - رضي الله عنه -، وأحمد بن حنبل، والإمام الأعظم أبي حنيفة، ومحمد رحمهم الله تعالى. وقد بسط الأدلة في فتاواه نقلاً وعقلاً، وإن أردت استبقاء البحث فعليك بما حرره، وبالكتب الفقهية للأئمة الحنفية، والله سبحانه الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 خاتمة الكتاب هذا آخر ما تيسر تحريره، وغاية ما وسعنى مع ضيق الوقت تسطيره على جواب علامة البشر، مولانا شهاب الدين احمد بن حجر، وألتمس ممن تحلى بالعلم وتدثر بالحلم، وتدرع الإنصاف، وتجنب وصمة الحسد وطريق الاعتساف، أن يحيط بما أستخرجته من كتب العلماء، ويمعن الفكر بما حررته عند أختلاف الآراء، وأن لا يحمله داء التقليد والمعاصرة، على أن يزيف تبره ويطفئ نوره، ويطمس تدقيقاته المبتكرة. بل يمتثل ما أمره به أمير المؤمنين على كرم الله تعالى وجهه من قوله: ((لا تعرف الحق بالرجال، وأعرف الحق تعرف أهله)) وقول حجة الإسلام: ((العاقل من ينظر في نفس القول)) فإن كان حقه قبله، وإن باطلاً تركه. واللبيب من ينتزع الحق من كل كلام، عالماً بان معدن الذهب الرغام. وفي المثل: ((ليس لقدم العهد يفضل القائل)) (1) ، ولا لحداثته يهتضم المصيب في المحافل. والواجب على طالب النجاة في الدارين أن لا يحكم لأحد من المدعين بلا سماع كلام الخصمين. وها أنا بتوفيقه سبحانه قد ذكرت كلام الشيخين، وتصفحت نصوص الطرفين، متجنباً عن داء العصبية، متنحياً عن حمى الغيرة الجاهلية، إذ لست بحنبلي المذهب، حتى أرمى بسهم العصبية في هذا المطلب. غير أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتقدمات في هذا الشأن، حملتني على نصح الإخوان، وعن الطعن فيمن هو من أولياء الله، والذب عن ذلك الحبر والأواه، وبيان ما عسر تحقيقه ودق تدقيقه على كثير من فضلاء الزمان.   (1) القائل. المخطئ. أهـ. منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 فدونكه كتاباً مفصلاً للمسائل المشكلة، وجامعاً من أقوال المذاهب كل شريدة معطلة، حاوياً لما عز وجدانه على الطالبين، ومعدنا خالياً عن بهرجة المبهرجين والناقدين. ومع ذالا آمن من عثار قلمي أو كبيرة أدهمى، أو زلة قدمى. ولا داعى أن الشيخ شهاب الدين قد حط فيما حكاه على الشيخ تقى الدين من أجل حظوظ نفسية، أو عدم اطلاع على المسائل الشرعية. أو أقول: إن الشيخ ابن تيمية لم يخطئ في بعض المسائل الاجتهادية، أو أنه معصوم عن السهو والتهور في كافة المباحث الأصولية والفرعية. بل إنى أحسن في كليهما الظن، وأميط ما أستطعت عن كلاميهما غبار الوهن. وأقول كما فصلته مراراً: إن بعض الأقوال المتقدمة مكذوبة، والبعض الآخر منها لازم المذهب واللوازم غير مطلوبة. ومنها ما هو مذهب الحنابلة كما قد شاع وذاع. ومنها ما هو مجتهد فيه، وللاجتهاد كما لا يخفى عليك أتساع. وأن الشيخ أبا العباس قد بلغ نحو أمثاله في ذلك رتبة الاجتهاد بلا التباس، حاوياً لشروطه المتقدمة في هذا الكتاب فله الثواب على ذلك، ولا لوم عليه أن أخطأ بعد أن بذل الوسع فيما هنالك، إذ مأخذه الكتاب والسنة الفسيحة المسالك. وأقول: إن الفهامة ابن حجر قد استعجل ولم يتبين عندما أجاب وحرر حتى بدعه ونسب إليه المكفر ثم أستغفر. فليته تتبع كتب ذلك الإمام، وأقواله المسلمة عند ذوى النقض والإبرام، حتى يلوح له الصدق، ويتثبت ليتحصحص الحق، ولا ينتقد عليه المتبعون، أو يغتر بنقله الغافلون، أو يتبع كلامه في الازدراء والتكفير من أهل زماننا الجاهلون، لأنه العلامة المتبع، ومن إذا قال قولا يضاح له ويستمع وعلى العلات أسأل الله تعالى أن يغفر لهذين الشيخين وينفعنا بعلوم هذين الأحمدين في الدارين، ويجزيهما عن شفيعنا ونبينا - صلى الله عليه وسلم - خير الجزاء، ويعفو عن كافة ورثة الأنبياء القاصدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 نفع الأمة، والكاشفين بإنارة كلماتهم عن وجه الحق غياهب البدع المدلهمة وان يعيذنا من شر الحاسدين وكيد المداحين، ويحفظنا من تحريف الخائن لا رب غيره، ولا يرجى إلا خيره، ولا تهزم إلا به جيوش الأباطيل، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل. وكان ذلك في شهر ربيع الآخر من شهور السنة السابعة والتسعين بعد المائتين والألف من هجرة الرسول المعصوم الأمين، عليه افضل صلاة المصلين وأزكى سلام المسلمين، والحمد لله رب العالمين: وبالأصل ما نصه: ((بحمده تعالى قد كمل كتاب جلاء العينين في محاكمة الأحمدين)) لأبي البركات خير الدين نعمان الحسينى الشهير ((بآلوسى زاده)) نجل خاتمة المفسرين السيد محمود أفندى مفتى الحنفية في بغداد المحمية، على مسودة الؤلف المذكور، ضوعفت لنا ولهم الأجور، في داره المعمورة الدائمة السرور. *** تم بحمد الله كتاب ((جلاء العينين، في محاكمة الأحمدين)) لأبي البركات خير الدين نعمان الحسيني الشهير ((بآلوسى زاد 125)) ولله المنة والحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 كلمة المطبعة - والآن ... وقد انتهينا من طبع كتاب "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" لمؤلفه العالم الجليل السيد نعمان خير الدين الشهير بابن الآلوسي البغدادي - ويعتبر هذا الكتاب واحدا من الأعمال العديدة السديدة المفيدة التي نقوم عليها إخراجا وطبعا ونشرا، وقد بذلنا فيه قارى الجهد حتى يطلع على قارئه - نسأل الله أن يفتح بين أيدينا الطريق كي نحقق للقارئ غايات العلم والمعرفة، كما نسأله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، نافعا لعباده - وفق الله كل العاملين من أجل تمكين الكلمة المسلمة في أرض الله محمود علي صبح المدني