الكتاب: شرح الشفا المؤلف: علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفى: 1014هـ) الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1421 هـ عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- شرح الشفا الملا على القاري الكتاب: شرح الشفا المؤلف: علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفى: 1014هـ) الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1421 هـ عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء الأوّل [ المقدمة ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير أنبيائه ورسله وخير من أشرقت عليه الشمس سيّدنا ونبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد؛ فإن كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» للقاضي عياض، من الكتب التي عدّها كثير من العلماء والمحققين من خير الكتب في موضوعه، فقد قال عنه المقري في أزهار الرياض: مما كمل تأليفه، رضوان الله عليه، «الشفا» الذي بلغ فيه الغاية القصوى، وسار صيته شرقا وغربا، ولقد لهجت به الخاصة والعامة، عجما وعربا، ونال به مؤلفه وغيره من الرحمن قربا. ثم قال: وفضائل هذا الكتاب لا تستوفى، ولا يمتري من سمع كلامه العذب السهل المنور في وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم أو وصف إعجاز القرآن، أن تلك نفحة ربانية، ومنحة صمدانية، خص الله بها هذا الإمام، وحلاه بدرها النظيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقال القاري: كتاب «الشفا» في شمائل صاحب الاصطفاء أجمع ما صنف في بابه مجملا في الاستيفاء. وقد اعتنى الأئمة بشرح هذا الكتاب والتعليق عليه، وكما اعتنى الناس بذلك اعتنوا أيضا بتصحيحه وضبطه وإتقانه. فمن العلماء الذين شرحوا الشفا، نذكر: 1- الشهاب الخفاجي، وقد شرحه شرحا مطولا، أسماه: «نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض» . 2- شرح «الملّا علي القاري» وقد شرحه شرحا متوسط الطول. وهو الكتاب الذي بين أيدينا. 3- الشيخ حسن العدوي الحمزاوي، وقد شرحه شرحا مختصرا، وأسماه: «المدد الفياض» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 4- كتاب «مزيل الخفا عن ألفاظ الشفا» تأليف العلامة تقي الدين أحمد بن محمد بن حسن الشمني التميمي الداري الحنفي. 5- كتاب «المقتفى في حل ألفاظ الشفا» تأليف العلامة برهان الدين إبراهيم بن محمد بن خليل الحلبي سبط ابن العجمي. 6- ولما كان القاضي عياض قد اعتمد في مؤلفه «الشفا» على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فقد عنى السيوطي به، وخرّج أحاديثه في كتابه: «مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ترجمة القاضي عياض هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي. وهو من أهل سبتة، وأصله من مدينة بسطة. ولد في منتصف شعبان من سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتوفي، رحمه الله، بمراكش مغربا عن وطنه وسط سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وقدم الأندلس طالبا للعلم، فأخذ بقرطبة عن جلة علمائها. وأخذ بالمشرق عن القاضي الصدفي، وعن غيره وعني بلقاء الشيوخ والأخذ عنهم، وجمع من الحديث كثيرا، وله عناية كبيرة به واهتمام بجمعه وتقييده. وقد استقضى ببلده، مدينة سبتة، مدة طويلة حمدت سيرته فيها، ثم نقل منها إلى قضاء غرناظة، فلم تطل مدته بها. وقال هو عن نسب أجداده: استقر أجدادنا في القديم بجهة بسطة من بلاد الأندلس، ثم انتقلوا إلى مدينة فاس وكان لهم استقرار بالقيروان، فلا أدري أكان قبل استقرارهم بالأندلس أم بعد. قال: وكان عمرون والد جد أبي رحمة الله على جميعهم، رجلا خيرا صالحا، من أهل القرآن، انتقل من مدينة فاس إلى مدينة سبتة بعد دخول بني عبيد المغرب «1» . وقال عنه ابنه: نشأ أبي على عفة وصيانة، مرضيّ الحال، محمود الأقوال والأفعال، موصوفا بالنّبل والفهم والحذق طالبا للعلم، حريصا مجتهدا فيه، معظما   (1) الصلة (1/ 453) ، أزهار الرياض (1/ 28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 من الأشياخ من أهل العلم، كثير المجالسة لهم، والاختلاف إليهم، إلى أن برع أهل زمانه، وساد جملة أقرانه؛ فكان من حفاظ كتاب الله تعالى، مع القراءة الحسنة، والحظ الوافر من تفسيره وجميع علومه. وكان من أئمة الحديث في وقته، أصوليا متكلما، فقيها حافظا للغة والأخبار والتواريخ، حلو الدعابة، صبورا حليما، حسن العشرة جوّادا سمحا، دؤوبا على العمل، صليبا في الحق «1» . وفي أزهار الرياض يتمثل بقول ابن عاصم في وصف عياض: قد كان، رحمه الله، علم الكمال، ورجل الحقيقة، وقارا لا يخفّ راسيه، ولا يعري كاسيه، وسكونا لا يطرق جانبه، ولا يرهب غالبه؛ وحلما لا تزل حصاته، ولا تمهل وصاته، وانقباضا لا يتعدّى رسمه، ولا يتجاوز حكمه؛ ونزاهة لا ترخص قيمتها، ولا تلين عزيمتها، وذهنا لا يخبو نوره، ولا ينبو مطروده، وفهما لا يخفى فلقه، وحفظا لا يسبر غوره، ولا يذبل نوره، وطلبا لا تتحد فنونه، ولا تتعيّن عيونه، بل لا تحصر معارفه، ولا تقصر مصارفه «2» . وقال الملاحي: كان القاضي رحمه الله بحر علم، وهضبة دين وحلم، أحكم قراءة كتاب الله بالسبع، وبلغ من معرفته الطول والعرض، وبرّز في علم الحديث، وحمل راية الرأي ورأس في الأصول، وحفظ أسماء الرجال، وثقب في علم النحو، وقيّد اللغة، وأشرف على مذاهب الفقهاء وأنحاء العلماء، وأعراض الأدباء «3» . وقال المقري في أزهار الرياض: وكان القاضي أبو الفضل كثير الاعتناء بالتقييد والتحصيل. قال ابن خاتمة: كان لا يبلغ شأوه، ولا يبلغ مداه في العناية بصناعة الحديث، وتقييد الآثار، وخدمة العلم من حسن التفنّن فيه، والتصرف الكامل في فهم معانيه، إلى اضطلاعه بالأداة، وتحققه بالنظم والنثر، ومهارته في الفقه، ومشاركته في اللغة   (1) أزهار الرياض (3/ 27) . (2) أزهار الرياض (3/ 6) . (3) أزهار الرياض (3/ 7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 والعربية، وبالجملة فقد كان جمال العصر، ومفخر الأفق، وينبوع المعرفة، ومعدن الإفادة، وإذا عدّت رجالات المغرب فضلا عن الأندلس حسبناه منهم. وقال: وكان، رحمه الله، معظّما للسنّة، عالما عاملا، خاشعا قانتا، قوّالا للحق، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان معتنيا بضبط الألفاظ النبوية على اختلاف طرقها، وكتابه «المشارق» أزكى شاهد على ذلك. وكان حاضر الجواب، حادّ الذهن، متوقّد الذكاء، جامعا للفنون، أخذ منها بالحظ الأوفر، وكان بارع الخط المغربي، حسن العبارة، لطيف الإشارة؛ وتآليفه شاهدة بذلك. وله في الفقه المالكي اليد الطولى، وعليه المعوّل في حل ألفاظ المدونة، وضبط مشكلاتها، وتحرير رواياتها، وتسمية رواتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ترجمة الملّا علي القاري «1» (000- 1014 هـ 000- 1606 م) علي بن (سلطان) محمد، نور الدين الملّا الهروي القاري: فقيه حنفي، من صدور العلم في عصره. ولد في هراة وسكن مكة وتوفي بها. وقيل: كان يكتب في كل عام مصحفا وعليه طرر من القراآت والتفسير فيبيعه فيكفيه قوته من العام إلى العام. وصنف كتبا كثيرة، منها «تفسير القرآن- خ» ثلاثة مجلدات، و «الأثمار الجنية في أسماء الحنفية» و «الفصول المهمة- خ» فقه، و «بداية السالك- خ» مناسك، و «شرح مشكاة المصابيح- ط» و «شرح مشكلات الموطأ- خ» و «شرح الشفاء- ط» و «شرح الحصن الحصين- خ» في الحديث، و «شرح الشمائل- ط» و «تعليق على بعض آداب المريدين، لعبد القاهر السهروردي- خ» في خزانة الرباط (2503 ك) و «سيرة الشيخ عبد القادر الجيلاني- ط» رسالة، ولخص مواد من القاموس سماها «الناموسن» وله «شرح الأربعين النووية- ط» و «تذكرة الموضوعات- ط» و «كتاب الجمالين، حاشية على الجلالين- ط» جزء منه، في التفسير، و «أربعون حديثا قدسية- خ» رسالة، و «ضوء المعالي- ط» شرح قصيدة بدء الأمالي، في التوحيد، و «منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر- ط» ورسالة في «الرد على ابن العربي في كتابه الفصوص وعلى القائلين بالحلول والاتحاد- خ» و «شرح كتاب عين العلم المختصر من الإحياء- ط» و «فتح الأسماع- خ» فيما يتعلق بالسماع، من الكتاب والسنة ونقول الأئمة، و «توضيح المباني- خ» شرح مختصر المنار، في الأصول، و «الزبدة في شرح البردة- خ» في مكتبة عبيد. ونقل لي عن هامشه، بشأن الخلاف حول اسم أبي صاحب الترجمة، الحاشية الآتية: «ودأب العجم أن يسموا أولادهم أسماء مزدوجة مثل فاضل محمد وصادق محمد وأسد محمد واسم أبيه سلطان محمد. فهو من هذا القبيل على ما سمع وأما كونه من الملوك فلم يسمع» .   (1) انظر الأعلام للزركلي (5/ 12، 13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 [ خطبة الكتاب ] بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي أنزل القرآن شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وشفى به من كان اشفى على شفائر جهنم من الكافرين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وسيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين. (أما بعد) فيقول أفقر العباد إلى كرم ربه الباري علي ابن سلطان محمد القاري لما رأيت كتاب الشفاء في شمائل صاحب الاصطفاء، أجمع ما صنف في بابه مجملا في الاستيفاء لعدم إمكان الوصول إلى انتهاء الاستقصاء، قصدت أن اخدمه بشرح يشرح بعض ما يتعلق به من تحقيق الاعراب والنباء، رجاء أن أسلك في سلك مسالك العلماء يوم الجزاء، فأقول وبالله التوفيق، وبتأييده ظهور التحقيق، أن المصنف رحمه الله تعالى كان وحيد زمانه وفريد أوانه، متقنا لعلوم الحديث واللغة والنحو والآداب، وعالما بأيام العرب والأنساب، ومن تصانيفه المفيدة الاكمال في شرح مسلم، كمل به المعلم في شرح مسلم، للمازري ومنها مشارق الأنوار فسر به غريب الحديث ومنها الشفا في حقوق المصطفى ومنها شرح حديث ام ذرع إلى غير ذلك وله أشعار لطيفة متضمنة المضامين منيفة مولده منتصف شعبان سنة ست وسبعين واربعمائة وتوفي يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة وقيل في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة قال: (بسم الله الرحمن الرحيم) اقتداء بالكلام المجيد واقتفاء بالحديث الحميد ثم قال (اللهمّ صلّ على محمّد، وآله) أي وأتباعه المتضمنين لأصحابه (وسلّم) وهذا طريق المغاربة حيث يأتون بالتصلية والتحية بين البسملة والحمدلة كما في الشاطبية ولعل فيه اشعارا بأن البسملة المشتملة على نعت الألوهية وصفات الرحمانية والرحيمية بمنزلة شطر الشهادتين من كلمة التوحيد فلا بد من انضمام الشطر الآخر لإتمام معنى التمجيد ليترتب على توفيق تحصيل هذا المقام مقال التحميد ثم في بعض النسخ المصححة قبل قوله الحمد لله (قال الفقيه) وفي نسخة الشيخ الْفَقِيهُ (الْقَاضِي الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضُ بن موسى بن عياض) بكسر العين (اليحصبيّ) بتثليث الصاد والفتح أخف وبه ثبتت رواية الشاطبي وهو نسبة إلى يحصب بن مالك قبيلة من حمير باليمن (رحمة الله عليه) ولا شك أن هذا الادخال من المقال صدر من بعض أرباب الكمال من تلاميذ المصنف أو من بعده ولكن اللائق في فعله أن يأتي به قبل البسملة ليقع الكل من مقوله. ولعله تحاشى من تقديم ذكره فوقع وهم في حقه فالأولى أن يفعل مثل هذا العنوان وراء الكتاب على قصد التبيان أو بقلم آخر أو لون مغاير في هذا المكان ثم تحقيق مباحث البسملة والحمدلة وما يتعلق بهما من وجوه التكملة قد كثر في تصانيف العلماء وتآليف الفضلاء، وقد ذكرنا طرفا منها في بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 تصانيفنا كما هو دأب البلغاء والمقصود بعون الملك المعبود هو أن المصنف قال (الحمد لله) بالجملة الاسمية لإفادة الديمومية لأن الفعل دال على اقتران مدلوله بزمان والزمان لا ثبات له فكذا ما قارنه واللام فيه للاستغراق عند أهل السنة خلافا للمعتزلة إذ كل كمال إنما هو لله سبحانه وتعالى في حقيقة الحال أو طريقة المآل (المنفرد باسمه الأسمى) وفي نسخة المتفرد من باب التفعل بمعنى المتوحد الممتاز عن المشاركة فمآلهما واحد في المعنى وان اختلفا في المبنى والأسمى افعل التفضيل من السمو وهو الارتفاع أي الممتاز عن المشاركة في اسمه الأعلى والإضافة للتعميم فإن لله الأسماء الحسنى وكل واحد منها في مرتبته هو الأعلى والأغلى وأغرب الشمني في تفسير الأسمي بالعالي (المختصّ) صفة لله كالمنفرد ويجوز قطعهما بنصبهما أو رفعهما أي المخصوص (بالملك الأعز الأحمى) أي الموصوف باختصاص الاستيلاء على البلاد والعباد باطنا وظاهرا على وجه الأعزية الذي لا يحوم حوله ذل ومغلوبية لأنه في غاية المنعة ونهاية الحماية بحيث لا يقربه أحد أولا وآخرا والملك بضم الميم فإنه أبلغ من كسرها وعليه النسخ المصححة والأصول المعتمدة. وقال التلمساني: هو بضم الميم وكسرها (الّذي ليس دونه) أي قريب منه (منتهى) أي موضع غاية ومحل نهاية فيفيد معنى البقاء فإنه أول قديم بلا ابتداء وآخر كريم بلا انتهاء أو المراد أنه ليس للقرب منه نهاية يدركها أحد ولو كان من أهل العناية ويلائمه قوله (ولا وراءه مرمى) مقتبس من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ليس وراء الله مرمى ولا منتهى أي ليس غيره أو بعده مقصد للورى وأصل المرمى بفتح الميمين موضع الرمي شبه بالغرض والهدف الذي ينتهي إليه سهم الرامي. قال النابغة: وليس وراء الله للمرء مذهب وفي النهاية أي ليس بعد الله لطالب مطلب فإليه انتهت العقول ووقفت فليس وراء معرفته والإيمان به غاية تقصد وحاصل الجملتين انه تعالى ليس في جهة ولا في حيز ومسافة ليكون للقرب غاية وللبعد منه نهاية، وأما القرب والبعد الثابت في نحو حديث ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت فإنما هو القرب والبعد المعنوي لا الصوري والحسي وإنما كمال القرب في الحب بحيث لا يشهد السالك إلا الله ويفني عن شهود ما سواه حتى يفني عن نفسه ويبقى ببقاه ونهاية البعد هو الغفلة عن الله على وجه يشاركه ما خلقه وسواه (الظّاهر) أي بالأدلة الدالة على وجوده وكمال كرمه وجوده لعين الحقيقة في شهوده (يقينا) وقطعا (لا تخيّلا) أي لا ظنا بالقوة الخيالية (ووهما) بسكون الهاء أي ولا وهما كما في نسخة مصححة ولا غلطا بالقوة الوهمية والمراد أن الله تعالى ظاهر بصفاته لدلالة مصنوعاته وظهوره لنا ليس على جهة ظن ووهم منابل ظهورا يغلب نورا أدركناه بعيون بصائرنا في الدنيا وسيرونه الأحباء بعيون أبصارهم في العقبى والحاصل أن جميع المخلوقات دالة على وجوب وجوده وألوهيته وتحقيق وحدانيته: ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 (الباطن) وفي نسخة والباطن أي باعتبار ذاته دون صفاته (تقدّسا) أي تنزها فإنه كما قال الغزالي وغيره كل ما خطر ببالك فالله وراء ذلك (لا عدما،) بضم فسكون لغة في المفتوحين أي لا فقدا وعدما إذ لا يقتضي عدم ظهوره نفي وجوده ونوره لانه قد ثبت بالدليل القطعي قدمه وما ثبت قدمه استحال عدمه والتحقيق المتضمن للتدقيق على وجه التوفيق أنه باطن لا يدرك أحد حقيقة ذاته ولا يحيط أحد بكنه صفاته وهذا بالنسبة إلى ما سواه فإنه لا يعرف الله إلا الله ونصبهما على التمييز وأما قول الدلجي تمييز أو تعليل لكونه باطنا فهو وان كان صحيحا في هذا المبنى لكن التعليل لا يصح بحسب المعنى في قوله (وسع كلّ شيء رحمة وعلما) أي أحاط بكل شيء رحمته وعلمه فإن كل شيء لا يستغني عن رحمته إيجادا وامدادا وعلمه شامل للجزئيات والكليات احصاء واعدادا والجملة مقتبسة من قوله تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً والاقتباس أن يتضمن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث على وجه لا يكون فيه إشعار بأنه منه (وأسبغ) أي أكمل بالرحمة الخاصة والعلم المختص بالهداية (على أوليائه) أي المؤمنين على قدر كمالاتهم ومراتب حالاتهم (نعما) بكسر ففتح جمع نعمة، وفي نسخة بضم فسكون مقصورا لغة في النعمة لكنه يكتب بالياء مع انه غير ملائم لقوله: (عمّا) بضم المهملة وتشديد الميم جمع عميمة وهي العامة الشاملة التامة ووهم من قال من المحشيين انها جمع عمة فإنه يقال نخل عم نخلة عميمة والحاصل أن رحمته وسعت كل شيء في أمر الدنيا لكن له رحمة خاصة بأرباب العقبى كما قال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية. وكذا علمه بكل شيء محيط بمعنى المعية كما قال: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ لكن لأرباب الخصوص معية خاصة كما يدل عليه قول موسى عليه الصلاة والسلام: إِنَّ مَعِي رَبِّي وقول نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم للصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه: «لا تحزن إن الله معنا» وتأمل التفرقة بين الكلامين فإن الثاني مشير إلى مقام جمع الجمع والأول مشير إلى مقام التفرقة والمنع، وأما ما ذكره الدلجي من أن تصدير هذه الفقرة بالواو الموضوعة للجمع دون ما قبلها مع أن أجزاء الصفات المتعاقبة على موصوف واحد مشعرة به يلوح بزيادة جمعية وارتباط معية ففيه مناقشة خفية لأن أجزاء الصفات المفردة يؤتى بها من غير واو الجمعية في الجمل الاسمية، كقوله تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ مع جواز إتيان العاطف بخلاف الجمل الفعلية، ولهذا قال: (وبعث) أي أرسل الله (فيهم) أي في أوليائه ولأجل أحبائه، ولذا قيل إنه لم يرسل في الحقيقة إلى أعدائه ثم المؤمنون هم المراد بأوليائه لقوله تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ (رَسُولًا) أي نبيا مرسلا أمر بتبليغ الرسالة موصوفا بكونه (من أنفسهم) بضم الفاء أي من جنسهم العربي أو البشري دون الملكي للحكم الإلهي (أنفسهم) بفتح الفاء ونصب السين أي أشرفهم وأعظمهم في نفوسهم فالأول جمع النفس بسكون الفاء والثاني افعل من النفيس وجمع بينهما كما قرىء في الآية بهما ونصب أنفسهم الثاني على أنه صفة رسولا أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 بدل أو حال. وفي البعض الحواشي ضبط بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف أي هو أنفسهم من نفس بالضم صار مرغوبا فيه لشرفه (عربا وعجما) بضم فسكون فيهما وهو لغة في فتحتيهما والمراد بالعرب هنا أعم من سكان القرية والبادية كما أن المراد بالعجم ضد العرب الشامل لأهل الفارس والترك والهند وغيرهم ونصبهما على التمييز. وقال الدلجي: حالان لازمان من ضمير أنفسهم وردا بيانا لنوعي المنفوسين، وأما قول بعضهم في حاشيته وأنفسهم بفتح الفاء أي أعلاهم وخيارهم وهو من النفاسة ولا يجوز ضمها لأن الضمير عائد إلى الأولياء فخطأ ولعله مبني على أن لفظ أنفسهم لم يكن مكررا عنده وإلا فإن أراد عدم جواز الضم في أنفسهم الثاني فلا كلام فيه إلا أن تعليله لا يصح وان أراد مطلقا فغلط محض (وأزكاهم) أي أطهرهم وانما هم (محتدا) بفتح الميم وكسر الفوقية أي أصلا وطبعا (ومنمى) بفتح الميمين مصدر ميمي أي نموا وزيادة وارتقاء، وقد ذكر الحلبي وغيره أنه إذا كان الفعل معتل اللام مثل رمى فقياس المصدر منه مفعل مثل نمى منمى ورمى مرمى وسرى مسرى انتهى. وفيه أن مصدر الثلاثي المجرد مطلقا يجيء على مفعل بفتح العين قياسا مطردا كمقتل ومضرب ومشرب كما في الشافية فلا وجه لقيده بالمعتل نعم هذا القيد يعتبر في أسمى الزمان والمكان منه والله أعلم. واختار الدلجي أنهما اسما مكان فمحتد من حتد إذا أقام والمراد بهما مكة المشرفة فإن للأمكنة دخلا ما في شرف الأخلاق وطهارتها وحسن الافعال ونجابتها (وأرجحهم) بالنصب عطفا على أنفسهم الثاني أي أرزنهم (عقلا) أي تعقلا (وحلما) أي تحلما (وأوفرهم) أي أتمهم (علما وفهما) وفي نسخة بالعكس رعاية لحلما والفهم هو العلم وسرعة ادراك الشيء فالحمل على المعنى الثاني أولى واختلف في حقيقة العقل والأقرب قول القاضي أبي بكر العقل علم ضروري بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات ولعله اراد به تعريف العقل الكامل والله تعالى أعلم. وقيل الفهم إزالة الوهم (وأقواهم) أي أشدهم، وفي نسخة أوفاهم أي أزيدهم (يقينا) أي علما زال فيه الريب تحقيقا (وعزما) أي اهتماما بالغا ليس فيه رخصة ما فقيل جدا وقيل صبرا (وأشدّهم) أي بهم كما في نسخة صحيحة (بهم رأفة) أي زيادة رحمة (ورحما) بضم فسكون أي رحمة وعطفا. قال الله تعالى: وَأَقْرَبَ رُحْماً. قرأ الشامي بضم الحاء والباقون بسكونها. وفي نسخة مقصور وهو تعميم بعد تخصيص لا مجرد تغاير لفظي كما ذكره الحلبي وفيه إيماء إلى قوله تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، ثم من قوله: (لا تخيلا ووهما) إلى هنا منصوبات على التمييز خلافا لما بعده ولذا فصله بقوله: (زكّاه) بتشديد الكاف أي طهره (روحا وجسما) فهما بدلان من الضمير فإنه عينهما لا غيرهما على خلاف التمييز. وقال الدلجي: مميزان حولا عن كونهما مفعولين وإيراد هذه الفقرة بلا عاطف دون ما قبلها لكمال انقطاع بينهما لاختلافهما ثبوتا وسلبا انتهى. وهو وهم منه وغفلة صدرت عنه لأن هذا الكلام إنما يصح لو عطف في زكاه وترك العطف في حاشاه، ثم المراد بالجسم الجسد وهو جسم كثيف ظاهري بخلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الروح، فإنه جسم لطيف باطني، أما تزكية روحه صلى الله تعالى عليه وسلم فلكونه أشرف الأرواح المطهرة لا من أشرفها كما قال المحشي فإنه كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «أول ما خلق الله روحي وسائر الأرواح، إنما خلق ببركة روحه ونور وجوده» كما روي لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك فإنه صحيح معنى لو ضعف مبنى، وأما تزكية جسده فلشق جبريل عليه السلام صدره واستخراج حظ الشيطان منه وغسله بماء زمزم لا بماء الجنة كما قاله المحشي إلا أنه إن صح رواية يجمع بينهما دراية، ويمكن أن يكون الروح والجسم كنايتين عن الخلق والخلق، فإنهما مزكيان من جانب الحق وأغرب المحشي حيث قال في رأفة ورحما اشترط من أجاز العطف أن لا بد من زيادة معنى في المعطوف. وقال هنا فيه دلالة على جواز العطف وان تغاير اللفظان والمعنى واحد من غير زيادة. وأبعد الحلبي حيث تبعه في الموضعين، وقال هنا: وهذا لا زائد ولا مساو، ولعله فعل ذلك للسجع انتهى. وقد بينت لك الفرق بين الرأفة والرحمة، وأما الفضل بين الروح والجسد فظاهر للعامة فضلا عن الفضلاء الخاصة (وحاشاه) أي نزهه الله وبرأه (عيبا ووصما) أي عارا على ما صرح به في القاموس فهو تخصيص بعد تعميم خلافا لمن زعم أنهما متساويان، وتبعه الحلبي والدلجي ثم نصبهما بنزع الخافض أي من غيب ووصم (وآتاه) بالمد أي اعطاه الله تعالى (حكمة) وهي في الأصل ما يمنع من الجهالة فإنها مأخوذة من الحكمة بفتحتين وهي اللجام المانع من النفور أي علما بالشرائع المشتملة على الحكم المبنية على الاتقان والأحكام (وحكما) بضم فسكون أي قضاء بالأحكام. قال المحشي وتبعه الدلجي فيه تجنيس التحريف وهو تحريف من أحدهما والصواب التطريف وهو أن يختلف المتجانسان في إعداد الحروف وتكون الزيادة في الآخر على ما في شرح مختصر التلخيص ثم هما منصوبان على المفعولية الثانية. وأغرب التلمساني بقوله: هما مترادفان وجمعهما للتأكيد (وفتح به) أي فتح الله تعالى بسبب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (أعينا عميا) عن رؤية الحق وهو بضم فسكون جمع عمياء بفتح فسكون ممدودا. وأبعد التلمساني حيث قال: عميا صفة للأعين وهو جمع أعمى. وقال المحشي: كان الأولى أن يأتي بجمع كثرة لكن قد يأتي جمع القلة بمعنى الكثرة كقوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ بمعنى جنان، وقد تأتي الكثرة بمعنى القلة كقوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أي اقراء، وتبعه الحلبي وقالا الأولى أن يأتي به جمع كثرة لكنه تبع الحديث الصحيح والمراد به هنا وبالحديث الكثرة انتهى. وقال الحافظ العسقلاني الكثرة العددية من الأمور النسبية فيحتمل أن يكون العدول عن جمع الكثرة في الحديث إلى جمع القلة للإشارة إلى أن الكفار أكثر من المسلمين (وقلوبا) جمع قلب وسمي به لتقلبه في أيدي مقلب القلوب عز وجل كما قال الشاعر: وما سمي الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا انه يتقلب (غلفا) بضم فسكون جمع أغلف كأنه جعل في غلاف فهو لا يعي، وَقالُوا قُلُوبُنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 غُلْفٌ أي ذوات غلف لا تعي كلمة الحق ولا تفهمها لأنها لا تصل إليها (وآذانا) بمد الهمزة جمع اذن (صمّا) بضم فتشديد ميم جمع صماء لا أصم كما سبق أي لا تسمع النصيحة، والحاصل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أتاهم بآيات واضحة ومعجزات لائحة فاجتلت أبصارهم ووعت قلوبهم وقبلت أسماعهم (فآمن به) أي صدق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما جاء به (وعزّره) أي عظمه ووقره وهو بتشديد الزاء، ووهم التلمساني حيث قال: تخفف وتشدد. ففي القاموس العزر اللوم والتعزير التعظيم أو المعنى منعه من عدوه إذ أصل العز والمنع ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبيح (ونصره) أي أيده وأعانه إيماء إلى قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ والضمير في الآية يجوز أن يكون لكل منهما والأظهر أن يكون إلى الأخير، فإن الإيمان به متضمن للأول فتأمل، ثم الفاعل قوله: (من) أي الذي (جعل الله له في مغنم السّعادة) أي في غنائم السعادة الإيمانية وحيز السيادة الإيقانية (قسما) بكسر فسكون أي حظا ونصيبا مقسوما، وأما بفتح القاف فهو مصدر (وكذّب به) أي كفر بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وصدف عن آياته) أي أعرض عن معجزاته البرهانية أو مال عن قبول آياته القرآنية (من كتب الله) أي قدر وقضى وأوجب (عليه الشّقاء) بالمد مفتوحا ويكسر أي الشقاوة كما في نسخة وهي الأولى من الأولى كما لا يخفى. وقال التلمساني: الشقاء العذاب وهو ممدود انتهى. ولا يخفى عدم الملائمة بالمقابلة للسعادة مع أن صاحب القاموس قال: الشقاء الشدة والعسر ويمد، والظاهر أن معناه التعب كما فسر به قوله تعالى: (فشقى) وقوله: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى لا بمعنى العذاب المتعارف والله أعلم. (حتما) أي حتما مقضيا يعني وجوبا متحتما لازما لا بد له من فعله ولا تبديل ولا تحويل فيه أصلا وقطعا (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) أي في الدنيا الدنية التي هي محل تحصيل الكمالات الدينية (أَعْمى) أي عن الأمور العلمية والعملية أو عن طريق الحق وبصيرة الصدق (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) [الإسراء: 72] . فاعل أو خبر أي فهو فيها أعمى بالطريق الأولى أو أشد عمى مما كان في الدنيا أو أعمى عن النجاة ورؤية سبيل أهل الهدى والحاصل أن أعمى في الموضعين افعل وصف، والمعنى من كان في الدنيا لا يبصر طريق هدايته لا يرى في العقبى سبيل عنايته وقيل أعمى الثاني للتفضيل كأجهل وأبله، ولهذا عطف عليه في الآية، وَأَضَلُّ سَبِيلًا ولم يمله أبو عمرو ويعقوب لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسط كما في أعمالكم ولا يبعد أن يراد بالعمى في الدنيا الجهالة والضلالة في الأمور الدينية وكونه أعمى في الآخرة بالطريق الصورية والمعنوية (صلّى الله تعالى عليه وسلّم) جملة خبرية مبنى انشائية معنى (صلاة تنمو) بفتح فسكون فضم من النمو أي تزيد عددا دائما (وتنمى) بصيغة المجهول من الإنماء أي ويزيدها الله أو يزيد ثوابها أبدا والمعنى تزيد في نفسها أو يزاد فيها، وفي نسخة صحيحة بدل الأولى تنمى كترمى بالياء بدل الواو وهو الأولى من جهة صنيع الجناس المستحسن في المبنى مع انه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 اللغة الأشهر عند الأكثر، ففي الصحاح نمى المال وغيره ينمى نماء، وربما قالوا ينمو نموا وانماه الله تعالى إنماء انتهى. وفي غالب النسخ المصححة تنمو بالواو. وعن الخليل انه أفصح وبهذا يتبين أن قول الحلبي وفي لغة ينمو وهو ضعيف هو الضعيف لمخالفة الجمهور ولمعارضة شيخه مجد الدين الفيروزآبادي صاحب القاموس حيث قال: نما ينمو زاده كنمى ينمى. وأما ما نقل عن الكسائي لم أسمعه بالواو إلا من أخوين من بني سليم. ثم سألت بني سليم فلم يعرفوه فالجواب عنه أنه على تسليم صحته يكون لغة لغيرهم ومن حفظ صار حجة على من لم يحفظ (وعلى آله) أي اتباعه ولذا لم يقل وأصحابه. وفي نسخة: وصحبه على انه تخصيص بعد تميم أو المراد بالآل أقاربه والعطف لزيادة التشريف والتكريم (وصحبه وسلّم) بفتح اللام عطف على صلى (تسليما) أي تسليما عظيما. ووقع في بعض النسخ زيادة كثيرا وهو مخل بالسجع المرعى في الفواصل ثم ظاهر آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً دال على وجوب الصلاة والسلام عليه كلما ذكر وكذا حديث من ذكرت عنده فلم يصل على دخل النار فأبعده الله تعالى، وحديث رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ علي. وبه قال الطحاوي من الحنفية والحليمي من الشافعية واللخمي من المالكية وابن بطة من الحنابلة والجمهور على أنها في العمر فرض مرة والمحققون على انها فرض في كل مجلس ذكر صلى الله تعالى عليه وسلم والله تعالى أعلم. (أمّا بعد) بضم الدال مبنيا لحذف المضاف إليه وكونه منويا. وقال الحلبي: وبفتحها. اجازه هشام. وقال النحاس: إنه غير معروف ورفعها منونة، وكذا نصبها انتهى. وذكر النووي في باب الجمعة: من شرح مسلم أنه اختلف العلماء في أول من تكلم بأما بعد فقيل داود عليه الصلاة والسلام. وقيل: يعرب بن قحطان. وقيل: قس بن ساعدة. وقال بعض المفسرين: أو كثير منهم أنه فصل الخطاب الذي أوتيه داود. وقال المحققون: فصل الخطاب الفصل بين الحق والباطل انتهى. وفي الكشاف: ويدخل فيه، يعني في فصل الخطاب. أما بعد فإن المتكلم إذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله: أما بعد، انتهى. وفي غريب مالك للدارقطني بسند ضعيف أن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما جاءه ملك الموت قال من جملة كلامه: أما بعد.. فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء وهذا يدل على أن أول من تكلم به يعقوب لا داود عليهما الصلاة والسلام، ونظير فصل الخطاب كلمة هذا فإنه يفصل بها بين الكلامين كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو خذ هذا أو هذا المعد للمتقين وأما تنظير المحشي بقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ فغفلة عن لفظة التنزيل وهو قوله تعالى هذا ذِكْرٌ وهو ليس من هذا الباب نعم نظيره ما قال الشاعر: هذا وكم لي بالحبيبة سكرة ... أنا من بقايا خمرها مخمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فإنه أشار بهذا إلى الكلام تقدم ثم استأنف كلاما ثانيا والله تعالى أعلم. ثم اعلم أن قس بن ساعدة الإيادي بضم القاف وتشديد المهملة بليغ حكيم ومنه الحديث يرحم الله قسا إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة واحدة قيل هو أول من كتب من فلان إلى فلان وفيه نظر لقوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وأول من خطب بعصا وأول من أقر بالبعث من غير سماع قيل إنه عاش ستمائة سنة وقد رآه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسوق عكاظ وهو راكب جملا له أحمر وورد رحم الله قسا إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. رواه الطبراني عن غالب بن ابجر. وفي رواية: رحم الله قسا كأني انظر إليه على جمل أورق تكلم بكلام له حلاوة ولا احفظه، رواه الأزدي في الضعفاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ومن قوله: أيها الناس اسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت ثم هو من أهل الفترة وأما يعرب بن قحطان فهو أبو اليمن. وقيل: هو أول من تكلم بالعربية وههنا قولان آخران في أول من قال: أما بعد. فقيل: كعب بن لؤي. وقيل: سحبان، وهو بليغ يضرب به المثل. لكن هذا القول غير صحيح لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقولها في خطبته وهو قبل سحبان اجماعا لأنه كان في زمن معاوية وما أجيب عنه بأنه أول من قالها بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الإسلام لا يخفى بعده لأني ما أظن أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يتركونها في خطبهم بعد ما سمعوها منه صلى الله تعالى عليه وسلم في خطبته والله أعلم. (أشرق الله) أي أضاء ونّور (قلبي وقلبك بأنوار اليقين) أي بأنواع أنواره من علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين على قدر مراتب العارفين في ميادين الدين والأصل في النور الظهور. واعلم أن مقتضى القواعد العربية واستعمال الفضلاء الأدبية إيراد الفاء بعد: أما بعد، بل بعد بعد أيضا. إما لتقدير أما وإما لتوهم أما مع رفع توهم الإضافة وإفادة الدلالة التعقيبية. وقد قال سيبويه: إن معنى أما بعد مهما يكن من شيء بعد فتعين اتيان الفاء الجزائية وسيأتي في قوله فإنك فالجمل المذكورة دعائية اعتراضية وأما قول التلمساني في قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فكانت لمساكين يعملون فليس في محله لأن أما هذه تفصيلية لا شرطية (ولطف لي ولك) باللام فيهما على الأصول المصححة لا بالباء الموحدة (بما) أي بمثل ما وفي نسخة كما (لطف بأوليائه) فما مصدرية. وفي نسخة صحيحة بما لطف لأولياء فما موصولة. وفي نسخة: بعباده (المتقين) بالباء جمعا بين اللغتين وتفننا في العبارتين. فمن الأولى قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ، ومن الثانية اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ولطف بفتح الطاء من اللطف وهو على ما في المجمل بمعنى الرفق والرأفة، وعلى ما في الصحاح بمعنى التوفيق والعصمة. وقيل: بمعنى الهداية. وأما بالضم فمعناه دق وصغر والألطف ما قال بعضهم من أن اللطف في اللغة الرقة وهو من الله تعالى زيادة بره للأنام بأمور تدق عن الأفهام منها هدايتهم للإيمان والإسلام وتوفيقهم لطاعاته ومراعاة الأحكام وكفهم عن المعاصي والآثام وتيسير أسباب الراحات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الدنيوية والأخروية عليهم ودفع المضار المانعة عنهم وجلب المنافع اليهم ثم التقوى هو التوقي عن مخالفة المولى (الّذين، شرّفهم) أي الله تعالى كما في نسخة (الله بنزل قدسه) بضمتين ويسكن الثاني فيهما إلا أن السكون في الثاني أقل وفي الأول أكثر ثم النزل ما يهيأ للضيف من الكرامة لأنسه، وقيل: النزل المنزل وبه فسر قوله تعالى: جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، وقد جزم المحشي بأنه مراد المصنف هنا والظاهر أنه لا منع من الجمع كما أشار إليه صاحب القاموس النزل بضمتين المنزل وما هيىء للضيف أن ينزل عليه كالنزل، والمعنى بالنزل الحال المقدس عن الدنس، وفي نسخة بنور قدسه وهو أظهر معنى، لأن المراد به وبما بعده مقامات العارفين في الدنيا، وان كانت سبب درجات في العقبى فلا يلائم تفسير نزل قدسه بالجنة لنزاهتها عن الكدورات الدنيوية كما اختاره الدلجي، ثم قال: ويجوز أن يريد به ما يهيأ لهم من الطعام إذا دخلوها الوارد به نزل أهل الجنة زيادة كبد الحوت، وأما ما هو في وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلًا فحال من ضمير تدعون تلويحا بأن ما يتمنونه بدعائهم بالنسبة إلى عطائهم مما لا يخطر ببالهم كالنزل للضيف (وأوحشهم) من الوحشة ضد الأنسية. يقال: أوحشه فاستوحش أي جعلهم ذوي وحشة (من الخليقة) وفي نسخة من بين الخليقة (بأنسه) لأن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس، ولا يمكن دفع العوائق إلا بقطع العلائق، فالمعنى أبعدهم الله تعالى عن الخليقة وقرّبهم منه على مراعاة الشريعة والطريقة والحقيقة فيكونون كائنين بائنين قريبين غريبين عرشيين فرشيين مع الخلق في الصورة ومع الحق في السريرة كما هو دأب الأنبياء وعادة الأولياء به آنسون ومن غيره آيسون (وخصّهم من معرفته) أي جعلهم أهل الخصوص من أجل معرفته، وفي نسخة بمعرفته أي جعلهم مخصوصين بها بحيث لا يلتفتون إلى معرفة غيره أصلا (ومشاهدة عجائب ملكوته) فعلوت من الملك بزيادة الواو والتاء للمبالغة وفرق بين الملك والملكوت إذا اجتمعا بأن يخص الأول بظاهر الملك والثاني بباطنه أو الأول بالعالم السفلي والآخر بالعالم العلوي، قال الله تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وقال عز وجل: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ومعنى المشاهدة المعاينة، وأغرب التلمساني حيث فسرها بالحضور مع قوله مصدر شاهد بمعنى رأى ثم العجائب جمع عجيب وهو ما يتعجب فيه من الأمر الغريب (وآثار قدرته) أي من مطالعة مصنوعاته (بما ملأ قلوبهم حبرة) بفتح المهملة وسكون الموحدة أي مسرة من الحبور وهو السرور، وقيل معناها النعم والكرامة ومنه قوله تعالى: فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أي ينعمون ويسرون ويكرمون، ثم الجار متعلق بخص أو بالمشاهدة، وما مصدرية أو موصولة وقلوبهم مفعول به وحبرة مفعول ثان كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حق الكفار يوم الأحزاب ملأ الله قبورهم نارا أو منصوب بنزع الخافض وإيصال الفعل كقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ. وقيل: منصوب على التمييز. وأما ما ذكره التلمساني من أنه يقال بفتح الباء الموحدة وتسكينها فوهم لأن الفتح إنما جاء بدون التاء على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ما في القاموس نعم الحبرة هي سرور ظهر حبره أي أثره على وجوههم فكساها بهاء وجمالا. ففي الحديث: «يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره بكسرهما وقد يفتحان أي بهاؤه وجماله (وولّه) بالتشديد (عقولهم) أي جعلها والهة بتدبرها وتفكرها (في عظمته) وفي نسخة من عظمته (حيرة) أي ذوات تحير بما غشاها من ضياء جمال وبهاء كمال. وفي نسخة ووذر عقولهم أي تركها متحيرة ولا يخفي صنعة التجنيس بين حبرة وحيرة (فجعلوا همّهم به) أي بالله ودينه قائمين بحقوق ألوهيته ووظائف عبوديته (واحدا) أي هما واحدا إشارة إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم من جعل الهموم هما واحدا كفاه الله تعالى هم الدنيا والآخرة. والمراد بالهم هنا القصد والهمة والعزم والجزم التام ولا يبعد أن يكون بمعنى الحزن الموجب للاهتمام في سبيل الله أو بسبب دينه، فالضمير له سبحانه وأبعد التلمساني في جعل الضمير للوله المفهوم من وله (ولم يروا) أي لم يعتقدوا أو لم يبصروا (في الدارين غيره مشاهدا) بضم الميم وفتح الهاء أي مشهودا لأنه كما قال بعض العارفين من أرباب الأسرار ليس في الدار غيره ديار وقال آخر من أصحاب الشهود سوى الله والله ما في الوجود وزاد أبو يزيد على من سواه. وقال: ليس في جبتي غير الله ومن هذا المقام المحقق الحسين ابن منصور الحلاج نطق وقال: أنا الحق، وقال مجنون بني عامر في هذا المعنى: أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا فهذا مقام وحال لأرباب الكمال بلا حلول ولا اتحاد ولا اتصال ولا انفصال، ويؤيد هذا المقال قول الملك المتعال كل شيء هالك إلا وجهه ويقويه ما ورد عن النبي النبيه عليه الصلاة والسلام أصدق كلمة قالها لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وفي نسخة بكسرة الهاء وهو لطيف جدا موافق للفظ واحدا فإنه يفيد بانضمام الفتح لأرباب الفتوح انه شاهد ومشهود كما أنه حامد ومحمود قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وفهم كل طائفة مذهبهم كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ لعل بعض أرباب النسخ استنكر لفظ مشاهدا فأسقطه مع انه لم يتم بدونه التسجيع بقوله واحدا وكأنهم اكتفوا بلفظ غيره حالة وقفه (فهم بمشاهدة جماله وجلاله يتنعّمون) وفي أصل التلمساني يتمتعون أي يتعيشون والمعنى انهم بمطالعة صفات انعام ولائه ونعوت بلائه وابتلائه يتلذذون فاستوى عندهم المنحة والمحنة في ثبوت كمال المحبة خلافا للناقصين في المودة على ما أخبر الله تعالى في حقهم من الحرف بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ وفي هذا الحال قال بعض أرباب الكمال: وليس لي في سواك حظ ... فكيف ما شئت فاختبرني وفي القضية إشارة خفية إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم إن قلوب بني آدم بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 اصبعين من أصابع الرحمن أي بين صفتي الجمال والجلال ونعتي البسط والقبض المعبر عنهما بالبقاء والفناء والتفرقة والجمع وأمثال ذلك من اصطلاحات الصوفية والسادات السنية وفي كثير من النسخ المصححة كماله بدل جماله وهو غير ملائم لمقابله لأن الكمال هو الجمع بين الجمال والجلال وقد يوجه بإتيان الأخص بعد الأعم والله تعالى أعلم. ثم لما ترقى إلى أعلى المقامات وهو مشاهدة الذات تنزل إلى ملاحظة الصفات فإن تلك الحالة العالية قد تكون لحظة ولمحة لا تستمر في الأزمنة الماضية فقال (وبين آثار قدرته) أي من صفات الأفعال (وعجائب عظمته) أي من صفات الذات، ولو قال وأنوار عظمته لكان له وجه حسن في بلاغته (يتردّدون) أي تارة إلى هذا ينظرون وأخرى بهذا ينتظرون بخلاف أهل الحجب والغفلة فهم في ريبهم يتحيرون (وبالانقطاع إليه) لقوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (والتّوكّل عليه) لقوله عز وعلا: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (يتعزّزون) وفيه إشارة لطيفة إلى أنهم إلى غيره ما يتذللون لأنهم بما آتاهم الله تعالى يرضون ويقنعون (لهجين) بفتح فكسر أي حال كونهم مولعين ملازمين ومواظبين مداومين متمسكين (بصادق قوله) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي وبقوله الصادق المطابق (قُلِ اللَّهُ) أي موجودا ومعبودا ومشهودا وقل الله وليس في الكون سواه (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام: 92] . أي اترك أهل الغفلة واللعب والاشتغال بما لا يعنيهم في دينهم وما لا يحملهم على الحضور مع ربهم حال كونهم في شروعهم في الباطل وهو ما سوى الحق يضيعون أعمارهم ويخربون آثارهم عبثا بلا فائدة عائدة في أمر أوليهم، وفي حال أخراهم، وهذا المعنى الذي أومى إليه الشيخ من الاشارات الصوفية لا ينافي ما ذكره المفسرون وأرباب العربية من أن لفظ الجلالة فاعل لفعل مقدر أو مبتدأ خبره محذوف لما يدل عليه السياق والسباق بالاتفاق لانه جواب عن سؤال تقدم في قوله تعالى في حق اليهود: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق عظمته أو ما عرفوه حق معرفته إذ قالوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ إلى أن قال: قُلِ اللَّهُ أي امتنعوا عن الجواب وعجزوا عن الكلام الصواب قُلِ اللَّهُ أي أنزل الكتاب. وفي هذا كفاية لأولي الألباب (فإنّك) سبق انه جواب أما والجملة الدعائية معترضة بينهما (كرّرت عليّ السّؤال) أي راجعته وأكثرته (في مجموع) أي في مصنف جمع فيه صنف من الشمائل النبوية ومؤلف اجتمع فيه نوع من الفضائل المصطفوية (يتضمّن التّعريف) أي يحتوي الاعلام (بقدر المصطفى عليه الصّلاة والسّلام) أي بتعظيمه كقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وتوهم الحلبي بأن المراد بالقدر هو المقدار، فقال: لو قال ببعض قدره لكان أحسن والمراد بالمصطفى المختار المجتبى والمرتضى لحديث أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بني هاشم وهذا بحسب النسب، وأما بطريق الحسب فلقوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ولقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 تعالى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ولا شك انه الفرد الأكمل في هذا المعنى (وما يجب له من توقير) أي ويتضمن بيان ما يجب له من تعظيم واحترام (وإكرام، وما) أي وبيان أي شيء (حكم من لم يوفّ) بالتخفيف ويجوز التشديد أي من يكمل ولم يوفر (واجب عظيم ذلك القدر) الإضافة بيانية أي القدر الواجب من تعظيم ذلك القدر العظيم (أو قصّر) أي أو ما حكم من فرط (في حقّ منصبه) بفتح الميم وكسر الصاد أي مقامه (الجليل) بالجيم وهو الشريف المنيف (قلامة ظفر) بضم فسكون اختير للسجع وإلا فبضمتين هو الأفصح ويجوز بكسر الظاء وسكون الفاء أيضا وقد قرىء بهن في الآية لكن السكون مطلقا شاذ والقلامة بالضم ما يسقط من الظفر وهو كناية عن الشيء الحقير والأمر اليسير (وأن أجمع لك ما لأسلافنا) أي لعلمائنا المتقدمين (وأئمّتنا) أي لمشايخنا المتأخرين (في ذلك من مقال) أي فيما ذكر من وجوب تعظيم قدره والحكم فيمن صدر عنه بخلافه من الأقوال (وأبيّنه) أي المقال (بتنزيل صور، وأمثال) أي بتصوير صور وأمثال وتقرير محامل يزول به الاشكال إيضاحا للمعنى وإيصالا إلى الذهن في المبنى (فاعلم) أي ايقن وتنبه أيها المخاطب (أكرمك الله تعالى) أي كما قصدت إكرام النبي المكرم (أنّك حمّلتني) بتشديد الميم أي كلفتني بالحمل (من ذلك) أي الأمر الذي سألتني (أمرا، إمرا) بفتح الهمزة في الأول وكسرها في الثاني أي أمرا شاقا أو شيئا عظيما. وأما قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي عجبا أو منكرا (وأرهقتني) أي أوقعتني (فيما ندبتني) أي دعوتني (إليه عسرا) بضم فسكون وقد يضم أي أمرا عسيرا لا أقدر عليه من التحفظ عن السهو اليسير كما قيل في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (وأرقيتني) أي أصعدتني وأطلعتني من الترقي بمعنى الصعود وهو يائي. وفي القاموس رقى إليه كرضى رقيا صعد كارتقى وترقى أو مهموز حيث قال رقا في الدرجة صعد لكن النسخ المصححة بالمركز تؤيد الأول فتأمل، والحاصل انهما لغتان والأول هو الأشهر في البيان، وأما قول التلمساني بهمزة ويسهل والهمزة أفصح، وقيل: التسهيل فيتوهم منه أن الأصل هو الهمزة وهو غير صحيح لأن التسهيل بمعنى الابدال غير مطابق لقواعد الاعلال فإنه إنما يكون على طبق ما قبله من الحركة كما لا يخفى على أرباب الكمال والله تعالى أعلم بالحال (بما كلّفتني مرتقى) بضم الميم مصدرا أي ارتقاء (صعبا) أي شديدا وليس كما توهم التلمساني بقوله وكان المعنى أرقيتني فارتقيت مرتقى صعبا أي محلا عسيرا حيث جعل المرتقى اسم مكان فاحتاج إلى تقدير فارتقيت والله تعالى أعلم (ملأ قلبي رعبا) بضم فسكون وقد يضم أي خوفا وفزعا ووقع في أصل التلمساني خوفا ورعبا، فقال معناهما واحد لكنه مخالف لسائر الأصول من النسخ المصححة، ثم الضمير في ملأ راجع إلى ما أو المرتقى، والثاني أقرب لكن يؤيد الأول قوله (فإنّ الكلام في ذلك) أي المكلف (يستدعي تقدير أصول) أي تمهيد قواعد مقررة (وتحرير فصول) أي تشييد فروع محررة مما يجب له صلى الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 عليه وسلم ويجوز ويمتنع كما سيأتي (والكشف) أي ويستدعي البيان (عن غوامض) جمع غامضة وهي ما لا يدرك إلا بعد روية (ودقائق) جمع دقيقة وهي أدق مما قبلها مما يدق فهمه في كل قضية (من علم الحقائق) بيان لما قبلها وهي جمع الحقيقة وهي الأمور الثابتة من الأدلة النقلية والعقلية وقد أبعد الحلبي والتلمساني في عطف الكشف على الكلام مع عدم ظهور خبره في المقام (ممّا يجب) أي اثباته (للنّبيّ ويضاف إليه) أي وجوبا (أو يمتنع أو يجوز) أي اطلاقه (عليه ومعرفة النّبيّ والرّسول) أي بالحدود الفارقة بينهما ومعرفة مجرورة معطوفة على مدخول عن أو من أو منصوبة على انها معمولة ليستدعي أيضا (والرّسالة والنّبوّة) بالجر لا غير والمراد بهما الحالان فهما مغايران لما قبلهما (والمحبّة، والخلّة) بضم الخاء وهما نعمتان كاملتان ما اجتمعتا في غير نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (وخصائص هذه الدّرجة العليّة) بالجر جمع خصيصة وهي ما يختص به الشخص والدرجة المنزلة والمرتبة والرفعة ودرجات الجنة أرفع منازلها والدرجات ضد الدركات وقد سومح في التسجيع بين العلية وما قبلها فإنه من الأمور الرسمية، ثم رأيت ابن السكيت قال العلية بفتح العين وكسر اللام وكسر العين وسكون اللام فتعين الثاني لموافقة المرام (وههنا) أي وفي هذه المواضع المذكورة فها للتنبيه وهنا اسم اشارة للمكان القريب (مهامه فيح) أي مفازات واسعة ومهامة بفتح الميم الأول وكسر الثانية جمع مهمة بفتحتين مفازة بعيدة وخلاء ليس فيه ماء والفيح بكسر الفاء جمع فيحاء بفتح ومد لا جمع أفيح كما توهمه التلمساني أي الأرض الواسعة (تحار) بفتح التاء أي تتحير (فيها) أي في سبيل معرفتها إفهام ذوي النهى كما قد تحار في سير المفازة المحسومة إذا سلكتها (القطا) وهو بفتح القاف مقصورا طير يضرب به المثل في كمال الهداية فيقال هو أهدى من القطا سمي بصوته، وقد قيل انه يترك فراخه ويطلب الماء مسيرة عشرة أيام وأكثر فيرده ويرجع فيما بين طلوع الفجر وظهور الشمس ولا يخطىء صادرا ولا واردا وهو اسم جنس وقول الجوهري على ما نقله الحلبي وغيره انه جمع قطاة فيه تجوز والحاصل أن القطا يعرف في المجاهل مظان المياه فلا يكاد يخطئها فإذا رأت الماء قالت قطا قطا فتعرف العرب دنو الماء ولهذا يقال فلان أصدق من القطا (وتقصر) بضم الصاد (بها) وفي نسخة فيها (الخطى) بضم ففتح جمع الخطوة بضم وفتح أي تعجز في تلك المفازة أو سيرها الخطوات من الاعياء (ومجاهل) بفتح الميم وكسر الهاء عطفا على مهامها وهو جمع مجهل للمكان الذي لا علم فيه يهتدي به (تضلّ) بفتح فكسر أي تضيع وتهلك (فيها الأحلام) بالفتح جمع الحلم بالكسر أي العقول (إن لم تهتد) أي الأحلام (بعلم علم) بفتح العين واللام في الأول وبكسر فسكون في الثاني أي بعلامة يعلم بها فالعلم بمعنى العلوم أو المراد به نوع من العلوم وأغرب الحلبي بقوله الظاهر أن المراد بالعلم الجبل وأبعد محش آخر بقوله المراد به الراية ولعل محمل كلامهما قصد الاستعارة بهما. وقال الدلجي من اضافة المشبه به إلى المشبه من التشبيه المؤكد أي بعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 كالعلم (ونظر سديد) بين مهملة أي وبتأمل على صوب صواب (ومداحض) بالرفع أي مزالق (تزلّ) بفتح فكسر فتشديد (بها) أي بسببها أو فيها (الأقدام، إن لم تعتمد) أي الاقدام مجازا أو أصحابها (على توفيق من الله وتأييد) بياءين أي تقوية وإعانة على نيل المراد من التحقيق (لكنّي) أي مع هذا كله من صعوبة الحال ومزلة أقدام الرجال بحيث كاد قبولها أن يكون من المحال تحملت المقال وقبلت السؤال (لما رجوته) بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام للعلة وما موصوفة أو موصولة وهو بصيغة المتكلم وفي نسخة بالخطاب وهو بعيد ولا يبعد أن يضبط لما بفتح اللام وتشديد الميم على الظرفية كما عليه جمهور القراء في قوله تعالى: لَمَّا صَبَرُوا إلا أنه يمنعه وجود من البيانية بعده والحاصل أن خبر لكن مقدر كما أشرنا إليه وقوله (لي ولك) متعلق برجوته (في هذا السّؤال، والجواب) أي بسببهما لف ونشر غير مرتب وقدم نفسه في الدعاء لأنه الأدب المستحب وقدم السؤال لأن وجوده مقدم على الجواب وشهوده (من نوال) بيان لما أي حصول حسن منال وطيب حال ومآل في الدنيا (وثواب) أي تحصيل جزاء وعطاء في العقبى (بتعريف قدره الجسيم، وخلقه العظيم) بضمتين ويسكن الثاني أي بسبب تبيينهما (وبيان خصائصه) أي فضائله المختصة (التي لم تجتمع قبل) أي قبل خلقه (في مخلوق) ومن المعلوم استحالة وجود مثله بعده (وما يدان) أي وبيان ما يطاع (الله تعالى به) أي ويتخذ دينا (فِي مَخْلُوقٍ، وَمَا يُدَانُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ من حقّه الذي هو أرفع الحقوق) أي بعد حق الحق (لِيَسْتَيْقِنَ) متعلق بتعريف أي ليثبت أو يتيقن (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي نبوته إيقانا يريد العلماء به (وَيَزْدادَ) أي بذلك (الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) [المدثر: 31] . يريد العوام أو الأعم والله أعلم ثم قوله ليستيقن علة لقوله بتعريف قدره وبيان خصائصه. وأما قول التلمساني أي لكني أفعل لما رجوته وليستيقن فمخالف للنسخ المصححة حيث لم يوجد فيها الواو العاطفة (ولما) عطف على لما رجوته أي ولأجل ما (أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أي من الميثاق. وفي نسخة مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي من العلماء (لَتُبَيِّنُنَّهُ) بفتح اللام على انه جواب للقسم الذي ناب عنه قوله أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أي استخلفهم والمعنى ليظهرن أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جميعه (لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي شيئا منه وهو المناسب للمقام أو الضمير للكتاب وهو مشتمل على المرام. وفي بعض النسخ بالخطاب فيهما وهو صحيح وقد قرأ بهما السبعة في الكتاب فالياء لغيبتهم والتاء حكاية لمخاطبتهم وتتمة الآية المقتبس منها فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا (ولما) أي وللحديث الذي (حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ الفقيه رحمه الله بقراءتي عليه) وهو هشام بن أحمد بن هشام بن خالد الأندلسي الوقشي بفتح الواو والقاف وبالشين المعجمة نسبة إلى وقش قرية من قرى طليطلة بالأندلس الكناني الفقيه الحافظ ولد سنة ثمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وأربعمائة واشتغل بالفنون وقرأ على المشايخ ومهر في النحو والعربية واللغة وفنون الأدب واعتنى بالحديث. قال القاضي عياض كان غاية في الضبط والإتقان وله تنبيهات وردود على كبار المصنفين في بعضها يقال وكان له نظر في الأصول واتهم بالاعتزال وكان من المتسعين في ضروب المعارف وكان يعرف الفرائض والهندسة وغيرهما ومات في جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة كذا ذكره الحلبي وقال التلمساني: وهو هشام بن أحمد بن هشام الهلالي يعرف بابن بقوة بالباء الموحدة المفتوحة والقاف الساكنة بعدها واو مفتوحة وتاء مقلوبة في الوقف هاء وهو إمام حافظ وشيخ من شيوخه الذين اعتمد على النقل عنهم في هذا الكتاب وغيره وكثرت الروايات عنه في أسانيد القاضي رحمه الله تعالى وتكرر السماع عليه ذكره الحافظ أبو محمد بن عبد الله الحجري وأبو العباس أحمد بن الزبير الثقفي وللقاضي رحمه الله تعالى شيخ آخر على نحو هذا الاسم هو القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد بن سعيد الكناني الوقشي الضابط صاحب كتاب غريب الموطأ جليل النفع كثير القدر والله تعالى أعلم (قال) أي هشام (حدّثنا الحسين بن محمّد) زاد في نسخة الجيآني بجيم مفتوحة فسكون تحتية فهمزة ممدودة فنون فياء نسبة وهو الحافظ أبو علي الغساني وستأتي ترجمته مبسوطة كذا ذكره الحلبي. وقال التلمساني له كتب مفيدة جدا توفي سنة ثمان وتسعين وأربعمائة (حدّثنا أبو عمر) بضم العين (النّمريّ) بفتح النون والميم نسبة إلى نمر بكسر الميم وهو أبو قبيلة وإنما فتح في النسب استيحاشا لتوالي الكسرات وهو حافظ الغرب، وشيخ الإسلام أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عامر النمري القرطبي الأندلسي الشاطبي ولد في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة وترجمته شهيرة وتصانيفه كثيرة، توفي بشاطبة ليلة الجمعة سلخ شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة، واستكمل خمسا وتسعين سنة وخمسة أيام. واعلم أنه وقع في أصل التلمساني زيادة. حدثنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الشيباني التبريزي البغدادي مات في ذي الحجة سنة ثمان وستين وأربعمائة حتى قال الناس مات في هذه السنة حافظ المغرب يعنون أبا بكر الخطيب وأبا عمر رحمهما الله تعالى (حدّثنا أبو محمّد بن عبد المؤمن) أي القرطبي من قدماء شيوخ ابن عبد البر قال الذهبي في الميزان كان تاجرا صدوقا لقي ابن داسة والكبار كذا ذكره الحلبي. وقال التلمساني: يعرف ابن الزيات شيخ أبي عمر بن عبد البر روى عنه في المسند الكبير (حدّثنا أبو بكر محمّد بن بكر) أي ابن محمد بن عبد الرزاق بن داسة بمهملتين وتخفيف الثانية عند الجمهور بصري وهو أحد رواة أبي داود عنه مشهور الترجمة وقد روى عنه بالاجازة أبو نعيم الأصبهاني (حدّثنا سليمان بن الأشعث) وهو الإمام الحافظ صاحب السنن أبو داود السجستاني. قال أبو عبيد الآجري: سمعته يقول ولد سنة ثنتين ومائتين وكتب عنه شيخه أحمد بن حنبل حديث القتيرة وأراه كتابه فاستحسنه ومناقبه معروفة. قيل: الين الحديد لأبي داود كما الين الحديد لداود عليه الصلاة والسلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 مات في سادس عشر شوال سنة خمس وسبعين ومائتين بالبصرة (حدّثنا موسى بن إسماعيل) وهو أبو سلمة التنودكي نسبة إلى تنودك دار اشتراها الحافظ روى عن شعبة وهمام وخلق وروى عنه البخاري وأبو داود. وقال عباس الدوري: كتبنا عنه خمسة وثلاثين ألف حديث توفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين ثقة ثبت اخرج له الجماعة أصحاب الكتب الستة (حدّثنا حمّاد) وهو ابن سلمة بن دينار الإمام أبو سلمة أحد الأعلام. روى عن أبي عمران الجوني وغيره وروى عنه شعبة ومالك وغيرهما صدوق يغلط وليس هو في قوة مالك وأخرج له مسلم والأربعة كذا ذكره الحلبي. وقال التلمساني هو حماد بن زيد بن درهم يكنى أبا إسماعيل الأزرقي مولى لحرين حازم البصري الأزدي أخو سعيد مات سنة تسع وتسعين ومائة (أخبرنا عليّ بن الحكم) أي البناني البصري روى عن أنس وأبي عثمان النهدي وطائفة منهم نافع وعنه الحمادان وعبد الوارث وعدة اخرج له البخاري والأربعة (عن عطاء) أي ابن أبي رباح أبو محمد القرشي مولاهم المكي أحد الأعلام يروي عن عائشة وأبي هريرة وخلق. وعنه الأوزاعي وابن جريج وأبو حنيفة والليث وأمم. توفي وله ثمانون سنة، اخرج له الأئمة الستة كذا ذكره الحلبي. وقال التلمساني: هو ابن يسار أبو محمد مولى ميمونة بنت الحارث زوج النبي عليه السلام، وهو هلالي مدني توفي سنة ثلاث ومائة (عن أبي هريرة، رضي الله عنه) وهو عبد الرحمن بن صخر على الأصح من بين نيف وثلاثين قولا وقد رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في كمه هرة فقال أبو هريرة فاشتهر به وقد بسطنا ترجمته في المرقاة شرح المشكاة والأوجه في وجه عدم انصراف هريرة في ابي هريرة هو أن هريرة صارت علما لتلك الهرة. ونقل التلمساني في كنيته أنه هل يجر أو لا قال أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني أنه يجر ورواه عن الأئمة المشارقة منهم ابن حجر يعني العسقلاني ونصره الشيخ أبو عبد الله بن مرزوق. وقال هريرة: اسم جنس مصروف أضيف إليه فهو على ما هو عليه وهو جزء اسم وجزء الاسم يجر وذكر لي بعض أصحابنا أن أبا الفضل هو الذي أفاد المشارقة صرفه فإنهم كانوا لا يجرونه فأبدى لهم علة الجر واستحسنوها وصوبوها وقال قوم إنه لا يجر وبه قال الشمني المشرقي وأبو عبد الله من شيوخنا وألف فيه وقال: إنه بعد التركيب حدث فيه المنع لأنه علم وفيه تأنيث وهما مانعان ومنه قوله في أبي خراشة: أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع وروى أبو شاة في قوله: فقال رجل يقال له أبو شاة واكتبوا لأبي شاة بالوجهين وهو كأبي هُرَيْرَةَ (- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم:) وهو سيد العالمين محمد ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان على هذا النسب وقع اجماع الأمة وقد ضبطت هذه الأسماء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 رسالتي المسماة بالمورد في المولد وقد ولد صلى الله تعالى عليه وسلم بالشعب وقيل بالدار التي عند الصفا التي بنتها زبيدة مسجدا ( «من سئل عن علم) أي مما يتعين تعليمه وقيل الحديث ورد في الشهادة وقيل في تبليغ الرسالة عند الحاجة والأظهر أن المراد به العلم الشرعي كما قال به الحليمي وكثيرون ويؤيده حديث ابن ماجه من كتم علما مما ينفع الله به الناس في الدين ألجمه الله بلجام من نار والعلوم الشرعية ما يستفيدون من الكتاب والسنة من أصولها وفروعها ومقدماتها التي تتوقف على معرفتها بقدر الحاجة إليها دون التوغل فيها (فكتمه) أي بعد ما علمه (أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) أي عند قيامهم من قبورهم واللجام بالكسر ما تلجم به الدابة ليمنعها عن النفور شبه ما يوضع في فيه من نار بلجام في فم الدابة وهو إنما كان جزاء امساكه عن القول الحق وخص اللجام بالذكر تشبيها له بالحيوان الذي يسخر ويمنع من قصد ما يريده فإن العلم من شأنه أن يدعو الناس إلى الحق القويم ويرشدهم إلى الطريق المستقيم وقد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي، وقال الترمذي حسن وأخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم وصححه. وفي حديث ابن مسعود فكتمه عن أهله وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من كتم علما علمه الله أو أخذ عليه اجرا جيء به يوم القيامة ملجما بلجام من نار» وقال الشافعي: ومن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقط ظلم وسئل بشر عن هذا الحديث فقال إياي تعني دع هذا للجاج هنا حتى يأتي أهله فإن نشره في غير أهله كمنعه عن أهله. وروي عن أنس مرفوعا، قال: لا تطرحوا الدر في أفواه الكلاب يعني الفقه والعلم في ايدي الظالمين والمرائين وطالبي الدنيا. وعن أنس أيضا مرفوعا طلب العلم فريضة وواضع العلم في غير أهله كمعلق الجوهر واللؤلؤ على الخنزير. وروي مرفوعا أن عيسى عليه الصلاة والسلام قام خطيبا في بني إسرائيل، وقال: لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها ولا تمنعوها عن أهلها فتظلموهم ومما ينسب لعلي كرم الله تعالى وجهه: وناشر العلم بين الجاهلين به ... كموقد الشمع في بيت لعميان (فبادرت) عطف على الخبر المقدر لقوله لكني قبلت وما تأخرت بل أقبلت فبادرت (إلى نكت) بضم ففتح جمع نكتة وهي ما خفي إدراكه حتى يفتقر إلى تفكر ونكت في الأرض أي طعنها، وأما قول بعض هي كل نقطة من بياض في سواد وعكسه فليس في محله المراد أي إلى بيان لطائف (سافرة) بكسر الفاء أي مضيئة ومنيرة وموضحة ومبينة. وفي نسخة سافرة أي كاشفة (عن وجه الغرض) أي المطلب والمقصد (مؤدّيا من ذلك) أي حال كونه مؤديا من أجل ما ذكر (الحقّ المفترض) بفتح الراء (اختلستها على استعجال) ، وكان الأولى أن يقول الاستعجال ليلائم تعريف البال. وفي نسخة اختلسها بالمضارع المتكلم ووقع في نسخة اختلسوها بالواو أي المفروض من نشر العلم واظهاره لا سيما بعد السؤال وتكراره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وهو خطأ ظاهر ثم الاختلاس بالخاء المعجمة اختطاف الشيء بسرعة ففي الكلام تأكيد أو تجريد (لما) بكسر اللام علة للمبادرة أو الاختلاس وما موصولة أي الأمر الذي (المرء بصدده) أي في سبيله مما استقبله (من شغل البدن والبال) ، أي من الاشتغال المتعلق بالقالب والقلب والمال والحال وحسن المآل ثم الشغل بضمتين وبضم فسكون وقرئ بهما في السبع وبفتح فسكون وقيل بفتحتين ضد الفراغ والبال بالموحدة القلب والحال ويصح ارادة كل منهما خلافا لما قاله الحلبي من أن المراد به الأول لذكر البدن (بما طوقه) أي الإنسان كما في نسخة صحيحة هو بضم طاء وكسر واو مشددة أي بسبب ما حمله الله وكلفه وفي نسخة صحيحة بما قلده الإنسان أي ألزمه كالطوق في عنقه (من مقاليد المحنة) أي مفاتح المشقة والبلية (التي أبتلي بها) بصيغة المجهول والظاهر أنه أراد بالمحنة جميع الأمور التكليفية والحوادث الكونية النازلة على الافراد الإنسانية والحلبي حملها على محنة مباشرة الأحكام والقضاء وأورد حديث من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال الترمذي حسن غريب وقال الحاكم: صحيح الإسناد وفي رواية للنسائي من استعمل على القضاء فكأنما ذبح بالسكين وقال التلمساني أراد المصنف بذلك كونه في حيطة القضاء التي هي محنة وبلية كما قال بعضهم (فكادت) أي قربت مقاليد المحنة (تشغل) أي الإنسان (عن كلّ فرض، ونفل) وهو بفتح التاء والغين وأما أشغل فهو لغة جيدة أو قليلة أو رديئة على ما في القاموس، (وتردّ) أي وكادت ترد السالك (بعد حسن التّقويم) أي باستقامته على الطريق القويم (إلى أسفل سفل) وهو بضم السين وكسرها ضد العلو والمعنى إلى قبح التنزل بارتكاب الفعل الذميم إيماء إلى قوله تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أي من الفطرة المستقيمة ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي من ارتكاب المعصية إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني وهم في أعلى عليين وثوابهم، غير مقطوع في كل زمان وحين، (ولو أراد الله بالإنسان) أي بفرد من هذا الجنس وفي نسخة بعبده (خيرا) أي في تحصيل كماله وتحسين مآله (لجعل شغله) أي جعل اشتغال خاطره (وهمّه) أي ما يهم به الإنسان ويروى ووهمه أي باله يعني اهتمام باله (كلّه، فيما يحمد) بصيغة المعلوم أي في فعل مأمور وترك منهي مما يمدحه الإنسان (غدا) أي يوم القيامة (أو يذمّ) أي مما يكره السالك (محلّه) بفتح الحاء ويجوز كسرها والحاصل أن يكون شغله وهمه في بيان الامر الممدوح والمذموم بأن يرتكب الأول ويجتنب الثاني وقال الشمني أي فيما يحمد بفعله واجبا كان أو نفلا أو فيما يذم بتركه وهو الواجب انتهى وبعده لا يخفى وفي نسخة صحيحة ولا يذم بصيغة المجهول فيه وفيما قبله وهو ظاهر جدا ومحله مفعول ليحمد ويذم على التنازع خلافا للتلمساني حيث جعل العائد على الموصول فيما يحمد منصوبا محذوفا وأما بناء الفعلين على صيغة المجهول ورفع محله كما قاله الدلجي فمخل للتسجيع بقوله كله؛ (فليس ثمّ) بفتح فتشديد ويوقف عليه بلا هاء السكت كما في قوله تعالى وَإِذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ وقال التلمساني ولك الإتيان بهاء السكت وهو الأكثر أي هناك غدا (سوى حضرة النّعيم) أي حضوره وفيه إشارة إلى قوله تعالى وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً وفي نسخة صحيحة نضرة النعيم واقتصر عليه التلمساني اشعارا إلى قوله تعالى تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي بهجته وحسنه وابعد من قال إنه من إضافة الشيء إلى نفسه ويمنعه البصري ويجوزه الكوفي على ما ذكره التلمساني. (أو عذاب الجحيم) أي لانحصار المنزلتين كما قال الله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ؛ (ولكان) عطف على لجعل (عليه) أي لوجب عليه الاشتغال (بخويّصته) بضم ففتح فسكون فمشددة تصغير خاصة والمراد بها نفسه أو الأمر الذي يختص به من المهمات الدينية والدنيوية وروي بخويصة نفسه وقد قيل المراد بها الموت وفيه إيماء إلى قوله تعالى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وإلى ما ورد عليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ومن غريب ما وقع أن بعض الناصحين قال لمن كان في صدد أن يكون من السلاطين عليك بخويصة نفسك فلما تولى بعد مدة من الزمان قال اقتلوه فإن صفير صاده في اذني إلى الآن، (واستنقاذ مهجته) بضم الميم أي استخلاص روحه مما يرديه، (وعمل صالح يستزيده) أي الإنسان بأن يجعل ذلك العمل سببا لزيادة درجته، (وعلم نافع) أي شرعي (يفيده) أي لغيره فيكون معلما (أو يستفيده) بنفسه بأن يكون عالما أو من غيره فيكون متعلما (جبر الله تعالى صدع قلوبنا) أي أصلح الله كسرها بما اعتراها من طوارق محن وبوارق احن، (وغفر عظيم ذنوبنا) أي ومحا عيوبنا العظيمة وسترها (وجعل جميع استعدادنا) أي عدتنا في أمر زادنا، (لمعادنا) أي ليعود نفعه لنا في مرجعنا وآخر أمرنا، (وتوفّر دواعينا) أي وجعل تكثير مكاسبنا ومطالبنا (فيما ينجينا) من الانجاء أو التنجية أي فيما يخلصنا وفيه إيماء إلى الدعاء المأثور لا تجعل الدنيا أكبر همنا وفي نسخة بفتح الفاء في توفر على أنه جملة دعائية معطوفة على ما قبلها من الجمل ولو روي بصيغة المضارع المعلوم لناسب قوله: (ويقرّبنا إليه زلفى) ، أي تقريبا خاصا وفي التنزيل ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى قال البيضاوي زلفى مصدر أو حال واغرب التلمساني في قوله إنه جمع مفرده زلفة إذ الصواب إن جمع زلفة ككلف جمع كلفة (ويحظينا) بضم أوله وكسر الظاء المعجمة أي يرفع قدرنا ويخصنا بالمنزلة العلية والمرتبة الحظية (بمنّه) أي بسبب امتنانه وهو متعلق بيحظينا ويقربنا أيضا وأبعد التلمساني في قوله أي متوسلين بمنه (ورحمته) . أي بإحسانه والمعنى أنه لا يعاملنا باعمالنا ولعل الجمل المضارعية أحوال من الجمل الدعائية (ولمّا نويت تقريبه) ، أي وحين أردت تقريب التصنيف إلى عالم وجوده بفضل الله وجوده (ودرّجت تبويبه) ، بتشديد الراء أي جعلت تبويبه مرتبا ومدرجا يعني درجة في التأليف (ومهّدت تأصيله) بتشديد الهاء أي صيرت أصوله ممهدة مؤسسة واغرب التلمساني حيث قال مهدت أي فرشت وتأصيله أي تفريقه (وخلّصت تفصيله) ، أي وجعلت فصوله مبينة معينة (وانتحيت) أي وقصدت (حصره وتحصيله) أي تبيينه في الأمور التي ذكرها قال التلمساني وفي رواية بالخاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 المعجمة والباء الموحدة من الانتخاب وهو التصفية إلا أن الرواية الأولى أظهر من الثانية قلت بل لا يظهر له معنى أصلا لقوله انتخبت حصره فهو تصحيف وتحريف بلا شبهة. (ترجمته) جواب لما أي سميته: (بالشّفاء) وهو بكسر الشين ممدودا وقصر وقفا أو مراعاة للسجع بقوله (بتعريف حقوق المصطفى) وقد أجازوا للناثر ما يجوز للشاعر من الضرائر وقصر الممدود سائغ اتفاقا وأجاز عكسه الكوفيون ومنعه البصريون حجة الأولين: فلا فقر يدوم ولا غنا ورد بأن الرواية الصحيحة: فلا فقري يدوم ولا غناكا وأغرب الحلبي في نقل كلام ابن مرزوق بقوله ويقال إنه قصره لأن هذا الكتاب يقصر عن حقوقه صلى الله تعالى عليه وسلم والله أعلم. (وحصرت الكلام فيه) أي في هذا الكتاب (في أقسام أربعة) وفي نسخة أربعة أقسام وهذا بيان بعد الإجمال والله أعلم بالحال (القسم الأول) : بكسر القاف وهو النصيب والجزء وأما بالفتح فهو مصدر قسمت الشيء (في تعظيم العليّ الأعلى) من باب إضافة المصدر إلى فاعله أي الله سبحانه وتعالى، (لقدر هذا النّبيّ) صلى الله تعالى عليه وسلم زيد في نسخة الكريم والأولى وجود المصطفى (قولا وفعلا) كما سيأتي كذلك، (وتوجّه الكلام) بصيغة الماضي أي انحصر (فيه) أي في القسم الأول ولا يبعد أن يكون مصدرا مبتدأ خبره قوله (في أربعة أبواب الباب الأول) أي من القسم الأول (في ثنائه تعالى) أي حسن ذكره (عليه، وإظهاره عظيم قدره) أي مرتبته (لديه) وهو مع مراعاته للسجع أخص من عنده على ما قاله النحويون من أن عنده يجوز أن يكون بحضرته وفي ملكه وأما لديه فمختص بالحضرة، (وفيه عشرة فصول) سيأتي تفصيلها (الباب الثاني) أي من القسم الأول (في تكميله تعالى له المحاسن) أي المناقب الصورية والمعنوية جمع حسن على غير قياس وكأنه جمع محسن (خلقا) بالفتح (وخلقا) بضمتين وبسكون الثاني وقدم الأول لسبق وجوده الناشىء منه إظهار كرمه وجوده، (وقرانه) بكسر القاف أي وفي مقارنته وجمعه (جميع الفضائل الدّينيّة والدّنيويّة) بحذف الألف عند مباشرة ياء النسبة والمراد بها الفضائل الدنيوية التي تنتفع في الأمور الأخروية وإلا فقد قال أنتم أعلم بأمور دنياكم ثم الدنيا على ما قاله المصنف في مشارق الأنوار اسم لهذه الحياة لدنوها من أهلها وبعد الآخرة عنها انتهى وقيل لدناءتها، (فيه) أي في حقه (نسقا) بفتحتين أي جمعا متتابعا ولا معنى لقول التلمساني هنا أي عطفا وتبعا ولقد أجاد الدلجي حيث أفاد أي مناسبا بعضها بعضا مستوية في كمالها كجواهر منتظمة في نظام واحد زيادة لجمالها، (وفيه سبعة وعشرون فصلا) قال التلمساني بل ستة وعشرون فصلا أقول ولعله أتي بالسابع فضلا. (الباب الثالث) أي من القسم الأول من الكتاب (فيما ورد من صحيح الأخبار) أي الأحاديث والآثار، (ومشهورها) أي مشهور الأخبار عند الاخيار (بعظيم قدره عند ربّه. ومنزلته) أي مكانته وهو عطف تفسير لعظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قدره، (وما خصّه) أي الله تعالى كما في نسخة يعني وبما جعله مخصوصا (بِهِ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَفِيهِ، اثْنَا عشر فصلا) هكذا في النسخ كلها التي عليها الرواية والتصحيح والمقابلة والذي في هذا الباب من الفصول خمسة عشر ولعله أراد بالاثني عشر فصولا مهمة وبزيادة الثلاثة مكملة ومتممة وهذا ملخص كلام التلمساني (الباب الرّابع) أي في القسم الأول (فيما أظهره الله تعالى على يديه) أي بسببه (من الآيات) ، أي العلامات التي هي خوارق العادات (والمعجزات) وهي تخص بالتحدي (وشرّفه به من الخصائص، والكرامات) ، تعميم بعد تخصيص وإيماء إلى أن كرامات أولياء أمته بمنزلة معجزاته وفي مرتبة كراماته (وفيه ثلاثون فصلا) قال التلمساني الذي فيه من الفصول تسعة وعشرون ولعله عد ما صدر من الباب إلى الفصل فَصْلًا. (الْقِسْمُ الثَّانِي: فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْأَنَامِ) قال المحشي: فيه أقوال فقيل كل من يعتريه النوم وقيل الأنام الأناس وقيل الانام المخلوقات قلت يرد القوم الأول أنه مهموز لا معتل العين ففي القاموس الانام كسحاب الخلق أو الجن والإنس أو جميع ما على وجه الأرض انتهى ولعل الخلق خصه بالحيوانات أولا ولا يخفى أن المعاني الثلاثة محتملة في قوله تعالى وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ وأما هنا فيراد به الإنس والجن أو جميع الخلق على القول بأنه بعث إلى الخلق كافة كما في رواية مسلم فيجب على كل فرد من المخلوقات ما يناسبه في كل مقام (من حقوقه عليه الصّلاة والسّلام، ويترتّب القول) قال التلمساني أي يتمكن والظاهر أن المعنى يجيء الكلام مرتبا (فيه) أي في هذا القسم (في أربعة أبواب الباب الأوّل) أي في القسم الثاني: (في فرض الإيمان به) أي في بيان كون الإيمان به فرضا عينيا على جميع الأعيان، (ووجوب طاعته) أي في سائر ما أمر به ونهى عنه، (واتّباع سنّته) أي متابعة طريقته أي قولا وفعلا وتخلقا، (وفيه خمسة فصول) قال التلمساني بل هي أربعة والعذر تقدم. (الباب الثّاني) أي من القسم الثاني، (في لزوم محبّته، ومناصحته) أي مصادقته وموافقته ومخالصته، (وفيه ستّة فصول) بل هي خمسة. (الباب الثّالث) أي من القسم الثاني (في تعظيم أمره) أي شأنه أو حكمه، (ولزوم توقيره) أي تعظيمه ونصره، (وبرّه) أي زيادة إحسانه وعدم مخالفته فإنه فوق منزلة الأب وفي قراءة شاذة وهو أب لهم فيجب بره ويحرم عقوقه ولو في أمر مباح في حده وقيل طاعته، (وفيه سبعة فصول) بل ستة. (الباب الرّابع) أي من القسم الثاني (فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَفَرْضِ ذَلِكَ) بالجر أي وفي بيان فرض ما ذكر (وفضيلته) أي وفي ثواب ما ذكر وزيادة فضله (وفيه عشرة فصول) بل تسعة. (القسم الثّالث فيما يستحيل) أي لا يمكن وجوده (في حقّه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي عقلا ونقلا (وما يجوز عليه شرعا) أي قولا وفعلا، (وما يمتنع) أي في الجملة وما لا يجوز عليه شرعا، (ويصحّ) أي وما يصح (من الأمور البشريّة أن يضاف) أي ينسب خلاصة فائدتها (إليه وهذا القسم) أي الثالث- (أكرمك الله) جملة اعتراضية بين المبتدأ وخبره وردت دعاء لمن خوطب به كما في قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 إن الثمانين وبلغتها ... قد احوجت سمعي إلى ترجمان وقد يرد الاعتراض للتنزيه كما في قوله تعالى وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أو للتنبيه في مثل واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا (هو سرّ الكتاب) أي خلاصته، (ولباب ثمرة هذه الأبواب) أي أبواب هذا القسم كما ذكره الدلجي والصواب أبواب هذا الكتاب والمعنى أنه زبدة نتيجتها وخلاصة فائدتها، (وما قبله) أي من القسمين (له كالقواعد) جمع القاعدة وهي الاساس في المنقولات والمعقولات من قوانين كلية مشتملة على مسائل جزئية، (والتّمهيدات) أي التوطئات، (والدّلائل) أي وكالدلائل العقلية والنقلية (على ما نورده فيه) أي في حقه ما يجب ويستحب ويباح ويحرم وغير ذلك مما يعزر قائله أو يؤدب (من النّكت البيّنات) أي اللطائف الواضحات، (وهو) أي هذا القسم الثالث أيضا (الحاكم على ما بعده) أي من القسم الأخير. (والمنجز) بصيغة الفاعل مخففا أي وهو الموفي (من غرض هذا التّأليف وعده) أي الذي سبق وعده، (وعند التّقصّي) بالقاف بمعنى الاستقصاء والتتبع أي وعند بلوغ المقصد الأقصى (لموعدته) بفتح الميم وكسر العين والتاء فيه للوحدة وهو بمعنى الموعد والمراد به المصدر وإن كان يصلح أن يكون زمانا أو مكانا وقيل الموعدة اسم للعدة (والتّفصّي) بالفاء أي التخلص والتفلت (عن عهدته) أي التزامه وتحمله، (يشرق) بفتح الياء والراء أي يضيق، (صدر العدوّ) أي قلبه واغرب التلمساني بقوله هو مقدم كل شيء وأوله (اللّعين) ، أي الملعون حسدا منه والمراد بالعدو الجنس أو ابليس واقتصر عليه التلمساني والأول أظهر واتم لشموله كل كافر كما يدل عليه مقابلته بالمؤمن في قوله (ويشرق) بضم أوله وكسر الراء أي يضيء ويستنير (قلب المومن باليقين) قيد مخرج للمنافقين وفي الكلام تجنيس تحريف، (وتملأ أنواره) أي أنوار يقينه (جوانح صدره) بفتح الجيم وكسر النون جمع جانحة أي اضلاعه التي تحت الترائب مما يلي الصدر كالضلوع مما يلي الظهر والمراد الإحاطة بجميع جوانب صدره، (ويقدر) بضم الدال وقول التلمساني بضم وبكسر ليس في محله أي يعظم أو يعرف (العاقل) بالمهملة والقاف وفي نسخة بالمعجمة والفاء، (النّبيّ حقّ قدره) أي حق عظمته أو حق معرفته. فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم ولذا قال بعض العارفين الخلق عرفوا الله تعالى وما عرفوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم (وليتحرّر) أي يتلخص ويتخلص (الكلام فيه في بابين الباب الأوّل) أي من القسم الثالث (فيما يختصّ بالأمور الدّينيّة، ويتشبّث) أي يتعلق (به القول في العصمة) وهي خلق الله تعالى الامتناع من المعصية والأمور الدنية (وفيه ستّة عشر فصلا) هذا صحيح ليس فيه اعتراض أصلا. (الباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الثّاني) أي من القسم الثالث (في أحواله الدّنيويّة، وما يجوز طروّه) بضمتين فسكون واو فهمز وفي نسخة بالادغام أي وقوعه وحدوثه (عليه من الأعراض البشريّة) أي من العوارض الإنسانية فإن الأعراض جمع عرض بفتحتين وهو ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه من السهو والنسيان ثم اعلم أن صاحب القاموس ذكر مادة طرأ مهموزا ومغتلا وعلى تقدير الهمزة يجوز الابدال والادغام (وفيه تسعة فصول) بل ثمانية. (القسم الرّابع في تصرّف وجوه الأحكام) أي تنوع أنواعها من مسائلها ونوازلها (على من تنقّصه) أي من عد فيه نقصا أو تكلم بما يتضمن نقصه (أو سبّه) تخصيص بعد تعميم أي شتمه، (عليه الصلاة والسلام) وفي معناه سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وَيَنْقَسِمُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي بَابَيْنِ الْبَابُ الْأَوَّلُ) أي من القسم الرابع (في بيان ما هو في حقّه كسب ونقص) تعميم بعد تخصيص (من تعريض) أي كناية وتلويح (أو نصّ) أي ظاهر وتصريح وقال محش نص عليه إذا عينه وعرض إذا لم يذكره منصوصا عليه بل يفهم الغرض بقرينه الحال (وفيه عشرة فصول) بل تسعة. (الباب الثّانيّ) أي في القسم الرابع (في حكم شانئه) بهمز بعد النون أي مبغضه ومنه قوله تعالى إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، (ومؤذيه) بالهمز ويجوز ابداله أي مضره وهو اخص مما قبله وبعده وهو قوله، (ومشقصه) وفي نسخة متنقصه، (وعقوبته) أي وفي بيان عقابه وجزائه في الدنيا (وذكر استتابته) أي طلب توبته (والصّلاة) أي وذكر صلاة الجنازة (عليه ووارثته) أي من المسلم أو المسلم منه، (وفيه عشرة فصول) قال الحلبي هكذا في الأصول لكن بخط مغلطاي أن صوابه خمسة يعني عوض عشرة. (وختمناه) أي القسم الرابع (بباب ثالث: جعلناه تكملة) أي تكميلا (لهذه المسألة ووصلة) بضم الواو أي توصيلا (للبابين اللّذين قبله) أي من القسم الرابع (في حكم من سبّ الله تعالى) متعلق بالباب الثالث (ورسله) وكذا حكم انبيائه (وملائكته، وكتبه) أي المنزلة، (وآل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وصحبه) عموما أو خصوصا (واختصر الكلام) بصيغة المجهول الماضي وفي نسخة بصيغة المتكلم وفي أخرى واختصرنا الكلام أي بالاقتصار على المقصود (فيه) أي في هذا الباب (في خمسة فصول) بل في عشرة فصول على ما ذكره التلمساني وقال الحلبي هكذا وقع أيضا في الأصول وصوابه عشرة فصول لأنه فيما يأتي ذكره عشرة. (وبتمامها) أي بإتمام فصول هذا الباب الثالث من القسم الرابع (ينتجز الكتاب) أي ينقضي وينتهي، (وتتمّ) أي وتكمل (الأقسام) أي الأربعة، (والأبواب) أي الثلاثة عشر جميعها وهو كالتفسير لما قبله، (وتلوح) أي تضيء وتظهر به (في غرّة الإيمان) أي بياض جبهته ومقدمه طلعته (لمعة) بالضم أي قطعة (منيرة) أي منورة لمن اطلع عليها وقد يقال الغرة استعيرت للشرف والشهرة، (وفي تاج التّراجم) بكسر الجيم أي ويلوح في تاج تراجم الإيقان، (درّة خطيرة) أي ذات خطر وقدر ويعني جوهرة نفيسة أو لؤلؤة ليس لها قيمة لمن وقع يده عليها ثم كل من لمعة ودرة مرفوعة على الفاعلية لأن لاح فعل لازم ففي القاموس الاح بدا والبرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أومض كلاح وجعل التلمساني ضمير يلوح إلى الكتاب المتقدم ذكره وانتصابهما على الحال (تزيح) استئناف مبين أو جملة حالية من الازاحة أي تزيل اللمعة وفي معناها الدرة (كلّ لبس) ، بفتح فسكون أي إشكال وخلط وشبهة وخبط (وتوضح) أي تكشف وتظهر (كلّ تخمين) أي قول من غير تحقيق، (وحدس) أي صادر عن ظن ووهم وهو قد سقط من أصل المؤلف على ما قاله بعضهم لكن لا بد من ذكره لتمام السجع وهما بمعنى واحد، (وتشفي صدور قوم مؤمنين) عطف على تلوح وفي نسخة بحذف الياء ولعله قصد التلاوة لكنه مع ما بعده بصيغة التأنيث في نسخة صحيحة (وتصدع بالحقّ) أي تجهر به وتظهره (وتعرض عن الجاهلين) أي تتركهم إيماء إلى قوله سبحانه وتعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، (وبالله تعالى- لا إله) أي توكلنا إذ لا معبود بحق موجود (سواه) أي غيره الجملة معترضة حالية (أستعين) أي أطلب المعونة به لا بغيره من المخلوقين بقوله تعالى إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي نخصك بالاستعانة لأن غيرك عاجز عن الاعانة وفي نسخة وبالله لا سواه أستعين لا إله إلا هو الملك الحق المبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 القسم الأول [في تعظيم العلي الأعلى جل وعلا] (في تعظيم العليّ الأعلى) أي رفعة ورتبة (لقدر النّبيّ المصطفى) وفي نسخة بحذف النبي ووجوده أولى كما لا يخفى (قولا) ورد به القرآن الكريم والفرقان القديم (وفعلا) من معجزات باهرة وآيات ظاهرة ونصبهما بنزع الخافض. (قال الفقيه) على ما في نسخة (القاضي الإمام) على ما في أخرى (أبو الفضل رحمه الله تعالى) ففيه إشعار بأنه ملحق من كلام غيره وفي نسخة صحيحة وفقه الله وسدده ففيه تصريح بأنه من كلام نفسه لكن لا يلائمه حينئذ وصف الإمام (لا خفاء) بفتح الخاء أي لا يخفى (على من مارس) أي لازم ودارس (شيئا) أي قليلا (من العلم، أو خصّ) بصيغة المجهول أي خصه الله تعالى من بين العوام (بأدنى لمحة) بفتح اللام وهي النظرة الخفية ويروى لحظة وأما قول التلمساني هي بضم أوله أي شيء قليل من النظر وأصله من لمح البصر وهو نظر لا تردد فيه واللمحة بالفتح المرة وهو الأولى ههنا لأنه إذا كان يفهم ذلك مرة فيظهر فذو المرار أولى وأشهر فهو كلام غير محرر إذ ضم اللام غير مشتهر فتدبر (من الفهم) ويروى من الفهم وهو أظهر، (بتعظيم الله قدر نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) الباء ظرفية متعلقة بخفاء وقدر منصوب على المفعولية (وخصوصه إيّاه) أي وتخصيص الله تعالى نبينا (بفضائل) أي بزوائد من الكرامات، (ومحاسن) أي ومستحسنات من الاخلاق المكرمات، (ومناقب) أي وبنعوت وصفات كثيرات من الكمالات العلمية والعملية التي أسناها معرفة الله سبحانه وتعالى من حيث الذات والصفات، (لا تنضبط) أي لا تجتمع لكثرتها ولا تنحصر ولا تدخل تحت ضبط (لزمام) بكسر الزاي قال التلمساني يروى بالباء واللام انتهى لكنه في النسخ المصححة باللام فقط أيّ لضابط يرى ضبطها ويقصد ربطها ويجتهد في احصائها ويتوهم إمكان استقصائها وهو مستعار من زمام الناقة وهو ما يجعل في حلقة مسلوكة في انفها لحصول انقيادها، (وتنويهه) أي وبرفع ذكره ومن تبعيضية وأبعد الدلجي في قوله من زائدة (من عظيم قدره) أي من قدره العظيم وفي نسخة صحيحة من عظم قدره وفي أخرى بعظيم قدره (بما تكلّ) بفتح فكسر فتشديد أي بما تعجز وتعي (عنه الألسنة) أي ألسنة الإنسان في البيان، (والأقلام) أي وتبيان البنان، (فَمِنْهَا مَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ونبّه به على جليل نصابه) أي عظيم منصبه، (وأثنى) أي وما أثنى (به عليه) أي في كتابه (من أخلاقه) أي أحواله الباطنة (وآدابه) أي أفعاله الظاهرة كما أخبر به عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله أدبني ربي فأحسن تأديبي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 (وحضّ) بتشديد المعجمة أي ورغب وحث (العباد على التزامه) أي حملهم على قبول تكليفه بوصف دوامه (وتقلّد إيجابه) أي بإطاعة جنابه فيما أوجبه في كتابه: (فكان جلّ جلاله) أي عظمت عظمته وعز جماله (هو الذي تفضّل) أي اعطاه من فضله (وأولى) أي أنعم عليه بما علم المولى بأنه الأولى وهذا قبل ظهور وجوده لما تعلق به من كرمه وجوده (ثمّ طهّر وزكّى) أي طهره بالتخلية وزكاه بالتحلية في عالم دنياه بما ينفعه في عقباه من التحلية وأما قول الدلجي ثم طهره من عبادة الأصنام فلا يناسب لمقامه عليه السلام (ثمّ مدح) أي مدحه (بذلك، وأثنى) أي عليه مع أنه من آثار فعله وأنوار فضله فهو الحامد والمحمود كما أنه هو الشاهد والمشهود في جميع ميادين الوجود فليس في الدار غيره موجود، (ثمّ أثاب) أي جازاه (عليه الجزاء الأوفى) أي بالجزاء الأوفر والحظ الأكبر أو نصبه على المصدر من غير فعله، (فله الفضل بدءا وعودا) أي فله الإحسان على وجه الزيادة في الابتداء والإعادة، (والحمد أولى، وأخرى) ، أي في الدنيا والعقبى وفي نسخة والحمد أولى وأخرى عطفا على الفضل أي وله الحمد كما في قوله تعالى هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ فهذه النسخة أولى من الأولى كما لا يخفى ويجوز أن يكونا اسمي تفضيل أي وله أولي الحمد وأخراه الخ والمراد استيعابه كقوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وأما قول بعضهم إن اسم التفضيل لا يستعمل إلا مضافا أو موصولا بمن أو معرفا باللام فمنقوض بقوله سبحانه وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى كانوا هم أظلم واطغى المهم إلا أن يعتبر من المقدرة في حكم المذكورة (ومنها ما أبرزه) أي أظهره (للعيان) بكسر العين أي للمعاينة (من خلقه) بفتح الخاء المعجمة خلافا لمن توهم وضبطه بالضم إذ المراد هنا شمائله الظاهرة ومن لبيان ما الموصولة (على أتمّ وجوه الكمال) أي أكمل أنواع وجوه كمال الجمال وهي صفات اللطف والإكرام (والجلال) وهي صفات القهر والانتقام أو المراد بالكمال النعوت الثبوتية وبالجلال الصفات السلبية وهي قولنا في حقه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا في زمان ولا في مكان وسائر الأمور الحدوثية فحينئذ يقال معناه المنزه عن شوائب النقصان في نظر أرباب الحال وفي نسخة بكسر الخاء المعجمة بمعنى الخصال، (وتخصيصه) أي ومن جعله مخصوصا (بالمحاسن الجميلة) أي الحسنة من الأفعال، (والأخلاق الحميدة) أي المحمودة من الأحوال، (والمذامي الكريمة) أي المرضية من الأقوال، (والفضائل العديدة) أي الكثيرة التي عدها من المحال وهو من العد ومعناه الكثير لا من العدد فيتوهم أنها حصرت واحصيت ويروى السديدة أي الفضائل الواقعة على سنن السداد (وتأييده) أي ومن تقويته (بالمعجزات الباهرة) أي البارعة الفائقة الغالبة القاهرة، (والبراهين الواضحة) أي وبالادلة الظاهرة (والكرامات البيّنة) أي الخوارق اللائحة وهي أعم من المعجزات فإنها مقرونة بالتحدي مع عدم المعارضة مما يصدق الله تعالى بهما انبياءه في دعوى النبوة سميت معجزة للاعجاز عن الاتيان بمثلها وسميت آية لكونها علامة دالة على تصدق الله تعالى لهم مع أن المقام مقام يذم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فيه الإيجاز ويمدح الاطناب سيما في خطاب الاحباب (التي شاهدها) أي عاينها وأغرب التلمساني بقوله أي حضر لها ففاعل بمعنى فعل أي شهدها (من عاصره) أي من أدرك عصره وزمانه ويروى من عاصرها أي البراهين والكرامات، (ورآها من أدركه) أي صادف أوانه ويروى من أدركها، (وعلمها علم اليقين) وفي نسخة علم يقين أي من غير شك وتخمين قال بعض العارفين علم اليقين ما كان بشرط البرهان وعينه بحكم البيان وحقه بنعت العيان فعلم اليقين لأصحاب العقول وعينه لأصحاب العلوم وحقه لأصحاب المعارف (من جاء بعده) أي من التابعين واتباعهم، (حتّى انتهى) أي إلى أن وصل (علم حقيقة ذلك) أي بلغ حقيقة ما هنالك (إلينا وفاضت أنواره) أي ظهرت آثاره وكثرت أنواره ويروى أنوارها (عَلَيْنَا: «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا» . حَدَّثَنَا) وفي بعض النسخ أخبرنا (الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الحافظ) رحمه الله تعالى وهو الأندلسي المعروف بابن سكرة بضم فتشديد ترجمته معروفة استشهد بثغر الأندلس سنة أربع عشرة وخمسمائة وكان من أهل العلم بالحديث (قراءة منّي عليه) نصب قراءة على نزع الخافض أو على أنه تمييز أو حال أي حدثنا بقراءة أو من جهة قراء أو حال قراءة مني عليه لا بقراءته ولا بقراءة غيره وهذا على مذهب من لا يرى بين حدثنا وأخبرنا وأنبأنا فرقا كالبخاري ومن تبعه، (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الجبّار) أي ابن أحمد الحمامي بفتح مهملة وتخفيف وهو من أهل الخير والصلاح على ما ذكره ابن ماكولا في اكماله، (وأبو الفضل أحمد بن خيرون) بفتح معجمة فسكون تحتية ممنوعا وقد يصرف ثقة عدل متقن له ترجمة في الميزان توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة قال الحلبي رأيت عن المزني أن الأصل في خيرون الصرف ولكن المحدثون لا يصرفونه لشبهه بالجمع المذكر السالم انتهى والأظهر أنه بناء على اعتبار المزيدتين مطلقا عند بعضهم كالفارسي كما قالوا في سيرين وغلبون، (قالا) أي كلاهما: (حدّثنا أبو يعلى البغداديّ) بالمعجمة في الثانية وهو الأصح وإلا فيجوز بمهملتين ومعجمتين وبإهمال إحديهما وإعجام الأخرى وهو أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر يعرف بابن زوج الحرة، (قال حدّثنا أبو عليّ السّنجيّ) بكسر المهملة وسكون نون فجيم نسبة إلى بلدة تسمى سنج مرو، (قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْبُوبٍ) هو أبو العباس المحبوبي المروزي التاجر الأمين راوي جامع الترمذي عنه مشهور، (قال: حدّثنا أبو عيسى بن سورة) بفتح مهملة وسكون واو فراء (الحافظ) أي الترمذي وهو صاحب الجامع الضرير قيل ولد اكمه قال الذهبي ثقة مجمع عليه ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم أنه مجهول فإنه ما عرفه ولا أدري بوجود الجامع ولا إلى علل الدين انتهى ولا شك أن تجهيل الترمذي يضر ابن حزم بلا عكس كما لا يخفى، (قال: حدّثنا إسحاق بن منصور) هذا هو الكوسج الحافظ روى عن ابن عيينة فمن بعده وعنه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه (حدّثنا عبد الرّزاق) أي ابن همام بن نافع أبو بكر الصغاني الحافظ أحد الأعلام روى عن ابن جريج ومعمر وأبي ثور وعنه أحمد وإسحاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 صنف الكتب أخرج له أصحاب الكتب الستة، (أنبأنا معمر) بفتح الميمين ابن راشد أبو عروة البصري عالم اليمن أخرج له الجماعة قال معمر طلبت العلم سنة مات الحسن ولي أربع عشرة سنة (عن قتادة) هو ابن دعامة أبو الخطاب السدوسي الأعمى الحافظ المفسر روى عن عبد الله بن سرجس وأنس وخلق وعنه أيوب وشعبة وخلق (عن أنس رضي الله تعالى عنه) أي ابن مالك خادم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وترجمته شهيرة ومناقبه كثيرة (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: أتي) أي جيء (بالبراق) بضم الموحدة وتخفيف الراء سمي به لسرعة سيره كالبرق أو لشدة بريقه وقيل لكونه أبيض وقال المصنف لكونه ذا لونين يقال شاة برقاء إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود وقد وصف في الحديث بأنه أبيض وقد يكون من نوع الشاة البرقاء وهي معدودة في البيض انتهى وهو دابة دون البغل وفوق الحمار ويضع حافره عند منتهى طرفه كما في الصحيح وفي رواية على ما نقله ابن أبي خالد في كتاب الاحتفال في اسماء خيل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن وجهه كوجه الإنسان وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال لا ذكر ولا انثى وفي تفسير الثعلبي جسده كجسد الإنسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإبل وإظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة وظهره كأنه درة بيضاء وله جناحان في فخذيه يمر كالبرق (ليلة أسري به) ظرف بني على الفتح لإضافته إلى الجملة الفعلية الماضوية المبنية للمجهول (ملجما مسرجا) اسما مفعول من الالجام والإسراج وهما حالان مترادفان أو متداخلان (فاستصعب) أي استعسر البراق (عليه) أي لبعد عهده بالأنبياء من جهة طول الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام على ما ذكره ابن بطال في شرح البخاري وهي ستمائة سنة على ما ذكره التلمساني أو لأنه لم يركبه أحد قبل نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بناء على خلاف سيأتي في ذلك وقيل استصعب تيها وزهوا بركوبه عليه السلام، (فقال له جبريل) وفيه ثلاث عشرة لغة والمتواتر منها أربع معروفة، (أبمحمّد تفعل هذا) أي يا براق كما في رواية وضبط تفعل بخطاب المذكر ولو روي بصيغة المجهول الغائب لكان له وجه والهمزة للإنكار التوبيخي والإشارة إلى الاستصعاب المفهوم من استصعب (فما ركبك) بخطاب المذكر تعظيما له (أحد أكرم) بالرفع والنصب (على الله تعالى منه) وفي رواية فو الله ما ركبك ملك مقرب ولا نبي مرسل أفضل ولا أكرم على الله منه فقال قد علمت أنه كذلك وأنه صاحب الشفاعة وأني أحب أن أكون في شفاعته فقال أنت في شفاعتي (قال) النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو أنس رواية عنه (فارفضّ) بتشديد الضاد المعجمة أي فسال البراق (عرقا) نصب على التمييز المحول من الفاعل أي تبدد عرقه حياء وخجالة مما صدر عنه بمقتضى طبعه فهذا يؤيد القول الأول فتأمل وقد قال الزبيدي في مختصر كتاب العين في اللغة وصاحب التحرير وهي دابة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والثناء قال النووي وهذا الذي قالاه من اشتراك جميع الأنبياء معه يحتاج إلى نقل صحيح انتهى وقد قال ابن بطال ما معناه ركبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الأنبياء وأقره السهيلي على ذلك وفي سيرة ابن هشام أنه بلغه عن عبد الله يعني ابن الزبير في حج إبراهيم البيت وفي آخره وكان إبراهيم يحجه كل سنة على البراق انتهى ونقل القرطبي في تذكرته قبيل أبواب الجنة بيسير عن ابن عباس ومقاتل والكلبي في قوله تعالى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ أن الموت والحياة جسمان فيجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات وخلق الحياة في صورة فرس انثى بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يركبونها خطوها مد البصر فوق الحمار دون البغل لا تمر بشيء يجد ريحها الا حيي إلى أن قال حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس والماوردي عن مقاتل والكلبي وفيها أيضا في صفة الجنة ونعيمها أن البراق يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضها وهذا من كلام الترمذي الحكيم وحديث فما ركبك أحد أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم صريح في ذلك وكل هذا يرد على النووي كذا قاله الحلبي لكن فيه بحث إذ ليس فيما ذكر نقل صحيح ولا دليل صريح على أن البراق واحد مشترك فيه فعلى تقدير صحة التعدد ينبغي أن يجعل اللام للجنس جمعا بين الروايات وأن يكون لكل نبي براق لكن أخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا وأبعث على البراق فهذا يشير إلى اختصاصه عليه السلام يومئذ به واشتراكه قبل ذلك اليوم وقد ذكر السيوطي في البدور السافرة قال معاذ وأنت تركب العضباء يا رسول الله قال لا تركبها ابنتي وأنا على البراق اختصصت به دون الأنبياء يومئذ الحديث فهذا ظاهره اتحاد البراق مع احتمال اختصاصه بركوبه صلى الله تعالى عليه وسلم دون الأنبياء حينئذ والله تعالى أعلم وقد جاء في بعض الروايات أن جبريل عليه الصلاة والسلام أيضا ركب معه عليه الصلاة والسلام والظاهر أنه ركب خلفه بل جاء صريحا فيما رواه الطبراني في الأوسط من رواية محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن أبيه أن جبريل أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالبراق فحمله بين يديه الحديث قال الطبراني لا يروى عن ابن أبي ليلى إلا بهذا الإسناد قال الحلبي وهو معضل ويرده قول العسقلاني ليس بمعضل بل سقط عليه قوله عن جده وهو ثابت في أصل الطبراني انتهى وفي مسند أبي يعلى عن علقمة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أتيت بالبراق فركب خلفي جبريل عليه السلام الحديث قال الحلبي فهذا نقل في المسألة ولكنه مرسل قلت والمرسل حجة عند الجمهور وقد ذكر ابن حبان في صحيحه أن جبريل عليه السلام حمله على البراق رديفا له قال الحلبي هذا وما تقدم يتعارضان لكن حديث أبي يعلى ضعيف ولو صح لجمع بينهما بأنه تارة ركب هذا ذهابا أو إيابا والآخر كذلك إذا قلنا إن الإسراء مرة وهو الصحيح على ما قاله بعضهم قلت الصواب في دفع التعارض والجمع بين التناقض أن يجعل رديفا حالا من الفاعل في حمله على ما هو الظاهر ليكون الضميران المستتران لجبريل عليه السلام والبارزان له صلى الله تعالى عليه وسلم وهو المقتضي للأدب خصوصا في الرسول بالنسبة إلى المطلوب المحبوب ويؤيده أنه صلى الله تعالى عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قال لأبي ذر وقد رآه يمشي أمام أبي بكر أتمشي أمامه وهو خير منك ثم اعلم أنه اختلف في الإسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو لا وأيهما كان قبل الآخر وهل كان ذلك في اليقظة أو المنام أو بعضه كذا وبعضه كذا أو يقال أسري به ولا يتعرض لمنام ولا يقظة على ما في أوائل الهدي لابن القيم فتصير الأقوال خمسة وهل كان المعراج مرة أو مرات واختلفوا في زمانه فقيل للسابع والعشرين من شهر الربيع الأول وقيل من الآخر وقيل لسبع عشرة خلت من شهر رمضان وقيل ليلة سبع وعشرين من رجب وبه جزم النووي في الروضة في السير وخالف في الفتاوى فقال إنهما ليلة السابع والعشرين من شهر الربيع الأول وخالف المكانين المذكورين في شرح مسلم فجزم بأنهما ليلة السابع والعشرين من شهر الربيع الآخر تبعا للقاضي عياض وعن الماوردي أنهما في شوال وسيأتي أقوال سبعة في تعيين السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عليه السلام] أي من القسم الأول (في ثناء الله تعالى) أي مدحه (عليه وإظهاره عظيم قدره لديه) أي عنده في مقام قربه كما يفهم من الآيات المتلوة والأحاديث النبوية وقال الدلجي أي عنده في اللوح المحفوظ لتعلم الملائكة زيادة شرفه وتمييزه على غيره إذ هي المرادة. هنا فيلتزموا توقيره وتعظيمه انتهى لكنه يحتاج إلى نقل كما لا يخفى ثم قال الدلجي الثناء هنا باعتبار غايته فهو إما أنعام بأنواعه من تكريم وتعظيم فيرجع إلى صفات الأفعال وأما إرادة ذلك فيرجع إلى صفات الذات وإلا فهو في الأصل إما بمعنى الحمد والشكر أو المدح أو عام فيهما ومورد ذلك كله الجوارح وهو في حقه محال فيكون مجازا مرسلا لكون العلاقة غير المشابهة ففيه بحث ظاهر إذ الثناء من باب الكلام وهو في حقه سبحانه وتعالى ثابت حقيقة على ما عليه أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة فلا يحتاج إلى اعتبار مجاز الغاية بخلاف صفتي الغضب والرحمة لما حقق في محلهما والله تعالى أعلم (اعلم) خطاب عام وهو الاحق أو خاص بالسائل كما سبق (إن في كتاب الله العزيز) أي النادر في بابه أو الغالب على سائر الكتب بنسخه في خطابه (آيات كثيرة مفصحة) أي موضحة مصرحة (بجميل ذكر المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم) أي المجتبى في باب الصفاء والوفاء (وعد محاسنه) أي وبتعداد مكارم اخلاقه (وتعظيم أمره وتنويه قدره) أي رفعة شأنه وحكمه (اعتمدنا منها) أي من تلك الآيات (على ما ظهر معناه) أي من منطوق الدلالات (وبان فحواه) أي تبين مقتضاه من مفهوم العلامات على ما له من الكمالات (وجمعنا ذلك) أي ما ذكر من الأصول (فِي عَشَرَةِ فُصُولٍ) . الْفَصْلُ الْأَوَّلُ [فِيمَا جَاءَ من ذلك مجيء المدح والثناء] أي النوع الأول من هذا الباب (فيما جاء) أي في كتابه (من ذلك) أي مما ذكر من الآيات (مجيء المدح والثناء) نصب مجيء على المصدر. (وتعداد المحاسن) بفتح التاء أي ومجيء تكرار أخلاقه الحسنة وهو جمع حسن على غير قياس ونصبه على ما في نسخة غير مستقيم (كقوله تعالى) وفي نسخة لقوله تعالى باللام وهو غير ملائم للمرام: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ الآية) بدأ بها فإنها مشتملة على جملة من امتنانه سبحانه وتعالى مما يوجب تعظيم رسوله ويعلي شأنه منها القسم المستفاد من اللام المقرونة بقد الدالتين على تحقيق الكلام ومنها الإيماء في جاء إلى أن رسولنا لو كان في الصين لكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الواجب عليكم المأتي إليه لتعلم علم الدين ومعرفة اليقين فيكون إتيانه فضلا منا عليكم وإحسانه منه إليكم فيجب حسن استقباله وإطاعة أمره وإقباله ومنها تنكير رسول فإنه يشير إلى أنه رسول عظيم تفخيما لشأنكم وتأييدا لبرهانكم ومنها أنه جعل من جنسكم البشري فإنكم لن تطيقوا على التلقين الملكي وليكون أدعى إلى متابعته حيث يفعل أيضا بمقتضى مقالته ولو كان ملكا لربما قيل إن القوة البشرية ليست كالقدرة الملكية ومنها أنه جعل من صنفكم العربية وإلا لقلتم أمرسل إليه عربي والرسول إليه أعجمي ثم بقية الآية عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شديد شاق عليه عنتكم وتعبكم ووقوعكم في عذابكم حريص عليكم أن تؤمنوا كلكم بالمؤمنين منكم ومن غيركم رؤوف رحيم والرأفة أشد الرحمة فذكر الرحيم تذييل أو عكس مراعاة للفواصل لا لكونه أبلغ كما توهم الدلجي (قال السّمرقنديّ) بفتح سين مهملة وميم وسكون راء هو المشهور على الألسنة وأما ما ضبطه بعض المحشيين كالتلمساني وغيره من سكون ميم وفتح راء فهو لحن على ما صرح به القاموس وهو الإمام الجليل الحنفي المحدث المفسر نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي الفقيه أبو الليث المعروف بإمام الهدى تفقه على الفقيه أبي جعفر الهندواني وهو الإمام الكبير صاحب الأقوال المفيدة والتصانيف المشهورة العديدة توفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة له تفسير القرآن أربع مجلدات والنوازل في الفقه وخزانة الفقه في مجلدة وتنبيه الغافلين وكتاب البستان وذكر التلمساني أنه أبو علي واسمه الحسن بن عبد الله منسوب إلى بلدة سمرقند من أهل الظاهر روى عن داود بن علي الظاهري لكن المعتمد هو الأول وسيأتي في مواضع من كتاب الشفاء حيث يروي عنه القاضي بواسطة واحدة والله أعلم وأبو الليث السمرقندي متقدم يلقب بالحافظ وهو الفرق بينهما ذكره التلمساني. (وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 128] بِفَتْحِ الْفَاءِ) وهي قراءة شاذة مروية عن فاطمة وعائشة رضي الله تعالى عنهما وقرأ به عكرمة وابن محيص وغيرهما وفي المشترك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قرأها كذلك، (وقراءة الجمهور بالضّمّ) وضبطه بعضهم بالفتح وهو غير مشهور وضبط قراءة بصيغة المصدرية ويمكن قراءته بالجملة الفعلية ثم رأيت في حاشية أنهما روايتان والجمهور بالضم معظم الناس، (قال الفقيه القاضيّ أبو الفضل وفّقه الله تعالى) أي المصنف، (أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْعَرَبَ أَوْ أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ المفسّرين من المواجه) أي من الذي وقع له المواجهة من المؤمنين أو غيرهم (بهذا الخطاب) يعني جاءكم فمن بفتح الميم موصول وكسر نونه في الوصل لالتقاء الساكنين والمواجه بصيغة المفعول مرفوع ثم الظاهر العموم الشامل لجميع الإنس بل والجن أيضا على وجه التغليب أما من اختار المؤمنين فلأنهم المرادون في الحقيقة والمنتفعون بمتابعته في الطريقة وأما من اختار العرب فلما يدل عليه ظاهر قوله تعالى حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ولما يتبادر من قوله أَنْفُسِكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 جنس العرب ولا ينافي ما اخترناه من العموم فتح الفاء لأنه إذا كان أشرف جنس العرب فيكون أفضل سائر الأجناس فإنهم أكرم الناس لما تقرر في محله وأما من اختار أهل مكة فلما أشار إليه المصنف بناء على قراءة الضم. (أَنَّهُ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَعْرِفُونَهُ) اي محله ومرتبته بحليته ونعته (ويتحقّقون مكانه) أي مكان ولادته ونسبه ورتبته أو رفعة قدره وعلو شأنه ويؤيده ما في نسخة مكانته وهو مخل بالتسجيع لما قبله ملائم لقوله (ويعلمون صدقه، وأمانته، فلا يتّهمونه بالكذب) في دعوى رسالته أي ولذا كانوا يسمونه محمد الأمين لكمال ديانته (وترك النّصيحة لهم) أي وترك ارادة الخير لهم (لكونه منهم) وهو أبعد للتهمة في ترك النصيحة في حقهم، (وأنّه) بالفتح عطف على أنه السابق الواقع مفعولا ثانيا لا علم ولا يبعد أن يكون مجرور المحل معطوفا على كونه والحاصل أنه: (لَمْ تَكُنْ فِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلَّا وَلَهَا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) على للمصاحبة كقوله تعالى وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي مع رسول الله (ولادة) ، أي قرابة قريبة (أو قرابة) أي بعيدة، (وهو) أي هذا المعنى المستفاد من قوله وأنه الخ (عند ابن عبّاس) ، كما رواه عنه البخاري والطبراني (وغيره) أي من المفسرين (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] ) في قوله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ أجرا إلا المودة أي لكن المودة في القربى لازمة من الجانبين وأنا لا أقصر في نصيحتكم وإرادة الخير لكم ومحبتكم فيجب عليكم أيضا أن تجتهدوا في متابعتي ونصرتي ودفع الاذى عن أهل ملتي (وكونه) قال الحلبي هو بالرفع لكن الظاهر كما اقتصر عليه الدلجي أنه بالجر عطفا على قوله والمعنى وهو معنى كونه عليه السلام (من أشرفهم) أي نسبا، (وأرفعهم) أي حسبا، (وأفضلهم) أي سخاوة ونجادة (على قراءة الفتح) أي بناء عليها (وهذه) أي المنقبة (نهاية المدح) أي من هذه الجهة، (ثمّ وصفه) أي الله سبحانه وتعالى (بعد) بالضم أي بعد قوله من أنفسكم (بأوصاف حميدة، وأثنى عليه بمحامد) بالمنع جمع محمدة بمعنى مدحة (كثيرة) أي عديدة: (من حرصه على هدايتهم) أي دلالتهم على العقائد الدينية، (ورشدهم) أي إرشادهم إلى ما فيه صلاح أمورهم من الأحكام الشرعية، (وإسلامهم) أي انقيادهم واستسلامهم للحوادث الكونية بقوله حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ (وشدّة ما يعنتهم) من الأفعال والتفعيل أي ما يشق عليهم ولا يطيقونه، (ويضرّ بهم) ضبط في نسخة بضم الياء وكسر الضاد وهو غير صحيح لوجود الباء في مفعوله وقول الدلجي إن الباء زائدة غير صحيح ففي القاموس ضره وبه وأضره والصواب ضبطه بفتح وضم التقدير وما يضرهم (في دنياهم وأخراهم وعزّته عليه) أي ومن غلبة ما يعنتهم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لقوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ وكان الأولى مراعاة الترتيب القرآني كما لا يخفى بأن يقدم قضية العزة على الشدة ثم يقول. (ورأفته، ورحمته بمؤمنيهم) أي ومؤمني غيرهم وفي نسخة بمؤمنهم بصيغة الإفراد على إرادة الجنس بطريق الاستغراق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 بقوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ والرأفة أدق من الرحمة ولعل التفاوت بحسب القابلية والرتبة، (قال بعضهم: أعطاه) أي الله (اسمين من أسمائه رؤوف) بالاشباع ودونه فمن الأول قول كعب بن مالك الأنصاري. نطيع نبيا ونطيع ربا ... هو الرحمن كان بنا رؤوفا ومن الثاني قول جرير: يرى للمسلمين عليه حقا ... كفعل الوالد الرؤوف الرحيم (رحيم) أي على وصف التنكير وأما بصيغة التعريف فالظاهر أنه لا يجوز إطلاقهما على غيره سبحانه (ومثله) أي ومثل معنى الآية الأولى (فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) خصوا لكونهم المنتفعين (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آلِ عِمْرَانَ: 164] . الْآيَةَ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) أي العرب الذين غالبهم ما قرأ ولا كتب (رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] ) أي أميا مثلهم لكن الأمية في حقه عليه الصلاة والسلام معجزة ومنقبة وفي حق غيره معيبة ومنقصة (الآية) تمامها يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي مع كونه أميا فهذا أظهر معجزاته ويزكيهم أي يطهرهم من خبائث الأحوال والأعمال ويعلمهم الكتاب والحكمة أي السنة والشريعة. (وقوله) أي وفي الآية الأخرى وقوله: (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ [الْبَقَرَةِ: 151] الْآيَةَ) إلى قوله فَاذْكُرُونِي بالطاعة أذكركم بالمثوبة. (وروي عن عليّ بن أبي طالب، كرم الله تعالى وجهه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما رواه ابن أبي عمر العدني في مسنده (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَةِ: 129] قَالَ: نسبا) أي قرابة مختصة بالآباء على ما في القاموس ونصبه على التمييز وكذا قوله (وصهرا) قال البيضاوي في وقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم وذوات صهر أي اناثا يصاهر بهن والحاصل أنه شريف الجانبين وكريم الطرفين ثم قوله (وحسبا) أريد به ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه من الدين أو الكرم أو المال وقيل الحسب والكرم قد يكونان بمن لا شرف لآبائهم والشرف والمجد لا يكونان إلا بهم (ليس في آبائي) أي أسلافي من الأب والجد والأم والجدة (من لدن آدم) بفتح لام وضم دال وسكون نون ويجوز سكون الدال وكسر النون أي من عند ابتداء زمن آدم عليه الصلاة والسلام إلى وجود الخاتم صلى الله تعالى عليه وسلم (سفاح) بكسر السين وهو صب ماء الرجل بلا عقد على ما قاله المحشي والأولى أن يقال المراد به الوطء من غير مجوز لأن السرية لا عقد لها والحاصل أن المراد به الزنا وما لا يجوز وطؤه شرعا (كلّها نكاح) أي ذو عقد أو كل واحد منا ناكح أو قصد به المبالغة كرجل عدل وهو واقع على التغليب وإلا فأم إسماعيل عليه الصلاة والسلام سرية اللهم إلا أن يقال قد اعتقها وعقد عليها قال المحشي ويروى كلها نكاح وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 كذا في نسخة ولعل التقدير كل المجامعة ذات نكاح وفي حديث لما خلق الله تعالى آدَمَ أَهْبَطَنِي فِي صُلْبِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ وَقَذَفَ بِي فِي النَّارِ فِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ لَمْ يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة إلى أن أَخْرَجَنِي مِنْ بَيْنِ أَبَوَيَّ لَمْ يَلْتَقِيَا عَلَى سفاح قط، (قال ابن الكلبيّ) وهو محمد بن السائب أبو النصر المفسر النسابة الأخباري وترجمته معروفة في الميزان وغيره: (كتبت للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم خمسمائة أمّ) لعله أراد به التكثير وإلا فمحال أن يكون بينهما خمسمائة أم إذ بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين عدنان أحد وعشرون أبا إجماعا وبين عدنان وآدم على ما بينه ابن إسحاق وغيره ستة وعشرون ابا فيكون بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين آدم عليه الصلاة والسلام سبعة وأربعون أبا بسبع وأربعين أما ولا يبعد أنه عد امهاته وأمهات أعمامه وأمهات أعمام آبائه إلى آدم والله تعالى أعلم (فما وجدت فيهنّ سفاحا) أي ذات سفاح (ولا شيئا ممّا كان عليه الجاهليّة) أي من اخذ الأخدان لشهادة حديث ابن عدي والطبراني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح وقد نقل عن أكثر أهل السير كزبير بن بكار وغيره أن كنانة خلف على برة بعد أبيه خزيمة على عادة العرب في الجاهلية في أن أكبر ولد الرجل يخلف على زوجته إذا لم يكن منها وهذا مشكل لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول كلنا نكاح ليس فينا سفاح ما ولدت من سفاح أهل الجاهلية وذكر السهيلي وغيره في هذا اعذارا منها أن الله تعالى يقول وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي من تحليل ذلك قبل الإسلام وفائدة هذا الاستثناء أن لا يعاب نسب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى وبعده لا يخفى وذكر الحافظ أبو عثمان وعمرو بن بحر في كتاب له سماه كتاب الأصنام قال وخلف كنانة بن خزيمة بن مدركة على زوجة أبيه بعد وفاته وهي برة بنت اد بن طابخة تحت كنانة بن خزيمة فولدت له النضر بن كنانة وإنما غلط كثير من الناس لما سمعوا أن كنانة خلف على زوجة أبيه لا تفارق اسمها وتقارب نسبها قال وهذا الذي عليه مشايخنا من أهل العلم بالنسب قال ومعاذ الله أن يكون أصاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقت بنكاح وقال من اعتقد غير هذا فقد أخطأ وشك في الخبر ويؤيد ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم تنقلت في الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة؛ (وعن ابن عبّاس، رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) [الشعراء: 218] ) أي كما رواه ابن سعد والبزار وأبو نعيم في دلائله بسند صحيح عنه أنه (قال من نبيّ إلى نبيّ حتّى أخرجتك) وفي نسخة صحيحة حتى أخرجتك (نبيّا) ولا يخفى أن المراد به أن بعض الآباء كانوا من الأنبياء وفي الآية عنه وعن غيره معاني أخر، (وقال جعفر بن محمّد) أي ابن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب الهاشمي المدني المعروف بالصادق أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأمها اسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وكان يقول ولدت في الصديق مرتين متفق على إمامته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وجلالته وسيادته قال البخاري في تاريخه ولد سنة ثمانين وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة انتهى وقد أخرج له مسلم والأربعة وكذا البخاري في كتابه أدب المفرد: (علم الله تعالى عجز خلقه عن طاعته) أي عن معرفة ما يطلب منهم فعلا وتركا من طاعته بغير واسطة رسول وبعثته لبيان عبادته، (فعرّفهم) بتشديد الراء أي فأعلمهم (ذلك) أي العجز (لِكَيْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ الصَّفْوَ مِنْ خدمته) أي الخالص من طاعته بل إنما ينالون بالواسطة من فضله ورحمته كما قال الله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وفي قضية إبليس إيماء إلى أن كثرة الخدمة غير مفيدة مع قلة الرحمة، (فأقام بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في الصّورة) أي مباينا لصنفهم في السيرة؛ (أَلْبَسَهُ مِنْ نَعْتِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ، وَأَخْرَجَهُ إِلَى الخلق سفيرا) أي وأظهره مرسلا إليهم حال كونه رسولا مصلحا لما بينهم (صادقا) أي مطابقا قوله فعله وموافقا حكمه خبره، (وجعل طاعته طاعته) بنصبهما أي كطاعة الله تعالى أي فيما يأمره وينهاه وهو تشبيه بليغ مفيد للمبالغة وهو أن طاعته عين طاعته وكذا قوله (وموافقته موافقته) أي في أمر دينه ودنياه فلا تجوز مخالفته في طريق مولاه كما قال سبحانه وتعالى في حقه فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ (فَقَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] ) وقد روي من أحبني فقد أحب الله ومن عصاني فقد عصى الله تعالى وكذا قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ (وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء: 107] ) وكذا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أنا رحمة مهداة على ما رواه الحاكم عن أبي هريرة (قال أبو بكر محمّد بن طاهر) وفي نسخة محمد ابن طاهر أي ابن محمد بن أحمد بن طاهر الاشبيلي القيسي وبهذا يعرف أن ليس المراد به عبد الله بن طاهر الأبهري الذي هو من أقران الأشبيلي خلافا لما توهمه التلمساني قال العسقلاني هو مغافري شاطبي روى عن أبيه وابن علي النسائي وغيرهما وأجاز له أبو الوليد الباجي: (زيّن الله محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم بزينة الرّحمة) أي بزيادة المرحمة (فكان كونه) أي وجوده (رحمة) وأغرب الدلجي في قوله مكان كونه موصوفا بالرحمة رحمة، (وجميع شمائله) جمع شمال بالكسر وهو الخلق بالضم والمراد بها أخلاقه الباطنة، (وصفاته) الظاهرة من نحو كرمه وجوده (رحمة) الأولى مرحمة لتغاير الأولى والمعنى محل رحمة نازلة (على الخلق) أي عامة وخاصة، (فَمَنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ رَحْمَتِهِ فَهُوَ النَّاجِي) قال التلمساني أي الخالص والصواب المخلص (في الدّارين) أي حالا ومآلا (من كلّ مكروه) أي مغضوب (والواصل فيهما) أي وهو الواصل في الكونين (إلى كلّ محبوب) وفيه إيماء إلى ما ورد من أن الله تعالى خلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه فقد ضل وغوى؛ (ألا ترى) بصيغة الخطاب المعلوم ويجوز أن يقرأ بصيغة الغائب المجهول أي ألا تعلم (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً) أي ذا رحمة وأريد بها المبالغة (لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ) أي من غير تقييد للمؤمنين أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لأمته دون غيرهم من المخلوقين ويستفاد من نسبة الرحمة الإلهية أنها ليست من الأمور العارضية (فكانت حياته رحمة، ومماته رحمة) بل وليس هناك موت ولا فوت بل انتقال من حال إلى حال وارتحال من دار إلى دار فإن المعتقد المحقق أنه حي يرزق. (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم) فيما رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده والبزار بإسناد صحيح: (حياتي خير لكم) وهو ظاهر (وموتى لكم) قال الدلجي بشهادة وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ حيا وميتا انتهى وغرابته لا تخفى فالأظهر أن يقال لأنه قال تعرض على أعمالكم فأشفع في غفران سيئاتكم وأدعو لكم في تحسين حالاتكم والمعنى أني متوجه إليكم وراحم عليكم وشفيع لكم حيا وميتا بالنسبة إلى حاضركم وغائبكم أو التقدير وموتي قبلكم خير لكم فيوافق ما أراده المصنف بقوله. (وكما قال عليه الصّلاة والسّلام) أي على ما رواه مسلم (إذا أراد الله تعالى رحمة بأمه) قال الحافظ المروزي المعروف رحمة أمة وكذا رواه مسلم كذا ذكره الحجازي قلت وفي الجامع الكبير أيضا بلفظ أن الله تعالى إذا أراد رحمة أمة من عباده: (قبض نبيّها قبلها) أي قبل موت جميعها (فجعله لها فرطا وسلفا) أي بين يديها كما في الصحيح وهما بفتحتين أي متقدما وسابقا فإنهما ما أصيبت بمصيبة أعظم من موت نبيها وأصل الفرط هو الذي يتقدم الواردين ليهيئ لهم ما يحتاجون إليه عند نزولهم في منازلهم ثم استعمل للشفيع فيمن خلفه ثم تتمة الحديث على ما في صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا وإذا اراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فاقر عينيه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره. (وقال السّمرقنديّ) أي أبو الليث إمام الهدى الحنفي كما ذكره الدلجي (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ) بالنصب على الحكاية. (يعني) أي يريد سبحانه وتعالى بالعالمين (للجنّ والإنس) أي المؤمنين بقرينة تقابله بقوله. (وقيل لجميع الخلق) أي المكلفين لقوله: (للمؤمن رحمة) بالنصب ويجوز رفعها أي رحمة خاصة (بالهداية) وكان الأولى أن يقول رحمة للمؤمن بالهداية ليطابق الآية وليوافق قوله، (ورحمة للمنافق بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب) أي إلى العقبى ولا يبعد أن يكون تقديم المؤمن إشارة إلى حصر الرحمة المختصة بالهداية كما قال الله تعالى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ أي بالدلالة الموصلة التي هي خلق الهداية في خواص الإنسان من أهل الإيمان مع أنه هدى للناس باعتبار عموم الهداية بالدلالة المطلقة التي هي بمعنى البيان. (قال ابن عبّاس رضي الله عنهما) أي فيما رواه جرير وابن أبي حاتم في تفسيرهما والطبراني والبيهقي في دلائله: (هُوَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ إِذْ عُوفُوا مِمَّا أصاب غيرهم من الأمم المكذّبة) أي من أنواع العقوبة ومآل هذا القول إلى ما قبله ثم الأظهر أن العالمين يشمل الملائكة أيضا ويدل عليه قوله. (وحكي) بصيغة المجهول وقال الحجازي ويروى (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلْ أصابك من هذه الرّحمة) أي المنقسمة على هذه الأمة من نبي الرحمة (شيء) أي من الرحمة مختص بك فالاشارة إلى موجود في الذهن إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الرحمة معنى يوجده الله تعالى فيمن يشاء من خلقه وفيها يتفاوتون. (قال: نعم، كنت أخشى العاقبة) أي آخر أمري من سوء الخاتمة لما وقع لإبليس من الزلة (فأمنت) بفتح فكسر وضبطه التلمساني بصيغة المجهول ففي القاموس الأمن ضد الخوف أمن كفرح وقد أمنه كسمع ائتمنه واستأمنه انتهى ولا يخفى أن بناء المجهول غير ظاهر في المعنى إذ المراد فصرت آمنا ببركة القرآن الذي نزل عليك (لِثَنَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ بِقَوْلِهِ: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي صاحب مكانة (مُطاعٍ) أي بين الملائكة (ثَمَّ) أي فيما هنالك (أَمِينٍ [التكوير: 20- 21] ) أي على أمر الوحي وغيره ووجه الاستدلال به أنه تعالى حيث مدحه في محكم كتابه العظيم وأخبر عن حسن حاله للنبي الكريم لا يتصور تبدل حاله ولا تغير مآله ولا يبعد أن يجعل قوله أمين بمعنى مأمون العاقبة وقد سنح بالبال والله تعالى أعلم بالحال أنه صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وكرم رحمة لجميع خلق الله تعالى فإن العالمين لا شك أنه حقيقة فيما سواه ولا صارف بالاتفاق يصرفه عن دلالة الإطلاق ثم من المعلوم أنه لولا نور وجوده وظهور كرمه وجوده لما خلق الإفلاك ولا أوجد الاملاك فهو مظهر للرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء من الحقائق الكونية المحتاج إلى نعمة الإيجاد ثم إلى منحة الإمداد وينصره القول بأنه مبعوث إلى كافة العالمين من السابقين واللاحقين فهو بمنزلة قلب عسكر المجاهدين والأنبياء مقدمته والأولياء مؤخرته وسائر الخلق من أصحاب الشمال واليمين ويدل عليه قوله تعالى تبارك الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ومن جمله انذاره للملائكة قوله سبحانه وتعالى وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ويقويه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثت إلى الخلق كافة وقد بينت وجه ارساله إلى الموجودات العلوية والسفلية في رسالتي المسماة بالصلاة العلية في الصلاة المحمدية. (وروي عن جعفر بن محمّد) أي الباقر (الصّادق) نعت لجعفر (في قوله تعالى: فَسَلامٌ) أي فسلامة من كل ملامة (لَكَ) أي لرحمتك (مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 91] ) خبر سلام أي حاصل من أجلهم ولو كان من أعظمهم وأجلهم. (أي بك) أي بسبب وجودك أو بسبب كرمك وجودك (إِنَّمَا وَقَعَتْ سَلَامَتُهُمْ مِنْ أَجْلِ كَرَامَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بالشفاعة العظمى فإنها شاملة للنفوس العليا والسفلى من الأولى والأخرى فشملت رحمته في الابتداء والانتهاء في الدنيا والعقبى وقال التلمساني لمحمد روي باللام والباء واللام تعليلية والباء سببية فتكون كرامة مضافة إلى ضمير الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى انتهى والنسخ المصححة والأصول المعتمدة على الإضافة إلى المفعول وهو الظاهر في المعنى قال الدلجي أي من أجل إكرام الله إياه فوضع الظاهر موضع المضمر وإلا ظهر أنه التفات من الخطاب إلى الغيبة ثم أغرب الدلجي أن من على هذا زائدة ويجوز أنت كون بمعنى لام التعدي أي لسببك وقع السلام لأصحاب اليمين من أجل إكرام الله تعالى اياك وما قاله تكلف بعيد انتهى والكل تكلف بل تعسف والتحقيق أنه أراد أن الخطاب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والتقدير فسلامة عظيمة لأجلك وبسببك حاصلة لأصحاب اليمين وقوله من أجل توضيح لقوله بك إما بطريق عطف البيان أو على سبيل الاستئناف في التبيان وهذا التأويل خلاف ما قاله أهل التفسير فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين يقال له سلام لك أي مسلم لك أنك منهم أو يا محمد لا ترى فيهم إلا ما تحب من سلامتهم من العذاب وأن منهم من يقول يوم القيامة سلام عليك، (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] ) أي منورهما كما قرئ به ومظهر ما خلق فيهما أو موجد أنوارهما (الآية) بالنصب ويجوز رفعها وخفضها أي اقرأها أو هي معلومة أول إلى آخرها والمراد ما بعدها وهو قوله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وقد أوضحت معنى الآية في الرسالة المسماة بالصلاة العلية في الصلاة المحمدية عند قوله اللهم صل وسلم على نورك الأسنى واعلم أن النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة ويستحيل اطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف ونحوه من نوع تأويل. (قال كعب) وفي نسخة كعب الاحبار بالحاء المهملة وهو كعب بن ماتع بالمثناة الفوقية أدرك زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يره وأسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وقيل في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وقيل أدرك الجاهلية وصب عمر وأكثر ما روي عنه وروي أيضا عن جماعة من الصحابة وروى عنه أيضا جماعة من الصحابة والتابعين وكان يسكن في حمص وكان قبل إسلامه على دين اليهود ويسكن اليمن توفي في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين متوجها للغزو ودفن بحمص ويقال له كعب الحبر أيضا بفتح الحاء وكسرها لكثرة علمه أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأغرب شارح حيث قال هو كعب بن مالك الأنصاري، (وابن جبير) وهو سعيد بن جبير أحد أكابر التابعين والعلماء العاملين روى عن ابن عباس وغيره وعنه أمم من المحدثين أخرج له الجماعة في كتبهم الستة وكان أسود الصورة وأنور السيرة مستجاب الدعوة قتل سنة خمس وتسعين وهو ابن تسع وأربعين شهيدا في شعبان ومما يدل على كماله في اليقين وتمكنه في الدين ما روي أنه لما دخل على الحجاج بعد إرساله إليه قام بين يديه فقال له أعوذ منك بما استعاذت مريم إذ قالت أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا فقال له ما اسمك قال سعيد بن جبير وقال شقي بن كسير فقال أمي أعلم باسمي قال شقيت وشقيت أمك فقال الغيب يعلمه غيرك قال لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى فقال لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلها غيرك قال لأوردنك حياض الموت فقال إذا أصاب في اسمي أمي يعني إذا كنت شهيدا أكون سعيدا قال فما تقول في محمد قال نبي ختم الله تعالى به الرسل وصدق به الوحي وأنقذ به من الجهالة إمام هدى ونبي رحمة قال فما تقول في الخلفاء قال لست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 عليهم بوكيل وإنما استحفظت أمر نبي قال فأيهم أحب إليك فقال أحسنهم خلقا وأرضاهم لخالقه واشدهم منه فرقا قال فما تقول في علي وعثمان في الجنة هما أم في النار لو دخلت فرأيت أهلهما لأخبرتك فما سؤالك عن أمر غيب عنك قال فما تقول في عبد الملك بن مروان قال فما لك تسألني عن امرئ أنت واحد من ذنوبه قال فما لك لم تضحك قط قال لم أر ما يضحكني وكيف من خلق من التراب وإلى التراب يعود قال فإني أضحك من اللهو قال ليست القلوب سواء قال فهل رأيت من اللهو شيئا قال لا فدعا بالزمر والعود فلما نفخ فيه بكى فقال له الحجاج ما يبكيك قال ذكري يوم ينفخ في الصور وأما هذا العود فمن نبات الأرض وعسى أن يكون قطع في غير حقه وأما هذه المثاني والأوتار فإن الله سيبعثها معك يوم القيامة قال فإني قاتلك قال إن الله قد وقت وقتا أنا بالغه فإن أجلي قد حضر فهو أمر قد فرغ منه ولا محيص ساعة عنه وإن تكن العافية فالله أولى بها قال اذهبوا به فاقتلوه قال أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له استحفظ لها يا حجاج حتى القاك يوم القيامة فأمر به ليقتل فلما تولوا به ليقتلوه ضحك فقال الحجاج ما أضحكك قال عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عنك ثم استقبل القبلة فقال إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال فحولوه عن القبلة قال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ قال اضربوا به الأرض قال مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى قال اضربوا عنقه قال اللهم لا تحل له دمي ولا تمهله بعدي فلما قتله لم يزل دمه يغلي حتى ملأ أثواب الحجاج وفاض حتى دخل تحت سريره فلما رأى ذلك هاله وافزعه فبعث إلى بياذوق المتطبب فسأله عن ذلك فقال لأنك قتلته ولم يهله ذلك ففاض دمه ولم يخمد في نفسه ولم يخلق الله شيئا أكثر دما من الإنسان فلم يزل به ذلك الفزع حتى منع منه النوم فيقول ما لي ولك يا سعيد بن جبير ستة أشهر ثم إن بطنه استسقى حتى انشق فمات فلما دفن لفظته الأرض وبقي بعد سعيد بن جبير ستة أشهر ونقل أن السجون عرضت بعد موته فوجد فيها ثلاثة وثلاثون ألفا من المظلومين وقد أحصى من قتله صبرا فوجد مائة ألف وعشرين ألفا: (المراد بالنّور) أي بنوره (الثّاني هنا) أي في تتمة هذه الآية: (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) لقوله، (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ [النُّورِ: 35] أَيْ نُورِ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) على أنه عطف بيان لما قبله وبها يندفع ما قاله الدلجي في قوله هنا أي في هذه الآية من قوله مثل نوره هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فضميره لله تعالى وقوله مثله نوره أي نور محمد عليه السلام إن كان قولهما فهو مناقض لما قبله إلا أن يقال الإضافة بيانية أي مثل محمد الذي هو نور وهو بعيد أو لغيرهما فلا تناقض انتهى والأظهر أن يقال المراد بالنور محمد والتقدير مثل نور الله الذي هو مشرق ظهوره ومظهر نوره في عالم الكون بخلقه وأمره حسب قضائه وقدره كمشكاة إلى آخره فإن النور عبارة عن الظهور وقد انكشف به الحقائق الإلهية والأسرار الأحدية والأستار الصمدية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وبه اشرقت الكائنات وخرجت عن حيز الظلمات وبه صلى الله تعالى عليه وسلم فسر بعض المفسرين قوله تَعَالَى قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. (وقال) وفي نسخة وقاله وهو غير صحيح (سهل بن عبد الله) هو التستري منسوب إلى تستر قال النووي هو بمثناتين من فوق الأولى مضمومة والثانية مفتوحة بينهما سين مهملة مدينة بخوزستان وقال التلمساني والتاآن مضمومتان وقيل بضم الثانية وتفتح وقيل بفتح فقط وقيل بفتح الأولى وبضم الثانية ويقال ششتر بشينين معجمتين من أعمال الأهواز وقيل بحوزستان انتهى وفي القاموس تستر كجندب بلد وبشينين معجمتين لحن وسورها أول سور بعد الطوفان وقد روي أنه كان صاحب الكرامات العالية ولم يكن في وقته له نظير في المعاملات ولم يزل يشتغل في الرياضة العملية إلى أن كان يفطر في كل يوم على أوقية من خبز الشعير بلا أدام فكان يكفيه لقوته درهم واحد في عام وهو مع ذلك يقوم الليل كله ولا ينام وأسلم عند وفاته يهود تنيف على التسعين لما رأوا الناس انكبوا على جنازته وشاهدوا أقواما ينزلون من السماء فيتمسحون بجنازته ويصعدون وينزل غيرهم فوجا بعد فوج وقد توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين (المعنى) أي معنى الآية كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (الله هادي أهل السّموات والأرض) أي فهم بنوره يهتدون وبظهوره يوحدون ففسر النور بالهادي لأن النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره وقدر المضاف ليتعلق كمال هدايته بأرباب ولايته (ثم قال) أي سهل بن عبد الله: (مثل نور محمّد) أي صفة نوره العجيبة الشأن الغريبة البرهان (إذ كان) أي حين صار (مستودعا) بفتح الدال أي مودعا (في الأصلاب) أي أصلاب الآباء أولهم آدم عليه الصلاة والسلام من الأنبياء فنوره صلى الله تعالى عليه وسلم في كل صلب انتقل إليه (كمشكاة صفتها كذا) أي كصفة كوة غير نافذة موصوفة بكونها فيها مصباح أي سراج أو فتيلة المصباح في زجاجة أي قنديل من الزجاج الزجاجة كأنها إلى آخرها فشبه مادة جسمه وقالبه في أصلاب الآباء السالفة بالكوة في الحائط التي ليست نافذة فصح قوله. (وأراد بالمصباح قلبه، والزّجاجة) أي وأراد بالزجاجة (صدره: أي كأنّه) يعني صدره المعبر به عن الزجاجة (كوكب) أي نجم (درّيّ) بضم أوله وتشديد آخره أي مشرق يتلألأ كأنه منسوب إلى الدر المضيء وتخفيف ياء فهمزة نسبة إلى الدرة بمعنى الدفع فكأنه يدفع الظلام بنوره ويرفع الحجاب لظهوره وبكسر أوله مع التخفيف والهمز ولعله من تغيرات النسب كما يقال في بصري وبصري (لما فيه من الإيمان والحكمة) أي من نور الإيمان والإيقان والمراد بالحكمة نور النبوة والإيقان على وجه العيان، (توقد) بصيغة المجهول أي من أوقد مذكرا أو مؤنثا وتوقد بصيغة الماضي المعلوم فقراءة التأنيث مرجعها الزجاجة وقراءة التذكير مرجعها مصباح الزجاجة على حذف المضاف (من شجرة مباركة) أي مبتدأة منتشئة من شجرة كثيرة البركة زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ: (أَيْ مِنْ نُورِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) إذ هو أصل شجرة التوحيد وفضل ثمرة التفريد، (وضرب) بصيغة المفعول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 والفاعل أي بين وعين (المثل بالشّجرة المباركة) فطوبى لشجرة لها هذه الثمرة فجعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكونه معدن اسرار عوارف المنافع وأنوار لطائف الشرائع الذين هم الأنبياء وأتباعهم الاصفياء إذ غالبهم بل كلهم بعده من ذريته فهو شجرة النبوة مشبهة بشجرة مباركة زيتونة لكثرة نفعها إذ هو فاكهة وادام ودواء ودهن له ضياء والحاصل أن نور محمد صلى الله تعالى عليه وسلم انتقل من آبائه الكرام إلى أن ظهر ظهروا بينا في ظهر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ صار علما في علم التوحيد ولا سيما في باب التفويض والاستسلام فهو شجرة كثيرة الخير لأن من بعده من الأنبياء كلهم من ذريته وكان أكثرهم في جهة الشام من الأرض التي بارك الله تعالى حولها وكان الزيتونة إشارة إليها وقوله لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي حيث لا تقع الشمس عليها حينا دون حين بل حيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة جبل مرتفعة أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنمى وزيتها أصفى أولا نابتة في شرق المعمورة ولا غربها بل في وسطها وهو توابع الشام فإن زيتونه أجود الزيتون في غيرها وهذا بطريق العبارة وأما بتحقيق الإشارة فإيماء إلى قبلة أهل التوحيد وكعبة أهل التفريد حيث إنها ليست شرقية كقبله النصارى ولا غريبة كقبلة اليهود وبالجملة إشارة إلى أن الملة الحنفية أعدل الملل الإسلامية فأهلها متوسطون بين الخوف والرجاء فلا خوف لهم يزعجهم إلى بعد القنوط ولا رجاء يجرهم إلى بساط الانبساط وقال بعضهم لا دنيوية أو لا أخروية بل جذبة الهية إلى مكانة معنوية (وَقَوْلُهُ: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النُّورِ: 35] أَيْ: تَكَادُ نبوّة محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي المقتبسة من شجرة النبوة. (تبين) بفتح فوقية وكسر موحدة أي تظهر (للنّاس قبل كلامه) أي بادعاء النبوة حالة الرسالة لقوة ما فيها من الأنوار الإلهية ولكونه مظهر الأسرار الصمدية (كهذا الزّيت) أي في صفاء ظاهره وباطنه حيث يضيء ولو لم تمسسه نار من الأنوار الحسية وبعد اجتماع النبوة والرسالة والجمع بين الخلوة والجلوة نُورٌ عَلى نُورٍ كما في اجتماع النار مع ضياء الزيت في كمال الظهور يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي لأجل نوره وبواسطة ظهوره أو إلى حضرة نوره وأخذ النور من حضوره من يشاء من خواص أوليائه وأكابر أصفيائه وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ فيه إشعار بأن ما قبله إنما هو مثل للاستئناس ليدرك المعنى في قالب المبنى لكن لا يعقلها إلا العالمون العاملون والمخلصون الكاملون رضي الله تعالى عنهم وجعلنا بفضله منهم، (وقد قيل في الآية) أي على ما ذكره المفسرون وأرباب العربية (غير هذا) أي غير ما ذكرنا مما يتعلق بالعبارة والعاقل تكفيه الإشارة لأن الزيادة على العلامة ربما تورث الملالة والسآمة (وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي القرآن في غير هذا الموضع نورا) أي عظيما مطلقا (وَسِراجاً مُنِيراً) أي شمسا مضيئة حقا ولعل وجه التذكير أنها كوكب والظاهر أنه من باب التشبيه البليغ وكون المشبه به أقوى من حيث شهرته ووضوح دلالته العامة للخاص والعام من عالم الخلق. (فقال) أي الله تعالى: (جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ) أي لظهور الحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وإبطال الباطل وأطلق عليه عليه الصلاة والسلام لأنه يهتدي به من الظلمات إلى النور (وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] بين الإعجاز ومبين الاحكام بالإيجاز وهذا شاهد للمدعي الأول وبيانه أن الأصل في العطف المغايرة وقد حاول بعض المفسرين بأنه من باب الجمع بين الوصفين باعتبار تغايرهما اللفظي وأن المراد بهما القرآن وقد يقال في مقابلهم وأي مانع من أن يجعل النعتان للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه نور عظيم لكمال ظهوره بين الأنوار وكتاب مبين حيث إنه جامع لجميع الاسرار ومظهر للأحكام والأحوال والأخبار (وقال) أي الله سبحانه مخاطبا له صلى الله تعالى عليه وسلم: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي على من بعثك إليهم بتصديقهم وتكذيبهم أو شاهدا على جميع الشهداء من الأنبياء كما يستفاد من قَوْلُهُ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً وهو وما بعده أحوال مقدرة مخبرة بحيازته جميع الجهات المعتبرة (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي منذرا ولعل وجه العدول رعاية الفواصل أو تفنن العبارة في المحل القابل فهو بشير ونذير ومبشر ومنذر للمطيعين بالجنة والوصلة وللعاصين بالحرقة والفرقة (وَداعِياً) أي جميع الخلق (إِلَى اللَّهِ) أي إلى دينه وحبه ومقام قربه (بِإِذْنِهِ) أي بأمره وتيسيره (وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45، 46] ) يميز بين الحق والباطل في المعتقدات وبين الحلال والحرام في المعاملات وبين محاسن الاخلاق ومساويها في الرياضات فهو الداعي بالشريعة والطريقة والحقيقة إلى المراتب الحقية والدرجات العلية عليه أفضل الصلاة وأكمل التحية. (ومن هذا) أي الباب أو النوع أو القبيل (قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] إلى آخر السّورة) استفهام أفاد انكار نفي الشرح مبالغة في اثباته إذ انكار النفي نفي له ونفي النفي إثبات أي قد شرحناه لك ومن ثم عطف عليه قوله وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ إشارة إلى المبنى ورعاية للمعنى ومعنى قوله. (شرح: وسّع) بالتشديد، (والمراد بالصّدر هنا: القلب) لأن الصدر غير قابل للتضييق والتوسيع أي وسع قلبه لتجليات ربه وتنزلات حكمه بعد ما كان يضيق صدره لما ينعكس عليه من غبار غيره لقوله تَعَالَى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ أي فينا أو في القرآن أو فيك ثم قال تعالى كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ فهذا نهي تكوين كما أن قوله تعالى لكِنْ أمر تكوين فيكون المأمور ولا يكون المنهي وبه ينتفي التلوين ويتحقق التمكين المعبر عنه بمرتبة جمع الجمع بين مناجاة الحق ومفاداة الخلق بحيث لا تحجبه الكثرة عن الوحدة ولا عكسه. (قال ابن عبّاس رضي الله عنهما) أي كما رواه أبن أبي حاتم عن عكرمة وابن مردويه وابن المنذر في تفسيرهما عنه أنه قال: (شرحه بنور الإسلام) وفي نسخة بالإسلام وفي أخرى بالإيمان والمعاني متقاربة البيان أي فسح قلبه ووسعه بسبب نور الانقياد وتفويض الأمر إلى المريد المراد العالم بالعباد والعباد في جميع البلاد وفيه إيماء إلى قوله تعالى أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ، (وقال سهل: بنور الرّسالة) أي شرحه به خصوصا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فلا ينافي ما تقدم عموما. (وقال الحسن) أي الحسن البصري وهو من أفاضل التابعين ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه تعالى ومات بالبصرة سنة عشر ومائة وهو ابن ثمان وثمانين سنة وكانت أمه خادمة أم سلمة رضي الله تعالى عنها من أمهات المؤمنين فكان إذا بكى في صغره جعلت ثديها في فمه فأصاب لذلك بركة عظيمة حتى صار عالما زاهدا يضرب به المثل في كمال العلم والعمل أخرج له الجماعة في الكتب الستة: (ملأه) بالهمزة أي ملأ قلبه (حكما) أي ما يحكم من الأحكام (وعلما) أي بجميع ضروريات الانام وفي نسخة بكسر الحاء وفتح الكاف جمع الحكمة فلعله أراد بها السنة وبالعلم ما يتعلق بالكتاب من جهة دلالة المعنى وقراءة المبنى، (وقيل معناه: ألم نطهّر قلبك) من الاستئناس بالناس (حتّى لا يؤذيك) وفي نسخة لا يقبل (الوسواس) أي لا يشوش عليك الموسوسون من الإنس والشياطين حالة الحضور في حضرة العيان وهو أتم وأعم من تفسير بعضهم الوسواس بالشيطان والحاصل أن الهمزة للتقرير في البيان والمعنى قد طهرنا لك صدرك ولذا عطف عليه قوله (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) أي إثمك وأصله ما يحمل على الظهر ولذا قال (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح: 8- 9] ) أي أثقله حتى ظهر نقيضه ونقيض الظهر صوته. (وقيل) أي في المراد من قوله وزرك (ما سلف من ذنبك) يعني من التقصيرات أو الهفوات والغفلات (يعني) أي يريد صاحب القيل بهذا القول (قبل النّبوّة) لأنه كان بعدها في مرتبة العصمة، (وقيل أراد) أي الله تعالى به (ثقل أيّام الجاهليّة) وهو بكسر المثلثة وفتح القاف ضد الخفة ويجوز تسكينها تخفيفا وهو لا ينافي أن الثقل بالكسر والسكون واحد الأثقال لأنه لا شك أن المراد به نوع من أثقال الأحمال وهو الواقع في ازمنة الجاهلية من أصحاب الفترة قبل ظهور نور الدولة الإسلامية وقبل إعلاء أعلام العلوم الدينية ولعل فيه إيماء إلى قوله تعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ أي تفاصيل ما يتعلق به على وجه الإيقان ومنه قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي جاهلا عن كمال المعرفة فهدى أي فهداك هداية كاملة وهدى بك جميع الأمة وأما الثقل بفتحتين بمعنى متاع المسافر فلا يبعد أن يكون مرادا هنا إشعارا بأنه صلى الله عليه وسلم حال سلوكه وسيره كان حاملا لأمور ثقيلة على ظهره فرفعها الله تعالى عنه حتى تمكن في مقام تفويضه وتسليم أمره، (وَقِيلَ أَرَادَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ) أي من أعبائها فإنه من باب التوجه من الحق إلى الخلق وهو مستثقل عند أرباب الولاية إلا بعد حصول مرتبة جمع الجمع الذي يزيل تفرقة بالكلية بحيث لا تشغله الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة (حتّى بلّغها) بتشديد اللام أي حتى بلغ الرسالة بعد ما بلغ تلك الحالة، (حكاه الماورديّ) من علماء الظاهر وهو ممن تفقه على أبي حامد الاسفراييني وصنف في الفقه والتفسير والأصول توفي سنة خمسين وأربعمائة وهو أبو الحسن بن علي بن حبيب الشافعي (والسّلميّ) من علماء الباطن وهو أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن حبيب الكوفي سمع عليا وأبا موسى وغيرهما توفي في زمن بشر بن مروان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 بالكوفة سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وهو بضم السين وفتح اللام منسوب إلى سليم كذا ذكره التلمساني وهو غير صحيح فإنه متناقض الآخر والأول فتأمل والصواب ما ذكره الحلبي بقوله هو أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم مولده سنة ثلاثين وثلاثمائة وتوفي في شعبان سنة اثنتي عشرة وأربعمائة له ترجمة في الميزان، (وقيل عصمناك) أي حفظناك من ارتكاب الذنوب في فعلك (ولولا ذلك) أي عصمتنا لك (لأثقلت الذّنوب ظهرك) وهذا معنى بديع (حكاه السّمرقنديّ) أي أبو الليث وبقي قوله تعالى، (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْحِ: 4] قَالَ يَحْيَى بْنُ آدم) أي ابن سليمان الأموي مولاهم الكوفي أحد الأعلام أخرج له أصحاب الكتب الستة توفي سنة ثلاث ومائتين: (بالنبوّة) أي ورفعنا ذكرك بسبب النبوة بين الملائكة أو بالنبوة المقرونة بالرسالة بين جميع الأمة أو بالنبوة الروحانية المختصة قبل خلقة آدم بين أرواح المرسلين والملائكة المقربين، (وقيل) أي في معناه (إذا ذكرت ذكرت معي) وسيأتي أن هذا حديث مرفوع قيل، (في قوله) كذا بالإضافة إلى الضمير أي في قول القائل والأظهر أن يقال في قوله: ( «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» ) كما في نسخة وهو مجرور كما هو ظاهر وأغرب الحلبي حيث تبع ضبط بعضهم بالرفع وحاول وجهه بما لا طائل تحته ولعله مبني على أنه وجد في نسخة قول بلا حرف الجر. (وقيل في الأذان) والأول أعم ولا يبعد أن يقال المراد برفع ذكره أنه جعل ذكره ذكره كما جعل طاعته طاعته ولا مقام فوق هذا في الرتبة وهو تشبيه بليغ يمنع الاتحاد القائل به أهل الإلحاد، (قال الفقيه القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) أي المصنف (هذا) أي ما ذكر في هذه السورة من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر (تقرير) أي تثبيت وتمهيد (من الله جلّ اسمه) أي عظم اسمه فضلا عن مسماه (لنبيّه صلى الله تعالى عليه وسلم على عظيم نعمه لديه) أي دال على عظمة نعمته السابقة الظاهرة والباطنة عنده سبحانه وتعالى (وشريف منزلته) أي قربه ومرتبته، (عنده) أي عنديته المعبر بها عن المكانة (وكرامته) أي وعلى شريف إكرامه وإعظامه (عليه) سبحانه وتعالى، (بأن شرح قلبه للإيمان) أي الكامل الإيقان (والهداية) أي الموصلة إلى مقام الإحسان أو هداية أفراد الإنسان إلى مراتب حقائق الإيمان (ووسّعه) بتشديد السين أي وجعل قلبه وسيعا (لوعي العلم) أي حفظه، (وحمل الحكمة) أي وتحمل ما يحكم العلم به من أمر النبوة (ورفع عنه صلى الله عليه وسلّم ثقل أمور الجاهليّة عليه وبغّضه) بتشديد الغين المعجمة أي جعله مبغوضا (لسيرها) بكسر ففتح جمع سيرة والضمير إلى الجاهلية أي لقواعدها وكان الظاهر أن يقول وبعض سيرها له ولعله من باب القلب على قصد المبالغة وأما ما ضبط بصيغة المصدر في بعض النسخ فلا وجه له أصلا لا نوعا ولا فصلا (وما كانت) عطف على سيرها أي ولما كانت الجاهلية (عليه بظهور دينه) متعلق برفع أي بغلبة أمر دينه وتعليته (على الدّين كلّه) أي على الأديان جميعها، (وحطّ) أي وضع الله (عنه عهدة أعباء الرّسالة، والنّبوّة) أي تكليف ثقلهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وحملهما وهو الجمع بينهما بالأخذ عن الحق وهو مرتبة النبوة والإيصال إلى الخلق وهو منزلة الرسالة وهو أمر صعب إلا لمن وفقه الله تعالى وقواه ومنه قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا والاعباء بفتح الهمزة جمع عبء بكسر فسكون فهمز (لتبليغه) باللام وفي نسخة بالباء وما لهما واحد إذ اللام تعليلية والباء سببية أي لإبلاغه صلى الله تعالى عليه وسلم (للنّاس ما نزّل إليهم) أي متلوا كان أو غيره من أمر ونهي ووعد ووعيد وهذا مقتبس من قوله تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (وتنويهه) أي ولرفعه قدره المشعر (بعظيم مكانه) أي مكانته وشأنه (وجليل رتبته) أي عظيم مرتبته (ورفعة) أي ولرفع الله (ذكره) وفي نسخة ورفعة ذكره ويروى ورفيع ذكره، (وقرانه) أي ولجمع الله أي في كلامه بأمره وحكمه (مَعَ اسْمِهِ اسْمَهُ قَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللَّهُ ذكره في الدّنيا والآخرة) أي رفعة حسية ومعنوية (فليس خطيب) أي فوق منبر (ولا متشهّد) أي عند إيجاب الإيمان أو تجديد الإيقان، (ولا صاحب صلاة) أي في قعدة أخيرة (إِلَّا يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وأنّ محمّدا رسول الله) أو عبده ورسوله وأن الأولى مخففة من المثقلة. (وروى أبو سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه) كما في صحيح ابن حبان ومسند أبي يعلى (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فقال إنّ ربّي وربّك يقول تدري) أي أتدري كما في نسخة صحيحة (كيف رفعت ذكرك) وفي نسخة فقلت: (الله ورسوله أعلم) الظاهر أن قوله ورسوله سهو قلم وإن وقع في نسخة زيادة يعني جبريل فإنه لا يلائم المقام، (قال) أي الله سبحانه وتعالى: (إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ) هو أبو العباس أحمد ابن محمد بن سهل بن عطاء الآدمي الزاهد البغدادي أحد مشايخ الصوفية بالعراق كان قانتا مجتهدا في العبادة لا ينام من الليل إلا ساعتين ويختم القرآن في كل يوم وله أحوال ومعارف وكرامات سنية مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة كذا ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني والحاصل أنه قال معنى رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ: (جعلت تمام الإيمان بذكري معك) وفي نسخة بذكرك معي وهو الأظهر فلا يصح ولا يعتد به شرعا ما لم يتلفظ بكلمتيه إقرارا بحقية وحدانيته تعالى وحقية رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم بناء على اشتراط التلفظ بهما في صحته من قادر وبه قال الجمهور والحق إن اشتراطه مع إظهاره إنما هو لإجراء أحكام الإسلام عليه في الدنيا من عصمة دمه وماله ونحو ذلك فمن آمن بقلبه ولم يتلفظ بهما نفعه إيمانه عند الله تعالى وكان تاركا للأفضل كذا ذكره الدلجي وفيه أبحاث ليس هنا محلها، (وقال) أي ابن عطاء: (أيضا جعلتك ذكرا من ذكري) أي نوع ذكر من أذكاري، (فمن ذكرك ذكرني) أي فكأنه ذكرني وهو قريب مما قدمناه. (وقال جعفر بن محمّد الصّادق) بالرفع (لا يذكرك أحد بالرّسالة) أي بالإرسال للعبودية (إلّا ذكرني بالرّبوبيّة) أي وبتوحيد الألوهية، (وأشار بعضهم) كالماوردي (بذلك) أي بقوله وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (إلى مقام الشّفاعة) فإنه يظهر رفعته في تلك الحالة على جميع البرية ثم لا منع من إرادة الجمع، (ومن ذكره) جار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ومجرور مضاف (معه تعالى) أي مع ذكره، (أن قرن) بفتح أن المصدرية (طاعته) صلى الله تعالى عليه وسلم، (بطاعته) سبحانه وتعالى (واسمه باسمه فقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) وكان الأظهر أن يقال وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول كما في نسخة. (وآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحديد: 7] ) وربما يقال الآية الأولى هي الأولى للدلالة على الاتحاد في المدعي بحسب المعنى. (فجمع بينهما) أي من غير إعادة العامل (بواو العطف المشرّكة) بتشديد الراء وفي نسخة بتخفيفها أي الجاعلة للمعطوف اشتراكا في المعطوف عليه بالنسبة إلى الفعل المسند إليه وهو لا ينافي أن بينهما تفاوتا في المرتبة حيث إن الإيمان بالله يقتضي الأصالة والإيمان برسوله يوجب التبعية، (وَلَا يَجُوزُ جَمْعُ هَذَا الْكَلَامِ فِي غَيْرِ حقّه) أي في حق أحد غير حقه (عليه الصلاة والسلام) أي ممن لا يكون في مرتبته من وجوب الإيمان والإسلام وإلا فيقال آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأمثاله وكان الأظهر أن يقال ولا يجوز لأحد غير الله سبحانه وتعالى أن يجمع هذا الجمع في الكلام كما يدل عليه استدلاله بالأحاديث الواردة عنه عليه الصلاة والسلام حيث قَالَ (حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ محمّد الجيّانيّ) بفتح الجيم وتشديد التحتية نسبة إلى بلدة بالأندلس مات سنة ثمان وتسعين وأربعمائة له كتب مفيدة في تقييد الألفاظ وغيرها (الحافظ) وهو في اصطلاح المحدثين من أحاط علمه بمائة ألف حديث (فيما أجازنيه وقرأته على الثّقة) بكسر المثلثة وهو المعتمد وهو أبو علي بن سكرة الصدفي أو غيره من مشايخه (عنه) مرويا عن الجياني وقد أجاز وكان يمكنه السماع منه (قال) أي الجياني في الإجازة أو الراوي عنه في القراءة (أنبأنا أبو عمر النّمريّ) بفتحتين وقد سبق أنه الحافظ ابن عبد البر، (قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ. قال حدّثنا أبو بكر بن داسة) سبق ذكره، (حدّثنا أبو داود السّجزيّ) بكسر مهملة وسكون جيم فزاي نسبة إلى سجستان بكسر أوله وقيل بفتحه على غير قياس وهو إقليم ذو مدائن بين خراسان والسند وكرمان. (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الباهلي (الطّيالسيّ) أخرج له الجماعة الستة قال أحمد هو اليوم شيخ الإسلام مات سنة سبع وعشرين ومائتين، (حدّثنا شعبة) هو ابن الحجاج سمع كثيرا من التابعين ومات سنة ومائة وستين (عن منصور) أي ابن المعتمر أبو عتاب السلمي توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة (عن عبد الله بن يسار) بتحتية مفتوحة وسين مهملة هذا هو الجهني الكوفي أخرج له أبو داود والنسائي وهو أخو سليمان وسعيد توفي عام إحدى وثلاثين ومائة (عن حذيفة رضي الله عنه) أي ابن اليمان (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أسنده المصنف هنا من طريق أبو داود ورواه أيضا النسائي وابن أبي شيبة: (قَالَ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، وشاء فلان) أي مع إعادة الفعل بصريحه فكيف مع حذفه وتقديره لتوهم الاشتراك في معية المشيئة وإن كانت الواو مفيدة لمطلق الجمع والاشتراك لا شك أنه من الاشراك وفلان يشمل جميع الخلق ولو من الأنبياء والأصفياء، (ولكن) أي يجوز له أن يقول (ما شاء الله ثمّ شاء فلان) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 على ما في الأصول المصححة أي متابعة لمشيئة وموافقة لإرادته لأن للمشيئة ولو تأخرت تأثيرا في قضيته فإن ما شاء الله كان سواء شاء أو أبى فلان وما لم يشأ لم يكن سواء شاء أو ما شاء فلان مع أن العبد لم يكن له مشيئة إلا بعد تعلق مشيئة الله بمشيئته كما قال سبحانه وتعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ. (قال الخطّابيّ) بفتح معجمة وتشديد مهملة هو الإمام الحافظ أبو سليمان البستي نسبة إلى جده ويقال إنه من سلالة زيد بن الخطاب كان إماما كبيرا تفقه على القفال وغيره توفي ببست سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة: (أرشدهم صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الأدب) أي الواجب مراعاته من جهة الرب (فِي تَقْدِيمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَشِيئَةِ من سواه، واختارها) قال الحجازي ويروى واختازها بمهملة وزاء والظاهر انه تصحيف أي واختار العبارة في تغييرها لتعبيرها (بثمّ التي هي للنّسق) بفتحتين أي للعطف بالترتيب (والتّراخي) أي المهلة في الوجود والرتبة (بخلاف الواو التي هي للاشتراك) وهو قد يكون بالمعية والقبلية والبعدية وبخلاف الفاء التعقيبية، (ومثله) أي مثل الحديث المتقدم في النهي (الْحَدِيثُ الْآخَرُ: أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) قيل هو ثابت ابن قيس بن شماس. (فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ) بفتحهما وبكسر الثاني بمعنى اهتدى، (ومن يعصهما) أي فقد غوى كما في نسخة صحيحة أي ضل عن طريق الهدى. (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ قُمْ) أي من هذا المجلس (أو قال اذهب) أي فإنك قليل الأدب والحديث أخرجه النسائي في اليوم والليلة وأبو داود في الأدب ورواه مسلم أيضا (قال أبو سليمان) أي الخطابي: (كره) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (منه) أي من الخطيب (الجمع بين الاسمين بحرف الكناية) مأخوذة من الكن وهو الستر وهو تعبير كوفي بمعنى الضمير المأخوذ من الضمور والضمار الذي هو الخفاء ويقابلها الظهور والظاهر وهو ضد المضمر وهو تعبير بضري (لما فيه) أي في الجمع بينهما بالكناية (من التّسوية) أي توهمها المقتضي للشركة بينهما وفيه أن توهم التسوية موجود ظاهرا في المظهر أيضا مع أن إطاعتهما وعصيانهما متلازمان في ترتب الهداية والغواية كما يشير إليه قوله تعالى وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ بإفراد الضمير الشامل لكل منهما وإن كانت رتبته تعالى أجل وأعظم من أن تقابل بمرتبة مخلوق وإن كان تشرف وتكرم ولذا قال النووي والصواب أن سبب النهي والذم هو أن الخطيب شأنه الإيضاح واجتناب الرمز والإشارة لا كراهة الجمع بين الاسمين بالكناية لأنه ورد في مواضع منها قوله عليه الصلاة والسلام أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سواهما ومما يقوي كلام النووي أن كلام الخطيب جملتان مستقلتان، (وذهب غيره) أي غير الخطابي وأراد بعضهم (إلى أنّه إنّما كره له الوقوف) أي التوقف (على يعصهما) لو صح هذا الوقف سواء أتى بعده بقوله فقد غوى أو اقتصر اكتفاء بما يعرف من الد فإنه مقصر لا محالة لعدم تمام الكلام ونظام المرام ووجود الإيهام، (وقول أبي سليمان) أي الخطابي (أصحّ) أي من قول القائل السابق (لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يعصهما فقد غوى، ولم يذكر) في هذا الحديث (الوقوف على يعصهما) وأنت قد عرفت الاحتمالين ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والاثبات مقدم على النفي، (وقد اختلف المفسّرون) للقرآن، (وأصحاب المعاني) أي من أرباب البيان (في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ) الأكثر على النصب عطفا على اسم إن (يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] هل يصلّون) أي جملتها باعتبار كنايته العائدة (راجعة على الله تعالى والملائكة جميعا) وخبر عنهم مشركة بينهم في ضمير واحد (أم لا) أي بل هي راجعة إلى الملائكة فقط ويقدر لله عامل آخر لتغاير الصلاتين (فأجازه بعضهم) أي ممن قال بالجمع بين المعنيين المشتركين في إطلاق واحد فإن الصلاة من الله تعالى أنزل الرحمة ومن الملائكة الاستغفار والدعوة ومنهم الشافعي وأتباعه، (ومنعه آخرون) أي منع رجوعها إليهم (لعلّة التّشريك) أي بين المعنيين ومنهم أبو حنيفة وأشياعه أو لأجل توهم الاشتراك في العقل وأجازه الأولون لظهور المغايرة عند أرباب العقل ونهى الخطيب إنما كان لترك الأدب الذي هو كما مر شأن الخطبة من الإيضاح واجتناب الرمز (وخصّوا) أي البعض الآخرون (الضّمير) أي في يصلون (بالملائكة وتَقْدِرُوا الآية) أي هكذا (إنّ الله يصلّي، وملائكته يصلّون) أي وجعلوا خبر الثاني دليلا على خبر الأول كما في نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف والمحققون يجعلونه من باب عموم المجاز ويقولون التقدير أن الله وملائكته يعظمون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كل بما يناسبه من أنواع التعظيم وأصناف التكريم والأولى عندي أن يقال الضمير راجع إلى الكل والمعنى يثنون عليه فالله تعالى عند الملائكة المقربين وفي كتابه المبين وعلى لسان جبريل الأمين والملائكة فيما بينهم لا سيما إذا قلنا إنه أيضا مبعوث إليهم فيجب حينئذ تعظيمه لديهم وثناؤه عليهم وهذا المعنى لغوي حقيقي على ما ذكره صاحب القاموس من أن الصلاة هي الرحمة والدعاء والاستغفار وحسن الثناء هذا وقراءة ابن عباس ورويت عن أبي عمرو وملائكته بالرفع إما عطفا على محل اسم ان أو مبتدأ خبره محذوف وهو مذهب البصريين. (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قال الدلجي ولم أدر من رواه (أنّه قال) أي مخاطبا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (من فضيلتك عند الله تعالى) أي من جملة فضائلك في حكمه (أن جعل طاعتك طاعته، فقد قال تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وقد قال تعالى) الظاهر أنه ليس من قول عمر وعطفه عليه لقربه منه معنى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] الآيتين) يعني وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فالآية الثانية تدل على ما تقدم من أن إطاعة الرسول كإطاعة الله وقوله فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا أو تعرضوا عن كل من إطاعة الله وإطاعة الرسول فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 بالإعراض عن طريق المؤمنين المطيعين وأما الآية الأولى فهي في رتبة مقام المحبوبية أولى حيث جعل متابعة حبيبه شرطا لتحقق محبته ثم رتب على محبته المقرونة باتباعه محبة ثانية مجازاة من الله سبحانه وتعالى على محبتهم فمتابعتهم له محفوفة بمحبتين لله سابقة ولا حقة أزلية وأبدية علمية وتنجزيه بل المحبة الأولية هي التي أوجبت المحبة الآخرية كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ والحاصل أنه تعالى سد باب المحبة على جميع الخلق إلا بملازمة باب الحبيب ومتابعة آداب الطبيب الجامع بين مرتبة المحبة والمحبوبية والمريدية والمرادية والطالبية والمطلوبية والسالكية والمجذوبية فأبواب أرباب الهدى سدت السدى ومن جاء هذا الباب لا يخشى الردى ثم المحبة ميل نفس إلى ما فيه كمال يحملها على ما يقرب إليه فإذا علم العبد أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله وإن كل كمال في نفسه أو غيره إنما هو من الله وبه وإليه لم يكن حبه إلا له تعالى وفيه تعالى وذلك يدعو إلى طاعته المستلزمة لطاعة رسوله ولكونها بالإرادات أشد منها بالإدراكات فسرت بإرادة طاعته والتحرز عن معصيته ومحبته تعالى لعباده إرادة هدايتهم وتوفيقهم في الدنيا وحسن ثوابهم في الآخرى والعقبي. (وروي) أي عن جماعة كابن المنذر عن مجاهد وقتادة (أنّه لمّا نزلت هذه الآية) أي قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، (قالوا) أي بعض الكفار (إنّ محمّدا يريد أن يتّخذه حنانا) أي ربا ذا رحمة (كما اتّخذت النّصارى عيسى حنانا) ومنه قوله تعالى وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وقيل محببا وقيل متمسحا به ومنه قول ورقة بن نوفل حين مر ببلال وهو يعذب والله لئن قتلتموه لاتخذته حنانا أي لأجعلن قبره موضع حنان أي مظنة رحمة من الله فاتمسح به متبركا كما يتمسح بقبور الصالحين الذين قتلوا في سبيل الله من الأمم الماضية فيرجع ذلك عارا عليكم ومسبة عند الناس راجعة إليكم، (فأنزل الله عز وجل) أي بعد تلك الْآيَةَ (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آلِ عِمْرَانَ: 32] ) تأكيدا للمتابعة (فقرن طاعته بطاعته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تعظيما لقدره وتشريفا لأمره، (رغما لهم) بفتح الراء وهو الأشهر أي غيظا لألوفهم وكرها لألوفهم ففي القاموس الرغم الكره ويثلث وأصل هذه الكلمة من الرغام وهو التراب يقال رغم أنفه بالكسر إذا لصق بالرغام فالمعنى إلصاقا لأنوفهم بالتراب جزاء لأنفتهم من ملازمة هذا الباب ومتابعة هذا الجناب على وفق الكتاب وآداب رب الأرباب لأولي الألباب، (وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى في أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل الكتاب المشتمل على إجمال جميع الأبواب من الثناء على الله والتعبد له والاستعانة به وطلب الهداية إليه والوعد والوعيد منه وهو سورة الفاتحة الخاتمة (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا أولى ما قيل في الآية وهو صلى الله تعالى عليه وسلم يدخل فيه دخولا أوليا بلا مرية (فقال أبو العالية، والحسن البصريّ) أما الحسن بن أبي الحسن البصري فقد تقدمت ترجمته مجملة وأما أبو العالية فهما اثنان تابعيان من أهل البصرة فأحدهما أبو العالية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الرياحي بكسر الراء وبالتحتية واسمه رفيع بن مهران اسلم بعد عامين من موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم روى عن عمر وأبي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم وروى عنه قتادة وغيره أخرج له الجماعة توفي سنة تسعين والثاني أبو العالية البراء بفتح موحدة وتشديد راء بعده همزة واسمه زياد يروي عن ابن عباس وغيره وروى عنه أيوب السجستاني وغيره أخرج له الشيخان والنسائي والثاني بالكنية أشهر والمراد هنا الأول وله تفسير وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعظمه ويجلسه معه على السرير ويفرش تحته: (الصّراط المستقيم) بالنصب على الحكاية وهو أولى من الرفع المبني على الإعراب بالابتدائية (هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخيار أهل بيته، وأصحابه) بشهادة حديث خير القرون قرني وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ولا يخفى أنه لا يصح الحمل إلا بتقدير وهو طريق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وخيار اتباعه أو يحمل عليه مبالغة كرجل عدل فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم واتباعه لكمال اتباعه عين الطريق في عالم التحقيق فإن من المعلوم أنه ليس هناك صراط حسي فليس المراد إلا أنه طريق معنوي فمن تبعه أوصله إلى مطلوبه وبلغه إلى محبوبه، (حكاه) أي روى هذا التفسير (عنهما أبو الحسن الماورديّ) تقدم ذكره أي عن أبي العالية والحسن ورواه في المستدرك عن أبي العالية وصححه، (وحكى مكّيّ عنهما نحوه) أي بمعناه لا بلفظه ومكي هذا هو أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي أصله من القيروان وانتقل إلى الأندلس وسكن قرطبة وهو من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية كثير التأليف في علم القرآن توفي سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بقرطبة، (وقال) أي مكي (هو رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَاحِبَاهُ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ الله عنهما) ولعل وجه تخصيصهما أنهما مما اتفق الامة على حقيقتهما وجلالتهما وعلى ثبوت احكامهما بمحضر بقية الصحابة في مجالسهما فكان أقوالهما وأفعالهما بمنزلة الإجماع التقريري أو السكوتي بخلاف من بعدهما فإنه وقع الاختلاف في أمورهم من حيث تنكير بعض الصحابة وتقرير آخرين منهم في شأنهم ولا عبرة بطعن كلاب أهل النار من المبتدعة الرافضة طريق الابرار الخارجة عن الصراط المستقيم والدين القويم، (وحكى أبو اللّيث السّمرقنديّ مثله) أي مثل المحكي السابق في الصراط المستقيم عن المكي راويا له (عن أبي العالية في قوله عز وجل) أي تفسير قوله (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي أنه رسول الله وصاحباه ومآلهما واحد لأن الثاني بدل او عطف بيان للأول (قال) أي أبو الليث (فبلغ ذلك) أي فوصل تفسير أبي العالية هذا (الحسن) أي البصري من عاصم، (فقال صدق والله) أي في البيان (ونصح) أي الأمة في هذا التبيان (وحكى الماورديّ ذلك) أي القول المذكور (في تفسير صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ عن عبد الرّحمن بن زيد) أي ابن اسلم المدني روى عن أبيه وابن المنكدر وعنه أصبغ وقتيبة وهشام ضعفوه له تفسير وقد أخرج له الترمذي وابن ماجه ووالده زيد يروي عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 البخاري بواسطة، (وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ) أي بعض العارفين (في تفسير قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) أي تمسك (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [لقمان: 22] إنّه) أي العروة الوثقى وتذكيره باعتبار خبره وهو (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) إذ من وثق به نجا ومن تبعه اهتدى (وقيل) أي المراد بالعروة (الإسلام، وقيل شهادة التّوحيد) والمآل متحد عباراتنا شتى وحسنك واحد. (وقال سهل) أي التستري (في قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] . قال) أي سهل (نعمته بمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) ويروى نعمته محمد عليه الصلاة والسلام والأول هو الصحيح لعدم صحة الحمل في الثاني اللهم إلا أن يقال التقدير نعمته نعمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والإضافة إلى الجلالة نظرا إلى الحقيقة والأصالة والمراد بنعمته إنعامه به علينا إذ إنعامه أصل النعم لصدورها عنه فائضة علينا لا يحصى عد أنواعها إجمالا فضلا عن إفرادها تفصيلا، (وقال تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) أي بالحق المطابق للواقع (وَصَدَّقَ بِهِ) أي جمع بين مجيء الصدق واتيان التصديق (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33] ) أي في التحقيق وجمع المشار إليه بالنظر إلى أن معنى الموصول الجنس المفيد للعموم فالمراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والجمع من حيث إنه الفرد الأكمل للتعظيم أو المراد هو وأمته وهذا أظهر في باب التكريم (الآيتين) فيه أن البقية ليس لها دخل في القضية (أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هو محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لأن الكلام فيه والمراد هو وحده أو ومن معه من الأنبياء أو وأمته من الأصفياء، (وقال بعضهم: وهو الذي صدق به) وهو الظاهر لعدم إعادة الموصول، (وقرىء صدق بالتّخفيف) وهو يؤيد أنه هو الذي صدق به لأن الثاني متعين فيه، (وقال غيرهم الّذي صدّق به المؤمنون) وفيه اشعار بتقدير الموصول وهو جائز عند بعض أرباب الأصول، (وقيل أبو بكر رضي الله تعالى عنه) أي وأتباعه أو جمع لتعظيمه، (وقيل عليّ رضي الله تعالى عنه) أي وأتباعه وأشياعه أو جمع لتكريمه والأظهر أن تفسير الجمع بينهما لإرادة أمثالهما وخصا بالذكر لأنهما أول من وقع منه التصديق على خلاف بين المرتضى والصديق، (وقيل غير هذا من الأقوال) ومن جملتها ما أشرنا إليه في سابق الحال. (وعن مجاهد رضي الله عنه) أي ابن جبير بفتح جيم فسكون موحدة وقيل جبير بالتصغير روى عن أبي هريرة وابن عباس وعنه قتادة وابن عون كان إماما في القراءة والتفسير حجة في الحديث قال كان ابن عمر يأخذ لي بركابي ويسوي على ثيابي إذا ركبت قيل إنه رأى هاروت وماروت وكاد يتلف أخرج له الستة (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] قال بمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه) أي بما يذكر ويروى عنه وعن أصحابه لما يفيد من الدلالات اليقينية والإفادات العلمية في الأمور الشرعية مما تطمئن به القلوب وتسكن به النفوس أو بمجرد ذكره وذكر أصحابه فإن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة وعند نزول الرحمة يحصل للقلوب الاطمئنان والسكينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الفصل الثّاني [في وصفه تعالى بالشهادة وما تعلق به من الثناء والكرامة] (في وصفه تعالى له) وفي نسخة في وصفه له تعالى وهو خطأ فاحش (بالشّهادة، وما يتعلّق بها من الثّناء والمدح والكرامة) المراد بالشهادة شهادته صلى الله تعالى عليه وسلم بالتزكية للأمة أو بالتبليغ للأنبياء في موقف القيامة بناء على الاحتمالين المفهومين من قَوْلُهُ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً وقوله وما يتعلق به أي بوصفه فهو تعميم بعد تخصيص ببعضه وفي نسخة صحيحة وما يتعلق بها والمتبادر أنها ترجع إلى الشهادة والتحقيق أنها لمعنى ما المبين بما بعدها (قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي على من بعثت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالهم يوم القيامة أو شاهدا لله بالوحدانية أو مشاهدا له بالصمدانية (وَمُبَشِّراً) أي للمؤمنين بالجنة والوصلة (وَنَذِيراً [الأحزاب: 45] ) أي منذرا ومخوفا للكافرين بالحرقة والفرقة ولعل وجه العدول عن منذرا إلى نذيرا مراعاة للفاصلة أو تفنن في العبارة ولذا لم يقل بشيرا مع أنه بمعنى مبشر (الآية) وتمامها وداعيا إلى الله أي إلى الإقرار به وبتوحيده بإذنه أي بتيسيره أو بأمره وهو قيد لجميع ما تقدم لا للدعوة وحدها كما يستفاد من البيضاوي والله تعالى أعلم وَسِراجاً مُنِيراً أي يستضاء به من ظلمات الجهالة ويقتبس من نوره ما يتخلص به عن الضلالة (جمع الله تعالى له في هذه الآية) أي بعد ما تعلق به عين العناية وتحقق له كمال الرعاية (ضروبا) أي أنواعا وأصنافا (من رتب الأثرة) بضم الراء وفتح ثاء جمع رتبة بمعنى المنزلة والمرتبة المخصوصة والأثرة محركة وبضم وبالكسر ما يستأثر به على غيره والأثرة بالضم المكرمة المتواترة كالمأثرة على ما في القاموس وقال النووي بالفتحتين هو الأفصح، (وجملة أوصاف) أي وجمع له نعوتا مجملة أو كثيرة (من المدحة) بكسر الميم أي الثناء والذكر الحسن وإذا فتحت الميم قلت المدح، (فجعله) أي الله تعالى (شاهدا على أمّته لنفسه) أي لذاته الشريفة (بإبلاغهم الرّسالة) من إضافة المصدر إلى مفعوله أي بإبلاغه إياهم ما يتعلق بأمر الرسالة (وهي) أي هذه الخصلة التي هي الشهادة لنفسه على الأمة بدون البينة (من خصائصه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حيث لم يجعل غيره شاهدا بنفسه لنفسه على أمته فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا جحدت أمتهم تبليغهم إياهم فشهدوا لأنفسهم به فإن الله تعالى يطالبهم بالبينة وهو أعلم فنشهد لهم به فتقول أممهم لنا بم عرفتم ذلك فنقول بإخبار الله تعالى لنا في كتابه فيسأل الله تعالى نبينا عنا فيزكينا بشهادة وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً الآية وكفى بها حاكما على كون الإجماع حجة، (ومبشّرا لأهل طاعته) أي بالثواب العظيم، (ونذيرا لأهل معصيته) أي بالعقاب الأليم، (وداعيا إلى توحيده، وعبادته) أي من الدين القويم وفي أصل الدلجي وداعيا إلى الله بإذنه على وفق الآية أي بتيسيره وتسهيله، (وَسِراجاً مُنِيراً) أي مضيئا (يهتدى به للحقّ) بصيغة المجهول أي يهتدي الخلق به إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الحق كما يمد بنور السراج نور الأبصار وإلى صراط مستقيم (حدّثنا الشّيخ أبو محمّد بن عتّاب رحمه الله) بفتح مهملة وتشديد فوقية فموحدة قال الحجازي ليس للقاضي عياض رواية عن محمد بن عتاب وإنما يروي عن أبي محمد بن عبد الله بن محمد بن عتاب انتهى وكذا قال التلمساني هو عبد الله بن محمد بن عتاب سمع منه القاضي في رحلته إلى الأندلس انتهى وقال العسقلاني هو مسند الأندلس في زمانه عبد الرحمن بن محمد بن عتاب القرطبي الأندلسي سمع من أبيه وكان واسع الرواية فأكثر عنه وعن حاتم بن محمد الطرابلسي وغيرهما وأجاز له جماعة من الكبار منهم مكي بن أبي طالب المقري وكان ابن عتاب عارفا بالقراآت ذكر الكثير من التفسير والعربية واللغة والفقه كريما متواضعا زاهدا ومات سنة عشرين وخمسمائة (حدّثنا أبو القاسم حاتم بن محمّد) أي ابن عبد الرحمن بن حاتم التميمي المعرف بابن الطرابلسي وقد قرأ عليه أبو علي الغساني صحيح البخاري مرات (حدّثنا أبو الحسن) أي علي بن محمد بن خلف المغافري الفروي (القابسيّ) بكسر الموحدة وإنما قيل القابسي لأن عمه كان يشد عمامته شدة أهل قابس توفي سنة ثلاث وأربعمائة بمدينة القيروان ودفن بباب تونس، (حدّثنا أبو زيد المروزيّ) وهو محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد الإمام البارع المحقق النحرير المدقق الزاهد العابد المجمع على جلالته وعظمته قال الحاكم جاور بمكة وحدث بها وببغداد بصحيح البخاري عن الفربري وهو أجل الروايات بجلالة أبي زيد توفي بمرو سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، (حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بتثليث السين وبالهمزة والإبدال كيونس وهو ابن مطر بن صالح ابن بشر ابن إبراهيم الفربري وكان ثقة ورعا توفي سنة عشرين وثلاثمائة قال أبو نصر الكلابادي كان سماعه لهذا الكتاب يعني صحيح البخاري من محمد بن إسماعيل البخاري مرتين مرة بفربر سنة ثمان وأربعين ومائتين ومرة ببخارى سنة اثنتين وخمسين ومائتين انتهى وروي أنه قال سمعت الجامع بفربر في ثلاث سنين وفربر مدينة بخراسان بكسر الفاء أو بفتحها وفتح الراء الأولى فقيل الكسر أكثر وقيل الفتح أشهر، (قال حدّثنا البخاريّ) وهو أظهر من أن يذكر وهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وقد روى عنه الترمذي وابن خزيمة والصحيح أن النسائي لم يسمع منه وكان إماما حجة حافظا في الحديث والفقه مجتهدا من أفراد العالم مع دينه وورعه وتألفه ذهب بصره في صبا فرده الله تعالى عليه بدعاء أمه ومات يوم الفطر بعد الظهر سنة خمسين ومائتين، (حدّثنا محمّد بن سنان) بكسر السين مصروف وممنوع وهو أبو بكر العوني الباهلي البصري روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه، (حدّثنا فليح) بضم فاء وفتح لام وسكون تحتية تصغير فالح أو أفلح مرخما وهو ابن سليمان العدوي روى عن نافع وغيره وعنه جماعة وأخرج الأئمة الستة (حدّثنا هلال) أي ابن علي وهو هلال بن أبي ميمونة يروي عن أنس وعطاء بن يسار وأبي سلمة وعنه مالك وفليح وغيرهما أخرج له أصحاب الكتب الستة (عن عطاء بن يسار) بفتح تحتية وخفة مهملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وروى عن ميمونة وأبي زيد وأبي ذر وعدة وعنه زيد بن أسلم وشريك وخلق وكان من كبار التابعين وعلمائهم أخرج له الأئمة الستة، (قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العاص) اختلف في كتابته والجمهور كما قاله النووي على كتابته بالياء وهو الفصيح عند أهل العربية ويقع في كثير من كتب الحديث والفقه وأكثرها بخلاف الياء وهي لغة انتهى وقال ابن الصلاح في الإملاء على المسلسل بالأولية بقول كثير من أهل الضبط في حالة الوصل بالياء جريا على الجادة والمتداول على الألسنة والمشهور حذف الياء وهو مشكل على من استطرف من العربية ولم يوغل وربما أنكره ولا وجه لإنكاره فإنه لغة لبعض العرب شبه ما فيه الألف واللام بالمنون لما بينهما من التعاقب وبها قرأ عدة من القراء السبعة كما في قوله تعالى الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ وشبهه انتهى وقد اثبت ابن كثير ياء المتعال وصلا ووقفا والجمهور على حذفها في الحالين وأراد بشبهه التلاق والتناد فإن قالون بخلاف عنه وورشا وافقا ابن كثير في اثبات الياء وصلا لا وقفا والحاصل أن المنقوص لا خلاف في جواز حذف لامه في اسم الفاعل واثباته وإنما الكلام على أن العاص هل هو اسم الفاعل من عصى بمعنى مرتكب العصيان أو حامل العصا أو الضارب بها أو هو معتل العين فلا يكون من هذا الباب وحينئذ اثبات الياء فيه خلاف الصواب والذي اقتصر عليه صاحب القاموس حيث قال في الأجوف والأعياص من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر وهم العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص هذا وترجمة عبد الله مشهورة وفي الكتب المطولة مسطورة قيل بينه وبين أبيه عمرو في السن اثنتا عشرة وقيل إحدى عشرة سنة وقد أسلم قبل ابيه وأخرج البخاري هذا الحديث منفردا عن بقية أصحاب الكتب الستة في موضعين أحدهما في التفسير وثانيهما في البيوع وهو الذي ساقه القاضي أبو الفضل منه حيث قال (فقلت) وفي نسخة قُلْتُ (أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) قال الحلبي وقع في روايتنا أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في التوراة ولم يذكر ههنا القاضي يعني بل ذكره فيما سيأتي، (قال) أي ابن عمرو (أجل) أي نعم أخبرك فكان قوله أخبرني متضمنا لمعنى اتخبرني أو ألا تخبرني على ما هو مقتضى حسن الأدب في العبارة وإن كان الأمر أيضا هنا محمولا على الالتماس دون التحكم والإجبار (والله) قسم ورد ردا للمكذبين من اليهود والنصارى والمشركين (إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القرآن) وفيه إشعار بأنه حافظ للكتابين وأن ما يوجد في القرآن مع إيجازه وإعجازه أكثر مما يوجد في غيره من التوراة ونحوه وإيماء إلى أن اليهود حذفوا بعض صفاته من التوراة أو غيروا مبانيه أو معانيه قال الحلبي فإن قيل ما الحكمة في سؤال عطاء بن يسار لعبد الله بن عمرو عن صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة وهو قرشي سهمي قيل لأنه كان يحفظها وقد روى البزار من حديث ابن لهيعة عن وهب عنه انه رأى في المنام كان في إحدى يديه عسلا وفي الأخرى سمنا وكأنه يلعقهما فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وسلم فقال تقرأ الكتابين التوراة والقرآن فكان يقرأهما انتهى والظاهر أن العسل معبر بالقرآن حيث فيه شفاء للناس وإيماء إلى حلاوة الإيمان وإشعار بأنه أعلى وأغلى من الأدهان وأن الجمع بينهما نور في عالم الاتقان بالنسبة إلى أهل الإيقان (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) حال مقدرة من الكاف (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وهذا منصوص في القرآن ولعل معناه مذكور في التوراة. (وحرزا) أي حفظا أو حفظا (للأمّييّن) أي يمنعهم بهدايته إياهم من كل مكروه والأميون جمع الأمي وهو من لا يحسن الكتابة والقراءة نسبة إلى أمة العرب حيث كانوا لا يحسنونهما غالبا أو إلى الأم بمعنى أنه كما ولدته أمه وهذا المعنى مستفاد من القرآن حيث قال هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية وفي تخصيصهم تشريف لهم (أنت عبدي ورسولي) وهذا أيضا موجود في القرآن حيث أضافه بوصف العبدية والرسالة إليه سبحانه وتعالى، (سمّيتك المتوكّل) حيث قال وتوكل على الله أو لكونه رئيس المتوكلين في قوله سبحانه وتعالى وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (ليس، بفظّ) فيه التفات تنشيطا للسامع والمعنى ليس هو سيىء الخلق قليل التؤدة، (ولا غليظ) أي قاسي القلب قليل الرحمة كما قال سبحانه وتعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وأما تفسير الحلبي وغيره الغليظ بالشديد القول فلا يلائم مبنى الآية وإن كان شدة القول والجفاوة متفرعة على غلظ القلب والقساوة (ولا صخّاب) بصاد وتشديد معجمة وهو سخاب بالسين المهملة من السخب وهو لغة ربيعة بمعنى رفع الصوت وصيغته فعال للنسبة كتمار لأن المراد به نفيه مطلقا من غير قيد قليل وكثير وقوله (في الأسواق) قيد واقعي لأن الغالب أن يقع فيها ارتفاع الصوت للمخاصمة والمشاجرة على وفق المشاهدة أو احترازي فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يرفع صوته في التلاوة حال الإمامة وفي الموعظة حال الخطبة (ولا يدفع بالسّيّئة) أي منه (السّيّئة) أي الواصلة إليه من غيره مع أنه جائز لقوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وسميت الثانية سيئة للمشاكلة والمقابلة أو بالإضافة إلى التحمل والصبر كما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وهي مقابلة السيئة بالحسنة لكن الأفضل والأكمل ما قاله سبحانه وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي المقابلة بالإحسان وهذا طريق أهل العرفان (ولكن يعفو) أي ولكن يدفعها بالتي هي أحسن فكان يعفو أي عن الخطائين في الباطن (ويغفر) أي في الظاهر وكان حقه أن يقول ثم ويحسن إليهم على ما هو المتبادر مما سبق ومما يفهم من قوله تعالى وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ولذا حكي أن بعض الأكابر دخل عليه خادم بطعام حار فانكب على بدنه فقرأ الخادم وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال كظمت فقرأ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال عفوت فقرأ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال اعتقتك وقد وقع مثل هذا كثيرا في نعته صلى الله تعالى عليه وسلم حيث حلم على جفاوة الأعراب فيما اغلظوا له بالقول والفعل وأحسن إليهم بالمال الكثير، (ولن يقبضه الله حتّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 يقيم) أي الله (به) أي بسببه وببركته (الملّة العوجاء) أي غير المستقيمة لأن العرب غيرتها عن استقامتها فصارت كالعوجاء والمراد بها ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهي العادلة المائلة عن الأديان الباطلة إلى دين الحق الذي هو التوحيد المطلق كما أشار إليه بقوله، (بأن يقولوا لا إله إلّا الله) أي ومحمد رسول الله فهو من باب الاكتفاء أو من إطلاق الجزء وارادة الكل أو على أن الكلمة المذكورة هي علم للشهادتين ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة إذ من المعلوم أن اليهود والنصارى وأمثالهم يقولون لا إله إلا الله ولا تفيدهم هذه الكلمة من دون إقرارهم بأن محمدا رسول الله وفي الحديث إيماء إلى قوله سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (ويفتح) بالنصب عطفا على يقيم أو يقولوا (به أعينا) جمع عين (عميا) جمع أعمى، (وآذانا) بالمد جمع أذن (صمّا) جمع أصم، (وقلوبا غلفا) جمع أغلف والغلف غشاء القلب وغلافه المانع من قبول الحق ووصول الصدق وتعقل أمر المبدأ والمعاد كما أخبر الله تعالى عن أحوالهم بقوله صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ أي عن سماع الحق والنطق به وإدراكه ببصرهم فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي الحق ولا يعلمون الصدق ولعله لم يقل والسنة بكما لأنه يلزم من الصمم الأصلي البكم الفرعي والله أعلم، (وذكر مثله) بصيغة المجهول ولعل مثله مروي لابن عمر ولعطاء بن يسار كما في البخاري تعليقا وأسنده الدارمي (عن عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام وقيل مشدده ابن الحارث الإسرائيلي ثم الأنصاري الخزرجي الصحابي كان حليفا لبني الخزرج كنيته أبو يوسف بابنه وهو من ولد يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وكان اسمه في الجاهلية حصينا فسماه عليه الصلاة والسلام عبد الله أسلم أول قدمه عليه الصلاة والسلام المدينة ونزل في فضله قوله تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ على مثله وكذا قوله سبحانه وتعالى قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ شهد مع عمه فتح بيت القدس وشهد له صلى الله تعالى عليه وسلم بالجنة روى عنه ابناه محمد ويوسف وغيرهما توفي سنة ثلاث وأربعين أخرج له أصحاب الكتب الستة، (وكعب الأحبار) بالحاء المهملة وسبق بعض ترجمته والمعنى وذكر مثله أيضا عن كعب الأحبار فيما رواه الدارمي من طريق أبي واقد الليثي، (وفي بعض طرقه) أي طرق هذا الحديث (عن ابن إسحاق) كما رواه ابن أبي حاتم في تفسير سورة الفتح عن وهب بن منبه وفي بعض النسخ أبي إسحاق بالياء وهو تصحيف وصوابه بالنون وهو الإمام صاحب المغازي رأى عليا وأسامة والمغيرة بن شعبة وأنسا وروى عن عطاء والزهري وطبقته وعنه شعبة والحمادان والسفيانان وخلق وكان من بحور العلم صدوقا وله غرائب في سعة ما روى تستنكر واختلف في الاحتجاج به وحديثه حسن بل وفوق الحسن وقد صححه جماعة مات سنة إحدى وخمسين ومائة أخرج له البخاري في التاريخ ومسلم والأربعة في سننهم: (ولا صخب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بفتح فكسر على الوصف وسبق معناه ويفهم من بعض الحواشي أنه رفع الصوت في السوق فقوله (في الأسواق) للتأكيد أو لقصد التجريد، (ولا متزين بالفحش) بالضم أي ولا متجمل ولا متخلق ولا متصف بالقول الفاحش والفعل الفاحش قال الحجازي ويروى ولا متدين وكذا قال التلمساني بالدال من الدين وبالزاء من الزينة والظاهر أنه مصحف وإن تكلف له السيد قطب الدين عيسى بأن معناه لا يجعله دينا وطريقة انتهى ولا يخفى أنه لا يفيد نفي الفحش عنه بالكلية وهو المطلوب في المدحة الجلية وفي حاشية المنجاني ولا متزي بالفحش أي متصف به والزي غالبا إنما يكون في الأوصاف الحسنة وقد يجيء في خلافها وقرئ قوله تعالى هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً بالراء والزاي وعين زي واو وإنما قلبت واوها ياء لسكونها وانكسار ما قبلها وفيما تصرف منه من الأفعال لطلب الخفة والفحش البذاء بالمنطق وأصل الفحش في كل شيء الخروج عن المقدار والحد حتى يقبح وقيل نفى تزينه به عنه مع كونه لا يراه زينة إنما هو باعتبار كون أهله يرونه زينة وفخرا بشهادة أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، (ولا قوّال) بتشديد الواو (للخنا) بفتح الخاء المعجمة مقصور الكلام القبيح ومنه قول زهير شعر: إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا ... أصبت حليما او أصابك جاهل فهو من باب التخصيص بعد التعميم وفعال ليس للمبالغة بل للنسبة كما في قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ واللام في الحديث والآية لمجرد التقوية (أسدّده) قطعه عما قبله لكمال انقطاع بينهما لأنه حكاية عن صفات نفسية سلبية وهذا عن هبات إلهية ثبوتية أي أقيمه وأوفقه (لكلّ جميل) أي نعت جزيل، (وأهب له) بفتح الهاء أي أعطيه من فضلي (كلّ خلق كريم) أي مكارم الأخلاق المتعلقة بالخالق والمخلوق ولذا قال تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، (ثم أجعل) ويروى وأجعل (السّكينة) أي سكون القلب واطمئنانه ورزانة القالب ووقاره فهي فعيلة من السكون والكاف منها مخففة عند الكافة إلا ما حكاه القاضي في مشارق الأنوار عن الكسائي والفراء من جواز تشديدها قال المنجاني وهو نقل غريب وتدفع غرابته بجعل التشديد للمبالغة كما في السكيت والسكين ثم رأيت صاحب القاموس قال السكينة والسكينة بالكسر مشددة الطمأنينة وقرئ بهما في قوله تعالى فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي ما تسكنون به إذا أتاكم (لباسه) أي دثاره وهو مما يظهر آثاره، (والبرّ) أي الطاعة لله والإحسان بخلق الله (شعاره) بكسر أوله أي دأبه وعادته، (والتّقوى ضميره) أي في صدره كما في الحديث التقوى ههنا فيه إيماء إلى أن كمال التقوى محصور فيه، (والحكمة) أي العلمية والعملية (معقوله) أي بحيث يظهر وجه معقوله في مقوله وقال التلمساني الحكمة أي النبوة والعلم ومعقوله مكتومه وسره ولا يخفى خفاء أمره، (والصّدق) أي في المنطق (والوفاء) أي بالوعد (طبيعته) أي غريزته وجبلته التي لا يمكنه مخالفتها، (والعفو) أي عن الاساءة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 (والمعروف) أي الإحسان في محله شرعا وعرفا (خلقه) بالضم أي دأبه وعادته، (والعدل) أي في حكمه أو الاعتدال في حاله (سيرته) أي طريقته، (والحقّ) أي اظهاره (شريعته) أي دينه وملته (والهدى) بضم الهاء أي الهداية (إمامه) بكسر الهمزة أي قدوته مما يقتدى به في جميع حالاته وفي نسخة معتمدة بالفتح أي قدامه ونصب عينيه لا يتعدى منه ولا يميل عنه، (والإسلام) أي الاستسلام الظاهر والباطن (ملّته) أي دينه الذي يمليه ويقرره، (وأحمد اسمه) أي في التوراة والإنجيل وهو لا ينافي أن يكون له اسماء أخر بل فيه إيماء بأنه ابلغ الأسماء وذلك لإفادة المبالغة الزائدة التي لا توجد في غيره من الأبنية ولو كانت من هذه المادة كمحمد ومحمود فإنه بمعنى أحمد من كل حمد وحمد فله النسبة الجامعة بين كمال صفتي الحامدية والمحمودية المترتبة على جمال نعتي المحبة والمحبوبية فتأمل فإنها من الأسرار الخفية والأنوار الجلية (أهدي به) بفتح الهمزة أي أرشد الخلق بسببه (بعد الضّلالة) أي بعد تحقق حضور حصولها منهم أو بعد تعلق ثبوت وصولها بهم وفيه إيماء إلى أن ظلمة ضلالتهم لا ترتفع إلا بنور هدايته لهم مشيرا إلى الحديث القدسي والكلام الأنسي أن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه فقد غوى وارتدى ولا يبعد أن يكون المراد بعد ضلالته مشيرا إلى قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى أي جاهلا بالطريق أو عاشقا بالتحقيق (وأعلّم) بتشديد اللام المكسورة أي اجعل الناس ذوي معرفة (به) أي بالوحي وإنزال القرآن عليه (بعد الجهّالة) أي بعد ظهور زمان الجاهلية أيام الفترة أو بعد جهالته لقوله سبحانه وتعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ يعني تفصيله، (وأرفع به) أي ببركته رتبه هذه الأمة (بعد الخمالة) بفتح الخاء المعجمة بمعنى الخمول أي بعد أن لم يكن لهم ذكر وقدر وشأن وبرهان في الظاهر وإن كانوا في علم الله تعالى وفي اللوح خير أمة أو أرفع شأنه بتعليمنا إياه ببيانه بعد خمول ذكره وخفاء أمره كقوله تعالى وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، (وأسمّي به) بتشديد الميم والمكسورة كذا ضبطه الشراح ولا يبعد أن يجوز بتخفيف الميم أي أشهره بالمعرفة (بعد النّكرة) بضم النون (وأكثر به) من التكثير ويجوز من الإكثار أي أجعل الكثرة ببركته (بعد القلّة) أي في ماله وفي عدد اتباعه، (وأغني) من الاغناء أي أجعله غنيا أو أمته أغنياء (به) أي بنبوته وجهاده ورياضته وصبره على فاقته (بعد العيلة) بفتح العين وهي الفقر ومنه قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إن شاء، (وأجمع به بعد الفرقة) إيماء إلى قوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وهذا معنى قوله (وأؤلّف) أي أوقع الألفة والمودة (به بين قلوب مختلفة) أي في أغراض فاسدة، (وأهواء متشتّتة) أي آراء مبتدعة غير مجتمعة (وأمم متفرّقة) وجماعات من قبائل متباينة قال التلمساني وقع هنا بخط المصنف بتقديم التاء على الفاء من التفرق وبتقديم الفاء على التاء من الافتراق وهي نسخة العوفي، (وأجعل أمّته خير أمّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أخرجت للنّاس) كان حقه أن يقول به هنا أيضا لأن خيرية أمته إنما هي لأجل أفضلية نبوته بناء على الملازمة العادية لكن جعله سببا أولى من عكس القضية كما أشار صاحب البردة إلى هذه الزبدة بقوله: لما دعا الله داعينا لطاعته ... بأفضل الرسل كنا أفضل الأمم (وفي حديث آخر) رواه الدارمي عن كعب موقوفا والطبراني وأبو نعيم في دلائله عن ابن مسعود: (أخبرنا رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِفَتِهِ فِي التَّوْرَاةِ عَبْدِي) أي المخصوص عندي (أحمد المختار) أي على سائر الأخيار وفي نسخة بالجر فاللام للجنس الاستغراقي أي أحمد كل ما اخترته واصطفيته من الأنبياء والملائكة والأصفياء (مولده) أي مكان ولادته وظهور رسالته (بمكّة ومهاجره) بضم الميم وفتح الجيم أي موضع هجرته ومحل نقلته (بالمدينة) ليحصل للحرمين الشريفين بركته أولا وآخرا وباطنا وظاهرا وليكون زيادة البقعتين بمنزلة ابداء الشهادتين (أو قال طيبة) بفتح الطاء وهو اسم من اسماء المدينة كطابة والتقدير أنه قال بالمدينة أو بطيبة كما في نسخة فأو للشك في الاسم لا في المسمى وقد روي أن لها في التوراة أحد عشر اسما هذان منها وكانت قبل الإسلام تسمى بيثرب باسم رجل من العماليق قبيلة منسوبة إلى عملاق كان يسكنها فلما جاء الإسلام وسكنها عليه الصلاة والسلام كره له هذا الاسم لما فيه من لفظ التثريب فسماها طيبة وقد جاء في القرآن لفظ يثرب ولكن الله سبحانه وتعالى لم يسمها بذلك وإنما قاله حكاية عن الكفار والمنافقين وقال وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فارجعوا فنبه سبحانه وتعالى بما حكى عنهم أنهم قد رغبوا عن اسم سماها به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبوا إلا ما كانوا عليه من جاهليتهم وقد سماها الله سبحانه وتعالى المدينة بقوله ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم وقد روى في معنى قوله تعالى وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أنه المدينة وأن مخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار وقد ورد من سمى المدينة بيثرب فليستغفر الله وهي طابة رواه أحمد في مسنده عن البراء (أمّته الحمّادون لله) أي المبالغون في حمده سبحانه وتعالى تبعا لنبيهم أحمد فكما أنه أحمد الخلق فهم أحمد الأمم ومما يدل على كثرة حمدهم ودوام شكرهم تقييده بقوله (على كلّ حال) أي من السراء والضراء وفي حاشية المنجاني أمته الحمادون يحمدون الله على كل حال وفي رواية حماد بن سلمة عن كعب أنه قال وجدت في التوراة زيادة على هذا وهي يوضئون اطرافهم ويتزرون على انصافهم في قلوبهم اناجيلهم يصلون الصلاة لوقتها رهبان بالليل ليوث بالنهار ولم تزل اليهود بعد ما غيرت من صفات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تغار على ظهور شيء مما بقي فيها وتكتم أشد الكتم وقد أخرج أبي ابن شيبة عن عبد الله بن مسعود في مسنده أنه قال الله تعالى عز وجل ابتعث نبيه لإدخال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 رجل الجنة وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دخل كنيسة فإذا هو بيهود فإذا يهودي يقرأ التوراة فلما أتوا على صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمسكوا وكان في ناحيتها رجل مريض فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لكم أمسكتم فقال المريض إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا يعني على عادتهم أو لأجل حضورك عندهم قال ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة وقال للقارئ ارفع يدك فرفع يده فقرأ حتى أتى على صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي بكمالها فقال هذه صفتك وصفة أمتك ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لولا أخاكم وأخرج الواقدي في مصنفه مما يتعلق بصفات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال كان النعمان السابي حبرا من أحبار اليهود فلما سمع بذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قدم عليه فسأله عن أشياء قال إن أبي كان يختم على سفر ويقول لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه قال النعمان فلما سمعت بك فتحت السفر فإذا فيه ما يحل وما يحرم وإذا فيه إنك خير الأنبياء وأن أمتك خير الأمم واسمك أحمد وأمتك الحمادون قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم يتحنن عليهم تحنن الطير على فراخه ثم قال إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجب أن يسمع أصحابه حديثه فأتاه يوما فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يا نعمان حدثنا فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرؤي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتبسم وقال أشهد أني رسول الله والنعمان هذا هو الذي قتله الأسود العبسي وقطعه عضوا عضوا وهو يقول أشهد أن محمدا رسول الله وأنك مفتر كذاب على الله (وقال تعالى) أي في حق المتقين من المؤمنين (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ) أي الجامع بين مرتبة النبوة وهي أخذ الفيض من الحضرة بالحق المسمى بالولاية وبين مرتبة الرسالة وهي تبليغ الأحكام الشرعية إلى الخلق فهو برزخ جامع بين الاستفادة والإفادة وبين الكمال والتكميل الذي هو أعلى مقامات أرباب السعادة ولعل وجه تقديم الرسالة في الذكر مع تأخر تحققها في الوجود هو الاهتمام بنعت الرسالة أو الترتيب بحسب التدلي لا الترقي في المرتبة (الْأُمِّيَّ [الأعراف: 157] ) أي مع كونه عاريا عن الكتابة والقراءة السابقة الدالة على أن معارفه كلها من العلوم اللدنية والفتوحات العندية (الآيتين) أي اقرأ إلى آخر الآيتين الدالتين على نعوته الجلية وصفاته البهية وهو الذي يجدونه أي يصادفون نعته ويعلمون صفته مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وهما زبدة الكتب المنزلة على اليهود والنصارى يأمرهم بالمعروف استئناف مبين لأوصافه المكتوبة عندهم أو مطلقا أي يأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما يعرفه جميع أرباب المعرفة بالمنقولات ويستحسنه أرباب الطبيعة المستقيمة من أصحاب المعقولات حين يأمرهم بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وينهاهم عن المنكر أي جنس المنكرات شرعا وعرفا نقلا وعقلا ويحل لهم الطيبات أي الحلالات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والمستلذات ويحرم عليهم الخبائث أي المحرمات والمضرات ويضع عنهم أي عن من تبعه من اليهود والنصارى خصوصا إصرهم أي عهودهم الثقيلة التي أخذ عليهم العمل بها في التوراة من العبادات والرياضات والسياحات والأغلال التي كانت عليهم من التكاليف الشاقات كقطع الأعضاء الخاطئة وقرض مواضع النجاسات وتعين القصاص في العمد والخطأ وإحراق الغنائم وظهور الذنوب على أبواب فاعليها فالذين آمنوا به وعزروه أي عظموه في نفسه ونصروه على عدوه وأتبعوا النور الذي أنزل معه أي مع رسالته وهو القرآن أو الوحي الشامل للكتاب والسنة أولئك هم المفلحون الفائزون بالرحمة الأبدية قل يا أيها الناس أي الشامل لليهود والنصارى وغيرهم عامة أني رسول الله إليكم جميعا أي كافة بخلاف موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فإنهما كانا مبعوثين إلى بني إسرائيل خاصة ولعله من هنا قال عليه الصلاة والسلام ولو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي يعني لما كان هو وغيره كعيسى إلا اتباعي الذي له ملك السموات والأرض أي حيث يعم ملكه العلويات والسفليات شملت رسالته جميع الموجودات على ما بيناه في بعض المصنفات لا إله إلا هو فكأنه لا رسول له إلا هو فإنه لولا هو لما خلق غيره ولما وجد من يعرف معنى هو لا من حيثية مبناه ولا من طريقة معناه يُحْيِي وَيُمِيتُ بالإبقاء والإفناء وبالهداية والاغواء فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي تأكيد وتثبيت أو تبكيت لتوفقهم على الإيمان بمثل هذا النبي الذي يؤمن بالله إيمان مشاهدة وعيان ومراقبة وإيقان وكلماته وبجميع كلمات الله المنزلة على الأنبياء مجملة ومفصلة واتبعوه لأن متابعته تورث المحبة لعلكم تهتدون لكي تهتدوا ببركة متابعته إلى طريق محبته وآداب مودته. (وقد قال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ) قيل ما مزيدة للمبالغة والأظهر أنها مبهمة مفسرها رحمة والمعنى فبرحمة عظيمة ونعمة جسيمة كائنة (مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] ) أي تلطفت للخلق وتوجهت إليهم من الحق حيث وفقك للرفق وفيه إشارة خفية إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يريد الثبات على النبوة التي هي الولاية الخاصة الموجبة أن لا يغفل صاحبها عن الحضرة لحظة ولا لمحة مما يوجب التفرقة المانعة عن مقام الجمعية وأراد الله سبحانه وتعالى له الترقي إلى مقام جمع الجمع بحيث لا تحجبه الكثرة عن الوحدة ولا تمنعه الوحدة عن الكثرة وبهذا تبين أن مقام الرسالة أعلى مرتبة من ولاية الرسول المعبر عنها بالنبوة خلافا لمن توهم خلاف ذلك فقال الولاية خير من الرسالة وإن أول كلامه بأن المراد بالولاية النبوة لا جنس الولاية معللا بأن الولاية هي أخذ الفيض اللازم منه توجه صاحبه إلى الحق وأن الرسالة هي الإفادة بالإضافة المستلزمة للإقبال على الخلق فإنا نقول إذا استغرق في عين الجمع بحيث إنه فنى عن الجميع ولم يوجد في عين الشهود غيره موجود ولا في الدار غيره ديار فأنى يتصور منه الإقبال والإدبار وهذا بحر بلا قعر فيرجع إلى ساحل بلا وعر (الآية) وتمامها قوله وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا أي سيىء الخلق مع الخلق بناء على أن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 غليظ القلب أي شديدة بالعزلة عنهم لانفضوا من حولك أي تفرقوا عن مجلسك ولم يحصل لهم حظ من انسك فاعف عنهم ما صدر من الغفلة منهم واستغفر لهم فيما يختص بحق الله تعالى إتماما للشفقة عليهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ تلطفا بهم فَإِذا عَزَمْتَ بعد المشاورة أو الاستخارة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ولا تعتمد على ما سواه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ المعتمدين على ما قدره وقضاه فيهديهم إلى الصلاح وينصرهم بالنجاح والفلاح. (قال السّمرقندي ذكّرهم الله تعالى) وفي نسخة ذكر الله تعالى بتشديد الكاف (منّته) أي امتنانه وفي نسخة بنونين على صيغة الجمع لاشتمال هذه المنة على منن كثيرة (أنّه) أي سبحانه وتعالى (جعل) ويروى أن جعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، رحيما بالمؤمنين رؤوفا أي للمتقين فإن الرأفة أرق من الرحمة (ليّن الجانب) أي مع الأقارب والأجانب في جميع المراتب (ولو كان) أي بالفرض (فظّا) أي سيىء الخلق في الفعل (خشنا) أي غليظا (في القول لتفرّقوا من حوله) أي ولم ينتفعوا بفعله وقوله، (ولكن جعله) أي الله سبحانه وتعالى (سمحا) أي جوادا زيادة على ما طلب منه في معاملاتهم أو مسامحا لهم في فرطاتهم وزاد في نسخة سهلا أي لينا (طلقا) بفتح فسكون أي منبسط الوجه (برّا بفتح الباء أي بارا كثيرا الإحسان إلى أمته كالولد البار بأبويه وقرابته أو جامعا للخير كله فإنه من البر الذي هو وسيع الفضاء (لطيفا) أي رفيقا شريفا يراعي قويا وضعيفا (هكذا) أي مثل ما سبق لفظا أو معنى (قاله الضّحّاك) وهو ابن مزاحم الهلالي الخراساني يروي عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر وأنس رضي الله تعالى عنهم وعنه خلق وثقه أحمد وابن معين وضعفه شعبة أخرج له أصحاب السنن الأربع وتوفي سنة خمس ومائة، (وقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا أو عدولا أو معتدلين في الأخلاق غير واقعين في طرفي الإفراط والتفريط من التشبيه والتعطيل والإسراف والتقتير والتهور والجبن وأمثال ذلك (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي بتبليغ رسالة أنبيائهم إليهم (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] ) أي مطلعا ومشاهدا ومشرفا (قال أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة وسبق ذكره (أبان الله تعالى) أي أظهر ظهورا بينا (فضل نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم، وفضل أمّته بهذه الآية) أي بسببها أو فيها بقوله (وفي قوله) أي سبحانه وتعالى (في الآية الأخرى وَفِي هذا) متعلق بما قبله وهو أي سبحانه وتعالى سماكم المسلمين من قبل يعني في الكتب المتقدمة وفي هذا أي القرآن (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) بالتبليغ إليكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الحج: 78] ) بتبليغ رسلهم إليهم. (وكذلك) أي ومثل هذا المعنى يفيده (قوله تعالى: فَكَيْفَ) أي كيف حال الكفرة يوم الحسرة (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) أي بنبي يشهد على أمته (الآية) وفي بعض النسخ بتمامها وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ أي على الشهداء من الأنبياء أو على أمتك من الأصفياء والأولياء شهدا حين يشهدون على الأمم المكذبة بتبليغ الأنبياء إليهم الرسالة، (وقوله تعالى: وَسَطاً أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 عدولا) وفي نسخة عدلا أي موصوفين بالعدالة والديانة (خيارا) أي مختارين من هذه الأمة إن كان الخطاب للصحابة وإن كان الخطاب لجميع الأمة فهم خيار الأمم السالفة (ومعنى هذه الآية) أي بناء على مبنى هذه العاطفة على الجملة المقدرة المعبر عنها بقوله: (وكما هديناكم) أي المستفاد من قوله تعالى يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فالمعنى كما هديناكم إلى صراط المستقيم والدين القويم المشترك بين عامة أهل التوحيد والتسليم (فكذلك خصّصناكم) بتشديد الصاد ويجوز تخفيفها (وفضّلناكم) أي على عامة الأمم الماضية (بأن جعلناكم أمّة) أي جماعة مجتمعة غير متفرقة بل متفقة على حقيقة واحدة (خيارا) أي مختارين بخير الرسل (عدولا) عادلين عاملين بأفضل الكتب، (لتشهدوا للأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام) أي الرسل (على أممهم) أي بتبليغ الرسالة يوم القيامة (ويشهد لكم الرّسول بالصّدق) أي بصدق القول وحق الأمانة والديانة، (قيل) قد ثبت بطرق متكاثرة كادت أن تكون متواترة فكان حقه أن يقول صح ونحوه ولا يعبر بقيل المشعر بضعفه إذ رواه البخاري وغيره (إنّ الله جلّ جلاله) أي عظم كبرياؤه (إذا سأل الأنبياء: هل بلّغتم) أي أممكم فيما أرسلتكم به إليهم (فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَتَقُولُ أُمَمُهُمْ، مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، فَتَشْهَدُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَيُزَكِّيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي ويجيز الله تعالى شهادتهم بتزكيته لهم، (وقيل معنى الآية: إنّكم) بالفتح ويجوز الكسر أي أيها الأمة (حجّة) أي ذو شهادة ثابتة (على كلّ من خالفكم) أي من الأمم المكذبة (والرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم حجّة) أي بينة واضحة دالة (عليكم) أي على صدقكم وصدق من وافقكم. (حكاه السّمرقنديّ) أي نقل هذا القول عن بعض المفسرين، (وقال تعالى) أي فيما أثنى عليه وبين إكرامه لديه: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي من أمتك لا من غيرهم (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يُونُسَ: 2] ) ما قدموه من الأعمال الصالحة كما قاله الخطابي وغيره من المفسرين وقال بعضهم ما قدم لهم عند ربهم من السعادة السابقة في اللوح المحفوظ وقد قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه لنا القدم الأولى إليك خلفنا ... لا ولنا في طاعة الله تابع (قال قتادة والحسن) تقدم ذكرهما (وزيد بن أسلم) هو أبو أسامة مولى عمر بن الخطاب توفي سنة ست وثلاثين ومائة (قدم صدق هو محمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لَهُمْ وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا) أي في رواية أخرى: (هي) أي قدم صدق وأنت الضمير لتأنيث خبره وهو قوله (مصيبتهم بنبيّهم) سواء أدركوا الموت أو حصل لهم جملة الفوت فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم حينئذ يكون لهم فرط حق وقدم صدق عند ربهم قال الحجازي يروي هي فضيلتهم بينهم أي فيما بينهم ولا يخفى عدم ملائمته للمقام ولعله تصحيف أو تحريف ولو كان فضيلتهم بنبيهم لكان وجها وجيها فإنه حينئذ لهم سبق حال صدق وتقدم مقام حق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 عند ربهم وهذا معنى نسخة هي محبتهم لنبيهم، (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) نسبة إلى خدرة بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة قبيلة (هي شفاعة نبيّهم محمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ شَفِيعُ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ولعل التعبير بها عن القدم لاقدامه عليها وتقدمه على سائر أهلها (وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: هِيَ سابقة رحمة أودعها في محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) يعني في أمته ببركة متابعته على وفق محبته ووجه الاختصاص مع أن الرحمة بكل أمة لاحقة على وفق سابقة لأن سبق وجوده وأثر كرمه وجوده وظهور نوره ونشر سروره مما لا يلحقه أحد من أخوانه كما أشار إليه بقوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد ثم قوله أودعها بصيغة الفاعل وهي نسخة المصنف وفي نسخة العوفي على بناء المفعول وجعله التلمساني مضارعا وهو مستقيم بإسناد الفعل إليه سبحانه وتعالى وأما قوله ويتجه إذا سقط في من الكلام ومحمد مرفوع إذ هو النائب عن الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى فكلام ساقط الاعتبار كما لا يخفى على المعربين الأخيار، (وقال محمّد بن عليّ التّرمذيّ) هو من كبار المشايخ له تصانيف في علوم القوم ومن تأليفه نوادر الأصول في الحديث بأسانيده وهو أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن بشر الزاهد المؤذن روى عن أبيه وقتيبة بن سعيد وغيرهما واعتنى بهذا الشأن ورحل فيه وروى عنه يحيى بن منصور وخلق كثير من علماء نيسابور فإنه قدمها سنة خمس وثمانين ومائتين وعاش نحوا من ثمانين سنة وهو معظم جليل علما وعملا واعتقادا عند أكابر ما وراء النهر من العلماء والسادة الصوفية لا سيما الطائفة السادة النقشبندية وتكلم على اعتقاده أبو العباس بن تيمية من أجل كتابه خاتم الولاية ولعله ما فهم مقصوده من الإشارات الخفية وقد سبق تحقيق الترمذي مبنى ومعنى ومنها أبو عيسى الحافظ الترمذي كما تقدم والله أعلم (هو) أي قدم صدق (إمام الصّادقين والصّدّيقين) بكسر الهمزة أي قدوتهم ومقتداهم أو بفتحها أي مقدمهم خلقة ورتبة وقدامهم في مقام الشفاعة كما أشار إليه بقوله (الشّفيع المطاع) أي المقبول الشفاعة ولعله عدل عن الشفيع المشفع للإيماء إلى قوله سبحانه وتعالى ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ يعني بخلاف المؤمنين فإنه لهم شفيع مطاع مع أن النفي في الآية منصب على القيد والمقيد جميعا (والسّائل المجاب) أي المستجاب في سؤاله الأعم من الشفاعة وبقية أحواله (محمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَكَاهُ عَنْهُ السُّلَمِيُّ) . الْفَصْلُ الثَّالِثُ [فيما ورد من خطابه تعالى إياه مورد الملاطفة والمبرة] (فِيمَا وَرَدَ مِنْ خِطَابِهِ إِيَّاهُ مَوْرِدَ الْمُلَاطَفَةِ والمبرّة) أي في عتابه المنزل في كتابه والمورد بفتح الميم وكسر الراء محل ورود الكلام ومقصد المرام والمبرة بفتحتين وتشديد الراء بمعنى البر وهو الاتساع في الإحسان على ما في القاموس (فمن ذلك) أي من هذا القبيل (قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) معاتبة على وجه الملاطفة (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 للمنافقين حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (قال أبو محمّد المكيّ) مر الكلام عليه وفي نسخة مكي (قيل هذا) أي قوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ (افتتاح كلام) أي ابتداء كلام الله سبحانه له في كتابه عند خطابه (بمنزلة: أصلحك الله) وما صنعت في حاجتي، (وأعزّك الله) هلا شرفتني بزيارتك لي ونحو ذلك فيما يخاطب به الملوك والعظماء بتقديم الدعاء والثناء على انباء الأنباء ونظيره ما ورد في الحديث لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوني والحاصل أن العادة جارية في مقام التبجيل والإكرام لمخاطبة الكرام بنحو هذ الكلام وإن لم يكن هناك شيء من الآثام ثم التشبيه لا يقتضي المشابهة من جميع الوجوه فلا يرد أن مثل هذا الكلام إنما يكون بين المتساويين في الإقدام أو من الأدنى في مخاطبة الأعلى لا بالعكس كما لا يخفى. (وقال عون بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الهندي الكوفي الزاهد الفقيه أخو عبيد الله الذي هو أحد الفقهاء السبعة بمدينة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل روايته عن الصحابة مرسلة لكن حديثه عن ابن عمر في مسلم ولم يلحقه وعنه الزهري وأبو حنيفة وقد أخرج له مسلم والأربعة توفي في حدود ستين ومائة (أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذّنب) تسلية له في هذا الباب وملاطفة معه في مقام العتاب وقوله يخبره من باب الافعال أو التفعيل وهما بمعنى واحد وأما قول الحلبي وكأنه أراد التنويع في الكلام ليس له نتيجة في المرام لأن التشديد في هذا المقام ليس للتنويع المتفرع على التكثير بل للتعدية كما صرح به صاحب القاموس والجوهري في التقرير (وحكى السّمرقنديّ) أي أبو الليث (عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ عَافَاكَ اللَّهُ يَا سليم القلب) أي عن ذكر غير الرب كما فسر به قوله تعالى إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (لم أذنت لهم، قال) أي السمرقندي أو بعضهم المنقول عنه ما تقدم (ولو بدأ) بالهمزة أي ابتدأ الله (النّبيّ) أي له (صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة ولو بدأه (بِقَوْلِهِ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] لَخِيفَ عَلَيْهِ أن ينشقّ قلبه) أي ينصدع وينقطع (من هيبة هذا الكلام) أي المشعر بأنه وقع في الآثام، (لكن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو) أي مبتدئا بالمسامحة عن إجازته (حتّى سكن قلبه) أي وسلم من الدهش لبه وفي نسخة يسكن قلبه وفي بعض النسخ بتشديد الكاف فقلبه منصوب، (ثُمَّ قَالَ لَهُ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بِالتَّخَلُّفِ) أي عن غزوة تبوك (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الصَّادِقُ فِي عُذْرِهِ مِنَ الكاذب؟) أي في عذره لما حكي عن مجاهد أن بعضهم قالوا في غزوة تبوك نستأذنه في الإقامة إن أذن لنا أقمنا وإن لم يأذن لنا أقمنا واعتذرنا له بعد ذلك بعذر يقبله منا (وفي هذا) أي الخطاب في مقام العتاب وفي نسخة وهذا (من عظيم منزلته عند الله تعالى ما لا يخفى على ذي لبّ) أي صاحب عقل سليم من وهم سقيم، (ومن إكرامه إيّاه وبرّه به) أي إنعامه له (مَا يَنْقَطِعُ دُونَ مَعْرِفَةِ غَايَتِهِ نِيَاطُ الْقَلْبِ) بكسر النون عرق من الوتين ينوط القلب به من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 جانب الصلب إذا قطع مات صاحبه وقال بعض المفسرين هو الوريد ويروى في غير الشفاء مناط القلب، (قال نفطويه) بكسر نون وسكون فاء وفتح طاء مهملة وواو فسكون تحتية فهاء مكسورة وفي نسخة بضم الطاء وسكون الواو وفتح الياء والتاء المنقلبة عنها الهاء وقفا على وفق القياس وقيل بسكون الهاء وصلا أيضا ويؤيده ما ذكره ابن الصلاح أن أهل العربية يقولون فيه وفي نظائره بواو مفتوحة مفتوح ما قبلها ساكن ما بعدها ومن ينحو بها نحو الفارسية يقولها بواو ساكنة مضموم ما قبلها مفتوح ما بعدها وآخرها هاء على كل قول والتاء خطأ وسمعت الحافظ أبا محمد عبد القادر بن عبد الله يقول سمعت الحافظ ابا العلاء يقول أهل الحديث لا ينحون وبه أي يقولون نفطويه مثلا بواو ساكنة تفاديا من أن يقع في آخر الكلام وبه انتهى وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي النحوي الواسطي ظاهري المذهب له التصانيف الحسان في الآداب توفي سنة ثلاث وثلاثمائة ببغداد ودفن بباب الكوفة: (ذهب ناس) أي من المفسرين (إلى أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم معاتب بهذه الآية) بصيغة المفعول (وحاشاه من ذلك) أي هو منزه عن أن يعاتب أو ينسب إليه ذنب، (بل كان مخيّرا) ضبط بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الموحدة في حاشية الحلبي وهو تصحيف وتحريف فالصواب أنه بتشديد التحتية المفتوحة أي مختارا بين الأذن وعدمه إذ لم يتقدم له في ذلك نهي من الله سبحانه كما ذكره الزمخشري وأقول بل التخيير مصرح به في قوله تعالى فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، (فلمّا أذن لهم) أي في هذه القضية وفي نسخة فلما أن أذن (أعلمه الله تعالى) بما اضمروه مما هو من دأبهم (أنّه لو) وفي نسخة أن (لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم) أي وظهر خلافهم وتحقق شقاقهم، (وأنّه لا حرج) أي لا إثم (عليه في الإذن لهم) زاد القشيري بعد ذكر هذا المعنى في تبيين المبنى أن عفا ههنا ليس بمعنى غفر بل كما قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخيل والرقيق وهي لم تجب عليهم قط فكذلك قوله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ أي لم يلزمك ذنب وَإِنَّمَا يَقُولُ الْعَفْوُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذنب من لم يعرف كلام العرب انتهى ولعل الأولى أن يقال وقع العتاب ولا يلزم من العتاب تحقق العقاب المحتاج إلى العفو وإنما هو بيان أن عدم إذنهم كان أصلح بخصوص شأنهم لفضاحة حالهم وخزية مآلهم خلاف ما اختاره صلى الله تعالى عليه وسلم من الأخذ برضاهم بدناءة أفعالهم استبقاء لهم على أحوالهم واعتمادا على الله في إدبارهم وإقبالهم. (قال الفقيه القاضي وفّقه الله تعالى) أي المصنف (يجب على المسلم) أي الكامل (المجاهد نفسه) أي في مرضاة ربه (الرّائض بزمام الشّريعة خلقه) بضمتين ويسكن الثاني وهو منصوب والمراد به تدريبه وتمرينه بما شرعه الله إلينا من أنواع تهذيبه والرائض بهمزة مكسورة اسم فاعل من رضت المهر أروضه رياضة ذللته وجعلته طوع إرادتك والزمام بالكسر بمعنى اللجام وهو مستعار للأحكام (أن يتأدّب بأداب القرآن) أي من المستحسنات كما قال الله تعالى وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وفي نسخة بآداب القرآن فهو مصدر بمعنى المفعول أي بما يتأدب به منه (في قوله وفعله) أي مع الحق فيتسم بالعدل والصدق في معاملاته، (ومعاطاته) أي عطائه وأخذه ومناولاته، (ومحاوراته) بالحاء المهملة أي مخاطباته ومجاوباته ومراجعاته ومعارضاته مع الخلق فإن الصالح من قام بحقوق الله وحقوق العباد وكلها مستفاد من القرآن على أحسن البيان ولذا لما قيل لعائشة رضي الله تعالى عنها عن خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم قالت كان خلقه القرآن تعني كان يمتثل لمأموراته ويجتنب عن منهياته وفيه إيماء إلى أنه لا يكون كمن قال لاخيه وهو يحاوره أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً مفتخرا بذلك متغررا به كافرا لنعمة ربه معرضا نفسه لسخطه مستوليا عليه حرصه متماديا في غفلته تاركا نظره في عاقبته ولعمري إن أكثر الأغنياء الأغبياء وإن لم يلهجوا بنحوه فألسنة أحوالهم ناطقة مع شهود أفعالهم، (فهو) أي القرآن (عنصر المعارف الحقيقيّة) أي اساسها ومنبعها من الأمور العلمية والأحوال العملية بضم العين والصاد وبفتح الأصل (وروضة الآداب الدّينيّة والدّنيويّة) أي المحتاج إليها في أمور الدين والدنيا مما له تعلق بأمر العقبى وطريق المولى لقوله تعالى وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ والعجب كل العجب من المؤمن بالكتاب والسنة المبينة للخطاب أن يعدل عن تعلمهما والعمل بهما مع أن بعضهما فرض عين خاصة ومنهما فرض كفاية عامة وهو يقدم عليهما اكتساب العلوم المذمومة أو المباحة من المنطق والكلام والهيئة والحساب والفلسفة ودقائق العربية وغيرهما مما كان السلف لم يتداولوها ولم يتناولوها بل طعنوا فيها وفي من قبل عليها، (وليتأمّل) أي وليتدبر المسلم المذكور (هذه الملاحظة العجيبة) أي والمخاطبة الغريبة الكائنة (في السّؤال) أي سؤاله سبحانه وتعالى بصورة الاستفهام عنه عليه الصلاة والسلام (من ربّ الأرباب) أي المنزه عن المناسبة بينه وبين ما خلق من التراب (المنعم على الكلّ) أي عموما وخصوصا (المستغني عن الجميع) أي جميع العباد والسعداء والاشقياء أو عن عبادة جميعهم هذا قال الجوهري كل وبعض معرفتان ولم يجيئا عن العرب بالألف واللام وهو جائز لأن فيهما معنى الإضافة أضيفت أو لم تضف انتهى وقال ابن فارس كل اسم موضوع للإحاطة يكون مضافا أبدا إلى ما بعده وقد صرح الزجاج بقوله بدل البعض من الكل كما حكاه عنه أبو حيان (ويستثر) بفتح التحتية وسكون المهملة وفتح الفوقية وكسر المثلثة من ثار الشيء إذا ارتفع وانتشر واستثاره طلب ظهوره ويروى ويتبين وجعله الحجازي أصلا كما في نسخة والظاهر أن يكون مجزوما للعطف على يتأمل كما جزم به الدلجي ويجوز رفعه كما في نسخة أي يظهر وينشر ويبحث ويستخرج (ما فيها) أي في هذه الملاطفة العجيبة (من الفوائد) أي المنافع الغريبة، (وكيف) أي ومن جملتها أن يعلم أنه سبحانه وتعالى كيف (ابتدأ) أي في الخطاب (بالإكرام) أي بتعظيمه بقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ مصدرا في الكتاب (قبل العتب) بفتح وسكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 أي قبل بيان العتاب، (وآنس) بالمد وفي نسخة بالفتح والشد وأصل الإيناس ضد الإيحاش فالمعنى كيف اذهب وحشة الإنس وأظهر لذة الإنس من حضرة القدس (بالعفو) أي بذكره (قبل ذكر الذّنب) من إضافة المصدر إلى مفعوله وفي نسخة قبل ذكره الذنب وجعله الحجازي أصلا والآخر رواية والمراد الذنب باعتبار الصورة الظاهرة المأخوذة من المعاتبة المعبر عنها بخلاف الأولى لما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين من حيث الغفلة في تلك الحالة عن مشاهدة المولى ولذا استدركه المنصف بقوله (إن كان) أي بالفرض والتقدير (ثمّ) بالفتح فالتشديد أي هناك (ذنب) والمعنى أنه لا ذنب هناك حقيقة وإنما وقع في صورة المعتبة، (وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء: 74] ) المعنى ولولا ثبوت تثبيتنا إياك لقد قاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من أدنى الميل إذ ذاك لكن امتنع قرب ميلك وهواك لوجود تثبيتنا إياك ونظيره لو لاك لما خلقت الافلاك وهذا لأن لولا حرف امتناع للشيء لوجود غيره وأن مع الفعل في تأويل المصدر والجملة في محل الرفع على الابتداء والخبر محذوف لعلم السامع به واللام جواب لو كقولهم لولا زيد أي موجود لهلك عمرو والمحققون يقدرون مضافا قبل المبتدأ ليستغنى به عن تقدير الخبر مع قيام لو مقامه واختلفوا في سبب نزول الآية فقيل وهو المحكي عن مجاهد وابن جبير أن قريشا قالوا لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تمس أوثاننا فخطر في باله أن يفعل ليتمكن من استلام الحجر في مآله وقيل في استدعاء الأغنياء طرد الفقراء وقيل غير ذلك وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. (قال بعض المتكلّمين) أي من جملة المفسرين (عاتب الله الأنبياء) أي كآدم ونوح وداود عليهم الصلاة والسلام (بعد الزّلّات) أي العثرات الصورية والخطرات البشرية الضرورية فإن الزلة ما صدر من سالك الطريقة من غير قصد المخالفة، (وعاتب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم قبل وقوعه) أي قبل وقوع الزلل وحصول الخلل (ليكون) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بذلك) أي بسبب ذلك العتاب على وجه الاهتمام (أشدّ انتهاء) أي عن المخالفة، (ومحافظة لشرائط المحبّة) أي وأكثر مراعاة لشرائط المودة من الموافقة والمتابعة في الطاعة، (وهذه) أي الحالة (غاية العناية) أي ونهاية الرعاية في الحماية فإن المعاتبة إنما تكون على حسب المكانة أما ترى أن الله تعالى أخذ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمثاقيل الذر لقربهم عنده وحضورهم وتجاوز عن العامة أمثال الجبال لمكان بعدهم وغيبتهم فإن الزلة على بساط الآداب ليست كالذنب على الباب كما لا يخفى على أولي الألباب، (ثمّ انظر) أي أيها الناظر بعين الاعتبار وتفكر فيما يشار إليه من علو المقدار لأحمد المختار صلى الله تعالى عليه وسلم (كيف بدأ) أي الله (بثباته) أي على الموافقة (وسلامته) أي من المخالفة (قبل ذكر ما عتبه عليه) وفي نسخة عاتبه عَلَيْهِ، (وَخِيفَ أَنْ يَرْكَنَ إِلَيْهِ، فَفِي أَثْنَاءِ عتبه براءته، وفي طيّ تخويفه) أي في ضمن إخافته (تأمينه) أي جعله مأمونا من المخالفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 (وكرامته) أي بالثبات على الموافقة، (ومثله) أي في هذا المعنى. (قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ) أي الشان (لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) قرأ نافع من أحزنه يحزنه والباقون من حزنه يحزنه بفتح الزاي في الماضي وضمها في الغابر وكلاهما متعديان بمعنى واحد وأما حزن يحزن من باب علم فهو لازم فاعلم والزم والمعنى بالتحقيق أو في بعض أوقاتك من التضييق نعلم أن الشأن ليوقعك في الحزن ما يقولون في شأننا أو في حق القرآن أو في كقوله تَعَالَى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: 33] ) بالتشديد للجمهور وبالتخفيف لنافع والكسائي والمعنى لا ينسبونك إلى الكذب ولا يتهمونك به ولا ينكرون أمانتك وديانتك أو لا يكذبونك في الحقيقة (الآية) أي ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون يعني ينكرونها أو ينكرون عليك بسبب اتيان آياتنا فقط وفي هذا نوع تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وتهديد لهم ولكن لم يظهر لإيرادها وجه مناسبة ولا جهة ملائمة لما نحن فيه من مرتبة المعاتبة وقضية الملامة (قال عليّ كرم الله وجهه) كما رواه الترمذي وصححه الحاكم، (قال أبو جهل للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: إنّا لا نكذّبك) أي في الصدق والأمانة، (ولكن نكذّب ممّا جئت به) أي من القرآن الدال على التوحيد والديانة، (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَامِ: 33] الآية) وفي نسخة فنزلت وإنما هو شهادة من الله تعالى له بالصدق والديانة وبيان أن هذا مما اتفق عليه الأمة عامة (وروي أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: لمّا كذّبه) وفي نسخة أكذبه (قومه حزن) بكسر الزاء أي اغتم (فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: مَا يُحْزِنُكَ؟) بالوجهين السابقين فقال: (كَذَّبَنِي قَوْمِي. فَقَالَ: إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ) يعني لكن جئت بشيء ليس لغرضهم موافقا، (فأنزل الله تعالى الآية) أي المتقدمة قال الدلجي وحديث جبريل هذا أورده بصيغة روي ولم أعرف من رواه، (ففي هذه الآية منزع) بفتح ميم فسكون نون وفتح زاء أي مأخذ ومشرع (لَطِيفُ الْمَأْخَذِ مِنْ تَسْلِيَتِهِ تَعَالَى لَهُ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي بإذهاب حزنه وجلب أنسه، (وإلطافه به) بكسر الهمزة أي إكرامه (في القول) أي في قوله، (بأن قرّر عنده) أي بما اطمأنت به نفسه (أَنَّهُ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَذِّبِينَ لَهُ) أي في الحقيقة بل مكذبين لنا أو غير مكذبين في الباطن، (لأنهم معترفون بصدقه قولا واعتقادا، وقد كانوا) أي عامة المشركين (يسمّونه) سماه وأسماه بمعنى والمراد هنا يصفونه ويعدونه (قبل النّبوّة الأمين) أي من الأمانة في القول والفعل والعهد والوعد ضد الخيانة، (فدفع) أي الله سبحانه وتعالى (بهذا التّقرير) أي المذكور في الآية بالتحرير وهو في أصل المصنف بالراءين وجعل التلمساني اصله بالدال بعد القاف بمعنى الفرض والتصوير قال وبالراء بمعنى تبيينه وتمهيده وكل منهما قريب من الآخر فتدبر (ارتماض نفسه) أي اقلاقها وإحراقها (بسمة الكذب) بكسر السين أي بوسمته وعلامته من الوسم وأصلها في المكي للأمارة والكذب بفتح فكسر هو الأفصح ويجوز بكسر فسكون وهو أنسب إذا قوبل بالصدق للمشاكلة اللفظية كما قال به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 بعض أرباب العربية في الأبواب الأدبية، (ثمّ جعل) أي الله سبحانه وتعالى (الذّمّ لهم بتسميتهم) أي بتسميته إياهم (جاحدين) أي منكرين عنادا (ظالمين) أي بوضع التكذيب موضع التصديق (فَقَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] فحاشاه) أي نزهه سبحانه وتعالى (من الوصم) أي العيب وهو بسكون الصاد وضبط في حاشية بكسر الصاد وهو وهم لأنه حينئذ وصف لا مصدر ولا وجه له هنا، (وطوّقهم) أي الزم أطواقهم في أعناقهم (بالمعاندة) أي بسبب المناظرة على وجه العناد (بتكذيب الآيات) متعلق بالمعاندة (حقيقة المعاندة) منصوب على المفعول الثاني لطوق وفي بعض النسخ حقيقة للظلم أي تحقيقا للظلم، (إِذِ الْجَحْدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ عَلِمَ الشَّيْءَ ثُمَّ أَنْكَرَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] ) أي تعديا وتكبرا ونصبهما على العلة لجحدوا والجملة بينهما معترضة بالحالية لا يقال إن الجحد بمعنى الإنكار في الماضي مطلقا كما هو مقرر في علم التصريف فوجود العلم يؤخذ من جملة واستيقنتها لأنا نقول الجحد في اللغة هو الإنكار مع العلم كما صرح به صاحب القاموس ففي الآية تجريد أو تأكيد ثم حاصل كلام المصنف رحمه الله تعالى أن الجمع بين الأمرين وهو نفي تكذيبهم وإثبات جحدهم أنهم كانوا غير مكذبين له بقلوبهم فإنهم يعلمون صدقه في كل قضية ولكنهم جحدوا بناء على عنادهم كما تدل عليه الآية الثانية وهذا تأويل حسن ومسلك مستحسن ويصححه ما روي إِنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شُرَيْقٍ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا الْحَكَمِ أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا غيري وغيرك فقال له وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش وقيل وجه ثان في الجمع بينهما وهو أن يكون معنى الآية إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم لما أصروا على تكذيبك مع ظهور المعجزات الخارقة على وفق دعواك لم يكذبوك وإنما كذبوني أنا وهذا كما يقول القائل لرجل أهان عبدا له أنك لم تهن عبدي وإنما اهنتني وهنا وجه ثالث وهو أن الظالمين ما خصوك بالتكذيب بل عم تكذيبهم لسائر المرسلين ويلائمه ما ذكره المصنف بقوله (ثمّ عزاه) بتشديد الزاء أي سلاه وصبره (وآنسه) بالضبطين أي سكنه وأزال وحشته (بما ذكره عمّن قبله) أي من الأنبياء (ووعده النّصر) أي على الأعداء (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام: 34] الآية) يعني فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ. (فمن قرأ لا يكذبونك بالتّخفيف) وهو نافع والكسائي، (فمعناه لا يجدونك كاذبا) فهو من باب ابخلته وجدته بخيلا (وقال الفرّاء) بتشديد الراء وهو الإمام النحوي اللغوي الكوفي مات سنة سبع ومائتين في طريق مكة ولم يكفه يعمل الفرو ولا يبيعها وإنما قيل له ذلك لأنه يفري الكلام أي يصنعه ويأتي بالعجب منه (والكسائيّ) بكسر الكاف لأنه كان ملتفا بكساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 عند قراءته على حمزة وقيل لأنه أحرم بكساء وهذا القول جزم به أبو عمرو الداني في التيسير ونظمه الشاطبي في كتابه وهو أحد القراء السبعة والإمام في النحو واللغة من أهل الكوفه روى عن أبي بكر بن عياش وحمزة الزيات وابن عيينة وغيرهم وعنه الفراء وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهما توفي سنة تسع وثمانين ومائة بالري وقيل بطوس والحاصل أنهما قالا في معنى لا يكذبونك بالتخفيف: (لا يقولون إنّك كاذب) فيكون معناه النسبة كالإكفار والتكفير وهو أنسب للجمع في المعنى بين القراءتين، (وقيل لا يحتجّون) أي لا يستدلون (على كذبك ولا يثبتونه) أي شبهة فضلا عن حجة وهو راجع إلى قولهما في المعنى وإن اختلف في المبنى، (ومن قرأ بالتّشديد) وهم الباقون، (فَمَعْنَاهُ لَا يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ، وَقِيلَ لَا يعتقدون كذبك) وهو خلاصة المعنيين وزبدة القراءتين (وممّا ذكر من خصائصه) أي الدالة على زيادة قدره (وبرّ الله تعالى به) أي اكرامه له من بين أصفيائه (أنّ الله تعالى خاطب جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) أي المذكورين في القرآن (بأسمائهم) أي بأعلامهم دون أوصافهم الدالة على إعظامهم (فقال يا آدم) أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، (يا نوح) اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا، (يا إبراهيم) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا، (يا موسى) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ، (يا داود) إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً، (يا عيسى) إِنِّي مُتَوَفِّيكَ، (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وأمثال ذلك، (ولم يخاطب) بفتح الطاء ويروى ولم يخاطبه كذا ذكره الحجازي لكن لا يلائمه قوله (هو) ولعله غير موجود في تلك الرواية (إِلَّا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يا أيّها المزّمّل يا أيّها المدّثر) يعني فهذا كله دال على رفعة منزلته عنده فإن السيد إذا دعا أحد عبيده بأوصافه المرضية وأخلاقه العلية ودعا غيره باسمه العلم الذي لا يشعر بوصف من الأوصاف الجلية دل على أن عزته عنده أكثر من غيره كما في عرف المخاطبة وآداب المحاورة ومعنى المزمل وأصله المتزمل المتغطي بالثوب وكذا المدثر لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها حين رجع من غار حراء بعد ما حاوره الملك ما حاوره زملوني زملوني وفي رواية أخرى دثروني دثروني على ما ورد في الصحيح وإنما خوطب بالمزمل في هذا والمدثر في هذا المقام للملاطفة والتأنيس إذ من عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمي المخاطب باسم تشتقه من الحالة التي هو فيها كقوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة قم يا نومان ولعلي بن أبي طالب وقد نام في التراب قم يا أبا تراب هذا بحسب دلالة الخطاب ومن ذلك أنه تعالى منع الخلق صريحا أيضا في الكتاب لسد هذا الباب حيث قال لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً وقد قال كثير من العلماء أي لا تقولوا يا محمد يا أحمد ونحوهما ولكن قولوا يا رسول الله يا نبي الله وإن مناداته عليه الصلاة والسلام بأسمائه الاعلام من نوع الحرام في الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الْفَصْلُ الرَّابِعُ [فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم] (في قسمه تعالى بعظيم قدره) القسم بفتحتين الحلف (قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ أي قسمي يا محمد لعمرك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) أي غمرتهم وغفلتهم (يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] ) أي يتحيرون ويترددون والضمير لقوم لوط وقيل راجع إلى قريش وهو بعيد جدا غير ملائم للسابق واللاحق على ما ذكروه والأظهر أن الجملة قسمية معترضة فيما بين القصة فلا يبعد أن يكون الضمير راجعا إلى كفار قومه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الملائم لخطابه وحكاية غفلتهم عن جنابه ثم رأيت الطبري جزم بأن ضمير يعمهون لقريش والجملة اعتراض بين الأخبار بقبائح قوم لوط وبين الأخبار بهلاكهم تنبيها على أن من كان هذا دأبه فجدير أن لا ينفعه تأديب ولا يؤثر فيه تأنيب وتنفيرا للسامع عن هذه القبائح المورثة للفضائح (اتّفق أهل التّفسير في هذا) أي قوله لعمرك (أنّه قسم من الله تعالى بمدّة حياة محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) وقيل المراد به لوط كما ذكره البيضاوي فالمراد بأهل التفسير أكثرهم وجمهورهم مع أن البغوي أيضا اقتصر على الأول ثم إذا كان المراد به لوطا فالقائل الملك لئلا ينافي ما رواه البيهقي وابن أبي شيبة وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلا قال لعمرك بل أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا قال ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعمرك، (وأصله) أي أصل الاستعمال لعمرك (بضمّ الْعَيْنِ مِنَ الْعُمْرِ وَلَكِنَّهَا فُتِحَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ) والأظهر أن يقال العمر بضمتين وهو الأفصح الوارد في القرآن وبالضم والفتح أيضا على ما في القاموس إلا أنه لا يستعمل في القسم إلا بالفتح لخفة لفظه وكثرة دورانه كما في البيضاوي وغيره، (ومعناه) أي كما رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس، (وبقائك) أي ومدة بقائك في الدنيا (يا محمّد) كقوله تعالى وَالْعَصْرِ أي عصر نبوته في قول أو بقائك بنا بعد فنائك فينا، (وقيل) أي كما رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس أيضا وعزى إلى الأخفش (وعيشك) أي وطيب معيشتك في الكونين لقوله تعالى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً أي في الدنيا بالزهد فيها والتقليل منها والصبر على مرّها والشكر على حلوها (وقيل وحياتك) أي باسمنا المحيي والتخصيص للتشريف والكل بمعنى واحد وإنما ذكرها لاختلاف ألفاظها، (وهذه) أي المعاني كلها (نهاية التّعظيم وغاية البرّ) أي التكريم، (وَالتَّشْرِيفِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أي فيما رواه البيهقي في دلائله وأبو نعيم وأبو يعلى (ما خلق الله تعالى) أي ما قدر (وما ذرأ) أي خلق وكأنه مختص بالذرية وفي الحديث أنهم ذرء النار أي أنهم خلقوا لها (وما برأ) أي خلق الخلق من البراء وهو التراب أو مختص بذات الروح ولذا يقال يا بارئ النسمة أو معناه خلق خلقا بريئا من التفاوت أو أريد بالثلاثة معنى واحد وكرره للتأكيد كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 في الحديث نعوذ بالله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر ما خلق وذرأ وبرأ والمراد ما أوجد من العدم (نفسا) أي شخصا ذا نفس (أكرم: عليه) أي أنفس عنده وأفضل لديه (من محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) ثم كان كالدليل عليه، (وما سمعت الله عز وجل) أي ما علمته (أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ) بجيم وزاء مفتوحتين بينهما واو ساكنة فألف بعده همزة أوس بن عبد الله الرابعي البصري يروي عن عائشة وغيرها وعنه قتادة وعدة أخرج له الجماعة الستة وأما أبو الحوراء بالحاء المهملة والراء فراوي حديث القنوت (مَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم لأنّه أكرم البريّة عنده) والبرية بالهمزة والتشديد بمعنى الخليقة ومنه قوله تعالى أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وهي فعيلة بمعنى مفعولة وأنثت لأنها خرجت عن الصفة واستعملت استعمال الاسماء المخصة وأما ما جزم به المنجاني من أنها غير مهموزة فغفلة عن القراءة لأن نافعا وابن ذكوان قرآ في الآية بالهمزة (وقال تعالى: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1- 2] ) عطف على يس إن جعل مقسما به وإلا فواوه للقسم وأسند إليه الحكمة لأنه صاحبها أو ناطق بها (الآيات) أي إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. (اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى يس عَلَى أَقْوَالٍ) أي صدرت من بعض المتأخرين أقوال فالجمهور من السلف وجمع من الخلف على أن الحروف المقطعة في أوائل السور مما استأثر الله تعالى به علما ويقولون الله أعلم بمراده بذلك (فحكى أبو محمّد مكّيّ) وقد مر ذكره (أنّه روي) أي في دلائل أبي نعيم وتفسير ابن أبي مردويه من طريق أبي يحيى التيمي قيل وهو وضاع عن سيف بن وهب وهو ضعيف عن أبي الطفيل (عن النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لِي عِنْدَ رَبِّي عشرة أسماء) وهو لا ينافي الزيادة لأنها قاربت الخمسمائة (وذكر) أي ابو محمد مكي ويحتمل أن يكون مرفوعا لكن عبارته تأبى عنه وهي (أن منها: طه، ويس، اسمان له) ومع هذا ليس الحديث المذكور بصحيح وقد ضعفه القاضي أبو بكر ابن العربي على ما ذكره المنجاني ثم قال وأما هذا القول وهو أنه اسم للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذهب إليه سعيد بن جبير وقد جاء في الشعر ما يعضده وذلك قول السيد الحميري. يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة ... على المودة إلا آل ياسينا يريد إلا آل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ويكون حرف النداء على هذا محذوفا من الآية وكان الأصل أن يكتب ياسين على أصل هجائها ولكن اتبعت في كتبها على ما هي عليه المصاحف الأصلية والعثمانية لما فيها من الحكمة البديعية وذلك أنهم رسموها مطلقة دون هجاء لتبقى تحت حجاب الاخفاء ولا يقطع عليها بمعنى من المعاني المحتملة ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ بمد الهمزة عل قراءة نافع وابن عامر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فقد قال بعض المفسرين معناه آل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قيل أصل طه معناه طاء من الوطئ فأبدل الهمزة هاء وأجري الوصل مجرى الوقف وقيل معناه يا رجل بالحبشية أو العبرانية أو القبطية أو اليمانية (وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصّادق أنّه أراد) بقوله يس (يا سيّد) أي بطريق الرمز (مخاطبة لنبيّه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ملاطفة ومطايبة ومخافتة وهذا مختصر مما نقله السلمي عنه بقوله قال الصادق في قوله يس يا سيد مخاطبا لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ولذا قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنا سيد آدم ولم يمدح بذلك نفسه ولكنه أخبر عن مخاطبة الحق إياه بقوله يس وهذا شبيه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قرأ على المنبر ونادوا فلما أخبر الله تعالى عنه بالسيادة وأمره بتصريحه صرح بذلك فقال إن الله تعالى دعاني سيدا وأنا سيد ولد آدم ولا فخر أي ولا فخر لي بالسيادة لأن افتخاري بالعبودية أجل من إخباري عن نفسي بالسيادة انتهى والحاصل أن الياء منها للنداء والسين إشارة إلى لفظ سيد اكتفاء بفاء الكلمة لدلالتها على باقيها وهذا مذهب العرب يستعملونه في كلامهم وأشعارهم وقد حكى سيبويه أن الرجل منهم يقول للآخر إلا تا أي إلا تفعل فيقول الآخر بلى سا أي بلى سأفعل ويكتفون بذلك عن ذكر الكلمتين بكمالهما وقد ورد في الحديث كفى بالسيف شا واستغنى بذلك عن أن يقول شاهدا (وعن ابن عبّاس) أي على ما رواه ابن أبي حاتم (يس) أي معناه (يا إنسان) ولما كان الإنسان اسما لعموم أفراد الإنس قال (أراد محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لأنه الفرد الأكمل والمقصود من الخلق الأول، (وقال) أي ابن عباس كما رواه ابن جرير (هو) أي يس (قسم) أي اقسم به سبحانه وتعالى بحذف حرف القسم فالواو في قوله وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ عاطفة أو معادة (وهو) أي يس اسم على ما رواه ابن أبي طلحة عنه (أيضا من أسماء الله تعالى) أي تصريحا أو تلويحا وهو لا ينافي أن يكون من اسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم لأن الأسماء بمعنى الأوصاف لا بمعنى الاعلام وقد أطلق بعض صفات الله تعالى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كالرؤوف والرحيم وأمثالهما مع الفرق بين أوصافه سبحانه وتعالى ووصفه صلى الله تعالى عليه وسلم وغيره (وقال الزّجّاج) هو أبو إسحاق إبراهيم النحوي نسبة إلى الزجاج لصنعته مات سنة عشر وثلاثمائة ببغداد، (قيل معناه: يا محمّد) أي بطريق الإيماء كما سبق في يا سيد وغيره، (وقيل يا رجل) أي بالحبشية كما روي عن الحسن وسعيد بن جبير ومقاتل انها لغة حبشية يعني أنهم يسمون الإنسان سين، (وقيل يا إنسان) أي بلغة طي كما رواه الكشاف وعن ابن عباس على أن أصله يا انيسين بالتصغير فاقتصر على شطره لكثرة النداء به. (وعن ابن الحنفيّة) كما رواه البيهقي في دلائله وهو محمد بن علي بن أبي طالب نسبة إلى أمه وهي خوله بنت جعفر بن قيس بن مسلم من سبايا بني حنيفة واشتهر بها وهو من كبار التابعين دخل على عمر بن الخطاب وسمع عثمان بن عفان وغيره وأخرج له الجماعة مات سنة ثمانين وولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر (يس يا محمّد) أي بأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 التأويلات السابقة. (وعن كعب) أي كعب الاحبار (يس» قَسَمٌ أَقَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَبْلَ أن يخلق السّماء والأرض بألفي عام) الظاهر أن المراد به الكثرة الخارجة عن التعديد لا التحديد وأن المقصود به هو أنه سبحانه وتعالى أقسم برسوله الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم في كلامه القديم. (يا محمّد إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) فكأنه أراد أن التقدير أقسم بك يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، (ثُمَّ قَالَ تعالى) أي إظهارا بعد ذكره اضمارا وتأكيدا بعد اقسامه تأييدا: (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 2- 3] ) على أنه لا بدع أنه سبحانه أقسم به صلى الله تعالى عليه وسلم قبل خلق الكائنات بألفي عام عند إبداع روحه الشريف وابداء نوره اللطيف صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال في كتابه القديم مطابقا لما أقسم برسوله العظيم صلى الله تعالى عليه وسلم وبهذا يندفع ما ذكره المنجاني من أن هذا القول عندي في غاية الإشكال لأن القرآن كلام الله وكلامه صفة من صفاته القديمة فلا يصح أن يذكر في تقدمه عن خلق الأرض مقدارا معينا لأن خلقها محدث فالأولى أن تضعف الروايات الواردة عن كعب بهذا ما أمكن فإن صح ذلك عنده فليترك علمه إلى الله سبحانه وتعالى إذ لا يقول كعب هذا إلا بتوقيف وليس ذلك مما يدرك بالاجتهاد والرأي انتهى وفيه أن كعبا ممن ينقل عن الكتب السالفة والعلماء الماضية فلا يقال في حقه إنه لا يقول إلا بتوقيف فإن هذا الحكم مختص بالأقوال الموقوفة المروية عن الصحابة رضي الله عنهم ممن ليس لهم رواية عن غيره صلى الله تعالى عليه وسلم فموقوفهم حينئذ حكم مرفوعهم كما هو مقرر في علم أصول الحديث حتى لم يعدوا عمرو بن العاص ممن لا يقول إلا بالتوقيف فافرق بين القول الصحيح والضعيف وقد يجاب بأن المراد به أنه أبرزه في أم الكتاب أي اللوح المحفوظ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه ثم قال المصنف. (فإن قدّر) أي فرض وفي نسخة قرر (أنّه) أي يس (من أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وصحّ فيه) أي في القول (أنّه قسم) أي أيضا (كان فيه من التّعظيم ما تقدّم) أي من أن الله تعالى ما أقسم بحياة أحد غيره صلى الله تعالى عليه وسلم، (ويؤكّد فيه القسم) أي المستفاد من المقدر المرموز، (عطف القسم الآخر) بالفتح وجوز الكسر وهو المذكور المصرح (عليه) أي على ذلك القسم فتكون الواو الثانية عاطفة أو مؤكدة كما أشرنا إليه، (وإن كان) أي مجموع يس (بمعنى النّداء) يعني وليس المراد به أنه من الاسماء وإن كان يس بمعنى المنادى (فقد جاء قسم آخر فيه) أي قسم آخر ليس وجهه مما يظهر (بعده) أي بعد ندائه (لتحقيق رسالته) أي بقوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (والشّهادة بهدايته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حيث قال عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، (أقسم الله تعالى باسمه) أي بناء على القول الأول في يس، (وكتابه) أي في قوله وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (إِنَّهُ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ بِوَحْيِهِ إِلَى عِبَادِهِ، وَعَلَى صراط مستقيم، من إيمانه) أي الموجب لإيقانه والمقتضي لإكمال أعمال أركانه، (أي) يعني معنى صراط مستقيم أنه من الثابتين (على طريق لا اعوجاج فيه) أي لا ميل إلى طرفي الإفراط والتفريط من تشبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وتعطيل وجبر وقدر (ولا عدول عن الحقّ) أي عن الحكم الثابت بالوجه الصدق أو عن الوصول إليه سبحانه وتعالى والحصول على رضاه عز شأنه. (قال النّقاش) أبو بكر محمد ابن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي البغدادي المفسر المقري توفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وقد اثنى عليه أبو عمرو الداني وقد طعنوا في رواية حديثه (لَمْ يُقْسِمِ اللَّهُ تَعَالَى لِأَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ بالرّسالة في كتابه) أي القرآن لعدم علم النقاش بسائر خطابه ولا يبعد أن يراد به جنس كتابه (إلّا له) صلى الله تعالى عليه وسلم، (وفيه) أي وفي هذا التخصيص (من تعظيمه وتمجيده) أي تكريمه صلى الله تعالى عليه وسلم (على تأويل من قال) أي في يس (إنّه سيّد ما فيه) أي الذي فيه من غاية التفخيم الذي يعجز عن بيانه نطاق التكليم. (وقد قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فخر) قال المنجاني وأكثر الروايات في هذا الحديث أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وهكذا رواه مسلم والترمذي قلت وفي الجامع الصغير أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مشفع ورواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة ورواه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد ولفظه أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نَبِيٌّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ولا فخر انتهى ولا شك أن زيادة الثقة مقبولة والمعنى لا أقوله افتخارا لمقامي بل تحدثنا بنعمة ربي أو المعنى لا فخر بهذا بل بما فوقه مما لا يعبر ثم السد في اللغة الشريف الذي فاق قومه في الخير وهو فعيل بكسر العين من ساد يسود وهو المعتمد الذي عليه البصريون ونظيره صيب وثيب والحاصل أن المصنف أتى بهذا الحديث عاضدا للقول بأن المراد في الآية يا سيد كما بيناه سابقا (وقال جل جلاله) أي عظم شأنه وعز سلطانه: (لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 1- 2] ) ادخال النافية للتأكيد شائع في كلام العرب وسائغ عند علماء الأدب فالمعنى أنه سبحانه وتعالى أقسم بالبلد الحرام وقيده بحلول رسوله عليه الصلاة والسلام به إظهارا لمزيد فضله وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله وهذا المعنى باعتبار مفهومه يفيد ما عبر عنه المصنف بقوله (قِيلَ لَا أُقْسِمُ بِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فيه بعد خروجك منه. حكاه مكّيّ) أي هذا القول عن بعضهم وبما قررناه وبيناه وحررناه اندفع ما قاله المنجاني من أن هذا الذي حكاه عن مكي لا يستقيم تنزيله على الآية لأنه عكس مقتضاها الا ترى أن الواو من قوله تعالى وَأَنْتَ حِلٌّ واو الحال وإذا كانت كذلك فيكون معنى الآية لا أقسم بهذا البلد إذا كنت فيه وهو ضد ما قال مكي وإنما تتأول الآية على أن تكون لا زائدة فيها أي أقسم بهذا البلد وأنت حل به ساكن فيه وإلى هذا ذهب الزجاج انتهى ولعل منشأ هذا الاعتراض هو المقابلة بقوله، (وقيل لا زائدة) وليس كذلك فإن مراده مستقيم على تقدير عدم زيادة لا ايضا كما قال مجاهد إنها رد لكلام تقدم والمعنى ليس الأمر كما توهم من توهم وأقسم بعدها إثبات للقسم ويؤيده قراءة الحسن البصري لا قسم بدون الألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وعلى التنزل يمكن أن يكون مراده المغايرة في معنى حل على القول بزيادة لا أيضا ولذا قال (أَيْ أُقْسِمُ بِهِ، وَأَنْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ حلال لك) أي من دخول الحرم بغير إحرام والمعنى أنت به حلال حال كونه خالصا لك (أو حل لك ما فعلت فيه) أي من قتل بعض المشركين في عام الفتح حيث قال صلى الله تعالى عليه وسلم إن مكة حرمها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالامس (على التّفسيرين) أي على القولين للمفسرين في معنى الحل أنه من الحلول أو من الحلال لا تفسيري كونها زائدة ونافية كما ذكره الدلجي، (والمراد بالبلد عند هؤلاء مكّة) وهو المشهور عند الجمهور. (وقال الواسطيّ، أي نحلف) كان الأولى أحلف (لك) وقال الحجازي يروى بحلولك (بهذا البلد الذي شرّفته بمكانك) أي بكونك وإقامتك (فيه حيّا وببركتك ميّتا يعني المدينة) فيه بحيث لأنه يحتمل أنه أراد به مكة أيضا لأنه شرفها بمكانه فيها حيا ويصل إليها بركاته مماتا وإن بعد عنها دفنا بل هذا هو الأظهر معنى والأوفق مبنى فلا يحتاج إلى قوله، (والأوّل) أي من قولى البلد أهي مكة أم المدينة (أصحّ لأنّ السّورة مكيّة) أي اتفاقا (وما بعده يصحّحه) أي يؤيده ويوضحه (قوله تعالى) بدل مما بعده: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 2] ) وفيه أنه لا يظهر وجه تصحيحه ولا بيان توضيحه لأن حلوله في المدينة أظهر لشموله حيا وميتا ولا بدع أن الآية نزلت إشارة إلى ما سيقع من القضية (وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَطَاءٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تعالى: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 3] ) أي الآمن أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله (قال) أي ابن عطاء (أمّنها الله تعالى) بهمزة ممدودة ويجوز بالقصر والتشديد ففي القاموس آمنه وأمنه فاندفع به اعتراض الحلبي أي جعل مكة ذات أمن (بمقامه) أي بسكناه (فيها وكونه بها فإنّ كونه) أي وجوده فيها (أمان حيث كان) صلى الله تعالى عليه وسلم وأغرب التلمساني حيث قال والأمين فعيل كمفعل أو مفعول وهذا على زيادة لا وعلى نفيها فالقسم به دونها انتهى ووجه غرابته لا يخفى لأن البلد الأمين في سورة التين وليست هي مصدرة بلا أقسم حتى يستقيم هذا القسم والله أعلم وفي نسخة زيادة ثم هذا القول من ابن عطاء لا يخلو عن نوع غطاء فإن الله سبحانه وتعالى جعله بلدا آمنا قبل ظهوره صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ والمراد بالبلد الأمين مكة باتفاق المفسرين وهذه جملة معترضة بين المتعاطفين بقوله (ثمّ قال تعالى: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ [البلد: 3] من قال) أي كمجاهد (أراد آدم) أي بقوله تعالى وَوالِدٍ (فهو عامّ) أي في جميع ولده ولا يبعد أن يراد به خلاصة افراد الأولاد وسلالة العباد وسيد الأنبياء وسند الاصفياء الذي قيل فيه لولا وجود الخاتم ما كان ذكر لآدم صلى الله تعالى عليه وسلم، (ومن قال هو إبراهيم وما ولد) أي من أولاده الصلبية يعني إسماعيل وإسحاق وأسباطه من أنبياء بني إسرائيل من نسل يعقوب وسبطه الأعظم وحافده الأفخم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من نسل إسماعيل الجميل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 يأني البيت الجليل مع والده الخليل وربما يقال هو المقصود بالذات من إبراهيم وولده الكريم كما أنه زبدة الكائنات وخلاصة الموجودات ولذا قال المصنف (فهي) أي الآية المذكورة (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِشَارَةً إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله تعالى عليه وسلم فتتضمّن السّورة) أي المسطورة (القسم به صلى الله تعالى عليه وسلم في موضعين) أي بحسب المتعاطفين من حيث كونه ولدا لإبراهيم وكونه والدا بشهادة ما في الكشاف ونقله ابن الجوزي عن ابن عمران الجوني انه صلى الله تعالى عليه وسلم هو المراد بالوالد ونصره القرطبي بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أنا لكم بمنزلة الوالد وقد ذكر البيضاوي القولين حيث قال ووالد عطف على هذا البلد والوالد آدم أو إبراهيم وما ولد ذريته أو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والتنكير للتعظيم وإيثار ما على من لمعنى التعجب كما في قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ أي بأي شيء وضعت يعني موضوعا عجيب الشأن غريب البرهان فاندفع ما قاله المنجاني من أن ما تقع على ذوي العقول عند النحويين على أن كثيرا منهم قالوا إن من يختص بذوي العقول وما عام ويؤيده قوله تعالى وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها وإن قال بعضهم إن المراد بها معنى الوصفية المنبئة عن العظمة كأنها قيل والشيء القادر الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته وجوده بناؤها وأنت ترى أن هذا تكلف مستغنى عنه إذ جوز أن ما ترد بمعنى من على في القاموس كقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ثم وقع التناقض بين قولي المنجاني حيث قال فيلزم على قول القاضي أن تكون ما في الآية واقعة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك خروج بها عما قرر النحويون لها والذي يظهر في الآية والله تعالى أعلم أن الوالد والولد اسما جنس عامان لكل والد ومولود وهو قول ابن عباس فيكون قوله سبحانه وتعالى وَما وَلَدَ على هذا التأويل جاء منبها على العاقل الذي لم يلد إذ لو اقتصر في الآية على ذكر الولد لخرج منها من لم يلد ولدا البتة انتهى ووجه التناقض لا يخفى إذ جنس المولود من قبيل ذوي العقول في المعنى فيؤول إلى قول القاضي في المعنى غايته أنه أراد الفرد الأكمل من الجنس الثاني بل لو أريد به الفرد الأفضل من النوعين لا يبعد لصدق الوالدية والولدية عليه ثم التنبيه الذي ذكره لا يخفى على الفقيه النبيه حيث إن المراد بما ولد ما ولده الوالد من آدم أو إبراهيم أو جنس الوالد. (وقال تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ) قيل فيه صنعة التبديل من علم المعمى في استخراج الاسماء والتقدير ألف لام ميم الحمد فيبقى محمد فهو نداء أو مبتدأ خبره ذلك الكتاب أي هو النسخة الجامعة في الرتبة اللامعة والمرتبة الساطعة واسطة بين الخالق والخليقة (لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 1- 2] ) وسيأتي الكلام فيه (قال ابن عبّاس رضي الله عنهما) أي فيما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم (هذه الحروف) أي المقطعة في أول هذه السورة وأمثالها من سائر السور المسطورة (أقسام) جمع قسم بمعنى مقسم به (أقسم الله تعالى بها) وفي نسخة بهذا أي بما ذكر على طريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الإشارة والرمز إلى اسماء الله سبحانه وتعالى وأوصاف نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يكون الألف رمزا إلى ما أوله الهمز وكذا اللام وكذا الميم وكذا سائر الحروف وحرف القسم حينئذ محذوف، (وعنه) أي ابن عباس (وعن غيره فيها غير ذلك) حتى قيل فيها سبعون قولا منها ما عليه العشرة وغيرهم ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى أعلم بمراده بذلك وقيل معنى ألم أنا الله أعلم وعن ابن عباس أن الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه وقيل هي اسماء الله بشهادة قول علي يا كهيعص يا حم عسق ولعله أراد يا منزلهما وقيل اسماء للقرآن أو لليسور وقيل الألف من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج واللام من طرف اللسان وهو وسطها والميم من الشفة وهي آخرها فجمع بينها تلويحا بأن العبد ينبغي أن يكون أول كلامه ووسطه وآخره ذكره الله تعالى (وقال سهل بن عبد الله التّستريّ) وروي عن ابن عباس أيضا (الألف هو الله سبحانه تعالى) أي إشارة إلى لفظة الله بناء على الحرف الأول منه في المبنى أو إلى وحدانيته بحسب المعنى لكن يؤيد الأول قوله، (واللّام جبريل) أي بناء على الحرف الأخير، (والميم محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) نظرا إلى أوله وأوسطه كذلك وما أنسبه حيث كرر مسمى الميم في الاسم والمسمى (وحكى هذا القول السّمرقنديّ) أي مطلقا (ولم ينسبه إلى سهل) وهذا أمر سهل إذ لا منافاة بين الإطلاق والتقييد مع احتمال التوارد في مقام التأييد فلا ينافيه ما عزاه السجاوندي إلى ابن عباس أيضا (وجعل) أي السمرقندي (معناه) أي معنى هذا القول المستفاد من الإشارة إلى الاسماء المستورة بحسب التراكيب المفيدة المأثورة (اللَّهُ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْقُرْآنِ لا ريب فيه) أي في المنزل، أو المنزل أو المنزل به أو المنزل عليه أو في كل واحد منها وهو نفي عند أرباب التحقيق ومعناه نهي بالنسبة إلى أهل التقليد والتضييق والله ولي التوفيق أو المعنى لا ريب فيه وتوضيحه إن يقال من حيث إنه لوضوح شأنه وسطوع برهانه لا يرتاب فيه عاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا بالغا حد الإعجاز لا من حيث إنه لا يرتاب فيه أحد لكثرة المرتابين بشهادة وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فإنه لم ينفه عنهم بل عرفه بما يزيله منهم وهو أن يبذلوا قواهم في معارضة سورة منه وغاية جهدهم فإذا عجزوا تيقنوا أن لا شبهة فيه ولا ريبة ثم بهذا لا يزول وجه إشكال تقديم جبريل على النبي الجليل، (وعلى الوجه الأوّل) أي من قول ابن عباس وهو أن المراد بها القسم (يحتمل القسم) أي المقسم عليه (أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ ثمّ فيه) أي في القسم أو الكتاب على الاحتمال الثاني، (من فضيلة قرآن اسمه باسمه) وفي نسخة من فضيلته قرآن اسمه باسمه وهو بكسر القاف بمعنى مقارنته (نحو ما تقدّم) أي في التشهد والخطبة كما قال حسان رضي الله عنه. وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 (وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] أقسم) أي الله تعالى (بقوّة قلب حبيبه محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي التي هو من حروفها اكتفى به عنها (حيث حمل الخطاب) أي من ربه، (والمشاهدة) أي له ليلة الإسراء (ولم يؤثّر ذلك فيه لعلوّ حاله) أي مع وجود المجاهد ويناسبه قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ الآية، (وقيل هو) أي ق (اسم للقرآن) أي بطريق الإشارة وإما بطريق العبارة فهو اسم للسورة، (وقيل هو اسم لله تعالى) أي بناء على رمزه إلى الاسماء التي أولها القاف كالقادر والقاهر والقوي والقريب، (وقيل جبل محيط بالأرض) أي فوقع القسم به لعظمته وهذا قول مجاهد إن ق اسم جبل محيط بالدنيا وأنه من زمردة خضراء منها خضرة السماء والبحر لكنه ضعيف جدا، (وقيل غير هذا) أي غير ما ذكر أي إيماء إلى قيام الساعة وقال سهل رضي الله تعالى عنه اقسم بقدرته وقوته كما حكى عنه السلمي وقيل معناه قضى الأمر من رسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو إخبار بقهر الكفرة أو تنبيه على قيام الموتى من القبور فكلها منقولة عن المفسرين وجميعها داخل في قول من قال هي حروف أخذت من اسماء وأفعال واستغنى بها عن ذكر ما بقي منها والله تعالى أعلم ولا يبعد أن يكون إيماء إلى الأمر بالوقوف على الأحكام أي التوقف فيما أشكل من المرام كقول الشاعر: قلت لها قفي فقالت لي قاف (وقال جعفر بن محمّد) أي الصادق (فِي تَفْسِيرِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْمِ: 1] . إِنَّهُ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) لأنه النجم الأكبر والكوكب الأنور وقوله إِذا هَوى أي إذا صعد إلى مقام دَنا فَتَدَلَّى أو إذا أحب المولى وترك السوى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (وقال) أي الصادق (النّجم قلب محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم، هوى انشرح من الأنوار) أي لما انبسط وانبثّ فيه من الأسرار وأغرب المنجاني حيث انكر على العالم الرباني بقوله هذا تحامل على اللغة في تفسير الهوى وتحكم فيها والمنقول عن جعفر أنه إنما فسر الهوى هنا بالنزول ليلة المعراج كما حكي عنه ذلك في تفسير الغزنوي وهو أقرب إلى الاشتقاق اللغوي، (وقال انقطع عن غير الله) أي عن التعلق بما سواه. (وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) [الْفَجْرِ: 1- 2] الْفَجْرُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه لأنّ منه تفجّر الإيمان) أي تبين منه الإيقان وظهر منه العرفان بنزول القرآن وحينئذ يناسب أن يفسر ليال عشر بالعشرة المبشرة لأن الكواكب السيارة المنيرة في ميدان الولاية تختفي في زمان النبوة وآوان الرسالة لأن أحوال الاصفياء بالنسبة إلى أحوال الأنبياء لا تخلو عن ظلمة الكدورات النفسانية والحجابات الشهوانية فناسب أن يعبر عنهم بالليالي العشر كما يلائم أن يومي إلى مرتبة النبوة والرسالة بطلوع الصبح وظهور نور الفجر وبهذا اندفع ما قاله المنجاني من أن هذا التأويل بعيد لأن الفجر في الآية مردف بالليالي العشر وفي حمله على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ما ذكر تنافر في النظم وعدم تناسب في اللفظ انتهى وأما أقوال المفسرين في معنى الفجر وليال عشر فمشهورة لا تخفى والمشهور أن الفجر هو الصبح والليالي العشر ذي الحجة ومن ثم فسر بفجر عرفة أو الفجر والعشر الأول من المحرم أو الأواخر من شهر رمضان ونكرت لزيادة فضلها والله تعالى أعلم. الفصل الخامس في قسمه أي في حلفه في كلامه (تعالى جده) أي عظمته لقوله تعالى وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ولما في الحديث كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد بدال مهملة في أنفسنا أي عظم وجل وعن أنس والحسن رضي الله تعالى عنهما غناه بشهادة حديث ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه وإنما ينفعه إيمانه وإحسانه (له) صلى الله تعالى عليه وسلم (لتحقق مكانته) أي منزلته الرفيعة (عنده) بكسر العين أفصح ويجوز فتحها وضمها ففي القاموس عند مثلثة الأول ظرف في الزمان والمكان غير متمكن (قال جل اسمه) أي عظم وصفه ونعته فكيف مسماه وذاته (وَالضُّحى) أي أقسم بضوء الشمس إذ هو المراد بقوله وَضُحاها أو بوقته حين ارتفعها وخص بالقسم لأنه تعالى كلم فيه موسى عليه الصلاة والسلام فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ بشهادة وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ولعل هذا هو المأخذ في فضيلة صلاة الضحى أو بالنهار كله بدلالة أن يأتيهم بأسنا ضحى في مقابلة بياتا أو مقابلة قوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضحى: 1- 2] ) أي ركد ظلامه أو سكن أهله وقدم الليل في السورة قبلها لأنه الأصل بدليل قوله تعالى نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ولما ورد من أن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره الحديث وعكس هنا لشرف النهار بحسن ضوئه ونوره وكمال ظهوره والأنسب بهذا المقام في تحقيق المرام أن يقال إن في الضحى إيماء إلى وجهه صلى الله تعالى عليه وسلم كما أن في الليل إشعارا إلى شعره عليه الصلاة والسلام أو إلى حاليه إشارة فيهما إلى صبح الوصال وليل الفراق أو إيماء بهما إلى حاليه من مقامي القبض والبسط أؤ الفناء والبقاء كما يشير إليه قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَيُغَانُ على قلبي الحديث. (السّورة) وفي شرح الدلجي السورة منصوب بفعل كأعني قلت أو اقرأ ويجوز رفعها على أن تقديره السورة معروفة وجرها على نزع الخافض كما في النسخة المشهورة والسورة طائفة من القرآن مترجمة أقلها ثلاث آيات منقولة من سور المدينة لأنها محيطة بطائفة منه أو محتوية على ما فيها من العلوم كاحتواء سور المدينة على ما فيها هذا إن كانت واوها أصلية وإن كانت مبدلة من همزة فلكونها قطعة من القرآن فمن السؤر الذي هو بقية الشيء وهذا المعنى هو الأولى كما لا يخفى إذ المعنى الأول يدل على المغايرة بين السورة وما هي مشتملة عليه وليس كذلك في السُّورَةُ. (اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ) أي سورة والضحى (فقيل كان ترك النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَ اللَّيْلِ لِعُذْرٍ نَزَلَ بِهِ فتكلّمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 امرأة في ذلك بكلام) أي بما لا يليق ذكره لأهل الإسلام ويؤيده ما رواه البخاري اشتكى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فقالت له امرأة إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لما رأيت من عدم قيامك فأنزل أي الله تعالى وَالضُّحى وروى مسلم نحوه وحديث الثعلبي أنه صلى الله عليه وسلّم أصيب في اصبعه فدميت فقال: هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب ما أرى شيطانك إلا قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فنزلت وروى ابن السكن أنها إحدى عماته صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ابن عساكر وكانت عماته صلى الله تعالى عليه وسلم ستا وجميعهن متن مشركات إلا صفية بنت عبد المطلب أم الزبير ويؤيد الأول رواية الحاكم أنها امرأة أبي لهب ولعلهما قالتا له ذلك ثم قيل هي أخت أبي جهل زوج أبي لهب وكان اسمها أم جميل وكان أبو بكر بن العربي لا يكنيها إلا بأم قبيح وقد أجاد فيما أفاد وقيل هي أخت أبي سفيان بن حرب وهي زوج أبي لهب أيضا وكانت عوراء وكان أحول والقول الأخير ذكره الحاكم في مستدركه في تفسير سورة والضحى وقال إسناده صحيح (وقيل) وعليه جمهور المفسرين على ما قيل (بل تكلّم به المشركون) أي بمثل ذلك الكلام (عند فترة الوحي) أي عند انقطاعه وعدم اتصاله من الفتور بمعنى القصور وكانت المدة سنتين ونصفا وقيل بل كان ذلك بضعة عشر يوما (فنزلت السّورة) أي والضحى وفي نسخة هذه السورة ويدل عليه حديث مسلم والترمذي أبطأ جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلّم فقال المشركون قد ودع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله سبحانه وتعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ويمكن الجمع بين القولين بأنه لما فتر الوحي اتفق إذ ذاك أنه اشتكى فلم يقم فقالت المرأة ما قالت وقال المشركون من الرجال ما قالوا وقال البيضاوي روي أن الوحي تأخر اياما لتركه الاستثناء كما مر في سورة الكهف أو لزجره سائلا ملحا أو لأن جروا ميتا كان تحت سريره أو غير ذلك فقال المشركون إن محمدا ودعه ربه وقلاه أي تركه وأبغضه فنزلت ردا عليهم، (قال الفقيه القاضيّ أبو الفضل رحمه الله) كذا في بعض النسخ وهو متروك في بعضها (تضمّنت هذه السورة) أي سورة والضحى (من كرامات الله تعالى) أي من أنواع إكرامه سبحانه (له صلى الله تعالى عليه وسلم) قال الدلجي من مزيدة أو للتعظيم أي تضمنت شيئا عظيما أكرمه الله به انتهى ولا يخفى أن كونها مزيدة لا يناسب المقام لأن الزائدة إنما تكون للتنصيص على عموم في النفي نحو ما جاءني من رجل أو لتوكيد العموم نحو ما جاءني من أحد وكونها للتعظيم غير معروف فالصواب أنها للتبعيض فإنه لا شك أن ما تضمنت هذه السورة من بعض كرامات الله له (وتنويهه به) من نوه بالشيء أي رفعه ونوهت باسمه أي رفعت ذكره والمقصود رفعة شأنه وسطوع برهانه (وتعظيمه واستثناه إيّاه) أي بما خصه الله تعالى واستثناه مما سواه (ستّة وجوه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 بالنصب على أنه مفعول تضمنت وفي نسخة بستة وجوه وكان الوجه أن يقول ستة أوجه إلا أنه أوقع جمع الكثرة في موضع جمع القلة توسعا إذ قد يكثر استعمال أحدهما في الآخر (الأوّل) أي الوجه الأول من الستة (القسم له) أي لأجله صلى الله تعالى عليه وسلم (عمّا أخبره به) أي في هذه السورة (من حاله) أي مما يدل على عظيم جماله وكريم كماله فمن بيان لما أقسم له على نفيه (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) [الضُّحَى: 2] أي وربّ الضّحى) أي على حذف مضاف يكون هو المقسم به وذلك لأنه لا يقسم بمخلوق لأن فيه تعظيم غير الله تعالى ولذا قال صلى الله عليه وسلّم من حلف بغير الله فقد أشرك والأظهر أن النهي في ذلك بالنسبة إلى المخلوق وأما الخالق سبحانه وتعالى فيقسم بما شاء من خلقه تشريفا له وتعظيما لشأنه، (وهذا) أي القسم له على ذلك (من أعظم درجات المبرّة) بفتحات وتشديد الراء من البر بمعنى الخير (الثّانيّ) أي من الستة (بيان مكانته عنده) تقدم بيانه (وحظوته لديه) بكسر أوله ويضم على ما في الصحاح والقاموس وبسكون الظاء المعجمة بمعنى المنزلة والفضيلة والمحبة وقيل الحاء مثلثة لأن كل اسم على فعلة ولامه واو بعدها هاء التأنيث فإنه مثلث الفاء وأصله من حظيت المرأة عند زوجها إذا كانت ذات حظ ونصيب منه وفي المثل أن لا حظية فلا الية يقول إن احظأتك الحظوة فلا تأل أن تتودد إلى الناس لعلك تدرك بعض ما تريد ذكره الجوهري (بقوله) متعلق بقوله بيان مكانته (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) بتشديد الدال وتخفف (وَما قَلى [الضحى: 3] ) حذف مفعول قلى لظهوره أو اكتفاء بسبق ذكره مع كونه مراعاة للفاصلة (أي ما تركك) تفسير لودعك (وما أبغضك) تفسير لما قلى على طريق اللف والنشر المرتب والمعنى ما قطعك قطع المودع إذ التوديع مبالغة في الودع أي الترك إذ من ودعك فقد بالغ في تركك وفي الحديث غير مودع ربي أي غير قاطع طاعته ولا مفارق لعبادته وقرأ عروة وابنه هشام ودعك مخففا مع استغناء أكثر العرب عنه بترك فلم ينطق به ماضيا لكن قد جاء في الحديث شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه وفي الشعر أيضا كقوله: وكان ما قدموا لأنفسهم ... أعظم نفعا من الذي ودعوا ومن التشديد قوله: ليت شعري من خليلي ما الذي ... رابه في الحب حتى ودعه ثم قلي يائي وقيل واوي وعلى الأول يقال في مضارعه يقلي ويقلى بالياء والألف إلا أن الألف شاذ كما في أبى يأبى (وقيل ما أهملك) أي ما تركك هملا (بعد أن اصطفاك) أي كملا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا خلاك ولا قطعك منذ اصطفاك ورفعك (الثّالث) أي من الستة (قوله) أي عز قائلا (وَلَلْآخِرَةُ) أي والدار الآخرة (خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى: 4] ) أي من الدنيا أو الحال الآخرة خير لك من الأولى إيماء إلى أنه دائما في الترقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 إلى الدرجات العلى (قال ابن إسحاق) تقدم أنه إمام أهل المغازي (أي مالك) بفتح ميم وهمز ممدود ورفع لام أي ما تؤول إليه ومصيرك (في مرجعك) أي معادك باقيا خالصا من الشوائب مما أعد لك من المراتب (عند الله) في العقبى (أعظم ممّا أعطاك من كرامة الدّنيا) ويروى كما في بعض النسخ ما لك على أن ما موصول والعائد محذوف يعني الذي أعطاكه في الاخرى خير لك من الذي اعطاكه في الأولى. (وقال سهل: أي ما ادّخرت) بتشديد الدال المهملة وقيل بالمعجمة من الذخيرة وهي الشيء النفيس يخبأ للنوائب وذاله معجمة ويقال ادخرته على افتعل يهمل ويعجم والمعنى واحد وقيل بالمعجمة ما يكون للآخرة وبالمهملة ما يكون للدنيا ونسب إلى أئمة اللغة وهي غير مشهورة ودلالة قوله تعالى تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ عليه غير صحيحه والمعنى الذي خبأته (لك من الشّفاعة) أي العظمى أو الخاصة بهذه الأمة (والمقام المحمود) أي المرتبة العلية الشاملة للشفاعة الكاملة لجميع الافراد البشرية (خير لك ممّا أعطيتك في الدّنيا) أي من الرفعة وعلو المرتبة ونفاذ الحكومة ويؤيده ما ورد في الحديث القدسي والكلام الأنسي أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويجوز أن يراد بالمقام المحمود كما هو ظاهر الآية كل مقام يتضمن كرامة وإن كان الأكثرون على أنه مقام الشفاعة الكبرى الذي يحمده فيه الأولون والآخرون بشهادة حديث هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي أي خصوصا وسائر الأمم عموما. (الرّابع) أي من الستة (قوله تعالى وَلَسَوْفَ) خبر مبتدأ محذوف دخله بعد حذفه لام الابتداء لتأكيد مضمون الجملة أي ولأنت سوف (يُعْطِيكَ رَبُّكَ) أي ما يرضيك وتقر به عينك (فَتَرْضى [الضحى: 5] ) أي غاية الرضى والجمع بين حرفي التأكيد والتأخير للإيماء بأن العطاء كائن لا محالة وفي مصحف ابن مسعود ولسيطيك ثم أكثر المفسرين على أن هذا العطاء في الأخرى وعن بعض العلماء أنه إشارة إلى فتح مكة في الدنيا (وهذه الآية) أي ولسوف وفي بعض النسخ وَهَذِهِ آيَةٌ (جَامِعَةٌ لِوُجُوهِ الْكَرَامَةِ، وَأَنْوَاعِ السَّعَادَةِ) أي ما أعطاه في الدنيا وما وعده في العقبى، (وشتات الإنعام) بكسر الهمزة من أنعم إذا زاد على الإحسان أي متفرقا أنواع الإكرام مما لا يعلم كنهه أحد من الأنام (في الدّارين، والزّيادة) بالجر أي وجامعة للزيادة على ما أعطاه في الدنيا ووعده في العقبى من أنواع الكرامة والدرجات العلى. (قال ابن إسحاق) تقدم ذكره وقال التلمساني هو صاحب السير والمقدم فيها والمشهور بالمغازي والتاريخ توفي ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائة وكان بينه وبين مالك كلام ومحاورة وذلك أن الأئمة اتفقوا على أن مالكا عربي صريح النسب من ذي أصبح حميري يماني وذهب ابن إسحاق إلى أنه من الموالي وقوله شاذ رواه الأئمة والله سبحانه وتعالى أعلم والحاصل أنه قال في سيرته (يرضيه) أي الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام (بالفلج) وهو على ما في الصحاح بفتح الفاء واللام وبالجيم والاسم بضم الفاء وسكون اللام أي الفوز بأحبائه والظفر بأعدائه ومنه قوله صلى الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 عليه وسلم في وصف القرآن مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عدل ومن خاصم به فلج قال ابن هشام معناه ظهر وغلب وظفر والحاصل أن في الأصل نسختين مضبوطتين وفي المثل من يأت الحكم وحده يفلج أي يظهر على خصمه (في الدّنيا) كيوم بدر وقريظة والنضير وفتح مكة (والثّواب في الآخرة) أي مما أخفى له من قرة أعين وهذا القول من ابن إسحاق ليس كقول سهل بل هو قول ثالث يشير إلى أن الآية مقتضية رضاه في الدنيا والعقبى معا قيل وهو الصواب في معنى الآية. (وقيل يعطيه الحوض) أي المورود (والشّفاعة) أي المقام المحمود وهو داخل فيما قبله بلا مراء وكل الصيد في جوف الفرا وفسر عطاء وغيره الحوض بالخير الكثير تمسكا بما في رواية البخاري ومسلم أي عن أنس بن مالك بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد أغفى اغفاء ثم رفع رأسه فقال نزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 1- 3] ثم قال أتدرون ما الكوثر هو نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترده أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء وفي رواية لهما الكوثر نهر في الجنة عليه حوضي أي يمد ماؤه منه وفي مسلم ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يغث فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق ويغث بغين معجمة مضمومة فمثناة فوقية مشددة ومعناه يجري جريا متتابعا له صوت. (وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) وهو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على ما ذكره الثعلبي في تفسيره (أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ آيَةٌ فِي الْقُرْآنِ أَرْجَى منها) أي من آية وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ثم بيّن وجهه بقوله، (ولا يرضى رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ النّار) ورواه عنه أيضا ابو نعيم في الحلية موقوفا والديلمي في مسند الفردوس مرفوعا فبطل بهذا قول الحلبي قد ظهر لي والله تعالى أعلم أن هذا الرجل هو الحسن بن محمد ابن الحنفية وذلك أنه أول المرجئة وله فيه تصنيف انتهى وروي أنه لما نزلت قال إذن لا أرضى أن يكون واحد من أمتي في النار قال الدلجي وهذا إن صح فيشكل بما ورد مؤذنا بدخول بعض عصاتهم فيها ومن ثم قال ابن عبد السلام وغيره لا يجوز الدعاء لجميع المؤمنين بمغفرة جميع ذنوبهم إذ لا بد من دخول بعض منهم فيه ويعارضه رب رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ انتهى ولا يخفى أن المعارضة مدفوعة إذ ليس في الآية لفظ الجميع الشامل للإفراد كلها والإشكال السابق أيضا مدفوع بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يرضى رضى كاملا إلا إذا وقعت شفاعته لجميع أمته كاملا وهذا أمر في المستقبل فلا ينافي دخول بعض الأمة النار في الماضي فتأمل هذا وفي حديث الترمذي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال ما في القرآن آية أحب إلي من قوله سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وقيل أرجى آية في القرآن لأهل التوحيد قوله تعالى وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ وقيل قوله تعالى إِنَّا قَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى وقيل قوله تعالى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وقيل قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ وقيل قوله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الآية وقيل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ الآية ووجهه أنه سبحانه وتعالى أمرنا بالاحتياط لدنيانا الفانية التي نهانا عن الاغترار بها والركون إليها والاعتناء بها وأمرنا بالإعراض عنها والزهادة فيها فإذا لطف بنا فيها بما ارشدنا إليه مع حقارتها في طول آية من كلامه فكيف بالدار الباقية دار الخلد في النعيم والالتذاذ الذي لا يساوي بل لا يداني بالنظر إلى وجهه الكريم وفيه قول آخر وهو ما في صحيح مسلم من حديث الإفك فأنزل الله تعالى وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى إلى قوله تعالى وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال حبان بن موسى قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل انتهى وقد أخرج الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ارجى آية في القرآن لهذه الأمة قوله تعالى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي هذا وأخوف آية في القرآن قيل وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وقيل سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ وقيل قوله تعالى فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وقيل إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وقيل قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ وعن أبي حنيفة وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وعن الشافعي أنها قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ انتهى واجتمعت الآيات سبعة في الخوف وعشرة في الرجاء إيماء إلى أنه سبقت رحمته غضبه وغلب رجاء ثوابه خوف عقابه. (الخامس) أي من الستة (ما عدّه تعالى عليه) أي ذكر له (من نعمه) أي نعمائه وهو أنسب إلى قوله (وقرّره من آلائه) وهما مترادفان على ما قيل والأظهر أن وقت اجتماعهما يراد بهما نعمه الظاهرة والباطنة واختلفت في مفرد الآلاء فقيل إلى بالفتح والتنوين كرحى وقيل بالكسر والتنوين كمعى وقيل بفتحها وسكون اللام وبالواو كدلو وقيل بكسرها وسكون اللام وبالياء كنحى وقيل بالفتح وترك التنوين وقوله (قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة أي عنده وجهته ونحوه (في بقيّة السّورة) من أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً إلى فَأَمَّا الْيَتِيمَ تلويحا بأنه تعالى كما أحسن إليه سابقا يحسن إليه لاحقا كما قيل: لقد أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي فمما عد وقرر موردا له على خلاف ترتيب السورة ما أشار إليه بقوله (من هدايته) مصدر مضاف إلى فاعله أي من هداية الله إياه (إلى ما هداه له) أي المستفادة بقوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي جاهلا بتفاصيل أحكام الشريعة فَهَدى أي فهداك إليها ودلك عليها (أو هداية النّاس به) أي فهدى الناس بك زيادة على هدايتك في نفسك فجمع الله له بين الهداية القاصرة والمتعدية المعبر عنهما بالكمال والتكميل اللذين يصل بهما العبد إلى مقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 التعظيم ومرتبة التبجيل كما ورد عن عيسى عليه السلام من تعلم وعمل وعلم يدعي في الملكوت عظيما (على اختلاف التّفاسير) أي في هدى من التقادير على ما أشرنا إليها في ضمن التحارير فهدى إما بمعنى هداه الله أو بمعنى هدى به الناس، (ولا مال له) جملة حالية والتقدير ومن كونه لا ماله (فأغناه) الله (بما أتاه) أي اعطاه من مال خديجة أو من الغنائم (أَوْ بِمَا جَعَلَهُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْقَنَاعَةِ والغنى) أي غنى القلب كما أشار إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس وبقوله القناعة كنز لا ينفد وهو من قنع بكسر النون في الماضي قناعة إذا رضي بما أعطاه الله تعالى وبفتحه قنوعا إذا سأل مما سواه ومنه القانع والمعتر أي السائل تصريحا والمعترض تلويحا وما أحسن ما قال من قال من أهل الحال: العبد حر إن قنع ... والحر عبد إن طمع فاقنع ولا تقنع فما ... شيء أضر من الطمع وهذا المعنى مستفاد من قوله وَوَجَدَكَ عائِلًا أي فقيرا أو محتاجا إلى الخلق فأغناك عنهم بغناه بل أحوج إليك كل من سواه كما أشار إليه بقوله آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة (ويتيما) ومن كونه يتيما أي لا أب له لموت أبيه قبل ولادته فآواه إلى عمه أبي طالب (فحدب) بفتح الحاء وكسر الدال المهملتين أي رق له ورحمه وعطف (عليه عمّه) وأذهب عنه غمه وهمه حتى قال: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمر ما عليك غضاضة ... فأبشر وقر بذاك منك عيونا وفي نسخة عمه منصوب ولا يستقيم إلا إذا كانت الدال مشددة (وآواه إليه) وأحسن في تربيته عليه حيث ضمه إلى نفسه في جملة حاله وجعله من عمدة عياله وآوى متعد ممدودا أو مقصورا لكن التعدية في المد أكثر كما أن اللزوم في القصر أشهر، (وقيل آواه الله) أي ملحوظا بعين عنايته وكفايته محفوظا في ظل حمايته ورعايته وفي نسخة آواه إلى الله أي أغناه بذاته عما سواه وروي أوى إلى الله مقصورا ومعناه لجأ إليه وتوكل عليه وأسلم الأمر لديه وهذه المعاني الأخيرة أنسب إلى ما حكي عن جعفر الصادق أنه سئل لم أفرد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أبويه فكان يتيما في صغره فقال لئلا يكون عليه حق للمخلوق انتهى ويمكن أن يقال لئلا يكون له تعلق بغير الحق فإن الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس (وقيل يتيما لا مثال لك) أي لا نظير يماثلك هذا مراد من قال هو درة يتيمة عصماء أي محفوظة ممنوعة معصومة عن أن يكون لها نظير في الصورة والسيرة وفي الكشاف أنه من بدع التفاسير ومعناه ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير (فآواك إليه) والوجود في السورة بمعنى العلم فيتيما وضالا وعائلا مفاعيل ثواني له أو بمعنى المصادفة فهي أحوال من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 المفعول الأول ولعل وجه تقديم الهداية في كلام المصنف إيماء إلى رعاية العناية وإشارة إلى أن الواو لا تفيد الترتيب في العبارة وأما الترتيب الذكري في السورة فهو على وفق الوجود الوقوعي حيث يوجد اليتيم قبل البلوغ وبعده تتحقق الهداية الكاملة العلمية ثم رعاية القناعة العملية، (وقيل المعنى ألم يجدك) أي والناس في ضلال (فهدى بك ضالّا، وأغنى بك عائلا) ، أي فقيرا حين وجدك وفيهم عيلة (وآوى بك يتيما) إذ وجدك وفيهم أيتام وهذا من بدع التفاسير أيضا وإن كان يلائمه في الجملة ما بعده من بقية السورة وهي قوله تعالى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وتذكر حال يتمك وَأَمَّا السَّائِلَ لكونه فقيرا فَلا تَنْهَرْ فلا تزجر ولا تقهر وتذكر حال فقرك وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ بإظهار الهداية والعلم بالبداية والنهاية وتذكر حال جهلك فيكون اللف والنشر مشوشا اعتمادا على فهم السامع ويمكن أن يكون مرتبا بأن يكون المراد سؤال العلم كا هو قول أبي الدرداء وغيره وأن التحدث بنعمة الرب هو الإحسان إلى الفقير المنكر القلب لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم التحدث بالنعم شكر ويمكن أن يحمل على المعنى الأعم ويستفاد منه المراد الأخص والله تعالى أعلم بمراده في كتابه؟ (ذكّره) بتشديد الكاف أي ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم ربه تذكير امتنان لا ناشئا عن نسيان (بهذه المنن) جمع المنة بمعنى النعمة والعطية (وأنّه) بكسر الهمزة والواو للحال أي الشأن أو الله سبحانه أو هو صلى الله تعالى عليه وسلم (على المعلوم من التّفسير) أي بناء على ما علم من أنواع التفسير على ما سبق من التحرير (لم يهمله) من الإهمال أي لم يتركه ربه تعالى (في حال صغره) أي جهله (وعيلته) أي فقره (ويتمه) أي فقد أبيه، (وقبل معرفته) أي وفيما قبل معرفته الكاملة (به) تعالى، (ولا ودّعه) عطف على لم يهمله ولا تركه ولا دفعه، (ولا قلاه) أي ولا أبغضه ولا قطعه، (فكيف) أي حاله (بعد اختصاصه) بالكرامات السنية (واصطفائه) بالمقامات البهية والمعنى بعد ارساله واعلامه أنه اصطفاه واجتباه على خليقته لكرامته عنده ومنزلته وإلا فقد كان اصطفاه في ازليته قبل ظهور أبديته بدليل قوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وفي رواية وآدم منجدل في طينته أي وآدم مراد إيجاده منهما في وقته فلا بينة ولا انجدال حال نبوته ثم اعلم أن ملخص الأقوال في تفسير قوله سبحانه وتعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ستة أقاويل أولها أنه وجدك ضالا عن الشريعة وأحكامها فأرشدك إليها بتمامها وثانيها أنه وجدك منسوبا إلى الضلالة عند الأعداء فبين أمرك بالبراهين القاطعة للأحباء وثالثها أنه وجدك بين قوم ضلال فأرشدك إلى ما تميزت به عنهم إلى مقام الوصال ورابعها أنه وجدك ضالا بتزويج ابنتك في الجاهلية لبعض الكفرة فبين لك أن المشرك لا يتزوج المسلمة قال ثعلب وهذا هو قول أهل السنة في هذه الآية وخامسها أنه وجدك ضالا بين مكة والمدينة فأراك الطريق وذلك عليه وبينه أو إشارة إلى ضلالته وهو صغير في شعاب مكة حيث وجده ورقة بن نوفل ورجل من قريش فرداه إلى جده عبد المطلب وسادسها أنه وجدك ضالا أي عاشقا ومحبا فهداك إلى محبوبك والقول الأول في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 تفسير الآية هو المعول كما بينه قوله تعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً . (السّادس) أي من الستة (أمره) فعل ماض على ما صرح به الحلبي والأظهر أنه مصدر مضاف إلى مفعوله (بإظهار نعمته عليه) مصدر مضاف إلى الفاعل عام في جميع ما أنعم به عليه إذا أضافة المفرد قد تفيد العموم (وشكر ما شرّفه به) أي ما أحسنه إليه وعظمه لديه (بنشره) أي ببسط ما شرفه به وإظهاره تبجحا بالنعمة وقياما بشكر المنعم لا افتخارا بالعطية والحال الملم (وإشادة ذكره) أي وتشهير ذكر ما شرفه به ورفع قدره وتعظيم شأنه وأعلاء أمره وبيانه وتعريف حاله (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضُّحَى: 11] فإنّ من شكر النّعمة التّحدّث بها) لحديث التحديث بالنعمة شكر وفي نسخة التحديث وفي أخرى الحديث ومن التحدث بها إظهارها في الملبس والمركب ونحوهما لحديث إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه (وهذا) أي أمره بإظهارها (خاصّ له) صلى الله تعالى عليه وسلم (عامّ لأمّته) لأنه إمامهم فأمره كأمرهم وقال مجاهد معنى قوله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ بث الشرائع والقرآن والمشتمل على البدائع والأولى حمل الآية على عموم النعمة ولعل هذا منشأ ما كان بعض الصالحين يخبر بجميع ما يفعله من الطاعات للسالكين كأنه ينحو إلى أنها نعمة أنعم الله سبحانه وتعالى بها عليه فيجب عليه التحدث بها مع أنه قد يقصد أن الناس يقتدون به في فعلها (وقال تعالى) حال لازمة من ضمير قال أي متعاليا عما لا يليق بجنابه الكريم (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْمِ: 1] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النَّجْمِ: 18] . اختلف المفسّرون في قوله تعالى: وَالنَّجْمِ [النجم: 1] ) أي في المراد به اختلافا مصحوبا (بأقاويل معروفة منها) أي من جملة الأقاويل قولهم (النّجم على ظاهره) فالمراد به إما جنس النجوم أو الثريا لغلبته عليها وهي سبعة كواكب على ما ذكره السهيلي ولا يكاد يرى السابع منها لخفائه وفي الحقيقة إنها اثنا عشر كوكبا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يراها كلها بقوة جعلها الله تعالى في بصره كما ذكر ابن خيثمة من طريق ثابت عن العباس عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو الزهرة لأنهم كانوا يعبدونها فنبهوا على انتقالها وزوالها كما ذكره الغزنوي في تفسيره أو الذي يرحم به فهواه غروبه أو انتثاره وانكداره يوم القيامة أو انقضاضه أو طلوعه إذ يقال هوى هويا بالفتح إذا سقط وغرب وبالضم إذا علا وصعد. (ومنها) أي من جملة الأقاويل إن النجم هو (القرآن) لأنه نزل منجما في دفعات متعددة وأوقات مختلفة فالهوى بمعنى النزول ويؤيده قوله فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ الآيات على ما اختاره بعض المفسرين وقيل إنه اسم جنس للصحابة ولعلماء هذه الأمة كما ورد عن سيد الأئمة أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ذكره في عين المعاني قال الدلجي فالهوى على هذا كناية عن الموت يعني موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى ولا يخفى بعده فإن الاقتداء بهم والاهتداء أعم من زمن حياته وبعد وفاته فالهوى بمعنى الظهور والعلو. (وعن جعفر بن محمّد) أي الصادق (أنّه) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 النجم المقسم به (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) قال الدلجي وكثيرا ما يذكر المصنف السلام بدون الصلاة مع كون إفراد أحدهما مكروها قلت المحققون كالجزري وغيره على أنه لا يكره وإنما الجمع أفضل، (وقال) أي جعفر (هو قلب محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) اقول بل هو صلى الله تعالى عليه وسلم بقلبه وقالبه نور يستنار منه الأنوار ويستضاء منه الأسرار وقد ورد اللهم اجعلني نورا وقد سماه الله تعالى نورا على ما تقدم والله تعالى أعلم فالهوى بمعنى الظهور كما هو ظاهر في معنى النور وأما على إرادة قلبه فلعل المراد بهواه ميله إلى ربه وغيبته عن غيره واستغراقه في حبه ويؤيد ما قلناه من إرادة كله قوله، (وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) أي البادي ليلا وأصله لسالك الطريق وخص عرفا بالآتي ليلا ثم استعمل في البادي فيه (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) أي شيء أعلمك أنه ما هو يعني أنه شيء عظيم لا يعرفه أحد ثم بينه أنه (النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق: 1- 3] ) أي المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه أي (إِنَّ النَّجْمَ هُنَا أَيْضًا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) عبر عنه أولا بوصف عام ثم بين بما يخصه تفخيما لشأنه وتعظيما لبرهانه بجامع أن كلا يهتدي به وإن كان بينهما بون بين (حكاه السّلميّ) أي نقله في تفسير الحقائق. (تضمّنت) أي فقد جمعت (هذه الآيات) أي من قوله وَالنَّجْمِ إِذا هَوى إِلَى قَوْلِهِ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (من فضله وشرفه) أي الزائد على غيره (العدّ) بكسر العين وتشديد الدال المهملتين أي الشيء الكثير الذي لا تنقطع مادته وأصله في الماء يقال ماء عد إذا كانت له مادة غير منقطعة كماء العين والبئر (ما يقف) أي العد الذي يقف (دونه) أي ينقطع قبله والضمير للعد وقال الدلجي أي يقف دون كل منهما (العدّ) بالفتح أي الاحصاء والاستقصاء والعد أيضا العدد هذا ولما نسبت الكفار المسمى بالهدى إلى الضلال والردى وأن ما ينطق به إنما هو عن الرأي والهوى رد الله عليهم وكذبهم، (وأقسم جلّ اسمه) أي عظم كمسماه (على هداية المصطفى وتنزيهه) أي براءة ساحته وأغرب التلمساني حيث قال أي تعظيمه، (عن الهوى) أي فيما أخبر به للورى، (وصدقه فيما تلا) أي قرأ، (وأنّه) أي متلوه (وَحْيٌ يُوحَى أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ جِبْرِيلُ) أي عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى على خلاف في مرجع الضمير المنصوب هل هو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلّم، (وهو) أي جبريل (الشّديد القوى) من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي شديد قواه لأنه هو الواسطة في ابتداء خوارق العادة كاقتلاع قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصياحه صيحة واحدة لقوم ثمود فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ وقيل المراد به الحق جل جلاله يعني شديد القوى والقدرة والحكمة ونسب هذا القول إلى الحسن (ثمّ أخبر تعالى) أي بعد قسمه وبراءة ساحته (عن فضيلته بقصّة الإسراء) أي بقضية المعراج المبتدأ بعد الإسراء إلى المسجد الأقصى كما أشار إليه بقوله، (وانتهائه إلى سدرة المنتهى) أي بقوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى وهي عند أكثر المفسرين شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ينتهي إليها علم الخلائق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 (وتصديق بصره فيما رأى) أي بِقَوْلِهِ تَعَالَى مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى يعني ما رأى النبي صلى الله عليه وسلّم ببصره من صورة جبريل أو من ذاته سبحانه أي ما كذب قبله بصره بما حكاه له فإن الأمور القدسية تدرك أولا بالقلب ثم بالبصر أو ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قاله لكذب لأنه عرفه بفؤاده كإراءة بصره يقينا لا تخييلا إذ قد سُئِلَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي والجمع بين روايات المحدثين وقول المفسرين واختلاف الصحابة والتابعين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه مرتين مرة ببصره وأخرى ببصيرته هذا وقيل الضمير في رأى عائد على الفؤاد نفسه أي ما كذب الفؤاد ما رآه بل صدقه وتحققه والرؤية ههنا حينئذ بمعنى العلم وكذب بالتخفيف ككذب بالتشديد كما قرئ بهما، (وأنّه رأى من آيات ربّه الكبرى) أي بقوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي رأى ليلة الإسراء عند عروجه إلى السماء بعض آياته الملكية والملكوتية أو كلها فمن مزيدة والكبرى صفة للآيات، ((وقد نبّه) أي الله سبحانه وتعالى (على مثل هذا) أي رؤيته من آيات ربه (في أوّل سورة الإسراء) أي بقوله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا والأظهر أن قوله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا في المسجد الأقصى وقوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى في السموات العلى، (ولمّا كان ما كاشفه) أي الذي رآه (عليه السلام) أي برؤيته بمعنى اطلع عليه ورآه ابتداء لا بمعنى رفع غطاءه وإن زعم لأنه لو اراد هذا المعنى لقال وكشفه ولعدم مناسبته للمقام إذ لا يقال رفع غطاء ما هنالك (من ذلك الجبروت) بفتحتين فعلوت مبالغة من الجبر بمعنى القهر كالعظموت من العظمة والمراد أنه رأى ما يدل عليه إذ هو معنى المعنى لا يشاهد بالبصر الظاهر إلا أن تحمل الرؤية على رؤية البصيرة فالمراد بها العلم والمعرفة (وشاهده من عجائب الملكوت) مبالغة من الملك كالرهبوت من الرهبة والرحموت من الرحمة والمحققون على أن الملك ظاهر السلطنة والملكوت باطنها وقيل المراد بالملك العالم السفلي وبالملكوت العلوي (لا تحيط به العبارات) أي لا تشمله أنواع التعبيرات ولا تحويه أصناف التفسيرات لقصور الافهام عن إدراكه على وجه الحقيقة والجملة خبر كان (ولا تستقلّ) بتشديد اللام أي لا تستبد (بحمل سماع أدناه) أي أقله (العقول) لعجزها عن حمل أقله فضلا عن حمل أكثره (رمز) جواب لما أي أشار الله سبحانه وتعالى (عنه تعالى) أي عما كاشفه صلى الله تعالى عليه وسلم وأطلع عليه (بالإيماء) متعلق برمز ولعل الإيماء أغمض من الرمز في الإنباء من جهة الإخفاء كالإشارة بالعين والحاجب ونحوهما (والكناية) عطف على الإيماء والمراد بهما التلويح وترك التصريح بدليل قوله (الدّالة على التّعظيم) والحاصل أنه سبحانه وتعالى رمز وأومأ وكنى عما كاشفه بما المبهمة الدالة على الفخامة والعظمة (فقال فَأَوْحى ) أي جبريل أو الله تعالى (إِلى عَبْدِهِ ) أي عبده الخاص الواصل إلى مقام الاختصاص صلى الله تعالى عليه وسلم (ما أَوْحى [النجم: 10] ) أي شيئا عظيما لا يعلم كنهه سواه ففي إبهامه من التفخيم ما ليس في إيضاحه وقيل المعنى فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحاه جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقد قال بعضهم أوحى إلى عبده أن لا يدخل أحد من الأمم الجنة قبل أمته ولعل المعنى أن هذا من جملى ما أوحي إليه (وهذا النّوع) أي الرمز بالكناية والإيماء (من الكلام) أي من أنواعه (يسمّيه أهل النّقد) أي النظر السديد، (والبلاغة) أي الفصاحة والمراد العارفون بجيد الكلام وبهرجه تشبيها لهم بصيارفة الذهب والفضة (بالوحي والإشارة) أي هنا لعدم الصراحة بالموحى به والمشار إليه فهما اسمان لمعنى واحد إذ هما أحد ما صدقا به كالكناية والإلهام والكلام الخفي قد يتفاوت وضوحا وخفاء، (وهو) أي النوع المسمى بهما (عندهم أبلغ أبواب الإيجاز) أي من حيث إنه جوامع الكلم المشابهة لكونها مبهمة للألغاز حيث فيها مبان يسيرة ومعان كثيرة يذهب فيها الفكر كل مذهب يمكن الانصراف إليها هذا وقيل كل كلام إما ناقص عن معناه أو مساو له أو زائد عليه إيجازا أو مساواة أو إطنابا وأعلاها الأول من حيث إن المعاني هي المقاصد والعبارات طرق لها فكلما قلت العبارة كان ذلك كالقرب في الطريق فكان أحق بالسلوك ويليه المساواة في الاستحسان لاقتفائها له في القرب وأكثر صياغة العبارات مصوغة عليها والاطناب كالبعد في الطريق فتراه متروكا غالبا إلا فيما يحتاج إليه من باب الخطب والمواعظ ومقام التوكيد ولكل مقام مقال بحسب اختلاف الأحوال كما قال قائلهم: يومون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ حيفة الرقباء (وَقَالَ: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] أي الدالات على عظمته تعالى (انحسرت الأفهام) جمع فهم وهو عبارة عن إزالة الوهم المستولي على القلب يقال فهم كذا إذا عقله والمعنى كلت العقول (عن تفصيل ما أوحى) أي إليه إذ لا يحيط به حد ولا يحصيه عد والمراد تفصيل الشيء بيان أجزائه مفصلة وأغرب التلمساني حيث فسره بالتميز، (وتاهت الأحلام) أي وذهبت العقول متحيرة (في تعيين تلك الآيات الكبرى) فلم تهتد إلى معرفة شيء منها لكثرتها وفي نسخة في تعبير تلك الآيات أي تبيينها وتفسيرها والعقل محله القلب لقوله تعالى فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها. (قال القاضي أبو الفضل) كذا في نسخة (واشتملت) أي دلت (هذه الآيات) أي السابقة (على إعلام الله) مصدر مضاف إلى فاعله أي على اخباره سبحانه وتعالى (بتزكية جملته) أي بتطهير ذاته وتنمية صفاته عليه السلام، (وعصمتها) أي ويحفظ الله جملته (من الآفات) أي التي تجري في الذوات (في هذا المسرى) بفتح الميم والراء مصدر ميمي أو اسم مكان (فزكّى فؤاده) أي مدح الله قلبه (ولسانه وجوارحه) أي أعضاءه التي يكتسب العمل بها وينتسب الفعل إليها والمراد هنا بصره لما سيجيء في بيان حصره (فقلبه) وهو تفصيل لما أجمله والظاهر كما في أصل الدلجي وغيره فزكى قلبه (بِقَوْلِهِ تَعَالَى مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى) وتقدم ما تعلق به من المعنى (ولسانه بقوله: تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] ) أي لا يصدر نطقه عن هواه بل بوحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 من الإله جليا كالكتاب أو خفي كالسنة وقد تعلق بظاهر الآية من لم يجوز له الاجتهاد وهو بعيد عن طريق السداد وعن استنباط المعنى المراد وأما ما ذكره ابن عطية من أن ضمير ينطق عائد إلى القرآن وإن لم يجر ذكره لدلالة الكلام عليه أي لا ينطق هذا القرآن بشهوتكم ومرادكم ونسب النطق إليه من حيث يفهم منه الأمور كلها قال تعالى هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ فغير ملائم لمقام المرام (وبصره بقوله: تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ) أي ما مال عما رآه إلى ما سواه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يحول بصره عما رآه إلى جهة من الجهات (وَما طَغى [النجم: 17] ) أي ما تجاوز وما تعدى عن رؤية ما أمر برؤيته غيره في المقام الأعلى بل تثبت فيه ورآه رؤية صحيحة مستقيمة من غير وجل ودهشة وحيرة هذا وقد بقي الكلام على بقية الآيات فيما بين ذلك وهو قوله سبحانه وتعالى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى فظاهره أن الضمير في استوى لجبريل عليه الصلاة والسلام والكناية بقوله تعالى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا مانع من عكس الترتيب في هذا التركيب ولا يبعد أن يكون الضمير أن يرجعان إلى أحدهما والجملة حالية وأما جعل الضميرين لله سبحانه وتعالى فهو غير ظاهر كما لا يخفى ثم قوله تعالى فَتَدَلَّى أي دنى جبريل من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فتدلى وزاد في القرب وقيل أي دنى محمد من ربه فتدلى وأما قوله تعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي مقدارهما بل أدنى فهو كناية عن كمال القرب فإن كان بين الرسولين فلا إشكال وإن كان بين الله ورسوله فهو كناية عن المكانة أو من الآيات المتشابهات وقد ذكرت بعض الفوائد المتعلقة بأوائل سورة النجم في رسالتي المعمولة للمعراج (وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)) أي بالكواكب الرواجع من خنس إذا تأخر وهي ما عدا النيرين وهو زحل المشتري والمريخ والزهرة وعطارد ومجموع السبعة السيارة نظمت في قوله: زحل شرى مريخه من شمسه ... فتزاهرت بعطارد أقمار (الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: 15- 16] ) أي السيارات التي تختفي تحت ضوء الشمس من كنس الوحش إذا دخل كناسه أي بيته (إلى قوله: وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ [التكوير: 25] ) وهو كل متمرد من الجن والإنس والدوارب قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (لرجيم) أي مرجوم ومطرود ومبعد وما بينهما هو قوله سبحانه وتعالى وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أقبل أو أدبر والأول أنسب بقوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أسفر قال المصنف (لا أقسم، أي أقسم) يعني على القول بزيادة لا وإلا فالمعنى فلا عبرة بما قالوا في حق القرآن وفي شأن المنزل عليه بل اقسم أي بما ذكر إِنَّهُ أي القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ أي قاله عن ربه كَرِيمٍ أي مكرم معظم، (عند مرسله) وهو الله سبحانه وتعالى ذِي قُوَّةٍ أي صاحب قوة وقدرة (على تبليغ ما حمّله) بتخفيف الميم على صيغة الفاعل وكذا يجوز بصيغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المفعول مشددا وكذا بصيغة الفاعل على ما ضبطه في بعض النسخ (من الوحي) أي مما أوحي إليه من الحق إلى الخلق، (مكين) أي ذي مكانة ومنزلة عليه عارية عن المنقصة في مرتبته (أي متمكّن المنزلة) أي الجاه ولكون المكانة على حسب حال المتمكن قال عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ تلويحا بعظم مكانته ومنزلته وعلو مرتبته كما أشار إليه المصنف بقوله (من ربّه، رفيع المحلّ) بفتح الحاء وجوز كسرها أي على الشأن (عنده) أي عنده سبحانه وتعالى عندية منزهة عن المكان والزمان وقوله تعالى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ متعلق بقوله تعالى ذِي قُوَّةٍ أو بمكين (مطاع) أي ذي إطاعة مع كونه صاحب طاعة، (ثمّ) بفتح المثلثة (أي في السّماء) إذ قد بلغ فيها ليلة الإسراء ملائكة السماء فأطاعوه أجمع في ذلك الإنباء وقرئ بضم المثلثة فالمراد بها التراخي في الرتبة، (أمين على الوحي) أي مأمور على تحمل ما أوحى إليه وتبليغ ما أنزل عليه ومقبول القول لديه والظرف يحتمل وصله بما بعده وما قبله. (قال: عليّ بن عيسى) أي الرماني النحوي المنسوب إلى زمان الفاكهة وبيعه أو لقصر الرمان موضع معرف بواسط وهو من أصحاب ابن دريد مات سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وهو صاحب كتاب النكت في إعجاز القرآن إمام مشهور في سائر العلوم وعن ابن السراج أنه تمذهب إلى الاعتزال والله تعالى أعلم بالحال، (وغيره) أي من أرباب المقال: (الرّسول الكريم) كان الأولى أن يقول رَسُولٍ كَرِيمٍ (هنا) أي في هذا المقام العظيم (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فجميع الأوصاف) أي المذكورة هنا (بعد) أي بعد ذكره وفي نسخة تعد بضم منقوطة بنقطين وفتح عين وتشديد مهملة أي تذكر (على هذا) أي على هذا القول (له) أي لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم. (وقال غيره) أي غير علي بن عيسى وهم الأكثرون من العلماء (هو) أي الرسول الكريم (جبريل فترجع الأوصاف إليه) أي بخلاف وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ فإن المراد به محمد صلى الله عليه وسلّم بإجماع المفسرين وذلك أن المشركين قالوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فنفى الله سبحانه وتعالى عنه ذلك بهذه الآية وبقوله سبحانه وتعالى ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وقد تمسك بعض المعتزلة وطائفة من أهل السنة في تفضيل الملائكة لعده فضائل جبريل عليه الصلاة والسلام واقتصاره على نفي الجنون عنه صلى الله عليه وسلّم وضعف بأن المقصود منه نفي قولهم إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ لأعد فضلهما والموازنة بينهما، (وَلَقَدْ رَآهُ) أي بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (يعني) أي يريد الحق سبحانه وتعالى بالرائي (محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم قيل) أي نقل عن ابن مسعود وغيره (رأى) أي محمد (ربّه) وقدم هذا القول لأنه أوفى بالغرض الذي هو مدح الرسول، (وقيل رأى) أي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (جبريل في صورته) أي التي خلق عليها فقيل إن ذلك إشارة إلى رؤيته إياه عند سدرة المنتهى وقيل إنه إشارة إلى رؤيته إياه في غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض حسبما ثبت في الصحيح، (وما هو) أي ليس النبي صلى الله عليه وسلّم (على الغيب) أي على ما يخبر به مما أوحي إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وغيره من الأمور الغيبية (بظنين) بالظاء المشالة وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي، (أي بمتّهم) يعني من الظنة وهي التهمة، (وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّادِ فَمَعْنَاهُ مَا هُوَ بِبَخِيلٍ) أي في تبليغ رسالته إلى عموم أمته من الضنة وهي البخل (بالدّعاء به) متعلق ببخيل أي بدعائه الخلق إلى الحق وفي رواية كما في نسخة بالدعاية بالتحتية كالبداية وقيل هي من الادعاء إذا قال في الحرب أنا فلان كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة حنين أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، (والتّذكير بحكمه) أي وبتذكيرهم بأحكام ربهم (وبعلمه) يحتمل أن يعود ضميره إلى الحكم أي وليس ببخيل بعلم كونه واجبا أو مندوبا أو حراما أو مكروها أو مباحا لهم ويحتمل عوده إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أي ولا يبخل أن يعلمهم إياه كما علمه ولا يكتم شيئا (وهذه لمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وهذه الآية وهي وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ على القراءتين صفة لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم (باتّفاق) أي من المفسرين إذ لم يقل أحد بعود ضمير هو إلى جبريل عليه الصلاة والسلام، (وقال تعالى: ن) اسم للحرف أو الحوت وأريد به الجنس أو للحوت الذي عليه الأرض أو للدواة فإن بعض الحيتان يخرج منه شيء أشد سوادا من الحبر يكتب به وينصر الأول سكونه ورسمه بصورة مسماه ويؤيد الثاني قوله تعالى وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وحينئذ فالأنسب أن يراد به ذلك الحوت بعينه أو المراد جنسه الداخل فيه ويقوي الثالث قوله تعالى (وَالْقَلَمِ [القلم: 1] ) وهو ما كتب به اللوح المحفوظ أو ما يكتب به مطلقا (وما يسطرون) أي يكتبون والكتبة هم الحفظة كراما كاتبين أو الأعم والله أعلم (الآيات) أي الواردة في أول السورة في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم من حسن السيرة والصورة (أقسم الله تعالى بما أقسم به) لكثرة فوائده (من عظيم قسمه) أي تعظيما له وتكريما في تخصيص ذكره (على تنزيه المصطفى) أي تبرئته وتبعيده (ممّا غمصته) بمعجمة ومهملة بينهما ميم أي عابه واحتقره (الكفرة به وتكذيبهم له) أي وعلى تكذيبهم للمجتبي في قولهم له أنه كذاب وساحر ومجنون (وآنسه) من باب الأفعال أو التفعيل أي جعله ذا أنس بقربه ومستأنسا بحبه (وبسط أمله) أي نشر مأموله ومقصوده وأكثر له رجاءه فيما شاءه (بقوله محسنا) من باب التفعيل أو الأفعال حال من ضمير ما قبله أي مزينا (خطابه) في كتابه بقوله (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] ) جواب القسم في الآية ومقول القول في الأصل أي ما أنت بمجنون منعما عليك بالنبوة وغيرها والمعنى أنهم مجانين حيث قالوا إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ والحال أنك أعقل العقلاء وافضل العلماء وأكمل العرفاء وسيد الأنبياء وسند الأصفياء والأولياء (وهذه) أي الحالة العظيمة أو المنقبة الجسيمة المأخوذة من قوله آنسه وبسط أمله أو التأنيث باعتبار الخبر وهو قوله (نهاية المبرّة في المخاطبة) أي غاية الإحسان والمطاوعة في المكالمة والمجاوبة (وأعلى درجات الآداب في المحاورة) أي المراجعة والمراددة (ثمّ) أي بعد أن نزهه وبرأه عما لا يليق به مما نسبوا إليه (أَعْلَمَهُ بِمَا لَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَعِيمٍ دَائِمٍ) أي أبد الآبدين (وثواب غير منقطع) أي غير ممتنع في زمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وحين (لا يأخذه عدّ) أي لا يضبطه عد ولا يحيط به حد (ولا يمنّ به عليه) من الامتنان أي ولا يجعله تحت الامتنان مع أن له المنة في الإحسان افتعال من المن وهو الإحسان الذي تمن به على غيرك وفي نسخة ولا يمن به عليه يقال من وأمتن عليه إذا عد عليه بمعروف اسداه إليه صنعه وقيل الامتنان عد الصنيع لإظهار الفضل، (فقال، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير منقطع أو غير ممنون به عليك فإنه يعطيك بلا واسطة، (ثمّ أثنى عليه بما منحه) أي أعطاه (من هباته) جمع هبة أي موهوباته وتفضلاته، (وهداه إليه) أي ودله عليه والحاصل أن المصنف رحمه الله تعالى جمع بين أقوال المفسرين في معنى قوله غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير منقطع وهو قول الأكثر أو غير محسوب ولا معدود وهو قول طائفة أو غير ممتن به وهو قول ضعيف ذكره الهروي في غريبه، (وأكّد ذلك) أي الذي يدل على ما منحه (تتميما للتّمجيد) من المجد وهو الكرم والعظمة أي تكميلا للتعظيم والتكريم بنسبته إليه (بحرفي التّوكيد) وهما ان واللام (فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [الْقَلَمِ: 4] ) قيل استعظمه لفرط احتماله أذى قومه مع مبالغتهم في عداوتهم وهو يقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون (قيل) أي في تفسير خلقه العظيم (القرآن) أي ما فيه من مكارم الأخلاق ومن ثم قيل هو ما أمره الله بقوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في تفسيره صل من قطعك وأعط من حرمك وأعف عمن ظلمك وهذا القول هو المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها لما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالت كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى بِرِضَاهُ وَيَسْخَطُ بِسُخْطِهِ، (وقيل الإسلام) وهو المنقول عن ابن عباس والمراد بالإسلام ههنا هو التوحيد الحقيقي والانقياد الظاهري والباطني لأوامر الله وأحكامه وقضائه وقدره كما قال تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، (وقيل الطّبع الكريم) ولذا كان يخالق الناس بمكارم الاخلاق ويخالطهم بلطفه وارفاقه وهو المنقول عن الماوردي، (وقيل ليس لك همّة) أي مقصد ونهمة (إلّا الله) أي الذي بيده كل رحمة ونعمة فكان مع الخلق بقالبه مباينا لهم بقلبه وهذا منسوب إلى الجنيد. (قال الواسطيّ أثنى عليه بحسن قبوله) أي أثنى الله على نبيه بقبوله الحسن (وحسن إقباله) أي ذي المنن (لما أسداه إليه من نعمه) أي لما أوصله إليه وأولاه من نعمه الظاهرة والباطنة في دنياه وأخراه (وفضّله بذلك) أي بما ذكر (على غيره) أي من جميع خلقه (لأنّه جبله) أي طبعه وخلقه (على ذلك الخلق) وفي نسخة على تلك الخلق فالخلق بمعنى الخصلة أو السجية (فسبحان اللّطيف) أي بعباده يرزق من يشاء (الكريم) أي الذي وسع كرمه كل شيء (المحسن) أي الذي لا يستغني أحد عن إحسانه وبره وامتنانه (الجواد) أي الكثير العطاء والجود بالنسبة إلى كل موجود (الحميد) الذي يحمده كل أحد من مخلوقاته وهو حامد لأنبيائه وأصفيائه القائمين بوظائف طاعاته وعباداته وفي أصل الدلجي المجيد أي ذي المجد والكرم ففي الحديث القدسي والكلام الأنسي وذلك أني جواد ماجد رواه الترمذي والبيهقي (الذي يسّر الخير) أي سهله وفي نسخة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 للخير أي هيأ إهلاله كما قال تعالى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (وهدى إليه) أي ودله عليه كما قال تعالى وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (ثمّ أثنى على فاعله) أي فاعل الخير نحو قوله تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (وجزاه عليه) أي أثابه بما منحه عليه في الدنيا ووعد له بالمزيد في العقبى بنحو قوله تعالى إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ هذا (سبحانه) اسم للتسبيح بمعنى التنزيه وقد يجعل علما له فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف ثم نصبه بفعل ترك إظهاره ويصدر به الكلام للتنزيه عن السوء والملام فهذا أيضا معنى قوله (سبحانه) بدلا مما قبله (ما أغمر) بالغين المعجمة فميم وراء في نسخة ما أعم (نواله) بفتح النون والصيغة للتعجب أي ما أكثر عطاءه (وأوسع إفضاله) بكسر الهمزة أي بره وإحسانه (ثمّ سلّاه) من التسلية وهي التعزية والتهنئة والمعنى أزال عنه ما حز به من الغم وكربه من الهم (بعد هذا) أي بعد هذا المدح والثناء ووعد البر والعطاء وأبعد الدلجي حيث قال أي بعد ما قالوه (عن قولهم) متعلق بسلاه أي عن مقول الكفار في حقه مما لا يليق بجنابه وهو في أصل الدلجي متصل بسلاه وقوله بعد هذا (بما وعده به من عقباهم) بضم العين أي من سوء عاقبتهم الذي هو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين وفي نسخة من أعقابهم أي عذابهم وحجابهم (وتوعّدهم) أي وبما أوعدهم وخوفهم (بقوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) [القلم: 5] . الثّلاث الآيات) أي إلى قوله تعالى وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وهو منصوب بأعني أو أقرأ ويجوز رفعه وخفضه كما تقدم والضمير في فستبصر للنبي صلى الله عليه وسلّم وفي ويبصرون للكفار وهذا الإبصار إما في هذه الدار وإما في دار القرار للأبرار وفي دار البوار للفجار والمعنى فستر أو فستعلم ويبصرون بأيكم المفتون أي أيكم الذي فتن بالجنون والباء مزيدة أو بأيكم الجنون على أن المفتون مصدر بمعنى الفتنة كما قالوا ليس له معقول أي عقل ما فالمعنى بأيكم الفتنة وهي كناية عن الفساد والجنون الذي رموه به أو بأي الفريقين الجنون ابفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم فالباء على هذا ظرفية وخلاصته في أي فريق منكم الرجل المفتون ثم ختم الله سبحانه تعالى الآية بوعيدهم ووعد نبيه صلى الله عليه وسلّم فأوعدهم بقوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ووعده بقوله تعالى وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فكأنه قال هو أعلم بالمجانين على الحقيقة واليقين وهو أعلم بالمهتدين بحيازتهم كمال العقل في الدين (ثمّ) أي بعد أن مدحه الله وسلاه متوعدا إياهم (عطف) أي التفت وكر (بعد مدحه على ذمّ عدوّه) قيل هو الأخنس بن شريق وكان ثقيفا ملصقا في قريش والأظهر أنه الوليد بن المغيرة ونقل الثعلبي في تفسيره أنه أبو جهل ونسب هذا إلى ابن عباس رضي الله عنهما أيضا وقيل هو عتبة بن ربيعة وكثير الله من المفسرين على أن جميع الصفات التي في هذه الآيات إنما جاءت أجناسا ولم يرد بها رجل بعينه بل المراد أن كل من يكون متصفا بوصف منها فلا تطعه فيها (وذكر سوء خلقه) أي وعلى ذكر سوء خلق عدوه، (وعدّ معايبه) أي وعلى تعداد قبائح مبغضه (متولّيا) أي مباشرا بنفسه (ذلك بفضله) أي من غير وجوب شيء عليه (ومنتصرا لنبيّه صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 تعالى عليه وسلّم) أي منتقما لأجله من أعدائه (فذكر) أي الله سبحانه وتعالى في كلامه بعد ذلك (بضع عشرة) بسكون الشين وتكسر وروي بضعة عشر (خصلة) بفتح الخاء أي خصلة قبيحة وخلة ذميمة والبضع بفتح الموحدة ويكسر ما بين الثلاث إلى التسع وهذا هو المشهور وأراد المصنف إحدى عشرة خصلة وهذا على قول من يقول بدؤه الواحد ومنتهاه العشرة لأنه قطعة من العدد ويجري في التذكير والتأنيث مجرى العدد المركب (من خصال الذّمّ فيه) أي من بعض الخصال المذمومة في عدوه (بقوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم: 8] ) تهييج لتصميمه على معاصاتهم (إلى قوله: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [القلم: 15] ) وهو قوله وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ أي لو تلين فتدع نهيهم عن الشرك فيميلون أيضا إليك في بضع ما تدعوهم إليه وذلك أن قريشا قالوا في بعض الأوقات لرسول الله صلى الله عليه وسلّم لو عظمت آلهتنا لعبدنا إلهك وعظمناه فنهاه الله عن ذلك بقوله فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ أي كثير الحلف حقا وباطلا وكفى به زاجرا لمن اعتاد الحلف حيث يخاف عليه من الكذب كما ورد كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع مهين أي ذي مهانة وحقارة وحاصله أنه ضعيف وحقير ووزنه فعيل لا مفعول والميم أصلية لا زائدة هماز عياب في أعراض الناس مشاهدة مغتاب في حقهم غيبة مشاء بنميم نقال للحديث على وجه السعاية للفساد والنمم مصدر كالنميمة وهو نقل القبائح مناع للخير أي كثير المنع منه فقيل المراد بالخير هو المال فعلى هذا هو وصف بالشح وقيل بل هو على عمومه في المال وجميع أفعال الخير والخصال معتد متجاوز في الظلم أثيم كثير الإثم عتل جاف غليظ من عتله أي دفعه بعنف وشدة بعد ذلك أي بعد ما عد من مثالبه ومعايبه زنيم أي دعي كالوليد بن المغيرة ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده قيل إن الله سبحانه وتعالى لا يعيب أحدا بالأنساب ولكن ذكره ليعرف بذلك وما أحسن قول حسان: وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد إن كان ذا مال وبنين علة لما بعده وقرأ حمزة وشعبة بهمزتين فالتقدير الآن كان ذا مال كثير وبنين متعددة قيل كانوا عشرة وقيل اثني عشر إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي قال ذلك حين تليت عليه والأساطير جمع اسطورة بضم الهمزة كأحدوثة وأحاديث وقيل الأساطير جمع اسطار والاسطار جمع سطر بفتح الطاء كذا في حاشية المنجاني وفي القاموس السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر وغيره وجمعه اسطر وسطور واسطار وجمع الجمع اساطير والخط والكتابة ويحرك في الكل انتهى وأراد الكافر به الاباطيل المنسوبة إلى المتقدمين وقائله النضر بن الحارث وسببه أنه دخل بلاد فارس وتعلم أخبار رستم وغيره (ثمّ ختم) أي الله سبحانه (ذلك) أي ما ذكره من مثالب ذلك الشقي (بالوعيد الصّادق) وفي نسخة بالوعيد الصدق (بتمام شقائه) أي تعبه أو كمال شقاوته (وخاتمة بواره) أي هلكه ودماره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 (بقوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: 16] ) أي سنكويه على أنفه إهانة له وخص الأنف لأن السمة عليه أبشع وظهورها اشنع وأشيع وقيل أي نجعل على وجهه يوم القيامة سمة سوداء تكون منبهة عليه ومعرفة به قبل دخوله النار كما قال الله تعالى يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ أو معناه أنه يعذب إذ ذاك بنار تجعل على أنفه فتكون فيه كالسمة وقيل هذا في الدنيا وهي كناية عن ضربة يضرب بها وجهه وأنفه فتبقى فيه كالسمة قالوا وقد حل ذلك يوم بدر على أنف الوليد جراحة ظاهرة وعلامة باهرة وقيل ليس السمة هنا على حقيقتها وإنما هي كناية عن شهرته بما يبقى له مذموما ولا يمكنه إخفاؤه كالموسوم بسمة على أنفه والخرطوم في الأصل إنما هو للسباع كالفيل واستعمل في الآية للإنسان استعارة وإشارة إلى أنه شبيه بالحيوان صورة وسيرة كما قال تعالى أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة عن الحضرة وقيل إنما عدل عن الأنف إلى الخرطوم لأن الأنف محل العز والأنفة لا كذلك الخرطوم لأنه محل المذلة والإهانة ولذا قيل الأنف في الأنف وقيل الخرطوم الوجه كله وهذا في الإنسان وربما قيل له في الأنف كغيره ومجمل الكلام وزبدة المرام في هذا المقام أي سنجعل له سمة أي علامة على الخرطوم أي على أنفه إما حسا كضرب أنفه بالسيف يوم بدر وبقيت علامة في أنفه حتى يأنف من أنفه أو يكون سوادا في وجهه زائدا عن غيره من الكفار في القيامة لشدة عناده وعتوه وأما معنى كسوء ذكره بالذم والمقت والاشتهار بالشر بحيث لا يخفى ذلك بوجه فيكون ذلك كوسمة على أنفه ويمكن تحقيق الجميع في حفه (فكانت نصرة الله له) أي لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على عدوه (أتمّ من نصرته) عليه الصلاة والسلام بنفسه (لنفسه) أي فإن من كان لله كان الله له، (وردّه) أي كان رده (تعالى على عدوّه أبلغ من ردّه) صلى الله تعالى عليه وسلم (وأثبت في ديوان مجده) أي في ديوان كرمه وشرفه وهو بكسر الدال وتفتح والجمع دواوين ودياوين وأصله ديوانه بالفارسية وذلك أن كسرى أمر كتابه أن يجتمعوا في دار واحدة ويعملوا حساب السواد في ثلاثة أيام وأعجلهم فيه وأطلع عليهم لينظر ما يصنعون فنظر إليهم فرآهم يحسبون بأسرع ما يمكن وينسخون كذلك فعجب من كثرة حركتهم فقال أين ديوانه أي هؤلاء مجانين وقيل شياطين ثم قيل في كل مخفل ديوان وأول من دون في الإسلام عمر رضي الله تعالى عنه. الْفَصْلُ السَّادِسُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في جهته عليه الصلاة والسلام مورد الشفقة والإكرام] (فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي جِهَتِهِ) أي في حقه (صلى الله تعالى عليه وسلم مورد الشفقة والإكرام) أي مورد الرحمة والكرامة وهو منصوب على المصدرية (قَالَ تَعَالَى: طه (1) مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) [طه: 1- 2] قِيلَ طه اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ عليه الصلاة والسلام) أي الحديث تقدم لي عند ربي عشرة اسماء وذكر منها طه وهو في حساب العدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 المرموز في أبجد أربعة عشر إيماء إلى أن بدر وجهه في غاية من النور ونهاية من الظهور، (وقيل هو اسم لله تعالى) قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولعله إشارة إلى الطاهر والهادي والمعنيان صادقان في حق الله تعالى ورسوله حقيقة ومجازا وقد قيل المعنى طوبى لمن اهتدى بك (وقيل معناه يا رجل) أي في لغة عك ولعل أصله يا هذا فقلبوا ياءه طاء واقتصروا على ها (وقيل) أي في معناه (يا إنسان) قلبوا وأتوا بهاء السكت كذا ذكره الدلجي ووجهه غير ظاهر مع أن هاء السكت إنما يكون ساكنا والأظهر أن أصله يا هذا المراد به الرجل أو الإنسان، (وقيل هي حروف مقطّعة) أي يراد بها هجائية بنائية (لمعان) أي موضوعة لمعان إيمائية والله أعلم بمراده بالطريقة القطعية. (قال الواسطيّ أراد يا طاهر) وفي معناه يا طيب، (يا هادي) أي أراد بالطاء افتتاح اسم وبالهاء ابتداء اسم، (وقيل هو أمر من الوطىء) أي بالهمزة (والهاء كناية عن الأرض) فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه فإنه كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه وأصله طأ قلبت همزته هاء أوطأها قلبت همزته ألفا وأورد عليه كتابتهما على صورة الحرف وكذا على القول بأن أصله يا هذا وأجيب بأنه اكتفى بشطري الكلمتين وعبر عنهما باسمهما على صورة مسماهما في رسمهما (أَيِ اعْتَمِدْ عَلَى الْأَرْضِ بِقَدَمَيْكَ وَلَا تُتْعِبْ نفسك بالاعتماد على قدم واحدة) أي فإنه شاق عليك (وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 2] ) أي لتتعب في أمر العبادة بل المراد به أنك تعبد على وجه الراحة فإنك إنما بعثت بالحنيفية السمحة ثم الشقاء شائع بمعنى التعب ومنه سيد القوم اشقاهم ولعل الحكمة في عدوله عن تتعب للأشعار بأنه أنزل عليه ليسعد بحكم الضد أو لمراعاة الفواصل الآتية (نزلت) وفي نسخة ونزلت (الآية) أي أول سورة طه (فيما كان النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّفُهُ مِنَ السَّهَرِ، وَالتَّعَبِ، وَقِيَامِ اللّيل) أي حتى تورمت قدماه وذلك لأنه قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآية من القرآن ليلة كما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وروي أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي حتى تورمت قدماه قال فقيل له اتفعل هذا وقد جاءك أن الله تعالى قد غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا. (حدثنا) وفي نسخة أَخْبَرَنَا (الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عبد الرّحمن) أي ابن علي بن شبري بشين معجمة مكسورة وباء موحدة ساكنة وبعد الراء مثناة من أسفل أحد العلماء الصالحين من رجال الأندلس مات سنة ثلاث وخمسمائة بإشبيلية (وغير واحد) أي وكذا حدثنا جمع كثير (عن القاضي أبي الوليد الباجيّ) بموحدة وجيم هو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث المنجيني القرطبي الذهبي صاحب التصانيف نسب إلى باجة مدينة بقرب اشبيلية وقيل هو من باجة القيروان التي ينسب إليها أبو محمد الباجي الحافظ مات بالمدينة سنة أربع وسبعين وأربعمائة قيل كان يحضر مجلسه أربعون ألف فقيه روى عنه الخطيب وابن عبد البر وهما أكبر منه والحميدي وأبو علي الصدفي وغيرهم (إجازة) أي من طريق الإجازة (ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أصله) أي كتابه الذي قرأ فيه على مشايخه (نقلت) فكان في سنده إجازة ومناولة (قال حدّثنا أبو ذرّ الحافظ) أي المشهور بحفظ الحديث يعني به الهروي واسمه عبد الرحمن بن أحمد ابن محمد بن عبد الله بن غفير بغين معجمة ابن خليفة بن إبراهيم المالكي توفي في ذي القعدة سنة خمس وثلاثة وأربعمائة في الحرم مجاورا فيه وهو منسوب إلى الهرة بفتح الهاء والراء مع تخفيفه ودون همز موضع بين مكة والطائف وأما الهراة فموضع بين مكة وعسفان كذا ذكره التلمساني وأما هراة بالكسر بلا همزة فبلدة عظيمة بخراسان قال الحلبي وسمع منه جماعة وروى عنه بالإجازة جماعة منهم الخطيب وابن عبد البر وغيرهما، (قال حدّثنا أبو محمّد الحمويّ) بفتح المهملة وضم الميم المشددة وكسر الواو وياء نسبة إلى جده حمويه وهو عبد الله بن محمد بن حمويه السرخسي توفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، (حدّثنا إبراهيم بن خزيم) بضم خاء معجمة وفتح زاي قال التلمساني هو ابو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن خزيم (الشّاشيّ) بشينين معجمتين وأما الشامي على ما في بعض النسخ فتصحيف، (حدّثنا عبد بن حميد) بالتصغير أي ابن نصر القرشي الكشني بكاف وشين له تأليف في كتاب الله العزيز ومعانيه توفي سنة تسع وأربعين ومائتين قال الحلبي هو مصنف المسند وقد قرأت منتخبه بالقاهرة سمع يزيد بن هارون ومحمد بن بشر العبدي وعلي بن عاصم وابن أبي فديك وغيرهم روى عنه مسلم والترمذي وعلق عنه البخاري في دلائل النبوة من صحيحه فسماه عبد الحميد، (حدّثنا هاشم بن القاسم) هو أبو النصر يعرف بقيصر التميمي روى عن ابن أبي ذئب وعكرمة وعنه أحمد والحارث بن أبي أسامة أخرج له جماعة توفي سنة سبع ومائتين (عن أبي جعفر) هو محمد بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ هو والد جعفر بن محمد الصادق توفي عام عشرة ومائة وقال الحلبي أبو جعفر هذا اختلف في اسمه فقيل عيسى بن أبي عيسى بن هامان مروزي كان يتجر إلى الري روى عن عطاء وابن المنكدر وعنه جماعة اخرج له الأربعة (عن الرّبيع بن أنس) هو ولد أنس بن مالك صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخديمة رضي الله تعالى عنه قال الحلبي الربيع تابعي وهو بفتح الراء بصري نزل خراسان وروى عن أنس وأبي العالية وعنه الثوري وابن المبارك قال أبو حاتم صدوق توفي سنة تسع وثلاثين ومائة أخرج له جماعة، (قال كان النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: طه [طه: 1] يَعْنِي طَأِ الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 2] الآية) أي إلا تذكرة لمن يخشى أي لكن أنزلناه موعظة لمن يخاف مخالفة المولى ويتبعه بالطريق الأولى فهذا الحديث أسنده المصنف هنا من تفسير عبد بن حميد عن الربيع بن أنس مرسلا ورواه ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه موصولا بلفظ لما نزل يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا فقامه كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع أخرى فهبط جبريل عليه الصلاة والسلام فقال طه أي طأ الأرض بقدميك ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى والحاصل أن هذا التأويل في طه هو مختار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الربيع بن أنس ويعزى إلى مقاتل أيضا وله تأويلان أحدهما أن يريد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعتمد إذا صلى على إحدى رجليه ويرفع الأخرى تحريا منه صلى الله تعالى عليه وسلم للأمور الشاقة ونفورا من الراحة فقيل له طأ الأرض برجليك معا ولا تعتمد على قدم واحدة فتتعب بذلك نفسك وهذا التأويل هو الذي تأوله المصنف وثانيهما أن يريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تدعوه مشقة الصلاة إلى أن يتروح برفع إحدى قدميه وحط الأخرى فقيل له طأ الأرض بمعنى لا تلزم نفسك من القيام ما تتعب معه فتضطر إلى الترويح بإحدى قدميك قال المنجاني وهذا التأويل أحسن من التأويل الذي تأوله القاضي وإلا فالقيام على رجل واحدة لم يثبت في الشرع أنه من جملة التطوعات فيفعله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اختيارا دون أن يوجب ذلك موجب من تعب أو تورم قدم بل لم ينج ذلك الفقهاء إلا للضرورة قلت لا مانع من أنه كان في الشرع من التطوع ثم نسخ قال وما يستغرب في هذه الآية ما رواه الفراء في كتاب معاني القرآن له مسندا عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رجلا قرأ بمحضره طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى فقال ابن مسعود اقرا طه بكسر الطاء والهاء فقال له الرجل يا أبا عبد الرحمن أليس أمرا من الوطئ فقال له عبد الله اقرا طه بالكسر فهكذا اقرأنيهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم قلت لعل روايته كانت بالإمالة فيهما وهي لا تنافي كونهما من الوطئ والله أعلم. (ولا خفاء بما في هذا كلّه) الباء بمعنى في وعدل إليه حذرا عن التكرار أي فيما ذكر من الآية والحديث (من الإكرام) أي إكرام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وحسن المعاملة) أي له صلى الله تعالى عليه وسلم بإعلام حسن القيام وهذا إن جعلنا طه طأ الأرض كما تقدم فيه الكلام (وَإِنْ جَعَلْنَا طه مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم كما قيل) أي وقد سبق (أو جعلت) أي هذه الكلمة (قسما) أي أقسم الله تعالى به (لحق الفضل بما قبله) أي اتصل هذا الفصل بالفصل الذي قبله لإنبائه بما أقسم به تعالى تحقيقا لمكانته وإفاد نهاية المبرة في مخاطبته وإعلاء درجات الآداب في محاورته، (ومثل هذا) أي ما ذكر من كون طه من اسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم أو مقسما به أو هما وما قبلهما (من نمط الشّفقة) أي من نوع المرحمة (والمبرّة) لمناسبة بينهما قال الدلجي إذ النمط في الأصل الجماعة من الناس أمرهم واحد وفي الحديث خير هذه الأمة النمط الأوسط يلحقهم التالي ويرجع إليهم العالي انتهى ولا يخفى بعد هذا المعنى في مقام المرام بل النمط بفتح النون والميم جاء بمعنى الطريق والنوع من الشيء أيضا على ما في القاموس ويمكن حمل الحديث الذي ذكره عليه كما لا يخفى وقد قال الحلبي النمط الضرب من الضروب والنوع من الأنواع يقال ليس هذا من ذلك النمط أي من ذلك النوع قاله الهروي في غريبه وأخذ منه ابن الأثير وحذف منه بعض شيء، (قوله تعالى) خبر لقوله مثل هذا (فَلَعَلَّكَ) أي لفرط إعراضهم وتباعدهم عن ما فيه تحصيل جميع اغراضهم (باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) أي المجدد إنزاله (أَسَفاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 [الكهف: 6] ) أي حزنا وتأسفا وتلهفا (أي قاتل نفسك) ويجوز بالإضافة كما قرئ في الآية (لذلك) أي لعدم إيمانهم بالقرآن (غضبا) أي عليهم (أو غيظا) أي في نفسه (أو جزعا) أي قلة صبر وتحمل والحاصل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم شبه لما تداخله من الوجد أسفا على توليهم وتباعدهم عن الإيمان بمن فارق أعزته فذهبت نفسه حسرات على آثارهم باخعها وجدا عليهم متلهفا على فراقهم، (ومثله) أي مثل فلعلك باخع نفسك مما ورد مورد الشفقة والإكرام بشهادة لعل فإنها للإشفاق (قوله تعالى أيضا: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) وقرئ بالإضافة هنا أي اشفق على نفسك أن تقتلها غما (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] ) أي مخافة أن لا يؤمنوا أو لئلا يؤمنوا (ثمّ قال) أي الله سبحانه وتعالى تسلية لشأنه (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً أي دلالة ملجئة إلى الإيمان أو بلية قاصرة على أهل الكفران والطغيان (فَظَلَّتْ) أي صارت (أَعْناقُهُمْ أي جماعاتهم واشرافهم وساداتهم (لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] ) أي لتلك الآية منقادين ولاقتضائها خاشعين أو لتلك البلية ذليلين خاسئين وهو عطف على الجزاء أعني ننزل إذ لو قيل أنزلنا مكانه لصح وقيل اصل الكلام فظلوا لها منقادين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع لأن الأعناق لما وصفت بصفة لا تكون حقيقة إلا لمن يعقل عوملت معاملة من يعقل فجمعت جمعه (ومن هذا الباب) أي باب الشفقة والإكرام (قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أي فاجهر به وأظهره من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهرا أو أفرق بين الحق والباطل وأصله الإبانة والتمييز وما موصولة وعائدها محذوف أي بما تؤمر به وجوز الدلجي كون ما مصدرية هنا وهو بعيد عن المعنى كما لا يخفى (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] ) أي إهانة لهم ولا تلتفت إلى ما يقولون وأغرب التلمساني حيث فسر أعرض بقوله اترك والغ (إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الحجر: 97] ) أي فينا أو في القرآن أو فيك (إلى آخر السّورة) وهو قوله سبحانه وتعالى إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ أي دفعنا عنك شرهم بقمعهم وإهلاكهم قيل كانوا خمسة نفر فمات كل واحد منهم بنوع من عذابه الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة أمرهم وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي فافزع إليه بالتسبيح والتحميد وقل تسبيحا مقرونا بالحمد جمعا بين الصفات السلبية والنعوت الثبوتية أو فنزهه عما يقولون من الباطل واحمده على أنه هداك إلى الحق وكن من الساجدين أي المصلين وكان صلى الله عليه وسلّم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي الموت باتفاق المفسرين وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم عند موت عثمان ابن مظعون أما هو فقد رأى اليقين قال المنجاني ويحتمل أن يكون إشارة إلى النصر الذي وعد الله سبحانه وتعالى على الكفار قلت هذا مع مخالفته للإجماع غير مناسب أن تكون النصرة غاية العبادة فإن العبادة لا يجوز انفكاكها عن العباد ما دامت الارواح في الإجساد (وقوله) أي ومنه أيضا قوله (تَعَالَى وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْأَنْعَامِ: 10] ) تسلية له عما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 كان يرى من قومه ليقتدي بالرسل المتقدمين عن وقته حيث صبروا على ما كذبوا وأوذوا وقد قال الله تعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (الآية) يعني فحاق بالذين سخروا منهم أي من المستهزئين وقيل من المرسلين ما كانوا به يستهزئون أي فأحاط بهم الذي كانوا به يستهزئون حيث هلكوا لأجله أو فنزل بهم جزاء استهزائهم قيل يجوز أن يكون ضمير به راجعا إلى الشرع وما ترتب عليه من الثواب وأن يكون راجعا إلى العذاب والله تعالى أعلم بالصواب وأما ما جوزه المنجاني من رجعه إلى القرآن فلا يناسبه المقام كما لا يخفى على أرباب المعاني والبيان (قال مكّي) سبق ذكره (سلّاه) أي الله تعالى (تعالى بما ذكر) أي من قوله وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ (وهوّن عليه ما يلقى) وفي رواية ما يلقاه (من المشركين) أي من فرط الإيذاء (وأعلمه أنّ) وفي نسخة أنه (من تمادى) أي أصر واستمر (على ذلك يحلّ به) بضم الحاء أي ينزل به ومنه قوله تعالى أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ وأما يحل بكسر الحاء فمعناه يجب لكن لا يناسب المقام وإن قرئ بهما قوله تعالى فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي (ما حلّ) أي شيء عظيم نزل أو الذي حل (بمن قبله) أي من اعداء الأنبياء (ومن هذا) أي الباب وفي نسخة وَمِثْلُ هَذِهِ التَّسْلِيَةِ (قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) أي قومك فلا يهولنك تكذيبهم لك (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر: 4] ) فكان الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم تأس بمن قبلك من الأنبياء فإن هذه الأنواع التي يعاملك بها قومك من التكذيب وغيره قد كانت موجودة في سائر الأمم قبلك مع أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام فلست منفردا بهذا وحدك وفيه إيماء إلى أن الليلة إذا عمت طابت فإن أجل ما يخفف عن الإنسان حزنه مشاركة غيره له فيه كما قالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم «1» لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن ... اعزي النفس مني بالتأسي (ومن هذا) أي الباب أو القبيل (قوله تعالى: كَذلِكَ) أي مثل تكذيب قومك لك وقولهم افتراء عليك معلم مجنون (مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا) أي ما جاءهم رسول إلا قالوا في حقه هو (ساحِرٌ) أي خداع (أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52] ) أي به جنون وأو للتنويع باعتبار قوم دون قوم أو وقت دون وقت ولا يبعد أن تكون للشك مشيرا إلى تحيرهم في أمره مع الإيماء إلى المناقضة بين أقوالهم فإن الساحر هو العالم وهو لا يكون إلا في كمال العقل والمجنون لا يكون إلا خاليا عنه (عزّاه الله تعالى) بتشديد الزاء أي حمله على الصبر وسلاه (بما أخبر به عن الأمم السّالفة) أي عن الجماعات السابقة (ومقالها) أي وأقاويل تلك الأمم وفي نسخة ومقالتها (لأنبيائهم قبله ومحنتهم) أي ابتلائهم وفي نسخة ومحنهم بفتح فسكون وهو مجرور ووهم الحجازي حيث قال بفتح النون أي وبامتحان   (1) وفي بعض النسخ على قتلاهم قاله مصححه طاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 انبيائهم واختبارهم في ولائهم عند بلائهم وابتلائهم (بهم) أي بقومهم وأقوالهم (وسلّاه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بذلك) أي بما ذكر من ابتلاء الأنبياء (عن محنته) أي بليته عليه الصلاة والسلام (بمثله) أي بنظير ما فعل الأمم بالأنبياء (من كفّار مكّة) في تأذيتهم له (وأنّه) أي وبأنه (ليس أوّل من لقي ذلك) أي الايذاء من قومه (ثمّ) أي بعد أن سلاه (طيّب نفسه) أي أرضاه (وأبان عذره) أي أظهره (بقوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [الذاريات: 54] ) إشفاقا عليه بترك معالجتهم (أي أعرض عنهم) أي بعد ما بذلت جهدك في الدعوة والزمت عليهم الحجة (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات: 54] ) في مكالمتهم (أي) حينئذ (في أداء ما بلّغت) أي من الإعلام (وإبلاغ ما حمّلت) بضم حاء وتشديد ميم مكسورة أي كلفت من الأحكام والمعنى فما تلام في إعراضك عنهم بعد ما كررت عليهم مبالغا في تبليغ ما أمرت به لهم (وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] ) أي بمرأى منا (أي اصبر على أذاهم) أي وبقائك في عناهم (فإنّك بحيث نراك ونحفظك) وجمع العين لجمع الضمير مبالغة في كثرة أسباب الحفظ والعصمة؛ (سلّاه الله تعالى بهذا) أي بما ذكر (في آي كثيرة من هذا المعنى) أي كما لا يخفى على حفاظ المبنى. الفصل السّابع [فيما أخبره الله بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ] (فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ العزيز) أي الذي لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ أو الغالب على سائر الكتب بنسخه إياها والنادر في الوجود لبقائه على صفحات الدهر إلى اليوم الموعود (من عظيم قدره) أي مرتبته (وشريف منزلته) أي يشهدان بفضيلته (على الأنبياء وحظوة رتبته) بكسر الحاء وضمها وسكون الظاء المعجمة وقد تقدمت ومن بيان لما (في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) هو كما اختاره المصنف على ظاهره من أخذ الميثاق عليهم بما ذكر أو ميثاقهم الذي وثقوه على أممهم (لَما آتَيْتُكُمْ) وفي قراءة نافع آتيناكم واللام موطئة القسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما شرطية والتقدير لمهما آتيتكم وهو ظاهر قول سيبويه ودخلت اللام عليها كما تدخل على إن إذا كان جوابها قسما نحو قوله تعالى وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أو موصولة صلتها ما بعدها والعائد محذوف أي الذي آتيتكموه (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران: 79] ) من لبيان ما (إلى قوله) تعالى (مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] ) يعني ثم جاءكم وهو عطف على صلتها وعائدها محذوف أي جاءكم به رسول مصدق وقرأ حمزة لما بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إتياني إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم مجيء رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أي الله تعالى للنبيين أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي قبلتم عهدي قالوا أقررنا قال فاشهدوا أي بعضكم على بعض بالإقرار وأنا معكم من الشاهدين على إقراركم ونشاهدكم وهذا توكيد عظيم وتعظيم جسيم مع علمه تعالى بأنهم لا يدركون زمانه ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 يلحقون مكانه (قال أبو الحسن القابسي) سبق ذكره (اختصّ الله تعالى محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم بفضل) أي بزيادة فضيلة (لم يؤته غيره) أي من فضلاء انبيائه (أبانه به) جملة استئناف أي أظهره الله تعالى بما آتاه من فضله وفي نسخة ضبط ابانة بالمصدر على أنه منصوب على العلة أي اظهارا بفضله وكماله واشعارا بعلو شأنه وتمام جماله (وهو ما ذكره في هذه الآية) أي مما يدل على تلك الإبانة، (قال المفسّرون أخذ الله الميثاق بالوحي) أي إلى أنبيائه (فلم يبعث نبيّا إلّا ذكره له محمّدا ونعته) أي وذكر له صفته كما في التوراة والإنجيل وغيرهما على ما مر (وأخذ عليه) أي على كل نبي (ميثاقه) أي الخاص به وهو (إن أدركه ليؤمننّ به) بفتح النونين وإليه أشار صلى الله عليه وسلّم بقوله حين رأى عمر أنه ينظر في صحيفة من التوراة لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي أي لأجل أخذ الميثاق بذلك وإلا فكان الأمر يقتضي عكس ما هنالك لان اللاحق يكون تابعا للسابق، (وقيل أن يبيّنه) أي أخذه عليه أَنْ يُبَيِّنَهُ (لِقَوْمِهِ وَيَأْخُذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوهُ لمن بعدهم) وفي نسخة لمن بعده أي وهكذا إلى أن يبعث فيؤمنوا به كما بينه سبحانه وتعالى بقوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ الآية؛ (وَقَوْلُهُ ثُمَّ جَاءَكُمْ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُعَاصِرِينَ لمحمّد) اللام للتقوية وفي نسخة المعاصرين محمدا صلى الله عليه وسلّم أي الذين كانوا في زمانه ولا يخفى أن هذا المعنى لا يصح على القول بأنه تعالى أخذ ميثاق النبيين بذلك إذ من قاله لا يجعل الخطاب إلا لهم وإنما يصح عند من قال ميثاق معاصريهم وإضافته في الآية إلى النبيين نظرا إلى أنهم هم الذين أخذوه على أممهم وأنهم يأخذونه على من بعدهم وهكذا إلى أن يبعث فتقدير الآية وإذ اخذ الله الميثاق الذي أخذه النبيون على أممهم (قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه) كما رواه ابن جرير في تفسيره عنه أنه قال موقوفا يكون في الحكم مرفوعا (لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ آدَمَ فَمَنْ بعده) أي نبيا بعد نبي (إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنَنَّ به ولينصرنّه) بفتح ما قبل النون الثقيلة فيهما لإفراد الضمير بهما (ويأخذ) بالنصب بفتح الذال عطف على ما دخله اللام ونون التوكيد مرادة كإرادتها في قوله: لا تهين الفقير علك أن تر ... كع يوما والدهر قد رفعه حيث أراد لا تهينن فحذفت لما استقبلها ساكن أي وليأخذن (العهد بذلك على قومه) وفي نسخة برفع يأخذ (ونحوه عن السّدّي) أي ونحو هذا القول المروي عن علي منقول عن السدي (وقتادة) تقدم الكلام على قتادة وأنه من أجلاء التابعين وعظماء المفسرين وأما السدي فهو بضم السين وتشديد المهملتين كان يجلس في سدة باب الجامع وهما اثنان كبير وصغير فالكبير هو اسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كربة السدي الكوفي يروي عن ابن عباس وأنس وطائفة وعنه زائدة وإسرائيل وأبو بكر بن عياش وخلق وهو حسن الحديث أخرج له مسلم والأربعة وأما الصغير فهو محمد بن مروان الكوفي روى عن هشام بن عروة والأعمش تركوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 واتهمه بعضهم وهو صاحب الكلبي والظاهر أن المراد هنا الأول والله أعلم (في آي) أي حال كون هذه الآية مندرجة في ضمن آيات كثيرة (تضمّنت فضله) أي فضائله صلى الله تعالى عليه وسلم (من غير وجه واحد) أي بل من وجوه متعددة (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أي بتبليغ الرسالة وتحمل الدعوة إلى الأمة (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7] الآية) أي وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وهو تخصيص بعد تعميم تلويحا ببيان فضلهم وزيادة شرفهم فإنهم أولو العزم من الرسل ومشاهير أرباب الشرائع وقدم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم تعظيما وتكريما وإيماء إلى تقديم نبوته في عالم الأرواح المشار إليه بقوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد وأخذنا منهم ميثاقا غليظا أي عظيما شأنه ومؤكدا باليمين برهانه وكرر لبيان وصفه تعظيما لمقامه (وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ- إلى قوله- وَكِيلًا [النساء: 163] ) وفي نسخة صحيحة شهيدا وهو الصواب وفيه تلويح إلى فضله حيث قدمه على رسله إذ كان يمكن أن يقال (كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده أوحينا إليك) على نحوه والحاصل أنه قدم من جهة الفضل والشأن لا من جهة التقدم في الزمان والواو وإن لم تقتض الترتيب لكن العرب توتر تقديم المتقدم في الذكر على المتأخر في اللفظ وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث قال عند الصفا ابدأ بما بدأ الله به وحكى الحافظ في كتاب البيان والتبيين أن عبد بني الحسحاس لما أنشد عمر رضي الله تعالى عنه قوله: هريرة ودع إن تجهزت غاديا «1» ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال له عمر لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك (رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه تعالى عنه) وهو بعض خبر هنا ذكره الرشاطي كله في اقتباس الأنوار (أنّه قال) أي عمر (فِي كَلَامٍ بَكَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) بنصب النبي على أنه مفعول والمعنى رثاه بعد موته من بكيته مخففا ومشددا أي بكيت عليه وذلك حين أفاق من غشيته وتحقق عنده موت النبي صلى الله عليه وسلّم بخطبة أبي بكر وموعظته قائلا بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كان لك جذع تخطب الناس عليه فلما كثر الناس اتخذت منبرا لتسمعهم عليه فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فسكن فامتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم (فقال) أي عمر (بأبي أنت وأمّي) متعلق بمقدر ولحذفه أبدل من ضميره المتصل ضمير منفصل وحذفت الجملة لظهور المعنى حتى قيل الباء للتعدية وقد يذكر الفعل كقول الصديق فديناك بآبائنا وأمهاتنا أي أفديك بأبي وَأُمِّي (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ بَعَثَكَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ) أي في مقام الوجود. (وذكرك في أوّلهم) أي في أول بعضهم عند ذكرهم إجمالا أي في معرض الكرم والجود (فَقَالَ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7] الآية) أي على ما سبق. (بأبي أنت وأمّي) أي أفديك بهما مرة بعد أخرى لأنك بذلك أولى وأحرى   (1) في نسخة (غازيا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عنده) أي عند الله سبحانه (أنّ أهل النّار يودّون) أي يتمنون ويحبون (أنّ يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها) أي طبقات النار (يعذّبون يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرّسولا) أي فلم يصبنا هذا العذاب تمنوا حيث لا ينفعهم التمني من جميع الأبواب والرسولا بالألف مرسوم والجمهور على إثباتها وقفا ووصلا ومن جملة ما قال عمر رضي الله تعالى عنه بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بلغ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ جَعَلَ طَاعَتَكَ طاعته فقال من يطع الرسول فقد أطاع الله بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بلغ من فضيلتك عنده أن أخبرك بالعفو قبل أن يخبرك بالذنب فقال عفا الله عنك لم أذنت لهم بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا يتفجر منه الأنهار فما ذاك بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله تعالى عليه وسلم عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر ورواحها شهر فما ذاك بأعجب من البراق حين سرت عليه إلى السماء السابعة ثم صليت الصبح من ليلتك بالأبطح صلى الله تعالى عليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان عيسى ابن مريم أعطاه الله تعالى إحياء الموتى فما ذاك بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك فقالت لا تأكلني فإني مسمومة صلى الله تعالى عليك وسلم بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ولو دعوت علينا لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا فَلَقَدْ وُطِئَ ظَهْرُكَ وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُكَ فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إلا خيرا وقلت اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ اتبعك في قلة سنينك وقصر عمرك ما لم يتبع نوحا في كثرة وطول عمره فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا قليل بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو لم تجالس إلا الأكفاء ما جالستنا ولو لم تنكح إلا إلى الاكفاء ما نكحت إلينا ولو لم تواكل إلا الأكفاء ما واكلتنا لبست الصوف وركبت الحمار ووضعت طعامك بالأرض تواضعا منك صلى الله تعالى عليك وسلم. (قال قتادة) أي كما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره وابن لال في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في دلائله عنه مرسلا (إنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الخلق) أي خلق روحه قبل أرواحهم أو في عالم الذر أو في التقدير بكتابته في اللوح أو ظهوره للملائكة (وآخرهم في البعث) أي لكونه خاتم النبيين، (فلذلك) أي فلأجل كونه أولهم خلقا (وقع ذكره مقدّما) أي في الآية السابقة (هنا قبل نوح وغيره) أي من أولي العزم فضلا عن غيرهم قال السهيلي واسم نوح عبد الغفار وسمي نوحا فيما ذكر لكثر نوحه على نفسه أو على قومه. (قال السّمرقندي) وهو الإمام أبو الليث من أئمتنا الجامع بين التفسير والحديث والفقه والتصوف (في هذا) أي في ذكر وقوعه مقدما (تفضيل نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم لتخصيصه بالذّكر قبلهم) أي إظهارا للكرم والجود (وهو آخرهم) أي بعثا كما في نسخة يعني أي والحال أنه آخرهم من جهة البعث والوجود. (الْمَعْنَى أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ إِذْ أخرجهم من ظهر آدم كالذّرّ) وهو صغار النمل والمعنى أن للأنبياء ميثاقا خاصا بعد دخولهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 في الميثاق العام المعنى به قوله تعالى أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى بتبليغ الرسالة وأخص من هذا الميثاق ميثاق الأنبياء اصالة وأممهم تبعا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لو فرض أنه وجد في أي زمان من الأزمنة لتبعه جميع الأنبياء وجميع أممهم من العلماء والأولياء والأصفياء فكأنهم تابعون بالقوة وعلى فرض وقوعه بالفعل والحاصل أنه تعالى قال للخلق في عالم الذر بعد قوله لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى اعلموا أنه لا إله غيري وأنا ربكم فلا تشركوا بي شيئا فإني سأنتقم ممن أشرك بي وأني مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتبا فقالوا شهدنا أنك ربنا والهنا لا رب لنا غيرك فأخذ بذلك مواثيقهم ثم كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم فنظر إليهم آدم فرأى فيهم الغني والحسن وغيرهما فقال يا رب لو سويت بينهم فقال إني احب أن أشكر فلما قررهم بتوحيده وأشهد بعضهم على بعض أعادهم إلى صلب آدم فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه وكان إعطاء الكافرين العهد إذ ذاك وهم كارهون على جهة التقية وقد وردت الأحاديث بهذا من طريق عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وغيرهما رضي الله تعالى عنهم وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام أول من قال بلى فذلك قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وفي قراءة ذريتهم أي أخرج ذريته بعضا من صلب بعض على ما يتوالدون واكتفى بذكر ظهورهم عن ذكر ظهره إذ كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره وأشهدهم على أنفسهم أي أشهد بعضهم على بعض وأغرب الدلجي في أنه بعد ما ذكر الميثاق على الوجه المسطور المطابق لمذهب أهل السنة المؤيد بالأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة مال إلى مذهب المعتزلة وتبع الزمخشري وسائر أهل البدعة حيث قالوا قوله تعالى أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى تخييل وتصوير للمعنى أي نصب لهم أدلة ربوبيته وأودع عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها فصاروا بمنزلة من قيل لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شهدنا فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم من منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل انتهى (والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل) وفي كتاب القصص لوثمية بن الفرات يرفعه إلى أبي موسى الأشعري أنه قال لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام قال له يا آدم فقال نعم يا رب قال من خلقك فقال أنت يا رب خلقتني قال فمن ربك قال أنت لا إله إلا أنت قال فآخذ عليك الميثاق بهذا قال نعم فأخرج الله سبحانه وتعالى الحجر الأسود من الجنة وهو إذ ذاك أبيض ولولا ما سوده المشركين بمسهم إياه لما استشفى به ذو عاهة إلا شفي به فقال الله سبحانه وتعالى امسح يدك على الحجر بالوفاء ففعل ذلك فأمره بالسجود فسجد لله سبحانه وتعالى ثم اخرج من ظهره ذريته فبدأ بالأنبياء منهم وبدأ من الأنبياء بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فأخذ عليه العهد كما أخذه على آدم ثم أخذ العهد على الأنبياء والرسل كذلك وأن يؤمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإن ينصروه أن أدركوا زمانه فالتزموا ذلك وشهد به بعضهم على بعض وشهد الله سبحانه وتعالى بذلك على جميعهم وأخذ بعد العهد على سائر بني آدم فسجدوا كلهم إلا الكافرين والمنافقين لم يطيقوا ذلك لصياصي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 خلقت في اصلابهم ثم أمر الله سبحانه وتعالى آدم فرفع رأسه ونظر إلى ذريته فرأى الأنبياء والعلماء كالسرج والكواكب فقال يا رب من هؤلاء قال هم الأنبياء والعلماء من ذريتك فقال يا رب ومن هؤلاء الذين اراهم بيض الالوان قال هم أصحاب اليمين وقد أعددت لهم الجنة والكرامة وخلقتهم سعداء قال ومن هؤلاء الذين أراهم سودا قال هم أصحاب الشمال وقد أعددت لهم الهوان وجعلتهم أشقياء فقال يا رب لو سويت بين خلقك أجمعين فقال يا آدم خلقت الجنة وجعلت لها أهلا وخلقت النار وجعلت لها أهلا ثم اختلفت العلماء في محل أخذ هذا العهد ففي كتاب الثعلبي أنه كان في السماء وأن الله سبحانه وتعالى أخرج آدم من الجنة ولم يهبط إلى الأرض فأخذ عليه وعلى ذريته العهد هنالك وفي تاريخ الطبراني أن الله سبحانه وتعالى أهبط آدم من السماء إلى نعمان وأخذ عليه وعلى ذريته هذا العهد هنالك ونعمان واد في طريق الطائف يخرج إلى عرفات وهو مفتوح النون ويقال له نعمان الإراك لكثرته به (وَقَالَ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة: 253] الآية) الإشارة إلى من ذكرت قصصهم في السورة أو إلى كلهم المعهودين في العلم واللام استغراقية ثم فصله سبحانه وتعالى بقوله مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ بلا واسطة وهو موسى عليه الصلاة والسلام قيل ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فكلم موسى ليلة الحيرة في الطور ومحمدا ليلة المعراج في مقام النور حين كان قاب قوسين أو ادنى وقرئ كلم الله بالنصب وكالم الله إذ قد كلم الله كما أن الله كلمه ومن ثمه قيل كليم الله بمعنى مكالمه. (قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم) أي رفعه على سائر الأنبياء من وجوه متعددة ومراتب متباعدة ومنها أنه خص بالدعوة العامة (لأنّه بعث) أي بالحجج المتكاثرة والآيات المتعاقبة المتواترة والفضائل العلمية والفواضل العملية (إلى الأحمر والأسود) أي العرب والعجم لغلية الحمرة والبياض على ألوان العجم والأدمة والسمرة على ألوان العرب وقيل الجن والإنس، (وأحلّت له الغنائم) أي ولم تحل لأحد قبله (وظهرت على يديه المعجزات) أي الكثيرة، (وليس أحد من الأنبياء أعطى فضيلة) أي خصلة حميدة (أو كرامة) أي خارقة عادة (إلّا وقد أعطي محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم مثلها) أي مثل تلك الفضيلة أو الكرامة بل مع الزيادة لكن جنسا لا نوعا كانشقاق القمر في مقابلة انفلاق البحر لموسى عليه السلام وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى قيل وفي ابهام درجات تفخيم لجلال شأنه وتعظيم لعلي برهانه إذ هو العلم المعين لهذا الوصف المستغني عن التعيين عند أرباب اليقين. (قَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خاطب الأنبياء بأسمائهم) أي كيا آدم ويا نوح ويا إبراهيم ويا موسى ويا عيسى (وخاطبه بالنّبوّة والرّسالة في كتابه) أي كلامه القديم وخطابه العظيم (فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ [الأحزاب: 1] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ [المائدة: 67] ) بل وفد قال الله تَعَالَى لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً (وحكى السّمرقندي عن الكلبيّ) هو أبو المنذر هشام ابن محمد بن السائب الكلبي توفي في السنة التي مات فيها الشافعي رضي الله تعالى عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وهي سنة أربع وثمانين ومائة كذا ذكره التلمساني (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) [الصافات: 83] ) أي أتباعه (إِنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ إِنَّ مِنْ شِيعَةِ مُحَمَّدٍ لإبراهيم أي على دينه. ومنهاجه) أي طريقه الواضح، (وأجازه الفرّاء) يروى وأجازه الفراء، (وحكاه عنه مكّيّ) ونسبه بعضهم إلى الكسائي أيضا فكان الله أخبر إبراهيم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فآمن به وشايعه في دينه وعود الضمير على غير متقدم لفظا شائع سائغ كقوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ وإنما جعل منها لتقدمه عليه خلقا ونبوة كما يدل عليه حديث أنه حيث سئل مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ قَالَ وَآدَمُ بَيْنَ الروح والجسد وفي رواية وآدم منجدل في طينته وهذا أولى مما قيل في جواب الإشكال الوارد من أن المتعارف هو أن المتأخر في الزمان هو الذي يكون من شيعة المتقدم لكن قد جاء عن العرب عكس ذلك: وما لي الا آل أحمد شيعة والسبب في هذا أن من كنت على منهاجه ودينه فقد كان على منهاجك سواء تقدم أو تقدمت، (وقيل المراد نوح) ويروى على نوح (عليه السّلام) وهو قول أكثر المفسرين كما هو الظاهر المتبادر من حيث تقدم مرجعه فإبراهيم ممن شائع في دينه لاتفاق شرعهما في الفروع غالبا وإن كان بينهما ألفان وستمائة وأربعون سنة ونبيان هود وصالح عليهما الصلاة والسلام كذا ذكره الدلجي. الْفَصْلُ الثَّامِنُ [فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بصلاته عليه وولايته له] (في إعلام الله تعالى خلقه) أي مخلوقه (بصلاته عليه وولايته له) بكسر الواو وقد يفتح وبهما قرئ قوله تعالى ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ من شيء والكسر قراءة حمزة من السبعة فتلحين الأصمعي قراءة الأعمش في هذه الآية بكسر الواو خطأ ظاهر وقوله إن الولاية بالكسر إنما هي في الإمارة والسلطان ونحوهما بصيغة الحصر مدفوع ولو سلم فالكسر مشترك في المعنيين والله أعلم وقيل بالفتح بمعنى النصرة وبالكسر تولى الأمر أي موالاته ونصرته له (ودفعه) مصدر مضاف إلى فاعله أي ودفع الله (العذاب بسببه) أي من أجله وجهته وفي نسخة رفعه بالراء واختاره الحلبي وهو تصحيف في مبناه وتحريف في معناه إذ الرفع لا يستعمل إلا بعد الوقوع ولذا قيل الدفع أهون من الرفع (قال تعالى) أي حين قال الكفار مبالغة في الإنكار اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الْأَنْفَالِ: 33] ) بيان لما كان موجبا لإمهالهم مع علم الله سبحانه وتعالى بأقوالهم وأفعالهم (أي ما كنت بمكّة) أي مدة كونك فيها إذ جرت سنته تعالى أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ما دام نبيهم بين اظهرهم ومن ثمة كان العذاب إذا نزل بقوم أمر نبيهم بالخروج بمن آمن وفيه تلويح بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر (فلمّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 خرج النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم من مكّة) أي مهاجرا إلى المدينة، (وبقي فيها من بقي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَزَلَ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33] ) وهو إما بمعنى وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر من المؤمنين ممن تخلف عن رسول الله من المستطيعين أو بمعنى نفي الاستغفار أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم وعن الحسن أن الآية منسوخة بقوله تعالى وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ والظاهر أن لا تنافي بينهما إذ النفي منصب على عذاب الاستئصال والإثبات محمول على غيره من الاسر والقتل وأنواع الخزي والنكال قال المنجاني وهذا التأويل قال به جماعة من المفسرين منهم ابن عباس والضحاك ومقتضاه أن الضمير في قوله سبحانه وتعالى معذبهم عائد على كفار مكة والضمير في قوله تعالى وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ عائد على المؤمنين الباقين بمكة بعد رسول صلى الله تعالى عليه وسلم أي وما كان الله ليعذب الكافرين والمؤمنون يستغفرون بينهم فتكون الآية على هذا نحوا من قوله تعالى وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ الآية وقوله تعالى لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا الآية أيضا وعلى هذا التأويل فالمؤمنون مفهومون من سياق الكلام وإلا فلم يتقدم لهم ذكر في الآية وأما التأويل الثاني الذي ذكر القاضي في هذه الآية بقوله. (وَهَذَا مِثْلَ قَوْلِهِ: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا [الْفَتْحِ: 25] الآية) أي وما ذكر مما دل على إمهالهم وتأخير العذاب في آجالهم لأجل من فيها من المؤمنين وتحسين أفعالهم وأقوالهم مثل قوله سبحانه وتعالى لَوْ تَزَيَّلُوا أي لو تفرقوا وتميز المؤمنون من الكافرين لعذبنا الذين كفروا منهم أي من أهل مكة عذابا أليما بالقتل والأسر. (وقوله) أي ومثل قوله تعالى (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ [الفتح: 25] الآية) أي ونساء مؤمنات بمكة لم تعلموهم أي بأعيانهم لاختلاطهم بأهل كفرهم وطغيانهم أن تطؤوهم بدل اشتمال من رجال ونساء أو من ضمير هم في تعلموهم أي أن تدوسوهم فتهلكوهم ومنه الحديث آخر وطأة وطأها الله بعرج واد بالطائف فتصيبكم منهم معرة من عره إذا غشيه بمكروه أي فيغشاكم من جهتهم مكروه كوجوب الدية والكفارة بقتلهم والتأسف عليهم وتعيير الكفار لكم به والإثم بتقصيركم في البحث عنهم بغير علم حال أي أن تطؤهم غير عالمين بهم وجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه والمعنى لولا كراهة أن تهلكوا مؤمنين ومؤمنات بين أظهر الكفار جاهلين به فيصيبهم مكروه بإهلاكهم لما كف أيديكم عنهم وقوله تعالى لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ علة لما دل عليه كف الأيدي عنهم صونا لمن فيها من المؤمنين أي كان ذلك لأجل أن يدخل الله في رحمته من يشاء من مؤمنيهم أو مشركيهم أو منهما بتوفيقه للإسلام أو لزيادة الخير والإنعام (فلمّا هاجر المؤمنون) أي من مكة (نَزَلَتْ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْفَالِ: 34] ) أي وما يمنع من تعذيبهم بعد أن فارقتهم والمؤمنون وكيف لا يعذبون وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن اولياءة إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون (وهذا) أي ما ذكر في دلالة الآية على تأخير العذاب عنهم وهو فيهم (من أبين ما يظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 مكانته) أي من أظهر دليل يبين علو مرتبته ورفعة شأنه وعظمته (صلى الله تعالى عليه وسلم) لكل أحد عند ربه، (ودرأته) وقع بخط بعض الأكابر هنا درأ به على أنه فعل ماض وجار ومجرور أي دفع به والظاهر أنه تصحيف والصواب أنه بكسر الدال المهملة وسكون الراء وهمز وتاء أي ومن أبين ما يظهرها دفعه سبحانه (العذاب عن أهل مكّة بسبب كونه) أي وجوده المتضمن لكرمه وجوده فيهم لأنه بعث رحمة للعالمين (ثمّ كون أصحابه) بجر الكون عطفا على ما تقدم (بعده بين أظهرهم) أي بينهم وفي جوارهم فلفظ أظهرهم مقحم للمبالغة (فلمّا خلت مكّة منهم، عذّبهم) أي الله كما في نسخة (بتسليط المؤمنين عليهم) أي بتسليط رسوله إياهم وأبعد التلمساني حيث فسر التسليط بالقهر (وغلبتهم إيّاهم، وحكّم فيهم سيوفهم) بتشديد الكاف المفتوحة أي جعلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حكما فيهم حدا وصفحا قتلا وقطعا وأسرا (وأورثهم أرضهم) أي مزارعهم (وديارهم) أي بيوتهم وحصونهم ومعاقلهم، (وأموالهم) أي نقدهم وأثاثهم ومواشيهم روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين فتكلم فيه الأنصار فقال لهم إن لكم منازلهم وروي أنه قال لهم أما ترضون أن الناس يرجعون بالأموال إلى بلادهم وأنتم ترجعون برسول الله إلى أهليكم وقال عمر رضي الله تعالى عنه أما تخمس كما خمست يوم بدر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لا إنما جعلت هذه لي طعمة وهذا صريح بأن مكة فتحت عنوة وعليه الإمام أبو حنيفة والأكثرون من أهل العلم وعن الإمام الشافعي أنها فتحت صلحا ومن ثمة كان يجيز إجارة دورها وبيعها بدليل حديث وهل ترك لنا عقيل من رباع لكن لا يخفى بعد وجه الاستدلال به وأبعد من قال فتح أعلاها صلحا وأسفلها عنوة، (وفي الآية) أي آية وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (أيضا تأويل آخر) وهو أن الضميرين راجعان إلى الكفار فيحتمل أن يكون وهم يستغفرون في موضع الحال بتقدير أن لو كان أي وما كان الله معذبهم وهم بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع منهم واختاره الطبري وأن يكون إشارة إلى من سبق في علم الله أنه يؤمن منهم أو من ذريتهم أي وما كان الله معذبهم ومنهم من يخرج فيستغفر الله ويؤمن به واختاره الزجاج وأن يكون إشارة إلى قولهم في دعائهم غفرانك اللهم فجعله الله كما قال ابن عطية أمانا لهم من عذاب الدنيا كما قرره الدلجي والأظهر ما حرره المنجاني من أن التأويل الآخر الذي ذكره القاضي في هذه الآية مبني على أن الضميرين معا عائدان على المؤمنين لما أسنده القاضي من الحديث ليبينه به وهو قوله. (حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ بقراءتي عليه) وهو الحافظ ابن سكرة كما سبق (قال حدّثنا أبو الفضل بن خيرون) بالصرف وعدمه فعلون من الخير ضد الشر قد تقدم ذكره، (وأبو الحسين) بالتصغير على الصحيح، (والصّيرفيّ) وهو المبارك بن عبد الجبار وتقدم ترجمته، (قالا) أي أبو الفضل وأبو الحسين كلاهما، (حدّثنا أبو يعلى ابن زوج الحرّة) بضم حاء مهملة وتشديد راء وقد سبق، (حدّثنا أبو عليّ السّنجيّ) تقدم أنه بكسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 السين المهملة وسكون النون فجيم فياء نسبة، (حدّثنا محمّد بن أحمد بن محبوب المروزيّ) بفتح الميم والواو نسبة إلى مرو وهو أبو العباس راوي جامع الترمذي كما سبق (حدّثنا أبو عيسى الحافظ) أي الترمذي صاحب السنن، (حدّثنا سفيان بن وكيع) أي ابن الجراح يروي عن أبيه ومطلب بن زياد وعنه الترمذي وابن ماجه شيخ صدوق إلا أنه ابتلي بوراق سوء كان يدخل عليه فكلم في ذلك فلم يرجع مات سنة سبع وتسعين ومائة، (حدّثنا ابن نمير) بضم نون وفتح ميم وسكون ياء فراء يكنى أبو عبد الرحمن الهمداني الكوفي واسمه عبد الله يروي عن هشام بن عروة والأعمش وعنه ابنه وأحمد وابن معين حجة أخرج له الجماعة مات سنة أربع وثلاثين ومائتين (عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر) بكسر الجيم وهو أبو بشر الاسدي مولاهم البصري يروي عن أبيه وعدة وعنه أبو نعيم وطلق بن غنام ضغيف أخرج له الترمذي وابن ماجه (عن عبّاد بن يوسف) بفتح عين مهملة وتشديد موحدة وهو أبو عثمان الكندي ثقة وقيل ابن سعيد وقيل هو عبادة بن يوسف والأول أصح بصري ثقة روى عن أبي بردة وروى عنه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر كذا ذكره التلمساني واضطرب كلام الحلبي فيه (عن أبي بردة) بضم الموحدة والصحيح أن اسمه عامر وهو قاضي الكوفة (ابن أبي موسى) يروي عن أبيه وعن علي والزبير وعنه بنوه عبد الله ويوسف وسعيد وبلال وحفيده بريد بن عبد الله وكان من النبلاء توفي سنة أربع ومائة أخرج له الجماعة (عن أبيه) وهو أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس بن سليم بضم ففتح أمير زبيد وعدن للنبي صلى الله عليه وسلّم وأمير البصرة والكوفة لعمر رضي الله تعالى عنهما روى عنه بنوه أبو بردة وأبو بكر وإبراهيم وموسى مناقبه جمة توفي سنة أربع وأربعين أخرج له الجماعة والحديث الذي أخرجه المؤلف هنا انفرد الترمذي بإخراجه من بين الستة ذكره في التفسير وقال غريب وإسماعيل يضعف في الحديث انتهى ويقويه أنه رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا وأبو الشيخ نحوه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه موقوفا أيضا، (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لِأُمَّتِي» ) يحتمل أمة الإجابة وهو ظاهر الآية ويحتمل أمة الدعوة وهو الملائم لعموم الرحمة بالأمنة (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وهذه الأمنة ظاهرة في عمومهم (وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الْأَنْفَالِ: 33] ) وهذه الأمنة لائحة لخصوصهم ويؤيده قوله. (فإذا مضيت) أي انتقلت من دار الإكدار إلى دار القرار (تركت فيكم الاستغفار) أي فعليكم بالإكثار منه في الليل والنهار ولا يبعد أن يكون الاستغفار من الإبرار سببا وباعثا لدفع عذاب الاستئصال عن الكفار ويؤيده قوله، (ونحو منه) أي من هذا الحديث في المعنى، (قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء: 107] ) لأن ما بعث به سبب لإسعادهم وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم وكونه رحمة للكفار وأهل فسادهم أمنهم به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال في بلادهم. (قال صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا أمان لأصحابي) وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 لفظ أنا أمنة لأصحابي وهو حديث صحيح رواه مسلم عن سعيد بن بردة عن أبيه عن أبي موسى قال صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء فخرج علينا فقال: ما زلتم هنا قلنا: نعم فقال: أجدتم أو أحسنتم قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي وأمتي ما يوعدون قال المنجاني وفي لفظ هذا الحديث أمنة وفي الحديث الذي ذكره القاضي أمان ولعلهما روايتان في الحديث أقول أو نقل القاضي بالمعنى مع قرب المبنى إذ الأمنة بضم الهمزة والميم والأمن والأمان بمعنى واحد على ما ذكره المنجاني والظاهر أنه بفتحهما على ما في القاموس هذا ولعله صلى الله تعالى عليه وسلم أراد بذهاب النجوم انتثارها لقوله تعالى وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وبإتيان السماء ما توعد انفطارها وتبديلها كما قال تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وبإتيان أصحابه ما يوعدون ما أنذرهم به من الفتن والارتداد وبإتيان أمته ما يوعدون ما أخبرهم به من ظهور البدع واختلاف الآراء والهرج وغلبة الروم وتخريب الكعبة وغير ذلك مما وقع أكثره وبقي ما لا بد من وقوعه وبكونه أمانا لأصحابه: (قيل من البدع) فلم يكن منهم من ارتكب بدعة بشهادة حديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، (وقيل من الاختلاف، والفتن) قال الدلجي وفيه ما فيه لكن يلزمنا الكف عما جرى بينهم بصدوره منهم اجتهادا بتأويلات صحيحة للمصيب أجران على اجتهاده وإصابته وللمخطئ أجر على اجتهاده بشهادة حديث الشيخين أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد انتهى وفيه ما فيه لأن ما جرى بينهم ما جرى منهم إلا بعد غيبته صلى الله تعالى عليه وسلم عنهم وارتفاع الأمان منهم وليس معنى قوله أمان لأصحابي أنهم في أمن من الفتنة إلى آخر أعمارهم بل مقيد بمدة كونه فيهم ولذا قال وإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون. (قال بعضهم: الرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم هو الأمان الأعظم) أي لا غيره وإن كان أصحابه أيضا أمانا (ما عاش وما دامت سنّته) أي المستمرة المعتادة له (باقية) أي ثابتة موجودة وهي بالنصب خبر دام وما شرطية جزاؤها قوله (فهو باق) أي فهو صلى الله تعالى عليه وسلم باق حكما لبقاء حكمه في أمته (فإذا أميتت سنّته) أي عدمت وفنيت وتركت ولم يعمل بها أو عمل بخلافها (فانتظروا البلاء والفتن) الخطاب عام لما في نسخة فانتظروا البلاء وكان الأولى أن يقال فينتظر البلاء والفتن أي المحن الدنيوية والفتن الدينية وقيل المعنى فإذا أميتت سنته بموت أهلها فانتظروا البلاء والفتن بدليل حديث أن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم أو لم يبق عامل اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] الآية) تقدم بعض الكلام عليها؛ (أبان الله تعالى) أي أظهر وبين (فضل نبيّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 صلى الله تعالى عليه وسلم بصلاته عليه) أي أولا تعظيما (ثمّ بصلاة ملائكته) أي ثانيا تكريما (وأمر عباده بالصّلاة والتّسليم عليه) أي بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً وفي نسخة وأمر عباده بالجر والإضافة عطفا على صلاته أي وبأمر عباده بهما عليه ثالثا بأن يقولوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الخ على ما ورد في حديث الصلاة أو بأن يقولوا السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ كما في حديث التشهد وذلك يدل على وجوب الصلاة والسلام عليه في الجملة كلما ذكر لحديث رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ علي فدخل النار فأبعده الله وجوز الصلاة على غير ملك ونبي تبعا ويكره استقلالا لكونها في العرف شعارا لذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ثمة كره أن يقول محمد عز وجل وإن كان عزيزا جليلا وقيل المراد بالتسليم هو الانقياد لأوامره (فالصلاة) أي مطلقا (من الملائكة ومنا) أي بني آدم (له دعاء) لحديث إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائما فليصل أي فليدع ووقع في شرح الدلجي من الملائكة استغفار وهو الملائم لقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا والظاهر أن الاستغفار على ظاهره وقوله تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ عام اريد به خصوص المؤمنين إذ لا يجوز الاستغفار للكافرين إلا بقصد طلب إيمانهم المستلزم استحقاق المغفرة في شأنهم وقال الدلجي أي بسعيهم فيما يستدعي المغفرة من شفاعة وإلهام وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة وذلك في الجملة يعم المؤمن والكافر وحيث خص به صلى الله تعالى عليه وسلم فالمراد به السعي فيما يليق بجنابه (ومن الله تعالى رحمة) أي رحمة عظيمة أو رحمة خاصة جسيمة والمراد من الرحمة الإحسان وإرادة الانعام لاستحالة معناها الذي هو رقة القلب في حق الرب سبحانه وتعالى (وقيل يصلون) أي معناه (يباركون) من البركة وهي كثرة الخير أي يكاثرونه ويزايدونه عليه ذكره الدلجي والظاهر أن معنى يباركون يدعون له بالبركة في ذاته وصفاته وأهل بيته واتباعه من أمته وحيث كانت المغايرة ظاهرة بين الصلاة والبركة قال المصنف (وقد فرق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين علم) أي أصحابه (الصلاة عليه بين لفظ الصلاة والبركة) في حديث قد أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك فقال قولوا اللهم صلى عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ على إبراهيم وعلى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبراهيم إنك حميد مجيد والأظهر أن يراد بقوله يصلون يعظمون ويثنون عليه ليشمل جميع الألفاظ الواردة التي من جملتها الترحم ونحوه (وسنذكر حكم الصلاة عليه) أي هل هو فرض أو سنة وهل هو فرض عين أو كفاية وما يتعلق بالمسألة من الفروع والأدلة (وقد حكى أبو بكر بن فورك) بضم الفاء وفتح الراء وهو غير منصرف للعلمية والعجمة وقيل منصرف هو إمام جليل فقها وأصولا وكلاما ونحوا ووعظا مع جلالة وورع زائد ومهابة وهو أصبهاني ومات شهيدا بالسم في سنة ست وأربعمائة ونقل إلى نيسابور ودفن بها قال ابن عبد الغفار يستجاب الدعاء عنده (أنّ بعض العلماء تأوّل) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فسر (قوله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ على هذا) أي على هذا المعنى. (أَيْ فِي صَلَاةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ وَمَلَائِكَتِهِ وأمره الأمّة بذلك) أي بالصلاة عليه كما في نسخة (إلى يوم القيامة) واعلم أن قوله وقد حكي إلى هنا لم يثبت في الأصل الذي هو خط المؤلف القاضي وثبت في الأصل المروي عن أبي العباس الغرقي ثم اعلم أن القرة بمعنى السرور والفرحة وأصلها من القر بمعنى البرد يقال أقر الله عينه أي ابرد الله دمعته لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة ثم أكثرا لأقوال وأظهرها أنها الصلاة الشرعية لما فيها من المناجاة وكشف المعارف وشرح الصدر وسيأتي الكلام بعد إن شاء الله تعالى. (وذكر بعض المتكلّمين) أي من المفسرين (في تفسير حروف كهيعص (1) [مريم: 1] أنها مأخوذة من كفاية الله وهدايته وتأييده وعصمته وصلاته عليه فزعم (أنّ الكاف من كاف) اسم فاعل من كفى يكفي (أي كفاية الله لنبيّه عليه الصلاة والسلام قال) أي الله سبحانه وتعالى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] ) واستفهامه لإنكار النفي مبالغة في اثبات كفايته له والمراد بعبده عبده الخاص وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فالإضافة شخصية والمراد به الفرد الأكمل والإضافة للجنس أو المراد جميع عباده أو خواصهم من انبيائه وأوليائه وينصره قراءة حمزة والكسائي عباده بلفظ الجمع وهو صلى الله تعالى عليه وسلم يدخل فيهم دخولا أوليا وقيل في الكاف إشارة إلى أنه الكافي في الإنعام والانتقام لعموم الأنام وقيل الكاف إشارة إلى أنه الكاتب على نفسه الرحمة (والهاء) بالنصب ويجوز رفعه (هدايته له) أي هداية الله لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وكان الأنسب أن يقال والهاء من هادي أي هِدَايَتُهُ لَهُ (قَالَ: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً [الْفَتْحِ: 2] ) أي يدلك بلطفه إلى طريق دينه أو إلى تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرياسة (والياء تأييده له قال أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ [الأنفال: 62] ) أي قواك بنصرته على اعدائك والأولى أن يقال الياء إشارة إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أو إيماء إلى يسر المنحة بعد المنحة أو إلى يده المبسوطة بالرحمة على نبي هذه الأمة أصالة وعلى أتباعه تبعية لئلا يرد عليه ما ذكره المنجاني من أن صاحب هذا القول إن أراد أن هذه حروف أخذت من أوائل هذه المصادر على ما تقدم من اقتصار العرب على أول حرف من الكلمة فإن لفظ التأييد ينقض عليه لأن فاءه همزة لا ياء وإنما الياء عينها وإن أراد أنها أحرف أخذت من هذه المصادر سواء كان كل حرف منها فاء الكلمة أو عينها فهو قول خارج عن القياس الصناعي (والعين عصمته له قال تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ) أو إشارة إلى علمه بحاله في سره وجهره قال عز وعلا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (والصّاد صلاته عليه قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] ) أي يثنون شأنه ويعظمون برهانه أو إيماء إلى اسمه الصادق في وعده والصبور في وعيده ثم اعلم أن أوائل الصور على القول المعتبر من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته والمراد به إلا الله سبحانه وتعالى وقيل إشارة للإعجاز بالقرآن وقيل إشارة لأسماء الله وقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 لاسماء رسوله وقيل بيان لمدة الأمة المحمدية وجملة ذلك ثلاثون سنة ومائتان وأربعة آلاف وإن أسقط المكرر فتسعمائة وثلاثة وهو الأقرب لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعث في الألف السابعة وروى جعفر بن عبد الواحد القاضي حديثا يرفعه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن أحسنت أمتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة وإن أساءت فنصف يوم وذلك خمسمائة وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال الدنيا سبعة آلاف سنة بعث في آخرها الفا وهو ضعيف وروي موقوفا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الدنيا سبعة أيام كل يوم منها ألف سنة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم منها ويدل عليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين يعني الوسطى والسبابة وقد ورد عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقول في دعائه اغفر لي يا كهيعص فيحتمل أن يكون كهيعص عند علي رضي الله تعالى عنه اسما لله تعالى بجملتها ويحتمل أن يريد نداء الله سبحانه وتعالى بجميع اسمائه التي تضمنتها كهيعص من كاف وهاء ونحو ذلك (وقال تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا) وقرأ الكوفيون بالتخفيف والخطاب لعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما أي وإن تتعاونا (عَلَيْهِ أي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمكر والحيلة في قضية مارية والغل لديه وبسائر مما يسوؤه فإنه لن يضره ولن يعدم من ينصره (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ الآية مولاه أي وليّه) يعني ناصره ومتوليه فيما أولاه (وجبريل) هو رسول الحق إليه يعينه فيما هو عليه (وصالح المؤمنين قيل الأنبياء) يعني والمرسلون (وقيل الملائكة) أي المقربون فيكون تعميما بعد تخصيص لكن فيه أنه يتكرر مع قوله تعالى والملائكة بعد ذلك ظهير أي متظاهرون عليه (وقيل أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما) أي وأمثالهما من أكابر الصحابة لما ذكر الماوردي أنهم أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وقيل عليّ رضي الله عنه) أي ونحوه من أهل البيت وأقاربه (وقيل المؤمنين) أي جميعهم (على ظاهره) بناء على أن كل مؤمن بظاهره صالح والأظهر أن يقال المراد وصالح المؤمنين من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين والخلفاء الراشدين وسائر الصحابة من السابقين واللاحقين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وصالح بغير واو وهو مفرد أو جمع حذف منه الواو لفظا فحذف رسما وأما تعليل التلمساني بقوله وسره دلالة السرعة في النصرة لأن مدة الواو تفيد مدا وبعدا ولا كذلك حذفها فهو في غاية البعد هذا وإن صح حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال هم أبو بكر وعمر وكان بينة صدق لكونهما المراد به في القول الصدق أو ذكرهما مثلا والمراد به أمثالهما والله تعالى أعلم بكتابه ورسوله ببيان خطابه وقد ورد عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقول في دعائه اغفر لي يا كهيعص كما سبق ثم اعلم أنه ورد في صحيح البخاري أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال مكثت أريد أن اسأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن آية سنة فما استطيع أن اسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 إلى الاراك لحاجة له فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت له يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أزواجه قال تلك حفصة وعائشة رضي الله تعالى عنهما قال فقلت والله إني كنت لاريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما استطيع هيبة لك قال فلا تفعل ما ظننت أن عندي منه علما فاسألني فإن كان لي علم أخبرتك به هذا وذهبت طائفة من العلماء إلى أن ذلك كان في قضية مارية القبطية وذلك أن المقوقس أهداها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سرية فلما كان بعض الأيام وهو يوم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مارية فواقعها فجاءت حفصة فوجدتهما فأقامت خارج البيت حتى أخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مارية وذهبت فدخلت خفصة غير متغيرة فقالت يا رسول الله أما كان في نسائك أهون عليك مني أفي بيتي وفراشي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مرضيا لها أيرضيك أن أحرمها فقالت: نعم قال: فإني قد حرمتها ثم قال لا تخبري بهذا أحدا وخرج عنها فقرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة وأخبرتها بذلك لتسرها ولم تر في افشائه لها حرجا واستكتمتها ذلك فنزلت الآية وهي قوله تعالى وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً إلى قوله تَعَالَى وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ واختلفوا هل حرمها بيمين أو لا على قولين فقال قتادة والحسن والشعبي حرمها بيمين وقال غيرهم لم يحرمها بيمين ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذهبت طائفة إلى أن تظاهرهما عليه إنما كان في قصة شربه صلى الله تعالى عليه وسلم العسل في بيت زينب بنت جحش وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يمكث عندها فتسقيه عسلا قالت عائشة رضي الله عنها فتواطأت أو قالت فتواصيت أنا وحفصة على أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أو أكلت مغافير وهو شجر كريه الرائحة فدخل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على إحديهما فقالت له ذلك فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له واستكتمتها ذلك فأخبرت به عائشة فنزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ يعني العسل لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولن أعود له إلى قوله سبحانه وتعالى إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ الآية والوجه الأول هو قول أكثر العلماء وروي مرسلا عن زيد بن أسلم من طرق صحاح رواه ابن وهب عن مالك رضي الله تعالى عنه قال حرم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أم إبراهيم رضي الله عنهما فقال هي حرام فأنزل الله في ذلك سورة التحريم وأما الوجه الثاني فبه تواردت الأحاديث الصحيحة وأخرجه البخاري عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله تعالى عنها بنحو ما سبق وقال فيه إنه شرب عند زينب عسلا كما تقدم وجاء في صحيح مسلم أنه شرب عند حفصة وأن اللتين تظاهرتا عليه هما عائشة وسودة رضي الله تعالى عنهما وأكثر المحدثين على ما في البخاري والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الْفَصْلُ التَّاسِعُ [فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كراماته عليه السلام] (فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كَرَامَاتِهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) اعلم أن سورة الفتح نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في منصرفه من الحديبية سنة ست من الهجرة وهو متوجه إلى المدينة فهي على هذا في حكم المدني وقد قيل بل نزلت بالمدينة وعلى بعضها نزل بها وقد ثبت في فضلها حديث لقد أنزل الله علي سورة هي أحب إلي ما طلعت عليه الشمس أي شمس الوجود (قال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا) أي بعظمتنا (لَكَ) أي لا لغيرك أو لأجلك (فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] ) أي ظاهرا (إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] ) ومعناه قوله سبحانه تعالى وهو القاهر فوق عباده وكثير من السلف وبعض الخلف على أن الله سبحانه وتعالى يدا لا بمعنى الجارحة بل إنها صفة له تعالى على وجه يليق بذاته وكذا قالوا في الاستواء وسائر آيات المتشابه وأحاديث الصفات ثم ما بينهما سيأتي مبينا وفي اثناء الكلام معينا وقد اختلف في هذا الفتح قال كثير إن هذا هو ما اتفق له صلى الله تعالى عليه وسلم في طريق الحديبية من التيسير واللطف وذلك أن المشركين كانوا إذ ذاك أقوى من المسلمين فيسر الله سبحانه أن وقعت بينه وبينهم المصالحة ريثما يتقوى صلى الله تعالى عليه وسلم واتفق له بعد ذلك بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم واستقبل صلى الله تعالى عليه وسلم فتح خيبر فامتلأت أيدي أصحابه خيرا ولم يشترك فيه مع أهل الحديبية احد ممن تخلف منهم ثم ما وقع في ذلك الوقت من الملحمة التي كانت بين الروم وفارس فظهرت فيها الروم وكان ذلك فتحا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واصحابه لانهضام شوكة الكفر العظمى ولأنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم كونه فتحا له من سورة الروم فكانت هذه كلها من جهة الفتح الذي جاءت الآية منبهة عليه وقد ذكر ابن عقبة أنه لما كان صلح الحديبية ونزلت الآية قال رجال من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالرواح عن بلادهم ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين وهو أعظم الفتوح فقال المسلمون صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح يا رسول الله وأنت أعلم بالله وبأمره منا وذهب بعض المفسرين إلى أن الفتح في الآية إنما هو إشارة إلى فتح بمكة فمعنى فتحنا على هذا قضينا وقدرنا والأظهر إن فتح الحديبية كان سببا لفتح مكة وذهب بعضهم إلى أن الفتح في الآية إنما هو الهداية إلى الاسلام أي على الوجه العام ومال الزجاج إليه واستحسنه لإمكان الجمع بالحمل عليه قال المصنف (تضمّنت هذه الآيات) أي الواردة في صدر السورة (من فضله) أي من جملة فضائله (وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَكَرِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ونعمته لديه ما) أي الذي أو شيئا (يقصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الوصف عن الانتهاء إليه) أي لقصور إحاطة العلم به (فابتدأ جلّ جلاله بإعلامه) أي بإعلام الله نبيه (بما قضاه له من القضاء البين) أي بما حكم له وقدره من الفتح المبين حيث قال إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً أي إنا قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل عام الحديبية (بِظُهُورِهِ وَغَلَبَتِهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ) أي طريقته وفي نسخة شيعته أي أمته بعد صده بها عنها وهذا قول آخر للمفسرين مغاير لما سبق من وجه أو هو وعد بفتح مكة كما تقدم وعبر بالماضي لتحققه أو بما اتفق له بعد نزولها كفتح خيبر وفدك أو بما ظهر له في الحديبية من آية عظيمة وهي أن ماءها نضب فلم يبق بها قطرة فتمضمض ثم مج فيها فدرت ماء حتى رووا كلهم (وأنّه) عطف على أعلامه أي وبأنه صلى الله تعالى عليه وسلم (مغفور له غير مؤاخذ) بالهمز ويبدل واوا وهو تأكيد لما قبله لتضمنه معناه (بما كان وما يكون) حيث قال لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ والمعنى لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك ولا يكون على هذا اثبات لوقوع الذنب ثم غفرانه خلافا لما يتوهم من كلام المصنف (قَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ غُفْرَانَ مَا وَقَعَ وَمَا لم يقع أي أنّك مغفور لك) أي مما يصح أن يعاتب عليه لما في قوله تعالى لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى والأظهر أن في الآية إيماء إلى أن العبد ولو وصل إلى أعلى مرتبته المقدرة لم يحصل له استغناء عن المغفرة لقصور الأطوار البشرية في القيام بحق العبودية على ما اقتضته الربوبية وقيل عد الاشتغال بالأمور المباحة والتفكر بالهمة في مهمات الأمة سيئات من حيث إنها غفلة عن مرتبة الحضرة في الجملة ولذا قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين ثم قوله تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إعلاء دينه وإزاحة شرك الأغيار وتكميل النفوس الناقصة إجبارا واعتبارا ليصير ذلك بالتدريج اختبارا وتخليص الضعفة من أيدي الظالمة اختيارا (وقال مكّيّ جعل الله المنّة) أي العطية والامتنان بالفتح أو بالهداية إلى الإسلام (سببا للمغفرة وكلّ) أي من المنة والهداية والمغفرة حاصل (من عنده) أي لقوله سبحانه وتعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (لا إله غيره) أي حتى يكون قضاء شيء من عنده ويروى لا إله إلا هو (منّة) أي عطية وامتنانا حال أو مفعول مطلق (بَعْدَ مِنَّةٍ وَفَضْلًا بَعْدَ فَضْلٍ ثُمَّ قَالَ) أي الله عز وجل (ويتمّ نعمته عليك) أي بجمعه لك النبوة والملك وظهور دينك وفتح البلاد عليك وغير ذلك ومنها قوله، (قيل بخضوع من تكبّر لك) متعلق بخضوع والمعنى بتواضع من تكبر عليك لأجلك بالانقياد لك والخضوع والخشوع بين يديك والتذلل إليك وفي نسخة بِخُضُوعِ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْكَ (وَقِيلَ بِفَتْحِ مَكَّةَ والطّائف) أي وإقبال أهلهما إليك طوعا وكرها (وَقِيلَ يَرْفَعُ ذِكْرَكَ فِي الدُّنْيَا وَيَنْصُرُكَ وَيَغْفِرُ لك) بصيغ الأفعال تفسير على وفق المفسر وهو قوله ويتم وهو الأظهر وقال التلمساني بباء الجر وكلها مصادر ويجوز الفعل وكذا قال الحجازي ويروى برفع ذكرك وبنصرك وغفر لك بالموحدة وتنوين الأخير انتهى وفيه أن الغفر بمعنى المغفرة قليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الاستعمال ثم هذه أقوال تناولها عموم الآية ولا مرجح لها فالأولى حملها على عمومها ثم مجمل هذه الأقوال ومحصل هذه الأحوال ما ذكره المصنف بقوله (فأعلمه) أي الله سبحانه (بتمام نعمته عليه) الأول بإتمام نعمته أي بإكمال إنعامه وإحسانه إليه (بخضوع متكبّري عدوّه له) الباء متعلق بنعمته أو بدل مما قبله أو بمعنى من البيانية له ولما بعده أي من تواضع أعدائه المتكبرين عليه سابقا غاية التواضع ولاحقا (وفتح أهمّ البلاد عليه) لأن مكة كانت صقع المشركين وكانت العرب إنما تنتظر بالإسلام ما يكون من أهل مكة مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإن اسلموا اسلموا فكانت مكة لهذا المعنى أهم البلاد لأن إسلام أهلها يستلزم إسلام جميع المشركين أو أكثرهم ولهذا أكثر المسلمون بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجا وفي نسخة أسنى البلاد أي أفضلها لكون القبلة فيها ومعدن النبوة بها وهي أم القرى ويتبعها ما حولها (وأحبّها له) أي على الإطلاق وإنما صارت المدينة أحب من سائر البلاد إليه بعد خروجه منها كما هو ظاهر حديث اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فاسكني أحب البقاع إليك فأسكنه المدينة كما أخرجه الحاكم في مستدركه إلا أن في سنده عبد الله المقبري وهو ضعيف جدا فلا يصلح لاستدلال المالكية لأفضلية المدينة ومما يدل على قول الجمهور في أفضلية مكة ما رواه الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي الحمراء وفي رواية عن أبي هريرة يرفعه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين خرج إلى الهجرة هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وقف ينظر إلى البيت ثم قال والله إنك لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب ارض الله إلى الله ولولا إن أهلك أخرجوني ما خرجت وما جاء في حديث آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمكة ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك فاندفع بهذا ما قيل من أن الأحب لا يعارض الأفضل خصوصا بحسب الجبلة الطبيعية (ورفع ذكره) أي مما نشأ عليه كله من نصره إياه على عدوه فعمومها شامل له بخصوصه وهو بالجر عطف على ما قبله وأما قوله (وهدايته الصّراط المستقيم) وكذا ما بعده فبالجر إلا أنه عطف على تمام أي وأعلمه بهدايته إلى الصراط المستقيم أي بقوله وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو بالصاد والسين وإشمام الزاء في السبعة وبالزاء الخالصة في الشاذة والهداية يتعدى بنفسه تارة كقوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وبإلى أخرى كقوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وباللام أيضا ومنه قوله سبحانه وتعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (المبلّغ الجنّة والسّعادة) بكسر اللام المشددة ويجوز تخفيفها نعت للصراط أي الموصل إلى أسباب الجنة وأبواب السعادة وأصناف السيادة (ونصره النّصر العزيز) بقوله تعالى وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي نصرا غالبا قويا فيه عز ومنعة وقوة وشوكة ظاهرة وباطنة أو نصرا يعز به المنصور فوصف بوصفه للمبالغة وقال المنجاني عزيز في هذه الآية بمعنى معز كأليم بمعنى مؤلم وحبيب بمعنى محب فنصر معز وهو المتضمن لغلبة العدو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقهره ونصر لا بهذه الصفة وهو المتضمن لدفع أذى العدو فقظ (ومنّته) أي وأعلمه بامتنانه (على أمّته المؤمنين بالسّكينة) أي بإنزال السكينة (والطّمأنينة) عطف تفسير وهو بضم أوله وبهمز ويسهل فيبدل مصدر اطمأن سكن ويروى الطمأنينة والسكينة قيل السكينة هي الرحمة وقيل الوقار والرزانة وقيل الإخلاص والمعرفة (التي جعلها الله في قلوبهم) بقوله تعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أتي يقينا مع يقينهم برسوخ العقيدة أو ليزدادوا إيمانا بالشرائع المجددة اللاحقة مع إيمانهم بالأحكام المقررة السابقة لأن حقيقة الإيمان وهي التصديق غير قابلة للزيادة والنقصان عند أرباب التحقيق والله ولي التوفيق (وبشارتهم) بكسر الباء بمعنى ما يسر به أي وأعلمه ببشارة أمته (بما لهم) أي عند ربهم كما في رواية (بعد) بضم الدال أي بعد حالهم (وفوزهم) أي نجاتهم وظفرهم (العظيم) أي في مآلهم (والعفو عنهم) أي المحو لعيوبهم (والسّتر لذنوبهم) أي فيما جرى لهم والستر بالفتح مصدر وبالكسر اسم بقوله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً واللام علة لما دل عليه قوله تعالى وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من التدبير وحسن التقدير أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين على الكافرين ليعرفوا نعمة ربهم ويشكروها فيدخلوا الجنة ويتنعموا بما فيها (وهلاك عدوّه) أي أعداء النبي والمؤمنين (في الدّنيا والآخرة ولعنهم) أي طردهم (وبعدهم من رحمته وسوء منقلبهم) بفتح اللام أي قبح انقلابهم أي سوء مرجعهم ومصيرهم والمعنى أنه أعلمه ذلك بقوله تعالى وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وظنهم هو أن لا ينصر الله رسوله والمؤمنين وعليهم دائرة ما ظنوه وتربصوه بالمؤمنين لا يتجاوزهم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين في دائرة السوء لا في مطلق السوء على ما في الجلالين وهما لغتان (ثمّ قال) أي الله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي مزكيا للأصفياء أو مشاهدا للقاء في مقام البقاء (وَمُبَشِّراً) أي للمؤمنين الأحباء بما يحبونه (وَنَذِيراً [الفتح: 8] ) للكافرين الأعداء بما يكرهونه وهي أحوال مقدرة وردت ببعض ما أوتيه مخبرة (الآية) كما سيأتي (فعدّ) أي الله تعالى بذلك (محاسنه) أي فضائله الحسنة (وخصائصه من شهادته على أمّته لنفسه بتبليغه الرّسالة لهم) أي بخلاف سائر الأنبياء فإنه لا تقبل شهادتهم على أممهم لأنفسهم بل يحتاجون إلى أن هذه الأمة يشهدون على الأمم بتبليغ أنبيائهم لهم كما تقدم بيانه (وقيل شاهدا) أي يشهد يوم القيامة (لهم بالتّوحيد) أي بتوحيدهم لله (ومبشّرا لأمّته) أي ويبشرهم (بالثّواب) أي في دار النجاة (وقيل بالمغفرة) أي يبشر أحباءه بحسن المآب (ومنذرا عدوّه) أي يخوف أعداءه (بالعذاب وقيل) أي في معنى منذرا (محذّرا) أي يحذر أمته (من الضّلالات) أي من أنواع الضلالة التي هي الكفر والفسق والبدعة (ليؤمن بالله) أي حق الإيمان (ثمّ به) أي برسوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 (من سبقت له من الله الحسنى) أي المنزلة الأسنى وهي الجنة العليا أو المثوبة الحسنى ويدل عليه قوله تعالى (ليؤمنوا بالله ورسوله) (ويعزّروه) أي يمنعوه ويحرسوه من أعدائه (أي يجلّونه) وهو من الإجلال أي يعظمونه وإثبات النون بناء على أصله قبل دخول لام الأمر على مفسره (وقيل ينصرونه) أي على عدوه في الجهاد أو في الاجتهاد في نصرة دينه (وَقِيلَ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِهِ وَيُوَقِّرُوهُ أَيْ يُعَظِّمُونَهُ) الأظهر أن يقال يهابونه ويكرمونه ويخدمونه ويعدونه من أهل الوقار (وقرأه بعضهم) أي من قراء الشواذ وقد نسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (ويعزّزوه بزاءين) بالياء بعد الألف وبالهمز وكلاهما صحيح ذكره التلمساني والثاني غير صحيح لأن الفرق المعروف بين الراء والزاء بالياء في الثاني وبتركه في الأول فتأمل ولذا لم يقل بالزاء المعجمة لاستغنائه بالصورة عن القيد ولا راء مهملة لما تقدم والله تعالى أعلم (من العزّ) أي العزة والتفعيل للتكثير والمبالغة والمعنى يعززوه غاية العزة وأما جمهور القراء فقراءتهم بضم أوله وكسر الزاء مشددة وبعدها راء وقرأ الجحدري بفتح التاء وضم الزاء وكسرها وهو شاذ (والأكثر) أي القول الأكثر من المفسرين (والأظهر) أي من العلماء المعتبرين (أنّ هذا) أي قوله تعالى وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ أنزل (في حقّ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) لأنه أقرب ذكرا فيرجع ضميراهما إليه ومما يدل عليه قوله تعالى فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ (ثمّ قال: وَتُسَبِّحُوهُ [الفتح: 8] ) أي ينزهوه أو يصلوا له (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي نهارا وليلا (فهذا) أي ضمير يسبحوه (راجع إلى الله تعالى) ويؤيده أن أرباب الوقوف القرآنية جعلوا الوقف المطلق فوق قوله سبحانه وتعالى وَتُوَقِّرُوهُ إيماء إلى قطع ما قبله عما بعده وقيل الضمائر الثلاثة لله وأريد بتعزيره تعالى تقوية دينه وتأييد نبيه ثم اعلم أن ابن كثير وأبا عمرو قرآ بالغيبة في الأفعال الأربعة والباقون بالخطاب له ولأمته أو لهم تنزيلا لخطابه منزلة خطابهم فعلى الأول تقدير الآية أنا إرسلناك ليؤمنوا بالله وبك يا محمد وعلى الثاني تقديره ليؤمنن بك من آمن (وقال ابن عطاء جمع) بالبناء للمجهول لأن فاعله معلوم والمعنى اجتمع (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه السّورة) أي سورة الفتح (نعم مختلفة) أي متعددة متكثرة أو مختلفة من حيث ذواتها وإن كانت من حيث صفاتها مؤتلفة (من الفتح المبين) من بيانيه للنعم المتقدمة (وهو) أي الفتح المبين (من أعلام الإجابة) بفتح همزة أعلام على أنه جمع علم بفتح اللام أي من علامات قبول إجابة الله، (لدعوته) صلى الله تعالى عليه وسلم إذ قد سأله النصر في مواطن كثيرة وفي الحديث من فتح له باب الدعاء فتح له باب الإجابة (والمغفرة) أي ومن المغفرة (وهي) أي المغفرة (من أعلام المحبّة) لقوله تعالى ردا لأهل الكتاب في محكم الخطاب وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ والمعنى أنكم لو كنتم احبائه لما عذبكم بذنوبكم كما يعذب أعداءه بل غفر لكم وأكثر عليكم عطاءه ونعماءه ومن المعلوم أن المحبة من الله تعالى إما أرادة إنعام أو نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 إحسان وإكرام لنزاهة ذاته القدسي عن الميل النفسي (وتمام النّعمة) أي ومن تمام النعمة (وهي من أعلام الاختصاص) أي منة له بما لم يؤته أحدا غيره كما يستفاد من قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (والهداية) أي ومن الهداية (وهي من أعلام الولاية) أي التأييد والنصرة، (فالمغفرة) بالرفع مبتدأ (تبرئة) أي تنزيه منه له (من العيوب) أي عيوب الذنوب وفي نسخة تنزيه من العيوب وأما قول الحلبي وهو بكسر الراء المشددة ثم همزة مضمومة من البراءة فخطأ ظاهر في العبارة إذ الصواب أنه بفتح التاء وسكون الموحدة وبكسر الراء المخففة وفتح الهمزة مصدر برأه يبرؤه تبرئة على وزن تفعلة والذي ذكره إنما هو بضم الراء مصدر تبرأ منه وهو غير مناسب للمقام كما لا يخفى على العلماء الاعلام (وتمام النّعمة إبلاغ الدّرجة الكاملة) أي إيصاله تعالى له إلى درجة لا درجة فوقها، (والهداية وهي الدّعوة إلى المشاهدة) أي إلى الحضرة في مقعد صدق وقرب مكانة وكرامة لأقرب مكان ومسافة: (وقال جعفر بن محمّد) أي ابن علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم (مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ أَنْ جَعَلَهُ حَبِيبَهُ) أي اصطفاه وخصه بكرامة تشبه كرامة الحبيب عند محبه فالمحبة أصفى ود لأنها من حبة القلب بخلاف الخلة فإنها ود تخلل النفس وخالطها (وأقسم بحياته) أي في قوله تعالى لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي وحياتك يا محمد وتقديره لعمرك قسمي والعمر بفتح العين لغة في العمر بالضم خص به القسم ايثارا لخفته لكثرة دوران القسم على ألسنتهم (ونسخ به شرائع غيره) لقوله عليه الصلاة والسلام لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي (وعرج) بفتح الراء أي صعد (به إلى المحل الأعلى) أي المنزل الأعلى وهو بفتح الحاء وكسرها والأول أولى والمراد به مقام قاب قوسين أو أدنى (وحفظه في المعراج) أي عن مطالعة السوي والمعراج الدرجة وقيل سلم تعرج فيه الأرواح وجاء أنه أحسن شيء لا تتمالك الروح إذا رأته أن تخرج وأن تشخص بصر الميت من حسنه (حتّى ما زاغ البصر وما طغى) أي ما مال إلى الهوى ولا تجاوز عن المولى (وبعثه إلى الأسود والأحمر) أي إلى العرب والعجم أو الجن والإنس لقوله عليه الصلاة والسلام بعثت إلى الأحمر والأسود وفي رواية بعثت إلى الناس كافة ولقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي الا رساله عامة لهم محيطة بهم من الكف فإنها إذا عمتهم كفتهم عن أن يخرج منها أحد منهم (وأحلّ له ولأمّته الغنائم) لقوله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأحد قبلي وفي رواية أحلت لنا الغنائم (وجعله شفيعا) أي يوم الجمع لجميع الخلائق (مشفعا) بتشديد الفاء المفتوحة أي مقبول الشفاعة في مقام محمود يحمده فيه الأولون والآخرون كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا (وسيّد ولد آدم) أي وجعله سيد البشر ولما كان بعض أولاد آدم أفضل منه فيلزم منه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من آدم عليه الصلاة والسلام بطريق البرهان الذي يسمى بالأولى ومنه قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي فكيف الضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 بالكف وهو مقتبس من قوله عليه الصلاة والسلام أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر أي ولا أقول فخرا لنفسي بل تحدثا بنعمة ربي وتقييد يوم القيامة لأنه وقت ظهوره ونظيره الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ والحديث رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد مع زيادة وما من نبي آدم فمن سواه إلا تحت لوائي ولا فخر وفي رواية لمسلم وأبي داود مع زيادة وأول شافع وأول مشفع ولا فخر وفي البخاري أنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر (وقرن) أي جمع ووصل (ذكره بذكره) كما يستفاد من قوله تعالى وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ومن قوله سبحانه وتعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (ورضاه برضاه) لقوله تعالى وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ (وجعله أحد ركني التّوحيد) أي المعتبر في الدين (ثمّ قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) أي يعقدون الميثاق معك على قتال أهل الشقاق (إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] ) لأنه المقصود بالبيعة بالاتفاق (يعني) أي يريد الله بهذه المبايعة (بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ أَيْ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ بِبَيْعَتِهِمْ إيّاك يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] ) استئناف مؤكد لما قبله (يريد) أي الله أن يده فوق أيديهم (عند البيعة) أي على طريق الخصوصية قال التلمساني قوله يريد عند البيعة صوابه معناه عند البيعة وإلا فالإرادة والعناية في كلام المخلوقين ولا ينبغي أن يقول المفسر يعني ولا يريد ولكن يقول من معناه أو يجوز أو يحتمل ونحو ذلك مما يجري على الألسنة (قيل) أي المراد بيد الله (قوّة الله) وقدرته والمعنى قوته وقدرته في نصر رسوله فوق قواهم وقدرهم وقد أشار الهروي في غريبه إلى هذا القول فيكون في الآية على هذا ذكر نعمة مستقبلة وعد الله بها نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وهي النصر له وعلى القول الذي بعده يكون فيما ذكر نعمة حاصلة قد شرف الله بها المبايعين واستعمال اليد أيضا في اللغة بمعنى القوة موجودة ومنه قوله تعالى أُولِي الْأَيْدِي أي أولي القوى (وقيل ثوابه) أي المترتب على مبايعتهم بأيديهم وانقيادهم في متابعتهم فاليد بمعنى النعمة (وقيل منّته) أي عطيته ومنه يقال لفلان على يد وفي الحديث اللهم لا تجعل لفاجر علي يدا يحبه قلبي وقد قال الشاطبي رحمه الله إليك يدي منك الأيادي تمدها والمعنى منته عليهم ونعمته لديهم ببيعتهم مما منحوه من العز في الدنيا والثواب في العقبى فوق منتهم عليك بمبايعتهم لك على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم قال المنجاني وإليه ذهب أكثر المفسرين واستعمال اليد في اللغة بمعنى النعمة كثير ومنه قول الشاعر: لجودك في قومي يد يعرفونها ... وأيدي الندى في الصالحين فروض وإلى هذا المعنى يرجع قول من قال هي من الله سبحانه الثواب أعني اليد في الآية المثوبة من المبايعين الطاعة فإن الثواب من الله تعالى داخل تحت منته والطاعة منهم داخلة تحت ما يمتنون به وإلا فليس اليد في اللغة اسما للثواب ولا للطاعة (وقيل) أي المراد بيد الله (عقده) وفي نسخة عفوه وهو تصحيف وتحريف والمعنى أنه تعالى أوجد البيعة وأتم عقدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فاستعار لإيجاد عقدها اسم اليد من حيث كان الآدميون إنما يفعلونه بأيديهم وهو من باب إطلاق اسم السبب على المسبب وجاء قوله سبحانه وتعالى فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مرشحا لهذه الاستعارة والأيدي من المبايعين على هذا هي الجوارح على حقيقتها ولذا قال المصنف، (وهذه) أي هذه الأقوال المختلفة المعاني في لفظ اليد هل هي على سبيل الاشتراك والحقيقة أو على سبيل النقل والمجاز والمختار أنها (استعارات) أي إطلاقات مجازية لمناسبات سببية (وتجنيس في الكلام) أي وتفنن في العبارات الإيمائية ولم يرد به التجنيس الصناعي وهو اتفاق اللفظ واختلاف المعنى على ما ذكره التلمساني وغيره بل اللغوي بمعنى المناسبة لأن العقد مثلا إذا أطلق عليه اسم اليد فإنما يراد التي بمعنى الجاحة فبينها وبين الأيدي في الآية مناسبة والمناسبة كما ذكره التلمساني ذكر الشيء مع ما يناسبه على جهة الاستعارة والتشبيه (وتأكيد لعقد بيعتهم إيّاه) أي من حيث إن بيعتهم معه صلى الله تعالى عليه وسلم كبيعتهم مع الله تعالى لا تفاوت بينهما فيده التي تعلو أيديهم هي يد الله تخييلا (وعظم شأن المبايع) بصيغة المفعول والمراد به محمد (صلى الله تعالى عليه وسلم) وقوله عظم بكسر العين وفتح الظاء مجرور عطفا على ما قبله أي وتأكيد لعظمة شأنه وفخامة سلطانه من حيث جعل بيعتهم له بيعتهم لله سبحانه كجعل طاعته طاعته (وقد يكون من هذا) أي من قبيل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ (قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي كفار بدر بنصركم وتسليطكم إياه (وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) أي بهما إذ هو الخالق للقتل وأسبابه وهم المباشرون له بقوة الله عند اكتسابه (وَما رَمَيْتَ) أي رميا يوصل التراب إلى أعينهم ولم تقدر عليه (إِذْ رَمَيْتَ) أي يومي بدر وحنين وجوههم صورة واكتسابا أو أخذا وإرسالا (وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] ) أي حقيقة وتبليغا وأصابه فبلغ رميه تعالى منه حدا لم يبلغ رميك من إيصاله التراب إلى أعينهم جميعا فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وتمكنتم منهم قتلا وأسرا (وإن كان الأوّل) يعني إن الذين يبايعونك وإن وصلية (في باب المجاز) أي أدخل في ذلك الباب والأظهر أن يقال من باب المجاز كما في أصل الدلجي وكذا قوله (وهذا) أي فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الآية (فِي بَابِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ وَالرَّامِيَ بِالْحَقِيقَةِ) وروي في الحقيقة (هو الله وهو خالق فعله) أي فعل المباشر من قتله ونحوه (ورميه وقدرته عليه) أي إيجادا وإبداعا وهو القاتل مباشرة واكتسابا ومن ثم أسند الفعل إليه حقيقة أيضا كما أنه نفاه عنه أيضا لكن بين الحقيقتين بون بين وبيان ظاهر لمذهب أهل السنة والجماعة من أن العبد له نسبة الكسب في الحقيقة على الجملة والحاصل أنه سبحانه وتعالى وصف نفسه في هذه الآية بالقتل والرمي من حيث كونه هو الذي حصل أثرهما ومنفعتهما وإن كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هم الذين قتلوا ورموا فهو على هذا من باب اطلاق السبب الذي هو القتل والرمي على المسبب الذي هو الأثر على الحقيقة ونسبة الفعل إلى غيره مجاز فلا تشبيه فيه لهذه الآية السابقة ولا تفريق بينهما فافهم (ومسببه) أي هو سبحانه وتعالى مسبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 سبب فعل عبده وفي نسخة مشيئته أي ارادته كذا ذكر في حاشية وليس لها وجه ظاهر بل هو تصحيف كما لا يخفى (ولأنّه) أي الشأن (لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ تَوْصِيلُ تِلْكَ الرَّمْيَةِ حيث وصلت) أي إلى وجوههم فأعمت أبصارهم (حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَمْلَأْ) أي تلك الرمية (عينيه) أي ترابا (وكذلك قتل الملائكة لهم حقيقة) أي في الصورة الكسبية والإضافة النسبية مثل إسناد القتل إلى الأفراد البشرية وإنما احتاج إلى ذكرهم لئلا يتوهم أن القدرة الملكية ليست كقوى البشرية في الاحتياج إلى القوة الإلهية والقدرة السبحانية فإن المخلوقات بأسرها متساوية في مرتبة العبودية فاندفع بتحريرنا ما توهم الدلجي خلاف تقريرنا حيث قال وما أحق هذا بالتعجب لأن القاتل حقيقة أيضا بالنسبة إليهم هو الله وهو خالق فعلهم وقدرهم إيجادا وإبداعا وهم القاتلون مباشرة واكتسابا فلا خصوصية لهم بكون قتلهم حقيقة بدون إسناده إلى الله حقيقة انتهى وظهر لي وجه آخر أنه أراد بقوله حقيقة إنه وقع من الملائكة نوع من المباشرة في قتل الكفرة لا أنه إنما كان نزول المعركة لمجرد وصول البركة وحصول النصرة (وقد قيل في هذه الآية الأخرى) أي الأخيرة وهي قوله تعالى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الآية (إنّها على المجاز العربيّ) بالباء أي اللغوي أعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنى المجازي والحقيقي وهي هنا السببية وفي نسخة العرفي بالفاء قال العلامة محمد بن خليل الانطاكي الحنفي في حاشيته المسماة بزبدة المقتفى اعلم أن المجاز أن تجوز مستعمله عن معنى وضع ذلك اللفظ له واضع اللغة فهو المجاز اللغوي كالأسد للشجاع وإن تجوز عما وضعه الشارع له وهو الله ورسوله فهو المجاز الشرعي كالصلاة للدعاء وإن تجوز عما وضعه طائفة معينة فهو المجاز العرفي الخاص كالفعل للحدث وإن لم تكن معينة فهو المجاز العرفي العام كالدابة للشاة (ومقابلة اللّفظ) أي وعلى مقابلة اللفظ (ومناسبته) أي له لما بينهما من العلاقة المؤذنة باستعمال ما وضع للسبب من اللفظ في مسببه (أي ما قتلتموهم) أي أيها الأمة حين قتلتموهم بآلات القتل (وما رميتهم أنت) أيها النبي (إذ رميت وجوههم بالحصباء) بالمد أي بالحصى أو بالأحجار الصغار يخالطها التراب (وَالتُّرَابِ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى قُلُوبَهُمْ بِالْجَزَعِ) أَيْ واوقع في صدورهم الرعب والفزع (أي أنّ منفعة الرّمي) أي وكذا فائدة القتل (كَانَتْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَهُوَ الْقَاتِلُ وَالرَّامِي بالمعنى) أي الذي هو ابتلاهم بالرعب وإدخال التراب في أعينهم حتى انهزموا (وأنت) أي القاتل والرامي (بالاسم) أي من حيث مباشرتهما بالوسم وصورة المبنى وحذف قوله القاتل والرامي في الجملة الأخيرة للعلم به من الجملة المتقدمة إذ هو من دلائل الأوائل على الأواخر والله أعلم بالظواهر والضمائر والحاصل فيه ما حكي عن المهدوي وأوضحه هبة الله بن سلامة أن الرمي أخذ وارسال وتبليغ وإيصال فالذي اثبت الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم هو الأخذ والإرسال والذي نفى عنه وأثبته لنفسه هو التبليغ والإيصال والله تعالى أعلم بالحال ثم اعلم بطريق الانعطاف إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 القضية الأمنية أن السكينة لواقعة في الآية السكينة هي كناية عن تسكين نفوس المؤمنين بتحصيل اليقين وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان أخبرهم حين توجه للحديبية بأنهم يدخلون مكة آمنين ويطوفون بالبيت لرؤيا كان رآها فذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه خلق في نفوسهم ثقة بهذا وجعلها مستقرة في نفوسهم ومستمرة إلى أن يقع ما وعدهم به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويشاهدوه معاينة فيزدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم وقد قضى الله أن يكون ما وعدهم به رسوله لأن رؤيا الأنبياء وحي ولكن في غير ذلك التوجه ولهذا لما انكشف أمر الحديبية عن الصلح قال بعض أصحابه يا رسول الله ألم تقل لنا انا ندخل مكة آمنين ونطوف بالبيت فقال لهم: بلى أفقلت لكم في عامي هذا فكان تحقق هذا في عام الفتح وإلى ذلك أشار الله سبحانه وتعالى بقوله لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وجاء قوله سبحانه وتعالى في هذه الآية وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بأثر ذكر السكينة زيادة في تسكين نفوسهم وإشعارا بأن الله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء ثم عقب ذلك بوصفه نفسه بالعلم والحكمة أي فلا تستعجلوا ما وعدكم به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإن الله يعلم في تأخير ذلك حكمة وهو معنى قوله تعالى فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً وقوله سبحانه وتعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أريد بهم الذين أنزل السكينة في قلوبهم فصدقوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الترمذي بسند صحيح من رواية قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال نزل على رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية فقرأها عليهم فقالوا هنيئا مريئا يا نبي الله قد بين الله لك ما يفعل بك فما يفعل بنا فنزل لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ والواو لمطلق الجمع وإلا فتكفير السيئة قبل إدخالهم الجنة هذا وقد ذكر المفسرون في قوله تعالى الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ معنيين أحدهما أنه كناية عن قولهم لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً والآخر أنه كناية عما يعتقدونه من صفات الله سبحانه وتعالى غير ما هي عليه فهو ظن سوء باعتبار أنه كذب وموصل لصاحبه إلى جهنم ودائرة السوء المصيبة السوء وسميت دائرة من حيث إنها تحيط بصاحبها كما تحيط الدائرة بمركزها على السواء من كل الجهات وإلى هذا مال النقاش في تفسيره وذهب بعضهم إلى أنها سميت دائرة لدورانها بدوران الزمان لأن الزمان لما كان يذهب ويجيء على ترتيب واحد صار كأنه مستدير ومنه حديث وإن الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السموات والأرض فكأن الخطوب والحوادث في طيه تدور بدورانه ثم سميت بيعة الحديبية بيعة الرضوان لقوله سبحانه وتعالى فيها لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وهي سمرة من شجرة العضاة وذهبت بعد سنين من الهجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ومر عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خلافته بذلك الموضع فاختلف أصحابه في موضعها وكثر تشاجرهم في ذلك فقال عمر هذا هو التكلف سيروا واتركوها وكان الذين بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ألفا وأربعمائة في إحدى الروايتين عن جابر وألفا وخمسمائة في الرواية الأخرى عنه فبايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يفروا قال جابر ولم يبايعوه على الموت وقال سلمة بن الأكوع في حديثه بايعناه على الموت وكلا الحديثين صحيح لأن بعضهم بايع على أن لا يفر ولم يذكر الموت وبعضهم بايع على الموت ولم يتخلف عن هذه البيعة أحد ممن حضر مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا الجد ابن قيس فإنه اختبأ تحت ناقته وكان عثمان رضي الله عنه غائبا بمكة وبايع عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده وقال هذه يد عثمان رضي الله عنه وكانت هذه البيعة بسبب غيبة عثمان عند ما شاع أن أهل مكة قتلوه وكان صلى الله تعالى عليه وسلم عندما توجه إلى مكة أراد أن يبعث رجلا إلى قريش يخبرهم أنه لا يريد حربا وإنما جاء معتمرا فبعث إليهم خراش بن أمية الخزاعي فلما وصل إليهم أرادوا قتله فمنعته الأحابيش قال ابن قتيبة في المعارف وهم جماعة اجتمعوا فتخالفوا أن يكونوا كلا على من سواهم والتحبش في كلام العرب التجمع وخلوا سبيل خراش حتى أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره بذلك فأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبعث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إليهم فقال عمر يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من عدي بن كعب من يمنعني وقد علمت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان ابن عفان رضي الله تعالى عنه فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عثمان فبعثه إلى أبي سفيان واشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت للحرب وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته فخرج عثمان إلى مكة فلقيه إياد بن سعيد بن العاص قبل أن يدخل مكة فترجل له وحمله على دابته وأجازه بالزاء فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم ما أرسله به فقالوا له حين فزع إن شئت أن تطوف بالبيت فطف فقال مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم واحتبسته قريش عندها تبره وتكرمه فاتفق أن خرج صارخ في عسكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل عثمان فاغتم المؤمنون وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا نبرح إن كان هذا حتى نلقي القوم وأمر مناديه فدعا إلى البيعة وبلغ بعد ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل وجاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سالما فحمد الله على ذلك والمبايعة في الآية مفاعلة من البيع لأن الله سبحانه وتعالى باع منهم الجنة بأنفسهم وأموالهم وباعوه أنفسهم وأموالهم بالجنة وبقية قضية الحديبية في المواهب اللدنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الْفَصْلُ الْعَاشِرُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده] (فيما) أي في ذكر ما (أظهره الله تعالى في كتابه العزيز) أي المنيع الذي لا يعتري ساحة عزه إبطال وتحريف أو الكثير النفع العديم النظير اللطيف (من كرامته عليه ومكانته عنده) الأولى لديه (وما) أي وفي بيان (خصّه به من ذلك) أي الإكرام (سوى ما انتظم) أي غير ما دخل (فيما ذكرناه قبل) هو مبني على الضم مقطوع عن الإضافة أي قبل ذلك في الفصول السابقة من الفضائل المتقدمة (من ذلك) أي الذي أكرم به ولم ينتظم فيما ذكره قبل (ما نصّه الله تعالى) أي صرحه وفي نسخة قصه (من قصّة الإسراء في سورة سبحان) وفي نسخة في قصة الإسراء من سورة سبحان وهي غير صحيحة، (والنّجم) أي وفي سورته وقد سبق الكلام عليه، (وما انطوت) أي ومن ذلك ما اشتملت (عليه القصّة) أي القضية (من عظيم منزلته وقربه) أي قرب مكانته المفهوم من قوله تعالى دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (ومشاهدته) أي مطالعته (ما شاهد من العجائب) أي ما رآه من الغرائب المستفاد من قَوْلِهِ تَعَالَى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى كرؤية الأنبياء وتمثلهم له ووقوفه على مقاماتهم وعجائب الملكوت وغرائب الجبروت ومشاهدة الملائكة المقربين وحملة العرش والكروبيين ورؤية العرش المحيط بالسموات والأرضين ورؤية رب العالمين مع كون ذهابه وإيابه في برهة من الليل مسيرة ما لا يعلمه أحد من المهندسين وقد ورد أن ما بين الأرض وسماء الدنيا مسافة خمسمائة عام وكذا ما بين كل سماء وسماء وكذا غلظ كل سماء وجميع السموات والأرضين بجنب الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة وهو بجنب العرش كحلقة ملقاة في فلاة وقد تعجب قريش من ذلك وأحالوه ولا استحالة فيه عند أرباب العقول إذ ثبت عند الحكماء في علم الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ومع ذلك فطرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ساعة وقد حكم علماء الكلام من علماء الأنام بأن الأجسام متساوية في قبول الأعراض وأن الله قادر على جميع الممكنات فلا ينكر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة فيه صلى الله تعالى عليه وسلم أو في البراق كيف وقد ورد أنه يضع حافره عند منتهى طرفه والتعجب من لوازم المعجزات، (وَمِنْ ذَلِكَ عِصْمَتُهُ مِنَ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يحفظك من تعرض أعدائك لك روى الترمذي كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه فقال يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله ولا ينافيه ما في البخاري وغيره من شج وجهه وكسر رباعيته يوم أحد لخصوص العصمة بالقتل تنبيها على أنه يجب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتحمل ما دون النفس لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أشد الناس من جهة البلاء أو أنهما بعد وقعته قال المنجاني والمراد بالناس في الآية الكفار بدليل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ قلت الظاهر هو العموم ولا دلالة في الآية على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قصد الخصوص عند أرباب الفهوم وإن كان الخصوص من الخارج هو المعلوم (وقوله تعالى) بالجر أي ومن ذلك عصمته منهم قبل نزول تلك الآية بقوله تَعَالَى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْفَالِ: 30] الآية) ذكر سبحانه وتعالى بعد الفتح مكر قريش به بمكة قبل الهجرة ليشكر نعمة ربه بخلاصه من مكرهم به واحتيالهم عليه فالقضية مكية والآية مدنية أي واذكر إذا يمكرون بك في دار الندوة متشاورين في أمرك بحضور عدو الله إبليس حيث دخل فيه وقال أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم ولكن تعدموا مني رأيا ونصحا ليثبتوك بوثاق أو حبس إشارة إلى قول أبي البحتري ارى أن تحبسوه وتشدوا منافذه إلى كوة تلقون إليه منها طعامه وشرابه حتى يموت فقال إبليس بئس الرأي يأتيكم من قومه من يخلصه منكم أو يقتلوك إشارة إلى قول أبي جهل لعنة الله عليه أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما مع كل واحد سيف ويضربونه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم فإذا طلبوه عقلناه فقال إبليس صدق الفتى أو يخرجوك إشارة إلى قول هشام بن عمرو أرى أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع فقال له إبليس بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم فتفرقوا على رأي أبي جهل فأخبره جبريل بذلك وقال له لا تنم الليل في مكان نومك فأمر عليا أن ينام فيه وخرج عليهم وقد اجتمعوا عشاء لقتله وأخذ كفا من تراب فنثره على رؤوسهم يقرأ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله تعالى لا يُبْصِرُونَ وهذا معنى قوله تعالى وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فمكر الله من باب المشاكلة أو محمول على المعاملة (وقوله) بالجر أي ومنه عصمته بقوله تعالى (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة: 40] ) أي إن لم تنصروه ولم تخرجوا معه إلى غزوة تبوك فسينصره من نصره عند قلة أوليائه وكثرة أعدائه إذ أخرجه الذين كفروا وليس معه إلا أبو بكر فخذا الجواب وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه وأسند إليهم الإخراج لتسبب أذن الله له في الخروج عن همهم به فكأنهم أخرجوه وقوله ثاني اثنين حال من ضمير أخرجه أي أحد اثنين روي أن جبريل لما أمره بالخروج قال من يخرج معي قال أبو بكر (وما دفع الله) أي ومنه ما دفعه الله (به) أي بنصره (عنه في هذه القصّة) أي قصة مكرهم به لقوله تعالى وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ولما قيل من حفر بئرا لأخيه وقع فيه والمعنى ما حفظ الله له (من أذاهم) أي ليلة عزموا على قتله (بعد تحزبهم) أي تجمعهم ووقع في نسخة بعد تحريهم براء مكسورة مشددة فتحتية أي بعد قصدهم (لهلكه) بضم أوله وسكون ثانيه أي هلاكه (وخلوصهم) أي وبعد انفرادهم واعتزالهم خالصين من مخالطة غيرهم (نجيّا) مصدر أو وصف أريد به معنى الجمع وقد جاء مفردا في قوله تعالى وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا وجمعا في قوله تعالى خَلَصُوا نَجِيًّا كما هو المراد هنا أي متناجين ومتشارين (في أمره) أي على أي صفة يؤذونه ليظفروا بحاجتهم فطوقوا بخيبتهم (والأخذ) بالجر في أكثر النسخ واقتصر عليه الدلجي حيث قال والظاهر كما في نسخة مصححة رفعه عطفا على ما دفع لا على أذاهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 لفساد المعنى كما لا يخفى إلا أن الأقرب والأظهر الأنسب أنه مجرور عطفا على تحزبهم وخلوصهم والمعنى بعد الأخذ (على أبصارهم عند خروجه عليهم) أي مع أبي بكر إلى الغار ليلة قصدوا قتله وكذا الكلام من حيث المبنى والمعنى على قوله (وذهولهم) أي غفلتهم (عن طلبه في الغار) أي مع ترددهم حوله فلم يهتدوا إليه وذلك بآيات أظهرها الله في الحال من نسج العنكبوت على الغار حَتَّى قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ حِينَ قَالُوا ندخل الغار ما أرى إلا انه قبل أن ولد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وبعث حمامتين عَلَى فَمِ الْغَارِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لَوْ كَانَ فيه أحد لما كانت الحمام هناك والمراد بالغار نقب بأعلى جبل ثور عن يمين مكة مسيرة ساعة واللام فيه للعهد (وما ظهر) أي لهم (في ذلك من الآيات) إذ خرج عليهم وهم ببابه فلم يروه بناء على حجاب الله ونقابه تحت قبابه ونثره التراب على رؤوسهم فلم يعلموا به حتى قيل لهم إلى غير ذلك من الآيات والمعجزات (ونزول السّكينة عليه) أي ومن نزول الطمأنينة والأمن الذي تسكن عنده النفوس على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويؤيده قوله تعالى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أو على أبي بكر رضي الله تعالى عنه لأنه الذي كان منزعجا لقوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فأنزل الله سكينته عليه ويؤيده أن بعض القراء جعل عليه وقفا لازما وجعل ما بعده كلاما مستأنفا أو عطفا على صدر القصة مما يكون محلا قابلا لئلا يلزم تفكيك الضمير مع تجويز بعضهم ذلك كما في قوله تعالى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ الآية وأما قول الدلجي أن هذا هو الحق فليس في محله لورود الخلاف عن أكابر المفسرين على أن التحقيق في مقام الجمع على جهة التدقيق أن يقال المعنى فأنزل الله سكينته على منهما بناء على إرادة زيادة الاطمئنان والسكون فيهما كما يدل عليه ما في مصحف حفصة فأنزل الله سكينته عليهما ولا ينافيه ما ورد في تسلية الصديق من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما ظنك باثنين الله ثالثهما (وقصّة سراقة) بالجر عطفا على الآيات أي ومن قصة سراقة (بن مالك) أي ابن جعشم وهو الذي أعطت له قريش الجعائل وأخذ في طلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين هاجر وساخت قوائم فرسه عند ذلك وهو الذي ألبس له عمر رضي الله عنه سواري كسرى وقال الحمد لله الذي سلبهما من كسرى وألبسهما تراقة وقد كان أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فهي معجزة دائمة باقية إلى يوم القيامة (حسب) بفتح الحاء والسين وقد يسكن الثاني واقتصر عليه الحلبي وغيره أي على قدر (ما ذكره أهل الحديث والسّير) بكسر ففتح جمع سيرة وارباب السير من الشمائل والمغازي (في قصّة الغار وحديث الهجرة) أي مفصلا ومجملا أنه تبعهما حين توجها من الغار مهاجرين إلى المدينة ليفتك بهما فرده الله خاسئا ثم أسلم بالجعرانة منصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الطائف قال الحلبي وفي الصحابة من اسمه سراقة ثمانية عشر غيره (ومنه) أي ومن ذلك (قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ومعناه سيأتي أي الكثير من أنواع التفضيل إلا أن فوعل أبلغ من فعيل وفيه تسلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 له عن موت ابنه إبراهيم (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) فيه التفات من التكلم إلى الغيبة إذ مقتضى الظاهر فصل لنا أي فدم على الصلاة كما أمرنا أو على صلاة العيد خالصا لوجهه وشكرا لأنعمه فإنها جامعة لأنواع شكره لاشتمالها على أصناف ذكره ويؤيد الوجه الثاني قوله تعالى (وَانْحَرْ [الكوثر: 1- 3] ) أي ضح بالبدن التي هي خيار أموال العرب وتصدق على المحتاجي من الفقراء والمساكين وقيل المراد بالنحر وضع المصلي يده في الصلاة عند نحره ويروى هذا عن علي كرم الله وجهه (إِنَّ شانِئَكَ) أي مبغضك (هُوَ الْأَبْتَرُ) أي مقطوع الخير والبركة في الدنيا والآخرة أو الذي انقطع عن بلوغ أمله فيك (أعلمه الله) أي منة عليه في هذه السورة (بما أعطاه) أي ببعض ما أولاه وإلا فعطاؤه لا يمكن احصاؤه (والكوثر حوضه) أي لما في مسلم اتدرون ما الكوثر قيل الله تعالى ورسوله أعلم قال نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوضي ترده أمتي يوم القيامة وضمير هو راجع إلى النهر إشعارا بأن له نهرا من الجنة منصبا في حوضه يوم القيامة فلا ينافيه قوله (وقيل نهر) بفتح الهاء ويسكن (في الجنّة) كما يدل عليه حديث الترمذي رأيت في الجنة نهرا حافتاه قباب اللؤلؤ قلت ما هذا يا جبريل قال الكوثر الذي أعطاك الله وحديثه أيضا أعطاني الله الكوثر نهرا في الجنة يسيل في حوضي (وقيل الخير الكثير) وهذا هو الأظهر لأنه هو الحق كما عبر به الدلجي لأنه فوعل من الكثرة بمعنى المفرط المبالغ فيها ويؤيده خبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في البخاري الكوثر هو الخير الكثير الذي اعطاه الله قيل لسعيد بن جبير إن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة قال هو من الخير الكثير الذي اعطاه (وقيل الشّفاعة) أي العظمى الشاملة للخلائق كلها المستفاد منها الكثرة (وقيل المعجزات الكثيرة وقيل النبوّة) أي لاشتمالها على خيرات كثيرة واللام للعهد أي النبوة العظيمة أو النبوة المختوم بها ليتميز بها عن غيره بنوع المزية (وقيل المعرفة) أي الكاملة وهذه الأقوال حسنة معانيها إلا أنه لا دلالة على ما فيها؛ (ثمّ أجاب) أي الله سبحانه وتعالى (عنه) أي بدلا منه صلى الله تعالى عليه وسلم (عدوّه) أي العاص بن وائل أو أبا جهل ونحوه (وردّ عليه) حين مات ابنه القاسم (قوله) أي أن محمدا قد أصبح ابتر أي قليل العدو مقطوعا من الولد إذا مات مات ذكره لأنه لا عقب له (فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الْكَوْثَرِ: 3] أي عدوّك ومبغضك) بالنصب تفسير لشانئك؛ (والأبتر الحقير الذّليل) أي على ما قيل وهو الذي لا ذكر حسن له ولا ثناء جميل (أو المفرد) بفتح الراء أي المنفرد (الوحيد) أي الذي لا ولد له ولا عقب (أو الذي لا خير فيه) وأما هو صلى الله تعالى عليه وسلم فذكره حسن وثناؤه جميل ونسبه مستمر وآثار أنواره باقية إلى يوم القيامة وما لا يدخل تحت العبارة في الآخرة (وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] وقيل) وهو المحكى عن ابن عمر وابن مسعود والمنقول عن ابن عباس (السّبع المثاني: السّور الطّوال) بكسر الطاء جمع الطويلة كما صرح به الشراح فاندفع به قول المنجاني هكذا وقع في الكتاب وصوابه الطول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 مضموم الطاء دون ألف فيه لأن السورة مؤنثة فهي طولى والجمع طول لا غير وقوله (الأول) بضم همزة وفتح واو مخففة جمع الأولى وهي البقرة وآل عمران والنسائي والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال مع براءة لأنهما في حكم سورة واحدة ومن ثم لم يفصل بينهما بالبسملة وقيل السابعة سورة يونس أو يوسف بدل الأنفال، (والقرآن العظيم) بالنصب على الحكاية ويجوز رفعهما بناء على أنه مبتدأ خبره: (أمّ القرآن) أي أصله أو بمنزلة أمه لاشتمالها على كليات معانيه ومهمات مبانيه إذ أولها تمجد وأوسطها تعبد وآخرها وعد وتوعد فكأنها هو في التحقيق دون التعدد وفيه إطلاق الكل على الجزء لا سيما وهو الأكمل في المعنى ولذا وجبت قراءتها في الصلاة، (وقيل) وهو المحكي عن عمر وعلي والحسن البصري (السّبع المثاني أمّ القرآن) لحديث البخاري أم القرآن هي السبع الثاني، (والقرآن العظيم سائره) أي باقيه أو جميعه بناء على أنه مأخوذ من السؤر بالهمزة بمعنى البقية أو من السور الذي هو الجمع والإحاطة والشمول من سور الحصن فالعطف من باب عطف الخاص على العام، (وقيل السّبع المثاني: ما في القرآن) أي هو جميع القرآن وتسبيعه لما في القرآن (من أمر) أي إيجابا كأقيموا الصلاة أو ندبا كافعلوا الخير (ونهي) أي تحريما كلا تقربوا الزنا أو كراهة كلا تيمموا الخبيث منه تنفقون إذ روي أنهم كانوا يتصدقون بردى التمر فنزلت والمعنى لا تقصدوا الردى منه حال كونكم تتصدقون (وبشرى) أي ومن بشارة للمؤمنين (وإنذار) أي تخويف للمخالفين (وضرب مثل) كقوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ (وإعداد نعم) بكسر الهمزة على ما في نسخة مصححة أي تعداد نعم كثيرة وتذكار منح غزيرة وهو بالمعنى المصدري أنسب للعطف على ما قبله من المصادر وقال الدلجي تبعا لبعضهم بفتح همزته جمع عدد بمعنى ونعم معدودة وأغرب التلمساني بقوله ولا يصح الكسر هنا لمخالفة المعنى انتهى (وآتيناك نبأ القرآن العظيم) أي أعطيناك علم ما اشتمل عليه مما ذكر من قصص ومواعظ وبلاغة واعجاز وثناء على الله بما هو أهله وغير ذلك كذا قرره الدلجي والأظهر أن يخص النبأ بالقصص ليكون السابع للسبع المثاني ومع هذا لا يظهر وجه العدول عن نمط السابق من ذكر المصادر إلى الجملة الفعلية في المرتبة التفصلية (وقيل سمّيت أمّ القرآن) أي الفاتحة (مثاني: لأنّها تثنّى) بصيغة المجهول مثقلا ومخففا وهو أظهر لأن المثاني هو جمع المثنى كالمرامي جمع المرمى ونظيره المعنى والمعاني وقد أبعد التلمساني في قوله مثنى المعدول من اثنين اثنين أي تكرر (في كلّ ركعة) أي صلاة تسمية للشيء باسم جزئه أو في كل قومة باعتبار الركعة بعدها ففي الفائق أنها تثنى في قومات الصلاة أي في كل قومة أو في مجموع القومات وقيل سميت مثاني لأن آياتها نزلت مرة بمكة حين فرضت الصلاة ومرة بالمدينة حين حولت القبلة ثم سميت سبعا لأنها سبع آيات بالاتفاق غير أن منهم من عد التسمية آية دون انعمت عليهم ومنهم من عكس، (وقيل بل الله تعالى استثناها) أي خصها من بين الآيات (لمحمّد صلى الله تعالى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وسلم، وذخرها) بالذال المعجمة أو أدخرها بالمهملة كما في نسخة أي جعلها ذخيرة (له دون الأنبياء) لما في مسلم والنسائي ورواه الحاكم أيضا وصححه من حديث ابن عباس بينا جبريل قاعد عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمع نقيضا أي صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة الحديث والمعنى أنه خص بإعطاء معانيهما المأخوذة من مبانيهما فاندفع قول الدلجي تبعا للمنجاني وهذا لا يخص بالفاتحة بل جميع السورة كذلك (وسمّي القرآن مثاني: لأنّ القصص) بكسر القاف جمع القصة قبل وهي المراد هنا وبفتحها مصدر معناه الخبر والحكاية (تثنّى) بالتأنيث أو التذكير أي تكرر (فيه) والمثاني جمع مثناة أو مثنى من التثنية بمعنى التكرير أو من الثني بمعنى اللين والعطف لما فيه أيضا من تكرير الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والأخبار والأمثال وغير ذلك أو من الثناء لما فيه من كثرة ذكره تعالى بصفاته العظمى وأسمائه الحسنى، (وقيل) أي عن الإمام جعفر الصادق (السّبع المثاني) أي معناه في قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي (هو أنا أكرمناك بسبع كرامات: الهدى) هو وما بعده مجرور بدل بعض من كل أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف أي هي الهدى أو منصوب بتقدير أعني والمراد بالهدي الهداية الكاملة المتعدية المكملة ولا يلائم المقام تفسير التلمساني له بضد الضلالة، (والنبوّة) أي المتضمنة للرسالة وقال التلمساني أي الرفعة ولا يخفى أنه أحد معانيها اللغوية، (والرّحمة) أي لجميع الأمة، (والشّفاعة) أي العظمى يوم القيامة، (والولاية) وهي النصرة والانتقام من العدو بالغلبة، (والتّعظيم) أي ظهور العظمة، (والسّكينة) أي السكون والوقار والطمأنينة قيل فمن أوتي السبع المثاني باعتبار أخذ جميع المعاني أمن من الدخول في سبعة أبواب جهنم، (وقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ [النحل: 44] ) أي القران وسمي ذكرا لأنه يذكر به الرحمن وموعظة وتنبيه للكسلان وشرف لأهل العرفان (الآية) يعني لتبين للناس أي الجن والإنس ففيه تغليب وقيل يشملهما ما نزل إليهم أي ما أمروا به ونهوا عنه وما أخبروا به وتشابه عليهم حكمه لإجماله والتبيين أعم من أن يكون بنص على المراد به أو بالرشاد إلى ما يدل عليه كأساس قياس وبرهان عقل وإيناس (وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) أي حال كونك تكفهم وتمنعهم بشرعك عن ظلمهم وكفرهم فالتاء للمبالغة كما في علامة (بَشِيراً) أي مبشرا (وَنَذِيراً) [سبأ: 28] ) أي مخوفا للفجار (وقال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ) حال من ضمير إليكم فإنه مفعول في المعنى (الآية) وتمامها الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، (قال القاضي) أي المصنف (رحمه الله فهذه) أي الآية (من خصائصه) جمع خصيصة أي خصلة لم يشاركه فيها أحد لورودها شاهدة باختصاصه برسالة عامة ومشعرة بأن كل رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 بعث إلى قومه خاصة (وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي بلغة قبيلته الذين هو منهم وبعث فيهم (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ) ما أمروا به وما نهوا عنه فيفهموا عنه بيسر وسهولة أمر (فخصّهم بقومهم) أي لغة ورسالة ودعوة ونذارة وبشارة (وبعث محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الخلق) أي المخلوقين (كافة) أي جميعا من الكف بمعنى الإحاطة والجمع أو من الكف بمعنى المنع أي لكفهم بدعوته عن أي يخرج منها أحد منهم لإحاطتها بهم (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «بعثت إلى الأحمر والأسود» ) أي العرب والعجم كما تقدم وفي صحيح مسلم بعثت إلى الخلق وفي حديث بعثت إلى الناس كافة فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم فإن لم يستجيبوا لي فإلى وحدي ذكره السيوطي في جامعه الصغير عن ابن سعد عن خالد بن معدان مرسلا وفيه كما في الآية السابقة إيماء إلى حكمة أنه بعث بلسان العرب وأن العجم أمروا بتتبع لغتهم مع كمال الأدب ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم احبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي رواه الطبراني والبيهقي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس وفيه إشعار بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما أرسل إلى العرب والعجم وهم مختلفوا الألسنة من الفارسية والتركية والهندية وغيرها مما يتعذر في العادة أن يكون واحد يعرف جميع اللغات المختلفة في أصناف المخلوقات اختار الله له سبحانه أفضل أنواعه وأمر الغير بتعلمه واتباعه مع أنه أيسر اللغات وأسهلها وأضبطها وأجمعها وأشملها وأيضا كان من أنفة العرب وغلاظتهم أنه لو نزل القرآن بلسان العجم أو لم يتكلم الرسول إلا بلغة غير العرب معهم لما آمنوا وتعللوا بما حكى الله تعالى عنهم في قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لقالوا لولا فصلت آياته ءأعجمي وعربي وقال في موضع آخر ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وفي الآيتين الشريفتين تشريف لطائفة العجم ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم لو كان الدين أو العلم في الثريا لناله رجال من فارس (وقال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) أي أحق بهم في جميع أمورهم أو مقيد بأمر دينهم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من أرواحهم فضلا عن آبائهم وأبنائهم (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ) جمع أم أصلها أمهة وهي لغة قيل مختصة بالآدميات والأمات بالحيوانات وقيل الهاء زائدة (قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي ما أنفذه) بالنون والفاء والذال المعجمة أي أظهره وأمضاه (فيهم من أمر فهو ماض عليهم) أي ناقض وماض (كما يمضي حكم السّيد على عبده) إذ لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم فقوله كما يمضي كالنظير لأنه دون مرتبته في التأثير (وَقِيلَ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِ رَأْيِ النّفس) وهذا قول صحيح وعلى طبق ما تقدم صريح فتعبيره بقيل ليس لكونه كلاما غير مرضي بل لجلالة قائلة أو جهالة حاله وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ندب إلى غزوة تبوك فقال أناس نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت ويدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 هذا المعنى آيات أخر نحو قوله تَعَالَى قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وكما قال تَعَالَى لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وقال صلى الله تعالى عليه وسلم لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ من ولده ووالده والناس أجمعين رواه الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه وقد ورد في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا يصلي على ميت وعليه دين وكان يقول صلوا على أخيكم فلما نزلت هذه الآية النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فهو لورثته وأخرج النسائي في السنن نحوه إلا أنه قال فلما فتح الله الفتوح ولم يقل فلما نزلت الآية، (وأزواجه أمّهاتهم أي هنّ) على ما في النسخ المصححة وقال التلمساني أي هم في الحرمة وضميرهم عائد إلى الأزواج وعليه الروايات هنا وعبر بضمير جماعة المذكرين اعتبارا للفظ الأزواج (في الحرمة) أي الاحترام والتعظيم (كالأمّهات) أي الحقيقة تنزيلا لهن منزلتهن في العظمة بل اللائق أن يكون لهن مزية تعظيما لحضره النبوة ثم إنهن فيما عدا ذلك كالأجنبيات ولذا حجبن ولم يتعد التحريم إلى بناتهن وهذا إنما هو فيمن دخل بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النساء وأما من تزوجها وفارقها قبل الدخول فليس لها هذا الحكم وقد كان عمر رضي الله عنه أمر برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الدخول فنكحت بعده فقالت له لم وما ضرب رسول الله علي حجابا ولا دعيت أم المؤمنين فكف عمر عنها (حرم) بفتح الحاء وضم الراء ورفع قوله (نكاحهنّ) ويجوز ضم الحاء وكسر الراء المشددة أيضا وفي نسخة حرام بزيادة الألف وفي أخرى حرم بصيغة الفاعل من التحريم أي حرم الله ورسوله نكاحهن (عليهم بعده) أي بعد تزوجه لهن قيل ولو طلق قبل الدخول ببعضهن كما يستفاد من إطلاق قوله تَعَالَى وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً وإنما حرمهن عليهم (تكرمة له) أي لتكريمه وتعظيمه المستفاد من الآية (وخصوصيّة) أي بها يتميز عن غيره من إفراد أمته وهي بضم الخاء وقول الحجازي بفتحها سهو (ولأنّهنّ له أزواج في الجنّة وفي الآخرة) قال البغوي وكذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أزواجهم لهم في الآخرة وفي نسخة في الجنة والظاهر ان هذا مقيد بمن مات منهن في عصمته أو هو توفي عنهن وهن في عدته لتخرج من اختارت الدنيا حين نزلت آية قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا الآية فإنها كانت في آخر عمرها تلتقط البعر في سكك المدينة وأيضا لما أراد صلى الله تعالى عليه وسلم أن يطلق سودة قالت لا تطلقني يا رسول الله ويومي لعائشة رضي الله تعالى عنها لأني أريد أن أكون من نسائك في الجنة أو قولا هذا معناه (وقد قرىء) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 أي في الشواذ قيل وهي قراءة مجاهد ونسبت إلى أبي بن كعب أيضا (وهو أب لهم) إذ كل نبي أب لأمته كما قال الله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ من حيث إن به حياتهم الأبدية وتعلم الآداب الدينية ومن ثم صاروا أخوة في الدين كما قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ من حيث انتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان الناشىء عنه صلى الله تعالى عليه وسلم (ولا يقرأ به) بصيغة المجهول أي ولا يجوز أن يقرأ به أحد (الآن) أي في هذا الزمان (لمخالفته المصحف) بتثليث الميم والضم أتم وهو ما يجمع فيه القرآن لقول عائشة رضي الله تعالى عنها ما بين دفتي المصحف كلام الله والمراد من المخالفة عدم وجود تلك الجملة من جميع المصاحف العثمانية إذ أحد أركان القراءة هي المطابقة الرسمية وثانيها الموافقة العربية وثالثها النقل المواتر الإجماعية والعمدة هي الأخيرة والأخريان تابعتان لها لازمتان لوجودها واختلف في محل الجملة الشاذة فقيل قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قبل قوله وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وقراءة أبي بعده وروي عن عكرمة أنه قال وهو أبوهم وهو أشبه بالتفسير وعلى جميع التقادير هو من باب التشبيه البليغ نحو زيد أسد أي كالأسد لا على الحقيقة أي إلا فيمن له الولادة وأما ما ذكره الدلجي أن المراد بالمصحف هو الإمام الذي نسخه عثمان وعليه الناس فقد يوهم أنه مصحف خاص وليس كذلك بل المراد المصاحف التي كتبت بأمره واختلف في عددها فأرسل واحدا إلى مكة وآخر إلى الشام وآخر إلى الكوفة وآخر إلى البصرة وأبقى عنده واحدا في المدينة والآن لم يتحقق وجود واحد منها في محالها (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء: 113] الآية) أي وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً أي فيما أنعم عليك وبما علمك في خفيات الأمور وأمور الدين ومعارف اليقين وفي بعض النسخ (وأنزلنا عليك الكتاب والحكمة) وهو لا يصح لمخالفته تنزيل الآية (قيل فضله العظيم بالنّبوّة) وفي نسخة النبوة إذ لا فضل أعظم منها إذا قرنت بالرسالة العامة (وقيل بما سبق له في الأزل) أي من تعلق العناية القديمة العظمى حيث جعل رئيس من سبقت له الحسنى كما بدل عليه خلق نوره أولا وجعله نبيا في عالم الأرواح قبل ظهور الأشباح (وأشار الواسطي إلى أنّها) أي هذه الآية (إشارة إلى احتمال الرّؤية) أي تحملها وإطاقتها (الَّتِي لَمْ يَحْتَمِلْهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الْبَابُ الثَّانِي [فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ المحاسن خلقا وخلقا] أي من القسم الأول وفصوله سبعة وعشرون بعد صدر الباب على ما سبق في أول الكتاب (في تكميل الله تعالى له المحاسن) جمع حسن على غير قياس والمراد بها الأوصاف المستحسنة (خلقا وخلقا) بفتح الخاء في الأول وبضمها وضم اللام وسكونها في الثاني وهما منصوبان على التمييز أي محاسن خلقه وخلقه من صورته الظاهرة الطاهرة وسيرته الباطنة الباهرة (وقرانه) أي وفي مقارنة ذاته عليه الصلاة والسلام (جميع الفضائل الدينية والدنيوية فيه نسقا) بفتحتين أي من جهة كون بعضها تبعا لبعض من الصفات المتوالية والمكارم المتعاقبة. (اعلم أيّها المحبّ لهذا النّبيّ الكريم) خطاب عام في موضع التفخيم أو خاص لمن سأله هذا التأليف المتضمن للتعليم ويؤيده قوله (الباحث) أي المفتش والمتفحص (عن تفاصيل جمل قدره) أي مجملات مقداره (العظيم) والجملة الندائية معترضة بين الخطاب وما خوطب به من الجملة الفعلية (أنّ خصال الجمال والكمال) وفي نسخة الجمال بدل الجلال والجمال تمام الصورة والجلال ظهور العظمة والأولى على ما عرف في علم الأخلاق أن يقال إن خصال الجمال والجلال المقتضية للكمال (في البشر نوعان: ضروريّ) أي أحدهما ضروري (دنيويّ) أي مما لا بد له منه فيها (اقتضته الجبلّة) بكسر الجيم والموحدة وتشديد اللام أي دعته الخلقة التي خلق عليها وطبيعته التي جبل للميل إليها ومنه قوله تعالى وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وقرأها الحسن بالضم وقال التلمساني وبسكون الباء وفتح اللام مخففة فتثليث الجيم بالهاء وبدونها والجبل يضم ويشدد ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً (وضرورة الحياة الدّنيا) أي واقتضته الحاجة الضرورية الكائنة في الحياة الدنيوية مما ليس اختياريا، (ومكتسب) بصيغة المجهول أي وثانيهما مكتسب (دينيّ وهو ما يحمد فاعله) أي مما يتوقف اكتسابه على الشرع من الكمالات العلمية التي أعظمها معرفة الله وصفاته العلية (ويقرّب) بكسر الراء المشددة وفي نسخة بصيغة المجهول أي ما يقرب به (إلى الله تعالى زلفى) أي قربة اسم مصدر لا زلف وفيه أن التقسيم غير جامع لأنه غير شامل للوهبي الحاصل بالجذبة دون الخلقة الأصلية ولا بالتعلقات العارضية؛ (ثمّ هي) أي الخصال (على فنّين) بفتح فاء وتشديد نون (أيضا) أي صنفين (منها) أي من الخصال (ما يتخلّص) أي يتمحض (لأحد الوصفين) أي من الضروري والكسبي من غير امتزاج وتداخل بحيث لا يصدق عليه اسم الآخر ضروريا أو كسبيا (ومنها ما يتمازج ويتداخل) عطف تفسير أي يتخالط بأن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ضروريا وكسبيا كما سيأتي بيانهما ويظهر شأنهما. (فأمّا الضّروريّ المحض) أي الخالص الذي لا يكون مكتسبا (فما ليس للمرء) بفتح فسكون فهمز والحسن لا يهمز ويخفف وابن إسحاق يضم الميم والهمز والعقيلي بكسر الميم والهمز ومؤنثه المرآة كذا ذكره التلمساني والأظهر أنه الشخص بالمعنى الأعم والله أعلم (فيه اختيار) أي في حصوله (ولا اكتساب) أي في وصوله أي بل فيه اضطرار واضطراب في تحصيله (مِثْلُ مَا كَانَ فِي جِبِلَّتِهِ مِنْ كَمَالِ خلقته وجمال صورته) فيه من البديع صنعة جناس لاحق بين كمال وجلال (وقوّة عقله) أي تعقله قال التلمساني مذهب أهل اللغة أن العقل هو العلم وقيل بعض العلوم الضرورية وقيل قوة تميز بها بين حقائق المعلومات ومحله عند أهل السنة القلب بدليل قوله تعالى فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها وقال المعتزلة محله الدماغ ووافقهم أبو حنيفة والفضل بن زياد (وصحّة فهمه) أي إدراكه (وفصاحة لسانه) أي طلاقته وطراوة بيانه مع رعاية مطابقته ووضوح دلالته (وقوّة حواسّه) أي من سمعه وبصره وشمه وذوقه ولمسه (وأعضائه) جمع عضو بضم العين وكسرها أي جوارحه وقد قيل ليس في الإنسان جارحة أحب إلى الله عز وجل من اللسان ولذلك أنطقه الله بتوحيده فإذا فحش ولم يحل اللسان فبأي شيء يذكر ويناجي ويدعو ويتلو، (واعتدال حركاته) أي وسكناته بسلامتهما من آفتهما فهو من باب الاكتفاء (وشرف نسبه) إذ في الغالب أن من تحلى به ربأ بنفسه من سفاسف الأمور إلى أعاليها ومن ذمائم الصفات إلى معاليها (وعزّة قومه) أي وغلبة قبيلته إذ المؤمن كثير بأخيه كما قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (وكرم أرضه) أي طيب مكانه الذي نشأ فيه بأن يكون بلد المسلمين ومنزل الصالحين وأبعد التلمساني في تخصيص أرضه بأرض مكة إذ ليس الكلام في خصوصه عليه الصلاة والسلام (ويلحق به) أي يتصل بالضروري المحض وفي نسخة بصيغة المجهول واقتصر عليه الحلبي أي ويوصل به (ما تدعوه) أي كل شيء من الأمور العادية تدعو المرء (ضرورة حياته) أي شدة احتياجه فيها (إليه من غذائه) بكسر الغين وبالذال المعجمتين على ما في الأصول المصححة وعلى ما ذكره أهل الحواشي المعبرة ما يتغذى به من الطعام والشراب وما به نماء الجسم وقوامه وأما الغذاء بفتح أوله وبدال مهملة فهو طعام الغدوة من الطلوع إلى الزوال ضد العشاء بالفتح وهو غير ملائم لمقام المرام فتجويز الدلجي الوجهين وتقديم الثاني على الأول وتفسيره بقوله هو الطعام بعينه ليس في محله وكذا تقييد المحشي للأول بالقصر والثاني بالمد (ونومه) أي في ليلة ونهاره (وملبسه) بفتح الموحدة (ومسكنه) بفتح الكاف وكسرها (ومنكحه) بفتح الكاف مصادرا وأسماء لما يلبس ويسكن وينكح (وماله) أي جميع ما ينتفع به من الأمور الحسية (وجاهه) أي قدره ومنزلته واعتباره من الأحوال المعنوية قيل هو والوجه بمعنى قلب منه لأنه إن توجه بوجهه قبل منه، (وقد تلحق) ضبط معروفا ومجهولا (هذه الخصال الآخرة) أي الأخيرة المتعلقة بالأمور العادية الواقعة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الأحوال الدنيوية (بالأخرويّة) أي بالخصال الأخروية (إذا قصد بها التّقوى) مصدر تقوى من باب التفعل أي طلب القوة على الطاعة وفي نسخة التقوى بالتخفيف أي إذا كانت مقترنة بتقوى الله (ومعونة البدن) أي إذا قصد بها مساعدته ومعاونته (على سلوك طريقها) أي سبيل الآخرة وأبعد الدلجي تبعا للتلمساني في قوله أي طريق الخصال الأخروية (وكانت) أي تلك الخصال الملحقة (على حدود الضّرورة) أي على طبق داعية الحاجة وقدر الكفاية من غير زيادة (وقوانين الشّريعة) وفي نسخة قواعد الشريعة أي وكانت أيضا على وفق الأصول الشرعية مما أبيح وجوز له من ارتكابه وهذا معنى قولهم في حديث إنما الأعمال بالنيات أن العادات تصير بالنيات عبادات؛ (وأمّا المكتسبة الأخرويّة) أي الخصال المكتسبة المستفادة المتعلقة بالأمور الأخروية (فسائر الأخلاق العليّة) أي جميعها وهي صفات وأحوال وأفعال وأقوال يحسن بها حالة الإنسان بينه وبين خالقه وأبناء جنسه (والآداب الشّرعية من الدين) أي الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة فيما يجب عمله وتركه (والعلم) أي معرفة النفس ما لها وما عليها مما به تمام معاشها ونظام معادها (والحلم) أي الصبر على الايذاء وعدم العجلة في العقوبة على الاعداء (والصّبر) أي على أنواع المصائب وأصناف البلاء وأجناس القضاء (والشّكر) أي بالثناء على المنعم بما أولاه من النعماء وأن يصرف جميع النعم إلى ما خلقت لأجله في مقام رضى المولى (والعدل) ضد الميل عن الحق بالجور وهو ملكة يقتدر بها على اجتناب ما لا يحل فعله في باب الحكومة وقد ورد كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وقال الله تعالى إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (والزّهد) أي عزفة النفس وقلة ميلها إلى الدنيا والمشتهيات وترك ما عدا الضروريات من المباحات أو ترك ما سوى الله مريدا به وجه الله وهو زهد المقربين (والتّواضع) أي لين الجانب والتذلل للصاحب، (والعفو) أي الصفح والمجاوزة وعدم المؤاخذة، (والعفّة) وهي قمع النفس عن المعصية أو مختصة بالزنا ونحوها وأغرب التلمساني بقوله وهو العفو عما يشين ويعيب وتركه اختيارا، (والجود) وهو الكرم المحمود بأن يكون بين طرفي افراط يسمى سرفا وتفريط يسمى بخلا وقد قيل لا سرف في خير ولا خير في سرف فهو بذل ما ينبغي فيما ينبغي كما ينبغي (والشّجاعة) وهي صفة حميدة متوسطة بين التهور والجبن (والحياء) بالمد وهو انقباض الروح عن القبيح حذرا من الذم متوسط بين وقاحة وجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها وبين الخجالة والانحصار عن الفعل مطلقا وهو محمود إذا كف عن المعصية وذمائم الخسة ومذموم إذا كف عن تحصيل الفريضة واكتساب الفضيلة والأول من الرحمن والثاني من الشيطان (والمروة) بضم الميم والراء وتشديد الواو وقد يهمز وهو الإنسانية وكمال المرء بالأخلاق الزكية والتبعد عن الأمور الدنية (والصّمت) أي السكوت عن غير الخير لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (والتّؤدة) بضم ففتح همز وقد تبدل واوا وهي بمعنى التأني وعدم العجلة لما قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل وفي نسخة التودد من المودة أي التحبب إلى الصلحاء والفقراء والضعفاء فإنهم في الآخرة ملوك وشفعاء (والوقار) بفتح الواو أي الرزانة والطمأنينة وعدم الطيش والخفة (والرّحمة) أي التعطف والرأفة (وحسن الأدب) فإنه أحسن من الذهب وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم أدبني ربي فأحسن تأديبي وجعل حسن الأدب من جملة الآداب الشرعية لأنه حالة خاصة من عموم الأحوال المرضية لحديث أن من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه (والمعاشرة) أي المخالطة بالمخالقة على وجه الموافقة لقوله عليه الصلاة والسلام خالق الناس بخلق وقوله خياركم أحسنكم أخلاقا ومن كلام الشيخ أبي مدين المغربي حسن الخلق معاملة كل شخص بما يؤنسه ولا يوحشه (وأخواتها) أي أشباهها من الأخلاق الحميدة المفصلة في نحو كتاب الاحياء والعوارف والرسالة «1» (وهي) أي هذه الملكات النفسانية المكتسبة (التي جماعها) بكسر الجيم أي جمعها واجتماعها كذا قيل وفي الحديث الخمر جماع الإثم لأنها تجمع عددا منه والأظهر أن يقال مجمعها ومجتمعها (حسن الخلق) أي المحمود عند جميع الخلق وقد قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وكان خلقه القرآن يأتمر بأوامره وينزجر بزواجره ويرضى برضاه ويسخط بسخطه ومجمله قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وقال جبريل عند نزوله هو أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك. (وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ مَا هُوَ في الغريزة) أي مخلوق ومودع في السجية والطبيعية وهي بفتح غين معجمة وكسر راء مهملة ثم زاء. (وأصل الجبلّة) أي الفطرة (لبعض النّاس) أي ممن طبع عليه في أول خلقته وابتداء نشأته ومنه قول القائل: كل امرئ راجع يوما لشيمته ... وإن تخلق أخلاقا إلى حين (وبعضهم لا تكون فيه فيكتسبها) بالرفع أي فهو يحصلها للاقتداء بغيره فيها فتصير له كالغريزة وقال الحلبي هو بالنصب جواب النفي انتهى وفيه بحث لا يخفى (وَلَكِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ أصولها في أصل الجبلّة شعبة) أي شائبة وقطعة خلق عليها ليرجع فيما يكتسبه إليها بميل طبعه الأول فيها (كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى وتكون) أي تصير (هذه الأخلاق دنيويّة إذا لم يرد) بصيغة المفعول أي لم يقصد (بها وجه الله والدّار الآخرة) أي بخلاف ما إذا أريد بها ذلك فإنها صارت حينئذ قربات عند الله فيثاب عليها (ولكنّها) أي الغريزة وإن لم يرد بها ذلك (كلّها) بالنصب أي جميعها (محاسن وفضائل) أي باعتبار افرادها (بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ. وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي موجب حسنها) بكسر الجيم لا بفتحها كما قال التلمساني وسبقه الانطاكي لأنه بمعنى المقتضي وهو لا يناسب المقام كما لا يخفى أي سببها وباعثها   (1) هي للإمام الأستاذ أبي القاسم القشيري قاله مصححه طاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 (وتفضيلها) أي وفي تفضيلها على غيرها أو بعضها على بعض أهو ذاتي اقتضته ذواتها وطبائعها أو يخلق الله تعالى له في ذواتها قولان ثانيهما هو الحق لاستناد جميع الكائنات إليه ابتداء إذ هو الخالق وحده وهي ملكات محمودة مكملة للإنسان وإن تفاوتت النفوس بحسب الفطرة وفي الكمال باعتبار زيادة اعتدال الابدان فكلما كان البدن أعدل كانت النفوس الفائضة أكمل وإلى الخيرات أميل وللكمالات أقبل وعكسه عكسه كما قيل الظاهر عنوان الباطن ثم لا نزاع في أنها من واجبات العقل لحكمه بها من حيث إنها صفات كمال ثم ورد الشرع مؤيدا له ومقررا لحكمه بها وإنما النزاع في أن العاقل قبل وروده أو بعده ولم يبلغه هل يجب عليه بعض الأفعال أو يحرم بعضها بمعنى استحقاق الثواب والعقاب في الآخرة أم لا فعندنا لا إذ لا حكم له ولا إثابة ولا تعذيب قبل وروده وعند المعتزلة نعم بناء على مسألة الحسن والقبح كذا حققه العلامة الدلجي وقال المنجاني ذهب بعضهم إلى أن جميع الأخلاق سيئها وحسنها جبلة وغريزة في العبد ليس فيها اكتساب وإلى هذا مال الطبراني وحكاه عن ابن مسعود والحسن وذهب بعضهم إلى أن جميع هذه الأخلاق إنما هي من كسب العبد باختياره وليس في جبلته شيء منها مخلوقا وهذا مذهب طائفة كثيرة من السلف وذهب الباقون إلى ما ذكره القاضي وعليه المحققون وقال الانطاكي لا شك أن الإنسان لا اختيار له في تغيير خلقتها الأصلية وهيئتها الجبلية فالطويل لا يمكن أن يجعل نفسه قصيرا ولا القصير طويلا ولا القبيح يقدر على تحسين صورته ولا على عكس هيئته وأما الأخلاق المكتسبة من الجود والشجاعة والتواضع والعفة فقد تكون في بعضهم غريزة وجبلة بجود الهي وكمال فطري بحيث يخلق ويولد كامل الأخلاق والآداب كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعضهم لا تكون فيه فيكتسبها بالمجاهدة والرياضة بأن يحمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب فمن أراد مثلا أن يجعل لنفسه خلق الجود فيتكلف تعاطي فعل الجود ويواظب عليه فإنه يصير ذلك عادة له وطبعا فيصير جوادا وكذا من أراد أن يجعل لنفسه خلق التواضع فيواظب على أفعال المتواضع مدة مديدة يصير التواضع له خلقا وكذا جميع الأخلاق المحمودة يمكن تحصيلها بهذا الطريق فإذا الأخلاق الحسنة قد تكون بالطبع أغنى الفطرة وقد تكون بالطبع أغنى باعتبار الأفعال الجميلة وزعم بعض من غلبت عليه البطالة وما اشتغل بالمجاهدة في تهذيب الأخلاق أن الرياضة لا تؤثر في تغيير الأخلاق أنها طباع لا تتغير كالخلقة لكنا نقول لو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال صلى الله تعالى عليه وسلم حسنوا أخلاقكم وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل الصيد من التوحش إلى الأنس والكلب من الأكل إلى التأديب والفرس من الجماع إلى السلاسة وكل ذلك تغيير الأخلاق بتوفيق الملك الخلاق. فصل [قال القاضي رحمه الله تعالى إذا كانت خصال الكمال والجلال] أي هذا فصل في تعداد خصال حميدة اختص بها ذاته السعيدة مجملة وتذكر فيما بعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 من الفصول العديدة مقتبسة من الكتاب والسنة (قال القاضي رحمه الله تعالى) كذا في نسخة (إذا كانت خصال الكمال والجلال ما ذكرناه) أي في الفصل السابق (ووجدنا) وفي نسخة ورأينا أي علمنا (الواحد منّا يتشرّف) بضم الراء أي يصير شريفا رفيعا وفي نسخة بصيغة المجهول من التشريف أي يكرم ويعظم وفي أخرى يتشرف أي يفتخر (بواحدة منها) أي ولو في أقل مراتبها (أو اثنتين) أي منها (إن اتّفقت) أي هذه الخصلة وفي نسخة إن اتفقنا (له في كلّ عصر) متعلق باتفقت والعصر مثلثة وأبعد الدلجي في تجويز تعلقه بتشرف وتقديمه وفي نسخة زيادة (وأوان) عطف خاص على عام فإن العصر الدهر وهو الزمان والأوان زمان مخصوص كزمان الربيع والداعي إلى عطفه الخطابة في أن كل وقت لا يخلو من أحد يشرف بذلك ثم ما يشرف به لا يخلو من أن يكون (إمّا من نسب) أي رفعه نسب (أو جمال) أي حسن صورة (أو قوّة) أي بدنية متحملة لمزاولة أفعال شاقة والقدرة أخص منها لاشتراط الإرادة فيها إذ هي التمكن من إظهار القوة مع الإرادة (أَوْ عِلْمٍ أَوْ حِلْمٍ أَوْ شَجَاعَةٍ أَوْ سماحة) أي جود وعطاء ومسامحة ومساهلة (حتّى يعظم قدره) غاية لوصفه بما ذكر أي يرفع شأنه بين الرجال (ويضرب) بصيغة المجهول أي يبين ويعين (باسمه الأمثال) فيقال أجود من حاتم وأعدل من نوشيروان أو هو حسان زمانه أو مجتهد أوانه أو أشجع اقرانه أو أسخى إخوانه (ويتقرّر) أي يثبت (له بالوصف بذلك) أي بسبب اتصافه أي بما ذكر من الصفات (في القلوب) أي في قلوب الخلق من أهل الحق (أثرة) بضم همزته وكسرها وفتحها وسكون المثلثة وبفتحهما أي مكرمة يتفرد بها (وعظمة) عطف تفسير في المعنى (وهو) أي ذلك الواحد منا (منذ) بضم ميم وتكسر بمعنى مذ (عصور خوال) أي والحال أنه من ابتداء دهور خالية وأزمنة ماضية، (رمم) بكسر راء وفتح ميم أي رميم جمع رمة عظامه (بوال) أي بالية متفتتة اعضاؤه وأجزاؤه فالمغايرة حاصلة بينهما خلاف ما فهمه الدلجي وجعلها عطف بيان كأبي حفص عمر ثم إذا كان الأمر كما ذكر (فَمَا ظَنُّكَ بِعَظِيمِ قَدْرِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ كلّ هذه الخصال) أي الحميدة العديدة (على وجه الكمال) وهو استفهام يورث تعجبا من هذه الحالة لا سيما وهي منضمة (إلى ما لا يأخذه عد) أي إحصاء من خصال لا توجد إلا في الأنبياء والأصفياء وأرباب الكمال (ولا يعبّر عنه مقال) أي لا يحصره قول (ولا ينال) بضم الياء أي لا يحصل (بكسب ولا حيلة) أي باكتساب ولا باحتيال (إلّا بتخصيص الكبير المتعال) أي بطريق التفضل والهبة والجذبة والعناية من العظيم الشأن في ذاته المستعلي على كل شيء بقدرته أو الكبير عن نعت المخلوقين والمتعالي عن مشابهة الامثال (من فضيلة النّبوّة) بيان لما وهي بالهمز بناء على أنه من النبأ بمعنى الخبر لإنباء الله تعالى إياه وإخباره عنه سبحانه وتعالى أو بتشديد الواو بناء على إبداله أو على إنه مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة فإن النبي عليه الصلاة والسلام رفيع الشأن عظيم البرهان (والرّسالة) وهي كونه واسطة بين الله تعالى وبين عباده والرسالة أخص من النبوة فإن الرسول هو المأمور بتبليغ الأحكام والنبي هو الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا (والخلّة) بضم الخاء أي الخصلة التي توجب الاختصاص من صفاء المودة حيث تتخلل النفس وتخالطها (والمحبّة) وهي مودة تشق شغاف القلب وتصل إلى سويداء الفؤاد (والاصطفاء) أي بالخصائص الروحانية والجسمانية لقوله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ (والإسراء) أي إلى السماء (والرّؤية) أي رؤية الله تعالى بالبصر أو بالبصيرة أو رؤيته من آيات ربه الكبرى لحديث البخاري رأى رفرفا أخضر في الجنة قد سد الأفق وحديث مسلم رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ومع وجود هذه الاحتمالات في عبارة الرؤية لا يرد ما قاله الحلبي من أن المؤلف لم يترجح عنده أنه عليه الصلاة والسلام رأى ولا ما رأى كما سيأتي ذلك وهنا قد جزم بها فهذا تناقض على انه قد يقال تردد هناك وجزم هنا والله أعلم (والقرب والدّنوّ) أي قرب مكانة ودنو رفعة (والوحي) أي في ذلك المكان الأعلى (والشّفاعة) أي العظمى، (والوسيلة) وهي منزلة في الجنة وهي أعلى العليا (والفضيلة) أي زيادة المرتبة على العامة والخاصة من حسن المنقبة (والدّرجة الرّفيعة) أي في الجنة العالية أو يوم القيامة أو ليلة الإسراء (والمقام المحمود) لحديث أبي حاتم يبعث الله النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تل فيكسوني ربي حلة خضراء فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ فَذَلِكَ المقام المحمود انتهى وبه يحصل الفرق بينه وبين الشفاعة الكبرى (والبراق) أي ركوبه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، (والمعراج) من الصخرة إلى السماء فإلى الجنة والعرش وما فوقه من المقام الأعلى وهو بكسر أوله لم من نور من السماء إلى الأرض فيه تصعد الملائكة وهو الذي يمد إليه الميت بصره على ما ذكره التلمساني وقد سبق ما يتعلق بالبراق في أول الكتاب مما يغني هنا عن الإطناب، (والبعث إلى الأحمر والأسود) لحديث بعثت إلى الأحمر والأسود أي العجم والعرب أو الإنس والجن أو الخلق كافة لحديث مسلم بعثت إلى الخلق كافة (والصّلاة بالأنبياء) أي ببيت المقدس عند الصخرة تارة وأخرى بالسماء (والشّهادة بين الأنبياء والأمم) أي يوم القيامة كما مر عند قوله تعالى لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ الآية (وسيادة ولد آدم) لحديث أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر بل سيادة جميع العالم لحديث أنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر (ولواء الحمد) أي المشار إليه بقوله عليه السلام آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة وقوله بيدي لواء الحمد يوم القيامة وفي الرياض النضرة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عنه فقال له ثلاث شقق ما بين السماء والأرض على الأولى مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم وفاتحة الكتاب وعلى الثانية لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وعلى الثالثة أبو بكر الصديق عمر الفاروق عثمان ذو النورين علي المرتضى (والبشارة والنّذارة) بكسر أولهما لقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ وَالطَّاعَةِ ثُمَّ وَالْأَمَانَةِ) أي كونه مطاعا أمينا لقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ على قول بعض المفسرين (والهداية) أي القاصرة لقوله تعالى وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 والمتعدية لقوله سبحانه وتعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (ورحمة للعالمين) لقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (وإعطاء الرّضى) لقوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (والسّؤل) بضم السين وسكون الهمزة ويبدل بمعنى المسؤول ومنه قوله تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ولا شك أنه أفضل الخلق فهو به أحق (والكوثر) وقد مر (وسماع القول) لحديث الشفاعة وقل تسمع واشفع تشفع (وإتمام النّعمة) لقوله تعالى وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ (والعفو عمّا تقدّم وما تأخّر) وفي نسخة وما تأخر لقوله تَعَالَى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ (وَشَرْحِ الصَّدْرِ وَوَضْعِ الْإِصْرِ وَرَفْعِ الذّكر) لقوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (وعزّة النّصر) لقوله تعالى وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (ونزول السّكينة) وهي الطمأنينة (والتّأييد) أي التقوية (بالملائكة) لقوله فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أي بملائكته يوم بدر وحنين والأحزاب وعن كعب قال ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون الفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة رواه البيهقي في شعبه وفي صحيح الدارمي نحوه (وإيتاء الكتاب والحكمة) لقوله تعالى وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ (والسّبع المثاني والقرآن العظيم) لقوله تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (وتزكية الأمّة) أي أمته يوم القيامة لقوله تعالى وَيُزَكِّيهِمْ أي إذا شهدوا للأنبياء حين أنكرت أممهم التبليغ والإنباء (والدّعاء إلى الله) لقوله تعالى وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ (وصلاة الله تعالى والملائكة) أي وملائكته عليه لقوله تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (والحكم بين النّاس بما أراه الله) أي بما أعلمه الله وبين حكمه وألهمه لقوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بما أراك الله (ووضع الإصر) بكسر الهمزة قيل وتضم أي حط العهد الثقيل والتكليف الوبيل وقيل المراد به العقوبة من نحو المسخ (والأغلال) أي العبادات الشاقة (عنهم) أي عن أمته لقوله وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ وهي جمع غل وهو ما يوضع في العنق شبه ما كان لازما لهم من مشاق الأعمال بالأغلال (والقسم باسمه) أي الحلف بعمره لقوله تعالى لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (وإجابة دعوته) أي في مواطن كثيرة كبدر إذ قال اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم (وتكليم الجمادات) لحديث البخاري إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قيل هو الحجر الأسود وقيل الحجر المذكور في جدار زقاق الحجر (والعجم) بضم فسكون جمع أعجم وهو من الحيوان ما لا يقدر على الكلام ومنه الحديث إذا ركبتم هذه الدواب العجم وحديث العجماء جبار أي وتكليم البهائم كنطق الضب والظبي والجمل وحماره عليه الصلاة والسلام الذي قال له اسمي يزيد بن شهاب حين قال له يعفور (وإحياء الموتى) أي المعنوية والحسية لما ورد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما قفل من غزاة فمات بعير بعض أصحابه دعا الله فأحياه حتى ركبه إلى المدينة ثم مات وكما روي في قصة البنت التي طرحها أبوها في الوادي فماتت (وإسماع الصّمّ) كأمره صلى الله تعالى عليه وسلم الحجارة أن يجتمعن لقضاء حاجته فتعاقدن حتى صرن ركاما على ما في الصحيح (ونبع الماء من بين أصابعه) لما في البخاري عن جابر فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه (وتكثير القليل) لحديثي أنس في قصة أبي طلحة وزاد في البخاري فإنه أمر بما بقي منه فجيء بقليل منه فدعا وبرك فيه فكثر حتى ملؤوا كل وعاء معهم (وانشقاق القمر) قال أنس سأله قريش آية فانشق مرتين وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما انفلق فلقتين ذهبت فلقة وبقيت فلقة وعن ابن مسعود رأيت حراء عليه فلقتي القمر (وردّ الشّمس) أي في الخندق وصبيحة الإسراء وأما ما ذكره التلمساني من أنها وقفت ليلة الإسراء أو زيد في كمية الليل فلا يصح بل هو من بسط الزمان من غير تغير في ظاهر العيان (وقلب الأعيان) أي الذوات الثابتة لحديث عكاشة كان معه صلى الله تعالى عليه وسلم يوم بدر عصا فصارت بيده سيفا صارما (والنّصر بالرّعب) بسكون العين ويضم أي بالخوف لقوله تعالى وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ولحديث نصرت بالرعب (والاطلاع على الغيب) أي اطلاعه على بعض المغيبات لحديث خروج الدجال والدابة وغيرهما فالاطلاع بتشديد الطاء وهو مطاوع الاطلاع بالتخفيف لأن الله عز وجل هو الذي أطلعه ويمكن أن يكون هنا بالتخفيف والتقدير اطلاع الله إياه وأما قول التلمساني ولا يشدد لفساد المعنى فغفلة عن تحقيق المبنى (وظلّ الغمام وتسبيح الحصى) أي في كفيه الكرام، (وإبراء الآلام) لأحاديث بها رواها الاعلام والآلام جمع الألم والله أعلم (والعصمة من النّاس) لقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (إلى) أي منتهية هذه الفضائل البهية إلى (ما لا يحويه محتفل) بكسر الفاء أي لا يشمله جامع مهتم بجمعه لكثرة إفراده، (ولا يحيط بعلمه إلّا مانحه) أي معطيه صلى الله تعالى عليه وسلم (ذلك ومفضّله) أي ولا يحيط بعلمه إلا مفضله على غيره (به لا إله غيره إلى) أي منضمة هذه إِلَى (مَا أَعَدَّ لَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، من منازل الكرامة، ودرجات القدس) بضم وبضمتين أي المنزهة عن النقصان والزوال في الجنة العالية (ومراتب السّعادة والحسنى) أي والمثوبة الحسنى مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (والزّيادة التي تقف دونها العقول ويحار) بفتح الياء أي يتحير في معرفتها ويحيل إحاطتها (دون ادانيها) أي عند أوائلها فضلا عن أقاصيها وفي نسخة عند إدراكها (الوهم) أي أوهام الخواص والعوام ولعلها رؤية الملك العلام لقوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وقد جاء تفسيرها في الحديث الصحيح بالرؤية رزقنا الله تعالى تلك السعادة وختم لنا بالشهادة قال التلمساني وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حاز خصال الأنبياء كلها واجتمعت فيه إذ هو عنصرها ومنبعها فأعطي خلق آدم ومعرفة عيسى وشجاعة نوح وخلة إبراهيم ولسان إسماعيل ورضى إسحاق وفصاحة صالح وحكمة لوط وبشرى يعقوب وجمال يوسف وشدة موسى وصبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أيوب وطاعة يونس وجهاد يوشع وصوت داود وحب دانيال ووقار إلياس وعصمة يحيى وزهد عيسى وأغمس صلى الله تعالى عليه وسلم في جميع أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وليقتبسوها منه وقد أفصح بذلك البوصيري حيث قال: فكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم فصل [إن قلت أكرمك الله تعالى لا خفاء على القطع بالجملة] أي في جمل من أوصافه صلى الله تعالى عليه وسلم (إن قلت أكرمك الله) جملة دعائية معترضة بين القول ومقوله (لا خفاء على القطع بالجملة) أي بطريق الإجمال في التفضيل لا بطريق التفصيل إذ قد يتوهم عدم القطع بأن يوجد في غيره نعت له بالخصوص يكون أعلى وبهذا تبين أن لا يصح قول الدلجي فضلا عن القطع بالتفصيل (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم أعلى النّاس قدرا) أي مرتبة، (وأعظمهم محلّا) أي منزلة وكان الأحسن كما قال الدلجي أن يقال أعظمهم قدرا وأعلاهم محلا إذ العظمة بالقدر أليق والعلو بالمحل أوفق (وأكملهم محاسنا وفضلا) والمنصوبات كلها مميزات (وقد ذهبت) خطابا للمصنف من جملة المقول حالية معترضة بين الشرط والجزاء أي وقد سلكت (في تفاصيل خصال الكمال مذهبا جميلا) أي طريقا حسنا من كمال جماله (شوّقني) أي هيجني وأقلقني (إلى أن أقف عليها) أي أطلع على خصال الكمال (من أوصافه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي شمائله وفضائله (تفصيلا) أي تبيينا وتفريعا فصلا فصلا. (فاعلم) خطاب خاص أو عام لمن يصلح له (نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبِي وَقَلَبَكَ، وَضَاعَفَ فِي هَذَا النّبيّ الكريم حبّي وحبّك) جملة دعائية معترضة بين العامل ومعموله وهو (أنّك إذا نظرت إلى خصال الكمال النّبيّ هي غير مكتسبة) أي غير مستفادة (وفي جبلّة الخلقة) عطف على غير أي في أصل الخلقة وجبلة الطبيعة والإضافة بيانية، (ووجدته) أي صادفته (صلى الله تعالى عليه وسلم حائزا) بالحاء أي حاويا وجامعا (لجميعها محيطا بشتات محاسنها) أي متفرقاتها (دون خلاف) أي بلا خلاف (بين نقلة الأخبار) أي الأحاديث والآثار (لذلك) أي لما ذكر من حيازته جميع خصال الأبرار (بل قد بلغ بعضها مبلغ القطع) أي بسبب التواتر المعنوي ثم خصال كماله أنواع كما فصله المصنف بقوله. (أمّا الصّورة) أي الصورة النبوية (وجمالها) أي وجمال تلك الصورة الخلقية (وتناسب أعضائه في حسنها) أي مما لم يتصور أن تكون كسبية بل هي خلقية هبية (فقد جاءت الآثار الصّحيحة، والمشهورة) أي المستفاضة (الكثيرة) نعت لهما (بِذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وأبي هريرة) واسمه عبد الرحمن على الصحيح من ثلاثين قولا ومنع هريرة من الصرف مع أنه ليس فيه من العلل إلا التأنيث لأن العلم الإضافي قد ينزل منزل كلمة ويجري عليه أحكام الأعلام. (والبراء بن عازب) وهما صحابيان أنصاريان، (وعائشة أمّ المؤمنين وابن أبي هالة) أي من خديجة الكبرى رضي الله تعالى عنها فهو ربيبه صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 تعالى عليه وسلم واسمه هند شهد بدرا وقتل مع علي كرم الله وجهه يوم الجمل، (وأبي جحيفة) بضم جيم وفتح حاء، (وجابر بن سمرة) بفتح فضم (وأمّ معبد) بفتح الميم والموحدة عاتكة بنت خالد وهي التي نزل عليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة وكان منزلها بقديد مصغرا (وابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما أي عبد الله (ومعرّض بن معيقيب) بتشديد الراء المكسورة والتصغير في معيقيب وقال التلمساني معرض بكسر الميم وفتح الراء وهو مخالف للأصول المصححة وللحواشي المصرحة. (وأبي الطّفيل) مصغرا واسمه عامر بن وائلة مات بمكة وهو آخر من مات من الصحابة في الدنيا شيعي تفضيلي (والعداء بن خالد) بفتح عين وتشديد دال مهملتين ممدودا (وخريم بن فاتك) بكسر التاء وتصغير خريم بالخاء المعجمة والراء (وحكيم بن حزام) بكسر الحاء وبالزاء ولد في الكعبة قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة ولا يعرف أحد ولد في الكعبة غيره على الأشهر وفي مستدرك الحاكم أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ولد أيضا في داخل الكعبة عاش مائة وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام وروي أنه لما حج في الإسلام أهدي مائة بدنة مجللة بالخبر وأهدي ألف شاة ووقف وأعتق بمائة وصيف بعرفات في أعناقهم أطواق الفضة منقوش عليها عتقاء الله (وغيرهم) أي ومن حديث غيرهم (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم: كان أزهر اللّون) أي نيره أو أحسنه ومنه زهرة الحياة الدنيا أو أبيضه لحديث أبيض مشرب حمرة وهو أفضل ألوان البياض ومعنى قوله ليس بالأبيض الأمهق والا بالأدم بل هو أزهر وهو بين البياض والحمرة وقيل معنى أزهر ما قابل السمرة وابيض ما سواه ودليله قول عائشة رضي الله تعالى عنها كنت أدخل الخيط في الإبرة حال الظلمة لبياض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومنه قول ابي طالب في مدحه عليه الصلاة والسلام: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل (أدعج) أي شديد سواد الحدقة (أنجل) بالنون والجيم أي ذا نجل بفتحتين وهو سعة شق العين مع حسنها (أشكل) في بياض عينيه يسير حمرة ووهم سماك بن حرب ففسره في مسلم بأنه طويل شق العين (أهدب الأشفار) أي كثير شعر حروف أجفان عينيه وهو الهدب جمع شفر بضم وفتح وهو شفير حرف العين وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أن الله تعالى لا يعذب حسان الوجوه سود الحدق يعني من المسلمين قال التلمساني والظاهر أنه لا يعذبهم يعني الكافرين وهم في تلك الصورة بل يسود وجوههم ويزرق أعينهم كما يدل عليه قوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ وقوله وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (أبلج) بالموحدة والجيم أي أبلج الوجه وهو مشرقه ولم يرد أبلج الحاجبين أي نقي ما بينهما لحديث أم معبد في دلائل البيهقي وغيره أنها وصفته بأنه أبلج الوجه أقرن أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 متصل الحاجبين (أزجّ) بالزاء والجيم والمشددة أي دقيق شعر الحاجبين طويلهما إلى مؤخر العين مع تقوس (أقنى) أي مرتفع قصبة الأنف مع احديداب يسير فيها هذا والمشهور أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان اشم الانف أي مرتفع قصبته مع استواء أعلاه قال في الصحاح فإن كان فيها احديداب فهو القنى وقد يجمع بينهما بأن ارتفاعها كان يسيرا جدا من رآه متأملا عرفه اشم ومن لم يتأمله ظنه أقنى (أفلج) بالفاء والجيم أي متباعد ما بين ثناياه وقلته ممدوحة (مدوّر الوجه) أي لكن إلى الطول أميل لما ورد في شمائله أن وجهه لم يكن مدورا وقد يشبه تدوير الوجه بالدينار لاستواء دائرته (واسع الجبين) وهو ما اكتنف الجبهة من يمين وشمال فهما جبينان فيما بين الحاجبين (كثّ اللّحية) بتشديد المثلثة أي كثير شعرها بحيث (تملأ صدره) أي ما يقابلها مع قصر فيها وانبساط إذ كان يأخذ منها ما زاد على القبضة وربما كان يأخذ من أطرافها أيضا والحاصل أنه لم يكن كوسج ولا خفيف اللحية ولا مقصوصها غير نازلة إلى صدره وقال التلمساني روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال من سعادة المرء خفة عارضيه ويروى لحيته ومعناه أنها لا تكون طويلة فوق الطول وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اعتبروا عقل الرجل في ثلاث في طول لحيته ونقش خاتمه وكنيته وعن الحسن بن المثنى أنه قال إذا رأيت رجلا ذا لحية طويلة ولم يتخذ لحية بين لحيتين كان في عقله شيء وقيل ما طالت لحية إنسان قط إلا ونقص من عقله مقدار ما طال من لحيته ومنه قول الشاعر: إذا كبرت للفتى لحية ... فطالت وصارت إلى سرته فنقصان عقل الفتى عندنا ... بمقدار ما طال من لحيته (سواء البطن والصّدر) بالإضافة إليهما ونصب سواء أي كان مستويهما تلويح باعتدالهما خلقا وإشعارا بأن خروجهما أو احدهما عن الاعتدال بروزا أو تطامنا ليس بمحمود وروي برفع سواء منونا مع رفع البطن والصدر (واسع الصّدر) أي حسا ومعنى إذ وسع كل أحد شفقة وحلما (عظيم المنكبين) بكسر الكاف تثنية المنكب وهو مجمع عظم العضد والكتف (ضخم العظام) أي غليظها مطلقا وخصوصا كان (عبل العضدين) مثنى عضد بفتح وضم هو الصحيح وهو الساعد من المرفق إلى الكتف والعبل بفتح عين وسكون موحدة أي ضخمها وكذا قوله (والذّراعين) وهو ما بين مفصل الكف والمرفق (والأسافل) أي الفخذين والساقين وهذا كله مما يؤذن بكمال قوته لحديث البخاري أنه أعطي قوة ثلاثين رجلا (رحب الكفّين) بفتح الراء وسكون الحاء أي واسعهما صورة ومعنى إذ وسع كل أحد عطاء وقال الدلجي في نوع الترشيح من بديعيته. عم الورى بيد سحاء يرشحها ... عطاؤه ليس يخشى الفقر من عدم (والقدمين) أي واسعهما طولا وعرضا، (سائل الأطراف) أي تام الأيدي والأرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 والأصابع طويلها وهو بالسين المهملة وروي بالمعجمة (أنور المتجرّد) بفتح الراء المشددة أي كان ما تجرد من بدنه أشرق من غيره (دقيق المسربة) بفتح ميم وسكون سين مهملة وضم راء وقال التلمساني وبفتحها وهي خيط الشعر الذي بين الصدر والسرة ودقيق بالدال قال التلمساني ويجوز فيه الراء قلت بينهما فرق دقيق (ربعة القدّ) بفتح الراء وسكون الموحدة أي مربوع القامة كما رواه البيهقي وابن أبي حيثمة في تاريخه، (ليس) أي هو أوقده (بالطّويل البائن) أي المفرط في الطول من بان بمعنى بعد أو ظهر (ولا بالقصير المتردّد) بكسر الدال وهو الذي كأنه تردد بعض خلقه على بعض من قصره والجملة بيان لما قبلها (ومع ذلك) أي مع كونه ربعة (فَلَمْ يَكُنْ يُمَاشِيهِ أَحَدٌ يُنْسَبُ إِلَى الطُّولِ إلّا طاله) أي غلبه النبي (عليه الصلاة والسلام) في الطول مزية خص بها تلويحا بأنه لم يكن أحد عند ربه أفضل منه لا صورة ولا معنى، (رجل الشّعر) بكسر الجيم ويفتح وقد يسكن وبفتح العين وتسكن أي بين الجعودة والسبوطة، (إذا افتر) بتشديد الراء أي إذا أبدى أسنانه حال كونه (ضاحكا) أي متبسما (افترّ) أي انكشف (عن مثل سنا البرق) بقصر سنا وقد يمد وقيل بالقصر النور وبالمد الشرف والعلو أي يشبه ضوءه، (وعن مثل حبّ الغمام) أي السحاب وهو البرد بفتحتين يعني مثله في البياض والصفاء وامتزاج الماء فهو بهذا الاعتبار العالي أولى من تشبيه الأسنان باللآلي ثم التشبيه الثاني أبلغ من الأول فتأمل وقد أبعد الدلجي في تفسير حب الغمام بقطراته ثم قال شبه بياض ثغره في صفائه ونقائه بضوء البرق وما يطفو على ثناياه من ريقه بقطرات الغمام تشبيها بليغا انتهى موهما أن التركيب من التشبيه البليغ وليس كذلك كما لا يخفى على أرباب المعاني والبيان وقيل أول ما يضحك تلألأ كالبرق وإن بدت أسنانه فهو كالبرد، (إذا تكلّم رئي) بكسر راء وسكون ياء فهمزة مفتوحة وروي رئي بتقديم الهمز مجهولا من الرؤية وهو ظاهر ولعل الأول من قبيل القلب دخل فيه الاعلال قال التلمساني وهو الأفصح والمعنى ظهر (كالنّور) أي شيء مثل النور (يخرج من ثناياه) أي يبدو منها أو من سناها بكثرة بياضها وشدة صفائها أو إيماء إلى درر كلماته وغرر بنائها والحديث رواه الترمذي في شمائله والدارمي والبيهقي (أحسن النّاس) بالنصب عطفا على ما سبق ويجوز أن يكون بالرفع على أن التقدير هو أحسن الناس (عنقا) أي جيدا لاعتداله في كماله (ليس بمطهّم) بتشديد الهاء المفتوحة أي لم يكن مدور الوجه على في الصحاح وغيره وقيل هو السمين الفاحش وقيل المنتفخ الوجه وقيل النحيف الجسم، (ولا مكلثم) بفتح المثلثة أي لا بمجتمع لحم الوجه بل مسنون الوجه والحاصل أنه لم يكن وجهه مفرطا في الاستدارة وأما حديث علي وفي وجهه تدوير فمعناه أن فيه نوع تدوير أي قليلا منه وأبعد اليمني في قوله يريد عنقه أي ليس بمدور ولا بمجتمع بل إنه مستطيل (متماسك البدن) أي ليس برهل ولا مسترخ لحمه بل يمسك بعضه بعضا ويقويه ويشده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 (ضرب اللّحم) أي خفيفه ولطيفه لا يابسه وكثيفه وقيل هو اللحم بين اللحمين لا بالناحل ولا بالمطهم. (قال البراء) بن عازب أي كما رواه الشيخان وغيرهما (ما رأيت من ذي لمّة) بكسر لام وتشديد ميم وهي من شعر الرأس ما يجاوز شحمة الأذن ويلم بالمنكبين (في حلّة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) ظاهره أنها ثوب واحد بشهادة وصفها بحمراء مع اتفاق أهل اللغة أنها لا تطلق إلا على ثوبين بشهادة حديث وعليه حلة أتزر بإحديهما وارتدى بالأخرى ولك أن تجيب بأن وصفها باعتبار لفظها لا باعتبار معناها وكفى به دليلا لمن جوز لبس الأحمر بلا كراهة كالشافعي ومالك رحمهما الله تعالى كذا ذكره الدلجي وفي القاموس الحلة بالضم ازار ورداء بردا أو غيره ولا تكون حلة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة وكذا قال الخليل وغيره لأن كل واحد يحل على الآخر أو على الجسم وقيل الثوب الجديد الذي من طيه فاندفع دعوى اتفاق أهل اللغة على الإطلاق بل قال المنجاني إن هذا الحديث يرد عليهم انتهى وليس في الحديث الذي استشهد به دلالة إلا على أحد استعمال الحلة وأما كون هذا الحديث دليلا كافيا لتجويز لبس الأحمر فهو كاف مع قطع النظر عما ورد فيه أنواع من الخبر والأثر مما يدل على كراهة لبسه في الحضر والسفر مع أن الحديث ليس فيه تصريح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لبس الأحمر بل يدل على أنه ما رؤي من كان صاحب لمة ولابس حلة حمراء مع أن الحسن في تلك الحالة على غاية من الصفاء فنفى أن يكون أحسن من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أي لبس كان أو على تقدير لابسه ثم على تسليم لبسه يحمل على بيان الجواز وأن النهي وارد على سبيل الكراهة لا التحريم أو أنه قضية واقعة يحتمل وقوعها قبل النهي مع أنه قد يقال للثوب الذي فيه خطوط حمر كثيرة أنه أحمر فتدبر فإن الجمع بين الأحاديث المتعارضة هو المعتبر وقد قال أبو عبيد الحلل يرد اليمن ثم الدليل المبيح والمحرم إذا اجتمعا يقدم دليل المحظور مع أنه يكفي في دليل امتناعه التشبه بالنساء ولا شك أن تركه أحوط في حق الرجال العقلاء ومع وجود هذه الأنواع من الاحتمال كيف يكفي للاستدلال والله تعالى أعلم بالحال وأغرب الانطاكي الحنفي حيث قال في حاشيته وفي هذا دليل على جواز لبس الأحمر للرجال وادعى النووي الإجماع على جواز لبسه في المهذب انتهى ولا يخفى أن دعوى الإجماع باطلة مع وجود مخالفة الإمام الأعظم في المسألة وغيره من الأئمة ولعله أراد به الاتفاق في مذهبه والله تعالى أعلم بمقاله ومشربه هذا وقد قال المنجاني وقد اختلف السلف الماضون في ذلك فكره بعضهم لبسها هي والمصبوغة بالصفرة وأجازهما قوم آخرون وفرق بعضهم في هذا بين المشبع في الصبغ وغير المشبع فأجاز ما لم يكن مشبعا وكره ما أشبع صبغه ورأى آخرون أن ما اتخذ من هذه الثياب للمهنة جاز مطلقا وما اتخذ للباس كره ودليل الأولين ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أن يتعصفر الرحل ويتزعفر وروي في الصحيح عن ابن عمر قال رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على ثوبين معصفرين فقال الفقهاء فإنها ثياب الكفار وقال إبراهيم الخزاعي حدثتني عجوز قالت كنت أرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى على الرجل الثوب المعصفر ضربه وقال دعوا هذه الثياب للنساء وأما ما ذكره المنجاني من نسبة عدم الكراهة لأبي حنيفة فغير صحيح والله تعالى أعلم. (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) والمساواة منفية أيضا بالمشاهدة العرفية (كأنّ الشّمس تجري في وجهه) أي يتوهج كتوهج الشمس لحسنه وصفائه وبهاء ضيائه وقال التلمساني وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم هبط علي جبريل فقال يا محمد إن الله تعالى يقول كسوت حسن يوسف من نور الكرسي وكسوت نور وجهك من نور عرشي، (وإذا ضحك يتلألأ) بهمزتين أي تلمع ثناياه كاللآلي (في الجدر) بضمتين جمع الجدار وهو حائط الدار رواه أحمد والترمذي وابن حبان. (وقال جابر بن سمرة) رضي الله تعالى عنه كما رواه الشيخان وغيرهما (وقال) أي والحال أنه قال (له رجل كان) وفي رواية أكان (وجهه صلى الله تعالى عليه وسلم مثل السّيف؟ فقال) أي جابر (لا) أي لقصور ضيائه واحتمال فناء صفائه ولتوهم طول بنائه (بل مثل الشّمس والقمر) أي بل كان نظيرهما لاشتمالهما على كمال النور وعلى نوع من الاستدارة في مقام الظهور ولذا قال تصريحا بما قدمه تلويحا، (وكان) أي وجهه (مستديرا) أي لا مستطيلا فلا ينافي ميلانه إلى الطول. (وَقَالَتْ أُمُّ مَعْبَدٍ فِي بَعْضِ مَا وَصَفَتْهُ به) أي من رواية البيهقي في دلائله عن أخيها حبيش بن خالد عنها (أجمل النّاس) أي أتمهم جمالا وحسنا صوريا (من بعيد وأحلاه) أي أحلى الناس وأفرد لأنه اسم جنس فروعي لفظه دون معناه وكذا قول (وأحسنه من قريب) أي تبين حلاوة ملاحته وطراوة فصاحته. (وفي حديث ابن أبي هالة) أي الآتي (يتلألأ) أي يضيء (وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر) خص به لأنه زمان كماله وسمي بالبدر لمبادرته الشمس للغروب ليلة تمامه ومبادرتها إياه للطلوع في صباحه (وقال عليّ رضي الله تعالى عنه) على ما في جامع الترمذي وشمائله (في آخر وصفه) أي نعت علي له صلى الله تعالى عليه وسلم (من رآه بديهة) أي مفاجأة من غير روية كناية عن أول الوهلة (هابه) أي خافه مخافة العظمة ووقع في قلبه منه المهابة (ومن خالطه معرفة) أي من حيث عرف ما كان عليه من حسن العشرة ودوام البشاشة فنصبها على التمييز وأبعد التلمساني في جعلها مفعولا له أو حالا (أحبّه، يقول ناعته) أي واصفه (لم أر) أحدا من الناس (قبله ولا بعده مثله صلى الله تعالى عليه وسلم) لكرم شمائله وشرف فضائله والمراد من قوله قبله أي قبل وجوده ولا بعده استيفاء زمانه وإلا فعلي كرم الله وجهه أصغر سنا منه صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا إذا كانت الرؤية بصرية وأما إذا كانت علمية فلا إشكال والله أعلم بالحال. (والأحاديث في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 بسط صفته) أي تفصيل نعوته (مشهورة) أي عند المحدثين (كثيرة) أي عند المؤرخين (فلا نطيل) أي الكتاب (بسردها) أي بذكرها متصلة مفصلة في الأبواب (وقد اختصرنا) أي أوردنا على وجه الاختصار (في وصفه نكت) وفي نسخة على نكت (ما جاء فيها) بضم النون وفتح الكاف جمع نكتة أي لطائف ودقائق ما ورد في تلك الأحاديث (وجملة) أي وأوردنا جملة مجملة (ممّا فيه كفاية) ومن بيانية أو تبعيضية (في القصد إلى المطلوب) أي من وصف المحبوب، (وختمنا هذه الفصول) أي الكافلة باعتبار كل فصل بإبراز ما ورد في وصفه وفضله (بِحَدِيثٍ جَامِعٍ لِذَلِكَ نَقِفُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شاء الله تعالى) . فصل [وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه عليه الصلاة والسلام] (وأمّا نظافة جسمه) أي لطافة بدنه، (وطيب ريحه) أي الخارج منه (وعرقه) أي وطيب عرقه وهو بفتحتين رطوبة تلحق الإنسان بسبب حرارة أو غيرها، (ونزاهته) أي تباعده وبراءته (عن الأقذار) بالذال المعجمة أي الأوساخ والأدناس الحسية المعنوية بل كما قيل عن الأنجاس الحقيقية (وعورات الجسد) أي ونزاهته عيوب توجد في أجساد الناس مما يشين الإنسان والعورة بسكون الواو ويحرك مأخوذة من العار الذي يلحق الذم بسببه كنقص فيه وخلل في عضو منه (فكان قد خصّه الله في ذلك) أي ما ذكر (بخصائص لم توجد في غيره) الجملة صفة كاشفة لما قبلها (ثمّ تمّمها) أي كمل تلك الخصائص الحسية (بنظافة الشّرع) أي بلطائف الآداب الشرعية والخصائص المعنوية التي من جملتها قوله (وخصال الفطرة) وهي أصل الخلقة فإن الله تعالى خلق عباده قابلين للحق حتى لو خلوا وما خلقوا عليه لاهتدوا به كما ورد حديث كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه الحديث وقال تعالى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وقال أبو بكر ابن العربي هي عبارة عن أصل الخلقة فإن الإنسان يخلق سليما من عشرة أقذار ثم تطرأ عليه ثم أمر بالتنظيف منها أو المراد بالفطرة هي الإسلام والمذكورة في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم عشر من الفطرة ولذلك أتى بالألف واللام للمعهود علما كقوله تعالى إِذْ هُما فِي الْغارِ وإن لم يتقدم لها ذكر فقد علم ضرورة فالمعنى خصال دينية (العشر) أي خصوصا لما في مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الابط وحلق العانة وانتقاص الماء قال مصعب بن شيبة راويه ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة وقال وكيع انتقاص الماء يعني الاستنجاء وروى أبو داود نحوه إلا أنه قال بدل انتقاص انتضاح وفي رواية انتقاض بفاء وضاد معجمة وكلها كناية عن الاستنجاء هذا وحلق اللحية منهي عنه وأما إذا طالت زيادة على القبضة فله أخذها هذا وقال المؤلف في شرح مسلم ولعل العاشرة الختان لأنه مذكور في قوله عليه الصلاة والسلام الفطرة خمس أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 خمس من الفطرة قلت فإذن يعد المضمضة والاستنشاق خصلة واحدة لاتحاد حكمهما والله تعالى أعلم. (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والأولى قد بدون واو (بني الدّين على النّظافة) أي الطهارة الباطنة والظاهرة وهذا الحديث وإن قال العراقي في تخريج أحاديث الاحياء لم أجده هكذا بل في الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها تنظفوا فإن الإسلام نظيف وللطبراني في الأوسط بسند ضعيف من حديث ابن مسعود رضي الله عنه النطافة تدعو إلى الإسلام انتهى فقد روى الرافعي في تاريخه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه بعض حديث مرفوعا تنظفوا بكل ما استطعتم فإن الله تعالى بنى الإسلام على النظافة ولن يدخل الجنة إلا كل نظيف وينصره حديث الترمذي أن الله نظيف يحب النظافة فنظفوا أفنيتكم (حدّثنا سفيان بن العاصي) بتثليث سين سفيان سمع الباجي وابن عبد البر وغيرهما وأخذ عنه المصنف وأكثر (وغير واحد) أي كثيرون من مشايخنا (قالوا حدّثنا أحمد ابن عمر) صاحب كتاب الاعلام بأعلام النبي عليه السلام (قال حدّثنا أبو العبّاس الرّازيّ) وهو ابن بندار الخراساني، (قال حدّثنا أبو أحمد الجلوديّ) بضم الجيم بلا خلاف ذكره الدلجي وغيره قال التلمساني بضم الجيم وفتحها منسوب لجلود قرية ببغداد وقيل بالشام وقيل سكة نيسابور الدراسة وقيل بإفريقية وقيل كان يبيع الجلود وكان شيخا صالحا نيسابوريا ينتحل مذهب سفيان الثوري (قال حدّثنا ابن سفيان) أي المروزي النيسابوري (قال حدّثنا مسلم) أي النيسابوري صاحب الصحيح روى عن أحمد بن حنبل وغيره وعنه الترمذي وابن خزيمة وأبو عوانة وغيرهم (قال حدّثنا قتيبة) هو ابن سعيد الثقفي البلخي يكنى أبا رجاء سمع الليث ومالكا وابن عيينة وغيرهم (حدّثنا جعفر بن سليمان) الضبعي سمع ثابتا البناني ومالك بن دينار وروى عنه ابن المبارك قيل مع كثرة علمه كان أميا (عن ثابت) هو ثابت كاسمه وهو ابن أسلم البناني بضم الموحدة يروي عن أنس وابن عمر وابن الزبير وخلق وعنه الحمادان وأمم وكان رأسا في العلم والعمل يلبس الثياب الفاخرة ويقال لم يكن في وقته أعبد منه أخرج له الجماعة وهو ثقة بلا مدافعة (عن أنس) خادم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جاوز عمره المائة وكذا أولاده وفي الصحابة من اسمه أنس اثنان وعشرون وفيهم أنس بن مالك اثنان هذا وهو المشهور وأنس بن مالك أبو أمية القشيري وقيل الكعبي وانتقل أنس إلى البصرة في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه ليفقه الناس بها وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة، (قال ما شممت) بكسر ثانية ويفتح (عنبرا) هو شيء لفظه البحر أي رمى به ويقال إنه روث دابة من دواب البحر ولا يصح وأصول الطيب خمسة أصناف المسك والكافور والعود والعنبر والزعفران وكلها تحمل من أرض الهند إلا الزعفران والعنبر وأجود العنبر هو المدور الأبيض كبيض النعام أو دون ذلك (قطّ) أي فيما مضى من عمري وهو بفتح قاف وتشديد طاء مهملة مضمومة وتنون وهي للأبد لما مضى وقد تكسر الطاء ويضمان وتخفف الطاء مع ضمها وإسكانها (ولا مسكا) وأطيب المسك ما خرج من الظباء بعد بلوع النهاية في النضج وغزلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 المسك نوع خاص من الظباء (ولا شيئا) أي آخر من أنواع الطيب (أطيب) أي أفيح (من ريح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وتتمته ولا مست قط ديباجا ولا حريرا ولا شيئا ألين لمسا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والحديث كما ترى في مسلم وكذا في الشمائل. (وعن جابر بن سمرة) أي فيما رواه مسلم أيضا عنه قال صليت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم خرج وأنا معه فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا وأما أنا فمسح خدي فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جونة عطار كذا في مسلم أو ريحا بالألف وكثيرا ما يوجد بدونها فلعله رواية فيه ولهذا رواه بلفظ (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم مسح خدّه) أي جانب وجهه مما يلي الوجنة من الأسفل (قَالَ فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا وَرِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا من جؤنة عطّار) وهو بضم الجيم وسكون الواو وقد تهمز أو همزتها أصلية وقد تبدل لا أنها تحذف كما قال الدلجي وهي سفط مغشي بجلد يجعل فيه العطار طيبه والعطار فعال نسبة لا مبالغة، (قال غيره) أي غير جابر بن سمرة (مسّها بطيب أم لم يمسّها يصافح) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (المصافح) أي له (فيظلّ) بفتح معجمة وتشديد لام يقال ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا ففي الكلام تجريد أو تأكيد وقد يجيء بمعنى دام وصار والمعنى فيصير ذلك المصافح له (يومه) أي طول نهاره (يَجِدُ رِيحَهَا، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ) أي مثلا (فيعرف) بصيغة المجهول أي فيميز (من بين الصّبيان) بكسر الصاد ويضم جمع الصبي (بريحها) أي بسبب ريح يده صلى الله تعالى عليه وسلم على رأس ذلك الصبي (ونام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما رواه مسلم (في دار أنس) أي على فراش أمه أم سليم بضم السين بنت ملحان بكسر الميم وقيل بفتحها وأما ما وقع في بعض كتب الشافية أن أم سليم جدة أنس رضي الله تعالى عنه فخطأ (فعرق) بكسر الراء (فجاءت أمّه) أي أم أنس (بقارورة) أي بإناء من زجاج (تجمع فيها عرقه) أي تبركا وتطيبا (فسألها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك) أي عن جمعها إياه المستفاد من الفعل (فقالت نجعله في طيبنا وهو) أي طيبه أو طيبنا باختلاط طيبه (من أطيب الطّيب) بل أطيب وفي رواية نرجو بركته لصبياننا زاد البخاري فأوصى أنس أن يجعل منه في حنوطه قال الدلجي وإنما نام على فراشها لأنها وأختها أم حزام كما في إكمال المصنف خالتاه من الرضاعة وأنكر فإن صح ففي الحديث جواز الخلوة بمن بينها وبينه محرمية أو النوم عندها لعصمته صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى وهو غريب إذ ليس في الحديث ما يدل على وقوع الخلوة مع أن جوازها مع المحرم لا يعرف له خلاف وقد ورد لا يخلون رجل بامرأة ثيب إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم ثم قوله لعصمته ينافي ما استدل به على جوازه لكونها علة لاختصاصه فكان حقه أن يقول وإلا أي وإن لم يصح فالنوم عندها لعصمته صلى الله تعالى عليه وسلم هذا وفي صحيح مسلم أنه كان يدخل بيت أم سليم وينام على فراشها إذا لم تكن فيه فجاء ذات يوم فنام عليه فأتت فقيل لها هذا النبي نائم على فراشك فجاءت وقد عرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الحديث. (وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ عَنْ جَابِرٍ) أي ابن عبد الله صحابيان أنصاري آخر من مات بالمدينة من الصحابة وعنه استغفر لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خمسا وعشرين استغفارة كل ذلك أعده بيدي يقول أديت عن أبيك دينه فأقول نعم فيقول يغفر الله لك (لم يكن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يمرّ في طريق) أي من طرق المدينة وغيرها (فيتبعه) بتخفيف التاء وفتح الباء وبتشديد التاء وكسر الباء ويرفع وينصب أي فيجيء عقبه (أحد إلّا عرف) أي ذلك الأحد (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (سلكه) أي دخل ذلك الطريق ومر به (من طيبه) متعلق بعرف أي من أجل طيبه وبسببه وروى البزار وأبو يعلى بسند جيد عن أنس رضي الله عنه كان إذا مر في الطريق من طرق المدينة وجد فيه رائحة الملك فيقال مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من هذا الطريق. (وذكر إسحاق بن راهويه) بضم هاء ثم فتح ياء وتاء على الصحيح وهو مروزي عالم خراسان روى عنه الجماعة إلا ابن ماجة (أنّ تلك) أي الرائحة (كانت رائحته) بالنصب وفي نسخة أن تلك رائحته أي في اصل خلقته (بلا طيب صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من غير استعمال طيب في ثوبه أو بدنه وروى ابن أبي بكر في سيرته أن أم سلمة وضعت يدها على صدر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته فمكثت جمعا لا تأكل ولا تتوضأ إلا وجدت ريح المسك بين يديها. (وروى المزنيّ) بضم ميم وفتح زاي فنون وياء نسبة مصري كان ورعا زاهدا مجاب الدعوة متقللا من الدنيا قال الشافعي رحمه الله في حقه لو ناظر الشيطان لغلبه له تصانيف كالمبسوط والمختصر وغيرهما وصنف كتابا مفردا على مذهبه لا على مذهب الشافعي وهو مدفون بالفراقة بالقرب من قبر الشافعي وفي نسخة صحيحة الحربي وهو بحاء مهملة وباء موحدة وهو إبراهيم بن إسحاق حنبلي المذهب أصله من مرو ونسب إلى الحربية وهي محلة معروفة ببغداد وهي تنسب إلى حرب بن عبد الله صاحب المنصور (عن جابر أردفني النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي أركبني (خلفه) الردف بكسر الراء من يركب خلف راكب يقال اردفني فردفني (فالتقمت خاتم النّبوّة) بفتح التاء وكسرها يقال لقمه والتقمه أي أدخله في فمه كاللقمة والمراد بخاتم النبوة الذي كان كالتفاحة أو بيضة الحمامة أو كرز الحجلة بين كتفيه وقد أوضحته في شرح الشمائل (بفمي) وفي نسخة بفي بكسر الفاء وتشديد الياء وذكره من باب التأكيد كقولهم رأيت بعيني وسمعت بأذني (فكان) أي الخاتم (ينمّ) بكسر النون وتضم وبتشديد الميم أي يجلب الريح ويفوح (عليّ مسكا) أي ريح مسك أو كمسك ومنه النميمة والطيب نمام أي يفوح وإن لم يرد صاحبه ذلك والزجاج كذلك لأن المرآة ترى للإنسان ما فيه من حسن أو قبح ولا تستر شيئا وفي المثل أتم من الزجاج وفي رواية يثج بضم مثلثة وقد تكسر أي يسيل تشبيها له بثج دماء الهدي أي سيلانها بسرعة ومعناه ههنا يفوح وتسطع رائحته بكثرة هذا وقد جمع بعضهم من أردفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فبلغ نيفا وثلاثين ولم يذكر منهم جابرا (وقد حكى بعض المعتنين) اسم فاعل من الاعتناء أي المهتمين (بأخباره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وشمائله) أي سيره وأثاره (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يتغّوط) أي يريد إخراج الغائط وهو ما يبرز من ثفل الطعام من المحل المعتاد ويطلق على المطمئن من الأرض كما في قوله تعالى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (انشقّت الأرض فابتلعت غائطه وبوله وفاحت) بالفاء وفي نسخة بالباء الموحدة بدل الفاء أي ظهرت (لذلك رائحة طيّبة صلى الله تعالى عليه وسلم) ذكره البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وقال أنه موضع كما سيأتي. (وأسند محمّد بن سعد) روى عن ابن عيينة وعنه ابن أبي الدنيا (كاتب الواقدي) وهو صاحب الطبقات وله تأليف جيد مفيد في تعريف رجال الحديث قال ابن جماعة هو ثقة لكنه يروي عن الضعفاء منهم شيخه محمد بن عمر الواقدي والواقدي ولي القضاء ببغداد للمأمون وروى عن مالك حديثا كثيرا وروى عنه الشافعي وغيره واستقر الإجماع على ضعفه كما في الميزان (في هذا) أي في أن الأرض تبتلع ما يخرج منه وتفوح له رائحة طيبة (خَبَرًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قالت للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إنّك تأتي الخلاء) هو بالمد (فلا نرى منك شيئا) ويروى فلا يرى منك شيء (من الأذى) بالقصر وهو ما يكره ويغتم به، (فقال يا عائشة أو ما) أي أجهلت وما (علمت أن الأرض تبتلع) وفي نسخة تبلع بفتح اللام (مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يُرَى مِنْهُ شيء) وروى الدارقطني في إفراده عنها قالت قلت يا رسول الله أراك تدخل الخلاء ثم يجيء الرجل يدخل بعدك فما يرى لما خرج منك أثرا فقال أما علمت أن الله أمر الأرض أن تبتلع ما خرج من الأنبياء. (وهذا الخبر) أي الذي أسند ابن سعد (وإن لم يكن مشهورا) أي معروفا بين المحدثين وليس المراد به المشهور المصطلح عندهم نعم قال ابن دحية بعد أن أورده هذا سند ثابت قيل وهو أقوى ما في الباب ومع هذا (فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِطَهَارَةِ هذين الحدثين منه صلى الله تعالى عليه وسلم) عبر عن الخارجين بهما استهجانا للتصريح باسمهما (وهو قول بعض أصحاب الشّافعي رحمه الله) وعليه كثير من الخراسانيين لكن المعتمد في المذهب خلافه كما ذكره الدلجي وقال أبو بكر بن العربي بول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونحوه طاهران وهو أحد قول الشافعي وقال النووي في الروضة إن بوله ودمه وسائر فضلاته طاهرة على أحد الوجهين وفيه أن الحديث السابق لا يدل على المدعي كما لا يخفى بل على ضده كما يدل عليه الابتلاع اللهم إلا أن يقال الريح الطيبة تدل على الطهارة وفيه بحث نعم قال البغوي بذلك مستدلا بشهادة الاستشفاء ببوله ودمه على ما نقله الدلجي وقرره وفيه نظر أيضا من جهة عدم لزومه إذ وقع الاستشفاء ببول الإبل والجمهور ومنهم القائل به على نجاسته. (حكاه) أي القول بطهارتهما (الإمام أبو نصر بن الصّبّاغ) بالباء الموحدة المشددة (في شامله) هو بغدادي شافعي المذهب له تآليف منها الشامل ومنها الكامل. (وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ عَنِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ) أي في كونهما طاهرين أو نجسين (أبو بكر) وفي رواية ابو الحسن (بن سابق) بكسر الموحدة (الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَدِيعُ فِي فُرُوعِ الْمَالِكِيَّةِ وتخريج ما لم يقع لهم) أي للمالكية (منها) أي من الفروع التي هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 (على مذهبهم) أي ولم يخرجوها وإنما خرجت (من تفاريع الشّافعيّة) والظاهر المتبادر أن قوله وتخريج مجرور عطفا على فروع كما أشار إليه التلمساني وصرح به الانطاكي وأبعد الدلجي وجعله منصوبا عطفا على القولين ثم قال والتخريج في اصطلاحهم أن ينص الشافعي على حكمين مختلفين في صورتين متشابهتين ولم يظهر لهم ما يصلح فارقا بينهما فينقلوا نصه في كل صورة منهما إلى الأخرى كمسألتي الاجتهاد في الأواني والقبلة إذ قد منع في الأولى العمل بتغيير الاجتهاد وجوزه في الثانية فنقلوا منعه في تلك إلى هذه وتجويزه في هذه إلى تلك فصار في كل قولين منصوص عليهما ومخرج المنصوص في كل هو المخرج في الأخرى، (وشاهد هذا) أي دليل هذا القول على طهارة ما ذكر (أنّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ يُكْرَهُ ولا غير طيّب) وفيه أنه منقوض بما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبأنه كان يستنجي بنحو حجر ومدر وأيضا أنه لو كان الخارجان منه طاهرين لما كانا حدثين ناقضين كالعرق والدمع والبزاق والمخاط ونحوها والإجماع على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم في نواقض الوضوء كالأمة إلا ما صح استثناؤه كالنوم بدليل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينام عيناه ولا ينام قلبه كما سيأتي. (ومنه) أي ومن الشاهد بأنه لَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ يُكْرَهُ وَلَا غَيْرُ طيب (حديث عليّ رضي الله عنه) أي فيما رواه ابن ماجة وأبو داود في مراسيله أنه قال (غسّلت النّبيّ عليه الصلاة والسلام) بتشديد السين وتخفيفها وهو أظهر (فذهبت) أي شرعت وقصدت (أنظر ما يكون من الميّت) أي من خروج دم وغيره من النجاسات عند خروج روحه أو حين غسله (فلم أجد شيئا) أي منها خرج منه، (فقلت طبت حيّا وميّتا) ونصبهما على الحال أو على نزع الخافض أي في الحياة والممات أو على التمييز ذكره التلمساني ولا يخفى بعد ما عدا الأول فتأمل فإنه موضوع زلل ومحل خطل ثم أنت ترى أن هذا الحديث لا يصلح أن يكون شاهدا كما لا يخفى وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه حين غسل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مسح بطنه فلم يجد شيئا فقال طبت حيا وميتا وفي رواية فاح ريح المسك في البيت لما في بطنه قيل وانتشر في المدينة (قال) أي على (وسطعت) أي ارتفعت وانتشرت وفاحت (مِنْهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ لَمْ نَجِدْ مِثْلَهَا قَطُّ ومثله) أي ومثل قول علي طبت حيا وميتا (قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قبّل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته) رواه البزار عن ابن عمر بسند صحيح وهو بعض خبر في البخاري (ومنه) أي ومن الشاهد (شرب مالك بن سنان) بكسر السين المهملة وأما الشرب فبضم المعجمة ويجوز فتحها وكسرها (دمه) أي دم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يوم أحد ومصّه إيّاه) قيل شربه ابتلاعه ومصه أخذه من الجرح بفيه أو شربه ابتلاعه دفعة ومصه ابتلاعه قليلا قليلا وروي إذ ذلك مرفوعا من مس دمه دمي لم تصبه النار (وتسويغه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تجويزه (ذَلِكَ لَهُ. وَقَوْلُهُ لَهُ لَنْ تُصِيبَهُ النَّارُ) رواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري عن أبيه مالك بن سنان وقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 مالك يوم أحد وهو جبل معروف يخفف ويثقل وقيل يخفف ذكره التلمساني والتشديد فيه غريب ورواه البيهقي عن عمر بن السائب ثم في الحديث قد يقال إن الضرورات تبيح المحظورات، (ومثله) وفي أصل الدلجي ومنه أي ومن الشاهد كما رواه الحاكم والبزار والبيهقي والبغوي والطبراني والدارقطني وغيرهم فالعجب من ابن الصلاح أنه قال هذا حديث لم أجد له أصلا بالكلية وهو في هذه الأصول (شُرْبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ دَمَ حِجَامَتِهِ فقال له عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ وَوَيْلٌ لهم منك ولم ينكر عليه) وفيه أن هذا حكم مسكوت عنه بعد وقوعه ولم يدخل تحت تقريره إذ لم يطلع على شربه حال فعله مع أن في قوله وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْكَ نوع نكير عليه إذ الويل الفضيحة المترتبة على الفتنة وروى الزبير بن بكار أنه حين ولدته أمه رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال هو هو فسمعته أمه فامسكت عن إرضاعه فقال أرضعيه ولو بماء عينيك كيس كيس بين ذئاب في ثياب ليمنعن البيت وليقتلن دونه وهذا مما أخبر به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من المغيبات إذ قد بويع له بالخلافة سنة خمس وستين بعد وفاة معاوية وأطاعه أهل الحجاز واليمن والعراقين وخراسان وحج بالناس ثماني سنين ثم وقعت الفتنة وعمرو بن سعيد على المدينة نائبا لعبد الملك بن مروان فكان يبعث البعوث إليه منها إلى مكة حتى أرسل له عبد الملك الحجاج فابتدأ حصاره غرة ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وحج تلك السنة الحجاج ووقف بعرفة عليه درع ومغفر ولم يطف الناس بالبيت في تلك الحجة فحاصره ستة اشهر وسبعة عشر يوما ثم قتل في نصف جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين وعمره اثنتان وسبعون سنة وايام على ما ذكره الدلجي وروى الشعبي قال هاج الدم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فحجمه أبو طيبة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اشكموه فأعطوه دينارا وقال ابن الزبير واره يعني الدم قال فتوارى ابن الزبير فشرب الدم فبلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعله فقال اما إنه لا تصيبه النار أو لا تمسه النار قال الشعبي فقيل لابن الزبير كيف وجدت طعم الدم فقال أما الطعم فطعم العسل وأما الرائحة فرائحة المسك أقول فهذا من باب قلب الأعيان الذي عد من معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبهذا يندفع نزاع الفقهاء ويؤيده ما ذكره التلمساني عن عائشة رضي الله تعالى عنها وذكرت أنها لا تجد في الخلاء شيئا فقال أنا معاشر الأنبياء تنبت أجسادنا على أرواح الجنة فما خرج منها من شيء ابتلعته الأرض ولكن رواه البيهقي في الدلائل عنها ثم قال هذا من موضوعات الحسين بن علوان لا ينبغي ذكره ففي الأحاديث الصحيحة المشهورة من معجزاته كفاية عن كذب ابن علوان انتهى وروي أن رجلا قال رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أبعد في المذهب فلما خرج نظرت فلم أر شيئا ورأيت في ذلك الموضع ثلاثة أحجار اللاتي استنجى بهن فأخذتهن فإذا بهن يفوح منهن روائح المسك فكنت إذا جئت يوم الجمعة المسجد أخذتهن في كمي فتغلب رائحتهن روائج من تطيب وتعطر (وقد روي نحو من هذا عنه) أي عن النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 صلى الله تعالى عليه وسلم (في امرأة شربت بوله) أي من غير علم بأنه بول كما سيأتي (فقال لها لن تشتكي) بإسكان الياء على أن النون حذفت للناصب (وجع بطنك أبدا) وفي رواية لن تلج النار بطنك والحديث رواه الحاكم وأقره الذهبي والدارقطني. (ولم يأمر واحدا منهم) أي أحدا ممن شربه وفيه تغليب الرجال على النساء (بغسل فمه) لا دلالة في الأحاديث على الأمر ولا على عدمه مع أن غسل الفم من البول كان عندهم من قبيل المعلوم بالضرورة وعلى تسليم عدم الأمر لا يثبت طهارته لاحتمال الذهول أو للاعتماد على الظهور إلا أن يثبت أنه رأى أحدا منهم يصلي من غير غسل فم مثلا وسكت عليه وأقره كما هو مقرر عند أرباب الأصول، (ولا نهاه) أي أحدا (عن عودة) أي عن عود شرب بوله وفيه أنه لا يحتاج إلى النهي عن العود إلا إذا وقع ذلك الفعل عن العمد من غير ضرورة ولا حالة جذبه وسيأتي اعتذارها بأنها شربته بغير علمها وفي نسخة صحيحة بلفظ عودة بالتاء للوحدة هذا وروى ابن عبد البر أن سالم بن أبي الحجاج حجمه صلى الله تعالى عليه وسلم ثم ازدرد أي ابتلع دمه فقال أما علمت أن الدم كله حرام وفي رواية لا تعد فإن الدم كله حرام. (وَحَدِيثُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي شَرِبَتْ بَوْلَهُ صَحِيحٌ) أي ولصحته (ألزم الدّارقطني) بفتح الراء وتسكن نسبة إلى دار قطن محلة ببغداد وهو صاحب السنن وروى عنه الحاكم وأبو ذر الهروي وأبو نعيم وغيرهم (مسلما، والبخاري) أي كلا منهما (إخراجه) أي تخريج الحديث وذكره بإسناده (في الصّحيح) أي في كل من صحيح البخاري ومسلم إذ رجاله كرجالهما في الضبط والعدالة وغيرهما لكن إنما يتوجه هذا الإلزام عليهما لو التزما تخريج جميع الصحيح ولم يلتزماه والحاصل أن هذا الحديث في مرتبة الحديث الذي اتفق عليه الشيخان من كمال الصحة وإن لم يخرجاه في جامعيهما لكن انتقد عليه فإنه جاء من جهة أبي مالك النخعي وأنه ضعيف وفي علل الدارقطني أيضا أنه مضطرب من جهة أبي مالك والله تعالى أعلم، (واسم هذه المرأة بركة) بالفتحات (واختلف في نسبها) فقيل هي بنت يسار مولاة أبي سفيان بن حرب بن أمية كانت هي وزوجها قيس بن عبيد الله هاجرا مع أم حبية بنت مولاها ابي سفيان وزوجها عبيد الله بن جحش فلما تنصر زوج أم حبيبة وبقيت على الإسلام خطبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فزوجها له النجاشي واصدقها عنه أربعمائة دينار أو اربعمائة أوقية ذهب ثم بعثها إليه مع شرحبيل ابن حسنة وقدمت بركة هذه معها وكانت تخدمها وتخدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهي اسم لثلاثة منهن أم أيمن (وقيل هي أمّ أيمن) أي الحبشية مولاته وحاضنته ومرضعته ورثها من أبيه ثم أعتقها لما تزوج خديجة فتزوجها عبيد بن زيد من بني الحارث فولدت له أيمن وبه كنيت ثم تزوجها بعد النبوة زيد بن حارثة فولدت له أسامة حبه صلى الله تعالى عليه وسلم وإلى هذا القول ذهب ابن عبد البر وغيره وقال الواقدي كانت أم أيمن عسيرة اللسان فكانت إذا دخلت قال سلام اللا عليكم يعني سلام الله عليكم فرخص لها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن تقول سلام عليكم أو السلام عليكم كذا ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 التلمساني تبعا للحلبي وفيه أن هذا جائز لغيرها أيضا فلا وجه للترخيص لها ولعل الرخصة أن تقول سلام بدون عليكم ويؤيده قولهم إن ذلك كان تكرمة لها وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال هي أمي بعد أمي (وكانت تخدم النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بضم الدال وتكسر على ما في القاموس فاندفع قول التلمساني ولا يصح الكسر كما تقوله العامة، (قالت) أي المرأة (وكان لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قدح من عيدان) بفتح عين مهملة ووزنه فعلان أو فيعال جمع عيدانة وهي النخلة الطويلة وقيل بكسرها جمع عود (يوضع) أي القدح (تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ فَبَالَ فيه ليلة ثمّ افتقده) أي طلبه ليصبه (فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا فَسَأَلَ بَرَكَةَ عَنْهُ) أي عن بوله الذي كان في القدح (فَقَالَتْ قُمْتُ وَأَنَا عَطْشَانَةٌ فَشَرِبْتُهُ وَأَنَا لَا أعلم) أي أنه بول قال الدلجي تبعا لغيره من المحشيين الصواب عطشى لأنه مؤنث عطشان إلا أن تكون لغة قلت الصواب إن عطشانة جاء في لغة كما في القاموس وقيل هي لغة بني أسد ثم القدح إناء يشرب منه ويقال للصغير الغمر بضم الغين وهو أول الأقداح وهو الذي لا يبلغ الري ثم القعب وهو قد روى الرجل ثم القدح وهو يروي الاثنين والثلاثة ثم غيرها على ما في كتب اللغة والسرير مرفع يصنع من خشب ويوضع في ناحية من البيت أو السطح يتخذ للرقاد وقاية من الأض وما فيها. (روى حديثها) أي بكماله (ابن جريج) بالجيمين مصغرا مجمع على كونه ثقة ولد سنة ثمانين ومات سنة خمسين ومائة روى عن مجاهد وعطاء وطاوس وابن أبي مليكة وعنه ابن عيينة والثوري وغيرهما وهو مجمع على ثقته وهو أول من صنف الكتب في الإسلام وقد روى عن حكيمة بنت أميمة بنت أبي صيفي عن أمها قالت كان لرسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ يُوضَعُ تَحْتَ سريره ليبول من الليل فيه فبال فيه ليلة ووضع تحت سريره ثم افتقده فلم يجد فيه شيئا فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدمه ما فعل بالبول الذي كان في هذا القدح فقالت يا رسول الله أني شربته وروى عبد الرزاق عنه قال أخبرت أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يبول في قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره فجاء فإذا هو ليس فيه شيء فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدم أم حبيبة جاءت معها من أرض الحبشة أين البول الذي كان في القدح قالت شربته قال صحة يا أم يوسف وكانت تكنى أم يوسف فما مرضت قط حتى ماتت (وغيره) أي ورواه أيضا غير ابن جريج كأبي داود وابن حبان والحاكم عن أميمة عن أمها وروى الحاكم والدارقطني عن أم أيمن قالت قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الليل إلى فخارة في جانب البيت فبال فيها فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر فلما اصبح قال يا ام أيمن قومي فأهرقي ما في تلك الفخارة قد والله شربته فضحك ثم قال أما والله لا يجعن بطنك بعدها أبدا وهذا يدل على أنهما واقعتان وقعتا كما قال ابن دحية لبركة أم يوسف وبركة أم أيمن وينصره ما في خصائص تدريب البلقيني أنهما شربتاه هذا وقد شرب أيضا دمه عليه الصلاة والسلام أبو طيبة عاش مائة وأربعين سنة وسفينة مولى النبي صلى الله تعالى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وسلم رواه البيهقي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ذكره الرافعي في الشرح الكبير قال ابن الملقن ولم أجده في كتب الحديث (وكان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قد ولد مختونا) أي لا قلفة له (مقطوع السّرة) بضم السين رواه أبو نعيم والطبراني في الأوسط وفي دلائل البيهقي بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنه عن أبيه أنه ولد معذورا مسرورا أي مقطوع السرة مختونا يقال عذره وأعذره ختنه وروى الخطيب عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا وصححه أيضا في المختار من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوءتي وقال الحاكم تواترت الأخبار بولادته مختونا وتعقبه الذهبي بقوله ما أعلم صحته فكيف يكون متواترا قلت يجوز أن يكون الشيء متواترا عند بعض دون بعض وقيل ختن لما شق قلبه عند مرضعته حليمة أي ختنته الملائكة عندها كما ذكره التلمساني وقيل ختنه جده يوم سابع ولادته وصنع له مأدبة وسماه محمدا (وروي) في بعض الروايات (عن أمّه آمنة) بالمد على وزن فاعلة وهي بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب ولم تلد غيره صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يتزوج غيرها عبد الله على الأصح فيهما وفي اسم آمنة أمان أمته وفي حليمة حلم وفي بركة بركة فتلك آمنة من سائر النقم وذكر السهيلي أن الله عز وجل أحيى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أبويه فأمنا به ثم أماتهما وكذلك نقله السيوطي في خصائص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لكنه حديث موضوع كما صرح به ابن دحية وقد بينت هذه المسألة في رسالة مستقلة (أنّها قالت ولدته نظيفا) أي نقيا (ما به قذر) بفتحتين أي وسخ ودرن كذا رواه ابن سعد في طبقاته وروي أنه ولدته أمه بغير دم ولا وجع قال المسعودي ولد عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول من سنة أربعين من ملك كسرى نوشيروان في دار ابن يوسف وهذه الدار بنتها بعد ذلك الخيزران أم الهادي والرشيد مسجدا. (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا رَأَيْتُ فرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطّ) أي إما حياء منه أو منها أو منهما والحديث رواه ابن ماجة والترمذي في شمائله وروي عنها أنها قالت ما رأيت منه ولا رأى مني أي العورة، (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَانِي النَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بأن لا (لا يغسّله غيري) بتخفيف السين وتشديدها (فَإِنَّهُ لَا يَرَى أَحَدٌ عَوْرَتِي إِلَّا طُمِسَتْ عيناه) بصيغة المجهول وأبعد التلمساني في قوله بفتح الميم مع أنه قال والطمس المحو والمطموس العين هو الذي لا شق بين جفنيه انتهى والمعنى عميت قال الدلجي قوله فإنه علة لترك غسله لغير علي كرم الله وجهه وتحذير من إقدام غيره عليه وخصه بذاك لعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن له قدرة على غض بصره انتهى وفيه نظر لأن غض البصر من كل أحد ممكن إذا أوصاه به وفي السيرة عن يونس بن بكر أنه نودي وهو يغسله أن ارفع طرفك إلى السماء وفيه إشكال إذ لا يمكن غسله بكماله مع غض البصر ورفعه وأيضا لا يخلو من أنه يغسل مجردا أو مصحوبا بما يغطي عورته من سرته إلى ركبته أو في قميصه ولا أظن أن الاحتمال الأول يصح إذ لا يجوز لغيره أن يفعل هذا به فكيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 بمثله صلى الله تعالى عليه وسلم مع قوله فإنه أي الشان لَا يَرَى أَحَدٌ عَوْرَتِي إِلَّا طُمِسَتْ عَيْنَاهُ فهو بيان تنبيه لعلى وغيره ممن كان يعينه في غسله من أهل البيت أن لا يقصدوا رؤية عورته ليحترسوا ويحترزوا عن كشفها ووقوع نظرهم عليها هذا وعن ابن إسحاق لما اختلفوا هل يغسلونه في ثوبه أو لا نودوا أن اغسلوه في ثوبه انتهى والمراد بثوبه قميصه كما بينته في شرح الشمائل للترمذي، (وفي حديث عكرمة) وهو مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأحد فقهاء مكة وتابعيهم ومفسريهم لكنه أباضي خارجي (عن ابن عبّاس رضي الله عنهما) كما رواه الشيخان عنه (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم نام حتّى سمع له) بصيغة المفعول (غطيط) أي صوت يخرج مع نفس النائم (فَقَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ قَالَ عِكْرِمَةُ لِأَنَّهُ صلى الله تعالى عليه وسلم. كان محفوظا) أي من أن يخامر قلبه نوم وإن خامر عينيه لحديث أنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا وأما نومه عن صلاة الصبح في الوادي وعن صلاة التهجد أحيانا فالأظهر أنه تجديد للوضوء ويجوز أن يكون عن نقض قبله أو بعده وقيل عن مخامرة قلبه مع ندرة ليبين لأمته لكنه مردود لما سبق من عموم الأوقات المفهوم من الحديث الذي تقدم والله أعلم. فصل [وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وفصاحة لسانه واعتدال حركاته وحسن شمائله] (وأمّا وفور عقله) أي زيادته على عقل غيره (وذكاء لبّه) بفتح الذال المعجمة ممدودا أي حدة فهمه وسرعة دركه واللب أخص من العقل فإنه مختص بالعقل السليم والفهم القويم من لب الشيء خالصه وسره منه قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (وقوّة حواسّه) بتشديد السين جمع حاسة من حس بمعنى أحس وهي أسباب علمه من سمع وبصر وذوق وشم ولمس يعم جميع البدن (وفصاحة لسانه) أي حسن تعبيره وبيانه (واعتدال حركاته) أي وسكناته من قيام وقعود ومشي ورقود ونحو ذلك (وحسن شمائله) أي من خلقه وخلقه (فلا مرية) بكسر الميم وتضم كما قرئ بهما في قوله تعالى فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ إلا أن الضم شاذ أي فلا شك (أنّه كان أعقل النّاس وأذكاهم) بالذال المعجمة أي أحدهم طبعا وأطيبهم نفعا، (ومن تأمّل صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تفكر (تدبيره) أي نظره باعتبار عاقبته (أمر بواطن الخلق وظواهرهم) أي بتصرفه فيهما إلى حسن مآلهما (وسياسة العامّة والخاصّة) من سست الرعية سياسة أمرتها ونهيتها والظاهر أنها بكسر السين وأبدلت الواو ياء لحركة ما قبلها كالقيام والصيام فإنها من مادة السوس على ما في القاموس وقال الحلبي بفتح السين والظاهر أنه سبق قلم أو زلة قدم ثم المراد بالخاصة العالم والمتعلم وبالعامة من عداهم كما ورد الناس اثنان عالم ومتعلم والباقي همج رعاع اتباع لا يعبأ الله بهم وعن علي كرم الله وجهه وقد سئل عن العامة فقال همج رعاع اتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق وأجمع الناس في تسميتهم على أنهم غوغاء وهم الذين إذا اجتمعوا غلبوا وإذا تفرقوا لم يعرفوا انتهى والغوغاء مأخوذ من غوغاء الجراد لأنه يركب بعضه بعضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فسميت العامة باسمه لأجل الشبه الحاصل بينهما في الارتكاب أي يتبع بعضهم بعضا من غير فائدة ولا منفعة وإنما هم يقبلون لا لشيء ويدبرون لا لشيء (مع عجيب شمائله) أي أخلاقه العجيبة (وبديع سيره) بكسر ففتح جمع سيرة أي سيرة الغريبة (فضلا) مصدر لفعل محذوف يقع متوسطا بين نفي وإثبات لفظ ومعنى فالمعنى لم ينل أحد عقله يفضل فضلا (عمّا أفاضه) أي زيادة عما أبداه وبينه وأذاعه وأفشاه (من العلم) أي اعتقاديا وعمليا (وقرّره) أي أثبته وحرره (من الشّرع) بيان لما أفاضه وقرره وذلك كله (دون تعلّم سبق) أي له من غيره (ولا ممارسة) أي ملازمة (تقدّمت) أي منه لشيء من ذلك (ولا مطالعة للكتب منه لم يمتر) من الامتراء وهو جواب الشرط أي لم يشك (في رجحان عقله وثقوب فهمه) بضم المثلثة أي في سرعة دركه (لأوّل بديهة) أي في أول وهلة بدون تفكر ومهلة فكأنه يثقب العلم بقوة فهمه كما يثقب النجم الظلام بقوة ضوئه، (وهذا) أي ما ذكر (ممّا لا يحتاج إلى تقريره) أي ذكره وتحريره (لتحقّقه) وفي نسخة لتحققه أي لظهور تحققه وثبوت أمره عقلا ونقلا، (وقد قال وهب بن منبه) بتشديد الموحدة المكسورة وهو تابعي جليل من المشهورين بمعرفة الكتب الماضية روى عن ابن عباس وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وروى عنه ابن دينار وعوف الأعرابي وآخرون واتفقوا على توثيقه ويقال إنه ما وضع جنبيه على الأرض ثلاثين سنة وكان يقول لأن أرى في بيتي شيطانا أحب إلي من أن أرى وسادة لأنها تدعو إلى النوم وله إخوة منهم همام بن منبه وعمر بن منبه وهم من ابناء الفرس الذين بعث بهم كسرى إلى اليمين (قرأت في أحد وسبعين كتابا) أي من كتاب الله المنزلة وفي معارف ابن قتيبة قرأت من كتيب الله اثنين وَسَبْعِينَ كِتَابًا (فَوَجَدْتُ فِي جَمِيعِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم أرجح النّاس) أي الخلق (عقلا وأفضلهم رأيا) أي تدبيرا ناشئا من العقل الكامل الذي ينظر في بدء الأمر ودبره وأوله وآخره وقيل الرأي رأي القلب وهو ما رآه من حالة حسنة (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَوَجَدْتُ فِي جَمِيعِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعْطِ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ بَدْءِ الدُّنْيَا إِلَى انْقِضَائِهَا مِنَ الْعَقْلِ فِي جنب عقله صلى الله تعالى عليه وسلم إلّا كحبّة) أي لم يعطهم جميعا منه شيئا نسبته إلى عقله إلا كنسبة حبة (رمل من بين رمال الدّنيا) أي بالنسبة إلى رمالها وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس والظاهر أنه كان أفضلهم رأيا في الأمور الدينية وكذا في الأعمال الدنيوية باعتبار الأكثرية أو حالة جزمه بالقضية فلا ينافيه حديث البخاري أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رأى أهل المدينة يأبرون النخل بكسر الباء وضمها فسألهم عنه فقالوا كنا نفعله فقال لعلكم لو لم تفعلوا لكان خيرا فتركوه ففسد ذلك العام فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مثلكم فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه وإذا أمرتكم بشيء من رأيي أي مع تردد فيه وعدم جزم بحسنه فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب أي في غير ما أوحى إليه وحيا جليا أو خفيا كما أشار إليه قوله تَعَالَى قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ الآية (وقال مجاهد) أي كما رواه عنه ابن المنذر والبيهقي مرسلا بلفظ (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. إذا قام في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الصّلاة) وفي نسخة إلى الصلاة والأظهر هو الأول فتأمل (يَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يديه) من فيهما جارة ويجوز أن تكون موصولة وكذا ما ورد مثلها مما سيأتي (وبه) أي وبما ذكر من أنه يرى من خلفه (فسّر) أي مجاهد (قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 218] ) بالنصب عطفا على الضمير المفعول في قوله سبحانه وتعالى وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ والمعنى ويرى تردد بصرك في من وراءك من المصلين لتصفح أحوالهم من الكاملين والغافلين (وفي الموطّإ) للإمام مالك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (عنه عليه السّلام) وصدره أترون قبلتكم هذه فو الله لا يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم، (إنّي لأراكم من وراء ظهري ونحوه) أي نحو حديث الموطأ بحسب المعنى (عن أنس) رضي الله تعالى عنه (في الصّحيحين) وهو ما روياه عن أنس مرفوعا اقيموا الركوع والسجود فو الله اني لأراكم من بعدي وربما قال من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم، (وعن عائشة رضي الله عنها مثله) أي مثل ما في الصحيحين لفظا ومعنى (قالت) أي عائشة رضي الله تعالى عنها (زيادة) على ما سبق أي هذه المعجزة العظيمة والخصلة الكريمة زيادة فضيلة (زاده الله إيّاها في حجّته) أي لصحة نبوته (وفي بعض الرّوايات) أي لعبد الرزاق والحاكم (إِنِّي لَأَنْظُرُ مِنْ وَرَائِي كَمَا أَنْظُرُ مِنْ بين يديّ) فالموصولة متعينة فيهما وفي نسخة إلى ما وفي رواية كما انظر من بين يدي فالاحتمالان في من جائزان، (وفي أخرى) أي وفي رواية أخرى لمسلم (إِنِّي لَأُبْصِرُ مِنْ قَفَايَ كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بين يديّ وحكى بقيّ بن مخلد) بفتح الموحدة وكسر القاف وتشديد التحتية ومخلد بفتح الميم واللام بينهما خاء معجمة وهو أبو عبد الرحمن القرطبي الحافظ صاحب المسند الكبير والتفسير الجليل الذي قال فيه ابن حزم ما صنف تفسير مثله أصلا سمع ابن أبي شيبة وغيره وكان مجتهدا ثبتا لا يقلد أحدا قال ابن حزم كان بقي ذا خاصة من أحمد بن حنبل وجاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي انتهى وكان مجاب الدعوة وقيل إنه كان يختم القرآن كل ليلة في ثلاث عشرة ركعة ويسرد الصوم وحضر سبعين غزوة (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى فِي الظُّلْمَةِ كَمَا يَرَى في الضّوء) وفي رواية كما يرى في النور قال البيهقي إسناده ضعيف كما رواه أيضا من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء وقال ليس بقوي وقال ابن الجوزي لا يصح ولا ينافيه ما في روضة الهجرة للسهيلي من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما تزوج أم سلمة دخل عليها في ظلمة فأصابت رجله زينب فبكت ثم في ليلة أخرى دخل في ظلمة أيضا فقال انظروا ربائبكم لا أمشي عليها لاحتمال ما سبق على حالة من أحواله المسماة بالمعجزة والكرامة وهي لا تستدعي استيفاء الأوقات والمداومة فتحمل إحداهما على الندرة أو تخص تلك الحالة بوقت الصلاة هذا وقد ذكر النووي في شرح مسلم قال العلماء معناه أن الله خلق له صلى الله تعالى عليه وسلم إدراكا في قفاه يبصر به من ورائه وقد انخرفت العادة له صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 تعالى عليه وسلم بأكثر من هذا وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع بل ورد الشرع بظاهره فوجب القول به وذكر المصنف كما سيأتي أنه قال أحمد بن حنبل وجمهور العلماء هذه الرؤية رؤية العين حقيقة وذكر مختار بن محمود مصنف القنية الزاهد من أصحابنا الحنفية وشارح القدوري في رسالته الناصرية أنه عليه الصلاة والسلام كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط وكان يبصر بهما ولا يحجبهما الثياب (وَالْأَخْبَارُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم الملائكة والشّياطين) أما الأول فكرواية البخاري وغيره أنه رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ على كرسي بين السماء والأرض قد سد الأفق وقد رأى كثيرا منهم ليلة الإسراء وربما قيل إنه أمر فيهم ونهي وأما الثاني فكحديث البخاري أن عفريتا تفلت علي البارحة في صلاة المغرب وبيده شعلة من نار ليحرق بها وجهي فأمكنني الله منه فدفعته ثم أردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد فذكرت دعوة أخي سليمان وفي رواية لولا دعوة أخي سليمان لأصبح يلعب به ولدان المدينة؛ (ورفع النّجاشيّ) بفتح النون وتكسر وبتشديد الياء وتخفف وقيل هو أول من لقب من ملك الحبشة واسمه كما في البخاري اصحمة وقيل صحمة أو صمحة كتب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا قد بايعتك وأسلمت لله رب العالمين ورفع بصيغة المجهول والنجاشي وما عطف عليه مرفوع على نيابة الفاعل كما صرح به الحلبي وابعد الدلجي وجعله مخفوضا حيث قال وجاءت أيضا يعني الأحاديث في رفع النجاشي (له حتّى صلّى عليه) أي يوم مات في رجب سنة تسع من الهجرة وقد أخرج أبو داود من طريق يزيد بن مروان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور وأما حديث صلاته عليه فرواه الشيخان وغيرهما وبه استدل الشافعي على جواز الصلاة على الغائب وأما حديث رفعه له فظاهره أن المرفوع هو على نعشه حتى قيل إنه أحضر بين يديه فلم تقع الصلاة إلا لعى حاضر وقيل رفع له الحجاب وطويت له الأرض حتى رآه قال الدلجي وجميع ما ذكر وإن كان ممكنا وقوعه فدعوى بلا بينة إذ لم يشهد به كتاب ولا سنة ومن ثمة أنكره ابن جرير لعدم وجوده في خبر ورواية عالم في أثر وإنما الوارد في رواية أبي علي والبيهقي أن معاوية بن معاوية المزني رفع له وهو صلى الله تعالى عليه وسلم بتبوك حتى صلى عليه انتهى ولا يخفى أن ثبوت هذه القضية في الجملة مع ذلك الاحتمال ينفي التعلق بفعله صلى الله تعالى عليه وسلم في مقام الاستدلال كيف وقد جاء في المروي ما يومي إليه وهو ما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عمران بن حصين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا وصلوا عليه فقام عليه الصلاة والسلام وصفوا خلفه فكبر أربعا وهم لا يظنون أن جنازته بين يديه فهذا اللفظ يشير إلى أن الواقع خلاف ظنهم لأنه هو فائدته المعتد بها فإما أن يكون سمعه منه عليه الصلاة والسلام أو كشف له وقد صرح القسطلاني في شرح البخاري ناقلا عن أسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 النزول للواحدي عن ابن عباس قال كشف للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه وقال التلمساني ذكر ابن قتيبة في آداب الكتاب والكلاعي في النقاية أنه توفي ورفع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى صلى عليه حين منصرفه من غزوة تبوك هذا مع أنه قد يقال إن ذلك خص به النجاشي فلا يلحق به غيره ودليل الخصوصية أنه لم يصل على غائب إلا عليه وعلى بعض آخر صرح فيه بأنه رفع له كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة وابن سعد في الطبقات عن أنس أن معاوية بن معاوية المزني ويقال الليثي نزل جبريل عليه الصلاة والسلام بتبوك فقال يا رسول الله إن معاوية بن معاوية المزني مات بالمدينة أتحب أن أطوي لك الأرض فتصلي عليه قال نعم فضرب بجناحه الأرض فرفع له سريره فصلى عليه وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون الف ملك ثم رجع فقال عليه الصلاة والسلام لجبريل بم أدرك هذا قال بحبه سورة قل هو الله أحد وقراءته إياها حائيا وذاهبا وقائما وقاعدا وعلى كل حال (وبيت المقدس) بفتح الميم وكسر الدال وجوز ضم ميمه وفتح داله المشددة وهو بالرفع أي ورفع له أيضا بيت المقدس كما في الصحيحين (حين وصفه لقريش) الظاهر حتى وصفه لقريش حين كذبوه في أخباره أنه أسرى به إليه ثم إلى ما شاء الله تعالى ثم رجع إلى مكة في ليلة وارتد كثير ممن اسلم وأخبروا أبا بكر بذلك فقال لهم والله لقد صدق أنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من السماء في ساعة واحدة من ليل أو نهار فأصدقه وهو أبعد مما تعجبون منه ثم قال يا نبي الله صفه لي فإني جئته فرفع له حتى نظر إليه فطفق يصفه له ويصدقه وفي مسلم لقد رأيتني في الحجر وقريش فسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس فكربت كربة ما كربت مثلها قط فرفعه الله لي فما سألوني عن شيء منه إلا أنبأتهم به. (والكعبة) أي ورفع الكعبة له أيضا حتى رآها (حين) وفي نسخة حتى (بنى مسجده) أي بالمدينة ليجعل محرابه إليها على ما رواه الزبير بن بكار في تاريخ المدينة عن ابن شهاب ونافع بن جبير بن مطعم مرسلا قال الدلجي وهو غريب والمعروف أن جبريل هو الذي اعلمه بها واراه سمتها لا أنها رفعت له حتى رآها بشهادة ما في جامع العتبية من سماع مالك قال سمعت أن جبريل هو الذي أقام له قبلة مسجده انتهى ولا يخفى أنه يمكن الجمع بينهما بأن اخبره جبريل ثم رفع له البيت الجليل أو بأن يحمل كل قضية على مسجد من مسجد المدينة وقبا فإن قيل لا خلاف في أنه أول قدومه المدينة كان يصلي إلى بيت المقدس إلى أن حولت القبلة بعد بنائه مسجده فكيف يجعل محرابه إلى الكعبة فالجواب أنه يمكن تقديم بناء المسجد وتأخير بناء المحراب إلى الكعبة بعد التحويل مع أنه قد يقال إنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلى بعض الصلاة أول البناء إلى الكعبة ثم حول إلى بيت المقدس ثم حول إلى الكعبة ويؤيده خبر بعض نساء الأنصار كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين بنى مسجده يؤمه جبريل إلى الكعبة ويقيم له القبلة وهذا ايضا يؤيد الجمع الأول فتأمل. (وقد حكى عنه صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 تعالى عليه وسلم) قال التلمساني جاء ذلك في حديث ثابت من طريق العباس عمه عليه الصلاة والسلام ذكره ابن حيثمة (أَنَّهُ كَانَ يَرَى فِي الثُّرَيَّا أَحَدَ عَشَرَ نجما) والثريا تصغير ثروى وهي المرأة الكثيرة المال من الثروة وهي الكثرة النجم المعروف لكثرة كواكبه مع ضيق المحل وقال السهيلي الثريا اثنا عشر كوكبا وكان يراها كما جاء ذلك في حديث ثابت من طريق العباس وقال القرطبي لا تزيد على تسعة فيما يذكرونه انتهى ولعله بالنسبة إلى غيره صلى الله تعالى عليه وسلم وبالجملة فذلك لحدة بصره وقوة نظره ويقال لها النجم وهي أنجم لانها لا تفترق فهي كالواحد (وهذه) أي الأخبار المذكورة والآثار المسطورة (كلّها محمولة على رؤية العين وهو) أي هذا القول أو هذا الحمل وابعد الدلجي في قوله ذكره نظرا إلى ما بعده وهو (قول أحمد بن حنبل وغيره) أي من المحققين وهم الجمهور كما سبق والإمام أحمد من مرو وسكن ببغداد من صغره ومات بها رحمه الله تعالى وروى عنه الشيخان قال الأنطاكي تبعا للحلبي وروى عنه البغوي والظاهر أنه وهم (وذهب بعضهم) أي كالنووي في شرح مسلم (إلى ردّها إلى العلم) أي فهي رؤية علم وكشف قال المنجاني ومعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق له علما بجميع ما يفعل وراءه صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك خروج عن ظاهر الحديث وإنما تميل إليه المعتزلة لأنهم يشترطون في الإدراك بنية مخصوصة تخلق له وأغرب الدلجي في قوله أي خلق الله تعالى له في قفاء قوة إدراكية يدرك بها من ورائه على طريق خرق العادة انتهى ولا يخفى أن مآله إلى أن الرؤية بصرية وأغرب من ذلك أنه لما ذكر هذا قال وأغرب مختار بن محمود الحنفي حيث قال وكان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط لا يحجب بصرهما الثياب والله أعلم بالصواب، (والظّواهر تخالفه) أي ظواهر هذه الأخبار تخالف ما ذهب إليه البعض من العلماء الأخبار وأبعد بعضهم على ما ذكره المصنف في مشارق الأنوار حيث قال إنما هي بالتفاتة يسيرة إلى من ورائه معللا بأنه لو كان يرى من خلفه لما قال أيكم الذي ركع دون الصف فقال أبو بكر أنا يا رسول الله فقال زادك الله حرصا ولا تعد والجواب أن في نفس الحديث ما يدل على مدعانا إذ صرح بأنه رأى رجلا ركع قبل دخوله في الصف وعدم علمه بخصوص فاعله إما لبعده عنه وإما لكثرة الصفوف أو لاستغراق ونحوه مما يمنع التوجه إلى صوبه وتعمقه في قصده فرآه مجملا لا مفصلا مع أن خوارق العادات لا يلزم تحققها في جميع الأوقات وقال ابن عبد البر هذا قبل أن يمنحه الله بهذه الفضيلة فقد كانت خصائصه تتزايد في كل وقت وحين والله الموفق والمعين (ولا إحالة) مصدر أحاله والمحال هو الشيء الممتنع فالمعنى لا امتناع شرعا وعقلا وعادة (في ذلك) أي في كونه رواية عين بطريق المعجزة (وهي من خواصّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وخصالهم) أي المختصة بهم (كَمَا أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد) أي التميمي البستي (العدل من كتابه حدّثنا أبو الحسن المقرىء) أي العالم بعلم القراءة وهو نزيل مكة (الفرغانيّ) نسبة إلى فرغانة بالفتح بلد بالمغرب على ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 في القاموس وآخر بالمشرق والظاهر أنه المراد ههنا لقوله (حَدَّثَتْنَا أُمُّ الْقَاسِمِ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أبيها) وهو أبو بكر محمد بن إسحاق الكلابادي مؤلف كتاب الأخبار عن فوائد الأخيار وقيل الأخبار بفوائد الأخيار وكان بعد الأربعين والثلاثمائة (حَدَّثَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الحسني) قال التلمساني هو الشريف أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهم قلت ولا يصح هذا لأن النسخ كلها متفقة على نسخة الحسنى بفتحتين والله سبحانه وتعالى أعلم (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن محمّد بن مرزوق) هو البصري يروي عن زيد بن هارون ومحمد بن عبد الله الأنصاري (حدّثنا همام) بفتح هاء فتشديد ميم وهو ابن يحيى بن دينار العودي قال الحلبي وغيره وصوابه هانىء بن يحيى وقال التلمساني هو همام بن الحارث النخعي الكوفي سمع حذيفة وعمارا وروى عنه إبراهيم النخعي انتهى والظاهر أنه وهم منه كما لا يخفى من مرتبة الإسناد والله أعلم بالصواب والسداد في المراد (حدّثنا الحسن) أي ابن أبي جعفر الجفري كما سيأتي قريبا وهو بضم الجيم وسكون الفاء نسبة إلى مكان بالبصرة وهو أحد الضعفاء (عن قتادة) تابعي جليل (عن يحيى بن وثاب) بتشديد المثلثة ثقة مقاله خاشع مقرئ يروي عن ابن عباس وابن عمر وعلقمة وعنه الأعمش وَغَيْرِهِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لمّا تجلّى الله تعالى) أي ظهر بلا كيف (لموسى عليه السّلام) أي في ضمن تجليه للجبل كما يشير إليه قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فلا يحتاج إلى ما تكلف له الدلجي تبعا للمنجاني قوله ولا يعزب عنك أن المتجلى له كما ذكر في الآية إنما هو الجبل فالتقدير لما تجلى الله للجبل لأجل سؤال موسى أن يراه وتعسفه ظاهر مع أنه يفيد أنه لم يقع التجلي لموسى فلم يحصل ترتب بين لما وجوابها وهو قوله (كان يبصر) أي يرى كما في أصل التلمساني (النّملة على الصّفا) بالقصر أي الصخرة الملساء ولا يبعد أن يكون بالمد لمشاكلة قوله (في اللّيلة الظّلماء) أي شديدة الظلمة (مسيرة عشرة فراسخ) أي مقدارها تحديدا أو تقريبا أو تكثيرا والفرسخ فارسي معرب وهو ثلاثة أميال والميل منتهى البصر أو أربعة آلاف خطوة والخطوة ثلاثة اقدام معتدلة بوضع قدم أمام قدم يلصق به قال التلمساني يصح في شين عشرة الفتح والكسر والسكون وهو وهم منه لأن الوجوه الثلاثة إنما تجوز إذا ركبت العشرة مع غيرها من الأعداد المؤنثة المقدمة عليها كإحدى عشرة وأمثالها وأما عند الانفراد بها فلا يجوز إلا الفتح فيها ثم اعلم أن هذا الحديث رواه الطبراني في الصغير بنحوه هذا الإسناد وقال لم يروه عن قتادة إلا الحسن تفرد به هانئ قال الحلبي أما هانئ بن يحيى السلمي فذكره ابن حيان في الثقات وقال يخطئ وأما الحسن بن أبي جعفر الجفري فضعيف (ولا يبعد على هذا) أي على طبق هذا الحديث ووفقه من المعجزة المترتبة على التجلي الموجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 لتجلية الغين وتحلية العين (أن يختصّ) بصيغة الفاعل أو المفعول أي يصير مخصوصا (نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم بما ذكرناه من هذا الباب) يعني زيادة قوة باصرة ذلك الجناب وأدخل الدلجي في العبارة ما ليس في الكتاب (بعد الإسراء) أي بعد اسرائه إلى سدرة المنتهى (والحظوة) بضم الحاء وتكسر أي وبعد الحظ والحظاء (بما رأى من آيات ربّه الكبرى) أي من عجائب الملكوت وغرائب الجبروت ورؤية الرب بنظر العين أو ببصر القلب على ما تقدم والله أعلم وهذا بالنظر إلى القوى البصرية الحسية والمعنوية. (وقد جاءت الأخبار) أي الدالة على قوته البدنية كخبر أبي داود والترمذي (بأنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (صرع) أي رمى وضرب على الأرض في حالة المصارعة (ركانة) بضم الراء وهو ابن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف (أشدّ أهل وقته) أي أقواهم في غلبة المصارعة وهو بالنصب بدل ويجوز رفعه (وكان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (دعاه إلى الإسلام) جملة حالية قال الترمذي إسناده ليس بالقائم وقال البيهقي مرسل جيد وروي بإسناد موصولا إلا أنه ضعيف وفي سيرة ابن إسحاق خلا ركانة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض شعاب مكة قبل أن يسلم فقال يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه فقال لو أعلم ما تقول حقا لاتبعتك فقال أرأيت إن صرعتك تعلم أن ما أقول حق قال نعم فلما بطش به صلى الله تعالى عليه وسلم اضجعه لا يملك من أمره شيئا ثم قال عد يا محمد فعاد فصرعه أيضا فقال يا محمد إن ذا العجب فقال صلى الله تعالى عليه وسلم وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري قال ما هو أدعو لك هذه الشجرة فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يديه صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لها ارجعي مكانك فرجعت فلما رجع ركانة إلى قومه فقال يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فو الله ما رأيت اسحر منه ثم أخبرهم بما رأى قال الحجازي وأسلم قبل الفتح قبل أن توفي بالمدينة سنة أربعين في زمن معاوية وقيل إنه من أجداد الشافعي قال المنجاني ولابنه يزيد أيضا إسلام وصحبة، (وصارع) يعني أيضا (أبا ركانة في الجاهليّة) صفة للملة أو الأمة أو الفترة (وَكَانَ شَدِيدًا وَعَاوَدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ) بالنصب على نزع الخافض ويجوز رفعه أي كل ما ذكر من المرات (يصرعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) قال الدلجي هذا وخبر أنه عليه السلام صارع أبا جهل فصرعه فلم يصحا بل لا أصل لهما وفيه أنه في مراسيل أبي داود ويزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد على الشك لكن الظاهر أن الصحيح ركانة كما قاله الحلبي وغيره لا كما قاله النووي إنه الصواب والله أعلم نعم مصارعة أبي جهل لا تصح اتفاقا هذا وقد ذكر السهيلي أن أبا الأشد بن الجمحي واسمه كلدة بفتح اللام وكان بلغ من شدته فيما زعموا أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه فيتخرق الجلد ولا يتزحزح عنه وقد دعا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المصارعة وقال إن صرعتني آمنت بك فصرعه صلى الله تعالى عليه وسلم مرارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ولم يؤمن به، (وقال أبو هريرة رضي الله عنه) كما رواه الترمذي في شمائله والبيهقي في دلائله: (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم في مشيه) وفي نسخة مشيته بكسر الميم وزيادة التاء أي في هيئة مشيه وهي غير ملائمة لأسرع كما قاله المنجاني فتأمل في تحقيق المباني والمعاني (كأنّما الأرض) بالرفع لزيادة ما الكافة المانعة ما قبلها عما بعدها من العمل (تطوى له) بصيغة المجهول أي تنزوي وتجمع وتقرب وتدنو وقيل تطوى كطي الملاءة وأما المشي في الهوى وعلى الماء كما وقع لبعض الأصفياء فإنه يصدر بإذن رب السماء ثم بين وجهه بقوله، (إنّا) أي معشر الصحابة (لنجهد أنفسنا) بفتح النون والهاء وفي نسخة بضم النون وكسر الهاء من جهد دابته وأجهدها إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها فالمعنى لنتعب أنفسنا بالجهد فوق طاقتها (وهو غير مكثرث) بكسر الراء أي والحال أنه صلى الله تعالى عليه وسلم غير مبال بمشينا ولا متأثر يمشي هونا ورفقا لقوله تعالى الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ولقوله تعالى وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ومع ذلك يسبق من شاءه كرامة خص بها إذا أعطي قوة زائدة على قوى سائر البشر لحديث كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين رجلا أي في المشي والبطش والجماع ونحوها وكان يطوف على نسائه في غسل واحد وكن تسعا، (وفي صفته عليه السّلام) أي نعته من جهة حسن شمائله (أنّ ضحكه كان تبسّما) لما في البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عَنْهَا مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم ويشير إليه قوله تعالى فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً وفيه إيماء إلى أن الاقتصاد في الضحك هو الذي ينبغي وان كان الضحك جائزا لما ورد في بعض الروايات أنه ضحك حتى بدت نواجذه وعن عبد الرزاق أنه سئل ابن عمر أكان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يضحكون أي أحيانا قال نعم وأن إيمانهم لأعظم من الجبال نعم يكره الاكثار منه كما قال لقمان لابنه إياك وكثرة الضحك فإنها تميت القلب وكما يشير إليه قوله تعالى فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ولأن كثرة الضحك تنبئ عن الغفلة والبكاء ينبئ عن الرحمة وروي عن الحسن أنه كان لا يضحك وهذا لما غلب عليه من الخوف والقبض بخلاف من غلب الرجاء والبسط فإنه يضحك ولا يبكي والأعدل هو الاعتدال من هذه الخصال على وفق شمائله صلى الله تعالى عليه وسلم من تفصيل الأحوال (إذا التفت) كذا في بعض النسخ والظاهر كما في أصل الدلجي وإذا التفت أي إلى أحد الجانبين (التفت معا) وفي رواية جميعا أي بجميع نظره لا بمؤخر عينيه كما هو دأب سارق النظر ويسمى نظر العداوة ومنه قوله تعالى يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ فاندفع قول الدلجي أي بجميع بدنه وينبغي أن يخص هذا بالتفاته وراءه وأما التفاته يمنة ويسرة فالظاهر أنه يعنقه (وإذا مشى) أي في مسيرة (مشى تقلّعا) بضم اللام المشددة أي رفع رجليه رفعا بقوة لا اختيالا لشدة عزمه ولأن تقريب الخطى من مشية النساء والأغنياء الأغبياء (كأنّما ينحطّ من صبب) بفتح المهملة والموحدة الأولى أي كأنما ينحدر من مرتفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قاله الدلجي تبعا للشمني وفي القاموس الصبب محركة تصبب نهر أو طريق يكون في حدوره وما انصب من الرمل وما أنحدر من الأرض وكل هذه المعاني تشير إلى أن الصبب بمعنى المنخفض لا بمعنى المرتفع وقد صرح الحجازي وغيره بأنه ما انحدر من الأرض وأغرب الحلبي حيث قال من موضع مرتفع منحدر فالأولى أن يقال من بمعنى في كما في قوله تعالى إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ويؤيده أنه جاء في رواية كأنما يهوي في صبوب بفتح الصاد وضمها فالمعنى كأنما ينزل من علو إلى سفل فإنه حينئذ يكون المشي بقوة لكن لا بإبطاء ولا بسرعة والمقصود من الحديث هذه الفقرة الدالة على كمال قوته البدنية في مسيرته الحسية وأما مسيرته المعنوية فقد علم في القضية الإسرائية. فصل [وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول] (وأمّا فصاحة اللّسان وبلاغة القول) أي في معرض البيان وخص الفصاحة باللسان لنطقه بالمفرد والمركب المطابقين لمقتضى الحال وهما يوصفان بها كالمتكلم والبلاغة بالقول إذ لا يكون إلا كلاما ذا اسناد يبلغ به المتكلم إرادته ويوصف بها الكلام كالمتكلم دون الكلمة لأنها لا يبلغ بها الغرض فراعى المصنف اصطلاح علماء المعاني والبيان في تقرير هذا الشأن (فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك) أي مما ذكر من الفصاحة والبلاغة (بالمحلّ الأفضل والموضع الذي لا يجهل) بصيغة المجهول أي الظاهر بالوجه الأكمل (سلاسة طبع) بفتح السين ونصبت بنزع الخافض أي بسهولة جبلة وانقياد طبيعة وفي نسخة مع سلامة طبع (وبراعة منزع) بفتح الميم والزاء أي مأخذ ومطلع والبراعة بفتح الموحدة مصدر برع الرجل فاق أقرانه ووصفها بصفة صاحبها مبالغة أي منزعا بارعا وحاصله جودة لسان ولكافة بيان وأما قول التلمساني إنه بكسر الميم وهو السهم الذي نزع به واستعاره القاضي للسان مجازا إذ هو آلة الكلام ففي غاية من البعد مع مخالفته للأصول المعتمدة (وإيجاز مقطع) أي ومقطعا موجزا من أوجز أتى بكلام قل مبانيه وكثر معانيه والمقطع بفتح الميم والطاء منتهى المرام كما أن النزع مبدأ الكلام فالمعنى أن كلامه حسن الابتداء ومستحسن الانتهاء وهو المطلع والمقطع بأسلوب الشعراء من الفصحاء والبلغاء وأما ذكره التلمساني من أنه بكسر الميم وهو في الأصل شفرة حادة يقطع بها الشيء استعاره للقول مجازا إذ هي آلة فهو مع مخالفته للنسخ المصححة في غاية من التكلف ونهاية من التعسف (ونصاعة لفظ) بفتح النون أي ولفظا ناصعا أي خالصا من شوائب تنافر الحروف وغرابة الألفاظ وارتكاب الشذوذ (وجزالة قول) أي وقولا جزلا لا ركاكة فيه ولا ضعف تأليف وتركيب ينافيه بل نسجت خبره الحبرية على منوال تراكيب العربية (وصحّة معان) أي ومعاني صحيحة يستفاد منها مقاصد صريحة قال التلمساني ومعان جمع معنى بالياء وبدونها ولا خفاء لما فيه من ايهام أنهما لغتان وليس كذلك بل اختلافهما بحسب تفاوت إعرابهما (وقلّة تكلّف) أي قلة طلب كلفة في التأدية بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 تأمل وتفكر وتروية وكان الأولى أن يقال وعدم تكلف لقوله سبحانه وتعالى حكاية عنه وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ولعله أراد بالقلة العدم والله أعلم ومنه قول أبي أوفى كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقل اللغو أي لا يلغو رأسا ومنه أيضا قوله تعالى فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ أي لا يؤمنون أصلا (أوتي جوامع الكلم) جملة مستأنفة مبينة ومؤكدة لما قبلها أي أعطي الكلمات الجامعة للمعاني الكثيرة في المباني اليسيرة وقد جمعت أربعين حديثا يشتمل كل حديث على كلمتين وهو أقل ما يتركب منه الكلام الإسنادي كقوله الإيمان يمان والعدة دين والسماح رباح وأمثالها مما أدرجته في شرح الشمائل للترمذي والكلم بفتح كاف وكسر لام اسم جمع للكلمة ومنه قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وقيل جمع لها وهو ضعيف (وخصّ ببدائع الحكم) بكسر ففتح جمع حكمة أي الحكمة البديعة المتضمنة للمعاني المنيعة (وعلم ألسنة العرب) أي وخص بمعرفة لغات طوائف العرب من قومه وغيرهم لأنه بعث إلى جميعهم فعلمه الله الألسنة ليخاطب كل قوم بما يفهمون لقوله تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ وفي نسخة وعلم بصيغة الماضي المعلوم وفي أخرى بصيغة المجهول من التعليم عطفا على أوتي وقيل كان يعلم جميع الألسنة إلا أنه لم يكن مأمورا بإظهارها أو أراد أن يكون التكلم بالعربية هو ألسنة لأنه أفضل أنواع اللغة لأن كلام الله عربي ولسان أهل الجنة في الجنة عربي وأصل النبي عربي قيل ومن أسلم فهو عربي ولأنه أيسر اللغات وأضبط للكليات كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ (يخاطب) وفي نسخة فكان يخاطب (كلّ أمّة) أي طائفة (منها) أي من طوائف العرب (بلسانها ويحاورها) بالحاء المهملة أي ويجاوبها (بلغتها) وفي نسخة بلغتها (ويباريها) بالراء والياء أي يعارضها ويروى بدله ويباينها (في منزع بلاغتها) أي مأخذها ومرجع لغتها (حتّى) هي مستأنفة ههنا على ما ذكره الدلجي والأظهر أنها للغاية أي إلى حد (كان كثير من أصحابه) أي من أتباعه وأحبابه (يسألونه في غير موطن) أي في مواطن كثيرة (عن شرح كلامه) أي بيان مرامه (وتفسير قوله) عطف تفسير والأول مختص بالجمل والمركبات والثاني بالمفردات أو الأعم والله أعلم وقد صرح التلمساني بأن الصحابة كانوا يسألون عن كثير من مفردات اللغة نحو حتى تزهى وتزهو وحتى تشقح وسؤالهم عن لفظ الطاعون ونحو ذلك انتهى ثم هذا الذي ذكرناه أمر ظاهر وشأن باهر. (من تأمّل حديثه وسيره) أي أحاديثه في كتب المحدثين والأئمة المجتهدين وأقواله في كتب ارباب السير والمؤرخين وفي نسخة وسبره بالموحدة على أنه فعل ماض أي نظر في صناعة أساليبه وصياغة تراكيبه (علم ذلك) أي تفصيله (وتحقّقه) أي وثبت عنده وزال الريب عنه (وليس كلامه) أي لم يكن تكلمه (مع قريش) أي من أهل مكة (والأنصار) أي من أهل المدينة (وأهل الحجاز ونجد) أي وحواليهما (ككلامه مع ذي المشعار) بكسر ميم وسكون معجمة فمهملة أو معجمة بعدها ألف وراء وهو أبو ثور مالك بن نمط (الهمدانيّ) بميم ساكنة فمهملة نسبة إلى همدان قبيلة من اليمن قدم عليه الصلاة والسلام مرجعه من تبوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 مع كثير من قومه مسلمين فقال هذا وفد همدان ما اسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد وأما همان بفتح الميم مع الذال المعجمة أو المهملة فبلد بعراق العجم قيل هاجر ذو المشعار في زمن عمر رضي الله تعالى عنه إلى الشام ومعه أربعة آلاف عبد فاعتقهم كلهم وانتسبوا إلى همدان (وطهفة) بكسر المهملة وسكون هاء ففاء (النّهديّ) بفتح فسكون قبيلة باليمن قدم عليه السلام بعد فتح مكة كما قال ابن سعد وغيره (وقطن بن حارثة) بقاف ومهملة مفتوحتين وحارثة بالمثلثة (العليميّ) بالتصغير نسبة إلى بني عليم قدم عليه فسأله الدعاء له ولقومه في غيث السماء في حديث فصيح كثير الغريب على ما رواه ابن شهاب عن عروة (والأشعث بن قيس) قدم عليه مع كثير من قومه وعليهم الحبرات قد كففوها بالحرير فقال لهم الم تسلموا قالوا بلى قال فما هذا الحرير في أعناقكم فرموا به ثم ارتد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ثم رجع إلى الإسلام وجيء به إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه أسيرا فعدد عليه فعلاته فلم ينكرها ثم قال با أبا بكر استبقني لحربك وزوجني أختك فزوجه ثم خرج ودخل سوق الإبل فلم يلق ذات أربع تؤكل إلا عقرها ثم قال يا قوم انحروا وكلوا هذه وليمتي ولو كنت في بلدي لأولمت كما يولم مثلي اغدوا علي فخذوا أثمان ما عقرت لكم ثم خرج مع سعد إلى العراق ويشهد معه مشاهد كثيرة في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وسكن الكوفة إلى أن توفي وشهد معه مشاهد كثيرة في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وسكن الكوفة إلى أن توفي بها بعد علي بأربعين يوما وصلى عليه الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين (ووائل بن حجر) بضم حاء وسكون جيم فراء واما وائل فيهمز كقائل وقول الحلبي بالمثناة التحتية قبل اللام في غير محله لأنه بناء على ما قبل إعلاله، (الكنديّ) بكسر الكاف قال الدلجي تبعا للمنجاني كذا ههنا ولعله تأخير من تقديم إذ هي نسبة الأشعث ونسبة وائل هي الحضرمي قلت لا يبعد أن يكون كنديا حضرميا ثم رأيت الحلبي صرح بأن وائل بن حجر كان من ملوك حمير الكندي الصحابي شهد مع علي في صفين وكانت معه راية حضر موت بشر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم به قبل قدومه عليه ثم قدم فأسلم فرحب به وأدناه من نفسه وقرب محله وبسط له رداءه وأجلسه عليه ودعا له بالبركة ولولده ولولد ولده وولاه على أقيال حضر موت وأرسل معه معاوية بن أبي سفيان فخرج معه معاوية رجلا ووائل على ناقته راكب فشكا إليه معاوية حر الرمضاء فقال انتعل ظل الناقة فقال معاوية له وما يغني ذلك عني لو جعلتني ردفا فقال له وائل اسكت فلست من ارداف الملوك ثم عاش وائل بن حجر حتى ولي معاوية فدخل عليه فعرفه معاوية واذكره بذلك ورحب به وأجازه لوفوده عليه فأبى من قبول جائزته وقال يأخذه من هو أولى به مني فأنا عنه في غنى (وغيرهم) أي ومع غير المذكورين أيضا (من أقبال حضر موت) بفتح همزة وسكون قاف فتحتية جمع قيل بفتح وسكون وأصله قيل بالتشديد أي المنفذ قوله ويدل عليه أنه يجمع على أقوال بالواو أيضا وقال السهيلي القيالة الإمارة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في تسبيحه الذي رواه الترمذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 سبحان من لبس العز وقال به أي ملك به وقهر على ما فسره الهروي وهم بلغة حمير صغار الملوك دون الملك الأعظم من ملوك اليمن وحضر موت بسكون الضاد وفتح الباقي وبضم الميم بلد وقبيلة ويقال هذا حضر موت غير مصروف للتركيب والعلمية ويضاف فيقال حضر موت بضم الراء على إعراب الأول بحسب عامله وإعراب الثاني بإعراب ما لا ينصرف وإن شئت تنون الثاني (وملوك اليمن) تعميم بعد تخصيص؛ (وانظر كتابه) أي مكتوبه الذي بعث به ذا المشعار بعد قدومه عليه الصلاة والسلام على ما ذكره أبو عبيدة وغيره (إلى همدان) أوله بسم الله الرحمن الرحيم كتاب من محمد رسول الله لأهل مخلاف خارق ويام وأهل خباب الضب وحقاف الرمل من همدان مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ومن اسلم من قومه على أن لهم إلى آخره (إنّ لكم) بكسر الهمزة وفتحها وفي أصل الدلجي أن لهم وهو الملائم لما سيأتي من قوله ولهم (فراعها) بكسر الفاء أي ما ارتفع من الأرض (ووهاطها) بكسر الواو جمع وهط بالطاء المهملة وهي المواضع المطمئنة منها (وعزازها) بفتح مهملة فزايين ما خشن وصلب منها وما يكون إلا في أطرافها ومنه قول ابن مسعود للزهري بعد خدمته وملازمته مدة مديدة زاعما أنه بلغ الغاية ووصل النهاية أنك في العزاز في الأطراف من العلم لم تتوسط بعد وفي الحديث نهى عن البول في العزاز أي حذرا عن الرشاش، (تأكلون) بالخطاب أو الغيبة (علافها) بكسر العين جمع علف وهو ما يعتلف منها أو ما تأكله الماشية، (وترعون عفاءها) بفتح مهملة وتخفيف فاء ممدودا وروي بكسر العين وهو ما ليس لأحد فيه ملك ولا أثر من عفا الشيء أي خلص وصفا وفي الحديث أقطعهم من أرض المدينة ما كان عفاء وهو احد ما فسر به قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ، (لنا من دفئهم) بكسر مهملة وسكون فاء فهمز ومنه قوله تعالى لَكُمْ فِيها دِفْءٌ أي ما تستدفئون به من أصوافها وأوبارها وأما في الحديث فهو كناية عن الأنعام وفي المجمل الدفء نتاج الإبل وألبانها والانتفاع بها وقيل هي الغنم ذات الدفء وهو الصوف والأظهر أن يراد به الأنعام وسميت دفئا لأنها يتخذ من أوبارها وأصوافها وأشعارها ما يستدفأ به من الأكسية وغيرها قال الدلجي فصله عما قبله ملتفتا من الغيبة إلى التكلم لشبه انقطاع بينهما إذ ذاك مما خصهم به من أراضيهم وما يخرج منها وهذا مما خص به نفسه أو من معه من مواشيهم أي من إبلهم وغنمهم ضأنا ومعزا وما ينتفع به منها سميت دفئا لأنه يتخذ منها ما يستدفأ به انتهى ولا يخفى أنه ليس ههنا التفات من الغيبة إلى المتكلم بل من خطاب في قوله لكم بناء على الأصول المصححة إلى غيبة في قوله لنا من دفئهم (وصرامهم) بكسر أوله ويفتح جمع صرمة أي من نخيلهم أو من ثمراتهم لأنها تصرم وتقطع (ما سلّموا) بتشديد اللام المفتوحة أي استسلموا لا وأطاعونا (بالميثاق) أي العهد والحلف المؤكدة قيل ولعله اراد الإسلام أي لا تقبل صدقة إلا من مسلم وقيل أراد بالميثاق أنه لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق ولا يفر بزكاته ولا يخفى بعض ماله (والأمانة) أي من دون الخيانة من المالك أو العامل وقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 المراد بالأمانة الطاعة وقيل هي الأمان ويؤيده ما سيأتي من قوله عليه الصلاة والسلام لنهد من أقر فله الوفاء بالعهد والذمة. (ولهم من الصّدقة) أي من الأموال التي تجب عليهم فيها الصدقة والزكاة (الثّلب) بكسر المثلثة وسكون اللام فموحدة أي الهرم من ذكور الإبل الذي سقطت أسنانه قيل وتناثر هلب ذنبه (والنّاب) أي ولهم الهرمة من إناثها التي طال نابها وهي من أمارات هرمها (والفصيل) وهو ما فصل عن أمه وفطم عنها من أولاد الإبل وقد يطلق على أولاد البقر والمراد صغارها (والفارض) أي المسن من الإبل وقيل من البقر أيضا بديل قوله تعالى لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ ويروى العارض بالعين المهملة وهي المريضة أو المعيوبة (الدّاجن) وفي أصل الدلجي بالعطف وهو الظاهر وهو بكسر الجيم ما يألف البيوت ولا يرسل إلى المرعى وأغرب الأنطاكي في جعله وصفا للفارض أو العارض على اختلاف الروايتين في الداجن اعتبارا للعادة لأن المنقطع عن السوم يعلف في الأهل غالبا (والكبش الحواريّ) بفتحتين وهو كبش يتخذ من جلده نطع فإن جلده أحمر وروى الحواري أي الأبيض والمعنى لا يؤخذ منهم في هذه الأشياء التي خصوا بها وقيل المعنى لا تؤخذ هذه الأشياء منهم إما لنفاستها كالحوري وإما لخساستها كغيره وإنما يؤخذ الوسط العدل (وعليهم فيها) أي في الصدقة (الصّالغ) بكسر لام فمعجمة ما دخل في السنة السادسة من البقر والغنم والسين لغة فيه وفي النهاية لابن الأثير وعليهم الضالع بالضاد المعجمة والعين المهملة فليس بتصحيف كما زعمه المنجاني (والقارح) بالحاء المهملة بعد الراء المكسورة ما دخل من الخيل في خامس سنة. (وقوله) أي وانظر قوله (لنهد) بفتح فسكون أي لأجل قبيلة من اليمين وهو يحتمل أن يكون مشافهة أو مكاتبة فيقال وانظر قوله في كتابه لنهد لا كما قال الدلجي وانظر كتابه صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة والديلمي في مسند الفردوس (للهمّ بارك لهم في محضها) أي لبنها الذي لم يخالطه ماء ذكره المنجاني والظاهر أن المراد به ما لم يخرج منه زبده حلوا كان أو حامضا وهو بميم مفتوحة فحاء مهملة ساكنة وضاد معجمة ومنه الحديث وذلك محض الإيمان (ومحضها) بالخاء المعجمة أي ما مخض من لبنها وأخذ زبده مصدر بمعنى المفعول والمخض تحريك سقاء اللبن لاستخراج زبده وفيه صنعة التجنيس والتصحيف (ومذقها) أي ما خلط من لبنها بالماء من المذق بالذال المعجمة والقاف بمعنى المزج والخلط وقيل اللبن الرقيق وهو التحقيق وبالله التوفيق (وابعث راعيها) أي ملكها ومربيها وقد يكون مالكها وهي بمنزلة رعيته كما ورد كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته (في الدّثر) بفتح مهملة فسكون مثلثة أي المال الكثير وقيل المراد به هنا الخصب والنبات (وافجر) بضم الجيم ومنه قوله تعالى حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً قرىء بالتشديد والتخفيف في السبعة (له الثّمد) بفتح مثلثة وميم فدال مهملة وقد تسكن ميمه أي الماء القليل الذي لا مادة له والمعنى أجره لهم حتى يصير كثيرا (وبارك لهم في المال) أي الحلال وإلا فبعض المال وبال في المآل ولذا قال صلى الله تعالى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وسلم نعم المال الصالح للرجل الصالح (والولد) أي الصالح وإلا فبعض الولد كمد وكبد وفي بعض النسخ وبارك له بصيغة الإفراد والمتبادر منه أنه راجع إلى الراعي والأظهر أنه خطاب عام لهم على الانفراد الذي هو أتم من الاجتماع فالمعنى بارك لكل منهم في ماله وولده، (من أقام الصّلاة) أي واظب عليها وقام بشرائطها وأركانها (كان مسلما) أي منقادا وأسلم نفسه من التعرض إليها بقتلها وأسرها وقد قيل في الصلاة جميع العبادات من قيام وقراءة وركوع وسجود ودعاء وثناء وصبر وهو حبس النفس والحواس والخواطر وزكاة وهو بذل المال في الماء واللباس وصيام وهو الإمساك عن الأكل والشرب واعتكاف وهو لزوم المكان الواحد لأدائها وحج وهو التوجه للكعبة وجهاد وهو مجاهدة النفس ومحاربة الشيطان وشهادة وهي ذكر الله ورسوله، (ومن آتى الزّكاة) أي أعطاها مستحقيها (كان محسنا) أي في إسلامه أو ببذله إلى إخوانه، (ومن شهد) أي بقلبه وأقر بلسانه (أن) أي أنه (لا إله إلّا الله) أي وأن محمدا رسول الله (كان مخلصا) أي في إيمانه واقتصر على أحد ركنيه لأنهم كانوا عبدة أصنام فقصد به نفي الهية ما سوى الله مع اشتهاره عندهم بأنه رسول الله وايناسه منهم الإيمان به بدليل قدوم كبرائهم عليه مؤمنين فهو من باب الاكتفاء أو لأن هذه الكلمة علم لمجموع الشهادتين بإطلاق البعض وإرادة الكل ولذا ورد من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وإذا عرفت ذلك فقوله مسلما يراد به المعنى اللغوي فلا يحتاج إلى قوله الدلجي كان مسلما ومؤمنا أيضا إذ مآلهما واحد شرعا وإن اختلفا مفهوما فإن الإسلام هو الانقياد الظاهري والإيمان هو الإذعان الباطني ولا يستغني أحدهما عن الآخر لكن تخصيصه بإقامة الصلاة يوهم أنها وأمثالها جزء الإيمان على ما ذهب إليه المعتزلة فالأولى أن يقال المعنى كان مسلما كاملا وأن الواو في الجمل الشرطية لمجرد الجمعية؛ (لكم يا بني نهد ودائع الشّرك) جمع وديع من قولهم أعطيته وديعا أي عهدا وميثاقا أي أقررتكم على العهود والمواثيق التي كنتم تتعاهدونها مصالحة ومهادنة قبل الإسلام والأظهر أنها جمع وديعة والمراد بها ما استودعوه من أموال الكفار الذين لم يسلموا فأحله لهم لأنه مال كافر قدر عليه بلا عهد وشرط ويؤيده رواية ما لم يكن عهد ولا وعد (ووضائع الملك) بكسر الميم والوضائع جميع وضيعة وهي الوظيفة التي تلزم المسلمين في أملاكهم من صدقة وزكاة والمعنى ولكم الوظائف التي تلزمكم لتجاوزها منكم ولا نزيدها عليكم فصح قوله لكم دون عليكم أو بضم الميم أي ولكم ما وظفه ملوككم في الجاهلية عليكم وما استأثروا به دونكم من مغنم وغيره والمعنى لا نأخذها منكم ثم قول الحلبي بعد الألف مثناة تحتية ليس على ظاهره بل باعتبار أصله وإلا فهو مقلوب بالهمزة كنظائره من الودائع والصحائف، (لا تلطط) كلام مستأنف وهو بضم مثناة فوقية فسكون لام فمهملتين نهي لم يرد به واحدا معينا كما رواه البيهقي بل لكل من يأتي منه توجيه الخطاب وتوجه الكتاب (في الزّكاة) أي لا تمنعها من لط الغريم والط إذا منع الحق أو نهى اراد به جنس المخاطب كما رواه غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 بصيغة الجمع وكذا قوله (ولا تلحد) وما بعده وهو من الإلحاد أي لا تعدل عن الحق ولا تمل إلى الفساد وظلم العباد في البلاد (في الحياة) أي في مدة حياتك في الدنيا وقيل الفعلان بصيغة النفي مجهولان وروى الزمخشري بالنون فيهما وأغرب التلمساني في قوله أي لا تمسك الزكاة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام الطوابيا ذا الجلال والإكرام أي الزموا هذا القول وتمسكوا به انتهى وهو وهم فإن الظوا في الحديث بالظاء المعجمة (ولا تتثاقل) أي لا تتكاسل (عن الصّلاة) . وفي نسخة بصيغة الجمع وفي أخرى بصيغة المجهول والمعنى أدها بالقيام بشرائطها وأركانها (وكتب لهم) قال الحجازي ويروي لكم ويروي عليكم (في الوظيفة الفريضة) بالنصب أي الهرمة المسنة وهي الفارض أيضا والمعنى هي لكم لا تؤخذ منكم في الزكاة كذا قاله الدلجي وغيره وتبعهم الانطاكي إلا أنه قال الفريضة بالرفع على الحكاية ولا يخفى أن هذا الحكم قد استفيد مما سبق مع أنه كان الملائم بسياق الكلام من سباقه ولحاقه أن يقال وكتب لكم في الوظيفة الفريضة بالرفع على أن الجملة المصدرة بقوله لكم هي المكتوب لهم وفي حاشية الحجازي أن الوظيفة هي ما يقدر كل يوم من رزق أو عمل ولا يخفى عدم مناسبته لفحوى الكلام ومقام المرام وقال التلمساني الفريضة بالرفع على الحكاية انتهى وفي رواية عليكم في الوظيفة الفريضة أي عليكم في كل نصاب ما فرض فيه وفي نسخة وكتب لهم في الوظيفة الفريضة بالجر فالمكتوب لهم قوله (ولكم الفارض) بالفاء في أكثر النسخ المعتمدة وقد سبق أنه المسنة من الإبل أو البقر وروي بالعين المهملة وهو الأظهر لئلا يتكرر فتدبر أي ولكم المريضة التي عرض لها آفة من قولهم بنو فلان أكالون للعوارض تعبيرا لهم أي لا يأكلون إلا ما عرض له مرض حذر موته والمعنى لا تؤخذ منكم في الزكاة فهي لكم (والفريش) بفاء مفتوحة ثم شين معجمة أي الحديثة العهد بالتاج كالنفساء من النساء ففي الصحاح هي كل ذات حافر بعد نتاجها لسبعة ايام وقيل ما لا يطيق من الإبل حمل الأثقال ويؤيده قوله تعالى وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً وقد جاء فرش وفريش بمعنى واحد وقيل ما انبسط على الأرض من نبات لا ساق له (وذو العنان) بكسر العين المهملة سير اللجام أي والفرس (الرّكوب) بفتح الراء ورفع الباء وهو الصواب أي الذلول الذي يلجم ويركب بلا كلفة ومشقة لتكرر ركوبه لأن فعول من أوزان المبالغة (والفلوّ) بفتح فاء وضم لام وتشديد واو كعدو وبضم أوله مع التشديد كسمو وقد تكسر فاؤه مع سكون لامه وتخفف واوه كجرو وهو ولد الفرس المسمى بالمهر بالضم إذا كان صغيرا بلغ السنة أو فطم عن الرضاعة لأنه يفلى عن أمه أي يعزل عنها قال التلمساني ويروى الفلو بدون الواو العاطفة انتهى وهو لا يصح (الضّبيس) بفتج معجمة فكسر موحدة فتحتية فمهملة أي الصعب العسر الأخلاق الذي لم يرض وقيد الصفة للغلبة لا للاحتراز إذ غالب أحوال الخيل الصعوبة وأما تخصيص الفلو فللدلالة على أن الخيل فيها الزكاة كما هو مذهب ائمتنا الحنفية والمعنى لا يؤخذ منكم شيء في المذكورات وأما ما روي من أن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل والرقيق فمحمول على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الخيل التي تركب كما أن الرقيق يراد به ما يخدم فالخيل السائمة والرقيق للتجارة فيهما الزكاة، (لا يمنع سرحكم) بصيغة المفعول نفي بمعنى النهي وفصل عما قبله لعدم مناسبة بينهما ويقال سرحت الماشية مخففا وسرحت هي متعد ولازم وإذا رجعت يقال راحت تروح وارحتها أنا ومنه قوله تعالى وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ أي حين تردونها من مرعاها إلى منازلكم وحين تخرجونها إليه ولعل تقديم الإراحة لما فيها من زيادة إفادة الراحة والمعنى لا تمنع ماشيتكم السارحة من مرعى مباح تريده (ولا يعضد) بصيغة المفعول أي لا يقطع (طلحكم) وهو شجر عظام من شجر الغضاة له شوك كالسدر وهو شجر حسن اللون لخضرته أي نضر له أنوار طيبة الرائحة ولكون العرب يستحسنوته لخضرته وحسن لونه وعطره نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قطع ما ألفوه جبرا لخواطرهم ووعدا لهم ببقاء ما يحبون وهو المراد بقوله تعالى وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وهو في الآية الموز وقيل الطلع وقرئ بالعين (ولا يحبس درّكم) بمهملة مفتوحة فراء مشددة أي لا تمنع ماشيتكم التي هي ذات الدر أي اللبن عن الخروج إلى المرعى لتجتمع بموضع يعدها فيه المصدق لما فيه من الإضرار بها لعدم رعيها وفي رواية لا تحشر دركم أي لا تحشر إلى المصدق ليعدها بل إنما يعدها عند أصحابها وأغرب اليمني في تفسيره الدر هنا بمعنى المطر ولعل وجهه أنه جعل قوله ولا يحبس خبرا مغيا لقوله ما لم تضمروا وأما على ما ذهب عليه الجمهور فمتعلق ما دام مقدر ثم المعنى لكم ما قرر وما عليكم حرر (ما لم تضمروا الرّماق) من الإضمار ضد الإظهار والرماق بالكسر بمعنى النفاق يقال رامقته رماقا نظرت إليه نظر العداوة أو المعنى ما لم تضق قلوبكم عن الحق يقال عيشه رماق أي ضيق قاله ابن الأثير ويروى الإماق بفتح الهمزة وكسرها وأصله إلا معاق فخفف همزه قال في المجمل يقال أمأق الرجل إذا دخل في المأقة وهي الأنفة وفي الحديث ما لم تضمروا الامئاق أي ما لم تضمروا الأنفة انتهى والأنفة التعاظم وقيل هو الغدر وقيل الرمق القطيع من الغنم فارسي معرب فالمعنى لا تخفوا القطيع من الغنم والله أعلم (وتأكلوا الرّباق) بالكسر جمع ربقة بكسر فسكون وهي في الأصل عروة تجعل في حبل يربط بها ما خيف ضياعه من البهم فشبه ما يلزم الاعناق من العهد بالرباق واستعار الأكل لنقض العهد فإن البهيمة إذا أكلت الربقة خلصت من الرباط والمعنى ما لم تنقضوا عهود الإسلام التي الزمها أعناقكم وما لم تخلعوها ومنه حديث حذيفة من فارق الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ من عنقه قال التلمساني والربقة بكسر وبفتح وفي بعض النسخ الرفاق بالفاء بدل من الباء جمع رفقة أي بحيث لا تقطعون الطرق وتظهرون الحرب إذ كل ذلك يقتضي نقض العهد ونكث البيعة وقد يقع التصحيف في مثل هذا والله أعلم، (من أقرّ) استئناف آخر أي من ثبت واستقر واعترف مذعنا منقادا بالملة (فله الوفاء بالعهد) أي بما عوهد عليه (والذّمّة) أي وبالأمان أو الضمان الحاصل لديه (ومن أبى) أي امتنع من مقتضيات الملة أو تقاعد وتقاصر عن أداء الزكاة والصدقة (فعليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الرّبوة) بكسر الراء ويجوز ضمه وفتحه أي الزيادة في الفريضة الواجبة عليه عقوبة له وفي رواية من أقر بالجزية فعليه الربوة أي من امتنع من الإسلام هربا من الزكاة كان عليه من الجزية أكثر مما يجب عليه من الزكاة واعلم أنه روى بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان يقول في كل أربعين بنت لبون من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن أبى فأنا آخذها وشطر ماله عزة ربنا رواه أبو داود وقال أحمد هو عندي صالح فقيل يأخذ الإمام معها شطر ماله وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة وقول قديم للشافعي وعند الجمهور يأخذها من غير زيادة بدليل أن العرب منعت الزكاة ولم ينقل أنه أخذ منهم زيادة عليه وقال الجرمي غلط بهز في هذه الرواية وإنما قال وشطر ماله يعني يجعل شطرين فيستخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خيار الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة وأما ما لا يلزم فلا. (ومن كتابه لوائل بن حجر) أي على ما رواه الطبراني في الصغير والخطابي في الغريب والمعنى من مكتوبه لأجل وائل بن حجر وهو بضم الحاء كما سبق (إلى الأقيال) أي الملوك الصغار لحمير وقيل الذين يخلفون الملوك إذا غابوا جمع قيل مخففا وقيل مشددا وقد تقدم (العباهلة) بفتح عين مهملة فموحدة أي ملوك اليمن الذين أقروا على ملكهم فلم يزالوا عنه والتاء فيه لتأكيد الجمع كما في الملائكة (والأرواع) جمع رائع كالأنصار والاشهاد جمع ناصر وشاهد أو جمع أروع أي الحسان الوجوه والهيئات أو الذين يروعون الناس أي يفزعونهم بجمالهم وحسن حالهم وقيل السادة واحدهم أروع (المشابيب) جمع مشبوب أي الرؤوس السادة الحسان المناظر الزهر الألوان كأنما وجوههم تتلالأ نورا وتلمع سرورا وقيل الرجال الذين ألوانهم بيض وشعورهم سود وقيل الأذكياء وأما قول المنجاني والمشيب دخول الرجل في حد الشيب من الرجال فوهم منه في الخيال لاختلاف المادة في ميزان الأفعال فالصواب ما قاله غيره من أنه من شب من الشباب أو شب النار أوقدها؛ (وفيه) أي وفي كتابه لوائل (في التّيعة) بكسر فوقية وسكون تحتية فمهملة أي في الأربعين من الغنم (شاة لا مقوّرة الألياط) بفتح الواو والراء المشددة من الاقورار بمعنى الاسترخاء في الجلد والالياط بفتح الهمزة جمع ليط بالكسر وهو في الأصل القشر اللائط بعوده أي اللازق به شبه به الجلد لالتزاقه باللحم من الهزال والمعنى لا مسترخية الجلد لهزالها وقيل لا مقطوعة الجلد (ولا ضناك) بكسر المعجمة ثم كاف منونة وقال التلمساني بفتح الضاد وكسرها والنون الخفيفة وجوز المنجاني ضمها يستوى فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع أي ولا مكثرة اللحم وممتلئة الشحم لكرمها يريد أن هذه الشاة لا سمينة ولا هزيلة بل متوسطة الحال (وأنطوا) بهمزة قطع وضم مهملة لغة يمانية أي وأعطوا في الزكاة (الثّبجة) بفتح مثلثة وكسر موحدة فجيم مفتوحة بعدها تاء أي الشاة الوسطى التي ليست بأدنى ولا أعلى من ثبج كل شيء وسطه والتاء لانتقالها من الاسمية إلى الوصفية قال التلمساني ويروى الشجة بالشين والجيم من شج سار بشدة (وفي السّيوب) بضمتين جمع سيب وهو الركاز (الخمس) بضمتين ويسكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الميم لأن السبب لغة العطاء والركاز عطاء من الله تعالى وقال الزمخشري هي المعدن أو المال المدفون في الجاهلية لأنه من فضل الله وعطائه لمن أصابه (ومن زنى مم) بسكون الميم الثانية (بكر) بتنوين في الراء خلافا لبعضهم لأنها نكرة عامة في سياق الشرط ثم أبدلت نون من ميم لكثرة استعمالهم ذلك لفظا في مثل من ماء سيما إذا كان بعدها باء كما هنا ونحو منبر وعنبر ولو كان معرفة بلغتهم لقيل ومن زنى من أمبكر كما قال ليس من أمبر أمصيام في أمسفر ومن الجارة تبعيضية أو بيانية مفسرة للاسم المبهم الشرطي وترجمة عنه أي ومن زنى من الإبكار (فاصقعوه) بهمزة وصل وقاف مفتوحة أي اضربوه كما قال له ابن الأثير وأصل الصقع الضرب ببطن الكف وقيل أي فاضربوه على صوقعته أي في وسط رأسه قال التلمساني وعند الشارح فاصفعوه بالفاء عوض القاف أي فاضربوه (مائة) أي مائة ضربة (واستوفضوه) بالفاء والضاد المعجمة أي اطردوه أو أنفوه وغربوه (عاما) أي سنة (ومن زنى مم ثيّب) يجري فيه ما جرى في مم بكر إلا أن هناك القلب الحقيقي لأجل الباء وهنا الإخفاء المتولد من قبل الثاء وقيل القلب فيه للمناسبة والمشاكلة كقولهم ما قدم وحدث بضم دال حدث لمناسبة قدم وقيل هي لغة يمانية كما يبدلون الميم من لام التعريف أي ومن زنى من ذوي الإحصان (فضرّجوه) بمعجمة مفتوحة وتشديد راء مكسورة فجيم أي فارجموه حتى تدموه وتضرجوه أي تلطخوه بدمائه (بالأضاميم) أي برمي الحجارات جمع إضمامة بالضاد المعجمة وهو ما جمع وضم من الحجارة لأن بعضها يضم إلى بضع كالجماعات من الناس والكتب قال التلمساني يريد انه لا يرجم بحجر ههنا وحجر في موضع آخر لأن ذلك تعذيب له ولا في محل فيه حجارة صغيرة أو قليل الحجارة ولا يرجم بحجر في وقت ثم بحجر في وقت آخر وهذا كله يشمله الاضاميم (ولا توصيم) أي لا تواني ولا محاباة (في الدّين) أي في إقامة الحدود لقوله تعالى وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ وقيل التوصيم التكسير والمعنى ولا تقصدوا تكسيره بالحجارة وقيل المعنى لا عيب ولا هوان ولا كسر ولا عار في الدين (ولا غمة) بضم غين معجمة وتشديد ميم أي لا ستر ولا غطاء وفي رواية ولا عمه مهملة فميم مخففة مفتوحتين فهاء أي لا حيرة ولا تردد وفي رواية ولا غمد بكسر معجمة وسكون ميم فدال مهملة أي لا ستر ولا خفاء أو لا تستر ولا الباس (في فرائض الله) بل هي واضحة والمعنى لا تستر فرائض الله ولا تخفى بل تظهر وتجهر بها وقال التلمساني لا غمة بضم الغين المعجمة وبفتحها أي لا ضيق ولا كربة وقيل لا إبهام ولا إلباس ولا سترة أي لا تخفى فرائض الله لأنها من أعلام الإسلام وتاركها يستحق الملام فحقها أن يعلن بها إماطة للتهمة عن تركها بخلاف التطوع فإنه لا يلام بتركه ولا تهمة فيه فحقه أن يخفى (وكلّ مسكر) خمرا كان أو غيره كثيرا أو قليلا على خلاف في الأخير فيما عدا الخمر (حرام) أي شربه وأغرب التلمساني في ذكره قاعدة منطقية بقوله هذه نتيجة وكيفية تركيب المقدمتين هو أن تقول كل مسكر خمر وكل خمر حرام فينتج كل مسكر حرام انتهى ولم يعرف أن الكبرى ممنوعة هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 (ووائل بن حجر) مبتدأ. (يترفّل) بفاء مشددة أي يتأمر ويترأس (على الأقيال) خبر معناه الإمراء لقوله بعده في آخر كتابه أمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاسمعوه وهو معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الكتاب الآخر وكان وجه إلى المهاجرين أبو أمية مع وائل هذا فكان فيه من محمد رسول الله إلى المهاجر بن أبي أمية أن وائلا يستسعي ويترفل على الأقيال حيث كانوا من حضر موت أي يستمل على الصدقات ويصير اميرا على الأقيال ويفتخر عليهم بكتابه عليه الصلاة والسلام كما قال الشاعر: إذا نحن أمرنا «1» امرأ ساد قومه ... وإن لم يكن من قبل ذلك يذكر ولما كان أبو أمية مشتهرا تركه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على حاله كما يقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وحكى أبو زيد في نوادره عن الأصمعي عن يحيى بن عمر أن قريشا كانت لا تغير الأب في الكنية تجعله مرفوعا في كل وجه من الرفع والجر والنصب والحاصل أنه شبه امارته بالثوب لأنها لتلبسه بها كأنها هو واستعير لها ترفيله وهو إطالته وإسباله فكأنه يرفل فيها أي يجر ذيلها عليهم زهوا وقول التلمساني هنا إلى وائل إلى كاللام وروى بها فليس في محله ولعله فيما تقدم والله تعالى أعلم ثم جملة (أين هذا) أي كلامه هذا مع ما ذكر من الأقيال وكتابه لهم (من كتابه لأنس في الصّدقة المشهور) نعت لكتابه كما رواه أبو داود والترمذي والدارقطني وختمه ولم يدفعه له فدفعه أبو بكر بعد وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم له حين وجهه إلى البحرين مصدقا فإن ذا بمحل من جزالة ألفاظ مألوفة وسلاسة تراكيب مأنوسة وذاك بمحل من غلاقة الفاظ غريبة وقلاقة اساليب عجيبة حتى أنها في النطق عسرة بالنسبة إلى غير أهل تلك اللغة وسبب هذا التغاير ما بينه المصنف بقوله (لَمَّا كَانَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ) أي هذا المقدار غريبا غير مألوف (وبلاغتهم على هذا النّمط) أي هذا النوع وحشيا غير مأنوس (وأكثر استعمالهم هذه الألفاظ) أي التي هي غير مألوفة لغيرهم وإن كانت مأنوسة لهم وجواب لما قوله (اسْتَعْمَلَهَا مَعَهُمْ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي مما تشابه عليهم من أمر ونهي ونحوهما بنص أو إرشاد أي دال على ذلك كالقياس واستحسان العقل (وليحدّث النّاس بما يعلمون) أي بما يفهمون ويعقلون لا بما لا يدركون فينكرون كما سبق من كلامه وكتابه؛ (وكقوله في حديث عطيّة السّعديّ) أي المنسوب إلى قبيلة بني سعد وهو ابن عروة ويقال ابن عمرو بن عروة على ما رواه الحاكم والبيهقي وصححه عنه قدمنا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لي ما أغناك الله فلا تسأل شيئا (فإنّ اليد العليا هي المنطية) أي المعطية (واليد السّفلى هي المنطاة) أي المعطاة وأن مال الله مسؤول ومنطى. (قال) أي عطية (فكلّمنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلغتنا) أي في الانطاء بمعنى الاعطاء كما قرىء بالنون في قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وهذا   (1) في نسخة (رفلنا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الحديث في المعنى نحو حديث مالك والشيخين وأبي داود والنسائي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة اليد العليا خير من اليد السفلى والعليا هي منفقة والسفلى هي سائلة قال أبو داود وقد اختلف عن أيوب عن نافع في هذا الحديث فقال عبد الوارث اليد العليا هي المتعففة وكذا قال واقد عن حماد بن زيد عن أيوب وقال أكثرهم عن حماد هي المنفقة قال الخطابي رواية المتعففة أشبه وأصح في المعنى لأن ابن عمر قال إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر هذا الكلام وهو يذكر الصدقة والتعفف عنها فعطف الكلام على سببه الذي خرج عليه وعلى ما يطابقه في معناه أولى وقد توهم بعضهم أن معنى العليا هو كون يد المعطي مستعلية فوق يد الآخذ من علو الشيء أي فوقه وليس ذلك عندي بالوجه وإنما هو من علو المجد والكرم يريد التعفف عن المسألة والترفع عنها انتهى كلامه وفي غريب الحديث لابن قتيبة زعم قوم أن العليا هي الآخذة والسفلى هي المعطية فقال وما أرى هؤلاء إلا أنهم استطابوا السؤال فأحبوا أن ينصروا مذهبهم ونسبه في المشارق للمتصوفة وأقول لعل وجه قولهم هذا إنه ينبغي للمعطي أن يتواضع لله في حال اعطائه ويجعل يده تحت يد الفقير الآخذ وأن يعلم أن الله تعالى هو الآخذ حقيقة وإن كان هو المعطي أيضا لما ورد من أنه يأخذ الصدقة ويربيها وينميها كما يربي أحدكم فلوه ولقوله تعالى مخاطبا لنبيه عليه الصلاة والسلام خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ولأن الآخذ هو سبب المراتب العالية للمعطي فلو لم يأخذ أحد ذلك لم يحصل له الثواب والله أعلم بالصواب ثم هنا دقيقة أخرى بالتقحيق أحرى وهي أنه إذا كانت اليد العليا خيرا من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية فيشكل بما اجتمعت عليه السادة الصوفية وجمهور القادة الفقهية من أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر فالجواب على ما ذكره بعض المحققين أن هذا الحديث بعينه يدل على المدعي فإن المعطي لم تحصل له المرتبة العليا إلا بإخراج شيء من الدنيا والآخذ لم يتسفل عن مرتبته القصوى إلا بأخذ شيء منها والحاصل أن الأول قول ظاهري حسي للفقهاء والثاني قول باطني معنوي للأولياء والجامع بينهما هو المحقق والله هو الموفق وقيل إن تفسير اليد العليا بالمعطية والسفلى بالسائلة مدرج في الحديث وقيل معنى المتعففة المنقبضة عن الآخذ وروي عن الحسن البصري أنه قال معنى الحديث يد المعطي خير من اليد المانعة. (وقوله) أي وكقوله على ما ذكره أبو نعيم في دلائله (في حديث العامريّ) أي مخاطبا له بلغته (حين سأله) أي العامري (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم سل عنك أي سلّ عمّا شئت) أي عما شئت كما في نسخة ويجوز سل عن أمرك وشأنك (وهي) وفي نسخة وهو (لغة بني عامر وأمّا كلامه المعتاد) أي المأنوس لجميع العباد (وفصاحته المعلومة) أي لسائر البلاد (وجوامع كلمه) أي لمعان كثيرة بألفاظ يسيرة (وحكمه) جمع حكمة (المأثورة) أي المروية عنه الدالة على اتقان علمه وإحكام عمله (فقد ألّف النّاس فيها الدّاواوين) جمع ديوان بكسر داله وقد تفتح وهو فارسي معرب وأصله ذو وإن اعل إعلال دينار وجمعه دنانير وقد سبق الكلام فيه والأظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 مما قالوا في وجه التسمية إن الديوان بالفارسية اسم للشياطين فسمي الكتاب من الحساب باسمهم لحذقهم بالأمور ووقوفهم على الحلبي والخفي وجمعهم لما شذ وتفرق وقد يسمى مكانهم باسمهم وأول من وضعه في الإسلام عمر رضي الله تعالى عنه لحفظ ما يتعلق بالناس والمراد هنا الكتب المؤلفة من الجوامع والمسانيد وأمثال ذلك (وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب) أي في بيان غرائبها وجمعت بصيغة المجهول وكان الأولى أن يقال وجمعوا في مبانيها ومعانيها الكتب؛ (ومنها) أي ومن جوامع كلمه وحكمه (ما لا يوازى) بهمز أبدل واوا من آزيته بمعنى حاذيته وهو بإزائه أي بحذائه ولا تقل وأزيته على ما في الصحاح وهو بصيغة المجهول أي لا يماثل ولا يقابل (فصاحة) تمييز للنسبة أي من جهة الفصاحة (ولا يبارى) أي ولا يعارض ولا يساوى (بلاغة كقوله) على ما رواه أبو داود والنسائي: (المسلمون تتكافأ) بالهمز في آخره وفي نسخة بحذف إحدى التاءين أي تتماثل وتتساوى (دماؤهم) أي في العصمة والحرمة خلاف ما في الجاهلية فكل مسلم شريفا أو وضيعا كبيرا أو صغيرا حرا أو عبدا في ذلك سواء أو في القصاص والدية فيقاد الشريف بالوضيع والكبير بالصغير والعالم بالجاهل والذكر بالأنثى وكذا حكم الدية إلا أنه يخص منه العبد إذ لا يكافىء حرا في بعض الصور على خلاف في المسألة (ويسعى بذمّتهم) أي بعهدهم وأمانهم (أدناهم) أي أقلهم منزلة كعبد وامرأة فإنه إذا أعطى أحدهما أمانا لأحد أو لجيش فليس لأحد منا إخفاره أي نقض أمانه لحديث البخاري ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولحديث الترمذي أن المرأة لتأخذ على القوم أي تجير على المسلمين ولحديث أبي داود إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين ومنه حديث ذمة المسلمين واحدة (وهم) أي المسلمون (يد) أي قوة (على من سواهم) أو جماعة يتعاونون على أعدائهم من أهل الملل لا يخذل بعضهم بعضا أو هم مع كثرتهم قد جمعتهم أخوة الإسلام وجعلتهم في وجب الاتفاق بينهم تعاونا وتعاضدا على من آذاهم وعاداهم كيد واحدة فيجب أن ينصر كل أخاه على من آذاه فهو تشبيه بليغ (وقوله) أي كقوله فيما رواه ابن لال في مكارم الأخلاق (النّاس) أي في تساوي إجراء الأحكام عليهم (كأسنان المشط) بضم الميم وتكسر وقد تفتح وتضم أو تكسر وتفتح شينه وهو مثل في التساوي وهو قريب من قوله تتكافأ دماؤهم وقيل في تساوي الاخلاق والطباع وتقاربها ويؤيده ما جاء في رواية أخرى الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي ولا فضل لعجمي على عربي وإنما الفضل بالتقوى. (والمرء) أي كقوله فيما رواه الشيخان المرء (مع من أحبّ) أي في كل موطن خير أو في المحشر أو في الجنة فيه إيماء إلى أن الله يتفضل على من أحب قوما بأن يلحقه بهم في منازلهم وإن لم يكن له مثل أعمالهم وقيل شرطه اتباع عمل محبوبه وإلا فلا فائدة لهذه المحبة والأظهر أنه شرط للكمال وأنه يكفي في إثبات المحبة مجرد التوحيد وثبوت النبوة لما في صحيح مسلم أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ترى رجلا أحب قوما ولما يلحق بهم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المرء مع أحب (ولا خير) أي وكقوله فيما رواه ابن عدي في كامله بسند ضعيف المرء على دين خليله وَلَا خَيْرَ (فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لك) أي من الحق مثل (ما ترى له) أي مثله اغترارا بماله من كثرة المال وسعة الجاه فيتكبر مع جهله على العلماء والصلحاء والفقراء المتواضعين له وروي يرى بالياء والتاء للفاعل والمفعول على ما ذكره التلمساني والظاهر بناء الفاعل على الخطاب بل هو الصواب هذا وروي لا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَكَ مثل ما يرى لنفسه فيؤول معناه إلى حديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. (والنّاس معادن) أي وكقوله على ما رواه الشيخان الناس معادن أي لمكارم الأخلاق كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا بضم القاف أي مارسوا الفقه وضموا الحسب إلى النسب وجمعوا بين الشرع والطبع في الطلب وحكي بكسر القاف وهو متعين إذا كان الفقه بمعنى الفهم وحاصله أن الناس مختلفون بحسب الطباع كالمعادن وأنهم من الأرض كما أن المعادن منها وفيها الطيب والخبيث فإن منها ما يستعد للذهب الابريز ومنها ما يستعد للفضة ومنها ما يستعد لغير ذلك ومنا ما يحصل منه بكد وتعب كثير شيء يسير ومنها ما هو بعكس ذلك ومنها ما لا يحصل منه شيء أصلا فكذلك بنو آدم منهم من لا يعي ولا يفقه ومنهم من يحصل له علم قليل بسعي طويل ومنهم من أمره عكس ذلك ومنهم من يفاض عليه من حيث لا يحتسب كما هو معلوم في كثير من الأولياء والصالحين والعلماء العاملين وروي معادن في الخير والشر كالذهب والفضة (وما هلك امرؤ عرف قدره) رواه السمعاني في تاريخه بسند فيه مجهول ويقرب منه ما روي عن علي رضي الله عنه ما ضاع امرؤ عرف قدره لأن الضائع بمنزلة الهالك. (والمستشار مؤتمن) أي على ما استشير فيه استظهار برأيه والحديث رواه الأربعة والحاكم والترمذي ايضا في الشمائل في قضية أبي الهيثم وفي بعض الروايات زيد فيه (وهو بالخيار ما لم يتكلّم) وفي رواية احمد وهو بالخيار إن شاء تكلم وإن شاء سكت فإن تكلم فليجتهد رأيه قال الدلجي وهما شاهدا صدق بأن الإشارة به بمجرد الاستشارة غير واجبة انتهى والأظهر أن المراد به أنه إن لم يكن له رأي يسكت وإلا فيتكلم ويظهر رأيه لأن الدين النصيحة وفي الإخفاء نوع من الخيانة المنافية للأمانة وعن عائشة رضي الله تعالى عنها المستشير معان والمستشار مؤتمن وعن علي كرم الله وجهه إذا استشير أحدكم فليشر بما هو صانع لنفسه (ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم) أي بقوله الخير (أو سكت) أي عما لا خير فيه (فسلم) أي عن الشر بسكوته رواه أبو الشيخ في الثواب والديلمي ومنهم من فضل السكوت لأنه اسلم للنفس وآمن من سوء العاقبة ومنهم من فضل الكلام لوجود الغنيمة والأولى أن يقال لكل مقام مقال على أن الأظهر هو الأول لقوله عليه الصلاة والسلام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت. (أسلم) بحذف العاطف وفي نسخة صحيحة وقوله أسلم وهو أمر بالإسلام جوابه (تسلم) بفتح اللام من السلامة وهذا القدر من الحديث متفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 عليه بين الشيخين في كتابه عليه الصلاة والسلام لهرقل ولمسلم زيادة (وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين) وللبخاري في الجهاد اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين أي إن تسلم يعطك الله أجرك مرتين مرة لإيمانه بعيسى عليه الصلاة والسلام ومرة لإيمانه بمحمد عليه الصلاة والسلام وهذا الحديث مع إيجازه جامع لمراتب الإسلام وما يترتب عليه من أنواع السلامة في الدنيا والآخرة مع المناسبة اللفظية في العبارة الزاخرة (وإنّ أحبّكم) أي وقوله فيما رواه الترمذي أن أحبكم (إليّ) أي في الدنيا والعقبى (وأقربكم منّي مجالس) لعل وجه الجمع اعتبار الأنواع (يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا) جمع أحسن والمراد بالأخلاق الشمائل والأحوال واستدل بهذا الحديث على أن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة جاز أن يطابق موصوفه وأن لا يطابقه لأنه عليه السلام أفرد أحب وأقرب وجمع أحاسن ففيه جمع بين اللغتين وتفنن في العبارتين (الموطّئون) بصيغة المفعول من التوطئة أي المذللون (أكنافا) جمع كنف بكسر وبفتح وهو الجانب أي الذين جوانبهم وطيئة يتمكن منها من يصاحبهم ولا يتأذى منهم مأخوذ من فراش وطيء لا يؤذي جنب النائم والمراد منهم المتواضعون اللينون الهينون كما ورد في أوصاف المؤمنين (الذين يألفون) بفتح اللام (ويؤلفون) بصيغة المجهول أي يألفون الناس والناس يألفونهم وذلك لحسن أخلاقهم وسهولة طباعهم وضياء قلوبهم وصفاء صدورهم وروي في الحديث وأن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون وروي أبغضكم إلي المشاؤون بالنميمة المفرقون للأحبة الملتمسون للبرآء العيب. (وقوله) أي وكقوله فيما رواه البيهقي في شعبه أصيب رجل يوم أحد فقالت أمه لتهنئك الشهادة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يدريك (لعلّه كان يتكلّم بما لا يعنيه) بفتح أوله وسكون المهملة وكسر النون أي بما لا يهمه من أمر دنياه وعقباه (ويبخل) لعل الواو بمعنى أو (بما لا يغنيه) . بضم أوله وسكون المعجمة أي من أقوال وأفعال وطلب رياسة وحب محمدة وأمثال ذلك مما يجلب له شرا ولا يذهب عنه ضرا وقد قال الحسن من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه وفي رواية للبيهقي كما رواه الترمذي أن رجلا توفي وقالوا أبشر بالجنة فقال فلعله قد تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه قال الترمذي وهذا هو المحفوظ أقول لكن لا يخفى حسن صنعة التجنيس بين يعنيه ويغنيه في الحديث الأول (وقوله) أي وكقوله فيما رواه الشيخان (ذو الوجهين) أي الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه بمعنى أنه يأتي كلا بما يجب من خير أو شر وهذه هي المداهنة المحرمة وقيل هو الذي يظهر لكل طائفة وجها يرضيها به ويوهمها أنه عدو للأخرى ويبدي لها مساويها (لا يكون عند الله وجيها) أي ذا قدر ومنزلة لما يتفرع عليه من الفساد بين العباد بخلاف المصلح بين الناس في البلاد وأصل الوجيه هو المستقبل بالخير والتعظيم وذلك كناية عن المحبة لأن من أحب أحدا يديم النظر إلى وجهه ويستقبله بالتكريم وفي رواية الطبراني عن ابن سعيد ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم القيامة له وجهان من نار. (ونهيه) أي وكنهيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فيما رواه الشيخان (عن قيل وقال) بفتح لامهما وخفضهما منونا أي عن فضول ما يتحدث به في المجالس من قولهم قيل كذا وقال كذا ويجوز بناؤهما على أنهما ماضيان في كل منهما ضمير راجع إلى مقدر وهو الأشهر الأكثر بناء على الحكاية ويجوز إعرابهما إجراء لهما مجرى الأسماء ولا ضمير فيهما وعن أبي عبيد أنهما مصدران تقول قلت قولا وقيلا وقالا وقد قرئ قال الحق بدل قول الحق والمراد النهي عن نقل أقوال الناس مما لا فائدة فيه وقيل المراد النهي عن كثرة الكلام ابتداء وجوابا مما يوقع في الخطأ وما لا يجدي نفعا فيرجع إلى حديث كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ونسب للشافعي: لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال (وكثرة السّؤال) أي عما بأيدي الناس بأن يسأل الناس أموالهم أو عن أخبارهم مما لا فائدة فيه من التجسس وقيل النهي عن الأغلوطات وفي كثرة السؤال دليل جواز القلة وشرطه الحاجة ولله در القائل: بلوت مرارة الأشياء طعما ... فلا شيء امر من السؤال وقيل السؤال عن المتشابهات وقيل كثرة سؤال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما لم ينزل ولم تدع الحاجة إليه ومنه قوله تعالى لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ومنه حديث وسكت عن أشياء غير نسيان فلا تبحثوا عنها والكثرة بالفتح وتكسر (وإضاعة المال) أي بصرفه في غير مرضاة الله عز وجل ويدخل في الاسراف في النفقة والبناء والملبوس والمفروش وأمثال ذلك وقيل إهماله وترك القيام عليه وقيل دفعه إلى السفهاء وقيل عدم صرفه في موضعه اللائق به كما قيل: وما ضاع مال أورث المجد أهله ... ولكن أموال البخيل تضيغ (ومنع) بالجر منونا وفي نسخة بفتح العين (وهات) بالكسر وفي نسخة بالفتح ويروى على بناء الماضي أي منع ما يجب عليه اعطاؤه وطلب ما ليس به (وعقوق الأمّهات) أي والآباء فهو من باب الاكتفاء أو لأن أكثر العقوق يقع بهن لضعفهن ورحمهن ولأنهن ما كان عند العرب كثير حرمة لهن أو للإيماء بأن عصيانهن اقبح لأنهن أكثر محبة وأشد شفقة لقوله تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ الآية ولما ورد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لما قيل له من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك (ووأد البنات) بهمزه ساكنة وتبدل أي دفنهن حيات أنفة وغيرة ومنهم من وأد تخفيفا لمؤنتهن وخشية الإملاق بهن ولذا خصهن بالذكر وإلا فالوأد حرام وكثر ذلك الفعل بهن ومنه حديث العزل الوأد الخفي ومع هذا جاء في الحديث أن دفن البنات من المكرمات ونعم الصهر القبر وروي عن ابن عباس رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 تعالى عنهما مرفوعا للمرأة ستران قيل وما هما قال الزوج والقبر قيل فأيهما استر قال القبر. (وقوله) أي وكقوله فيما رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر (اتّق الله حيثما كنت) وفي الأصول من كتب الحديث حيثما كنت وكذا في أصل الدلجي ولذا قال وما زائدة بشهادة رواية حذفها والمعنى اتق الله باكتساب أوامره واجتناب زواجره في كل مكان وزمان فإنه معك أينما كنت وحيثما كنت والخطاب لرواية من صحابته أو عام لكل فرد من أفراد أمته (وأتبع) بفتح الهمزة وكسر الموحدة أي أعقب والحق (السّيّئة) أي الصادرة منك (الحسنة) أي من صلاة أو صدقة ونحوهما وروي بحسنة (تمحها) بفتح أوله وضم الحاء مجزوما بجواب الأمر وهو مقتبس من قوله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقيل المعنى بالحسنة بالحديث التوبة ثم المراد بمحوها إزالتها حقيقة بعد كتابتها أو محوها كناية عن عدم المؤاخذة بها والظاهر أن جنس الحسنة يمحو جنس السيئة فلا ينافي ما ورد من أن الحسنة تمحو عشر سيئات وخص من عمومها السيئة المتعلقة بالعبد كالغيبة فلا يمحوها إلا الاستحلال ولو بعد التوبة نعم قبل وصولها إليه ترفع بالحسنة لحديث إذا اغتاب أحدكم من خلفه فليستغفر له فإن ذلك كفارة له وقيل تمحها بحسنة يضاد أثرها أثر السيئة التي ارتكبها فسماع الملاهي يكفر بسماع القرآن ومجالس الذكر وشرب الخمر يكفر بتصدق شراب حلال ونحو ذلك فإن المعالجة بالأضداد (وخالق النّاس) أي خالطهم وعاشرهم (بخلق حسن) أي بطلاقة وجه وكف أذى وبما تحب أن يعاملوك به فإن الموافقة مؤنسة والمخالفة موحشة. (وخير الأمور أوسطها) هذا حديث مستقل رواه ابن السمعاني في تاريخه أي المتوسطة بين الإفراط والتفريط في الأخلاق كالكرم بين التبذير والبخل والشجاعة بين التهور والجبن وفي الأحوال كالاعتدال بين الخوف والرجاء والقبض والبسط وفي الاعتقاد بين التشبيه والتعطيل وبين القدر والجبر وفي المثل الجاهل إما مفرط إما مفرط وفي التنزيل وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا والحاصل أن الإنسان مأمور أن يجتنب كل وصف مذموم بالبعد عنه وأبعد الجهات والمقادير من كل طرفين وسطهما فإذا كان في الوسط فقد بعد عن الاطراف المذمومة ولعل هذا معنى قولهم كن وسطا وامش جانبا. (وقوله) أي وكقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أحبب) من أحبه فإن حببته أحبه بالكسر شاذ وقوله (حبيبك) بمعنى محبوبك والمعنى أحبب الذي تحبه مما سوى الله ورسوله (هونا ما) ما زائدة للمبالغة في القلة أي حبا يسيرا ولا تسرف في حبه ولا تبالغ في تعلق القلب به كثيرا فإنه (عسى أن يكون) أي يصير وينقلب (بغيضك) أي مبغوضك (يوما ما) . أي حينا من الأحيان وتتمته وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما إذ ربما انقلب ذلك الحب بتغير الأحوال بغضا فتندم عليه إذا أبغضته أو انقلب البغض حبا فتستحي منه إذا أحببته ويقرب من هذا الكلام قول عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 رضي الله تعالى عنه لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا وفي معنى هذا الحديث أنشد أبو عمرو بن عبد البر في بهجة المجالس: وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت نازع وأبغض إذا أبغضت بغضا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت راجع والمقارب المقتصد (وقوله) أي وكقوله فيما رواه الشيخان (الظّلم) أي على النفس أو على الغير (ظلمات) بضم الظاء واللام وقال التلمساني ويفتح ويضم الثاني أي أنواع الظلم القاصر او المتعدي ظلمات حسية على أصحابه فلا يهتدون بسببه إلى الخلاص (يوم القيامة) أي في يوم يسعى نور المؤمنين الكاملين بين أيديهم وبإيمانهم بسبب إيمانهم وإحسانهم ويحتمل أن يراد بها الشدائد كما في قوله تعالى قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (وقوله) أي وكقوله فيما رواه الترمذي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (في بعض دعائه) أي في بعض دعواته لما فرغ من صلاته ليلة الجمعة (اللهمّ إنّي أسألك رحمة من عندك) أي من فضلك وكرمك لا بمقابلة عمل من عندي الحديث كذا في أصل الترمذي وليس في بعض النسخ لفظ من عندك (تهدي بها قلبي) أي تدله إليك وتقربه لديك (وتجمع بها أمري) أي حالي عليك (وتلمّ) بضم اللام وتشديد الميم (بها شعثي) بفتحتين أي تجمع لها تفرق خاطري وتضم بها تشتت أمري بمقام جمعي وحضوري (وتصلح بها غائبي) أي قلبي أو باطني بالأخلاق الرضية والأحوال العلية (وترفع بها شاهدي) أي قالبي أو ظاهري الأعمال البهية والهيئات السنية أو يراد بهما اتباعه الغائبون والحاضرون (وتزكّي بها عملي) أي تزيد ثوابه وتنميه أو تظهره وتنزهه عن شوائب الرياء والسمعة وسائر ما ينافيه (وتلهمني بها رشدي) أي صلاح حالي في حالي ومآلي (وتردّ) أي تجمع (بها ألفتي) بضم الهمزة اسم من الائتلاف وأما الإلفة بالكسر فالمرأة تألفها وتألفك وألفه كعلمه ألفا بالكسر والفتح على ما في القاموس فقول الدلجي بضم الهمزة وكسرها مصدر بمعنى المفعول ليس في محله والمراد بها الألفة في العبادة أو حسن الصحبة مع ارباب السعادة ومنه حديث المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف على ما رواه الدارقطني عن جابر مرفوعا ومنه قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (وتعصمني) أي تحفظني وتمنعني (بها من كلّ سوء) أي تصرفني عنه وتصرفه عني وهو بضم السين وقد تفتح الضرر الحسي والمعنوي (اللهمّ إنّي أسألك الفوز) أي النجاة (في القضاء) أي فيما قضيته وقدرته علي من البلاء وفي نسخة عند القضاء أي حين حلول القضاء وضيق الفضاء بتوفيق الرضى وروى المنجاني في العطاء ثم قال ويروى في القضاء كما ذكره المصنف في الشفاء (ونزل الشّهداء) بضمتين وتسكن الزاي وأصله ما يعد للضيف أول نزوله والمراد هنا جزيل الثواب وجميل المآب وقيل النزل بمعنى المنزل ويؤيده رواية ومنازل الشهداء (وعيش السّعداء) أي الحياة الطيبة المقرونة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 بالطاعة والقناعة من غير التعب والعناء وفي رواية زيادة ومرافقة الأنبياء (والنّصر على الأعداء) أي من النفس والشياطين وسائر الكافرين والحديث طويل كما ذكره بعض الشراح وفي هذا الحديث دليل واضح على أن السجع في الدعاء إنما يكون مكروها على ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره إذا كان عن تكلف وتعسف يمنعه عن حسن الثناء ويشغله عن حضور القلب عن الدعاء ثم هذه الروايات من الكلمات الجامعات منضمة (إلى ما روته الكافّة عن الكافة) أي جميع الرواة عن الثقات وحكي عن سيبويه أنه لا يجوز استعمال كافة معرفا بل نكرة منصوبة على الحالية كقاطبة (من مقاماته) بيان لما والمعنى من مقالاته في اختلاف مقاماته وحالاته ومجالس وعظه ودلالاته (ومحاضراته) أي في محاوراته (وخطبه) أي في جمعه وجماعاته (وأدعيته) أي وقت مناجاته (ومخاطباته) أي في مجاوباته (وعهوده) أي في مبايعاته (ممّا لا خلاف) أي بين العلماء الأنام (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (نزل) فعل ماض وقد وهم اليمني في ضبطه بضم النون والزاي منونا وذكر معانيه التي هي غير ملائمة للمقام فالمعنى أنه تنزله وحل ووصل (من ذلك) أي مما ذكر من علو المقام (مرتبة) بقاف فموحدة أي موضعا مشرفا كما في الصحاح وفي نسخة بقاف فألف وكلتاهما بمعنى مرتبة كما في نسخة وقال اليمني هي الصواب والحاصل أن النسخ كلها بمعنى درجة عالية (لا يقاس) أي عليه (بها غيره) فأين الثريا من يد المتناول في الثرى ولا يقاس الملوك بالحدادين في السلوك (وجاز) بالحاء والزاي أي ضم وجمع (فيها سبقا) بفتح فسكون مصدر سبق وهو التقدم في السير ويستعار لإحراز الفضل والخير وبفتحهما ما يجعل من المال رهنا في المسابقة وأغرب الحلبي من بين الشراح في قوله إنه يتعين ههنا فتح الباء (لا يقدر قدره) بصيغة المجهول أي لا تعرف عظمة شأنه ورفعة برهانه (وقد جمعت) بصيغة المتكلم في أكثر النسخ وضبطه الدلجي بتاء تأنيث ساكنة مبنيا للمفعول (من كلماته) من تبعيضية أو زائدة وأنت الضمير نظرا إلى الكلمات كذا ذكره الدلجي والظاهر كون من تبعيضية لقلة وجودها زائدة في الكلام الموجب مع أن كلماته لا تستقصي في مقام الرواية والمفعول أو نائب الفاعل قوله (الّتي لم يسبق إليها) بصيغة المجهول أي ما سبقه واحد إلى تلك الكلمات البالغة لإصابتها نهاية البلاغة وغاية الفصاحة (ولا قدر أحد أن يفرغ) من الإفراغ أي (في قالبه) بفتح اللام وتكسر ففي القاموس القالب كالمثال يفرغ فيه الجواهر وفتح لامه أكثر والمعنى لم يقدر أحد أن يكسب جواهر المعاني في قوالب زواهر المباني (عليها) أي على نهج تلك الكلمات التي ليس لها مناني (كقوله) أي يوم حنين على ما رواه مسلم والبيهقي الآن (حمي الوطيس) بفتح الحاء وكسر الميم أي اشتد الحرب والوطيس في الأصل التنور شبه به الحرب لاشتعال نارها وشدة إيقادها فاستعار لها اسمه في إيرادها استعارة تحقيقية لتحقق معناها حسا وقرنها بقوله حمى ترشيحا للمجاز وقيل هو الوطئ الذي يطس الناس أي يدقهم وقال الأصمعي هو حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 على وطئها عبر به عليه الصلاة والسلام عن اشتباك الحرب وقيامها على ساق فهو كلام في غاية الإيجاز ومما يشبه الألغاز وكاد أن يكون من باب الاعجاز (ومات حتف أنفه) أي كقوله فيما رواه البيهقي في شعب الإيمان ولفظه من مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله يعني إذا خرج مجاهدا في سبيل الله والمعنى مات بلا مباشرة قتل ولا ضرب ولا غرق ولا حرق وخص الأنف لأنه أراد أن روحه تخرج من أنفه بتتابع نفسه أو لأنهم كانوا يتخيلون أن المريض تخرج روحه من أنفه والجريح من جراحته (ولا يلدغ المؤمن من جحر) بضم جيم فسكون حاء (مرّتين) أي كما رواه البخاري وغيره وروي لا يلسع وهو إما خبر فمعناه أن المؤمن الفطن هو اليقظ الحازم الحافظ الذي لا يؤتى من جهة الغفلة فيخدع وهو لا يشعر مرة بعد مرة وأما نهي فمعناه لا يخدعن المؤمن من باب واحد من وجه واحد مرة بعد أخرى فيقع في مكروه بل فليكن حذرا يقظا في أمر دنياه وأخراه وسبب الحديث أن أبا عزة الجمحي أسر ببدر فمن عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يهجوه ولا يحرض عليه فغدر ثم أسر بأحد فقال يا رسول الله غلبت أقلني فقال لا أدعك تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمدا مرتين وأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ثم أمر بضرب عنقه (والسّعيد من وعظ) بصيغة المجهول أي أتعظ (بغيره) كما رواه الديلمي وروي تمامه والشقي من وعظ به غيره (في أخواتها) أي أشباه هذه الكلمات والمعنى أنها جمعت معها كالأعمال بالنيات والمجالس بالأمانات والحرب خدعة وأمثالها من الكلما الجامعات منها كل الصيد في جوف الفرا أي الحمار الوحشي قاله لأبي السبيعي لما أسلم أي اجتمع كمال خصال الناس فيه وإياكم وخضراء الدمن ولا يجني على المرء إلا يده والبلاء مؤكل بالمنطق وترك الشر صدقة وسيد القوم خادمهم والخيل في نواصيها الخير وإن من الشعر لحكمة ونية المؤمن خير من عمله والدال على الخير كفاعله ونعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ والندم توبة ونحو ذلك (مما يدرك النّاظر العجب) أي مما يتصوره وفي نسخة بنصف الناظر ورفع العجب فالمعنى مما يلحقه العجب إذا نظر (في مضمّنها) بفتح الميم المشددة وفي نسخة من ضمنها أي مضمونها وما يتضمنها من المعاني البديعة في المباني المنيعة (ويذهب به) أي ومما يذهب بالناظر (الفكر في أداني حكمها) بكسر ففتح جمع حكمة والمعنى فيتعجب بتأمله في فهمها باعتبار أدانيها فما ظنك بأقاصيها (وقد قال له أصحابه) أي كما رواه البيهقي في شعب الإيمان. (ما رأينا الذي هو أفصح منك) الجملة من المبتدأ والخبر صلة الموصول وهو عائد الموصول لا ضمير أفصح كما توهم الدلجي فإن ضميره راجع إلى المبتدأ كما لا يخفى على المبتدي (فقال وما يمنعني) أي من أن أكون أفصح (وإنّما أنزل القرآن) أي الذي هو في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة مع إيجاز المباني وحسن البيان والمعاني (بلساني لسان عربي مبين) أي واضح او موضح ولسان بدل أو بيان. (وقال مرّة أخرى) أي كما رواه اصحاب الغرائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ولم يعرف له سند (أنا أفصح العرب بيد) أي غير (أنّي) أو على أني (من قريش) فيكون من باب المدح بما يشبه الذم كقول القائل: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ومنه قول النابغة: فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا وفي مشارق الأنوار للمصنف أن بيد بمعنى لأجل وفي المعنى هنا بمعنى من أجل أني من قريش (ونشأت) أي تربيت وفي رواية ارضعت (في بني سعد) أي وهما طائفتان فصيحتان من العرب العرباء وفيهم البلغاء من الشعراء والخطباء وللطبراني أنا أعرب العرب ولدت في قريش ونشأت في بني سعد فأنى يأتيني اللحن وأما حديث أنا أفصح من نطق بالضاد بيد اني من قريش فنقله الحلبي عن ابن هشام لكن لا أصل له كما صرح به جماعة من الحفاظ وأن كان معناه صحيحا والله أعلم وأغرب التلمساني في قوله وتكسر همزة إني على الابتداء وقال روى الحديث محمد بن إبراهيم الثقفي عن أبيه عن جده (فجمع له) بصيغة المجهول أي فاجتمع له الجمع الله له (بذلك) أي بسبب ما ذكر من أصالة قريش وحضانة بني سعد (صلى الله تعالى عليه وسلم) كان محله بعدله (قوّة عارضة البادية) أي حلاوة كلام أهل البادية (وجزالتها) بالرفع وهو ضد الركاكة (ونصاعة ألفاظ الحاضرة) أي وخلوص ألفاظ أهل الحضور في القرى من شوائب خلط الخلطة بغيرهم، (ورونق كلامها) أي وحسن تعبير أهل الحاضرة المفهومة للعامة والخاصة حال كون ذلك كله منضما (إلى التّأييد الإلهي الذي مدده) بالرفع أي زيادته المتوالية وإمداده (الوحي الذي لا يحيط بعلمه بشري) أي منسوب إلى البشر وهم بنو آدم ولو قال الآدمي بدله كان أنسب معنى وأقرب مبنى لسجع الإلهي والحاصل أن كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم متناه في الفصاحة والبلاغة ولكن لا يبلغ مرتبة المعجزة خلافا لبعض المتكلمين حيث قال إن اعجازه دون اعجاز القرآن ولعله أراد باعتبار المعنى دون المبنى. (وقالت أمّ معبد) بفتح ميم وموحدة وهي عاتكة بنت خالد الخزاعية (في وصفها له) أي للنبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) حين نزل بها في طريق المدينة سنة الهجرة كما ذكره اصحاب السير وأصحاب الشمائل تضمنا للمعجزات وخوارق العادات حينئذ فمن جملة ما وصفت أنه (حلو المنطق) أي مستلذه ومستحلاه لاشتماله على حلاوة كلامه وعذوبة مرامه وسلاسة سلامه وحسن بدئه وختامه ونظام تمامه. (فضل) أي مفصول مبين ومفهوم معين أو فاصل بين الحق والباطل أو حق لا باطل ومنه قوله تعالى في التنزيل إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي فاصل قاطع (لا نزر) بفتح نون فسكون زاء أي لا يسير فيشير إلى خلل (ولا هذر) بفتح هاء وسكون ذال معجمة أي ولا كثير فيميل إلى ملل وأما الهذر بفتح الذال فمعناه الهذيان وأغرب الأنطاكي حيث اقتصر في ضبطه على الفتح (كأنّ منطقه) أي منطوقة (خرزات) أي جواهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 متعالية ولآلئ متغالية (نظمن) بصيغة المجهول أي سلكن في سلك كلماته وضمن عباراته متتابعة متناسقة متناسبة متوافقة والحاصل أنه تشبيه بليغ لارادة زيادة المبالغة على ما صرح به الدلجي إلا أنه مبني على أن كان منطقه من الأفعال الناقصة وفي بعض النسخ المصححة بتشديد النون على أنها من الحروف المشبهة فحينئذ لا يكون تشبيها بليغا كما لا يخفى على البلغاء (وكان جهير الصّوت) أي عاليه وهو مما يمدح في أحوال الرجال ولذا مدح أيضا بسعة الفم والله تعالى أعلم (حسن النّغمة) بفتح النون وسكون العين المعجمة أي حسن الصوت حيث تقبله الاسماع وتألفه الطباع كما روي أن الله لم يبعث نبيا إلا حسن الصورة وحسن الصوت (صلى الله تعالى عليه وسلم) أي أولا وآخرا والله تعالى أعلم. فصل [وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشأه] (وأمّا شرف نسبه) أي المنسوب إلى قومه (وكرم بلده ومنشأه) أي الذي ولد وتربى فيه وقيل المراد من منشأة محل مرضعته حليمة من بني سعد (فما لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَلَا بيان مشكل ولا خفي منه) أي مما ينسب إليه (فإنّه) أي باعتبار نسبه (نخبة بني هاشم) أي خيارهم (وسلالة قريش) أي خلاصتهم وصفوتهم سلت من خالصيهم والظاهر أنه مرفوع وجعله التلمساني مجرورا على أنه بدل من بني هاشم (وصميمها) بالرفع أي قوامهم ومدارهم محضهم وخالصهم من غير خلطة غيرهم وأصل الصميم العظم الذي به قوام العضو وظاهر كلام الدلجي أن صميمها مجرور عطفا على قريش (وأشرف العرب) لأنه من بني هاشم وبنو هاشم من قريش وهم أشرف العرب في النسب وفي شرح الدلجي أفضل العرب من غير عاطفة بالجر صفة لقريش (وأعزّهم) أي وهو أقواهم واشجعهم وأسخاهم (نفرا) أي جماعة وقرابة (من قبل أبيه وأمّه) أي من قبل قبيلة أبويه (ومن أهل مكّة) أي وهو من أهل مكة (أَكْرَمِ بِلَادِ اللَّهِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى عِبَادِهِ) وفي هذا حجة على بعض المالكية في تفضيلهم المدينة السكينة على مكة المكينة وفي بعض النسخ من أكرم ولعله تصرف من بعضهم والله تعالى أعلم نعم يستثنى ما حوى بدنه الكريم فإنه أفضل حتى من الكعبة بل من العرش العظيم وعن المحب الطبري أن بيت خديجة يلي المسجد الحرام في الفضيلة ولم يذكر المصنف في هذا الفصل شيئا مما جاء في فضل مكة لظهوره وكمال وضوح نوره. (حدّثنا قاضي القضاة) اللام للعهد إذ لا يجوز هذا الإطلاق على سبيل الاستغراق إلا على الملك الخلاق نحو ملك الملوك وسلطان السلاطين وأمثال ذلك (حسين بن محمّد الصّدفيّ) بفتحتين ففاء فياء نسبة (رحمه الله) تعالى وقد سبق ترجمته (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفٍ) وهو الباجي. (حدّثنا أبو ذر عبد بن أحمد) أي الهروي وهو عبد من غير إضافة فلا يكتب همزة ابن البتة ولو وقع أول الصفحة (حدّثنا أبو محمّد السّرخسيّ) هو الحموي وقد سبق ضبطه (وأبو إسحاق) أي المستملي وكان من الثقات (وأبو الهيثم) وهو محمد بن المكي بن الزراع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الكشميهني بضم الكاف وسكون الشين المعجمة وفتح الميم وسكون التحتية وفتح الهاء بعدها النون وياء النسبة نسبة إلى قرية قديمة من قرى مرو (حدّثنا) أي قالوا حدثنا كما في نسخة (محمّد بن يوسف) وهو الفربري، (قال حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري، (حدّثنا قتيبة بن سعيد) تقدم ذكره. (حدّثنا يعقوب بن عبد الرّحمن) أي ابن محمد بن عبد الله ابن القاري بالتشديد نسبة إلى القارة (عن عمرو) بالواو وهو مولى المطلب أخرج له الأئمة الستة واختلف في كونه ثقة (عن سعيد المقبريّ) بفتح الميم وضم الموحدة ويجوز فتحها وقال التلمساني بتثليث الموحدة وقيل له ذلك لأنه كان يسكن قرب المقابر وهو سعيد بن أبي سعيد المقبري وأما ما في بعض النسخ عن أبي سعيد فخطأ على ما ذكره الحلبي وفيه بحث لأن الحجازي صرح بأن كنيته أبو سعيد وأبوه كيسان وكنيته أبو سعيد أيضا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بني آدم قرنا فقرنا) أي خلقت وجعلت من خير طبقاتهم كائنين طبقة بعد طبقة (حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ مِنْهُ) أي حتى وجدت من بين الجمع الذي ظهرت منهم والقرن من الاقتران يطلق على أهل كل زمان يقترنون في أعمارهم وأحوالهم في مقداره أقوال عشرة عشرون ثلاثون أربعون خمسون ستون سبعون ثمانون مائة سنة مائة وعشرون مطلق من الزمان فتلك عشرة كاملة والأظهر أنه من الزمان ما غلب فيه وجود الأقران ولذا قيل: إذا ذهب القرن الذي أنت منهمو ... وخلقت في قرن فأنت غريب والمراد بالبعث تقلبه في أصلاب آبائه أبا فأبا كانتقاله من نابت بالنون ابن إسماعيل ثم من النضر بن كنانة ثم من قريش بن النضر ثم من عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ولله در القائل: كم من أب قد علا بابن ذوي شرف ... كما علا برسول الله عدنان (وعن العبّاس) كما رواه البيهقي في دلائل النبوة والترمذي وحسنه (قال: قال النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إنّ الله خلق الخلق) أي إنسا وملائكة وجنا ويحتمل تخصيصه بالثقلين (فجعلني من خيرهم) أي فتخيرهم وجعلني من خيرهم وهم الإنس (من خير قرنهم) بصيغة الإفراد وهو بدل مما قبله (ثمّ تخيّر القبائل) أي اختارهم (فجعلني من خير قبيلة) أي من العرب وهم قريش (ثمّ تخيّر البيوت) أي البطون (فجعلني من خير بيوتهم فأنا) أي بفضل الله علي ونظر لطفه في سابق علمه إلى (خيرهم نفسا) أي ذاتا إذ خلقني خاتم النبوة وتمم بي دائرة الرسالة وجعلني مدار الوجود ومظهر الكرم والجود (وخيرهم بيتا) أي مكانا في النسب والحسب من جهة الأم والأب. (وعن واثلة) بمثلثة مكسرة (ابن الأسقع) وهو من أرباب الصفة وضبط بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح قاف فعين مهملة وقال التلمساني بالسين والصاد ويجوز الزاء كما رواه مسلم والترمذي واللفظ له (قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبراهيم) قيل هو معرب أب رحيم والولد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 بفتحتين أو بضم فسكون أي اختار من أولاده وكانوا ثلاثة عشر (إسماعيل) إذ كان نبيا رسولا إلى جرهم وعماليق الحجاز وأغرب التلمساني حيث قال إسماعيل باللام والنون (واصطفى من ولد إسماعيل) وكانوا اثني عشر ولدا على ما ذكره ابن إسحاق (بني كنانة) وهو بكسر الكاف ابن نابت وبين كنانة ونابت فيما ذكر ابن إسحاق ثلاثة عشر أبا (واصطفى من بني كنانة) وكانوا أربعة منهم النضر (قريشا) وهم أولاد النضر روي أن في الرجل من قريش قوة رجلين من غيرهم (واصطفى من قريش بني هاشم) اسمه عمرو وسمي بذلك لأنه أول من هشم الثريد لقومه وأضيافه من الحجاج وغيرهم في سنة القحط (واصطفاني من بني هاشم) أي بني عبد المطلب بن هاشم (قال الترمذي وهذا حديث صحيح) أي إسناده قال المنجاني وقد خرجه مسلم في صحيحه؛ (وَفِي حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما رواه الطّبري) أي محمد بن جرير أحد الأعلام وصاحب التصانيف من أهل طبرستان وسمع خلائق وأخذ القراءة عن جماعة توفي سنة عشر وثلاثمائة وكذا الطبراني في معجميه الكبير والأوسط (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم قال إنّ الله عزّ وجلّ اختار خلقه) أي تخيرهم وقيل أوجدهم لأن المختار عند المتكلمين هو الفاعل لا على سبيل الإكراه (فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي آدَمَ ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي آدم) أي تنقاهم (فاختار منهم العرب ثمّ اختار العرب) أي انتقدهم (فاختار منهم قريشا) وهم أولاد النضر بن كنانة وسموا قريشا لأن قصيا قرشهم أي جمعهم في الحرم بعد ما كانوا متفرقين (ثُمَّ اخْتَارَ قُرَيْشًا فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ ثمّ اختار بني هاشم فاختارني) أي منهم (مِنْهُمْ فَلَمْ أَزَلْ خِيَارًا مِنْ خِيَارٍ أَلَا) للتنبيه على تحقيق ما بعده من الأمر النبيه (من أحبّ العرب فبحبّي) أي فبسبب حبه إياي (أحبّهم ومن أبغض العرب فببغضي) أي فبسبب بغضه إياي (أبغضهم) أي والمعنى إنما أحبهم لأنه أحبني وإنما أبغضهم لأنه أبغضني فثبت بذلك قول بعض المالكية من سبهم وجب قتله لكن قد يقال المعنى فبسبب حبي وبغضي إياهم أحبهم وأبغضهم لا بسبب آخر فمن أحبهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أهل الإيمان يجب محبتهم ومن أبغضهم من أهل العدوان يجب عداوتهم وأما الطعن في جنس العرب فهذا محل بحث وسيأتي تحقيقه (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) عَلَى ما رواه ابن أبي عمر والعدني في مسنده (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كانت روحه) وفي أكثر النسخ أن قريشا أي من حيث هو فيهم كانت (نورا بين يدي الله تعالى) أي مقربا عنده سبحانه وتعالى (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ يُسَبِّحُ ذلك النّور) أي قبل عالم الظهور (وتسبّح الملائكة بتسبيحه) أي بسببه أو بما يقول من تسبيحه على طبقه ووفقه (فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَلْقَى ذَلِكَ النُّورَ في صلبه) بضم فسكون وفي القاموس بالضم وبالتحريك هو عظم من لدن الكاهل إلى العجب وقال التلمساني هو عمود الظهر ويقال بضم الصاد وفتحها (فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فأهبطني الله عز وجل إِلَى الْأَرْضِ فِي صُلْبِ آدَمَ وَجَعَلَنِي فِي صلب نوح) أي بعد ما كان في صلب شيث وإدريس (وقذف بي) أي بعد ذلك (في صلب إبراهيم) أي من صلب سام بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 نوح (ثُمَّ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُنِي مِنَ الأصلاب الكريمة والأرحام الطّاهرة حتّى أخرجني) أي أطهرني (من) وفي نسخة بين (أبويّ لم يلتقيا) أي أبواي من آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة (على سفاح) بكسر السين أي على غير نكاح (قطّ) أي أصلا وقطعا (ويشهد بصحّة هذا الخبر شعر العبّاس) وهو قوله. من قبلها طبت في الظلال وفي الخ (المشهور في مدح النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) كما سيأتي في كلام القاضي والله أعلم. فصل [وأما تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثلاثة ضروب الضرب الأول] (وَأَمَّا مَا تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فصّلناه) أي مما بيناه فيما تقدم أول الباب من فضائله فيه (فعلى ثلاثة ضروب) وفي بعض النسخ أضرب أي على ثلاثة أنواع أو أصناف (ضرب الفضل) أي هو الفضل ويجوز فيه الإضافة (في قلّته) وهو الذي أورده هنا، (وضرب الفضل في كثرته) أورده في فصل ثان، (وضرب تختلف الأحوال فيه) ذكره في فصل ثالث؛ (فأمّا ما) أي ضرب (التّمدّح والكمال بقلّته اتّفاقا) أي بين العلماء والحكماء من العرب والعجم وغيرهم من العقلاء (وعلى كلّ حال) أي وفي قلته على كل حال بأصل الخلقة أو بحكم المجاهدة (وعادة وشريعة) أي عقلا ونقلا أو عادة وعبادة (كالغذاء) بكسر المعجمة الأولى ما يتغذى به من الطعام والشراب وهو أعم من الغداء بفتح المعجمة والدال المهملة وهو ما يؤكل أول النار كما أن العشاء بالفتح ما يؤكل بعد الزوال إلى العشاء بالكسر فتجويز الدلجي ضبطه بالمعجمة والمهملة من المهمل الذي ليس في محله المستعمل وكذا قول اليمني وأما الغداء بفتح الغين المعجمة والدال المهملة فهو الطعام بعينه وهو خلاف العشاء انتهى مع ما فيه من التناقض بين قوله هو الطعام بعينه وبين قوله وهو خلاف العشاء (والنّوم) أي وكالنوم، (ولم تزل العرب) أي من العقلاء (والحكماء) أي منهم ومن غيرهم من القدماء (تتمادح) أي تتفاخر (بقلّتهما وتذمّ) أي وتتعايب (بكثرتهما) او التقدير تذم التقيد بكثرتهما وفي نسخة وتذم كترتهما (لأنّ كثرة الأكل والشّرب) بتثليث الشين والضم ثم الفتح أشهر وأما الكسر ففي معنى النصيب أكثر (دليل على النّهم) بفتحتين أي الافراط في شهوة الطعام (والحرص) أي على جمع المال لنيل المنال أو على طول الحياة لحصول اللذات (والشّره) بفتحتين أي غلبة الحرص وقيل وهو أن يأكل نصيبه ويطمع في نصيب غيره فهما مجروران عطفا على النهم بفتحتين للتفسير والتأكيد ثم قوله (وغلبة الشّهوة) مبتدأ خبره قوله، (مسبّب) بكسر الباء والمسبب في الحقيقة هو الله تعالى فكان الأولى أن يقول سبب أي أمر موجب وباعث مجتلب (لمضارّ الدّنيا والآخرة) وفي بعض النسخ ضبط الحرص والشره وغلبة الشهوة كلها بالرفع فيكون مسبب خبرا ثانيا لأن ويؤيده قوله (جالب) بلا عاطف وليس كما قال الدلجي عطف على دليل أو مسبب ثم المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 جاذب ومكسب (لأدواء الجسد) جمع الداء بمعنى المرض (وخثارة النّفس) بضم الخاء المعجمة أي ثقلها بلا طيب ونشاط (وامتلاء الدّماغ) وهو أعلى الرأس من القحف أي من رطوبات ابخرة متصاعدة تورث استرخاء اعضائه الذي به النوم الذي يفوت خيرا كثيرا؛ (وقلّته) عطف على كثرة الأكل وهو اسم أن أو على محلها أي قليل من الأكل (دليل على القناعة) أي الرضى باليسير والتسليم للقسمة (وملك النّفس) بكسر الميم أي وعلى قدرتها وحكمها على قمعها ومنعها من الميل إلى الشهوات واتباعها؛ (وقمع الشّهوة) بالرفع مبتدأ خبره (مسبّب للصّحة) وجوز الدلجي جره عطفا على ما قبله فيكون مسبب خبرا ثانيا لقلته وهو بعيد لفظا ومعنى وجوز الحجازي رفع ملك النفس أيضا فتأمل والمراد من الصحة صحة الظاهر وهو الجسد من الآلام والأسقام لأن التخمة أصل كل علة (وصفاء الخاطر) أي وسبب لخلوص الباطن من الكدورات المتولدة بانهماك النفس في المستلذات (وحدّة الذّهن) أي لذكائه وهي شدة قوة للنفس معدة لاكتساب الآراء المستقيمة (كَمَا أَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ دَلِيلٌ عَلَى الْفُسُولَةِ) بضم الفاء والسين المهملة أي الرذالة وفتور النفس (والضّعف) بالضم والفتح أي ضعف البنية، (وعدم الذّكاء والفطنة) أي وعلى عدمها وقوله (مسبّب) خبر ثان لأن أو عدم الذكاء مبتدأ خبره مسبب (للكسل) أي الملالة في الطاعة (وعادة العجز) أي وتعود العجز عن القيام بالعبادة روي أن من خصائصه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يتثاءب ولا يتمطى لأنهما من عمل الشيطان (وتضييع العمر) بضمهما ويسكن الثاني (في غير نفع) أي بلا منفعة حقيقية لأن النفس إذا توجهت إلى معرفة شيء ومزاولة عمل ولم تجد لها آلة تساعدها من صدق تخيل وصحة فكر وتأمل وجودة حفظ وتعقل لفقد اعتدال المزاج بسبب كثرة الأكل والنوم فترت همتها عن العلم والعمل واعتادها الكسل مع حصول عجز البدن عن وصول الأمل وإضاعة العمر في غير نفع مدة الأجل (وقساوة القلب) أي وفي شدته وغلظته (وغفلته) أي إهماله وتركه عن تحصيل منفعته (وموته) أي وموت قلبه لأن حياته بذكر ربه وفكر حبه؛ (والشّاهد على هذا) أي والدليل الظاهر على ما ذكرناه من أن كثرة الأكل والنوم تورث ما قدمناه (ما يعلم ضرورة) أي بديهة بأوائل الفطرة من غير حاجة إلى الفكرة كالعلم بجوع النفس وعطشها وقبضها وبسطها وكالعلم بأن الواحد نصف الاثنين والاثنين أكثر من واحد ونصب ضرورة على التمييز (ويوجد مشاهدة) أي معاينة منا ومن غيرنا وهي منصوبة على المفعولية، (وينقل) أي يروى إلينا ممن سبق علينا (متواترا) أي نقلا متتابعا مرة بعد مرة وفي الاصطلاح خبر اقوام عن أمر محسوس يستحيل عادة تواطئهم على الكذب (من كلام الأمم المتقدّمة والحكماء السّافلين) أي السابقة كقول الحارث ابن كلدة أفضل الدواء الازم يريد قلة الأكل والحمية وقول بعض الحكماء خصلتان يقسو بهما القلب كثرة الأكل وكثرة الكلام وقول داود لابنه سليمان عليهما السلام إياك وكثرة النوم فإنه يفقرك إذا احتاج الناس إلى أعمالهم (وأشعار العرب وأخبارها) ومن الأول قول الأعشى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 تكفيه حذة لحم إن الم بها ... من الشواء وتروى شربة الغمر ومن الثاني قول قس بن ساعدة وقد قال له قيصر ما أفضل الأكل قال ترك الإكثار منه قال فما أفضل الحكمة قال معرفة الإنسان قدره قال فما أفضل العقل قال وقوف الإنسان عند علمه (وصحيح الحديث) كما سيأتي (وآثار من سلف وخلف) أي من الصحابة والتابعين كما سيجيء (ممّا لا يحتاج إلى الاستشهاد عليه) أي لكونه مما لا يخفى (وإنّما تركنا ذكره هنا اختصارا) أي في اللفظ (واقتصارا) أي في المعنى (على اشتهار العلم به) أي بناء واعتمادا على شهرته لكمال كثرته؛ (وكان النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَ مِنْ هَذَيْنِ الْفَنَّيْنِ) أي النوعين من الغداء والنوم (بالأقلّ) أي بالحد الأقل الذي لا يجوز التجاوز عنه ويجب الانتفاع به حفظا للبنية وقوة على الطاعة؛ (هذا) أي هذا الحد الذي أخذ به منهما واكتفى فيه عن طلب غيرهما (ما لا يدفع) بصيغة المجهول أي لا ينكر ولا يمنع (من سيرته) لكمال شهرته وكثرة نقلته (وهو الذي أمر به) أي غيره (وحضّ عليه) أي من وافق سيره (لا سيّما) مركبة من لا وسى وما وسى اسم بمنزلة مثل وزنا ومعنى أي لا مثل ما وتكون ما زائدة أو موصولة قال ثعلب من استعمله بلا واو مخفف الياء أخطأ وليس كما قال بل تحذف واوه ويخفف كقوله: وبالعقود وبالإيمان لا سيما ... عقد وفاء به من أعظم القرب كذا قرره الحجازي وفيه بحث لا يخفى (بارتباط أحدهما بالآخر) أي خصوصا مع ملاحظة ارتباطهما وانعقادهما في تلازمهما من حيث إن النفس إذا شبعت تشوقت إلى الراحة بالنوم وفترت عن العبادة فتنام كثيرا فتحسر في حياته كثيرا وتندم عند مماته كثيرا لقلة زاده ليوم معاده بدليل ما سيأتي من الأخبار والآثار منها ما قال المصنف رحمه الله تعالى. (حدّثنا أبو عليّ) أي ابن سكرة (الصّدفيّ) بفتحتين (الحافظ) أي للكتاب والسنة (بقراءتي عليه) أي هذا الحديث دون إملائه لي وهذا بيان لأحد نوعي الأخذ ودليل على كمال الحفظ وقد سبقت ترجمته (حدّثنا أبو الفضل) وهو أحمد بن خيرون وقد سبق ذكره (الأصفهانيّ) بفتح الهمزة وتكسر والفاء مفتوحة ويروى بالباء بدل الفاء وأما النطق بموحدة بين الباء والفاء فلفظ فارسي قيل وأهل المشرق يقولون بالفاء وأهل المغرب بالباء وهي مدينة عظيمة من بلاد العجم من نواحي العراق ومن شرف أصبهان أنها لا تخلو أبدا من ثلاثين رجلا يستجاب دعاؤهم لدعوة الخليل عليه السلام لما حمل منهم نمرود ثلاثين للحرب فلما رأوا الخيل آمنوا به فدعا لهم بذلك كذا ذكره التلمساني (حدّثنا أبو نعيم الحافظ) قال الحلبي هذا هو الحافظ الكبير محدث العصر أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني الصوفي الأحول سبط الزاهد محمد بن يوسف البناء ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وله مصنفات كثيرة (حدّثنا سليمان بن أحمد) هذا هو الإمام الواسطي الحافظ الكبير الثبت مسند الدنيا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي بالمعجمة الشامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ولد سنة ستين ومائتين واعتنى به أبوه ورحل به في حداثته وسمع بمدائن الشام والحرمين واليمن ومصر وبغداد والكوفة والبصرة وأصفهان والجزيرة وغير ذلك وحدث عن أكثر من ألف شيخ وصنف المعجم الكبير والمعجم الأوسط وهو كتاب جليل تعب عليه وكان يقول هو روحي والمعجم الصغير يذكر فيه عن كل شيخ حديثا وله مصنفات كثيرة مفيدة وعاش مائة سنة (حدّثنا أبو بكر بن سهل) أي الدمياطي روى عن عبد الله بن يوسف وكاتب الليث وطائفة وعنه الطحاوي والطبراني وجماعة توفي سنة تسع وثمانين (حدّثنا عبد الله بن صالح) أي الجهمي كاتب الليث على أحواله روى عن معاوية بن صالح وموسى بن علي وطائفة وعنه البخاري وابن معين وخلق قال الفاضل الشعراني ما رأيته إلا يحدث أو يسبح (حدّثني معاوية بن صالح) هو الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس روى عن مكحول وغيره وعنه ابن وهب وابن مهدي وجمع (أنّ يحيى بن جابر) أي الطائي الشامي قاضي حمص (حدّثه عن المقدام) بكسر الميم (ابن معد يكرب) بعدم الانصراف وقد يصرف قال الحلبي فيه لغات رفع الباء ممنوعا والإضافة مصروفا وممنوعا انتهى ولا يخفى أن الرفع لا وجه له هنا (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وعاء شرّا من بطنه) ويرى من بطن لما فيه من الضرر الكثير به وسائر الأوعية إنما استعملت فيما هي له وهو إنما خلق ليتقوم به الصلب من الطعام فامتلاؤه يفضي إلى فساد الدين والدنيا فيكون شرا منها في مقام المرام، (حسب ابن آدم) بسكون السين أي كافيه (أكلات) بضمتين وقد تفتح الكاف وتسكن أيضا على ما صرح به بعضهم جمع أكلة بالضم والسكون لما يجعل في الفم من اللقمة وهو المراد ههنا وفي جمعها للقلة وهو لما دون العشرة إرشاد إلى قلة عددها وفي رواية لقيمات إشارة إلى قلة قدرها قال التلمساني وكان ذلك عادة عمر رضي الله تعالى عنه يقتصر على سبع أو تسع وأما بفتحتين فهو جمع الأكلة بمعنى المرة من الأكل وتجويزه ههنا للدلجي ليس في محله ويروى حسب المسلم وحسب المؤمن ورواية الترمذي بحسب ابن آدم أكلات (يقمن صلبه) بضم أوله أي يقوين ظهره بالضم وبالتحريك عظم من لدن الكاهل إلى العجب كما في القاموس فقول الدلجي تسمية للكل باسم جزئه إذ كل شيء من الظهر فيه فقار فهو صلب فيه بحث نعم خص الصلب لأنه عمود البدن وفيه النخاع الساقي للبدن وهو أصله ولذا من قطع نخعه مات وهو كناية عن أنه لا يتجاوز ما يحفظه من ضعفه ويتقوى على طاعة ربه والإسناد في الجملة مجازي لأن الإقامة صفة الهية، (فإن كان لا محالة) بفتح الميم ويضم أي لا بد ولا حيلة ولا فراق من التجاوز عن الإقامة البتة (فثلث) بضمتين وتسكن اللام مبتدأ والتقدير ثلث منه (لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) بفتح الفاء أي لتنفسه وبه يحصل نوع صفاء ورقة وكسر شهوة ورفع غفلة وسهولة مواظبة على الطاعة والعبادة والتخلص من القساوة والبلادة ومحافظة صحة البدن واعتدال المزاج غير المحتاج للمعالجة وقيل التقدير فإن كان لا بد أن يملأ بطنه ولم يقنع بما فيه قوة فليملأ ثلث بطنه بالطعام وثلثه بالشراب ويترك ثلثه خاليا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لخروج النفس ثم الأصول المعتمد والنسخ المصححة بضمير الغائب وتوهم الدلجي وذكره بلفظ طعامك وشرابك ونفسك وعلل بأنه التفات من الغيبة إلى الخطاب والله تعالى أعلم بالصواب وسمع عمر رضي الله تعالى عنه قول عنترة: ولقد أبيت على الطوى واطيله ... حتى أنال كريم المأكل فقال ذاك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتأول كريم المأكل بالجنة ولقد صدق في تأويله رضي الله تعالى عنه وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة ثم أحسن ما قيل في الحديث إن لا محالة عائد إلى ضرورة الأكل وإن الثلث في حيز الاستحسان والإباحة وقيل المستحسن نصفه وهو السدس وأقل منه شيئا وهو السبع لقوله فإن كان لا بد ولا محالة هذا وقيل لسهل بن عبد الله الرجل يأكل في اليوم أكلة واحدة قال أكل الصديقين قيل فأكلتين قال أكل المؤمنين قيل فثلاثا قال قل لأهلك يبنوا لك معلفا وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا أراد أن يشتري غلاما وضع بين يديه تمرا فإن أكل كثيرا قال ردوه فإن كثرة الأكل من الشؤم (وَلِأَنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ) أي إنما تنشأ من أجل كثرتهما غالبا وإلا فقد تكون من الضعف وغيره من العلل (قال سفيان الثّوريّ) نسبة إلى أبي قبيلة وهو أحد الأئمة الأعلام من علماء الأنام روى عن ابن المنكدر وغيره وعنه الأوزاعي ومالك وشعبة وأمثالهم وأخرج له الأئمة الستة قال ابن المبارك ما كتبت عن أفضل منه ولا عبرة بمن تكلم فيه وفي أمثاله إذ قل من لم يتكلم في حقه (بقلّة الطّعام يملك سهر اللّيل) بصيغة المجهول؛ (وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَا تَأْكُلُوا كَثِيرًا فَتَشْرَبُوا كثيرا فترقدوا كثيرا فتخسروا كثيرا) أي فتندموا كثيرا لنقص العمر الذي هو أنفس الجواهر كذا في الأصول المعتمدة وقال التجاني زاد الغزالي فتخسروا كثيرا. (وقد روي) أي عن جمع كأبي يعلى وغيره (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ ما كان على ضفف) بفتح المعجمة والفاء الأولى (أي كثرة الأيدي) يعني على الطعام وفيه حث على أن الأولى أن لا يأكل أحد وحده لما فيه من الدلالة على كرم النفس والسخاوة والمواساة والسماحة وحصول الكفاية مع توقع البركة لما في حديث مسلم طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية حملا للآكل على الاكتفاء بنصف الشبع قال ابن راهويه عن جرير تأويله شبع الواحد قوت الاثنين وهلم جرا وقد فسر الضفف بعضهم بكثرة العيال وبعضهم بالضيق والشدة واستشهد في المجمل بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشبع من خبز ولحم إلا على ضفف أي على كثرة الأيدي على الطعام وقال مالك بن دينار سألت رجلا من أهل البادية عن الضفف فقال هو التناول مع الناس وقيل هو أن تكون الأكلة أكثر من مقدار الطعام والجفف بالجيم وقيل بالحاء أن يكونوا بمقداره ويروى على شظف بالشين والظاء المعجمتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 بمعنى الضيق والشدة. (وعن عائشة رضي الله عنها لم يمتلىء جوف النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم شبعا) بكسر ففتح ويسكن (قطّ) تقدم ضبطه قال الدلجي لم أعرف من رواه ولا يعارضه ما أفهم شبعه في الجملة كحديث مسلم عنها ما شبع رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزٍ بر حتى مضى لسبيله وفي رواية من خبز شعير يومين متواليين فإن دلالة المفهوم ضعيفة فليست بحجة كما قال أبو حنيفة ولأن الامتلاء صفة زائدة على الشبع؛ (وأنّه) بالفتح فيكون من جملة رواية عائشة رضي الله تعالى عنها أو بالكسر على الاستئناف والضمير للشأن أوله صلى الله تعالى عليه وسلم (كَانَ فِي أَهْلِهِ لَا يَسْأَلُهُمْ طَعَامًا وَلَا يتشهّاه) لعدم التفاته إلى غير مولاه (إِنْ أَطْعَمُوهُ أَكَلَ وَمَا أَطْعَمُوهُ قَبِلَ وَمَا سقوه) ويجوز أسقوه (شرب) وهذا كان دأبه في آدابه وغالب حاله في سائر أفعاله كما هو طريق الأنبياء والأولياء في مقام الفناء والبقاء والمصنف لما استشعر اعتراضا واردا على ظاهر الحديث من حيث العموم دفعه بقوله؛ (ولا يعترض) بصيغة المجهول أي ولا يجوز لأحد أن يعترض (على هذا) أي قولها لا يسألهم طعاما (بحديث بريرة) بفتح فكسر أي بحديث وقع في حق بريرة وهي مولاة لعائشة رضي الله تعالى عنها واختلف أنها قبطية أو حبشية (وقوله) أي فيما رواه الشيخان عنه (ألم أر البرمة) بضم الباء وهي القدر من الحجارة أو أعم (فيها لحم) بفتح فسكون ويفتح (إِذْ لَعَلَّ سَبَبَ سُؤَالِهِ ظَنُّهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ) أي ولو بعد أن ملكته (فأراد بيان سنّته) وهي أنه إذا ملك المتصدق عليه الصدقة حل له أكلها هدية ويؤيد ظنه جهلهم حله له بعد ملكها إياه قوله؛ (إِذْ رَآهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوهُ إِلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ أنّهم لا يستأثرون) أي لا يختصون (عليه به فصدق عليهم ظنّه) بتشديد الدال وتخفيفها كما قرئ به في الآية والمعنى فصدق في ظنه جهلهم ذلك فيكون من باب الحذف والإيصال وجوز تعديته بنفسه كما في صدق وعده على ما ورد وكقوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ أو فحقق ظنه أو وجده صادقا في جهلهم ذلك (وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا جَهِلُوهُ مِنْ أَمْرِهِ بِقَوْلِهِ هو لها صدقة ولنا هديّة) أي ففيه مبادلة معنوية واختلاف من حيثية فإن هذا اللحم بإهدائها إياه له انتقل من حكم الصدقة إلى حكم الهبة كما لو اشتراه منها غني أو ورثه عنها (وفي حكمة لقمان) روي أنه كان عبدا حبشيا نجارا وقيل نوبيا فرزق العتق وكان خياطا وقيل هو ابن أخت داود عليه السلام وقيل ابن خالته وقيل كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود وأخذ منه العلم والأكثرون على أنه كان وليا وذهب الآخرون إلى أنه كان نبيا ويروى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثيرا التفكر حسن اليقين أحب الله تعالى فأحبه فمنّ عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفته يحكم بالحق فقال يا رب إن خيرتني قبلت العافية وإن عزمت علي فسمعا وطاعة فإنك ستعصمني (يا بنيّ) وهو تصغير الشفقة ويجوز فتح يائه وكسرها كما قرئ بهما في الآية (إذا امتلأت المعدة) أي طعاما وشرابا وهي بفتح فكسر ويجوز كسرهما وإسكان عينها مع فتح الميم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وكسرها على ما نقله الحلبي وفي القاموس المعدة ككلمة وبالكسر موضع الطعام قبل انحداره إلى الامعاء وهو لنا بمنزلة الكرش لغيرنا (نامت الفكرة) أي غفلت أو ماتت ويؤيده ما ورد لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب وقد قالت الصوفية في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً هذا مثل ضربه الله للاولياء ليفهموا الدنيا وأهلها وذلك أن البعوضة تحيى إذا جاعت وتموت إذا شبعت وكذلك أهل الدنيا إذا امتلاؤا من الدنيا وركنوا إليها أخذتهم وأماتت قلوبهم وأهلكتهم (وخرست الحكمة) بكسر الراء أي سكنت وما ظهرت وهي كمال النفس باقتباس العلوم العقلية واكتساب الحقائق النقلية ولذا قيل الحكمة اتقان العلم والعمل (وقعدت) وفي رواية وكلت (الأعضاء عن العبادة) أي فترت وثقلت منها وكسلت عنها بسبب ما يعتريها من النوم المانع عنها؛ (وقال سحنون) بفتح السين وضمها قيل نون وهو مصروف وقيل ممنوع وهو أبو سعيد عبد السلام بن سعيد التنوخي الملقب بسحنون الفقيه المالكي قرأ على القاسم بن وهب وأشهب ثم انتهت إليه الرياسة في العلم بالمغرب وأدرك مالكا ولم يقرأ عليه وصنف كتاب المدونة في مذهب مالك وحصل له ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك توفي سنة اربعين ومائتين وقال التلمساني وعند القرافي ذو النون وهو أبو الفيض المصري العابد مات سنة خمس وأربعين ومائتين فيمكن أن يكون أحدهما راويا عن الآخر لأنهما في عصر واحد (لا يصلح العلم) أي على الوجه الأنفع (لمن يأكل حتّى يشبع) قال التلمساني وتمامه ولا لمن يهتم بغسل ثيابه. (وفي صحيح الحديث قوله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما رواه البخاري (أمّا أنا فلا آكل متّكئا والاتّكاء) أي المراد منه ههنا (هو التّمكّن) على الوطاء (للأكل والتّقعدد في الجلوس له) أي كمال الاعتماد في العقود والتقعدد المراد منه هو القعود (كالمتربّع وشبهه) أي على أي هيئة (من تمكّن الجلسات) بكسر الجيم جمع جلسة للهيئة (الَّتِي يَعْتَمِدُ فِيهَا الْجَالِسُ عَلَى مَا تَحْتَهُ) أي من الأوطئة (والجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل) أي الكثير (ويستكثر منه) أي بشهوة نفس وشره طبع، (والنّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ جُلُوسُهُ لِلْأَكْلِ جُلُوسَ المستوفز) أي كجلوس المستوفز وهو اسم فاعل من استوفز في قعدته انتصب فيها غير مطمئن أو وضع ركبتيه ورفع اليتيه أو استقل على رجليه ولم يستو قائما وقد تهيأ للوثوب كذا في القاموس فقوله (مقعيا) حال مؤكدة في بعض الوجوه إذ الإقعاء أن يجلس على ركبتيه وهو الاحتفاز والاستيفاز وقيل أي ملصقا مقعده بالأرض ناصبا ساقيه وفخذيه ويضع على الأرض يديه (ويقول) أي كما رواه البزار عن ابن عمر بسند ضعيف وأبو بكر الشافعي في فوائده من حديث البراء إنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: (إنّما أنا عبد) أي تواضعا منه وإرشادا إليه (آكل كما يأكل العبد) لا كما يأكل الملوك والمترفين وزاد ابن سعد وأبو يعلى بسند حسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا (وأجلس كما يجلس العبد) وزاد الديلمي وابن أبي شيبة وابن عدي وأشرب كما يشرب الْعَبْدُ (وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ فِي الِاتِّكَاءِ الْمَيْلُ على شقّ عند المحقّقين) بل هو المعنى الأعم الشامل له ولغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بخلاف ما فهم العامة من أن الاتكاء منحصر في الميل إلى أحد شقيه أو الاستناد إلى ما رواءه وبهذا يجمع بين ما قاله المصنف ههنا وما ذكره في الإكمال من أن الخطابي خالف في هذا التأويل أكثر الناس وأنهم إنما حملوا الاتكاء على أنه الميل على أحد الجانبين ولذا أنكره عليه ابن الجوزي وقال المراد به المائل على جنبه والله سبحانه وتعالى أعلم. (وكذلك) أي ومثل كون أكله قليلا (نومه صلى الله تعالى عليه وسلم كان قليلا) أي ليصرف أوقاته النفيسة في طاعته وعاداته الأنيسة (شهدت بذلك الآثار الصّحيحة) أي والأخبار الصريحة التي أغنت شهرتها عن إيراد كثرتها، (ومع ذلك) أي مع كون نومه قليلا (فقد قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قلبي) كما رواه الشيخان فنومه كله يقظة ليعي الوحي إذا اوحي إليه في المنام إذ رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحي بدليل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ (وكان نومه على جانبه الأيمن استظهارا) أي استعانة بذلك (عَلَى قِلَّةِ النَّوْمِ لِأَنَّهُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ أهنأ) بفتح نون فهمز أي ألذ وأشهى ويروى أهدأ أي أسكن واوفق (لهدوّ القلب) بالهمز ويسهل أي سكونه واطمئنانه (وما يتعلّق به) أي ولهدوء ما يتعلق به (من الأعضاء الباطنة حينئذ) أي حين إذ ينام على الأيسر (لميلها إلى الجانب الأيسر فيستدعي) جزاء شرط محذوف أي إذا كان النوم عليه أهنأ بسبب ما ذكرنا فيستدعي (ذلك الاستثقال فيه) أي الاستغراق في النوم ويروى الاستقلال ولعله بمعنى الاستبداد (والطّول) أي وطول مدته، (وَإِذَا نَامَ النَّائِمُ عَلَى الْأَيْمَنِ تَعَلَّقَ الْقَلْبُ وقلق) بفتح قاف وكسر لام أي لم يستقر ولم يطمئن (فأسرع) أي ذلك (الافاقة) أي من النوم وسهلت اليقظة (ولم يغمره) بضم الميم أي لم يستوعبه أو لم يعله ولم يغلبه (الاستغراق) أي في عالم النوم لوضع القلب مائلا طرفه الأسفل إلى الأيسر لتتوفر الحرارة عليه فيعتدل الجسم إذ الحرارة كلها مائلة إلى الأيمن لوضع الكبد فيه ثم هذا التعليل في بيان حكمه نومه على الجانب الأيمن دون الأيسر لا ينافي ما ثبت في الحديث الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يحب التيامن في أمره كله ولما في التيامن من اليمن لفظا ومعنى ولثناء الله سبحانه وتعالى على أهل اليمين وإعطاء كتبهم بإيمانهم ونحو ذلك. فصل [وأما الضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره] (والضّرب الثّاني) أي مما تدعو ضرورة الحياة إليه فهو (ما يتّفق التّمدّح بكثرته والفخر بوفوره) أي الافتخار بزيادته مما حاز منه المصطفى الحظ الأوفى وفاز بالنصيب الأصفى (كالنّكاح والجاه) أي المحمودين. (أمّا النّكاح فمتّفق فيه) أي فمجمع عليه (شرعا) أي من جهة شرائع الأنبياء كافة (وعادة) أي للعقلاء والحكماء عامة (فإنّه) أي النكاح مع ذلك (دليل الكمال) أي في خلقة الرجال خصوصا مع قلة الأكل (وصحّة الذّكوريّة) بالرفع والجر كالتفسير لما قبله (ولم يزل التّفاخر بكثرته عادة معروفة) أي بحيث إن إنكاره مكابرة (والتّمادح به سيرة ماضيّة عادية) بتشديد الياء أي طريقة قديمة لا حادثة؛ (وأمّا في الشّرع) أي وأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 التفاخر بكثرته والتمادح به في الشريعة (فسنّة مأثورة) أي مروية منقولة كثيرة، (وقد قال ابن عبّاس) كما رواه البخاري (أفضل هذه الأمّة) أي أكمل إفرادها ثناء (أكثرها نساء) حيث أبيح له تسع منهن، (مشيرا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم) وقد تزوج عليه الصلاة والسلام إحدى عشرة توفي قبله اثنتان خديجة وزينب وما عداهما الباقيات بعده (وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم) كما ذكره ابن مردويه في تفسيره عن ابن عمر مرفوعا (تناكحوا) زيد في نسخة تناسلوا (فإنّي مباه بكم) اسم فاعل من المباهاة أي مفاخر بكثرتكم (الأمم) أي السالفة (يوم القيامة) كما في نسخة ولفظ الطبراني في الأوسط تزوجوا الولود فإنه مكاثر بكم الأمم وفي رواية أبي داود والنسائي وابن ماجة فإنا مكاثر بكم الأمم (ونهى) كما رواه الشيخان (عن التّبتّل) قال اليمني في حاشيته التبتل الانقطاع عن الدنيا ومنه قوله تعالى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا انتهى وعدم صحته في المقام لا يخفى فالصواب أن المراد بالتبتل هنا هو انقطاع الرجل عن النساء وعكسه فإنه من شريعة النصارى وطريقة الرهابين وهذا لا ينافي قوله تعالى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا إذ معناه انقطع عن تعلق القلب بالخلق إلى التوجه بالحق انقطاعا خاصا يعبر عنه بكائن بائن وقريب غريب وعرشي فرشي على اختلاف عبارات الصوفية نظرا إلى الأعمال الصادرة من الأحوال الباطنة والظاهرة (مع ما فيه) أي في النكاح من فوائد كثيرة كما بينه بقوله (من قمع الشّهوة) أي دفعها للرجل والمرأة (وغضّ البصر) أي خفضه وغمضه لهما (اللّذين نبّه عليهما صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله) أي فيما رواه الطبراني (من كان ذا طول) بفتح الطاء أي قدرة وسعة على المهر والنفقة ولفظ الشيخين من استطاع منكم الباءة (فليتزوّج فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج) أي أمنع وأحفظ له وهو مقتبس من قوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وباقي الحديث ومن لا فالصوم له وجاء على ما رواه النسائي (حتّى لم يره العلماء) أي من الأولياء مع كونه من قضاء الشهوة (ممّا يقدح في الزّهد) أي في هذه الدنيا وشهواتها ومستلذاتها وكان شيخنا المرحوم على المتقي يقول كل شهوة تظلم القلب إلا النكاح فإنه ينوره ويصفيه، (قال سهل بن عبد الله) أي التستري وهو من أجل الزهاد وأكمل العباد (قد حبّبن) بصيغة المجهول من التحبيب أي جعلت النساء محبوبة (إلى سيّد المرسلين فكيف يزهد فيهنّ) بصيغة المجهول أي فكيف يجوز ويتصور الزهد في حقهن والميل عنهن (ونحوه لابن عيينة) وهو من علماء السنة روى عنه أحمد وخلق قال أبو نعيم أدرك سفيان ستة وثلاثين من أعلام التابعين وقد قال سفيان الثوري أيضا ليس في النساء سرف والله إني لمشتاق إلى العرس؛ (وَقَدْ كَانَ زُهَّادُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) كعلي وابنه الحسن وابن عمر (كثيري الزّوجات والسّراري) بتشديد الياء وتخفف جمع سرية وكل ما كان مفرده مشددا جاز في جمعه التشديد والتخفيف كذا قال بعضهم قال الجوهري هي الأمة التي بوأت لها بيتا وهي فعيلة منسوبة إلى السر وهو الجماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أو الإخفاء لأن الإنسان كثيرا ما يسرها ويسترها عن حرمه وإنما ضمت سينه لأن الأبنية قد تغير في النسبة خاصة كما قالوا في النسبة إلى الدهر دهري وإلى الأرض السهلة سهلي وكان الأخفش يقول إنها مشتقة من السرور لأنها يسر بها ويقال تسررت جارية وتسريت أيضا كما قالوا تظنيت وتظننت انتهى (كثيري النّكاح) أي الجماع ويبعد أن يراد به العقد لأنه علم في ضمن ما تقدم وأعاد لفظ الكثير اهتماما بالقضية قال عمر رضي الله تعالى عنه إني أتزوج المرأة وما لي فيها من ارب وأطؤها وما لي فيها من شهوة فقيل له في ذلك فقال حتى يخرج مني من يكاثر به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؛ (وحكي في ذلك عن عليّ) بن أبي طالب روي أنه نكح بعد وفاة فاطمة رضي الله تعالى عنهما بسبع ليال فكان لعلي أربع نسوة وتسع عشرة وليدة غير من متن أو طلقن (والحسن) أي وعن الحسن الظاهر أنه ابن علي كرم الله تعالى وجهه ويحتمل الحسن البصري بناء على قاعدة المحدثين من أنه المراد عند الإطلاق لكنه يبعد هنا لتقديمه على قوله (وابن عمر) وكان من زهاد الصحابة وعلمائهم وأنه كان يفطر من الصوم على الجماع قبل الأكل وروي أنه جامع ثلاثة من جواريه في شهر رمضان قبل العشاء الأخيرة (وغيرهم) أي وعن غيرهم (غير شيء) أي شيء كثير فكان الحسن بن علي أشد الناس حبا للنساء قيل إنه أرخى ستره على مائتي حرة لأنه كان مطلاقا وكان ربما عقد على أربع في عقد واحد ولما خطب بنت سعيد بن المسيب الفزاري وخطبها أخوه الحسين وابن عمهما عبد الله بن جعفر شاور عليا فقال له أما الحسن فمطلاق والحسين شديد الخلق ولكن عليك بابن جعفر فزوجها له، (وقد كره غير واحد) أي من العلماء (أن يلقى الله عزبا) بفتح الزاي قيل ويسكن من لا أهل له كذا قيل وهو من العزب بمعنى البعد ومنه قوله تعالى لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فالعزب هو البعيد عن النساء وكأنه أراد أن يلقاه عاملا بجميع ما يرضاه ولذا قيل في تفسير قوله تعالى وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي متزوجون لأن من كمال الإسلام القيام بسنته عليه الصلاة والسلام وهذه الكراهة رويت عن أبي مسعود وماتت امرأتان لمعاذ بن جبل في الطاعون وكان هو أيضا مطعونا فقال زوجوني فإني أكره أن ألقى الله عزبا. (فإن قيل) وفي نسخة صحيحة فإن قلت (كيف يكون النّكاح) أي أصله (وكثرته من الفضائل) أي التي أجمع عليها في كل شريعة (وَهَذَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ حَصُورًا) ، أي ممنوعا من النساء بالعجز عنهن أو لعدم الالتفات إليهن (فكيف يثني الله عليه بالعجز) أو عدم الميل (عمّا تعدّه فضيلة) أي شرعا وعادة (وهذا عيسى) أي ابن مريم كما في نسخة (عليه السّلام) قد (تبتّل من النّساء) أي انقطع عنهن ولم يمل إليهن وأبعد الدلجي في قوله منقطعا إلى ربه ومنه وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي انفرد له بالطاعة وجه بعد لا يخفى على أرباب الصفاء مع ما تقدم في كلامنا إليه من الإيماء (ولو كان) أي النكاح فضيلة (كما قررته لنكح) أي لتزوج كل منهما (فَاعْلَمْ أَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يَحْيَى بِأَنَّهُ حَصُورٌ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ كان هيوبا) فعول من الهيبة أي جبانا عن النكاح وخائفا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 النساء وفي الحديث الإيمان هيوب أي صاحبه يهاب الذنب فيتقيه (أو لا ذكر له) وفي رواية معه أي لا همة له فيه (بل قد أنكر هذا) أي ما ذكر من القولين (حذّاق المفسرين) أي مهرتهم (ونقّاد العلماء) أي محققوهم (وقالوا هذه نقيصة وعيب) أي لا يوجب الثناء (ولا تليق بالأنبياء عليهم السّلام) أي لا تضاف إليهم. (وإنّما معناه) أي معنى كونه حصورا (أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنَ الذُّنُوبِ أَيْ لَا يَأْتِيهَا كأنّه حصر عنها) بصيغة المجهول أي حبس ومنع وحفظ وعصم منها وهذا بناء على أنه فعول بمعنى مفعول، (وقيل مانعا نفسه من الشّهوات) أي المستلذات من المباحات لا من المستحبات فهو بمعنى فاعل، (وقيل ليست له شهوة في النّساء) أي شهوة كثيرة أو مطلقا لكنه يباشر هذه الخصلة لما فيها من الفضيلة كما سبق عن عمر رضي الله تعالى عنه وأحسن الأجوبة أوسطها وأما تقييد الدلجي بأنه الذي لا يقرب النساء مع القدرة فلا وجه له في هذه الحالة التي تفوته الفضيلة هذا وقد ذكر التلمساني أن عيسى عليه الصلاة والسلام يتزوج في آخر الزمان بعد نزوله وقتله الدجال امرأة من جهينة ويولد له ولد ذكر ويتوفى عليه الصلاة والسلام ويدفن مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بينه وبين أبي بكر وأما يحيى فإنه لم يمت حتى ملك بضع امرأة لكنه لم يبن عليها ففعله هذا إنما كان لنيل الفضيلة وإقامة السنة وقيل لغض البصر ودفع الفتنة. (فقد بان لك من هذا) أي الذي ذكرناه (أنّ عدم القدرة على النّكاح نقص) أي للكمل، (وإنّما الفضل في كونها) أي القدرة (موجودة) أي قائمة بمحلها ثابتة (ثمّ قمعها) قال الدلجي مبتدأ والظاهر أنه مجرور عطفا على كونها أي ثم الفضل في قمع القدرة عن النكاح مخالفة للشهوة (إمّا بمجاهدة) أي برياضة نفسانية (كَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ بِكِفَايَةٍ مِنَ اللَّهِ) أي لهذه المؤنة بالعصمة من غير حاجة إلى المجاهدة (كيحيى عليه السّلام فضيلة زائدة) بالنصب على التمييز من قوله موجودة وجعله الدلجي خبر المبتدأ بناء على إعرابه في رفع قمعها فاحتاج إلى أن يقول زائدة على فضيلة القدرة على قمعها وكان حقه أن يقول مع عدم قمعها والظاهر أن المصنف أراد أن القوة مع القدرة على قمعها فضيلة زائدة لا خصلة راتبة كما عبر الفقهاء بالسنن الزوائد والرواتب ولا شك أن الزوائد قد تترك لبعض العوارض الموجبة لكون تركها حينئذ أفضل من فعلها بالنسبة إلى بعض الأشخاص والأحوال وأوقاتها فهذه الفضيلة زائدة قد تترك (لكونها شاغلة) وفي رواية مشغلة بضم الميم وكسر الغين أو بفتحها (في كثير من الأوقات) أي عن الطاعات التي تورث الدرجات العاليات في روضات الجنات (حاطّة) بتشديد الطاء أي واضعة منزلة له من علو الحالات لكونها مرغبة ومميلة وجارة (إلى الدّنيا) أي محبتها أو جمعها والاشتغال بها لحصول تلك الفضيلة الزائدة والحاصل أن كل فضيلة لها مضار ومنافع كالنكاح والتبتل والعزلة والخلطة والغنى والفقر فينظر إلى زيادة المنفعة وقلة المضرة بالنسبة إلى طالبها وصاحبها فيحكم بمقتضاه ولا يجوز الإطلاق فيما استفتاه ولذا قال المصنف (ثمّ هي) أي الفضيلة الزائدة (في حقّ من أقدر عليها) بصيغة المجهول من الأقدار أي من أعطى له الاقتدار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 عليها (وملّكها) بأن لم يتزلزل فيها وهو بفتح الميم واللام وقال التلمساني هو بضم الميم وكسر اللام مشددة على طبق اقدر قلت الأول أولى وأظهر ويؤيده قوله (وقام بالواجب فيها ولم يشغله) بفتح أوله وثالثه وفي لغة بضم أوله وكسر ثالثه أي لم تمنعه (عن ربّه) أي طاعته وحضوره (درجة علياء) بالرفع أي مرتبة قصوى وهي مضبوطة في النسخ المعتبرة بضم العين مقصورا وضبط محش بفتح العين والمد (وهي درجة نبينا محمد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَمْ تَشْغَلْهُ كَثْرَتُهُنَّ عَنْ عبادة ربّه) أي طاعته وحضوره لوصوله إلى مقام جمع الجمع في كمال حصوله وهو أن لا تحجبه الكثرة عن الوحدة ولا تمنعه الوحدة عن الكثرة فكل من له حظ في هذا المقام بمتابعته عليه الصلاة والسلام وله مؤنة القيام فتحصيل هذه الفضيلة الزائدة له من كمال المرام دون من لم يصل إلى هذه المرتبة فإن عليه ترك هذه الزيادة والاشتغال بالأمور المهمة والفضائل المؤكدة (بل زاده ذلك) أي ما ذكر من كثرتهن (عبادة لتحصينهنّ) أي لتحصينه إياهن (وقيامه بحقوقهنّ) أي من أمر المعيشة وحسن العشرة (واكتسابه لهنّ) أي ما يتعلق بهن من آدابهن (وهدايته إيّاهنّ) أي بالعلوم الدينية لا سيما ما يجب عليهن (بل صرّح أنّها) أي كثرتهن (ليست من حظوظ دنياه) أي التي تغيبه عن حضور مولاه (هو) أي بخصوصه (وإن كانت من حظوظ دنيا غيره) أي دائما أو في بعض الأوقات لأرباب الحالات (فقال عليه السّلام) أي كما رواه الحاكم والنسائي (حبّب إليّ من دنياكم) تمامه النساء والطيب وقر عيني في الصلاة وليس زيادة ثلاث في صحيح الروايات وإنما أضاف الدنيا إليهم إشارة إلى تبرئه عنها وتقلله منها وعدم مبالاته بها والتفاته إليها لقلة بقائها وكثرة عنائها وسرعة فنائها وخسة شركائها وأورد الفعل بصيغة المجهول إيماء بأن حبه لها لم يكن إلا لما خلق في جبلته وميل طبيعته وأنه كالمجبور عليه في محبته وأما قول الدلجي تلويحا بأن حبه لها لم يكن من جبلته فهو خلاف موضوع الصيغة كما لا يخفى على أرباب الصنعة (فدلّ) أي هذا الحديث على (أنّ حبّه لما ذكر) أي بنفسه (من النّساء والطّيب اللّذين هما) كما في نسخة التي هي (من أمر) وفي نسخة من أمور (دنيا غيره) أي في الأصالة بحسب العادة (واستعماله لذلك) أي وإن استعماله لما ذكر من النساء والطيب وفي رواية واشتغاله بذلك (ليس لدنياه) أي لمجرد حظها (بل لآخرته) أي قصد مثوبته ورفع درجته (للفوائد التي ذكرناها ما في التّزويج وللقاء الملائكة في الطّيب) أي لمحبتهم إياه (ولأنّه) أي الطيب (أيضا ممّا يحضّ) أي يحث ويحرض (على الجماع ويعين عليه) أي على ذاته أو كثرته (ويحرّك أسبابه) أي مقدماته كالقبلة والشهوة (وكان حبّه لهاتين الخصلتين) أي مباشرة النساء والطيب (لأجل غيره) كمباهاته بالكثرة مثوبا ولقائه الملائكة والنساء مطيبا (وقمع شهوته) أي ولأجل قمعها بمنع الخواطر الردية ودفع الوساوس النفسية ولو كان قادرا على قمعها بمجاهدة رياضية أو بكفاية إلهية فإن هذه السيرة أعلى المراتب البهية وأولى بقواعد الملة السمحاء الحنيفية ولما كان هذا الحب جعليا وعارضيا كسائر محبة الأشياء مما سوى الله تعالى حيث إنها لا تحب إلا ابتغاء المرضاة قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 المصنف (وكان حبّه الحقيقي المختصّ بذاته) أي بذات الله (في مشاهدة جبروت مولاه) أي عظموت قدرته ومطالعة ملكوت عظمته (ومناجاته) أي في مقام حضور حضرته بغيبته عن الشعور بذاته المعبر عنه بمقام الفناء والبقاء والمحو والصحو (ولذلك ميّز بين الحبّين) أي غيريا وذاتيا (وفصل بين الحالين) أي فرق بين المقامين الجليلين بالجملتين من الفعلية والاسمية المشير بالأولى إلى الحالة الجعلية العارضية وبالثانية إلى المستمرة الذاتية كما في الرواية المشهورة بلفظ وقرة عيني في الصلاة وأما ما ذكره المصنف بقوله (فقال وجعلت قرّة عيني في الصّلاة) ففيه إشارة لتعبيره بالقرة إلى هذه المحبة إيماء إلى زيادة هذه المودة وقال الدلجي بين الحالين أي محبة ومناجاة وكأنه قصد بهذا أن المراد بقرة عيني في الصلاة الصلاة التي هي معراج المؤمن ومناجاة الموقن خلافا لمن قال المراد بها الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم (فقد ساوى) أي المصطفى (يحيى وعيسى في كفاية فتنتهنّ وزاد) أي عليهما (فضيلة) أي كاملة (بالقيام بهنّ) مع أنه لم يشغله ذلك عن قيامه بحقوق مولاه لاجلهن فهذا الحال أكمل لمن قدر عليهن؛ (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم ممّن أقدر على القوّة) بصيغة المفعول من الاقدار أي ممن أعطي القدرة على قوة الشهوة بكثرة الجماع (في هذا) أي الأمر الذي حبب إليه مما يتعلق بدنياه وخدمه مولاه (وأعطي الكثير منه) أي الحد الكثير الزائد على العادة من أمر الجماع قوة الباءة (ولهذا أبيح له من عدد الحرائر) وهو التسع (ما لم يبح لغيره) أي من هذه الأمة وهو الزائد على الأربع؛ (وقد روينا) بفتح الراء والواو مخففة وبضم الراء وكسر الواو مشددة ولا يبعد أن يكون بضم الراء وكسر الواو المخففة بناء على الحذف والإيصال أي روى إلينا (عن أنس) كما في البخاري والنسائي (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يدور على نسائه) أي يجامعهن (في السّاعة) أي الواحدة والمراد بها الزمن القليل لا الساعة النجومية (من اللّيل) أي مرة (والنّهار) أي تارة (وهنّ) أي مجموعهن (إحدى عشرة) بسكون الشين وتكسر والمعنى منها سريتاه مارية وريحانة فلا ينافي رواية وهن تسع. (قال أنس وكنّا) أي معشر الصحابة (نتحدّث) أي فيما اختص به صاحب النبوة من القدرة والقوة (أنّه أعطي قوّة ثلاثين رجلا) أي في الجماع (خرّجه النّسائي) أي ذكره في سننه وهو هكذا في صحيح البخاري في كتاب الغسل هذا وليس أحد من أصحاب الكتب الستة توفي بعد الثلثمائة إلا النسائي فإنه توفي في سنة ثلاث وثلاثمائة، (وروي) بصيغة المجهول (نحوه عن أبي رافع) وهو مولى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أخرج الترمذي وابن ماجة في الظهارة والنسائي في عشرة النساء عنه أنه عليه الصلاة والسلام طاف على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه الحديث، (وعن طاوس) وهو ابن كيسان اليماني من ابناء الفرس يقرأ بواوين قيل ويهمز قال ابن معين لقب بذلك لأنه كان طاوس القراء روى عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهم وتوفي بمكة سنة ست ومائة (أُعْطِيَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فِي الجماع، ومثله عن صفوان بن سليم) بالتصغير إمام كبير قدوة ممن يستشفى بحديثه وينزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 القطر من السماء بذكره ويقال لم يضع جنبيه على الأرض أربعين سنة وأنه مات وهو ساجد ويقال إن جبهته نقبت من كثرة السجود روي عن ابن عمر وغيره وعنه مالك وطبقته وفي الحلية لأبي نعيم عن مجاهد قوة أربعين رجلا كل رجل من رجال أهل الجنة وروى الترمذي أن رجال أهل الجنة قوة كل رجل منهم بقوة سبعين رجلا وصححه وروي بقوة مائة رجل وقال صحيح غريب قلت فعلى هذا كان صابرا عنهن غاية الصبر لكثرة الاشتياق إليهن ثم اعلم أن قوله وعن طاوس إلى آخر ما ههنا زيادة على ما في بعض النسخ المصححة والأصول المعتمدة، (وقالت سلمى) بفتح السين المهملة والميم مقصورا (مولاته) وخادمته صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل هي مولاة صفية عمته وهي زوج أبي رافع وداية فاطمة الزهراء وقابلة إبراهيم ابن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الصحابيات من اسمها سلمة غير هذه خمس عشرة وقد روى ابن سعد وأبو داود عنها وعن زوجها أبي رافع عن رافع ولده منها (طاف النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة) أي دار (على نسائه التّسع) وهو كناية عن جماعهن (وتطهّر من كلّ واحدة) أي اغتسل من أجل قربان كُلِّ وَاحِدَةٍ (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْأُخْرَى وَقَالَ هذا) أي التفريق بالغسل (أطهر) أي أنظف (وأطيب) أي ألذ وأنشط وفي رواية أحمد وأزكى وأطيب فالمراد بأزكى أنمى وأقوى وقيل الطهارة للظاهر والطيب والتزكية للباطن أي لزيادة الصفاء والضياء لا ان أولاهما لإزالة الأخلاق الذميمة وأخراهما للتحلي بالشيم الحميدة كما ذكره الدلجي فإنه لا يناسب بالنسبة إلى الشمائل المصطفوية فإنها منزهة عن الأخلاق الردية ومتحلية على الدوام بالشيم الرضية البهية السنية؛ (وقد قال سليمان عليه الصلاة والسّلام) على ما رواه الشيخان (لأطوفنّ اللّيلة) من الطواف بمعنى الدوران وكذا الإطافة ومن ثمه ورد في رواية لأطيفن اللَّيْلَةَ (عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ) على الشك من الراوي وفي رواية على ستين وفي أخرى على تسعين ولمسلم على سبعين امرأة كلهن تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله فقال له صاحبه أو الملك قل إن شاء الله فلم يقل ونسي فلم تأت واحدة منهن إلا واحدة جاءت بشق غلام فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لو قال إن شاء الله لم يحنث أي لم يفته متمناه وكان أدرك لحاجته فيما قضاه، (وإنّه فعل ذلك) فدل ذلك على كمال قوته ولا تعارض بين هذه الروايات إذ ليس في إثبات قليلها نفي لكثيرها ومفهوم العدد ليس بحجة عند جمهور أرباب الأصول مع احتمال تعدد الواقعات والله أعلم بالحالات؛ (قال ابن عبّاس) كما رواه ابن جرير في تفسيره عنه موقوفا (كَانَ فِي ظَهْرِ سُلَيْمَانَ مَاءُ مِائَةِ رَجُلٍ وكان لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَثَلَاثُمِائَةِ سَرِيَّةٍ وَحَكَى النَّقَّاشُ) وفي نسخة وغيره كذا رواه الحاكم عن محمد بن كعب بلغني أنه (كان له سبعمائة امرأة وثلاثمائة سريّة) وفي المستدرك للحاكم في ترجمة عيسى ابن مريم أن سليمان كان له تسعمائة سَرِيَّةٍ، (وَقَدْ كَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى زهده) أي مع كمال زهده وتورعه المفاد من قوله (وأكله من عمل يده) ويروى من يده (تسع وتسعون امرأة) هذا هو الصواب وفي أصل التلمساني تسعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وتسعون وفي الكشاف كان لداود أيضا ثلاثمائة سرية (وتمّت بزوج أوريّاء) بضم همزة وقيل بفتحها فواو ساكنة وراء مكسورة وتحتية ممدودة أي بزوجته (مائة) بالرفع على أنها فاعل تمت أي من النساء بتزوجه إياها بعد نزول أورياء له عنها بسؤاله على ما كان من دعاتهم في زمانه أو بعد ما مات عنها زوجها لما رآها بغتة وأحب جمالها فتنة وطلب ربه مغفرة وأناب إليه معذرة هذا وقيل إنها أم سليمان عليه الصلاة والسلام، (وقد نبّه) أي الله سبحانه وتعالى (على ذلك) أي على ما ذكر من العدد (في الكتاب العزيز بقوله تعالى) أي حكاية من لسان أحد الملكين اللذين أتياه في صورة الخصمين (إِنَّ هذا أَخِي) أي في الدين (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص: 22] ) وهي الأنثى من الضأن وقعت ههنا كناية عن المرأة فإن الكناية أبلغ من الصراحة من حيث التأثير مع ما فيه من مراعاة الأدب في التعبير لا سيما وهو في مقام التعيير (وفي حديث أنس) بسند جيد للطبراني (عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِأَرْبَعٍ) أي من الخصال (بالسّخاء) أي الكرم والجود مع الاحباء (والشّجاعة) بالنسبة إلى الأعداء (وكثرة الجماع) أي للنساء (وقوّة البطش) أي الأخذ حال العطاء وأما تفسيره بالأخذ الشديد بقوة كما ذكره بعضهم فلا يخفى أنه لا يناسب المقام فإنه حينئذ من جزئيات الشجاعة لا خصلة مستقلة من الأربع (وأمّا الجاه) أي الذي بتوسل به إلى مساعدة الضعفاء (فمحمود عند العقلاء) من الحكماء والعلماء (عادة) أي مستمرة لكنها مقيدة بما إذا كانت على وفق الشريعة حتى تكون معتبرة (وبقدر جاهه) أي جاه الشخص في العيون (عظمه) بكسر ففتح فضمير أي عظمته (في القلوب) أي قلوب الخلق أو بقدر جاهه صلى الله تعالى عليه وسلم عند الحق كان عظمته في قلوب الخلق ويدل عليه أنه عليه السلام أخذ من أبي جهل للأراشي ثمن ابله التي اشتراها أبو جهل منه ومطله فقالت قريش لأبي جهل ما رأينا مثل ما صنعت من انقيادك لأمر محمد مع فرط أذاك له وعداوتك إياه فقال ويحكم ما هو إلا أن ضرب بأبي وسمعت صوته فملئت رعبا (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ عِيسَى عليه السّلام وَجِيهاً) أي ذا جاه ووجاهة عظيمة (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [آل عمران: 45] ) أي عند أهلهما أو في الدنيا بالرسالة وفي العقبى بالشفاعة (لَكِنَّ آفَاتِهِ كَثِيرَةٌ فَهُوَ مُضِرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ) وفي رواية ببعض الناس (لعقبى الآخرة) أي في الآخرة التي هي عقبى كما قال تعالى تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (فلذلك) أي فلكون الجاه مضرا ببعضهم (ذمّه من ذمّه ومدح ضدّه) أي الخمول وعدم الاعتبار فيما بين الخلق (وورد في الشّرع مدح الخمول) وهو بضم الخاء المعجمة ضد الشهرة كما ورد في حديث رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وفي الحديث إن الله يحب الاتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا (وذمّ العلوّ في الأرض) أي ورد في الشرع ذم الجاه والشهرة كما في الحديث ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حب المال والجاه لدين المؤمن وفي رواية من حب الشرف والمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 والحاصل أن الجاه والمال مضران لأرباب الكمال الجامعين بين العلم والعمل والحال؛ (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم قد رزق من الحشمة) أي الوقار والهيبة (والمكانة) أي التمكن في مرتبة الجلالة (في القلوب والعظمة) أي الإجلال والمهابة في العيون (قبل النّبوّة عند الجاهليّة) كما مر عن أبي جهل في تلك القضية وما روي عنه أيضا أنه ساوم رجلا من بني زبيد ثلاثة أبعرة هي خيرة إبله ثلث ثمنها فامتنع الناس من الزيادة لأجله فأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فزاده حتى رضي فاشتراها منه ثم باع منها بعيرين بالثمن ثم باع الثالث وأعطى ثمنه أرامل بني عبد المطلب وأبو جهل مخزي ينظره ولا يتكلم ثم قال له صلى الله تعالى عليه وسلم إياك أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الأعرابي فترى مني ما تكره فقال لا أعود يا محمد فقال له أمية بن خلف ذللت في يد محمد فقال إن الذي رأيتم مني لما رأيت معه رجالا عن يمنيه ويساره يشيرون برماحهم إلى ما خالفته لكانت إياها أي لأهلكوني (وبعدها) أي ورزق الجاه بعد النبوة عندهم (وهم يكذّبونه) بالتشديد والتخفيف أي والحال أن أهل الجاهلية ينسبونه إلى الكذب (وَيُؤْذُونَ أَصْحَابَهُ وَيَقْصِدُونَ أَذَاهُ فِي نَفْسِهِ خِفْيَةً) بضم الخاء وكسرها وسكون الفاء أي مخفيا لما تكن من هيبته في صدورهم وعظمته في قلوبهم (حتّى إذا واجههم) أي قابلهم علانية (أعظموا أمره) أي حشموا قدره (وقضوا حاجته) أي مقصده إليهم في سيره وهذا باعتبار غالب معاملاتهم معه فلا ينافي ما وقع من وضع أبي جهل سلا الجزور على ظهره وهو ساجد في الحجر. (وأخباره في ذلك معروفة سيأتي بعضها) أي في محله إن شاء الله سبحانه وتعالى؛ (وقد كان يبهت) على صيغة المجهول صورة مع ذكر فاعله كما في قوله تعالى فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ من البهت وهو الحيرة وفعله كعلم ونصر وكرم وعنى وهو أفصح فيجوز بناؤه على الفاعل أيضا أي يدهش ويتخير (ويفرق) بفتح الياء والراء أي يخاف ويفزع (لرؤيته) وفي نسخة من رؤيته (من لم يره) لما ألقي عليه من الهيبة والعظمة في قلوبهم (كما روي عن قيلة) بفتح قاف فسكون تحتية وهي بنت مخرمة العنبرية وقيل الكندية وقيل التميمية (أنّها لمّا رأته أرعدت) بصيغة المجهول أي أخذتها الرعدة بكسر الراء وهي اضطراب المفاصل خوفا والمعنى أنها ارتعدت (من الفرق) بفتحتين وهو الخوف ورواية أبي داود والترمذي في الشمائل عن عبد الله بن حسان عن جدته عنها أنها رأته في المسجد وهو قاعد القرفصاء قالت فلما رأيته متخشعا في الجلسة ارتعدت من الفرق وزاد ابن سعد (فقال يا مسكينة عليك السّكينة) بالنصب أي الزمي الطمأنينة وفي رواية بالرفع أي السكينة لازمة عليك ولم يثبت هنا ما ثبت في بعض النسخ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ القديد وذلك غير صحيح على ما ذكره التلمساني والمسكينة بكسر الميم والسكينة بفتح السين مخففة هو الفصيح؛ (وفي حديث أبي مسعود) أي عقبة بن عمرو الأنصاري كما رواه البيهقي عن قيس عنه مرسلا وقال هو المحفوظ ورواه الحاكم وصححه (أنّ رجلا قام بين يديه) أي قدامه صلى الله تعالى عليه وسلم (فأرعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فقال له هوّن) أي سهل أمرك (عليك فإنّي لست بملك) بكسر اللام قيل وتسكن أي بسلطان من السلاطين الظلمة حتى تفزع مني (الحديث) أي الخ ولم يذكره لطوله. (فأمّا عظيم قدره بالنّبوّة) وهي أخذ الفيض من الحق (وشريف منزلته بالرّسالة) وهي إيصال الفيض إلى الخلق (وإنافة رتبته) بكسر الهمزة وبالفاء وفي نسخة بالباء والنون أي رفعة رتبته وزيادتها أو ظهورها (بالاصطفاء) أي على سائر الأنبياء (والكرامة في الدّنيا) أي بأنواع المعجزة منها الإسراء ومقام دنا فتدلى ووصوله إلى سدرة المنتهى (فأمر هو مبلغ النّهاية) من أثر العناية ليس فوقه غاية؛ (ثُمَّ هُوَ فِي الْآخِرَةِ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ) كما في حديث البخاري أنا سيد ولد آدم ولا فخر والمراد أنه سيد هذا الجنس وهو نوع البشر الذي هو أفضل أنواع المخلوقات بدليل حديث البخاري أيضا أنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر وزيد في بعض الأصول هنا ولا فخر لكنه لا يصح لأن يكون حكاية. (وعلى معنى هذا الفصل) أي الأخير (نظمنا هذا القسم) يعني الأول (بأسره) أي جميعه في سلك مدحه بصفات شريفة وسمات منيفة. فصل [وأما الضرب الثالث فهو ما تختلف فيه الحالات] (وأمّا الضّرب الثّالث) أي مما تدعو ضرورة الحياة إليه وليست فضيلة ذاتية محتوية عليه (فهو) من هذه الحيثية واختلاف النية (ما تختلف الحالات في التّمدّح به) أي بنفسه أو بكثرته (والتّفاخر بسببه) أي فيما بين العامة. (والتّفضيل لأجله) أي عند الخاصة (ككثرة المال) فإنها تمدح في بعض الأحوال (فصاحبه على الجملة) أي على الإجمال لا على تفصيل جميع الاحوال (معظّم عند العامّة) من حيث إن قلوبهم بيد حبه أسيرة (لاعتقادها توصّله به) أي توصل صاحب المال بسببه (إلى حاجاته) أي قضاء مهمات صاحبه وفي نسخة حاجته (وتمكّن أغراضه) بالغين المعجمة وتمكن بالرفع أو الجر (بسببه وإلّا) أي وإن لم يكن هذا الاعتقاد الموجب لتعظيم صاحب المال عند العامة في الجملة (فليس) أي المال (فضيلة) وفي نسخة فضيلته (في نفسه) أي في حد ذاته وباعتبار جميع جهاته وعموم صفاته؛ (فمتى كان المال بهذه الصّورة) أي من قضاء الآمال (وصاحبه منفقا له في مهمّاته ومهمّات من اعتراه) أي غشيه واعترضه (وأمّله) بتشديد الميم أي ومن رجا كرمه ومنه قول القائل: املتهم ثم تأملتهم ... فلاح لي أن ليس فيهم فلاح وهو معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم أخبر تقله والناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة (وتصريفه) بالجر أي وتصرفه بوضعه (في مواضعه) اللائقة به (مشتريا به المعالي) جمع معلاة أي مستبدلا به المفاخر العالية ومختارا به الأوصاف المتعالية (والثّناء الحسن والمنزلة) أي الجاه والمرتبة (من القلوب) وفي نسخة في القلوب (كان) أي المال (فضيلة في صاحبه) أي في الجملة (عند أهل الدّنيا) أي من العامة مع أنه لا عبرة بهم عند الخاصة، (وإذا صرفه في وجوه البّرّ) أي الطاعة والإحسان (وأنفقه في سبل الخير) وفي نسخة سبيل الخير (وقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 بذلك) أي الصرف (الله) أي رضاه مآبا (والدّار الآخرة) أي ثوابا (كان) أي ما له (فضيلة) أي لما يؤدي إلى الفضيلة (عند الكلّ) أي الخاصة والعامة (بكلّ حال) أي مطلقا لا في الجملة، (ومتى كان صاحبه ممسكا له) من الإمساك أي بخيلا به (غير موجّهه وجوهه) أي غير منفقه ومصرفه في وجوه ما ذكر من صرفه في مهماته ومهمات من تأمل منه قضاء حاجاته أو اكتساب محمدة أو اجتلاب محبة (حريصا على جمعه) مبالغا في منعه (عاد كثره) بضم الكاف وتكسر أي رجع كثيره وفي نسخة كثرته بفتح الكاف وتكسر وأما قول التلمساني ويصح بفتح الكاف والراء وضم الثاء فلا يصح (كالعدم) بمنزلة يسيره أو مشبها بعدمه حيث لم ينتفع به فيكون كمن لا مال له وقد ورد الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ وَمَالُ من لا مال له وجمع من لا عقل له وقد ورد أن الحسن البصري رحمه الله تعالى رأى رجلا يقلب دنانير في كفه فقال له الك هي قال نعم قال إنها ليست لك حتى تخرجها من يديك يعني أن حظك منها وحظ غيرك إذ لم تنفقها وتخرجها واحد إذ لا نفع فيها بأعيانها وورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما تصدقت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت يعني أن المال الذي لم ينفقه ولم يتصدق به قد تساوى فيه مع غيره ممن لا مال بيده إذ لا فائدة في عين المال بل فيه الوبال في المآل (وكان منقصة) بفتح القاف وكسرها أي وكان المال نقيصة (في صاحبه) أي في حقه دنيا وأخرى كما ورد تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وكما ورد أن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة (ولم يقف) أي المال (به) أي بصاحبه (على جدد السّلامة) بفتح الجيم والدال المهملة الأولى أي طريقها المستوية تقول العرب من ملك الجدد أمن العثار وبضم الجيم جمع جدة كمدة أي طرقها من الجادة التي تسلم المارة فيها من العثرة ومنه قوله تعالى وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ أي طرائق وأما ما ضبط في بعض النسخ والحواشي بضمهما فلا مناسبة له هنا فإنه جمع جديد على ما في القاموس (بل أوقعه) أي ما له عند مآله (في هوّة رذيلة البخل) بضم هاء وتشديد واو مفتوحة أي في وهدة دناءته وعمق نقيضته والبخل بضم فسكون وبفتحهما قراءتان في السبع (ومذلة) وفي نسخة ومذمة (النّذالة) بفتح النون والذال المعجمة الخساسة والسفالة؛ (فإذا) بالتنوين وفي نسخة بالنون والفاء فصيحة معربة عن شرط مقدر أي ومتى كان المال كما وصف كان حينئذ (التّمدّح) أي تمدح صاحبه لنفسه ويروى المتمدح (بالمال) أي على توهم الكمال (وفضيلته) أي وفضيلة المال أو صاحبه (عند مفضّله) أي مرجحيه من العامة وفي نسخة بصيغة الإفراد (ليست لنفسه) أي ذاته (وإنّما هو) أي المال أو التمدح به (للتّوصّل به إلى غيره وتصريفه) بالجر اي انفاقه (في متصرّفاته) بفتح الراء أي في محاله؛ (فجامعه إذا لم يضعه مواضعه) أي من مهماته ومهمات من يرجوه (ولا وجّهه وجوهه) أي من أنواع البر واصناف الخير (غير مليء) بفتح الميم وكسر اللام فتحتية فهمزة ويجوز إبدالها وإدغامها أي غير ثقة (بالحقيقة) أي في نفس الأمر (ولا غنيّ بالمعنى) أي بل بمجرد الصورة والمبنى فكأنه فاقد لا واجد (ولا ممتدح) وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 نسخة ولا متمدح أي ولا ممدوح (عند أحد من العقلاء) فضلا عن العلماء والفضلاء (بل هو فقير أبدا) أي بقلبه ولو كان غنيا يدا قال المتنبي: ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر (غير واصل إلى غرض من أغراضه) أي لخسته وبخله؛ (إذ ما بيده من المال الموصل) بالتشديد أو التخفيف (لها) وفي نسخة إليها أي الذي في شأنه أن يوصل صاحبه إلى أغراضه (لم يسلّط عليه) بصيغة المجهول أي لم يمكن منه ولم يفوض إليه؛ (فأشبه خازن مال غيره) أي حافظه (ولا مال له) أي إلا وديعة عنده (فكأنّه ليس في يده من المال شيء) أي من الأشياء (والمنفق) أي في وجوه البر والخير من صدقة وصلة (مليّ) أي ثقة (غنيّ) واجد لا فاقد (بتحصيله فوائد المال) من جميل الحال وحسن الْمَالِ (وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ مِنَ المال شيء) حيث يدل على كمال كرمه واعتماده على رزق ربه وقد قال الله تعالى وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وورد اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا وهذا المعنى في حديث نعم المال الصالح للرجل الصالح. (فانظر سيرة نبيّنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي طريقته (وخلقه) أي سحبيته الشريفة (في المال) أي في حق أخذه وإعطائه وامتناعه عن التلبس بوجوده وبقائه (تجد) بالجزم أي تعلمه (قد أوتي خزائن الأرض) أي عرضت عليه (ومفاتيح البلاد) أي أعطيت له وفي نسخة في رواية صحيحه مفاتح البلاد ومنه قوله تعالى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ وهو كناية عن فتحها عليه وعلى أمته بعده وجباية أموالهم إليهم واستخراج كنوزها لديهم وتلويح بالتوصل إليها كما يتوصل بالمفاتيح إلى ما أغلق عليه من أبوابها وقد روي مرفوعا في صحيح مسلم بينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي أي في تصرفي وتصرف أمتي (وأحلّت له الغنائم) أي لزيادة الفضيلة (ولم تحلّ) بصيغة المجهول المناسب لأحلت أو بفتح أوله وكسر ثانيه أي والحال أنه لم تبح (لنبيّ قبله) إذ جاء في الآثار أنهم كانوا يجمعون الغنائم فتأتي نار من السماء فتأكلها وفي حديث مسلم لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا وذلك لأن الله تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا، (وفتح عليه في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم بلاد الحجاز) سميت بها لحجزها بين نجد والغور (واليمن) بالرفع والجر سمي به لكونه عن يمين الكعبة لمن وقف بالباب ووجهه لخارج وهو المعتبر لكونه بمنزلة المنبر (وجميع جزيرة العرب) وهي ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق طولا ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى طرف الشام عرضا وقال مالك هي الحجاز واليمن واليمامة وقيل هي المدينة وقيل مكة والمدينة واليمامة واليمن ولعل هذا معنى قول مالك (وما دانى ذلك) أي ما قارب بلاد الحجاز وجزيرة العرب (من الشّأم) بالهمز الساكن وإبداله الفا ويقال بفتح الشين والمد وهو من العريش إلى الفرات طولا وقيل إلى نابلس وعرضا من جبل طي من نحو القبلة إلى بحر الروم وما سامت ذلك من البلاد قال ابن عساكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 في تاريخه دخل الشام عشرة آلاف عين رأت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واشتقاقه منه لكونه عن شمال الكعبة وأما قول الحلبي قد دخله عليه الصلاة والسلام أربع مرات فغير معروف بل لم يدخل دمشق أصلا وإنما بلغ إلى بصرى مدينة حران (والعراق) أي عراق العرب من الكوفة والبصرة قيل فارسي معرب وقيل سمي المكان عراقا لكثرة عروق اشجاره (وجلبت إليه) ويروى وجلب وروي وجبيت أي وجيء له (من أخماسها) في الغنيمة (وجزيتها) من أهل الذمة (وصدقاتها) من أغنياء الأمة (ما لا يجبى) أي ما لا يؤتى به (للملوك إلّا بعضه) أي لكثرته مع زيادة بركته روي أن اعظم مال أتي به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من مال الجزية ما قدم عليه من البحرين وقدره مائة ألف درهم وثمانون ألفا، (وهادته) أي صالحه وفي نسخة صحيحة هادته بمعنى أهدته (جماعة من ملوك الأقاليم) أي بإرسال هدايا إليه فقبلها منهم كما في كتب السير دلالة عليه (فما استأثر) أي ما انفرد وما استبد وما اختص (بشيء منه) أي مما هادوه (وَلَا أَمْسَكَ مِنْهُ دِرْهَمًا بَلْ صَرَفَهُ مَصَارِفَهُ) أي انفقه في مواضعه من أنواع الخير واصناف البر (وأغنى به غيره) أي لغناه بربه واستغنائه بقلبه (وقوّى به المسلمين) على مهماتهم وقضاء حاجاتهم ونصرهم على اعدائهم ودفع بلائهم وكان يعطى عطاء من ليس يخشى الفقر انتهاء (وقال) أي كما رواه الشيخان عنه (صلى الله تعالى عليه وسلم ما يسرّني) أي لم يوقعني في السرور ولم يفرحني (أنّ لي أحدا) بضمتين ووجد بخط المبرد بإسكان الحاء جبل عظيم بالمدينة (ذهبا) تمييز لرفع الإبهام عن جبل أحد (يبيت) أي يثبت ليلة (عندي منه) أي من مقدار أحد ذهبا (دينار إلّا دينارا) بالنصب على الاستثناء وفي نسخة بالرفع على البدل (أرصده لديني) وفي نسخة لدين وهو بفتح الهمزة وضم الصاد وبضم وكسر من الإرصاد أي أحفظه منتظرا لقضاء ديني وقال بعضهم رصدته رقبته وأرصدت أعددت قال تعالى شِهاباً رَصَداً وارصادا لمن حارب الله ولعل التعبير بالبيتوتة لإرادة المبالغة لأن الدليل مظنة فقد الفقير والغيبوبة توهم حصول الذهول والغفلة ووقع في أصل الدلجي درهم إلا دينارا فتكلف وقال نصبه على الاستثناء من عام عبر عنه بالدرهم ورفعه على البدل وكأنه قال ما يسرني أن يبيت عندي شيء منه إلا ما أرصده لدين لي بفتح الهمزة وضم الصاد وبضم وكسر (وأتته دنانير مرّة) وهي كثيرة (فقسمها) أي على من استحقها (وبقيت) وفي نسخة بقي (منها ستّة) وفي نسخة بقية أي قليلة يسيرة (فدفعها لبعض نسائه) نظرا إلى حدوث حاجة لهن إليها وفي رواية فرفعها بعض نسائه بالراء وهو إما بأمره وإما على عادة النساء في حفظ المال لأمر المعاش وغيره (فلم يأخذه نوم حتّى قام وقسمها) اتكالا على كرم ربه عند الاحتياج إليها (وقال الآن) وهو اسم للزمان الحاضر (استرحت) أي حصل الراحة لقلبي المعتمد على رزق ربي وفيه دلالة واضحة على ما كان عليه من التقلل للدنيا ملازمة الفاقة في أيام حياته إلى أوان مماته كما يدل عليه قوله (ومات ودرعه مرهونة) أي عند يهودي هو أبو الشحم وقيل أبو شحمة (في نفقة عياله) أي إلى سنة في ثلاثين صاعا من شعير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 على ما في البخاري والترمذي والنسائي وفي البزار أربعين وفي مصنف عبد الرزاق وسق شعير وهو ستون صاعا ويمكن الجمع بتعدد الواقعة حقيقة أو حكما عند نزول قوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الآية ولعل عدوله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الصحابة إلى معاملته بيان للجواز أو قلة الطعام عند غيره أو حذرا من أن يضيق على أصحابه أو لأنهم لا يأخذون منه رهنا ولا يتقاضون منه ثمنا بل ولا يعطونه دينا وهو لا يريد تكون صنيعة لأحد عليه أو ليكون حجة على اليهود في قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء حيث لم يقتض القرض لصاحبه الافتقار وعدم الاقتدار ولعله كان منعوتا في كتابهم أنه يكون مختارا للفقر على الغنى وأنه لا يبالي بكلام الأعداء من الأغنياء الأغبياء الذين يدعون الاستغناء (واقتصر من نفقته وملبسه ومسكنه) بفتح الكاف وكسرها أي من أجلها أو في حقها (على ما تدعوه ضرورته إليه) أي على مقدار قليل لا بد له منه مما تقتضيه الحاجة الضرورية إليه (وزهد) بكسر الهاء أي ولم يرغب (فيما سواه) ؛ فزهد فعل ماض عطف على اقتصر ووقع في أصل الدلجي وزهده بالضمير فتحير في امر مرجعه فقال عطف على الضمير المجرور بإلى أو على ضرورته أي وإلى هده أو ويدعوه زهده فيما سواه إليه ذهابا إلى الاقتصاد المحمود إذ ما قل وكفى خير مما كثر والهى (فكان يلبس) بفتح الياء والباء معا (ما وجده) أي أصابه وصادفه أي تيسر له من غير كلفة وشهوة (فيلبس في الغالب الشّملة) وهي كساء يشتمل به وقال ابن حماد هي شبه العباء وهي أكسية فيها خطوط سود كل كساء خشن فهو شملة ثم هي ضبطت في النسخ بالفتح لكن في القاموس الشملة هيئة الاشتمال وبالكسر كساء دون القطيفة يشتمل به انتهى والظاهر أنه وهم منه فإن صيغة الهيئة وهي النوع إنما هي بالكسر والفعلة موضوعة للمرة وقد تكون للاسم كما هنا ولذا أطلق صاحب النهاية حيث قال الشملة كساء يتلفف به (والكساء) بكسر الكاف معروف (الخشن) بفتح وكسر أي الغليظ ضد الرقيق (والبرد) أي اليماني وهو الثوب الذي فيه خطوط (الغليظ) أي الخشن واختار هذا كله زهدا وقناعة وتنزها عما يلبسه من لا خلاق له تفاخرا وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا أن الله يحب المتبذل الذي لا يبالي ما لبس تفاخرا وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا أن الله يحب المتبذل الذي لا يبالي ما لبس (ويقسم) بالتخفيف ويجوز تشديده بقصد التكثير (على من حضره أقبية الدّيباج) بكسر الدال وقد يفتح وهو نوع من الحرير والأقبية جمع القباء بالمد كالأكسية جمع الكساء وهو صنف من الثياب (المخوّصة) بتشديد الواو المفتوحة أي المنسوجة (بالذّهب) أي بمثل خوص النخل وهو ورقه وقيل فيه طرائق من ذهب مثل خوص النخل أو المكنوفة به وفي رواية المزرورة بالذهب أي التي لها أزرار منه أو المطوقة به أو التي زينت أزرارها به وفي الحديث مثل المرأة الصالحة مثل التاج المخوص بالذهب (ويرفع) أي منها (لمن لم يحضر) أي يغيب من أصحابه المستحقين لها كمخرمة بن نوفل كما في حديث الصحيحة عن ابن المسور قال أبي يا بني بلغني أن النبي صلى الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 عليه وسلم قدمت عليه أقبية فأذهب بنا إليه فذهبنا فوجدناه في منزله فقال لي ادعه لي فاعظمت ذلك فقال لي يا بني أنه ليس بجبار فدعوته فخرج ومعه قباء من ديباج مزرور بالذهب فقال يا مخرمة خبأت لك هذا وجعل يريه محاسنه ثم أعطاه له ولمسلم فنظر إليه فقال رضي مخرمة زاد البخاري وكان في خلق مخرمة شدة محبة هذا وكان يفعل ذلك إيثارا لغيره وتنزها عما يتباهى العوام به؛ (إذ المباهاة) أي المنافسة والمفاخرة (في الملابس) أي الثمينة (والتّزيّن بها) أي في المنازل المكينة (ليست من خصال الشّرف والجلالة) أي شمائل أرباب الشرافة وأصحاب العظمة المعنوية (وهي) أي تلك الملابس (من سمات النّساء) بكسر السين أي من خصال النسوة وعلاماتهن المتزينة بالحلي الصورية، (والمحمود) أي الممدوح (منها) أي من الملابس المطلقه (نقاوة الثّوب) بفتح النون النظافة وفي نسخة بضمها وهي خياره لكنه غير ملائم للمرام في هذا المقام (والتّوسّط في جنسه) لورود الذم عن لبس الشهرتين (وكونه لبس مثله) أي لباس بعض أمثاله حال كونه (غير مسقط لمروءة جنسه) أي أبناء جنسه وفي نسخة حسبه بفتحتين فموحدة (ممّا لا يؤدّي) أي يؤول (إلى الشّهرة في الطّرفين) أي المكتنفين من الأعلى والأدنى للتوسط إفراطا وتفريطا وخير الأمور أوساطها وقد قال الثوري كانوا يكرهون الشهرتين الثياب الجيدة والثياب الرديئة إذ الأبصار تمتد إليهما جميعا وقد ورد النهي عن الشهرتين أيضا (وقد ذمّ الشّرع ذلك) أي ما ذكر من الشهرتين أيضا أو المباهاة في الملابس؛ (وغاية الفخر فيه) أي في ذلك المذموم (في العادة عند النّاس إنّما يعود) أي ترجع غايته (إلى الفخر بكثرة الموجود ووفور الحال) أي وسعة الجاه وكثرة المال وقد سبق أن هذا مذموم في المآل (وكذلك التّباهي) أي ومثل الفخر حكم الافتخار (بجودة المسكن) أي بتجصيصها وتزيينها وتبييضها (وسعة المنزل) بفتح السين أي من جهة طولها وعرضها زيادة على مقدار الحاجة (وتكثير آلاته) أي أمتعته وظروفه ومفارشه (وخدمه) أي من عبيده وجواريه (ومركوباته) أي زيادة على مقدار حاجاته (ومن ملك الأرض وجبى إليه) بصيغة المجهول أي أتي إليه (ما فيها) من كل زوج كريم وصنف جسيم (فترك ذلك) أي مع القدرة عليه (زهدا وتنزّها) أي رفعة للنفس وبعدا لها عما يشينها فإن الزهد هو عزوب النفس عن الدنيا مع القدرة عليها رغبة في العقبى وهذا في الحقيقة لا يتصور ممن لا مال له ولا جاه على وجه الكمال ولهذا لما قيل لابن المبارك يا زاهد قال الزاهد عمر بن عبد العزيز إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها أما أنا ففيم زهدت والزهد أعلى المقامات وأعلى الحالات وقد ورد في الدنيا يحبك الله إذ جعله سببا لمحبة الله له (فهو حائز) أي جامع ومشتمل (لفضيلة الماليّة) التي هي اسباب التلذذ بالأعراض الدنيوية والأغراض الشهوية (ومالك للفخر) أي للافتخار في العادة بين العامة (بهذه الخصلة) أي الكثرة المالية والوسعة الجاهية (إن كانت فضيلة) بسبب ما مر من كونه وسيلتها وإلا فليست هي فضيلة في ذاتها فإن شرطية تقديرية وقال التلمساني هي بفتح الهمزة وهي تفسيرية ولا يخفى بعد ما قاله (زائد عليها في الفخر ومعرق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 بضم الميم وكسر الراء وتفتح أي له عرق أي أصل (في المدح) والمعنى هو زائد بهما على فضيلة المال (بإضرابه) بكسر الهمزة أي بسبب إعراضه (عَنْهَا وَزُهْدِهِ فِي فَانِيهَا وَبَذْلِهَا فِي مَظَانِّهَا) بفتح ميم وتشديد نون أي محالها من صلة رحم وجهة بر وهو بالظاء المشالة وقد تصحف على التلمساني فضبطه بالضاد وقال أراد مواضع البخل. فصل [وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة] (وأمّا الخصال المكتسبة) وتسمى ملكات نفسانية لأنها تخلقات كسبية لا سجية جبلية (من الأخلاق الحميدة) أي المحمودة من الشمائل المعدودة من الأحوال السعيدة (والآداب الشّريفة) أي الناشئة من النفوس النفيسة اللطيفة (التي اتّفق جميع العقلاء) أي من الفضلاء والعلماء إذ لا عبرة بالجهلاء (على تفضيل صاحبها) أي بالنسبة إلى فاقدها (وتعظيم المتّصف) بتشديد التاء المثناة أي المتلبس والمتخلق (بالخلق الواحد منها فضلا عمّا فوقه) أي أكثر منه مما أجمع على حسنها وطوبى لمن جمعها بأجمعها (وأثنى الشّرع على جميعها وأمر بها) أي جمعا وأفرادا مجملا ومفصلا (ووعد السّعادة الدّائمة) أي تعلقها (للمتخلّق بها) أي للذي اتخذها خلقا كما هو مذكور في الترغيب والترهيب وكتب الأخلاق من الأحياء وغيره (ووصف بعضها بأنّه من أجزاء النّبوّة) كحديث السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربع وعشرين جزءا من النبوة وحديث أن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمس وعشرين جزءا من النبوة والمعنى أن هذه الخصال منحها الله تعالى أنبياءه فهي من شمائلهم وفضائلهم وأنها جزء من أجزائها فاقتدوا بهم فيها لا أن النبوة تتجزأ ولا أن من جمعها يكون نبيا إذ النبوة غير مكتسبة بل هي كرامة مختصة بمن تعلقت به المشيئة أو المعنى أن هذه الخصال جزء من خمس وعشرين جزءا مما جاءت به النبوة ودعت إليه أصحاب الرسالة وتأنيث اربع وخمس على معنى الخصال أو القطعة مع أن الاجزاء تجري مجرى الكل في التذكير والتأنيث (وهي) أي الخصال المكتسبة التي ورد باستحسانها الكتاب والسنة هي (المسمّاة بحسن الخلق) أي في الجملة (وهو) أي حسن الخلق (الِاعْتِدَالُ فِي قُوَى النَّفْسِ وَأَوْصَافِهَا، وَالتَّوَسُّطُ فِيهَا دون الميل إلى منحرف أطرافها) فإن لها ثلاث قوى نطقية اعتدالها حكمة وشهوية اعتدالها عفة وغضبية اعتدالها شجاعة فللنطق طرف إفراط هو الجربزة كاستعمال الفكرة واشتغال الآلة فيما لا ينبغي وتفريط وهو الغباوة كتعطيل الفكرة عن اكتساب العلوم وإفادتها واستفادتها وللشهوة طرف إفراط هو الفجور كالانهماك في اللذات وتفريط هو الخمود كترك ما رخص شرعا وعقلا من اللذات وللغضب طرف إفراط هو التهور كالإقدام على ما لا ينبغي وتفريط هو الجبن كترك الإقدام على ما ينبغي فما بينهما هو التوسط في الأخلاق المسماة مثلا بالحكمة والعفة والشجاعة وأما قول الدلجي فللحكمة والعفة والشجاعة طرف إفراط وتفريط خبط وتخبط؛ (فَجَمِيعُهَا قَدْ كَانَتْ خُلُقَ نَبِيِّنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِانْتِهَاءِ فِي كَمَالِهَا. وَالِاعْتِدَالِ إلى غايتها) يحتمل عطف الاعتدال على الانتهاء وهو الظاهر الأنسب في المعنى والعطف على كمالها وهو خلاف المتبادر لكنه الأقرب في المبنى (حتّى) أي إلى حد (أثنى الله عليه بذلك فَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [الْقَلَمِ: 5] ) وقد قيل هو ما أمر به من قوله سبحانه وتعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وقيل هو ما ورد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم هو أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من منعك والأكمل في تفسيره ما ذكره المصنف بقوله. (قالت عائشة رضي الله عنها) أي وقد سألها سعيد بن هشام عن خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم: (كان خلقه القرآن) بالرفع ويجوز نصبه زاد البيهقي في دلائله على ما هو في بعض النسخ (يرضى برضاه) أي يرضى ما فيه من الواجب والمندوب والمباح (ويسخط بسخطه) أي ويغضب ويكره ما ينافيه من الحرام والمكروه وخلاف الأولى وزاد في نسخة يعني التأدب بآدابه والتخلق بمحاسنه والالتزام لأوامره وزواجره، (وقال عليه الصلاة والسلام) على ما رواه أحمد والبزار (بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق) ورواه مالك في الموطأ ولفظه بلغني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال بعثت لأتمم حسن الأخلاق ورواه البغوي في شرح السنة بلفظ أن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال أي الملكات النفسية والحالات القدسية التي جمعها حسن الخلق المتضمن لأداء حق الحق والخلق مما لا يستحصى ولا يتصور أن يستقصى وفيه إيماء إلى أن الأنبياء كانوا موسومين بالأخلاق الرضية والشمائل البهية إلا أنها لم تكن على وجه الكمال الذي لا يكون فوقه كمال وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مجتمع الأخلاق العلية ومنبع الأحوال السنية بحيث لا يتصور فوقها كمال حتى من تعدى عن ذلك الحد وقع في النقصان في المآل ويدل على ما قررنا على وجه حررنا حديث مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل قصر أحسن بنيانه وترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة فكنت أنا سددت موضع اللبنة ختم لي النبيون ويشير إلى هذا المبنى قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. (قال أنس رضي الله تعالى عنه) فيما رواه الشيخان (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحسن النّاس) أي من الأولين والآخرين (خلقا) بشهادة الله الكريم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ؛ (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه مثله، وكان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فيما ذكره المحقّقون مجبولا) أي مخلوقا ومطبوعا (عليها في أصل خلقته) أي من ابتداء نشأته الروحية (وأوّل فطرته) أي خلقته الجسدية وفي بعض النسخ في أصل خلقته بالظرفية بدلا من من الابتدائية (لم تحصل له باكتساب ولا رياضة) خلافا لما قاله الفلاسفة والحكماء الرياضيةإ (لّا بجود إلهي) أي لكن حصلت له بجذبة صمدانية (وخصوصيّة ربّانيّة؛ وهكذا) أي وكذا فعل الله (لسائر الأنبياء) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وفي رواية سائر الأنبياء أي باقي الأنبياء الماضية وأما وجود الأخلاق الحميدة في غيرهم فقيل إنها جبلية وطبيعية مثل الأنبياء وهذا بعيد عن مشرب الأصفياء ولو مال إليه الطبراني من العلماء وقيل كتسبة لا جبلية ولا طبيعية وهذا قول ظاهر البطلان لمشاهدة تفاوت الأحوال في أخلاق الأطفال والصبيان كما يدل عليه حكاية حاتم الطائي وأخيه ورواية أمهما في ابتداء ارضاعهما وقيل منها ما هي جبلية طبع عليها في أول الخلقة وما هي كسبيه تحصل بالرياضة وتصير لصاحبها ملكة ويؤيده حديث أشبح عبد القيس حيث قال له صلى الله تعالى عليه وسلم إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والإناءة فقال يا رسول الله أشيء من قبل نفسي أو جبلني الله عليه فقال جبلك الله عليه فقال الحمد الله الذي جبلني على خلقين يرضاهما الله ورسوله والتحقيق أن حال الإنسان مركب من الأخلاق المحمودة الملكية ومن الأخلاق المذمومة الشيطانية فإن مال إلى الأولى فهو خير من الملائكة المقربين وإن مال إلى الثانية فهو شر من الشياطين وتحقيق هذا المرام لا يسعه الكلام في هذا المقام وقد صنف في هذا المبحث كتب الأخلاق منها الناصرية ومنها الدوانية ومنها الكشافية وقد حقق الإمام الغزالي في الأحياء الأدلة على وجه الاستقصاء؛ (ومن طالع سيرهم) أي سلوك الأنبياء في سيرهم (منذ صباهم إلى مبعثهم) أي من مبدئهم إلى منتهاهم (حقّق ذلك) أي عرف حقيقة ما ذكر من أن أخلاقهم مرضية وهبية لا رياضة كسبية (كَمَا عُرِفَ مِنْ حَالِ عِيسَى وَمُوسَى وَيَحْيَى وسليمان وغيرهم عليهم السّلام بل غرزت) بصيغة المجهول أي طبعت وغرست (فيهم هذه الأخلاق في الجبلّة) أي الطبيعة الأصلية (وأودعوا العلم والحكمة في الفطرة) أي أول الخلقة الإنسانية (قال الله تعالى: وَآتَيْناهُ) أي أعطينا يحيى (الْحُكْمَ) أي النبوة وإتقان المعرفة (صَبِيًّا [مريم: 12] ) أي صغيرا. (قال المفسّرون: أعطى الله يحيى العلم) بصيغة المجهول أو المعلوم ويؤيده نسخة أعطى الله تعالى (بكتاب الله) أي التوراة أو بمضمون كتب الله تعالى مجملة أو مفصلة (في حال صباه) فيه إيماء إلى أن صبيا نصب على الحال من المفعول وقد روي أنه نبئ وفهم العلم بالكتاب وهو ابن ثلاث أو سبع؛ (وقال معمر) بفتح الميمين ابن راشد أبو عروة الأزدي مولاهم عالم اليمن روى عن الزهري وهمام وخلق وعنه ابن المبارك وعبد الرزاق اخرج له الأئمة الستة (كان) أي يحيى (ابن سنتين أو ثلاث) على ما رواه عنه أحمد في الزهد وابن أبي حاتم في تفسيره والديلمي عن معاذ ولم يسنده والحاكم في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه بسند واه والتحقيق أن يحيى عليه الصلاة والسلام أعطي هذا المقام وهو في بطن أمه كما ورد من أن السعيد من سعد في بطن أمه وإنما قيده سبحانه وتعالى بحال الصبا لتعلق علم الخلق به حينئذ فاختلاف الروايات مبني على اختلاف إطلاع الناس على ما به من الحالات (فَقَالَ لَهُ الصِّبْيَانُ لِمَ لَا تَلْعَبُ فَقَالَ أللّعب خلقت) فهمزة الاستفهام للإنكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 على ما في الأصول المصححة واللعب فيه لغتان فتح اللام وكسر العين وكسر أوله وسكون ثانيه ووقع في أصل الدلجي ما للعب خلقت بما النافية ولعله رواية في المبنى أو نقل بالمعنى ثم أغرب واعترض على معمر في قوله أو على المصنف في اعتماده على نقله حيث قال والذي قاله معمر كان يومئذ ابن ثمان سنين وهو الأصح وما ذكر ههنا فغريب في الرواية عنه بشهادة ما رواه ابن قتيبة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ دخل يحيى بيت المقدس وهو ابن ثمان فنظر إلى العباد به واجتهادهم فرجع إلى أبويه فمر في طريقه بصبيان يلعبون فقالوا هلم فلنلعب فقال إني لم أخلق للعب فذلك قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا انتهى ووجه الغرابة لا يخفى إذ لا يبعد أن يكون ظهور آثار النبوة عليه كان وهو ابن سنتين أو ثلاث ثم وقع له هذا المقام عقب هذا ولو بعد سنين مع الأطفال مع أنه لا مانع من تعدد الواقعة ولو بالاحتمال (وقيل في قوله تعالى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ من الله صدق يحيى بعيسى) أي آمن به (وهو ابن ثلاث سنين) وحكى السهيلي عن ابن قتيبة أنه كان ابن ستة أشهر (فشهد) وفي نسخة وشهد (له أنّه كلمة الله وروحه) فهو أول من آمن به وسمي كلمة لوجوده بأمره تعالى بلا أب فشابه المخترعات التي هي عالم الأمر المعبر عنه يقول كن كما قال الله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؛ (وقيل) كما في تفسير محمد بن جرير الطبري (صدّقه) أي آمن به يحيى (وهو في بطن أمّه) حال من ضمير الفاعل (فكانت) بالفاء وفي نسخة وكانت (أمّ يحيى) أي وهي حامل به (تقول لمريم) أي اختها إذا دخلت عليها وهي حامل بعيسى والله إنك لخير النساء وأن ما في بطنك لخير مولود (إِنِّي أَجِدُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا في بطنك تحيّة له) أي تعظيما وتسليما وتكريما وهذا يدل على أن مريم حملت مدة الحمل كما عليه الأكثر وهو لا ينافي ما تقدم والله أعلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حملته ووضعته في ساعة واحدة فتصديقه إنما كان وهو ابن ثلاث كما سبق؛ (وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَلَامِ عِيسَى لِأُمِّهِ عِنْدَ وِلَادَتِهَا إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ لَهَا، أَلَّا تَحْزَنِي [مريم: 24] ) الأولى أن لا تحزني (على قراءة من قرأ مِنْ تَحْتِها [مريم: 24] بفتح الميم والتاء كما قرأ به ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر (وعلي) أي وكذا علي (قول من قال إنّ المنادي عيسى) كأبي بن كعب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد لأنه خاطبها من تحت ذيلها لما خرج من بطنها وفيه احتراز عن قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلقمة والضحاك أن المنادي جبريل لأنه كان بمكان منخفض عنها قال الدلجي لا وجه لتخصيص القراءة الأولى بالخلاف في المنادي مع وقوعه في الثانية قلت حيث تعارض القولان عن الأئمة ولا يتصور الجمع بينهما إلا بتعدد القضية أشار المصنف إلى أن القراءة الأولى محملها على المعنى الأول أولى وهو أن يكون المنادي عيسى فلا ينافي احتمال وجود آخر في المعنى على ما لا يخفى (ونصّ) أي صرح الله سبحانه وتعالى (على كلامه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 أي نطق عيسى (في مهده فقال) أي الله في كلامه حكاية عنه (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) ردا على إثبات اله سواه وافتخارا بالعبودية واحترازا عن دعوى الربوبية (آتانِيَ الْكِتابَ) أي أعطاني الله من فضله علم الإنجيل أو جنس الكتاب (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم: 30] ) في سابق قضائه أو تنزيلا للمحقق وقوعه منزلة الواقع به كما في أَتى أَمْرُ اللَّهِ كذا ذكره الدلجي والظاهر المتبادر أنه جعله نبيا في ذلك الحال من غير توقف على الاستقبال فلا يحتاج إلى تأويله بالمآل ويؤيده ما روي عن الحسن أكمل الله عقله ونبأه طفلا وقضية يحيى صريحة أيضا في هذا المعنى غايته أن أعطاه النبوة في سن الأربعين غالب العادة الإلهية وعيسى ويحيى خصا بهذه المرتبة الجليلة كما أن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم خص بما ورد عنه من قوله كنت نبيا وإن آدم لمنجدل بين الماء والطين هذا وفي المستدرك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا لم يتكلم في المهد إلا عيسى وشاهد يوسف وصاحب جريج وابن ماشطة فرعون ولفظ مسند أحمد وابن ماشطة ابنة فرعون وزاد البغوي في تفسير سورة الأنعام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وممن تكلم صغيرا يحيى بن زكريا ومبارك اليمامة كلمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذكره في الدلائل ورضيع المتقاعسة ورضيع التي مر عليها راكب فقالت اللهم اجعل ابني مثل هذا والصبي الذي في حديث الساحر والراهب الذي قال لأمه أصبري فإنك على الحق وهو في أواخر مسلم وفي كلام السهيلي في آخر روضته أن أول كلمه تكلم بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو مرضع عند حليمة إن قال الله أكبر قال السهيلي رأيته كذا في بعض كتب الواقدي (وقال) أي عز قائله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) أي الحكومة أو الفتيا إذ روي أنه تحاكم إلى داود صاحب غنم وصاحب زرع أو كرم رعته ليلا فحكم بها لصاحب الحرث لاستواء قيمتها وقيمة نقصه فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة غير هذا أوفق بهما فعزم عليه ليحكم فدفع الغنم لصاحب الحرث ينتفع بدرها ونتاجها وأصوافها والحرث لصاحب الغنم يصلحه فإذا عاد إلى ما كان عليه ترادا ولعلهما قالا مقالهما اجتهادا فقال داود اصبت القضاء ثم حكم بذلك والأول نظير قول أبي حنيفة في العبد الجاني والثاني نظير قول الشافعي بالغرم للحيلولة في العبد المغصوب إذا أبق إما في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة لحديث جرح العجماء جبار أي هدر إلا أن يكون معها حافظ أو أرسلت عمدا وأوجبه الشافعي ليلا لا نهارا لجري العادة في حفظ الدواب بالليل دون النهار لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية حفظها بالليل وفي الحديث إشارة لطيفة إلى قول أبي حنيفة في تقييد القضية بحالة العمدية إذ تخلص الدابة ليلا أو نهارا واتلافها من غير تقصير من صاحبها لا يوجب الغرامة المنفية في الملة الحنيفية حيث قال ليس عليكم في الدين من حرج (وَكُلًّا) أي من داود وسليمان (آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 [الأنبياء: 68] ) أي معرفة بموجب الحكومة وعلما بسائر القضايا الشرعية (وقد ذكر) بصيغة المجهول (من حكم سليمان) كذا في النسخ المتعددة المعتمدة ووقع في أصل الدلجي وقد ذكر عن سليمان (وهو صبيّ) أي في حال صباه (يلعب) أي مع الصبيان (في قضيّة المرجومة) أي التي كانوا يريدون أن يرجموها وفي نسخة في قضية المرجومة وهي ما رواه ابن عساكر في تاريخه بسنده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن امرأة حسناء في بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من أكابرهم وقيل من قضاتهم الذين رفعت حكمها إليهم فامتنعت فاتفقوا أن يشهدوا عليها عند داود أنها مكنت من نفسها كلبا لها قد عودته ذلك منها فأمر برجمها أو هم به فلما كان عشية يوم رجمها جلس سليمان واجتمع إليه ولدان فانتصب حاكما وتزيى أربعة منهم بزي أولئك الأربعة وآخر بزي المرأة وشهدوا عليها بأن مكنت من نفسها كلبا فسألهم متفرقين عن لونه فقال أحدهم أسود وآخر أحمر وآخر عيسى وآخر أبيض فأمر بقتلهم فبلغ ذلك داود فاستدعى من فوره بالشهود فسألهم متفرقين عن لون كلبها فاختلفوا فقتلهم (وفي قصّة الصّبيّ ما اقتدى) أي الذي اقتدى (به) أي بسليمان ورجع إلى حكمه (داود أبوه) عطف بيان لدفع توهم أن يكون غيره وهذه القضية رواها الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى بينما امرأتان معهما ابنان لهما فأخذ ذئب أحدهما فتحاكمتا إلى داود في الآخر فقضى به للكبرى فدعاهما سليمان وقال هاتوا السكين أشقه بينهما فقالت الصغرى رحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى لها به مستدلا بشفقتها عليه بقولها لا تشقه ورضى الكبرى بشقه لتشاركها في المصيبة أو لما كان بينهما من العداوة ولعل داود عليه السلام حكم به للكبرى لكونه في يدها أو اعتمادا على نوع من الشبه وهو لا يخلو من الشبه فإن قيل المجتهد لا ينقض حكم المجتهد فالجواب إن سليمان فعل ذلك وسيلة إلى حقيقة القضية فلما أقرت بها الكبرى عمل بإقرارها أو لعل في شرعهم يجوز للمجتهد نقض حكم المجتهد وقيل كان بوحي ناسخ للأول قيل وكان قضاؤه وهو ابن اثنتي عشرة سنة ومات وهو ابن اثنتين وخمسين سنة وقيل كان حكم داود باجتهاد وحكم سليمان بوحي والوحي ينقض غيره، (وحكى الطّبريّ) وفي نسخة وقال الطبري وهو محمد بن جرير (أنّ عمره) أي سن سليمان (كان حين أوتي الملك اثني عشر عاما) أي سنة، (وكذلك) أي ومثل ما ذكر عن سليمان في صغره (قصّة موسى) قيل وزنه مفعل أو فعلل أو فعلى (مع فرعون وأخذه بلحيته وهو طفل) وقصته أن فرعون كان يرى أن من يأخذ بلحيته ويأخذ منها خصلة هو الذي يقتله ويسلب ملكه فبينا موسى في حجره إذ تناول لحيته فأخذ منها خصلة فقال هذا عدو لنا فقالت له امرأته المسلمة آسية بنت مزاحم أنه صغير فألقى له الدر والجمر فأخذ الجمر وأدخله في فيه فمنه كان في لسانه عقد وفرعون هذا هو عدو الله الوليد بن مصعب ابن الريان كان من القبط العماليق وعمر أكثر من أربعمائة سنة وقد كتبت رسالة مسماة بفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 العون ممن ادعى إيمان فرعون، (وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) أي كمال هدايته وصلاح حالته (مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: 68] ) أي قبل أوان معرفته (أي هديناه) ووقع في أصل الدلجي هداه بالإضافة (صغيرا) أي قبل بلوغه، (قاله مجاهد وغيره) وقال غيرهم قبل موسى وهارون وقيل قبل محمد عليه الصلاة والسلام، (وقال ابن عطاء) هو أبو العباس أحمد بن سهل بن عطاء مات سنة تسع وثلاثمائة (اصطفاه) أي في سابق قضائه في عالم الأرواح (قبل إبداء خلقه) أي إظهار جسده من العدم إلى الوجود في عالم الأشباح، (وقال بعضهم) كالكواشي وغيره (لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكًا يَأْمُرُهُ عَنِ اللَّهِ أَنْ يعرفه بقلبه) التامة الشاملة للأفعال والصفات والذات الكاملة (ويذكره بلسانه) بوصف المداومة (فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ وَلَمْ يَقُلْ أَفْعَلُ فَذَلِكَ رشده) أي حيث بالغ في الامتثال حتى عبر بالماضي عن الحال فكأنه امتثله وأخبره ومن هنا قيل النفي أبلغ من النهي، (وَقِيلَ إِنَّ إِلْقَاءَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النّار ومحنته) أي بليته من نمرود (كانت وهو ابن ستّ عشرة سنة) وفي عين المعاني عن ابن جريج ست وعشرين إذ أقسم (ليكيدن أصنامهم فألقوه فيها فكانت عليه بردا وسلاما) (وإنّ ابتلاء إسحاق) عليه الصلاة والسلام (بالذّبح) أي كان كما في نسخة صحيحة (وهو ابن سبع سنين) وقيل ثلاث عشرة وهذا على أحد القولين في الذبيح مع خلاف في الترجيح حتى توقف فيه شيخ مشايخنا جلال الدين السيوطي في رسالة مستقلة بعد ذكره من الطرفين بعض الأدلة لكن المشهور بل الصحيح أنه إسماعيل لحديث أنا ابن الذبيحين أي إسماعيل وعبد الله إذ قد نذر عبد المطلب أن يسر الله حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة ذبح أحدهم فتم متمناه فاسهم فخرج على عبد الله ففداه بمائة من الإبل ومن ثم شرعت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا في فتنة ابن الزبير ولأن بشارته بإسحاق كانت مقرونة بأنه يولد له يعقوب المنافي للأمر بذبحه مراهقا وأيضا كانت مقرونة بالنبوة في آية أخرى والغالب في الأنبياء وصولهم إلى حد الأربعين ولأن إسماعيل كان أول ولده الابتلاء حينئذ أشق على ذبحه وفقده قيل وهذا هو الصواب عند علماء الصحابة والتابعين والقول بأنه إسحاق باطل منشأه الحسد من اليهود للعرب بأن يكون أبوهم هو الذبيح قال ابن قيم الجوزية في الهدي وهو مردود بأكثر من عشرين وجها وأما حديث سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي النسب اشرف فقال يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله فأما الذي قال صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه البخاري وغيره الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يوسف ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فزوائده مدرجة من الراوي وما روي من أن يعقوب كتب إلى يوسف مثله فلم يصح، (وَإِنَّ اسْتِدْلَالَ إِبْرَاهِيمَ بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ كَانَ) أي في نفسه (وهو ابن خمسة عشر شهرا) فحكاه الله تعالى عنه جهرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ولا بدع أنه كان زمان مراهقته وأول مقام نبوته تنبيها لقومه على خطائهم بعبادة غيره سبحانه وتعالى وإرشادا لهم إلى طريق الحق على سبيل النظر والاستدلال على حدوث عالم الخلق وأن للشمس والقمر والكواكب وسائر الأشياء النورانية والظلمانية محدثا دبر طلوعها وسيرها وانتقالها وزوالها من حالها بدليل قوله تعالى يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (وقيل أوحى) وفي نسخة أوحى الله (إلى يوسف) بضم السين وفتحها وكسرها مع الهمزة وعدمه وكان بخده الأيمن خال أسود وبين عينيه شامة وبقي في الرق ثلاث عشرة سنة وقيل ثنتي عشرة قيل عدد حروف اذكرني عند ربك فإن عد المضاعف اثنين فثلاث عشرة وإلا فاثنتا عشرة وعن علي كرم الله تعالى وجهه أن أحسن الحسن الخلق الحسن وأحسن ما يكون الخلق الحسن إذا كان معه الوجه الحسن (وهو صبيّ) أو بالغ فعن الحسن وله سبع عشرة سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة ودفن بمصر بالنيل ثم حمله موسى عليهما الصلاة والسلام حين خرجت بنو اسرائيل من مصر إلى الشام (عندما همّ إخوته بإلقائه في الجبّ) أي في قعر بئر وهي على ثلاثة فراسخ من منزل أبيهم (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا [يوسف: 15] الآية) أي إلى وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ففيه بشارة إلى مآل أمره أي لنخلصنك ولنخبرن إخوتك بما فعلوه وهم لا يشعرون أنك يوسف لعلو شأنك ورفعة مكانك وكان الحال كما قال تعالى فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وأبعد من جوز تعلق جملة وهم لا يشعرون بأوحينا كما لا يخفى لأن الوحي لا يكون إلا على وجه الخفاء (إلى غيره ذلك ممّا ذكر من أخبارهم) ويروى ما ذكر من أخبار غيرهم، (وَقَدْ حَكَى أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ أَخْبَرَتْ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ولد حين ولد) أي أول ما ولد (باسطا يديه إلى الأرض) أي معتمدا بيديه على الأرض وقد جاء كذلك مفسرا (رافعا رأسه إلى السّماء) إيماء إلى بسط دينه وملكه على بساط الأرض ورفعة شأنه بالإسراء إلى جهة السماء. (وقال في حديثه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على ما رواه أبو نعيم في الدلائل (لمّا نشأت) أي انتشأت بحيث ميزت بين الخير والشر وفرقت بين الحق والباطل وهو أولى من قول الدلجي تبعا للتلمساني أي شببت وصرت شابا (بغّضت) بالتشديد للمبالغة أي كره الله (إليّ الأوثان) أي عبادتها والمعنى أنه خلق في جبلته وفطرته بناء على تحقق عصمته محبة الله وبغض عبادة ما سواه (وبغّض إليّ الشّعر) لما أراد أن ينزهه عن كونه شاعرا وأن يكون كلامه شعرا وهو لا ينافي أن يكون موزونا في طبعه كما حقق في موضعه (ولم أهمّ) بفتح فضم وتشديد ميم مضمومة أو مفتوحة أي لم أقصد (بشيء ممّا كانت الجاهليّة تفعله) أي من المعازف وغيرها مما نهى الله عنه (إلّا مرّتين فعصمني الله منهما) أي من الاستمرار عليهما وفي أكثر النسخ منها أي من أفعال الجاهلية بتمامها (ثمّ لم أعد) أي لم ارجع إليها أبدا فعن علي كرم الله وجهه على ما رواه البزار بسند صحيح عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 مرفوعا بلفظ مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ كُلُّ ذَلِكَ يَحُولُ الله بيني وبين ما أريد ثم ما هممت بعدهما بشيء حتى أكرمني الله برسالته ورواه الحاكم في المستدرك في التوبة بلفظ ما هممت بقبيح مما هم به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر كلتاهما بعصمني الله منها قلت ليلة لفتى من قريش كان بأعلى مكة يرعى غنما لأهله أبصر غنمي حتى أسمر هذه الليل كما يسمر الصبيان فجئت أدني دار من دور مكة فسمعت غناء وصوت دفوف ومزامير فقلت ما هذا فقيل فلان تزوج فلانة فلهوت بذلك الغناء وذلك الصوت حتى غلبتني عيناي فما ايقظني إلا حر الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت فأخبرته ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك فسمعت كما سمعت حتى غلبتني عيناي فما أيقظني إلا مس الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال لي ما فعلت فما قلت شيئا أي وذلك حياء قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما هممت غيرهما بسوء مما يعمله أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته وفيه تنبيه على أن هذا الهم إنما كان حال الصغر دون البلوغ كما يشير إليه قوله كما يسمر الصبيان وهذا أوفى دليل على قبح سماء اللهو وضرب الدف إلا ما شرع له خلافا لما يفعله الجهلة من الصوفية حيث يجمعون بين الإذكار وضرب الدفوف ونفخ المزمار حتى في مجالس المواليد ومزار قبور المشايخ الابرار والحاصل أن الأنبياء مخلوقون على المكارم الرضية ومجبولون على الشمائل البهية وأنه لا يضر في ذلك ما وقع لهم حال الصغر على سبيل الندرة (ثمّ يتمكّن الأمر لهم) أي يزداد (وتترادف) أي تتوالى وتتابع (نفحات الله تعالى) جمع نفحة أي عطياته ومعارفه وجذباته (عليهم وتشرق) من الإشراق أي تضيء (أنوار المعارف في قلوبهم) أي وآثار العوارف على صدورهم (حتّى يصلوا إلى الغاية) وفي نسخة إلى الغاية أي نهاية أرباب الهداية وأصحاب العناية (وَيَبْلُغُوا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ فِي تحصيل هذه الخصال الشّريفة النّهاية) بالنصب مفعول يبلغوا والمراد بها النهاية التي ما فوقها نهاية لكن كما قيل النهاية هي الرجوع إلى البداية فهم بين فناء وبقاء ومحو وصحو في مرتبة الكمال بين صفتي الجلال والجمال (دون ممارسة ولا رياضة) أي من غير معالجة وملازمة رياضة كسبية بل بخلقة جبلية وجذبة الهية (قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي وصل موسى نهاية قوته وغاية نشأته من ثلاثين إلى أربعين سنة (استوى) أي استحكم عقله واستقام حاله بلغ أربعين سنة وهو سن بعث الأنبياء عليهم السلام غالبا في سنة الله وعادته سبحانه وتعالى (آتَيْناهُ حُكْماً) أي نبوة (وَعِلْماً [يوسف: 22، القصص: 14] ) أي معرفة تامة وأبعد الدلجي في تفسيره الحكم بعلم الحكماء ثم في ترجيحه (وقد نجد) أي نصادف نحن (غيرهم) أي غير الأنبياء من العقلاء والحكماء والأولياء (يطبع على بعض هذه الأخلاق) أي الكريمة المستحسنة (دون جميعها) وفي أصل الدلجي دون بعضها (ويولد عليها) أي يولد بعضهم على تلك الأخلاق (فيسهل عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 اكتساب تمامها) بواسطة تخلقه واتصافه بها (عناية) أي بعناية (مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نُشَاهِدُ مِنْ خَلْقِهِ بعض الصّبيان) بكسر الخاء المعجمة وسكون اللام (على حسن السّمت) أي الهيئة والطريقة والتحلية بحلية أهل الحقيقة كما روي عن بعض ارباب هذا الشأن أنه لم يكن يرضع في نهار رمضان (أو الشّهامة) بفتح المعجمة أي على الجلادة وذكاء الفطنة (أو صدق اللّسان) أي مع نطق البيان (أو السّماحة) أي الجود والكرم والصبر والحلم وقلة الأكل وكثرة الحياء وكمال الأدب والرضى بما أعطي من المأكل والملبس وغيرهما (وكما نجد بعضهم) أي بعض غير الأنبياء أو بعض الصبيان (على ضدّها) أي في الصغر والكبر؛ (فبالاكتساب يكمل) بضم الميم أي يتم (ناقصها وبالرّياضة والمجاهدة يستجلب معدومها) بصيغة المجهول (ويعتدل منحرفها) أي مائلها لمن وفقه الله تعالى على إكمالها واستقامة أحوالها، (وباختلاف هذين الحالين) أي الجبلي والكسبي (يتفاوت النّاس فيها) أي قلة وكثرة وتحصيلا وتعطيلا، (وكلّ ميسّر) أي معد ومهيأ (لما خلق له) وهو مقتبس من حديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة؛ (ولهذا) أي ولتفاوت الناس فيها وفي أكثر النسخ ولهذا (ما) أي وثبت لهذا ما (قد اختلف السّلف فيها) أي في الأخلاق (هل هذا الخلق) أي الحسن أو جنسه (جبلّة أو مكتسبة فحكى الطّبريّ) أي صاحب التفسير والتاريخ (عن بعض السّلف أنّ الخلق الحسن) أي وكذا ضده (جبلّة وغريزة في العبد؛ وحكاه) أي بعض السلف أو الطبري (عن عبد الله بن مسعود) رضي الله تعالى عنه (والحسن) أي البصري (وبه قال هو) أي ابن جرير الطبري؛ (والصواب ما أصّلناه) أي جعلناه أصلا فيما مر أن منها ما هو جبلة غريزية ومنها ما هو كسبية رياضية وكان حق المصنف أن يقول والظاهر أو الصحيح كما في نسخة مكان قوله والصواب مراعاة لما سبق من السلف كما يقتضيه حسن الآداب ثم التحقيق ما قدمناه. (وقد روى سعد) أي ابن أبي وقاص كما في مقدمة كامل بن عدي وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي أمامة (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال كلّ الخلال) بكسر الخاء جمع خلة بالفتح أي الصفات والخصال (يطبع عليها المؤمن إلّا الخيانة) ضد الأمانة (والكذب) أي فلا يطبع عليهما بل قد يواجدن فيه ويعرضان ويحدثان تخلقا وتكسبا (وقال عمر رضي الله عنه) أي ابن الخطاب كما في أكثر النسخ (في حديثه) أي الذي رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وسعيد بن منصور عنه موقوفا (الجرءة) على وزن الجرعة الشجاعة ويقال بفتح الراء وحذف الهمزة كما يقال للمرأة مرة وبفتح الجيم والراء والمد (والجبن) ضدها وهو بضم الجيم وسكون الباء وقد يضم (غرائز) جمع غريزة أي طبائع وقرائح (يضعهما) وفي نسخة يضعها (الله حيث يشاء) أي كما قال تعالى الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ انتهى كلامه رضي الله تعالى عنه. (وهذه الأخلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 المحمودة والخصال الجميلة) وفي نسخة الشريفة بدلها وفي نسخة جميعها (كثيرة ولكنّنا) وفي رواية ولكنا وفي أخرى ولكننا (نذكر أصولها) أي في فصولها (ونشير إلى جميعها) أي باعتبار فروعها (ونحقّق) أي نثبت (وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم بها) أي على وجه كمالها (إن شاء الله تعالى) أي إتمام ما قصدنا إليه. فصل [وأما أَصْلُ فُرُوعِهَا وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ] أي في بيان أصول هذه الأخلاق تصريحا والإشارة إلى جميعها تلويحا وتحقق وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم بها توضيحا (أمّا أصل فروعها) أي أفرادها من حيث انبعاثها من العقل الذي هو معدنها (وعنصر ينابيعها) بضم العين والصاد ويفتح أي أصلها الذي كأنها تنبع منه حين ظهورها والعطف تفسير في العبارة وتفنن بالإشارة (ونقطة دائرتها) أي مركزها وقطبها الذي هو مدارها (فالعقل) أي ادراك النفس بإشراق ظهوره وإفاضة نوره كالشمس بالنسبة إلى الأبصار (الذي منه ينبعث العلم) بالكليات (والمعرفة) بالجزئيات (ويتفرّع من هذا) أي من كونه أصلا (ثقوب الرّأي) أي نفوذه وإحكامه (وجودة الفطنة) بفتح الجيم أي حسن الفهم (والإصابة) بالرفع وفي نسخة بالجر والمراد بها إدراك الغرض على وجه الصواب، (وصدق الظّنّ) بالرفع لا غير والمراد موافقته للواقع في الخارج والذهن (والنّظر للعواقب) أي التأمل والتدبر في عواقب الأمور ليتميز محمودها من مذمومها فيكسب المدائح ويجتنب القبائح (ومصالح النّفس) أي لمصالحها ومنافعها ومحاسن عاقبتها مما لها دون ما عليها (ومجاهدة الشّهوة) أي لمدافعتها وفي بعض النسخ بالرفع أي ويتفرع منه مجاهدة النفس بترك الشهوات واللهوات والغفلات وحملها على الطاعات والعبادات (وحسن السّياسة) بالرفع أي سياسة الناس بالعدالة وصدق اللهجة ووقف النهجة (والتّدبير) أي وحسن التدبير لأمورهم معاشا ومعادا (واقتناء الفضائل) بالرفع أي تكسب الشمائل (وتجنّب الرّذائل) ويحصل الكل بمخالفة الشهوة والهوى وموافقة الشريعة والهدى (وقد أشرنا) أي فيما سبق (إلى مكانه) أي محله (منه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لتمكنه من كمال العقل الذي هو أساس العمل بالعدل في جميع مراتب القول والفعل (وبلوغه منه) أي وإلى وصول منه على كمال فصوله في حصوله (ومن العلم) أي وتمكنه من العلم الحاصل المنفرع على العقل الكامل (الغاية) أي بلوغه للغاية القصوى كما في نسخة (الَّتِي لَمْ يَبْلُغْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ وَإِذْ جَلَالَةُ محلّه من ذلك) أي من أجل جلالة محله من العقل والعلم (وممّا تفرّع) وفي نسخة ومما يتفرع (منه متحقّق) ويروى متحققه أي ثابت مقطوع به في أمره لا ريب في علو قدره (عند من تتبّع) أي علم بالتتبع وفي نسخة بصيغة المضارع المجرد والأظهر أن يكون بالمضارع المزيد أي يطالع (مجاري أحواله) أي الجارية على سنن الحق ووفق الصدق (واطّراد سيره) جمع سيره أي ويشاهد استمرار شمائله الرضية الظاهرية وفق أحواله البهية الباطنية فإن الظاهر عنوان الباطن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 والإناء يترشح بما فيه (وطالع) أي علمها بطريق المطالعة (جوامع كلامه) اليسير المبنى والكثير المعنى (وحسن شمائله وبدائع سيره) أي وطالع ورأى في الكتب أخلاقه الحسنة وسيره البديعة وسير سلوكه المنيعة (وحكم حديثه) بكسر الحاء وفتح الكاف جمع حكمه أي أحاديثه المشتملة على الحكم الكاملة الشاملة لإتقان العلم والعمل (وعلمه) أي طالع إحاطة علمه (بما في التّوراة والإنجيل) بكسر الهمزة ويفتح. (والكتب المنزلة) إما مفصلة وإما مجملة مما يحتاج إليه أمر دينه في الجملة (وحكم الحكماء) أي علمه حكمهم ومعرفته حكمتهم (وسير الأمم الخالية) أي الماضية (وأيّامها) أي وقائعها في قصص الأنبياء السالفة (وضرب الأمثال) أي الواقعة في الأقوال والأفعال (وسياسات الأنام) أي أنواع زجر العوام كالأنعام لتحصيل تمام النظام في الليالي والأيام (وتقرير الشّرائع) أي بيان أحكامها أصولا وفروعا (وتأصيل الأداب النّفيسة) أي وتأسيس أبواب الآداب المرغوبة وفي نسخة النفسية والظاهر أنه تصحيف (والشّيم الحميدة) أي الأخلاق والعادات المطلوبة (إلى فنون العلوم) أي منضمة أو منتهية إلى غير ذلك من أنواع المعارف وأصناف العوارف (لتي اتّخذ أهلها كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم فيها قدوة) بتثليث القاف والكسر أشهر ثم الضم أي مقتدى اقتدوا به (وإشاراته حجّة) أي واتخذوا إشاراته بها وبغيرها دلالة بينة واستدلوا بها (كالعبارة) بكسر العين مصدر عبر الرؤيا يعبر بمعنى التعبير والتفسير أي ذكر عاقبتها وآخر أمرها ومثله التأويل أي ذكر مآلها ومرجعها (والطّبّ) بتثليث الطاء والكسر أصح وأفصح مصدر طب أي عالج ووصف الدواء وأزال الداء وصار سبب الشفاء (والحساب) مصدر حسب أي عد وهو علم يعرف به مقادير العدد بنوع الجمع والتفريق (والفرائض) جمع فريضة من الفرض بمعنى التقدير وهو علم يعرف به علم الميراث ومراتب الورثة من أصحاب الفرائض والعصبة وحكم سائر القرابة (والنّسب) بفتحتين من نسب الرجل عزوته إلى أبيه ورجل نسابة أي بليغ العلم بالأنساب وتاؤه للمبالغة كالعلامة (وغير ذلك) أي من علوم شتى ظهرت عليه في متفرقات حالاته (ممّا سنبيّنه في معجزاته) أي في أواخر الباب الرابع في ذكر مُعْجِزَاتِهِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى دُونَ تَعْلِيمٍ) أي من غير تعليم له من بشر ولا تعلمه من أحد (ولا مدارسة) أي بينه وبين من يدرس غيبا (ولا مطالعة كتب من تقدّم) ليتعلم منها نظرا فيما لا يعلم (ولا الجلوس إلى علمائهم) أي علماء أهل الكتاب ولا عرفاء المشركين في كل باب (بل نبيّ أمّيّ) أي منسوب إلى امه على وصف ما خلق حين تولده من غير قراءة وكتابة ومباشرة شعر وخطابه (لم يعرف) بصيغة المجهول أي لم يشتهر (بشيء من ذلك) أي مما ذكر (حتّى شرح الله صدره) أي وسعه ونوره بالإيمان والمعرفة والعلم والحكمة (وأبان أمره) أي وأظهر قدره بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة (وعلّمه) أي ما لم يكن يعلم (وأقرأه) أي ما لم يكن يقرأ ويتعلم كما قال سبحانه وتعالى في مبدأ وحيه اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ، (يعلم ذلك) بصيغة المجهول أي يعرف جميع ما ذكر (بالمطالعة) في دلائل نبوته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وشمائل سيرته (والبحث عن حاله) أي التفحص عن أفعاله (ضرورة) أي علما ضروريا قارب أن يكون بديهيا (وبالبرهان) أي يعلم ذلك بالدليل (القاطع) مما قام من الإرهاصات بعد خلقته والمعجزات (على) دعوى (نبوّته نظرا) أي علما نظريا واستدلالا فكريا. (فلا تطوّل بسرد الأقاصيص) أي بإيراد قصص الأنبياء متتابعة مما يفيده بالطريق الضروري (وآحاد القضايا) أي ولا بسردها مجتمعة مما يقتضيه على السبيل الفكري، (إذ مجموعها ما لا يأخذه حصر) يحصيه عددا (ولا يحيط به حفظ جامع) يضبطه علما أبدا، (وبحسب عقله) بفتح الحاء والسين على ما في الأصول المصححة وضبطه الأنطاكي بسكون السين وقال أي بعقله فقط والصواب ما قلنا والمعنى وبمقدار كمال عقله (كانت معارفه عليه الصلاة والسلام) في نهاية لا ترام وغاية لا تسام بل ولا تشام مرتقيا ومعتليا (إلى سائر ما علّمه الله تعالى) أي باقيه (وأطلعه عليه من علم ما يكون) في عالم الشهادة (وما كان) في عالم الغيب من السعادة والشقاوة (وعجائب قدرته وعظيم ملكوته) أي من ظهور قوته ووضوح سلطنته (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) من تفاصيل الشريعة وآداب الطريقة وأحوال الحقيقة (وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 113] ) حيث أنعم عليك إنعاما جسيما (حارت العقول) أي دهشت وترددت (في تقدير فضله عليه) أي في تقرير علمه لديه وتصوير إحسانه إليه (وخرست الألسن) بكسر الراء أي سكتت وبكمت الألسنة (دون وصف يحيط بذلك) أي عجزت عن أن تنطق بما يحصي مما منّ الله به عليه (أو ينتهي إليه) أي دون نعت ينحصر لديه لأنه مظهر الاسم الأعظم والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل [وأما الحلم] (وأمّا الحلم والاحتمال والعفو مع المقدرة) بفتح الدال وضمها وحكي كسرها بمعنى القوة وفي نسخة مع القدرة (والصّبر على ما يكره) بصيغة المجهول أي ما تكرهه النفس ويخالفه الهوى (وبين هذه الألقاب) أي الأخلاق والآداب (فرق) أي فارق دقيق به يتميز كل عن الآخر في هذا الباب (فإنّ الحلم حالة توقّر وثبات) أي صفة تورث طلب وقار وثبوت في الأمر واستقرار (عند الأسباب المحرّكات) أي للغضب الباعث على العجلة في العقوبة، (والاحتمال) بالنصب أو الرفع (حبس النّفس) أي تحملها (عند الآلام والمؤديات) أي عند ورد ما يؤلمه ويوجعه من الأمراض ويؤذيه ويتعبه من الأعراض فالآلام من المحن الإلهية والأذى من جهة الحيوانات والآدمية فليس هذا من عطف العام على الخاص كما توهمه الدلجي وفي نسخة المرديات بالراء والدال المهملة أي المهلكات (ومثلها) أي المذكورات (الصّبر) فإنه حبس النفس على ما تكره إلا انه أعم منها فهو كالجنس وكل مما ذكر كالنوع فإن الصبر يكون على العبادة وعن المعصية وفي المصيبة وهو في الله وبالله ومع الله وعن الله: والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أي عنك أو على بعدك (ومعانيها متقاربة) أي وإن كانت حقائق مبانيها متباينة، (وأمّا العفو فهو ترك المؤاخذة) وأصله المحو ثم استعمل في معنى المجاوزة عن مجازاة المعصية وهو مصدر وليس كما قال الدلجي إنه من أبنية المبالغة (وهذا) أي ما ذكر من الأخلاق الكريمة (كلّه) أي جميعه على الحالة المستقيمة (مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) كما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أدبني ربي فأحسن تأديبي (فقال) أي من جملة ما أدبه به سبحانه وتعالى (خُذِ الْعَفْوَ) أي المساهلة والمسامحة (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف: 199] ) أي بالمعروف من حسن المعاشرة (الآية) أي وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ بالمجاملة وحسن المعاملة وترك المقابلة كما قال تعالى وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أي سلام الموادعة الذي فيه السلامة من المواقعة وقد قيل ليس في القرآن آية اجمع لمكارم الأخلاق منها، (روي) أي كما في تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في مكارم الأخلاق وابن أبي الدنيا مرسلا ووصله ابن مردويه (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ) يعني خذ العفو إلى آخرها (سأل جبريل عليه السّلام) قيل جبر وميك اسمان اضيفان إلى إيل أو آل وهما اسمان لله تعالى ومعنى جبر وميك عبد بالسريانية ورده أبو علي الفارسي بأنهما لا يعرفان من أسماء الله سبحانه وتعالى وبأنه لو كان كذلك لم ينصرف آخر الاسم في وجوه العربية وكان آخره مجرورا أبدا كعبد الله قال النووي وهذا الذي قاله هو الصواب انتهى وفي جبريل اربع قراءات وتسع لغات (عن تأويلها) أي تحقيق تفسيرها (فقال له) أي جبريل (حتّى أسأل العالم) أي الحقيقي الذي هذا كلامه ولم يعرف غيره حقيقة مراده ومرامه فصاحب البيت أدرى بما فيه من بيان مبانيه وتبيان معانيه (ثمّ ذهب وأتاه) أي بعد سؤاله إياه (فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُوَ عمّن ظلمك وقال) أي الله تعالى (له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام حكاية عن وصية لقمان لابنه يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ [لقمان: 17] ) أي من أنواع المحن وأصناف الضرر خصوصا من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الآية) أي أن ذلك من عزم الأمور أي من مفروضاتها وواجباتها التي لا رخصة في إهمالها لأرباب كمالها (وقال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) أي أصحاب اثبات والحزم (مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] ) إما بيانية وإما تبعيضية وهو المشهور وعليه الجمهور وهم الخمسة المجتمعة في آية مختصة وهي قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وقدم صلى الله تعالى عليه وسلم لما أنه في الرتبة قد تقدم وقيل هم الصابرون على بلاء الله فنوح صبر على أذى قومه كانوا يضربونه حتى يغشى عليه وإبراهيم صبر على النار وذبح ولده والذبيح على ذبحه ويعقوب على فقد ولده وبصره ويوسف على الجب والسجن والرق وأيوب على الضر وموسى على محن قومه وداود على قضيته وبكائه أربعين سنة على خطيئته وعيسى على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 زهده وعدم بناء لبنة على لبنة وزكريا على قطع المنشار ويحيى على الذبح وقيل هم المأمورون بالجهاد وقيل من يصيبهم فتنة منهم وقيل هم أهل الشرائع وقيل استثنى من الرسل آدم لقوله تعالى وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ويونس لقوله سبحانه وتعالى وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (وقال) أي الله له ولأتباعه (وَلْيَعْفُوا) أي ما فرط في حقهم من بعضهم (وَلْيَصْفَحُوا [النور: 22] ) بالأغماض منهم والإعراض عنهم (الآية) أي الا تحبون أن يغفر الله لكم أي لعفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم واعتدى عليكم وفيه التفات يفيد الاهتمام بأمرهم وقد روى البخاري أنه لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته التي قطعها عنه لخوضه مع أهل الإفك وخطأه وصدر الآية وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ في سبيل الله وكان مسطح قريب أبي بكر ومسكينا ومهاجريا وفي الآية دليل على فضل الصديق وسعه علمه بالتحقيق وإذا كان هذا العفو والصفح موصوفا أكابر الأمة بهما فكيف صاحب النبوة لا يكون موصوفا بأعلى مراتبهما (وقال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ أي على الأذى (وَغَفَرَ) أي ستر ومحا وتجاوز وعفا (إِنَّ ذلِكَ) ما ذكر من الصبر والغفران (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 40] ) أي من أفضل الأمور وأما قول الدلجي أي أن ذلك الصبر والغفران منه لمن عزم الأمور فحذف منه كما حذف في نحو السمن منوان بدرهم أي منه للعلم به فليس في محله إذ هو مستغني عنه في صحة حمله وحله (ولا خفاء) أي عند أهل الصفاء (بما يؤثر) أي فيما يروى (من حلمه) أي صبره مع أحبابه (واحتماله) أي تحمله على أعدائه حتى قال أبو سفيان له ما أحلمك حين قال له يا عم أما آن لك أن تسلم بأبي أنت وأمي، (وأنّ) بفتح الهمزة وفي نسخة بكسرها (كلّ حليم) أي صاحب حلم (قد عرفت منه زلّة) بفتح الزاي أي عثرة وفي الحديث اتقوا زلة العالم وانتظروا فيئته وفي الحديث ما أعز الله بجهل قط ولا أذل الله بعلم قط وقيل ما عز ذو باطل ولو طلع القمر من جبهته (وحفظت عنه هفوة) بالفاء أي معرة بمقتضى ما قيل نعوذ بالله من غضب الحليم مع أن الكامل من عدت مساويه لكنه عصم عند باريه عصمة لا يشاركه أحد فيها ولا يساويه فالكلية عامة شاملة لأصحاب النبوة وأرباب الفتوة ولذا قيل إن الأنبياء كلهم معصومون صغرا وكبرا من الكبيرة والصغيرة فإن مراتب العصمة متفاوتة (وهو صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لثباته في محامد صفاته (لا يزيد مع كثرة الأذى) أي الواصل منهم إليه (إلّا صبرا) أي تحملا عليهم بل إحسانا إليهم (وعلى إسراف الجاهل) أي مجاوزته الحد في التقصير إليه ويروى الجاهلية أي على اسراف أهلها (إلّا حلما) أي تجاوزا وكرما. (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عليّ التّغلبيّ) بمثناة فوقية مفتوحة وسكون غين معجمة وفتح لام وتكسر نسبة إلى قبيلة وإماما وقع في بعض النسخ من الثاء المثلثة والعين المهملة فتصحيف في المبنى وتحريف في المعنى مات سنة ثمان وخمسمائة (وغيره) أي من المشايخ المشاركين له في هذه الرواية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 (قالوا حدّثنا محمد بن عتاب) بفتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية وآخره باء موحدة (أنبأنا) أي قال أخبرنا (أبو بكر بن واقد) بالفاء المكسورة أو القاف (القاضي وغيره) أي وغير أبي بكر (حدّثنا) أي قال حدثنا (أبو عيسى) أي الليثي واسمه يحيى بن عبيد الله بن أبي عيسى (حدّثنا) أي قالوا حدثنا (عبيد الله) يعني أباه (أنبأنا) أي قال أخبرنا (يحيى بن يحيى) لم يخرج له في الكتب الستة شيء والموطأ مشهور به وموطوؤه أصح الموطآت (أنبأنا) أي قال أخبرنا (مالك) أي ابن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي إمام المذهب قيل تابعي ولم يصح (عن ابن شهاب) أي الزهري (عن عروة) أي ابن الزبير بن العوام من الفقهاء السبعة بالمدينة كان يصوم الدهر ومات وهو صائم (عن عائشة رضي الله تعالى عنها) كما رواه الشيخان وأبو داود أيضا عَنْهَا (قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي ما خيره الناس (في أمرين) أي في اختيار أحدهما (قطّ) أي أبدا (إلّا اختار أيسرهما) أي أهونهما على المخير أو أسهلهما عنده لأنه ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم يسروا ولا تعسروا وأن هذا الدين يسر وقال الله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (ما لم يكن) أي الأيسر (إثما) أي ذا إثم (فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ) أي تنزها واجتنابا فبالأولى أن لا يختاره ولو كان سهلا ففيه تلويح باستحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حراما أو مكروها فإن الله تعالى يحب أن يؤتى رخصه كما يجب أن يؤتى عزائمه وأما قول الدلجي بني خير لمفعوله وحذف فاعله تعويلا على ظاهر القرينة وإيذانا بعمومه إذ كان هو الله أو غيره فالله ما جعل له الخيرة في أمرين جائزين إلا اختار أيسرهما كاختياره حين قال له جبريل إن شئت جعلت عليهم أي على قريش الأخشبين بقاءهم بقوله دعني أنذر قومي رجاء أن يوحدوه أو يخرج من أصلابهم من يوحده فلا يخفى أنه غفلة منه عما في نفس الحديث ما لم يكن إثما إذ من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى أو جبريل عليه الصلاة والسلام لا يخيره بين أمرين يحتمل أن يكون أحدهما إثما ثم رأيت النووي ذكر عن القاضي أنه يحتمل أن يكون تخيره من الله فيخيره فيما فيه عقوبتان أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة والاقتصاد فكان يختار الأيسر في هذا كله قال وأما قوله ما لم يكن إثما فيتصور إذا خيره الكفار أو المنافقون فأما إذا كان التخيير من الله أو من المسلمين فيكون الاستثناء منقطعا انتهى ولا يخفى أن التخيير من المسلمين أيضا يتصور فيما لم يصل إلى بعضهم كونه إثما في الدين، (وما انتقم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لنفسه) أي ما انتصر ولم يعاقب أحدا لأجل خاصة نفسه ما بلغت به الكراهة حدا يورثه انتقاما من أحد على مكروه أتاه من قبله (إلّا أن تنتهك حرمة الله تعالى) بصيغة المجهول أي إلا أن يبالغ احد في خرق حرمة الله التي تتعلق بحقه سبحانه وتعالى أو بحق أحق من خلقه ومن جملته خرق حرمته صلى الله تعالى عليه وسلم على وجه يجب الانتقام من هاتكها والاستثناء منقطع أي لكن إذا انتهكت حرمة الله انتصر لله وانتقم له تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بسببها (فينتقم لله) أي لا لحظ نفسه (بها) بسبب حرمة الله ممن ارتكبها والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود كما أخرجه المصنف عن مالك في موطئه وفي رواية مسلم ما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله أي ما أصيب بأذى من أحد وعاقبه به انتصارا لنفسه لكن إذا بالغ في خرق شيء من محارم الله التي من جملتها حرمته انتصر لله وعاقبه له لا لنفسه فلم يكن انتقامه إلا لله لا لغرض سواه وإن كان فيه موافقة هواه لكن المدار على متابعة هذاه والحاصل أن في الحديث دلالة على كمال حلمه وعفوه وتحمل الأذى وترك الانتقام لنفسه مع مراعاة الله في حقه فهو الجامع بين فضله وعدله تخلقا بأخلاق ربه (وروي أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لمّا كسرت) بصيغة المجهول أي انكسرت (رباعيته) على وزن الثمانية بفتح راء وكسر عين وتخفيف ياء تحتية وهي التي بين الثنية والناب وللإنسان ثنايا أربع ورباعيات أربع وأنياب أربعة وأضراس عشرون وقد كسرها عتبة بن أبي وقاص وهو أخو سعد بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكسرت رباعيته يعني شطبت وذهبت منها فلقة (وشجّ وجهه) بصيغة المفعول شجه عبد الله بن شهاب الزهري كلاهما (يوم أحد شقّ ذلك) أي ما ذكر أو كل واحد منهما (على أصحابه شديدا) وفي نسخة شقا شديدا (وقالوا لو دعوت) أي الله (عليهم) أي بإنزال العقوبة إليهم (فقال إنّي لم أبعث لعّانا) أي صاحب لعن وطرد عن رحمة الله تعالى (ولكنّي بعثت داعيا) أي هاديا إلى الحق (ورحمة) للخلق كما قال تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون) أي ولا تؤاخذهم بما يجهلون والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلا وآخره موصولا وهو في الصحيح حكاية عن نبي ضربه قومه زاد ابن هشام في سيرته أنها ثنيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى وأن ابن قميئة جرحه في وجنته فدخلت حلقتان من المغفر في وجنته فنزعهما أبو عبيدة ابن الجراح حتى سقت ثنيته قال يعقوب بن عاصم فكان ابن قميئة هلك حتف أنفه أن سلط الله عليه كبشا فنطحه فقتله أو فألقاه من شاهق فمات وأما ابن شهاب فأسلم وأما عتبة ففي تهذيب النووي أن ابن منده عده من الصحابة وأنكره أبو نعيم إذ لم يذكره فيهم أحد قبله فالصحيح أنه لم يسلم قال السهيلي ولم يولد من نسله ولد فبلغ الحلم إلا وهو ابخر أو اهتم فعرف ذلك في عقبه وفي مستدرك الحاكم أنه لما فعل عتبة ما فعل جاء حاطب بن أبي بلتعة فقال يا رسول الله من فعل هذا بك فأشار إلى عتبة فتبعه حاطب حتى قتله فجاء بفرسه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي تفسير عبد الرزاق بسنده إلى مقسم قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص حين كسر رباعيته ودمى وجهه انتهى فإن قلت حديث عبد الرزاق في تفسيره يدل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا على عتبة حين كسرها وهذا الحديث بظاهره يدل على ضده قلنا لا يلزم من دعائه عليه عدم دعائه على الجميع مع أن النفي قد يوجه لكثرة اللعن لا لأصله فكأنه قال لم أبعث كثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 اللعن عليهم إذ قد روى البخاري وغيره اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد والتحقيق أنه عليه الصلاة والسلام ما دعا عليهم جملة بل دعا على من علم منهم أنهم لا يؤمنون فقوله عليك بقريش عام أريد به المخصوصون بقرينة المقام والله أعلم بالمرام. (وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه) قال الدلجي لم يعرف (أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ بِأَبِي أَنْتَ وأمّي) أي فديتك بهما وأنت مفدى بهما (يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ [نوح: 26] الآية) أي من الكافرين ديارا كما في نسخة أي أحدا يدور في الأرض فيقال إنه من الدور (ولو دعوت علينا مثلها) أي مثل دعوة نوح (لهلكنا من عند آخرنا) أي إلى عند أولنا فهو كناية عن الاستئصال (فلقد وطىء ظهرك) بصيغة المجهول وهمز في آخره وكذا قوله (وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُكَ فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إلّا خيرا) وهو الدعاء بالهداية والاعتذار عنهم بالجهالة والغواية (فَقُلْتَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) أي المصنف (انظر) أي تأمل ايها المعتبر بنظر الفكر والعقل (مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِمَاعِ الْفَضْلِ) بكسر الجيم أي ما يجمعه (ودرجات الإحسان) أي بالعقل (وحسن الخلق) أي مع شرار الخلق (وكرم النّفس) أي على عموم الأنام (وغاية الصّبر) أي عن العدو (والحلم) أي التحمل وعدم الجزع المؤدي إلى الدعاء غالبا، (إذ لم يقتصر صلى الله تعالى عليه وسلم على السّكوت عنهم) أي في التحمل منهم (حتّى عفا عنهم) وصفا لهم (ثمّ أشفق) أي خاف (عليهم ورحمهم) أي من غاية الشفقة ونهاية الرحمة (ودعا) أي لهم و (شفع) أي عند ربه (لهم) وهو بفتح الفاء على ما في القاموس شفعه كمنعه فقول المنجاني بكسر الفاء سهو من الكتاب (فقال اغفر) أي استر قومي ووفقهم لما يستحقون المغفرة لأجله (أو اهد) أي اهدهم بالإيمان وأو للشك أو للتنويع، (ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الشَّفَقَةِ، وَالرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ لِقَوْمِي) بإضافتهم إليه، (ثمّ اعتذر عنهم بجهلهم) أي بسبب جهلهم بحاله ومقام كماله (فقال فإنّهم لا يعلمون) وليس المراد بقومه قريش وحدهم كما توهمه الدلجي وقال كل ذلك لكونهم رحمة إذ ما من بيت إلا وله فيه قرابة بل لكونه رحمه للعالمين فالمراد بقومه جميع أمته بدليل حديث الشيخين إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ إنما وليي الله وصالح المؤمنين لكن لهم رحم أبلهم ببلالها أي أصلهم بما يظهر أثرها وقد ورد بلوا ارحامكم أي صلوها وكأنه اراد بالبل حفظ أصلها وطراوة فرعها، (ولمّا قال له الرّجل) أي وحين قال له الرجل المنافق وهو ذو الخويصرة حرقوص ابن زهير التميمي قتل في الخوارج يوم النهروان على يد علي كرم الله تعالى وجهه (اعدل فإنّ هذه قسمة) أي قسمة غنائم بدر وقيل كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسم ذهيبة في ترتبها بعث بها علي رضي الله تعالى عنه من اليمن (ما أريد بها وجه الله لم يرده) بالزاي أي ما زاده (في جوابه أن بيّن له ما جهله ووعظ) عطف علي بين أي ونصح صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 تعالى عليه وسلم (نفسه) أي نفس الرجل (وذكّرها) بالتشديد أي وعرفها وأعلمها (بما قال له فقال: ويحك) قيل هو بمعنى ويلك وقيل هو كلمة ترحم يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها فلجهله رحمه مبينا له ما جهله من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحرى الخلق بالعدل بقوله (فمن يعدل) بالرفع فإن من استفهامية (إن لم أعدل) شرط حذف جزاؤه لدلالة ما قبله عليه والمعنى أيعدل غيري وأنا أجور كلا (خبت) بكسر الخاء (وخسرت) بكسر السين وضم تاءيهما (إن لم أعدل) أي فرضا وتقديرا إرشادا إلى أن من لم يعدل فقد باء بالخيبة والخسران واشعارا بكمال اتصافه بالعدل بل بزيادة الحلم والعفو والفضل وروي بفتح تاءيهما فالمعنى حرمت كل خير وخسرته في متابعتي إن لم أعدل في قسمتي على فرض قضيتي فكأنه قال خبت أيها التابع إذا كنت لا أعدل لكونك تابعا ومقتديا لمن لا يعدل أو خبت وخسرت إذ لا تستقر في الإسلام بما تقول إن نبيك ممن لا يعدل ومعنى الخيبة الحرمان والخسران الضياع والنقصان وحاصله أنك خبت في الدنيا وخسرت في العقبى إذا اعتقدت أني لم أعدل قال الحافظ المزي والضم أولى لأنه تعليق بعدم العدل الذي هو معصوم منه صلى الله تعالى عليه وسلم وقال النووي الفتح أشهر ولعله أسقط ما وجب له عليه من قتله رعاية لإيمانه الظاهر والله أعلم بالسرائر ولما ورد في بعض طرق هذا الحديث من زيادة قوله عليه الصلاة والسلام ويخرج من ضئضيء هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (ونهى من أراد من أصحابه) وهو خالد بن الوليد أو عمر وهو عند الأكثر أو كلاهما فتدبر (قتله) بناء على ظهور ارتداره بسبب طعنه في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنفي عدله والحديث رواه الشيخان، (ولمّا تصدّى له) أي وحين تعرض له صلى الله تعالى عليه وسلم (غورث بن الحارث) على ما رواه البيهقي وهو بفتح الغين المعجمة ويضم وقيل بالمعجمة والمهملة وقيل مصغر (ليفتك به) بكسر التاء وضمها فتكا بالتثليث أي ليقتله غفلة (ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي والحال أنه (منتبذ) بكسر الموحدة وبالذال المعجمة أي منفرد عن أصحابه (تحت شجرة) أي في ظلها (وحده) حال مؤكدة أي ليس عنده أحد من احبابه (قائلا) اسم فاعل من القيلولة وقت الظهيرة أي مستريحا أو نائما (والنّاس قائلون) أي نازلون للقيلولة (في غزاة) وهي ذات الرقاع في رابع سنة من الهجرة (فلم ينتبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لم يستيقظ من نومه أو لم يتنبه من غفلته عن عدوه (إلّا وهو) أي غورث (قائم) أي عند رأسه (والسّيف صلتا) بفتح الصاد ويضم أي حال كونه مسلولا أو التقدير صلته صَلْتًا (فِي يَدِهِ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (الله) أي مانعي أو يمنعني؛ (فسقط) أي السيف كما في أصل صحيح (من يده: فأخذه النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وقال) أي لغورث (مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ كُنْ خَيْرَ آخِذٍ) بالمد أي متصفا بالحلم والعفو والكرم؛ (فتركه وعفا عنه) وكان ذلك سببا لإسلامه؛ (فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خير النّاس) ورواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الشيخان بدون سقوط السيف وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من يمنعك مني وجواب غورث وروي أنه كان أشجع قومه فقالوا له قد أمكنك محمد فاختار سيفا من سيوفه واشتمل عليه وأقبل حتى قام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالسيف مشهورا فقال يا محمد من يمنعك مني قال الله فدفع جبريل في صدره ووقع السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وقام به على رأسه وقال من يمنعك مني اليوم فقال لا أحد ثم قال أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ محمدا رسول الله ثم أقبل فقال والله لأنت خير مني فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنا أحق بذلك منك. (ومن عظيم خبره) أي حديثه صلى الله تعالى عليه وسلم (في العفو) أي في جنس عفوه (عفوه عن اليهوديّة التي سمّته) أي جعلت له السم (في الشّاة بعد اعترافها على الصّحيح) متعلق بعفوه (من الرّواية) أي بعد اعترافها على ما رواه الشيخان وكان ينبغي للمؤلف أن يقدم قوله على الصحيح من الرواية على قوله بعد اعترافها وهي زينب بنت الحارث بن سلام بتشديد اللام كما ذكره البيهقي في الدلائل وموسى بن عتبة في المغازي وقال ابن قيم الجوزية هي امرأة سلام بن مشكم وقال ابو داود هي اخت مرحب وفي رواية أبي داود أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قتلها وفي شرف المصطفى قتلها وصلبها وروى ابن إسحاق أنه صفح عنها وجمع بأنه عفا عنها لحق نفسه إذ كان لا ينتصر لها ثم قتلها قصاصا بمن مات من أصحابه بأكله منها كبشر بن البراء إذ لم يزل معللا به حتى مات بعد سنة ويقال إنه مات في الحال لكن فيه اشكال لما جاء في رواية أنها أسلمت ففي جامع معمر عن الزهري أنه قال أسلمت فتركها قال معمر والناس يقولون قتلها وأنها لم تسلم والله أعلم بالأحوال وبالصحيح من الأقوال؛ (وإنّه) بالكسر والأظهر أنه بالفتح والتقدير ومن عظيم خبره في العفو أنه (لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم) وقد هلك على التهود وقد حكى القاضي خلافا في مؤاخذته عليه الصلاة والسلام لبيدا وسيجيء في إحياء الموتى ولعله أشار إلى صحة عدم المؤاخذة (إذ سحره) أي حين سحره (وقد أعلم به) بصيغة المجهول أي أوحى الله إليه أو جاءه جبريل وأخبره بأنه سحره (وأوحي إليه بشرح أمره) أي ببيان حاله كما رواه أحمد والنسائي والبيهقي في دلائله سحر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك فجاء جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك عقد لك عقدا في بئر كذا فبعث عليا فجاء بها فحلها فكأنما نشط من عقال فما ذكر ذلك لليهودي ولا أظهره في وجهه حتى مات، (ولا عتب عليه) أي أعرض عن معاتبته (فضلا عن معاقبته) وكان السحر أخذه عن النساء وهي امرأته زينب اليهودية وبناته منها قيل قال تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ ولم يقل النفاثين تغليبا لفعل النساء أو المراد النفوس النفاثات قال الدلجي والسحر مزاولة نفوس خبيثة أقوالا وأفعالا يترتب عليها أمور خارقة للعادة وتعلمه للعمل به حرام وفعله كبيرة واعتقاد حله كفر ولتأثيره زيادة بيان تأتي في محل تقريره ومكان تحريره وقال الإمام الرازي استحداث الخوارق إن كان لمجرد النفس فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 السحر وإن كان على سبيل الاستعانة بالخواص السفلية فهو علم الخواص وإن كان على سبيل الاستعانة بالفلكيات فذلك دعوة الكواكب وأن كان على سبيل تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية فذلك الطلسمات وإن كان على سبيل النسب الرياضية فذلك الحيل الهندسية وإن كان على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة فذلك العزيمة انتهى وقال غيره السحر اسم يقع على أنواع مختلفة وهي السيميا والهيميا وخواص الحقائق من الحيوان وغيرها والطلسمات والأوفاق والرقى والاستخدامات والعزائم (وكذلك لم يؤاخذ) على ما رآه الشيخان (عبد الله بن أبيّ) أي ابن سلول بفتح السين المهملة وهي أمه فلا بد من تنوين أبي وكتابة ألف بعدها ورفع ابن لأن سلول أم عبد الله وزوجة أبي فلو لم يفعل ذلك لتوهم أن سلول أم أبي وليس كذلك وسلول غير مصروف للعلمية والتأنيث وقيل منصرف وقيل الصواب أن يكتب ابن بالألف لأن علة الحذف وقوعه بين علمين مذكرين أو مؤنثين فلو اختلفا لم يحذف وهو رئيس أهل النفاق وهو القائل: متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل ... تذل ويصرعك الذين تصارع وهل ينهض البازي بغير جناحه ... وإن جذ يوما ريشه فهو واقع وابنه عبد الله بن عبد الله من فضلاء الصحابة (وأشباهه) أي وكذا لم يؤاخذ أمثاله (من المنافقين) قال ابن عباس كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة ومن النساء مائة وسبعين (بعظيم ما نقل عنهم) وفي نسخة منهم (في جهته) أي من الجرائم (قولا وفعلا) كقوله تعالى حكاية عن ابن أبي يقولون لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل أراد بالأعز نفسه وبالأذل أعز خلق الله سبحانه وتعالى (بل قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على المريسيع ماء لبني المصطلق (لمن أشار) أي من أصحابه (بقتل بعضهم) أي بعض المنافقين بعد أن بلغه وقد هزم بني المصطلق قول ابن أبي وقد لطم حليفا له جعال رجل من فقراء المهاجرين مساعدة لأجير لعمر ما صحبنا محمدا إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك أما والله إن رجعنا الآية ثم قال لقومه والله إن أمسكتم عن جعال وذويه فضل طعامكم لم يركبوا رقابكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن وقوة من المسلمين ثم أخبره به الله فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنقه فقال إذن ترغاد له أنوف كثيرة فقال عمر إن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن عبادة أو محمد بن مسلمة أو عبادة بن الصامت فليقتلوه فقال (لا، لئلا يتحدّث) بصيغة المجهول ويروى لا يتحدث الناس وهو نفي معناه نهي وقال الدلجي لا آذن لك يتحدث وفي رواية فكيف إذا تحدث الناس (أنّ محمّدا يقتل أصحابه) قيل هذا في حكم العلة لترك قتله مع رعاية إسلامه الظاهري وإنكاره هذا القول في أخباره ولعل حكمة العلة أنه يكون تنفيرا عن دخول الأنام في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الإسلام ولذا ورد يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ولذا كان يتألف الكفار المصرحين لكونه رحمة للعالمين وفي هذا دليل على ترك بعض الأمور التي يجب تغييرها مخافة أن يترتب عليها مفسدة أكبر منها (وعن أنس رضي الله عنه) كما رواه الشيخان (كنت مع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه برد) أي شملة مخططة أو كساء أسود مربع (غليظ الحاشية فجبذه) أي فجذبه كما في نسخة والأول لغة في معنى الثاني أو مقلوبة في حروف المباني والمعنى فجره (أعرابيّ) مجهول لم يعرف اسمه (بردائه جبذة شديدة) أي دفعه عنيفة (حَتَّى أَثَّرَتْ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ فِي صَفْحَةِ عَاتِقِهِ) أي جانب ما بين كتفه ومنكبه ولم يتأثر هو صلى الله تعالى عليه وسلم من سوء أدبه، (ثمّ قال) أي الأعرابي على عادة أجلاف العرب (يا محمّد أحمل لي) بفتح الهمزة أي أعطني ما احمل لي وأغرب التلمساني حيث قال المعنى أعني على الحمل وفي نسخة أحملني والظاهر أنه تصحيف في المبنى لأنه تحريف في المعنى (عَلَى بَعِيرِيَّ هَذَيْنِ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عندك) زاد البيهقي (فإنّك لا تحمل لي) وفي نسخة لا تحملني وفيه ما سبق إلا أن يقال معناه أعطني على التجريد وفي أصل التلمساني لا تحمله (من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حلما وكرما (ثُمَّ قَالَ الْمَالُ مَالُ اللَّهِ وَأَنَا عَبْدُهُ، ثمّ قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ويقاد منك) فعل مجهول من القود أي يقتص منك ويفعل بك (يا أعرابيّ ما فعلت بي) أي مثل فعلك معي من جذب ثوبي (قال لا) أي لا يقاد مني (قال لم) أي لأي شيء (قال لأنّك لا تكافىء) بالهمز أي لا تجازي (بالسّيئة السّيّئة) بل تجازي بالسيئة الحسنة (فضحك النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تعجبا (ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر) ويروى على بعير تمر وقيل إذا أحب الله عبدا سلط عليه من يؤذيه، (وعن) وفي أكثر النسخ قالت (عائشة رضي الله تعالى عنها) ، كما في الصحيحين (ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منتصرا من مظلمة) بكسر اللام وتفتح أي ما يطلب عند الظلم وأما قول المنجاني وبفتح الميم الثانية وكسرها فلا وجه له (ظلمها) بصيغة المجهول (قطّ) أي أبدا (ما لم تكن) أي المظلمة (حرمة من محارم الله) أي متعلقة بحقوق الخلق أو الحق خارجة عن خاصة نفسه وحرماته فرائضه أو ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه (وما ضرب بيده شيئا قطّ) واحترزت بقولها بيده عن ضرب غيره بأمره تأديبا أو تعزيرا أو حدا وهذا كله من باب الكرم والرحم على العامة والخاصة (إلّا أن يجاهد في سبيل الله) أي فإنه كان يضرب بيده مبالغة في مقام جده واجتهاده في جهاده ثم ما ضرب أحدا من أعدائه إلا كان حتف أنفه وعذابا له في آخر أمره بدليل قول أبي بن خلف وقد خدشه يوم أحد في عنقه فجزع جزعا شديدا بألم شديد فقيل له ما هذا الجزع فقال والله لو بصق محمد علي لقتلني (وما ضرب خادما ولا امرأة،) تخصيص بعد تعميم ودفع لتوهم أن النفي الأول متعلق بمن كان خارجا عن أهله وإشعارا بأن التحمل منهما أشد ثم فيه جواز ضرب المرأة والخادم للأدب إذ لو لم يكن مباحا لم يتمدح بالتنزه عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 (وجيء إليه برجل) على ما روى أحمد والطبراني بسند صحيح (فقيل هذا أراد أن يقتلك) أي فحصل للرجل روع في روعه وفزع في روحه (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لن تراع) بضم أي لن تفزع بمكروه (لن تراع) كرره تأكيدا والمعنى لا تخف لا تخف قال التلمساني وتضع العرب لن بمعنى لا كما ههنا (ولو أردت ذلك) أي قتلي (لم تسلّط عليّ) بصيغة المجهول إعلاما منه بأن قتله محال لقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (وجاءه زيد بن سعنة) بفتح سين فسكون عين مهملتين فنون وهو الأصح على ما ذكره الذهبي في تجريده والنووي في تهذيبه وفي رواية بتحتية بدل النون (قبل إسلامه) وهو يهودي (يتقاضاه) أي حال كونه طالبا (دينا) أي قضاء دين له (عليه) صلى الله تعالى عليه وسلم (فجبذ ثوبه) أي جذب رداءه وأزاله وأبعده (عن منكبه) بكسر الكاف (وأخذ بمجامع ثيابه) جمع مجمع وهي أطرافه وحواشيه أو إزاره كله ويقال له التلبب (وأغلظ له) أي في القول بخصوصه (ثمّ قال) قصدا لعموم قومه (إنّكم يا بني عبد المطّلب مطل) بضمتين ويسكن الثاني جمع مطول كفعول بمعنى فاعل أي مدافعون في وعدكم (فانتهره عمر) أي زجره (وَشَدَّدَ لَهُ فِي الْقَوْلِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يتبسّم) حال مبينة لكمال حلمه وحسن خلقه وجميل عفوه (فقال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَهُوَ كُنَّا إِلَى غَيْرِ هذا) أي الذي صدر (منك) أي من الزجر الأكيد والقول الشديد (أحوج) أي أكثر احتياجا (يا عمر) فكان الأولى بك أنك (تأمرني بحسن القضاء) أي الأداء لدينه (وتأمره بحسن التّقاضي) أي المطالبة لحقه، (ثمّ قال لقد بقي من أجله) أي من أجل دينه لا عمره (ثلاث) أي ثلاثة أيام وحذف تاؤه لحذف مميزه الذي هو أيام كما في حديث من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنه صام الدهر كله، (وأمر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (عمر يقضيه ماله) أي ماله من الحق (ويزيده عشرين صاعا لما روّعه) بتشديد الواو أي لأجل ما خوفه عمر زجرا فيجازيه برا (فكان) أي فصار ذلك (سبب إسلامه) والحديث رواه البيهقي مفصلا ووصله ابن حبان والطبراني وأبو نعيم بسند صحيح، (وذلك) أي كونه سبب إسلامه (أنّه كان يقول) كما روى عنه عبد الله بن سلام (مَا بَقِيَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وقد عرفتها في محمّد) وفي رواية في وجه محمد (إلّا اثنتين لم أخبرهما) بفتح الهمزة وضم الموحدة أي لم أخبر بهما فلم أعرفهما ويروى لم أجدها أي لم أتحققهما (يسبق حلمه جهله) أي جهل الذي يفعل به، (ولا تزيده شدّة الجهل) أي عليه (من أحد إلا حلما) بل لطفا وكرما، (فاختبره) أي امتحنه (هو بهذا) أي الذي صدر منه في حقه قولا وفعلا (فوجده) ويروى فاختبرته بهذا فوجدته (كما وصف) بصيغة المجهول أي نعت في كتب الأولين في صفة المرسلين وكان أعلم من أسلم من أحبار اليهود وأجلهم وأكثرهم ما لا شهد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مشاهد كثيرة وتوفي راجعا من غزوة تبوك إلى المدينة، (والحديث) الأحاديث الواردة المخبرة (عن حلمه صلى الله تعالى عليه وسلم وصبره وعفوه عند المقدرة) بفتح الدال وضمها وحكي كسرها بمعنى القدرة وهو احتراز عن توهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 كون عفوه عن معجزة (أكثر من أن تأتي عليه صلى الله تعالى عليه) أن نذكر كله أو معظمه، (وحسبك) أي كافيك ومغنيك (ما ذكرناه ممّا في الصّحيح) أي في الكتب الصحيحة (والمصنّفات الثّابتة) أي ولو لم تكن من الصحاح الستة أو ولو لم تكن صحيحة بل ثابتة حسنة فإنها حجة بينة (إلى ما بلغ) أي منضمة إلى ما وصل مجموعه (متواترا) أي في المعنى (مبلغ اليقين) أي مبلغا يحصل به اليقين للمؤمنين في أمر الدين (من صبره) بيان لما أي من تحمله (على مقاساة قريش) أي مكايدتهم ومعارضتهم ومخالفتهم (وأذى الجاهليّة) أي وتأذيه من أهل جاهليتهم وسفلتهم (ومصابرة الشّدائد) أي مبالغة المحن وفي نسخة ومصابرة الشدائد (الصّعبة) أي الشاقة (معهم) أي مع أعدائه (إلى أن أظفره الله عليهم) بنصره وأظهره كما في نسخة (وحكّمه فيهم) بتشديد الكاف أي جعله حاكما عليهم متصرفا في أمرهم (وهم لا يشكّون) أي لا يترددون بناء على زعمهم وقياسه على أنفسهم (في استئصال شأفتهم) بفتح شين معجمة فسكون همزة ففاء فتاء أي جمعهم وقطع أثرهم وهي في الأصل قرحة تخرج للإنسان في أسفل القدم فتكوى فتذهب فهم يقولون في المثل استأصل الله شأفته أي أذهبه كما أذهبها وروي في استئصاله بالإضافة ونصب شأفتهم التي في استهلاكه دابرهم من أصلهم وفصلهم (وإبادة خضرائهم) بفتح خاء وسكون ضاد معجمتين بعدهما راء فألف ممدودة أي إهلاك جماعتهم وتفريق جمعهم فالإبادة بكسر الهمزة مصدر أباده الله أي أهلكه وخضراؤهم سوادهم ومعظمهم والمعنى لا يشكون في هلاكهم وذهابهم وفنائهم (فما زاد على أن عفا) أي تجاوز عن أفعالهم (وصفح) أي وأعرض عن أقوالهم، (وقال) أي لهم تلويحا بلطفه إليهم وشفقته عليهم واستخراجا لما في ضمائرهم واستظهارا لما في سرائرهم (ما تقولون) أي فيما بينكم أو ما تظنون بي (إنّي فاعل بكم) أي بعد ما ظفرت عليكم (قالوا خيرا) أي نقول قولا خيرا أو نظن ظنا خيرا أو نفعل خيرا، (أخ كريم) أي هو أو أنت وهو في معنى العلة أي لأنك أخ كريم (وابن أخ كريم) أي فلا يجيء من مثلك إلا ما يوجب الكرم والعفو عمن ظلم، (فقال أقول) أي في جواب قولكم (كما قال أخي يوسف) أي لإخوته فأنا مقتد بالأنبياء العقلاء لا بالأغبياء الجهلاء (لا تَثْرِيبَ) لا تعيير ولا توبيخ ولا تعييب (عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: 92] ) أي هذا الوقت الذي ظهر فضلي لديكم أولا أذكر لكم الذنب في هذا اليوم الذي محله التثريب فما ظنكم بغيره من الزمان البعيد أو الغريب وأما ما جوزه التلمساني من الوقف على عليكم وجعل اليوم ظرفا لما بعده ففي غاية من البعد مبنى ومعنى (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) أي ما فرط منكم وظهر عنكم (الآية) أي وهو أرحم الراحمين وإنما رحمتي أثر من آثار رحمته كما قال تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكما في الحديث الشريف أنا رحمة مهداة أي رحمة لكم ومهداة إليكم. (اذهبوا فأنتم الطّلقاء) بضم ففتح ممدودا جمع طليق بمعنى مطلوق وهو الأسير يخلى عن سبيله أي الخلصاء من قيد الأسر فإنهم كانوا حينئذ اسراء وقد قال ذلك يوم فتح مكة آخذا بعضادتي باب الكعبة على ما رواه ابن سعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 والنسائي وابن زنجويه وجاء نوفل بن معاوية إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو ومن منا من لم يعادك ويؤذك ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ ولا ما ندع حتى هدانا الله بك وأنقذنا بوجودك من الهلكة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد عفوت عنك فقال فداؤك أبي وأمي وقد روى سفيان عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم أنه قال الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف أي أهل الطائف كما رواه ابن سيرين قال التلمساني وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما فتح مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين ثم أتى الكعبة وفيها رؤساء قريش فأخذ بعضادتي الباب وقال ماذا ترون أني صانع بكم فقالوا أخ كريم وابن أخ كريم ملكت فاسمح فقال أني أقول لكم كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ الآية وقال أنتم الطلقاء ولكم أموالكم قال فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام (وقال أنس) كما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (هبط ثمانون رجلا من التّنعيم) وهو أقرب أطراف مكة إليها وهو على ثلاثة أميال منها وقيل أربعة وهو من جهة المدينة والشام سمي بذلك لأنه عن يمينه جبل يقال له نعيم وعن شماله جبل يقال له ناعم والوادي نعمان بفتح النون (صلاة الصّبح) أي نزلوا وقت صلاة الفجر (ليقتلوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بغتة وغفلة (فأخذوا) بصيغة المجهول (فأعتقهم رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ [الفتح: 24] ) أي كفار مكة (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ الآية) وهي ببطن مكة أي داخلها أو قريبا منها من بعد أن أظفركم عليهم أي أظفركم وغلبكم فهزمهم وأدخلهم بطنها وقد ذكر المفسرون أن سبب نزولها عام الحديبية أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خالد بن الوليد في جماعة فهزمهم حتى أدخلهم بطن مكة أو كان يوم فتح مكة وبه أخذ أبو حنيفة أن مكة فتحت عنوة ولا ينافيه ما ذكر من أن السورة نزلت قبله إذ هي من جملة المعجزات والأخبار عن المغيبات قبل وقوعها (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لأبي سفيان) أي ابن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف شهد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حنينا وأعطاه من غنائمها مائة وأربعين أوقية وزنها له بلال كان شيخ مكة ورئيس قريش بعد أبي جهل أسلم يوم الفتح ونزل المدينة سنة إحدى وثلاثين ودفن في البقيع (وقد سيق إليه) أي جيء به إليه والجملة معترضة بين القول ومقوله مبينة لحال صاحبها والمعنى به العباس ليلا مردفا له على بغلته إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو متوجه لفتح مكة (بعد أن جلب) أي ساق (إليه الأحزاب) وهي جموع مجتمعة للحرب من قبائل متفرقة والمعنى بعد كثرة قبائحه وجملة فضائحه منها أنه جمع أحزاب كفار مكة وغيرهم وأتى أهل المدينة على عزم قتلهم ونهبهم وهم أهل الخندق وكانوا ثلاثة عساكر وعدتهم عشرة آلاف قال ابن إسحاق وكانت في شوال سنة خمس وكان الحصار أربعين يوما (وقتل عمّه) أي وتسبب بقتل عمه حمزة إذ قتله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وحشي وهو من جملة عسكره ثم أسلم (وأصحابه) أي وقتل سائر أصحابه مجازا قيل هم سبعون وقيل سبعون من الأنصار خاصة وقيل مجموع القتلى سبعون أربعة من المهاجرين حمزة ومصعب بن عمير وشماس بن عثمان المخزومي وعبد الله بن جحش الأسدي وباقيهم من الأنصار (ومثّل بهم) بتشديد المثلثة أي أمر أن يفعل بهم المثلثة أو تسبب بها على وجه المبالغة من قطع أنف وأذن ومذاكير وسائر أطرافهم والممثلة بحمزة زوجته هند بنت عتبة لقتل حمزة أباها في بدر وفي صحيح البخاري عن أبي سفيان وستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسوؤني قيل والذي فعل المثلة هند ومن معها من النسوة وقال البغوي في تفسيره لم يبق أحد من قتلى أحد إلا مثل به غير حنظلة بن راهب فإن ابا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك (فعفا عنه) أي مع هذا كله وجميع ما صدر عنه من الفعل (ولاطفه في القول) أي بالغ في اللطف والرفق معه حيث قال له (ويحك يا أبا سفيان) أي ترحما له وتوجعا عليه إذ لم يؤمن به بعد ولم يسلم على يديه قيل ويح كلمة ترحم لمن وقع في هلكة لا يستحقها وقيل ويح باب رحمة وويل باب هلكة وويس استصغار (ألم يأن) من أنى يأنى أي جاء أناه أي ألم يقرب الوقت (لك أن تعلم) أي علما يقينا (وتشهد أن لا إله إلّا الله) أي توحده حق توحيده الموجب للعلم بحقية رسوله (فقال) أي أبو سفيان متعجبا من سعة حلمه وكثرة صلته وقوة كرمه (بأبي أنت وأمّي) أي افديك بهما (ما أحلمك) صيغة تعجب من الحلم وفي بعض النسخ ما أجملك من الجمال فيكون بمعنى التجمل كما أن الأول بمعنى التحمل (وأوصلك) أي ما أكثر رحمك على رحمك وما أكثر عطاءك لأعدائك (وأكرمك) أي ما أكثر كرمك على من اساء إليك وخالف عليك وأبعد الدلجي في قوله وأكرمك عند ربك حيث لا يلائم المقام كما لا يخفى على ذوي المرام (وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبعد النّاس غضبا) أي عليهم (وأسرعهم رضى) أي لطفا إليهم (صلى الله تعالى عليه وسلّم) قال التلمساني وفي الحديث جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم وهذا آخره والله أعلم ومما يناسب الباب ما ذكر التلمساني في شرح الكتاب أنه قيل لا يكمل الإنسان حتى يقبل الاعتذار ويعفو عند الاقتدار ويكون الاظهار منه مثل الإضمار وسأل معاوية صعصعة ابن صوحان فقال صف لي الناس فقال خلق الله الناس أصنافا فطائفة للعبادة وطائفة للتجارة وطائفة للخطابة وطائفة للنجدة وطائفة فيما بين ذلك يكدرون الماء ويجلبون الغلاء ويضيقون الطريق في البناء والصحراء. فصل [وأما الجود] (وأمّا الجود والكرم والسّخاء والسّماحة ومعانيها متقاربة) أي في إطلاقات المحاورة (وقد فرّق بعضهم) بتخفيف الراء وتشدد وقيل فرق بالتخفيف في المعاني وبالتشديد في الأجسام ويجوز استعمال كل مكان الآخر تجوزا أي فصل وميز جمع (بينها) أي بين معاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الألفاظ المتقدمة (بفروق) أي دقيقة (فجعلوا) أي هؤلاء البعض (الكرم الإنفاق بطيب النّفس) أي بنشاطها وانبساطها (فيما يعظم) بضم الظاء أي يجل (خطره) بفتحتين ويسكن الثاني أي قدره (ونفعه) أي يكثر الانتفاع به فلا يطلق على ما يحقر قدره ويقل نفعه (وسمّوه) أي الكرام (أيضا حرية) أي من رق العبودية للأمور العارضية ولذا ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وفي بعض النسخ جرءة بضم جيم وسكون راء فهمزة ولعل وجهه تلازم السخاوة والشجاعة فإن أحدهما بذل الروح والآخر بذل المال والأول أقوى كما لا يخفى على أرباب الكمال قال التلمساني وحقيقة الحرية كمال العبودية وقيل هي أن لا يكون العبد تحت رق المخلوقات ولا يجري عليه سلطان المكونات وعلامة صحته سقوط التمييز عن قلبه بين الأشياء فيتساوى عنده أخطار الأعراض (وهو ضدّ النّذالة) بفتح نون فذال معجمة أي الرذالة والسفالة وما أحسن هذه المقالة: أتمنى على الزمان محالا ... أن ترى مقلتاي طلعة حر وهو من لم يستعبده هواه ولم تسترقه دنياه والأظهر أن يقال الكرم إنما هو عطاء ابتداء من غير ملاحظة عوض وغرض انتهاء (والسّماحة التّجافي) بنصبهما عطفا على مفعولي جعلوا ويجوز رفعهما أي والسماحة هي التباعد والتنحي (عمّا يستحقّه المرء عند غيره) أي من أداء عين أو قضاء دين (بطيب نفس) أي بلطافة نفاسته، (وهو ضدّ الشّكاسة) بفتح الشين المعجمة وإهمال ما بعد الألف أي صعوبة الخلق والمضايقة وفي التنزيل متشاكسون أي مختلفون متعسرون هذا وفيه أن بعض الأحاديث يدل على أن المراد بالسماحة السخاوة الخاصة وهي المساهلة في المعاملة كما ورد رحم الله من سمح في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء وفي حديث السماح رباح، (والسّخاء سهولة الإنفاق) أي على الأقارب والأجانب والفقير والغنى وسائر المراتب (وتجنّب اكتساب ما لا يحمد) بصيغة المجهول أي تبعد اقتناء ما لا يمدح من البخل وارتكاب الذم الموجب لترك مدحه في الأغلب الأعم (وهو الجود) أي مرادفه من غير اعتبار مخالفة وقيل الجود اعطاء الموجود وانتظار المفقود والاعتماد على المعبود وقيل الجود هو بذل المجهود ونفي الوجود وقد يقال من أعطى البعض فهو سخي ومن بذل الأكثر فهو جواد ومن أعطى الكل فهو كريم وقيل السخاء الإنفاق من الإقتار ومنه. ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل (وهو) أي السخاء الذي بمعنى الجود (ضدّ التّقتير) أي التضييق في الإنفاق والإمساك وهو نقيض الإسراف في الانفاق والظاهر أنه حال اعتدال بين البخل والاسراف فانظر فيه بعين الإنصاف ولا تدخل في حد الاعتساف هذا ولم يظهر وجه عدول المصنف عن النشر المرتب إلى خلافه فيما ارتكب، (فكان صلى الله تعالى عليه وسلم لا يوازى) بصيغة المفعول مهموزا ومسهلا من آزيته وأجاز بعضهم وأزيته أي لا يقاوم ولا يقابل ولا يماثل به أحد (في هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الأخلاق الكريمة ولا يبارى) بصيغة المجهول وهو بالباء الموحدة والراء أي لا يعارض في هذه الشمائل الحميدة والفضائل العديدة وغيرها من الأحوال السعيدة كما أشار إلى هذه الزبدة صاحب البردة بقوله: فاق النبيين في خلق وفي خلق ... ولم يدانوه في علم ولا كرم (بهذا) أي بما ذكر وأمثاله، (وصفه) أي نعته (كلّ من عرفه) أي معرفة مشاهدة ومعاينة أو معرفة شهرة ومطالعة سيرة كما يدل عليه الحديث الذي رواه بسنده عن البخاري وقد رواه أيضا غيره ( [حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ رَحِمَهُ الله) بفتحتين وهو الحافظ ابن سكرة (حدّثنا القاضي أبو الوليد الباجيّ) بالموحدة والجيم (حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ) بفتح هاء وسكون تحتية فمثلثة (الكشميهنيّ) بضم فسكون شين معجمة وفتح ميم وتكسر وسكون ياء ففتح هاء (وأبو محمّد) واسمه عبد الله بن أحمد بن حمويه (السّرخسيّ) بفتح راء وسكون خاء وقيل بالعكس وضبطه التلمساني بكسر السين الأولى والمشهور هو الفتح (وأبو إسحاق البلخيّ) وهو المشهور بالمستملي (قالوا) أي المشايخ الثلاثة (حدّثنا أبو عبد الله الفربريّ) بكسر فاء وفتح راء وسكون موحدة وقال المصنف يجوز فتح الراء وكسرها قال الحازمي والفتح أفصح قيل ولم يذكر ابن ماكولا غيره (حدّثنا البخاريّ) أي إمام المحدثين (حدّثنا محمّد بن كثير) بالثاء المثلثة العبدي البصري (حدّثنا سفيان) المراد به الثوري ههنا نعم رواه ابن عيينة (عن ابن المنكدر) عن جابر لكن انفرد به مسلم عن ابن المنكدر تابعي جليل (سمعت جابر بن عبد الله) أي الأنصاري رضي الله تعالى عنهما (يقول) أي كما رواه البخاري في الأدب عنه ومسلم في فضائله صلى الله تعالى عليه وسلم والترمذي في شمائله (ما سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن شيء) أي عن شيء كما في أصل التلمساني والمراد شيئا من باب العطاء (فقال لا) أي لا أعطي والمعنى ما سأله أحد من متاع الدنيا شيئا فمنعه بل كان يعطي أو يعده بالعطاء لقوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً فلا ينافيه قوله تعالى حكاية عنه صلى الله تعالى عليه وسلم قلت لا أجد ما أحملكم عليه أي الآن وأرجو في مستقبل الزمان وروي في كتاب أخيار الخلفاء في أخبار الظرفاء عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال للزبير إن مفاتيح الرزق مقرونة بباب العرش ينزل الله تعالى أرزاق العباد على قدر نفقاتهم فمن كثر كثر عليه ومن قلل قلل له انتهى ويؤيده قوله تعالى وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وحديث اللهم أعط منفقا خلفا وممسكا تلفا هذا وقد قال بعض أرباب الكمال. ما قال لا قطّ إلا في تشهده ... ولا نعم قط إلا جاءت النعم وقال آخر: فلو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 (وعن أنس رضي الله عنه وسهل بن سعد رضي الله عنهما) هو الساعدي الأنصاري (مثله) أي نحوه في المبنى والمعنى. (وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما) كما روى عنه الشيخان (كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أجود النّاس بالخير) أي بكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وقد سقط لفظ بالخير من أصل الدلجي فقدر بكل ما ينفع وقرر أنه حذف للتعميم أو لفوات أحصائه كثرة (وأجود ما كان) بالنصب عطفا على ما قبله وما مصدرية أي وكان أجود أكوانه باعتبار اختلاف أزمانه حاصلا (في شهر رمضان) فهو حال سد مسد الخبر وهذا لأنه منبع النعم ومعدن الخير والكرم وفيه يسبغ الله نعمه على عباده فتخلق بأخلاق الله في أهل بلاده وقال النووي يجوز في أجود الرفع والنصب والرفع أصح وأشهر وفيه نظر إذ جاء في الصحيح خلافه بالتصريح وكان أجود ما يكون ثم وجه الرفع أنه مبتدأ وفي شهر رمضان خبر وأما القول بضمير الشأن في كان فلا محوج إليه ولا معول عليه (وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجْوَدَ بالخير) أي بجميع أنواعه (من الرّيح المرسلة) بصيغة المجهول أي في عموم المنفعة والسرعة على أن الريح قد تكون خالية من المطر وقد تكون جالبة للضرر وقيل المراد بالريح الصبا قال النووي وفيه الحث على الجود والزيادة في رمضان وعند لقاء الصالحين وعلى مجالسة أهل الفضل وزيارتهم وتكريرها ما لم يورث المزور كراهة ذلك واستحباب كثرة التلاوة سيما في رمضان ومدارسة القرآن وغيره من العلوم الشرعية وأن القراءة أفضل من التسبيح والإذكار. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) على ما رواه مسلم (أنّ رجلا) وهو صفوان بن أمية الجمحي القرشي أسلم بعد الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حنينا والطائف وهو مشرك فلما أعطاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مما أفاء الله عليه وأكثر قال أشهد بالله ما طابت بهذا الأنفس نبي فأسلم يومئذ أخرج له مسلم والأربعة وأحمد في مسنده ومات بمكة في خلافة معاوية (سأله) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا من العطاء (فأعطاه غنما) أي قطيعة غنم والمراد غنما كثيرا يملأ واديا (بين جبلين) لسعة جوده وسماحة نفسه والظاهر أنه كان بعد اسلامه أو صار سببا لإسلامه لقوله (فرجع إلى بلده) ويروى إلى قومه (وقال أسلموا) فإن اعطاءه من بين أخلاقه كالمعجزة (فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى فاقة) أي حاجة أبدا لكرم نفسه وشرف طبعه وتوكله على رزق ربه، (وأعطى غير واحد) أي كثيرا من المؤلفة (مائة من الإبل) كأبي سفيان بن حرب وابنيه معاوية ويزيد ومع مائة كل واحد منهم أربعين أوقية وكحكيم بن حزام والحارث بن هشام وغيرهم، (وأعطى) كما رواه مسلم (صفوان) أي ابن أمية (مائة) من الإبل (ثمّ مائة ثمّ مائة) أي في وقت واحد أو في أزمنة متعددة، (وهذه) أي الخصال الممدوحة (كانت حاله) وفي نسخة خلقه (صلى الله تعالى عليه وسلم) أيضا (قبل أن يبعث) لما خلقت هذه الشمائل وطبعت هذه الفضائل في أصل فطرته ومادة خلقته قبل بعثته بل قبل حصول ولادته كما ورد كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد (وقد قال له ورقة) بتحريك الواو والراء فالقاف (ابن نوفل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وهو ابن عم خديجة رضي الله تعالى عنها وكان تنصر واختلف في إسلامه (إنّك تحمل الكلّ) بفتح الكاف وتشديد اللام أي الثقيل من العيال واليتيم ومن لا قدرة له من ضعيف الحال أي فيما بين قومه وفي التنزيل وهو كل على مولاه أي ثقيل في المؤنة ضعيف في الصنعة (وتكسب) بفتح أوله ويضم وتكسر السين (المعدوم) بالواو في النسخ المعتبرة الحاضرة قال النووي فتح التاء هو الصحيح المشهور وروي بضمها وقال الدلجي وتكسب هنا بضم أوله والمعدم بدون واو أي المحتاج تفيده المعارف والمال وتعينه على تحصيلهما والذي رواه مسلم والبخاري أنه من قول خديجة رضي الله تعالى عنها بزيادة اللام في خبر ان والواو في مفعول تكسب انتهى ولا منع من الجمع كما لا يخفى وقال ابن قرقول فتح أوله أكثر الروايات وأصحها ومعناه تكسبه لنفسك وقيل تكسبه غيرك وتعطيه إياه يقال كسبت مالا وكسبته غيري لازم ومتعد وروي بضم أوله والمعنى تكسب غيرك المال المعدوم أي تعطيه واختاره النووي وقيل تعطي الناس مالا يجدونه عند غيرك من مكارم الأخلاق وأنكر الفراء وغيره أكسب في المتعدي وصوبه ابن الأعرابي وأنشد: فأكسبني مالا وأكسبته حمدا ثم المراد من المعدوم هو العاجز عن الكسب أو الرجل المحتاج وسمي معدوما لكونه كالمعدوم الميت حيث لم يتصرف كغيره ومن يجوز ضم التاء يقول صوابه المعدم بضم ميم وكسر دال (وردّ على هوازن) وهي قبيلة معروفة (سباياها) أي أسراها (وكانت) في نسخة صحيحة وكانوا (ستّة آلاف) أي من النساء والذرية ورد عليهم أيضا من الأموال أربعة وعشرون الفا من الإبل وأكثر من أربعين ألفا من الغنم وأربعة آلاف أوقية من فضة والأوقية أربعون درهما قيل وقوم ذلك فبلغ خمسمائة الف ألف ومن جملة جوده إعطاؤه مال جزية البحرين في يومه وكان مقداره مائة ألف وثمانين ألف درهم بعثه إليه عامله العلاء بن الحضرمي (وأعطى العبّاس) على ما رواه البخاري عن أنس تعليقا أنه أعطاه (من الذّهب، ما لم يطق حمله) من الإطاقة أي شيئا لم يقدر على حمله وحده مع قوة تحمله (وحمل إليه) بصيغة المجهول أي أتى إليه (تسعون ألف درهم) على ما رواه أبو الحسن بن الضحاك في شمائله عن الحسن مرسلا (فوضعت) بصيغة المجهول أي فسكبت ونشرت (على حصير) أي خصفة (ثمّ قام إليها يقسمها) حال وفي نسخة فقسمها (فما ردّ سائلا) أي ممن جاءه وحضر عنده (حتّى فرغ منها) أي من قسمتها وهو غاية لقوله قام أو يقسمها وأبعد الدلجي في جعله غاية لعدم رده سائلا إذ مفهومه أنه حينئذ رد سائله وقد سبق أنه لم يكن قائلا لا لمن يكون سائلا نوالا كما يدل عليه قوله (وجاءه رجل) كما رواه الترمذي في شمائله أنه جاءه رجل قال الحلبي هذا الرجل لا أعرفه (فسأله) أي شيئا معينا ومقدارا مبينا (فقال ما عندي شيء) أي مما عينت أو على قدر ما بينت (ولكن ابتع عليّ) أمر من الابتياع بباء موحدة ثم مثناة فوقية أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 اشتر واستلف مقدار ما تختار حوالة على فالمفعول محذوف وقال التلمساني أي اعدد علي أو احسب هكذا ثبت الحديث بتقديم الياء على التاء انتهى وجوز الدلجي تقديم المثناة الفوقية على الباء الموحدة وليست عندنا في النسخ المعتمدة (فإذا جاءنا) أي من عند الله (شيء) اي مما أولاه (قضيناه) أي حكمنا به لك أو أديناه عنك (فقال له عمر) أي بناء على نظر الرحمة إليه (مَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ) أي من تحمل الدين بمقتضى الوعد لما ورد من أن العدة دين والدين شين (فكره النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك) بناء على جبر خاطر السائل وما يعتريه من خيبة الأمل ولما سبق في الآية من أنه مأمور بالعدة (فقال) له (رجل من الأنصار) قيل هو بلال لكنه من المهاجرين وقد يجمع بأنها قالا له والإمام الغزالي مال إلى جعل القائل نفس السائل حيث قال في الأحياء فقال الرجل (يا رسول الله أنفق) أي بلالا (ولا تخش) أي لا تخف كما في نسخة (من ذي العرش إقلالا) أي تقليلا فإن الملك كله ملك لصاحب العرش سبحانه وتعالى تعظيما وتبجيلا (فتبسّم صلى الله تعالى عليه وسلم) أي انشراحا بمن تكلم (وعرف البشر) بصيغة المجهول أي وظهرت البشاشة والطلاقة وآثار السرور وظهور النور (في وجهه) أي بتهلله وإشراق خده ولله در القائل: تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله (وقال بهذا أمرت) أي بهذا الكرم أمرني ربي قبل ذلك أو جاءني جبريل على وفق ما هنالك. (ذكره التّرمذي) . أي في شمائله وذكر ابن قتيبة في كتاب مشكل الحديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعا بلالا بتمر فجعل يجيء به قبصا قبصا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا قال والقبص بالصاد الأخذ بأطراف الأصابع وبالضاد المعجمة بالكف كلها (وذكر) بصيغة المفعول وفي نسخة على بناء الفاعل أي وذكر الترمذي في شمائله أيضا (عن معوّذ) بكسر الواو المشددة وتفتح والذال المعجمة وقيل مهملة (ابن عفراء) بفتح عين وسكون فاء فراء ممدودا اسم أمه وهي من المبايعات تحت الشجرة وأما اسم أبيه فالحارث بن رفاعة بن سواد بفتح السين النجاري الأنصاري (قال أتيت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بقناع) بكسر قاف وفتح نون (من رطب) وفي أصل الدلجي بالإضافة من غير من (يريد) أي يعني الراوي بقوله قناع (طبقا) بفتحتين أي وعاء مما يؤكل عليه وأما قول الحجازي صوابه بالمثناة الفوقية في الموضعين على تصحيح الرواية عن الربيع ففيه أن الربيع غير مذكور في المتن بل معوذ لا غير ولا يجوز تغيير التصنيف فالصواب بالياء التحتانية على أنه يرجع إلى معوذ أو إلى الراوي بالمعنى الأعم والله تعالى أعلم (وأجر) بفتح همزة وسكون جيم وكسر راء منونة جمع جرو مثلث الجيم والكسر أشهر أي قثاء صغار (زغب) بضم زاء وسكون غين معجمة جمع أزغب أي ذوات زغب أي صغار الريش أول ما يطلع شبه به ما على القثاء من الزغب وضبط في حاشية بفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الزاي والغين المعجمة ويعني بها الشعرات الصفر على ريش الفرخ والفراخ زغب بضم فسكون على ما ذكره الجوهري وهذا وصف منه للقثاء باللطافة والغضاضة إذ القثاء اللطاف لا تخلو عن شيء يكون عليها شبه الزغب (يريد) يعني بأجر زغب (قثّاء) أي موصوفا بما ذكر وهو بكسر القاف ويضم ممدودا (فأعطاني) أي لأجل بدله أو مما كان عنده في نظيره (ملء كفّه) وفي رواية ملء يديه وفي رواية ملء يدي وفي أخرى كفي (حليّا) بفتح فسكون وجمعه حلي ووزنه فعول كضرب وضروب ثم دخله الإبدال والإدغام وكسرت اللام لتصح الياء وكسر الحاء أيضا حمزة والكسائي للاتباع وفي نسخة بضم فكسر فتشديد تحتية (وذهبا) تخصيص بعد تعميم إذ الحلي ما يصاغ ولو من الفضة وغيرها قال الدلجي كذا هنا من رواية معوذ ابن عفراء والذي في مسند أحمد وشمائل الترمذي بسند جيد عن ابنة الربيع مصغر ربيع قالت بعثني معوذ ابن عفراء بقناع من رطب وعليه أجر زغب من قثاء وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يحب القثاء فأتيت بها وعنده حلية قدمت عليه من البحرين فملأ يده فأعطاني وللترمذي فأتيته بقناع من رطب وأجر زغب فأعطاني ملء كفيه حليا أو ذهبا وأبوها معوذ قتل ببدر ولم يعرف له رواية عنه صلى الله تعالى عليه وسلم؛ (قال أنس رضي الله تعالى عنه) أي فيما رواه الترمذي (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يدّخر) بدال مهملة مبدلة من معجمة إذا أصله لا يذتخر (شيئا لغد) أي لا يؤخر لمستقبله من الزمان شيئا من مأكول ومشروب لسماحة نفسه وسخاوة كفه وثقته بربه أو المعنى لا يدخر لخاصة نفسه لقوة حاله فلا ينافيه أنه كان يدخر قوت سنة لعياله. (والخبر) أي الأخبار الواردة المؤذنة (بجوده وكرمه) أي بناء على أثر نور وجوده صلى الله تعالى عليه وسلم (كثير) أي فلا يمكن إحصاؤه ولا يتصور استقصاؤه (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) لا يعرف من رواه عنه (أتى رجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسأله) أي شيئا من العطاء (فاستلف) أي فاستسلف له كما في نسخة والمعنى أخذ السلف واستقرض من رجل لأجله (نصف وسق) وهو بفتح الواو ويكسر وسكون السين ستون صاعا والنصف مثلث النون والكسر أشهر (فجاء الرّجل) أي رب الدين (يتقاضاه) أي يطالبه بوفائه (فأعطاه وسقا) أي بكماله (وقال نصفه قضاء) أي وفاء (ونصفه نائل) أي عطاء ثم اعلم أن في بعض النسخ هنا زيادة لا تخلو عن إفادة وهي قوله وقال أبو علي الدقاق من شيوخ الصوفية المشاهير وعلمائهم النحارير وتكلم في الفتوة وهي غاية الكرم والإيثار على رأيهم واصطلاحهم في ألفاظهم أن هذا الخلق لا يكون إلا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإن كان واحد في القيامة يقول نفسي نفسي وهو يقول أمتي أمتي انتهى قال ابن مرزوق هذه الرواية ثبتت في رواياتنا في هذا الموضع من الشفاء وقال التلمساني وقد ثبتت هذه الزيادة أيضا ملحقة بخط العراقي في الطرة ثم قال نقل هذا من خط المؤلف رحمه الله تعالى انتهى وقال برهان الحلبي هذا في بعض النسخ ثابت وأبو علي المذكور هو الحسن بن علي بن محمد بن إسحاق بن عبد الرحيم بن أحمد الاستاذ شيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الاستاذ أبي القاسم القشيري تعقب على الحصري وأعاد على القفال المروزي في درس الحصري ثم سلك طريق التصوف حتى صار إنسان وقته وسيد عصره توفي ذي الحجة سنة خمس وأربعمائة قال فيما يرويه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أكرم غنيا لغناه ذهب ثلثا دينه وذكر فيه حكمة ذكرها السبكي في الطبقات. فصل [وأما الشجاعة والنجدة] (وأمّا الشّجاعة) بفتح أولها معروفة (والنّجدة) بفتح نون فسكون جيم فدال مهملة بمعنى الشجاعة على مقالة الجوهري وقيل الإغاثة والإعانة وفرق المصنف بينهما بقوله (فالشّجاعة فضيلة قوّة الغضب) أي زيادتها (وانقيادها) أي مطاعة تلك القوة ومتابعتها (للعقل) أي لتقع على ما ينبغي من النعوت الآدمية وهو احتراز عن الصفة السبعية والبهيمية ولا بد من قيد انقيادها للشرع لتكون من الأوصاف البهية. (والنّجدة ثقة النّفس) أي وثوقها بربها واعتمادها على خالقها (عند استرسالها) أي إشرافها وطلبك إرسالها (إلى الموت) أي حال تثبتها من ابتدائها إلى زمان انتهائها باختياره إلى حد فنائه وزوال بقائه (حيث يحمد فعلها) أي عقلا ونقلا (دون خوف) أي من غير خوف لها يمنعها عما هي بصدده من كمالها والحاصل أن النجدة قوة تنشأ عن الشجاعة لا أنها غيرها في أصلها، (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم منهما) أي من الشجاعة والنجدة وروي منها فالضمير لكل منهما (بالمكان) أي بالمحل (الذي لا يجهل) وبيانه قوله (قد حضر المواقف الصّعبة) بفتح فسكون أي الشديدة كبدر واحد وحنين وغيرها (وفرّ) أي هرب (الكماة) بضم كاف وتخفيف ميم جمع كمي بفتح فكسر فتشديد أي شجاع مكمي في سلاحه إذ قد كمى نفسه وسترها بدرعه وبيضته كأنه جمع كام كقاض وقضاة (والأبطال) بفتح الهمزة جمع بطل بفتحتين وهو الشجاع والمغايرة بينهما من حيث الستر وعدمه أو الثاني أبلغ والمعنى ولوا مدبرين (عنه) أي عن مساعدته صلى الله تعالى عليه وسلم (غير مرّة) أي مرات كثيرة وإن كان قصد بعضهم الكرة بعد الفرة (وهو ثابت) أي بقلبه وقدمه (لا يبرح) بفتح الياء والراء أي لا يزول عن مكانه (ومقبل) على شانئه وشأنه بكمال الإقبال (لا يدبر) أي لا ينوي الإدبار ولا التحول والانتقال (ولا يتزحزح) أي ولا يتبعد عن مواجهة الكفار والجمل المنفية أحوال مؤكدة لما قبلها والمعنى أنهم فروا عنه حال ثباته وإقباله على أعدائه، (وما شجاع) بتثليث أوله والضم أشهر أي ما وجد أحد شجيع من شجعان العرب والعجم (إلّا وقد أحصيت له فرّة) على صيغة المجهول أي ضبطت له ولو مرة واحدة من الفرار والهزيمة (وحفظت عنه جولة) بفتح جيم وسكون واو أي تردد ونفرة (سواه) أي غيره صلى الله تعالى عليه وسلم وعدم الفرار لكماله في مقام الوقار والقرار. (حدّثنا أبو عليّ الحيّانيّ) بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية وفي آخره نون ثم ياء النسبة وهو الحافظ الغساني وقيل بكسر الجيم والظاهر أنه تصحيف (فيما كتب لي) أي من هذا الحديث ونحوه مقرونا بالإجازة له مع إمكان السماع منه (حدّثنا القاضي سراج) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 بكسر سين مهملة وتخفيف راء بعدها ألف فجيم (حدّثنا أبو محمّد الأصيليّ) بفتح فكسر صاد مهملة ويقال بالزاء أيضا نسبة إلى بلد بالمغرب، (حدّثنا أبو زيد الفقيه) وهو المروزي (حدّثنا محمّد بن يوسف) أي الفربري (حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري (حدّثنا ابن بشّار) بموحدة فشين معجمة مشددة العبدي مولاهم قال أبو داود وكتبت عنه خمسين ألف حديث (حدّثنا غندر) بضم غين معجمة فنون ساكنة فدال مهملة مفتوحة وقد تضم فراء هذلي بصري وهو منصرف (حدّثنا شعبة) أي ابن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث (عن أبي إسحاق) أي السبيعي الهمداني الكوفي تابعي جليل روى عنه السفيانان وأبو بكر بن عياش وخلائق وله نحو ثلاثمائة شيخ وهو يشبه الزهري في كثرة الرواية وقد غزا عشر مرات وكان صواما قواما (سمع البراء) بفتح الموحدة وتخفيف الراء وهو ابن عازب رضي الله تعالى عنه (وسأله رجل) لا يعرف (أفررتم يوم حنين) وهو واد بين مكة والطائف وتصحف حنين على التلمساني بخيبر ولذا قال وكانت غزوة حنين في السابعة من الهجرة وقدم جعفر بن أبي طالب ومن معه من الحبشة حينئذ وقد وقع في صحيح البخاري في غزوة الفتح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في رمضان إلى حنين وقد تقدم أنها كانت في شوال وهو المعروف ولعل المراد الفتح لأن الفتح تعقبه حنين والمعنى افررتم يوم حنين معرضين (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم قال) أي نعم كما في نسخة ولعله حذف استهجانا للتصريح به ثم استدرك بقوله (لكنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يفرّ) بتشديد الراء المفتوحة ويجوز كسرها لكسر ما قبلها وقال التلمساني إنما لم يجبه ببلى او نعم لأن موجب لا قد وقع ولم يكن قصدا بل رشقتهم هوازن بنبلها ذا صباح وقد تفرقوا لحوائجهم ولم يعلموا أن للعدو كمينا فكان جولة وليس هزيمة وقد وقع ذلك من الطلقاء لأن منهم من لم يكن صادق الإسلام يومئذ انتهى ثم في هذا الاستدراك دفع توهم فراره صلى الله تعالى عليه وسلم بعد فرارهم عنه ولا والله ما فر قط بل الإجماع قاض بتحريم اعتقاد فراره وهذا الحديث أخرجه البخاري في الجهاد ومسلم في المغازي والنسائي في السير وهو كما في الأصل بناء على ما في بعض الطرق وفي بعضها أفررتم يوم حنين ولم يذكر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم وعلى هذه الرواية قال النووي ما نصه هذا الجواب الذي أجاب به البراء من بديع الأدب لأن تقدير الكلام أفررتم كلكم فيقتضي أنه عليه الصلاة والسلام وافقهم في ذلك قال البراء لا والله ما فر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن جماعة من أصحابه جرى لهم كذا وكذا، (ثمّ قال) أي البراء (لقد رأيته على بغلته البيضاء) كذا في الصحيحين وفي مسلم أنها التي أهداها له فروة بن نفاثة قال بعض الحفاظ واسمها فضة وفي رواية على بغلته الشهباء وكلتاهما واحدة وقال بعضهم هي التي تسمى الدلدل وكذا سماها النووي في شرح مسلم في غزوة حنين وقال قال العلماء لا يعرف له صلى الله تعالى عليه وسلم بغلة سواها انتهى وذكر الحلبي أن فروة بن نفاثة أهدى فضة والمقوقس أهدى الدلدل وقيل كان له صلى الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 عليه وسلم ست بغلات وقيل سبع (وأبو سفيان) أي ابن عمه الحارث بن عبد المطلب وكان أخ الرضيع له صلى الله تعالى عليه وسلم أرضعتهما حليمة وآلف الناس به قبل النبوة ثم كان أبعدهم عنه بعدها ثم أسلم يوم الفتح بالأبواء موضع بطريق مكة ومات سنة عشرين بالمدينة (آخذ بلجامها) زاد البرقاني والعباس رضي الله تعالى عنه آخذان بلجامها يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو شفقة منهما عليه بمقتضى البشرية وإن علما مرتبة عصمته النبوية وسيأتي رواية أخرى في هذا المعنى مع اختلاف في المبنى وفي ركوب البغلة حال الغزوة إيماء إلى كمال تحقق النجدة وزوال تصور الجولة وكيف وهو يقول اللهم بك أصول وبك أجول، (والنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقول) والجملة حالية وأما قول الدلجي وضع فيها مبتدأها موضع المضمر أي وهو يقول فغفلة منه عن المنقول إذ لو أتي بالضمير لتوهم رجعه إلى أقرب المذكور وهو أبو سفيان المسطور (أنا النّبيّ لا كذب) بسكون الباء للوزن أو للسجع وهو الرواية على ما ذكره المازري وضبط في بعض النسخ بفتح الباء على ما أصله في البناء وقد ورد على زنة منهوك الزجر وهو ليس بشعر عند بعضهم وأن كان مقصودا ثم لا يسمى الكلام شعرا ما لم يقصد بوزنه الشعر ومنه ما جاء في التنزيل ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون وأمثال ذلك وأما قول الدلجي من رواه بفتح الباء ليخرج عن الوزن فقد نسب أفصح الخلق إلى النطق بغير فصيح فغير صحيح لأن فتح الباء كما عرفت هو الإعراب الصحيح فلا يعدل عنه إلا وقفا سواء أريد به نظم أو سجع والمعنى أنا النبي صدقا لا أفر إذا لقيت العدو حقا وروي بلا كذب بزيادة الباء ولعله حينئذ يخفف ياء النبي والمعنى لا كذب في النبوة لظهور المعجزة أو لا كذب في النصرة أو لا كذب في النبوة لأنها حق وما وعده ربه صدق. (وزاد غيره) أي غير البراء (أنا ابن عبد المطّلب) وهو بسكون الباء مع أنها في أصل الإعراب بالجر ومن قرأ بالكسر أراد إخراجه من وزن الشعر كما تقدم ثم انتسابه لجده لاشتهاره به لموت أبيه قبل ولادته مع كثرة نسبة الناس إياه إليه ولا ينافي هذا نهيه عن الافتخار بالآباء الكفار إذ لم يقل افتخارا بل إظهارا واشتهارا وإعلاما بأنه ما ولى مع من ولي وتعريفا بموضعه ليرجع إليه أهل دينه، (قيل فما رئي) بصيغة المجهول ويقال فما رئي بالنقل والبدل أي ما أبصر (يومئذ) أي يوم حنين (أحد كان أشدّ منه) أي أقوى قلبا وأشجع قالبا منه صلى الله تعالى عليه وسلم قال البغوي بعد حديث البراء بإسناده المتصل إلى مسلم على ما سبق ورواه محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن إسحاق وزاد فما رئي من الناس يومئذ أشد منه ورواه أبو زكريا عن أبي إسحاق وزاد قال كنا إذا احمر البأس نتقي به وأن الشجاع منا للذي يحاذيه أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى فوجه تعبير المصنف بقيل غير ظاهر كما لا يخفى، (وقال غيره) أي غير البراء أو غير قائل هذا القيل (نزل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عن بغلته) وهذا يدل على كمال نعته في قضية شجاعته قال البغوي في حديثه المسند إلى مسلم عن أبي إسحاق قال رجل للبراء يا أبا عمارة أفررتم يوم حنين قال لا والله ما ولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولكنه خرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 شبان أصحابه واخفاؤهم وهم حسر ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورسول الله على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقود به فنزل واستنصر وقال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ثم صفهم، (وَذَكَرَ مُسْلِمٌ عَنِ الْعَبَّاسِ قَالَ فَلَمَّا الْتَقَى المسلمون) وهم ستة عشر ألفا أو اثنا عشر ألفا أو عشرة آلاف على اختلاف (والكفّار) وهم أربعة آلاف من هوازن وثقيف وكان المسلمون يومئذ أكثر ما كانوا قط حتى قال رجل من الأنصار لن نغلب اليوم عن قلة فلم يرض الله قوله ووكلهم إلى أنفسهم كما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري ثم نادوا يا حماة السوء اذكروا الفضائح فتراجعوا وانكشف المسلمون وهذا معنى قوله (ولّى المسلمون) أي رجعوا وانهزموا (مدبرين) حال مؤكدة منهم قال الكلبي كان حول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس مدبرين وقال آخرون لم يبق مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غير العباس وأبي سفيان وأيمن ابن أم أيمن فقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (فطفق) بكسر الفاء أي جعل (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يركض بغلته نحو الكفّار) أي يحركها ويدفعها إلى صوبهم وأصل الركض تحريك الرجل ومنه قوله تعالى ارْكُضْ بِرِجْلِكَ (وأنا آخذ بلجامها) جملة حالية (أكفّها) حال أخرى أو استئناف بيان (إرادة أن لا تسرع) بنصب الإرادة على العلة للجملة السابقة أي أمنعها من أجل أن لا نعجل إلى جهة العدو وهو من الإسراع (وأبو سفيان آخذ بركابه) وفي رواية بعكس القضيتين وتقدم أنهما كانا آخذين بلجامها فالجمع بأنه كان الأخذ بالمناوبة مرة وبالجمع كرة (ثمّ نادى) أبو سفيان أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو العباس على الالتفات (يا للمسلمين) بفتح اللام الأولى أي اقبلوا (الحديث) بالنصب على الأصح أي انظر الحديث أو طالعه بكماله قال البغوي في حديثه المسند إلى مسلم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي عباس ناد أصحاب السمرة فقال العباس رضي الله تعالى عنه وكان رجلا صيتا فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة قال فو الله لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفه البقرة على أولادها فقالوا يا لبيك يا لبيك قال فاقتلوا الكفار ثم أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حصيات فرمى بهن في وجوههم ثم قال انهزموا ورب محمد قال فو الله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى أحدهم كليلا وأمرهم مدبرا وقال سلمة بن الأكوع غزونا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حنينا قال فلما غشوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل وجوههم فقال شاهت الوجوه فما خلف الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين وقال سعيد بن جبير أمد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة مسومين كما قال تعالى وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها. (وقيل) أي روي كما في حديث ابن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 هالة (كان رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَضِبَ. وَلَا يَغْضَبُ إِلَّا لله) جملة حالية معترضة بين الشرط وجوابه وهو قوله (لم يقم لغضبه شيء) أي ما يدفعه عنه ويمنعه منه كما قال علي كرم الله وجهه كان صلى الله تعالى عليه وسلم لا يغضب للدنيا فإذا أغضبه الحق لم يعرف أحدا ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له؛ (وقال ابن عمر) كما رواه الدارمي (ما رأيت أشجع ولا أنجد) من النجدة وقد عرفت الفرق بينها وبين ما قبلها ولا يبعد أن المراد بالجمع بينهما المبالغة في وصف زيادة الشجاعة (ولا أجود) أي لا أسخى (ولا أرضى) أي باليسير فهو من باب القناعة أو ولا أسرع رضى من الرجوع عن الغضب فهو من قبيل حسن الخلق وجيمل العشرة قيل ولا أدوم رضى (من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وضبط الدلجي ولا أحوذ بمهملة ومعجمة من حوذ يحوذ أي أجمع وهو مما استعمل بلا إعلال أي ما رأيت أحوذ يا اجمع لأموره لا يشذ عليه منها شيء متمكنا منها حسن السياق لها منه صلى الله تعالى عليه وسلم ومثله حديث عائشة رضي الله تعالى عنها تصف عمر كان والله أحوذيا نسيج وحده أي متمكنا في أموره حسن السياق لها انتهى والظاهر أنه تصحيف في المبنى بل وتحريف في المعنى لأن الأحوذي ليس أفعل التفضيل المناسب هنا للسياق من السباق واللحاق فقد قال صاحب القاموس الأحوذي الخفيف الحاذق والمشمر للأمور القاهر لها لا يشذ عليه شيء كالحويذ وأحوذ ثوبه جمعه والصانع القدح أخفه انتهى وقوله أحوذ وكذا استحوذ بمعنى غلب واستولى جاء على أصله من غير اعلاله وأما أفعل سواء كان وصفا أو تفضيلا فلا يعل كأسود وأجود؛ (وقال عليّ كرم الله وجهه) كما رواه أحمد والنسائي والطبراني والبيهقي (إنّا كنّا إذا حمي البأس) بهمز ويلين ومعناه ما في قوله. (ويروى اشتدّ البأس) وأما ما وقع في اصل الدلجي إذا حمي الوطيس فلا أصل له في النسخ المعتبرة والأصول المعتمدة (واحمّرت الحدق) بفتحتين جمع حدقة وهي ما احتوت عليه العين من سوادها وبياضها وسبب احمرارها غضب صاحبها وفي الحديث الغضب جمرة توقد في قلب ابن آدم أما ترى إلى انتفاخ أو داجه واحمرار عينيه (اتّقينا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فَمَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ) أي تحفظنا به وأخذناه وقاية لنا من عدونا وأعل أتقى بقلب واوه ياء لكسر ما قبلها ثم تاء وأدغمت (ولقد رأيتني) أي قال علي والله لقد رأيت نفسي (يوم بدر) أي وكذا غيري لقوله (ونحن نلوذ) أي نلتجئ ونستتر (بالنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي الحديث اللهم بك أعوذ وبك الوذ وفي أصل الدلجي ونحن نتقي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفسره بنستتر ونحتمي إلا أنه ليس في الاصول المعتمدة الحاضرة (وهو أقربنا إلى العدوّ) أي والحال أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أقرب منا إلى عدونا وهو تصريح بما سبق من تلويح (وكان من أشدّ النّاس يومئذ) أي وقت البأس وشدة الحرب أو يوم حنين (بأسا) أي قوة قلب في شدة حرب وإذا كان حاله هذا في مثل هذا الوقت ففي سائر الأوقات بالأولى فلا يحتاج إلى قول الدلجي بل أشدهم مطلقا كما لا يخفى وما أحسن من قال من أرباب الحال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 له وجه الهلال لنصف شهر ... وأجفان مكحلة بسحر فعند الابتسام كليل بدر ... وعند الانتقام كيوم بدر (وقيل كان الشّجاع) أي منا (هو الذي يقرب منه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دنا العدوّ) أي قاربوا (ولقربه منه) أي لقرب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من العدو؛ (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) كما في حديث الشيخين (كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أحسن النّاس) أي صورة وسيرة وصونا وفصاحة وملاحة (وأجود النّاس) أي سخاوة وكرامة (وأشجع النّاس) أي قلبا وثباتا، (لقد فزع) بكسر الزاي (أهل المدينة ليلة) أي خافوا تبييت العدو ولما سمعوا صوتا أجنبيا في ناحية من نواحي المدينة ولا حاجة إلى قول الدلجي من أن الفزع هو في الأصل الخوف ثم استعير ههنا للنصر والاستغاثة (فانطلق ناس) أي ذهب جمع من أهل المدينة (قبل الصّوت) بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي إلى جانبه ونحوه ليتحققوا ما به (فتلقّاهم) أي المنطلقين (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) حال كونه (راجعا قد سبقهم إلى الصّوت) أي منفردا (استبرأ) ويروى وقد استبرأ (الخبر) أي تعرف حقيقة الأثر وكشف الأمر وعرف عدم سبب الضرر وقال التلمساني استبرأ استقصى بهمز ويسهل وفيه نظر إذ لا يجوز تسهيل الهمز المتحرك المتطرف إلا وقفا والأظهر من استبرأ أي بحث عن ذلك واستنقى ما ينقى هنالك (على فرس) أي حال كونه راكبا على فرس كائن (لأبي طلحة) وهو أحد أصحابه (عري) بضم فسكون أي لا سرج عليها للاستعجال في ركوبها والفرس هذا اسمه مندوب كما في الصحيح (والسّيف في عنقه) أي متقلد به (وهو يقول) أي للمقبلين أو لأهل المدينة أجمعين (لن تراعوا) بضم التاء والعين أي لا تخافوا مكروها يصيبكم. (وقال) أي كما رواه أبو الشيخ في الأخلاق (عمران بن حصين) وفي نسخة صحيحة حصين الخزاعي وقد كانت الملائكة تصافحه وتسلم عليه حتى اكتوى وقيل كان يراهم (ما لقي رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم كتيبة) بفتح كاف وكسر فوقية أي جماعة عظيمة من الجيش (إلّا كان أوّل من يضرب) أي يقبل على ضربهم ويتوجه إلى حربهم ولا ينافي هذا ما سبق من أنه عليه الصلاة والسلام ما ضرب بيده شيئا قط لا امرأة ولا خادما ولا غيرهما لأنه ما من عام إلا وخص فالمراد به ما عدا الكفار (ولمّا رآه أبيّ بن خلف) على ما رواه ابن سعد والبيهقي وعبد الرزاق مرسلا والواقدي موصولا (يوم أحد وهو) أي أبي (يقول أين محمّد) سؤال عن مكانه. (لا نجوت إن نجا) دعاء على نفسه فأجابه الله فأهلكه ونجى حبيبه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ورد البلاء موكل بالمنطق (وقد كان) أي أبي (يقول للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي قبل ذلك (حين افتدى) أي فك نفسه بإعطائه الفدية عنها (يوم بدر) متعلق بافتدى وظرف لقوله وهو (عندي فرس) أي عظيمة اسمها العود على ما في رواية (أعلفها) بفتح همز وكسر لام أي اطعمها من العلف وأصل الفرس للأنثى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وقد يطلق على الذكر (كلّ يوم فرقا) بفتح الفاء والراء ويسكن كيلا يسع ثلاثة آصع (من ذرّة) بضم ذال معجمة وتخفيف راء نوع من الحبوب مختص بالدواب وفي النهاية لابن الأثير أن الفرق بالتحريك مكيال يسع ستة عشر رطلا وهي اثنا عشر مدا وثلاثة آصع عند أهل الحجاز وأما الفرق بالسكون فمائة وعشرون رطلا (أقتلك عليها) أي أريد أن أقتلك حال كوني عليها (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أنا أقتلك) أي عليها أو على غيرها (إن شاء الله) وقد نال هواه بصدق متمناه والاستثناء امتثال لقوله سبحانه وتعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وهذه جمل معترضة بين لما وما دل على جوابها من إفادة صدورها في بدر قبل رؤيته له في أحد (فلمّا رآه) أي أبي بن خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يوم أحد شدّ أبيّ على فرسه) جواب لما الثانية دال على جواب الأولى كقوله تعالى فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ بعد قوله وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ الآية والمعنى هنا حمل أبي مستعليا عليها بقوة كائنة (على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاعترضه) أي حال بين أبي وبينه صلى الله تعالى عليه وسلم (رجال من المسلمين) أي يصدونه عنه ويدفعونه منه (فقال النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لأصحابه (هكذا) أي مشيرا إلى جانب أبي (أي خلّوا طريقه) أي أبي فإن جوابه على والمعنى تنحوا عنه ولا تحولوا بيني وبينه (وتناول الحربة) أي أخذها (من الحارث بن الصّمّة) بكسر الصاد وتشديد الميم فتاء أبو عمرو بن عتيك الخزرجي الأنصاري أبو سعد آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بينه وبين صهيب وكسر بالروحاء في غزوة بدر فرده عليه السلام ثم ضرب له بأجره وسهمه وثبت معه عليه الصلاة والسلام يوم أحد هذا وقال ابن الأثير في النهاية أن كعب بن مالك ناوله الحربة ولا منع من الجمع (فانتفض بها) أي حرك بالحربة (انتفاضة) أي تحريكا شديدا وهزا شديدا (تطايروا) من الطيران أي تنحوا وتبعدوا (عنه) أي تفرقوا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو عن أبي والمتفرقون أما المسلمون واقتصر عليه الأنطاكي وأما المشركون وهو أبلغ وأنسب بقوله (تطاير الشّعراء) بفتح المعجمة وسكون المهملة وبالمد جمعه شعر بضم فسكون أي كتطاير ذباب أحمر أو أزرق يقع على الحيوان فيؤذيه أذى شديدا وفي رواية تطاير الشعارير قال صاحب النهاية وفي الحديث تطاير الشعر بضم الشين وسكون العين وهو جمع الشعراء ويروى الشعارير وقياس واحده شعرور انتهى قال التلمساني قوله الشعر كهذا بخط القاضي في الأصل وفي تصحيح أبي العباس العرفي الشعراء (عن ظهر البعير إذا انتفض) أي تحرك البعير تحركا شديدا (ثمّ استقبله النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي توجه إلى أبي حتى وصله (فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ) بفتح فوقية وهمزة ساكنة بين دالين مهملتين ثم همزة مفتوحة قيل وأصل الهمزتين هاآن وقيل يبدلان أي تدحرج وقيل تمايل وفي أصل الدلجي تردى أي سقط (منها) أي من أجل ضربة تلك الحربة (عن فرسه مرارا) لما غشيه من مرارة الالم وحرارة الهم (وقيل بل كسر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقوة ضربه (ضلعا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 بكسر معجمة ففتح لام وتسكن أي واحدا (من أضلاعه) أي عظام أحد جوانبه (فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ يَقُولُ قَتَلَنِي مُحَمَّدٌ وَهُمْ يقولون لا بأس بك) وفي نسخة عليك (فقال لو كان ما بي) أي لو نزل مثل ما معي من الألم (بجميع النّاس لقتلهم) أي صار سببا لقتلهم (أليس قد قال أنا أقتلك) أي بقيد إن شاء الله تعالى (والله لو بصق عليّ) أي لو رمى بزاقه على بدني بقصد قتلي (لقتلني) أي ابرارا لكلامه وإظهارا لمرامه (فمات) أي أبي المسرف في عمره للاشتغال بكفره (بسرف) بفتح مهملة وكسر راء ففاء ممنوعا ويجوز صرفه مكان على ستة أميال من مكة كان فيه زواج ميمونة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في عمرة القضاء واتفق أنها ماتت به بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه قبرها وبني مسجد عليها (في قفولهم) بضم قاف ففاء أي رجوع الكفار من أحد وهو معهم وفي أصل الدلجي من رجوعه (إلى مكّة) ولا ينافيه ما ذكره البغوي في تفسيره أنه مات بمكة لأن سرف من توابعها هذا وقد قال النسفي في تفسيره ولم يقتل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده غيره انتهى وبالجملة فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أشجع الناس كما يومي إليه قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ مع ما ورد من إعطائه قوة ثلاثين رجلا وربما يقاوم بعض الرجال ألفا كبعض أصحابه من المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين بل له من القوة الإلهية التي تعجز عنها القوى البشرية والملكية هذا وقيل الشجاعة صبر ساعة وقيل الشجاع هو الذي يميز النصراني الذي يقصده هل هو أكحل الحدقة أو ازرقها عند المقابلة وقيل هو الذي يميز كيف أمسك عدوه الرمح وقيل هو الذي يأتي عدوه وهو يسير السير الرفيق الذي يسير به بين بيوت قومه ونقل عن بعض الشجعان أنه إذا رأى القوم مقبلين إليه نزل عن فرسه وتوسد حتى إذا وصلوا إليه نهض نحوهم وسألوه عن حالته في المطاعنة فقال ما ضربت قط برمي إلا وأنا أميز بين أن أضرب به قائم السن أو منبسطا وأتخير حيث أضرب وهذا نهاية الشجاعة والاقدام وقد سبق نزوله عليه الصلاة والسلام في أثناء محاربة الأقوام وقال مهلهل في هذا المرام. لم يطيقوا لينزلوا فنزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا فصل [وأما الحياء والإغضاء] (وأمّا الحياء) وهي حالة تعتري من له الحياة الكاملة وقال ابن دقيق العيد الحياة تغير وانكسار يعرض للإنسان لخوف ما يعاب به أو يذم عليه وقيل الحياء حالة تنشأ عن رؤية التقصير (والإغضاء) وهو لغة إرخاء الجفن إلى حيث يقارب الانطباق فهو دون الاغماض وقد يتوافقان معنى ومنه قوله تعالى إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ومنه قول الفرزدق في علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم (فالحياء رقّة تعتري وجه الإنسان) أي تغشاه والمعنى تظهر من باطنه على ظاهره (عند فعل ما يتوقّع) بصيغة المفعول أي عند إرادة فعل شيء يتوقع (كراهيته) وفي نسخة كراهيته بزيادة ياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 مخففة أو مشددة (أو ما) أي أو عند إرادة فعل شيء (يكون تركه خيرا من فعله) والأول حياء الابرار والثاني حياء الأحرار وإذا وصف به ربنا سبحانه وتعالى كما ورد في الكتاب والسنة فالمراد به الترك اللازم للانقباض، (والإغضاء التّغافل) أي التجاوز (عمّا يكره الإنسان بطبيعته) أي بسجيته لا بشريعته إذ المكروه شرعا هو الداعي إلى الدين فإن الدين النصيحة ولأن الحياء من العلم مذموم على ما في الرواية الصحيحة (وكان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أشدّ النّاس) أي أقواهم (حياء وأكثرهم) بالنصب (عن العورات) متعلق بقوله (إغضاء) وأخر مراعاة للسجع ونصب حياء وإغضاء على التمييز وآثر الحياء بالأشدية لكونه سببا للإغضاء والسبب أقوى من مسببه لكونه منشئه وبعض أثره والعورات بسكون الواو جمع عورة وهي كل ما يجب ستره إذ الغالب عند كشفها أدرك المعرة لمن انكشفت منه فهي عورة ما دامت منكشفة ومنه ما ورد اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا (قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ ذلِكُمْ) أي مكثكم في بيته مستأنسين لحديث بعضكم بعضا (كان يؤذي النبي) أي وأنتم ما تدركونه (فيستحي منكم) أي من اخراجكم (الآية) أي قوله تعالى وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي من إظهاره فلا يترك بيان إسراره وكفى به شاهدا للعقلاء في تأديب الثقلاء. (حدّثنا أبو محمّد بن عتّاب) بفتح مهملة وتشديد فوقية وقد تقدم ترجمته (رحمه الله) جملة دعائية (بقراءتي عليه) أي الحديث الآتي (ثنا) أي حدثنا (أبو القاسم حاتم بن محمّد) أي التميمي المعروف بابن الطرابلسي قرأ عليه أبو علي الغساني البخاري مرات (ثنا أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة (ثنا أبو زيد المروزيّ) بفتح الميم وسكون راء وفتح واو فزاء (ثنا محمّد بن يوسف) أي الفربري (ثنا محمّد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري (ثنا عبدان) بفتح مهملة وسكون موحدة فدال يقال إنه تصدق بألف ألف (ثنا عبد الله) أي ابن المبارك المروزي شيخ خراسان وقال الحلبي أبوه تركي مولى تاجر وأمه خوارزمية وقبره بهيت يزار ويتبرك به (انا) أي أَخْبَرَنَا (شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ) أي ابن أبي عتبة (مولى أنس) أي ابن مالك (يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه) كما في الصحيحين وأخرجه الترمذي في الشمائل وابن ماجه في الزهد (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أشدّ حياء من العذراء) بفتح المهملة فسكون المعجمة وبالراء والمد أي حياؤه أشد حياء من البنت العذراء وهي من لم تزل عذرتها أبي جلدة بكارتها (في خدرها) بكسر خاء معجمة وسكون دال مهملة أي حال كونها في داخل سترها فإنها حينئذ أشد حياء من غيرها وذهابه عنها عادة لمخالطتها ولذا نزل سكوتها منزلة إذنها في باب نكاحها ولو مع وليها؛ (وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ) أي عرفنا أنه كرهه بتغير وجهه ولو لم يتكلم بوجهه لأن وجهه مثل الشمس والقمر فإذا كره شيئا كسا وجهه ظل كالغيم عليهما (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم لطيف البشرة) بفتحتين أي رقيق الجلدة العليا أي يتغير بأدنى كراهة والجملة كالعلة المبينة للسابقة (رقيق الظّاهر) تأكيد لما قبله أي يسرع أثر الحياء عليه ولله در القائل: إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قل ماؤه أو معناه كان لينا سهلا رفيقا مهلا (لا يشافه) أي لا يواجه (أحدا بما يكرهه) أي لا يخاطبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 تصريحا بل يظهره تلويحا أو لا يخاطبه حاضرا ويؤيده ما سيأتي وأصل المشافهة هو المخاطبة من فيه إلى فيه ثم توسع فيه فقيل بمعنى واجهه ومنه حديث كلمه شفاها (حياء وكرم نفس) أي من أجل كثرة حيائه وكرم نفسه في سخائه وقد ورد أن الحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير وأنه شعبة من الإيمان، (وعن عائشة رضي الله عنها) كما رواه أبو داود (كان النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ مَا يكرهه) أي شيء لا يعجبه (لم يقل ما بال فلان) أي حاله وشأنه بتعيين اسمه أو وسمه أو رسمه (يقول كذا) أي أو يفعل كذا (ولكن يقول) أي منكرا له (ما بال أقوام) بصيغة الجمع لإفادة عموم الحكم له ولغيره مع الإبهام (يصنعون) أي يفعلون (أو يقولون) شك من الراوي أو أريد به تنويع الصنفين من الفعل والقول (كذا) إشارة إلى ما انكره (ينهى عنه) أي عما أنكره تلويحا (ولا يسمّي فاعله) أي تصريحا إذ المقصود المعتبر هو نهي المنكر لا خصوص فاعله من البشر. (وروى أنس) كما رواه أبو داود (أنّه) أي الشأن أو النبي عليه السلام (دخل عليه رجل) وهو غير معروف (به أثر صفرة) أي بعينه أو علامة من طيب كزعفران ونحوه (فلم يقل له شيئا) أي مشافهة (وكان لا يواجه أحدا) أي لا يقابله (بما يكره) أي حياء (فلمّا خرج) أي الرجل (قال) أي لأصحاب مجلسه (لو قلتم له يغسل هذا) أي الأثر الذي به لكان حسنا فالجواب مقدر ولو للتمني وقوله يغسل خبر معناه الأمر أو التقدير ليغسل (ويروى ينزعها) بكسر الزاء أي يزيلها أو يفسخ المتلطخ بها وإنما كرهها لأنها من زي النساء وحليهن وأما قول التلمساني ينزع بفتح الزاء لا غير فوهم بناء على ما هو المفهوم من القاموس أنه بكسر الزاء ومنه قوله تعالى يَنْزِعُ عَنْهُما بكسر الزاء اتفاقا نعم شرط الفتح موجود لكن لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط بخلاف عكسه كما هو مقرر في محله ثم اعلم أن هذه الأخلاق الحسنة والأوصاف المستحسنة كانت غالبة عليه وسجية داعية إليه فلا ينافيه ما وقع من النوادر لحكمة من إرادة الزواجر أو لبيان الجواز في الظواهر من حديث سواد بن عمرو قال اتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا متخلق فقال وَرْسٌ وَرْسٌ حُطَّ حُطَّ وَغَشِيَنِي بِقَضِيبٍ فِي يده الحديث كما أورده المؤلف في أواخر القسم الثالث والله تعالى أعلم (قالت عائشة رضي الله عنها) كما رواه الترمذي (في الصّحيح) أي من الحسن الصحيح في جامعه وشمائله (لم يكن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فحّاشا) أي ذا فحش في كلامه وهذا يدل على كثرة حيائه وشدة صفائه ويروى فحاشا أي ذا فحش فالصيغة للنسبة لا للمبالغة وأصل الفحش هو الخروج عن الحد والفواحش عند العرب القبائح (ولا متفحّشا) أي متكلفا له ولله درها إذ نفت عنه الفحش طبعا وتكلفا (ولا سخّابا) بتشديد الخاء المعجمة أي ولا صاحب رفع صوت (بالأسواق) لحسن خلقه وكرم نفسه وشرف طبعه وحيائه من ابناء جنسه ويروى في الأسواق وفيه احتراز عن المساجد لضرورة رفع صوته حال القراءة والخطبة ثم السوق أما من قيام الناس فيها على سوقهم وإما من سوق الأرزاق إليها (ولا يجزي) بفتح أوله وكسر الزاء وسكون الياء أي ولا يجازي (بالسّيئة السّيّئة) أي الواصلة إليه الحاصلة منه وسميت الثانية سيئة مشاكلة أو صورة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 لأنها خلاف الأولى لقوله سبحانه وتعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ كما حقق في قوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ومن هنا قالوا حسنات الأبرار سيئات الأحرار وهو في ذلك ممتثل لقوله تعالى فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (ولكن) وفي نسخة ولكنه (يعفو) أي يمحوها بالباطن (ويصفح) أي يعرض عن صاحبها بالظاهر أو يسامح عن الصغائر والكبائر مما ليس فيهما حق لأحد لقوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، (وقد حكي) بصيغة المفعول (مثل هذا الكلام) أي في نعت سيد الأنام عليه الصلاة والسلام (عن التّوراة من رواية ابن سلّام) بتخفيف اللام أحد الصحابة الكرام من علماء اليهود حيث دخل في الإسلام (وعبد الله بن عمرو بن العاص) أي ومن روايته أيضا وهو صحابي قرشي كان يطالع كتب العلماء الأعلام وقد جاء في رواية أنه رأى في منامه أن في إحدى يديه سمنا وفي الأخرى عسلا فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تحفظ الكتابين فحفظ القرآن والتوراة ولهذا سأله عطاء بن يسار عن صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة كما في الصحيح ولعل هذا قبل نزول قوله تعالى أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ فإن فيه الاكتفاء أو أن العسل فيه شفاء والسمن منه داء ودواء، (وروي عنه) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في الإحياء لكن لم يعرف العراقي وروده في الانباء (أنّه كان من حيائه لا يثبت) من التثبيت أو الاثبات أي لا يشبع (بصره في وجه أحد) أي ناظرا إليه لاستيلاء الحياء عليه (وأنّه كان يكنّي) بضم ياء وتشديد نون أو بفتح وتخفيف أي يلوح ولا يصرح ويعرض (عمّا اضطرّه الكلام إليه) أي عن شيء لا بد منه ولا يسعه السكوت عنه (ممّا يكره) بصيغة الفاعل لا المفعول كما ضبطه الحلبي أي مما لا يستحسن التصريح به تخلقا بأخلاق ربه واقتداء بآدابه في نحو أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ وقوله تعالى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وكقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث المستيقظ فإنه لا يدري اين باتت يده حيث لم يقل فلعل يده وقعت على دبره أو ذكره أو نجاسة في بدنه ونظائره كثيرة في الأحاديث الصحيحة ثم هذا فيما إذا علم أن السامع يفهم المقصود بالكناية وإلا لكان يصرح لينتفي اللبس والوقوع في خلاف المطلوب وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحا به والله أعلم، (وعن عائشة رضي الله عنها) كما رواه الترمذي في الشمائل (مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم قطّ) أي أبدا وهو يدل على كمال الحياء من الجانبين لكنها ما استفادت الحياء إلا من حياء سيد الاصفياء وفي رواية عنها ما رأيت منه ولا رأى مني بحذف المفعول وتريد العورة وهو نهاية المبالغة منها في باب حيائها حيث حذفت آلة الكناية عنها وفي الحديث أن من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت وأنشدوا: إذا لم تخشى عاقبة الليالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ثم الحياء محمود فيما يجب على الإنسان توقيه أو يكره له فعله ومذموم فيما يؤدي إلى ترك الواجب أو السنة. فصل [وأما حسن عشرته وآدابه] (وأمّا حسن عشرته) أي معاشرته ومخالطته مع أمته ولو لم يكونوا من عشيرته (وأدبه) الأدب طبيعي وهو ما جبل عليه الإنسان من الأخلاق السنية والأوصاف الرضية وكسبي وهو ما يكتسب من العلوم الدينية والأعمال الأخروية وصوفي وهو ضبط الحواس ومراعاة الانفاس ووهبي وهو حصول العلم اللدني وما يتعلق به من الكشف الغيبي وهو يجوز رفعه عطفا على المضاف وجره على المضاف إليه وهو الأحسن لحصول تسلط الحسن عليه وكذا قوله، (وبسط خلقه) أي نشر أخلاقه صلى الله تعالى عليه وسلم ومجمل حسن الخلق هو بسط المحيا وبذل الندا وتحمل الأذى وكمال الصدق والاتصاف بأخلاق الحق (مع أصناف الخلق) أي ليتوصل به إلى انقيادهم لدينه (فبحيث) بالفاء جواب أما أي فهو بمحل (انتشرت) أي كثرت واشتهرت (به) أي بما ذكر من الأمور الثلاثة (الأخبار الصّحيحة) وكذا الآثار الصريحة منها خبر الترمذي في شمائله (قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي وَصْفِهِ عليه الصّلاة والسّلام) أي في جملة ما منحه من الصفات الحميدة والنعوت السعيدة (كان أوسع النّاس صدرا) أي لا يمل ولا يضجر في الاحتمال مما يرد عليه من الأحوال واختلاف الخلق في الأقوال والأفعال وفي أصل الدلجي كان أجود الناس صدرا قال أي قلبا وفي رواية أوسع الناس صدرا وقال التلمساني أجود بخط المؤلف وأوسع بتصحيح العرفي انتهى لكن النسخ المعتمدة والأصول المصححة على ما قدمناه وهو الموافق لقوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وقوله تعالى أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وفسر الشراح بمعنى الانشراح والانفساح وقد ورد هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده فسئل هل لذلك من علامة فقال التجافي عن الدنيا والإقبال على العقبى والاستعداد للموت قبل نزوله (وأصدق النّاس لهجة) بفتح فسكون ويفتح أي وكان أصدقهم لسانا وبيانا وفيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأن الناس هم الصادقون في الأنفاس (وألينهم عريكة) أي وكان أسهلهم طبيعة سلسا منقادا هينا مطواعا (وأكرمهم عشرة) أي صحبة وخلطة. (حدّثنا أبو الحسن عليّ بن مشرّف) بفتح الراء المشددة (الأنماطيّ) بفتح فسكون نون (فيما أجازنيه وقرأته على غيره قال ثنا) أي حدثنا (أبو إسحاق الحبّال) بفتح مهملة وتشديد موحدة محدث مصر (حدّثنا أبو محمّد) بالتنوين أبدل منه (ابن النّحّاس) بتشديد الحاء المهملة يعني به عبد الرحمن بن عمر بن محمد ابن سعيد بن إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب النحاس المصري (ثنا ابن الأعرابيّ) أحد من رويت سنن أبي داود عنه (حدّثنا أبو داود) أي السجستاني صاحب السنن (ثنا هشام) أي ابن خالد بن يزيد وقيل زيد بن مروان (بن مروان) أي الأرزق الدمشقي (ومحمّد بن المثنّى) على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وزن المثنى هو المقري أبو موسى الحافظ وروى عنه البخاري ونحوه (قالا) أي كلاهما (ثنا الوليد بن مسلم) وهو أحد أعلام الشام روى عنه أحمد وغيره قيل صنف سبعين كتابا (ثنا الأوزاعيّ) روى عنه قتادة ويحيى بن أبي كثير شيخاه وهو إمام أهل الشام في زمنه وكان رأسا في العلم والعبادة واختلف في بيان نسبته ذكر التلمساني أن الإمام مالكا كان يقود دابته وهو راكبها وسفيان بن عيينة يسوقها وروي أنه أفتى في سبعين الف مسألة روى عن كبار التابعين كعطاء ومكحول وعنه قتادة والزهري ويحيى بن أبي كثير وهم من التابعين وليس هو من التابعين فهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر (سمعت يحيى بن أبي كثير) بفتح فكسر مثلثة أبو نصر اليماني روى عن أنس وجابر كليهما مرسلا وعن أبي سلمة وخلق (يَقُولُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أسعد بن زرارة) بضم زاء فراءين بينهما ألف وإلى المدينة روى عن شعبة وابن عيينة وطائفة وهو أسعد بالهمز وله أخ يقال له سعد بن زرارة (عن قيس بن سعد) أي ابن عبادة وهو أبو عبد الله الخزرجي وهو صاحب الشرطة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم روى عنه الشعبي وابن أبي يعلى وطائفة وكان ضخما مفرط الطول نبيلا جميلا جوادا سيدا من ذوي الرأي والدهاء والتقدم وهو أبو قيس سيد الخزرج وأحد النقباء الاثني عشر ليلة العقبة وكان شريف قومه ليس في وجهه شعر ولا لحية وكانت الأنصار تقول لوددنا لو نشتري لقيس لحية بأموالنا وكان مع ذلك جميلا وكان أسود اللون توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية (قال زارنا) أي إيانا أو واحدا منا (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) إذ كان من عادته تعهد أصحابه وتفقد أحبابه إذ حسن العهد من الإيمان وتمام الإحسان (وذكر) أي قيس (قصّة) أي طويلة (في آخرها) أي وكان في آخر تلك القصة قوله (فلمّا أراد) أي النبي عليه الصلاة والسلام (الانصراف) أي الرجوع إلى منزله وكان قد جاء على رجله قصدا لزيادة أجره (قرّب) بتشديد الراء أي قدم (له) وفي نسخة إليه (سعد حمارا) أي ليركبه تلطفا إليه وترحما عليه (وطّأ) بتشديد طاء فهمز أي رحل (عليه) أي فوق الحمار (بقطيفة) أي كساء له خمل ومنه تعس عبد القطيفة الذي يعملها ويهتم بتحصيلها (فركب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) إذ الذهاب إلى العبادة حقيقة العبادة بخلاف الأياب فإنه من ضروريات العادة ومنه تشييع الأكابر إلى الجنازة مشاة ورجوعهم ركبانا (ثمّ قال سعد) أي لولده (يَا قَيْسُ اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) بفتح الحاء أي كن في صحبته وخدمته وفي أصل الدلجي أصحبه والظاهر أنه أختصار منه غير لائق به كما فعل في كثير من مواضع كتابه (قال قيس فقال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اركب) أي أنت أيضا معي أو على دابة اخرى (فأبيت) أي امتنعت تأدبا معه أو حياء منه (فَقَالَ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ) بكسر إما فيهما (فانصرفت) أي فاخترت أهون الأمرين وأحسن الحكمين والحديث رواه أبو داود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة. (وفي رواية أخرى) أي لهما أو لأحدهما أو لغيرهما (اركب أمامي) بفتح أوله أي قدامي (فصاحب الدّابّة) أي ولو بالقوة (أولى بمقدّمها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 بفتح الدال المشددة وقد تخفف بالركوب في صدرها لما جاء في طرق متعددة صاحب الدابة وحق بصدرها وفي رواية إلا من اذن وفي أصل الدلجي أي بالركوب في صدرها لما جاء في طرق متعددة صاحب الدابة أحق بصدرها وفي رواية إلا من أذن وفي أصل الدلجي أحق بصدرها قال وفي رواية أولى بمقدمها وصنيعه هذا أيضا مخالف للأصول المعتمدة والنسخ المصححة؛ (وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) كما في شمائل الترمذي من حديث هند بن أبي هالة (يؤلّفهم) بتشديد اللام أي يوقع الألفة فيما بينهم ويجمعهم كما يستفاد من قوله تعالى فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وهو لا ينافي إسناد التأليف إلى الله تعالى في الآية بل ولو نفي التأليف ايضا في آية أخرى من قوله تعالى وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فإن الآيتين من قبيل قوله سبحانه وتعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أو المعنى كان يؤلفهم معه ويتألف بهم كما يشير إليه قوله تَعَالَى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ الآية ولما ورد المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف كما رواه أحمد في مسنده عن سهل بن سعد ورواه الدارقطني عن جابر ولفظه المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف (ولا ينفّرهم) بالتشديد وقيل بكسر الفاء المخففة أي لا يعمل شيئا مما ينفر عنه طباعهم فهو كالتأكيد لما قبله أو المعنى يبشرهم ولا ينفرهم لحديث يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا على ما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه (ويكرم كريم كلّ قوم) هو كالتخصيص بعد التعميم وفي حديث رواه ابن ماجة وغيره عن جماعة من الصحابة مرفوعا إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وفي رواية إذا أتاكم الزائر فأكرموه (ويولّيه) بتشديد اللام المكسور أي ويجعله واليا وأميرا (عليهم) ابقاء لما اختار والديهم (ويحذر النّاس) بفتح الذال المعجمة أي يخافهم وتفسيره قوله (ويحترس منهم) أي يحترز من مكر شرارهم لما ظهر في آثارهم فورد الحزم سوء الظن على ما رواه أبو الشيخ في الثواب عن علي كرم الله وجهه وفي رواية احترسوا من الناس بسوء الظن كما رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي عن أنس رضي الله تعالى عنه (من غير أن يطوى) أي يدفع ويمنع (عن أحد منهم بشره) بكسر الموحدة أي بشاشة وجهه (ولا خلقه) أي ولا طلاقة خلقه وزيادة لا لمبالغة نفيها، (يتفقد) وفي نسخة يتعهد (أصحابه) أي يطلبهم ويتجسس أحوالهم بالسؤال عنهم ليعرف المانع عن خدمته وملازمة حضرته منهم فيزور مريضهم ويدعو لغائبهم (ويعطي كلّ جلسائه) أي جميع من جالسه (نصيبه) أي حظه بسلام أو كلام أو طلاقة وجه والتفات خد أو إشارة وبشارة، (لا يحسب) بكسر السين وفتحها أي لا يظن (جليسه) أي مجالسه (أنّ أحدا) أي من جلسائه (أكرم عليه) أي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (منه) أي من ذلك الجليس بحسب حسبانه لما يناله من أنواع الألفة وأصناف المودة وأجناس الكرامة، (من جالسه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لمصاحبة ومكالمة (أو قاربه لحاجة) أي دينية أو أخروية وأو للتنويع لا للترديد ومن خبرية لا شرطية وقاربه مفاعلة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 القرب بالراء والباء وتصحف على الأنطاكي فقال أو قاومه أي قام معه كما يقال جالسه إذا جلس معه (صابره) أي انتظره صلى الله تعالى عليه وسلم وحبس نفسه على ما يريد صاحبه متصبرا (حتّى يكون) أي مجالسه أو مقاربه (هو) ضمير فصل والأصح أنه لا محل له (المنصرف عنه) بالنصب على خبر كان والمعنى بالغ في صبره حتى ينصرف مجالسه من تلقاء نفسه وهذا كله لقوله تعالى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ الآية (ومن سأله حاجة) أي طلب عطية (لم يردّه) بفتح الدال المشددة وتجوز ضمها لضم ما قبلها (إلّا بها) أي بالحاجة بعينها حيث قدر عليها أو بوعده لها وهو معنى قوله (أو بميسور من القول) كتسهيل رزق عملا بقوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ومن القول الميسور الدعاء له بتحصيلها أو بإزالة طلبها فأو على طريقة منع الخلو أي لا يخلو حاله إذا سئل عن احدهما إما عطاء ونقدا وإما دعاء ووعدا ثم قيل الميسور مصدر وقيل اسم مفعول (قد وسع النّاس) بالنصب أي عمهم وشملهم (بسطه) أي سرور ظاهره وطيب باطنه جودا ورحمة وحلما وعفوا ومغفرة وسلما أو انبساطه فقوله (وخلقه) تفسير له وعلى الأول تعميم بعد تخصيص (فصار لهم أبا) أي رحمة وشفقة وهو كما جاء في قراءة شاذة عند قوله تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أب لهم مع أن كل نبي أب لأمته بل هو أفصل وأكمل تربية من الأب لولده إذ الأب سبب لإيجاده والنبي باعث لإمداده وإسعاده ويشير إليه قوله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ (وصاروا) أي الناس كلهم (عنده في الحقّ) أي في مراعاة حقهم بحسن خلقه معهم (سواء) أي مستوين لعصمته من الأغراض النفسية الحاملة على خلاف التسوية، (بهذا) أي بما ذكر من الأوصاف البهية (وصفه ابن أبي هالة) وهو هند ربيبه من خديجة، (قال) أي ابن أبي هالة (وكان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (دائم البشر) أي متهلل الوجه وهو لا ينافي أنه كان كثير الأحزان لاختلاف الظاهر والباطن في العنوان فإنه بالظاهر مع الخلق وبالباطن مع الحق والحزن من لوازم الانكسار والذل والافتقار (سهل الخلق) أي لأصبعه (ليّن الجانب) بتشديد الياء المكسورة أي لا شديده (ليس بفظّ) أي سيىء الخلق في القول (ولا غليظ) أي في الفعل قال ابن عباس رضي الله عنهما الفظ الغليظ في القول وغليظ القلب في الفعل (ولا سخّاب) وفي رواية وكذا في نسخة بالصاد أي كثير الصياح (ولا فحّاش) أي ذا فحش في قوله وفعله، (ولا عيّاب) مبالغة عائب أي وكان لا يعيب على أحد ما يفعله من مباح وإذا كان حراما أو مكروها نهى عنه من غير تعييب وتعيير بل بقصد تبديل وتغيير قال التلمساني وهو والذي بعده فعال على النسب أي ليس بذي عيب ولا بذي مدح وليسا بفعال مبالغة للزوم بعض الأمر ومثله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي ليس بذي ظلم وإلا لزم بعضه قلت ليس هذا نظيرهما لأنهما على النسبة يستقيم في ذي عيب لا في ذي مدح كما لا يخفى (ولا مدّاح) مبالغة مادح أي لا يبالغ في مدح أحد بما يؤدي إلى اطراء ولا يمدح طعام ولا يذمه كما جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 في رواية لأنه كان شاكرا للنعمة لا ناظرا للذة ويؤيده قوله (يتغافل عمّا لا يشتهي) أي لا يحبه قولا وفعلا مما لا يترتب عليه إثم أصلا (ولا يؤيس) بضم ياء فسكون همزه وقد تبدل ففتح ياء من الإياس من باب الأفعال الذي هو متعد لأيس اللازم من المجرد والضمير في قوله (منه) راجع إليه صلى الله تعالى عليه وسلم والمعنى لا ييأس أحد من فيض وجوده وأثر كرمه وجوده وأما تجويز الدلجي كونه مبنيا للفاعل تبعا لبعض المحشيين وقوله والمعنى لا يؤيس من نفسه أو مما تغافل عنه أحدا بتغافله عنه بحيث لا يكون كذلك فهو مخالف لما في الأصول من صحة المبنى ومناف لما قدمناه من ظهور المعنى وجعل التلمساني قوله ولا يؤيس منه عطفا على لا يشتهى وقال أي ما لم يحضر في وقته ولم يحصله له فيه شهوة فيتركه ويغفله وإن كان مما يمكن حضوره في وقته ويوئس هو بضم أوله وسكون الواو ثم همزة مكسورة واليأس هو القنوط أي ما وجد مما يجوز له تناوله من المباح يستعمله وما لم يجده من ذلك لم يكن منه تكلف له قال ويفسر هذا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه كَانَ فِي أَهْلِهِ لَا يَسْأَلُهُمْ طَعَامًا وَلَا يشتهيه فإن أَطْعَمُوهُ أَكَلَ وَمَا أَطْعَمُوهُ قَبِلَ وَمَا سَقَوْهُ شرب الحديث انتهى وما فيه لا يخفى وقال الانطاكي بعد نقله عن الحلبي أنه ضبطه بكسر الهمزة وينبغي أن يجوز بضم أوله ثم بهمزة مفتوحة وياء مكسورة مشددة يقال آيس منه فلان مثل أيئس وكذا التأييس حكاه الجوهري انتهى وينبغي أن تكون الدراية تابعة للرواية كما لا يخفى، (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي سهلت أخلاقك لهم وكثر احتمالك عنهم والتقدير فبرحمة وما مزيدة للتأكيد كذا قالوا ولعلهم أرادوا تأكيد التعظيم المستفاد من تنوين التنكير المفيد للتفخيم ولا يبعد أن يكون ما إبهامية ورحمة تفسيرية والجمع بينهما أوقع للمراتب النفسية في إفادة القضية (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي سيئ الخلق (غَلِيظَ الْقَلْبِ) أي قاسيه على الخلق (لَانْفَضُّوا) أي تفرقوا (مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ) ولم ينتفعوا بقولك ولم يصيبوا من رحمتك وفضلك وطولك وأما بقية الآية وهي قوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فليست في نسخ الشفاء وإن كان شرحها الدلجي ومزجها بتفسيرها (وَقَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فُصِّلَتْ: 33] الآية) وهي تحتمل قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ واقتصر الدلجي عليها وقد قيل في معنى هذه الآية ادفع بكلمة التوحيد سيئة الشرك ويؤيده ما بعده من قوله سبحانه وتعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ وقيل ادفع بالطاعة المعصية أي إذا أعلمت سيئة فاتبعها حسنة تمحها كما ورد في الحديث مضمونة أو ادفع بالتوبة المعصية ويحتمل قوله تعالى وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي اصفح عنها وقابلها بالحسنة التي هي أحسن مطلقا وإن كانت المعاقبة بمثلها حسنة أيضا أو بأحسن ما يمكن أن يقابل به من الحسنات ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في أمر الديانات وتمام الآية فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ولا شك أن معنى الآية الثانية هو الملائم لباب حسن الخلق في معاشرة الخلق ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جاءه أعرابي فصيح فقال اصغ إلي أوصك ثم قال: فحي ذوي الأضغان تسلى نفوسهم ... تحيتك الحسنى فقد ترفع الثقل فإن هتفوا بالقول فاعف تكرما ... وإن خنسوا عنك الكلام فلا تسل فإن الذي يؤذيك منه استماعه ... كأن الذي قالوا وراءك لم يقل فقرأ عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فقال الأعرابي ليس هذا من كلام البشر وكان سبب إسلامه (وكان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه ابن سعد مرسلا (يجيب من دعاه) أي ولو بعد منزل الداعي ومأواه ولم يكن له مال ولا جاه تواضعا وشفقة على خلق الله وجبرا لخواطرهم وتألفا لظواهرهم وليقتدي به أمته مع معاشرهم من معاشرهم (ويقبل الهديّة) على ما رواه البخاري أيضا رعاية لزيادة المحبة وإفادة الوصلة والمودة وتفاديا من المباغضة والمقاطعة لما ورد تهادوا تحابوا على ما رواه أبو يعلى في مسنده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وفي رواية أحمد عنه تهادوا إن الهدية تذهب وحر الصدر أي غشه (ولو كانت) أي الهدية وهي فعيلة من الإهداء (كراعا) بضم أوله وهو مستدق الساق وهو أدون من الذراع وأما قول التلمساني أي ذا كرع فمفوت للمبالغة المطلوبة وروى البيهقي عن أنس ولفظه تهادوا فإن الهدية تذهب بالسخيمة أي الحقد ولو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلى كراع لقبلت ولو هنا للتقليل كما في حديث ردوا السائل ولو بظلف محرق واتقوا النار ولو بشق تمرة والتمس ولو خاتما من حديد (ويكافىء) بكسر الفاء بعدها همز وتسهل أي يجازي (عليها) أو على الهدية وأصل المكافأة المماثلة وهو أقل حسن المعاملة وكان يكافئ بأكثر منها لما سبق عن بنت معوذ ابن عفراء ولقوله تعالى وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها على أحد التفاسير فيها من أن المراد بالتحية هي الهدية وفي رواية البخاري ويثبت عليها من الإثابة وهو مطلق المجازاة أو المجازاة الحسنى لقوله تعالى فَأَثابَهُمُ اللَّهُ. (قال أنس رضي الله تعالى عنه خدمت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عشر سنين) أي بعد الهجرة ومبدأ عمره عشر سنين أيضا (فما قال لي أفّ) بفتح الفاء وكسرها وينون الثاني وفيها لغات عشر وهذه الثلاث عن السبعة ومعناه الاستقذار والاستحقار وقال الهروي يقال لكل ما يضجر منه ويستثقل ونقل أبو حيان فيها نحو الأربعين وجها من اللغة في الارتشاف وقد نظمها السيوطي (قطّ) أي أبدا في تلك المدة (وما قال لشيء صنعته) أي فعلته (لم صنعته ولا لشيء تركته) أي ما صنعته (لم تركته) وهذا الحديث كما يدل على حسن خلقه وكمال حلمه صلى الله تعالى عليه وسلم ونظره إلى قضاء الله وقدره يدل على كمال فضيلة أنس رضي الله تعالى عنه وجمال منقبته وجميل أدبه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 خدمته مع صغر سنه لكنها كلها مستفادة من بركة ملازمته ومداومة حضرته؟ (وعن عائشة رضي الله عنها) كما رواه أبو نعيم في دلائل النبوة بسند واه عَنْهَا (مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْسَنُ خُلُقًا مِنْ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) كما قال حسان: تراه إذا ما جئنه متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله (ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته) أي من أزواجه وذريته وأقاربه وأحبابه (إلّا قال لبّيك) أي تأدبا معهم وتعليما لهم وإحضارا لنداء ربه على لسان خلقه وقد ورد أدبني ربي فأحسن تأديبي على ما رواه ابن السمعاني عن ابن مسعود؛ (وقال جرير بن عبد الله) البجلي اليمني (ما حجبني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ما منعني عن الدخول عليه (قطّ) أي أبدا (منذ أسلمت) أي تلطفا معه وتعظيما بجنابه أن يرده عن بابه ويكسر خاطره بحجابه (ولا رآني إلّا تبسّم) لأنه كان مظهر الجمال مع كونه سيدا مطاعا عريض الجاه وسيع البال وقد بسط رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رداءه إكراما له. (وكان يمازح أصحابه) كما ذكره الترمذي في باب مزاحه صلى الله تعالى عليه وسلم مع أصحابه من الرجال والنساء والكبار والصغار ولذا كان ابن سيرين مداعبا ويضحك حتى يسيل لعابه وإذا أريد على شيء من دينه كان الثريا أقرب إليه من ذلك (ويخالطهم) أي تواضعا (ويحادثهم) أي يخاطبهم ويكالمهم تأنيسا (ويداعب صبيانهم) أي يلاعبهم ويمازحهم ومنه قوله لجابر هلا بكرا تداعبها وتداعبك ففي القاموس الدعابة بالضم اللعب وداعبه مازحه (ويجلسهم) بضم أوله أي يعقد صبيانهم (في حجره) بفتح الحاء وتكسر أي في حضنه تلطفا بهم وتطييبا لقلوب آبائهم (ويجيب دعوة الحرّ والعبد والأمّة) أي إذا كانا معتقين أو إذا جاآه وطلباه إلى منزل سيدهما (والمسكين) تواضعا لربه وتمسكنا لخلقه مع جلالة قدره ورفعة محله لحسن خلقه (ويعود المرضى في أقصى المدينة) أي ولو كانوا في أبعد منازلها (ويقبل عذر المعتذر) أي ولو كانت اعذاره ليست على تحققها وفي الحديث أنه قبل عذر من تخلف عن غزوة تبوك بحسب ما أبرزوا من أقوال ظواهرهم ووكل إلى الله أحوال سرائرهم، (قال أنس رضي الله تعالى عنه) كما رواه أبو داود والترمذي والبيهقي عنه (مَا الْتَقَمَ أَحَدٌ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) بضم الذال وسكونها فيه استعارة وضع اللقمة في الفم لوضع الفم عند الأذن أي ما جعل أحد أذنه محاذية لفمه ليحادثه مخافتة (فينحّي) من التنحية أي فيبعد (رأسه) وهو في حكم المستثنى أي إلا فيستمر ملقما له أذنه غير منحي عنه وجهه (حتّى يكون الرّجل) المانقم (هو) ضمير فصل (الذي ينحّي رأسه) في محل نصب على أنه خبر كان وحتى غاية لقوله فينحي رأسه (وما أخذ أحد بيده) أي مصافحة أو مبايعة (فيرسل) أي فيطلق (يده) من وضع الظاهر موضع المضمر أي إلا فتستمر يده في يد آخذها (حتّى يرسلها الآخر) بفتح الخاء المعجمة فراء نقيض الأول وفي أصل الدلجي بكسر خاء فذال معجمة وحتى غاية لتركها حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 يرسلها هو وهو تصحيف (ولم ير) بصيغة المجهول أي ولم بيصر حال كونه (مقدّما) بكسر الدال المهملة المشددة أي لم يعلم مقدما (ركبتيه بين يدي جليس له) أي فضلا عن أن يمد رجليه عند أحد من جلسائه وهذا كله تواضع وكمال تأدب وحسن عشرة (وكان) على ما في حديث ابن أبي هالة (يبدأ) أي يبتدىء وفي رواية يبدر بضم الدال والراء أي يبادر ويسبق (من لقيه بالسّلام) فإن هذه السنة أفضل من الفريضة لما فيه من التواضع والتسبب لأداء الواجب والضمير البارز له صلى الله تعالى عليه وسلم والضمير المستتر لمن ويحتمل العكس والأول أقرب إلى الأدب (ويبدأ أصحابه بالمصافحة) مفاعلة من الصاق صفحة الكف بالكف ويلزم منه مقابلة الوجه بالوجه عند اللقاء لأنها ملحوظة في معنى المصافحة خلافا لما يتوهم من كلام الدلجي ثم يستفاد من الحديث أن ما يفعله بعض العامة من مد الأصابع أو إشارة بعضها ليس على وجه السنة ثم رأيت التلمساني قال وصفتها وضع بطن الكف على بطن الأخرى عند التلاقي مع ملازمة ذلك على قدر ما يقع من السلام أو من السؤال والكلام أن عرض لهما وأما اختطاف اليد في أثر التلاقي فهو مكروه هذا وزاد الدلجي عن أبي ذر ما لقيته قط إلا صافحني وأسنده إلى أبي داود وهو ليس بموجود في النسخ المصححة والأصول المعتمدة (لم ير) أي كما رواه الدارقطني في غريب مالك وضعفه والمعنى لم يبصر أو لم يعلم (قطّ مادّا رجليه) أو إحديهما (بين أصحابه حتّى لا يضيق بهما على أحد) وهو كالعلة لتركه مدهما أي كان يترك مدهما حذرا من أن يضيق بهما على أحد من جلسائه شفقة عليهم وهو لا ينافي قصد تواضعه وإرادة أدبه معهم وفيه اقتباس من قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ أي ولو بلسان الحال تفسحوا في المجلس فافسحوا يفسح الله لكم، (يكرم من يدخل عليه) أي استئناسا والجملة وقعت استئنافا كما وقع ما قبلها ولعله فصلها عما قبلها حذرا من توهم كونها تتمة حديث سبقها (وربّما بسط له) أي فرش للداخل عليه (ثوبه) إكراما له منهم وائل ابن حجر الحضرمي ولعل المراد بثوبه رداؤه لقوله (ويؤثره) أي يقدمه على نفسه ويفرده (بالوسادة) أي بالجلوس عليها والاعتماد على المخدة (التي تحته) أي كانت تحته مفروشة إجلالا له وتكريما (ويعزم) أي يؤكد (عليه) أي على الداخل له (في الجلوس عليها) لدفع الوحشة وحصول المعذرة (إن أبى) أي امتنع من الجلوس عليها تأدبا لتلك الحضرة (ويكنّي) بتشديد النون (أصحابه) أي يجعل لهم كنى جمع كنية كأبي تراب وأبي هريرة وأم سلمة وهو من الكناية لما فيها من ترك التصريح بأسمائهم الاعلام وهو من آداب الكرام وأما أبو لهب فعدل عن اسمه عبد العزى كراهة لذكره أو تفاؤلا لمقره أو لاشتهاره به وأبعد من قال لتألفه (ويدعوهم بأحبّ أسمائهم) أي تارة أو المراد من الاسماء ما يعم الاعلام والألقاب والكنى والمعنى أنه لا ينبزهم بما يكرهونه بل يدعوهم بما يحبونه (تكرمة لهم) أي تكريما لهم وتعليما لهم في العمل بأصحابهم والتكرمة بكسر الراء وقول التلمساني بضم الراء وهم (ولا يقطع على أحد حديثه) أي بإدخال كلام في اثنائه قبل تمامه (حتّى يتجوّز) غاية لترك قطعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 حديثه إلى أن يتجاوز منه ويتعدى إلى ما لا يليق به وقال التلمساني أي يفرط ويكثر والأول هو الأظهر فتديره (فيقطعه) أي فحينئذ يقطع حديثه (بنهي) أي صريح له أو عام يشتمله (أو قيام) أي بتلويح والأول زجر له والثاني إعراض عنه وهو مفيد لنهيه عنه إذ لا يقر على مثله، (ويروى بانتهاء أو قيام، وروي) أي كما في الأحياء وفي نسخة وَرُوِيَ (أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْلِسُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وهو يصلّي) أي والحال أنه عليه الصلاة والسلام في صلاة من النوافل (إلّا خفّف صلاته) أي في إطالة صلاته (وسأله عن حاجته) أي دنيوية كانت أو أخروية (فإذا فرغ) أي عن قضاء حاجته (عاد إلى صلاته) أي المعتادة بالإطالة قال العراقي ولم أجد له أصلا، (وكان أكثر النّاس تبسّما) لكونه مظهر الجمال والبسط غالب عليه في كل حال وهذا معنى قوله (وأطيبهم نفسا) أي مستبشرا غير عبوس (ما لم ينزل عليه) بصيغة المجهول ويصح كونه للفاعل (قرآن) أي وحي متلو (أو يعظ) أي ما لم يعظ وينصح الناس ويعلمهم التأديب بالترغيب والترهيب (أو يخطب) أي في المنبر عند الجمع الأكبر فإنه حينئذ لم يكن متبسما ولا منبسطا بل كان يغلب عليه القبض لما فيه من مقال الإجلال بإظهار مظاهر ذي الجلال ففي كل مقام مقال ولكل مقال حال لأرباب الكمال (قال) أي على ما رواه أحمد والترمذي بسند حسن (عبد الله بن الحارث) وهو آخر من توفي من الصحابة بمصر والمراد به ابن جزء ابن عبد الله بن معدي كرب الزبيدي بضم الزاء وفي الصحابة من اسمه عبد الله بن الحارث أربعة عشر غيره على ما ذكره الحلبي وقال حديثه المذكور ههنا أخرجه الترمذي في المناقب من الجامع وهو في الشمائل أيضا (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن أنس) قال كما رواه مسلم (كان خدم المدينة) بفتحتين جمع خادم والمعنى خدام أهلها (يأتون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلّى الغداة) أي صلاة الصبح (بآنيتهم) متعلق بيأتون والباء للتعدية أي يجيئون بأوانيهم (فيها الماء فما يؤتى) بصيغة المفعول من أتى يأتي أي ما يجاء (بآنية إلّا غمّس) أي أدخل (يَدَهُ فِيهَا وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْغَدَاةِ الباردة) أي وهو مع ذلك لا يمتنع مما هنالك (يريدون به) أي يغمس يده فيها (التّبرك) أي طلب البركة وحصول النعمة وزوال النقمة وكمال الرحمة هذا وفي الحديث المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الذي يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. فصل [وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق] (وأمّا الشّفقة) أي الخوف على وجه المحبة (والرّأفة) وهي شدة الرحمة (والرّحمة) أي المرحمة العامة (لجميع الخلق) أي مؤمنهم وكافرهم وأنسهم وجنهم وقريبهم وغريبهم وفقيرهم وغنيهم حتى مماليكهم والحيوانات وسائر الموجودات وفي نسخة صحيحة بتأخير الرأفة عن الرحمة وهو الأنسب في مقام المرتبة لكن الأول أوفق بما جاء في التنزيل فهو أولى (فقد قال الله تعالى فيه) أي في حقه عليه الصلاة والسلام (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] ) كذا في أكثر النسخ وفي بعضها بعد قوله فيه عزيز الخ أي شديد شاق عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه فما مصدرية وعلى متعلق بقوله عزيز ويجوز أن يكون عزيز منقطعا عما بعده والمعنى عزيز الوجود عزيز الجود بديع الجمال منيع الجلال منبع الكمال ويكون عليه ما عنتم جملة خبرها مقدم وعلى للضرر أي ويضره ولا يهون عليه تعبكم ومشقتكم حريص عليكم أي على منفعتكم دينا ودنيا بالمؤمنين منكم ومن غيركم رؤوف رحيم في الدنيا والآخرة وقدم أبلغهما رعاية للفاصلة أو للتذييل والتتميم وقدم الجار لاختصاصهم برحمته في الأولى والعقبى (وَقَالَ تَعَالَى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ) لأنه أرسل لإسعادهم وصلاح معاشهم ومعادهم أن اتبعوه ولم يخالفوه (قال بعضهم) أي بعض العلماء وفصله عما قبله لاختلاف القائل قدما وحدوثا (من فضله صلى الله تعالى عليه وسلم أنّ الله تعالى أعطاه) أي من جملة ما فضل به على غيره ومما دل على كمال خيره أن الله تعالى أعطاه بخلقه سبحانه وتعالى فيه الرأفة والرحمة (اسمين من أسمائه) أي نعتين سماه بهما (فقال بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] ) وفي قراءة رؤوف بالقصر (وحكى نحوه) أي نقل مثل ما ذكر عن بعضهم (الإمام أبو بكر بن فورك) بضم فاء وسكون واو وفتح راء وكاف منون وقد يمنع بلغت تصانيفه في الأصلين ومعاني القرآن قريبا من مائة مصنف توفي سنة ست وأربعمائة (حَدَّثَنَا الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمّد الخشنيّ) بضم الخاء المعجمة وفتح الشين المنقوطة فنون فياء نسبة لقبيلة خشين (بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَبُو عَلِيٍّ الطّبريّ) بفتح الطاء المهملة والموحدة هكذا هو في الأصول المعتبرة والنسخ المعتمدة وقال الحلبي كذا وفي نسخة في الأصل الذي وقفت عليه إمام الحرمين ثنا أبو علي الطبري انتهى والطبري منسوب إلى طبرستان وقيل إلى طبرية (ثنا عبد الغافر الفارسيّ) بكسر الراء وهو النيسابوري صاحب تاريخ نيسابور وكتاب مجمع الغرائب والمفهم لشرح مسلم ولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة سمع جده لأمه أبا القاسم القشيري وتفقه على امام الحرمين ولزمه أربع سنين حدث عنه جماعة وروى عنه ابن عساكر بالاجازة (ثنا أبو أحمد الجلوديّ) بضم الجيم واللام وقد تقدم (ثنا إبراهيم بن سفيان) سبق ذكره (ثنا مسلم بن الحجّاج) أي صاحب الصحيح (ثنا أبو الطّاهر) روى عن ابن عيينة والشافعي وخلق وعنه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة (نا) أي انبأنا وفي نسخة أنا بمعنى أخبرنا (ابن وهب) أحد الأعلام سمع مالكا وغيره أخرج له أصحاب الكتب الستة طلب للقضاء فجنن نفسه وانقطع (نا) أي أنبأنا (يونس) أي ابن زيد الأيلي بفتح همزة وسكون تحتية روى عن عكرمة والزهري وعنه ابن المبارك وغيره قال الحلبي وفي يونس ست لغات ضم النون وفتحها وكسرها مع الهمزة وعدمه (عن ابن شهاب) أي الزهري (قال غزا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غزوة وذكر حنينا) بالتصغير أي وذكر ما يدل على أنه أراد بها حنينا وهو واد بين مكة والطائف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وراء عرفات على بضعة عشر ميلا من مكة وكانت غزوته في شوال سنة ثمان (قال) أي ابن شهاب (فأعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في تلك الغزوة من غنائمها (صفوان بن أميّة) تصغير أمة (مائة من النّعم) بفتحتين أي الإبل والبقر والشاة وقيل الإبل والشاة وهو جمع لا واحد له من لفظه وفي رواية من الغنم (ثمّ مائة ثمّ مائة) أي ثالثة تألفا إليه وشفقة عليه وانقاذا له من النار ولمن تبعه من الكفار، (قال ابن شهاب ثنا) أي حدثنا كما في نسخة (سعيد بن المسيّب) بفتح التحتية المشددة عند العراقين وهو المشهور وبكسرها عند المدنيين وذكر أن سعيدا كان يكره الفتح وهو إمام التابعين وسيدهم جمع بين الفقه والحديث والعبادة والورع روي عنه أنه صلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة وعنه أنه قال ما نظرت إلى قفاء رجل في الصلاة مذ خمسين سنة لمحافظته على الصف الأول وقال أيضا ما فاتتني التكبيرة الأولى مذ خمسين وكان يسمى حمامة المسجد وكان يتجر في الزيت (أنّ صفوان قال والله لقد أعطاني) أي رسول الله (ما أعطاني) أي الذي أعطانيه من المئين (وإنّه لأبغض الخلق إليّ) الجملة الحالية (فما زال يعطيني) أي بعد ذلك (حتّى أنّه) أي أنه عليه الصلاة والسلام صار الآن (لأحبّ الخلق إليّ) وذلك لعلمه عليه الصلاة والسلام أن دواءه من داء الكفر ذلك المبتج إسلامه إذ الطبيب الماهر يعالج بما يناسب الداء وقد رأى أن داء المؤلفة حب المال والأنعام فدواهم بأكرم الانعام حتى عرفوا من نقمة الكفر بنعمة الإسلام ثم اعلم أن الراوي إذا قدم الحديث على السند كَانَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم كذا وكذا أخبرني به فلان ويذكر سنده أو قدم بعض الإسناد مع المتن كهذا الحديث الذي نحن فيه فهو إسناد متصل لا يمنع ذلك الحكم باتصاله ولا يمنع ذلك من روى ذلك أي تحمله من شيخه كذلك بأن يبتدئ بالإسناد جميعه أولا ثم يذكر المتن كما جوزه بعض المتقدمين من أهل الحديث قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وينبغي أن يكون فيه خلاف نحو الخلاف في تقديم بعض المتن على بعض فقد حكى الخطيب المنع من ذلك على القول بأن الرواية على المعنى لا تجوز والجواز على القول بأن الرواية على المعنى تجوز ولا فرق بينهما في ذلك كذا ذكره الحلبي، (وروي) بصيغة المجهول وقد روى أبو الشيخ والبزار (أنّ أعرابيّا) وهو غير معروف (جاءه) أي أتى النبي عليه الصلاة والسلام (يطلب منه شيئا) أي من مطالب الدنيا (فأعطاه ثمّ قال) أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (أحسنت إليك) بهمزة ممدودة وسكون هاء لاجتماع همزة الاستفهام وهمزة الأفعال للتقرير وهو حمل المخاطب على الإقرار بأنه أحسن إليه وأنعم عليه، (قال الأعرابي لا) أي لا أعطيتني كثيرا ولا قليلا (ولا أجملت) أي ولا أتيت يا جميل أو ولا أوصلتني جميلا حيث لا أحسنت جزيلا وقيل معناهما واحد كرر للتأكيد وقيل ما أجملت ما أكثرت وهو أولى كما لا يخفى ولا يبعد من غلظته وجلفته لديه إن أراد بقوله ولا أجملت دعاء عليه ويؤيده قوله، (فغضب المسلمون وقاموا إليه) ليوافوه بما استحقه زجرا عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 (فأشار) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إليهم أن كفّوا) أي كفوا أو بأن كفوا بضم فتشديد أي امتنعوا عنه وكفوا أنفسكم منه شفقة عليه وإحسانا إليه (ثمّ قام) أي النبي عليه الصلاة والسلام (ودخل منزله) أي للاهتمام (وأرسل) وفي نسخة فأرسل (إليه وزاده شيئا) أي على ما قدمه عليه (ثمّ قال أحسنت إليك) كما سبق (قال نعم فجزاك الله به) أي بسبب ما أحسنت به إلى (من أهل وعشيرة خيرا) بالنصب على أنه مفعول ثان لجزى ومن تبعيضية والجملة اعتراض بين الفعل ومفعوله نصب على الاختصاص أو على الحال أي اخصك من بينهما أو حال كونك منهما، (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إنّك قلت ما قلت) أي شيئا عظيما مستهجنا قبيحا (وفي نفس أصحابي) أي وفي نفوسهم وفي أصل التلمساني وفي نفس أصحابي بصيغة المفرد (من ذلك) أي قولك (شيء) أي أمر عظيم وخطب جسيم (فإن أحببت) أي أردت إزالة ذلك (فقل بين أيديهم) أي عندهم (ما) وفي نسخة مثل ما (قلت بين يديّ) أي من المديح ليكون كفارة لذلك القبيح (حتّى يذهب) أي بقولك لهم ذلك (ما في صدورهم عليك) أي من الغضب لما صدر عنك فإن المعالجة بالاضداد، (قال نعم) أي أقول لهم ذلك. (فلمّا كان الغد) أصله غدو فحذفوا الواو بلا عوض (أو العشيّ) بفتح فكسر فتشديد وأو لشك الراوي (جاء) أي الأعرابي (فقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ قَالَ مَا قال) أي ما سمعتموه في أول الحال (فزدناه) أي بعض المال (فزعم أنّه رضي) أي به عنا (أكذلك) استفهام تقرير أي أحق ما نقلته عنك (قَالَ نَعَمْ فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خيرا) فكان المراد بالأهل هو الأخص أو الأعم والله أعلم. (فقال) أي النبي كما في نسخة صحيحة (صلى الله تعالى عليه وسلم: مثلي ومثل هذا) المثل بفتحتين في الأصل هو النظير ثم استعمل في القول السائر الممثل مضربه بمورده أي موضع ضربه بموضع وروده فالمورد هو الحالة الأصلية التي ورد فيها كحالة المنافقين والمضرب هو الحالة المشبهة كحالة المستوقد نارا ولا يضرب إلا بما فيه غرابة زيادة في التوضيح والتقرير فإنه أوقع للنفس وأقمع للخصم ويريك المخيل محققا والمعقول محسوسا ثم استعير لما له شأن عجيب وفيه أمر غريب من صفة أو حال أو قصة نحو مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ولله المثل الأعلى ومثل الجنة التي وعد المتقون وأمثالها والمعنى هنا شبهي وشبه العجيب الشأن والغريب البيان (مثل رجل له ناقة شردت عليه) أي نفرت وذهبت في الأرض عنه أو غلبت عليه (فأتبعها النّاس) من الاتباع أو الاتباع أي فتبعوها ليلحقوها (فلم يريدوها إلّا نفورا) أي تنفرا منهم وتبعدا عنهم (فناداهم صاحبها خلّوا بيني وبين ناقتي) أي اتركوني معها (فإنّي أرفق بها) أي أشفق عليها (منكم وأعلم) أي بحالها وطبعها وطريق أخذها (فَتَوَجَّهَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا فَأَخَذَ لَهَا مَنْ قمام الأرض) بضم القاف وتخفيف الميم جمع قمامة وهي في الأصل الكناسة أريد بها ههنا ما تلقمه من الأرض فتأكله شبه بالكناسة لخسته فاستعير له اسمها لمشاركة صفته (فردّها) أي طمعها إليه (حتّى جاءت واستناخت) أي طلبت البروك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وهو بنون قبل الألف وخاء معجمة بعدها يقال أناخ الجمل فاستناخ أي بركه فبرك (وشدّ عليها رحلها) أي ربط عليها قتبها (واستوى عليها) أي استقر عليها جالسا (وإنّي لو تركتكم حيث قال الرّجل) أي حين قوله (ما قال) أي شيئا قاله أو لا (فقتلتموه دخل النّار) أي عقوبة له بما ظهر من الكفر في اساءة أدبه معه صلى الله تعالى عليه وسلم فكان حسن ملاطفته وزيادة عطيته سببا لإرضائه وباعثا لتوبته فهو أرفق بأمته وأعلم بحالهم منهم فإنه بهم رحيم وبدوائهم حكيم ومما يناسب المقام ويلائم المرام ما روي عن خوات بن جبير من الصحابة الكرام أنه قال نزلت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمر الظهران فإذا نسوة يتحدثن فأعجبتني فأخرجت حلة من عيبتي فلبستها وجلست إليهن فمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فهبته فقلت يا رسول الله جمل لي شرود وأنا ابتغي له قيد والله فمضى وتبعته فألقى على ردائه ودخل الاراك فقضى حاجته وتوضأ ثم جاء فقال يا أبا عبد الله ما فعل شراد جملك ثم ارتحلنا فجعل كلما لحقني قال السلام عليك يا أبا عبد الله ما فعل شراد جملك فتعجلت المدينة وتركت مجالسته والمسجد فطال ذلك علي فتحينت خلو المسجد ثم دخلت فطفقت أصلي فخرج من بعض حجره فصلى ركعتين خففهما وطولت رجاء أن يذهب عني فقال طول أبا عبد الله ما شئت فلست ببارح حتى تنصرف فقلت والله لأعتذرن إليه فانصرفت فقال السلام عليك يا أبا عبد الله ما فعل شراد الجمل فقلت والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ اسلمت فقال رحمك الله مرتين أو ثلاثا ثم لم يعد. (وروي عنه) بصيغة المجهول وهو مروي من طريق أبي داود عنه (أنّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ) من التبليغ أو الإبلاغ كما قرئ بهما في السبعة قوله تعالى أُبَلِّغُكُمْ وهو يحتمل النهي والنفي وهو بمعنى النهي كما هو أبلغ أي لا يوصلني أحد منكم بأن ينقل (عن أحد من أصحابي شيئا) أي مما ينكر فعله من أيهم كان من أي وقت كان وهذه النكرات وردت في حيز نفي متوشحة بنهي فعمت جميع الأصحاب والأوقات والأشياء مكروهة أو حراما بشهادة المقام إذ لا يتعلق نهى بماح ومأذون فيه (فإنّي أحبّ أن أخرج) أي من الدنيا (إليكم وأنا سليم الصّدر) جملة حالية وفيه إيماء إلى قوله تعالى إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي سالم من الغش والحقد للخلق ومن الغفلة عن ذكر الحق. (ومن شفقته على أمّته عليه الصلاة والسلام تخفيفه) أي عنهم أعباء التكاليف (وتسهيله عليهم) أي وتهوينه بما يقوي قلوبهم عليه من الترغيب والترهيب. (وكراهته) أي لهم (أشياء مخافة أن تفرض) أي تلك الأشياء (عليهم) ومخافة منصوب على العلة للأفعال الثلاثة وفي نسخة بدلها خوف أن تفرض عليهم وهذا حكم إجمالي أو رد لكل ما يناسبه جمعا وتقسيما (كقوله) على ما رواه الشيخان (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مع كلّ وضوء) أي أمر وجوب فيؤخذ استحبابه في كل حال ولو كان للصائم بعد الزوال فإن لولا لامتناع الشيء لوجود غيره والمعنى امتنع الأمر بالفريضة لوقوع المشقة. (وخبر صلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 اللّيل) بالجر وهو الصحيح وفي نسخة بالرفع على أنه مبتدأ خبره يأتي ولعله أراد به ما رواه الشيخان في قيام الليل من خبر خذوا من العمل ما تطيقون إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يريد يستغفر الله فيسب نفسه وما روياه في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص حيث قال وأما أنا فأرقد وأقوم وأصلي ومنعه عن قيام الليل كله وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم خرج ليلة في شهر رمضان فصلى بالقوم عشرين ركعة واجتمع الناس في الليلة الثانية فخرج وصلى بهم فلما كانت الليلة الثالثة كثر الناس فلم يخرج وقال عرفت اجتماعكم لكن خشيت أن نفرض عليكم (ونهيهم) بالوجهين أي ونهيه إياهم (عن الوصال) كما روياه وهو أن لا يفطر أياما متوالية؛ (وكراهته) أي لأجلهم (دخول الكعبة) أي دخوله فيها على ما رواه أبو داود وصححه الترمذي (لئلّا تتعنّت أمّته) من الاتعاب وهو الإيقاع في التعب والمشقة وفي نسخة لئلا تتعب أمته بفتح التاء والعين ورفع أمته وفي نسخة صحيحة لئلا يعنت من أعنت غيره إذا أوقعه في العنت وهو المشقة وفي نسخة بتشديد النون المكسورة؛ (ورغبته لربّه) أي دعاؤه إياه على طريقة الميل والرغبة (أن يجعل سبّه) أي شتمه عليه الصلاة والسلام (ولعنه لهم) أي بأن دعا عليهم بالطرد والبعدان صدر شيء منهم لبعضهم أو لكلهم (رحمة بهم؛ وأنّه) ضبط بالكسر والفتح وهو الأظهر أي ومن شفقته عليهم كما وراه الشيخان أنه (كان يسمع بكاء الصّبيّ) أي الصغير والبكاء يمد ويقصر (فيتجوز) أي فيقتصر ويخفف ويتعجل (في صلاته) أي المعقودة للجماعة رحمة لهم وحذرا من ذهاب خشوع من صلى معه من والديه. (ومن شفقته صلى الله تعالى عليه وسلم أن دعا ربّه) أي سأله (وعاهده) أي وأخذ عهده سبحانه وتعالى فيما بينه وبينه (فقال أيّما رجل) وكذا حكم المرأة تبعا (سببته أو لعنته) ليس أو للشك بل للتنويع (فاجعل ذلك له زكاة) أي نماء وبركة يتبارك بها (ورحمة) أي ترحما بها (وصلاة) أي ثناء أو بعادة وقال الدلجي عطف تفسير إذ هي منه تعالى رحمة وقال الأنطاكي عطف الصلاة على الرحمة وإن كانت في معناها لتغاير اللفظ ولا يخفى أن ما اخترناه هو السديد لأن التأسيس أولى من التأكيد (وطهورا) يتطهر به وجعله الدلجي أيضا من باب التأكيد حيث فسر الزكاة بالطهارة خلافا لما قدمناه (وقربة) أي وسيلة (تقرّبه بها إليك يوم القيامة) قال الدلجي إنما أعاده لما فيه من الزيادة أقول وكان الأولى للمصنف أن يجمعهما من غير فصل بينهما واعلم أن أول الحديث اللهم إن محمدا بَشَرٌ يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ وَإِنِّي قَدِ اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه فأيما رجل سببته أو لعنته الحديث قيل وإنما يكون دعاؤه عليهم رحمة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن اهلا للدعاء عليه والسب واللعن بأن كان مسلما كما جاء في الحديث كذلك في بعض الروايات فأيما رجل من المسلمين سببته الحديث وإلا فقد دعا صلى الله تعالى عليه وسلم على الكفار والمنافقين ولم يكن ذلك رحمة بلا شبهة فإن قيل كيف يدعو صلى الله تعالى عليه وسلم على من ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 بأهل للدعاء عليه أو سبه أو لعنه فالجواب أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب له فيظهر له صلى الله تعالى عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية وهو مأمور بحكم الظواهر والله يتولى السرائر (ولمّا كذّبه قومه) أي ومما يدل على كمال شفقته على أمته حديث الشيخين أنه لما كذبه قريش من كفار مكة (أتاه جبريل عليه السّلام) أي تسلية لحاله وتسكينا لتألمه (فقال له إنّ الله قد سمع قول قومك لك) أي لأجلك (وما ردّوا عليك) أي من تكذيب وغيره في حقك وقيل المعنى وما أجابوك وذلك لأنه سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه مسموع إلا أن سمعه صفة تتعلق بالمسموعات من غير جارحة على هيئة الموجودات فإنه سبحانه وتعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فنزه سبحانه وتعالى أولا عن التشبيه والتمثيل ثم أثبت ردا على أهل التعطيل (وقد أمر ملك الجبال) أي أذنه بالانقياد لك (لتأمره) أي لأجل أن تأمره (بما شئت فيهم) أي فيطيعك في حقهم (فناداه ملك الجبال) أي فحضره الملك وناداه باسمه أو بوصف من أوصافه (وسلّم عليه) الواو لمطلق الجمع لمناسبة تقديم السلام على النداء والكلام (وقال مرني بما شئت) أي في قومك وحذف مفعوله للتعميم ثم خصص بقوله (إن شئت أن أطبق) بضم الهمزة وكسر الموحدة أي أوقع وأرمي (عليهم الأخشبين) أي فعلت وفي أصل الدلجي أطبقت وهو الأوفق لكنه مخالف للأصول المصرحة والنسخ المصححة والمراد بالأخشبين وهو بالخاء والشين المعجمتين فموحدة تثنية الأخشب وهو الجبل الخشن وأنشد أبو عبيدة: كان فوق منكبيه أخشبا ... جبلان مطبقان بمكة قيل هما أبو قبيس وقعيقعان أو الجبل الأحمر الذي أشرف على قعيقعان وعن ابن وهب هما جبلان تحت عقبة مني فوق المسجد (قال) وفي أصل الدلجي فقال (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بل أرجو) أي لا أريد استئصالهم بل أتوقع (أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الله وحده) أي منفردا (ولا يشرك به شيئا) أي شيئا من الإشراك لا جليا ولا خفيا والجملة الثانية كالمؤكدة لما قبلها ويمكن اعتبار مغايرتها لها وما ذاك إلا لكونه رحمة للعالمين وقد أمضى الله سبحانه وتعالى رجاءه فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا لهم بالخير ولو بواسطة تحمل الضير. (وروى ابن المنكدر) تقدمت منقبته وأنه تابعي جليل فالحديث مرسل إلا أنه ليس مما يقال بالرأي فيكون له حكم الموصول كما قالوا في موقوف الصحابي بهذا المعنى إنه يكون في حكم المرفوع لا سيما ويعضده الحديث السابق المروي في الصحيحين والحاصل أنه روي (أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ السَّمَاءَ والأرض والجبال أن تطيعك) أي بإطاعتك فمرها بما شئت فقال (أؤخّر عن أمّتي) أي العذاب الذي استحقوه بكفرهم (لعلّ الله أن يتوب عليهم) أي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 بعضهم بتوفيق إيمانهم أو يخرج مؤمنا من أصلابهم؛ (قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «مَا خُيِّرَ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا) أي أهونهما كما اختار تأخير العذاب عن أمته كما صرح به صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الأول بقوله بل للاضراب عما خير فيه من الاطباق وعدمه وحديث عائشة رضي الله تعالى عنهما سبق الكلام عليه وذكر السيوطي في جامعه الصغير برواية الترمذي والحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ ما خير بين أمرين إلا اختيار ارشدهما هذا وما أحسن ما قيل في المداراة: ودارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم وقوله: ما دمت حيا فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة من يدر داري ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديما للندامات (وقال ابن مسعود) أي فيما رواه الشيخان (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتخوّلنا) بالخاء المعجمة أي يتعهدنا (بالموعظة) أي بالنصائح المفيدة وقيل هو تخويف بسوء العاقبة وقال أبو عمرو بن الصلاح والصواب بالمهملة أي يتحرى الحال التي ينشطون فيها للموعظة فيعظم فيها ولا يكثر عليهم فيملوا منها ورواه الأصمعي يتخوننا بالنون بدل اللام مع الخاء المعجمة بمعنى يتعهدنا (مخافة السّامة) بهمزة ممدودة أي الملالة (علينا؛ وعن عائشة: أنّها ركبت بعيرا) بفتح أوله ويكسر أي جملا (وفيه صعوبة فجعلت تردّده) أي من الترديد وهو الرد بالتشديد (فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليك بالرّفق) أي الزمي اللطف مع كل شيء في كل حال والباء زائدة والمعنى استعملي الرفق وقد ورد مرفوعا ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه كما رواه عبد بن حميد والضياء عن أنس رضي الله تعالى عنه وفي صحيح مسلم بروايته عن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا مرفوعا ولفظه عليه بالرفق أن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه وروى البخاري في تاريخه عنها أيضا عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش. فصل [وأما خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء] (وأمّا خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء) أي القيام بمقتضى الوعد (وحسن العهد) أي وفي تهد العقد ومراعاة الوجد (وصلة الرّحم) بالإحسان إلى ذوي القرابة خصوصا (فَحَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَامِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بقراءتي عليه) والقراءة أحد وجوه الرواية على اختلاف في أنها الأفضل أو السماع من الشيخ هو الأكمل وتحقيق الفصول في الأصول (قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) وفي نسخة ابن أحمد (حدّثنا أبو إسحاق الحبّال) بفتح مهملة فتشديد موحدة (حدّثنا أبو محمّد بن النّحّاس) بفتح نون وتشديد مهملة (حدّثنا ابن الأعرابي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 حدّثنا أبو داود) أي صاحب السنن (حدّثنا محمّد بن يحيى) إمام جليل نيسابوري روى عن ابن مهدي وعبد الرزاق وعنه البخاري والأربعة وغيرهم ولا يكاد يفصح البخاري باسمه لما جرى بينهما قال أبو حاتم هو إمام أهل زمانه (حدّثنا محمّد بن سنان) بكسر أوله مصروف روى عنه البخاري وغيره (حدّثنا إبراهيم بن طهمان) بفتح مهملة وسكون هاء وهو أبو سعيد الخراساني يروي عن سماك بن حرب وثابت البناني وعنه ابن معين وخلق وثقه أحمد وأبو حاتم وكان من أئمة الإسلام فيه إرجاء أخرج له اصحاب الكتب الستة (عن بديل) بضم موحدة وفتح دال مهملة وسكون تحتية فلام وهو ابن ميسرة العقيلي يروي عن أنس وجماعة وعنه شعبة وحماد بن زيد (عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شقيق) وفي نسخة أبي شقيق (عن أبيه) أبوه هو عبد الله بن شقيق وهو عقيلي بصري يروي عن عمر وأبي ذر وعنه قتادة وأيوب وثقه أحمد وغيره (عن عبد الله عن أبي الحمساء) بمهملتين بينهما ميم ساكنة فألف ممدودة وفي نسخة بخاء معجمة فنون وهو تصحيف كما قال الحلبي وقال التلمساني وهو الأكثر في الرواية والصواب بالميم وفي نسخة عن أبي الحمساء وأبو الحمساء لا إسلام له ولا رواية (قال بايعت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ببيع) أي بعقد بيع لا بعهد بيعة (قبل أن يبعث) أي بالرسالة (وبقيت له بقيّة) إما من الثمن أو المثمن فإن البيع من الأضداد (فوعدته) وفي نسخة وهي الأظهر فواعدته (أن آتيه بها) أي أجيئه بالبقية (في مكانه) أي الذي صدر فيه البيع أو غيره (فنسيت) أي أن آتيه بها (ثمّ ذكرت بعد ثلاث) أي ثلاث ليال أو ثلاثة أيام ولم يلحق التاء به لحذف مميزه وقيل المراد الليالي بأيامها والليل سابق والحكم للسابق وأبعد من قال ويحتمل ثلاث ساعات وأغرب التلمساني بقوله وهو الأقرب ووجه الغرابة أن الانتظار ثلاث ساعات مما لا يستغرب (فجئت) وفي نسخة فجئته بإبراز ضميره (فإذا هو في مكانه) أي مكان وعده (فقال يا فتى لقد شققت علّي) أي أوقعت المشقة علي وثقلت علي (أنا ههنا منذ ثلاث) يفيد أنه ما تحول من مكانه ذلك (أنتظرك) أي لتأتيني هنالك وهذا من جملة أخلاق جده إسماعيل عليه السلام حيث قال تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ قال مجاهد لم يعد شيئا إلا وفى به وقال مقاتل وعد رجلا أن يقيم مكانه عليه السلام حتى يرجع إليه الرجل فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى رجع إليه الرجل وقال الكلبي انتظره إسماعيل حتى حال عليه الحول. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) كما رواه البخاري في الأدب المفرد (كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) الظاهر إن كان للاستمرار الغالبي أو لمجرد الربط التركيبي (إذا أتى) أي جيء (بِهَدِيَّةٍ قَالَ اذْهَبُوا بِهَا إِلَى بَيْتِ فُلَانَةَ) كناية عن علم امرأة وهي هنا لا تعرف من هي (فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةً لِخَدِيجَةَ إِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ خديجة) وهو للتأكيد إذ تفيد الجملة الأولى أن خديجة كانت تحبها أيضا او فيه الحث على البر والصلة وحسن العهد؛ (وعن عائشة رضي الله عنها) كما في الصحيحين (قالت ما غرت) بكسر غين معجمة وسكون راء وفي نسخة صحيحة قالت ما غرت (على امرأة) أي من نساء النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 صلى الله تعالى عليه وسلم (ما غرت) أي كغيرتي (على خديجة لما كنت) علة لغيرتها أي لأجل كوني دائما (أسمعه) أي اسمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يذكرها) أي ذكرا جميلا وثناء جزيلا قال الطبري وغيره الغيرة من النساء مسموح لهن ومفسوح في أخلاقهن لما جبلن عليه وأنهن لا يملكن عندها أنفسهن ولهذا لم يزجر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عائشة عليها ولا رد عليها عذرها لما علم من فطرتها وشدة غيرتها قال الزبيدي والعامة تكسرها والصواب فتحها، (وإن كان) بكسر الهمزة على أن أن مخففة من المثقلة أي وأنه عليه الصلاة والسلام كان (ليذبح الشّاة) بفتح اللام وهي المسماة بالفارقة نحو قوله تعالى وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً (فيهديها) بضم الباء أي فيرسلها هدية (إلى خلائلها) جمع خليلة أي صدائقها لكل واحدة منها قطعة (واستأذنت عليه أختها) أي طلبت الإذن في الاتيان إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أخت خديجة وهي هالة بنت خويلد بن أسد أم أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنته صلى الله تعالى عليه وسلم واسمه لقيط بن الربيع ذكرها ابن منده وأبو نعيم في الصحابة (فارتاح لها) وفي نسخة صحيحة إليها أي فرح بمأتاها وأكرمها ورحب بها ونظر إليها، (ودخلت عليه امرأة) أي أخرى في وقت آخر (فهشّ لها) بتشديد شين معجمة أي فرح بها واستبشر منها (وأحسن السّؤال عنها) لزيادة الاستيناس بها بسبب طول عهدها (فَلَمَّا خَرَجَتْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خديجة) أي في زمانها (وإنّ حسن العهد من الإيمان) وفي الجامع الصغير أن حسن العهد من الإيمان رواه الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا، (ووصفه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بعضهم) أي بعض السلف (فقال كان يصل ذوي رحمه) أي يحسن إليهم ويعطف عليهم وإن بعدوا عنه أو أساؤوا إليه (من غير أن يؤثرهم) أي يختارهم ويفضلهم (على من هو أفضل منهم) أي من غيرهم عدلا منه وإعطاء لكل ذي حق حقه لقوله تعالى يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ولقوله سبحانه وتعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فلا يفضل أحد بني هاشم أو غيرهم على عالم من علماء الدين وأكابرهم كما يستفاد من حديث الشيخين الذي ذكره بقوله. (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم إنّ آل بني فلان) وفي أصل الحجازي أن آل بني فلان ثم قال وفي بعض النسخ أن آل أبي فلان قال ابن قرقول وهو المشهور انتهى وقال بعضهم أن آل بني فلان غلط بل هو آل أبي فلان والمراد الحكم بن أبي العاص وقال بعضهم هو أبو العاص بن أمية بن شمس بن عبد مناف كنى عنه الراوي حذرا من آل بني أمية إذ كانوا حينئذ أمراء (ليسوا لي بأولياء) وقال ابن قرقول وفي الحديث المشهور أن آل أبي ليسوا أولياء قال وبعد قوله أبي بياض في الأصول كأنهم تركوا الاسم تورعا أو تقية وعند ابن السكن أن آل أبي فلان كنى عنه بفلان انتهى ولا يخفى أن قوله تورعا لا وجه له إذ نص صلى الله تعالى عليه وسلم على اسمه ثم على تقدير آل أبي فلان لا يبعد أن يكون كناية مبهمة ليشمل جميع أقاربه وقد يحمل عليه رواية آل أبي من غير فلان إذ الظاهر أن المقصود ليس منحصرا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 جميع قريبه دون غيرهم كما يدل عليه عموم قوله ليسوا لي بأولياء أي حقيقة حتى أواليهم صداقة لقوله تعالى إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ولقوله سبحانه وتعالى فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ هذا وقد قال التلمساني والذي لم يسم ذلك يحتمل عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويجوز غيره وهو أولى وراوي الحديث هو عمرو بن العاص وفي بعض الروايات قال سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جهارا غير سر يقول إن آل أبي سفيان ليسوا لي بأولياء ثم ساق الحديث ومعنى الحديث من كان غير صالح تقي فليس بولي لي وإن قرب نسبه مني (غير أنّ لهم) أي لآل أبي فلان (رحما) أي قرابة (سأبلّها) بضم موحدة ولام مشددة أي سأصلها وأراعيها وأقوم بحقها (ببلالها) بكسر الموحدة وفتحها قال البخاري في صحيحه وبلالها أصح يعني بكسر الباء قال وبلالها يعني بفتحها لا أعرف له وجها وسقط كلام البخاري هذا من الأصل الأصيل انتهى والبلال جمع بلل وهو ما يبل به الحلق من ماء أو لبن وفيه استعارة ومعناه أن القطع حرارة كالنار والوصل برودة كالماء وهو يبرد حرارة القطيعة ويطفئها أي أصلها في الدنيا ولا أغني عنهم من الله شيئا في العقبى شبهت قطيعتها بالحرارة تطفأ بالماء وتندى بالصلة ومنه حديث بلوا ارحامكم ولو بالسلام كما رواه البزار والطبراني والبيهقي أي صلوها كما في رواية. (وقد صلّى عليه الصّلاة والسّلام) كما رواه الشيخان (بأمامة) بضم الهمزة (ابنت ابنته زينب) أي بنت أبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس من بنته صلى الله تعالى عليه وسلم (يحملها على عاتقه) جملة حالية وفي نسخة صحيحة فجعلها على عاتقه وقال التلمساني يحملها بفتح الميم وكسرها معا إلا أن الفتح أفصح وروي فحملها على عاتقه والعاتق ما بين المنكب والكتف (فإذا سجد) أي اراد أن يسجد (وضعها) أي على الأرض بعمل يسير (وإذا قام) أي أراد القيام (حملها) وهذا بيان لكيفية صلاته بها ومثل هذا لا يشغل أرباب الكمال عما هم فيه حسن الحال حيث وصلوا إلى مرتبة جمع الجمع الذي لا تحوم حولهم التفرقة بأن لا تمنعهم الوحدةة عن الكثرة ولا الكثرة عن الوحدة فهم كائنون بائنون قريبون غريبون عرشيون فرشيون بحسب الأرواح اللطيفة والأشباح الشريفة كما قال قائلهم: رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر فالذي ما زاغ بصره وما طغى فيما رأى من آيات ربه الكبرى كيف يشغل قلبه عن ربه قطعه من لحمه ولكن هذا مشرب ارباب السرائر دون مذهب أصحاب الظواهر وقد علم كل اناس معراج مشربهم وسلك كل طائفة منهاج مذهبهم قال الخطابي وإسناد وضعها وحملها في كل خفض ورفع فيها إليه مجاز لأنه يشغله عن صلاته وإنما كانت قد ألفته وأنست به فإذا سجد جلست على عاتقه فلا يدفعها فتبقى محمولة إلى ان يركع فيرسلها إلى الأرض فإذا كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 سجد فعلت كذلك قاله الدلجي وظاهر قوله فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها يأباه إلا قربية صارفة إلى المجاز وقال ابن بطال كان في صلاة نافلة أشهب عن مالك ورواه النووي بما رواه ابن عيينة عن أبي قتادة قال رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه وينصره رواية أبي قال بينا نحن ننتظر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لصلاة الظهر أو العصر فخرج إلينا وأمامة على عاتقه فقام في مصلاه وقمنا خلفه قال النووي وزعم بعض المالكية أنه منسوخ قال ابن دقيق العيد وروي عن مالك وقال ابن عبد البر لعله نسخ تحريم العمل في الصلاة بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم إن في الصلاة لشغلا ورد بأنه كان قبل بدر عند قدوم راويه عبد الله بن مسعود من الحبشة وقدوم زينب بأمامة كان بعد ذلك ونقل أشهب وغيره أن حملها كان لضرورة دعت إليه إذ لم يكن من يتعهدها حتى يفرغ وتركها بلا متعهد أشق واشغل عليه من حملها مصليا وزعم بعضهم أنه خاص به قال النووي وهذه كلها دعاوى مردودة لا بينة عليها ولا ضرورة إليها والحديث قاض بجواز ذلك صريحا ليس فيه ما يخالف قواعد الشرع وما في جوفها من نجاسة معفو عنه لكونه في معدته وثياب الأطفال وأجسادهم على طهارتها وأدلة الشرع شاهدة بأن هذه الأفعال لا تبطلها هذا وإنما فعل ذلك تشريعا للجواز وقد أفاد أن لمس المحارم لا ينقض وضوءا والعمل اليسير لا يبطل صلاة انتهى كلامه وأبو أمامة أبو العاص أسر يوم بدر فمن عليه بلا فداء إكراما لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب زينب ثم أسلم قبيل فتح مكة وحسن إسلامه ورد صلى الله تعالى عليه وسلم زينب عليه بنكاح جديد أو بالنكاح الأول ثم بعد موته تزوجها علي بوصاية فاطمة إليه في ذلك ثم بعد على تزوجها المغيرة بن نوفل بن عبد المطلب بن هاشم وليس لزينب ولا لرقية ولا لأم كلثوم رضي الله تعالى عنهن عقب وإنما العقب لفاطمة رضي الله تعالى عنها وزينب أكبر بناته صلى الله تعالى عليه وسلم قال التلمساني روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أهديت له هدية فيها قلائد من جزع فقال لأدفعنها إلى أحب أهلي فقال النساء ذهبت بها ابنة ابن أبي قحافة فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمامة بنت زينب فأعلقها في عنقها (وعن أبي قتادة) كما رواه البيهقي وهو أنصاري فارس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعرف بذلك (قال وفد) بفتح الفاء أي قدم (وقد للنّجاشي) أي جماعة من عنده رسلا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سبق ضبط النجاشي وترجمته (فقام النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يخدمهم) بضم الدال وتكسر وإنما خدمهم بنفسه تواضعا لربه وإرشادا لأمته (فقال له أصحابه نكفيك) أي خدمتهم (فقال إنّهم كانوا لأصحابنا مكرمين) أي حين هاجروا إليهم ونزلوا عليهم (وإنّي أحبّ أن أكافئهم) بكسر فاء بعدها همزة مفتوحة أي أجازيهم بمثل ما فعلوا بهم من الإحسان جزاء وفاقا. (ولمّا) أي وحين (جيء بأخته من الرّضاعة) بفتح الراء وتكسر وفي نسخة من الرضاع (الشّيماء) بفتح الشين المعجمة وسكون التحتية ممدودة وفي أصل الدلجي بلا ياء وهي رواية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ذكرها المحب الطبري وهي مجرورة بيانا لأخته ويجوز رفعها ونصبها كما هو معلوم في أمثالها عند أربابها قال الحلبي الشيماء فيها قولان هل هي بنت حليمة أو أختها قال الحجازي أبوها الحارث أدرك الإسلام وأسلم بمكة وأسلمت واسمها جدامة بجيم مضمومة فمهملة فألف فميم وقيل خذافة بمعجمة مكسورة وذال معجمة وبفاء وقيل بميم (في سبايا هوازن) متعلق بجيء أي في أسارى قبيلة هوازن من بني سعد بن بكر (وتعرّفت له) أي أعلمت باسمها ومكانها وأطلعته على شأنها مما وقع له معها في زمانها وهو عطف على جيء وجعله الدلجي جملة حالية اعتراضية بين لما وجوابها وهو وقوله (بسط لها رداءه) إجلالا لها وإكراما لأجلها ومكافأة لفعلها إذ هي التي كانت تربيه مع أمها حليمة (وقال لها) أي على وجه التخيير (إن أحببت أقمت عندي مكرّمة) بضم ميم وفتح راء أي معظمة (محبّبة) بضم ميم ففتح فتشديد أي محبوبة وفي أصل التلمساني محببة قال وروي محبة وهما بمعنى والأول أكثر والثاني قليل أغنى عنه محبوبة في الثلاثي (أو متّعتك) أي إن كنت تريدين المراجعة أعطيتك متاعا حسنا ودفعت إليك ما تتمتعين به وتنتفعين منه وزودتك (ورجعت إلى قومك) أي رجوعا مستحسنا (فاختارت قومها) لعلها الضرورة الجأتها إليه (فمتّعها) أي فزودها وأعطاها أشياء تتمتع بها فقيل أعطاها غلاما له اسمه مكحول وجارية فزوجت أحدهما من الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية قيل وقد فازت هي وأبوها وأخوها بسعادة الإسلام وزيادة الإكرام ببركته عليه الصلاة والسلام والحديث رواه ابن إسحاق والبيهقي، (وقال أبو الطّفيل) تصغير طفل وفي نسخة ابن الطفيل وهو تصحيف وهو عامر بن واثلة بالمثلثة الكناني آخر من مات من الصحابة على الإطلاق كان مولده عام احد وتوفي سنة مائة من الهجرة وقد روى أربعة أحاديث وكان تفضيليا وقد روى أبو داود بسند صحيح عنه (رأيت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وكان جالسا يوما بالجعرانة يقسم لحما (وأنا غلام) أي حال كوني غير بالغ وقيل الصبي إذا فطم سمي غلاما إلى سبع سنين (إذ أقبلت امرأة حتّى دنت منه) أي قربت ووصلت إليه (فبسط لها رداءه) تكريما لها (فجلست عليه) أي بأمره (فقلت) لمن عنده (من هذه قالوا أمّة التي أرضعته) فقيل هي حليمة وقيل ثوبية قال الحافظ الدمياطي لا يعرف لحليمة صحبة ولا إسلام وقال المرأة التي بسط لها رداءه أختها الشيماء وروى ابن عبد البر في استيعابه عن عطاء بن يسار أن حليمة بنت عبد الله مرضعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جاءت يوم حنين فقام لها وبسط لها رداءه وفي سيرة مغلطاي وصحيح ابن حبان وغيره ما يدل على إسلامها. (وعن عمرو بن السّائب) كذا في النسخ المصححة المعتبرة عمرو بالواو قال الحجازي وهو ابن راشد المصري مولى بني زهرة تابعي ذكر الحافظ عبد الغني في إكماله فيمن اسمه عمرو وهمه الحافظ المزي وقال اسمه عمر بضم العين قال الحلبي وهو غلط صريح صوابه عمر بن السائب بضم العين وحذف الواو وهو يروي عن أسامة بن زيد وجماعة وعنه الليث وابن لهيعة وغيرهما ذكره ابن حبان في الثقات والحديث رواه أبو داود مرسلا عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 أنه بلغه (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ من الرّضاعة) هو الحارث بن عبد العزى واختلف في إسلامه (فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَقَعَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ أقبلت أمّه) أي حليمة (فوضع لها شقّ ثوبه) بكسر الشين أي طرفه (مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أخوه من الرّضاعة) وهو عبد الله بن الحارث المذكور على ما هو الظاهر فيهم جميعا لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كانت له مراضع خمس وقيل ثمان (فقام صلى الله تعالى عليه وسلم فأجلسه بين يديه) أي تكريما له وتعظيما لوالديه. (وكان يبعث) أي يرسل من المدينة إلى مكة (إلى ثويبة) بضم مثلثة وفتح واو فسكون تحتية فموحدة (مولاة أبي لهب) بفتح الهاء وتسكن عمه عليه الصلاة والسلام يقال إنها أسلمت (مرضعته) بالجر بيان أو بدل لثويبة (بصلة) أي نفقة (وكسوة) قال التلمساني بضم الصاد وكسرها وكسوة بضم وبكسر وقرىء بهما في السبع انتهى ولا نعرف أحدا من القراء أنه قرأ بضم الكاف وكذا الصاد غير معروف في اللغة (فَلَمَّا مَاتَتْ سَأَلَ: مَنْ بَقِيَ مِنْ قَرَابَتِهَا فقيل لا أحد) أي ما بقي منهم أحد والحديث رواه ابن سعد عن الواقدي عن غير واحد من أهل العلم وفي الروض الأنف كان يصلها من المدينة فلما فتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح فقيل ماتا. (وفي حديث خديجة رضي الله عنها) كما رواه الشيخان (أنّها قالت له صلى الله تعالى عليه وسلم أبشر) بفتح الهمزة وكسر الشين المعجمة أي استبشروا فرح ولا تحزن (فو الله لا يحزنك الله) بضم الياء وسكون الخاء المعجمة وكسر الزاء أي لا يهينك ولا يذلك ولمسلم أيضا لا يحزنك من الحزن وهو بفتح الياء وضم الزاء وبالنون أو بضم أوله وكسر ثالثه كما في بعض الروايات وبعض النسخ وقد قرئ بهما في السبعة (أبدا) أي دائما سرمدا (إنّك لتصل الرّحم وتحمل الكلّ) بفتح فتشديد أي ثقيل الحمل العاجز عن تحمل مؤنة عياله (وتكسب المعدوم) أي تصل كل معدوم من فقير محروم وفي رواية بضم أوله أي تعطي الناس الشيء المعدوم (وتقري الضّيف) بفتح أوله وكسر الراء أي تطعمهم (وتعين) أي الخلق (على نوائب الحقّ) بالإضافة البيانية إشعارا بأنها تكون في الحق والباطل قال لبيد. نوائب من خير وشر كلاهما ... فلا الخير ممدود ولا الشر لازب وقال التلمساني المراد بالحق هو الله سبحانه وتعالى لأنه الخالق لها قال العلماء ومعنى كلام خديجة رضي الله تعالى عنها أنك لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل وفي هذا دلالة على أن خصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء. فصل [وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم] (وأمّا تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم) وهو هضم نفسه من الملكات المورثة للمحبة الربانية والمودة الإنسانية (على علوّ منصبه) بكسر الصاد أي مع سمو منزلته (ورفعة وثبته) أي مرتبته من تمام نبوته ونظام رسالته وفي نسخة رتبه جمع رتبة وأغرب الدلجي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 جعل على على صرافته وصرف عبارته إلى تمثيل تمكنه منهما واستقراره عليهما بحال من اعتلى شيئا واقتعد غاربه وغرابته لا تخفى على أرباب الصفاء (فكان أشدّ النّاس تواضعا) أي لعظم قدره وكرم أمره (وأعدمهم كبرا) كذا في الاصول المصححة ولعله أراد بأنه كان يتكبر أحيانا لظهور كبرياء الله سبحانه وتعالى فيه بالنسبة إلى بعض المتكبرين لما ورد من أن التكبر على المتكبر صدقة وفي أصل الدلجي وأعدمهم كبرا وذكر الحجازي أنه رواية والمعنى أفقدهم وهو يرجع إلى المعنى الأول لكنه باعتبار اللفظ فيه أنه لا يصاغ اسم التفضيل إلا من فعل وجودي والحاصل أنه بلغ من هذا المعنى السلبي مبلغا لا يشاركه فيه أحد ثم قال وفي نسخة وأقلهم كبرا والأولى أجود لافتقار الثانية إلى حملها على نفيه من أصله لكونه في مقام مدح له انتهى وقد ذكر عند قوله تعالى فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ أنه وصف مصدر محذوف أي إيمانا قليلا وقيل لا قليلا ولا كثيرا يقال قلما يفعل أي لا يفعل اصلا ومن استعمال القلة بمعنى النفي حديث النسائي عن ابن أبي اوفى قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو، (وحسبك) مبتدأ خبره الجملة بعده أي وكافيك (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه أحمد والبيهقي (خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا) بكسر اللام أي سلطانا (أو نبيّا عبدا) أي أو أن يكون نبيا عبدا من جملة عباد الله تعالى داخلا في الرعايا والضعفاء وسلك المساكين والفقراء (فاختار أن يكون نبيّا عبدا) أي تباعدا عما هو من شأن الملوك من التكبر والتجبر والتكاثر للخدم والترفع عن الخدمة وتقربا إلى ما هو من صفات العبيد من التقلل في الدنيا والتكثر في خدمة المولى، (فقال له إسرافيل عند ذلك) من اختيار النعت الجليل (فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ بِمَا تَوَاضَعْتَ لَهُ) أي في هذا العالم (أنّك سيّد ولد آدم يوم القيامة) وهذا كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من تواضع لله رفعه الله كما رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وكقوله عليه الصلاة والسلام تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبراء الله وتخرجوا من الكبر رواه أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه وقوله تواضعوا لمن تتعلمون منه وتواضعوا لمن تعلمونه ولا تكونوا جبابرة العلماء رواه الخطيب في الجامع عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقوله التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله تعالى رواه ابن أبي الدنيا ثم تقييده بقوله يوم القيام لظهور سيادته فيه عيانا لكل أحد كقوله سبحانه وتعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ مع كون الملك له مطلقا (وأوّل من تنشقّ الأرض عنه) للبعث (وأوّل شافع) أي يوم القيامة للعامة أو في الجنة لرفع درجات الخاصة لحديث مسلم أنا أول شفيع في الجنة. (حدّثنا أبو الوليد بن العوّاد) بتشديد الواو (رحمه الله) جملة دعائية (بقراءتي عليه في منزله بقرطبة) بضم قاف وطاء بلد بالمغرب (سنة سبع وخمسمائة) والمقصود مما ذكره كله كمال استحضاره لروايته عنه (قال حدّثنا أبو عليّ الحافظ) أي الغساني وقد تقدم (حدّثنا أبو عمر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 بضم العين وهو يوسف بن عبد الله بن عبد البر بن عاصم النميري القرطبي وانتهى إليه مع إمامته علو الاسناد الدال على جلالته وترجمته مسطورة ومصنفاته مشهورة (حدّثنا ابن عبد المؤمن) وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن (حدّثنا ابن داسة) بتخفيف السين المهملة (حدّثنا أبو داود) أي صاحب السنن (حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة) صاحب التصانيف الحجة عن شريك وابن المبارك وعنه الشيخان وغيرهما قال الغلاس ما رأينا أحفظ منه وقال الذهبي في الميزان ابو بكر ممن قفز القنطرة وإليه المنتهى في الثقة (حدّثنا عبد الله بن نمير) بضم نون وفتح ميم عن هشام بن عروة والأعمش وعنه أحمد وابن معين حجة وأخرج له الأئمة الستة (عن مسعر) بكسر ميم ويفتح وبفتح عين وهو ابن كدام بن أبي سلمة الهلالي الكوفي أخذ العلم عن عطاء وغيره وعنه القطان ونحوه وله ألف حديث وهو من العباد القانتين أخرج له أئمة الستة (عن أبي العنبس) بفتح عين فسكون نون فموحدة مفتوحة فسين مهملة (عن أبي العدبّس) بفتح العين والدال المهملتين وتشديد الموحدة فسين مهملة (عن أبي مرزوق) قال ابن حيان لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به (عن أبي غالب) اختلف في توثيقه (عن أبي أمامة) أي الباهلي (قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم متوكئا) أي متحملا ومعتمدا (على عصا) أي لعارض من ضعف أو مرض (فقمنا له) أي تعظيما وتكريما (فقال) أي تواضعا (لا تقوموا) أي لي أو مطلقا (كما تقوم الأعاجم) أي بطريق الالتزام أو على سبيل الوقوف على الأقدام (يعظّم بعضهم) أي بعض تلك الجماعة (بعضا) على ما هو دأب الملوك الفخام والأكابر العظام ولا يعارضه حديث قوموا لسيدكم خطابا للأنصار حين أقبل سعد راكبا على الحمار وهو شاكي يحتاج إلى استعانة جمع في نزوله إلى محل القرار وأبعد من استدل به على استحباب القيام المتعارف بين الأنام والأقرب أن يحمل النهي على التنزيه أو خاص لطائفة العرب لأن يستمروا على عاداتهم من تكلف في مقام الأدب قال التلمساني والقيام أربعة أقسام فمحظوره القيام لمن يحب أن يقام له ومكروهه القيام لمن لا يحب أن يقام له ومجازه القيام للعالم المتواضع وحسنه القيام للقادم من سفر وإنما خشي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من فعلهم أن يتخذوه سنة وكان لا يحب التشبه بأهل الضلالة (وقال) أي تواضعا لله وترحما على خلق الله (إنّما أنا عبد) أي مشابه للعبيد في مقام التواضع وعدم التكلف والتصنع (آكل كما يأكل العبد) أي من غير سفرة وخوان وجمعه إخونة وأخوان (وأجلس كما يجلس العبد) على التراب من غير سرير وفرش حرير وفي رواية لا آكل متكئا إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وأجلس كما يجلس العبد وربما جثى على ركبتيه وربما نصب اليمنى وجلس على ظهر قدميه اليسرى وعن عبد الله بن جعفر قال رأيت في يمين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قثاء وفي شماله رطبا يأكل من ذا مرة ومن ذا مرة (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم) أيمن كمال تواضعه مع قدرته على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ركوب الفرس والبغل والناقة (يركب الحمار) أي وحده تارة ومع غيره أخرى كما ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في طريف قبا (ويردف خلفه) من الإرداف أو من الثاني بكسر الدال في الماضي وفتحها في المستقبل أي ويركب ورآه ظهره على الناقة وغيرها من أراد من أصحابه كالصديق وذي النورين والمرتضى وعبد الله بن جعفر وزيد وأسامة والفضل ومعاوية وغيرهم ممن بلغ عددهم خمسة وأربعين (ويعود المساكين) من المرضى (ويجالس الفقراء) أي ويجتنب مجالسة الأغنياء ويقول اتقوا مجالسة الموتى والمغايرة بين الفقراء والمساكين من تفنن العبارة وإن اختلف الفقهاء في الفرق بينهما في مصرف الصدقة (ويجيب دعوة العبد) أي إلى بيت سيده أو المراد به العبد المعتوق بأن يأتي بيته جبرا لخاطره وتواضعا مع ربه وامتثالا لأمره سبحانه وتعالى بقوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (ويجلس) كما في حديث هند بن أبي هالة كان يجلس (بين أصحابه) أي فيما بينهم (مختلطا بهم) لا يتخير مجلسا يترفع به عليهم بل كان من دأبه معهم أنه (حيثما انتهى به المجلس) أي وخلا فيهم المكان المؤنس (جلس) أي تواضعا له سبحانه وتعالى وإرشادا لأصحابه ليتأدبوا بآدابه. (وفي حديث عمر) أي من رواية البخاري (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا تطروني) من الإطراء وهو المبالغة في الثناء إلى حد يقع الكذب في الاثناء أي لا تجاوزوا الحد في مدحي بأن تنسبوا إلى ما لا يجوز في وصفي (كما أطرت النّصارى عيسى ابن مريم) حتى زعموا أنه ابن الله وغير ذلك (إنّما أنا عبد) أي من عبيد ربي (فقولوا عبد الله ورسوله) وفيه إيماء إلى ما قيل: لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف اسمائي والنهي إنما هو عن الإطراء لا لمطلق المدح والثناء لتقريره صلى الله تعالى عليه وسلم خديجة على مدحها له وأما حديث إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب فمحمول على المجاوزة عن الحد بالكذب ونحوه في هذا الباب كما تشير إليه صيغة المبالغة وقد أشار صاحب البردة إلى زبدة هذه العمدة بقوله: دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... وأحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم (وعن أنس رضي الله عنه) كما رواه مسلم (أنّ امرأة) قيل لعلها أم زفر ماشطة خديجة إذ قد ورد مرسلا أنها كانت صحابية ويحتمل غيرها (كان في عقلها شيء) أي من جنون (جَاءَتْهُ فَقَالَتْ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَّةً قَالَ اجلسي يا أمّ فلان) لعل الراوي لم يعرف اسم ابنها فكنى عنه (في أي طرق المدينة) أي اجزائها (شئت) أي أردت أنت مما هو اهون عليك أو قريب إليك (أجلس إليك) أي معك أو متوجها إليك وهو مجزوم لجواب شرط فقدر بعد الأمر أي إن تجلسي أجلس إليك (حتّى أقضي حاجتك) أي من الكلام أو طلب المرام، (قال) أي أنس (فجلست فجلس النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 حاجتها) من كمال تواضعه لها وملاطفته معها. (قال أنس رضي الله تعالى عنه) على ما رواه أبو داود والبيهقي (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يركب الحمار) بل عريانا أحيانا (وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ) أي زمن غزوتهم وهي عقب غزوة الخندق (راكبا على حمار مخطوم) أي في رأسه خطام وهو حبل كالزمام (بحبل من ليف) أي ورق نخل (عليه إكاف) جملة حالية من ضمير مخطوم والإكاف بكسر الهمزة أو ضمها البردعة أو ما يشد فوقها. (قال) أي أنس رضي الله تعالى عنه (وكان يدعى إلى خبز الشّعير، والإهالة) وهي بكسر الهمزة كل ما يؤتدم به من الأدهان وقيل ما أذيب من الشحم والإلية (السّنخة) بفتح السين المهملة وبكسر النون أي المتغيرة الرائحة الزنخة (فيجيب) أي من دعاه إلى ذلك. (قال) أي أنس (وحجّ صلى الله تعالى عليه وسلم على رحل) أي كور أو قتب وهو للبعير كالسرج للفرس (رثّ) بتشديد المثلثة أي خلق بال (وعليه) أي وعلى كتفه أو على رحله (قطيفة) أي كساء له خمل (ما تساوي أربعة دراهم فقال) أي مع هذا كله (اللهمّ اجعله حجّا) بفتح الحاء وكسرها على ما قرئ بهما في السبع وزيد في نسخة مبرورا (لا رياء فيه ولا سمعة) بل اجعله خالصا لوجهك الكريم (هذا) مبتدأ محذوف الخبر من اسمي فعل أمر وإشارة يورد كأما بعد للانتقال من أسلوب مقال إلى مقال آخر من الأحوال والواو بعده الحال ويذكر بعده خبره كما في قوله تعالى هذا ذِكْرُ أي تأمل هذا الصنيع الجليل والقصد الجميل يورثاك تعجبا من حجه على تلك الهيئة من التواضع والاستكانة كذا حققة الدلجي والأظهر أن يقال إنه مركب من كلمتي التنبيه والإشارة أي تنبه لهذا (وقد) أي والحال أنه قد (فتحت عليه الأرض) أي وألقت أفلاذها من ذهب وغيره من فلذاتها إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (وأهدى) كما روى مسلم عنه (في حجّه ذلك) أي عام الوداع (مائة بدنة) أي ناقة تقربا إلى ربه وإرشادا لمن يقتدى به وإيماء إلى أن ترك تكلفه في ثوبه ومركوبه لم يكن عن افتقار به وقد نقل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نحر بيده الكريمة ثلاثا وستين بقدر سني عمره وأمر عليا كرم الله وجهه بنحر البقية في يومه (ولمّا فتحت عليه مكّة) على ما رواه ابن إسحاق والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها والحاكم والبيهقي وأبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما فتحت عليه مكة (ودخلها بجيوش المسلمين) أي بأصناف منهم (طأطأ) بهمزتين أولاهما ساكنة وقد تبدل وثانيتهما مفتوحة أي خفض مفتوحة وأطرق وأرخى (على رحله) أي حال كونه راكبا فوقه (رأسه) مفعول طأطأ (حتّى كاد) أي قارب صلى الله تعالى عليه وسلم (يمسّ) بفتح الميم كقوله تعالى لا يَمَسُّهُ وقال التلمساني بضم الميم لا غير والظاهر أنه وهم منه أي يصيب برأسه أو قارب رأسه أن يمس (قادمته) أي مقدمة رحله فحتى غاية لطأطأة رأسه وقوله (تواضعا لله) مفعول لأجله وفيه إيماء إلى ما يشير إليه قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الْقَرْيَةَ إلى أن قال وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أي متواضعين لا متكبرين كالجبارين (ومن تواضعه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ) مثلث النون وبالهمزة ست لغات (ابن متّى) بفتح ميم وتشديد مثناة وهي أم يونس عليه السلام ولم يشتهر نبي بأمه غير عيسى ويونس كذا ذكره ابن الأثير في الكامل أما يونس فللغلبة وأما عيسى فلأنه لا أب له ومنه قول القائل: ألا رب مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان مشيرا إلى آدم عليه السلام ولم يلده بفتح الياء وسكون اللام وفتح الدال للضرورة وقد قيل إنه من بني إسرائيل وإنه من سبط بنيامين قال الحجازي وما ذكر في قصص الكسائي من أن متى أبوه ليس بصحيح فإن قيل ما الجمع بين قوله في صحيح البخاري لا تفضلوني على يونس ابن فلان ونسبه إلى أبيه وظاهره أن متى أبوه وأجيب بأن متى مدرج في الحديث من كلام الصحابي لبيان يونس بما اشتهر به ولما كان ذلك موهما أن الصحابي سمعه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دفع ذلك بقوله ونسبه إلى أبيه أي لا كما فعلت أنا من نسبته إلى أمه كذا ذكره الحجازي وتبعه الدلجي وغيره ولكن لا يخفى أن مثل هذا التصرف لا يجوز للراوي مع ما فيه من قلة أدب في نسبته إلى أمه لولا أنه منقول من أصله هذا ثم الحديث بهذا اللفظ غير معروف ولفظ البخاري لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى ولعل وجه تخصيصه نفيه سبحانه وتعالى عنه العزم بقوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ أو لما وقع له صلى الله تعالى عليه وسلم من المعراج العلوي وليونس عليه السلام من المعراج السفلي إيماء إلى أن الأمكنة بالإضافة إلى قرب الله تعالى على حد سواء تستوي فيه الأرض والسماء وقد أجاب العلماء عن هذا الحديث بأجوبة منها أنه قاله تأدبا وتواضعا ومنها أنه قال قبل أن يعلم أنه افضلهم فلما علم قال أنا سيد ولد آدم بل وفي البخاري أنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر ومنها أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة كما ثبت سببه في الصحيح بورود لا تفضلوني على موسى كما سيجيء ومنها أنه نهى عن تفضيل يؤدي إلى نقص بعضهم لا عن كل تفضيل لثبوته في الجملة كما قال تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ ومنها أنه نهى عن التفضيل في نفس النبوة لا في ذوات الأنبياء وعموم رسالتهم وزيادة خصائصهم ومزية حالاتهم وهذا معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه الشيخان (ولا تفضّلوا بين الأنبياء) وأما قوله عليه الصلاة والسلام (ولا تخيّروني على موسى) فسببه ما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي من أنه استب مسلم ويهودي قال والذي اصطفى موسى على العالمين فلطم المسلم وجهه وذكر ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسأل المسلم عنه فأخبره فقال لا تخيروني على موسى أي تخيير مفاضلة يؤدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 إلى مخاصمة وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه الشيخان (ونحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم) أي إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى إنما صدر عنه تواضعا لربه وهضما لنفسه لا اعترافا به في حق إبراهيم ولا في حقه فكأنه قال إذا كنت لم أشك في إحياء الله الموتى فإبراهيم بعدم الشك أولى فأثبته لهما بنفي الشك عنهما وقيل بل قال ذلك على سبيل التقديم لأبيه أي أنه لم يشك ولو شك لكنت أنا أحق بالشك منه ثم قوله رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى شاهد صدق بأن سؤاله لم يكن من قبل الشك والشبهة بل من قبل رؤية تلك الكيفية العجيبة الدالة على كمال قدرته الباهرة شوقا إلى معرفتها مشاهدة كاشتياقنا إلى رؤية الجنة معاينة والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام أراد بقوله أرني الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم ليس الخبر كالمعاينة ويدل عليه بقية الآية حيث قال تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم، (ولو لبثت) أي لو مكثت (في السّجن) فرضا وتقديرا (ما لبث يوسف) بتثليث السين مهموز أو غيره ست لغات أي مدة لبثه في السجن (لأجبت الدّاعي) وهو رسول الملك والمعنى لأسرعت إلى إجابة دعوته مبادرة إلى الخلاص من السجن ومحنته قال ذلك هضما لنفسه ورفعة لمقام يوسف ورتبته وإيثارا للأخبار بكمال تثبته وحسن نظره في بيان نزاهته وإظهار براءته وحمدا لصبره وترك عجلته وتنبيها على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا من الله بمكان لا يرام فهم بشر يطرأ عليهم من الأحوال بعض ما يطرأ على غيرهم من الأنام وأن ذلك لا يعد نقصا لهم في مقام المرام وتمام النظام (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام على ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال (للذي قال له) أي خاطبه بقوله (يا خير البريّة) بالتشديد والهمز على ما قرىء بهما في السبع أي الخليقة (ذاك إبراهيم) تعليما لأبوته وتعليما لأمته ودفعا للافتخار عن ذاته. (وسيأتي الكلام على هذه الأحاديث) أي على حل ما فيها من الاشكال الذي تقدم بعض الأجوبة عنه (بعد هذا) أي محل اليق منه (إن شاء الله تعالى) أي بيانه فيه. (وعن عائشة والحسن) أي البصري (وأبي سعيد) أي الخدري وكان حقه أن يقدم على الحسن اللهم إلا أن يراد به الحسن بن علي كرم الله وجهه لكن قاعدة المحدثين أن الحسن إذا أطلق فهو البصري (وغيرهم) أي وغير المذكورين أيضا كما رواه البخاري وغيره (في صفته) أي نعته صلى الله تعالى عليه وسلم (وبعضهم يريد على بعض) أي وبعض الرواة منهم يزيد على بعضهم بعض العبارات في تفصيل الصفات ومجمله قوله. (وكان في بيته في مهنة أهله) بفتح الميم وكسره وأنكره الأصمعي ورجحه المزي بقوله وهو أوفق لزنته ومعناه أي خدمة أهله وفي الحديث ما على أحدكم لو اشترى ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته في أهله مما يتعين عليهم رفقا بهم ومساعدة لهم وتواضعا معهم وبيانه قوله (يفلي ثوبه) بكسر اللام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 أي يزيل قمله كراهة لوجوده وتنظيفا لوسخه لما في الشفاء لابن سبع أنه لم يقع على ثيابه ذباب قط ولم يكن القمل يؤذيه تكريما له وتعظيما فيه وروي أم حرام كانت تفلي رأسه (ويحلب شاته) بضم اللام وتكسر (ويرقع ثوبه) بفتح القاف وفي نسخة من الترقيع (ويخصف نعله) بكسر الصاد أي يخرزها ويطبق طاقا على طاق من الخصف وهو الجمع والضم ومنه قوله سبحانه وتعالى وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يطبقان ورقة على ورقة على بدنهما بالخزر أو الربط أو اللصق ومن أحسن ما قيل في مثال نعله صلى الله تعالى عليه وسلم: أمرغ في المثال بياض شيبي ... لما عقد النبي له قبالا وما حب المثال يشوق قلبي ... ولكن حب من لبس النعالا وقال بعضهم: يا لاحظا لمثال نعل نبيه ... قبل مثال النعل لا تتكبرا والثم له فلطا لما عكفت به ... قدم النبي مروحا ومبكرا أو لا ترى أن المحب مقبل ... طللا وإن لم يلف فيه مخبرا أقول وأنا في هذا الحال أقبل خيال المثال تعظيما لنبي ذي الجلال (ويخدم نفسه) بضم الدال وكسرها وهو تعميم بعد تخصيص ثم ذكر ما يعم نفعه له ولغيره بقوله (ويقمّ البيت) بضم القاف وكسرها وتشديد الميم أي يكنسه (ويعقل البعير) بكسر القاف أي يربط ركتبه بالعقال وهو ما يعقل به من الحبال ومنه العقل لأنه يمنع صاحبه عما يضره ويبعثه على ما ينفعه (ويعلف) بكسر اللام قيل ويضم أوله (ناصحه) أي بعيره الذي يستقي عليه الماء (ويأكل مع الخادم) أي مملوكا أو غيره وهو يشمل المذكر والمؤنث (ويعجن معها) أي مع الخادمة من الجارية وغيرها وخص العجن بها لأن الغالب أنه من عملها (ويحمل بضاعته) أي مشتراه من مأكول وغيره (من السّوق) أي إلى محله في بعض أوقاته إذ ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان له خدم يقومون بماله من المرام. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) على ما رواه البخاري في الأدب تعليقا ووصله ابن ماجه (إن) هي المخففة من المثقلة والمعنى أن الشان (كانت الأمة من إماء أهل المدينة) أي من جنسها (لتأخذ) بفتح اللام الفارقة (بيد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتنطلق به) أي تذهبه (حيث شاءت) أي من طرق المدينة وبيوتها (حتّى تقضي حاجتها) أي منه عليه الصلاة والسلام بشفاعة ونحوها. (ودخل عليه رجل) هو غير معروف (فأصابته من هيبته) أي مخافته وعظمته (رعدة) بكسر الراء أي اضطراب أو برودة (فقال له هوّن عليك) أي يسر أمرك ولا تخف (فإنّي لست بملك) أي سلطان جائر والحديث سبق إلا أنه أعاده هنا لما فيه من زيادة قوله (إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ القديد) وهو اللحم المجفف فعيل بمعنى المفعول تنبيها له على أنه مأكول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 المساكين (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) كما رواه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عنه أنه قال (دخلت السّوق مع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فاشترى سراويل) فارسي معرب شابه من كلام العرب ما لا ينصرف معرفة ونكرة (وقال للوزّان) بتشديد الزاء أي وأزن الفضة من الصيرفي وغيره (زن) بكسر الراء (وأرجح) بفتح همز وكسر جيم أي اعطه راجحا على وزنه بالزيادة (وذكر القصّة) أي بطولها ومن جملته، (قال) أي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (فوثب) أي فقام الوزان بسرعة متوجها (إلى يد النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقبّلها) بتشديد الموحدة جملة حالية أي حال كونه مريدا لتقبيلها لما رأى فيها من زيادة السخاوة وحسن المعاملة (فجذب يده) أي تواضعا وتباعدا عما يوجب النخوة والعجب والغرور (وقال هذا) أي التقبيل (تفعله الأعاجم) أي أهل فارس (بملوكها) أي ويورثهم كبرا وفخرا ولأصحابهم ذلا (ولست بملك) أي من جنس ملوكهم (إنّما أنا رجل منكم) أي بشر مثلكم أو واحد من جنس عربكم أعاملكم بمعاملة أدبكم وهذا لا ينافي ما ورد عن أنهم كانوا يتبركون به وبآثاره ولا ما ذكره النووي وغيره من أن تقبيل يد الغير إن كان لجاه وغنى فمكروه أو لصلاح وعلم فمستحب (ثمّ أخذ السّراويل) أي من بايعه بعد تسليم ثمنه (فذهبت) قصدت (لأحمله فقال صاحب الشّيء أحقّ بشيئه) أي بمتاعه المختص به (أن يحمله) لأنه أبقى على تواضعه وأنفى لكبره وقد قيل لم يثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لبس السراويل لكن اشتراها قيل بأربعة دراهم وفي الاحياء بثلاثة ولم يلبسها وجاء في الهدى لابن القيم من أنه لبسها قالوا وهو من سبق القلم لكن السيوطي صحح لبسه صلى الله تعالى عليه وسلم والله سبحانه وتعالى أعلم هذا وقد ذكر التلمساني أنه أخرج أبو داود الحديث عن سماك بن حرب قال حدثني سويد بن قيس قال جلبت أنا ومخرمة العبدي بزامن هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يمشي فساومنا بسراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجر فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زن وارجح وكذلك ذكر الترمذي الحديث وصححه أبو عمرو في الاستيعاب ثم نقل عن شيخه أن في الحديث فوائد منها الرجحان في الوزن وهو من الورع الظاهر الفضل لأن التطفيف حرام والتحري فيه طول أو شغب تمام والرجحان يقطعه والفضل يظهره قال وفيه رد على أبي حنيفة المانع هبة المجهول قلت إنما نشأ هذا من جهله بمرتبة الإمام وعدم فرقه بين الشائع الحاضر والمجهول الحاضر في هذا المقام والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة المرام. فصل [وأما عدله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته] (وأمّا عدله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حكمه على وفق الحق ومنهاج الصدق (وأمانته) أي في أداء روايته وقضاء ديانته (وعفّته) أي عما لا يليق بحضرته (وصدق لهجته) أي منطقه وحكايته، (فكان صلى الله تعالى عليه وسلم آمن النّاس) بهمزة ممدودة أعظمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أمانة وأمنا من أن يقع منه خيانة (وأعدل النّاس) لأنه أعلمهم وأحكمهم وأرحمهم وكان الأظهر أن يقدم أعدل على آمن ليكون النشر مرتبا (وأعفّ النّاس) أي أكثرهم عفة واصبرهم على ما يوجب نزاهته (وأصدقهم لهجة) أكثرهم صدقا من جهة الناطقة (منذ كان) أي من ابتداء ما وجد لما جبل عليه من الأخلاق الحسنة ولا وجه لقول الدلجي من حين اعترف لأن قوله (اعترف) استئناف بيان وفي نسخة ثم اعترف (له بذلك) أي بما ذكر من الشمائل الرضية (محادّوه) بتشديد الدال المضمومة أي مخالفوه ومنه قوله تعالى مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ لكون كل واحد منهما في حد كما قيل في وجه اشتقاق قوله سبحانه وتعالى مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ (وعداه) بكسر عينه مقصورا اسم جمع أي أعداؤه ومعادوه (وكان يسمّى قبل نبوّته) أي ظهورها ودعوتها (الأمين) ؛ لغاية أمانته ونهاية ديانته (قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ يُسَمَّى الْأَمِينَ بِمَا جمع الله فيه من الأخلاق الصّالحة) أي لأن تستعمل في طريق الحق وسبيل الخلق. (وقال تعالى) أي مكرم (مُطاعٍ) أي (ثَمَّ) أي عند الملأ الأعلى والحضرة العليا (أَمِينٍ [التكوير: 21] ) موصوف بالأمانة في دعوى النبوة ووحي الرسالة (أكثر المفسّرين على أنّه) أي المراد بالمطاع الأمين (محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) وكثير منهم على أنه جبريل عليه السلام وسياق النظم يؤيده وسباق الكلام يؤكده وعلى كل فاتصافه بالوصفين لا أحد ينكره؛ (ولمّا اختلفت قريش) على ما رواه أحمد والحاكم وصححه الطبراني أنه حين اختلفت أكابر قريش ورؤساؤهم (وتحازبت) بالزاي أي وصارت أحزابا وطوائف مجتمعة وضبطه بعضهم بالراء وهو تصحيف (عند بناء الكعبة) حين أجمرت امرأة فطارت شرارة فاحترقت الكعبة فهدموها وأرادوا تجديد بنائها فوقع خلافهم (فيمن يضع الحجر) أي الأسود والركن الأسعد في موضعه الأصلي قيل هدمه وكل يقول انا وأتباعي نضعه افتخارا بوضعه لأنه الركن الأعظم في ذلك المقام الأفخم وكاد أن يقع بينهم القتال لكثرة منازعة الرجال (حكّموا) جواب لما أي حكموا فيما بينهم لدفع النزاع عنهم (أن يكون الواضع أوّل داخل عليهم) أي ولا يكون واحدا منهم (فإذا بالنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم داخل) أي ففاجأهم دخوله وباغتهم وصوله (وذلك) أي ما ذكر (قبل نبوّته) أي دعوى نبوته وظهور رسالته (فقالوا) أي مقرين له بوصف أمانته (هذا محمّد هذا الأمين قد رضينا به) ففرش صلى الله تعالى عليه وسلم رداءه المبارك ووضع الحجر عليه وأمر كل رئيس أن يأخذ بطرف منه وهو آخذ من تحته الذي فوض فيه الأمر إليه ووضعوه في موضعه. (وعن الرّبيع بن خثيم) بضم معجمة وفتح مثلثة روى عن ابن مسعود وغيره وعنه الشعبي ونحوه وكان ورعا قانتا مخبتا حتى قال ابن مسعود لو رآك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأحبك فطوبى له ثم طوبى له قال التلمساني وهو من الزهاد الثمانية ومن رجال حلية أبي نعيم (كان يتحاكم) بصيغة المجهول (إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الجاهليّة قبل الإسلام) أي قبل زمن البعثة وظهور النبوة (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. (والله إنّي لأمين في السّماء) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أي عند الله وملائكته المقربين (أمين في الأرض) عند المؤمنين وغيرهم من المجرمين لكمال أمانته وظهور ديانته وعدم خلفه في وعده وتحقق صدقه في قوله (حدّثنا أبو عليّ الصّدفيّ) بفتحتين (الحافظ) أي المعروف بحفظ الحديث (بقراءتي عليه ثنا) أي حدثنا (أبو الفضل بن خيرون) بفتح معجمة وضم راء بصرفه ومنعه والأول أظهر. (ثنا أبو يعلى ابن زوج الحرّة) تقدم (ثنا أبي علي السنجي) بكسر مهملة فسكون نون فجيم مروزي (ثنا محمّد بن محبوب المروزيّ) أي راوي جامع الترمذي عنه. (ثنا أبو عيسى) أي الترمذي (الحافظ) أي المعروف وهو جامع السين وصاحب الشمائل. (ثنا أبو كريب) بالتصغير الهمداني الكوفي روى عن ابن المبارك وخلق وعنه أصحاب الكتب الستة روي أنه ظهر له بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث، (ثنا معاوية بن هشام) أي القصار الكوفي روى عن حمزة والثوري وعنه أحمد وغيره وهو من الزهاد الثمانية (عن سفيان) أي الثوري على ما صرح به عبد الغني الحافظ وإن أطلق على غيره (عن أبي إسحاق) أي الهمداني الكوفي أحد الأعلام الشهير بالسبيعي روى عن كثير من الصحابة والتابعين وقد رأى عليا كرم الله وجهه (عن ناجية بن كعب) بنون فألف فجيم مكسورة فتحتية مخففة تابعي وليس بصحابي (عن عليّ) أي ابن أبي طالب كرم الله وجهه (أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم إنّا لا نكذّبك) بالتشديد والتخفيف أي لا ننسبك إلى الكذب لثبوت صدقك (ولكن نكذّب) بالتشديد لا غير (بما جئت به) أي من القرآن والإيمان بالتوحيد والبعث ونحو ذلك فدلت هذه المناقضة الظاهرة على أن كفر أكثرهم كان عنادا؛ (فأنزل الله تعالى) أي في شأنه وعظيم برهانه (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: 33] ) بالتشديد وقرأ نافع والكسائي بالتخفيف (الآية) وهي قوله سبحانه وتعالى وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ أي المتلوة أو المصنوعة يجحدون أي ينكرون فتكذيبهم في الحقيقة راجع إلى ربهم ففيه وعيد أكيد وتهديد شديد لهم وتسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم. (وروى غيره) أي غير الترمذي زيادة عليه (لا نكذّبك وما أنت فينا بمكذّب) تأكيد لنفي الكذب عنه وهو بتشديد الذال المعجمة والمفتوحة وفي نسخة بمكذوب. (وقيل) أي روى كما أخرجه ابن إسحاق والبيهقي عن الزهري وكذا ابن جرير عن السدي والطبراني في الأوسط (إنّ الأخنس) بفتح همزة وسكون معجمة وفتح نون فمهملة (ابن شريق) بفتح معجمة وكسر راء له صحبة وقال التلمساني ذكره الحلبي قتل يوم بدر كافرا وفيه نزل قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (لقي أبا جهل يوم بدر) وكان يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان سنة اثنتين من الهجرة (فقال له) أي بحكم العادة أو تلطف العبارة (يا أبا الحكم) بفتحتين كنيته في الجاهلية فغيرها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكناه أبا جهل (ليس هنا غيري وغيرك) أي أحد (يسمع كلامنا) أي فيما بيننا، (تخبرني) خبر معناه أمر أي أخبرني (عن محمّد) أي عن وصفه (صادق) وفي نسخة زيادة هو والتقدير أصادق هو في معتقدك (هو أم كاذب عندك) والمراد من الاستفهام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 حمله على الإقرار بما يعرفه من صدقه عليه الصلاة والسلام (فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ) أي لموصوف بالصدق ولا يخفى ما في الجملة من زيادة الأدوات المؤكدة (وما كذب محمّد قطّ) اعتراف بالحق وروي أن أبا جهل قال بعد قوله وما كذب محمد ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فهذا يدل على أنه ما منعه عن توحيد الله إلا طلب الجاء فالخلق حجاب عظيم عن الحق. (وسأل هرقل) بكسر ففتح وضبط بكسرتين وكذا بضمتين بينهما ساكن ولا ينصرف للعجمة والعلمية وهذا اسمه العلم وأما قيصر فهو لقب كل من ملك الروم (عنه) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أبا سفيان) بن حرب على ما رواه الشيخان (فقال) أي هرقل مخاطبا لأبي سفيان ومن معه (هل كنتم تتّهمونه) بتشديد التاء الثانية (بالكذب) أي هل كنتم تنسبونه إلى الكذب ولو بالتهمة بناء على المظنة (قبل أن يقول ما قال) أي من دعوى الرسالة (قال لا) وهذا السؤال يدل على كمال عقل هرقل ومعرفته بصفة الأنبياء لكن لم ينفعه علمه حيث لم يقترن بعمله إذ هلك كافرا بعد فتح عمر رضي الله تعالى عنه بلاده وتوغل في بلاد الكفر هربا من الإسلام ولا تغتر بمن شذ فزعم إسلامه ذكره الدلجي وقال الحلبي في الاستيعاب أنه آمن وهذا مؤول أي بأنه أظهر الإيمان وتمنى الامان لكنه غرته سلطنة الزمان. (وقال النّضر بن الحارث) أي العبدري وهو بفتح النون وسكون الضاد المعجمة وكان شديدا العداوة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ أسيرا ببدر فأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فقتله بالصفراء عقيب الواقعة وأما النضير بالتصغير فهو أخوه وكان من المؤلفة وأعطى يوم حنين مائة من الإبل فاحذر أن يتصحف عليك كما توهم الحلبي ثم حديثه هذا رواه ابن إسحاق والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (أنه قال لقريش) أي لأكابرهم (قد كان محمّد فيكم غلاما حدثا) بفتحتين أي من حال صغره قبل أوان كبره والأنسب أن يراد به ههنا ما قبل من أن الغلام هو الصغير إلى حد الالتحاء (أرضاكم فيكم) الظرفان حالان لازمان (وأصدقكم حديثا) أي قولا ووعدا (وأعظمكم أمانة) أي صدقا وديانة وهذه الشهادة لكونها من أهل العداوة حجة لما قيل الفضل ما شهدت به الأعداء (حتّى إذا رأيتم في صدغيه) بضم فسكون الشعر المتدلي على ما بين الأذن والعين (الشّيب) أي بياض الشعر (وجاءكم بما جاءكم) أي بما أظهر لكم من الحق وكلام الصدق (قلتم) أي في حقه (أنه ساحر) في غيبته وحضوره، (لا والله ما هو بساحر) الجملة القسمية مؤكدة لما يفهم من الجملة المقدرة المنفية بلا النافية. (وفي الحديث) وفي نسخة عنه أي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها (ما لمست) بفتح الميم (يده يد امرأة قطّ لا يملك رقّها) بكسر راء وتشديد قاف أي لا يملكها نكاحا أو ملكا فقد قال لأسماء التزويج رق المرأة فلتنظر أين تضع رقها وأما ما في البخاري أتت امرأة تبايع فقبض يدها فمحمول على المحرم أو من فوق الثوب. (وفي حديث عليّ) أي ابن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 طالب كرم الله وجهه (في وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم أصدق النّاس لهجة) أي لسانا وبيانا وقد تقدم، (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (في الصّحيح) أي في الحديث الذي صح عنه وقد تقدم ذكره (ويحك فمن يعدل) بالرفع (إن لم أعدل؟ خبت وخسرت) بالتكلم أو الخطاب لرئيس الخوارج (إِنْ لَمْ أَعْدِلْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عنها) أي على ما سبق من رواية الترمذي وغيره عَنْهَا (مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في أمرين) وزيد في نسخة قَطُّ (إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ منه) سبق حل مبناه وبيان معناه (قال أبو العبّاس) أي البصري (المبرّد) بفتح الراء المشددة وكان إماما في النحو واللغة مات ببغداد ودفن بمقابر باب الكوفة (قسّم) بتخفيف السين أولى من تشديدها وإن اقتصر الانطاكي على الثاني (كسرى) بكسر الكاف وفتح الراء مقصورا اسم لكل من ملك الفرس واسمه الخاص برويز (أيّامه) أي زمان دولته وأوان مملكته (فقال) أي كسرى في قسمته وقته (يصلح يوم الرّيح للنّوم) المبني على السكون لكون الوقت غير قابل للحركة من القيام للخدمة ولا للقعود في الصحبة (ويوم الغيم للصّيد) لعدم التأذي بشدة الحرارة التي تقتضيها كثرة حركة المعالجة، (ويوم المطر للشّرب واللهو) لعدم إمكان الخروج، (ويوم الشّمس للحوائج) جمع حاجة على خلاف القياس أي لحوائج الخلق والنظر إلى مهماتهم بالعدل وفق الصدق. (قال ابن خالويه) بفتح اللام والواو وسكون التحتية وكسر هاء ويقال بضم لام وسكون واو وفتح تحتية فتاء تقلب هاء وقفا نحوي لغوي أصله من همذان بفتح الميم والذال المعجمة دخل بغداد وأدرك أجله العلماء مثل ابن الأنباري وابن مجاهد المقري وتوفي بحلب سنة سبعين وثلاثمائة وله تصانيف كثيرة (ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم) كذا في النسخ بثبوت ما قبل كان والظاهر زيادتها ويكن جعلها موصولة أو موصوفة أو كان زائدة وما تعجبية وحاصله أنه إنما كان أعرفهم بسياسة دنياهم ولم يكن يعرف ما يتعلق بآخرتهم من مراتب عبادة مولاهم ولذلك استشهد بقوله تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم: 7] ) وحاصله أنه ليس في تقسيمه كبير منفعة بخلاف تجزئية صاحب النبوة ولهذا استدركه بقوله (ولكن) بالتخفيف أولى (نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) على ما رواه الترمذي وغيره عنه (جزّأ) بتشديد الزاء فهمز أي قسم (نهاره) أي ساعات يومه (ثلاثة أجزاء) أي أقسام (جزءا) بالنصب وجوز بالرفع وقد يضم زاءه (لله) تقديما لرضاه وقياما بالاشتغال بذكره عما سواء (وجزءا) بالوجهين (لأهله) إيثارا لهم على حقه (وجزءا لنفسه) لحديث أن لنفسك عليك حقا ثم لعل هذا الجزء الأول من الصبح إلى الظهر والثاني إلى العصر والثالث إلى المغرب والمعنى حصته لنفسه لا دخل فيها لغيره من الأهل خاصة دون العامة لقوله، (ثمّ جزّأ جزأه بينه وبين النّاس) أي عموما بحسب حاجاتهم والحاصل أنه جعل ذلك الوقت أيضا وقتا للحق لنفعه بنفسه عموم الخلق فإن كان أحد منهم احتاج إليه وحضر لديه أقبل عليه وأفاده بالفوائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الدينية والدنيوية والعوائد الحسية والمعنوية النافعة في الدرجات الأخروية وإلا فاشتغل بمراعاة نفسه خاصة لفراغه من الواجبات المفروضة عليه من جهة حق الله تعالى وحقوق الأهل بحسب تقديم الأهم فالأهم والله تعالى أعلم (فكان) أي من عادته في جزء خاصة نفسه (يستعين بالخاصّة) أي من أرباب صحبته وأصحاب خدمته (على العامّة) أي قضاء حاجتهم والمجاهدة في منفعتهم لقوله تعالى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ولقوله عليه الصلاة والسلام الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله كما رواه الطبراني عن ابن مسعود والمعنى يأمر الخاصة بتبليغ العامة إذ ليس كل إنسان يتوصل إلى ذلك (ويقول أبلغوا) أي وكان يقول لهم أوصلوا إلى (حاجة من لا يستطع إبلاغي) أي إبلاغ حاجته لي (فإنّه) أي الشأن (من أبلغ حاجة من لا يستطيع) أي إبلاغها كما في نسخة صحيحة (آمنه الله) بهمزة ممدودة أي جعله في أمن من الضرر (يوم الفزع الأكبر) وهو وقت النفخة الثانية أو حالة الانصراف إلى العقوبة والحديث رواه الطبراني في الكبير بسند حسن عن أبي الدرداء ولفظه ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة وكذا لفظ الترمذي في الشمائل برواية الحسن عن أخيه الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم (وعن الحسن) أي البصري على ما رواه أبو داود في مراسيله (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يأخذ أحدا) أي لا يؤاخذه ولا يجازيه (بقرف أحد) بفتح قاف وسكون راء أي بذنبه وكسبه ومنه قوله تعالى وَمَنْ يَقْتَرِفْ أو بظن أحد ورميه وفي نسخة بقذف أحد بسكون الذال المعجمة من قذفه بالمكروه أي نسبه إليه (ولا يصدّق أحدا على أحد) أي ولا يقبل كلام أحد في حق أحد سواء ترتبت عليه المؤاخذة أم لا فهو تعميم بعد تخصيص، (وذكر أبو جعفر) وهو محمد ابن جرير (الطّبريّ) بفتحتين نسبة إلى طبرية وكذا رواه ابن راهويه في مسنده والبيهقي في دلائله (عن عليّ كرم الله وجهه عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ما هممت بشيء) أي ما قصدت عملا (ممّا كان أهل الجاهليّة يعملون به) وإنما أعاد المصنف هذا الحديث ههنا مع تقدمه لإفادة زيادة قوله (غير مرّتين كلّ ذلك) ضبط الرفع والنصب وهو أظهر أي في جميع ما ذكر من الكرتين (يحول الله) أي يصير بحوله حائلا ومانعا (بيني وبين ما أريد من ذلك) أي عمل أهل الجاهلية وهذا معنى قوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إلى أي يحجز ويمنع وقال أبو عبيد يملك عليه قلبه فيثرفه كيف شاء، (ثمّ) أي بعد ما هممت بهما (ما هممت بسوء) أي أبدا بتوفيقه وعصمته (حتّى أكرمني الله برسالته) ومن المعلوم أن بعد تحقق نبوته لم يتصور وجود مخالفته ثم بين المرتين من الحالتين المذكورتين بقوله، (قلت ليلة لغلام) أي لفتى أو مملوك (كان يرعى معي) أي غنمي أو غنم غيري وهو الأظهر لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما من نبي إلا وقد رعاها يعني الغنم قيل ولا أنت يا رسول الله قال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ولعل الحكمة أن يتدرب على سياسة الرعية على سبيل الشفقة والرحمة ولا يبعد أن تكون الغنم له أو لغيره لكن كانت غي عهدته بقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 (لو أبصرت إلي غنمي) أي تمنيت والتمست منك إن راعيت حفظ ما يتعلق بي (حتّى أدخل مكّة فأسمر بها) بفتح الهمزة وضم الميم أي أحادث ليلا مطلقا أو ليلا مقمرا والسمر في أصله ضوء القمر وجعل الحديث فيه سمرا ومنه قوله تعالى مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ كانوا يجتمعون حول البيت بالليل وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميتهم إياه سمرا فلهذا ذمهم الله بقوله تَهْجُرُونَ (كما يسمر الشّباب) أريد به الجنس ووقع في أصل الدلجي بلفظ الشباب والمعنى فاسمر سمرا مشابها لسمرهم في مشاهدة قمرهم حال سهرهم ورقادهم في سحرهم لغلبة سكرهم وكثرة نكرهم وقلة فكرهم، (فخرجت لذلك) أي لقصد السمر (حتّى جئت أوّل دار من مكّة) أي مما فيها آلات لذات الشهوة (سمعت عزفا) بفتح مهملة فسكون زاء ففاء أي لعبا بالمعازف وهي الملاهي أو صوتا حسنا وغناء في الطباع مستحسنا مختلطا (بالدّفوف والمزامير) أو بسبب ضرب الدفوف وأصوات الملاهي كالعود والطنبور ونحوها (لعرس بعضهم فجلست) أي خارج الباب أو داخله أو بعد الأذن وبعد رفع الحجاب (أنظر) أي حال كوني انظر لعبهم وأتسمع لهوهم أو من أجل أن أنظر إليهم واتسمع لديهم؛ (فضرب) بصيغة المجهول (على أذني) بضم الذال وتسكن وبفتح النون وتشديد ياء المتكلم أو بكسر النون وتخفيف ياء الإضافة على إرادة الجنس أي أنامني الله إنامة ثقيلة لا يمنعني عن النوم اضطراب أصوات ولا كثرة حركات ومنه قوله تعالى فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي أنمناهم (فنمت) بكسر النون (فما أيقظني إلّا مسّ الشّمس) أي إصابة حرها على بدني (فرجعت ولم أقض شيئا) أي مما قصدت من المعصية وارتكاب السيئة ولعل سماع المزامير كان مباحا في الشرائع المتقدمة، (ثمّ عراني) أي أصابني (مرّة أخرى مثل ذلك) أي مما هممت به في المرة الأولى فعصمني منها المولى (ثم لم أهمّ) بضم هاء وتشديد ميم مفتوحة ويجوز ضمها وكسرها أي لم أقصد (بعد ذلك) أي ما ذكر من المرتين (بسوء) أي بهم سوء قط وهو بضم السين ويفتح. فصل [وأما وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم] (وأمّا وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم) بفتح الواو رزانته ورصانته وحلمه وتحمله (وصمته) أي وسكوته وسكونه وطمأنينته وسكينته (وتؤدته) بضمتين بضم ففتح همز ويبدل أي تأنيه في قوله وعمله وتثبته ومهلته بلا عجلة (ومروءته) فسكون واو فهمزة وتبدل وتدغم فتشدد (وحسن هديه) أي سيرته وطريقته المشتملة على حقائق شريعته ودقائق حقيقته (فحدّثنا) كذا بالفاء ههنا على ما في النسخ المصححة (أبو عليّ الجيانيّ) بفتح جيم وتشديد تحتية ثم نون وهو الغساني (الحافظ إجازة) أي نوعا من أنواع الإجازة ومنها المناولة ولو بالمكاتبة (وعارضت) أي قابلت (أصلي بكتابه) أي المروي عن مشايخه (قال ثنا) أي حدثنا (أبو العبّاس الدّلائي) بكسر دال مهملة فلام مشددة وقد تخفف بعدها ألف ممدودة (أنا) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أخبرنا وفي نسخة ثنا (أبو ذرّ الهرويّ) تقدم ذكره (أنا) أي أخبرنا (أبو عبد الله الورّاق) بتشديد الراء. (ثنا) أي حدثنا (اللّؤلؤيّ) بهمزتين وقد تبدل الأولى (ثنا أبو داود) أي صاحب السنن. (ثنا عبد الرّحمن) أي ابن محمد (بن سلام) بتشديد اللام قيل وهو يكتب بهمزة الابن ههنا إيماء لوجود الفاصلة روى عن ابن المبارك وابن فضالة وروى عنه أبو زرعة (قال ثنا الحجّاج) وفي نسخة صحيحة حجاج (بن محمّد) وهو الأعور المصيصي الحافظ عن ابن جريج وشعبة وعنه أحمد وغيره قال ابن ماجه بلغني أن ابن معين كتب عنه نحوا من خمسين ألف حديث (عن عبد الرّحمن بن أبي الزّناد) وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان روى عن أبيه وشرحبيل بن سعد وعنه هناد وعلي بن حجر (عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ وُهَيْبٍ) بالتصغير وفي نسخة عن وهب وهو تصحيف قال الحلبي هو عمر بن عبد العزيز بن وهيب الأنصاري مولى زيد بن ثابت روى عن خارجة بن زيد وعنه عبد الرحمن ابن أبي الزناد وأخرج له أبو داود في المراسيل هذا الحديث قال الذهبي في الميزان لا يعرف من ذا (سمعت خارجة بن زيد) أي ابن ثابت الأنصاري وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة المقول فيهم: ألا كل من لا يهتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه وكنيته أبو زيد (يقول) أي خارجة وهو تابعي فيكون حديثه هذا مرسلا وهو حجة عند الجمهور (كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أوقر النّاس) أكثرهم حلما وأعظمهم تحملا في جميع أوقات أنسه لا سيما (في مجلسه) أي المعد لمصاحبة جنسه محافظة على رعاية آدابه تعليما لأصحابه وأحبابه وطلبة حديثه وحملة كتابه (لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه) أي من بزاق فمه أو مخاط أنفه أو قطع ظفره أو قلع وسخه ووقع في اصل الدلجي شيء بالرفع وقال في قوله لا يكاد يخرج مبالغة في لا يخرج أي لا يقرب أن يظهر من تحت ثيابه شيء من أطرافه فضلا عن أن يظهر منها شيء انتهى فتدبر واختر ما صفا ودع ما كدر. (وروى أبو سعيد الخدريّ) كما أخرجه عنه أبوداود وكذا الترمذي في شمائله (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا جلس في المجلس) أي في جنس مجلسه الخاص فيما بين أصحابه (احتبى بيديه) بأن جمع بين ظهره وساقيه إما بيديه أو بثوبه كما في رواية والاسم الحبوة بضم الحاء وكسرها والعامة تقول حبية (ولذلك كان أكثر جلوسه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي هيئات جلوسه وحالات قعوده (محتبيا) لكثرة التواضع لديه وعدم التكلف فيما كان سلف العرب عليه ولذا قال أكثر الأوقات إليه وفي الحديث الاحتباء حيطان العرب وأحيانا يقعد على هيئة التحية. (وعن جابر بن سمرة) كما روى مسلم وأبو داود (أنّه تربّع) أي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا جلس في المجلس تربع أحيانا لقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 (وربّما) بالتشديد والتخفيف (جلس القرفصاء) بضم القاف والفاء وروي بكسرهما وبمد وقصر فيهما وعن الفراء إذا ضممت مددت وإذا كسرت قصرت ومعناه عن أبي عبيد أن يجلس على اليتيه ملصقا بطنه بفخذيه محتبيا بيديه (وهو) أي جلوسه القرفصاء على ما رواه الترمذي (في حديث قيلة) بفتح قاف فسكون تحتية بنت مخرمة العنبرية وقيل العدوية وقد تقدم (وكان كثير السّكوت) لتفكره في مشاهدة الملكوت وتذكره مطالعة الجبروت (لا يتكلّم في غير حاجة) أي من قضية ضرورية دينية أو دنيوية أو مسألة عملية أو علمية لقوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ولحديث أن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، (يعرض عمّن تكلّم بغير جميل) أي بما لا يستحسن ذكره ولا يباح أمره إذا صدر عمن تكلم بناء على جهله لقوله تعالى وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ والظاهر أن المراد بالإعراض هو الصفح وعدم الاعتراض فيختص بالمكروهات التنزيهية على مقتضى القواعد الشرعية وأما المحرمات القطعية وكذا المكروهات التحريمية فلا بد للشارع من أن يأمر ويزجر قياما بحق النبوة والرسالة وأما قول الدلجي في تفسير غير جميل حراما أو مكروها إذ لا يقر على باطل وإعراضه كاف عن انكاره صريحا لإشعاره بعدم رضاه به فهو ليس من الحمل الجميل لأن الإنكار القلبي لا يكون كافيا إلا للعاجز عن إنكاره بيده ولسانه وهذا غير متحقق في زمانه لا سيما بالنسبة إلى عظمة شأنه وإن كان زماننا هذا يكتفي فيه بالسكوت وملازمة البيوت والقناعة بالقوت إلى أن يموت على محبة الحي الذي لا يموت، (وكان ضحكه) بكسر فسكون وروي بفتح فكسر (تبسّما) أي من جهة الابتدائية كقوله تعالى فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها أو من طريقة الأغلبية لما في الشمائل للترمذي من حديث عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وأما القهقهة فمنفية ويمكن حمله على ظاهره من عمومه لما في الشمائل أيضا من حديث جابر بن سمرة وكان لا يضحك إلا تبسما لكن الشراح حملوه على غالب حاله وقيل كان لا يضحك في أمر الدنيا إلا تبسما أما في أمر الآخرة فكان قد يضحك حتى تبدو نواجذه على ما في الترمذي أيضا وهو توفيق حسن وجمع مستحسن (وكلامه فصلا) أي وكان كلامه فرقا بين الحق والباطل أو فاصلا بين الحلال والحرام وأو بينا يتبينه كل من سمعه ولا يشتبه على من يتفهمه وما ذلك إلا لجعله تعالى له مبينا للأنام في مشكلات الأحكام كَمَا قَالَ تَعَالَى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ او مختصرا ملخصا لقوله (لا فضول) بالفتح أي لا زيادة في كلامه (ولا تقصير) أي ولا نقصان عن قدر الحاجة أو لا إيجاز ولا إطناب بل التوسط المحمود في كل باب بالجمع بين المباني اليسيرة والمعاني الكثيرة، (وكان ضحك أصحابه عنده) أي في حضرته (التّبسّم) أي لا غير (توقيرا له) أي تعظيما لحرمته (واقتداء به) أي في كيفية ضحكه وهيئته. (مجلسه مجلس حكم) بضم فسكون أي مجلس علم بالأحكام أو عمل بالعدل في حق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الأنام ولو ثبت كسر حاء وفتح كا لكان له وجه وجيه في المرام بأن يكون مجلسه للصحبة ملآن من أنواع الحكمة ويؤيده أن رواية الترمذي مجلس علم وفي نسخة بكسر حاء وسكون لام وكذ وقع في أصل الدلجي وهو ملكة تورث التؤدة وعدم العجلة عند حركة الغضب وداعية العقوبة (وحياء) أي ومجلس حياء مشتمل على صفاء وضياء وهي ملكة تمنع مما لا يليق فعله في الحضرة والغيبة (وخير) أي ومجلس كل خير من خيري الدنيا والآخرة فهو تعميم بعد تخصيص (وأمانة) أي مجلس أمانة دون خيانة تخصيص للاهتمام بأمرها لتعلقها بغير صاحبها ولذا ورد لا إيمان لمن لا أمانة له على ما رواه أحمد وابن حبان في صحيحيهما عن أنس رضي الله تعالى عنه (لا ترفع) بصيغة المجهول مذكرا أو مؤنثا (فيه) أي في مجلسه (الأصوات) تأدبا لسيد الكائنات ولقوله سبحانه وتعالى لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآيات (ولا تؤبن) بضم فسكون همز وتبدل وفتح موحدة مخففة وقد تشدد أي لا ترمى بصريح ولا تذكر بقبيح (فيه الحرم) بضم وفتح جمع الحرمة وهي ما لا يحل انتهاكه وروي بضمتين بمعنى النساء من الأهل وما يحميه الرجل والمعنى لا تقذف ولا تعاب من ابنته أي رميته بسوء ومنه حديث النهي عن شعر تؤبن فيه النساء وكذا حديث الإفك أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي وحاصله أن مجلسه كان يصان من رفث القول وفحش الفعل وقد تصحف على اليمنى حيث قال مأخوذ من المآثر واحدها مأثرة ويحتمل لا تؤبر أي لا تلدغ من أبرته العقرب لدغته انتهى، (إذا تكلّم) أي هو صلى الله تعالى عليه وسلم (أطرق جلساؤه) أي خفضوا رؤوسهم وسكنوا نفوسهم (كأنّما) بزيادة ما الكافة (على رؤوسهم الطّير) يجوز في مثله ثلاثة أوجه بحسب القراءة وهي كسر الهاء وضم الميم وكسرهما وضمهما وفي التشبيه تنبيه على المبالغة في وصفهم بالسكوت والسكينة وعدم الخفة لأن الطير لا يكاد يقع إلا على شيء ساكن من الحركة. (وفي صفته) أي وجاء في نعت مشيه على ما في الشمائل وغيره (يخطو) بضم طاء وسكون واو أي يمشي (تكفّؤا) بضم فاء مشددة فهمزة وتبدل وفي نسخة بكسر فاء وفتح تحتية أي تمايلا إلى قدام قال النووي وزعم كثيرون أن أكثر ما يروى بلا همز وليس كما قالوا انتهى وقال صاحب النهاية هكذا روي غير مهموز والأصل الهمز وبعضهم يرويه مهموزا لأن مصدر تفعل من الصحيح تفعلا كتقدم تقدما وتكفأ تكفؤا والهمزة حرف صحيح وأما إذا اعتل انكسر عينه نحو تسمى تسميا وتخفى تخفيا فإذا خففت الهمزة التحق بالمعتل فصار تكفيا بالكسر (ويمشي هونا) أي مشيا هونا لقوله تعالى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي سكونا لا سريعا ولا بطيئا ولا خيلاء بل افتقارا للحق وتواضعا للخلق وفي رواية الهويني تصغير هوني تأنيث أهون فالتقدير مشية هوينى (كأنّما ينحطّ) بتشديد الطاء أي ينزل (من صبب) بفتحتين وموحدتين أي منحدر ويلزم منه الميل إلى القدام لا السرعة المنافية لمقام المرام كما زعم من ليس له في هذا الفن المام وفي رواية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 للترمذي في صبب وهو أظهر فتدبر (وفي الحديث الآخر إذا مشى) أي في جميع أوقاته (مشى مجتمعا) أي مشيا معتدلا مستويا مجتمعا بين توالي حركاته لا متفرقا في حركاته وسكناته وقال الهروي أي ما كان يمشي مسترخيا (يعرف في مشيته) بكسر الميم أي هيئة مشيه وضبط في نسخة بفتحها وهو سهو قلم من كاتبها (أنّه غير غرض) بفتح معجمة وبكسر راء وتنوين معجمة مأخوذ من الغرض بفتحتين وهو الضجر والملال ومنه قول الحسن علم الله أنها بلد غرض فرخص لعباده من شاء أن ينفر في النفر الأول ومن شاء أن ينفر في النفر الآخر وروي بلد غرض بالإضافة والصفة (ولا وكل) بفتحتين على ما في النسخ المصححة ففي القاموس رجل وكل محركة عاجز وقال الدلجي بكسرهما وقال التلمساني الغرض بفتح الراء وروي بكسرها والوكل بفتح الكاف وحكي كسرها والله تعالى أعلم (أي غير ضجر) تفسير من المصنف لغرض على وزانه أي غير قلق وملل (ولا كسلان) تفسير لو كل يعني ولا عاجز يكسل في فعله أي الهداية والدلالة فيكل أمر إلى غيره معتمدا على تحصيله. (وقال عبد الله بن مسعود) فيما رواه البخاري عنه موقوفا (إنّ أحسن الهدي) بفتح فسكون أي السيرة والطريقة المشتملة على حجية الشريعة وحقية الحقيقة وفي نسخة بضم وفتح مقصورا أي الهداية والدلالة (هدي محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نفس الأمر هديه هدى ربه لفنائه في بقائه فيصح إسناده إليه تارة وإلى ربه أخرى كما قال تعالى قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وفي آية أخرى قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى. (وعن جابر بن عبد الله) صحابيان أنصاريان (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ فِي كَلَامِ رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم ترتيل) أي تبيين لحروف البناء وتمهيل في كيفية الأداء لقوله تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا وقوله لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (ترسيل) عطف تفسير وهو موافق لما في المصابيح وفي نسخة صحيحة بأو على أنه شك من الراوي. (وقال ابن أبي هالة) واسمه هند وأمه خديجة رضي الله تعالى عنهما فهو ربيبه صلى الله تعالى عليه وسلم (كان سكوته على أربع) أي على أربعة أحوال والحال يذكر ويؤنث لأنها بمعنى الوصف والصفة (على الحلم) على جهة التحمل مع القدرة والمجاوزة عن المؤاخذة (والحذر) أي الحراسة من عداء المخالفة، (والتّقدير والتّفكّر قالت عائشة) رضي الله تعالى عنها كما رواه الشيخان (كان رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ) أي لو أحصى عدد حروفه المحصي من أهل الحساب (لأحصاه) أي لقدر على إحصائه وعد عدده وجمعه وحفظه وهذا مبالغة في الترتيل والتبيين وقد روي أنه كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا تكلم تكلم ثلاثا ولعل الأول للسماع والثاني للتنبيه والثالث للفكر والأظهر أن الثلاث باعتبار مراتب مدارك العقول من الأعلى والأوسط والأدنى، (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يحبّ الطّيب والرّائحة الطيب) أي الحاصلة من غير جنس الطيب كبعض الأزهار والاثمار (ويستعملهما كثيرا) استعمالا مناسبا لكل منهما مع أنه بذاته بل وبفضلاته طيب كما هو مقرر في محله فكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 استعمالهما لزيادة المبالغة بنية ملاقاة الملائكة ولأنهما يورثان النشاط والقوة (ويحضّ عليهما) أي يحث ويحرض على استعمالهما (ويقول حبّب إليّ من دنياكم النّساء) وفي رواية تأخيره (والطّيب) كما رواه النسائي والحاكم في المستدرك من حديث أنس بإسناد جيد وضعفه العقيلي وليس فيه لفظ ثلاث وإنما وقع في بعض الكتب كالإحياء وغيره فما وقع في بعض النسخ من لفظ ثلاث بعد دنياكم خطأ فاحش ومما يدل على بطلانه تغيير سياق الحديث وتعبيره بقوله، (وجعلت قرّة عيني في الصّلاة) إيماء إلى أن قرة العين ليست من الدنيا لا سيما من الدنيا المضافة إلى غيره صلى الله تعالى عليه وسلم ودفعا لما تكلف بعضهم من أن الصلاة حيث كانت واقعة في الدنيا صحت إضافته إليها في الجملة على اختلاف في أن المراد بالصلاة هل هي العبادة المعروفة أو الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم بحقيقة المرام ثم تحقيق الكلام ما ذكره حجة الإسلام في الإحياء حيث قال الدنيا والآخرة عبارة عن حالين من أحوال القلب فالقريب الداني منهما يسمى دنيا وهي كل ما قبل الموت والمتراخي المتأخر يسمى آخرة وهي ما بعد الموت ثم الدنيا تنقسم إلى مذمومة وغير مذمومة فغير المذمومة ما يصحب الإنسان في الآخرة ويبقى معه بعد الموت كالعلم والعمل فالعالم قد يأنس بالعلم حتى يصير الذ الأشياء عنده فيهجر النوم والمطعم والمشرب في لذته لأنه اشهى عنده من جميعها فقد صار حظا عاجلا له في الدنيا ولكن لا يعد ذلك من الدنيا المذمومة كذلك العابد قد يأنس بعبادته ويستلذ بها بحيث لو منعت عنه لعظم ذلك عليه حتى قال بعضهم ما أخاف الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل فقد صارت الصلاة من حظوظه العاجلة وكل حظ عاجل قاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو وعلى هذا ينزل جعله عليه الصلاة والسلام الصلاة من حكم ملاذ الدنيا أو لأن كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهو في عالم الشهادة وهو من الدنيا والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع والسجود إنما يكون في الدنيا فلذلك أضافها عليه الصلاة والسلام إلى الدنيا إلا أنها ليست من الدنيا المذمومة في شيء فإن الدنيا المذمومة هي حظ عاجل لا ثمرة له في الآخرة كالتنعم بلذائذ الأطعمة والمباهاة بالقناطير المقنظرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والقصور والدور ونحوها يريد على قدر الضرورة والحاجة (ومن مروءته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي أخلاقه المرضية وشمائله البهية (نهيه) كما رواه أحمد (عن النّفخ في الطّعام والشّراب) أي جميعا ولأبي داود وابن ماجه والترمذي وصححه نهيه عن النفخ في الإناء وللترمذي في الشراب لأنه في الطعام يؤذن بالعجلة وشره النهمة وقلة التؤدة وفي الإناء يورث رائحة كريهة ولأنه قد ينفصل بالنفخ فيهما من الفم ما يكون موجبا لنفرة الطبيعة وقيل نفس الآدمي سم (والأمر) كان الأولى ان يقال وأمره ليحسن عطفه على نهيه أي ومن مروءته أيضا الأمر (بالأكل ممّا يليه) أي الآكل بصيغة الفاعل لحديث الشيخين قل بسم الله وكل بيمينك مما يليك على الخلاف في أن الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 للوجوب أو الندب وعليه الأكثر، (والأمر بالسّواك) أي وكذا أمره به من جملة مروءته كما في حديث لا مرية في صحته ومن فوائد السواك إزالة تغير الفم وتنظيف الأسنان وتطييب النفس وغيرها مما بلغ أربعين آخرها أنه يذكر الشهادة عند الخاتمة على ضد أكل الأفيون وشرب الدخان نسأل الله العافية (وإنقاء البراجم) بالجر عطفا على بالسواك وفي نسخة بالرفع على أن التقدير ومن مروءته تنظيف البراجم (والرّواجب) وهما جمع برجمة بالضم وراجبة والمراد بهما مفاصل الأصابع من ظهر الكف وباطنها (واستعمال خصال الفطرة) بالاحتمالين وهي فيما رواه الشيخان خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الابط زاد مسلم المضمضة وقص الشارب وإعفاء اللحية والاستنجاء وأبو داود من حديث عمار الانتضاح ومن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فرق الرأس والاستنشاق في معنى المضمضة وقد سبق في معانيها ما يغني عن إعادتها هنا. فصل [وأما زهده صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا] (وأمّا زهده في الدّنيا) أي عدم ميله إليها وقلة المبالاة بوجودها وفقدها اعتمادا على خالقها (فقد تقدّم من الأخبار) أي الأحاديث الواردة عن الثقات الأخبار (أثناء هذه السّيرة) أي سيرة سيد الأبرار (ما يكفي) أي يغني عن الإعادة والتكرار، (وحسبك من تقلّله منها) أي كافيك من منفعتها (وإعراضه عن زهرتها) بفتح الزاء أي زينتها وبهجتها؛ (وقد سيقت إليه) أي والحال إنها جلبت لديه وعرضت عليه (بحذافيرها) جمع حذفار وقيل حذفور أي بأسرها من أولها وآخرها (وترادفت) أي تتابعت (عليه فتوحها) والجملتان معترضتان بين المبتدأ وخبره وهو قوله (أن توفّي) بصيغة المجهول بعد أن المصدرية والمعنى كافيك مما ذكر حال حصول ما ذكر وفاته (صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة إلى أن توفي على أنها متعلقة بتقلله إيماء إلى اختيار زهده في الدنيا باعتبار الحالة الأولى والأخرى دفعا لما توهم بعضهم من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم في آخر عمره اختار الغنى ومما يأبى هذا المعنى قوله (ودرعه) أي والحال أنها (مرهونة عند يهوديّ في نفقة عياله) كما سبق تفصيل أحواله، (وهو يدعو) أي والحال أنه مع ذلك يطلب من ربه كفاية أمره وأمر من يتعلق به من أهله وآله (ويقول) كما رواه الشيخان (اللهمّ اجعل رزق آل محمّد قوتا) أي بلغة تسد رمقهم ليقوموا بعبادة من خلقهم وفي رواية لمسلم والترمذي وابن ماجة اللهم اجعل رزق آل محمد في الدنيا قوتا وفسر القوت بما يمسك رمق الإنسان لئلا يموت والظاهر أن المراد به هنا قدر الكفاية لما في رواية كفانا. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ الْعَاصِي وَالْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الحافظ) هو ابن سكرة وليس بالغساني كما حرره الحلبي (والقاضي أبو عبد الله التّميميّ قالوا) أي كلهم (ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ) بضم الجيم (ثنا أبو سفيان) وفي نسخة صحيحة ابن سفيان (ثنا أبو الحسين مسلم بن الحجّاج) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 صاحب الصحيح (ثنا أبو بكر بن أبي شيبة) تقدم ذكرهم، (ثنا أبو معاوية) وهو محمد بن خازم بالخاء المعجمة والزاء أحد الأعلام وحفاظ الإسلام روى عن الأعمش وهشام وعنه أحمد وإسحاق وابن معين وكان مرجئا أخرج له الأئمة الستة (عن الأعمش) تابعي جليل روى عن ابن أبي أوفى ورزين وأبي وائل وعنه شعبة ووكيع وخلق له ألف وثلاثمائة حديث (عن إبراهيم) هو النخعي أبو عمران الكوفي الفقيه رأى عائشة رضي الله تعالى عنها وروى عن خاله الأسود وعلقمة وجماعة وكان عجبا في الورع رأسا في العلم (عن الأسود) أي ابن يزيد النخعي عن عمر وعلي ومعاذ حج ثمانين مرة كل مرة بعمرة وكان يصوم حتى يحتضر ويختم في ليلتين (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا شبع) بكسر الموحدة أي ما أكل حتى شبع (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثلاثة أيّام) أي بلياليها (تباعا) بكسر التاء الفوقية مصدر تابع أي متابعة وموالاة (من خبز) أي مطلقا ووقع في أصل الدلجي من خبز بر وليس من البر (حتّى مضى سبيله) أي إلى أن توفاه الله تعالى بحسب ما قدره وقضاه والحديث في أواخر مسلم وقد أخرجه البخاري وغيره أيضا. (وفي رواية أخرى) أي له أو لغيره أو للشيخين كما قاله الدلجي (مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ وَلَوْ شَاءَ) أي الله كما في نسخة صحيحة ويدل عليه قوله (لأعطاه) إذ لو كان التقدير لو شاء رسول الله لكان المناسب أن يقول لأعطاه الله أو لأعطى أي متمناه (ما لا يخطر) بكسر طاء ويضم أي ما لم يمر (ببال) أي لا يحدث في خلال خيال، (وفي رواية أخرى) أي لهما (مَا شَبِعَ آلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم من خبز برّ) لقلة وجوده أو لكثرة زهده (حتّى لقي الله) وفي نسخة زيادة عز أي تعالى شأنه وجل أي أعظم برهانه (وقالت عائشة رضي الله عنها) كما رواه مسلم (ما ترك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بعد وفاته، (دينارا) أي من الذهب (ولا درهما) أي من الفضة وهو بكسر الدال وفتح الهاء وتكسر ولله در القائل: النار آخر دينار نطقت به ... والهم آخر هذا الدرهم الجاري والمرء بينهما إن لم يكن ورعا ... معذب القلب بين الهم والنار (ولا شاة ولا بعيرا) أي وإنما ترك ما في التمسك به نجاة الثقلين والفوز بسعادة الكونين وهو الكتاب والسنة فمن أخذ بهما ظفر بكنوز الجنة، (وفي حديث عمرو بن الحارث) أخو جويرية من أمهات المؤمنين له ولأبيه صحبة كما رواه البخاري عنه (ما ترك) أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة (إلا سلاحه) بكسر أوله والمراد سيوفه ورماحه وقسيه ودروعه ومغافره وغيره ذلك مما علقه الحلبي على البخاري (وبغلته) أي البيضاء وهي دلدل (وأرضا جعلها صدقة) الأقرب أن الضمير إلى الأرض وجعلها صدقة لا ينفي كونها مخلفة عنه بطريق تكلمه عليها لكونه ناظرا لها والأنسب عوده إلى الجميع والمعنى جعلها بعد موته صدقة كما حقق في حديث نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الاستثناء مفرغ أي ما ترك شيئا يعتد به إلا ما ذكر ونحوه إن ثبت أنه ترك غيره. (قالت عائشة رضي الله عنها) كما رواه الشيخان (ولقد مات وما في بيتي) اللام ابتدائية أو قسمية والواو حالية أي لهو قد أو والله لقد مات والحال أنه ليس في بيتي (شيء يأكله ذو كبد) بفتح فكسر ويجوز سكونه مع كسر وفتح أي ذو حياة وخص الكبد لأنه منبع الدم (إلّا شطر شعير) لعله نصف صاع وقال الترمذي أي شيء من شعير ثم المختار رفعه على البدلية ويجوز نصبه على الاستثناء (في رفّ لي) بفتح راء وتشديد فاء خشب يرفع عن الأرض في جدار البيت يرقى عليه ما يراد حفظه وهو الرفرف أيضا وفي الصحاح الرف شبه الطاق وتمام الحديث فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففني وهو متفق عليه ثم قالت. (وقال لي) أي تسلية لحالي (إنّي عرض عليّ) بني للمفعول وحذف فاعله إجلالا (أن يجعل لي) بالتذكير أو التأنيث أي يصير ويقلب لأجلي (بطحاء مكّة) أي حصاها أو مسيلها (ذهبا فقلت لا) أي لا اختاره (يا ربّ) فاختر لي (أجوع يوما) أو معناه لا أريد بل أريد أن أجوع يوما أي وقتا (فأصبر) وقدمه لأنه مذكر للافتقار إليه وباعث للاتكال عليه ومبالغة في احتقار عرض عروض الدنيا لديه (وأشبع يوما) أي وقتا آخر (فأشكر) لأكون مؤمنا كاملا فإن الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر كما في الحديث وإليه يشير قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وهذا مقام الأنبياء والأولياء من أرباب الكمال وهو التربية بنعتي الجلال والجمال ثم بين ما يترتب على كل منهما من حسن الحال بقوله (فَأَمَّا الْيَوْمُ الَّذِي أَجُوعُ فِيهِ فَأَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ) أي اتذلل وألتجئ (وأدعوك) بما أؤمل لديك (وأمّا اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك) أي فأشكرك (وأثني عليك) وصنيعنا في تفسير الحمد بالشكر أولى من قول الدلجي إن العطف تفسيري فإن التأسيس أولى من التأكيد لا سيما ومقام النعمة يقتضي الشكر الموجب للمزيد ومما يؤيده أيضا ما رواه الترمذي بلفظ فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك (وفي حديث آخر) قال الدلجي لا أدري من رواه بهذا اللفظ قلت فكان ينبغي أن يذكر من رواه بهذا المعنى ليكون مؤيدا له في المبنى والحاصل من كلامه ونقل غيره (أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ إِنَّ الله تعالى يقرئك السّلام) أي يسلم عليك وفي القاموس اقرأ عليه السلام أبلغه كاقرأه ولا يقال أقرأه إلا إذا كان السلام مكتوبا وفي الاكمال اقرأته السلام وهو يقرئك السلام بضم الياء رباعيا فإذا قلت يقرأ عليك السلام فبفتح الياء وقيل هما لغتان وبهذا يندفع ما تكلف الدلجي بقوله يقال اقرأ فلانا السلام كأنه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام ويرده (ويقول) أي الله سبحانه وتعالى (لك) أي اعتبارا أو اختيارا (أتحبّ أن أجعل هذه الجبال) من الصفا وأبي قبيس وغيرهما مما حوالى مكة وأطرافها أو جنس هذه الجبال بأنواعها وأصنافها (ذهبا وتكون) أي جبال الذهب (معك حيثما كنت) أي من جهة الشرق والغرب وما بينهما وما مزيدة للتأكيد (فأطرق ساعة) أي خفض رأسه تأدبا وتفكرا مع سكوته انتظارا لما يلهمه ربه من الخيرة كما ورد في دعائه اللهم خر لي واختر لي ولا تكلني إلى اختياري (ثُمَّ قَالَ يَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 جِبْرِيلُ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ له ومال من لا مال له) أي في المآل (قد) للتقليل (يجمعها) أي يريد جمعها (من لا عقل له) أي لقلة معرفته بحقيقة الدنيا من سرعة فنائها وكثرة عنائها وقلة غنائها وخسة شركائها ولمنافاتها للآخرة باعتبار درجاتها (فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ ثَبَّتَكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بالقول الثّابت) الجملة دعائية أو خبرية والمراد ههنا بالقول الثابت هو الحق المطلق المحقق وإن ورد في التنزيل في جواب المؤمن للملكين في القبر حيث قال تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ مع أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فقول الدلجي في هذا المقام أي أدامك على قول لا إله إلا الله لا يناسب المرام كما لا يخفى على الكرام ثم في الحديث على إمكان قلب الأعيان هذا وقد رواه أحمد الدنيا دار من لا دار له قد يجمعهما من لا عقل له والبيهقي ولفظه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجبريل يوما ما أمسي لآل محمد كفة سويق ولا سفة دقيق فاتاه إسرافيل فقال إن الله تعالى سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح الأرض وأمرني أن أعرض عليك إن أحببت أن أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة فعلت وفي رواية لأحمد والله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة ولابن سعد وكذا لابن عساكر لو شئت لسارت معي جبال الذهب وللطبراني لو سألت أن يجعل لي تهامة كلها ذهبا لفعل (وعن عائشة رضي الله عنها) كما رواه الشيخان (قالت إنّ) قال الأنطاكي إن كلمة تأكيد بمعنى قد واللام للتأكيد أيضا وقيل إن نفي واللام استناد والأظهر الأشهران أن مخففة من المثقلة وقد روي أنا (كنّا آل محمّد) يجوز رفعه على البدل من المضمر ونصبه على الاختصاص والثاني أظهر (لنمكث شهرا) أي قدره (ما نستوقد نارا إن هو) أي ما قوتنا (إلّا التّمر والماء) وفي رواية إلا الأسودان. (وعن عبد الرّحمن بن عوف) على ما رواه الترمذي والبزار بسند جيد (هلك) واعترض بأن الصواب نحو توفي وقبض لأن الهلاك أكثره في العذاب وفي موت الكفار ويمكن دفعه بأنه قال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ ونسخة قال هلك أي مات (رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَشْبَعْ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ من خبز الشّعير) أي فضلا عن خبز البر فلا عبرة بما يتوهم من قيده باعتبار مفهومه من حصول شبعه من غيره (وَعَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ) أي بمعناه مع اختلاف مبناه (قال ابن عبّاس) كما روى ابن ماجه والترمذي وصححه (كان رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ هُوَ وَأَهْلُهُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ) أي فيها بأيامها (طاويا) حال منه لأنه الأصل والأعلى أو من أهله فهو بالأولى (لا يجدون) أي أهله أو هو وأهله (عشاء) وهو تأكيد لما قبله ولعل الاقتصار على العشاء للإيماء بأنه الأهم من الغداء. (وعن أنس رضي الله عنه) برواية البخاري (قال ما أكل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على خوان) بكسر أوله ويضم أي مائدة أو هو ما يؤكل عليه من نحو كرسي على عادة المترفهين لئلا يفتقروا إلى الانحناء حال أكلهم وسئل قتادة على ما كانوا يأكلون يعني الصحابة قال على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 السفر (ولا في سكرّجة) بضم الثلاثة وتشديد الراء وجوز فيها الفتحة إناء صغير يؤكل فيه القليل من الأدم فارسي معرب وأكثر ما يوضع فيه وأمثاله ما يعتاده المترفهون من إحضار المخللات ونحوها من المهضمات والمرغبات في أطراف المأكولات (ولا خبز له) بصيغة المجهول الماضي (مرقّق) بصيغة المفعول أي أرغفة واسعة رقيقة وتسمى الرقاق كطويل وطوال وقيل اللين الأبيض المسمى بالحواري (ولا رأى شاة سميطا قطّ) فعيل بمعنى مفعول أي مسموطا بمعنى مشويا بجلده فإن الغالب سمطها بأن ينزع صوفها بالماء الحار بعد تنظيفها من القاذورات وإخراج ما في بطنها من النجاسات وإلا فحرام في أصح الروايات وكذا حكم الرؤوس والدجاجات والسمط لا يحسن إلا في صغار الغنم. (وعن عائشة رضي الله عنها) برواية الصحيحين (إنّما كان فراشه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي الخاص كما بينته بقولها (الذي ينام عليه أدما) بفتحتين أي جلدا مدبوغا وقيل الأحمر منه وقال الدلجي جلدا أسود (حشوه ليف) بكسر اللام أصول سعف النخل، (وعن حفصة رضي الله عنها) أي ابنة عمر أم المؤمنين كما في الشمائل للترمذي (قَالَتْ كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في بيتي) أي مكاني المنسوب إلي ووقع في أصل الدلجي بلفظ في بيته وتصح الإضافة بأدنى الملابسة وإنما الكلام في ثبوت الرواية (مسحا) بكسر الميم بلاسا من شعر أبيض وقيل من شعر أسود (نثنيه) بكسر النون المخففة أي نطويه (ثنتين) بكسر المثلثة أي عطفتين وفي نسخة ثنيين بالتذكير على المصدر وفي أخرى ثنتين أي مرتين (فينام عليه) وهذا من دأبه وعادته في كل وقته (فثنيناه له ليلة بأربع) أي أربع طاقات والباء من باب الزيادات وبات عليه من غير شعوره ابتداء به لاستغراقه في شهود نوره ووجود حضوره (فلمّا أصبح قال ما فرشتم لي اللّيلة) استفهام انكاري أو استعلام (فذكرنا ذلك له) أي ثنيه أربعا ليوجب له راحة ونفعا (فقال ردّوه بحاله) أي على وفق عادتي (فإنّ وطأته منعتني اللّيلة صلاتي) أي لينته منعتني كمال حضوري في طاعتي أو شغلتني عن القيام لصلاتي وقراءتي (وكان) كما رواه الشيخان والترمذي وابن ماجة (ينام أحيانا) أي في بعض الأوقات (على سرير مرمول بشريط) أي منسوج بحبل مفتول من سعف (حتّى يؤثر) أي يظهر أثر خشونة الشريط (في جنبه) لكونه يرقد عليه من غير حائل بينه وبينه قيل حتى ابتدائية والصيغة المضارعية حكاية الحال الماضية وقيل مرادقة لكي التعليلية والأولى أظهر فتدبر. (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمْ يمتلىء) بهمز هو الصحيح وفي نسخة بلام مفردة ولعل وجهها التخفيف المسهل ثم معاملته معاملة المعتل فتأمل أي ما امتلأ (جوف النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم شبعا) بكسر ففتح وقد يسكن وقيل الأول نقيض الجوع والثاني ما شبع من الشيء فالمعول هو الأول إذ نصبه على التمييز فتأمل (قطّ) أي أبدا ولعل مرادها غالب أحواله أو شبعا مفرطا غير مناسب لكماله (ولم يبث) بضم موحدة وتشديد مثلثة أو بضم أوله وكسر ثانيه أي لم ينشر ولم يظهر (شكوى) أي شكايته ولا بطريق حكايته في جميع حالاته (إلى أحد) من أصحابه وزوجاته لقوله تعالى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ضمن آياته حكاية عن يعقوب في شدة ما ابتلاه قال نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ (وكانت الفاقة) أي الحاجة الملازمة من الفقر المقتضي للصبر (أحبّ إليه من الغنى) المقتضي للشكر وهذا صريح في تفضيل الصبر على الشكر كما ذهب إليه أجلاء الصوفية وأكثر علماء الفقهية هذا وقد ورد لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة على ما رواه الترمذي عن فضالة بن عبيد (وإن) مخففة من المثقلة أي وأنه (كان ليظلّ) بفتح الظاء المعجمة وتشديد اللام أي يكون في طول النهار (جائعا) بهمزة مكسورة (يلتوي) أي حال كونه يتقلب ويضطرب (طول ليلته من الجوع) أي من استمرار جوعته أو من أجل حرارة لذعته ولذا ورد اللهم أني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع كما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود مرفوعا وهذا كله لكمال زهده في الدنيا وإقبال قلبه على الأخرى بناء على رضى المولى (فلا يمنعه) أي جوعه (صيام يومه) أي الذي فيه ولو كان نفلا أو صيام يوم عادته في مستقبله وهذا بيان بعض شدة حاله (ولو شاء) أي الغني وما يترتب عليه من التنعم وحصول المنى ووصول الهدى (سأل ربّه جميع كنوز الأرض) أي استدعاه لا سيما وقد عرضها عليه مولاه (وثمارها) يجوز نصبها وهو الأشهر في المبنى وجرها وهو الأظهر في المعنى أي جميع ثمار اشجارها أو جميع فوائدها وعوائد فرائدها (ورغد) والرغد بفتحتين ويسكن على ما في القاموس (عيشها) أي سعة معيشتها وطيب منفعتها (وَلَقَدْ كُنْتُ أَبْكِي لَهُ رَحْمَةً مِمَّا أَرَى بِهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِي عَلَى بَطْنِهِ مِمَّا بِهِ من الجوع) أي من أثر جوعه المختص به وهذا يدل على أنه كان يطعم أهله ويؤثرهم على نفسه (وأقول) أي والحال أني اقول حينئذ (نفسي لك الفداء) بالمد تفاديا به من ألم الجوع وشدته ومرارة حرارته (لو تبلّغت من الدّنيا بما يقوتك) بضم قاف أي لو توسعت من البلغة وتوصلت إلى المتعة بقدر ما يقويك على قيام الطاعة ويعينك على زيادة العبادة لكان أولى من هذه الحالة فجواب لو مقدر وما قدرناه أحسن من التقدير المشهور وهو لكان أحسن ويجوز أن يكون لو للتمني ويشير إلى ما اخترناه ما صدر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من الجواب الدال على أن اختاره هو الصواب. (فيقول يا عائشة ما لي وللدّنيا) استفهامية انكارية أي لا حاجة لي إليها ولا إقبال لي عليها قال التلمساني قيل يجوز أن يكون ما استفهامية وتقديره أي الفة ومحبة لي معها حتى أرغب فيها وقيل يجوز أن يكون ما نافية أي ليس لي الفة إلى آخرة انتهى ثم بين إعراضه عنها بقوله (إخواني من أولي العزم من الرّسل) أي كلهم وأجلهم (صبروا على ما هو) أي على أمر عظيم هو (أشدّ من هذا) أي مما أنا صابر عليه لما روي أن بعضهم مات من الجوع وبعضهم من شدة اذى القمل وبعضهم من كثرة الجراحات وشدة الأمراض والعاهات وقد خصني الله تعالى فيما حثني وحضني على الاقتداء بهم بقوله سبحانه وتعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ وفيه إيماء إلى أن العبرة في الكتاب والسنة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (فمضوا على حالهم) أي التي كانوا عليها مما يقتضي الصبر ولم يطلبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 من ربهم السعة ولا دفع المضرة نظرا إلى كمال حسن مآلهم (فقدموا على ربّهم) راضين بقضائه صابرين على بلائه شاكرين على نعمائه (فأكرم مآبهم) أي مرجعهم إليه (وأجزل) أي أعظم (ثوابهم) لديه (فأجدني أستحي) بياءين وفي نسخة بياء واحد أي فأرى نفسي مستحيية (إن ترفّهت) أي لو تنعمت (في معيشتي أن يقصّر بي) بتشديد الصاد المفتوحة (غدا دونهم) أي دون مرتبتهم وتحت درجتهم وهمتي أن أكون فوق جملتهم (وَمَا مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ اللّحوق بإخواني) أي في الجملة (وأخلائي) أي أحبائي في الملة. (قالت فما أقام) أي في الدنيا (بعد) بالضم أي بعد قوله ذلك (إلّا شهرا حتّى توفّي صلى الله تعالى عليه وسلم) غاية لإقامته أي إلى أن مات وانتقل إلى رحمة ربه وهذا يدل على اختياره الفقر في جميع أمره إلى آخر عمره قال الدلجي رحمه الله تعالى لم أدر من روى هذا الحديث لكن روى ابن أبي حاتم في تفسيره عنها قالت ظل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم طواه ثم ظل صائما قال يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ولم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ قفاها وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله قال التلمساني هنا مسألة وهي من قال ما لي صدقة على أعقل الناس فأفتى الفقهاء على أنه يعطى الزهاد لأن العاقل من طلق الدنيا وأنشدوا: طلق الدنيا ثلاثا ... وأطلبن زوجا سواها إنها زوجة سوء ... لا تبالي من أتاها أنت تعطيها مناها ... وهي تعطيك قفاها فإذا نالت مناها ... منك ولتك وراها فصل [وأما خوفه صلى الله تعالى عليه وسلم من ربه عز وجل] أي ثالث (وأمّا خوفه ربّه) معمول للمصدر المضاف إلى فاعله وفي نسخة من ربه (وطاعته له) أي كمال انقياده في جميع حالاته (وشدّة عبادته) أي كمية وكيفية (فعلى قدر علمه بربّه) أي بمقدار معرفته بعظمته (ولذلك) أي لكون ما ذكر على قدر علمه (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فيما حدّثناه) أي في جملة ما رواه لنا (أبو محمّد بن عتّاب) بتشديد التاء الفوقية (قراءة منّي) أي بين أقراني (عليه) ففيه دلالة على تسوية إطلاق الحديث على القراءة والسماع (قال ثنا) أي حدثنا (أبو القاسم الطّرابلسيّ) بضم الموحدة واللام (ثنا أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة (ثنا أبو زيد المروزيّ ثنا أبو عبد الله الفربريّ) بكسر ففتح فسكون (ثنا محمّد بن إسماعيل) أي البخاري صاحب الصحيح. (ثنا يحيى بن بكير) بالتصغير روى عن مالك والليث قال أبو حاتم لا يحتج به وضعفه النسائي قال الذهبي كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ثقة واسع العلم وذكر في الميزان أنه وثقه غير واحد قال الحلبي كيف لا وقد احتج به البخاري وروى عنه (عن اللّيث) أي ابن سعد عالم أهل عصره روى عن عطاء وابن أبي مليكة ونافع قال أبو نعيم في الحلية أدرك نيفا وخمسين رجلا من التابعين وعنه قتيبة وخلق كان نظير مالك في العلم وقال الشافعي الليث أفقه من مالك ولكن أضاعه أصحابه وقيل كان دخله في السنة ثمانين ألف دينار فما وجبت عليه زكاة وقد حج وأهدى إليه مالك طبقا فيه رطب فرد إليه على الطبق ألف دينار وأخرج أبو نعيم عن لؤلؤ خادم الرشيد قال جرى بين الرشيد وبين بنت عمه زبيدة بنت جعفر كلام فقال لها هارون أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة ثم ندم فجمع الفقهاء فاختلفوا ثم كتب إلى البلدان فاستحضر علماءها إليه فلما اجتمعوا جلس لهم فسألهم فاختلفوا وبقي شيخ لم يتكلم وكان في آخر المجلس فسأله فقال إذا خلا أمير المؤمنين في مجلسه كلمته فصرفهم فقال يدنيني أمير المؤمنين فأدناه فقال اتكلم على الأمان قال نعم فأمر بإحضار مصحف فأحضر فقال تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن فأقرأها ففعل فلما انتهى إلى قوله تعالى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ قال أمسك يا أمير المؤمنين قل والله فاشتد ذلك على هارون فقال يا أمير المؤمنين الشرط املك فقال والله حتى فرغ من اليمين قال قل إني اخاف مقام ربي فقال ذلك يا أمير المؤمنين فهي جنتان وليست بجنة واحدة قال فسمعنا التصفيق والفرح من وراء الستر فقال الرشيد احسنت والله وأمر له بالجوائز والخلع وأمر له باقطاع وأن لا يتصرف واحد بمصر إلا بأمره وصرفه مكرما وقد ذكروا في ترجمته أنه كان لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلاثمائة وستين مسكينا عدد أيام السنة (وعن عقيل) بضم مهملة وفتح قاف وهو ابن خالد الأيلي أخرج له الأئمة الستة (عن ابن شهاب) هو الزهري (عن سعيد بن المسيّب) بفتح التحتية المشددة وتكسر وهو من أجلاء التابعين وساداتهم (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يقول) يدل على تكرر سماعه لهذا الحديث عنه (قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قليلا ولبكيتم كثيرا) أخرجه البخاري في الدقائق وروى أحمد والبخاري أيضا ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس وزاد الحاكم عن أبي ذر ولما ساغ لكم الطعام ولا الشراب ورواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن أبي الدرداء بزيادة ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لا تدرون تنجون أو لا تنجون (زاد) أي شيخنا السابق أو بعض مشايخنا وقد أخطأ الدلجي بقوله أي زاد أبو هريرة أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه يصير التقديران أحدهما زاد في روايتنا عن أبي عيسى رفعه إلى أبي ذر وخطأه لا يخفى على من له ذرة من العقل الذي يدرك مراتب النقل (في روايتنا) أي من غير قراءتنا (عن أبي عيسى التّرمذيّ) أي صاحب السنن (رفعه) أي الترمذي إسناده أو حديثه (إلى أبي ذرّ رضي الله عنه) أي في قوله مرفوعا كما صرح به الترمذي في الزهد وقال حسن غريب ويروى عن أبي ذر موقوفا وأخرج ابن ماجه فيه نحوه ورواه محمد بن حميد الرازي ورفعه أيضا (إنّي أرى ما لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ترون) أي أبصر ما لا تبصرون من عجائب الملكوت (وأسمع ما لا تسمعون) أي من غرائب أخبار عالم الجبروت (أطّت السّماء) بتشديد الطاء أي صوتت (وحقّ لها) بصيغة المجهول أي وينبغي لها (أن تئطّ) لكثرة ما عليها من الملائكة فكأنهم أثقلوها كثرة وقوة حتى اطت كالقتب وهو تمثيل للتلويح بكثرتها وإن لم يكن ثم أطيط لها تقريرا لعظمة خالقها ومثله حديث العرش على منكب إسرافيل وأنه ليئط أطيط الرحل الجديد بعظمته وعجزه عن حمله إذ من المعلوم أن اطيط الرحل وهو الكور براكبه إنما يكون لقوة ما فوقه من ثقله (ما فيها موضع أربع أصابع) ظرف مستقر لاعتماده على حرف النفي (إلّا وملك) حال من فاعل الظرف وهو موضع أي إلا وفيه مالك (واضع) بالتنوين (جبهته) أي جبينه (ساجدا لله) حال من الضمير قبله، (والله لو تعلمون ما أعلم) أي من شدائد الأحوال وعظائم الأهوال (لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) جواب القسم الساد مسد جواب لو وفيه مقابلة الضحك والقلة للبكاء والكثرة ووقع هنا للدلجي خبط وعدم ربط وتقديم وتأخير لا يليق بضبط الكتاب ولا بحديث الباب لا بد من إصلاحه على نهج الصواب، (وما تلذّذتم بالنّساء على الفرش) بضمتين جمع فراش فهو من قبيل مقابلة الجمع بالجمع، (ولخرجتم إلى الصّعدات) بضمتين جمع صعيد أي الطرقات (تجأرون) أي حالي كونكم ترفعون أصواتكم وتستغيثون وتتضرعون في جميع حالاتكم (إلى الله» لوددت أنّي) بكسر الدال الأولى أي لأحببت وتمنيت ووقع في أصل الدلجي بزيادة الواو قبل وفي رواية ليتني (شجرة تعضد) بصيغة المجهول أي تقطع، (روي) استئناف بصيغة المجهول أي نقل (هذا الكلام) أي بخصوصه مما سبق من المرام وهو قوله (وَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ، مِنْ قَوْلِ أَبِي ذرّ نفسه) موقوفا عليه من غير رفعه، (وهو) أي إسناده الموقوف (أصحّ) أي من إسناده المرفوع قال الحلبي ولما وقفت على قوله وددت إلى آخره من زمن طويل قطعت بأن هذا ليس من كلام النبوة ثم رأيت بعض الحفاظ المتأخرين من مشايخ مشايخي في أربعين له قال إنه مدرج ثم رأيت كلام القاضي أنه من قول أبي ذر وهو أصح وهذه العبارة ما هي مخلصة والذي ذكره بعض مشايخ مشايخي من إنه مدرج هو الصواب فيما يظهر لي انتهى وقد تصحف قوله وهو أصح على الدلجي بما وقع له في أصله وهو واضح بزيادة واو ونقطة صاد يعني وهو ظاهر ثم بينه بقوله أي من حيث إنه أشبه بكلامه وأليق بحاله مع كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أعلم بمكانته عند ربه وأنزه من أن يتمنى عليه دون ما أعطاه انتهى ولا يخفى أن الكلام في صحة الرواية وإلا فلا يخفى وجه ظهور الدراية لأن مثل هذا الكلام إنما ينشأ عن غلبة الخوف من مشاهدة الله بوصف عظمته ومطالعة نعت سخطه المقتضي لعقوبته الجائزة من حيث العقل أنه المطابق للنقل أنه سبحانه وتعالى لو عذب أهل سمواته وأرضه يكون عادلا في قضائه وحكمه إذ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فمن نظر إلى نعوت الجمال حصل له البسط في الحال والمقال ومن طالع صفات الجلال وقع في قبض الحال وضيق البال والكلال وبهذا يجمع بين قول بعضهم من عرف الله طال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 لسانه وقول آخرين من عرف الله كل لسانه هذا وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في الحلية أن عمر رضي الله تعالى عنه مر برجل من المنافقين جالس والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي فقال له ألم تصل مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له مر إلى عملك فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام إن لله تعالى في السموات السبع ملائكة يصلون له غنى عن صلاة فلان قال عمر ما صلاتهم يا نبي الله قال فلم يرد عليه شيئا فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا نبي الله سألك عمر عن صلاة فلان فقال اقرأ على عمر السلام وأخبره بأن أهل سماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي الملك والملكوت وأهل السماء الثانية ركع إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي العزة والجبروت وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون سبحان الحي الذي لا يموت انتهى وفي آخر الحديث ما فيها موضع أربع أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ. (وفي حديث المغيرة) أي ابن شعبة كما رواه الشيخان وغيرهما عنه وهو من دهاة العرب وكذا زياد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان قال ابن وضاح أحصن المغيرة في الإسلام ألف امرأة (صلّى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من كثرة صلاة الليل (حتّى انتفخت قدماه) أي تورمت قال ابن مرزوق إنما ذلك من طول القيام فتنصب المواد إلى الأسافل فتستقر في القدم فيرم لذلك وينتفخ وذلك لبعده من حرارة القلب قيل كان يصلي الليل كله حتى تورمت قدماه من طول القيام فأنزل الله عليه من القرآن ما خففت به عليه وعلى من تبعه وهو قوله إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى وكذا قوله طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، (وفي رواية) أي لهما عنه (كان يصلّي) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (حتّى ترم قدماه) على زنة تعد مضارغ ورم كورث بمعنى تورمت كما في رواية وأما تشديد الميم على ما في بعض النسخ فخطأ فاحش والعدول عن الماضي لحكاية الحال الماضية كقولهم مرض حتى لا يرجونه فالظاهر أنه مرفوع ومنه قوله سبحانه وتعالى حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ بالرفع على قراءة نافع، (فقيل له أتكلّف هذا) بحذف إحدى التاءين وتشديد اللام أي أتتحمل هذا التحمل وجوز الدلجي كونه من كلف بكسر اللام ومنه حديث إني أراك كلفت بعلم القرآن وحديث اكلفوا من العمل ما تطيقون لكنه غير موافق لما في القاموس فإنه قال كلف كفرح أولع وهو مناسب للحديث الأول ثم قال واكلفه غيره وهو الملائم للحديث الثاني أي كلفوا أنفسكم أو غيركم ما تطيقون من أعمالكم ثم قال صاحب القاموس وتكلفه تجشمه والمتكلف المتعرض لما لا يعنيه انتهى ولا يخفى أن هذا المبنى هو المناسب في المعنى الواو هنا بالجملة الحالية بقوله (وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخّر) كما أخبر الله سبحانه وتعالى في سورة الفتح بِقَوْلِهِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وفي عطف ما تأخر اعتناء عظيم فتدبر وحاصله أنك معصوم من ارتكاب الذنب المتعارف ولو فرض أن يقع منك ما لا يليق بمقامك فإن حسنات الأبرار سيئات الأحرار فإنه مغفور عنك ثم لما كان الغالب أن كثرة العبادة ينشأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 عن غلبة خوف العقوبة (قال أفلا أكون عبدا شكورا) على ما أنعم علي من المغفرة وجاء الحديث طبق الآية في مدح نوح عليه الصلاة والسلام إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً وفي ذكر العبد إيماء إلى أنه لا بد لي من القيام بوظائف العبودية ومبالغة في أداء شكر حقوق الربوبية. (ونحوه) أي مثله في المعنى مع اختلاف يسير في المبنى (عن أبي سلمة وأبي هريرة) كذا في النسخ بالعطف والظاهر تكرار عن لما في الشمائل للترمذي بإسناده بلفظ عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأبو سلمة هذا تابعي جليل أحد الفقهاء السبعة وهو ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد العشرة ويحتمل أن يكون في ذلك حديث لأبي سلمة الصحابي موقوفا أو مرفوعا والله أعلم (وقالت عائشة رضي الله عنها) أي فيما رواه الشيخان (كان عمل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ديمة) بكسر الدال أي دائما باعتبار الغلبة فلا ينافي تركه على سبيل الندرة وما الطف عبارتها بقولها ديمة فإنها في الأصل المطر الدائم فلا يبعد أن يجعل من التشبيه البليغ مع قصدها المبالغة في عموم الفائدة، (وأيّكم يطيق ما كان يطيق) أي لما كان له من قوة النبوة الموجبة للمداومة. (وقالت) أي فيما روياه عنها أيضا (كان يصوم حتّى نقول) بالنصب وروي بالرفع كما سبق وروي بالوجهين مخاطبا والمعنى حتى نظن (لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ. ونحوه عن ابن عبّاس وأمّ سلمة) وهي آخر أمهات المؤمنين توفيت في إمارة يزيد (وأنس وقال) أي كل منهم رضي الله تعالى عنهم لا أنس وحده كما اقتصر عليه الانطاكي لكونه أقرب مبنى فإن الجمع أنسب معنى (كنت) أيها المخاطب (لا تشاء أن تراه في اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ مُصَلِّيًا وَلَا نَائِمًا) أي ولا تشاء أن تراه نائما (إلّا رأيته نائما) لما ورد عنه أما أنا فأصلي وأنام وأصوم وأفطر. (وقال عوف بن مالك) وهو من أكابر الصحابة وقد روى عنه أبو داود والنسائي والترمذي (كنت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة) ولعله كان في السفر (فاستاك) أي أول ما استيقظ (ثمّ توضّأ) والظاهر أنه اكتفى بالاستياك الأول. (ثمّ قام يصلّي) أي التهجد؛ (فقمت معه) يحتمل مقتديا ومتابعا (فبدأ) أي القراءة (فاستفتح البقرة) أي بعد الفاتحة لكونها كمقدمتها أو لبيان الجواز بترك قراءتها، (فلا يمرّ بآية رحمة إلّا وقف) أي في موقفها (فسأل) أي الله الرحمة، (وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ) أي التجأ من العقوبة لكونه واقفا بين مقامي الخوف والرجاء ووصفي الفناء والبقاء وملاحظا نعتي الجلال والجمال كما هو حال أهل الكمال، (ثمّ ركع فمكث) بضم الكاف وفتحها أي لبث فيه (بقدر قيامه يقول سبحان ذي الجبروت) فعلوت للمبالغة من الجبر بمعنى القهر والغلبة فإنه هو القاهر فوق عباده (والملكوت) مبالغة الملك أو باطنه أن الملك ظاهره وهذا المعنى متعين عند الجمع بينهما (والكبرياء) أي العظمة المناسب ذكرها في الركوع ولذا لما نزل قوله سبحانه وتعالى فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال اجعلوها في ركوعكم يعني قولوا فيه سبحان ربي العظيم، (ثمّ سجد) أي سجودا طويلا كما هو الظاهر (وقال مثل ذلك) أي نظيره أو بعينه لشمول معنى الكبرياء وصف العلاء الملائم ذكره في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 السجود لانه لما نزل قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال اجعلوها في سجودكم أي قولوا فيه سبحان ربي الأعلى (ثمّ قرأ آل عمران) أي في ذلك الركعة أيضا أو في أخرى وهو الظاهر لقوله، (ثمّ سورة سورة) أي ثم قرأ في كل ركعة سورة، (يفعل مثل ذلك) أي من تطويل الركوع والسجود والتسبيح المذكور وغير ذلك. (وعن حذيفة مثله) أي مثل حديث عوف كما في مسلم (وقال) أي زيادة على تلك الرواية مع احتمال إطلاعه على غير تلك الحالة (سَجَدَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، وَجَلَسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نحوا منه) أي قريبا من طوله (وقال) أي حذيفة (حَتَّى قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ) أي في ركعة والظاهر في أربع ركعات بتسليمة أو تسليمتين. (وعن عائشة) أي برواية الترمذي (قالت قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بآية من القرآن) وهي إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اقتداء بعيسى عليه الصلاة والسلام في الكلام وإيماء إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يريد المغفرة والرحمة ورفع العقوبة عن جميع أمة الإجابة مع التسليم تحت الإرادة وإنما كررها للتدبر في معناها وما يتعلق بمبناها من آثار القدرة وأسرار العزة وأنوار الحكمة (ليلة) أي في ليلة من الليالي وهو يحتمل كلها أو بعضها والأظهر أكثرها وظاهر القيام أن تكرارها كان في الصلاة حال الوقوف وأما ما رواه أحمد والنسائي بسند صحيح عن أبي ذر بلفظ قام حتى أصبح بآية إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فلا يدل على إحياء الليل كله لأنه لم يكن من دأبه فيحتمل أنه قام من الليل أو قام لصلاة التهجد حتى أصبح. (وعن عبد الله بن الشّخير) بكسر شين وخاء مشددة معجمتين صحابي نزل البصرة وأدرك الجاهلية والإسلام فهو مخضرم كما روى أبو داود والترمذي والنسائي عنه (أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلّي) جملة حالية (ولجوفه) أي صدره (أزيز) بكسر الزاي الأولى أي حنين من البكاء ويراد به هنا الخنين بالخاء المعجمة وهو البكاء مع غنة وانتشاق الصوت من الأنف (كأزيز المرجل) أي كغليانه وهو بكسر ميم وفتح جيم قدر من نحاس على ما في الصحاح وسمي به لأنه إذا نصب كأنه أقيم على رجله. (وقال ابن أبي هالة) وهو هند ربيبه عليه الصلاة والسلام من خديجة (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متواصل الأحزان) أي متتابعها لعلمه بشدائد الأحوال وموارد الأهوال حالا ومآلا ولكونه في سجنه سبحانه المقتضي أحزانه وما أحسن قول ابن عطاء: ما دمت في هذه الدار لا تستغرب وقوع الاكدار وأما ما ورد من قوله أعوذ بك من الحزن فمحمول على حزن يتعلق بالدنيا كما قال سبحانه وتعالى لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ، (دائم الفكرة) أي في عاقبة الأمر (ليست له راحة) لقيامه بما كلف من تحمل أعباء الرسالة ومن وظائف العبادة وقد بسطت تحقيق هذه الأحاديث كلها باعتبار مبناها ومعناها في جمع الوسائل لشرح الشمائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما رواه مسلم وغيره (إنّي لأستغفر الله) أي أطلب مغفرته وأسأل رحمته (في اليوم) أي الواحد بل ورد عنه في المجلس الواحد (مائة مرّة) أي بلفظ استغفر الله أو بزيادة العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه أو بلفظ رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم (وروي) كما في البخاري والترمذي (سبعين مرّة) وكل منهما يحتمل التحديد والتكثير وكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم عد اشتغاله بدعوة الأمة ومحاربة الفكرة وتألف المؤلفة ومعاشرة الأهل والعشيرة ومباشرة الأكل والشرب وسائر ضرورات المعيشة مما يحجزه عن كمال الحضور وظهور نور السرور الحاصل من مراقبته ومشاهدته ولهذا المعنى لما سئل الشبلي عن سبب سد باب إفادته فقال لأن أكون طرفة عين مع رب العالمين خير عندي من علوم الأولين والآخرين وقد قال الغزالي ضيعت قطعة من العمر العزيز في تصنيف البسيط والوسيط والوجيز مع أن الأخير هو خلاصة مذهب الإمام الشافعي من طريق النووي والرافعي وهذا بالنسبة إلى قياس ما ظهر لنا من أحوالنا وإلا فالأمر كما روي عن الأصمعي في حديث إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر ربي من أنه لو صدر هذا على قلب صلى الله تعالى عليه وسلم لفسرته ولله در أدبه حيث عظم قلب حبيب ربه الذي هو مهبط وحيه. (وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن سنّته) أي طريقته المبنية على شريعته وحقيقته (فقال المعرفة رأس مالي) لأنها المقصودة من أصل الخلقة قال الله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قال ابن عباس أي ليعرفون، (والعقل أصل ديني) أي بناء مداره ومحل اعتباره (والحبّ أساسي) أي أساس قلبي في حضوري مع ربي (والشّوق مركبي) لأن صاحب الشوق وطالب الذوق في سلوك الطائرين وفاقدهما سيره ضعيف في منازل السائرين (وذكر الله أنيسي) أي مؤنسي وسبب لأن يكون جليسي لحديث أنا أنيس من ذكرني وجليس من ذكرني وفي نسخة أنسي بضم فسكون (والثّقة) أي بالله كما في رواية يعني أن الاعتماد على ربي (كنزي) لما ورد القناعة كنز لا يفنى ولما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ (والحزن رفيقي) حيث إنه لا ينفك عن قلبي لما سبق من أنه كان متواصل الأحزان ولحديث إن الله يحب قلب كل حزين (والعلم سلاحي) لأني أحارب به عدوي من نفسي وشيطاني وأدفع عني به كيد إخواني (والصّبر ردائي) أي موضع تحملي ومحل تجملي وسبب رفعتي وكبريائي (والرّضى) بالقصر مصدر وفي نسخة بالمد على أنه اسم (غنيمتي) لأنه مغتنم في جميع ما يجري من القضاء ولذا قيل الرضى بالقضاء باب الله الأعظم وقد قال تعالى وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ وفيه إيماء بأن رضى الله والعبد متلازمان لا يتصور أنهما ينفكان (والعجز فخري) أي افتخر بإظهار العجز والافتقار في مرتبه العبودية إلى الاحتياج للقدرة والقوة الربوبية كما يشير إليه قوله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ولعل هذا هو وجه ما وقع في نسخة من لفظ الفقر بدل العجز وإن قال ابن تيمية إن حديث الفقر فخري كذب وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 العسقلاني إنه باطل فإن الحكم بوضعه إنما هو باعتبار ما وصل من سنده لا من حيث مبناه المطابق معناه لما ورد في كتاب الله ولا يبعد أن يكون هذا من علي كرم الله وجهه موقوفا بمضمون ما سمعه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض أحوال متفرقة مرفوعا. (والزّهد حرفتي) يعني أن أرباب الدنيا لأجل تمتعها وانتفاعها كل أحد يتعلق بحرفة من حرفها لتحصيل طرف من طرفها وأنا لقلة ميلي إليها وعدم إقبالي عليها جعلت زهدي عنها كسبي فيها اعتمادا على باريها (واليقين) بجميع مراتبه من علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين (قوّتي) أي قوة قلبي في معرفة ربي وفي نسخة بسكون الواو أي قوة روحي وسبب زيادة فتوحي (والصّدق شفيعي) لما قيل من أن الصدق أنجى ولقوله تعالى والمصنف هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ (والطّاعة حسبي) أي كفايتي في مرضاة ربي، (والجهاد خلقي) بضم وضمتين أي دأبي وعادتي وهو يشمل الجهاد الأكبر والأصغر، (وقرّة عيني في الصّلاة) أي من جملة عباداتي أو من جملة عناياتي بناء على أن المراد بالصلاة العبادة المشهورة أو الدعوة المأثورة (وفي حديث آخر) أي برواية أخرى (وثمرة فؤادي) أي نتيجة معارف قلبي (في ذكره) أي ذكر ربي (وغمّي) أي همي الذي يغمني في كل حالتي (لِأَجْلِ أُمَّتِي: وَشَوْقِي إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ) أي في نهاية رتبتي فهذه كلمات جامعة معانيها مطابقة لما في الكتاب والسنة والمصنف ثبت ثقة حجة فحسن الظن به أنه ما رواها إلا عن بينة وإن لم تكن عندنا بينة وأما قول الدلجي قال الأئمة موضوع يحتمل أن يكون باعتبار بعض أفراده بناء على اختلاف إسناده كما بيناه والله أعلم. فصل [اعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن صفات جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام] أي رابع (اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ صِفَاتَ جَمِيعِ الأنبياء) أي نعوتهم عامة (والرّسل) أي خاصة (صلوات الله عليهم) أي كافة (من كمال الخلق) بالفتح وتفسيره قوله (وحسن الصّورة وشرف النّسب) أي مما يقتضي جمال الحسب (وحسن الخلق) بالضم أي السيرة والسريرة والعشرة مع العشيرة، (وجميع المحاسن) أي من الشمائل البهية والفضائل العلية (هي هذه الصّفات) أي المتقدم ذكرها في الفصول الماضية ثم هذه الجملة خبر ان واللام فيه للعهد لا كما توهم الدلجي أنها للاستغراق المبين بمن (لأنّها صفات الكمال والكمال) بالرفع (والتّمام) عطف تفسير كما قال الدلجي إلا أن بينهما فرقا دقيقا وهو أن التمام ما لا يتم الشيء إلا به حتى لو فقد يسمى ناقصا والكمال ليس كذلك لأنه أمر زائد على مقدار التمام فتأمل في مقام المرام (البشري) أي المنسوب إلى جنس البشر جميعهم (والفضل) أي الأمر الزائد على الكمال العرفي (الجميع) مبتدأ خبره (لهم صلوات الله عليهم) والجملة خبر لما قبلها من المبتدءات أي من حيث جميعها فيهم لا في غيرهم ومجموعها حاصل لهم في الجملة بحسب المشاركة وإن كانت تختلف حالهم في مزية المرتبة بل هو المناسب لحال الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 العلوي ولذا لم يقل والكمال والتمام البشريان (إذ رتبتهم أشرف الرّتب) أي رتب الموجودات إلا أن في الملائكة خلافا لبعض الأئمة أو رتب البشر فهو بإجماع الأمة وهذا في الدنيا وقوله (ودرجاتهم أرفع الدّرجات) أي في العقبى (ولكن فضّل الله بعضهم على بعض) أي في الدنيا والآخرة (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة: 253] ) الإشارة إلى من يعلمه نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فاللام للعهد وإنما لم نقل بالاستغراق لقوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ على أنه لا يبعد أنه سبحانه وتعالى أعلم نبيه بجميعهم وإن لم يعلمه بقصصهم ثم المراد بالفضيلة هنا هو الأمر الزائد على أصل معنى الرسالة لاستوائهم باعتبار تلك الحالة كما يدل عليه بقية الآية مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أي تفضيلا له كموسى ليلة الحيرة في الطور وكمحمد ليلة المعراج ولعل تخصيص موسى بقوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً لتكرير تكليمه له أو لاختصاصه به بالنسبة إلى من تقدم كما يشير إليه قوله تعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ أي على جميعهم لا على باقيهم كما قاله الدلجي درجات هو نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم تفضيلا على غيره بمناقب متكاثرة ومراتب متوافرة كالدعوة العامة والفضيلة التامة الجامعة بين الرؤية والمكالمة وبين المحبة والخلة وكالآيات الكاملة والمعجزات الظاهرة الشاملة فهو المفرد العلم الأكمل الغني عن البيان في هذا المحل أو هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث خص بالخلة التي هي من أعلى مراتب المقام أو إدريس عليه الصلاة والسلام رفعه الله مكانا عليا وقيل بقية أولي العزم من الرسل (وقال: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) أي بني إسرائيل (عَلى عِلْمٍ أي بهم (عَلَى الْعالَمِينَ [الدخان: 32] ) أي عالمي زمانهم لكثرة الأنبياء فيهم والمعنى أنا اصطفيناهم عالمين بأنهم أحقاء باصطفائنا إياهم وإذا كان بنو إسرائيل مصطفين لوجود الأنبياء فيهم فبالأولى ثبوت الاصطفاء لهم فتأويلنا هذا الكلام المصنف أولى من قول الدلجي هذا على توهم جعل الضمير للانبياء والحق جعله لبني إسرائيل قبله (وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما رواه الشيخان (إنّ أوّل زمرة) أي طائفة (يدخلون الجنّة) بصيغة المعلوم أو المجهول كما قرئ بهما في السبعة (على صورة القمر) أي في هيئته من كمال إنارته (ليلة البدر) وهي ليلة أربع عشرة سمي بدرا لمبادرته غروب الشمس في الطلوع أو لتمامه فيها (ثمّ قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (آخر الحديث) أي آخره بعد عد جميع زمره وإنما اختصره المصنف لطوله (على خلق رجل واحد) أي كلهم على صورة رجل واحد وهذا على رواية فتح الخاء والأظهر رواية الضم بشهادة رواية اخلاقهم على خلق رجل واحد وبدلالة رواية أخرى لا اختلاف بينهم ولا تباغض في قلوبهم على قلب رجل واحد وأغرب الدلجي حيث جعل الرواية الثانية شاهدة لرواية الخلق بالفتح نعم قد يرجح الفتح كما قال الحلبي لظاهر قوله (على صورة أبيهم آدم عليه السّلام) أي صورة خلقه ولا يبعد أن يكونوا أيضا على سيرة خلقه خلافا للدلجي حيث اقتصر على الأول فتدبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وتأمل (طوله ستّون ذراعا في السّماء) أي في جهتها احتراسا من طول عرضه من جهة الأرض فقد قيل أرضه سبعة أذرع وقيل التقدير وهو في السماء. (وفي حديث أبي هريرة) كما روياه أيضا (رأيت موسى) أي في ليلة المعراج أو في المنام أو في بعض الكشوفات (فإذا هو رجل ضرب) بفتح فسكون أي خفيف اللحم مستدق الجسم على ما ذكره الدلجي تبعا للخليل أو ما بين الجسمين كما قاله الحلبي وهو الأولى لأنه الوصف الأعلى كما ذكره في شمائل المصطفى هذا وقد قال ابن قرقول وقع عند الأصيلي بكسر الراء وسكونها معا ولا وجه للكسر كما قاله القاضي وفي حديث آخر مضطرب وهو الطويل غير الشديد وفي صفاته في كتاب مسلم عن ابن عمر جسيم سبط يحمل على هذا القول الموافق لرواية مضطرب لا على كثرة اللحم وإنما جاء جسيم في صفة الدجال (رجل) بكسر الجيم وروي فتحها أي شعره بين الجعودة والسبوطة (أقنى) أي طويل الأنف مع ارتفاع وسطه ودقة ارنبته (كأنّه من رجال شنوءة) بفتح معجمة وضم نون فواو وهمزة وقد تبدل فتدغم قبيلة من اليمن ويمكن الوجهان في قول الشاعر: نحن قريش وهمو شنوءه ... بنا قريش ختم النبوه (ورأيت عيسى فإذا هو رجل ربعة) بفتح راء وسكون موحدة وقد تفتح أي بين الطول والقصر وهو لا ينافي كونه إلى الطول أقرب كما هو أنسب على ما في شمائله صلى الله تعالى عليه وسلم (كثير خيلان الوجه) بإضافة الكثير أي شاماته جمع خال وهو نقطة سوداء تكون في الجسد ويستحسن قليلة في الوجه (أحمر) أي أبيض مائل إلى الحمرة على ما حقق في نعته صلى الله تعالى عليه وسلم هذا وقد اختلف في صفة عيسى عليه السلام فروى أبو هريرة بأن عيسى أحمر وقال ابن عمر والله ما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأن عيسى أحمر وإنما اشتبه على الراوي وروى ابن عمر أنه عيسى آدم والآدم الأسمر وفي البخاري من طريق مجاهد عن ابن عمر أنه احمر فالمراد ما قارب الحمرة والأدمة كما قدمنا فإنه قد جاء في شمائله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه اسمر مع أنه جاء أيضا كونه أبيض مشربا بالحمرة فتدبر (كأنّما خرج من ديماس) بكسر الدال ويفتح ويؤيد الأول قولهم أعل بقلب ميمه الأولى ياء لكسر ما قبلها فقيل معناه لكن أو الستر أي كأنه مخدر لم ير شمسا وهو بظاهره لا يلائم كونه أحمر فالصواب ما جاء مفسرا في حديث بأنه الحمام وفي الحديث رأيته يطوف بالبيت ثم رأيت بعده الدجال يطوف بالبيت واستشكل بأنه كيف ذلك وقد حرم الله عليه دخول مكة وأجيب بأن التحريم مقيد بوقت فتنته أو حرمت عليه جسمه وهذا باعتبار روحه وفيه إيماء إلى أن مرجع الكل إلى باب المولى وأن لا يقدر أحد أن يخرج عن حكمه تعالى (وفي حديث آخر) لم أعرف من رواه كما قاله الدلجي (مبطّن) بتشديد الطاء المهملة المفتوحة أي ضامر البطن وإن كان قد يطلق على عظيمه (مثل السّيف) أي لاستوائهما واعتدالهما كما ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الدلجي وغيره فهو تأكيد والأظهر أنه نعت مستقل ومعناه أنه مثله ضياء وصفاء وفي الشمائل للترمذي فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود وهو ثقفي قتله رجل من ثقيف عند تأذينه بالصلاة، (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وأنا أشبه ولد إبراهيم به) بفتح واو ولام وبضم فسكون أي أولاده من الأنبياء. (وقال في حديث آخر) على ما رواه البخاري (في صفة موسى كأحسن) ووقع في أصل التلمساني كأشبه (ما أنت راء) بكسر همز من غير ياء اسم فاعل من باب رأى وما موصولة أو موصوفة (من أدم الرّجال) أي من سمرهم وهو بضم همز وسكون دال مهملة جمع آدم أفعل شديدة السمرة قال ابن الأثير الأدمة في الإبل البياض مع سواد المقلتين وهي في الناس السمرة الشديدة وهي من أدمة الأرض وهو لونها وبه سمي آدم عليه الصلاة والسلام وقال النضر بن شميل إنما قيل لآدم آدم لبياضه وقد استدل بعضهم على أن موسى اسمر بقوله سبحانه وتعالى تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فدل ذلك على أنها خالصة اللون وهذا أحسن والله تعالى أعلم. (وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) كما رواه أبو يعلى وابن جرير، (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ لُوطٍ نَبِيًّا إِلَّا فِي ذُرْوَةٍ مِنْ قومه) بكسر الذال المعجمة ويروى مثلثة أي في رفعة أو في عزة كما في حديث سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا والمعنى في منعة وحرمة وغلبة ونصرة (ويروى في ثروة) بفتح المثلثة (أي كثرة) أي توجب غلبة (ومنعة) بفتحتين ويسكن النون أي قوة تمنع المذلة وقيل المنعة بالتحريك جمع مانع أي جماعة يمنعونه ويحمونه من اعدائه هذا والتقييد ببعدية لوط يفيد انه لم يكن في منعة كما يشير إليه قوله لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي بدنية أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أي قبيلة قوية واستشكل الدلجي قوله تعالى لليهود فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ولو كانوا في منعة لما قتلوا منهم ببيت المقدس في يوم واحد ثلاثمائة نبي انتهى ويمكن دفعه بأن منعتهم مقيدة بكونهم في قبيلتهم والقضية واقعة في غير محلتهم أو المراد بالمنعة ما تعلق به من أمر النبوة ومخالفة الأمة مع أنه قد تكون المغلوبية لأرباب المنعة. (وحكى التّرمذيّ) بل روى في الشمائل (عن قتادة) أي مرسلا (ورواه الدّارقطنيّ) وهو الحافظ المشهور إمام المحدثين في زمانه تفقه على الاصطخري وسمع البغوي وروى عنه الحاكم وغيره منسوب إلى دار قطن محلة ببغداد (من حديث قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه) أي موقوفا (ما بعث الله تعالى نبيّا إلّا حسن الوجه) فحسن الوجه يدل على معروف صاحبه كما قيل الظاهر عنوان الباطن وقد أنشد: يدل على معروفه حسن وجه ... وما زال حسن الوجه أهدى الدلائل وقد روى الدارقطني في الإفراد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا ابتغوا الخير عند حسان الوجوه ورواه الطبراني بلفظ التمسوا وقبح الوجه على عكسه باعتبار مفهومه كما قيل: يدل على قبح الطوية ما يرى ... بصاحبها من قبح بعض ملامحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 والظاهر أن الأمرين غالبيان لتصور خلافهما في بعض افراد الإنسان وفي الحديث اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي فالجمع بينهما كمال الجمال (حسن الصّوت) قال تعالى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قرئ بالحاء المهملة وإن كانت المعجمة لهما شاملة (وَكَانَ نَبِيُّكُمْ أَحْسَنُهُمْ، وَجْهًا وَأَحْسَنُهُمْ صَوْتًا صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي من الكل فيشتمل حسن صورة يوسف وصوت داود باعتبار الصباحة والملاحة وزيادة البلاغة والفصاحة هذا وقد قيل يوسف أعطي شطر حسن آدم وقيل شطر حسن جدته سارة لأنها لم تفارق الحور إلا فيما يعتري الآدمية من الحيض وغيره وقد أعطي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كمال الجلال والجمال من تمام الصباحة فما رآه احد إلا هابه ومن تمام الملاحة فما رآه أحد إلا أحبه وفي الحديث دلالة على جواز مثل هذه الإضافة إذا لم يرد بها المهانة أو البراءة. (وفي حديث هرقل) على ما في الصحيحين من أنه قال لأبي سفيان (وَسَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَنْسَابِ قَوْمِهَا) والزعم قد يستعمل بمعنى القول ولعله استعمل بمعنى الظن لما يوهم من معنى التهمة أو لأن أمر النسب مبني على غلبة الظن لا على الحقيقة كما روي عن ابن سلام في قوله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وقد رفع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هذا الوهم في نسبه بما ورد عنه في أحاديث مضمونها أني ولدت من أب إلى أب إلى آدم كلهم من نكاح ليس فيهم سفاح وهذا كله على مقتضى ما وقع في أصل الدلجي وأما على ما صح عندنا من النسخ المعتمدة فذكرت أنه فيكم فلا إشكال (وقال تعالى في أيّوب) أي في نعته (إِنَّا وَجَدْناهُ) أي علمناه أو صيرناه (صابِراً) بتخليقنا أو بتوفيقنا (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي أيوب مبتدأ خبره ما قبله وخص بالمدح لصبره على بلائه ورضاه بقضائه ولا يضره شكواه ما به من ضر إلى مولاه (إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 44] ) أي كثير الرجوع إلى الله وقال الانطاكي أي تواب والتحقيق هو الفرق بين أواب وتواب بأن التوبة عن المعصية والأوبة عن الغفلة قيل كان ببلاد حوران وقبره مشهور عندهم بقرب نوى وفي قربه عين جارية يتبركون بها على زعم أنها المذكورة في القرآن (وقال تعالى: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) أي التوراة (بِقُوَّةٍ [مريم: 12] ) أي بجد وجهد ومبالغة في مواظبته (إلى قوله: وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 15] ) وهو قوله سبحانه وتعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ أي الحكمة أو النبوة أو المعرفة بالشريعة صبيا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي رحمة وشفقة منا عليه أو رحمة وتعطفا في قلبه على أبويه وزكاة أي طهارة أو نماء ورفعة وكان تقيا أي عن المعاصي نقيا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ أي مبالغا في برهما ولم يكن جبارا متكبرا عصيا عاقا وَسَلامٌ أي من الله عليه يَوْمَ وُلِدَ أي من أن يمسه الشيطان كغيره من بني آدم كما أخبر به صلى الله تعالى عليه وسلم وَيَوْمَ يَمُوتُ أي من ضمة القبر ونحوها أي حين يدفن في حجرته عليه السلام وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا من هول القيامة وخوف العقوبة قال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون الإنسان في هذه الأحوال الثلاثة يوم ولد فيخرج مما كان ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم ير نفسه فيه فخص يحيى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 بالسلامة في هذه المواطن قلت ولعل وجه تخصيصه ما روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا أَلَمَّ بِذَنْبٍ أَوْ كاد إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام (وقال تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) من التبشير أو البشارة لثبوتهما في السبعة (بِيَحْيى إلى الصَّالِحِينَ) يعني قوله مصدقا بكلمة من الصالحين أي القائمين بحقوق الله تعالى وحقوق عباده أجمعين (وقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) أي اختارهما (وَآلَ إِبْراهِيمَ) أي إسماعيل وإسحاق وأولادهما ومنهم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من نسل إسماعيل ويدخل إبراهيم في من اصطفى دخولا أوليا كما لا يخفى (وَآلَ عِمْرانَ [آل عمران: 33] ) أي موسى وهارون ابني عمران بن يصهر أو عيسى وأمه بنت عمران بن ماثان وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة على ما ذكره الدلجي (الآيتين) يعني قوله عَلَى الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانهم أو على المخلوقين جميعهم ذرية أي حال كونهم ذرية واحدة بعضها من بعض في الديانة وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بأقوالهم وأحوالهم فاصطفاهم لعلمه بهم (وَقَالَ فِي نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الإسراء: 3] ) حامدا لله في جميع حالاته مع القيام بوظائف طاعاته قيل كان نوح عليه الصلاة والسلام إذا أكل طعاما أو شرب شرابا أو لبس ثوبا قال الحمد لله فسمي عبدا شكورا أي كثير الشكر (وقال) أي بعد قوله تعالى إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ (اللَّهَ يُبَشِّرُكِ) بالوجهين (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) أي بوجود من يخلق بأمركن من عنده سبحانه بغير واسطة وجود أب (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) مبتدأ وخبر أي مسح بالبركة والميمنة أو مسح الأرض بالسياحة (إلى الصَّالِحِينَ [آل عمران: 45- 46] ) وهو قوله عيسى ابن مريم وجيها حال مقدرة أي ذا وجاهة في الدنيا بالنبوة والآخرة بالكرامة والشفاعة ومن المقربين في الحضرة وصحبة الملائكة وعلو الدرجة في الجنة ويكلم الناس أي ومكلما لهم في المهد وكهلا أي طفلا وكهلا كلام الأنبياء من غير قصور في الحالين من تغيير الإنباء ومن الصالحين فيه إشارة إلى أن مرتبة الصلاح غاية الفوز والفلاح (وقال تعالى) أي حكاية عن عيسى (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) انطقه الله به في أول الحالات لكونه مبتدأ المقامات ولكون ردا على من زعم الوهيته من أهل الضلالات (آتانِيَ الْكِتابَ) أي الإنجيل (إلى ما دُمْتُ حَيًّا [مريم: 30- 31] ) أي قوله تعالى وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أي نفاعا للغير معلما للخير أين ما كنت وَأَوْصانِي أي أمرني بالصلاة والزكاة أي إن ملكت مالا أو بالصدقة على حسب الطاقة أو طهارة النفس من الخباثة ما دمت حيا أي في مدة حياتي إلى ساعة مماتي (وقال) أي في حق موسى عليه الصلاة والسلام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى [الأحزاب: 69] الآية) يعني فبرأه الله مما قالوا أي حيث قذفوه بعيب في بدنه برصا أو أدرة لفرط تستره حياء على وفق طبعه وشرعه فأطلعهم الله على براءته منه ونزاهته عنه وكان عند الله وجيها أي ذا وجاهة وقربة عند ربه عندية مكانة لا مكان لتنزهه سبحانه وتعالى (قال النّبي صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه الشيخان (كان موسى رجلا حييّا) بكسر التحتية الأولى وتشديد الثانية فعيل بمعنى شديد الحياء في جميع الأحوال (ستيرا) بكسرتين مع تشديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الثانية أي كثير التستر في حال الاغتسال وفي نسخة صحيحة بفتح فكسر تحتية مخففة قال ابن الأثير ستير قليل بمعنى فاعل أقول واختيار المبالغة أبلغ وانسب بقوله (ما يرى من جسده شيء استحياء) وفي نسخة استحاء أي لأجل كمال حيائه من رفقائه (الحديث) وتمامه قوله عليه الصلاة والسلام فآذاه من آذاء من بني إسرائيل فقالوا ما تستر هذا التستر إلا عن عيب بجلده إما برص أو أدرة وهي بالضم نفخ الخصية وأن الله أراد أن يبرئه فخلا يوما وحده أي منفردا ليغتسل فوضع ثوبه أي جميعه وهو المناسب لدفع الأدرة أو الزائد عن إزاره إن كان البرص على زعمهم فوقه ففر الحجر أي بعد فراغه من غسله ويحتمل كونه من قبله فجمح بجيم فميم مفتوحة فحاء مهملة أي أسرع في أثره يقول أي قائلا ثوبي أي ألقه أدرة بأحجر حتى انتهى أي مشيه ووصل إلى ملأ بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن خلق الله حالان من ضمير رأوه إذ الرؤية بصرية ليس لها إلا مفعول واحد فقالوا والله ما بموسى من بأس فأخذ ثوبه أي من فوق الحجر وقد ضربه حيث فر ولعله سبحانه وتعالى به أمر فوالله إن بالحجر لندبا بفتح النون والدال المهملة والموحدة أي تأثيرا من أثر ضربه ثلاثا صفة لاسم أن مبينة لعدده وفي رواية أو أربعا أو خمسا والظاهر أن الجملة القسمية من تمام الحديث وجوز الدلجي أن تكون مدرجة فيه من كلام الراوي لكن ليس فيه ما يشعر به ولا يلجئه وفي الحديث أن تكون مدرجة فيه من كلام الراوي لكن ليس فيه ما يشعر به ولا ما يلجئه وفي الحديث جواز الغسل عريانا في الخلوة وإن كان الأفضل ستر العورة وبه قال الأئمة الأربعة وفيه إيماء إلى ابتلاء الأنبياء والأولياء بإيذاء السفهاء وصبرهم عليه في حال البلاء وأن الأنبياء منزهون من النقائص خلقا وخلقا (وقال تعالى عنه) أي حكاية بعد قوله فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً [الشعراء: 21] ) أي نبوة وعلما (الآية) تمامها وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (وقال في وصف جماعة منهم) موسى مد حالهم (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان: 18] وقال) أي حكاية لقول بنت شعيب في حق موسى (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [الْقَصَصِ: 26] ) روي أن شعيبا قال لها وما علمك بقوته وأمانته فذكرت اقلابه الحجر الثقيل الذي لا يحمله إلا أربعون أو عشرون وغضه البصر حين بلغته الرسالة وأمره إياها بأن تمشي وراءه وتدله بالحجارة إن أخطأ تلقاءه (وقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] ) تقدم أنه منهم ومن أفضلهم أو هذا الوصف يعمهم (وقال: وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم (إِسْحاقَ) أي ابنه (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق سبطه (كُلًّا) أي منهما (هَدَيْنا [الأنعام: 84] إلى قوله) أي في كلام يطول منتهيا إلى قوله إجمالا (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] ) بهاء السكت وفي قراءة ابن عامر بكسرها وفي رواية لابن ذكوان بإشباعها على أنه ضمير راجع إلى المصدر وقرأ حمزة والكسائي بحذف الهاء وصلا والكل بسكونه وقفا والمعنى اقتد بطريقتهم وسيرتهم وسريرتهم أو بما توافقوا عليه من أمر التوحيد والنبوة والبعثة وأمثالها دون الفروع المختلف فيها إذ ليست مضافة إلى كلهم مع عدم إمكان الاقتداء في جميعها بهم لتباين أحكامهم (فوصفهم) أي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 سبحانه وتعالى (بأوصاف) أي نعوت معنوية لا كما توهم الدلجي من زيادة حسية (جمّة) أي كثيرة (من الصّلاح) من بيانية وهو مستفاد من قوله كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (والهدى) أي من صدر الآية وختمها (والاجتباء) من قوله وَاجْتَبَيْناهُمْ (والحكمة) أي الحكم (والنّبوّة) من قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وكان ينبغي أن يذكر نعت الاحسان قبل الصلاح فإنه مستفاد من قوله تعالى وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (وقال وَبَشَّرُوهُ) أي إبراهيم (بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 28] ) أي كثير العلم (وحليم) أي وفي آية أخرى بِغُلامٍ حَلِيمٍ أي ذي حلم وحاصله أنه جامع بين العلم والحلم ولا يخفى حسن تقدم العلم ولعل هذا وجه تقديم المصنف له مع أن ترتيب القرآن عكس ذلك حيث جاء في الصافات حليم بالحاء وفي الذاريات عليم بالعين على احتمال خلاف ذلك باعتبار حال النزول لكن كان حقه أن يقول فبشرناه بغلام حليم وبشروه بغلام عليم فإن ما فعله اقتصار محل لا سيما اقتصاره على قوله فبشرناه فإنه لا يصح إلا مع قوله بغلام حليم بالحاء وإلا فيلزم منه التركيب الممنوع في علم القراءة كالتلفيق المنهي في المعاملة ثم المبشر به إسماعيل وهو أصح من القول بأنه إسحاق وقد تقدم والله تعالى أعلم (وَلَقَدْ فَتَنَّا) أي امتحنا (قَبْلَهُمْ) أي قبل كفار مكة (قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي معه بإرسال موسى إليهم وإيقاع الفتنة بالإمهال في العقوبة وتوسعة الرزق عليهم (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي على الله والمؤمنين أو في نفسه لشرف نسبه وفضل حسبه (إلى أَمِينٌ [الدخان: 17- 18] ) وهو قوله أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ أي حق الدعوة من الإجابة وقبول الطاعة عباد الله أي يا عباد الله أو سلموهم إلى وأرسلوهم معي إلى حيث ما أمر الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ غير متهم في أمر الدين (وقال) أي حكاية عن إسماعيل خطابا لوالده إبراهيم عليهما السلام عند قصد ذبحه بأمر ربه لما رأى في نومه (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصَّافَّاتِ: 102] ) أي على حكم الله وقضائه أو في ابتلائه من أمره بذبحه (وَقَالَ فِي إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] ) وخص به لأنه وعد بالصبر على ذبحه وقد وفى بوعده (الآيتين) أي تمامهما وهو قوله وَكانَ رَسُولًا أي إلى قبيلة جرهم نبيا لعله أخر للفاصلة أو دفعا لتوهم كونه رسولا بالواسطة كقوله سبحانه وتعالى إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ أي من أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام وكان يأمر أهله أي أهل بيته أو جميع أمته بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا أي في مقاله وفعاله وحاله (وفي موسى) أي وقال في حقه (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً [مريم: 51] ) أي لربه في عبادته عن الرياء وعن متابعة هواه بل طالبا لرضاه إذ سلم وجهه لله وأخلص نفسه عما سواه وفي قراءة للسبعة بفتح اللام أي أخلصه الله واختاره لنفسه واجتباه وهذا أكمل مقام في منازل السائرين وأفضل حال في مراحل الطائرين وتمام الآية وكان رسولا نبيا (وفي سليمان نِعْمَ الْعَبْدُ) أي قال في حقه هذا القول (إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 30] ) أي كثير الرجوع إلى رب الأرباب (وقال) أي في حق جماعة منهم (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وقرأ ابن كثير عبدنا فالمراد به إبراهيم لخصوصية أو الإضافة جنسية فتوافق الجمعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وهو أولى كما لا يخفى (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أي أصحاب القوة في مباشرة الطاعات العملية وأرباب البصيرة في الأمور العلمية وفيه تعريض بالبطلة والجهلة الواقعين في تحصيل الشهوات النفسانية واللذات الحيوانية (إلى الْأَخْيارِ [ص: 45- 46] ) يعني قوله سبحانه وتعالى إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ أي جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة لهم هي ذكرى الدار أي دار القرار لما فيها من قرب الجوار كما قال مجنون العامري: وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا فالخواص لا يذكرون الجنة ولا يطلبونها بالمرة إلا لما فيها من وعد الرؤية ومنزلة القربة وقرأ نافع وهشام بإضافة الخالصة إضافة بيانية وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ أي المجتبين من بين أمثالهم الأخيار أي المختارين بأفعالهم (وفي داود أنه أواب) أي حيث كان يفطر يوما ويصوم يوما وينام بعض الليل ويقوم بعضه (ثمّ قال: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قويناه بالهيبة وكثرة الجنود في الخدمة ودوام النصرة والغلبة (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي اتقان العلم والعمل أو الحكومة والنبوة (وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: 20] ) أي الخصام بتمييز الحق عن الباطل في الأحكام أو الكلام الملخص الذي يتبينه المخاطب في كل باب أو قوله أما بعد في كل خطبة أو في أول كتاب (وقال عن يوسف) أي اخبارا عما خاطب به الملك بقوله (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55] ) فدل على غاية حفظه ونهاية علمه بتقرير الحق سبحانه وعظم شأنه وقد روي عن مجاهد أن الملك أسلم على يديه أي لما رأى من وفور علمه وحفظه وشفقته ومرحمته على خلق الله من خاصة وعامة حتى ما كان يشبع في حالته مع وجود الخزائن تحت تصرفه وحيز ارادته مما شهدت أموره الخارقة عن العادة بصحة ثبوته ورسالته (وفي موسى) حيث قال للخضر (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً [الكهف: 69] ) أي معك غير منكر لك وتعليق الوعد بالمشيئة للإشارة إلى أن أفعال العباد جارية على وفق الإرادة الإلهية (وقال تعالى عن شعيب) لعل المصنف اختار تزيين التلويح والتفنن في مقام التحسين فتارة عبر بفي وأخرى بعن (سَتَجِدُنِي أي مخاطبا لموسى (إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص: 27] ) أي في حسن المعاملة والوفاء بالمعاهدة والمعاشرة بالمجاملة والتعليق للاتكال على توفيقه سبحانه وتعالى ومعونته لا للاستثناء في معاهدته بكونه إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فإن هذا ليس من شأن الكمل (وقال) أي في حقه أيضا (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ) من قولهم خالفت فلانا إلى كذا إذا قصدته مع إعراضه عنه والمعنى ما أريد أن آتي ما نهيتكم عنه لأستبد به لعلمي بأنه خطأ وفي ارتكابه خطر فلو كان صوابا لآثرته ولم أتركه فضلا عن أن أنهى غيري عَنْهُ (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] ) أي ما أريد بأمركم للمعروف ونهيكم عن المنكر إلا حصول الصلاح ووصول الفلاح ما دمت استطيعه أو القدر الذي أطيقه قال الثعلبي نقلا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 عطاء وغيره أنه من نسل مدين بن إبراهيم الخليل ويقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وعمي في آخر عمره قال قتادة بعثه الله رسولا إلى أمتين مدين وأصحاب الأيكة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن شعيبا كان كثير الصلاة فلما طال تمادى قومه على كفرهم بعد المعجزة وكثرة المراجعة وأيس من صلاحهم ورجوعهم إلى فلاحهم دعا الله عليهم بقوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ فاستجاب الله للدعوة وأهلكهم بالرجفة وهي الزلزلة وأهلك أصحاب الأيكة بعذاب الظلة قال السمعاني في الأنساب قبر شعيب في خطين وهي قرية بساحل بحر الشام وعن ابن وهب أن شعيبا ومن معه من المؤمنين ماتوا بمكة وقبورهم غربيها بين دار الندوة وبين باب بني سهم وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل في الحجر وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود انتهى وما صح قبر نبي من الانبياء عليهم الصلاة والسلام غير قبر نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إيماء إلى أن غيره من الأنبياء كالبدر السائرة المستورة عن عين الشهود عند ظهور نور شمس دائرة الوجود (وقال: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: 74] ) أي حكمة ونبوة وحكومة في الخصومة قال الثعلبي نقلا عن وهب بن منبه خرج لوط من أرض بابل في العراق مع عمه إبراهيم تابعا له على دينه مهاجرا معه إلى الشام ومعهما سارة أمرأة إبراهيم عليه السلام وخرج معهما أزر أبو إبراهيم مخالفا لإبراهيم في دينه مقيما على كفره حتى وصلوا حوران فمات بها آزر فمضى إبراهيم وسارة ولوط إلى الشام ثم مضوا إلى مصر ثم عادوا إلى الشام فنزل إبراهيم فلسطين ونزل لوط الأردن فأرسله الله إلى أهل سدوم وما يليها وكانوا ألفا يأتون الفواحش قال أبو بكر بن عياش عن أبي جعفر استغنت رجال قوم لوط بوطىء رجالهم واستغنت نساؤهم بنسائهم (وقال إِنَّهُمْ) أي الأنبياء المذكورين في سورتهم (كانُوا) أي بحملتهم (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [الأنبياء: 89] ) أي يبادرون إلى الطاعات (الآية) وهي قوله تعالى وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً أي للرغبة في المثوبة والقربة والرهبة عن العقوبة بالحرقة والفرقة وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي خاضعين أو لأجلنا مع خلقنا متواضعين أو خائفين وجلين حزينين ولعله أشار إلى هذا المعنى بقوله (قال سفيان) أي الثوري أو ابن عيينة وهما تابعان جليلان وجزم التلمساني بالأول (هو) أي معنة الخشوع (الحزن الدّائم) أي المورث للمسارعة إلى الخير (في آي كثيرة) متعلق بقوله وقال تعالى في أيوب أي قد ورد ما ذكر من الآيات الشاهدة على شرف حالهم وكمال جمالهم مما هي نبذة يسيرة مندرجة في آيات كثيرة لا يمكن إحصاؤها وإتيانها بأسرها (ذكر فيها من خصالهم) أي بعض نعوتهم الشاهدة على جميل حالهم (وَمَحَاسِنِ أَخْلَاقِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِمْ وَجَاءَ مِنْ ذلك) أي من قبيل ما ذكر في الآيات (في الأحاديث كثير) أي مما ينبغي أن يروى منها قدر يسير (كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على ما رواه البخاري وابن حبان والحاكم: (إِنَّمَا الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الْكَرِيمِ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبراهيم) وفي اتيان إنما إيماء بحصر كرم النسب وشرف الحسب فيه إذا لم يتفق لأحد أنه (نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنُ نَبِيٍّ ابْنُ نَبِيٍّ) غيره مع إيذان تعريف المبتدأ والخبر به أيضا لتأكيده فلا ينافيه ما رواه أحمد والبخاري عن ابن عمر وأحمد أيضا عن أبي هريرة بلفظ أن الكريم الخ مع أنه وافق لموازنة ما بعده حتى قيل أنه موزون بلفظه ثم الظاهر أن قوله نبي ابن نبي الخ مدرج من كلام الراوي أو تفسير للقاضي. (وفي حديث أنس) أي كما رواه البخاري بعد قوله تنام عيني ولا ينام قلبي (وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ) أي فلا يتطرق إليهم ما يحجزهم من إشراق الأنوار الأحدية أو يحجبهم عن الأسرار الصمدية (وروي) أي من طريق الطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا (أنّ سليمان كان مع ما) ويروى فيما (أعطي من الملك) مما يقتضي تكبرا وتجبرا وترفعا (لَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ تَخَشُّعًا وَتَوَاضُعًا) أي لله كما في نسخة (وكان) أي سليمان على ما روى أحمد في الزهد عن فرقد السنجي (يطعم النّاس لذائذ الأطعمة) وفي أصل التلمساني لذائذ جمع لذيذة وهو ما يوافق الطبع ويلائمه (ويأكل خبز الشّعير وأوحي إليه) وفي نسخة وأوحى الله تعالى إليه (يا رأس العابدين) أي من الملوك أو الموجودين (وابن محجّة الزّاهدين) أي على غيره وفي نسخة محجة بفتحات وتشديد جيم أي مجمعهم أو معظم طريقهم وفيه غاية المبالغة (وكانت العجوز) ووقع في اصل الدلجي وإن كانت فقال هي المخففة من المثقلة (تعترضه) أي تأتيه من عرض طريقه (وهو على الرّيح في جنوده) أي وهو معهم في تلك العظمة (فيأمر الرّيح) أي بالوقوف لأجلها (فتقف) أي بأمره لها (فينظر في حاجتها) أي يتأمل فيها ويقضي بها (ويمضي) أي يتوجه إلى مقصده، (وَقِيلَ لِيُوسُفَ مَا لَكَ تَجُوعُ وَأَنْتَ عَلَى خزائن الأرض) جملة حالية (قال أخاف أن أشبع فأنسى الجائع) أي جنس الجائعين وأغفل عن تفقد المحتاجين وفي نسخة الجياع بكسر الجيم جمع الجيعان، (وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْهُ عليه الصلاة والسلام) كما في البخاري (خفّف على داود القرآن) أي قراءة الزبور (فكان يأمر بدوابّه) أي لأجله وأصحابه وروي بدابته فيحتمل إضافة الجنسية لكن إرادة الواحدية أبلغ في مقام خرق العادة (فتسرج) له (فيقرأ القرآن قبل أن تسرج) أي فيختمه في زمن يسير مع أنه كتاب كبير بناء على خرق العادة من بسط الزمان أوطى اللسان وقد وقع نظير هذا لبعض أكابر هذه الأمة (وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ قَالَ الله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) أي كالشمع يتصرف فيه كيف يشاء من غير طرق وإحماء (أَنِ اعْمَلْ) بأن المصدرية بتقدير الباء السببية أي وأحينا إليه وأمرناه إن أعمل فإن مصدرية أو مفسرة وأما قول التلمساني إن التقدير تكلف لعدم الدليل على الحذف ففي غير محله نشأ من قلة تأمله (سابِغاتٍ) أي دروعا واسعات (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) [سبأ: 10- 11] ) أي اجعله على قدر الحاجة في النساجة والسرد في اللغة اتباع الشيء بالشيء من جنسه ومنه سرد الحديث والمعنى لا تصغر حلقه فتضيق حال لابسها ولا توسعها فينال لابسها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 خلالها وقيل لا تقصد الخصافة فتثقل في الجملة والخفة فتزيل المنعة وفي البخاري ولا تدق المسمار فتسلس هو من قولهم سلس أي لين وروي فيتسلسل أي فيتصل فيسرع كسره باندقاقه (وَكَانَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ عَمَلًا بِيَدِهِ يغنيه عن بيت المال) أي فعلمه الله صنعة الدرع وسبب ذلك ما روى عنه أنه كان يسأل الناس عن نفسه فيثنون عليه فرأى ملكا في صورة آدمي فسأله فقال نعم الرجل إلا أنه يطعم عياله من بيت المال قيل وكان يعني داود عليه الصلاة والسلام بعد ذلك يأخذ الحديد بيده فيصير كالعجين فيعمل منه الدرع في بعض يوم يبيعها بألف درهم فيأكل ويتصدق ويجعل ثلثه في بيت المال (وقال عليه الصلاة والسلام) كما رواه الشيخان وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر (أحبّ الصّلاة) أي أنواع صلاة الليل (إلى الله صلاة داود، وأحبّ الصّيام) أي صيام النافلة (إلى الله صيام داود وكان ينام) كذا في النسخ والأظهر كان بلا عاطفة ليكون بيانا لقضية سالفة أي كان ينام (نصف اللّيل) للاستراحة الموجبة للتقوية على العبادة (ويقوم ثلثه) من أول النصف الثاني لأنه أفضل أجزائه (وينام سدسه) لينشط لعبادة أول نهاره (ويصوم يوما ويفطر يوما) إما رعاية لحالة الاعتدال لئلا يضعف بالصوم على وجه الاتصال أو لتتصور له مداومة الأعمال ففي الصحيحين أحب الأعمال إلى الله أدومها إن قل ولئلا يصير الصوم عادة فلا يتخلص عبادة أو لأن هذه الكيفية أشق على النفس والأجر عل قدر المشقة ثم في الجملتين الأخيرتين بيان علية الأحب في المقدمتين ولفظ الجامع الصغير أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما وأحب الصلاة إلى الله صلاة دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وينام سدسه انتهى (وكان يلبس الصّوف ويفترش الشّعر) أي نفسه أو ما يصنع منه تواضعا لربه ولذا اختاره الصوفية (ويأكل خبز الشّعير بالملح والرّماد) ولعله أراد به ما اختلط بالخبز واستهلك فيه وإلا فأكل الرماد حرام لما فيه من مضرة العباد (ويمزج شرابه بالدّموع) كما رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه ومجاهد موقوفا (ولم ير ضاحكا بعد الخطيئة) أي المعهودة المسماة بالخطيئة وإن لم تكن خطيئة في الحقيقة إلا أن حسنات الابرار سيئات الأحرار إذ لم يثبت عنه سوى أنه خطب امرأة كان قد خطبها أوريا فزوجها أهلها من داود رغبة فيه أو سأله أن ينزل له عنها فتزوجها وكان ذلك في زمانه عادة لهم فأرسل الله إليه ملكين تنبيها له على ان ذلك خلاف الأولى فيما هنالك لاستغنائه بتسع وتسعين امرأة فلما تنبه في هذا الباب استغفر ربه وخر راكعا وأناب وقد بالغ في تضرعه وبكائه لما له من عظيم المرتبة وكريم المنزلة في مقام حيائه (ولا شاخصا ببصره) أي ولا رؤى رافعا له مع تحديد نظره (إلى السّماء) أي إلى جهتها وفي نسخة نحو السماء (حياء من ربّه عزّ وجلّ) أي لكمال قربه والحديث رواه أحمد في الزهد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي بلفظ ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد ما أصاب الخطيئة حتى مات وبهذه الرواية مع ما قدمناه من الدراية اندفع قول الحلبي لو قال القاضي غير هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 العبارة كان أحسن (ولم يزل باكيا حياته كلّها) أي في جميع مدة عمره إلى حالة مماته بعد تلك الواقعة؛ (وقيل بكى) بل روى ابن أبي حاتم عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا وعن مجاهد وغيره أنه بكى (حتّى نبت العشب) بضم فسكون هو الحشيش (من دموعه) أي من كثرة وقوع دموعه على الأرض (وحتّى اتّخذت الدّموع في خدّه أخدودا) أي شقا مستطيلا ممدودا والمعنى أثرت في خده أثرا كالشق والحفر الطويل في الأرض ومنه قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وهو مفرد جمعه أخاديد (وقيل) كما في الكشاف وغيره (كان يخرج متنكّرا يتعرّف سيرته فيسمع الثّناء عليه) أي في غيبته (فيزداد تواضعا) أي لربه شكرا لمزيد نعمته؛ (وقيل لعيسى عليه السّلام) كما رواه أحمد في الزهد وابن أبي شيبة في مصنفه (لو اتّخذت لك حمارا) أي لو اخترته لتركبه أحيانا عند الحاجة إليه (قال أنا أكرم على الله تعالى من أن يشغلني بحمار) أي بأن يتعلق قلبي به وبكلفته وخدمته ويشغلني بفتح الغين فإن الاشغال لغة رديئة؛ (وكان) كما روى أحمد في الزهد عن عبيد بن عمير ومجاهد والشعبي وابن عساكر في تاريخه أنه كان (يلبس الشّعر) أي ثوبه (ويأكل الشّجر) أي ورقه (ولم يكن له بيت) أي مسكن يأوي اليه. (أَيْنَمَا أَدْرَكَهُ النَّوْمُ نَامَ؛ وَكَانَ أَحَبُّ الْأَسَامِي) جمع الأسماء (إليه أن يقال له مسكين) وقد رواه أحمد في الزهد عن سعد بن عبد العزيز بلفظ بلغني أنه ما من كلمة كانت تقال لعيسى ابن مريم أحب إليه من أن يقال هذا المسكين؛ (وقيل) كلمة رواه أحمد أيضا في الزهد وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه موقوفا (إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مدين) سمي باسم ابن إبراهيم الخليل (كانت ترى خضرة البقل) أي الذي كان يأكله بعد خروجه من مصر خائفا يترقب متوجها إلى مدين (في بطنه من الهزال) بضم الهاء نقيض السمن على ما في القاموس فبطل قول التلمساني هو الضعف قيل وصوابه لو قال من الطوى أو الجوع انتهى ولا يخفى بعده عن المدعي وهو متعلق بقوله كانت ترى وتعليله كما ترى. (وقال عليه الصلاة والسلام) كما رواه الحاكم وصححه عن أبي سعيد مرفوعا (لَقَدْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي يُبْتَلَى أَحَدُهُمْ بِالْفَقْرِ) أي بشدة الحاجة في مطعمه (والقمل) أي بكثرته في ثوبه وبدنه (وكان أحبّ إليهم من العطاء إليكم) رضي بقضاء المولى وعلما بأن ما أعده الله لهم خير وأبقى وقد أورد المؤلف هذا الحديث في الفصل الأخير من القسم الثالث بطريق آخر وهو وقوله وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا وَضَعَ يده على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قوله فقال النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ لَيُبْتَلَى بِالْقَمْلِ حَتَّى يقتله وإن كان النبي ليبتلى بالفقر وإنهم كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء. (وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِخِنْزِيرٍ لَقِيَهُ اذْهَبْ بسلام) أي مناو منك (فقيل له في ذلك) استعظاما لمرتبته مع الخنزير في حقارته (فَقَالَ أَكْرَهُ أَنْ أُعَوِّدَ لِسَانَيِ الْمَنْطِقَ بِسُوءٍ) أي النطق به لقوله سبحانه وتعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 أَحْسَنُ ولقوله تعالى وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً؛ (وقال مجاهد) كما رواه ابن أبي حاتم وأحمد في الزهد عنه (كان طعام يحيى العشب) أي زهدا وقناعة ورفضا للنعمة (وكان) أي مع ذلك (يبكي من خشية الله عز وجل) أي مخافته مع أنه قط ما همّ بمعصية (حتّى اتّخذ الدّمع مجرى في خدّه) أي موضع جري كالنهر في وجهه من أثر دمعه لشدة معرفته بربه لقوله سبحانه وتعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (وَكَانَ يَأْكُلُ مَعَ الْوَحْشِ لِئَلَّا يُخَالِطَ النَّاسَ) لأن الاستيناس بالناس من علامة الإفلاس (وحكى الطّبريّ) وهو الإمام محمد بن جرير (عن وهب) أي ابن منبه (أنّ موسى عليه السّلام كان يستظلّ بعريش) هو بيت من عيدان تنصب ويظلل عليها قال التلمساني هو بسقوط لا في أصل القاضي وبثبوته في رواية العراقي أي لا يستظل انتهى ولا يخفى بعده وعدم مناسبته لما بعده من قوله (يأكل في نقرة) بضم نون وسكون قاف أي حفرة ومنه نقرة القفاء (من حجر) أي بدلا من طرف خشب أو خزف، (ويكرع) بفتح الراء (فيها) أي يأخذ الماء بفيه من غير كف ولا إناء فيشربه منها (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ كَمَا تَكْرَعُ الدَّابَّةُ) أي حين لم تلق وعاء الماء (تواضعا لله) أي لإكرامه (بما أكرمه الله من كلامه) وفيه إيماء إلى أن زهده هذا كان مستمرا إلى كماله وآخر حاله (وأخبارهم) أي آثار الأنبياء (في هذا كلّه) أي في هذا المعنى جميعه (مسطورة) أي مكتوبة ومضبوطة ومحفوظة (وصفاتهم في الكمال) أي في كمال ذواتهم (وجميل الأخلاق وحسن الصّورة) ووقع في أصل التلمساني الصور جمع الصورة وهو الأنسب لجمع ما قبله من الأخلاق وما بعده من قوله، (والشّمائل معروفة مشهورة) أي مذكورة في محلها وقد سئل محمد بن سالم بماذا يعرف الأولياء في الخلق فقال بلطف لسانهم وحسن إخلاقهم وبشاشة وجوههم وسخاء أنفسهم وقلة اعتراضهم وقبول عذر من اعتذر إليهم وتمام الشفقة على إخوانهم (فلا نطوّل بها) أي بذكر جميعها (ولا تلتفت) أيها المخاطب (إِلَى مَا تَجِدُهُ فِي كُتُبِ بَعْضِ جَهَلَةِ المؤرّخين) بالهمز والواو أي المدعين علم تواريخ الأنبياء وغيرهم (والمفسّرين) أي التابعين لهم فيما نقلوه من أخبارهم (ممّا يخالف هذا) أي الذي ذكرناه عنهم في سيرهم الثابتة عن علماء السلف وخيارهم. فصل [قد آتيناك أكرمك الله سبحانه من ذكر الأخلاق الحميدة] (قد أتيناك) بالمد أي أعطيناك وأعلمناك وفي نسخة صحيحة اتيناك بالقصر أي جئناك والأول أولى لقوله بعد الجملة المعترضة الدعائية وهي قوله (أكرمك الله من ذكر الأخلاق الحميدة) اللهم إلا أن يدعي أن من بمعنى الباء ثم الأخلاق الحميدة هي الشمائل السعيدة، (والفضائل المجيدة) أي الكريمة العظيمة، (وخصال الكمال العديدة) جمع خصلة بمعنى الخلة بالفتح أي المعدودة المعتدة الدالة على كمال ذاته وجمال صفاته صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وكرم (وأريناك) أي أظهرنا لك (صحّتها) أي صحة روايتها ونسبه ثبوتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 المناسبة (له صلى الله تعالى عليه وسلم وجلبنا) بجيم فلام فموحدة أي أوردنا وروينا وتصحف على الدلجي بقوله وحكينا (من الآثار ما فيه مقنع) بفتح ميم ونون أي ما يقنع به ويكتفى بذكره (والأمر) أي الشأن في مناقبه (أوسع) أي أكثر من أن يذكر هنا جميع مراتبه (فمجال هذا الباب) بالجيم وزيادة الميم أي سعته وكثرته (في حقّه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من جهة نعته وصفته (ممتدّ) أي طويل لا يكاد ينتهي إلى حد معتد (ينقطع دون نفاده) بفتح نون ثم دال مهملة أي قبل تصور فراغه أو من غير تحقق فنانه وجوز إعجام الدال بمعنى مضيه (الأدلّاء) جمع أدلة جمع دليل أي دال على مساحة البر. (وبحر علم خصائصه) أي الذي لسعته وكثرته (زاخر) أي ممتلىء كثير ممدود عرضا وطولا قال التلمساني ووصف ابن عباس عليا رضي الله تعالى عنهم فقال هو قمر باهر في ضوئه وبهائه وأسد خادر في شجاعته ومضائه وفرات زاخر في جوده وسخائه وربيع باكر في خصبه وحيائه وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه وصف به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (لا تكدّره الدّلاء) جمع دلو أي لا تؤثر فيه حين أخذ بعضه بنقص يورث صفوه كدرة في ساحته وفيه إيماء إلى أنه لم يصل أحد من العلماء إلى غاية بربره وحلمه ولا نهاية من ساحل كرمه وعلمه ولذا قال (ولكنّ أتينا فيه بالمعروف) أي اختصرنا في وصفه على ما هو معروف من الروايات (ممّا أكثره في الصّحيح والمشهور) أي في مرتبة الحسن (من المصنّفات واقتصرنا في ذلك) أي المعروف مما هنالك (بقلّ من كلّ) بضم كل من القاف والكاف وتشديد اللامين وهما لغتان في القلة والكثرة أي على نقل قليل من كثير وفي الحديث الربا وإن كثر فإنه إلى قل أي إلى قلة وانتقاص لقوله تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ (وغيض من فيض) بالضاد المعجمة فيهما والغيض النقص والفيض الزيادة يقال أعطى غيضا من فيض أي قليلا من كثير ويقال غاض الكرام وفاض اللثام والمعنى وآتينا هنا بنعت يسير من وصف غزير وهو أولى من جعله تفسيرا لما قبله وتأكيدا واعتباره تفننا كما ذكره الدلجي (ورأينا أن نختم هذه الفصول) أي الواردة في هذا الباب من جملة الكتاب (بذكر حديث الحسن) أي ابن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما الوارد بالإسناد الحسن عنه (عن ابن أبي هالة) وهو خاله هند (لجمعه) علة لقوله رأينا أو نختم أي لاستجماع حديثه أو استحضاره نفسه (من شمائله) أي أخلاقه صلى الله تعالى عليه وسلم (وأوصافه كثيرا) أي شيئا كثيرا مما لم يجمعه غيره إلا نزرا يسيرا (وإدماجه) أي ولإدخال هند أو الحسن في حديثه (جملة كافية) أي جملا وافية (من سيره) أي من شمائله الخلقية (وفضائله) أتي الوهبية، (ونصله) عطف على نختم أي ورأينا أن نلحق حديثه بعد تمامه (بتنبيه لطيف) في تبيين مجمله (على غريبه) من جهة المبنى (ومشكله) من طريقة المعنى. (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الحافظ) أي ابن سكرة وقد تقدم (رَحِمَهُ اللَّهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ثنا) أي حَدَّثَنَا (الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طاهر) بطاء مهملة (التّميميّ قراءة عليه) بالنصب وفي نسخة قرأت عليه (أخبركم) أي قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أخبركم في ضمن اخباري لكم (الفقيه الأديب) أي الجامع بين علمي المسائل الشرعية والقواعد العربية (أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحسن النّيسابوريّ) بفتح نون فتحتية ساكنة فسين مهملة معرب المعجمة بلد بخراسان (وَالشَّيْخُ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أحمد بن الحسن المحمّديّ) أي المنسوب إلى مسمى بمحمد بصيغة المفعول، (وَالْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جعفر الوخشيّ) بفتح واو وسكون خاء فشين معجمتين وقيل بالحاء المهملة قرية من أعمال بلخ سمع أبا بكر الخيري بخراسان وأبا نعيم الحافظ بأصبهان وأبا عمر الهاشمي بالبصرة وابا عمر بن مهدي ببغداد وتمام الرازي بدمشق وأبا محمد بن النحاس بمصر روى عنه طائفة وحدث عنه الخطيب وهو أقرانه وسمع منه الحسن بن البلخي سنن أبي داود (قالوا) أي كلهم (ثنا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بن الحسن الخزاعيّ) بضم خاء معجمة منسوب لقبيلة خزاعة (أنا) أي أخبرنا (أبو سعيد الهيثم بن كليب) بالتصغير (الشّاشيّ) بمعجمتين منسوب إلى بلد مشهورة من بلاد ما وراء النهر صاحب المسند ومحدث ما وراء النهر (أنا أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة) بفتح المهملة والراء (الحافظ) وهو الترمذي صاحب الجامع والشمائل (قال حدّثنا سفيان بن وكيع) أي ابن الجراح ضعيف (ثنا جميع) بضم جيم وفتح ميم وسكون تحتية (ابن عمر بن عبد الرّحمن العجليّ) بكسر مهملة فسكون جيم منسوب إلى قبيلة عجل (إملاء من كتابه) أي رواية من كتابه المقروء على شيخه وهو أقوى من الإملاء عن ظهر قلبه وثقه ابن حبان وضعفه غيره (قال حدّثني رجل من بني تميم) قال الأنطاكي هو أبو عبد الله التميمي (من ولد أبي هالة) بفتح الواو واللام وبضم فسكون أي أحفاده (زوج خديجة) بالجر بدل من أبي هالة (أمّ المؤمنين رضي الله عنها) أي قبل وصولها إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (يكنّى أبا عبد الله) بفتح الكاف وتشديد النون المفتوحة وبسكون الكاف وتخفيف النون أي يعرف ذلك الرجل بهذه الكنية (عن ابن لأبي هالة) أي بلا واسطة وهو غير معروف كما صرح به الذهبي في ميزانه وأصل هالة علم لدارة القمر فهو أقوى في منع الصرف من هريرة في أبي هريرة لأن هريرة اسم جنس ثم هذا الإسناد ظاهره الاتصال ولكنه منقطع لأن الرجل لم يسم بل لم يسم فيه رجلان ومثل هذا يسمى منقطعا ولكنه إن سمى فيه الرجل من طريق آخر فهو متصل من وجه ومنقطع من وجه وإن لم يسم مطلقا فهو منقطع أبدا كذا ذكره بعض الأئمة وقال بعض علمائنا إنه لا يضر الإسناد مثل هذه الجهالة فهو في حكم المرسل وهو حجة عند الجمهور والله تعالى أعلم (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالى عنه قال) أي الحسن (سَأَلْتُ خَالِيَ هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ قَالَ القاضي) كان حقه أن يكتب رمز «ح» إشارة إلى التحويل من سند إلى آخر أو يأتي بالعاطفة فيقول وقال القاضي (أبو عليّ رحمه الله) وهو ابن سكرة (وَقَرَأْتُ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي طَاهِرٍ أَحْمَدَ بْنِ الحسن) وروى فيه الحسين بالتصغير (ابن أحمد بن خذادادا) بضم خاء فذال معجمتين فألف فدال مهملة بعدها ألف فدال مهملة أو معجمة لغة فارسية ومعناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 بالعربية عطاء الله (الكرجيّ) بفتح كاف فسكون راء فجيم (الباقلّاني) بتشديد اللام وبعد ألفه نون فياء نسبة لباقلا على غير قياس (قال وأجاز لنا الشّيخ الأجلّ) أي الجليل القدر أو أجل زمانه وأكمل أقرانه (أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خَيْرُونَ) بفتح معجمة فسكون تحتية فضم راء يصرف ويمنع (قالا) أي كلاهما (ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ) بمعجمتين (ابن حرب بن مهران) بكسر الميم (الفارسيّ) بكسر الراء ويسكن (قراءة عليه فأقرّ به) أي اعترف بجواز نقله عنه وهو شرط فيمن قيل له أخبركم فلان أو أخبرني فلان عنك أو نحوه وإن لم يقربه فلا يكون دليلا ولا حجة ولا بد من الإقرار وفيه تصحيح الرواية (قال) أي أبو علي المذكور (أنا) أَخْبَرَنَا (أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ) بالتصغير في الثلاثة (ابن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ أَخِي طاهر العلويّ) بفتحتين قال الحلبي هذا الرجل ترجمه الذهبي في الميزان ونسبه كما هنا ثم قال روي بقلة حيائه عن الديري عن عبد الرزاق بإسناد كالشمس على خير البشر وعن الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن محمد بن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر مرفوعا قال وذريته يجتمعون الأوصياء إلى يوم القيامة فهذان دالان على كذبه وعلى رفضه عفا الله عنه ولولا أنه متهم لازدحم عليه المحدثون فإنه معمر انتهى ولا يخفى أنهما يدلان على كذبه ووضعه وعلى تفضيله أيضا وإما على رفضه بمعنى سبه وبغضه فلا غايته أن الحديث ضعيف أو موضوع من طريقه لكنه لا يضر حيث إنه ثابت بإسناد الترمذي في شمائله وإنما أراد المصنف أن يتبرك بذكر مشايخه في إسناده ويسلك بنفسه في سلك استناده وإلا فكان يكفيه أن يسند الحديث إلى الترمذي المعروف بثبوت سنده إما بكونه صحيحا أو حسنا أو ضعيفا لأنه وغيره ملتزمون أن لا يذكروا حديثا فيه راو حكم بوضعه (ثنا) أي حَدَّثَنَا (إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ) بالتصغير (ابن عليّ بن أبي طالب قال حدّثني) وفي نسخة قال حدثنا (عليّ بن جعفر) أي الصادق (بن محمّد بن عليّ بن الحسين) قال الحلبي على هذا يروى عن أبيه وأخيه موسى والثوري وعنه أحمد البزي وجماعة أخرج له الترمذي فقط قال الذهبي ما رأيت أحدا بينه ولا وثقه ولكن حديثه منكر جدا ما صححه الترمذي ولا حسنه وقد رواه عن نصر بن علي عنه عن أخيه موسى عن أبيه عن أجداده من أحبني انتهى والحديث هو مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّ هَذَيْنِ وَأَبَاهُمَا وَأَمَّهُمَا كَانَ معي في درجتي يوم القيامة أخرجه الترمذي في المناقب وانفرد بالإخراج له كذا ذكره الحلبي (عن أخيه موسى بن جعفر) أي ابن محمد العلوي الكاظم روى عن أبيه وعبد الله بن دينار ولم يدركه وعنه ابنه علي الرضى وأخواه علي ومحمد وبنوه إبراهيم وإسماعيل وحسين قال أبو صالح حاتم ثقة إمام مات في حبس الرشيد أخرج له الترمذي وابن ماجة وقال المسعودي قبض موسى ببغداد مسموما لخمس عشر خلت من ملك الرشيد سنة ست وثمانين ومائة وهو ابن أربع وخمسين سنة (عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 جعفر بن محمّد) أي الصادق (عن أبيه محمّد بن عليّ) هو أبو جعفر الباقر سمي به لتبقره في العلم أي لتوسعه فيه روى عن أبويه وجابر وابن عمر وطائفة وعنه ابنه جعفر الصادق والزهري وابن جريج والأوزاعي وآخرون أخرج له الأئمة الستة (عن عليّ بن الحسين) هذا زين العابدين روى عن أبيه وعائشة رضي الله تعالى عنها وأبي هريرة وجمع وعنه بنوه محمد وزيد وعمر والزهري وأبو الزناد وخلق قال الزهري ما رأيت قرشيا أفضل منه أخرج له الأئمة الستة قال المسعودي وكل عقب الحسين فهو من علي بن الحسين هذا (قال قال الحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنهما واللفظ) أي لفظ الحديث الآتي (لهذا السّند) أي لأهل هذا السند الثاني وهو بالنون لا بالياء التحتية قال التلمساني هذا إسناد شريف لأنه مروي عن أهل البيت ومثله الإسناد المروي في صفة الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى قال فيه الأئمة إسناد لو ذكر على ذي علة أو حمى لبريء أو مصاب لا فاق ولو رقى به ملسوع لبرئ (سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ عَنْ حلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) بكسر حاء وسكون لام فتحتية أي وصفه ونعته (وكان) أي هند (وصّافا) أي كثير الوصف له عليه الصلاة والسلام جملة معترضة (وأنا أرجو) جملة حالية أي اتمنى وأحب كما في رواية (أن يصف لي منها) أي من حليته (شيئا) أي بعضا منها (أتعلّق به) أي اتشبث به علما وعملا وهذا الحديث من طريق الترمذي في الشمائل وقد انفرد بإخراجه عن أصحاب الكتب الستة وقد بسطت الكلام على دقائق مبانيه وحقائق معانيه في جمع الوسائل لشرح الشمائل وهنا اتبع المصنف في ضبط مبناه أولا وربط معناه ثانيا وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق (قال) أي هند (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخما مفخّما) أي مهيبا عظيما في العيون (مفخما) بتشديد الخاء المعجمة المفتوحة أي معظما مكرما في القلوب كما يشير إلى هذا المعنى ما ورد أنه من رآه فجأة هابه ومن خالطه عشرة أحبه وليس المراد بهما بيان ضخامته في جسمه وخلقته لما سيأتي خلافه في نعته ولا يبعد أن يقال معناهما عظيم عند الحق ومعظم عند الخلق (يتلألأ وجهه) أي يضيء من كمال نوره وجمال ظهوره (تلألؤ القمر ليلة البدر) أي كاضاءته حال بدره وبدوره (أطول من المربوع) أي القصير المربوع القامة (وأقصر من المشذّب) بتشديد الذال المعجمة المفتوحة أي الطويل البائن (عظيم الهامة) بتخفيف الميم أي كبير الرأس المشير إلى الوقار والرزانة (رجل الشّعر) بكسر الجيم وفتح العين ويسكن أي متكسره قليلا (إن انفرقت عقيقته) أي انفرق شعر رأسه من ذات نفسه (فرق) أي تركه مفروقا (وإلّا فلا) أي وإن لم ينفرق فلا يفرقه عن قصد منه والفرق هو الطريق الأبيض الذي هو حاجز بين ناحيتي شعر الرأس (يجاوز شعره) أي شعر رأسه (شحمة أذنيه) أي أحيانا ويروى شحمة اذنه بالإفراد والشحمة معلق القرط وهو ما لان من أسفلها (إذا هو وفّره) بتشديد الفاء وقيل بتخفيفها وفي نسخة صحيحة وفره بزيادة الضمير أي تركه وافرا أو جعله وفرة إذ لا يسمى وفرة إلا إذا وصل إلى الشحمة (أزهر اللّون) أي أبيض نيرا وقد جاء من حديث علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 رضي الله تعالى عنه أنه كان أبيض مشربا بحمرة على ما أخرجه أبو حاتم عنه وكذا أخرج عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان أبيض اللون وفي المسند من رواية عبد الله من طريقين إن رجلا سأل عليا عن نعته عليه الصلاة والسلام فقال فيه إنه أبيض شديد الوضح ولعل الأول باعتبار الوجه والأعضاء التي تبدو للشمس وهذا باعتبار سائر البدن والمراد بالوضح كمال صفاء بياضه فلا ينافي ما جاء في الصحيح من حديث أنس أنه عليه السلام لم يكن بالأبيض الأمهق ولا بالآدم وأما ما في المسند لأحمد من حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام كان اسمر فالمراد به اسمر إلى البياض كما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (واسع الجبين) أي من جمال خلقه ويمكن أن يكون كناية عن كمال خلقه وأصل الجبين ما بين الصدغين (أزجّ الحواجب) بتشديد الجيم الأولى أي دقيقها مع غزارة شعرها وتقوس أصلها (سوابغ) أي كوامل طولا وشوامل أصلا والسين أعلى من الصاد (من غير قرن) بفتحتين وقد يسكن أي من دون اجتماع واتصال بين الحاجبين وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ وَصْفُهُ بِالْقَرْنِ ولعل منشأ الخلاف من جهة قرب الرائي وبعده أو المراد بالإثبات قرب القرن وبالنفي بعده لأن المطلوب اعتداله المحمود من كل وجه له وأما ما جوزه الحلبي من أنه كان بغير قرن ثم حدث له القرن فيبعد تصوره (بينهما) أي بين حاجبيه، (عرق) بكسر أوله (يدرّه) من الإدرار أي يكثر دمه ويحركه ويهيجه (الغضب) أي عند مشاهدة مخالفة الرب فلا يخالف حديث لا يغضب (أقنى العرنين) بالكسر أي طويل الأنف مع دقة أرنبته وحدب في وسطه على ما في نهاية ابن الأثير ويكنى به عن العزيز الذي معه منعة وذلك لشموخ أنفه وارتفاعه على قومه هذا وقال الجوهري وعرنين كل شيء أوله وعرنين الأنف تحت مجتمع الحاجبين وهو أول الانف حيث يكون فيه الشمم (له) أي لأنفه بخصوصه (نور يعلوه) أي يظهر عليه أو يرفعه من كثرة ضيائه وشدة بهائه وقوة صفائه (يحسبه) بكسر السين وفتحها أي يظن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو أنفه الوضيء (من لم يتأمّله) أي وجهه (أشمّ) مفعول ثان ليحسبه والاشم الطويل قصبة الأنف قال الجوهري وهو من ارتفع وسط قصبة أنفه مع استواء أعلاه وأشراف أرنبته قليلا من منتهاه فإن كان فيه أحد يدأب فهو أقنى (كثّ اللّحية) بتشديد المثلثة أي غزير شعرها وكثير أصلها وفي رواية كان كثيف اللحية وفي أخرى عظيم اللحية ذكره ميرك شاه رحمه الله تعالى فما في شرح الشمائل لابن حجر المكي من قوله غير دقيقها ولا طويلها ينافي الرواية والدراية لأن الطويل مسكوت عنه مع أن عظم اللحية بلا طول غير مستحسن عرفا كما أن الطول الزائد على القبضة غير ممدوح شرعا ثم هذا لا ينافي ما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا من سعادة المرء خفة لحيته كما رواه الأربعة فإن الكثيف والخفيف من الأمور الإضافية فيحمل على الاعتدال الذي هو الكمال في جميع الأحوال ولا يبعد أن يحمل الكثيف على أصله والخفيف على عدم طوله وعرضه وأما قول الفقهاء في تعريف اللحية الخفيفة هي ما تظهر البشرة من تحتها فحادث اصطلاحا ومبنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 الأحاديث هذه على المعنى اللغوي تصحيحا وإصلاحا (أدعج) أي في العين وهو شدة سواد الحدقة مع شدة بياضها (سهل الخدّين) أي سائلهما غير مرتفع الوجنتين (ضليع الفم) أي عظميه أو واسعه والعرب تمدح عظيمه وتذم صغيره ولعله للإيماء إلى سعة الفصاحة وظهور أثر الملاحة (أشنب) بمعجمة فنون فموحدة أي أبيض الأسنان أو الشنب رونقها وماؤها وبهاؤها (مفلّج الأسنان) بتشديد اللام المفتوحة أي مفرج الثنايا لحديث علي أفلج الثنايا ولأن تباعد الأسنان كلها عيب (دقيق المسربة) بضم الراء ما دق من شعر الصدر كالخيط سائلا إلى السرة (كأنّ) بتشديد النون (عنقه) أي رقبته وجيده (جيد دمية) بضم المهملة صورة تعمل من عاج أو رخام أو غيرهما ويتأنق في تحسينها ويبالغ في تزيينها حال كون عنقه (في صفاء الفضّة معتدل الخلق) بفتح الخاء أي متناسب الأعضاء في الحسن والبهاء (بادنا) أي عظيم البدن من جهة اللحم أو خلقه العظيم وليس معناه السمين الضخم بل صلب الجسم غير مسترخي اللحم كما قال (متماسكا) أي ليس بمسترخي اللحم وروي متماسك بالرفع أي هو متماسك يمسك بعضه بعضا لشدته ولا ينافيه ما ورد من أنه عليه السلام كان ضرب اللحم أي خفيفه يعني بالإضافة إلى السمين البطين (سواء البطن والصّدر) بالإضافة أي مستويان لا يرتفع أحدهما على الآخر فهما معتدلان (مشيح الصّدر) بضم ميم وكسر معجمة فتحتية فمهملة أي بادية وظاهره لا تطامن ولا انخفاض به كما أنه لا ارتفاع له وروي بفتح الميم ومهملتين من المساحة أو السياحة أي عريضه وهو إيماء إلى سعة صدره في أمره وأنشراح قلبه بحكم ربه (بعيد ما بين المنكبين) أي وسيع ما بين الكتف والعنق قال ههنا بعيد وفيما سبق عظيم فعظمه إما لبعده فهما سواء أو هناك كثير اللحم وهنا بعيد فهما موصوفان وما موصولة (ضخم الكراديس) أي عظيم رؤوس العظام وجسيمها جمع كردوس وهو رأس العظم أو كل عظمين التقيا في مفصل كالمنكبين والوركين (أنور المتجرّد) بفتح الراء المشددة وهو ما جرد عنه ثوبه من جسده (موصول ما بين اللّبّة) بفتح اللام وتشديد الموحدة أي موضع القلادة وهو الصدر أو النحر وما موصولة (والسّرّة بشعر) متعلق بموصولة (يجري كالخطّ) بتشديد الطاء المهملة أي يمتد مشابها للخط المستطيل وهو ما سبق من معنى المسربة شبهه بجريان الماء وهو امتداده في سيلانه (عاري الثّديين) بفتح فسكون أي ليس عليهما شعر وقيل لحم ويؤيد الأول قوله (ما سوى ذلك) أي ما سوى الخط والمعنى إلا ما سبق من شعر المسربة وروي مما سِوَى ذَلِكَ (أَشَعَرَ الذِّرَاعَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ وَأَعَالِيَ الصَّدْرِ) جمع أعلى أي ما فوقه فإن جميعها كثير الشعر لما تقدم أن ما بعده قليل الشعر وأما ما ورد عن علي كرم الله وجهه على ما في حسان المصابيح من أنه عليه الصلاة والسلام كان أجرد والأجرد هو الذي لا شعر عليه فمحمول على أنه أريد بالأجرد ضد الأشعر والمعنى أنه لم يكن على جميع بدنه شعر لا الأجرد المطلق (طويل الزّندين) بفتح فسكون أي عظمي الذراعين من اليدين (رحب الرّاحة) بفتح فسكون وقد يضم أوله أي وسيع الكف وهو قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 يكون كناية عن نهاية الجود وغاية الكرم (شئن الكفّين والقدمين) بسكون المثلثة وقيل بالفوقية وهما لغتان على ما في القاموس أي يميلان إلى غلظ وقصر أو إلى غلظ فقط ويحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضهم وبطشهم وأقوى لمشيهم وثباتهم ذكره ابن الأثير في المثلثة (سائل الأطراف) بالسين المهملة واللام اسم فاعل (أو قال) شك من الراوي (سائن الأطراف) بالنون وهما بمعنى أي ممتدها وقد تبدل اللام نونا ذكره الدلجي وزيد في نسخة صحيحة وسائر الأطراف بالراء ويدل عليه ذكره في كلام المصنف عند حل مشكله وقد قال ابن الأنباري روى سائل الاطراف أو قال سائن بالنون وهما بمعنى واحد تُبْدَلُ اللَّامُ مِنَ النُّونِ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهَا وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَسَائِرُ الْأَطْرَافِ فإشارة إلى ضخامة جوارحه كما وقعت مفصلة في الحديث قال الأنطاكي هو بواو العطف أي وسائر أطرافه ضخم (سبط العصب) بفتح سين مهملة وسكون موحدة وفي نسخة بكسرها وروي بتقديم الموحدة والعصب بفتح المهملتين على ما في الأصول المصححة والنسخ المعتبرة وأما قول الحلبي هو تصحيف والصواب بالقاف فهو عن صوب الصواب تحريف والمعنى ممتدة أطناب مفاصله وممتلئة من غير تعقد ونتوء وروي القصب بالقاف قال الهروي وهو كل عظم عريض كاللوح وكل أجوف فيه مخ كالساعد رواه ابن الأنباري قالوا وهو الأشبه والمراد عظام ساعديه وساقيه باعتبار طولهما (خمصان الأخمصين) بضم الخاء المعجمة الأولى مبالغة من الخمص أي شديد تجافي أخمص القدم عن الأرض وهو الموضع الذي لا يلصق بها منها عند الوضع (مسيح القدمين) أي ملساوين لينين لا نتوء بهما وهو بفتح الميم وكسر المهملة قال الحجازي ويروى بضم الميم وشين معجمة (ينبو عنهما الماء) على زنة يدعو أي يأبى عن قبولهما وقوفه فيهما لملاستهما (إذا زال) أي عن مكانه (زال تقلّعا) بضم اللام المشددة ويروى قلعا بكسر اللام وسكونها ويروى إذا مشى تقلع أي رفع رجليه من الأرض رفعا بقوة كأنه يثبت في المشية بحيث لا يظهر منه العجلة وشدة المبادرة عملا بقوله تعالى وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي لا مشي الخيلاء ولا سير متماوت كالنساء وروي إذا مشى مشى تقلعا وزيد في نسخة صحيحة (ويخطو تكفأ) بضم فاء مشددة فهمز أو واو وسبق بيان مبناه وتبينان معناه (ويمشي هونا) أي برفق وسكون ووقار وسكينة من غير دفع ومزاحمة لقوله تعالى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وهو لا ينافي قوله (ذريع المشية) بالذال المعجمة وكسر الميم أي سريعها بسعة الخطوة كما يشير إليه قوله (إذا مشى كأنّما ينحطّ) أي ينزل (من صبب) أو في صبب كما في رواية أي منحدر من الأرض لقوة مشيه وتثبت خطوه في وضعه وحطه قال الأزهري الانحطاط من صبب والتكفؤ إلى قدام والتقلع من الأرض قريب بعضها من بعض في المعنى وإن اختلفت الفاظها في المبنى وأما حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمحمول على السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت لا أنه عليه الصلاة والسلام كان يثب وثوب الشطار أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 على أن السرعة كانت تقع في مشيه عليه السلام لسعة خطوه من غير قصد له كيف وقد روي أنه عليه السلام قال سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن على ما رواه جماعة من الحفاظ (وإذا التفت) أي يمنة أو يسرة أو إلى أحد من جانبيه (التفت جميعا) أي مجتمعا إليه ومقبلا بكليته عليه فلا يسارق النظر ولا يكون كالطير الخفيف الطيش بل يقبل جميعا ويدبر جميعا (خافض الطّرف) أي بصره حياء من ربه وتواضعا لأصحابه، (نظره إلى الأرض أطول) أي أكثر مدة (من نظره إلى السّماء) لأنه أجمع للفكرة وأوسع للعبرة (جلّ نظره) بضم الجيم وتشديد اللام أي معظمه (الملاحظة) مفاعلة من اللحظ وهو مراعاة النظر بشق العين مما يلي الصدغ وكأنه أراد بها هنا حال كثرة تفكره في أمره المانع من توجهه بجميع نظره إلى جانب من طرقه أو إلى أحد من أهله (يسوق أصحابه) أي يقدمهم أمامه ويمشي خلفهم تواضعا لربه وتعلميا لأصحابه وهذا في الحضر وأما في السفر فلزيادة مراعاة أضعف القوم ومحافظتهم من ورائهم وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه ويقول دعوا خلفي للملائكة قال النووي وإنما تقدمهم في سؤر صنعه جابر لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعاهم إليه فجاؤوا تبعا له كصاحب الطعام إذا دعا طائفة مشى أمامهم انتهى ولا يبعد أن يقال إنما نقدمهم مبادرة إلى ما أراد من تكثير الطعام بوضع يده الشريفة عليه عليه الصلاة والسلام (ويبدأ) وفي رواية ويبدر بضم الدال أي يتبادر (من لقيه بالسّلام) لأنه الاكمل وثوابه الأفضل لما فيه من التواضع أولا والتسبب لفرض الجواب ثانيا ولذا عدت هذه الخصلة من السنن التي هي أفضل من الفريضة وفيه إشارة إلى أنه يستحب للأكبر أن يبتدئ به على الأصغر كما روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة الإسراء لما وصل إلى مقام الانتهاء وقال التحيات لله والصلوات والطيبات وبالغ في الثناء قال الله تعالى السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فأجابه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقالت الملائكة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والحديث إلى هنا اتفق عليه الترمذي والطبراني والبيهقي في روايتهم عن ابن أبي هالة وقد اقتصر عليه السيوطي في جامعه الصغير وأما بإسناد المصنف على وفق ما في الشمائل للترمذي فقد قال الحسن بن علي لخاله هند لما وصل إلى هذا المحل وقد حصل له الحظ الأكمل من بعض فعله الأجل (قلت صف لي منطقه) أي كيفية آداب نطقه وبيان أخبار صدقه (قال) أي هند (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متواصل الأحزان) أي وهو مما يوجب تكليل اللسان وتقليل البيان (دائم الفكرة) أي في أمر الآخرة (ليست له راحة) لأنه في دار محنة وهذا كله مما يقتضي قوله (ولا يتكلّم في غير حاجة) وكونه (طويل السّكوت) ثم ليس المراد بحزنه الما بفوت مطلوب عاجل ولا بتوقع مكروه آجل فإن ذلك منهي عنه لقوله سبحانه وتعالى لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ ولا ما أصابكم ولما ورد من دعائه عليه الصلاة والسلام اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وإنما المراد به التيقظ والاهتمام لما يستقبله من الأمور العظام كما أشار إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة حال وصولهم إلى غاية المنن الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ وأما ما نقله الحلبي عن ابن إمام الجوزية من أن حديث هند بن أبي هالة في صفته عليه الصلاة والسلام أنه كان متواصل الأحزان لا يثبت وفي إسناده من لا يعرف وكيف يكون وقد صانه الله تعالى عن الحزن على الدنيا وأسبابها ونهاه عن الحزن على الكفار وغفر لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فمن أين يأتيه الخزن فمدفوع بما نقله الحلبي أيضا عن شيخ الإسلام ابي العباس بن تميمة في حديث هند بن أبي هالة أنه عليه الصلاة والسلام كان كثير الصمت دائم الفكر متواصل الأحزان أما لفظه فالصمت والفكر للسان والقلب وأما الحزن فليس المراد به الألم على فوت مطلوب أو حصول مكروه فإن ذلك لم يكن من حاله انتهى وهذا تقرير لثبوت الحديث في المبنى واحتياج تأويله في المعنى ثم هذا كله من هند يدل على كماله حيث ذكر هذه المقدمة توطئه في مقام مقاله إجمالا ثم بينه تفصيلا بقوله (يفتتح الكلام ويختمه) أي يطلب ابتداءه وانتهاءه (بأشداقه) أي جوانب فمه لرحب شدقه والعرب تتمدح به (ويتكلّم بجوامع الكلم جمع جامعة) أي بالكلم الجوامع لمباني يسيرة ومعاني كثيرة وفي الحديث كان يستحب الجوامع من الدعاء أي الجامعة لمقاصد صالحة وفوائد صحيحة (فضلا) أي يتكلم حال كون كلامه كلاما بينا يعرفه كل أحد هينا ومنه قوله سبحانه وتعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي بين الحق والباطل أو قاطع جامع مانع (لا فضول فيه) أي عريا من الفائدة فيكون مملا (ولا تقصير) أي فيه عن أصل معناه وما يتعلق بمبناه من منافعه الزائدة فيكون مخلا (دمثا) بفتح مهملة وكسر ميم فمثلثة أي كان لين الخلق سهلا (ليس بالجافي) أي غليظ الطبع أو الذي يجفو أصحابه (ولا المهين) بفتح الميم وضمها قال ابن الأثير فالضم من الإهانة أي لا يهين أحدا من الناس فتكون الميم زائدة والفتح من المهانة أي الحقارة فتكون الميم أصلية انتهى ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي حقير (يعظّم النّعمة) أي نعمة الله (وإن دقّت) أي قلت وصغرت (لا يذمّ شيئا) أي من نعمه سبحانه وتعالى أو أحدا من خلقه لنزاهته عن البذاء والأذى مع قوله (لم يكن يذمّ) أي يعيب (ذواقا) بفتح أوله وتخفيف واوه أي مأكولا ومشروبا وأما حديث إن الله لا يحب الذواقين والذواقات فيعني بهما سريع النكاح وسريع الطلاق (ولا يمدحه) أي لنزاهة ساحة قلبه عن الرغبة إلى غير ربه فيميل إلى التمتع بمتاع الحياة الدنيا والتوجه إلى حظ نفسه منها ليترتب عليه مدحها وذمها قيل لبعضهم ما بال عظة السلف تنفع وعظة الخلف لا تنجع فقال علماء السلف إيقاظ والناس نيام وعلماء الخلف نيام والناس موتى أو كالأنعام (ولا يقام لغضبه إذا تعرّض للحقّ) ببناء المفعول فيهما والمعنى لا يقوم أحد من الخلق لدفع غضبه إذا تعرض أحد له في أمر ربه (بشيء) أي بسبب مأمور أو منهي وروي لشيء باللام أي لأجل أمر وحاصله أنه إذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شيء (حتّى ينتصر له) أي يقوم بنصرة الحق الواجب في حقه هذا غاية لعدم التعرض لغضبه (ولا يغضب لنفسه) أي لحظها وبسببها (ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ينتصر لها) أي لمجرد حقها (إذا أشار) أي وقت خطابه فيما بين أصحابه (أشار بكفّه كلّها) قصدا للإفهام ودفعا للإبهام واستثنى منه حال ذكر التوحيد والتشهد حيث كان يشير بالمسبحة إلى تحقيق المرام (وإذا تعجّب) أي من شيء عظم وقعه عنده (قلّبها) بتشديد اللام وتخفيفها أي قلب كفه إلى السماء للإيماء إلى انه فعل الرب وأنه ينقلب عن قرب حال ما به العجب (وإذا تحدّث) أي تكلم (اتّصل) أي كلامه (بها) أي مقرونا بكفه وإشارته إليها تأكيدا بسببها وتصحف الدلجي حيث وضع الفاء موضع التاء ثم قال أي قصد من قولهم فصل علينا أي خرج من طريق أو ظهر من حجاب قاصدا بها (فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى) ويروى براحته اليمنى باطن ابهامه ولعل اختلاف الرواية بناء على تعدد الحالة في الرؤية هذا بيان كيفية اتصال كلامه بها وهذا عادة من تحدث بأمر مهم وفعل ملم تأكيدا بالجمع بين تحريك اللسان وبعض الأركان على أن له وقعا في الخطب والشأن وتوجها من جانب الجنان فكأنه بكليته متوجه إلى حصول قضيته (وإذا غضب) أي ظهر أثر غضبه على أحد (أعرض) أي عنه ليبعد منه ويسهل أمره (وأشاح) بشين معجمة وحاء مهملة في آخره أي مال وانقبض ذكره الأنطاكي تبعا للمصنف والأظهر أن يقال بالغ في إعراضه بصفح عنقه عنه ممتثلا لقوله سبحانه وتعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ (وإذا فرح) أي حصل له سرور (غضّ طرفه) بفتح فسكون أي غمض عينيه أو خفض بصره وأطرق رأسه تواضعا لربه وتباعدا عن حصول شرهه وأشره، (جلّ ضحكه التّبسّم) أي معظم أنواع ضحكه التبسم وهو ما لا صوت فيه مطلقا وقد روي أن يحيى إذا لقي عيسى عليهما السلام يلقاه عيسى متبسما ويلقاه حزينا يشبه باكيا فقال يحيى لعيسى أراك تبتسم كأنك آمن وقال عيسى ليحيى أراك تحزن وتبكي كأنك أيس فأوحى الله إليهما أحبكما إلي أكثركما تبسما ولعل يحيى كان غلب عليه القبض والخوف لكونه مظهر الجلال وعيسى غلب عليه البسط والرجاء لأنه مظهر الجمال والكمال وهو كون الجلال ممزوجا بغلبة الجمال لقوله الأنسي في الحديث القدسي سبقت رحمتي غضبي وفي رواية غلبت (ويفترّ) بتشديد راء أي يبدي أسنانه ضاحكا (عن مثل حبّ الغمام) أي البرد النازل من السحاب حال البرد (قال الحسن) أي ابن علي (فكتمتها) أي اخفيت هذه الحلية أو هذه الرواية (عن الحسين بن عليّ زمانا) أي اختبارا وامتحانا (ثمّ حدّثته) أي أخبرته بهذا الحديث أي ليتبين إطلاعه عليه (فوجدته قد سبقني إليه) أي مع زيادة فضيلة وجدت لديه كما بينه بقوله (فَسَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مَدْخَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم ومخرجه) بفتح العين فيهما (ومجلسه) بكسر اللام أي عن كيفية دخوله وخروجه وجلوسه أو عن أحوال مجلسه وهو مكان جلوسه وهو بكسر اللام سواء كان مصدرا أو مكانا وقال الحلبي هو بفتح اللام أي هيئة جلوسه وهو خطأ فاحش لأن الجلسة بكسر الجيم وهو الموضوع للنوع والهيئة (وشكله) بفتح أوله وجوز كسره وهو يحتمل صورته وسيرته لكن الثاني هو المراد هنا لتقدم ما تعلق بالأول ولقوله فيما سيأتي فسألته عن سيرته (فلم يدع منه شيئا) أي فلم يترك الحسن شيئا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 متعلقات جميع ما ذكر إلا وقد سأله وحققه وهذا من كمال انصاف الحسن وجمال خلقه المستحسن ثم هذا بطريق الإجمال وأما بطريق التفصيل فكما بينه بقوله. (قال الحسين سألت أبي) أي عليا كرم الله وجهه (عن دخول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي زمان دخوله وكيفية وصوله وهذا من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر أو من رواية الأقران فإن ما بينهما تفاوت قليل من الزمان (فقال) أي على (كان دخوله) أي في بيته (لنفسه) أي لحقه خاصة ولأهل بيته عامة حال كونه (مأذونا له) أي من عند ربه (في ذلك) أي فله الأجر الجزيل والثناء الجميل لما هنا لك وقيل كان مأذونا له أن يدخل حيث شاء من بيوته لأنه سبحانه وتعالى لم يوجب قسما عليه في زوجاته وقيل معناه أنه لا يدخل بغير استئذان (فكان إذا أوى) بالقصر هو الأولى ومنه المأوى أي وصل إلى منزلة واستقر في محله (جزّأ) بتشديد الزاء فهمز أي قسم (دخوله) أي زمنه (ثلاثة أجزاء) أي أقسام (جزءا لله وتعالى) بالنصب يعبده في النوافل كالإشراق والضحى ونحوهما من الأمور الكوامل (وجزءا لأهله) أي يدبر أمرهم وحالهم ويصلح شأنهم ومآلهم فيما لهم (وجزءا لنفسه) أي لاستراحتها كالقيلولة ونحوها ولورود وفود ضرورة قضية الجأت بعض الناس إلى الدخول عليه والمشورة بين يديه وعرض أحوال الجهاد وأعمال العباد وأمثال ذلك عليه وهذا معنى قوله (ثمّ جزّأ جزأه بينه وبين النّاس) أي من خواص أصحابه وزمرة أحبابه (فيردّ) أي في بعض زمن نفسه (ذلك) أي نفعه لما هنالك (على العامّة) أي الذين لم يقدروا عليه في تلك الحالة (بالخاصّة) أي بواسطتهم وحصول رابطتهم وقد قال ابن الأثير أراد أن العامة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت فكانت الخاصة تخبرهم بما سمعوا منه فكأنه أوصل الفوائد إلى الخاصة بالعامة وقيل إن الباء بمعنى عن أي يجعل وقت العامة بعد الخاصة فيكونون بدلا منهم (ولا يدّخر) أي لا يخفى من العلم أو المال (عنهم شيئا) أي مما ينفعهم وأصل يدخر بالدال المهملة المشددة يذتخر بالمعجمة قلبت التاء دالا مهملة لاتحادهما مخرجا فصار يذدخر بمعجمة فمهملة ثم أدغم بالمهملة بعد قلب المعجمة بها وهذا نطق الأكثر ومنه قوله تعالى وأدكر (فكان) كذا في النسخ وكان الظاهر بالواو (من سيرته) أي من حسن طريقته (في جزء الأمّة) أي أمة الإجابة لشريعته (إيثار أهل الفضل) أي اختيارهم لاعتبارهم (بإذنه) أي بأمره إكراما لهم ونفعا لمن تبعهم أو بأمر أهل الفضل ومنه حديث الشراب في الغلام وهو ابن عباس رضي الله تعالى عنه مع الأشياخ أبي بكر وعمر فاستأذن فأذنوا له، (وقسمته) بفتح القاف أي قسمته كما في نسخة صحيحة وهو مصدر مضاف إما إلى الفاعل أو المفعول أي قسمة الجزء أو قسمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياه (على قدر فضلهم) أي الأفضل فالأفضل (في الدّين) أي بالعلم والعمل المتعلق به المسمى بالتقوى لقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ لا بمجرد النسب ومقتضى الحسب أو كثرة الذهب ثم هم مع تفاوتهم في مراتب الفضيلة متفاوتون في مقدار استحقاقهم بحسب الحاجة كما يشير إليه قوله (مِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذو الحوائج) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 أي ثلاثا فأكثر وهو جمع حاجة من غير قياس وقيل جمع حائجة (فيتشاغل بهم) أي على حسب منافعهم (ويشغلهم) بفتح الياء والغين لا بضم أوله وكسر ثالثه فإنه لغة رديئة (فيما يصلحهم) أي ذلك الوقت وفي نسخة يصلحهم ولعله من قبيل حكاية الحال الماضية (والأمّة) بالنصب عطفا على الضمير فالتقدير ويصلح عامة الأمة (من مسألته) وروي من مسألتهم (عنهم) أي من أجل سؤاله عن أحوالهم وتفقده لأعمالهم وجعل الدلجي من بيانا لما وهو غير صحيح في المعنى لأنه لو أريد هذا المعنى لقال من مسألتهم عنه كما لا يخفى (وأخبارهم) أي ومن أجل إخباره إياهم (بالذي ينبغي لهم) أي يصلح لهم خاصة أو للعامة كافة (ويقول) أي في جميع المراتب (ليبلّغ) بالتشديد والتخفيف (الشّاهد) أي ليوصل الحاضر (منكم الغائب) أي الموجود أو من سيوجد في عالم الوجود ما سمعه مني ولو بالمعنى خلافا لبعضهم من الصحابة كالصديق ومن التابعين كابن سيرين وأبي حنيفة وبعض علماء الأمة وقيل المراد بالشاهد الصحابي الأكبر والغائب الأصغر أو الشاهد الصحابي والغائب التابعي أو الشاهد العالم والغائب الجاهل ومنه قول القائل شعر: أخو العلم حي خالد بعد موته ... واوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يعد من الأحياء وهو عديم أو الشاهد الحضري والغائب البدوي أو الشاهد السامع والغائب من لم يسمع أو الشاهد الذكور والغائب الإناث أو الشاهد المسلم والغائب الكافر وروى الشاهد الغائب بدون منكم (وأبلغوني) أي أوصلوا إلى (حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته) وروى إبلاغ حاجته (فإنّه) أي الشأن (من أبلغ سلطانا) أي نبيا أو خليفة أو قاضيا أو حاكما أو أميرا أو وزيرا أو لو سلطانا جائرا (حاجة من لا يستطيع إبلاغها) أي بنفسه إلا بكلفة ومشقة (ثبّت الله قدميه) أي على الصراط أو في الموقف (يوم القيامة) لما قام بحق الإخوة وثبت في مقام الرحمة والشفقة (لا يذكر عنده) بصيغة المجهول (إلّا ذلك) أي الذي ينشأ عنه نفعهم ويترتب عليه رفعهم (ولا يقبل) أي هو (من أحد غيره) أي غير ما فيه منفعة هنالك ولا يبعد أن يقرأ ولا يقيل بصيغة المفعول فتأمل (قال) أي على (في حديث سفيان بن وكيع) أي بروايته خاصة (يدخلون روّادا) بضم فتشديد أي حال كونهم طالبين منه العلم وملتمسين منه الحكم وروي بكسر أوله مخففا على أنه مصدر أي يتحينون وقت الوصول إليه وروي لو إذا باللام والذال المعجمة أي ملتجئين إليه ومتحصنين ممتنعين به أو متقربين لما عنده (ولا يتفرّقون) أي لا يفترقون بعد دخولهم (إلّا عن ذواق) بفتح أوله أي عن علم وحكم وحلم يكتسبونها منه أو عن مذوق من مأكول أو مشروب يحضر عنده واقتصر أهل الذوق على الأول فتأمل وإن كان الجمع إن تصور أو تيسر فهو الأكل بالنسبة إلى الكمل (ويخرجون أدلّة) جمع دليل أي هداة (يعني فقهاء) أي علماء بالكتاب والسنة قال التلمساني هذا القول لابن شاذان على ما نقله بعض الشيوخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وروي بذال معجمة أي متواضعين أو منقادين (قلت) القائل هو الحسين بالتصغير لأبيه رضي الله تعالى عنهما (فَأَخْبِرْنِي عَنْ مَخْرَجِهِ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ) لا تتبع في جميع أفعاله من دخوله وخروجه وسائر أحواله (قال) أي علي (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحزن لسانه) بضم زاي أي يجعله مخزونا ومحبوسا وممنوعا (إلّا ممّا يعنيهم) بكسر النون أي يهمهم وينفعهم وفي نسخة من الإعانة أي يساعدهم ويقوي دينهم من جواهر لفظه وزواجر وعظه ومنه: إذ المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخازن (ويؤلّفهم) بتشديد اللام أي يوقع الألفة بينهم من سحائب كرمه وسواكب نعمه فيجمعهم (ولا يفرّقهم) بتشديد الراء أي لا يتكلم بما ينفرهم لأنه برحمة من الله لان لهم (يكرم) من الإكرام أي يعظم (كريم كلّ قوم) أي رئيسهم وشيخهم ويقول أيضا إذ أتاكم كريم قوم فأكرموه كما رواه ابن ماجة وغيره (ويولّيه) بتشديد اللام أي يجعله واليا (عليهم) أي تألفا به وبهم (ويحذر النّاس) أي لقوله تعالى وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عن بعض ما أنزل الله إليه ثم عطف بالتفسير قوله (ويحترس منهم) أي يتحفظ عنهم ففي الحديث الحزم سوء الظن وفي لفظ احترسوا من الناس بسوء الظن والمعنى لا تثقوا بكل أحد منكم فإنه أسلم لكم فهو لا ينافي قوله تعالى إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ او فيحذر من الغائب ويحترس من الحاضر والمراد من الناس جنسهم كالأعرابي لأجميعهم في هذا الباب (من غير أن يطوي) بكسر الواو أي يمنع (عن أحد) وفي نسخة على أحد (بشره) بكسر الموحدة أي بشاشة بشرة وجهه وطلاقته (وخلقه) أي حسن عشرته وطراوته وهذا في حق من حضر منهم في خدمته إذا وجدوا (ويتفقّد أصحابه) أي يتعرف أحوالهم إذا غابوا وفقدوا (ويسأل النّاس عمّا في النّاس) أي مما يوجب التفقد والتفحص للاستئناس (ويحسّن الحسن) بتشديد السين وتخفف أي يبين حسن ما يكون حسنا ويجعله مستحسنا (ويصوّبه) بتشديد الواو أي يحكم بكونه صوابا ترغيبا فيه وتحريضا عليه وروي ويقويه (ويقبّح القبيح ويوهنه) بتشديد الياء والهاء مشددة أو مخففة بعدها نون او ياء أي يظهر قبحه وضعفه تنفيرا عنه وتحذيرا منه (معتدل الأمر) أي كان أمره وشأنه كله في غاية من الاعتدال ونهاية من كمال الجمال مما للقلب فيه راحة وللعين قرة (غير مختلف) حال مؤكدة أي غير مفرط ولا مفرط أو غير متناقض ولا متعارض (لا يغفل) بضم الفاء أي لا يظهر الغفلة بالمرة لأرباب الصحبة (مخافة أن يغفلوا أو يملّوا) بفتح ميم وتشديد لام أي يسأموا وأو للتنويع (لكلّ حال) أي من أحوال الدنيا والعقبى (عنده عتاد) بفتح مهملة ومثناة فوقية أي عدة زاد ومعد معاد (لا يقصّر عن الحقّ) أي لا يفرط في إقامته (ولا يجاوزه إلى غيره) أي ولا يتعدى عن غاية مرتبته (الذين يلونه) أي يقربونه (من النّاس خيارهم) مبتدأ وخبر (وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة) أي لله وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم كافة وقد ورد خير الناس أنفعهم للناس والنصيحة الخلوص لغة وهي كلمة جامعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ إِرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ بها خالصة (وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة) أي مشاركة في الرزق والمعيشة قلبت همزتها واوا بدليل حديث ما أحد عندي أعظم يدا من أبي بكر آساني بنفسه وماله وآساه بالهمز أعلى من واساه وقيل لا تكون المواساة إلا من كفاف (وموازرة) أي معاونة من الوزر بمعنى الملجأ أو بمعنى الحمل وروي بالهمز مكانه من الأزر بمعنى الظهر لأن منه قوة البدن فوازره بمعنى قواه ووقع في أصل الدلجي تقديم موازرة وهو مخالف للأصول المعتبرة (ثم قال) أي الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما (فسألته) أي أبي (عن مجلسه) أي جلوسه صلى الله تعالى عليه وسلم أو مكانه وكيفية حاله ومراتب شأنه ولذا أبدل منه بقوله (عمّا كان يصنع فيه) أي في جلوسه أو مجلسه وقد أغرب الدلجي حيث قال هنا أيضا ما سبق له من أنه بفتح اللام كما تقدم قريبا والظاهر أنه يجوز بكسر اللام وقد تقدم أن فتحها خطأ مبنى ومعنى (فقال) أي علي (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يجلس) أي بعد قيامه من نوم أو غيره (ولا يقوم) أي بعد جلوسه (إلّا على ذكر) أي من إفادة علم وذكر أو بيان حمد وشكر عملا بقوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ (ولا يوطّن الأماكن) من الإيطان أو التوطين أي لا يجعل لنفسه مجلسا معينا يعرف به بحيث لا يجلس في غيره (وينهى) أي غيره أيضا (عن إيطانها) أي اتخاذها معينة وقيل مصلى لصلاته المبينة فروى الحاكم وغيره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى أن يوطن الرجل المكان يصلي فيه وفي رواية نهى عن أن يوطن الرجل في المكان بالمسجد كما يوطن البعير والمعنى أنه نهى أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد مخصوصا يصلي فيه كالبعير لا يأوي من العطن إلا إلى مبرك قد وطنه واتخذه مناخا له ولعله اريد به خصوص من لم يألف من المسجد مكانا يفتي به أو يدرس فيه فإن له أن يقيم من سبقه إليه لئلا يتفرق أصحابه عليه ولكن الأولى أن لا يلتزم جلوسه لمكان معين بحيث لا يتقدم ولا يتأخر عنه نظرا إلى عموم النهي ورخص للإمام بوقوفه في موضع معين من محراب المساجد للضرورة ولعل نهي غيره مخالفة دخول الرياء والسمعة في الطاعة ثم رأيت النووي صرح به حيث قال وإنما ورد النهي عن إيطان موضع من المسجد للخوف من الرياء ونحوه وإلا فلا بأس بملازمة الصلاة في موضع من البيت لحديث عقبان بن مالك فلم يجلس يعني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين دخل البيت ثم قال أين تحب أن أصلي من بيتك فأشرت إلى ناحية من البيت الحديث وقال التلمساني كان مقعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند العمود المخلق وكان لأصحابه مواضع فيه معروفة الأماكن وقال بعض الشيوخ نهيه عن ذلك لوجوه أحدها خوف الرياء والسمعة والتظاهر بالملازمة والثاني أن يغيب فيقع الناس فيه فيأثمون به والثالث أن يرى أنه استحقه دون غيره قلت والرابع أنه يعتقد عدم جوازه في غيره كما قيل في كراهة تعيين سورة في صلاته وينبغي أن يستثني ملازمة المواضع المأثورة كما أنه استثنى ما ورد في قراءته الآثار المسطورة ولا يبعد أن النهي مختص بموضع يتبارك الناس بالصلاة فيه كتحت الميزاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 والمقام والمحراب والله أعلم بالصواب (وإذا انتهى إلى قوم) أي جالسين أو إلى مجلسهم (جلس حيث ينتهي به المجلس) ولم يتقدم عليهم ولم يتميز عنهم بل كان يجلس حيث اتفق معهم فإن شرف المكان بالمكين دون العكس المبين (ويأمر بذلك) تأكيدا للأمر بالقول بانضمامه إلى الفعل ويقول ان الله يكره عبده أن يراه متميزا عن أصحابه (ويعطي كلّ جلسائه نصيبه) أي من مباشرته ومحادثته (حتّى لا يحسب جليسه) أي لا يظن مجالسه (أنّ أحدا أكرم عليه منه) أي من غاية استجلاب خاطره ونهاية جبر حال ظاهره (من جالسه أو قاومه) أي وافقه في جلوسه أو قيامه بمعنى جلس معه أو قام (لحاجة) أي عارضة لصاحبه (صابره) أي بالغ في حبس نفسه للصبر معه (حتّى يكون هو المنصرف عنه) أي بعد انقضاء حاجته منه (من سأله حاجة لم يردّه) بفتح الدال وضمها (إلّا بها) أي إلا بقضائها أو وعد ادائها كما بينه بقوله (أو بميسور) أي بما تيسر له (من القول) وهو يشمل دعاءه له بحصولها فأو للتنويع وفيه إيماء إلى قوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (قد وسع النّاس) بالنصب أي عمهم (بسطه وخلقه) أي بسط يده وانبساط خلقه وسماحة نفسه وسعة كرمه (فصار لهم أبا) أي من كمال الشفقة وحسن تأديب الترتبة لأن نبي كل قوم بمنزلة ابيهم كما قال تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وفي قراءة شاذة بعد قوله سبحانه وتعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أب لهم (وصاروا عنده في الحقّ) أي في حق الرحمة والرأفة (متقاربين) أي كالأولاد عند الوالدين متساوين في أصل المحبة (متفاضلين فيه بالتّقوى) أي عن المعصية والتقوى على الطاعة لقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (وفي الرّواية الأخرى) أي عنه أو عن غيره (وصاروا عنده في الحقّ سواء) أي في حكم الحق للخصومة أو في أصل حق المودة مستوين. (مجلسه مجلس حلم) أي وقار وسكينة (وحياء وصبر وأمانة) أي لا مقام وقاحة وخفة وخيانة (لا ترفع فيه الأصوات) لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الآية وهذا بيان لحلمهم وحيائهم (ولا تؤبن فيه الحرم) وضبطهما تقدم أي لا يذكرون فيه بسوء وهذا بيان لصبرهم وأمانتهم، (ولا تثنى) بضم أوله فسكون نون وفتح مثلثة أي لا تشاع ولا تذاع ولا تذكر من النثاء وهو أعم من ذكر الحسن والقبيح وخبر الخير والشر وقيل مختص بالشر وهو في هذا المقام أظهر فتدبر وفي نسخة بمثناة فمثلثة فنون أي لا تعاد (فلتاته) بفتحتين وقد تسكن اللام أي زلات مجلسه وعثرات من حضر في مقام أنسه والمعنى لم يكن لمجلسه فلتة فتنقل فالنفي منصب على القيد والمقيد كقوله تعالى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي أصلا (وهذه الكلمة) أي الجملة الأخيرة وهي ولا تنثى فلتاته ثابتة (من غير الرّوايتين) أي المذكورتين في سند هذا الحديث (يتعاطفون) أي فيه كما في نسخة صحيحة أي في مجلسه خصوصا يتحابون وبتراحمون (بالتّقوى) أي بسببها لحديث أبي داود والترمذي لا تنزع الرحمة إلا من شقي أو بحسب تفاوت مراتبها حال كونهم (متواضعين) أي بعضهم لبعض كما قال تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الْكافِرِينَ وكما قال أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (يوقّرون فيه) أي في مجلسه خصوصا الكبير أي في السن أو الرتبة بما يجب له من العظمة (ويرحمون الصّغير) أي بمقتضى الشفقة (ويرفدون) بضم الفاء وكسرها وحكي فتحها وفي نسخة من الارفاد أي يعينون ويغيثون (ذا الحاجة) ويعطون صاحب الفاقة وقيل رفد أعطى وارفد اعانه والرفد بالكسر هو العطاء (ويرحمون الغريب) أي لبعده عن بلاده وأصحابه ومفارقة أولاده وأحبابه (ثم قال) أي الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما (فسألته) أي أبي (عن سيرته صلى الله تعالى عليه وسلم في جلسائه) أي عن طريقته في حقهم حال حضورهم في خدمته (فقال) أي علي (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دائم البشر) أي غير مقيد طلاقه وجهه وبشاشة بشرته بوقت دون وقت في حالته، (سهل الخلق) أي لين الطبع مع عموم الخلق، (ليّن الجانب) بتشديد التحتية وتخفف أي في كمال من الرفق، (ليس بفظّ) أي سيىء الخلق (ولا غليظ) أي سيىء القلب (ولا سخّاب) أي صياح وفي رواية ولا سخوب والصاد لغة فيهما وكلاهما للمبالغة إلا أن النفي لأصل المعنى لا للزيادة والأظهر أن الكلمة بوضعها للنسبة كتمار ومنه قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وجاء في حديث المنافقين خشب بالليل سخب بالنهار أي إذا جن عليهم الليل سقطوا نياما كالخشب فإذا أصبحوا تساخبوا على الدنيا تهالكا عليها وتمالؤوا إليها وفي رواية في الأسواق فالمراد نفي رفع الصوت بالمخاصمة والمشاجرة على ما هو المعروف في العادة فلا ينافي ما ورد من أنه كان إذا دخل السوق قال لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له إلى آخره مع غيره مما ثبت من الأدعية في أثره (ولا فحّاش) أي ذي فحش من كلام غليظ (ولا عيّاب) أي على أحد قولا وفعلا مرضيا أو في غيبة أحد أو لمأكول ومشروب كما سبق (ولا مدّاح) أي مبالغ في مدح أحد ويروى بالزاء أي كثير المزح لما ثبت في وصفه من مدحه ومزحه أحيانا وأما ما وقع عند شارح بالراء فتصحيف لمخالفته الأصول وإن قال إنه من المرح وهو الفخر والتجبر (يتغافل عمّا لا يشتهي) أي مما لا يجب على أحد فيه أن ينتهي (ولا يؤيس منه) بالبناء للفاعل أو المفعول من اليأس ضد الرجاء على ما مر له من بيان المعنى (قد ترك نفسه) أي لم يجعل لها حظا (من ثلاث) أي ثلاث خصال بينها بإفادة ابدال مع إعادة من بقوله (في الرّياء) وكذا من السمعة فإنهما من الشرك الأصغر وهذا إنما يبتلى به من لا يعرف الله ممن يلتفت إلى ما سواه ووقع في أصل التلمساني الرياء بدون من فجوز جره على بدل المفصل من المجمل كقوله تعالى حكاية نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ورفعه على أنه خبر لمحذوف قلت لو صحت هذه الرواية لجاز نصبه بتقدير أعني كما لا يخفى على أرباب الدراية، (والإكثار) أي ومن إكثار القول الممل للحضار أو من إكثار متاع الدنيا لكمال توجهه إلى المولى والدار الآخرة التي هي بالاستكثار أولى وأحرى، (وما لا يعنيه) أي ومما لا يهمه ولا ينفعه ولا يغنيه وكيف لا وفي حديث الترمذي من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقد قال سبحانه وتعالى وَالَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وهو يشمل القول والفعل وتوجه القلب وإقبال العقل، (وترك النّاس) أي أبعدهم عن ساحة ما ينقصهم (من ثلاث) بينها بإبدالها كما قال الدلجي بقوله (كان لا يذمّ أحدا) أي بما يضع قدره؛ (ولا يعيّره) بتشديد التحتية أي لا يعيبه بعيب سبق أمره إذ ورد في حديث الترمذي عن معاذ مرفوعا من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله قال التلمساني هما واحد وإلا كان العدد أربعا قلت الصواب أنهما عددان لأنهما متغايران وأن الثالث قوله (ولا يطلب عورته) أي لا يسيء ظنه به فيتجسس عن أمره ويتفحص عن خلله لقوله سبحانه وتعالى وَلا تَجَسَّسُوا ولحديث أبي داود على المنبر يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته بمعنى كشف الله حاله وفضحه فهو من باب المشاكلة لوروده بالمقابلة وقد تمت الثلاث فعطف على ما قبلها قوله. (ولا يتكلّم إلّا فيما يرجو ثوابه) أي في فعله أو يخاف من عقابه في تركه ولعله ترك للاكتفاء أو لكمال ظهوره، (إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطّير) أي إكراما له واحتراما لقوله وسبق تحقيقه (وإذا سكت تكلّموا) أي تأدبا معه وزيادة استفادة منه (لا يتنازعون عنده الحديث) أي لا يتجاذبونه بينهم كما بينه بقوله (من تكلّم عنده أنصتوا له) أي سكتوا له أو أسكت بعضهم بعضا لأجله (حتّى يفرغ) أي من كلامه وتحصيل مرامه، (حديثهم حديث أوّلهم) مبتدأ وخبر متضمن لتشبيه بليغ أي حديث آخرهم كحديث أولهم في الرغبة إليه والنشاط لديه وعدم الملالة والسآمة عليه وفي رواية حتى يفرغ حديث أولهم وروي حتى يفرغ من كلامهم حَدِيثُهُمْ حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ (يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ) أي بحكم المؤانسة وحق المجالسة (ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه) تطييبا لخواطرهم وتحسينا لسرائرهم وظواهرهم (ويصبر للغريب على الجفوة) بفتح جيم فسكون فاء أي الغلظة والسقطة والغلطة (في المنطق) أي في العبارة وهذا كله كان دأبه في العادة (ويقول إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها) جملة حالية أو استينافية بيانية (فأرفدوه) بهمزة قطع أو وصل أي أعطوه ولو بعض كفايته أو أعينوه على قضاء حاجته (ولا يطلب الثّناء) أي ولا يقبله كما في رواية (إلّا من مكافىء) بكسر فاء فهمز أي معتقد لثنائه أو مقتصد في ثنائه غير متجاوز إلى اطرائه ألا تراه يقول ولا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله فإذا قيل هو نبي الله أو رسول الله فقد وصف بما لا يوصف به أحد من أمته فهو مدح مكافىء له وما أحسن قول البردة في هذه الزبدة دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم (ولا يقطع على أحد حديثه) أي كلامه في اثنائه بل ينصت له (حتّى يتجوّزه) أي يتعداه ويتخلص (فيقطعه بانتهاء) أي لحديثه ولو بعد في قعوده (أو قيام) أي له على طريق وداعه؛ (هنا انتهى حديث سفيان بن وكيع) أي شيخ الترمذي؛ (وزاد الآخر) أي بسند المصنف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 طريق أبي علي الحافظ ابن سكرة منتهيا إلى الحسن بن علي راويا عن أخيه حسين رضي الله تعالى عنهم (قلت) أي لأبي (كيف كان سكوته صلى الله تعالى عليه وسلم قال) أي علي (كان سكوته على أربع) أي حالات أو صفات (على الحلم) أي الوقار والسكينة دون الخفة والعجلة، (والحذر) أي مما يخشى فيه من الضرر، (والتّقدير) أي تقدير الشيء بمعنى التصوير، (والتّفكّر) أي فيما يحتاج إليه من التقدير. (فأمّا تقديره) تفصيل على خلاف ترتيب ما أجمل به (ففي تسوية النّظر) أي التأمل في الأمر أو مساواة النظر بالبصر (والاستماع بين النّاس) كما قرر في آداب القضاء من العدالة بين الخصماء على حد سواء في الاستواء وروي الاستمتاع بمعنى الانتفاع. (وأمّا تفكّره ففيما يبقى) أي من أعمال العقبى (ويفنى) أي من أحوال الدنيا كقوله تعالى الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أو فيما يبقى عند المولى ويفنى عند السوى كقوله تعالى ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ (وجمع له الحلم صلى الله تعالى عليه وسلم في الصّبر) أي في حال صبره (فكان لا يغضبه) بضم أوله وكسر ضاده أي لا يحمله على الغضب (شيء يستقرّه) بتشديد الزاء أي يستخفه ويفزعه (وجمع له في الحذر) أي التيقظ في الحضر والسفر والتحرس عن الضرر (أربع) أي من الخصال الحميدة والأحوال السعيدة إحداها (أخذه بالحسن) أي قولا أو فعلا (ليقتدى به) أي علما وعملا سواء كان واجبا أو مندوبا أو مباحا فهو مرفوع على أنه مبتدأ خبره مقدر أو على أنه خبر مبتدأ محذوف هو هو أو على أنه بدل من أربع بدل الكل بتأخير الربط أو بدل البعض بتقديمه على وجه شموله ويجوز نصبه بتقدير أعني أيضا لا كما توهم الدلجي في اقتصاره على ضبط نصبه على أنه مفعول من أجله، (وتركه القبيح) أي حراما أو مكروها أو ما هو خلاف الأولى (لينتهى عنه) بصيغة المفعول أي لينتهي عنه غيره تبعا له والمعنى أنه كان يترك ما يعد قبيحا في حق غيره وإن كان وجوده صحيحا في حقه ليكون دليلا على انتهائه صريحا أو ليعلم أنه عامل بعلمه ومتعظ يوعظه كما قال الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ (واجتهاد الرّأي) أي بذل الجهد في ظهور الأحرى (بما أصلح أمّته) أي بسبب إصلاح أمرهم وموجب فلاح أجرهم (والقيام لهم) أي لمصالحهم ونظام أحوالهم (بما جمع لهم أمر الدّنيا والآخرة) بنصب الأمر على ما في الأصول المعتمدة على أنه مفعول جمع ووقع في أصل الدلجي من أمر الدنيا والآخرة بزيادة من وهو يحتمل أن تكون تبعيضية أو بيانية وهو الأولى كما فسره بقوله من معاش ومعاد قال المصنف. (انتهى الوصف) أي وصف نبي الله (بحمد الله) تعالى أي مقرونا بحمده حيث لا يستحق الحمد سواه ولا ينبغي أن يحمد إلا إياه. فصل [في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله] (في تفسير غريب هذا الحديث) أي باعتبار مبناه (ومشكله) من جهة معناه وإنما سمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 غريبا لغرابة استعماله حيث غيره في المداولة أكثر نصيبا ويكون إلى الفهم قريبا. (قوله المشذّب) بفتح الذال المعجمة المشددة (أي البائن الطّول) بالإضافة أي المفرط فيه المباين عن قد الطوال أو المفارق عن رتبة قامة الربعة (في نحافة) أي حال كونه واقعا في صفة النحافة التي هي ضد الضخامة (وهو) أي المشذب (مثل قوله في الحديث الآخر) أي للترمذي والبيهقي (ليس بالطّويل الممغّط) بتشديد الميم الثانية فمعجمة فمهملة أي المتناهي طولا والممتد قامة وأصله منمغط اسم فاعل من باب الانفعال والنون للمطاوعة فقلبت ميما وأدغمت يقال مغطت الحبل إذا مددته وانمغط النهار إذا امتد وفي نسخة بكسر العين المهملة ويروى بصيغة المفعول من باب التفعيل بالغين المعجمة والكل بمعنى، (والشّعر) بفتح العين وتسكن (الرّجل) بفتح راء فكسر جيم مبتدأ موصوف خبره (الذي كأنّه مشط) بضم ميم فتخفيف شين معجمة مكسورة (فتكسّر قليلا) أي فبقيت جعودته يسيرة وسبوطته كثيرة ومنه الترجيل وهو تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه لا أنه من الترجيل كما توهمه الدلجي لأن المزيد يؤخذ من المجرد لا بالعكس (ليس) أي شعره الرجل (بسبط) بسكون الموحدة وتكسر والأول أنسب بقوله (ولا جعد) والجملة تفسير لما قبلها أؤ بيان لما كان عليه من أصل خلقه والحاصل أنه لم يكن شديد السبوطة والجعودة وقد روى أحمد وأبو داود أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن الترجل الا غبا ولعل العلة ما ينشأ عن الكثرة مما يشعر ببطر النعمة قال النووي والسبط بفتح الباء وكسرها لغتان مشهورتان ويجوز إسكان الباء مع كسر السين ومع فتحها على التخفيف كما في كتف، (والعقيقة) وهي في الأصل الشعر الذي يولد به الولد يقال عقّ عن المولود إذا حلق عقيقته يوم سابع ولادته وذبح عنه شاة وسميت باسمه عقيقة كما سمي به (شعر الرّأس) لأنه نسيت أصوله (أراد) أي الراوي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا يفرق شعر رأسه باختياره بل دأبه أنه (إن انفرقت) أي عقيقته (من ذات نفسها) وروي من ذاتها (فرّقها) أي تركها متفرقة (وإلّا تركها) أي على حالها أي (معقوصة) أي وفرة واحدة قيل وكان هذا في صدر الإسلام وروى الشيخان وغيرهما أنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به وكانوا يسدلون شعورهم وكان المشركون يفرقون فسدل صلى الله تعالى عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد ومن ثمه قال النووي المختار جوازهما والفرق أفضل (ويروى عقيصته) أي إن انفرقت عقيصته فرقها وإلا تركها على حالها وهي فعيلة بمعنى مفعولة كضفيرة بمعنى مضفورة زنة ومعنى وأصله اللى وإدخال أطراف الشعر في أصوله، (وأزهر اللّون نيّره) بتشديد التحتية المكسورة أي أبيض مشرق متلألىء ومنه الزهرة نجم مشهور (وقيل أزهر حسن ومنه) أي من هذا القبيل أو الاشتقاق (زهرة الحياة الدّنيا أي زينتها) يعني حسنها وبهجتها (وهذا) أي كونه أزهر (كما قال) أي واصفه (في الحديث: الآخر) أي مما رواه الشيخان والترمذي (ليس بالأبيض الأمهق) أي الشبيه بالأبرص (ولا بالآدم) أي بالأسمر القريب إلى الأحمر بل كان بياضه مشربا بحمرة (والأمهق هو النّاصع البياض) أي خالصه كلون الجص (والآدم الأسمر اللّون) وأما ما ورد في الحديث أنه كان اسمر اللون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فمحمول على أن ما برز منه للشمس كان اسمر وما سترته ثيابه كان أبيض والحاصل أن أصل خلقته أبيض وقد كان تعتريه السمرة فلا ينافي كونه اسمر فتدبر. (ومثله) أي ومثل كون لونه بينهما المفاد بلا ولا (في الحديث الآخر) أي الذي رواه الترمذي والبيهقي (أبيض مشرب) بضم ميم وفتح راء مخففة أو مشددة للمبالغة أي مشرب بحمرة كثيرة ولذا قال (أي فيه حمرة) وهذا أحسن الوجوه وأحسن الألوان من أفراد أنواع الإنسان كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه في القرآن بقوله في وصف الحور البيض كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ ولا عبرة ببعض الطباع العادية من ميلهم إلى الصفر أو الخضر أو السودان هذا وفي شرح المصابيح لابن الفقاعي الإشراب خلط بلون بلون كأن أحد اللونين يسقى الآخر يقال بياض مشرب حمرة بالتخفيف فإذا شدد كان للتكثير والمبالغة قلت ومنه قوله تعالى وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أي أخلط حبه في قلوبهم، (والحاجب الأزجّ) أفعل من الزجج وهو دقة الحاجبين مع سبوغهما إلى مؤخر العين وحسنهما (المقوّس) بفتح الواو المشددة أي المشبه بالقوس في نوع من الإدارة فلا ينافيه أنه (الطّويل) أي طرفه وهو احتراز من كون قصيرا فلا ينافي أنه لم يكن اشم (الوافر الشّعر) احتراز من كونه خفيفا، (والأقنى السّائل الأنف) أي طويله وممتده مع دقة ارنبته (المرتفع وسطه) احتراز من حديثه فإن كثرتها غير مستحسن، (والأشمّ الطّويل قصبة الأنف والقرن) بفتحتين وتكسر الراء (اتصال شعر الحاجبين) أي طرفيهما حتى يتلاقيا؛ (وضدّه البلج) بفتحتين بعدهما جيم وهو الذي بينهما فصل بين والجمع بين الروايات أن شعر حاجبيه لم يكن في غاية من الاتصال ولا في نهاية من الأنفصال بل على حد الاعتدال المطلوب في جمال أرباب الكمال فلا تنافي بين ما سبق من المصنف وبين ما ذكره بقوله (ووقع في حديث أمّ معبد) بفتح ميم فسكون عين مهملة فموحدة وهي التي رأته صلى الله تعالى عليه وسلم في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة. (وصفه) أي وصفها إياه (بالقرن) وقد يجمع بينهما بأن أم معبد رأته من بعد فظنت أنه أقرن لقرب طرفيهما التقاء فوصفته بالقرن وعلي كرم الله تعالى وجهه حققهما من قرب فرآهما كادا يلتقيان فوصفه بالبلج وأما قول الدلجي من أن الصحيح وصفه بالبلج إذ هو المحمود عند العرب دون القرن فغير صحيح لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم خلق على جمال موصوف بكمال عند العرب والعجم نعم يستبعد تجويز الحلبي حدوث القرن له عليه الصلاة والسلام بعد فإنه ينزه عليه الصلاة والسلام عن حدوث ما يعد عيبا فيه، (والأدعج) من الدعج وهو السواد في العين وغيرهما وقيل هو شدة سواد العين في شدة بياضها وهو المراد ههنا وقوله (الشّديد سواد الحدقة) أي حدقة العين من باب الاقتصار أو من قبيل الاكتفاء والاختصار أو لتحقق البياض في غالب العادة وإنما تختلف الحدقة باعتبار السواد والزرقة والشهلة. (وفي الحديث الآخر) أي الذي رواه مسلم (أشكل العين، وأسجر العين) بمهملة فجيم وهما بمعنى واحد، (وهو الذي في بياضها حمرة) أي يسيرة والشكلة بالضم شكلة محبوبة محمودة ثم اعلم أن في القاموس عين سجراء خالطت بياضها حمرة فما ضبط في بعض النسخ الصحيحة بالحاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 المهملة ليس في محله لما في القاموس من أن السحر بفتحتين هو البياض يعلو السواد وأما ضبط بعضهم بالشين المعجمة فلا وجه له أصلا، (والضّليع) أي الفم كما سبق أي عظيمه وهو ممدوح في الرجال كما مر وقيل كما قال المصنف: (الواسع) فالمراد به الوسع في الجملة كما في اعتدال الخلقة لا ضيقه بالمرة (والشّنب) بفتح النون (رونق الأسنان. وماؤها) أي صفاؤها وبهاؤها وإنما يتمادح بكثرة الريق في المحاورات والخطب والحرب لأنه يدل على ثبات جنان المتكلم ورباطة جأشه ففؤاده رطب بخلاف الجبان إذا تكلم في هذه المحافل جف ريقه في فمه وما الذ قول العارف ابن الفارض قدس سره: عليك بها صرفا وإن شئت مزجها ... فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم (وقيل) أي في معناه (رقّتها) بالراء بمعنى دقتها (وتحزيز فيها) بزايين أي أشر وتحديد فيها (كما يوجد في أسنان الشّباب) أي لأنهم في زمان ازدياد قواهم النامية واشتعال حرارتهم الغريزية المورثة لابتهاج نضارة الأعضاء وبهائها وحسن رونقها وبريق مائها، (والفلج) بفتحتين (فرق بين الثنايا) واحدتها ثنية ومجموعها أربع وهي الأوائل المبدوءة، (ودقيق المسربة) بضم الراء (خيط الشّعر الذي بين الصّدر والسّرّة) أي الذي لدقته وقلته وطوله كالخيط الدقيق الممتد من الصدر إلى السرة، (بادن ذو لحم) أي البادن باعتبار أصله هو الضخم من البدانة وهي كثرة اللحم ولم يكن صلى الله تعالى عليه وسلم سمينا بدينا ولذا عطف عطف تفسير بقوله (ومتماسك) ثم بينه بعطف بيان حيث قال (معتدل الخلق) أي متوسطه ومع ذلك (يمسك بعضه بعضا) أي ولم يكن لحمه مسترخيا فلم يكن صلى الله تعالى عليه وسلم ضخما بل كان فخما فأفرق بينهما فهما ولا تتبع ما قال بعضهم وهما والحاصل أن مضمون هذا الحديث في إفادة اعتدال خلقه من جهة لحمه وغيره (مثل قوله في الحديث الآخر) أي على ما رواه الترمذي والبيهقي (لم يكن بالمطهّم) بتشديد الهاء المفتوحة (ولا بالمكلثم) بفتح المثلثة (أي ليس بمسترخي اللّحم) تفسير للمطهم أي لم يكن فاحش السمن والأوجه أن معناه لم يكن منتفخ الوجه لأنه من لوازم كثرة اللحم. (والمكلثم القصير الذّقن) بفتحتين أي الحنك الداني إليه والمشهور تفسيره بمدور الوجه سواء كان مع خفة لحمه أو كثرته، (وسواء البطن والصّدر) هكذا الرواية بتقديم البطن على الصدر وإن كان الأظهر عكسه كما وقع في أصل الدلجي لكنه ليس بمعتبر حيث يخالف الأصول (أي مستويهما) يعني لا ينبو أحدهما عن الآخر بأن لا يكون بطنه ضخما مرتفعا ولا صدره منخفضا (ومشيح الصّدر) بضم ميم فشين معجمة مكسورة على ما في النسخ المعتبرة (إن صحّت هذه اللّفظة) أي بالضبطة المذكورة (فيكون) أي المشيح (من الإقبال) اسم فاعل من أشاح بمعنى أقبل فالمراد أنه مقبل الصدر (وهو) أي الإقبال (أحد معاني أشاح) ومنها أعرض ذكره الدلجي وفي القاموس الشيح بالكسر الجاد في الأمور كالشائح والمشيح والحذر وقد شاح وأشاح على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 حاجته والمشيح المقبل عليك والمانع لما وراء ظهره (أي أنّه كان بادي الصّدر) بالياء أي ظاهره (ولم يكن في صدره قعس) بفتحتين وهو خروج الصدر ودخول الظهر ضد الحدب (وهو تطامن فيه) بفتحتين فسكون همز وقد يبدل أي انخفاض (وبه) أي بكون المعنى باديا صدره إلى آخره (يتّضح قوله قبل) أي يتبين معنى ما روي من قبل ذلك (سواء البطن والصّدر) بالإضافة وقيل بتنوين سواء رفع ما بعده (أي ليس بمتقاعس الصّدر) أي غير منخفضة؛ (ولا مفاض البطن) مجرور بالعطف على متقاعس وزيد لا للتأكيد وهو بضم ميم ففاء فمعجمة أي ضخمه ومرتفعة، (ولعلّ اللّفظ) أي صحف على أن أصله (مسيح بالسّين) أي المهملة (وفتح الميم) أي لا بضمها (بمعنى عريض) أي وسيع الصدر مأخوذ من المساحة وهو طول المسافة ومنه الساحة وهي فناء الدار المتسعة (كما وقع في الرّواية الأخرى) أي بهذا اللفظ صريحا وينصره تلويحا حديث كان مسيح القدمين أي ممسوح ظاهرهما وهما ملسا وإن إذا مسهما الماء نبا عنهما، (وحكاه ابن دريد) بالتصغير (والكراديس) جمع الكردوس (رؤوس العظام وهو) أي قوله والكراديس رؤوس العظام (مثل قوله في الحديث الآخر) أي الذي رواه الترمذي والبيهقي (جليل المشاش) بضم الميم أي ضخم رؤوس العظام كالركبتين والمرفقين والكتفين على ما في النهاية أو رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها على ما في الصحاح وهو أقرب إلى مادة المشمشة يقال تمشمش العظام تمشمشا (والكتد) بالجر عطف على المشاش وهو بفتح التاء أفصح من كسرها وهذا لفظ الحديث ثم قال المصنف. (والمشاش رؤوس المناكب) جمع منكب وهو ما بين الكتف والعنق، (والكتد مجتمع الكتفين) بفتح الميم الثانية وهو الكاهل وقيل ما بين الكاهل إلى الظهر، (وشثن الكفّين، والقدمين لحيمهما) وهو خلاف ما مر في تعريفهما؛ (والزّندان) تثنية زنذ (عظما الذّراعين) أي رأساهما على طبق ما سبق أو قصبتاهما على خلاف ما تحقق قال الأصمعي أخبرني أبي أنه لم ير حدا أعرض زندا من الحسن البصري كان عرضه شبرا؛ (وسائل الأطراف أي طويل الأصابع) أي من أطراف يديه ورجليه؛ (وذكر ابن الأنباريّ) بفتح الهمزة بعدها نون ساكنة منسوب إلى مدينة الأنبار مدينة بالفرات وهو محمد بن القاسم بن بشار وقد جاء في بعض الأحاديث قال الأنباري ولم يسمعه وهو محمد بن سليمان الأنباري فاعلمه كذا ذكره التلمساني (أنّه) أي هذا اللفظ (روي سائل الأطراف) أي بالشك في روايته لقوله، (أو قال) أي الراوي (سائن بالنّون قال) أي الأنباري (وهما بمعنى) أي واحد كجبريل وجبرين (تبدل اللّام من النّون) يعني فالأصل هو النون والأظهر أن الأصل هو الكلام وأن النون تبدل منها لتقاربهما في مخرجيهما أو لتجانسهما في حيزهما وهذا كله (إن صحّت الرّواية بها) أي بالنون فإن الرواية باللام ثابتة بلا مرية. (وأمّا على الرّواية الأخرى) أي بالراء كما بينه بقوله (وَسَائِرُ الْأَطْرَافِ فَإِشَارَةٌ إِلَى فَخَامَةِ جَوَارِحِهِ كَمَا وقعت مفصّلة في الحديث) أي كما مر في فصل قبله (ورحب الرّاحة) بفتح الراء وضمها (أي واسعها) وهي الكف حقيقة وهو ظاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 (وقيل كنّى) أي واصفه (بها) أي بالراحة وفي نسخة صحيحة به أي بقوله رحب الراحة (عن سعة العطاء والجود) ولا منع من الجمع بين العبارة والإشارة؛ (وخمصان الأخمصين) بضم أوله (أَيْ مُتَجَافِي أَخْمَصَ الْقَدَمِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لا تناله الأرض من وسط القدم) وفي النهاية أن خمصان للمبالغة قال وسئل ابن الأعرابي عنه فقال إذا كان خمص الأخمص بقدر لم يرتفع جدا ولم يستو أسفل القدم جدا فهو أحسن ما يكون وإذا ارتفع جدا فهو ذم فالمعنى أن أخمصه معتدل الخمص، (ومسيح القدمين أي أملسهما ولهذا) أي لكونهما ملساوين (قال) الراوي في الحديث السابق (ينبو عنهما الماء) وقد تقدم معناه. (وفي حديث أبي هريرة) أي كما رواه البيهقي (خلاف هذا) أي خلاف كون قدميه اخمصين لأنه (قال فيه إذا وطىء بقدمه) بكسر الطاء أي داس بهما أو وقف عليهما (وطىء بكلّها ليس له أخمص) ويمكن الجمع بينهما بأن مراد أبي هريرة أنه وطئ بكلها لا ببعضها كما يفعله بعض أرباب الخيلاء وأن قوله ليس له أخمص محمول على نفي المبالغة كما تقدم أو أنه مدرج من الراوي بحسب ما فهمه من حديثه وهذا الجمع أولى مما اختاره المصنف حيث قال (وهذا) أي معنى قوله ليس له اخمص (يوافق معنى قوله مسيح القدمين) وفيه أنه لا منافاة بين كونه أخمص وبين كونه مسيحا لما سبق من أنه قدمه كانت ملساء كأنها ممسوحة وأما قوله الأنطاكي من أن باطيس ذكر في المعنى في صفته عليه الصلاة والسلام أنه كان لرجله أخمص فمحمول على ما ذكرناه من الجمع بأنه كان له بعض الخمص لا أنه لم يبلغه حديث أبي هريرة أو لم يصح الحديث عنده كما اختاره الأنطاكي (وبه) أي بمسيح القدمين (قالوا) أي بعضهم (سُمِّيَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ أَيْ لَمْ يَكُنْ له أخمص) أي بطريق المبالغة لا بالكلية مع أن الأنسب أن يقال لكون قدمه ملساء ممسوحة (وقيل مسيح لا لحم عليهما) وفيه أنه لا يظهر وجه المناسبة الاشتقاقية حينئذ أصلا (وهذا) أي قوله لا لحم عليها (أيضا يخالف قوله شثن القدمين) أي عند من فسره بلحيمهما كالمصنف وأما عند من فسره بميلهما إلى غلظ وقصر أو في أناملهما غلظ بلا قصر فلا إذ لا تلازم بين اللحيمية والغلظ فقد يكون الغلظ بلا كثرة اللحم (والتقلّع رفع الرّجل بقوّة) أي مع تثبت في المشي بحيث لا يظهر فيه شدة ولا سرعة، (والتّكفّؤ: الميل إلى سنن الممشي) بفتحتين وفي نسخة الممشي على أنه مصدر ميمي أو اسم مكان أي إلى صوبه (وقصده) أي من جهته معتدلا بها من غير انحراف عنها وفي الحديث القصد القصد تبلغوا أي الزموا الأمر الوسط في العمل تصلوا ما تقصدونه من المحل فنصبه على الاغراء وتكراره للتأكيد بالبناء، (والهون) مبتدأ وخبره (الرّفق والوقار) وفي رواية كان يمشي الهوينا تصغير الهونى تأنيث الأهون فيكون القصد منه المبالغة في الهون المندوب في قوله تعالى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وفي الأدب المفرد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحبب حبيبك هونا ما أي لا إفراط فيه بل قليلا بشهادة ضم ما إليه؛ (والذّريع: الواسع الخطو) أي من الذرع وهو الطاقة والوسع ومنه قوله تعالى وَضاقَ بِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ذَرْعاً (أَيْ إِنَّ مَشْيَهُ كَانَ يَرْفَعُ فِيهِ رِجْلَيْهِ بسرعة) أي بقوة (ويمدّ خطوه) أي في مشيه (خلاف مشية المختال) أي لعصمته من الاختيال لقوله عز وجل وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا والمشية بكسر الميم لأنه مصدر للنوع (ويقصد) بكسر الصاد (سمته) أي مقصده في طريقه بدون ميل عن وسطه لقوله سبحانه وتعالى وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ. (وكلّ ذلك) أي ما ذكر من المراعاة في مشيه إنما كان (برفق) أي وفق لطف (وتثبّت) أي طلب ثبات (دون عجلة) إذ هي أيضا مذمومة كالخيلاء فكان مشيه معتدلا (كما قال) الراوي (كأنّما ينحطّ) أي ينزل (من صبب) وفي رواية في صبب وهو بفتحتين أي منحدر وروي كأنما يهوي من صبوب بضمتين، (وقوله يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه) أي بجوانب فمه جمع شدق بالكسر (أي لسعة فمه) يعني إنما كان ذلك لاتساع فيه؛ (والعرب تتمادح بهذا) أي بوسع الفم وعظمته لدلالته على فصاحة صاحبه وبلاغته؛ (وتذمّ بصغر الفم) الباء زائدة أو سببية أي تذم الإنسان لصغر فمه ولا يعارض حديث أبغضكم إلي الثرثارون المتشدقون لأن المراد بهم المتوسعون في الكلام بدون احتياط واحتراز في نظام المرام والمستهزئون بالناس بلى الشدق ونأي الجانب والتمطي ونحو ذلك من أفعال اللئام، (وأشاح) أي بناء على أحد معانيه (مال) أي إلى كذا مانعا لما وراء ظهره (وانقبض) أي مما أرهقه وأغضبه إذ المشيح هو الحذر والجاد في الأمر أي المقبل عليه وفي الحديث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر النار ثم أعرض وأشاح أي حذر منها كأنه ينظر إليها أوجد في الإيصاء باتقائها أو أقبل ومال في خطابه إليه، (وحبّ الغمام) أي السحاب (البرد) بفتحتين شبه بحب الأرض ولو من بعض الوجوه. (وقوله فيردّ ذلك بالخاصّة على العامّة) ولما كانت الجملة المضارعية لحكاية الحال الماضية صح تفسيره بقوله (أي جعل من جزء نفسه) أي بعض أوقات حظ نفسه (ما يوصّل الخاصّة إليه) أي زمانا مجعولا لا يكون وسيلة إلى توصيل الخاصة إليه (فتوصّل عنه للعامّة) أي بالواسطة لعدم إمكان الزمان أو لضيق مكانه عن وصول كافة الخلق إلى حصول إدراك شأنه وما لا يدرك كله لا يترك كله (وَقِيلَ يُجْعَلُ مِنْهُ لِلْخَاصَّةِ ثُمَّ يُبَدِّلُهَا فِي جزء آخر بالعامّة) وقد عرفت وجه ضعفه فيما تقدم والله تعالى أعلم؛ (ويدخلون) أصحابه عنده (روّادا) بضم راء وتشديد واو جمع رائد (أي محتاجين إليه وطالبين لما عنده) لما لديه من هداية ومعرفة نازلة عليه (ولا يتفرقون) أي لا ينصرفون كما في نسخة (إلّا عن ذواق) بفتح أوله بمعنى مذوق من الذوق المعنوي أو الحسي، (قيل عن علم يتعلّمونه) أي ثم يصيرون هداة للسان يعلمونهم ومثل هذا يروى عن أبي بكر بن الأنباري وزاد عليه فقال فيقوم لهم ما يتعلمونه مقام الطعام والشراب لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحفظ أرواحهم كما يحفظ الطعام والشراب أجسامهم وأشباحهم (ويشبه) أي والأشبه (أن يكون) أي ذواقهم (على ظاهره أي في الغالب والأكثر) أي من مأكول أو مشروب باعتبار الأكثر الأغلب وإلى هذا المعنى قال الإمام الغزالي في الإحياء والحمل على المعنى الأعم هو الأتم والله تعالى أعلم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 (والعتاد) بالفتح (العدّة) بالضم (والشّيء الحاضر المعدّ) بصيغة المجهول أي المهيأ لما يقع من الأمور الملمة والأحوال المهمة؛ (والموازرة المعاونة) من الوزر وهو في الأصل الحمل والثقل ومنه قوله تعالى وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي أي معينا يحمل عن بعض حملي وفي حديث البيهقي نحن الأمراء وأنتم الوزراء جمع وزير وهو من يوازر السلطان فيحمل عنه ما حمله من أثقال الزمان، (وقوله لا يوطّن الأماكن) بتشديد الطاء وتخفيفها (أي لا يتّخذ لمصلّاه موضعا معلوما) أي لا يصلي إلا فيه، (وقد ورد نهيه عن هذا) أي إيطان المكان في المساجد (مفسّرا) أي مصرحا ومبينا (في غير هذا الحديث) أي من حديث الحاكم وغيره كما سبق. (وَصَابَرَهُ أَيْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ صاحبه ولا تؤبن فيه) أي في مجلسه (الحرم) بضم ففتح (أَيْ لَا يُذْكَرْنَ فِيهِ بِسُوءٍ وَلَا تُثْنَى فلتاته أي لا يتحدّث بها) أي مطلقا وهو يحتمل احتمالين كما بينه بقوله (أي لم تكن فيه فلتة) فالنفي إلى القيد والمقيد (وإن كانت) أي فلتة فرضا وتقديرا (من أحد) أي غيره صلى الله تعالى عليه وسلم (سترت) أي في ذلك المجلس وما ذكرت في غيره لقوله عليه الصلاة والسلام المجالس بالأمانة؛ (ويرفدون يعينون) أي كل من يريد الإعانة أو الإغاثة، (والسّخّاب الكثير الصّياح) بكسر الصاد، (وقوله ولا يقبل الثّناء إلّا من مكافىء) استثناء مفرغ (قيل من مقتصد في ثنائه ومدحه) أي لم ينته وصفه إلى إطرائه، (وقيل إلّا من مسلم) أي كامل فإن ثناءه لا يكون إلى في محله اللائق به وتوضيحه أنه كان لا يقبل الثناء عليه إلا من رجل يعرف حقيقة اسلامه وحقيقة مرامه ولا يدخل عنده في جملة المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فإذا كان المثنى عليه بهذه الصفة قبل ثنائه وكان مكافئا ما سلف من نعمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عنده وإحسانه إليه، (وقيل إلّا من مكافىء على يد) أي نعمة (سبقت من النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم له) أي من إحسان صوري وإلا فلا يخلو أحد منه من إنعام معنوي؛ (ويستفزّه) بتشديد الزاء: (يستخفّه) بتشديد الفاء، (وفي حديث آخر) أي كما رواه مسلم (في وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم منهوس العقب) بمهملة ومعجمة على ما ذكره ابن قرقول في مطالعه ثم فسره بما فسره المصنف (أي قليل لحمها) يعني كأنه نهس فإن النهس هو أخذ اللحم بالأسنان ثم قال وقيل هو بالمعجمة ناتئ العقبين معروقهما وفسر في الحديث شعبة المهملة قال قليل لحم العقب انتهى ولا يخفى أن تفسير شعبة الراوي هو الأولى هنا وفي رواية منهوس الكعبين وفي أخرى القدمين؛ (وأهدب الأشفار) أي أشفار العين جمع شفر بالضم وهي حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر وذلك الشعر هو الهدب وجمعه أهداب وحرف كل شيء شفره وشفيره (أي طويل شعرها) وعن الشعبي كانوا لا يوقتون في الشفر شيئا أي لا يوجبون فيه شيئا مقدرا وهو مخالف للإجماع على وجوب الدية في الأجفان ذكره الدلجي وفيه أنه إنما نفي الشيء المقدر في الشريعة وهو لا ينافي ما ذكره الفقهاء بطريق الحكومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الْبَابُ الثَّالِثُ [فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ ومشهورها بتعظيم قدره عند ربه عز وجل] أي من القسم الأول (فيما ورد من صحيح الأخبار ومشهورها) أي عند المحدثين فهو متوسط بين المتواتر والآحاد والغالب فيه أن يكون صحيحا وربما يكون حسنا ولا يكون ضعيفا أو عند العامة فيشمل الصحيح وغيره وربما يكون موضوعا والأظهر أن الشيخ أراد به النوع الأول كما يقتضيه مقام المرام فتأمل وعلى كل فهو من قبيل عطف العام على الخاص لا عكسه كما زعم من توهم أن كل مشهور صحيح (بعظيم قدره) متعلق بورد والباء للتعدية أي بمقداره المعظم (عند ربّه ومنزلته) أي وبرفعة مرتبته عند ربه الأكرم (وما خصّه به في الدّارين) أي الأولى والآخرة (من كرامته صلى الله تعالى عليه وسلم) بيان لما. (لا خلاف أنّه أكرم البشر) لما في الترمذي والدارمي أنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر كذا ذكره الدلجي وكأنه ذهب وهمه إلى أن اللام في الأولين والآخرين للعهد أو للجنس المراد بهم البشر والأظهر أن اللام للاستغراق وأنه أكرم الخلائق بالاتفاق ولا عبرة بخلاف المعتزلة وأرباب الشقاق، (وسيّد ولد آدم) لحديث الترمذي أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِيَدِي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن دونه إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عنه الأرض ولا فخر، (وأفضل النّاس منزلة عند الله) أي مرتبة ومكانة، (وأعلاهم درجة) أي أرفعهم قربة، (وأقربهم زلفى) أي تقربا وأكثرهم حبا لكونه حبيب رب العالمين. (واعلم أنّ الأحاديث) جمع حديث على غير قياس (الواردة في ذلك) أي في بيان ما ذكر (كثيرة جدّا) بكسر جيم وتشديد دال منصوب منون مصدر والمراد به المبالغة في الكثرة (وقد اقتصرنا منها على صحيحها ومنتشرها) أي مشتهرها الشامل لحسنها دون ضعيفها لعدم اقتضاء الاقتصار (وَحَصَرْنَا مَعَانِيَ مَا وَرَدَ مِنْهَا فِي اثْنَيْ عشر فصلا) أي تفاؤلا باثني عشر نقيبا. الفصل الأول [فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل] (فيما ورد بين ذكر مكانته) أي قرب منزلته (عند ربّه عزّ وجلّ والاصطفاء) أي اجتبائه في رفعة مرتبته (ورفعه الذّكر) أي بين خليقته (والتّفضيل) أي وبيان زيادة فضيلته، (وسيّادة ولد آدم) أي وسيادته لأبناء جنسه المكرم على غيره (وما خصّه) أي الله تعالى (به في الدّنيا من مزايا الرّتب) أي من الرتب الدالة على مزيته (وبركة اسمه الطّيّب) أي الدال على طيب مسماه من ذاته وصفاته (حدثنا) وفي نسخة أَخْبَرَنَا (الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الملقب بالعدل) بفتح العين وسكون الدال التميمي مات عام إحدى وخمسمائة (إذنا بلفظه) أي بعبارته دون إشارته. (حدّثنا أبو الحسن الفرغانيّ) بفتح أوله منسوب إلى فرغانة ناحية بالمشرق قال التلمساني هو علي بن عبد الله المقري (حَدَّثَتْنَا أُمُّ الْقَاسِمِ بِنْتُ أَبِي بَكْرِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهَا، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ وَهُوَ ابْنُ عقيل) بالتصغير وقال التلمساني هو بفتح العين وكسر القاف ابن المهتدي المرادي اللؤلؤي (عَنْ يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَحْيَى الحمّانيّ) بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم وبعد الألف نون ثم ياء نسبة حافظ كوفي روى عن شريك وخلق وعنه أبو حاتم وابن أبي الدنيا والبغوي وطائفة وثقه يحيى بن معين وغيره وأما أحمد فقد كان يكذب جهارا وقال النسائي ضعيف كذا ذكره الحلبي وغايته أن الحديث بهذا الإسناد ضعيف لكن يتقوى بما رواه الطبراني والبيهقي كما نقله الدلجي فلا يضر قول الحلبي هذا الحديث ليس في الكتب الستة، (حدّثنا قيس) قال الحلبي الظاهر أنه أبو محمد قيس بن الربيع الكوفي روى عنه أبو نعيم وغيره اختلف في توثيقه (عن الأعمش) هو إمام جليل (عن عباية) بفتح مهملة فموحدة فألف بعدها تحتية وقيل بهمزة فهاء وأصله لباس فيه خطوط سود (ابن ربعيّ) بكسر راء وسكون موحدة فمهملة بعدها ياء نسبة روي عن علي وعنه موسى بن طريف وكلاهما من غلاة الشيعة له عن علي أناقيم الناس (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنّ الله تعالى قسّم الخلق) أي من الثقلين (قسمين) بكسر أوله أي شقيا وسعيدا لا فاضلا وأفضل كما ذكره الدلجي مقدما على ما اخترناه (فجعلني من خيرهم قسما) أي من قسم السادة التي هم أرباب السعادة كما يدل عليه قوله. (فذلك) أي جعلهم قسمين يؤذن به (قوله تعالى أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي السعادة في أنواع من النعيم المقيم (وَأَصْحابُ الشِّمالِ) أي الشقاوة في أصناف من عذاب الجحيم فقيل سموا بهما لأخذهم كتبهم بأيمانهم أو لأنهم أصحاب اليمين والمشأمة على أنفسهم (فَأَنَا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَنَا خَيْرُ أَصْحَابِ اليمين) وقد أغرب الدلجي حيث قال بعد قوله فجعلني من خيرهم قسما وهم العرب بشهادة فذلك قوله تعالى وَأَصْحابُ الْيَمِينِ (ثمّ جعل) أي الله سبحانه وتعالى (القسمين) أي المذكورين في اثناء السورة المراد بهما أصحاب اليمين وأصحاب الشمال (أثلاثا) أي ثلاثة أصناف في آخر السورة بجعل القسم الأول الذين هم أرباب السعادة صنفين كما سيأتي لا أثلاثا متفاوتين شقاوة وسعادة كما ذكره الدلجي إذ لم يذكر تفاوت ارباب الشقاوة في هذه السورة أصلا وإن كانوا متفاوتين في الدركات كما أن أهل الجنة متفاوتون في الدرجات (فجعلني في خيرها ثلثا) وهم المقربون (وذلك) أي جعلهما أثلاثا يؤذن به (قوله تعالى فأصحاب الميمنة) أي المنزلة السعيدة (وأصحاب المشأمة) أي المنزلة الشقية (والسّابقون السّابقون) أي في مرتبة القربة العلية. (فَأَنَا مِنَ السَّابِقِينَ وَأَنَا خَيْرُ السَّابِقِينَ ثُمَّ جعل الأثلاث قبائل) أي من العرب وغيرهم (فجعلني من خيرها قبيلة) وهم العرب وأبعد الأنطاكي حيث قال هم قريش (وذلك) أي جعلها قبائل يشير إليه (قوله) أي بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً) جمع شعب بالفتح لا بالكسر كما توهم بعضهم فإنه طريق بين الجبلين وأما بالفتح فما تتشعب منه القبيلة (وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات: 13] ) الآية) تمامها إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ثم الشعب جمع عظيم ينسب إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل (فَأَنَا أَتْقَى وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ ولا فخر) أي ولا أقوله افتخارا به بل تحدثا بنعمة الله لأمره أو ولا فخر لي بذلك لأنه ليس من قبلي ولا بقوتي وحولي بل من فضل الله وتوفيقه من أجلي أو ولا فخر لي بهذا المقام بل افتخاري بقرب ربي الذي هو غاية المرام، (ثمّ جعل القبائل) أي قبائل العرب (بيوتا) أي بطونا وأفخاذا وفصائل متفاوتة في الشرف والفضائل من قريش وغيرهم (فجعلني من خيرها بيتا) وهو بيت بني هاشم من بطن قريش (فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) أي وسخ والشرك ودنس المعصية (أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] ) نصبه على المدح أو النداء وهذا معنى ثالث لأهل البيت على ما قرر في محله (وَيُطَهِّرَكُمْ) أي من الأخلاق الدنية (تَطْهِيراً) أي مبالغا بحيث يسرع في تبديلها بتنوير الأمور الدينية المشتملة على الأحوال الدنيوية والأخروية (الآية) كذا في بعض النسخ وهو ليس في محله لأنه آخر الآية وما بعدها ليس له تعلق بما قبلها فمحله اللائق به بعد قوله أهل البيت كما في نسخة صحيحة وأما تخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما بحديث إدخالهم في كسائه ثم قراءتهم هذه الآية واحتجاجهم بها على عصمتهم وكون إجماعهم حجة فضعيف لمنافاة التخصيص ما قبل الآية وما بعدها نعم الحديث قاض بأنهم اهل البيت وخواصهم لا بأنه ليس غيرهم منهم؛ (وعن أبي سلمة) أي ابن عبد الرحمن بن عوف أحد الفقهاء السبعة عند الأكثر (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كما رواه الترمذي وصححه. (قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى وَجَبَتْ لك النّبوّة) أي في أي زمان ثبتت مرتبة النبوة (قال وآدم بين الرّوح والجسد) جملة حالية وردت جوابا لقولهم متى وجبت أي وجبت لي في الحالة التي كان آدم فيها بين تصوير جسمه وبين إجراء روحه في بدنه وفي الحديث إيماء إلى ان الغايات والكمالات سابقة شهودا لاحقة وجودا هذا وفي حديث أحمد إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته (وعن واثلة) بالمثلثة (ابن الأسقع) وكان من أصحاب الصفة اسلم ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتجهز لغزوة تبوك وخدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث سنين توفي بدمشق وله مائة سنة وقد روى مسلم وغيره عَنْهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبراهيم إسماعيل) كذا في النسخ المصححة ووقع في اصل الدلجي زيادة أن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل الحديث وقال إنما أعاده هنا لزيادة صدره (واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة) بكسر الكاف (وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه) أي الذي رواه الترمذي وصدره أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 بُعِثُوا وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا وَأَنَا مبشرهم إذا آيسوا الكرامة والمفاتيح بيدي ولواء الحمد يومئذ بيدي (أَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فخر) زاد الدارمي يطوف على ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور (وفي حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنه) أي الذي رواه الترمذي والدارمي وصدره جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسمعهم يتذاكرون قال بعضهم إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وقال آخر إن الله كلم موسى تكليما وقال آخر عيسى كلمة الله وقال آخر آدم اصطفاه الله فخرج عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وَهُوَ كَذَلِكَ وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وعيسى روح الله وكلمته وهو كذلك وآدم اصطفاه اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ القيامة تحته آدم فمن دونه وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يوم القيامة وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الجنة فيدخلنيها ومعي فقراء المهاجرين ولا فخر (أنا أكرم الأوّلين والآخرين) أي على الله كما في رواية (ولا فخر. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عنه عليه الصلاة والسلام) كما رواه البيهقي وأبو نعيم والطبراني (أتاني جبريل عليه السّلام فقال قلّبت) بتخفيف اللام وتشديدها وهو أبلغ أي فتشت وتفحصت وقيل نظرت ورأيت (مشارق الأرض ومغاربها) أي بجميع أطرافها وجوانبها (فلم أر رجلا أفضل من محمّد) عدل إلى الغيبة مصرحا باسمه الشريف المفيد للمبالغة الدالة على كثرة صفاته الحميدة وسماته السعيدة (ولم أر بني أب) أي أهل بيت (أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله تعالى عنه) كما في الصحيح (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أتي بالبراق) أي جيء به وسبق بيان مبناه ومعناه (ليلة أسري به) بصيغة المجهول (فاستصعب) أي البراق (عليه) أي عند إرادة ركوبه (فقال له جبريل أبمحمّد تفعل هذا) فيه إيماء إلى أن هذا كان دأبه لغيره كما يشير إليه تقديم المتعلق على فعله والهمزة لإنكار استصعابه كما علله بقوله (فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ فارفضّ عرقا) بتشديد الضاد المعجمة أي سال عرقه من شدة ما اعتراه من الهيبة والحياء. (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام) كما رواه ابن أبي عمر العدني (لمّا خلق الله آدم اهبطني) أي من الجنة حال كوني (في صلبه) بضم أوله وقدم التلمساني فتحه (إلى الأرض) يعني وهكذا ينقلني من صلب كريم إلى رحم طاهر بعده (وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ وَقَذَفَ بي) أي القاني (في النّار في صلب إبراهيم) أي حين القاه نمرود فيها وقد وقع في أصل الدلجي حتى مكان الواو العاطفة في وجعلني وقذف وهو مخالف للأصول المعتمدة والنسخ المصححة (ثمّ لم يزل ينقلني) أي يحولني (في الأصلاب الكريمة) كذا في النسخ بلفظ في ولعله بمعنى من الملائم لقوله (إلى الأرحام الطّاهرة) جمع رحم وهو هنا مقر الولد من المرأة كما أن الصلب مقر المني من الرجل (ثم) وفي نسخة صحيحة حتى (أخرجني) أي أظهرني (بين أبويّ) أي فيما بينهما لقوله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (لم يلتقيا) أي لم يجتمعا في جماع (على سفاح) بكسر السين أي على حال غير نكاح (قطّ) أي لاحين شهودي ولا قبل وجودي (وإلى هذا) أي هذا المعنى وهو نفي السفاح في المبنى (أَشَارَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عنه) وفي أصل التلمساني عمه من العمومة وهو بدل من العباس (بقوله) أي فيه كما في نسخة أي في حقه وفي أخرى فيه بقوله (من قبلها) أي قبل الدنيا أو الولادة من غير ذكر لها كما في قوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ الشمس كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ أي الأرض إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي القرآن وأما رجع الضمير إلى النبوة كما ذكره الدلجي وغيره فغير مناسب لمقام المرام نعم لو وضع الرسالة موضعها لوقع في الجملة موقعها وقيل من قبل نزولك الأرض (طبت في الظّلال) أي في ظلال الجنة قال التلمساني ثبت بخط القاضي الظلال وروى العرفي طبت في الجنان (وفي مستودع) بفتح الدال كما في قوله تعالى فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أي طبت في مستودع من صلب آدم بقوله (حيث يخصف الورق) بصيغة المجهول وهو مستفاد من قوله تعالى وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ والمعنى يضم بعضه إلى بعض ويلصق ورقة فوق آخرى (ثمّ هبطت البلاد) أي من الجنة إلى الدنيا في صلب آدم (لَا بَشَرٌ أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ) أي والحال أنك لم تكن حينئذ واحدا منها والمضغة قطعة قدر ما يمضغ في الفم والعلق اسم جنس مفرده علقة وهي قطعة لحم من دم جامد ورتب بينها في التنزيل للترقي وهنا للتدلي ولذا قال (بل نطفة تركب السّفين) أي بل نزلت وأنت في صلبه نطفة ثم صرت إلى نوع حال كونك تركب السفينة وإنما أتى بلفظ الجمع لكبره أو هو اسم جنس وإن صرح صاحب الصحاح بأنه جمع لما فيه من المسامحة أو لعدم الفرق بينهما عند بعض أهل اللغة وقيل جمع التعظيم أو لضرورة الوزن وأما ما روي حجة بدل نطفة فلا يلائم مقام المرام ثم قد للتحقيق في قوله (وقد ألجم نسرا وأهله الغرق) بفتحتين أي منعهم من الكلام وظهور المرام وهو مأخوذ من اللجام وفي قوله نسرا إشارة إلى قوله تعالى حكاية عن قوم نوح وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وقد روي أنه كان لآدم عليه السلام بنون خمسة يسمون بهذه الأسماء وكانوا عبادا فماتوا فحزن أهل عصرهم فصور لهم إبليس اللعين مثالهم من صفر ونحاس ليستأنسوا بهم فكرهوها في القبلة فجعلوها في مؤخر المسجد فلما هلك العصر قال اللعين لأولادهم هذه آلهة آبائكم فاعبدوها ثم إن الطوفان دفنها فأخرجها اللعين للعرب فكان ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل بساحل البحر ويغوث لغطيف من مراد ويعوق لهمدان ونسر لذي الكلاع من حمير ثم أحدثوا للأصنام اسماء أخر (تنقل من صالب إلى رحم) بصيغة المفعول وصالب بكسر اللام وفتحها لغة في الصلب بالضم إلا أنه قليل الاستعمال كما قاله ابن الأثير (إذا مضى عالم بدا طبق) العالم بفتح اللام والمعنى إذا ذهب قرن ظهر قرن وقيل للقرن طبق لأنه طبق الأرض بكسر الطاء أي مائها ثم ينقرضون ويأتي طبق آخر ومنه طبقات المشايخ وغيرهم وقد قيل الطبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الجماعة من الناس ويرجع معناه إلى الأول فتأمل وزيد في بعض النسخ أبيات أخر ويدل على صحة وجودها كلام بعض المحشيين في بيان الفاظ ورودها وهو قوله (ثمّ احتوى) أي اجتمع وانضم وفي أصل الدلجي حتى احتوى فهي غاية لما دل عليه البيت قبله أي منقلا من صلب إلى رحم قرنا فقرنا إلى أن احتوى (بيتك المهيمن) أي الشاهد (من خندف) بكسر الخاء المعجمة وسكون النون وكسر الدال المهملة وقد تفتح بعدها فاء وهو في الأصل مشية كالهرولة والمراد به امرأة الياس بن مضر سميت بها القبيلة واسمها ليلى وهي القضاعية أم عرب الحجاز فهو غير منصرف قوله (علياء) بفتح العين ممدودة منصوبة أي منزلة علياء مفعول احتوى (تحتها) وفي نسخة دونها (النّطق) بضم النون والطاء جمع نطاق قال ابن الأثير وهي أعراض من جبال بعضها فوق بعض أي نواح وأوساط فيها شبهت بالنطق التي يشد بها أوساط الناس ضربه مثلا له في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال وأراد ببيته شرفه في عشيرته أو نفسه في حد ذاته والمهيمن نعته أي حتى احتوى شرفك الشاهد على فضلك أعلى مكان من نسب خندف فإن أصل النطق هو الجبل الاشم إذ السحاب لا يبلغ اعلاه وقال القشيري وغيره أيها المهيمن على أن النداء لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله أعلم ثم قيل في الياس أنه موافق اسم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وصحح السهيلي أنه اليأس الذي هو ضد الرجاء وأما الياس فجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه يقول لا تسبوا الياس فإنه كان مؤمنا وذكر أنه كان يسمع في صلبه تلبية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالحج وهو أول من أهدى البدن إلى البيت (وأنت لمّا ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق) وفي نسخة صحيحة وضاءت أي أضاءت وهما لغتان ومنه الضوء أي استنارت بنورك نواحيها (فنحن في ذلك الضياء وفي النّور وسبل الرّشاد نخترق) بسكون موحدة السبل لغة في ضمها جمع السبيل وهو مجرور عطف على ما قبله وقوله تخترق بفتح نون فسكون خاء معجمة أي ندخل ونقتحم وقال التلمساني أي وسبل الرشاد نخترقها بمعنى نقطعها فالسبل منصوب والأبيات عن العباس رضي الله تعالى عنه رواه أبو بكر الشافعي والطبراني عن خريم بن أوس بن حارثة وذكر هذه الأبيات في الغيلانيات بسنده إلى خريم بضم الخاء المعجمة وفتح الراء قال هاجرت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقدمت عليه منصرفه من تبوك فأسلمت فسمعت العباس يقول يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قل لا يفضض الله فاك قال فأنشد العباس يقول فذكرها سبعة أبيات آخرها نخترق وكذا قال ابن عبد البر في استيعابه في خريم وذكر ابن إمام الجوزية في كتاب هدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة تبوك نحوه وزاد بعضهم بيتا آخر وجد بخط علي أبي الغساني وهو: يَا بَرْدَ نَارِ الْخَلِيلِ يَا سَبَبًا ... لِعِصْمَةِ النّار وهي تحترق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 أي تحرق (وروى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أبو ذرّ) كما رواه أحمد والبيهقي والبزار وكان خامسا في الإسلام روى عنه ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعبادة بن الصامت وخلق توفي بالربذة (وابن عمر) كما رواه الطبراني وأبو نعيم (وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) كما رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار (وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه) كما أخرجه الشيخان (وجابر بن عبد الله) كما رواه الشيخان والنسائي (أنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (قال أعطيت خمسا) أي خمس خصال (وفي بعضها ستّا) رواه مسلم عن أبي هريرة فضلت على الأنبياء بست فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعطي أولا خمسا فحدث بها ثم زيد السادسة فحدث بها مع أنه لا يلزم استيفاؤها حيث ما بينها بل قد يكتفي بالحالة اللائقة ببعضها لا سيما والعدد لا مفهوم له حتى عند القائل به (لم يعطهنّ نبيّ قبلي) وفي رواية جابر لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي (نصرت بالرّعب) بسكون العين وضمها أي الفزع والخوف بإلقاء الله تعالى إياه في قلوب عداه ممن كانت المسافة بينه وبينهم (مسيرة شهر) أي قدر سير في شهر وفي رواية شهر أمامي وشهر خلفي، (وجعلت لي) أي لأجلي أصالة ولأمتي تبعا (الأرض) أي جميع وجهها ولا وجه لقول التلمساني كلها أو مكة وحولها أو ما رأته أمته (مسجدا وطهورا) حيث لا يختص جواز الصلاة بمكان دون مكان لا متى بخلاف غيرنا فإنه لا صلاة لهم إلا في كنائسهم وبيعهم كما بينه بقوله (فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة) أي بعد دخول وقتها (فليصلّ) أي في ذلك المكان إما بطهارة أصلية إن وجد الماء وإما بطهارة خلفية من التراب إن لم يجد الماء كما فهم من قوله طهورا فالتفريع مترتب عليهما وفي بعض النسخ بالواو وفي رواية وأظنه مصحفا فأينما وما مزيدة فيهما (وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ) بصيغة المجهول وفي نسخة بصيغة المعلوم (لنبيّ قبلي) أي فضلا عن أمة له بل كانوا يجمعونها في موضع فتنزل نار من السماء فتحرقها (وبعثت إلى النّاس) أي الإنس والجن ولعل اقتصاره إيماء إلى الاكتفاء ثم المراد بالناس مؤمنهم وكافرهم ولذا قال (كافّة) وفي رواية كافة عامة وفي رواية جابر قبله وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وفي رواية مسلم وبعثت إلى الخلق كافة فلا يرد أن نوحا عليه الصلاة والسلام بعد خروجه من الفلك كان مبعوثا إلى جميع أهل الأرض لأن هذا العموم في رسالته لم يكن في أصل البعثة وإنما وقع لأجل حدوث الحادثة وهي انحصار الخلق في الموجودين معه بخلاف نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم في عموم رسالته في أصل بعثته وشمول دعوته (وأعطيت الشّفاعة) وفي رواية عد هذا رابعا واللام فيها للعهد إذ المراد بها الشفاعة العظمى في المقام المحمود وله صلى الله تعالى عليه وسلم شفاعات أخر يحتمل اختصاص بعضها به منها في جماعة يدخلون الجنة بغير حساب ومنها في أناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها ومنها في أناس دخلوا النار فيخرجون منها ومنها في رفع درجات أناس في الجنة ومنها شفاعته لمن مات بالمدينة ومنها شفاعته لمن صبر على لأوائها ومنها شفاعته لفتح باب الجنة كما رواه مسلم ومنها شفاعته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 لمن زار عليه الصلاة والسلام لما روى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عمر مرفوعا من زار قبري وجبت له شفاعتي ومنها شفاعته لمن أجاب المؤذن وصلى عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لما في الصحيحين من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم حلت له شفاعتي ومنها تخفيف العذاب عمن استحق الخلود فيها كما في حق أبي طالب لقوله ولعل تنفعه شفاعتي ولقوله ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار قال القرطبي في تذكرته في الجواب عن الآية ما نصه فإن قيل فقد قال الله تعالى فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ قيل له لا تنفع في الخروج من النار كعصاة الموحدين الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة وقال الحلبي إنها شفاعة بالحال لا بالمقال فبسببه صلى الله تعالى عليه وسلم يخفف عن أبي طالب أي لا أنه يطلبها وهو لا يخلو عن الاحتمال فلا يكفي لدفع الاشكال بخلاف ما سبق من جواب السؤال والله تعالى أعلم بالأحوال. (وفي رواية أخرى) أي عن أبي ذر (بدل هذه الكلمة) وهي قوله أعطيت الشفاعة (وقيل لي سل تعطه) بصيغة المفعول فهاء السكت وفي نسخة بالضمير (وفي رواية أخرى) أي للبزار والبيهقي رحمهما الله تعالى (وعرض عليّ أمّتي فلم يخف) أي لم يكتم (عليّ التّابع من المتبوع) أي في الخير والشر وقيل المراد بالتابع الوضيع الذي يقتدى بغيره وبالمتبوع الشريف الذي يقتدى به ويرجع إلى قوله (وفي رواية) أي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه (بعثت إلى الأحمر والأسود) وظاهره عموم الخلق كما ذهب إليه بعضهم وقال بعثت حتى إلى الحجر والمدر والشجر وجميع الكائنات كما بينته في بعض المقامات. (قيل السّود) وهو جمع الأسود (العرب لأنّ الغالب على ألوانهم الأدمة) بضم الهمزة أي السمرة الشديدة (فهم من السّود) أي في الجملة. (والحمر) بضم فسكون جمع الأحمر (العجم) أي لأن الغالب على ألوانهم الشقرة مع البياض وكأنه أراد بالعجم الفرس ومن يشاركهم في هذا المعنى من الترك بناء على الإطلاق العرفي وأما العجم المقابل للعرب بحسب الوضع اللغوي فلا يلائم المقام لدخول الهنود والسنود والحبوش والسودان وغيرهم معهم (وقيل البيض والسّود من الأمم) أي على الوجه الأعم وهو في إفادة التعميم أتم، (وقيل الحمر الإنس) أي لنورهم وظهورهم. (والسّود الجنّ) لاجتنانهم وتسترهم. (وفي الحديث الآخر عن أبي هريرة رضي الله عنه) كما رواه الشيخان (نصرت بالرّعب وأوتيت جوامع الكلم) أي القرآن العظيم والفرقان الحكيم أو الأحاديث الجامعة والكلمات اللامعة التي مبانيها يسيرة ومعانيها كثيرة ويؤيده ما رواه أبو يعلى في مسنده عن عمر ولفظه أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا (وبينا) أي بين أوقات (أنا نائم) أي في بعضها (إذ جيء بمفاتيح خزائن الأرض) جمع مفتاح وأما مفاتح بدون الياء فجمع مفتح بمعنى مخزن (فوضعت في يديّ) بفتح الدال وتشديد التحتية كذا ضبطه الحفاظ ولعل في اختيار التثنية إشعارا بكسرة المفاتيح والمراد بها ما فتح الله على أمته من الكنوز الحسية والمعنوية لحديث أوتيت مفاتيح الكلم وفي رواية مفاتح الكلم وفي سيرة الكلاعي أن رستم من الأرامنة أمير جيش يزدجرد رأى في منامه وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 جاءهم سعد بن أبي وقاص من قبل عمر لفتح بلادهم أن ملكا نزل من السماء فأخذ جميع اسلحتهم وأعطاها للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأعطاها لعمر فكان الفتح والغنيمة والنصر الذي يكاد يفوت الحصر في عصر عمر. (وفي رواية) أي رواها مسلم (عنه) أي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (وختم بي النّبيّون) هذا وقد روى أحمد في مسنده عن علي كرم الله وجهه مرفوعا أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل لي التراب طهورا وجعلت أمتي خير الأمم ثم اعلم أن له خصوصيات أخر كإعطاء الآيات من خواتيم سورة البقرة والمفصل من القرآن وجعل صفوف أمته كصفوف الملائكة وغير ذلك مما يحتاج إلى تأليف مستقل لبيان تفصيل ما هنالك (وعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه) صحابي جهني مضري (أنّه قال عليه الصلاة والسلام) كما رواه الشيخان (إنّي فرط لكم) وأما ما وقع في أصل الدلجي من قوله أنا فرطكم فليس في الأصول المعتمدة والنسخ المعتبرة والمعنى أنا متقدمكم وفرط صدق لكم وأصل الفرط الذي يتقدم لطلب الماء بالحبل والرشاء وأسباب ضرب الخباء (وأنا شهيد عليكم) أي بالثناء الجميل والوفاء الجزيل (وإنّي والله لأنظر إلى حوضي) أي وإلى من يشرب منه ومن يذب عنه في الموقف والمحشر (الآن) أي في هذا الحاضر من الزمان (وإنّي قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض) بمعنى عرضت علي فلم اقبلها لعدم الالتفات إلى الدنيا والتوجه الكلي إلى الآخرة والإقبال القلبي إلى المولى والعلم بأن الآخرة خير من الأولى وبأن الجمع بينهما على وجه الكمال من جملة المحال كما بينه حديث من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخر اضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى كما رواه أحمد والحاكم عن أبي موسى ويؤيد ما قررناه من المراد بمفاتيح الأرض هنا بخلاف ما سبق من أن المراد بها ما يسره الله عليه وعلى أمته من فتح البلاد واتساع العباد مع أنه لا يبعد أيضا عن المراد قوله (وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بعدي) أي جميعكم (ولكنّي أخاف) أي عليكم كما في نسخة صحيحة (تنافسوا) بفتح أوله على أنه حذف إحدى التاءين منه أي ترغبوا (فيها) أي في الدنيا الدنية الخسيسة كما يرغب في الأشياء الغالية العالية النفيسة فهو مأخوذ من ميل النفس إلى النفيس ومنه قوله تعالى وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ومنه اقتباس إمامنا الشاطبي رحمه الله تعالى بقوله: عليك بها ما عشت فيها منافسا ... وبع نفسك الدنيا بأنفاسها العلى وأغرب الحلبي كغيره في رجع ضمير فيها إلى خزائن الأرض نعم ذكر المفاتيح سابقا يدل على كون الضمير للدنيا لاحقا نحو قوله وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ لدلالة الناس أو الدابة على الأرض مع أن قرينة المقام كافية في تعيين المرام (وعن عبد الله بن عمر) بالواو وفي نسخة بتركها وقد رواه أحمد بسند حسن (أن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ) أي المنسوب إلى أم القرى وهي مكة أو إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أمة العرب لكون غالبهم أميين لا يقرؤون ولا يكتبون أو المضاف إلى الأم بمعنى أني على أصل ولادتي وجبلتي من غير قراءتي وكتابتي وذلك شرف له وعيب في غيره وهذا المعنى هو الأولى بالمدعي كما أفاد صاحب البردة هذه الزبدة بقوله: كفاك بالعلم في الأمي معجزة وقد قال تعالى ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (لا نبيّ بعدي) أي وإن وجد أحد يكون تابعا لي (أوتيت جوامع الكلم) أي مع كوني أميا (وخواتمه) قيل هو وجوامع بمعنى أي ختم علي بأن أجمع المعنى الكثير في المبنى اليسير أو المراد بخواتمه أنه لا يكون بعد وجود ختمه احتياج إلى غيره وهو المناسب لكونه خاتم النبيين (وقد علّمت) بضم عين وتشديد لام مكسورة ويجوز تخفيفها مع فتح أوله كما قال تعالى وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (خزنة النّار) أي الملائكة الموكلين عليها وكبيرهم يسمى مالكا مشتق من الملك وهو القوة (وحملة العرش) أي من الملائكة فهم اليوم أربعة ويكونون يومئذ ثمانة كما أخبر الله عنهم لكن على خلاف في تمييز العددين من الصفوف أو الألوف أو الصنوف. (وعن ابن عمر) كما روى أحمد بسند حسن (بعثت بين يدي السّاعة) أي قدامها وقريبا من وقوعها كما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه بعثت أنا والساعة كهاتين (ومن رواية ابن وهب) هو عبد الله بن وهب المصري أحد الأعلام عن ابن جريج وعنه أحمد وغيره قال يونس بن عبد العلي طلب للقضاء فجنن نفسه وانقطع أخرج له الأئمة الستة (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم قال) أي على ما رواه البيهقي من حديث اسماء في الإسراء حيث أتى سدرة المنتهى (قال الله تعالى سل يا محمّد) أي ما شئت (فقلت ما أسأل يا ربّ) أي من المقامات العالية حيث أعطيت جميعها للأنبياء الماضية كما بينه بقوله (اتّخذت إبراهيم خليلا) أي بقولك وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (وكلّمت موسى تكليما) كما قلت وكلم الله موسى تكليما، (واصطفيت نوحا) كما قلت إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً، (وأعطيت سليمان ملكا لا ينبغي) أي لا يكون (لأحد من بعده) حيث بينته بقوله فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ الآية. (فقال الله تعالى ما أعطيتك) أي الذي أعطيتكه (خير من ذلك) أي كله، (أعطيتك الكوثر) فوعل من الكثرة ومعناه الخير الكثير وفي النهاية هو نهر في الجنة وجاء في التفسير أنه القرآن ولعل هذا هو المراد في هذا المقام ويشير إليه قوله سبحانه وتعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً وفيه إشارة إلى مزية العلم والمعرفة على كل مقام وحال ومرتبة قال ابن عرفة انظر في قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أهو إنشاء أم خبر فإن قيل الإنشاء هنا مستحيل لأن كلام الله تعالى قديم أزلي فالجواب أنه باعتبار ظهور متعلقه فإن قلت في تعلقه خلاف هل هو قديم أو حادث قلنا التعلق التنجيزي حادث وأما التعلق الصلوحي فيصح هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 كذا ذكره التلمساني (وجعلت اسمك مع اسمي) أي مقرونا به في كلمة الشهادة (ينادى به) بصيغة المفعول (في جوف السّماء) أي وقت الأذان والخطبة أو فيما بين أهل السماء (وجعلت الأرض طهورا) أي حكيما (لك ولأمّتك) أي خاصة (وَغَفَرْتُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأخّر) أي جميع ما فرط وما يفرط منك مما يصح أن يعاتب عليك (فأنت تمشي في النّاس) وفي نسخ بالناس وفي أخرى بين الناس (مغفورا لك) حال من ضمير تمشي، (ولم أصنع ذلك) أي غفران ما تقدم وما تأخر ذكره الدلجي والأظهر إن الإشارة إلى جميع ما تقدم والله تعالى أعلم وحينئذ لا إشكال في قوله (لأحد قبلك) بخلاف ما اختاره ودفعه بقوله ولعله من غير الأنبياء وإلا فهم كذلك وفيه أنهم ليسوا كذلك إذ لم يعلم أنهم بشروا بغفران ما تقدم وما تأخر ويؤيده أن غفرانهم مشوب بمخافة المعاتبة بدليل حديث فيأتون نوحا فيقولون ألا تشفع لنا فيقول نفسي لست لها الحديث، (وجعلت قلوب أمّتك مصاحفها) فيه منقبة عظيمة لحفاظ القرآن من الأمة كما يشير إليه قَوْلِهِ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وتنبيه نبيه على أن الأمم السالفة غالبهم لم يكونوا يحفظون شيئا من صحفهم، (وخبّأت لك شفاعتك) أي ادخرتها عندي لليوم الموعود والمقام المحمود وهي الشفاعة العظمى لفصل القضاء حين يفزع الناس حتى الأنبياء (ولم أخبأها لنبيّ غيرك) بل أوفيت إجابة دعواتهم في الدنيا فلم يبق لهم حينئذ شفاعة شاملة في العقبى. (وفي حديث آخر، رواه حذيفة) كما في تاريخ ابن عساكر مرفوعا (بشّرني يعني ربّه) تفسير من المصنف أو ممن قبله (أوّل من يدخل الجنّة معي) أي بقرب زماني لا آني (من أمّتي) أي من الصحابة والتابعين وغيرهم (سبعون ألفا) أي أصالة (مع كلّ ألف سبعون ألفا) تبعا في العلم والعبادة (ليس عليهم حساب) فلا يكون لجميعهم عذاب ولا حجاب وروي سبعمائة ألف مع كل واحد سبعمائة ألف ذكره التلمساني. (وأعطاني أن لا تجوع أمّتي) أي جوعا شديدا بجدب وقحط بحيث يهلك جميعهم (ولا تغلب) بصيغة المجهول أي ولن تغلب بعدو يستأصلهم أي يأخذهم من أصلهم لحديث أني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة أن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم الحديث، (وأعطاني النّصرة) أي الإعانة على الاعداء (والعزّة) أي القوة والغلبة والمنعة، (والرّعب) أي الخوف مع بعد المسافة كما بينه بقوله (يسعى بين يدي أمّتي) أي يتقدم الرعب لأعدائي قدامهم (شهرا) يعني وكذا من خلفهم شهرا لما تقدم وفيه تنبيه نبيه على أن الرعب غير مخصوص بحضرته بل يوجد من عموم أمته، (وطيّب) بفتح التحتية المشددة أي وأحل (لي ولأمّتي الغنائم) جمع غنيمة ووقع في أصل الدلجي المغانم جمع مغنم وهما قريبان في الدراية وإنما الكلام في صحة الرواية، (وأحلّ لنا) أي بخصوصنا على وجه يعمنا (كثيرا ممّا شدّد) الله تعالى (على من قبلنا) أي بتحريمه عليهم أو بتكليفه لديهم كقتل النفس في التوبة وقطع موضع النجاسة وخمسين صلاة في اليوم والليلة وصرف ربع المال في الصدقة، (وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي تضييق وهو تعميم بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 تخصيص وتنبيه على ما أباح لنا من الرخص عند الاعذار كالتيمم والقصر والإفطار كما بينه بقوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقد ورد في ذلك أن الله رأى صعفنا وعجزنا. (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي برواية الشيخين (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) من الأولى مزيدة وللتأكيد مفيدة والثانية تبعيضية مشيرة إلى المبالغة (إلّا وقد) بالواو (أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البشر) ما موصولة أو موصوفة وفي بعض الروايات الصحيحة أو من عليه البشر وكتبه بعضهم أيتمن وروى القاضي أمن من الأمان ولا يظهر له وجه في هذا الشأن والمعنى أن الله تعالى أيد كل نبي بعثه من المعجزات بما يصدق دعواه وتقوم به الحجة على من عاداه، (وإنّما كان الذي أوتيته) أي من الآيات المتلوة المشتملة على أنواع من المعجزات من الفصاحة والبلاغة في المبنى والأنباء الواقعة في الأزمنة السابقة واللاحقة في المعنى الباقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة النافعة في أمور الدنيا وأحوال الآخرة مع ما فيها من معرفة الذات والصفات الأسنى والأسماء الحسنى (وحيا) أي وحيا يتلى ومعجزة تدوم وتبقى (أوحى الله إليّ؛ فأرجو) وفي نسخة بالواو ولكن الفاء التفريعية مع إفادة التعقيبية هي الأولى والمعنى أتوقع (أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) أي لاستمرار تلك المعجزة بخلاف معجزة سائر الأنبياء حيث انقضت في حال الأحياء وإنما أراد بقوله الذي أوتيته معظم ما أعطي من المعجزات المشتملة على أنواع من الأنباء وإلا فقد أعطى معجزات كثيرة من جنس معجزات الأنبياء (ومعنى هذا) أي الحديث بجملته (عند المحقّقين بقاء معجزته) أي الخاصة به وهي الآية الكبرى والنعمة العظمى (ما بقيت الدّنيا) أي مدة بقائها، (وسائر معجزات الأنبياء) أي بقيتها (ذهبت للحين) أي حين وقوعها في حياة نبيها (ولم يشاهدها إلّا الحاضر لها) أي حال معاينتها ووقت مشاهدتها (ومعجزة القرآن) أي مبنى ومعنى باقية دون كل معجزة (يقف عليها قرن بعد قرن) أي جماعة بعد انقراض جماعة (عيانا) بكسر العين أي معاينة (لا خبرا) إذ ليس الخبر كالمعاينة كما ورد (إلى يوم القيامة) وقد وقع في أصل الدلجي يقف عليها عيانا لا خبرا قرن بعد قرن وهو مخالف للأصول المصححة، (وفيه) أي من هذا الحديث أو في هذا المعنى (كلام يطول) أي من جهة المبنى (هذا نخبته) أي خلاصته، (وقد بسطنا القول فيه) أي اطنبنا في هذا الحديث، (وفيما ذكر فيه) أي في هذا المعنى (سوى هذا) أي الكلام الذي قدمناه (آخر باب المعجزات) أي في آخره لأنه المحل الأليق به. (وعن عليّ رضي الله عنه) كما رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه (كلّ نبيّ أعطي سبعة) قال الحجازي ويروى أربعة والظاهر أنه تصحيف أو وهم (نجباء) أي نقباء فضلاء وزيد في رواية وزراء رفقاء (وأعطي نبيّكم عليه الصلاة والسلام أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَجِيبًا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وابن مسعود وعمّار رضي الله تعالى عنهم) ولفظ الترمذي قلنا من هم قال أنا وابناي وجعفر وحمزة وأبو بكر وعمر ومصعب بن عمير وبلال وسلمان وعمار وابن مسعود ولم يذكر ابن عبد البر مصعبا وزاد تكملة لهم حذيفة وابا ذر والمقداد وقال التلمساني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ذكر أبو نعيم عن علي مرفوعا ولفظ لم يكن نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي سبعة نقباء نجباء وزراء وأني قد أعطيت أربعة عشروهم حمزة وجعفر وعلي وحسن وحسين وأبو بكر وعمر وعبد الله بن مسعود وأبو ذر والمقداد وحذيفة وعمار وسلمان وبلال انتهى وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى النقباء ثلاثمائة والنجباء سبعون والأبدال أربعون والأخيار سبعة والعمدة أربعة والغوث واحد وحكى أبو بكر المطوعي عمن رأى الخضر وتكلم معه وقال له أعلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما قبض بكت الأرض فقالت إلهي وسيدي بقيت لا يمشي على نبي إلى يوم القيامة فأوحى الله تعالى إليها أجعل على ظهرك من هذه الأمة من قلوبهم على قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا أخليك منهم إلى يوم القيامة قلت له وكم هم قال ثلاثمائة وهم الأولياء وسبعون وهم النجباء وأربعون وهم الأوتاد وعشرة وهم النقباء وسبعة وهم العرفاء وثلاثة وهم المختارون وواحد وهو الغوث فإذا مات الغوث نقل من الثلاثة واحد وجعل مكان الغوث ونقل من السبعة إلى الثلاثة ومن العشرة إلى السبعة ومن الأربعين إلى العشرة ومن السبعين إلى الأربعين ومن الثلاثمائة إلى السبعين ومن سائر الخلق إلى الثلاثمائة وهكذا إلى يوم ينفخ في الصور انتهى ولا ينفخ فيه وفي الأرض من يقول الله ولا حول ولا قوة إلا بالله جعلنا الله من خواص المسلمين وحشرنا معهم يوم الدين (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) كما في الصحيحين (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ) أي لما جاء به أبرهة الحبشي في جيشه لتخريب الكعبة فأهلكهم الله بطير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل (وسلّط عليها رسوله والمؤمنين) أي أمرهم بالغلبة عليها أو أذن لهم يقتال أهلها ففتحوها سنة ثمان من الهجرة، (وإنّها لم تحلّ) وفي نسخة لا تحل وفي أخرى لن تحل والفعل يحتمل معروفا ومجهولا (لأحد بعدي) أي من بعدي كما وقع في أصل الدلجي وفيه التفات من الغيبة (وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار) يعني فإن ترخص أحد بقتال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقولوا له كما في الحديث كذا ذكره أكثرهم إجمالا وقال أبو بكر ابن العربي في العارضة أراد بذلك دخوله بغير إحرام لأجل القتال لأنه أحلت له لأجل القتال ساعة من نهار لأن القتال فيها حلال أبدا بل واجب حتى لو تغلب فيها كفار أو بغاة وجب قتالهم فيها بالإجماع انتهى وهو الأقرب إلى قواعد مذهبنا والله تعالى أعلم (وعن العرباض) بكسر أوله (ابن سارية) وهو من أكابر الصحابة وأصحاب الصفة سلمي سكن الشام ومات بها (قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النّبيّين) كذا في النسخ المعتبرة بالواو العاطفة ووقع في أصل الدلجي بغير واو فضبطه بالنون بمعنى لديه وهو الموافق لرواية المصابيح وقال وفي رواية أني عبد الله مكتوب خاتم النبيين ثم الخاتم تكسر تاؤه وتفتح كما قرىء بهما في السبعة (وإنّ آدم لمنجدل) أي والحال أنه لساقط (في طينته) أو مطروح على الجدالة وهي الأرض الصلبة والمراد بطينته خلقته المركبة من الماء والتربة ومنجدل خبر لأن والجار خبر ثان (وعدة أبي إبراهيم) بكسر العين وتخفيف الدال أي وعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 بمقتضى دعائه بقوله رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية ويؤيده ما في نسخة دعوة أبي إبراهيم وصدر الحديث وسأخبركم ببادىء أمري أو بادئ نبوتي وبعثتي هو عدة إبراهيم وللحاكم وغيره وسأونبئكم بتأويل ذلك هو دعوة أبي إبراهيم رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ الآية (وبشارة عيسى ابن مريم) يعنى قوله تعالى حكاية عنه وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ وزاد الحاكم ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج من رحمها نور اضاء له قصور الشام وصححه لكن تعقبه الذهبي بأن أبا بكر بن أبي مريم أحد رواة إسناده ضعيف. (وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) كما رواه البيهقي والدارمي وابن أبي حاتم (قَالَ إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم على أهل السّما) أي من الملائكة المقربين (وعلى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) أي أجمعين (قالوا) أي أصحاب ابن عباس (فَمَا فَضْلُهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ [الأنبياء: 29] الآية) أي فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (وقال لمحمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] الآية) وهي لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وفيه بحث لا يخفى إذ قال تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ مع أن القضية فرضية وتقديرية وإلا فعصمة الأنبياء والملائكة قطعية ولذا قال الكشاف هذا على سبيل التمثيل مع إحاطة علمه سبحانه وتعالة بأن لا يكون كما قال تعالى وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ انتهى فلعل مراد الخبر هو أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مبعوث إليهم كما يفيده قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً وإنذاره للملائكة قطعي بقوله وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ والله تعالى أعلم، (قَالُوا فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] الآية) أي ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم، (وقال لمحمد وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً) أي رسالة عامة (لِلنَّاسِ [سبأ: 28] ) وقد يقال المراد بالناس عمومهم الشامل للأولين والآخرين على تقدير وجودهم في المتأخرين كما يستفاد من قوله تعالى إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وكما أشار إليه حديث لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي وكما يقع بالفعل متابعة عيسى عليه السلام بعد نزوله لشريعته ويكون مفتخرا بكونه من أمته (وعن خالد بن معدان) بفتح ميم وسكون عين فدال مهملتين كلاعي شامي روى عن ابن عمر وثوبان ومعاوية رضي الله تعالى عنهم كان يسبح في اليوم والليلة أربعين ألف تسبيحة أخرج له الأئمة الستة وقد أخرج عنه ابن إسحاق ووصله أحمد والدارمي (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عن نفسك) أي مبدأ أمرك (وقد روي نحوه) بصيغة المجهول والواو للحال أي مثله معنى لا مبنى (عن أبي ذرّ) رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 تعالى عنه صحابي جليل (وشدّاد) بتشديد الدال الأولى (ابن أوس) بفتح فسكون وهو ابن ثابت بن المنذر بن حرام بالراء صحابي أنصاري ابن أخي حسان بن ثابت نزل بيت المقدس ومات بالشام، (وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في جواب كل منهم (نعم) أي أخبركم بأول قصتي وما ظهر من نبوتي على لسان إبراهيم وغيره (أنا دعوة أبي إبراهيم يعني قوله) أي حكاية عن إبراهيم وإسماعيل واقتصاره على الأول لأنه المعول (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ) أي في الأمة المسلمة المذكورة في الآية الماضية (رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] ) ولم يبعث فيها من ذريته من نسل إسماعيل غيره صلى الله تعالى عليه وسلم فهو المجاب به دعوتهما (وبشّر بي عيسى) أي بشارته حين قال لقومه وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ وفي نسخة وبشر بي عيسى بالموحدة وياء الإضافة والظاهر أنه تصحيف لمخالفة ما قبله وإن كان يلائم قوله (ورأت أمّي) وفي بعض الروايات ورؤيا أمي ولعل العدول لئلا يتوهم أن الرؤيا منامية (حين حملت بي) بالباء للتعدية وفي رواية حين وضعتني ويمكن جمعهما بالجمل على مرتين وأما تجويز الدلجي كون الرؤيا منامية فبعيد جدا من حيث استدلاله صلى الله تعالى عليه وسلم برؤيتها فإن رؤيا غير الأنبياء ليست معتمدا عليها حتى لا يعمل بمقتضاها (أنّه خرج منها نور أضاء له) أي استنار لذلك النور (قصور بصرى) بضم موحدة فسكون مهملة مقصورا مدينة بحوران (من أرض الشّام) وهي أول مدينة فتحت صلحا في خلافة عمر وذلك في شهر الربيع الأول لخمس بقين منه سنة ثلاث عشرة وقد وردها صلى الله تعالى عليه وسلم مرتين، (واسترضعت) أي كنت رضيعا (في بني سعد بن بكر) قبيلة معروفة (فبينا أنا) أي بين أوقات كنت أنا (مع أخ لي) أي رضاعا (خلف بيوتنا نرعى بهما لنا) بفتح موحدة وسكون هاء جمع بهمة ولد الضأن ذكرا كان أو أنثى وقيل ولد الضأن والمعز مجتمعة ولعله باعتبار الغلبة وإلا فولد المعز حال انفراده يسمى سخلة (إذ جاءني رجلان) أي على صورة رجلين فقيل هما جبريل وإسرافيل (عليهما ثياب بيض) تركيب توصيف، (وفي حديث آخر ثلاثة رجال) قيل ثالثهم ميكائيل أي جاؤوا (بطست) بفتح طاء وجوز كسره وضمه فسين مهملة وكذا بمعجمة على ما في القاموس فلا عبرة بمن قال إنه لغة العامة وأنه خطأ وهو إناء معروف يكون من نحاس أو صفر وأصله الطسس أبدل من إحدى السينين ثاء (من ذهب) فيه إيماء إلى ذهاب حظ الشيطان عنه بعصمة ربه وذهابه عن الأمة بسببه قال التلمساني وفيه دليل على جواز تغشية آلات الطاعة بالذهب والفضة كالمصحف وآلات الغزو انتهى والأظهر أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام لا أعلم فيه خلافا بين علماء الأنام لكن الملائكة لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمرون فلا يقاس الإنسان بالملك كما يقاس الحداد بالملك هذا وقد ذكر البغوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هي طست ذهب من الجنة يغسل فيه قلوب الأنبياء عليهم السلام (مملوءة) يجوز همزه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وإبداله مدغما ولعل التاء للمبالغة أو باعتبار كونه آنية (ثلجا) بسكون اللام وهو ماء جامد لأنه يبرد القلب وينظفه وقد روي حكمة وفسرت بالنبوة والأولى تفسيرها بإتقان العلم وإحسان العمل (فأخذاني) أو فأخذوني (فشّقا بطني) أو شقوه (قال) ووقع في أصل الدلجي وقال (فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ نَحْرِي إِلَى مراقّ بطني) بفتح الميم وتخفيف الراء وتشديد القاف لا واحد له من لفظه وميمه زائدة أي من أعلى صدري إلى مارق ولان من بطني (ثم استخرجا) أي أخرجا أو اخرجوا (منه قلبي فشقّاه) أي قلبي (فاستخرجا منه علقة) أي قطعة دم منعقدة (سوداء) يكون فيها الحسد والحقد والشهوة النفسية وسائر الأخلاق الرديئة (فطرحاها) أي رمياها بقوة وفي رواية مسلم وقالا هذه حظ الشيطان منك قال العلامة تقي الدين بن السبكي تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يكن فيه مكان قابل لأن يلقي الشيطان فيه شيئا قال فهذا معنى الحديث فلم يكن للشيطان فيه صلى الله تعالى عليه وسلم حظ قط فإن قلت لم خلق هذا القابل في هذه الذات الشريفة وكان يمكن أن لا يخلقه فيها قلت لأنه من جملة الاجزاء الانسانية فخلقه تكملة للخلق الإنساني ونزعه أمر ثان طرأ بعده انتهى ونظيره خلق الأشياء الزائدة في بدن الإنسان من القلفة وتطويل الظفر والشارب وأمثال ذلك فلله الحكمة البالغة وعلى العبد احتمال الكلفة (ثُمَّ غَسَلَا قَلْبِي وَبَطْنِي بِذَلِكَ الثَّلْجِ حَتَّى أنقياه) أي نظفاه عن تلوت تعلق العلقة قال التلمساني شق قلبه صلى الله تعالى عليه وسلم مرتين مرة في صغره عند ظئره وذلك ليذهب عنه حظ الشيطان ومرة عند الإسراء ليدخل على طهارة ظاهرة وباطنة على الرحمن قلت ومرة عند نزول القرآن في جبل حراء على ما ذكره أبو نعيم والطيالسي وغيره على ما في المواهب اللدنية وقد قيل شق صدره مرة في صباه ليصير قلبه مثل قلوب الأنبياء ومرة ليلة المعراج ليصير قلبه مثل قلوب الملائكة قلت ومرة عند نزول الوحي ليصير مثل قلوب الرسل والله تعالى أعلم. (قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ ثُمَّ تَنَاوَلْ أَحَدُهُمَا شَيْئًا فَإِذَا بِخَاتَمٍ فِي يَدِهِ مِنْ نُورٍ يحار) بفتح أوله أي يتحير (النّاظر دونه) أي عنده فلا يدري كيف يهتدي إلى معرفة كنهه (فختم به قلبي) أي لئلا يصل إليه ما لا يليق بجناب ربي (فامتلأ إيمانا وحكمة) أي إيقانا وإحسانا أو علما وفهما (ثمّ أعاده) أي رده (مكانه وأمرّ) بتشديد الراء أي أذهب (الآخر) أي منهما (يده على مفرق صدري) بفتح الميم والراء وبكسر الراء ذكره الشمني والحلبي وقال الدلجي بكسر الميم مع فتح الراء وبفتحها مع كسرها انتهى لا يخفى أن كسر الميم الموضوع للآلة غير مناسب هنا فإنه وسط الرأس حيث يفرق فيه الشعر في أصل اللغة إلا أنه استعير هنا لموضع الشق (فالتأم) بهمزة مفتوحة بعد التاء أي فاجتمع أو التحم وانتظم (وفي رواية) أي للدارمي وأبي نعيم في الدلائل (إنّ جبريل قال قلب) أي هذا قلب (وكيع أي شديد) تفسير من أحد الرواة ومعناه متين في العلم ومحكم في الفهم كما يشير إليه قوله (فيه) وفي أصل التلمساني له (عينان تبصران) أي تدركان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 للأمور العقلية (وأذنان سميعتان) وفي نسخة تسمعان أي تعيان العلوم النقلية وضمير فيه راجع إلى القلب وهو أقرب أو إلى القالب وهو أنسب (ثمّ قال) أي أحدهما (لصاحبه) أي من الملكين (زنه) بكسر الزاء أمر من الورن (بعشرة من أمّته) أي في الفهم والعقل أو في الأجر والفضل (فوزنني بهم) أي حسا أو معنى (فرجحتهم) بتخفيف الجيم أي فغلبتهم في الرجحان (ثمّ قال) أي أحدهما لصاحبه (زنه بمائة من أمّته فوزنني بهم) أي بمائة منهم (فوزنتهم) أي رجحتهم في الوزن (ثُمَّ قَالَ زِنْهُ بِأَلْفٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَوَزَنَنِي بهم فوزنتهم ثمّ قال دعه عنك) أي استرك وزنه (فلو وزنته بأمّته) أي جميعهم (لوزنها) أي لما منح من المنح السنية ومن المنن العلية (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (في الحديث الآخر) أي في الرواية الأخرى وهي حديث ثلاثة رجال بشهادة قوله (ثمّ ضمّوني إلى صدورهم وقبّلوا رأسي) أي إشعارا برياستي وأني رئيس أمتي (وما بين عيني) بصيغة التثنية لا غير إيماء إلى أنه قرة العينين في الكونين (ثمّ قالوا يا حبيب) أي يا محبوب لمطلق الخلق والحق ويروى فقالوا إنك حبيب الله (لم ترع) بضم ففتح فسكون من الروع أي لا تفزع وفي التعبير بالماضي مبالغة في تحققه وفي رواية لن تراع بتأكيد نفي الاستقبال (إِنَّكَ لَوْ تَدْرِي مَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الخير) أي الذي لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (لقرّت عيناك) بفتح القاف وتشديد الراء أي لطابت نفسك وسكن قلبك أو لسررت وفرحت وأصله برد الله تعالى دمعة عينيك لأن دمع السرور بارد وقيل معناه بلغك الله تعالى أمنيتك حتى ترضى وتسكن عينك فلا تستشرف إلى غيره (وفي بقية هذا الحديث) أي حديث ثم ضموني (من قولهم) بيان للبقية (مَا أَكْرَمَكَ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ مَعَكَ) معية مكانة وقربة وحضور وجمعية لامعية مكانية واجتماعية واتصالية واتحادية على ما تقوله الطائفة الإلحادية (وملائكته) أي معك كذلك في الحفظ والحراسة والنصرة والمعونة؛ (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (في حديث أبي ذرّ) كما رواه الدارمي (فما هو) أي الأمر والشأن (إلّا أن ولّيا) أي أدبرا الملكان ورجعا (عنّي فكأنّما أرى الأمر) أي أمر النبوة والرسالة (معاينة؛ وحكى أبو محمّد المكّيّ وأبو اللّيث السّمرقنديّ؛ وغيرهما؛ أنّ آدم عليه السلام عند معصيته) أي الصورية وهي التي خرج بسببها من الجنة (قال) كما رواه البيهقي والطبراني من حديث ابن عمر بسند ضعيف (اللهمّ بحقّ محمّد) أي المغفور من ذريتي (اغفر لي خطيئتي ويروى وتقبّل توبتي) ولا منع من الجمع (فقال له الله تعالى من أين عرفت محمّدا) أي ولا رأيته أبدا. (قال رأيت في كلّ موضع من الجنّة) أي من شرف قصورها وصدور حورها وأطراف أنهارها واتحاف أشجارها (مَكْتُوبًا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله. ويروى) أي بدلا من هذه الجملة أو زائدا بعد هذه الكلمة (محمّد عبدي ورسولي) أي المختص بي من بين عبيدي ورسلي الشامل للملائكة (فعلمت أنّه أكرم خلقك عليك) أي حيث خصصته بتشريف الإضافة إليك ولم تذكر غيره من الخلق لديك (فتاب الله عليه وغفر له) أي رجع عليه بقبول توبته وحصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 مغفرته ووصول هدايته كما قال تعالى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (وهذا) أي قوله اللهم بحق محمد لا كما توهم الدلجي أنه لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (عند قائله) أي رواية وناقله (تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [البقرة: 37] ) أي تلقاها من إلهامه وإعلامه وإن كان المشهور عند الجمهور إن المراد بالكلمات هي قوله رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية (وفي رواية الآجري) بمد الهمزة وضم الجيم وتشديد الراء بعدها ياء نسبة قال الحلبي الظاهر أنه الإمام القدوة أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي مصنف كتاب الشريعة في السنة والأربعين وغير ذلك روى عنه أبو نعيم الحافظ وخلق وكان عالما عاملا سكن مكة ومات بها سنة ستين وثلاثمائة وفي نسخة وفي رواية أخرى بمض همزة وسكون خاء معجمة (فقال آدم) أي في جواب ما تقدم (لمّا خلقتني) أي حين خلقتني في أول وهلتي (رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه) أي في قوائمه كما في رواية (مَكْتُوبٌ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله) يعني وليس فيه ذكر رسول سواه (فعلمت أنّه) أي الشأن (لَيْسَ أَحَدٌ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَكَ مِمَّنْ جَعَلْتَ اسمه مع اسمك) أي مقرونا به في عرشك الذي هو أعظم خلقك (فأوحى الله إليه وعزّتي وجلالي) أي وعظمتي (إنّه لآخر النّبيّين من ذرّيتك) إيماء إلى أنه بمنزلة الثمرة لهذه الشجرة وأنه في مرتبة العلة الغائية في الخلقة الإنسانية وإشارة إلى أنه الغاية القصوى والمقصد الأسنى من مظاهر الأسماء الحسنى كما يدل عليه قوله (ولو لاه ما خلقتك) ويقرب منه ما روي لو لاك لما خلقت الأفلاك (قال) أي الآجري (وكان آدم يكنّى) بصيغة المجهول مخففا ومثقلا (بأبي محمّد) كما رواه البيهقي عن علي مرفوعا ووجه تخصيصه لكونه أفضل أولاده أو للتشرف باستناده، (وقيل بأبي البشر) أي عموما وفيه تنبيه أنه لم يكن يكنى بغيره من أولاده وذريته إشعارا بخصوصيته ولما تحت العموم من اندراج قضيته ولا يبعد تقدير مضاف بأن يقال كان يكنى بأبي خير البشر فاقتصر فتدبر (وروي عن سريج بن يونس) أي ابن إبراهيم الحارث البغدادي العابد القدوة أحد ائمة الحديث روى عنه مسلم والبغوي وأبو حاتم وهو بضم مهملة وفتح راء وسكون تحتية فجيم وأما ضبطه بالشين المعجمة في نسخة فتصحيف وكذا بالحاء المهملة (أنّه قال إنّ لله ملائكة سيّاحين) بتشديد التحتية أي سيارين على وجه الأرض للعبادة (عيادتها) بالتحتية أي زيارة تلك الجماعة من الملائكة السياحة وتفقدها من عاد يعود إذا زار ورجع للزيارة وفي نسخة بالموحدة ولا يخفى مزية العبادة على العادة بالتعمية المخفية (على كلّ دار) وفي نسخة على دار أي واقعة للمحافظة على كل دار (فيها أحمد أو محمّد) أي مسمى بأحدهما وفي نسخة عبادتها كل دار واقتصر عليها الشمني حيث قال عبادة بالباء الموحدة مبتدأ خبره كل دار على حذف مضاف أي حفظ أهل كل دار أو إعانة أهل كل دار (إكراما منهم لمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) حيث عظموا دارا فيها سميه، (وروى ابن قانع القاضي) بالقاف وكسر النون فمهملة هو ابن مرزوق واسمه عبد الباقي صاحب معجم الصحابة وكتاب اليوم والليلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وتاريخ الوفيات من أول سنة الهجرة فروى في معجم الصحابة له وكذا رواه الطبراني (عن أبي الحمراء) بفتح حاء مهملة فسكون ميم فراء ممدودة قال الحجازي هو مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واسمه بلال بن الحارث وقال اليمني هو اسم لصحابيين أحدهما مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخرج هذا الحديث ابن ماجة عنه والآخر مولى أبي عفراء ولا يعلم له رواية وقال الحلبي كان ينبغي للقاضي أن يذكر بقية هذا السند من ابن قانع إلى أبي الحمراء حتى نعرفهم ونعرف من أبو الحمراء فإن أبا الحمراء في الصحابة اثنان أحدهما مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اسمه هلال بن الحارث بن ظفر أخرج حديثه ابن ماجة في التجارات أعني غير هذا الحديث المذكور في الأصل وأما هذا فليس له شيء في السنة والله تعالى أعلم روى عنه أبو داود والأعمش وغيره قال ابن معين كان بحمص وقال البخاري يقال ليس له صحبة ولا يصح حديثه انتهى وأما الثاني فيقال مولى الحارث بن رفاعة شهد بدرا واحدا ولا أعلم له رواية وإن كان أبو الحمراء من التابعين أو من بعدهم فلا أعلم فيهم أحدا يقال له أبو الحمراء وقد وقفت على الحديث المذكور لكن من رواية أنس وقد قال الذهبي فيه شيء تراه (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ إِذَا عَلَى الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ لَا إِلَهَ إِلَّا الله محمّد رسول الله أيّدته) أي قويته (بعليّ) أي لغاية قوته وعلو همته فال الدلجي وقد ورد انه حمل باب حصن خيبر وتترس به ورواه ابن عدي عن عيسى بن محمد عن الحسين بن إبراهيم البياني عن حميد الطويل عن أنس بلفظ لما عرج بي رأيت على ساق العرش مَكْتُوبًا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله أيدته بعلي أو نصرته بعلي قال في الميزان وهذا اختلاف من الحسين بن إبراهيم (وفي التّفسير عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) كما رواه الخطيب فيما رواه مالك عنه (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما [الكهف: 82] ) وقد رواه البزار مرفوعا من حديث أبي ذر وموقوفا على عمر وعلي (قال) أي ابن عباس وكذا من روى نحوه من غيره (لوح) أي الكنز المذكور جامع في المبنى والمعنى فإنه لَوْحٌ (مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مَكْتُوبٌ عَجَبًا لِمَنْ أيقن بالقدر) أي بتقديره الذي لا يتصور تغييره (كيف ينصب) بفتح الصاد أي كيف يتعب وما قدر له يأتيه أن تعب وإن لم يتعب لكن قد يقال إن من جملة ما قدر تقديره أن يتعب فكيف لا يتعب قال البغوي القدر سر من أسراره سبحانه وتعالى لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولا يجوز الخوض فيه ولا البحث عنه بل الله تعالى خلق فمنهم شقي ومنهم سعيد وقال رجل لعلي أخبرني عن القدر فقال طريق مظلم لا تسلكه فأعاده السؤال فقال بحر عميق لا تلجه فأعاد فقال سر الله قد خفي عليك (عجبا لمن أيمن بالنّار) أي بوجودها (كيف يضحك) أي قبل ورودها (عجبا لمن يرى) وفي نسخة لمن رأى (الدّنيا وتقلّبها بأهلها) أي في انقلاب أحوالها لا سيما ومآلها إلى زوالها (كيف يطمئنّ إليها) أي يغتر بها ولا يعتبر بمن مضى فيها (أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا مُحَمَّدٌ عبدي ورسولي) أي إلى الخلق كافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 كما أن إلاله الههم عامة. (وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما) قال الدلجي لا أعلم من رواه عنه (قال عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبٌ إِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لا أعذّب من قالها) أي من صميم قلبه وتوفيق ربه على ثباته إلى مماته، (وذكر أنّه وجد) بصيغة المفعول فيهما وضمير أنه للشأن (على الججارة القديمة) أي العتيقة (مكتوب محمّد تقيّ) أي من الشرك ونقي من الشك (مصلح) أي لما أفسد الخلق من الحق تغييرا أو تبديلا، (وسيّد) أي للخلق (أمين) أي عند الخلق والحق؛ (وذكر السّمنطاريّ) بكسر مهملة وميم وسكون نون فمهملة من جملة المحدثين والأئمة المصنفين تآليف كثيرة في فنون العلوم على ما ذكره التلمساني (أَنَّهُ شَاهَدَ فِي بَعْضِ بِلَادِ خُرَاسَانَ مَوْلُودًا وُلِدَ عَلَى أَحَدِ جَنْبَيْهِ مَكْتُوبٌ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَلَى الْآخَرِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) أقول إذا ثبت ما سبق من كونه مكتوبا على العرش وغيره بروايات معتبرة فلا يحتاج إلى مثل هذه الرواية التي يحتمل أن تكون معتمدة وكذا قوله، (وذكر الأخباريّون) بالخاء المعجمة (أَنَّ بِبِلَادِ الْهِنْدِ وَرْدًا أَحْمَرَ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بالأبيض) أي منقوش به بجعل الأحمر على أطرافه بالأبيض كالاسفيداج ونحوه وفي نسخة صحيحة مكتوبا على الورد الأحمر بِالْأَبْيَضِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله) وعن الحافظ المزي أخبرني من سافر إلى بلاد الهند أن فيه شجرة معروفة يسقط منها في كل سنة ورقة مكتوب عليها لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وقال ابن القيم في تاريخه في ترجمة الحسن بن أحمد بن الحسن الوراق الخواص المصيصي مسندا عنه إلى علي بن عبد الله الهاشمي الرقي أنه قال دخلت في بلاد الهند إلى بعض قراها فرأيت وردة كبيرة طيبة الرائحة سوداء عليها مكتوب بخط أبيض لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أبو بكر الصديق عمر الفاروق فشككت في ذلك وقلت إنه معمول فعمدت إلى وردة لم تفتح ففتحتها فكان فيها مثل ذلك وفي البلد منه شيء كثير وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة لا يعرفون الله تعالى انتهى وقال الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي في كتاب المسمى بروض الرياحين قال بعض الشيوخ دخلت بلاد الهند فدخلت مدينة فيها شجر يحمل ثمرا يشبه اللوز له قشران فإذا كسر خرج منه ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها بالحمرة لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كتابة جلية وهم يتبركون بها ويستسقون بها إذا منعوا من الغيث فحدثت بهذا أبا يعقوب الصياد فقال لي ما استعظم هذا كنت اصطاد على نهر الإبلة فاصطدت سمكة مكتوب على جنبها الأيمن لا إله إلا الله وعلى جنبها الأيسر محمد رسول الله فلما رأيتها قذفتها في الماء احتراما لما عليها كذا ذكره الشمني والذي يخطر بالبال الفاتر والله أعلم بالظواهر والسرائر أن هذه كلها كشوفات مكشوفات لأهلها لا يراها من لم يستأهلها وربما يقال أن اسمه سبحانه وتعالى مع اسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مرسوم على كل شيء من الأشياء بحكم قوله تعالى وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي جعلنا ذكرنا معك في كل شيء من ملك وفلك وبناء وسماء وفرش وعرش وحجر ومدر وشجر وثمر ونحو ذلك ولكن أكثر الخلق لا يبصرون تصويرهم ونظيرهم قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (وروي عن جعفر) أي الصادق (ابن محمّد عن أبيه) أي محمد الباقر وهو من أكابر أهل البيت وأجلاء التابعين أدرك جابرا وغيره (إذا كان يوم القيامة نادى مناد) أي في الموقف كما في رواية (أَلَا لِيَقُمْ مَنِ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَلْيَدْخُلِ الْجَنَّةَ لكرامة اسمه) صلى الله تعالى عليه وسلم أي لإظهار كرامته وأشعار شفاعته وإليه أشار صاحب البردة بقوله: فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم (وروى ابن القاسم) أي العتقي واسمه عبد الرحمن جمع بين الزهد والعلم صحب مالكا عشرين سنة ومات بمصر أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي (في سماعه) أي عن مالك ورد عنه قال خرجت إلى مالك اثنتي عشرة مرة انفقت في كل مرة ألف دينارا خرج له البخاري وغيره (وابن وهب) وقد سبق ترجمته قريبا وهو ممن تفقه على مالك بن دينار والليث بن سعد وصنف الموطأ الكبير والموطأ الصغير وكان مالك يكتب إليه إلى أبي محمد المفتي (فِي جَامِعِهِ عَنْ مَالِكٍ سَمِعْتُ أَهْلَ مَكَّةَ) أي بعض علمائهم (يَقُولُونَ مَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ اسْمُ مُحَمَّدٍ إلّا نما) من النمو أي زاد وزكا يعني كثر بركته وفي نسخة نمى بناء على أن المادة واوية أو يائية وفي أخرى إلا قد وقوا بضم واو وقاف أي حفظوا (ورزقوا ورزق جيرانهم) أي ببركة أسمائهم وإيمانهم وإيقانهم وإحسانهم (وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال) أي على ما رواه ابن سعد من حديث عثمان العمري مرفوعا (مَا ضَرَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ محمّد ومحمّدان وثلاثة) أي وأكثر ويميز بينهم مثلا بالأصغر والأوسط والأكبر هذا وفي مسند الحارث بن أبي أسامة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من كان له ثلاثة من الولد ولم يسم أحدهم بمحمد فقد جهل (وعن عبد الله بن مسعود) كما رواه أحمد والبزار والطبراني (أنّ الله تعالى نظر إلى قلوب العباد) أي جميعهم من أولهم إلى آخرهم (فاختار منها قلب محمّد عليه الصلاة والسلام فاصطفاه لنفسه) أي اختاره لذاته أن يكون مظهر صفاته (فبعثه برسالته) أي إلى جميع كائناته؛ (وحكى النّقّاش أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً [الأحزاب: 53] الآية) تمامها إن ذلكم كان عند الله عظيما. (قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْإِيمَانِ إنّ الله تعالى فضّلني عليكم تفضيلا) أي زائدا يليق بقدره وهو على وفق محله (وفضّل نسائي على نساءكم تفضيلا) أي احتراما وتكريما ورفعا لشأنه وتعظيما. فصل [في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم بما تضمنته كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ] (فِي تَفْضِيلِهِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كَرَامَةُ الإسراء من المناجاة) أي المكالمة. (والرّؤية) أي البصرية أو القلبية (وإمامة الأنبياء) أي إمامته لهم في بيت المقدس (والعروج به إلى سدرة المنتهى) فإنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها (وما رأى من آيات ربّه الكبرى) هذا بيان قضيته إجمالا وأما تفصيل قصته في الجملة اكمالا فقوله (ومن خصائصه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 عليه الصلاة والسلام) أي من جملة ما خص في الإعطاء ولم يعط مثله لسائر الأنبياء (قصّة الإسراء) أي إسرائه إلى السماء (وما انطوت) أي اشتملت (عليه من درجات الرّفعة) أي بحسب ما ثبت في اثناء الأنباء (ممّا نبّه عليه الكتاب العزيز) أي من بعض الإسراء (وشرحته صحاح الأخبار) أي وبينته الأحاديث والآثار وفي نسخة صحائح الأخبار قال الحلبي وكلاهما جمع صحيح وإطلاق كل منهما فصيح (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) أي سيره (لَيْلًا منصوب على الظرفية وتنكيره للدلالة على تقليل المدة الاسرائية مع ما فيه من الصنعة التجريدية فإن السري والإسراء كلاهما هو السير بالليل واختير زيادة الهمزة للمبالغة في مقام التعدية المقرونة بالمصاحبة والمعية المشيرة إلى التخلية من مقام التفرقة إلى التحلية والتجلية في مرتبة الجمعية مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الآية) أي الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ثم سبحان علم للتسبيح بمعنى التنزيه ولعل إيراده هنا للتنبيه على أنه منزه عن المكان وإن إسراءه عليه الصلاة والسلام لإعلاء الشأن ولإطلاعه على عجائب الملك والملكوت في ذلك الزمان وهو مضاف إلى الموصول الذي بعده كما يدل عليه قوله فَسُبْحانَ اللَّهِ ونحوه ونصبه على المصدرية وأغرب السمين في إعرابه حيث قال وهو منصرف لوجود الزيادة والعلمية وقال وَالنَّجْمِ إِذا هَوى قوله إلى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى وقد الفت رسالة مستقلة في خصوص هذه المسألة وبدأتها بتفسير صدر سورة الإسراء وختمتها بتفسير صدر سورة والنجم وذكرت فيما بينهما بعض ما يتعلق بهذه الكرامة العظمى وسميتها المدراج العلوي في المعراج النبوي وههنا اتبع كلام الشيخ في تبيين مبناه وتعيين معناه واتتبع كلام شراحه وحواشيه واختار ما ألقاه من مقتضاه ثم الظاهر من الآية المذكورة أن ابتداء الإسراء كان من نفس المسجد لحديث بينا أنا في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أتاني جبريل بالبراق وليطابق المبتدأ المنتهي لأنه ليس حرم للمسجد الأقصى أو من الحرم كما قال صاحب البردة: سريت من حرم ليلا إلى حرم وسماه مسجدا لإحاطته به ولحديث أنه كان في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص عليها من قصته ويمكن الجمع بينهما بأن كان في بيت أم هانئ فرجع بعد صلاة العشاء إلى المسجد وأتى الحجر عند البيت كما يشير إليه قوله بين النائم واليقظان عند نزوله رجع إليها وقص عليها القصة وكان ذلك قبل الهجرة بسنة ثم وجه تسميته الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام والمراد ببركة حوله بركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء من لدن موسى إلى زمن عيسى عليهم الصلاة والسلام وهو محفوف بالأنهار والأشجار والأزهار والأثمار وفي الحديث بارك الله فيما بين العريش والفرات وخص فلسطين بالتقديس ذكره الدلجي ومن جملة إراءة الآيات ذهابه في لحظة مسيرة أربعين ليلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ورؤيته ببيت المقدس للأنبياء وإمامته لهم مع علو حالاتهم ووقوفه على مقاماتهم (وقال) أي الله سبحانه وتعالى (وَالنَّجْمِ) أي الثريا أو نجوم السماء أو الرجوم من النجوم أو الكواكب إذا انتثرت أو نجوم القرآن (إِذا هَوى [النجم: 1] ) أي غرب أو طلع أو أنقض أو انتثر أو نزل وانتشر (إِلَى قَوْلِهِ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] فلا خلاف) كذا بالواو بلا خلاف في النسخ المصححة وفي أصل الدلجي فلا بالفاء فحاول أن الفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فلا ريب (بين المسلمين) أي من أهل السنة وطائفة المعتزلة وغيرهم (في صحّة الإسراء به عليه الصلاة والسلام) أي بطريق إجمال المرام (إذ هو نصّ القرآن) أي وعليه إجماع أئمة الإسلام إلا أن المعتزلة ومن تبعهم من المبتدعة فسروا الإسراء إلى بيت المقدس لا إلى السماء ممن أنكر مطلق الإسراء فهو كافر بال امتراء (وجاءت بتفصيله وشرح عجائبه) أي بسط غرائبه (وخواصّ نبيّنا محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فيه) أي وظهور خصوصياته في اسرائه وتنزلاته في مراتب سنائه (أحاديث كثيرة منتشرة) أي مشتهرة كادت أن تكون متواترة (رأينا أن نقدّم أكملها) أي أكمل الأحاديث الواردة في الاسراء تصريحا وتوضيحا (ونشير إلى زيادة من غيره) أي غير اكملها تلويحا وترشيحا (يجب ذكرها) أي يتعين بيانها تحقيقا وتصحيحا. (حدّثنا القاضي الشّهيد أبو عليّ) أي ابن سكرة (والفقيه أبو بحر) بفتح موحدة وسكون مهملة وهو ابن العاص (بسماعي عليهما) أي منهما أو واقع على كلامهما. (وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أي وكثير (من شيوخنا) أي المحدثين (قالوا) أي كلهم (حدّثنا أبو العبّاس العذريّ) بضم مهملة وسكون ذال معجمة نسبة إلى عذرة قبيلة (حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الجلوديّ) بضم الجيم (حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ) أي صاحب الصحيح (حدّثنا شيبان بن فرّوخ) بفتح فاء وضم راء مشددة فواو ساكنة فمعجمة غير منصرف للعجمة والعلمية وصرف في نسخة قال التلمساني وصرفه أكثر قيل عنده خمسون ألف حديث وهو من التابعين (حدّثنا حماد بن سلمة) أحد الأعلام روى عن شعبة ومالك وأبو نصر التمار قال عمرو بن عاصم كتبت عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألفا (حدّثنا ثابت البنانيّ) بضم الموحدة وتخفيف النون بعدها ألف فنون فباء نسبة إلى قبيلة بنانة كان رأسا في العلم والعمل يابس الثياب الفاخرة ويقال لم يكن في وقته أعبد منه أخرج له الأئمة الستة وقال الذهبي هو ثابت كاسمه (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أتيت) بصيغة المجهول المتكلم (بالبراق) بضم الموحدة لشدة بريقه ولمعانه وسرعة سيره وطيرانه كالبرق (وهو دابّة) أي مركوب (أبيض) وفيه إيماء إلى ما قيل إنه ليس بذكر ولا أنثى (طويل) أي مائل إلى الطول (فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ منتهى طرفه) بفتح فسكون أي نظره وبصره (قال فركبته حتّى أتيت بيت المقدس) أي حضرته وهو بفتح فسكون فكسر وعلى زنة محمد أيضا لأن فيه يتقدس من الذنوب أو لأنه منزه عن العيوب قال التلمساني وروي باب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 المقدس (فربطته) أي البراق (بالحلقة) بإسكان اللام وفتحها (التي يربط) بضم الموحدة وكسرها (بها الأنبياء) أي دوابهم عند باب المسجد كما صرح به صاحب التحرير وسيأتي فيه ما ينافيه والبراق إن ثبت أن له الإسراء أيضا إلى بيت المقدس ويؤيده أن إبراهيم عليه السلام كان يزور هاجر بمكة عليه ويقويه قول جبريل له فما ركبك أحد أكرم على الله تعالى منه كما سيأتي وفي حديث الترمذي من طريق بريدة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس أشار جبريل عليه السلام إلى الصخرة فخرقها وربط البراق بها ويمكن الجمع بأنه كان الخرق فيها مسدودا فأظهر خرقها ثم في ربطه دليل على أن الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقي المهالك والحذر في السفر والحضر ومنه قوله عليه الصلاة والسلام اعقل وتوكل وقد قال وهب بن منبه كذا وجدته في سبعين كتابا من كتب الله القديمة ثم اعلم أن نسخ الشفاء كلها اتفقت على لفظ بها بضمير المؤنث وهو ظاهر وقال النووي في شرح مسلم وهو في الأصول يعني أصول مسلم به بضمير المذكر أعاده على معنى الحلقة وهو الشيء انتهى ولا يخفى أن الأولى رجع الضمير إلى خرقها بحذف مضاف أو ارتكاب مجار آخر فتدبر (ثمّ دخلت المسجد) أي أقصى (فصلّيت فيه ركعتين) أي تحية المسجد (ثمّ خرجت) أي منه (فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لبن) أي امتحانا من الله تعالى قال التلمساني هكذا في مسلم وفي البخاري وإناء من ماء وروي ثلاثة لبن وخمر وعسل وروي أربعة لبن وخمر وعسل وماء ولعل هذا هو الأظهر حيث عرض عليه من الأنهار الأربعة الموعودة في الجنة واختياره اللبن لأنه مغن عن غيره بخلاف غيره وقيل العسل إشارة لزهرة الحياة الدنيا ولذتها وحلاوتها والماء للغرق ولذا قيل لو اخترته لغرقت وغرقت أمتك ولعل المراد بغرقهم استغراقهم في جمع المال الذي يؤدي إلى سوء الحال ونقصان المآل وأما الخمر فإشارة إلى جميع الشهوات (فاخترت اللّبن) أي أعرضت عن الخمر وروي فأخذت اللبن (فقال جبريل اخترت الفطرة) أي علامة الإسلام والاستقامة لكونه طيبا طاهرا أسهل المرور في الحق سليم العاقبة سائغا شرابه وطيبا مذاقه والخمر أم الخبائث جالبة لأنواع شرور الحوادث (ثمّ عرج بنا) أي صعد بنا (إلى السّماء) بنون المتكلم إما لتعظيمه أو له ولمن معه فالضمير إلى الله تعالى أو جبريل أو البراق وفي نسخة صحيحة بصيغة المجهول وجزم به الأنطاكي وكذا فيما بعده وهو في غاية من القبول مع الإشارة إلى أن سيره من المسجد الأقصى إلى السموات العلى لم يكن بالبراق بل بالمعراج الذي له درجة من ذهب وأخرى من فضة وبه سميت القصة (فاستفتح جبريل) أي باب السماء الدنيا استئذانا للملائكة ولا يبعد أن يكون الاستفتاح كناية عن مجرد الاستئذان فلا يكون هناك فتح واغلاق وهو الأظهر في مقام أدب الإجلال والاستحقاق (فقيل من أنت؛ قال) أي جبريل (جبريل) أي أنا جبريل (قيل ومن معك) أي لما كوشف لهم أن أحدا معه أو استدلوا باستئذانه على خلاف دأبه ومقتضى شأنه (قال محمّد) أي هو أو معي محمد (قيل وقد بعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 إليه) أي أطلب وقد بعث إليه للإسراء وصعود السماء وليس استفهاما عن بعثة الدعوة لبلوغها من الظهور في الملكوت إلى ما لا يخفى على الخزنة ولكونه أوفق بقام الاستفتاح والاستئذان في الجملة وقيل كان سؤالهم استعجابا بما أنعم الله عليه من القربة واستبشارا بعروجه لحصول الرؤية ثم هذا مؤذن بأن للسموات أبوابا حقيقة وعليها ملائكة مؤكلة هذا وفي رواية صحيحة أرسل إليه وهو قابل للتأويل المذكور مع أنه لا يبعد أن تكون بعثة الرسالة خفيت على بعض الملائكة لكمال اشتغالهم بالعبادة على ما ذكره الطبري (قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أنا بآدم صلى الله تعالى عليه وسلم فرحّب بي) بتشديد الحاء أي قال لي مرحبا كما ورد مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح أي لقيت رحبا وسعة (ودعا لي بخير) أي في الدارين (ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إليه قال قد بعثت إليه ففتح لنا) فيه إيماء إلى أن أهل كل سماء لا يدرون عن حال أهل سماء أخرى أو أرادوا التلذذ بهذه المذاكرة التي هي بالمحاورة أحرى وفيه اشعار إلى غاية بسط الزمان ونهاية طي المكان ولا يبعد أن تكون هذه المكالمة على لسان الملائكة أو بالمناداة من غير الواسطة استقبالا لصاحب الرسالة كما يشير إليه تعبير الأفعال بقيل ونحوه من العبارة فيكون كلام الجبار مع سيد الأبرار من وراء الأستار في لباس الاعيار كما يقتضيه معنى المعية والحالة الجمعية من شهود عين الوحدة في عين الكثرة (فإذا أنا بابني الخالة) لأن أم يحيى ايشاع أخت مريم (عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريّاء) ممدودا أو مقصورا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوَا لِي بخير) وفي نسخة صحيحة دعيا لي بالياء ففي القاموس دعيت لغة في دعوت (ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَذَكَرَ مثل الأوّل) أي مثل ما ذكر فيما قبله من استفتاح الباب والسؤال والجواب وهذا اختصار من المصنف أو من غيره والله تعالى أعلم (فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الحسن) أي نصفه أو بعضه والمراد بالحسن جنسه أو حسن حواء أو حسن سارة أو حسن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الأظهر والله تعالى أعلم وروي في حديث مرفوع مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء فقلت لجبريل من هذا فقال يوسف فقيل يا رسول الله كيف رأيته فقال كالقمر ليلة البدر قال البغوي في تفسيره إنه ورث ذلك الجمال من جدته وكانت قد أعطيت سدس الحسن وقال ابن إسحاق ذهب يوسف وأمه يعني جدته بثلثي الحسن انتهى فالمراد بالشطر البعض لا النصف كما قال البعض والله تعالى أعلم (فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أنا بإدريس عليه الصلاة والسلام) وهو سبط شيث وجد والدنوح أول مرسل بعد آدم عليه السلام وأول من خط بالقلم وخاط اللباس ونظر في علم النجوم والحساب وأما قولهم إدريس مشتق من الدرس إذ قد روي أن الله تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة فلقب به لكثرة الدراسة فمدفوع بعدم صرفه للعلمية والعجمة (فرحّب بي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] ) هو شرف النبوة ومقام القربة وعن الحسن هو الجنة إذ قال لملك الموت أذقني الموت ليهون علي ففعل بإذن الله تعالى ثم حيي فقال له أدخلني النار ازدد رهبة ففعل ثم قال له ادخلني الجنة أزدد رغبة ففعل ثم قال ملك الموت له اخرج فقال قد ذقت الموت ووردت النار فما أنا بخارج فقال الله تعالى بإذني دخل دعه وقيل هو في السماء الرابعة لهذا الحديث (ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بإبراهيم مسندا) بصيغة الفاعل منصوب على الحال كما في مسلم وشرح السنة وفي بعض نسخ المصابيح مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي وهو مسند (ظهره إلى البيت المعمور) قال المصنف يستدل به على الاستناد إلى القبلة وتحويل الظهر إلى الكعبة وفي استدلاله نظر لاحتمال كون إبراهيم حينئذ متوجها إلى الكعبة أو إلى العرش على خلاف أيهما أفضل في باب الاستقبال أو باعتبار نظر ذي الجلال مع احتمال أن يكون التقدير مسندا ظهره إلى شيء من أجزاء السماء أو إلى طرف بابها متوجها إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يوم سبعون ألف ملك لا يعوذون إليه) أي لكثرتهم وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال البيت المعمور في السماء الرابعة يقال له الضراح وهو بمعجمة مضمومة ومهملة بينهما راء فألف من الضراحة بمعنى المقابلة إذ هو مقابل للكعبة كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وممن رواه بصاد مهملة فقد تصحف بصراح الغلط وروى أبو هريرة في السماء الدنيا وقيل في الرابعة وقيل في السادسة ولعل كل بيت في كل سماء يسمى البيت المعمور بالمعنى المذكور وأنه في السماء السابعة على القول المشهور الوارد في حقه أنه نقل من محل الكعبة إلى السماء كما بين في محله المسطور (ثمّ ذهب بي) أي جبريل وضبطه الأنطاكي بصيغة المفعول (إلى سدرة المنتهى) أي ينتهي علم الخلائق عندها وخصت السدرة لأن ظلها مديد وطعمها لذيذ ورائحتها طيبة فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا ونية وعملا فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه وامتداده وطعمها بمنزلة النية لكمونه ورائحتها بمنزلة القول لظهوره (وإذا ورقها كآذان الفيلة) بكسر فاء وفتح تحتية جمع فيل قيل والآذان بالمد جمع الأذن (وإذا ثمرها) كذا في النسخ المصححة ووقع في اصل الدلجي وإذا نبقها (كالقلال) بكسر القاف جمع قلة كقباب جمع قبة وفي رواية كقلال هجر بفتحتين مدينة قرب المدينة ويعمل بها القلال تسع الواحدة مزادة من الماء سميت قلة لأنها تقل أي ترفع وتحمل وليست بهجر الذي هو من توابع البحرين؛ (قال فلمّا غشيها) بفتح فكسر أي علاها وغطاها (من أمر الله تعالى) أي من أجل أمره وارادته أو من آثار عظمته وأنوار قدرته (ما غشي) أي ما غشيها كما في نسخة وهو مستفاد من قوله تعالى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (تغيّرت) أي السدرة مما غشيها من أسرار القدرة (فما أحد من خلق الله يستطيع) أي يقدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 (أن ينعتها) أي يصف كيفية غشيتها أو ماهية ما غشيها (من حسنها) أي من غاية ضيائها ونهاية بهائها فقيل هو فراش من ذهب فقيل لعله شبه ما غشيها من الأنوار التي تنبعث منها وتتساقط على مواقعها بالفراش وجعلها من الذهب لا ضاءتها وصفاء ذاتها وعن الحسن غشيها نور رب العزة فاستنارت (فأوحى الله إليّ ما أوحى) وهو تفسير لقوله تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى وفي إبهامه تفخيم للموحي كما لا يخفى (ففرض) أي الله تعالى كما في نسخة (عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) بيان لما أوحي كله أو بعضه (فنزلت إلى موسى) أي منتهيا إليه (فَقَالَ مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلَاةً قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التّخفيف) أي تخفيف هذا التكليف هذا وإن كان متضمنا للتعريف والتشريف ويجوز في فاسأله التخفيف بالنقل وغيره كما قرئ بهما في السبعة (فإنّ أمّتك) أي جميعهم (لا يطيقون ذلك) وكأنه علم عليه الصلاة والسلام ضعفنا وعجزنا فرحمنا فجزاه الله تعالى أفضل الجزاء عنا ثم علل ذلك بقوله (فإنّي قد بلوت بني إسرائيل) أي جربتهم وبلاه وابتلاه بمعنى ففي الحديث اللهم لا تبتلنا إلا بالتي هي أحسن (فخبرتهم) بتخفيف الموحدة عطف تفسيري أو إشارة إلى أنه جربهم مدة بعد مرة والمعنى امتحنتهم وعالجتهم فلقيت منهم الشدة وعدم الطاقة فيما قصدت منهم من تحمل الكلفة وقبول الطاعة (قال فرجعت إلى ربّي) قال النووي معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته أولا فناجيته فيه ثانيا (فقلت يا ربّ خفّف عن أمّتي) أي الضعفاء وفيه إيماء إلى قوة الأنبياء والأصفياء إذ كثير منهم واظبوا على ألف ركعة في اليوم والليلة وقد أشار موسى عليه السلام إلى هذا المعنى فيما سبق من المبنى وبهذا يظهر ضعف قول الدلجي لم يقل خفف عني حياء من ربه لسؤاله التخفيف عنه (فحطّ عنّي) أي فوضع عني في ضمن الحد عن أمتي (خمسا) ولم يقل عن أمتي لئلا يتوهم بقاء فرضية الخمسين عليه وفيه إشارة إلى أن من كان لله كان الله له (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ حَطَّ عَنِّي خَمْسًا قال إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك) أي لا يقدرون على هذا أيضا (فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ قَالَ فَلَمْ أزل أرجع بين ربّي) وفي نسخة بين يدي ربي (تعالى وبين موسى) أي بين موضع مناجاتي له تعالى وملاقاتي لموسى ويجوز أن يكون الرجوع بمعنى المراجعة في السؤال وإحضار البال والله تعالى أعلم بالحال (حتّى قال) أي الرب سبحانه وتعالى (يا محمّد إنّهنّ) ضمير مبهم تفسيره قوله (خمس صلوات) ذكره الدلجي والأظهر أن يقال التقدير أن الصلاة المفروضة أو الخمسين خمس صلوات محتمة (كلّ يوم وليلة) بالنصب على الظرفية وفي نسخة في كل يوم وليلة (لكلّ صلاة) أي من الخمس (عشر) أي ثواب عشر صلوات (فتلك خمسون صلاة) أي بحسب المضاعفة ولعل هذه المراجعة منهما لما الهم إليهما حيث لم يكن الوجوب حتما مبرما أو أوجبها أولا ثم رحمنا فنسخها بيانا فيجوز نسخ وجوب الشيء قبل وقوعه كنسخ وجوب ذبح إسماعيل عليه السلام عند قصده تبيانا لمحل فضله وكرمه ثم لما كان نية نبينا وهمة صفينا له أصالة ولأتباعه نيابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أن يقوم بوظيفة خمسين صلاة وجوزي بذلك حيث خفف عليهم في الكمية وزيد لهم في الكيفية ذكر قضية كلية وقاعدة مطردة قياسية في ضمن الحديث القدسي والكلام الأنسي بقوله (ومن همّ بحسنة) أي من صلاة نافلة وغيرها بأن قصدها وعزم على فعلها (فلم يعملها) أي لعاقة عن عملها (كتبت له حسنة) بصيغة المجهول ونصب حسنة على المصدرية والمعنى كتبت له الحسنة التي هم بها ولم يعملها كتابة واحدة لأن الهم سببها وسبب الحسنة حسنة فوضع حسنة موضع المصدر وفي بعض النسخ بصيغة الفاعل والاسناد إلى المتكلم وهو ظاهر لكن لا يلائم ما بعده لم تكتب (فإن عملها كتبت له عشرا) وهذا أقل المضاعفة كما قال الله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (ومن همّ بسّيّئة فلم يعملها) أي فلم يقدر على عملها (لم تكتب) أي تلك السيئة التي هم بها (شيئا) أي ولا سيئة واحدة إذا ندم وتركها خوفا من الله تعالى بل تكتب له حسنة لأجلها كما ورد كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة وقد زاد مسلم في رواية إنما تركها من جر أي بفتح الجيم وتشديد الراء أي من أجلي أو شيئا من الزيادة إذا كان همها باقيا فإن هم السيئة المصمم سيئة وشيئا وعشرا منصوبان وفي بعض نسخ المصابيح مرفوعان ولعله غلط من الناسخ (فإن عملها كتبت سيّئة واحدة) أي باندراج الهم في العمل حيث لا مضاعفة في السيئة كما يستفاد الحصر من قوله تعالى وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها (قَالَ فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فقال ارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة صحيحة فَقُلْتُ (قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ منه) بياءين وفي نسخة بياء واحدة ولعل وجه الحياء هو أن المبالغة في تخفيف العبادة نوع من الجفاء والقيام بماتعين وتحتم من باب الوفاء في تحمل البلاء لحصول الولاء هذا ولعل الحكمة في وجوب الصلاة ليلة الإسراء للإيماء إلى أنها معراج المؤمن إلى أعلى كمالاته ومقاماته ومحل مناجاته من بين عباداته وكمال ترقي منازل سعاداته وأما حكمة ظهور الأنبياء المذكورين بخصوصهم من بين عمومهم وتخصيص كل بسماء المشير إلى مراتب علوهم فلم يتكلم به أحد من السلف ولم يظهر تحقيقه من الخلف فتبعنا السابقين كما هو وظيفة اللاحقين ثم الصلوات الخمس فرضت بمكة اتفاقا وكذا الزكاة مطلقا وأما تفصيلها فبينت بالمدينة وفرض رمضان ثم الحج بها أيضا فما ذكره التلمساني من أنه فرضت الصلاة والزكاة والحج ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة وفرض صيام رمضان وزكاة الفطر وهو بمكة خطأ فاحش (قال القاضي رضي الله تعالى عنه) كذا في النسخ لكن الأولى أن يقال رحمه الله تعالى لأن الترضية في العرف مختصة بالصحابة كما أن التصلية والتسليم مختصان بالأنبياء والعزة والجلالة بالله سبحانه وتعالى (جوّد) بتشديد الواو أي حسن (ثابت) أي البناني (رحمه الله تعالى) وفي نسخة رضي الله تعالى عنه (هذا الحديث) أي بيان روايته وضبط عبارته الدالة على درايته (عن أنس رضي الله تعالى عنه ما شاء) أي ما شاء الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 من تجويده وتحسينه وتحريره (ولم يأت أحد) من الرواة (عنه) أي عن أنس رضي الله تعالى عنه (بأصوب من هذا) أي أقرب إلى الصواب من هذا المروي في هذا الكتاب (وقد خلّط) بتشديد اللام (فيه) أي في هذا الحديث (غيره) أي غير ثابت من الرواة (عن أنس) رضي الله تعالى عنه (تخليطا كثيرا) أي وتخبيطا كبيرا (لا سيّما) أي خصوصا ما ورد (من رواية شريك بن أبي نمر) أي عن أنس وشريك هذا بفتح الشين ونمر بفتح نون وكسر ميم فراء مدني روى عن ابن أنس وابن المسيب وجماعة وعنه مالك وأنس بن عياض وطائفة قال ابن معين لا بأس به وقال النسائي ليس بالقوي انتهى وشريك هذا تابعي صدوق وثقه أبو داود وقال ابن عدي روى عنه مالك رحمه الله تعالى فإذا روى عنه ثقة فإنه ثقة ووهاه الحافظ أبو محمد بن حزم لأجل حديثه في الإسراء الذي أشار إليه القاضي وله فيه أوهام معروفة وقد نبه مسلم على ذلك بقوله في صحيحه وقدم فيه شيئا وأخر وزاد ونقص انتهى وقال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكر رواية شريك هذا فقد روي حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقين والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث انتهى والأماكن في حديث الإسراء معدودة عند أهل العلم فيقال أربعة ويقال ثمانية ذكره الحلبي (فقد ذكر) أي شريك (في أوّله) أي مبدأ حديثه (مجيء الملك له) أي لأجله (وشقّ بطنه وغسّله بماء زمزم وهذا) أي ما ذكر كله (إنّما كان وهو صبيّ وقبل الوحي) فيه أنه يمكن تعدده فلا وهم إلا بسبب ما بينه المصنف بقوله (وقد قال شريك في حديثه) أي هذا بعينه (وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَذِكْرُ قِصَّةِ الإسراء) أي معه (ولا خلاف أنّها) أي في أن قصة الإسراء (كانت بعد الوحي) فثبت وهمه بهذا التعارض الواقع بين كلاميه ولكن قال الإمام الحافظ أبو محمد الحسين البغوي هذا الاعتراض الذي اعترض به على رواية شريك لا يصح عندي لأن ذلك كان رؤيا في النوم أراه الله تعالى عز وجل قبل الوحي بدليل آخر الحديث فاستيقظ وهو بالمسجد الحرام ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي تحقيقا لرؤياه من قبل كما أنه رأى عليه الصلاة والسلام فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ثم كان تحقيقه سنة ثمان ونزول قوله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ انتهى وبهذا الجمع يزول الإشكال عن قَوْلُهُ تَعَالَى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ فيكون التقدير تصديق الرؤيا وتحقيقها إذ لا تترتب الفتنة على نفس الرؤيا كما لا يخفى (وقد قال غير واحد) أي كثير من العلماء المحدثين (إنّها كانت) أي قصة الإسراء (قبل الهجرة بسنة) فقد ذكر النووي أن معظم السلف وجمهور المحدثين والفقهاء على أن الاسراء كان بعد البعثة بستة عشر شهرا وقال السبكي الإجماع على أنه كان بمكة والذي نختاره ما قاله شيخنا أبو محمد الدمياطي أنه قبل الهجرة بسنة وهو في الربيع الأول انتهى وروى السيد جمال الدين المحدث في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 روضة الأحباب أنه كان في سبعة وعشرين من شهر رجب على وفق ما هم عليه في الحرمين الشريفين من العمل وقيل في الربيع الآخر وقيل في رمضان وقيل في شوال وقيل بعد نقض الصحيفة وقيل بعد بيعة العقبة وقيل أسري به في الحجة لأنه كان ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما وقيل ليلة اثني عشر من الربيع الأول ليلة الاثنين منه فيكون زمان معراجه كميلاده ومدراجه باعتبار يوم الاثنين وشهر الربيع الأول والله سبحانه وتعالى أعلم (وقيل قبل هذا) أي قبل ما قبل الهجرة وفي نسخة غير هذا أي غير هذا القول إلا أنهم اتفقوا على أنها كانت بعد الوحي (وقد روى ثابت) أي البناني (عَنْ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَيْضًا مَجِيءَ جِبْرِيلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان) جمع غلام يعني الصبيان (عند ظئره) بكسر أوله أي مرضعته حليمة أو زوجها الذي لبنها منه فإنه يطلق عليهما (وشقّه) أي وكذا روى ثابت شق جبريل (قلبه تلك القصّة) بدل اشتمال على كل واحدة من القصة حال كونها (مفردة من حديث الإسراء) أي غير منضمة إلى قصة المعراج (كما رواه النّاس) أي كما رواه غيره من الرواة الثقات (فجوّد) أي ثابت (في القصّتين) أي قصة الشق وقصة الإسراء حيث لم يخلط بينهما (وفي أنّ الإسراء) أي ولا خلاف في أَنَّ الْإِسْرَاءَ (إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى كَانَ قِصَّةً وَاحِدَةً وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى بيت المقدس) أي أولا (ثمّ عرج من هناك) أي من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى عند من قال بالجمع بينهما من أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة (فأزاح) أي أزال ثابت (كلّ إشكال أوهمه غيره) أي من شريك ونحوه في روايتهم (وقد روى يونس) أي ابن يزيد الأيلي وهو الحافظ أبو بكر الشيباني سمع ابن إسحاق وابن شهاب والأعمش قال ابن معين صدوق وقال أبو داود ليس بحجة يواصل كلام ابن إسحاق بالأحاديث (عن ابن شهاب) أي الزهري (عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ: أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال فرج) بصيغة المجهول مشددا ومخففا أي كشف وفتح (سقف بيتي فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري) أي شق كما في رواية ومنه قوله تعالى وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي انشقت كما في آية أخرى (ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغها) أي الحكمة وما في معناها أو من مقتضاها (في صدري ثمّ أطبقه) أي غطاه وأصلحه (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ وذكر) أي يونس (القصّة) أي قصة المعراج بطولها. (وروى قتادة الحديث) أي حديث الإسراء (بمثله) أي بمثل مروي يونس (عن أنس) أي ابن مالك (عن مالك بن صعصعة) أي الخزرجي المازني له حديث الإسراء أخرج له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد في مسنده وليس له في الكتب غير حديث الإسراء على ما ذكره الحلبي قال النووي في تهذيبه روي له عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم خمسة أحاديث اتفق البخاري ومسلم على أحدها وهو حديث الإسراء والمعراج وهو أحسن أحاديث الإسراء انتهى وكذا ذكر ابن الجوزي في تنقيحه أن له خمسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 أحاديث (وفيها) أي وفي رواية قتادة عن أنس بن مالك (تقديم وتأخير وزيادة ونقص) أي في بعض مواضعها (وخلاف في ترتيب الأنبياء في السّموات) أي بالنسبة إلى بعضهم وبعضها. (وحديث ثابت) أي البناني (عن أنس أتقن وأجود) أي من حديث قتادة عن أنس عن مالك وكذا غيره مما قدمه على ما تقدم والله تعالى أعلم (وقد وقعت في حديث الإسراء زيادات) أي من الفوائد على اختلف روايات (نذكر منها) أي من جملتها (نكتا) بضم ففتح جمع نكتة وجمعها أيضا نكات وهي بمعنى النقط وتطلق على معاني لطيفة (مفيدة في غرضنا) أي مقصودنا في هذا الباب من الكتاب (منها في حديث ابن شهاب) أي الزهري (وفيه) أي وفي حديثه الذي رواه (قول كلّ نبيّ له) أي مختصا له صلى الله تعالى عليه وسلم (مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ إِلَّا آدَمَ وإبراهيم فقالا له والابن الصّالح) أي بدل والأخ الصالح لأنه كان من ذرية إسماعيل ولقوله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وأما ما يقوله أهل النسب والتاريخ أن أدريس أب من آباء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإنه جد نوح عليه السلام فإنه لا ينافي كونه أبا له فإن قوله الأخ الصالح يحتمل أنه قاله تأدبا وتلطفا وهو أخ له وإن كان ابنا فإن الأنبياء إخوة كما أن المؤمنين إخوة (وفيه) أي وفي حديث الزهري أو في حديث الإسراء (من طريق ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما أخرجه البخاري (ثمّ عرج بي) بصيغة المفعول أو الفاعل (حتّى ظهرت بمستوى) بصيغة المجهول في أوله باء أو لام أي صعدت بمكان عال أو في مكان مرتفع وقيل الباء بمعنى على وقيل هو عبارة عن فضاء فيه استواء (أسمع فيه صريف الأقلام) أي صوت حركتها وجريانها على المخطوط فيه مما تكتبه الملائكة من أقضية الله سبحانه وتعالى ووحيه وينسخ من اللوح المحفوظ ومنه قوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وفي نسخة صرير براءين وهو أشهر في اللغة على ما صرح به بعضهم ثم جمع الاقلام يحتمل أن يكون للتعظيم أو لكبره في التجسيم، (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) أي مرفوعا (ثمّ انطلق بي) بصيغة المجهول أو المعلوم (حتّى أتيت سدرة المنتهى فغشيها ألوان) أي أصناف من الأنوار وأنواع من الاسرار (لا أدري ما هي) أي ماهيتها وحقيقتها (قَالَ ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ. وَفِي حَدِيثِ مَالِكِ بن صعصعة رضي الله تعالى عنه) أي كما رواه الشيخان وغيرهما (فلمّا جاورته يعني موسى عليه السلام) تفسير من بعض الرواة (بكى) أي تأسفا على قومه إذ لم يتبعوه فينتفعوا به انتفاع هذه الأمة بنبيهم إذ لا حسد في ذلك العالم لآحاد المؤمنين فضلا عن الأنبياء والمرسلين كذا قرره الدلجي وغيره ويؤيده قوله يدخل من أمته الجنة أكثر من أمتي ولا يبعد أن يراد به الغبطة على تلك المنزلة وكثرة الأمة والظاهر أنه لمجاوزته عن مقامه ومرتبته كما يشير إليه قوله فلما جاوزته ولما سيأتي صريحا من قول موسى عليه السلام لم أظن أن يرفع على أحد ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام لقيت موسى في السماء السادسة فلما جاوزته بكى وقال يزعم بنوا إسرائيل أني أكرم ولد آدم وقد جاوزني هذا وكأنه سلم التقديم لإبراهيم لكونه جدا له يحق له التعظيم مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 سبقه عليه سبعمائة سنة في مقام التقديم ولذا عبر عنه عليه الصلاة والسلام بالغلام فتأمل في هذا المقام لعله يتبين لك المرام ثم الأظهر أن وجه الغبطة في القربة أمور كثيرة من أنواع علو الرتبة (فَنُودِيَ مَا يُبْكِيكَ قَالَ رَبِّ هَذَا غُلَامٌ بعثته) وفي نسخة بعث (بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يدخل من أمّتي) ولعله سماه غلاما مع كونه حينئذ كهلا أو شيخا على اختلاف القولين في تعريفهما والغلام إنما يطلق فيمن بلغ سبعا أو ثماني وقد يطلق على الطفل تفاؤلا وقد يقال له ما دام شابا فكأنه نظر إلى قصر عمره وتأخر عصره مع جموم مناقبه وعموم مراتبه. (وفي حديث أبي هريرة) أي ومنها في حديثه الذي رواه البيهقي وغيره (وقد رأيتني) بضم التاء حكاية عن نفسه وفي أصل الدلجي ولقد رأيتني (في جماعة من الأنبياء) أي بأجسامهم أو بأرواحهم ممثلة بصورهم التي كانوا عليها (فحانت الصّلاة) أي دنت الصلاة الجامعة لعظمة تلك الواقعة وقد أبعد الدلجي في قوله ولعلها صلاة الصبح إذ الإسراء لا يكون إلا آخر الليل وهي مما فرض على الأنبياء انتهى وقد سبق أن ابتداء الإسراء كان بعد صلاة العشاء وهو لم يكن إلا زمنا قليلا من الليل على ما يفيده تنكير ليلا فلا يتصور حمله على صلاة الصبح أصلا (فأممتهم) بتخفيف الميم الثانية أي صليت بهم تلك الصلاة إماما وقال النووي في بعض فتاواه ويحتمل أن تكون صلاته بالأنبياء ليلة الإسراء ببيت المقدس قبل صعوده إلى السماء ويحتمل أن تكون بعد نزوله منها قلت وهذا يتوقف على صحة أن يكون رجوعه إليه منها ثم قال واختلف العلماء في هذه الصلاة فقيل إنها الصلاة اللغوية وهي الدعاء والذكر والثناء وقيل هي الصلاة المعهودة المعروفة وهذا أصح لأن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية قبل اللغوية إلا إذا تعذر حمله على الشرعية ولم يتعذر هنا فوجب الحمل على الحقيقة الشرعية وكان قيام الليل وإحياؤه واجبا قبل ليلة الإسراء ثم نسخ ليلة الإسراء ووجبت فيها الصلوات الخمس (فقال قائل منهم يا محمّد هذا مالك خازن النّار) فيه إشعار بأن الصلاة كانت في السماء وفي رواية أنها كانت في المسجد الأقصى ولا منع من الجمع ولا لنزول مالك وإن كان مقرة في السماء (فسلّم عليه) بصيغة الأمر لأنه عليه السلام كالقائم وهو كالقاعد والقائم يسلم على القاعد وإن كان مفضولا (فالتفتّ) أي نظرت إليه (فبدأني بالسّلام) لأنه كان بمنزلة الوافد أو عملا بالأفضل خصوصا مع التأدب بالنبي الأكمل وأما ما قيل إنما بدأه به ليزيل ما يستشعره من الخوف منه فليس في محله (وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي المحكي عنه ما تقدم من الزيادة (ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَ فربط فرسه) أي براقه (إلى صخرة) أي قريبة من صخرة بيت المقدس أو إلى صخرة عظيمة معروفة مشهورة في وسط المسجد الأقصى قال البرقي في غريب المواطن قيل إن مياه الأرض كلها تخرج من تحت صخرة بيت المقدس وهي من عجائب مخلوقات الله تعالى في أرضه ومن غرائبها فإنها صخرة صماء في وسط المسجد الأقصى مثل الجبل بين السماء والأرض قد انقطعت عن الأرض كلها من كل جهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 لا يمسكها إلا الله الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وفي أعلاها من جهة الحرف موضع قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين ركب البراق ليلة الإسراء قد مالت من تلك الجهة من هببته ومن الجهة الأخرى إثر أصابع الملائكة التي أمسكتها إذا مالت به ذكره التلمساني أعلم أن التعبير بالفرس جاء في تذكرة القرطبي برواية البيهقي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة وكذا رواه الطبراني وجاء في التفسير في سورة الملك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل والكعبي في قوله تعالى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ إن الموت والحياة جسمان فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه شيء إلا مات وخلق الحياة على صورة فرس انثى بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم السلام يركبونها خطوها مدى البصر فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حي ولا تطأ شيئا إلا حي وهي التي أخذ السامري من أثرها والقاه في العجل حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والماوردي عن مقاتل انتهى فلا يحتاج إلى ما تكلف بعضهم من القول بتعدد الإسراء والله تعالى أعلم (فصلّى مع الملائكة) أي الحاضرين من الزائرين (فلمّا قضيت الصّلاة) بصيغة المجهول (قالوا يا جبريل من هذا معك فقال) وفي نسخة قَالَ (هَذَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ قَالُوا وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالُوا حيّاه الله) جملة دعائية إما من الحياة بمعنى البقاء أي بقاه الله وأبقاه بمعنى عمره أو من التحية أي سلمه الله أو سلم عليه (من أخ) إذ المؤمنون إخوة عموما والأنبياء خصوصا لحديث الأنبياء إخوة بنو علات أبوهم واحد أي الإيمان وأمهاتهم شتى يعني الشرائع (وخليفة) أي لله في الأرض حيث يحكم بحكمه من أمره ونهيه (فنعم الأخ ونعم الخليفة) أي هو صلى الله تعالى عليه وسلم (ثمّ لقوا) أي النبي وجبريل ومن معه من الملائكة أو لأن الاثنين أقل الجمع أو جمع للتعظيم والمعنى ثم لقي (أرواح الأنبياء) أي ممثلة أو منضمة إلى اشباحهم ولعل الاقتصار على الأرواح لكمال صفائهم وضيائهم ثم هذه الملاقاة إما ببيت المقدس بعد انقضاء الصلاة أو بعد العروج في مراتبهم من السموات (فأثنوا على ربّهم) أي شكرا لما أنعم عليهم (وذكر) أي أبو هريرة (كلام كلّ واحد منهم) أي مما اثنوا على ربهم (وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ ثُمَّ ذكر كلام النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما اثنى على ربه روي إن إبراهيم عليه السلام قال الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني أمة قانتا يؤتم بي وانقذني من النار وجعلها بردا وسلاما وقال موسى عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي كلمني تكليما واصطفاني وأنزل علي التوراة وجعل اهلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون وقال داود عليه السلام الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلمني الزبور وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن معي والطير وآتاني الحكمة وفصل الخطاب وقال سليمان عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي سخر لي الرياح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وعلمني منطق الطير وآتاني ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي ملكا طيبا ليس فيه حساب وقال عيسى عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعلني مثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله تعالى وجعلني ابرئ الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله تعالى ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل (فقال) أي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (وأنّ محمّدا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ كُلُّكُمْ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ وَأَنَا أَثْنَى عَلَيَّ رَبِّي الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي رَحْمَةً للعالمين) أي لعامة الخلق (وكافّة للنّاس) أي أجمعين كما في نسخة (بشيرا) أي بالثواب (ونذيرا) أي بالعقاب (وأنزل عليّ الفرقان) أي المبالغ في الفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام (فيه تبيان كلّ شيء) أي من مهمات أمور الدنيا والدين إما بالنص أو بالإحالة على السنة لقوله تعالى وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أو بالحث على الإجماع لقوله تَعَالَى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أو بالقياس لقوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (وجعل أمّتي خير أمّة) أي أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الآية (وجعل أمّتي أمّة وسطا) أي خيارا عدولا أو معتدلين في أعمارهم وأخلاقهم وأرزاقهم مقتصدين في أعمالهم (وجعل أمّتي هم الأوّلون) أي في دخول الجنة (وهم الآخرون) أي في حصول الخلقة وفي إتيان ضمير الفصل تبيان أنهم هم المختصون بهذا الفضل كذا ذكره الدلجي لكن فيه بحث إذ هم في هذا التركيب مبتدأ والأولون خبره والجملة في محل نصب على أنه مفعول ثان لجعل هذا وفي صحيح مسلم نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق نحن أول من يدخل الجنة (وشرح لي صدري) أي ليسع مناجاة الحق ودعوة الخلق (ووضع عنّي وزري) أي ثقل حمل أعباء النبوة وما ترتب عليه من لأواء المشقة (ورفع لي ذكري) أي باقتران اسمه لاسمه واشتراك طاعته لرسمه (وجعلني فاتحا) أي لأبواب التحقيق وأسباب التوفيق وحاكما في خلقه أو بادئا في ظهور أمره ووجود نوره ويناسبه قوله (وخاتما) أي وجعلني خاتم النبيين والأظهر أن يقال معناهما أولا وآخرا لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قَالَ كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ في البعث (فقال إبراهيم بهذا) أي بمجموع ما ذكر فيما حمده وشكره (فضلكم محمّد) أيها الأنبياء وهو بتخفيف الضاد أي بهذا صار أفضلكم (ثمّ ذكر) أي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (أنّه) أي جبريل (عرج به) وفي نسخة بصيغة المجهول فضمير أنه للشأن (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَمِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ نحو ما تقدّم) فيه إيماء إلى أن ملاقاته الأنبياء هذه كانت ببيت المقدس والله تعالى أعلم. (وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) أي مما رواه أبو نعيم في دلائله وابن عرفة في جزئه (وانتهى بي) يعني جبريل عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 قاله الدلجي لكنه بصيغة المجهول في النسخ المصححة (إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ) كذا في مسلم قال النووي في جميع أصوله وعن المصنف هو الأصح وقول الأكثرين ومقتضى تسميتها بالمنتهى أنها في السماء السابعة ولذا صحح في بعض النسخ المعتمدة بلفظ السابعة وقد جمع بينهما النووي بأن أصلها في السادسة ومعظمها في السابعة انتهى وفي الروايات الأخر من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنها فوق السماء السابعة قال المصنف وخروج النهرين الظاهرين النيل والفرات من أصلها مؤذن بأنه في الأرض انتهى وفيه بحث لا يخفى ومع تسليم ظاهر ما ادعى يمكن الجمع بأن مبدأها في الأرض ومعظمها في السماء السادسة وانتهاءها ومحل اثمارها وغشيان أنوارها في السماء السابعة ويؤيده قوله (إليها) أي إلى السدرة (ينتهي من يعرج به من الأرض) بصيغة المجهول وكذا قوله (فيقبض منها) أي تقبضه الملائكة الموكلون فيها بأخذ ما صعد به من الأعمال والأرواح إليها (وإليها ينتهي ما يهبط) أي ينزل (من فوقها فيقبض منها) أي فيقبضه من أذن له بقبضه وإيصاله إلى من قضى له به وفي الحاشية قال ابن عباس والمفسرون سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبحانه وتعالى أعلم (قال) أي الله سبحانه وتعالى (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [النجم: 16] ) أي يغطيها ما يغطي مما يصعد إليها من تحتها ويهبط عليها من فوقها وهذه عبارة لم أر من عبر بها وبهذا يجمع بين روايات مختلفة إذ روي أنه يغشاها جم غفير من الملائكة وفي رواية رفرف من طير خضر وتقدم عن الحسن أنه نور رب العزة (قال) أي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (فراش من ذهب) الفراش بفتح الفاء الطائر الذي يلقى نفسه في ضوء السراج وقد يطلق على الحباب الذي يعلو النبيذ ونحوه وقد ذهب توجيهه (وفي رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي ومنها في روايته (من طريق الرّبيع بن أنس رحمه الله تعالى) والربيع هذا بصري نزل خراسان روى عن جماعة من الصحابة وروى عن النووي وابن المبارك وطائفة (ر فقيل لي هذه) أي المشار إليها (سدرة المنتهى) وفي نسخة صحيحة السدرة بالألف واللام قال الأنطاكي هذا ما وقع في النسخ في هذه الرواية السدرة بالألف واللام وفي باقي الروايات سدرة المنتهى بدونهما وكذا وقع في صحيح مسلم السدرة بالألف واللام في قوله عليه الصلاة والسلام ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى قال النووي في شرحه وفي غيره من الروايات سدرة المنتهى يعني بدون الألف واللام ولم يذكر لذلك علة (ينتهي إليها كلّ أحد) أي روحه أو عمله أو بكليته عند دخول جنته (من أمّتك خلا على سبيلك) أي مضى على طريقتك ومنه قوله تَعَالَى وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ أي مضى نبي منذر وأما ما ضبط في حاشية بضم الخاء وتشديد اللام على أنه مبني للمفعول فتصحيف وتحريف (وَهِيَ السِّدْرَةُ الْمُنْتَهَى يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارٌ من ماء غير آسن) بهمزة ممدودة أو مقصورة كما قرىء بهما في السبعة غير متغير طعما ولونا وريحا، (وأنهار من لبن لم يتغيّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 طعمه) لعل الاقتصار على الطعم لأن مدار التنعم عليه أو للزوم تغييره بتغيير لونه وريحه (وأنهار من خمر لذّة) تأنيث لذ أي لذيذة أو ذات لذة (للشّاربين) وقد يقال وصفها بلذة للمبالغة كأنها نفسها وعينها، (وأنهار من عسل مصفّى) أي مخلص من خلط شمع وغيره من فضلات النحل وغيرها فإنه مخلوق لا من صنع نحل، (وهي) أي سدرة المنتهى (شجرة) أي عظيمة (يسير الرّاكب في ظلّها سبعين عاما) وفي رواية الترمذي مائة سنة (وأنّ ورقة منها) أي من أوراق تلك الشجرة بسبب كبرها وكثرة طولها وعرضها (مظلّة الخلق) بضم الميم وكسر الظاء المعجمة من الإظلال وفي نسخة بفتحهما أي محل ظلالهم والمعنى أن ظلها شامل لهم حافل عليهم والتشبيه السابق لورقها بآذان الفيلة من حيثية الهيئة لا ينافي كبرها باعتبار العظمة (فغشيتها نور) أي نور عظيم من الأنوار الالهية لقوله (وغشيتها الملائكة) أي بأنوارهم الملكية فبقي نور على نور قيل غشيها ملائكة كأمثال الطير يقعن على الشجر وهذا التقرير أولى من قول الدلجي في قوله غشيها نور لعله نور الملائكة حين أقبلت إذ قد خلقت من نور ثم رأيت في حاشية أنه في التفسير فغشاها نور رب العزة وقد سبق أنه قول الحسن فهو أحسن (قال) أي الراوي (فَهُوَ قَوْلُهُ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى [النجم: 16] ) أي فما سبق هو معنى قوله تعالى ما يَغْشى وإيضاح له بعد إبهامه تفخيما وتعظيما وتكثيرا لما يغشاها (فقال تبارك) أي تكاثر خيره وتزايد بره (وتعالى) أي تنزه شأنه وتبين برهانه (له) أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (سل) أي تعط (فقال إنّك اتّخذت إبراهيم خليلا) أي والخلة أعظم خلة إذ هي كرامة جليلة ومقامة جميلة تشبه كرامة الخليل عند خليله مأخوذة من الخلال فإنها ود يتخلل النفس ويخالطها وقد روي أن إبراهيم عليه السلام بعث إلى خليل له بمصر يمتار منه لأزمة أي شدة منه أصابت الناس فقال لو ان إبراهيم أراد لك لنفسه فعلت ولكن يريد لأضيافه وقد علم إبراهيم ما أصاب الناس فاجتاز غلمانه ببطحاء لينة فملأوا منها أوعيتهم فوجده أهل بيته دقيقا حواري فخبزوا منه فشم إبراهيم رائحة الخبز فقال من أين لكم هذا فقيل من خليلك المصري فقال بل من خيلي الله فسماه الله تعالى خليلا (وأعطيته ملكا عظيما) أي ملكا جسيما كما قال الله تعالى فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً أي آل إبراهيم معه ومنهم داود وسليمان (وكلّمت موسى تكليما) أي وعظمته بذلك تعظيما وتكريما (وأعطيت داود ملكا عظيما) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل ذكره البغوي في تفسيره (وألنت له الحديد) أي كالشمع لا يحتاج إلى إحماء وطرق (وسخّرت له الجبال) أي معه كما في أصل الدلجي وقد قال الله تعالى إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (وأعطيت سليمان ملكا عظيما) أجمله ثم فصله بالعطف التفسيري في قوله (وسخّرت له الجنّ والإنس والشّياطين) أي كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (والرّياح وأعطيته ملكا لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ينبغي) أي لا يوجد (لأحد من بعده) وهذا تعميم بعد تخصيص وإعادة لما فيه زيادة وتلويح إلى ما حكاه الله عنه رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي وإنما قاله ليكون له معجزة خارقة للعادة لا أنه قصد به الحسد في الرياسة والمنافسة أو لئلا يقع أحد فيما وقع فيه من ابتلاء الحالة التي لا تخلو من نوع المحاسبة والمناقشة وصنف من المخاطرة من نقصان كمال المرتبة (وعلّمت عيسى التّوراة) أي تبعية (والإنجيل) أصلية يروى وعلمت موسى التوراة وعيسى الإنجيل (وجعلته يبرىء الأكمه) أي من ولد أعمى أو هو الممسوح العين (والأبرص) أي ممن ببدنه بياض أمهق كالجص روي أنه ربما اجتمع الألوف عليه ومن لم يطق اتيانه ذهب إليه وما يداوي إلا بالدعاء لديه والمعنى أن هذا في حال الكبر (وأعذته وأمّه من الشّيطان الرّجيم) أي في حال الصغر (فلم يكن له) أي الشيطان (عليهما سبيل) أي لقوله سبحانه إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ولاستعاذة جدته حنة امرأة عمران (فقال له ربّه تعالى) أي تسلية لنبينا عن مرتبة الغبطة بالعطية من أعلى الرتبة (قد اتّخذتك خليلا وحبيبا) والمحبة أخص من الخلة فإنها من حبة القلب ولأن الفعيل يحتمل معنى الفاعلية والمفعولية فله الجمع بين مرتبيي المحبية والمحبوبية ويؤيده أن في نسخة صحيحة خليلا وحبيبا وهي في إرادة هذا المعنى صريحة وأما قوله (فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ مُحَمَّدٌ حَبِيبُ الرَّحْمَنِ) فلا ينافيه ما قدمناه من البيان إذا ذكر بما خص به من مقام الأعيان هذا وقد قال الدلجي هذا مدرج من كلام الراوي إقامة بينة لصحة زيادة رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولعل وجه تخصيص إضافته إلى الرحمن لكونه رحمة للعالمين من عند ارحم الراحمين (وأرسلتك إلى النّاس كافّة) أي رسالة عامة فإرساله إلى الناس تعميما يفيد تعظيما بالنسبة إلى من أوتي ملكا عظيما ثم زاد عليه بما ضم إليه من قوله (وجعلت أمّتك هم الأوّلون) أي في دخول الجنة شهودا (وهم الآخرون) أي في الدنيا وجودا (وجعلت أمتك) أي أمة الإجابة (لَا تَجُوزُ لَهُمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّكَ عبدي ورسولي) أي ولو خارج الخطبة فلا يرد على أبي حنيفة في تجويز الخطبة على نحو تسبيحة وتحميدة أو المراد بالأمة أمة الإجابة والمراد بنفي الجواز أنه لا ينبغي ترك الشهادة لا سيما حال القدرة فالمعنى على نفي الكمال كحديث كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء أي ناقصة مقطوعة الفائدة كحديث كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله أو بالحمد لله فهو أجذم أو أبتر أو أقطع روايات (وجعلتك أوّل النّبيّين خلقا) أي لأنه سبحانه وتعالى خلقه قبل آدم فلما خلق آدم قذفه في صلبه فلم يزل في صلب كريم إلى رحم طاهر من السفاح حتى خرج من بين أبويه فكان أولهم خلقا ووجودا (وآخرهم بعثا) وشهودا مع زيادة أنه أعظمهم خلقا (وأعطيتك) أي خاصة (سبعا من المثاني) وهي الفاتحة على الصحيح من قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الآية (ولم أعطها نبيّا قبلك) تأكيد لما قبله وتأييد (وأعطيتك خواتيم سورة البقرة) الظاهر أنها من قوله آمَنَ الرَّسُولُ إلى آخر السورة (من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 كَنْزٍ تَحْتَ عَرْشِي لَمْ أُعْطِهَا نَبِيًّا قَبْلَكَ) أي بإنزال مضمونها على أحد منهم ادخارا لك وقال التوربشتي بل المعنى أنه استجيب له ولمن سأل بحقه مضمون قوله تعالى غُفْرانَكَ رَبَّنا الخ قال الدلجي ويؤيده أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما دعا بهن قيل له قد فعلت وأوثر الإعطاء مناسبة للتعبير بكنز تحت العرش انتهى ولا يخفى أنه لا منافاة بين الجمع فالحمل عليه أولى (وجعلتك فاتحا وخاتما) أي مبدأ للخيرات ومنتهى للمبرات أو أولا وآخرا باعتبار الأرواح والأشباح من بين الأنبياء (وفي الرّواية الأخرى) أي التي رواها مسلم (قال) أي ابن مسعود (فأعطي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاثا) أي مما لم يعطها غيره (أعطي الصّلوات الخمس) أي فريضة في كل يوم وليلة (وأعطي خواتيم سورة البقرة) أي قراءة وإجابة (وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا) أي من الشرك (من أمّته المقحمات) أي السيئات المهلكات أهلها ولو من غير توبة وفيه إشارة إلى أنه من خصوصيات هذه الأمة المرحومة ببركة نبي الرحمة لكنه مع هذا تحت المشيئة ومختص بمن تعلقت به الإرادة لقوله تعالى وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فاندفع ما أورده الدلجي من وجه الإشكال بقوله يفيد ظاهره العموم فيلزم أنه لا يعذب أحد مع الإجماع على تعذيب بعض عصاة المؤمنين أي من هذه الأمة وإلا فلا إشكال وأبعد من قال أراد بغفرانها أن لا يخلد أحد منهم في النار لا أن لا يعذب أصلا إذ فيه أنه لا خصوصية حينئذ قطعا ثم المقحمات بضم ميم وكسر حاء مهملة مخففة وقيل منتقلة الذنوب العظام التي من شأنها أن تقحم صاحبها في النار وتدخله الشدة في دار البوار وهو مرفوع على أنه نائب الفاعل لقوله غفر والمعنى أنه أعطي الشفاعة لأهل الكبائر من الأمة (وقال) أي ابن مسعود فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النجم: 11] الآيتين) أي في هذه الآية وما بعدها من قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى (رأى جبريل في صورته) أي التي خلق عليها في أصل جبلته (له ستمائة جناح) أي مختص بزيادة الأجنحة على سائر الملائكة كما قال سبحانه وتعالى جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ وأشار إليه سبحانه وتعالى بقوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى لأن القوة على قدر زيادة الأجنحة اللازمة لعظم الجثة ومنه حديث أبي داود وغيره أن الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم إما حقيقة صيانة لأمره وحفظا لشأنه أو تواضعا تعظيما لحقه وأما ما ذكره السهيلي من أنه قد قال أهل العلم في أجنحة الملائكة أنها ليست كما يتوهم من أجنحة الطير ولكنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة فهو خلاف الظاهر المتبادر من معنى الحقيقة التي لا ينافيها عقل ولا نقل وقد أبعد بقوله واحتجوا بالآية فإنه لم ير طائر له ثلاثة أجنحة أو أربعة حيث غفلوا عن أنه لا يقاس الغائب على الحاضر وجهلوا معنى قوله سبحانه وتعالى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفي الآية قول آخر لبعض الأئمة وهو أنه رأى ربه تعالى والمعنى ما كذب بصره ما حكاه له قلبه. (وفي حديث شريك) أي ومنها في روايته (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وسلم (رأى موسى في السّابعة) أي السماء السابعة كما في أصل الدلجي وقد تقدم الجمع بينهما فلا يحتاج إلى حمله على تعدد الإسراء أو تكلفه بأن إحديهما موضع استقراره والأخرى غير موضع استيطانه أو باعتبار طلوعه ورجوعه وهذا أولى مما قاله الأنطاكي ولعله رآه في السادسة ثم ارتقى إلى السابعة وهذا وجه التوفيق بين ما روي في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام وجد إبراهيم في السادسة وبين ما روي أنه وجده في السماء السابعة انتهى والأظهر أنه من وهم بعض الرواة فإن النسيان يغلب الإنسان (قال) أي شريك أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بتفضيل كلام الله) أي له كما في أصل الدلجي والمعنى أن جعله في السابعة مسبب عن ذلك قال يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ولا تطلب المعراج ولا الرؤية في ذلك المدراج (ثمّ علي به) بصيغة المفعول وفي أصل الدلجي ثم علا بي أي جبريل (فوق ذلك) أي فوق ما ذكر من السماء السابعة والسدرة (بما لا يعلمه إلّا الله) أي بمقدار لا يعلمه سواه فلا يحتاج إلى ما تكلف له الدلجي بقوله إن بدل من فوق ذلك والباء للاستعلاء كما في قوله تعالى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ أي عليه أو بمعنى إلى كما في وقد أحسن بي أي علا بي على مكان أو إلى مكان لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ (فَقَالَ مُوسَى لَمْ أظنّ أن يرفع عليّ أحد وقد روي) بصيغة المجهول أي ومنها أنه قد روي (عن أنس: أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم صلّى بالأنبياء ببيت المقدس) أي إماما وهو لا ينافي ما روي أنه صلى بهم في السماء أو صلى مع الملائكة في المسجد الأقصى. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) أي ومنها ما رواه البزار والبيهقي عَنْهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم بينا أَنَا قَاعِدٌ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ دَخَلَ جِبْرِيلُ عليه السّلام فوكز) بالواو والزاي أي دفع بأطراف أصابعه أو ضرب بكفه مجموعة (بين كتفيّ) بتشديد التحتية وهذا ضرب تلطف ومحبة أو سبب قيام وخفة ويشير إليه قوله (فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا مِثْلُ وَكْرَيِ الطَّائِرِ) أي مكانين مماثلين للوكرين وهو بفتح الواو عش الطائر سواء كان في حجر أو في شجر وقيل إن كان في شجر فهو عش وإن كان في حجر فهو وكر (فقعد) أي جبريل (في واحدة) ولعل تأنيث الوكر باعتبار البقعة أو القطعة من الشجرة (وقعدت في الأخرى) وما ذكرناه أولى وأحرى مما قاله الحلبي أن تأنيثه هنا حمل على الغالب إذ الغالب أن ما يلازم الوكر الانثى للبيض والجلوس عليه وغير ذلك فاكتسب التأنيث بحسب الإضافة انتهى ويرده ما في القاموس من أن الوكر عش الطائر وإن لم يكن فيه وأما قول الدلجي انثهما باعتبار أن كلا منهما بمعنى العش وأهل مكة يذكرونه ويؤنثونه والغالب الآن على ألسنتهم التأنيث فليس في محله لأنه غير مسموع بل في القاموس ما يدل على أنه من وجهين مدفوع حيث قال العش بالضم موضع الطائر يجمعه من دقاق الحطب في افنان الشجر وبفتح (فنمت) بفتح النون والميم من النمو أي زادت وفي نسخة صحيحة فسمت بالسين المهملة والميم المخففة من السمو أي ارتفعت والضمير إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الآخرى (حتّى سدّت الخافقين) بتشديد الدال المهملة أي طرفي السماء والأرض أو أفقي المشرق والمغرب (ولو شئت) أي من كمال رفعتي (لمسست السّماء) بكسر السين الأولى وتفتح وقد تحذف كما في نسخة (وأنا أقلّب طرفي) بتشديد اللام والطرف بسكون الراء بمعنى النظر والجملة حالية أي والحال أني أردد بصري تبعا لبصيرة قلبي في آيات ربي في الآفاق وفي الأنفس (ونظرت جبريل) أي رأيت كما في نسخة أي وأبصرته نازلا عني وبعيدا مني (كأنّه حلس) بكسر وسكون وفي نسخة بفتحهما أي كساء رقيق يلي ظهر البعير تحت قتبه شبه به لرؤيته له (لاطئا) بكسر مهملة فهمزة أي لاصقا بما لطئ به من هيبة الله تعالى وشدة الخشية من كمال عظمته كذا قرره الدلجي بناء على نصب لاطئا في أصله لكنه مخالف للأصول المصححة لأنه مرفوع على أنه نعت لقوله حلس ومنه حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه كن حلس بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية أمره بلزوم بيته هذا وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال مررت ليلة أسري بي وجبريل بالملأ الأعلى ساقط كالحلس البالي من خشية الله تعالى (فعرفت فضل علمه بالله سبحانه عليّ) لأنه إنما يخشى الله من عباده العلماء ولأن من يكون أعلم يكون أخشى واتقى وهذا من باب تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم وتعليم لأمته واتباعه وتنبيه نبيه على أن أفضل الملائكة إذا كان يخشى هذه الخشية مع ظهور العصمة فغيره أولى بأن يكون على تلك الحالة مع احتمال وجود السيئة وتحقق الغفلة (وفتح لي باب السّماء) بصيغة المفعول (ورأيت) وفي نسخة ونظرت (النّور الأعظم) أي نور الحضرة الإلهية ذكره الدلجي والله تعالى أعلم (ولطّ) بضم لام وتشديد طاء مهملة أي أرخى وفي نسخة وإذا أدنى بإذا المفاجأة أي قرب ودنا (دوني الحجاب) أي ستر باب الجناب لأن رب الأرباب منزه عن أن يدخل تحت الحجاب أو يخرج من تحت النقاب (وفرجه) بالنصب وهو بضم الفاء وسكون الراء أي ومركوز في شقه (الدّرّ والياقوت) ويروى فوقه الدر والياقوت والظاهر أنه تصحيف وضبط في حاشية التلمساني وغيره بضم الفاء وفتح الراء جمع فرجة وهو الأظهر فتدبر (ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا شَاءَ أَنْ يوحي) أي إلي كما في نسخة صحيحة. (وَذَكَرَ الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالى عنه) وفي نسخة بخط مغلطاي البراء بفتح موحدة وخفة راء والصواب هو الأول وهو بموحدة فزاي مشدة فألف نسبة إلى عمل بزر الكتان زيتا بلغة البغداديين وهو الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل سمع عبد الأعلى بن حماد والحسن بن علي بن راشد وطائفة وعنه أبو الشيخ والطبراني وجماعة فإنه ارتحل في آخر عمره إلى أصبهان وإلى الشام وإلى النواحي ينشر علمه ذكره الدارقطني وأثنى عليه وقال ثقة يخطىء ويتكل على حفظه مات بالرملة سنة اثنتين وتسعين ومائتين (لمّا أراد الله تعالى أن يعلّم) بتشديد اللام أي يعلمه ويلهمه (رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم الأذان) أي ما يختار للإعلام بدخول أوقات الصلوات (جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 فذهب يركبها) أي شرع وأراد أن يَرْكَبُهَا (فَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ اسْكُنِي فو الله مَا رَكِبَكِ عَبْدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فركبها حتّى أتى بها) أي انتهى بها (إلى الحجاب الذي يلي الرّحمن تعالى) أي عرشه سبحانه وتعالى (فبينا هو) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (كذلك) أي بالوصف الذي هنالك (إذ خرج ملك) أي فاجأه خروجه (مِنَ الْحِجَابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يا جبريل من هذا) أي من الملائكة (قال) أي جبريل (وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَأَقْرَبُ الْخَلْقِ مَكَانًا) أي في السماء أو من الحجاب لا من رب الأرباب لأنه منزه عن المكان والزمان وسائر سمات الحدثان (وَإِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قبل ساعتي هذه) يعني فهو داخل تحت قوله سبحانه وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ وقوله تعالى وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (فَقَالَ الْمَلَكُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقِيلَ له) أي جوابا عن مقوله (مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أنا أكبر) هذا يحتمل أنه أمر ملكا أن يقوله عن أمر ربه كعكسه حين حكى الله عن الملائكة في قوله وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ (ثُمَّ قَالَ الْمَلَكُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أنا) ووقع في أصل الدلجي أنه لا إله إلا أنا وهو مخالف للنسخ المعتمدة (وذكر) أي الراوي (مثل هذا) أي الذي ذكر قولا وجوابا (فِي بَقِيَّةِ الْأَذَانِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ) فقيل له من وراء الحجاب (جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ على الفلاح وقال) أي الراوي (ثمّ أخذ الملك) أي المؤذن (بيد محمّد فقدّمه) أي في المقام الأتم (فأمّ أهل السّماء) أي من الملائكة والأنبياء (فيهم آدم) أبو البشر الأكبر (ونوح) ابو البشر الأصغر ولعل هذا وجه تخصيصهما فتدبر وأما ما وقع في أصل الدلجي من قول آدم وإبراهيم ثم قوله وخصا بالذكر لأنهما أبا الأنبياء فهو مخالف للأصول المعتبرة. (قال أبو جعفر) أي الصادق وهو الباقر (محمّد بن عليّ بن الحسين) أي ابن علي بن أبي طالب وهو زين العابدين رضي الله تعالى عنهم ويسمى سلسلة الذهب (راويه) أي راوي هذا الحديث الذي ذكره البزار في مسنده حيث قال حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد حدثنا أبي عن زياد بن المنذر عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أبيه عن جده علي بن أبي طالب قال لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَ رَسُولَهُ الأذان فذكره وفي سنده زياد بن المنذر وهو كذاب وقد أخرج له الترمذي وقد مال السهيلي في روضه إلى صحته لما يعضده ويشاكله من أحاديث الإسراء والله تعالى أعلم وقد تصحف في أصل الدلجي فوقع رواية بالمصدر بدل راويه (أكمل الله تعالى) أي أكمل وأتم (لمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم الشّرف) أي السيادة الأعم (على أهل السّموات وَالْأَرْضِ قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْحِجَابِ فَهُوَ فِي حقّ المخلوق) أي مقصور من جميع الأبواب إذ الحجاب لغة المنع والستر وحقيقته للاجرام المحدودة إلا أنه قد يطلق مجازا ويقصد به التمثيل لما يفهم من مجرد المنع من رؤيته تعالى بالمشاهدة ليتصور السامع حتى يكون مستحضرا كأنه ينظر إليه متيقنا له متبصرا وأما المعنى الحقيقي فهو منحصر فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 (لا في حقّ الخالق) لأنه منزه عن ذلك (فهم المحجوبون) أي حسا ومعنى (والبارئ) أي الخالق البريء عن مشابهة المخلوقين (جلّ اسمه) أي وعز مسماه (منزّه عمّا يحجبه) أي يستره عن خلقه ويجعله محجوبا في حقه (إذ الحجب) بضمتين جمع حجاب (إنّما تحيط بمقدّر) أي محدود (محسوس) أي داخل تحت نطاق حاسة البصر (ولكن حجبه) بضمتين جمع حجاب وبفتح فسكون مصدر أي قد يكون حجابه (على أبصار خلقه) بفتح الهمزة أي أعينهم الظاهرة (وبصائرهم) أي أعينهم الباطنة (وإدراكاتهم) عطف تفسير (بما شاء) أي من أنواع الحجاب وفي الحديث حجابه النور أي لكماله في الظهور (وكيف شاء) أي في هذا الباب (ومتى شاء) أي من أوقات تعلق الحجاب (كقوله) أي في الكتاب (كَلَّا إِنَّهُمْ) أي الكفار (عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] ) أي لممنوعون عن رؤيتنا وشهود قدرتنا بخلاف المؤمنين فإنهم في عين عنايتنا وزين رعايتنا وحمايتنا عن عين الأغيار ورين الأوزار (فقوله في هذا الحديث الحجاب) يجوز جره على الحكاية ورفعه على الإعراب في قوله عليه الصلاة والسلام (وَإِذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنَ الْحِجَابِ يَجِبُ أَنْ يقال إنّه حجاب حجب به من ورائه) أي بحسب ظاهره (من ملائكته عن الاطّلاع) بتشديد الطاء (على ما دونه) أي بحسب باطنه (من سلطانه وعظمته وعجائب ملكوته وجبروته) وقد سبق أن الملكوت هو الملك العظيم والجبروت كمال العظمة بناء على أن بناء الفعلوت للمبالغة وما أحسن قول ابن عطاء في كشف هذا الغطاء مما يدلك على وجود قهره سبحانه وتعالى أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه وقد انشدوا في هذا المعنى واطنبوا في هذا المبنى: من أبصر الخلق كالسراب ... فقد ترقى عن الحجاب إلى وجود يراه رتقا ... بلا ابتعاد ولا اقتراب ولم يشاهد به سواه ... هناك يهدي إلى الصواب فلا خطاب به إليه ... ولا مشير إلى الخطاب (ويدلّ عليه) ما ذكرناه (من الحديث) أي من بعض ما في نفس الْحَدِيثِ (قَوْلُ جِبْرِيلَ عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ وَرَائِهِ إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ فَدَلَّ عَلَى أنّ هذا الحجاب) أي تعلقه (لم يختصّ بالذّات) بل اختص بالمخلوقات نعم الذات محتجبة بالصفات والصفات محتجبة بالموجودات لا بمعنى أن ذلك الجناب يحجب بالحجاب بل بمعنى إن أكثر الكائنات احتجبوا بوجود الخلق عن شهود صفات الحق وبشهودها عن الموجود المطلق ثم منهم من حجب عن الله تعالى بالشهوات الدنيوية والدرجات الأخروية أو المقامات العلية ومنه قولهم العلم حجاب في هذا الباب وكل ذلك من الأغيار العدمية والوجودات الوهمية ولو ارتفع الحجاب عنهم لفنوا عن أنفسهم وإرادتهم وبقوا بربهم فإن الفناء على ثلاثة أوجه فناء في الأفعال ومنه قولهم لا فاعل إلا الله تعالى وفناء في الصفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ومنه لا حي ولا عالم ولا قادر ولا مريد ولا سميع ولا بصير ولا متكلم على الحقيقة إلا الله تعالى وفناء في الذات أي لا موجود على الإطلاق إلا الله وأنشدوا في هذا المبنى لتصحيح المعنى: فيفنى ثم يفنى ثم يفنى ... فكان فناؤه عين البقاء (ويدلّ عليه) أي على ما ذكرنا من تعلق الحجاب بالكائنات دون الذات (قول كعب) أي كعب الأحبار (في تفسير سدرة المنتهى) أي في بيان سبب تسميتها بها (قال إليها ينتهي علم الملائكة و) يعني وسببه (أنهم عندها يجدون أمر الله تعالى) أي لا عند غيره (لا يجاوزها علمهم) أي فهم محجوبون عما وراءها (وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي يَلِي الرَّحْمَنَ فَيُحْمَلُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ يَلِي عَرْشَ الرَّحْمَنِ أَوْ أمرا مّا) كذا بالنصب في النسخ والظاهر كونه مجرورا أو مرفوعا ولعله أراد أن أي بمعنى يعني أو أعني أمرا من الأمور اللائقة بمرام هذا المقام وذهب الدلجي إلى أن التقدير يلي أمرا ما (من عظيم آياته أو مبادىء حقائق معارفه) أي المتعلقة بذاته وصفاته (ممّا هو أعلم به) أي من أسرار مكنوناته (كما قال تعالى) أي في استعمال حذف المضاف (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أي أهلها) يعني أنه من قبيل مجاز الحذف وهو أشهر مما قيل إنه من باب ذكر المحل وإرادة الحال والله تعالى أعلم بالحال (وَقَوْلُهُ فَقِيلَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أنا أكبر) كما تقدم (فظاهره أنّه سمع) بصيغة المجهول وقال الدلجي أي سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (في هذا الموطن كلام الله تعالى ولكن مِنْ وَراءِ حِجابٍ قلت فيأول الإشكال في هذا الباب مع ما فيه من سماع كلامه من جهة محصورة بوهم الحجاب ولهذا دفعه بقوله (كما قال تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشُّورَى: 51] ) فإن المراد بالوحي على طريق المكاشفة لأن الوحي إعلام في خفاء إما بالإلهام وهو القذف في القلب كما أوحي إلى أم موسى عليه السلام أو في المنام كما أوحي إلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده وبقوله مِنْ وَراءِ حِجابٍ أن يكون البشر من وراء حجاب البشرية المانعة من شهود وجود الذات الصمدية بأن يسمعه ولا يراه كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام وليس المراد أن هناك حجابا يفصل موضعا عن موضع أو يدل على تحديد المحجوب وإنما هو بمنزلة ما يسمع من وراء الحجاب حيث لم ير المتكلم في هذا الباب والله تعالى أعلم بالصواب ولذا قال المصنف (أي وهو) أي البشر (لا يراه) أي الحق سبحانه وتعالى (حجب بصره) أي منعه (عن رؤيته) أي لا ذاته عن بصره، (فَإِنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم رأى ربّه) أي بعين البصر (فيحتمل أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رآه (في غير هذا الموطن بعد هذا) أي هذا الوقت (أو قبله) أي من الزمان بمعنى أنه (رفع الحجاب عن بصره حتّى رآه) وفي أصل الدلجي فرآه (والله أعلم) أقول ولا مانع من أنه رآه في ذلك الحين بعينه إذ لا يختص برفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الحجاب وكشف النقاب مكان دون مكان ولا زمان دون زمان لإرادة العيان كما لا يخفى على الأعيان ولابن عطاء حكم توجب في الجملة كشف غطاء فأحببت أن أذكرها وهي قوله. كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء أم كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء بل وهو الظاهر قبل وجود كل شيء وهو الواحد الذي ليس معه شيء فالحق ليس بمحجوب وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه إذ لو حجبه شيء لستره ما يحجبه ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر وكل حاصر لشيء فهو له قاهر وهو القاهر فوق عباده انتهى وإذا قال الله تعالى لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً كيف يحيطون به جرما وإني للعدم حتى يغلب القدم نعم أن لله سبحانه وتعالى سبعين ألف حجاب من النور في عالم الظهور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليها نور بصره وقد قال الله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي باطل ومضمحل وفان في نظر أرباب العرفان في كل آن وزمان ولذا قال بعض أرباب الشهود سوى الله والله ما في الوجود وقال بعض الشطار ليس في الدار غيره ديار فهو من غاية ظهوره باطن ومن نهاية بطونه ظاهر وفي عين أبديته أول وفي عين أزليته آخر وغيره كالهباء في الهواء والسراب في نظر مشتاق الشراب وإلا فما للتراب ورب الأرباب والله تعالى أعلم بالصواب. فصل [ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده] أي من متعلقات هذا الباب (ثمّ اختلف السّلف) أي الصحابة والتابعون (والعلماء) أي الخلف المجتهدون (هل كان) أي وقع (الإسراء بروحه) أي فقط (أو جسده) أي مع روحه في جميع اسرائه أو في بعضه كما سيأتي في كلامه ويندرج فيه أيضا قول آخر لبعضهم أنه أسري به مرتين مرة مناما ومرة يقظة جمعا بين الروايتين وكذا قول التوقف بأن يقال اسري به ولا يقال يقظة ولا مناما وهو قول غريب حكاه الإمام الجوزية في أوائل كتابه الهدى ولعل وجهه أنه ورد في بعض طرق الخبر أنه كان بين النائم واليقظان فلم يعرف حقيقة أمره ولذا عبر بعضهم عنه بالنوم وبعضهم باليقظة اعتبارا بالغلبة وكأن المصنف لم يلتفت إلى هذه المقالة فينتظم قوله (على ثلاث مقالات) أي لطوائف ثلاث كما فصلها بقوله (فذهبت طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالرُّوحِ وَأَنَّهُ رُؤْيَا منام) بدل مما قبله أو عطف تفسير له إذ هو في هذا المقام إنما يكون في حال المنام (مع اتّفاقهم أنّ رؤيا الأنبياء حقّ) أي ثابت غير كذب (ووحي) أي يعمل به بخلاف رؤيا غيرهم ويدل عليه قوله تعالى حكاية يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ وحديث تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم (وإلى هذا ذهب معاوية رضي الله تعالى عنه) أي من الصحابة كما رواه ابن إسحاق وابن جرير عنه وهو ابن أبي سفيان كلاهما من مسلمة الفتح وهو أحد كتبة الوحي وقيل إنما كتب له كتبه إلى الاطراف وتولى الشام في زمن عمر رضي الله تعالى عنه ولم يزل بها حاكما إلى أن مات وذلك أربعون سنة روى عنه ابن عباس وأبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما وكان عنده إزار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورداؤه وقميصه وشيء من شعره وأظفاره فقال كفنوني في قميصه وأدرجوني وفي رواية وآزروني بإزاره وأحشوا منخري وشدوا مواضع السجود مني بشعره وأظفاره وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين (وحكي) أي مثل ذلك (عن الحسن) أي البصري. (والمشهور عنه خلافه) وهو أنه كان في اليقظة (وإليه) أي وإلى هذا القول (أشار محمّد بن إسحاق) أي ابن يسار إمام المغازي (وحجّتهم) أي لقولهم إنه رؤيا منام (قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) أي ظاهرة إذ في آخر الآية دلالة على أنه كان باليقظة حيث قال (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60] ) أي ابتلاء وامتحانا في تصديق القضية إذ انكرته قريش وارتد كثير من أهل التقليد وصدقه الصديق وأهل التوفيق والتأييد إذ من المعلوم أنه لا فتنة إلا إذا كان في حال اليقظة فالرؤيا بمعنى الرؤية ولعل تسميتها بها لأنها من غرابتها في معنى الرؤيا وقد سبق جواز تقدير مضاف أي تحقيق الرؤيا وتصديقها وبه يجمع بين الروايات فإنه رأى أولا رؤيا وثانيا رؤية فقد قال السهيلي وذهبت طائفة منهم شيخنا أبو بكر إلى أن الإسراء كان مرتين أحديهما في نومه توطئة له وتيسيرا عليه كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة فإنه عظيم تضعف عنه القوى البشرية وكذا الإسراء سهل عليه بالرؤيا لأن هوله عظيم ورأيت المهلب في شرح البخاري قد حكي هذا القول عن طائفة من العلماء وأنهم قالوا كان الإسراء مرتين مرة في نومه ومرة في يقظته ببدنه صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى ولا يبعد أن يقال اسراؤه الروحي كان مرات باعتبار المكاشفات في اليقظات والمنامات وأما اسراؤه الجسدي فمرة واحدة تحقيقا لتلك المقامات والحالات مع الزيادة الحاصلة بالكلام والرؤية وسائر الدرجات هذا مع أن آية وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا قد قيل المراد بها ما رآه عام الحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة بدليل قوله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ الآية فلما صدوا فيه عنه فتنوا فقيل لم يقل في هذا العام فدخلها بعد أو ما رآه في وقعة بدر بدليل قوله تعالى إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا ووقع في أصل الدلجي وقيل رآها عام الحديبية وهو يوهم أنه من أصل الكتاب وهو ليس في الأصول الصحيحة على الصواب (وما حكوا) أي وحجتهم أيضا ما حكوه من رواية ابن إسحاق وابن جرير (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا فَقَدْتُ جسد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) ويبطله أنه لم يدخل بها إلا بعد الهجرة والإسراء إنما كان بمكة بعد البعثة كما قال ابن إسحاق بعد ان فشا الإسلام بمكة والأشبه أنه كان بعدها بخمس سنين كما نقله النووي عن المصنف وروي عنها ما فقد جسد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بصيغة المفعول وهو أظهر في الاحتجاج المنقول (وقوله) أي وحجتهم أيضا قوله (بينا أنا نائم) أي في الحطيم وربما قال في الحجر. (وقول أنس رضي الله تعالى عنه) أي وحجتهم أيضا قوله في حديثه (وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ) أي قصة الإسراء وفيه أن كونه نائما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 أول الوهلة لا ينافي وقوع القصة في اليقظة آخر الدفعة (ثمّ قال) أي أنس رضي الله تعالى عنه (في آخرها) أي القصة (فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام) وفيه أن المراد بالاستيقاظ هو الاستحضار والاستشعار عما كان له من الاستغراق في مقام الابرار مع احتمال أن نومه في حال رجوعه واستيقاظه وقت وقوعه (وذهب معظم السّلف والمسلمين) أي من الخلق (إلى أنّه إسراء بالجسد) أي مع الروح لا بالروح دون الجسد (وفي اليقظة) بفتح القاف ولا يجوز تسكينها وهي ضد المنام (وهذا هو الحقّ) أي الثابت عند أهله (وهو قول ابن عبّاس وجابر) أي ابن عبد الله (وأنس رضي الله تعالى عنه) أي ابن مالك (وحذيفة) أي ابن اليمان (وعمر رضي الله تعالى عنه) أي ابن الخطاب وكان حقه أن يقدم على ما سبق من الأصحاب (وأبي هريرة ومالك بن صعصعة رضي الله تعالى عنهما) مدني سكن البصرة وروى عنه أنس وغيره (وأبي حبّة) بفتح حاء مهملة وتشديد موحدة قيل بالنون وقيل بالتحتية (البدريّ) قيل هو الأنصاري وقيل هو غيره (وابن مسعود) رضي الله تعالى عنه وكان حقه أن يذكر بعد عمر لأنه أفضل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة وبه تم ذكر الصحابة رضي الله تعالى عنهم (والضّحّاك) أي ابن مزاحم الهلالي البلخي المفسر تابعي جليل يروي عن أبي هريرة وأنس وابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم وثقه أحمد وابن معين وذكره الشيرازي في فقهاء خراسان من أصحاب عطاء الخراساني وغيره (وسعيد بن جبير) يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره قتل في شعبان شهيدا أخرج له الأئمة الستة (وقتادة) أي ابن دعامة (وابن المسيّب) بفتح التحتية المشددة وتكسر (وابن شهاب) أي الزهري (وابن زيد) أي ابن أسلم وهو متكلم فيه (والحسن) أي البصري (وإبراهيم) أي النخعي (ومسروق) أي ابن الأجدع الهمداني يروي عن أبي بكر ومعاذ رضي الله تعالى عنهما وكان أعلم بالفتيا من شريح أخرج له الأئمة الستة وهو من الزهاد الثمانية يقال إنه سرق صغيرا ثم وجد فسمي مسروقا وقد كانت عائشة تبنته فسمي ابن عائشة وكني بها روى عنه الشعبي والنخعي وغيرهما (ومجاهد) أي ابن جبير (وعكرمة) أي المفسر مولى ابن عباس لكنه أباضي وسيأتي في كلام المصنف بيانه (وابن جريج) بالجيمين مصغرا فهؤلاء كلهم من أجلاء التابعين رحمهم الله تعالى (وهو دليل قول عائشة) أي مذهبها المختار لها وهو لا ينافي ما سبق مما نسب إليها وحكي عنها وهذا الاستعمال شائع فيما بين العلماء والفقهاء حيث يقال هذا قول أبي حنيفة ومالك رحمهما الله ويحكى عنهما خلاف ذلك وبهذا بطل اعتراض الدلجي على المصنف بقوله كيف يكون الإسراء يقظة بدليل قولها ما فقدت جسده المحتج به آنفا أنه كان مناما وقد سمعت إبطاله وتعجب من حكاية المصنف له في المذهبين مع امتناع كونه حجة للأول وكون الثاني دليلا له فإنه سهو لا ريب من ذي فهم ثاقب انتهى ومما يدل على ما قدمنا عنها أنها نفت الرؤية البصرية وقالت بالرؤيا البصيرية ومثل هذه المسألة الخلافية لا تتصور إلا إذا كانت القضية في اليقظة بخلاف الحالة المنامية (وهو قول الطبري) أي محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ابن جرير (وابن حنبل) أي الإمام أحمد صاحب المذهب (وجماعة عظيمة) أي رتبه وكثرة (من المسلمين وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ والمتكلّمين والمفسّرين وقالت طائفة) أي من الجامعين بين الروايات المختلفة (كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس) يروى يقظة في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (وإلى السّماء بالرّوح) أي مناما وهذا يشبه قول المعتزلة (وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: 1] ) ووجه الاحتجاج ما بينه المصنف بقوله (فَجَعَلَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى غَايَةَ الْإِسْرَاءِ الَّذِي وقع التّعجّب فيه بعظيم القدرة) أي المؤثرة وفق الإرادة حيث كان في سيره ساعة طي مسافة كثيرة والتعجب من لوازم المعجزة وإن صدر من أعدائه على طريق الاستحالة (والتّمدّح) أي ووقع التمدح (بتشريف النّبيّ محمّد) صلى الله تعالى عليه وسلم (به) أي بالإسراء نفسه (وإظهار الكرامة له) أي ووقع إظهار الكرامة له صلى الله تعالى عليه وسلم (بالإسراء إليه) أي إلى المسجد الأقصى بخصوصه (قال هؤلاء) أي الذاهبون إلى المذهب الثالث في الإسراء (وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ إِلَى زَائِدٍ عَلَى المسجد الأقصى لذكره) أي سبحانه في كتابه (فيكون) أي ذكره فيه (أبلغ في المدح) أي في مقام مدحه من عدم ذكره ولعل الحكمة في ذلك أن يكون الإيمان في هذه القصة ثابتا بمجموع الكتاب والسنة؛ (ثمّ اختلفت هذه الفرقتان) أي الثانية والثالثة في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم (هل صلّى ببيت المقدس أم لا) فقيل نعم (فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صلاته فيه) أي بالأنبياء وسبق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الملائكة ولا منع من الجمع (وأنكر ذلك) أي كون صلى الله تعالى عليه وسلم صلى فيه (حذيفة بن اليمان وقال) أي حذيفة كما رواه أحمد عنه (والله ما زالا) أي النبي وجبريل عليهما السلام (عن ظهر البراق حتّى رجعا) وهو بعيد جدا لما سبق صريحا فيما ورد صحيحا من ربط البراق بباب المسجد وصلاته فيه على ما هو اللائق بأدب المسجد من التحية التي هي السنة فيه ثم من القواعد المقررة أن المثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ (قال القاضي رحمة الله تعالى عليه والحقّ من هذا) أي ما ذكر (والصّحيح إن شاء الله تعالى) استثناء للتبرك بمنزلة والله تعالى أعلم (إِنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا وعليه) أي وعلى هذا (تدلّ الآية وصحيح الأخبار) أي مجموعهما على جميعها غايته أن دلالة الآية على الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى نص قاطع يكون جاحده كافرا أو منافقا ودلالة الاحاديث على اسرائه إلى السماء وسدرة المنتهى ومقام قاب قوسين أو أدنى ظنية منكر يكون مبتدعا فاسقا (والاعتبار) بالرفع معطوف على ما قبله على ما اقتصر عليه الحلبي ولا يبعد أن يكون مجرورا بالعطف على الإخبار والمراد به المقايسة يعني إذا ثبت اسراؤه من الحرام إلى الحرام معجزة بدلالة الآية فيجوز اسراؤه إلى السماء بالمقايسة المقرونة بالأحاديث الثابتة إذ لا فرق بينهما في تعلق الإرادة والقدرة (ولا يعدل عن الظّاهر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 بصيغة المجهول أي ولا يصرف عن ظاهر دلالة الآية والأخبار الواردة (والحقيقة) أي ولا عن إرادة الحقيقة اللغوية المنضمة مع الإرادة العرفية (إلى التّأويل) أي فيهما أو في أحدهما (إلّا عند الاستحالة) أي العقلية والشرعية (وليس في الإسراء بجسده) أي الشامل لبدنه وروحه (وحال يقظته استحالة) أي لا شرعا ولا عقلا حتى يحتاج إلى تأويل في مآله بل يتعين أن يكون بكمال جماله ويقظة حاله (إِذْ لَوْ كَانَ مَنَامًا لَقَالَ بِرُوحِ عَبْدِهِ ولم يقل بعبده) أي لأنه بحسب إطلاقه محمول على كمال إفراده من عباده (وقوله) أي ويدل على كونه يقظة لا مناما قوله (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ) إذ ليس للروح بصر بل بصيرة وأيضا لا يمدح عدم زيغ بصر النائم إذ لا حقيقة لحاله فلا يعد عدم الطغيان من كماله ومعنى الآية ما مال بصره يمينا ولا شمالا في مقام أدبه مع ربه وما جاوز ما أمره (ولو كان) أي الإسراء (مناما لمّا كانت فيه آية) وقد قال الله تَعَالَى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (ولا معجزة) أي أمر خارق للعادة وإن كانت رؤيا الأنبياء حقا وأخبارهم عنها صدقا (ولمّا استبعده الكفّار ولا كذّبوه فيه) أي في أخباره (وَلَا ارْتَدَّ بِهِ ضُعَفَاءُ مَنْ أَسْلَمَ وَافْتُتِنُوا به) أي ولا وقعوا به في الفتنة في انباء اسرائه (إذ مثل هذا) أي الحال (من المنامات لا ينكر) أي لا يعد من المحال لأن أحد الناس يرى في نومه أنه يسير في الشرق مرة وفي الغرب أخرى وهو لم يتحول عن مكانه ولم تتبدل حاله الأولى (بل لم يكن ذلك) أي الإنكار والاستبعاد وعده من الاستحالة ووقوع الارتداد (منهم إلّا وقد علموا أنّ خبره) أي عن اسرائه (إنّما كان عن جسمه) أي مع روحه (وحال يقظته) أي أخذا من خبره منضما (إلى ما ذكر) أي النبي عليه الصلاة والسلام وقال الحلبي إنه بصيغة المجهول (في الحديث) أي الحديث المشهور في الإسراء (من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس) أي قبل اسرائه إلى السماء (فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ أَوْ فِي السَّمَاءِ عَلَى ما روى غيره) أي غير أنس كما تقدم من المنافاة بينهما إذ لا يخفى وجه جمعهما (وذكر مجيء جبريل عليه السلام له) عطف على قوله ذكر صلاته المجرور بمن البيانية أي ومن ذكر مجيء جبريل له عليه السلام (بالبراق وخبر المعراج) أي ومن ذكر خبر حال عروجه إلى السماء بالإسراء والمراد بالمعراج آلة العروج كالسلم للصعود (واستفتاح السّماء فيقال ومن معك) أي بعد ما يقال من أنت فيقول جبريل فيقال ومن معك (فيقول محمّد) أي وأمثال هذا من الدلالات في الروايات (ولقائه) أي ومن ملاقاته عليه الصلاة والسلام (الأنبياء فيها) أي في السماء بأصنافها (وخبرهم معه) أي خبر الأنبياء معه بتفصيل مقاماتهم وتبيين حالاتهم (وترحيبهم به) أي وتحيتهم له كما في نسخة وأصل الترحيب قول مرحبا، (وشأنه) أي وقصته (في فرض الصّلاة) أي خمسين اولا (ومراجعته) أي ومكالمته (مع موسى في ذلك) أي في تخفيفها أو مراجعته إلى الله تعالى مع مساعدة موسى عليهما الصلاة والسلام في ذلك (وفي بعض هذه الأخبار) أي أدلة صريحة على هذا المدعي وروايات صحيحة المبنى من طريق الشيخين عن أنس رضي الله تعالى عنه (فأخذ يعني جبريل بيدي) تفسير من بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 الرواة (فعرج بي إلى السّماء) أي فلما جئت السماء الدنيا قال جبريل لخازنها افتح فلما فتح علونا السماء الدنيا إذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة الحديث بطوله (إِلَى قَوْلِهِ ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام) أي صريرها كما في رواية وقد فرض الله هناك عليه خمسين صلاة فرجع فمر بموسى فلم يزل بينه وبينه حتى قيل له هي خمس وهن خمسون (وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ دَخَلَ الجنّة) أي جنة المأوى (ورأى فيها ما ذكره) أي من جنابذ اللؤلؤ وأن ترابها المسك قال الدلجي وظاهر هذا كله شاهد صدق بأنهما نزلا عن البراق وإن أنكره حذيفة انتهى ولا يخفى أن الظاهر عدم النزول عن البراق إلا أن يدل دليل صحيح وصارف صريح فيها هنالك لذلك (قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما رواه البخاري (هي رؤيا عين رآها صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في حال اليقظة (لا رؤيا منام) أي وإن كان رؤيا الأنبياء حقا في ثبوت المرام وقد قيل بتعدد المعراج إلى سبع مرات فيمكن الجمع بذلك بين الروايات (وعن الحسن) أي البصري (فيه) أي في حديث معراجه كما رواه ابن إسحاق وابن جرير عنه مرسلا (بينا أنا نائم في الحجر) بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم وقال النووي إنه رأى لبعض المصنفين على المهذب أنه يقال أيضا بفتح الحاء كحجر الإنسان فقيل كله من البيت وقيل ستة أذرع وقيل سبعة هذا وقد سبق أنه رأى بين النائم واليقظان ولا يبعد أن يراد بالنائم المضطجع فإنه على هيئة النائم وقد يعبر به عنه على أنه لا تنافي بين كونه نائما في أول القضية ومستيقظا في آخر القصة مع أنه روي بينا أنا جالس في الحجر (جاءني جبريل فهمزني) أي غمزني (بِعَقِبِهِ فَقُمْتُ فَجَلَسَتْ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَعُدْتُ لمضجعي، ذكر) أي الحسن أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ فَأَخَذَ بِعَضُدَيَّ) بصيغة الإفراد وفيه أربع لغات فتح العين مع ضم الضاد وكسرها وسكونها وضم العين مع السكون أي أمسك ما فوق مرفقي (فجرّني إلى باب المسجد) قال الدلجي الله أعلم بصحة هذا الحديث لنزاهة جبريل عن أن يفعل به ذلك انتهى ولا يخفى أنه إذا ثبت من طريق أمامين جليلين هذا المبنى ينبغي أن يحمل على محمل لطيف في المعنى وهو مناسبة الرجل للرجل في قوله فهمزني بعقبه وقد نبه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعض أصحابه من المنام بهذه الكيفية فهذا ليس من باب قلة الأدب بل من طريق عدم التكلف الدال على كمال الخصوصية وقد قيل ان الهمز تنبيه الرجل بحركة لطيفة وأما الأخذ بالعضد فلا خفاء في المناسبة المساعدة للتقوية العضدية وأما قوله فجرني فكناية عن كمال الجذبة الملكية المتسببة عن الجذبة الالهية على ما تقتضيه القضية الإسرائية إلى المراتب الاصطفائية وقد روي فجبذني وهو مقلوب جذبني (فَإِذَا بِدَابَّةٍ وَذَكَرَ خَبَرَ الْبُرَاقِ وَعَنْ أُمِّ هانىء) بكسر النون فهمز وهي بنت أبي طالب أخت علي رضي الله تعالى عنهما اسلمت يوم الفتح وقد خطبها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت إني امرأة مصيبة واعتذرت إليه فعذرها روى عنها علي وابن عباس وعكرمة وعروة وعطاء وخلق كما روى ابن إسحاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 والطبراني وابن جرير عنها أنها قالت (ما أسري برسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ فِي بَيْتِي تِلْكَ اللّيلة) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الحرم كله مسجد أي لإحاطته بالمسجد والتباسه به فلا ينافي قوله تعالى من المسجد الحرام (صلّى العشاء الآخرة) أي بأن خرج منه ودخل الحجر فصلى فيه (ونام بيننا) أي فيما بيننا بأن رجع ونام مع أهل بيت أم هانىء وهو كناية عن أنه كان بعد صلاة العشاء الآخرة عندهم في مكة فبيننا بمعنى عندنا وقد تصحف على الدلجي بقوله شيئا أي نام شيئا من الليل أو بعضا من النوم (فلمّا كان قبيل الفجر أهبّنا) بتشديد الموحدة أي أيقظنا (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وظاهر هذا الحديث أن الإسراء إنما كان في الثلث الأخير من الليل وهو وقت السحر وزمان التهجد للعبادة على أنه لا يلزم من إيقاظه لهم حينئذ أن يكون عقب نزوله إذ يمكن أنه كان في المسجد مشتغلا بالطواف والعبادة فلما قارب الصحيح رجع إليهم وأيقظهم (فلمّا صلّى الصّبح) أي نقلا أو كانت صلاتان فريضة قبل الإسراء صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها والأظهر أنه صلى الصبح المفروض في ليلة الإسراء من جملة الخمس (وصلّينا) أي معه أو بدونه (قال يا أمّ هانىء لقد صلّيت معكم العشاء الآخرة) فيه نوع تغليب أن صلت معه صلى الله تعالى عليه وسلم حقيقة أو معنى (كما رأيت بهذا الوادي) أي وادي مكة لإحاطة الجبال بها (ثمّ جئت بيت المقدس) أي ذهبت إليه (فصلّيت فيه) أي صلاة التهجد مع الأنبياء والملائكة (ثمّ صلّيت الغداة) أي صلاة الغدوة وهي الصبح (معكم الآن كما ترون) أي كما رأيتم فالعدول عن الماضي إلى المضارع لاستحضار الحال الماضية. (وهذا بين) بتشديد التحتية المكسورة أي وهذا الحديث برهان ظاهر (في أنّه) أي الإسراء (بجسمه) أي لا بروحه فقط ولا ينافي قولها وصلينا أنها اسلمت عام الفتح وهو بعد الإسراء بكثير لأن المراد بضمير الجمع جماعة قد اسلموا قبل ذلك وصلوا هنالك وأما قول الدلجي إنه ليس من قولها بل أدرجه الراوي في كلامها فمحمل بعيد وتأويل غير سديد وكذا تأويل الشمني أن معنى صلينا هيأنا له ما يحتاج إليه في الصلاة ثم هذا كله مبني على أن المعراج من بيت المقدس وأنه مع الإسراء في ليلة واحدة وأما على أنه من مكة وأنه ليس مع الإسراء في ليلة واحدة فقولها صلى الصبح على حقيقية من غير تأويل لأن الصلوات الخمس فرضت ليلة المعراج وهو على هذا القول كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا والإسراء كان في الربيع الأول قبل الهجرة بسنة. (وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ رِوَايَةِ شَدَّادِ بْنِ أوس عنه) أي كما رواه البيهقي وابن مردويه (أنّه قال للنّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ طَلَبْتُكَ يَا رسول الله البارحة في مكانك) أي في محلك المعتاد أول الليلة أو آخرها (فَلَمْ أَجِدْكَ فَأَجَابَهُ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ) أي بأنه (حملني) وهو الظاهر المتبادر فلا يحتاج إلى تكلف الدلجي من غير نص على كسر أن حيث قال التقدير فأجابه قوله له إن جبريل حملني أي على البراق (إلى المسجد الأقصى) ثم هذا الحديث أيضا دليل ساطع على أن الإسراء كان يقظة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 (وعن عمر رضي الله عنه) أي كما رواه ابن مردويه من طريق عَنْهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فِي مقدّم المسجد) أي المسجد الأقصى (ثمّ دخلت الصّخرة) أي تحتها أو مكانها (فإذا بملك) وفي نسخة فإذا ملك (قائم) بالجر والرفع بناء على النسختين (معه آنية ثلاث) أي من اللبن والخمر والعسل، (الحديث) أي كما سبق. (وهذه التّصريحات) أي في الروايات الصحيحات ظاهرة في أن القصة كانت يقظة (غير مستحيلة) أي شرعا وعقلا وثبت نقلا (فتحمل على ظاهرها) أي ولا يجوز العدول عنه؛ (وعن أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه) كما في الصحيحين مرفوعا (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم فرج) بصيغة المفعول مخففا وجوز مشددا أي كشف وأزيل (سقف بيتي) أضيف إليه تارة لأنه كان ساكنا فيه وإليها أخرى من حيث إنه كان ملكها (وأنا بمكّة) جملة حالية (فنزل جبريل فشرح صدري) أي فعل بي ما يوجب شرح صدري وتصحف على الدلجي بقوله ففرج بالفاء والجيم وفسره بقوله شقه (ثمّ غسله بماء زمزم) لأنه أفضل مياه العالم وقد أبعد الدلجي حيث علله بقوله لأنه فد ألفه صغرا وكبرا (إلى آخر القصّة) أي كما سبقت (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه أتيت) بصيغة المفعول أي أتاني آت وهو جبريل عليه السلام كما صرح به في رواية (فانطلق) بصيغة المجهول أي فذهب (بي) وفي نسخة فانطلقوا بي (إلى زمزم فشرح عن صدري) الجار نائب الفاعل (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه مسلم (لقد رأيتني) بضم تاء المتكلم (في الحجر وقريش تسألني عن مسراي) بفتح ميم وسكون سين أي عن علامات سيرى أو مكانه (فسألتني عن أشياء) أي من بيت المقدس وطريقه (لم أثبتها) من باب الافعال أي لم احفظها ولم اضبطها وعدم اثباته تلك الأشياء لكمال ثباته في مقام الإسراء باشتغاله بالملائكة والأنبياء وعجائب ملكوت الأرض والسماء وأبعد من توهم أن قوله لم أثبتها قرينة على أن القضية كانت مناما فإن النائم أقل ضبطا من المستيقظ حيث لم يعرف أنه لا فرق بين ضبطه مناما ويقظة إذ الأنبياء لا تنام قلوبهم ورؤياهم وحي وأما الإحاطة بجميع علامات الطرق والمسجد الأقصى فليس شرطا في حصول العلم به إذ يكفيه إخباره ببعض العلامات مما يوجب كونه من الآيات وخوارق العادات (فكربت كربا) بفتح فسكون أي غما يأخذ النفس والفعل مبني للمجهول كقوله (مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أنظر إليه) فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم (ونحوه عن جابر) أي روي عن جابر نحو ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مع اختلاف في المبنى دون المعنى (وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى خديجة) أي بسرعة (وما تحوّلت عنه جانبها) أي إلى جانب آخر منها وفيه إشعار بتقليل زمن الإسراء مع انه كان إلى السموات العلى وسدرة المنتهى ومقام قاب قوسين أو أدنى ولعله صلى الله تعالى عليه وسلم أول ما رجع دخل على خديجة ثم ذهبت إلى أم هانئ في بيتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 فصل [إبطال حجج من قال أنها نوم] (فِي إِبْطَالِ حُجَجِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَوْمٌ) ويروى أنها رؤيا نوم ثم الحجج بضم حاء وفتح جيم وجمع حجة وهو بمعنى دليل وبينة وأنث ضمير أنها مع أنه راجع إلى الإسراء باعتبار القول بأنه كان رؤيا منام (احتجّوا) بتشديد الجيم أي استدلوا (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ [الإسراء: 60] فسمّاها رؤيا) بالتنوين يعني والرؤيا مختصة بالنوم كما أن الرؤية باليقظة (قلنا قوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] يردّه) أي يدفع الاحتجاج به (لأنّه لا يقال في النّوم أسرى) لأن الإسراء هو السير في الليل وهو لا يكون حقيقة إلا في اليقظة واعتبار الحقيقة أولى من المجاز ما لم يصرف عنها صارف نعم الرؤيا أيضا في النوم حقيقة وفي اليقظة مجاز لكن لنا أجوبة صارفة لها عن المعنى الحقيقي إلى القصد المجازي كما بينه المصنف بقوله، (وَقَوْلُهُ فِتْنَةً لِلنَّاسِ يُؤَيِّدُ أَنَّهَا رُؤْيَا عَيْنٍ وإسراء بشخص) أي بجسده (إذ ليس في الحلم) بضمتين وتسكن اللام بمعنى الاحتلام ورؤية المنام (فتنة) أي امتحان وخبرة (وَلَا يُكَذِّبُ بِهِ أَحَدٌ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ مِنَ الْكَوْنِ) أي حدوث شيء لم يكن والألف واللام بدل من المضاف إليه أي من كونه (في ساعة واحدة في أقطار متباينة) أي في أطراف مختلفة وجوانب مفترقة ونواحي متباعدة؛ (عَلَى أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الآية) أي في تفسيرها وفي المراد بمورد الرؤيا وتعبيرها (فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الحديبية) وهي بتخفيف التحتية قبل هاء التأنيث مصغرا ذكره الشافعي وأهل اللغة وبعض المحدثين وكثير من المحدثين على تشديدها وهي قرية صغيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة على نحو مرحلة من مكة قريبة من حدة في طريق جدة وتسمى الآن تلك البئر بئر شميس والأصح أن الشجرة التي وقع تحتها بيعة الرضوان غير معروفة الآن وهي كانت عند آخر الحل وأول الحرم على ما قيل وقال مالك الحديبية من الحرم وقال ابن القصار بعضها من الحرم كذا قال الواقدي وهو الصحيح عندنا هذا والقضية بالضاد المعجمة واحدة القضايا قال الأنطاكي ومما يؤيد أن بعضها من الحرم ما روي أن مضارب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلّم يعني معسكره وموضع خيامه عام الحديبية كانت في الحل ومصلاه في الحرم والله تعالى اعلم وفي نسخة في قصة الحديبية بكسر قاف وتشديد صاد مهملة وهي أنه صلى الله تعالى عليه وسلّم رأى في المنام أنه دخل المسجد الحرام فصده المشركون في ذلك العام (وما وقع) أي ونزلت فيما وقع (في نفوس النّاس) أي جماعة منهم (من ذلك) أي من جهة صدهم وعدم دخولهم حتى امتنع بعضهم من تحللهم فقيل إنه لم يقل في هذا العام فدخل من قابل المسجد الحرام واعترض بأن الآية مكية وأجيب بأنه رآها بمكة وأخبر بها يومئذ (وقيل غير هذا) أي غير ما تقدم فقيل رآه ايوم بدر لقوله تعالى إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا تثبيتا لأصحابك وتشجيعا لهم على عدهم ولقوله حين ورد ماء بدر كأني أنظر إلى مصارع القوم هذا مصرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 فلان وهذا مصرع فلان فبلغ ذلك قريشا فسخروا منه (وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ قَدْ سَمَّاهَا فِي الْحَدِيثِ) أي المتقدم (مَنَامًا وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ بَيْنَ النَّائِمِ واليقظان) بفتحتين (وقوله أيضا) أي في الحديث (وهو نائم وقوله ثمّ استيقظت) أي كما في حديث آخر (فلا حجّة فيه) أي في كل واحد منها لعدم تصريح في الدلالة بها (إِذْ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ أَوَّلَ وُصُولِ الْمَلَكِ إليه كان وهو نائم) أي كما يدل عليه حديث الحسن البصري بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ جَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام فهمزني بعقبه فجلست الحديث (أو أوّل حمله) أي ويحتمل أن أول أخذه (والإسراء به وهو قائم) أي في حال نومه لحديث وهو نائم بالمسجد الحرام ولا يلزم منه استمرار المنام (وليس في الحديث) أي في حديث ما لا صحيح ولا ضعيف (أنّه كان نائما في القصّة كلّها) أي في قضية الإسراء جميعها من أولها إلى آخرها (إلّا ما يدلّ عليه) أي في الجملة قوله (ثمّ استيقظت وأنا في المسجد الحرام) لكن يحتمل احتمالات تمنع صحة الاستدلال بها على تصحيح المنام وتصريح المرام؛ (فلعلّ قوله استيقظت بمعنى أصبحت) إذ الاستيقاظ غالبا يكون حالة الاصباح فعبر به عنه مجازا وهذا لا يخفى بعده (أو استيقظ) وفي نسخة صحيحة أو استيقظ (من نوم آخر) أي حدث حال نزوله (بعد وصوله بيته ويدلّ عليه) أي على كونه نوما آخر (أنّ مسراه لم يكن طول ليله) أي في جميعه (وإنّما كان في بعضه) أي ذهابا أو إيابا كما يشير إليه تنكير ليلا (وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الحرام لما كان غمره) بالغين المعجمة ثم الراء أي لأجل ما غشيه وعلا قلبه وغطاء (من عجائب ما طالع من ملكوت السّموات والأرض) قال المحققون إن الملك ظاهر العالم والملكوت باطنه وقيل الملكوت الملك العظيم (وخامر) بالخاء المعجمة أي خالط ومازج (باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى) أي من ملائكة السماء وأصل الملأ الجماعة من الاشراف والوجوه مما يملأ العيون كثرة وعزة وأراد بالملأ الأعلى الملائكة المقربين وصفوا بذلك لعلو مكانهم أي لعلو منزلتهم وشأنهم عند ربهم (وما رأى من آيات ربّه الكبرى) أي وما حصل له من شهود الكثرة في الوحدة ووجود الوحدة في الكثرة ونور الوحدة بلا ظهور الكثرة والاستغراق في بحور الشهود ولجة الوجود والذهول عن غير المعبود والمقصود (فلم يستفق) أي لم ينتبه (ويرجع) أي ولم يعد من مشاهدة التجليات الإلهية (إلى حال البشريّة) أي من اقتضاء صفات العنصرية (إلّا وهو بالمسجد الحرام) هذا وقول الدلجي خامر أي ستر ليس في محله وما ذكر فيه من الشاهد أيضا غير ملائم وهو قوله كتب أبو الدرداء إلى سلمان يدعوه إلى الأرض المقدسة فكتب يا أخي إن بعدت الدار من الدار فإن الروح من الروح قريب وطير السماء على أرفه خمر الأرض يقع أي على أخصب ساتر فيها أراد أن وطنه ارفه له وأرفق به فلا يفارقه (ووجه ثالث) أي في الجمع بين الروايات المتفرقة والرد على من زعم أن الإسراء إنما كان بروحه فقط (أَنْ يَكُونَ نَوْمُهُ وَاسْتِيقَاظُهُ حَقِيقَةً عَلَى مُقْتَضَى لفظه) أي المفاد منه بطرفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه وهو قوله وأنا نائم في المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 الحرام وقوله واستيقظت وأنا في المسجد الحرام (وَلَكِنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ وَقَلْبُهُ حَاضِرٌ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حقّ) أي ولو في المنام (تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم) أي كما ثبت في الحديث ولعل الحكمة في حمل جسده مع أن العمل حينئذ كله لروحه أن يشاهد الملائكة ذاته ويفاض عليهم من بركاته ويصير مرآة للتجلي الإلهي في تنزلاته وانعكاس ظهور كمال صفاته (وقد مال بعض أصحاب الإشارات) وفي نسخة أهل الإشارات (إلى نحو من هذا) أي مما ذكرناه من كونه نائم العين حاضر القلب لشهود ملكوت الرب (قال) أي بعض أصحاب الإشارات (تغميض عينيه) أي سدهما نوما أو قصدا (لئلّا يشغله) بفتح أوله وثالثه وجوز ضم أوله وكسر ثالثه (شيء من المحسوسات عن الله عز وجل) وفيه أن من وصل إلى حالة الجمعية وزال عنه مرتبة التفرقة لا يحجبه شهود الكثرة عن وجود الوحدة وبالعكس وفيه أيضا أن المقام مشاهدة عجائب الملكوت لقوله تعالى لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إذ المتبادر منه رؤية العين والمحسوسات من الحواس وهي خمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس وهي هيئة حالة في جميع الجسد (ولا يصحّ هذا) أي تغميض العين (أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء) لأنه في حال الصلاة مكروه عند عامة الفقهاء (وَلَعَلَّهُ كَانَتْ لَهُ فِي هَذَا الْإِسْرَاءِ حَالَاتٌ) أي مراتب ومقامات فكان في أوله نائما ووقت صلاته بهم قائما وفي شهود الآيات مطالعا وفي حال التجلي مستغرقا وفي حال الرجوع متحيرا والحاصل أنه كان بين سكر وشكر وقبض وبسط وصحو ومحو وفناء وبقاء. (ووجه رابع) أي شاهد بأنه كان يقظة ويأول ما يكون فيه مخالفة (وهو أن يعبّر بالنّوم ههنا عن هيئة النّائم من الاضطجاع) ووقع للدلجي هنا زيادات وكذا فيما قبله مكررات ليست في الأصول المعتمدة والنسخ المعتبرة (ويقوّيه) أي ويؤيد التعبير بالنوم عن الاضطجاع (قوله) أي في الحديث (في رواية عبد بن) بالوصف لا بالإضافة (حميد) بالتصغير وهو حافظ كبير شهير واسمه عبد الحميد وعبد لقب له (عن همّام) بفتح الهاء وتشديد الميم إمام حافظ يروي عن الحسن وعطاء وخلق وعنه ابن مهدي وغيره قال أحمد ثبت عند كل المشايخ أخرج له أصحاب الكتب الستة (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ وَرُبَّمَا قَالَ مُضْطَجِعٌ وَفِي رواية هدبة) بضم الهاء وسكون الدال المهملة بعدها موحدة وهو ابن خالد القيسي الجهني أبو خالد البصري الحافظ المسند ويقال له هداب عن همام بن يحيى وحماد بن سلمة وجرير بن حازم وعنه البخاري ومسلم وأبو داود والبغوي وأبو يعلى قال ابن عدي لا أعرف له حديثا منكرا قال الحلبي وفي نسخة معاوية بدل هدبة وهو غير صحيح (عنه) أي عن همام (بينا أنا نائم في الحطيم) قال الدلجي أي بين الركن والباب وفيه أن هذا حد الملتزم نعم قد يطلق ويراد به ما بين الركن الأعظم والمقام وزمزم لكن الأظهر أنه يراد به الحجر لقوله (وربّما قال في الحجر مضطجع) وسمي حطيما لما حطم من جداره فلم يسو ببناء البيت على ما ذكر البغوي وسمي حجرا لأنه حجر عن البيت أي من إدخاله فيه فمؤداهما واحد وهو المستدير بالبيت جانب الشمال وعن مالك الحطيم ما بين المقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 إلى الباب وعن ابن جريج ما بين الركن والمقام والله اعلم بالمرام، (وقوله) أي وكذا يقويه قوله (فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ فَيَكُونُ) أي النبي عليه السلام (سمّى هيئته) أي الاضطجاع (بالنّوم لما كانت) أي تلك الهيئة (هيئة النّائم غالبا) وقيده به إذ قد ينام وهو قاعد أو مستلق ونحو ذلك (وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ مِنَ النّوم) أي من ذكره (وذكر شقّ البطن ودنوّ الرّبّ) أي قربه المنزه عن المكان (الواقعة) بالنصب صفة الزيادات أو بدل منها أي التي وقعت (في هذا الحديث) أي في أحاديث الإسراء (إنّما هي من رواية شريك) وهو ابن عبد الله بن أبي نمر (عن أنس رضي الله تعالى عنه فهي) أي فهذه الزيادات المذكورة (منكرة) بفتح الكاف (من روايته) أي شاذة مخالفة لروايات سائر الثقات (إِذْ شَقُّ الْبَطْنِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِنَّمَا كان في صغره صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مرة عند مرضعته (وقبل النّبوّة) تأكيد لما قبله فإن أول بعثة النبوة كان بعد أربعين سنة نعم ثبت شق صدره أيضا بجبل حراء عند نزول صدر سورة اقرأ ولا يبعد أن يشق صدره عند الإسراء أيضا كما صرح به السهيلي أن الشق وقع مرتين مرة في صغرة ومرة في كبره عند رقيه إلى العالم العلوي وكان الأول لإزالة حظ الشيطان والآخر لملئ الحكمة والإيمان لكن شريك منفرد بذلك في هذا الحديث وإن وافقه السهيلي فيما هنالك هذا وقد روى الطيالسي والحارث في مسنديهما من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن الشق وقع مرة أخرى عند مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في غار حراء ومناسبته ظاهرة جدا وروي الشق وهو ابن عشر أو نحوها في قصة له مع عبد المطلب أخرجه أبو نعيم في الدلائل قال العسقلاني وروي مرة خامسة ولا يثبت لكن تعقبه بعض المتأخرين وقال رواه أبو نعيم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن آمنة قلت وإذا ضم إلى ذلك قصة شق الصدر في المنام فتكون سادسة (ولأنّه) أي شريكا (قَالَ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ. وَالْإِسْرَاءُ بإجماع كان بعد المبعث) ويروى البعث. (فهذا) أي فما ذكر (كلّه يوهن) من الايهان أو التوهين أي يضعف (ما وقع في رواية أنس رضي الله تعالى عنه) أي من طريق شريك لكن قال العسقلاني في باب المعراج من كتاب المبعث استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء وقال إنما وقع وهو صغير في بني سعد ولا إنكار في ذلك فقد توارد الروايات به وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل ولكل منها حكمة فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم فأخرج علقة فقال هذا حظ الشيطان منك وكان هذا في زمن الطفولية منشأ على اكمل الأحوال من العصمة من الشيطان ثم وقع شق الصدر عند المبعث زيادة في إكرامه ليبلغ ما أوحي إليه بقلب قوي في اكمل الأحوال من التطهير ثم وقع شق الصدر عند إرادة العوج إلى السماء ليتأهب للمناجاة ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما في شرعه انتهى وقال أيضا في كتاب التوحيد قد تقدم الرد على من أنكر شق الصدر عند الإسراء وبينت أنه ثبت في غير رواية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 شريك في الصحيحين من حديث أبي ذر وأن شق الصدر أيضا وقع عند البعثة كما أخرجه أبو داود والطيالسي في مسنده وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة انتهى وقال العراقي قد أنكر وقوع الشق ليلة الإسراء ابن حزم وعياض وأدعى أنه تخليط من شريك وليس كذلك فقد ثبت من غير طريق شريك في الصحيحين وقال القرطبي لا يلتفت لإنكاره لأنه رواية ثقات مشاهير هذا ووقع شق صدر الكريم أيضا في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه حين كان ابن عشر سنين وهي عند عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ذكره العسقلاني وقال صاحب الآيات البينات في حديث شق الصدر وهو ابن عشر سنين رواه ابن حبان والحاكم والضياء في المختارة وصححوه (مَعَ أَنَّ أَنَسًا قَدْ بَيَّنَ مِنْ غَيْرِ طريق) أي من طرق كثيرة (أنّه) أي أنسا (إنّما رواه) أي الحديث (عن غيره) كمالك بن صعصعة وأبي ذر مرفوعا (وَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي من غير واسطة (فقال) أي أنس (مرّة) أي في رواياته (عن مالك بن صعصعة) وهذا لا يضر لأن مراسيل الصحابة بالاتفاق مقبولة محجوح بها (وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ لَعَلَّهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ صعصعة على الشّكّ) أي من الراوي عن أنس (وقال مرّة كان أبو ذر يحدّث) ولا منع من الجمع بأن أنسا سمع الحديث منهما جميعا فتارة أضاف إلى واحد وأخرى إلى آخر فتدبر ثم رأيت الحلبي ذكر أنه قال الحاكم في الأكليل حديث المعراج صح سنده بلا خلاف بين الأئمة نقله العدل عن العدل ومدار الروايات فيه على أنس رضي الله تعالى عنه وقد سمع بعضه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبعضه من أبي ذر وبعضه عن مالك يعني ابن صعصعة قال وبعضه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (وأمّا قول عائشة) أي كما رواه ابن إسحاق وابن جرير (ما فقدت جسده) بصيغة المجهول وفي أصل الدلجي وهو رواية ما فقدت بصيغة المتكلم (فَعَائِشَةُ لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ لِأَنَّهَا لم تكن حينئذ) أي حين إذ وقع الإسراء (زوجه) بالإضافة وفي نسخة زوجة أي له صلى الله تعالى عليه وسلم (ولا في سنّ من يضبط بضم الموحدة وكسرها أي بل ولا كانت حينئذ في سن من يحفظ الأمور (ولعلّها لم تكن ولدت بعد) بضم الدال أي تلك الساعة (على الخلاف في الإسراء) أي بناء على الاختلاف الواقع للعلماء في زمن الْإِسْرَاءِ (مَتَى كَانَ فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ بعد المبعث) ويروى البعث بلد المبعث (بعام ونصف) وهو مخالف لما نقله النووي فيما مر عنه من أنه بعده بخمسة أعوام (وكانت عائشة في الهجرة) أي زمنها (بنت نحو ثمانية أعوام) فكان الإسراء على هذا قبل ولادتها بنحو ثلاثة أعوام ونصف إذ قد مكث بمكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاما (وقد قيل كان الإسراء لخمس) أي من السنين (قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامٍ وَالْأَشْبَهُ) أي الأظهر (أنّه لخمس) أي قبل الهجرة وهو مخالف لما حكاه النووي عنه ثم اختلف في الشهر الذي أسري به صلى الله تعالى عليه وسلم فيه فقيل في الربيع الأول وجزم به النووي في الفتاوى وقيل في الربيع الآخر وبه جزم أيضا في شرح مسلم تبعا للقاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 المصنف وقيل في رجب وجزم به النووي أيضا في الروضة وقال الواقدي في رمضان وقال الماوردي في شوال والله تعالى اعلم بالحال هذا ومعظم السلف والخلف من المحدثين الفقهاء أن الإسراء كان بعد البعثة لستة عشر شهرا على ما نقله النووي عن الحريري قال السبكي الإجماع على أنه كان بمكة والذي نختاره ما قاله شيخنا أبو محمد الدمياطي أنه قبل الهجرة بسنة وهو في الربيع الأول قال ولا احتفال بما تضمنه التذكرة الحمدونية أنه في رجب وإحياء المصريين ليلة السابع والعشرين منه بدعة (والحجّة لذلك) أي لإبطال كونه مناما ذكره الدلجي والأظهر أن يكون مراده لما ذكره من الأدلة والأقوال المختلفة في تاريخ وقت المعراج بخصوصه (تطول ليست من غرضنا) فضربنا صفحا من إطالتها لئلا يقع أحد في حد ملالتها (فإذا لم تشاهد ذلك عائشة) أي سواء ولدت قبله أو بعده (دلّ على أنّها حدّثت بذلك عن غيرها) أي بتاء المتكلم حكاية لقول من أخبرها باقيا على صورته الأولى كقولك لمن قال هذه تمرتاك دعني من تمرتاك قال ذو الرمة سمعت الناس ينتجعون غيثا يرفع الناس أي سمعت هذا القول فكأنها قالت سمعت من فلان أو فلانة مَا فَقَدْتُ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم (فلم يرجّح خبرها على خبر غيرها) أي لروايتها له عن مجهول بل لعدم ثبوته، (وَغَيْرُهَا يَقُولُ خِلَافَهُ مِمَّا وَقَعَ نَصًّا فِي حديث أمّ هانىء وغيره) أي وفي غير حديث أم هانئ كحديث أبي ذر ومالك بن صعصعة (وأيضا) مصدر آض بمعنى عاد ورجع والمعنى وقلت معاودا (فليس حديث عائشة رضي الله عنها) أي ما فقدت جسده (بالثّابت) أي عند ائمة الحديث لقادح في سنده عنها إذ فيه ابن إسحاق وقد تكلم فيه مالك وغيره، (والأحاديث الأخر) بضم ففتح جمع آخر أي الواردة في الإسراء (أثبت) أي اكثر ثبوتا وأصح رواية من حديثها (لسنا) وفي نسخة صحيحة ولسنا (نعني) أي لا نريد بقولنا والأحاديث الأخر أثبت (حديث أمّ هانىء) أي ماأسري برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا وهو في بيتي (وما ذكرت فيه خديجة) بصيغة المفعول أي ولا نعني حديث عمر الذي ذكرت فيه خديجة لعدم ورودهما في الصحيح (وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مَا فقدت) أي جسده (ولم يدخل بها إلّا بالمدينة) جملة حالية مؤذنة بعدم صحة حديث ما فقدت عنها إذ الإسراء كان بمكة إجماعا (وكلّ هذا) أي وكل ذلك سابقا ولا حقا (يوهنه) أي بالوجهين أي بضعف حديث ما فقدت ويروى يوهنونه بفتح الواو وكسر الهاء مشددة وبالواو ضمير الجماعة ذكره الحجازي وفيه نظر (بَلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صَحِيحُ قَوْلِهَا إِنَّهُ) بفتح الهمزة وكسرها أي أن إسراءه كان (بجسده لإنكارها أن تكون رؤياه لربّه) أي ليلة الإسراء (رُؤْيَا عَيْنٍ وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهَا مَنَامًا لَمْ تنكره) أي لم تنكر كون رؤيته لربه مناما (فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (11) [النَّجْمِ: 11] فَقَدْ جَعَلَ مَا رآه للقلب) أي لا للبصر (وهذا) أي الجعل (يدلّ على أنّه رؤيا نوم، ووحي) بالرفع عطف على رؤيا وقد أبعد الدلجي في قوله ووحي بالجر عطف على نوم أي ورؤيا وحي فيه (لا مشاهدة عين وحسّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 أي لا على أنه مشاهدة عين وحس بصري فهو عطف تفسيري وقال الأنطاكي مشاهدة نصب أي لا رؤيا مشاهدة عين فحذف المضاف وأعرب المضاف إليه بإعرابه انتهى وبعده لا يخفى (قلنا) أي في الجواب عنه (يقابله) أي يعارضه (قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) [النجم: 17] ) أي ما مال عما رآه وما تجاوزه (فقد أضاف الأمر) في الرؤية (لِلْبَصَرِ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) [النجم: 11] أي لم يوهم القلب) بالرفع (العين) بالنصب وفي نسخة عكس ذلك (غير الحقيقة) أي غير حقيقة ما رآه (بل صدق رؤيتها) ويؤيده قراءة التشديد (وَقِيلَ مَا أَنْكَرَ قَلْبُهُ مَا رَأَتْهُ عَيْنُهُ) أي فيكون ضمير رأى راجعا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لا إلى الفؤاد والله تعالى اعلم بالمراد وحاصله وما قبله أنه يقل قلبه لما رأى لم أعرفك ولو قال لكذب إذ قد عرفه كما عرفه بصره إذ الأمور القدسية يدركها القلب أولا ثم يوردها على البصر ثانيا بدليل حديث مسلم هل رأيت ربك قال رأيته بفؤادي كذا قرره الدلجي ولا يخلو عن خلجان في القلب لعله يظهر بعد ذلك بتوفيق الرب. فصل [وأما رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربه عز وجل] (وأمّا رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربّه جلّ) أي عظم شأنه (وعزّ) أي وغلب سلطانه (فاختلف السّلف فيها) أي في رؤيته له سبحانه وتعالى بعين بصره (فأنكرته عائشة رضي الله عنها) أي كونها ووقوعها أو قول مسروق لها هل رأى محمد ربه وفي أصل الدلجي فأنكرتها عائشة أي الرؤية المذكورة. (حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الحافظ) أي للحديث (بقراءتي عليه قال حدّثني أبي) أي عبد الملك ووهم الحلبي في قوله أبوه هو القاضي سراج وكأنه وقع في أصله أبو الحسين بن سراج وهو مخالف للنسخ المعتمدة (وأبو عبد الله بن عتّاب) بفتح فتشديد (قالا) أي كلاهما (حدّثنا القاضي يونس بن مغيث) بضم ميم فغين معجمة مكسورة فتحتية فمثلثة قال ابن ماكولا في إكماله وأبو محمد بن عبد الله بن محمد بن مغيث الأندلسي يعرف بابن الصفار مشهور بالعلم والأدب جمع من أشعار الخلفاء من بني أمية كتابا وابنه يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث أبو الوليد قاضي الجماعة بقرطبة سمع أبا بكر محمد بن معاوية القرشي المعروف بابن الأحمر والعباس بن عمرو الصقلي وروى عنه أبو عمر بن عبد البر النمري وابو محمد بن حزم قاله الحميدي (حدّثنا أبو الفضل الصّقيلي) بكسر الصاد وسكون القاف نسبة إلى صقلية جزيرة من جزائر بحر الغرب ذكره الحلبي وغيره وضبط في بعض النسخ بضم الصاد وضبطه ابن خلكان بفتحتين وتبعه الحجازي وزاد تشديد اللام وقال التلمساني بفتح الصاد والقاف وكسرهما واللام مخففة فيهما (حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أبيه وجدّه) أي قاسم وثابت (قالا) أي كلاهما (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بن آدم) هو مروزي يروي عن ابن عيينة وأبي بكر بن عياش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وجماعة وعنه البخاري وأبو بكر بن أبي داود وطائفة توفي سنة ثمان وخمسين ومائتين (حدّثنا وكيع) تقدم ذكره (عن ابن أبي خالد) هو إسماعيل بن سعيد البجلي الكوفي عن ابن أبي أوفى وأبي جحيفة وقيس وخلق وعنه شعبة وغيره حافظ إمام وكان طحانا تابعي ثقة أحد الاعلام أخرج له الأئمة الستة (عن عامر) وهو الصواب لا ما وقع في بعض النسخ عن مجاهد ذكره الشمني وزاد الحلبي فإنه ليس له شيء من الكتب الستة عن مسروق وهو عامر بن شرحبيل أبو عمرو الشعبي الهمداني قاضي الكوفة أحد الأعلام ولد في خلافة عمرو وروايته عن علي في البخاري وروى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه والمغيرة وخلق قال أدركت خمسمائة من الصحابة وقال ما كتبت سوادا في بياض ولا حدثت بحديث إلا حفظته مات سنة ثلاث ومائة اخرج له الأئمة الستة وقال الدلجي قد روى المصنف هنا حديث مسلم بسند آخر شاهدا لإنكارها ذلك يقظة وهو بفتح الشين وسكون العين واختلف في نسبته وقد يضرب به المثل في الحفظ فيقال أحفظ من الشعبي وقال الزهري العلماء أربعة ابن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة والحسن بالبصرة ومكحول بالشام وقال مكحول ما رأيت أفقه من الشعبي في زمانه (عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ ربّه) يعني ليلة الإسراء في حال اليقظة (فقالت لقد قفّ شعري) بفتح القاف وتشديد الفاء من القفقفة وهي الرعدة أي اقشعر وقام شعر جسدي من الفزع (ممّا قلت) أي طالبا مني تصديقي بثبوت رؤيته لربه أو لا ثبوتها أو لكوني سمعت ما لا ينبغي أن يقال (ثلاث من حدّثك) كذا بكاف الخطاب ثبت بخط القاضي المصنف وعند العرفي بحذفها وكلاهما صحيح والمعنى من اعلمك أو روى وأخبر (بهنّ فقد كذب) وفي نسخة كذبك أي افترى فرية بلا مرية فيهن وبيانها قولها (مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كذب ثمّ قرأت) أي للاستشهاد على دعوى المراد (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] الآية) أي وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وأجيب بأن الآية دالة على أنه لا تحيط به ولا بحقيقته حاسة بصر إذا تجلى بنور كماله وصفة كبرياء جلاله لحديث مسلم نوراني أراه أي حجابه نور فكيف أراه إذ كمال النور يمنع الإدراك من غاية الظهور وأما إذا تجلى بما يسعه نطاق القدرة البشرية من صفات جماله الصمدية فلا استبعاد لرؤيته بدون إحاطة فنفي الآية رؤيته على سبيل الإحاطة لا يوجب نفي رؤيته بدونها لا محالة (وذكر) مسروق (الحديث) أي الخ قال التلمساني الأولى هذه والثانية قولها رضي الله تعالى عنها من زعم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتم شيئا من الوحي ثم قرأت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الآية والثالثة من زعم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم الفرية ثم قرأت إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية انتهى وزاد الانطاكي ولكنه رأى جبريل مرتين وقال الغزالي في الإحياء والصحيح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما رأى الله تعالى ليلة المعراج لكن النووي صحح الرؤية في الفتاوى ونقله عن المحققين والله سبحانه وتعالى أعلم قال الحلبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 هذا الحديث الذي ساقه القاضي هنا هو في البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وهو في البخاري في التفسير عن يحيى عن وكيع بالسند الذي ساقه القاضي وهو يدل ولو رواه القاضي من طريق البخاري كان يقع له أعلى من هذا وسبب عدول القاضي عن إخراج هذا الحديث من أحد هذه الكتب مع أنه بين القاضي وبين شيخ الشيخ البخاري وكيع سبعة وهذا الذي ساقه بينه وبين وكيع ثمانية فالذي في الصحيح أعلى ليتنوع وليظهر كثرة الشيوخ والمسموعات والله سبحانه وتعالى أعلم بالنيات (وقال جماعة) أي من المحدثين والمتكلمين (بقول عائشة وهو المشهور) أي كما رواه الشيخان (عن ابن مسعود) أي أنه رأى جبريل (ومثله) أي في كونه مشهورا ما رواه البخاري (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا رَأَى جبريل عليه السلام واختلف عنه) أي عن أبي هريرة إذ قد روى عنه أنه قال رآه بعينه كابن مسعود وأبي ذر والحسن وابن حنبل. (وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا جماعة من المحدّثين، والفقهاء والمتكلّمين) جوز أن يكون المشار إليه ما لم يشتهر من قول أبي هريرة أنه رآه بعينه وأن يكون ما انكرته عائشة أي بإنكار ما انكرته وفاقا لها ولذا أكده بالجملة الثانية دفعا لتوهم كون انكارهم انكارا لانكارها كذا حققه الدلجي ونقل الحلبي أنه حكى أبو عبد الله ابن إمام الجوزية عن عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ لما ذكره مسألة الرؤية ما لفظه وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة كما حكاه عثمان ابن سعيد الدارمي إجماعا للصحابة (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رآه بعينه) وبه قال أنس وعكرمة والربيع (وروى عطاء عنه) أي عن ابن عباس (بقلبه) أي أنه رآه بعين بصيرته وعطاء هذا هو ابن أبي رباح بفتح الراء وبالموحدة أبو محمد المكي الفقيه أحد الأعلام يروي عن عائشة وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما وخلق وعنه أبو حنيفة والليث والأوزاعي وابن جريج وأمم أخرج له الأئمة الستة وقد أخرج هذا الحديث مسلم عن عطاء عن ابن عباس في صحيحه في باب الإيمان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه به (وعن أبي العالية عنه) أي عن ابن عباس (رآه بفؤاده مرّتين) وأبو العالية هذا هو رفيع بن مهران الرياحي بكسر الراء والمثناة تحت وهذه الرواية أخرجها مسلم في الإيمان (وذكر ابن إسحاق) أي محمد بن إسحاق بن يسار الإمام في المغازي عن عبد الله بن أبي سلمة (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ ربّه) أي بعين بصره إذ لا خلاف في رؤيته ببصيرته (فقال نعم) والحاصل أنه اختلفت الرواية عن ابن عباس في مسألة الرؤية (والأشهر عنه) أي عن ابن عباس (أنّه رأى ربّه بعينه روي ذلك) أي القول الأشهر (عنه من طرق) أي بأسانيد متعددة اقتضت الشهرة (وقال) أي في بعض طرقه وهو ما رواه الحاكم والنسائي والطبراني أن ابن عباس قال تقوية لقوله إنه رأى ربه بعينه (إنّ الله اختصّ موسى بالكلام) أي من بين سائر الأنبياء عليهم السلام فلا ينافي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم وقع أيضا له الكلام على وفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 المرام وكذا قوله (وإبراهيم بالخلّة) بضم الهاء فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم جمع له بين كونه خليلا وحبيبا (ومحمّدا بالرّؤية) أي البصرية هذا ولا منافاة بين قول ابن عباس رآه بعينه وبين قوله رآه بفؤاده لإمكان الجمع بينهما بثبوت الرؤية للبصر والبصيرة كما يشير إليه قوله تعالى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أي ما كذب فؤاده مرئيه بل صدقه وطابقه ووافقه (وحجّته) أي دليل ابن عباس أي على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه (قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي بعينه إذ لا يقال ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى بقلبه فالمعنى ما اعتقد قلب محمد خلاف ما رأى ببصره وهي مشاهدة ربه تعالى بفؤاده بجعل بصره فيه أو ببصره بجعل فؤاده فيه لأن مذهب أهل السنة أن الرؤية بالإراءة لا بالقدرة هذا والراجح كما قال النووي عند أكثر العلماء إنه رآه بعيني رأسه ليلة الإسراء وإثبات هذا ليس إلا بالسماع منه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو مما لا شك فيه وإنكار عائشة وقوعها لم يكن لحديث روته ولو كان لحديث ذكرته بل احتجت بقوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قلنا المراد بالإدراك الإحاطة إذ ذاته تعالى لا تحاط ولا يلزم من نفيها نفي الرؤية بدونها وبقوله وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً قلنا لا تلازم بين الرؤية والكلام لجواز وجودها بدونه كذا قرره الدلجي فيما نقله عن النووي وفيه أنه لا يعرف حديث مسموع مرفوع بل كل من عائشة وابن عباس مستدل بآية من الكتاب والله تعالى أعلم بالصواب (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي افتشكون أو افتجادلونه بالاستفهام الإنكاري وإنما وقع الجدل والشك في رؤية البصر إذ لا يشك أحد في رؤية البصيرة ولعل الاستدلال بهذه الآية بناء على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وإلا فالظاهر أن الشك إنما وقع من الكفار في نفس الإسراء وما رأى في عالم السماء (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 11- 13] ) وهي فعلة من النزول اقيمت مقام المرة ونصبت نصبها قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت له في تلك الليلة عرجات لحط عدد الصلوات ولكل عرجة نزلة ذكره الدلجي وفي الاحتجاج بهذه الآية نظر ظاهر إذ جمهور المفسرين على أن ضمير المفعول راجع إلى جبريل عليه السلام لا سيما ضعف الاحتمال لضعف الاستدلال (قال الماورديّ) سبق ذكره (قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ كَلَامَهُ وَرُؤْيَتَهُ بين موسى ومحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فرآه محمّد مرّتين) أي حيث كان قاب قوسين أو أدنى وعند سدرة المنتهى (وكلّمه موسى مرّتين) أي مرة وقت إرساله إلى فرعون ومرة بعد هلاكه ورجوعه إلى الطور وفيه أن قائل هذا مجهول فالاستدلال به غير معقول. (وحكى أبو الفتح الرّازي) الله أعلم به كذا ذكره الدلجي وقال التلمساني هو سليمان بن أيوب مات غريقا سنة سبع وأربعين وأربعمائة (وأبو اللّيث السّمرقندي) تقدم ذكره (الحكاية) أي التي ذكرها الماوردي (عن كعب) وفيه أن كعب الأحبار هو من أهل الكتاب والتواريخ فلا يكون قوله حجة في هذه المسألة (وروى عبد الله بن الحارث) هو زوج أخت محمد بن سيرين روى عن جماعة من الصحابة وروى هذا الحديث مرسلا كذا ذكره الشمني تبعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 للحلبي وفي كون هذا الحديث مرسلا نظر ظاهر في المنقول ولا يخفى على من له المام بعلم الأصول وقال الأنطاكي هو أبو الوليد عبد الله بن حارث البصري روى عن عائشة وأبي هريرة وزيد بن أرقم وابن عباس وابن عمر وغيرهم وعنه ابنه يوسف والمنهال بن عمرو وعاصم الأحول وخالد الحذاء وجماعة وثقه أبو زرعة والنسائي وأخرج له الأئمة الستة (قال) أي عبد الله بن الحارث (اجْتَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا نَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ فَنَقُولُ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ فَكَبَّرَ كَعْبٌ حَتَّى جاوبته الجبال وقال) أي كعب أو ابن عباس (إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وموسى فكلّمه موسى ورآه محمد بقلبه) أي وبعينه أيضا قاله الدلجي أقول الظاهر إن هذا قول كعب وإنه مخالف لقول ابن عباس وتكبيره كان لتعظيم الأمر وتفخيم القدر وأما ما قاله أبو الفتح اليعمري في سيرته في الإسراء ما لفظه وروينا من طريق الترمذي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن مخالد عن الشعبي قال لقي ابن عباس كعبا بعرفات فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال فقال ابن عباس إنا بنو هاشم نقول إن محمدا رأى ربه فقال كعب إن الله تعالى قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين فقال الحلبي لم أر هذا الحديث في أطراف المزي فإن كان في الجامع فلعله سقط من نسختي وإن كان من طريقه في غير الجامع فلم أقف عليه قلت وعلى تقدير ثبوته فلعله عنه روايتان (وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه في تفسير الآية) أي قوله تعالى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (قال رأى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ربّه) فيه أنه مبهم يحتمل احتمالين وأغرب الدلجي هنا حيث قال أي بقلبه بشهادة أول الآية وهو مناقض لما سبق عنه من تقرير الرواية بالبصر فتدبر. (وحكى السّمرقنديّ) أي كرواية ابن أبي حاتم (عن محمّد بن كعب) أي القرظي كما في نسخة صحيحة وهو تابعي جليل (وربيع بن أنس) هو أيضا تابعي مشهور (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ رأيته بفؤادي ولم أره بعيني) وهذا الحديث صريح في طرفي الإثبات والنفي ولا يضر كون الحديث مرسلا لأنه حجة عند الجمهور لا سيما وقد اعتضد بما رواه ابن جرير عن محمد بن كعب عن بعض أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرفوعا وأما قول الدلجي لعله في المرة الأولى إذ قد روى ابن عباس أنه رآه مرتين فلا يقاوم الحديث من وجوه يعلمها أهله (وروى مالك بن يخامر) بضم تحتية فخاء معجمة مخففة فألف فميم مكسورة فراء لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل يقال له صحبة والأصح أنه تابعي روى عن جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف وروى عنه معاوية بن أبي سفيان وجماعة من التابعين وفي نسخة وَرَوَى مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ (عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال رأيت ربّي) فيه احتمالان إن كان في الإسراء لكن قال المزي حديث مالك بن يخامر عن معاذ مبين في بعض الروايات أنه في النوم (وذكر كلمة) أي جملة من الكلام وقال الأنطاكي من دأب السلف إذا وقع في الحديث لفظ يستعظمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 التصريح به أن يعبروا عنه بقولهم وذكر كلمة أي كلمة عظيمة (فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى الحديث) وهذا حديث جليل ولفظه طويل ونفعه جزيل فلا بد من إيراده ليقع الوقف على مراده فقد رواه أحمد وغيره عن معاذ قال صلى الله تعالى عليه وسلم صلاة الغدوة ثم أقبل علينا فقال إني سأحدثكم إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست وفي رواية فوضعت جنبي فإذا أنا بربي في أحسن صورة وهو حال منه صلى الله تعالى عليه وسلم أو من ربه ولا إشكال فيه كما قال البيضاوي إذ قد يرى النائم غير المتشكل متشكلا وعكسه ولا يعد ذلك خللا في الرؤيا ولا في خلد النائم فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ورواية المصابيح فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت أنت أعلم أي رب مرتين قال فوضع كفه وفي رواية يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي وفي رواية فوجدت برد أنامله بين ثديي فعلمت ما في السماء والأرض وفي الرواية الثانية فتجلى لي كل شيء وعرفت ما في السماء والأرض ثم تلا هذه الآية وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد قلت في الكفارات قال وما هن قلت المشي على الأقدام إلى الطاعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وفي رواية خلف الصلوات وإبلاغ الوضوء وأماكنه على المكاره وفي رواية في المكاره من يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكن من خطيئته كيوم ولدته أمه ومن الدرجات إطعام الطعام وبذل السلام وأن يقوم بالليل والناس نيام ثم قال قل اللهم إني اسألك الطيبات وترك المنكرات وفعل الخيرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي وإذا اردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون قال الأنطاكي واعلم أن من العلماء من امتنع عن الكلام في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام في أحسن صورة منهم أحمد بن حنبل روي أنه هجر أبا ثور في تأويله قوله عليه الصلاة والسلام إن الله خلق آدم على صورته ومنهم من تكلم فيه فقيل قوله (في أحسن صورة) يحتمل أن يكون حالا من الرائي وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومعناه رأيته وأنا في أحسن صورة وصفة من غاية انعامه ولطفه تعالى علي ويحمل أن يكون حالا من المرئي وهو الرب جل جلاله وصورته تعالى ذاته المخصوصة المنزهة عن المماثلة وقال الخطابي الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها وعلى معنى حقيقة الشيء وعلى معنى صفته يقال صورة هذا أمر كذا وكذا أي صفته وقال وهو المراد هنا وقال في جامع الأصول المراد أنه في أحسن صفته ثم المراد بالاختصام تقاولهم في فضل تلك الأعمال واي بفتح الهمزة بمعنى يا وقوله مرتين متعلق بقوله فقال فيم يختصم الخ أي جرى السؤال من ربي والجواب مني مرتين وقوله فوضع كفه بين كتفي كناية عن تخصيصه تعالى إياه بمزيد الفضل وإيصال الفيض إليه وإلا فلا كف ولا وضع حقيقة كما أن من عادة الملوك إذا أراد أحدهم أن يقرب بعض خدمه من نفسه ويذكر معه أحوال مملكته أن يضع يده على ظهره ويلقى ساعده على عنقه تلطفا به وتعظيما لشأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 والبرد الراحة والضمير في بردها يعود إلى الكف وأراد بقوله بين ثديي قلبه وهو كناية عن وصول ذلك الفيض إلى قلبه انتهى وهذا كله يحتاج إليه إذا صح الحديث في اليقظة والله أعلم. (وحكى عبد الرّزاق) وهو ابن همام بن رافع الحافظ الكبير الصغاني أحد الاعلام صاحب التصانيف روى عن عبيد الله بن عمرو عن الأوزاعي والثوري ومعمر وخلائق وعنه أحمد وإسحاق وابن معين وجماعة وقد وثقه غير واحد وأخرج له الأئمة الستة ونقموا عليه التشيع وهو غير ثابت فيه بل كان يحب عليا رضي الله تعالى عنه ويبغض من قاتله وقد قال سلمة بن شبيب سمعت عبد الرزاق يقول والله ما انشرح صدري قط أن أفضل عليا على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم (أنّ الحسن) أي البصري (كَانَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ) فيه احتمالان (وحكاه) أي نقل مثله (أبو عمر الطّلمنكيّ) بفتح الطاء المهملة واللام والميم فنون ساكنة فكاف مكسورة وهو الإمام الحافظ المقرئ أبو عمر بضم العين روى عنه ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما وكان رأسا في علم القراآت ذا عناية تامة بالحديث إماما في السنة توفي في ذي الحجة سنة تسع وعشرين وأربعمائة (عن عكرمة) تقدم ذكره. (وحكى بعض المتكلّمين) قال الحلبي لا أعرفه (هَذَا الْمَذْهَبَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَحَكَى ابْنُ إسحاق) أي صاحب المغازي (أَنَّ مَرْوَانَ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ هَلْ رَأَى محمّد ربّه فقال نعم) ومروان هذا ابن عبد الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي ولد سنة اثنتين ولم يصح له سماع ولا رؤية روى عن عثمان وعلي وزيد بن ثابت وروى عنه عروة ومجاهد وعلي بن الحسين دولته تسعة أشهر وأيام وتملك ابنه عبد الملك بعده اخرج لمروان الستة غير مسلم إلا أن البخاري روى حديث الحديبية عنه مقرونا بالمسور بن مخرمة. (وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ أَنَا أَقُولُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعَيْنِهِ رآه رآه) أي كرره (حتّى انقطع نفسه) بفتح الفاء (يعني نفس أحمد) أي ابن حنبل كما في نسخة صحيحة وهذا تفسير من المصنف أو غيره قال بعض الحنابلة من العلماء كلاما معناه أن أحمد لم يقل إنه رآه ليلة الإسراء وإنما رآه في النوم يعني الحديث الذي فيه رأيت ربي في أحسن صورة الحديث يعني رؤيا الأنبياء وحي (وقال أبو عمر) الظاهر أنه أراد به ابن عبد البر فإنه الفرد الأكمل الأشهر خلافا للحلبي ومن تبعه حيث قال الظاهر أنه أبو عمر المتقدم يعني الطلمنكي (قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَآهُ بِقَلْبِهِ وَجَبُنَ) بفتح الجيم وضم الموحدة وقيل تفتح أي خاف أحمد وتأخر (عن القول برؤيته بالأبصار) أي الحسية (في الدّنيا وقال سعيد بن جبير لا أقول) أي أنه (رآه ولا لم يره) وهذا يدل على غاية الاحتياط منه وعلى تعارض الأدلة عنده (وقد اختلف في تأويل الآية) أي آية ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أو قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنهم فحكي) بصيغة المجهول (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ رَآهُ بِقَلْبِهِ وَعَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَأَى جِبْرِيلَ وَحَكَى عَبْدُ الله بن أحمد بن حنبل) هو الإمام الحافظ الثبت محدث العراق روى عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 أبيه وخلائق وعنه النسائي وغيره (عن أبيه أنّه قال رآه) وقد سبق الكلام عليه من جهة مبناه ومعناه (وَعَنِ ابْنِ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْحِ: 1] قَالَ شَرَحَ صَدْرَهُ للرّؤية وشرح صدر موسى للكلام) أي إجابة لدعائه عليه الصلاة والسلام رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وما بينهما بون بين إذ الأول مراد ومطلوب للمحبوب والثاني مريد وطالب للمرغوب (وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ رضي الله تعالى عنه) كذا في النسخ والأولى أن يقال رحمه الله لأنه ليس من الصحابة (وجماعة من أصحابه أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (رأى الله تعالى ببصره وعيني رأسه) قال الحلبي هذا هو الشيخ القدوة إمام المتكلمين علي بن إسماعيل بن أبي بشر بن سالم بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى عبد الله بن قيس أبو الحسن الأشعري كان أولا معتزليا ثم ترك ذلك برؤيا رآها في نومه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان لا يتكلم في علم الكلام إلا أن يجب عليه قياما في الحق وكان حبرا عظيما لا يناضل ولا يباري قال القاضي أبو بكر الباقلاني أفضل أحوالي أن أفهم كلام أبي الحسن ولد سنة اثنتين ومائتين ومات قبل الثلاثين والثلاثمائة على الأصح قال الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين كان شافعيا تفقه على الشيخ أبي إسحاق المروزي وقال التلمساني وأبو الحسن هذا مالكي المذهب (وقال) أي الأشعري (كلّ آية) أي معجزة (أُوتِيَهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَدْ أوتي مثلها) أي حقيقة ونظيرها صورة (نبيّنا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ بِتَفْضِيلِ الرُّؤْيَةِ) أي بزيادة حصول الرؤية واللقاء ووصول الدرجة العلياء في ليلة الإسراء (ووقف) أي توقف (بعض مشايخنا) جمع مشيخة وهو القياس أو شيخ على غير قاس (في هذا) أي في ذلك كما في نسخة، (وقال ليس عليه دليل واضح) أي على ثبوت وقوعه (ولكنّه جائز أن يكون) أي وجائز أن لا يكون وهذا يحتمل أن يكون في كلام القاضي وأن يكون من كلام الأشعري. (قال القاضي أبو الفضل وفّقه الله) أي المصنف (والحقّ الذي لا امتراء) افتعال من المرية أي لا شك (فِيهِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَةٌ عقلا وليس في العقل ما يحيلها) أي شيء من توهم واحتمال يحكم باستحالتها لجزمه بجواز وقوعها فيها (وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا فِي الدُّنْيَا سُؤَالُ مُوسَى عليه السّلام لها) أي حيث قال رب أرني انظر إليك مع اعتقاده أنه تعالى يجوز أن يرى فيها فسألها (ومحال) بضم الميم أي ومن المحال (أَنْ يَجْهَلَ نَبِيٌّ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ بَلْ لَمْ يَسْأَلْ إلّا جائزا غير محال) أي غير مستحيل كما في نسخة لاستحالة سؤال الأنبياء ما يكون من المحال (ولكن وقوعه ومشاهدته) أي لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة (مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ علّمه الله تعالى) بتشديد اللام أي أطلعه إياه (فقال الله تعالى) أي لموسى أي غير ناف للجواز (لَنْ تَرانِي [الأعراف: 142] ) أي دون لن أرى المؤذن بنفيه أي المشعر بنفي جواز بل فيه ما يدل على نفي وقوعه فقط حيث قال لن تراني (أي لن تطيق) أي تحمل تجلياتي (ولا تحتمل رؤيتي) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 في الدنيا لأنها دار الفناء واللقاء إنما يكون في دار البقاء وحال الإسراء يعد من أمر الآخرة بدليل الكشوفات الذاخرة والمقامات الفاخرة المقتضية لخرق العادة في قوة بنية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم في تلك الحالة (ثمّ ضرب) أي بين (له مثلا) وفي نسخة مَثَلًا (مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْ بِنْيَةِ مُوسَى) بكسر موحدة وسكون نون فتحتية أي من تركيب بناء جسده واعضاء جسمه (وأثبت) تفسير لا قوي (وهو الجبل) أي بحسب الهيكل الصوري حيث قال وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فسوف تراني (وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُحِيلُ رُؤْيَتَهُ في الدّنيا) أي يقتضي ردها ويروى وقوعها محالا (بل فيه جوازها على الجملة) أي دليل جواز وقوعها في الجملة حيث علق وقوع رؤيته على استقرار الجبل في مكانه بعد تجلي رؤيته والتعليق بالممكن يفيد الإمكان إذ معنى التعليق هو أن يقع على تقدير وقوع المعلق عليه والمحال لا يقع على تقدير أصلا (وليس في الشّرع) أي في الكتاب والسنة (دليل قاطع على استحالتها) أي استحالة جوازها (ولا امتناعها) أي ولا دليل على امتناع وجودها (إذ كلّ موجود) أي لأنه سبحانه وتعالى موجود بل واجب الوجود وكل موجود جائز الرؤية (فرؤيته جائزة غير مستحيلة) كما قال الأشعري (ولا حجّة لمن استدلّ على منعها) أي امتناع جوازها (بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَامِ: 103] لِاخْتِلَافِ التأويلات في الآية) أي ومع الاحتمال لا يصح أن يكون حجة إذ قد قيل المراد بالإدراك الإحاطة ولا يلزم منه نفي مطلق الرؤية وقيل ليس عاما في الأوقات فيخص ببعضها ضرورة الجمع بين الأدلة ولا في أشخاص إذ هو في قوة قولك لا كل بصر يدركه فيخص ببعضهم لقوله تَعَالَى كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وقد أغرب عز الدين بن عبد السلام في قوله لا تراه الملائكة (وإذ ليس) عطف على الاختلاف وقيل على قوله كل موجود ولا يخفى بعده أي ولأنه (لا يقتضي قول من قال في الدّنيا) أي بمنعها في الدنيا (الاستحالة) أي للرؤية لأنه ليس نصا في المنع بل أخذ بتأويل واحتمال لا يقتضي الاستحالة (وقد استدلّ بعضهم بهذه الآية) أي آية لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ (نَفْسِهَا عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَعَدَمِ اسْتِحَالَتِهَا عَلَى الجملة) إذ مفهوم نفي الإحاطة جواز الرؤية (وقد قيل) أي في تأويل الآية (لا تدركه أبصار الكفّار) على أن اللام للعهد بقرينة قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (وقيل لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لا تحيط به) أي كما مر مرارا (وهو قول ابن عبّاس وقد قيل) أي في التأويلات (لا تدركه الأبصار) أي أنفسها (وإنّما يدركه المبصرون) أي بسببها وبقوة الهية فيها وهو بضم الميم وإسكان الباء وكسر الصاد قال تعالى فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ والمعنى أن الإدراك إنما يكون للمبصر بواسطة البصر لا للبصر نفسه (وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ لَا تَقْتَضِي مَنْعَ الرُّؤْيَةِ ولا استحالتها) أي بل تقتضي جوازها (وكذلك لا حجّة لهم) أي على منعها (بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَنْ تَرانِي [الْأَعْرَافِ: 142] وَقَوْلِهِ تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] لما قدّمناه) أي للتأويل الذي قدمناه وهو قوله أي لن تطيق مما يؤذن بجوازها كسؤال موسى إياها (ولأنّها) أي آية لَنْ تَرانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 (ليست على العموم) وفي نسخة من العموم أي في نفيها لجميع أفراد الإنسان في جميع الأزمان لجواز أن يراه غير موسى مما يخلق الله فيه استعدادا لها في أبانها كليلة الإسراء فإن لن لنفي المستقبل فقط ولا تفيد توكيد النفي في الاستقبال ولا تأبيده على ما عليه أهل السنة خلافا للزمخشري وأهل الاعتزال حيث يدعون أنها تفيد التوكيد أو التأبيد ورد بقوله تعالى وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً وبقوله فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا إذ يلزم تكرار الأبد وعدم فائدة التقييد باليوم (وَلِأَنَّ مَنْ قَالَ مَعْنَاهَا لَنْ تَرَانِي فِي الدّنيا إنّما هو تأويل) أي مما لا يقتضي استحالة ولا منعا فيها مطلقا لجواز اختصاص المنع فيها بموسى دون غيره على أنه قد يقال إن حالة الإسراء مما لا يعد من أحوال الدنيا بل إنما هي من مقامات العقبى أو حالة أخرى كالبرزخ (وأيضا ليس) وفي نسخة فليس (فيه) أي في قوله تعالى لَنْ تَرانِي (نصّ الامتناع) أي من الرؤية مطلها (وإنّما جاءت) أي آية لَنْ تَرانِي مفصحة بامتناعها (في حقّ موسى) أي خصوصا ولا يلزم من منع الخصوص منع العموم مع أنه قابل للتقييد بذلك المكان والزمان (وحيث تتطرّق التّأويلات) بحذف إحدى التاءين أي تردد وتتابع وتزاحم ويؤيده أنه في نسخة تتطرق ويقويه قوله (وتتسلّط الاحتمالات) عطف تفسير (فليس للقطع) أي لقطع المنع (إليه) أي إلى امتناع الرؤية (سبيل) أي طريق ودليل (وقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ) أي مأول بقولهم (أي من سؤالي) أي من الاقدام على دعائي (ما لم تقدّره لي) روي بضم التاء وفتحها وفتح القاف فلا يلائم إلا مع ضم التاء وتشديد الدال فيكون المعنى ما لم تقدره لي في الأزل وكتبته علي في سابق علمك وأما سكونها فمعناه ما لم تجعله له في قدرتي ووسعي كذا ذكره التلمساني (وقد قال أبو بكر الهذليّ) بضم هاء وفتح ذال معجمة (فِي قَوْلِهِ: لَنْ تَرانِي أَيْ لَيْسَ لِبَشَرٍ أَنْ يُطِيقَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا) أي والإسراء ليس من الدنيا بل من الأخرى (وأنّه) أي الشان (من نظر إليّ) أي في الدنيا (مات) أي في الحال بدليل صعق موسى حين رأى الجبل قال المزي ويؤيده ما في مسلم من حديث الدجال فاعلموا أنه أعور وأن الله سبحانه وتعالى ليس بأعور وأن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت (وَقَدْ رَأَيْتُ لِبَعْضِ السَّلَفِ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مَا مَعْنَاهُ أنّ رؤيته تعالى في الدّنيا ممتنعة) أي لا من حيث ذاتها لثبوت جوازها فيها كما مر الكلام عليها وإنما امتنعت فيها (لضعف تركيب أهل الدّنيا) أي بنيتهم (وقواهم) بضم القاف وتخفيف الواو أي حواسهم (وكونها متغيّرة عرضا) بفتحتين وضبطه بعضهم بفتح الغين المعجمة والراء وبالضاد المعجمة أي هدفا فالإنسان غرض والآفات سهام وفي نسخة صحيحة وكونها معرضة بتشديد الراء المفتوحة أي هدفا (للآفات) من نوائب مقلقة ونواكب للاكباد مفلقة تقتضي نقصانها (والفناء) أي مما يوجب زوالها (فلم تكن لهم قوّة على الرّؤية) أي في الدنيا (فإذا كان) أي الشأن (في الآخرة وركّبوا تركيبا آخر) أي أقوى وأبقى من الأول (ورزقوا قوى) بضم وتخفيف قاف منونا جمع قوة أي أعطوا حواس وفي نسخة قوة (ثابتة) من الثبوت وفي نسخة ثانية بالنون والباء (باقية) أي تامة وافية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 (وأتمّ) بصيغة الفاعل أو المفعول أي أكمل (ألله أنوار أبصارهم) أي الظاهرة (وقلوبهم) أي وبصائرهم الباطنة (قووا بها) بفتح قاف وضم واو وأصله قويوا فأعل بالنقل والحذف وهو جواب الشرط أي صاروا ذوي قوة في الآخرة (على الرّؤية) وهذا أمر ظاهر وقول باهر ولا غبار عليه ولا شقاق لديه إذ لا مرية أن الله تعالى يخلقهم في العقبى على خلق أكمل منهم في الدنيا من جهة جمع القوى كما جاءت الأخبار فيه في الأكل والشرب والجماع وغير ذلك فلا ينكر زيادة القوة السامعة والباصرة ونحوهما هنالك لا سيما وقد نفى الشرع إثبات الرؤية للعامة في الدنيا وأثبتها للخاصة في العقبى فلا بد من الجمع بين الأدلة كما هو دأب الأئمة وهو لا ينافي استواء القدرة الكاملة في حالتي الراهنة والمستقبلة الشاملة فاندفع قول الدلجي وهذا منهم دعوى بلا بينة إذ القادر على خلق ذلك لهم في الآخرة قادر على خلقه لهم في الدنيا فلا وجه لتخصيص ذلك بالآخرة ولا دليل عليه إذ الرؤية بمجرد خلقه غير مشروطة بشيء (وقد رأيت نحو هذا) أي مثل هذا القول المنقول عن بعض السلف بعينه (لمالك بن أنس) وهو إمام المذهب (رحمه الله قال لم ير) بصيغة المجهول أي ما يرى الله سبحانه وتعالى (في الدّنيا لأنّه) أي الله تعالى (باق ولا يرى الباقي بالفاني) أي بالحس الفاني أو بالمكان الفاني (فإذا كان) أي أمر الرؤية (في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية) أي وبصائر قوية (رئي الباقي بالباقي) وضبط الأنطاكي رئي بكسر الراء وسكون الياء ثم بهمزة على بناء المجهول (وهذا) أي الذي قاله مالك وما سبق هنالك (كلام حسن مليح) أي ومرام مستحسن صريح ولا عبرة بمنع الدلجي هذه العلة (وليس هو) أي امتناعه وفي نسخة صحيحة وليس فيه أي في امتناعه في الدنيا (دليل على الاستحالة) أي على كونه محالا في العقبى أو مطلقا أو في ذاته بل ليس امتناعه واستحالته (إلّا من حيث ضعف القدرة) أي قدرة العبد وضعف بنيته وفناء حالته وقوته (فَإِذَا قَوَّى اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شَاءَ مِنْ عباده) أي على ما شاء من مراده (وأقدره) في أصل الدلجي قدره بتشديد الدال أي وجعله قادرا (على حمل أعباء الرّؤية) بفتح الهمزة وسكون العين فموحدة بعدها ألف ممدودة جمع عبء بالكسر وهو الحمل الثقيل ومنه العباء أي تحمل اثقالها تحت تجلي جمالها وجلالها (لم تمتنع) أي الرؤية (في حقّه) أي في أي وقت كان وفي أي شخص بأن روى ابن عطاء أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى أيوب عليه السلام إنك لتنظر إلي غدا فقال يا رب أبهاتين العينين فقال أجعل لك عينين يقال لهما عينا البقاء فنتظر إلى البقاء وحكي أنه دخل على ابن الماجشون رجل ينكر حديث القيامة وأن الله يأتيهم في صورته فقال له يا بني ما تنكر من هذا فقال إن الله تعالى أعظم من أن يرى في هذه الصفة فقال يا أحمق إن الله تعالى ليس تتغير عظمته ولكن تتغير عيناك حتى تراه كيف شاء فقال الرجل أتوب إليه ورجع عما كان عليه (وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذُكِرَ فِي قُوَّةِ بَصَرِ موسى ومحمّد عليه الصلاة والسلام ونفوذ إدراكهما) بالذال المعجمة أي مضيه وبلوغه (بقوّة إلهية منحاها) بصيغة المجهول أي أعطياها (لإدراك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ما أدركاه ورؤية ما رأياه) أي في الجملة إذ رؤية موسى كانت مترتبة على النظر حين تجلى الرب على الجبل بخلاف رؤية نبينا الأكمل (والله أعلم) أي بحقيقة الحال وحقيقة المآل. (وقد ذكر القاضي أبو بكر) يعني الباقلاني لأن القاضي أبا بكر بن العربي معاصر للمصنف إذ مولده سنة ثمان وستين وأربعمائة ومماته سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ومولد المصنف سنة ست وسبعين وأربعمائة ومماته سنة أربع وأربعين وخمسمائة ذكره الشمني ونسبه بالنون على غير قياس إذ القياس أن يقال بالهمز بدله (في أثناء أجوبته عن الآيتين) أي الدالتين على نفي الرؤية وهما لا تدركه الأبصار ولن تراني (ما معناه) أي الذي مؤداه لا لفظه ومبناه (أنّ موسى عليه السّلام رأى الله تعالى) أي بواسطة تجلي ربه للجبل (فلذلك خرّ) بتشديد الراء (صعقا) بفتح فكسر ويروى بفتحتين أي سقط مغشيا عليه وإلا فالصعق بمجرد رؤية الجبل دكا بعيد في النظر السديد (وأنّ الجبل رأى ربّه فصار دكّا) أي مدكوكا مدقوقا (بإدراك) متعلق برأى (خلقه الله تعالى له) أي في الجبل كما نقله الماتريدي عن الأشعري وقال الإمام الرازي في المعلم خلق الله تعالى في الجبل حياة وعقلا وفهما وخلق فيه الرؤية فرأى بها (واستنبط) أي القاضي أبو بكر (ذلك) أي رؤيتهما زبهما (وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) أي وبقي على حاله وشأنه عند تجلي ربه (فَسَوْفَ تَرانِي [الْأَعْرَافِ: 143] ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) أي بلا كيف (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الْأَعْرَافِ: 143] وَتَجَلِّيهِ للجبل هو ظهوره له) أي ظهورا تاما بلا كيف (حتّى رآه) أي بناء (على هذا القول) أي الذي عزاه للقاضي أبي بكر (وقال جعفر) أي الصادق (بن محمّد) أي الباقر في حكمة الواسطة في الرؤية (شغله) أي سبحانه وتعالى أي موسى (بالجبل حتّى تجلّى) الأظهر حين تجلى (ولولا ذلك) أي الشغل بالجبل (لمات) أي موسى (صعقا بلا إفاقة) أي بعده مطلقا قال المصنف (وقوله هذا) أي قول جعفر (يدلّ على أنّ موسى رآه) أي رؤية بواسطة من وراء حجاب فلا ينافي قوله تعالى لَنْ تَرانِي بلا واسطة وهذا جمع سديد وقد أبعد الدلجي بقوله هنا وهذا بعيد (وقد وقع لبعض المفسّرين) أي حيث قال (في الجبل) أي في حقه (أنّه رآه) أي رأى تجلي ربه بإدراك وعلم خلقه في خلقته فاندك إذ الدك بمجرد التجلي بلا إدراك بعيد كيف وقد نقل الماتريدي عن الأشعري أن معنى التجلي أن الله تعالى خلق فيه حياة وعلما ورؤية فرآه وهذا نص منهما على اثباتها كذا ذكره الدلجي (برؤية الجبل له) أي لربه تعالى (اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِرُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّنَا لَهُ) أي الله سبحانه وتعالى (إذ جعله) أي جعل الله تعالى ما ذكر من رؤية الجبل له (دليلا على الجواز) أي للرؤية قال الدلجي ذكر الضمير نظرا لما بعده والأولى ما قدمناه مع أن المصدر يؤنث ويذكر فتدبر (ولا مرية) بكسر الميم وتضم أي ولا شك (في الجواز) أي جواز الرؤية (إذ ليس في الآيات) أي آية لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وآية لَنْ تَرانِي وآية فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي (نصّ في المنع) أي للرؤية بل هي مشيرة إلى الجواز في مقام المرام كما سبق عليه الكلام. (وأمّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وجوبها) أي وجوب وقوعها (لنبيّنا) صلى الله تعالى عليه وسلم، (والقول) أي الجزم (بأنّه رآه بعينه فليس فيه قاطع) أي من قواطع الأدلة أي على وقوع الرؤية (ولا نصّ) أي دليل صريح يعول في ثبوت وقوعه عليه (إذ المعول فيه) أي المعتمد عليه في هذا الاستدلال (على آيتي النّجم) أي قوله تعالى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (والتّنازع فيهما مأثور) أي والاختلاف في معنى الآيتين بين الأئمة في كتب التفسير والسير مذكور ومسطور (والاحتمال) أي العقلي والنقلي (لهما ممكن) أي من حيث دلالتهما على الرؤية وعدمها لعدم صراحتهما بها (وَلَا أَثَرَ قَاطِعٌ مُتَوَاتِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم بذلك) أي بكونه رآه بعينه وفي نسخة صحيحة لذلك أي لما ذكر (وحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنه) أي الذي تقدم من أنه رآه بعينه (خبر عن اعتقاده) أي الذي نشأ عن استنباطه (لم يسنده إلى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حتى يعتبر (فيجب) بالنصب (العمل) وفي نسخة العلم (باعتقاد مضمّنه) بتشديد الميم المفتوحة أي مفهومه ومضمومه من رؤية ربه بعينه (وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ) أي قوله رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ربه. (وحديث معاذ) أي رأيت ربي في أحسن صورة (محتمل) بكسر الميم (للتّأويل) أي على ما تقدم من أنه رآه بفؤاده وفي منامه (وهو) أي والحال أن حديثه (مضطرب الإسناد والمتن) أي ومن المعلوم أن اضطراب أحدهما موجب لضعف الحديث فلا يصلح للاستدلال لا سيما مع ما سبق من الاحتمال ثم اضطرابه من حيث الإسناد فإنه تارة يروي عن عبد الرحمن بن عابس الحضرمي مرسلا فإن عبد الرحمن ليس بصحابي وتارة عن معاذ ابن جبل واضطرابه من حيث المتن فإنه رواه الطبراني في كتابه بإسناده عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال احتبس علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن صلاة الغدوة حتى كادت الشمس تطلع فلما صلى الغدوة قال إني صليت الليلة ما قضى لي ووضعت جنبي في المسجد فأتاني ربي في أحسن صورة الحديث ورواه أحمد بن حنبل على هذا السياق وفيه أني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة الحديث فقد اختلف متن الحديث كما ترى وسياق الإسناد واحد والاختلاف في متن حديث واحد موجب للاضطراب. (وحديث أبي ذرّ الآخر) بالرفع على أنه صفة لحديث (مختلف) بكسر اللام أي من حيث اللفظ والمبنى (محتمل) أي من حيث المعنى (مشكل) أي حيث لا يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح أحدهما أو محتمل لأن يكون رآه ولم يره أو رآه وبعينه أو بقلبه مشكل من حيث اطلاق النور على الذات والنور بمعنى المنور من جملة الصفات (فروي) ويروى فيروى وهو حديث أبي ذر قال سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل رأيت ربك فقال (نور) أي هو نور عظيم (أنّى أراه) بهمزة مفتوحة فنون مشددة مفتوحة بمعنى كيف أي كيف يتصور أني أرى الله تعالى فإن الشيء يرى بالنور وهو إذا غشي البصر حجبه عن رؤية ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وراءه من كمال الظهور فالضمير في اراه عائد إلى الله تعالى كما صرح الإمام أبو عبد الله المازري أي كمال النور منعني عن الرؤية وتمام الظهور كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار فيمنعها من الإبصار قال الحلبي هكذا رواه جميع الرواة في جميع الأصول أي جميع أصول مسلم والروايات ومعنا حجابه النور فكيف أَرَاهُ. (وَحَكَى بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ رُوِيَ نُورَانِيٌّ) أي بفتح النون والراء بعده ألف فنون مكسورة وتحتية مشددة منونة و (أراه) بضم همزة على ما ذكره الحجازي قال المزي وهذا تصحيف والصواب الأول ويدل عليه قوله رأيت نورا وقوله حجابه النور انتهى وقال الشمني يحتمل أن يكون معناه راجعا إلى ما سبق ولا يخفى بعده وغرابته إذ الأول دال على نفي رؤيته واستبعاده والثاني على اثباته واستعداده، (وفي حديثه الآخر) أي وفي حديث آخر لأبي ذر (سألته) أي النبي صلى الله عليه وسلّم أرأيت ربك (فقال رأيت نورا) كيف أراه وفي شرح الدلجي قال المصنف وهذه الرواية لم تقع لنا ولا رأيتها في أصل من الأصول أي أصول مسلم ومحال أن يكون ذاته تعالى نورا إذ النور جسم يتعالى الله عنه ومن ثمة كان تسميته سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة نورا بمعنى ذي النور أي منوره أو منه النور كما قيل نور السماء بالشمس والقمر والنجم ونور الارض بالأنبياء والعلم وروي بالنبات والاشجار أو المراد بالنور خالقه هذا وفي تخريج أحاديث الإحياء للعراقي في كتاب المحبة قال ابن خزيمة في القلب من صحة إسناده شيء أي من حيث إن في رواية أحمد عن أبي ذر رأيته نورا أني اراه ورجالها رجال الصحيح. (وليس يمكن الاحتجاج بواحد منها) أي من حديثي أبي ذر (على صحّة الرّؤية) أي وقوعها ونفيها لتعارض معنييهما وتناقض إسناديهما (فإن كان الصّحيح) أي متنا أو إسنادا (رَأَيْتُ نُورًا فَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ ير الله تعالى. وَإِنَّمَا رَأَى نُورًا مَنَعَهُ وَحَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ الله تعالى وإلى هذا) أي إلى معنى قوله رأيت نورا (يرجع قوله نور أنّى أَرَاهُ أَيْ كَيْفَ أَرَاهُ مَعَ حِجَابِ النُّورِ المغشّى) بصيغة الفاعل مخففا أو مشددا أي المغطى (للبصر وهذا) أي حديث نوراني أراه (مثل باقي الحديث الآخر) أي من حيث المعنى (حجابه النّور) كما رواه الطيالسي عن أبي موسى الأشعري وأصله في مسلم وأوله أن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام (وفي الحديث الآخر) أي الذي رواه ابن جرير عن محمد بن كعب عن بعض الصحابة (وفي الحديث الآخر) أي الذي رواه ابن جرير عن محمد بن كعب عن بعض الصحابة (لم أره بعيني ولكن رأيته بقلبي) زيد فيه ههنا (مرّتين وتلا) أي قرأ الراوي شاهدا لصحة رؤيته ربه بقلبه (ثُمَّ دَنا) أي قرب نبينا (فَتَدَلَّى [النجم: 8] ) أي زاد في التقرب إليه سبحانه وتعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (والله تعالى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْإِدْرَاكِ الَّذِي فِي الْبَصَرِ في القلب) أي على أن يجعله في القلب (أو كيف شاء) أي بأن يخلق إدراك في السمع أو غيره وأن يخلق إدراك الرؤية السمع في البصر ونحوه (لا إله غيره) أي حتى يمانعه ويدافعه عن مراده في عباده (فإن ورد حديث نصّ بيّن) بتشديد الياء المكسورة أي ظاهر لا يحتمل تأويلا (في الباب) أي في باب الرؤية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 من ثبوتها ووقوعها (اعتقد) بصيغة المجهول وفي نسخة احتمل (وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ) أي في جواز الرؤية وحصولها (ولا مانع قطعيّ) أي من جهة شهود العقل أو ورود النقل (يردّه) أي عند المحقق (والله الموفّق للصّواب) أقول والله سبحانه وتعالى أعلم أنه يمكن الجمع بين الأدلة في هذه المسألة المشكلة بأن ما ورد مما يدل على إثبات الرؤية إنما هو باعتبار تجلي الصفات وما جاء مما يشير إلى نفي الرؤية فهو محمول على تجلي الذات إذ التجلي للشيء إنما يكون بالكشف عن حقيقته وهو محال في حق ذاته تعالى باعتبار احاطته وحياكته كما يدل عليه قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وقوله سبحانه وتعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ومما يؤيده أنه قال تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ففي ذكر الرب والجعل تلويح لما قررناه وكذا في قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ تلميح لما حررنا وكذا في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته تصريح بما قررنا والحاصل أن ما علم يقينا من معرفته في الدنيا يصير عين اليقين بها في العقبى مع أن التجليات الصفاتية الكاشفة عن الحقيقة الذاتية لا نهاية لها في المقامات الأبدية والحالات السرمدية فالسالك المنتهي في السير إلى الله تعالى يكون في الجنة أيضا سائرا في الله كما قال تعالى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى مع أنه لا نهاية لآخريته كما أنه لا بداية لأوليته فهو الأول والآخر والباطن والظاهر وهو أعلم بالظواهر والضمائر وما كشف للعارفين من الحقائق والسرائر. فصل [في فوائد متفرقة] في فوائد متفرقة مما وقع له صلى الله تعالى عليه وسلم في ليلة الإسراء (وأمّا ما ورد في هذه القصّة) أي قصة الإسراء (من مناجاته لله عز وجل) أي مكالمته سرا (وكلامه معه) جهرا أو من محادثته صلى الله تعالى عليه وسلم سبحانه وتعالى وكلام الله معه عز شأنه (بقوله) أي بدليل ما ورد من قوله تَعَالَى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى [النَّجْمُ: 11] إلى ما تضمّنتصه الأحاديث) أي ما وردت به السنة مما سيذكر في هذا المعنى (فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُوحِيَ هُوَ اللَّهُ تعالى إلى جبريل وجبريل إلى محمّد إلّا شذوذا منهم) أي إلا طائفة قليلة من المفسرين خارجة عن جمهورهم منفردة عنهم (فذكر عن جعفر بن محمّد الصّادق) صفة جعفر (قال أوحى إليه بلا واسطة) أي كما يقتضيه مقام الكرامة وحالة المباسطة (ونحوه عن الواسطيّ) أي منقول (وإلى هذا) أي قوله (ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَلَّمَ رَبَّهُ في الإسراء) أي في ليلته أو حالته (وحكي عن الأشعري) أي القول بأنه كلمه فيها (وَحَكَوْهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنْكَرَهُ) أي نفي تكليمه بلا واسطة (آخرون) وسيرد ما يردهم (وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الإسراء عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله دَنا فَتَدَلَّى أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فارقني جبريل) أي في مقام معين له كما أخبر الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 سبحانه وتعالى عن الملائكة بقوله وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وقال معتذرا لو دنوت انملة لاحترقت (فانقطعت الأصوات عنّي) أي بعد مفارقة جبريل مني وحصل الرعب والوحشة في قلبي (فسمعت كلام ربّي وهو يقول ليهدأ) بكسر لام الأمر ففتح فسكون ففتح فهمز ساكن أي ليسكن (روعك) بفتح الراء أي فزعك وإن روي بضم الراء فالمعنى ليطمئن نفسك فإني معك وأصل الروع بالضم القلب ومنه الحديث نفث جبريل في روعي فيحتمل أنه ذكره لأنه محل الروع فسمي باسم ما حل فيه أو سمي كله باسم القلب الذي فيه الروع فسمي باسم بعضه (يا محمّد ادن) بضم همزة ونون أمر من الدنو (ادن) كرر للتأكيد وإفادة زيادة القرب والتأييد فالدنو بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم دنو رتبة وقربة ومكانه لا دنو مكان ومسافة ومساحة أو المراد الدنو إلى عرشه المحيط بعلو العالم وفرشه. (وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْإِسْرَاءِ نَحْوٌ مِنْهُ) أي موقوفا عليه أو مرفوعا عنه فإن صح رفعه وكذا وقفه لأنه يعطى حكمه فلا كلام فيه مع أنه يمكن الجمع بأن ما أوحي إليه من الوحي الجلي وهو القرآن المبين فلا يكون إلا بواسطة جبريل الأمين كما قال تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وما أوحي إليه من الوحي الخفي فهو بلا واسطة أحد وبلا تقييد لغة كما هو قضية الإلهام مما لا يخفى على العلماء الأعلام ومشايخ الإسلام من هداة الأنام (وقد احتجّوا) أي الآخرون (في هذا القول) بأنه كلمه بلا واسطة بقوله تعالى وَما كانَ لِبَشَرٍ) أي لآدمي (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً) كلاما خفيا يدرك بسرعة لا بتأمل وروية وهو إما بطريق المشافهة به كما وقع لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أو على سبيل الهتف كما حصل لموسى عليه السلام في وادي الطور بطوى (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي كما وقع لسائر الأنبياء من الوحي الخفي ولبعض الأصفياء من الإلهام الجلي (أَوْ يُرْسِلَ) أي الله تعالى إلى البشر (رَسُولًا) من الملائكة (فَيُوحِيَ) إليه أي بالواسطة بأن يبلغ الملك الرسول من البشر (بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى: 51] ) أي من الإحكام والإنباء وهذا الذي ذكرناه أظهر مما ذكره المصنف بقوله (فقالوا هي) أي الآية الدالة على أنواع الكلام أو مكالمته تعالى للبشر على (ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَتَكْلِيمِ مُوسَى هذا) أي أحدها (وبارسال الملائكة) الأظهر الملك بصيغة الإفراد لأن المشهور ان جبريل هو صاحب الوحي ولعل وجه الجمع أنه ما يخلو عن صحبته جماعة من الملائكة كما يستفاد من قوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (كحال جميع الأنبياء) الأولى كحال سائر الأنبياء جميعها (وأكثر أحوال نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) وهذا هو القسم الثاني قال الواحدي المفسر في قَوْلِهِ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى الآية الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإخبار جبريل إليه عيانا وحاوره شفاها والنبي الذي تكون نبوته الهاما أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا هذا كلام الواحدي قال النووي في تهذيبه فيه نقص في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 صفة النبي فإن ظاهره أن النبوة المجردة لا تكون برسالة ملك وليس كذلك. (والثّالث قوله) أي ما أفاده (إلا وحيا) وهو وما بعده أحوال أي إلا موحيا أو مسمعا من حجاب أو مرسلا (ولم يبق من تقسيم صور الكلام) أي المنحصر في هذا المقام ثم الكلام كذا في نسخ الكرام وقال التلمساني الكلام كذا ثبت بخط القاضي المصنف وبخط العراقي المكالمة وهو الصواب بدليل قوله (إلّا المشافهة مع المشاهدة) فاختص بها نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والله سبحانه وتعالى أعلم وحاصل قوله إنه لم يبق من تقسيم صور الكلام الخ أنه ينبغي أن يحمل قوله وحيا على المشافهة مع المشاهدة إذ لم يبق من التقسيم إلا هذا (وقد قيل الوحي هنا) أي في عالم السماء أو في هذه الآية الاسمى (هو ما يلقيه) أي يقذفه الهاما (في قلب النّبيّ) أي قلب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أو النبي من الأنبياء (دون واسطة) أي من الوحي الخفي كما سبق إليه الإشارة (وقد ذكر أبو بكر البزّار) بتشديد الزاء ثم راء نسبة إلى عمل بزر الكتان زيتا بلغة البغداديين (عَنْ عَلِيٍّ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مَا هُوَ أوضح) أي أظهر وأصرح (في سماع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لكلام الله من الآية) أي من الاستدلال بمفهومها من الأقسام الثلاثة وقال الدلجي من آية فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى وهو بعيد كما لا يخفى (فذكر فيه) أي علي مرفوعا أو موقوفا يقتضي أن يكون في الحكم مرفوعا (فقال الملك) بفتح اللام (الله أكبر الله أكبر فقيل لي) فيه دلالة على أن الحديث مرفوع وفي نسخة له أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه إشارة إلى أن الحديث موقوف أو نقل بالمعنى (مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أنا أكبر، وقال) أي الله تعالى مِنْ وَراءِ حِجابٍ (في سائر كلمات الأذان مثل ذلك) أي صدق عبدي مع ما يناسب ما قبله من النداء وفيه أنه إنما يدل على كلامه بلا واسطة لا مع المشافهة والمشاهدة كما يقتضيه اقسام الآية (ويجيء الكلام في مشكل هذين الحديثين) أي حديث ابن عباس وعلي (في الفصل بعد هذا) أي الفضل (مع ما يشبهه) أي مما ورد في حديث غيرهما (وفي أوّل فصل من الباب منه) أي سيجيء الكلام على دفع إشكال المرام وضمير منه يعود إلى ما في قوله مع ما يشبهه (وكلام الله تعالى لمحمّد) عليه الصلاة والسلام (ومن اختصّه من أنبيائه) كموسى عليه السلام (جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا وَلَا وَرَدَ فِي الشّرع يمنعه) أي يمنع جوازه نقلا (فإن صحّ في ذلك خبر) أي في كلامه لغير موسى عليه السلام منهم (اعتمد عليه) بصيغة المجهول وفي نسخة احتمل عليه (وكلامه تعالى لموسى كائن) أي واقع (حقّ) أي ثابت (مقطوع به نصّ ذلك في الكتاب) أي بقوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى (وأكّده بالمصدر) أي بقوله تكليما (دلالة) بفتح الدال وتكسر أي علامة (على الحقيقة) أي ودفعا لتوهم ارادة المجاز في القضية بناء على ما ذهب إليه المحققون من أن الفعل إذا أكد بالمصدر دل على الحقيقة ولذا يقال أراد زيد إرادة لا يقال إراد الجدار إرادة لأنه لا يتصور منه حقيقة الإرادة (ورفع مكانه) أي الحسي المشعر بعلو قربه المعنوي (على ما ورد في الحديث) أي جاء التصريح في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بعض طرق الحديث الصحيح بأنه (في السّماء السّابعة) أي على ما رواه البخاري في التوحيد أن موسى في السماء السابعة وإبراهيم في السادسة ثم قال بتفضيله لكلام الله تعالى وهو موافق لما في الأصل وقيل صوابه السادسة لأن موسى فيها وإبراهيم في السابعة فالسابعة لموسى غلط ويؤيده أنه قال الحاكم تواترت الأحاديث أنه في السادسة ثم هذه الرفعة في المقام (بسبب كلامه) أي تكليم الله تعالى إياه عليه السلام (ورفع محمّدا فوق هذا كلّه) كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ (حتّى بلغ مستوى) أي مكانا مستويا لا ترى فيه عوجا ولا أمتا (وسمع صريف الأقلام) أي صوت جريانها بما تكتبه من الأقضية والأحكام (فكيف يستحيل في حقّ هذا) أي النبي عليه الصلاة والسلام (أو يبعد) أي يستغرب ويستبعد منه (سماع الكلام؟ فسبحان من اختصّ) وفي نسخة من خص (من شاء بما شاء) أي من جزيل كرمه وجميل نعمه (وجعل بعضهم فوق بعض درجات) أي في المقامات العاليات. فصل [وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَظَاهِرُ الآية من الدنو والقرب] أي في متممات هذه القصة ومكملات هذه القضية (وأمّا ما ورد في حديث الإسراء) أي أحاديث سيره إلى السماء (وَظَاهِرُ الْآيَةِ مِنَ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ مِنْ قَوْلِهِ: دَنا فَتَدَلَّى) أي حيث ظواهر الضمائر إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لا إلى جبريل كما قيل (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أي قدرهما (أَوْ أَدْنى [النجم: 8] ) أي بل أقرب وكون أو للتنويع أنسب (فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الدُّنُوَّ وَالتَّدَلِّيَ مُنْقَسِمٌ مَا بين محمّد وجبريل عليهما السّلام) إذ قد دنا كل منهما من الآخر (أو مختصّ بأحدهما) أي بأن محمدا أو جبريل دنا (من الآخر) وفيه أنه لم يكن بينهما بعد حتى يقال دنا فتدلى فتدبر قال النووي المراد بالقاب في الآية عند جميع المفسرين هو المقدار ثم اعلم أن من ذهب إلى أن الدنو والتدلي ما بين محمد وجبريل يقول المعنى دنا جبريل من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتدلى أي نزل عليه وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سأله أن يراه على صورته التي جبل عليها فقال لن نقوى على ذلك قال بلى قال فأين تشاء أن أتخيل لك قال بالأبطح قال لا يسعني قال فبمنى قال لا يسعني قال فبعرفات قال ذلك بالحرى أن يسعني فواعده فخرج النبي صلى الله عليه وسلّم للوقت فإذا جبريل قد استوى له أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح وهو بالأفق الأعلى أي في جانب المشرق في اقصى الدنيا عند مطلع الشمس فسد الأفق من المغرب فلما رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كبر وخر مغشيا فتدلى جبريل عليه السلام فنزل عليه حتى إذا دنا منه قدر قوسين أفاق فرآه في صورة الآدميين كما في سائر الأوقات فضمه إلى نفسه وقال لا تخف يا محمد فقال صلى الله تعالى عليه وسلم ما ظننت أن أحدا من خلق الله هكذا قال كيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام أن العرش لعلى كاهله وأن رجليه قد خرقنا تخوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الأرضين السفلى وأنه ليتصاغر من عظمة الله حتى يصير كالوصع يعني كالعصفور الصغير قيل ولم ير جبريل عليه السلام أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد فإنه رآه فيها مرة في الأرض ومرة في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى ذكره الأنطاكي (أو من السّدرة المنتهى) وهذا في غاية من البعد على ما لا يخفى (قال الرّازيّ وقال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما رواه ابن أبي حاتم (هُوَ مُحَمَّدٌ دَنَا فَتَدَلَّى مِنْ رَبِّهِ وَقِيلَ معنى دنا قرب) بضم الراء (وتدلّى زاد في القرب) أظن لا معنى له غيره (وقيل هما بمعنى واحد) أي جمع بينهما للتأكيد (أي قرب) غاية القرب والأول أظهر لأن التأسيس هو الأكثر ولأن زيادة المبنى تفيد زيادة المعنى وقال ابن الأعرابي تدلى إذا قرب بعد علو (وحكى مكّيّ والماوردي عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما رواه ابن جرير (هو الرّبّ دنا من محمّد) أي تجلى بوصف القرب له وأما قول الدلجي دنو علم فليس في محله إذ لا خصوصية له ولا بمقامه ثم لا معارضة بين قولي ابن عباس إذ نسبة القرب بينهما متلازمة بل إضافته إلى الرب هو الحقيقة فإنه لو لاقربه لما تصور تقربه كما حقق في قوله سبحانه وتعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (فتدلّى إليه) أي نزل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (أي أمره وحكمه) يعني على حذف مضاف أو ارتكاب مجاز والأنسب في معناه قرب الرب منه فتقرب إليه والأول يسمى قرب الفرائض والثاني قرب النوافل هكذا قرره بعض أرباب الفضائل. (وحكى النّقّاش عن الحسن) أي البصري (قال دنا) أي الرب الأمجد (من عبده محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم فتدلّى فقرب منه) أي قرب مكانه لا قرب مسافة وقرب انعام لأقرب أقدام وقرب عناية لا قرب غاية (فَأَرَاهُ مَا شَاءَ أَنْ يُرِيَهُ مِنْ قُدْرَتِهِ وعظمته) أي مما لا إطلاع لأحد على تفصيل جملته وفيه إيماء إلى تفسير قَوْلِهِ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (قال) أي الحسن أو النقاش وهو الأقرب والأنسب (وقال ابن عبّاس هو) أي مجموع قوله دَنا فَتَدَلَّى (مقدّم ومؤخّر) أي فيه تقديم وتأخير كما بينه بقوله (تدلّى الرّفرف) وهو بساط خضر من نحو الديباج وقيل ما تدلى من الأسرة من غالى الثياب والبسط وقيل هي المرافق وقيل النمارق والطنافس وقيل كل ثوب عريض وقيل هو البساط مطلقا (لمحمّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ) وفي نسخة حتى (رفع) أي بصيغة المجهول أي لربه (فدنا من ربّه) أي دنوا بالنسبة إليه (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما سبق عنه (فارقني جبريل) أي في مقام قرب الجليل وقال لو دنوت انملة لاحترقت (وانقطعت عنّي الأصوات) أي أصوات الملائكة وسائر المخلوقات (وسمعت كلام ربّي عزّ وجل) أي بجميع الحواس من جميع الجهات وهذا في المعنى هو تجلي الذات بجميع الصفات (وعن أنس في الصّحيح) أي على ما رواه شريك بن أبي نمير (عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَدَنَا الجبّار) أي القاهر لعباده على وفق مراده (ربّ العزّة) أي الغلبة والقوة في القدرة (فتدلّى) أي الجبار (حتّى كان منه) أي من سيد الأبرار (قاب قوسين) أي قدره وهو غاية القرب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 الكونين (أو أدنى) أي بل أقرب مما يوصف بالقرب للمزيد فإنه في مقام المزيد أقرب من حبل الوريد (فأوحى إليه بما شاء) أي من غير واسطة أحد من العبيد ثم التقدير في الآية مكان مسافة قربه مثل قدر قوسين عربيين وفي أنوار التنزيل والمقصود من الآية تحقيق استماعه لما يوحى إليه بنفي العبد الملبس على الخلق (وأوحى إليه خمسين صلاة) أي بأن يصلي هو والأمة في كل يوم وليلة. (ثم خففت حتى قال يا محمد هي خمس وهي خمسون) أي خمسون حقيقة أو حكما (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) في أنها خمسون في الجملة وفي رواية أنهن خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ عشر فتلك خمسون صلاة هذا الحديث في الصحيح من رواية شريك عن أنس وقد استغرب الذهبي في الميزان هذا اللفظ فقال بعد أن ذكر حديث الإسراء إلى أن قال ثم علا به فوق ذلك ما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى وهذا من غرائب الصحيح كذا ذكره الحلبي (وعن محمّد بن كعب) أي القرظي كما في نسخة (هو) أي المراد بمن في الآية (محمّد دنا من ربّه فكان قاب قوسين) أي في مقام قربه لكمال حبه ووقع في أصل الدلجي هو محمد دنا محمد فتكلف له بأن وضع الظاهر موضع المضمر لكمال العناية بذكره إلا أنه مخالف لما في الأصول. (وقال جعفر بن محمّد) أي الصادق (أدناه ربّه منه) أي غاية الدنو وهو يحتمل جعل فاعل دنا الرب أو محمدا والأول أقرب (حتّى كان منه كقاب قوسين) ما أحسن هذه العبارة من زيادة الكاف المفيدة بحسب الإشارة إلى أنه ليس مقدار قوسين في المسافة في مقام القرب المعنوي بل يشبه به باعتبار القرب الحسي كما يستفاد هذا المعنى من قوله الآتي. (وقال جعفر بن محمد) أي الصادق ولم يطلقه لئلا يشتبه بجعفر الطيار، (والدّنوّ من الله لا حدّ له) أي لا يدخل تحت حدود العبارة ولا في ضمن وجود الإشارة على وفق سائر حقائق صفاته فضلا عن حقيقة ذاته (ومن العباد بالحدود) أي والدنو من العباد لا يتصور إلا بالحدود الغائية المنتهية إلى غاية ونهاية في الشهود. (وقال) أي جعفر (أيضا) أي حال كونه معاودا منتقلا إلى معنى الكلام في الدنو ومقام المرام (انقطعت الكيفيّة عن الدّنوّ) أي عن معرفة كنهه وحقيقته (ألا ترى كيف حجب جبريل عليه السلام) بفتح الحاء أي الرب الجليل (عن دنوّه) أي دنو الخليل فكيف يطعمع غيره إلى معرفة سواء السبيل مع اختلاف القال والقيل (ودنا محمّد إلى ما أودع قلبه) بصيغة المفعول أو الفاعل (من المعرفة والإيمان) أي من كمال المعرفة وزيادة الإيمان المنتجة إلى مقام الإحسان وشهود العرفان (فتدلّى بسكون قلبه إلى ما أدناه) أي قربه إليه وأشرق بأنوار المعارف وأسرار العوارف لديه (وزال عن قلبه الشّكّ والارتياب) أي عن توهم حلول الشك حول ذلك الجناب في حصول فتح هذا الباب والله تعالى أعلم بالصواب وهذا معنى خاص في الآية على طريق الإشارة القريب إلى معنى العبارة. (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) أي المصنف (اعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ إِضَافَةِ الدُّنُوِّ والقرب هنا من الله) أي لعبده (أو إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الله) أي من عبده (فليس بدنوّ مكان) أي مسافة بل دنو عناية ومكانة (ولا قرب مدى) بفتح الميم والدال منونا أي ولا قرب غاية ونهاية تعالى الله عن الاتصال والانفصال والحلول والاتحاد وما يقوله أرباب الضلال والإضلال (بل كما ذكرنا عن جعفر بن محمّد الصّادق ليس بدنوّ حدّ) أي يحس ببصر أو يدرك بنظر (وإنّما دنوّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم من ربّه. وقربه منه) عطف تفسير (إبانة عظيم منزلته) أي إظهار عظمته ومرتبته (وتشريف رتبته) أي وإظهار شرف رتبة قربته الناشئة من نهاية محبته وغاية طاعته (وإشراق أنوار معرفته) أي بذاته وصفاته. (ومشاهدة أسرار غيبه) أي مغيباته في ملكوت أرضه وسمواته (وقدرته) أي على ما تعلقت به مشيئته من وجود مخلوقاته (ومن الله تعالى) أي من جهته سبحانه وتعالى وهو متعلق بإبانة ووقع في أصل الدلجي زيادة الواو العاطفة وهو مخالف لما في الأصول المعتبرة (له) أي سبحانه وتعالى في حق نبيه أو لنبيه في مقام قربه (مبرّة) بفتح الميم والباء وتشديد الراء بمعنى البر أي مزيد جزيل فوائده إليه وجميل عوائده عليه (وتأنيس) أي وزيادة أنس (وبسط) أي غاية انبساط (وإكرام) أي وظهور إحسان وإنعام (ويتأوّل) بصيغة المجهول (فيه) أي في دنوه سبحانه وتعالى من نبيه (ما يتأوّل في قوله) أي على ما ورد في الكتب الستة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا (ينزل ربّنا إلى سماء الدّنيا كل ليلة) أي يؤول دنوه تعالى منه بما يؤول به نزوله سبحانه وتعالى. (على أحد الوجوه) أي من أن نزوله إنما هو يكون (نزول إفضال وإجمال وقبول وإحسان) والمعنى أنه تعالى يتجلى ذلك الزمان بهذه الصفات من إفاضة الفضل وإفادة الكرم ورعاية القبول ونهاية الإحسان (قال الواسطيّ من توهّم) أي من المريدين (أنّه بنفسه) أي بحوله وقوته (دنا) أي قرب من ربه (جعل ثمه) بفتح المثلثة وتشديد الميم أي في ذلك المقام (مسافة) أي ولا مسافة في قربه للاستحالة (بل كلّ ما دنا بنفسه من الحقّ) أي بزعمه (تدلّى بعدا) أي في حقيقة أمره ونتيجة حكمه (يعني) تفسير من المصنف أو غيره أي يريد (عن درك حقيقته) بسكون الراء وفتحها أي بعد عن إدراك حقيقته وتصور حقيته إذ هو منزه عن شمول إحاطته (إذ لا دنوّ للحقّ ولا بعد) أي دنو مسافة ولا بعد مساحة وأما قوله تعالى فَإِنِّي قَرِيبٌ فتمثيل لكمال علمه وتمام فيضه وإجابته، (وقوله قاب قوسين أو أدنى) يحتمل احتمالين في المعنى (فمن جعل الضّمير) أي في دنا ويروى فإن جعل الضمير (عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل على هذا) أي يحتاج إلى تأويل وهو أنه (كان) أي الدنو (عبارة عن نهاية القرب) أي المعنوي (ولطف المحلّ) أي المقام الأنسي (وإيضاح المعرفة) من باب الافعال أو الافتعال أي وضوح المعرفة في مقام المشاهدة ويروى المنزلة بدل المعرفة (والإشراف) وفي نسخة بالقاف أي الاطلاع (على الحقيقة) أي المنزهة عن المسافة (من محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من جهته ورعايته، (وعبارة) بالنصب عطف على عبارة السابقة (عن إجابة لرغبة) أي مرغوباته (وقضاء المطالب) بأداء مطلوباته (وإظهار التّحفّي) بفتح المثناة الفوقية والحاء المهملة وتشديد الفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 المكسورة أي المبالغة في ظهور البر والإحسان أو في إظهار العلم والإيقان يقال تحفى فلان بصاحبه أي بالغ في بره وتلطفه بالسؤال عن حاله ومنه قوله تعالى إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا قال الزمخشري هو البليغ في البر (وإنافة المنزلة) أي رفعة الرتبة أو زيادتها ويروى إبانة من البيان، (والمرتبة) أي القربة (من الله له ويتأوّل فيه) أي في هذا الدنو (ما يتأوّل في قوله) أي المروي في صحيح البخاري (مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا) هذا الحديث القدسي والكلام الأنسي تمثيل لقرب معنى القرب المعنوي في لباس القرب الحسي فإنه أوقع في النفس الأنسي (ومن أتاني يمشي) أي في طاعته (أتيته هرولة) أي سبقته مسرعا بجزاء عطيته أو بتوفيق عبادته فالدنو في الآية والقرب في الحديث (قُرْبٌ بِالْإِجَابَةِ وَالْقَبُولِ، وَإِتْيَانٌ بِالْإِحْسَانِ وَتَعْجِيلِ الْمَأْمُولِ) أي وإسراع لتحصيل المسؤول لكن بين المقامين بون بين وبين القربين تباين متعين فلا تقاس الملوك بالحدادين لتفاوت مراتب المقربين ومنازل السالكين من المحبين والمحبوبين نفعنا الله ببركاتهم أجمعين. فصل [في ذكر تفضيله في القيامة بخصوص الكرامة] (في ذكر تفضيله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِيَامَةِ بِخُصُوصِ الْكَرَامَةِ حَدَّثَنَا القاضي) أي الشهيد (أبو عليّ) أي الحافظ ابن سكرة (حدّثنا أبو الفضل) أي ابن خيرون (وأبو الحسين) بالتصغير وفي نسخة أبو الحسن بفتحتين والأول هو الصواب على ما حققه الحلبي وهو المبارك بن عبد الجبار (قالا) أي كلاهما (حدثنا أبو يعلى) وهو المعروف بابن زوج الحرة (حدّثنا السّنجيّ) بكسر السين وسكون النون فجيم منسوبا (حدّثنا ابن محبوب) هذا هو أبو العباس المحبوبي راوي جامع الترمذي عنه (حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الْكُوفِيُّ) هو الطحان (حدّثنا عبد السّلام بن حرب) أي النهدي يروي عن عطاء بن السائب وغيره وعنه ابن معين ونحوه أخرج له الأئمة الستة (عن ليث) أي ابن سليم الكوفي أحد الأعلام روى عن مجاهد وطبقته ولا نعلم أنه لقي صحابيا وعنه شعبة وخلق وفيه ضعف يسير من سوء حفظه وكان ذا صلاة وصيام وعلم كثير وبعضهم احتج به (عن الرّبيع بن أنس) تقدم (عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنا أوّل النّاس خروجا) أي من القبر (إذا بعثوا) بصيغة المفعول أي أثيروا من قبورهم ونشروا (وأنا خطيبهم) أي متكلم عنهم فيما بينهم (إذا وفدوا) أي قدموا على ربهم (وأنا مبشّرهم) أي بما يسرهم (إذا أيسوا) أي قنطوا من رحمة ربهم من شدة حسابهم وهو عذابهم. (لواء الحمد) أي يومئذ كما في الجامع الصغير (بيدي) أي لإنفراده بالحمد الذي يليهم به أو لأنه يحمده الأولون والآخرون تحت لوائه كما قال آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولذا سمي مقاما محمودا وهو قيامه بالشفاعة العظمى وأصل اللواء الراية ولا يمسكها إلا صاحب الجيش وموضوع اللواء شهرة مكان الرئيس ليعتمدوا عليه ويرجعوا إليه (وأنا أكرم ولد آدم) أي هذا الجنس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 (على ربّي) أي عنده (ولا فخر) أي ولا أقول هذا فخرا من أثر عجبي بل تحدثا بنعمة ربي. (وفي رواية ابن زحر) بفتح زاي فسكون حاء مهملة فراء وهو عبيد الله بن زحر الإفريقي العابد يروي عن علي بن يزيد وابن إسحاق وطبقتهما وله مناكير ضعفه أحمد وقال النسائي لا بأس به وقد أخرج له البخاري في الأدب المفرد (عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي لَفْظِ هَذَا الحديث) لعله من طريق أخرى للمصنف غير طرق الترمذي فاندفع به قول الحلبي هذه الرواية ليست في الكتب الستة فضلا عن الترمذي وتوجيه قول الدلجي إن هذه رواية أبي نعيم في الدلائل عن ابن زحر ثم رأيت التلمساني ذكر أنه ثبت بخط القاضي وفي رواية ابن زحر والربيع بن أنس يعني بالعطف وعند العرفي عن الربيع عن أنس يعني كما في الأصل وعلى كلا الوجهين المروي عنه هو أنس بن مالك (أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا وَأَنَا قائدهم إذا وفدوا) أي مقدمهم وفي الحديث قريش قادة رادة (وأنا خطيبهم إذا أنصتوا) أي سكتوا ولم يقدروا أن يتكلموا فاعتذر لهم عما فعلوا (وأنا شفيعهم إذا حبسوا) أي وقفوا يوم القيامة فيموج بعضهم في بعض فيفزعون إلى الأنبياء فيقول كل نفسي نفسي فيأتونه فيشفع لهم الشفاعة العظمى لفصل القضاء (وأنا مبشّرهم إذا أبلسوا) بضم همز وسكون موحدة وكسر لام فسين مهملة أي يئسوا وتحيروا ومنه قوله تعالى فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ وبه سمي إبليس وكان اسمه عزازيل هكذا ذكره التلمساني وروي يئسوا بتقديم الياء على الهمزة من اليأس وروي بتقديم الهمزة على الياء من الإياس وهو قطع الرجاء. (لواء الكرم) أي الذي ترتب عليه الحمد (بيدي) أي بتصرفي وأصل اللواء العلم والراية ويجوز أن يراد به حقيقته وهو الأولى لأن الرئيس علامته اللواء ويجوز أن يكون إشارة لرفعة مقامه وظهور مرامه ويؤيد الأول ما ورد من أنه يكون يوم القيامة لكل متبوع لواء يعرف به أنه قدوة حق أو أسوة باطل وجاء في حديث عقبة بن عامر أن أول من يدخل الجنة الحمادون لله تعالى على كل حال يعقد لهم يوم القيامة لواء فيدخلون الجنة ثم قيل اللواء ما كان مستطيلا والراية ما كان مربعا والأظهر أن اللواء هو الراية العظيمة فهي أعم والله تعالى أعلم (وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فخر) أي ولا أقول فخرا بل أمتثل أمرا (ويطوف عليّ ألف خادم) أي من أفضل خدام أهل الجنة (كأنّهم لؤلؤ مكنون) أي مصون عن الغبار والصفار مثل الدر في الصدف على طراوته أو لمصان المدخر لنفاسته وفي اللؤلؤ أربع لغات الهمز فيهما وتركه وهمز الأولى مع ترك الثانية وعسكه ويسمى كباره المرجان لقوله تعالى كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ لأن المراد الحمرة والبياض والله تعالى أعلم وخلاصة المعنى أنهم في الحسن والبياض والصفاء والضياء كأنهم لؤلؤ مستور في صدقه لم تمسه الأيدي من الكن وهو الستر (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) كما روى الترمذي وصححه (وأكسى) بصيغة المجهول أي وألبس (حلّة) أي عظيمة (مَنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ العرش) تلويح بقربه من ربه وكرامته في مقام حبه (لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمُقَامَ غيري) يعني به المقام المحمود وصدر الحديث على ما في الجامع الصغير من رواية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة الحديث (وعن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه) أي الخدريّ كما في نسخة وقد رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة عنه مرفوعا (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القيامة) قيده به لظهور سيادته ووضوح رياسته مطلقا فيه لكل أحد من غير منازع ولا مدافع وفي الأصل ولا فخر هنا أيضا (وبيدي لواء الحمد ولا فخر) أي إلا بمثل هذا (وما نبيّ) وفي نسخة ولا نبي وفي نسخة صحيحة وما من نبي (يومئذ آدم) بالنصب ويجوز رفعه (فمن سواه) بكسر السين وضمها أي فمن بعده ولو كان أفضل منه كإبراهيم ونوح وموسى وعيسى عليهم السلام كما يستفاد من العطف بالفاء دون الواو (إلّا تحت لوائي) ووقع في اصل الدلجي آدم يومئذ فمن سواه فتكلف في توجيهه بقوله اعتراض بين النفي والاستثناء أفاد أن آدم بالرفع بدلا أو بيانا من محله (وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فخر) وفي الأصول هنا زيادة وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ (وعن أبي هريرة عنه) كما رواه مسلم وأبو داود (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مشفّع) بفتح الفاء المشددة أي أول مقبول في الشفاعة وإنما ذكر الثاني بإعادة أول لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني منهما قبل الأول ذكره النووي ففي البخاري يحبس المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا إلى أن قال فيأتونني فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء أن يدعني فيقول محمد ارفع وقل تسمع واشفع تشفع. (وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما) كما روى الترمذي والدارمي (أَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فخر) أي إلا بهذا قيل يعارض هذا الحديث ونحوه ما روي عنه عليه الصلاة والسلام اللواء يحمله يوم القيامة علي وأجيب بأن حديث علي هذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات قيل ولئن صح فالجواب أن عليا لما كان حاملا للواء بأمره أضاف حمله إلى نفسه والأولى أن يقال لواء علي خاص له ولأشياعه وكذا لأبي بكر وأتباعه وكذا لكل إمام وشيخ مقتدى مع تلاميذه ومريديه لما تقدم والله تعالى أعلم (وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ) أي بهذا بل لي عند الله فوق ذلك مما أفتخر به هنالك (وأنا أوّل من يحرّك حلق الجنّة) أي بابها للاذن بدخولها والحلق بفتحتين وقد تكسر حاؤه جمع حلقة (فيفتح لي) بصيغة المجهول (فأدخلها فيدخلها معي) أي من أمتي (فقراء المؤمنين) أي من المهاجرين وغيرهم على مراتبهم (ولا فخر) أي في هذا المقام إلا بالفقر وأما حديث الفقر فخري فموضوع كما صرح به الحفاط ثم الفقر قد يكون مذموما كما ورد كاد الفقر أن يكون كفرا ومنه حديث أعوذ بك من الفقر والمحمود منه إنما هو بغنى النفس كما ورد ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ونعم ما قيل: غنى النفس ما يكفيك عن سد حاجة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وقد قال الله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ والفقير الحقيقي هو الذي يرى دوام افتقاره في حال اضطراره واختياره (وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر) أي إلا بالغيبة عنهم وبالحضور مع ربهم (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) كما روى مسلم (أنا أوّل النّاس يشفع) وفي نسخة يشفع بتشديد الفاء المفتوحة (في الجنّة) أي لرفع درجات المطيعين ولدخول العصاة من المؤمنين (وأنّا أكثر النّاس) أي من الأنبياء (تبعا) ولفظه في مسلم على ما في الجامع الصغير أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة وأنا أول من يقرع باب الجنة (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) كما في الصحيحين (قال النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وتدرون لما ذلك) كأنه قيل الله ورسوله أعلم فقال أو لما علم أنهم لا يدرون ما هنالك قال (يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. وَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ) وهو إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم ليشفع لهم فيقول لست لها إلى أن قال فيأتونني فأقول أنا لها الحديث أي أنا الكائن لها والمتكفل بها ومن ثمة قيل أنت لها أحمد من بين البشر (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَطْمَعُ أَنْ أَكُونَ أَعْظَمَ الأنبياء أجرا يوم القيامة) لأنه أعظمهم في المشقة بما كلف من عموم الدعوة مع تمرد الكفرة وعتو الفجرة أو المعنى أكثرهم أجرا لكون أمته أكثرهم نفرا. (وفي حديث آخر) أي عنه أو عن غيره (أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ وَعِيسَى فِيكُمْ) أي محشورين في جملتكم (يوم القيامة) أما تخصيص إبراهيم عليه السلام فلقوله تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهذا النبي والذين آمنوا ولموافقته في كمال التوحيد في مقام التفريد كما يشير إليه قوله تعالى ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ولكونه جده ومنه جده وأما عيسى عليه السلام فلما أنه يتبعه في ملته بعد نزوله من رفعته ويدفن بعد موته في تربته (ثُمَّ قَالَ إِنَّهُمَا فِي أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أمّا إبراهيم فيقول أتت دعوتي) أي أثر إجابة دعائي حيث قلت في ندائي رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ (وذرّيتي) أي وأنت من ذريتي المذكورة في دعوتي أيضا بقولي رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ الآية ولا نزاع أنه من نسل ولده إسماعيل وأنه لم يبعث منهم بني سواه فهو المجاب به دعوته (وأمّا عيسى عليه السلام فالأنبياء) أي جميعهم (أخوة) أي أولاد أب واحد حقيقة وكذا حكما لاتفاقهم فيما بعثوا لأجله من توحيد وإيمان بما يجب تصديقه ودعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى نظام معاشهم وتمام مرادهم في معادهم فتساويهم في أصولهم اعتقادا كان لهم واحد ولتفاوتهم واختلافهم في بعض فروعهم عملا (بنو علّات) بفتح عين مهملة وتشديد لام أي أولاد أمهات مختلفات وأبوهم واحد وبنو الاخياف لمن أمهم واحدة والآباء مختلفون وبنو الاعيان لمن أمهم واحدة وكذا أبوهم واحد كما بينه بقوله (أمّهاتهم شتّى) بفتح شين وتشديد تاء شتيت جمع كمرضى جمع مريض أي متفرقات في نسبة الولادات التي يتولد منها الاختلافات، (وإنّ عيسى أخي) أي بالخصوص من حيث إنه بشر بي قبلي وقام بديني بعدي ويروى وأن عيسى (ليس بيني وبينه نبيّ) ففيه كمال اتصال له بي وكأنه جار لي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 مقامي. (وأنا) ويروى فأنا (أولى النّاس به) أي أحقهم ببره أو أخصهم باتصاله بي وقد روى البخاري ومسلم وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة الأنبياء بنو علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وليس بيننا نبي وأما ما ذكره في مستدرك الحاكم من أن فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام بعض الأنبياء كخالد بن سنان فأسانيده لا تقاوم الصحيح وعلى فرض صحته يقال المعنى ليس بيننا نبي مرسل. (قوله) صلى الله تعالى عليه وسلم أي في الحديث السابق (أنا سيّد النّاس) وفي نسخة ولد آدم (يوم القيامة) أتى بقيده ليفيد ظهوره كقوله تعالى وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ومالِكِ يَوْمِ الدِّينِ والْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ (هو سيّدهم في الدّنيا ويوم القيامة) أي وما بعده من العقبى (ولكن أشار صلى الله تعالى عليه وسلم لانفراده) أي إلى اختصاصه (فيه بالسّؤدد) بضم السين وسكون الواو وفتح الدال الأولى (والشّفاعة) أي العظمى (دُونَ غَيْرِهِ إِذْ لَجَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي ذلك) تحتمل إذ ان تكون تعليلية وأن تكون حينية ظرفية (فلم يجدوا سواه) أي ملجأ وملاذا يعتمدون عليه. (وَالسَّيِّدُ هُوَ الَّذِي يَلْجَأُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي حوائجهم) أي في فضائها (فكان حينئذ) أي وقت يلجأون إليه ويتضرعون لديه (سَيِّدًا مُنْفَرِدًا مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ، لَمْ يُزَاحِمْهُ أحد في ذلك) أي ممن استحق السيادة (ولا ادّعاه) أي أحد ممن لا يستحقها وهذا منه صلى الله تعالى عليه وسلم (كما قال تعالى) أي يوم القيامة (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فلا يجيبه أحد من هول ذلك المشهد فيجيب نفسه بقوله بعد (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِرٍ: 16] وَالْمُلْكُ لَهُ تَعَالَى) أي والحال أن حقيقة الأمر ناطقة بأنه له الملك (في الدّنيا والآخرة لكن في الآخرة) لكون زوال أسبابه وارتفاع وسائطه (انقطعت دعوى المدّعين لذلك) أي للملك أو الملك في الجملة (في الدّنيا) أي لغفلتهم عن أنعت المولى (وكذلك لجأ إلى محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم جميع النّاس في الشّفاعة) أي ليريحهم من هول تلك الساعة (فكان سيّدهم في الأخرى دون دعوى) أي من أحد كان يدعي السيادة في الدنيا، (وعن أنس رضي الله عنه) كما في مسلم (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آتي) بمد الهمزة أي أجيء (باب الجنّة يوم القيامة فأستفتح) أي فأطلب فتحها لأدخلها (فيقول الخازن) أي رضوان (من أنت) قيل واسم خازن النار مالك وناسب كل اسم ما وكل عليه فالجنة دار الكرامة والرضى فناسب رضوان والنار دار المشقة والعذاب والشدة فناسب مالك كذا ذكره التلمساني ولا يبعد أن يقال لأن الجنة إنما تحصل بالرضى عن المولى والنار إنما تنشأ عن طلب الملك والملك في الدنيا (فأقول محمّد فيقول بك) أي بسببك (أمرت أنه لا أفتح لأحد قبلك) أو أمرت أن افتح لك حال كوني لا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ. (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو) أي ابن العاص كما في الصحيحين (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حوضي) أي مسافته أو دورته ومساحته (مسيرة شهر) أي قدر سير شهر (وزواياه) بفتح الزاء جمع زواية أي نواحيه (سواء) بفتح السين ممدودا أي مستوية أي لتربيع أرضه لا يزيد طوله على عرضه قيل أركانه أربعة وسقاته أربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فمن أبغض واحدا لم يسقه الآخرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وأورد التلمساني حديثا في هذا المعنى ولكن الله تعالى أعلم بصحة المبنى (وماؤه أبيض) أفعل تفضيل وهو حجة للكوفي على البصري أي أشد بياضا (من الورق) بكسر الراء وسكونها وحكي كسر الواو وسكون الراء ونسب إلى الفراء وحكي فتحهما الصغاني وادعى أنه قرئ بها في قوله تعالى بِوَرِقِكُمْ أي الفضة أو الدراهم المضروبة وفي نسخة من اللبن بدل من الورق والأول هو المذكور في جميع نسخ صحيح مسلم والثاني وقع وفي نسخة المصابيح والجمع بتعدد الرواية (وريحه أطيب من المسك) أي من ريحه وفي تخصيصه إيماء إلى أنه أفضل نوع من جنس الطيب (كيزانه) جمع كوز (كنجوم السّماء) أي كثرة وإضاءة وهي من ذهب وفضة كما في رواية ثم قيل المراد به الكثرة لا عددها على الحقيقة والصواب ما قاله النووي من أن العدد على ظاهره ولا مانع شرعا ولا عقلا مما ثبت نقلا لا سيما وقد ورد مؤكدا بالقسم في حديث والذي نفسي بيده لأكثر من عدد نجوم السماء (من شرب منه لم يظمأ) أي لم يعطش (أبدا) أي بعده وفيه إشكال سيذكر في آخر الفصل حله (وعن أبي ذرّ نحوه) أي على ما رواه مسلم. (وقال) أي أبو ذر في حديثه هذا (طوله ما بين عمان) بضم العين وتخفيف الميم من قرى اليمن وبفتح العين وتشديد الميم من قرى الشام بالبلقاء من أقصى حوران والمعروف أنه غير مصروف والمعنى أن مسافة ما بين طرفيه طولا مثل المسافة منها (إلى أيلة) بهمزة مفتوحة وتحتية ساكنة قرية في آخر طرف الشام بساحل البحر متوسطة بين المدينة ودمشق وثمان مراحل بينها وبين مصر قيل هي التي قال الله تعالى وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ هذا وقد قال ابن قرقول عمان التي في الحوض رويناه بفتح العين وتشديد الميم وهي قرية بالشام من عمل دمشق وكذا قاله الخطابي وحكي أيضا فيه تخفيف الميم وفي الترمذي من عدن إلى عمان البلقاء والبلقاء بالشام قاله البكري ويقال فيه أيضا عمان بالضم والتخفيف وزعموا انه المراد بالحديث لذكره مع أيله جرباء وأذرع والكل من قرى الشام وأما عمان التي ببلاد اليمن فبالضم والتخفيف لا غير ووقع في كتاب ابن أبي شيبة ما يدل على أنها المراد في حديث الحوض لقوله ما بين بصرى وصنعاء اليمن ومثله في البخاري وفي مسلم وعرضه من مقامي إلى عمان بالفتح والتشديد عند الصدفي وعند غيره بالضم والتخفيف وقال ابن الأثير حديث الحوض من مقامي إلى عمان هي بفتح العين وتشديد الميم مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء فأما بالضم والتخفيف فهو صقع عند البحرين وله ذكر في الحديث وقال السهيلي بالضم والتخفيف قرية باليمن سميت بعمان بن سنان من ولد إبراهيم فيما ذكروا وبالفتح والتشديد قرية بالشام قرب دمشق سميت بعمان بن لوط بن هاران كان يسكنها فيما ذكروا وقال الحافظ المزي يتعين الضم والتخفيف فإن في الحديث الآخر أيلة وصنعاء (يشخب) بفتح الخاء وضمها من شخب اللبن كمنع ونصر أي يسيل سيلانا شديدا متواليا وقيل يصب بصوت وفي رواية يغت بغين معجمة وتاء مثناة ومعناه اتباع الصب وروي يعب بعين مهملة وباء موحدة ومعناه الشرب بسرعة في نفس واحد وفي رواية ابن ماهان يثعب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 بثاء مثلثة وعين مهملة وباء موحدة ومعناه يتفجر (فيه) أي في ذلك الحوض (ميزابان) بكسر الميم وسكون الياء وقد يهمز إذ أصله الهمز وقد يشدد تثنية ميزاب وهو مثعب الماء أي الجدول الذي يجري منه الماء إلى الحوض لكن في التعبير عنه بالميزاب إشعار بأن أرض الموقف في أسفل (من الجنّة) أي من أنهارها. (وعن ثوبان مثله، وقال) أي ثوبان في روايته فيما رواه مسلم (أحدهما من ذهب. والآخر من ورق) أي فضة وإنما نوع للزينة كما في الحلي المرصعة والعمارات المزخرفة، (وفي رواية حارثة بن وهب) أي فيما رواه الشيخان عنه وهو بالحاء المهملة وبعد الراء ثاء مثلثة خزاعي له صحبة وهو أخو عبد الله بن عمر بن الخطاب لأمه: (كما بين المدينة وصنعاء) بفتح الصاد وسكون النون ممدودة قاعدة اليمن ومدينته العظمى وهي من عجائب الدنيا كما قال الشافعي وأما صنعاء الروم فقرية في ناحية ربوة دمشق والله تعالى أعلم (وَقَالَ أَنَسٌ: أَيْلَةُ وَصَنْعَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) أي فيما رواه الشيخان عنه (كما بين الكوفة والحجر الأسود) واختلاف الروايات يدل على أن المراد كثرة طوله وإنما ورد تقديره تمثيلا لكل أحد بحسب بعده وتقريبا لفهمه. (وروى حديث الحوض أيضا أنس) كما في الصحيحين (وجابر بن سمرة) فيما رواه مسلم وفي نسخة وجابر وسمرة فعلى تقدير صحته فقد روى جابر بن عبد الله حديثا في الحوض وهو في مسند أحمد وأما سمرة فلم يعرف حديثه فالصواب هو النسخة الأولى، (وابن عمر) كما رواه الشيخان وأبو داود (وعقبة بن عامر) كما رواه مسلم وغيره (وحارثة بن وهب الخزاعيّ) بضم أوله كما رواه البخاري والترمذي (والمستورد) بصيغة الفاعل على ما رواه الشيخان وهو ابن شداد بالشين المعجمة كما أفاده الحلبي (وأبو برزة) بفتح الموحدة وبتقديم الراء على الزاي (الأسلميّ) فيما رواه أبو داود وابن حبان والبيهقي (وحذيفة بن اليمان) كما رواه مسلم وغيره (وأبو أمامة) على ما رواه ابن حبان والبيهقي وهو صدي بن عجلان على ما هو الظاهر وإلا ففي الصحابة خمسة يقال لهم أبو أمامة (وزيد بن أرقم) فيما رواه أحمد بن حنبل والبيهقي (وابن مسعود) كما رواه الشيخان (وعبد الله بن زيد) كما في الصحيحين (وسهل بن سعد) بروايتهما أيضا (وسويد) بالتصغير (ابن جبلة) بفتح الجيم والموحدة تابعي وقيل صحابي فكان ينبغي تأخيره عمن اتفق على صحبته رواه عنه البيهقي وأبو زرعة الدمشقي في مسند أهل الشام ووقع في أصل الحلبي هنا زيادة قوله وابن بريدة وتفرع له اعتراض على المصنف لكنه مخالف لما في النسخ المصححة هذا وفي حاشية قال الصواب سويد بن غفلة بفتح الغين المعجمة والفاء وهو مخضرم عاش مائة وعشرين سنة ومات عام الفيل كذا في الأصل ولعله تصحيف وصوابه ولد عام الفيل (وأبو سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه) فيما رواه مسلم (وعبد الله الصّنابحيّ) بضم الصاد المهملة فنون بعده ألف فموحدة مكسورة فحاء مهملة فياء نسبة قيل هو صحابي نسب إلى جده صنابح رواه أحمد وابن ماجة عنه (وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه) كما في الصحيحين (والبراء) بفتح الباء وتخفيف الراء أي ابن عازب كما في نسخة رواه أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 والطبراني عنه (وجندب) بضم الجيم والدال ويفتح رواه الشيخان عنه وهو عبد الله بن سفيان البجلي وإلا ففي الصحابة من يقال له جندب غيره أثنا عشر قال ابن الأثير متى أطلق اسم جندب من غير ذكر أبيه فهو جندب بن عبد الله هذا وإلا فاسم أبي ذر الغفاري جندب بن جنادة الغفاري مشهور بكنيته (وعائشة) كما في مسلم (وأسماء بنتا أبي بكر رضي الله تعالى عنه) على في الصحيحين (وأبو بكرة) أي السقفي راه الطبراني واسمه نفيع مصغرا وهو ممن اعتزل يوم الجمل ولم يقاتل مع أحد من الفريقين وكان يقول أنا مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال السهيلي وقد تدلى من سور الطائف على بكرة فتسمى أبا بكرة وهو من أفاضل الصحابة (وخولة) بفتح الخاء المعجمة (بنت قيس) كما رواه أحمد وغيره عنها وهي انصارية نجارية زوج حمزة بن عبد المطلب (وغيرهم رضي الله عنهم) كأبي بكر الصديق في صحيح أبي عوانة والبيهقي وعمر للبيهقي في البعث وأبي بن كعب وأسامة بن زيد وحذيفة بن أسيد بفتح فكسر والحسن بن علي وسلمان الفارسي وسمرة بن جندب وأبي الدرداء وأبي معوذ كلهم في الطبراني وأسيد بن حضير في الصحيحين وابن عباس في البخاري وأم سليم في مسلم وجابر بن عبد الله وعائد بن عمرو وثابت بن أرقم وخولة بنت حكيم رواه أحمد في مسنده عنهم ولقيط بن صبرة في زيادات المسند وخباب بن الأرت في المستدرك وكعب بن عجرة في الترمذي والنسائي وبريدة في مسند البزار وعتبة بن عبيد والعرباض بن سارية في صحيح ابن حبان والنواس بن سمعان في كتاب ابن أبي الدنيا وعثمان بن مظعون في تاريخ ابن كثير وعبد الرحمن بن عوف في الطبراني ومعاذ بن جبل في حادي الأرواح ذكره الدلجي وقال زعم المصنف تواتر حديث الحوض والظاهر أن تواتره معنوي لا لفظي لقول ابن الصلاح وغيره لا يكاد يوجد شرط هذا وفي نسخة بعد قوله وسويد بن جبلة وأبو بكر وعمر وابن بريدة ونقل عن ابن جبير أن هذه الزيادة وقعت في طرة الأم بخط المؤلف بغير علامة يخرج إليها ثم ابن بريدة قال الحلبي هو تابعي فحديثه مرسل قلت المرسل حجة عند الجمهور فكيف إذا كان مع جمع حديثهم مشهور هذا وممن روى حديثا في الحوض ولم يذكره القاضي خولة بنت حكم وعبد الله بن عباس أخرجهما أحمد في مسنده كما ذكره الحلبي وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب البعث والنشور بأسانيده وطرقه المتكاثرات واختلف في أن الحوض هل هو قبل الصراط أو بعده أو له حوضان أحدهما بعده والآخر قبله والله تعالى أعلم هذا وقد قال المصنف ظاهر الحديث أن الشرب من الحوض يكون بعد الحساب والنجاة من النار فهذا هو الذي لا يظمأ بعده قال وقيل لا يشرب منه إلا من قدر له السلامة من النار قال ويحتمل أن من شرب من هذه الأمة وقدر عليه الدخول لا يعذب فيها بالظمأ بل يكون عذابه بغير ذلك لأن ظاهره الحديث أن جميع الأمة تشرب منه إلا من ارتد ومات كافرا قال وقيل إن جميع المؤمنين يأخذون كتبهم بإيمانهم ثم يعذب الله من يشاء من عصاتهم وقيل إنما يأخذ بيمينه الناجون خاصة قال وهذا مثله والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 فصل [في تفضيله بالمحبة والخلة] (في تفصيله بالمحبّة والخلّة) بضم المعجمة وتشديد اللام وسبق فيهما الكلام وسيأتي ما يتحقق به المرام في هذا المقام (جاءت بذلك) أي بتفصيل تفضيله (الآثار الصّحيحة) أي من الأخبار الصريحة (واختصّ بصيغة المفعول أو الفاعل (صلى الله تعالى عليه وسلم على ألسنة المسلمين بحبيب الله) يعني وألسنة الخلق أقلام الحق لا سيما وهذه الأمة لا تجتمع على الضلالة مع كونه جاء صريحا في بعض الأحاديث بأنه حبيب الله. (أنا) أي أخبرنا (أبو القاسم بن إبراهيم الخطيب) هو الإمام المقري يعرف بابن النخاس بالخاء المعجمة المشددة (وغيره) أي وغير أبي القاسم أيضا من المشايخ (عن كريمة) بفتح الكاف وكسر الراء هي الحرة الزاهدة (بنت أحمد) أي ابن محمد بن حاتم المروزي سمعت جامع البخاري من الكشميهني وسمعت زاهد بن أحمد السرخسي وحدثت كثيرا وكانت مجاورة بمكة إلى أن ماتت رحمها الله كذا ذكره الأمير في إكماله على ما نقله الحلبي فما في بعض النسخ بنت محمد غير صحيح (ثنا) أي حدثنا (أبو الهيثم) أي الكشميهني (وحدّثنا) بالواو الدالة على تحويل السند وفي أصل الحلبي وأخبرنا (حسين بن محمّد الحافظ سماعا عليه) هو ابن سكرة. (حدّثنا القاضي أبو الوليد) أي الباجي (حدّثنا عبد بن أحمد) بالوصف لا بالإضافة هو أبو ذر الهروي (حدّثنا أبو الهيثم) أي الكشميهني (حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) أي الفربري (حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري (حدّثنا عبد الله بن محمّد) الظاهر أنه المسندي ومستنداته أنه من طلبة أبي عامر وإلا فقد روى البخاري عن أربعة كل منهم اسمه عبد الله بن محمد على ما ذكره الحلبي وقال الكلاباذي هو عبد الله بن محمد بن جعفر بن السمان أبو جعفر المعروف بالمسندي لأنه كان وقت طلبه يتتبع الأحاديث المسندة ولا يرغب في المقاطيع والمراسيل (حدّثنا أبو عامر) أي عبد الملك بن عمرو بن قيس أي العقدي بفتح العين والقاف بصري أخرج له الستة (حدّثنا فليح) بضم الفاء وفتح اللام فمثناة تحتية ساكنة فحاء مهملة ابن سليمان العدوي مولاهم المدني واسمه عبد الملك ولقبه فليح محتج به في الصحيحين وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي ليس بالقوي اخرج له الأئمة الستة (حدّثنا أبو النّضر) بالضاد المعجمة هو سالم بن أبي أمية المدني التابعي (عن بسر) بضم موحدة وسكون سين مهملة (بن سعيد) أي ابن الحضرمي المدني الزاهد مات ولم يخلف كفنا (عن أبي سعيد) أي الخدري (عن النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خليلا غير ربّي لاتّخذت أبا بكر) أي خليلا والمعنى جعلته مخصوصا بالصداقة والمحبة وهو فعيل من الخلة بالضم وهي الصداقة التي تتخلل باطن القلب فالخليل الصديق الواد فعيل بمعنى الفاعل كما في هذا الحديث وإنما قال ذلك لقصر خلته على حب ربه وربما ورد بمعنى مفعول وهو المناسب لقوله. (وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ) كما سيأتي مصرحا في حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 ابن مسعود وربما يفرق بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين إبراهيم عليه السلام بهذا التغاير في المعنى مع الاشتراك في المبنى والحديث الأول رواه البخاري في فضل أبي بكر وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي أيضا (وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما) كما رواه الدارمي والترمذي عنه، (قال جلس ناس) أي جمع (من أصحاب النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ينتظرونه) أي خروجه إليهم ووصوله لديهم رجاء إنزال فيضه عليهم. (قال فخرج) أي من مقامه متوجها لهم (حتّى إذا دنا منهم) أي قرب (سمعهم) وفي رواية فخرج سمعهم أي حال كونه قد سمعهم (يتذاكرون) أي متذاكرين كلاما فيما بينهم (فسمع حديثهم) أي فحققه وفهمه (فقال: بعضهم عجبا) أي تعجبا (إنّ الله) بالكسر أو تعجب عجبا أن الله بالفتح (اتّخذ إبراهيم من خلقه خليلا) أي كما أخبره تعالى وقد سقط لفظ إبراهيم من أصل الدلجي فقال يريد إبراهيم عليه السلام، (وقال آخر) أي بعض أو صحابي آخر (ماذا) أي ليس هذا وهو اتخاذ الله إبراهيم خليلا (بِأَعْجَبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا) أي كما أخبر تعالى، (وقال آخر فعيسى كلمة الله وروحه) الفاء فصيحة أي إذا ذكرتم خليل الله وكليمه في مقام الافتخار فاذكروا عيسى فإنه كلمة الله خلقه بأمركن من غير أب أو إضافته للتشريف أي كلمته مقبولة عنده سبحانه ودعوته مستجابة لديه وهو روح مجرد من عند ربه نفخ فيه بغير واسطة أو رحمة منه، (وقال آخر آدم اصطفاه الله) في أصل خلقته من غير واسطة من أب وأم في فطرته وجعله أبا البشر وجد الأنبياء والاصفياء وذكره في كتابه بوصف الاجتباء وحاصل كلامهم أنه يتوهم من هذه الأوصاف لهم أنهم أفضل من نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم حيث ما بلغهم صريحا أنه اختص ببعض المقامات العاليات كما يشير إليه قوله تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ (فخرج عليهم) أي وصل إليهم (فسلّم) فتكراره ليناط به غير ما نيط به أولا أو خرج أولا من مكان إلى آخر فسمع قولهم مارا ثم خرج منه وسلم عليهم (وقال: «قد سمعت كلامكم) أي في تخصيص بعض الرسل ببعض الفضائل (وعجبكم) أي وإظهار تعجبكم باختصاصهم ببعض الشمائل كما بينه قوله (بأنّ الله) الخ وتكلف الدلجي حيث قدر له عاملا بقوله أي أدركت عجبكم وجعله من قبيل قلدته سيفا ورمحا وعلفتها تبنا وماء باردا وتبعه الأنطاكي ورأيت بخط قطب الدين عيسى الصفوي أنه لا حاجة إلى هذا التكلف فإن المراد سماع ما يدل على تعجبهم هذا وفي نسخة صحيحة إن الله وهي بكسر الهمز أو بفتحه (اتّخذ إبراهيم خليلا، وهو كذلك) أي خليله أو اتخاذه محقق (وموسى نجيّ الله) أي كما قال الله تعالى وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا من المناجاة وهي المكالمة سرا (وهو كذلك) أي نجيه أو أمره كذلك، (وعيسى روح الله وهو كذلك) أي ذو روح منه خلقه بلا واسطة أب (وآدم اصطفاه الله) أي اجتباه (وهو كذلك) بمعنى صفيه بالنبوة والرسالة كما قال الله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ (ألا) أي تنبهوا لخصائصي مع اشتراكي معهم في الاصطفاء كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 قال (وأنا حبيب الله) بمعنى محبوبه الذي هو أخص من كل مرتبة ومقام عند ربه (ولا فخر) أي ولا أقوله فخرا بل تحدثا بنعمته شكرا (وأنا حامل لواء الحمد) كما قال في حديث آخر وآدم ومن دونه تحت لوائي (يوم القيامة) أي في المحشر الأكبر في المقام المحمود الذي يحمده الأولون والآخرون (ولا فخر) أي إلا بقربي لربي (وأنا أوّل شافع) أي في الشفاعة العظمى أي كل مرتبة من مراتب الشفاعات الحسنى (وأوّل مشفّع) أي مقبول الشفاعة (ولا فخر) أي بالنسبة إلى ما لي من الذخر، (وأنا أوّل من يحرّك حلق الجنّة) بفتح الحاء واللام وبكسر أوله أي حلق بابها (فيفتح الله لي) أي بأمره لرضوان الجنة بأن يفتح لي كما في رواية (فيدخلنيها) أي الله بفضله وكرمه كما قال إلا أن يتغمدني الله برحمته (ومعي فقراء المؤمنين) أي بعمومهم على تفاوت مراتبهم مقدمون على أغنيائهم على اختلاف أحوالهم وهو لا ينافي ما ورد بلفظ ومعي فقراء المهاجرين لأنهم أفضل فقراء المؤمنين ووقع في أصل الدلجي ما يخالف الأصول المعتبرة (ولا فخر) أي بهذا أيضا لأنه ورد في الحديث القدسي والكلام الأنسي أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (وأنا أكرم الأوّلين والآخرين) أي من الخلائق أجمعين وهذا فذلكة الكلام ونتيجة المرام (ولا فخر) أي في هذا المقام أيضا إذ الفناء عن السوي والبقاء في حضرة اللقاء هو المقام الأسنى والحاله الحسنى (وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي من أحاديث الاسراء (من قول الله تعالى) وفي نسخة في قول الله أي في جملة قوله سبحانه وتعالى (لنبيّه صلى الله تعالى عليه وسلم إنّي اتّخذتك خليلا) أي كما اتخذت إبراهيم فجمع له بين كونه خليلا وحبيبا فله في المزية زيادة مرتبة المحبوبية كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أي يحصل لكم حظ من المنزلة المحبوبية بواسطة المتابعة المطلوبية ويؤيده قوله (فهو مكتوب في التّوراة ليس) كذا في نسخة صحيحة من غير ضبط على هذه الصورة وهي ألف بعدها سين مهملة ثم جرة وفي بعض النسخ مكتوب بإزائها على الطرة ذكر ابن جبير بخطه في كتابه أن هذه اللفظة وقعت في الأم المبيضة بخط المؤلف كما هي هنا مبهمة فحكيتها كما وقعت ذكره الشمني ولا يبعد أن يكون بالتاء الفوقية في آخر الكلمة وهي للربط في الجملة بالفارسية وفي نسخة ضبط بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وضم الموحدة وقيل بفتح الهمزة وسكون السين وضم المثناة فوق ولعلها كلمة سريانية بقرينة ذكرها في التوراة أي أنت كما في نسخة (حبيب الرّحمن) وفي نسخة أحمد حبيب الرحمن ولعله مدلولها هذا وقد قال الأنطاكي كذا وقع في النسخ خليلا ولعله مصحف فقد تقدم حديث أبي هريرة هذا في فصل ذكر تفصيله عليه الصلاة والسلام بما تضمنته كرامة الإسراء ولفظ الحديث هنالك قد اتخذتك حبيبا قال وأيضا لفظ الحبيب هنا أنسب بآخر الحديث وهو قوله أنت محمد حبيب الرحمن قال ثم إني وقفت على نسخة قديمة قد كان اللفظ فيها أولا إني اتخذتك حبيبا ثم غيرته أيدي التحريف فصيرته خليلا وعلامة الإهمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 تحت الخاء كانت باقية فيها بعد والله يعلم المفسد من المصلح قلت حمل جميع النسخ على التصحيف بعيد عن صوب الصواب وميل إلى التحريف لا سيما والنسخة القديمة أيضا ظهرت سقيمة وصحت سلمية هذا من جهة المبنى وأما من حيثية المعنى فلا شك أن التأسيس أولى من التأكيد مع ما في مغايرة العبارة من الإشارة إلى الجمع بين النعتين الجليلين والوصفين الجميلين ثم الظاهر أن هذا رواية أخرى عن أبي هريرة لمغايرة الفاظهما في المحلين من الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) كذا في الأصول المعتبرة ووقع في أصل الدلجي هنا فصل (اختلف) بصيغة المجهول وفي نسخة اختلفوا (في تفسير الخلّة) بالضم (وَأَصْلِ اشْتِقَاقِهَا فَقِيلَ الْخَلِيلُ الْمُنْقَطِعُ إِلَى اللَّهِ) أي المعرض عما سواه يزيادة نعته بأنه (الَّذِي لَيْسَ فِي انْقِطَاعِهِ إِلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ اختلال) أي نقص وخلل لديه فعليه اشتقاقه من الخلال وهو وسط الشيء فإن الود يتخلل النفس ويخالطها بحيث لا يختل بحصول خلل فيه حال خلاله وفي هذا المعنى قوله تعالى وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا وقوله سبحانه وتعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ (وقيل الخليل المختصّ) أي بوصف الخلة سواء كان مشتقا من الخلة بضم الخاء كما سبق أو من الخلة بالفتح بمعنى الفقر والحاجة من الخل إذ كل خليل محتاج إلى أن يسد خلل خليله وفي الحديث اللهم ساد الخلة أي الحاجة والفاقة أو من الخلة بمعنى الخصلة فإنهما يتوافقان في الخصال كما ورد المرء على دين خليله وقيل هو المختص بخلافة مولاه والذي اختصه الله تعالى فجعله من خلاصة عباده وسلالة عباده ولكن لا يظهر وجه الاشتقاق في هذين القولين وإن كان الدلجي ذكرهما واقتصر عليهما ثم رأيت الأنطاكي قال المختص يعني بالصداقة والمحبة يقال دعا فلان فخلل أي خص (واختار هذا القول) أي الأخير (غير واحد) أي كثير من الأخيار، (وقال بعضهم أصل الخلّة) بالضم (الاستصفاء) أي الاختيار من الصفوة أو الصفاء أي يختار كل خليل رضى خليله أو يصفو معه في كل حالة كخليله (وَسُمِّيَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلَ اللَّهِ لِأَنَّهُ يُوَالِي فِيهِ ويعادي فيه) أي يحب في الله ويبغض في الله أو لابتغاء رضاه ليس له غرض سواه ففي البخاري الحب في الله والبغض في الله من الإيمان أي من كماله، (وخلّة الله له) أي لإبراهيم (نصره) أي على عدوه (وجعله إماما لمن بعده) كما قال تعالى إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فلم يبعث نبي بعده إلا كان من ذريته مأمورا باتباع ملته قال الدلجي وفي نسخة وجعله أمانا لمن بعده بشهادة أجعل هذا بلدا آمنا والظاهر أنه تصحيف وتوجيهه تحريف (وقيل الخليل أصله الفقير المحتاج المنقطع) أي عن الأعوان والإخوان أو عما سوى الله تعالى في الأكوان (مأخوذ من الخلّة) بفتح الخاء (وهي الحاجة) أي شدتها الملحئة إلى الفافة (فسمّي بها) أي بالخلة يعني بالاتصاف بها في إطلاق الخليل ووقع في أصل الدلجي به بالضمير المذكر وهو واضح دراية لو ثبت رواية أي فسمي بالخليل (إبراهيم لأنّه قصر حاجته) أي حصرها (على ربّه) أي على طلبها من ربه أو على حصول قربه ليس له مأمول غيره في قلبه ويؤيده قوله (وانقطع إليه بهمّه) أي بهمته ونهمته وعزيمته ونيته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 أو المراد بالهم ما يهمه ويغمه لقوله (ولم يجعله) أي همه (قبل غيره) بكسر القاف وفتح الموحدة أي عند غيره والمعنى لم يكل همه إلى أحد غيره إذ ليس للغير أثر وجود في نظره وكان هذا حال الخليل في المقام الجليل (إذ جاءه جبريل وهو في المنجنيق) بفتح الميم والجيم وقيل بكسر أوله لأنه آلة للرمي ويؤيد الأول ما في كتب اللغة أنها هي آلة ترمي بها الحجارة معربة وأصلها بالفارسية «من جه نيك» أي ما أجودني ويقال جنق إذا رمى بالمنجنيق قالوا كنا نجنق مرة ونرشق أخرى (ليرمى به في النّار) بصيغة المجهول (فَقَالَ أَلَكَ حَاجَةٌ قَالَ أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا) وزيد في رواية فقال فاسئل ربك قال حسبي من سؤالي علمه بحالي؛ (وقال أبو بكر بن فورك) بضم الفاء وفتح الراء غير منصرف وقد ينصرف (الخلّة) بالضم (صفاء المودّة) أي خلوص المحبة التي لا يتخللها نوع من المخالفة (التي توجب الاختصاص) أي في حالتي المسرة والمضرة من المحبوب للمحب وعكسه (بتخلّل الأسرار) بفتح الهمزة جمع سر أي يدخل في قلوب الأخيار وصدور الاحرار والجملة حالية ولو قرئت بالباء الجارة وصيغة المصدر لكان له وجه وجيه (وقال بعضهم أصل الخلّة المحبّة) أي مطلقا في اللغة (ومعناها) أي مؤداها (الإسعاف) بكسر الهمزة أي انجاز الحاجة بلا مهلة (والإلطاف) بالكسر أي الاعانة على وجه اللطافة (والتّرفيع) أي رفعه على نفسه في مقام أنسه وهو معنى قول بعضهم الترفيع التعظيم والتكريم (والتّشفيع) أي قبول شفاعته وحصول رعايته؛ (وقد بيّن) أي الله تعالى (ذلك) أي هذا المعنى (في كتابه) أي في مفهوم المبنى (بِقَوْلِهِ: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ) أي اتباع ابنيه عزيز والمسيح على حذف المضاف المقدر أو نزلوا أنفسهم منزلتهما في المقام المعتبر فتدبر وكذا قوله (وَأَحِبَّاؤُهُ) أي محبوبوه أو محبوه ويلزم كونهم محبيه للملازمة الغالبية في نسبة المحبية والمحبوبية كما يشير إليه قوله سبحانه يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة: 18] ) أي إن صح ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم إذ من كان بهذه المثابة لا يعذب بهذه المثابة وقد عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ والأصر وسيعذبكم في النار الموقدة باعترافكم أياما معدودة (فأوجب) أي الله بطريق الإشارة المفهوم من العبارة (للمحبوب أن لا يؤاخذ) بفتح الخاء أي لا يعاقب (بذنوبه) وإن كان قد يعاتب بعيوبه فالحبيب لا يعذب حبيبه بالنار والوالد لا يرمي ولده في العار (قال) أي الله سبحانه وتعالى (هذا) أي هذا الكلام أو قال ذلك البعض خذ هذا أو الأمر هذا أو هذا كما ذكر (والخلّة أقوى) أي في النسبة (من النبوّة) بتقديم الموحدة على النون وضمهما وتشديد الواو (لأنّ النبوّة قد تكون فيها) أي يوجد معها (العداوة) أي الموجبة للمخالفة (كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ) أي بعضهم (عَدُوًّا لَكُمْ) بالمخالفة الدينية أو الدنيوية (فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] ) أي عن المخالطة والمغالطة (الآية) أي وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عَدَاوَةٌ مَعَ خِلَّةٍ) أي مع صداقة على الحقيقة فإنهما ضدان لا يجتمعان على وجه الكمال نعم قد توجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 عداوة من حيثية وصداقة من حيثية كمحبة ولد عاق وعداوة والد جاف وعلى هذه الحالة مدار معاشرة العامة بل ومداراة الخاصة (فإذا) بالتنوين أي فحينئذ (تسمية إبراهيم ومحمّد) وفي نسخة تسميته أي تسمية الله إبراهيم ومحمدا عليهما الصلاة والسلام (بالخلّة إمّا بانقطاعهما إلى الله) أي بالكلية (ووقف حوائجهما عليه) أي حتى في الأمور الجزئية (والانقطاع عمّن دونه) أي في الأحوال الظاهرية (والإضراب) أي الإعراض والانصراف (عن الوسائط والأسباب) أي في الخواطر السرية كما قال أرباب الإشارات التوحيد إسقاط الاضافات (أو لزيادة الاختصاص منه تعالى لهما) أي من بين الأنبياء والاصفياء (وخفيّ إلطافه) بفتح الهمزة أي ولزيادة الطافه الخفية (عندهما) أي من أخفى الشيء إذا ستره لا من خفيته بمعنى أظهرته وحديث خير الذكر الخفي يحتملهما على ما ذكره الدلجي لكنه بمعنى الظهور بعيد كما لا يخفى نعم لو قيل المعنى هنا ظهور الطافة لظهر له وجه وفي نسخة وحفي بالحاء المهملة وكسر همزة الطافه أي ولزيادة مبالغة في إكرامه من حفي إذا بالغ في الإكرام واستقصى عن سؤال المرام ومنه قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها ومنه أيضا حديث أن امرأة دخلت عليه عليه الصلاة والسلام فسألها فأحفى وقال إنها كانت تأتينا في زمن خديجة وأن كرم العهد من الإيمان (وما خالل) أي خالط وباشر (بواطنهما من أسرار إلهيّته) أي وأنوار صمديته (ومكنون غيوبه) أي ومن استار مغيباته، (ومعرفته) أي تعريفاته بذاته وصفاته (أو لاستصفائه) أي اختيار الله سبحانه وتعالى (لهما) ومنه حديث محمد خيرة الله من خلقه (واستصفاء قلوبهما عمّن سواه) أي تخليصهما عن التعلق بالعوائق من الخلائق (حتّى لم يخاللهما حبّ لغيره) بل إذا أحبا أحدا أحباه الله سبحانه وتعالى ولذا دعا صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله اللهم لا تجعل لفاجر علي يدا يحبه قلبي وبقوله اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك (ولهذا) أي المعنى المستفاد من هذا المبنى (قَالَ بَعْضُهُمْ الْخَلِيلُ مَنْ لَا يَتَّسِعُ قَلْبُهُ) بتشديد التاء وكسر السين ويروى من لا يتبع قلبه (لسواه) أي على جهة الشركة في المحبة الأصلية (وهو) أي هذا المعنى هو (عندهم معنى قوله عليه الصلاة والسلام) أي كما رواه البخاري أن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر (ولو كنت متّخذا خليلا) أي من الناس أرجع في المهمات عليه والجأ في الملمات إليه (لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا لَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ) ورواية المصابيح ولكن بالواو أي ليس بيني وبينه خلة لكن أخوة الإسلام ثابتة بيني وبينه في أعلى المرتبة فيقوم مقام اتخاذي له خليلا قال التلمساني كذا وقع في النسخ الصحيحة من الشفاء أخوة بالألف وفي الإكمال خوة دون ألف ثم قال كذا للعذري ولغيره بالألف وقوله عليه الصلاة والسلام لو كنت متخذا خليلا الخ قال في المشارق لو كنت متخذا خليلا أفتقر إليه وألتجئ إليه في جميع أموري لكان أبا بكر ولكن الذي التجئ إليه وافتقر إليه هو الله تعالى أو لو كنت منقطعا لحب مخلوق لكان أبا بكر لكن مرافقة الإسلام انتهى وفيه إيذان إلى أن الخلة فوق الأخوة والمودة. (واختلف العلماء أرباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 القلوب) أي أصحاب القلوب الصافية والألباب الواعية من المشايخ الصوفية الجامعين بين المعارف اليقينية البهية والأخلاق السنية الرضية (أيّهما أرفع) أي أي الخصلتين أو الحالتين اعلى أو أغلى في الدرجة العلية والرتبة الجلية (درجة الخلّة) أي درجة الخلة أرفع من درجة المحبة (أو درجة المحبّة) أي أرفع من درجة الخلة فهما مرفوعان بناء على أنهما بدل من أيهما المرفوع ويجوز نصب درجة على أنه تمييز ذكره التلمساني وهو بعيد جدا لا سيما مع وجود أو الترديدية وكونهما معرفة بالإضافة نعم لو ثبت الجر لكان له وجه من حيث إنه بدل من المضاف إليه في أيهما والصحيح ما أشرنا إليه من أنهما مرفوعان بالابتداء وأن خبرهما أرفع مقدارا مع تقدير الاستفهام في أولهما (فجعلهما بعضهم سواء) أي في المرتبة ليس بينهما تفاوت في الدرجة (فَلَا يَكُونُ الْحَبِيبُ إِلَّا خَلِيلًا، وَلَا الْخَلِيلُ إِلَّا حَبِيبًا لَكِنَّهُ خَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالْخِلَّةِ وَمُحَمَّدًا صلى الله تعالى عليه وسلم بالمحبّة) أي بناء على الغلبة ولكن في هذا الاختصاص دلالة باهرة وإشارة ظاهرة إلى زيادة درجة المحبة على رتبة الخلة كما لا يخفى على أرباب المعرفة (وبعضهم قال درجة الخلّة أرفع) أي من مرتبة المحبة وهذا بعيد جدا إلا أن يراد بالخلة معنى الخصوص وبالمحبة معنى العموم وليس الكلام فيه لا في المنطوق ولا في المفهوم (واحتجّ) أي ذلك البعض لما زعمه (بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما رواه البخاري (لو كنت متّخذا خليلا غير ربّي) أي لاتخذت أبا بكر خليلا (فلم يتّخذه) أي غير ربه خليلا (وقد أطلق المحبّة لفاطمة وابنيها) أي الحسنين رضي الله تعالى عنهم (وأسامة) أي وكذا لأسامة ابن مولاه زيد بن الحارث الملقب بحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد كان أسامة أسود كالغراب وأبوه زيد أبيض كالقطن (وغيرهم) أي كأبي بكر وعمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم فلو كانت المحبة أرفع من الخلة لم يتخذ غير ربه مما ذكر حبيبا كما لم يتخذ غيره خليلا وفيه أنه لم يطلق على أحد منهم بكونه حبيبا وإنما أراد بمحبتهم المحبة الطبيعية الناشئة عن النسبة الجزئية أو الحالة الصادرة عن تحقق الشمائل الرضية مع أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سمى حبيب الله بمعنى محبوبه فأين هذا المعنى من ذلك المبنى فليس له شريك في هذا الوصف على وجه الكمال كما لا يخفى وهذا هو المشهور عند الجمهور ولذا قال، (وأكثرهم جعل المحبّة) أي الخالصة دون المودة العامة (أرفع) أي درجة (من الخلّة) أي مع أنها من مراتب الخاصة (لِأَنَّ دَرَجَةَ الْحَبِيبِ نَبِيِّنَا أَرْفَعُ مِنْ دَرَجَةِ الخليل إبراهيم عليه السلام) يعني اختصاص هذا الوصف بمن هو أكمل يدل على انه أفضل من سائر أوصاف الكمل وإلا لكان الانعكاس أولى فتأمل فإنه اندفع به ما ذكره الدلجي بقوله وأنت خبير بأن أرفعية المحبة على الخلة إنما هي من أرفعية موصوفها لا من حيث ذاتها ثم مما يدل على هذا التحقيق الموجب للتوفيق أن الخليل إنما هو فعيل بمعنى الفاعل مسندا إلى إبراهيم عليه السلام وأما الحبيب فيحتمل أن يكون بمعنى فاعل أو مفعول ولا شك أن نسبة المفعولية في هذا المقام أتم من نسبة الفاعلية في المرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ لا سيما ومحبة الله تعالى كاملة سابقة ذاتية أبدية أزلية ومحبة العبد ناقصة لا حقة عرضية غرضية وأما حديث لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أبا بكر وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا فهو محمول على أنه اتخذ أن يكون خليلا خاصا لا يتخذ غيره خليلا على ما يدل عليه سياق الكلام وسياقه فهو بمعنى الفاعل على حاله وليس كما توهم الدلجي أنه بمعنى المفعول والحاصل أنه يقال محمد حبيب الله والله حبيب محمد ولا يقال الله خليل إبراهيم مع جواز إبراهيم خليل الله وقد صرحوا بأن المعنى الأول أصح يعني كونه مشتقا من الخلة بالضم لأنها تتصور من الجانبين والحاجة لا تتصور من الجانبين فلا يجوز أن يقال الله تعالى خليل إبراهيم لما فيه من إيهام أن يكون مأخوذا من الخلة التي هي الحاجة، (وأصل المحبّة) أي المأخوذة من حبة القلب أو أصل معناها (الميل إلى ما يوافق المحبّ) أي يلائم طبعه ويستلذ به وهذا ظاهر في كونه اسم الفاعل من أحبه فهو محب على ما صرح به الانطاكي وضبطه الحلبي بضم الميم وفتح الحاء أي المحبوب وتبعه الدلجي وزاد عليه قوله من إرادة طاعاته وابتغاء مرضاته لكنه مخالف للرواية وغير مناسب للدراية لأنه ليس اصل المحبة هذا بل نتيجة محبة المحب للمحبوب أن لا تقع منه المخالفة كما قالت رابعة رضي الله تعالى عنها: تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمرك في الصنيع بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ ... إِنَّ المحب لمن يحب مطيع هذا وقد قال الأنطاكي وفي بعض النسخ وقع محب بفتح الحاء والظاهر أنه خطأ لما سيأتي في كلام المصنف من أن حقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان (وليكن هذا) أي التعريف إنما يصح (في حقّ من يصحّ الميل) أي وجود ميلان القلب (منه) أي إلى محبوبه أو مطلقا (والانتفاع بالوفق) بفتح الواو وسكون الفاء أي وفي حق من يتصور منه الانتفاع والارتفاق بالشيء الذي فيه الموافقة له أو على وفق ميل القلب وهوى النفس إليه (وهي) أي المحبة بمعنى الميل (درجة المخلوق) أي صفته ورتبته، (فأنا الخالق) أي الذي قدس عن القلب والميلان وسائر نعوت الحدثان (فمنزّه عن الأعراض) بالغين المعجمة وهي العلل والحاجات وكذا عن الأغراض بالعين المهملة وهي الأمراض والآفات (فمحبّته لعبده تمكينه من سعادته) أي بأقداره على طاعته وعبادته، (وعصمته) بالرفع وأبعد الدلجي في تجويز الجر أي ومحافظته عن ارتكاب معصيته (وتوفيقه) أي على ارتكاب الحسنات واجتناب السيئات (وتهيئة أسباب القرب) بضم فسكون ولا يبعد أن يكون بضم ففتح أي من النوافل كصلاة وصوم وصدقة وتسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وسائر القرب (وإفاضة رحمته عليه) أي بقبول ما منه إليه وجعله مقربا لديه (وقصواها) بضم القاف مقصورة أي غاية المحبة ونهايتها بالنسبة إلى الخلق (كشف الحجب عن قلبه) أي كشف الرب الحجب النفسانية والنقب الإنسانية عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 قلب المحب لجمال الذات الربانية وكمال الصفات الصمدانية (حتّى يراه بقلبه) أي يرى جمال ربه بعين قلبه (وينظر إليه) أي إلى تجلي ربه في مقام عظمته (ببصيرته) أي بعين بصيرته فيفني عن نفسه وحجبه ويبقى ببقاء ربه فيكون محوا بعد ما كان صحوا وسكرا بعد ما كان فكرا وشكرا وحاضرا في الحضرة بعد ما كان غائبا في الغفلة (فيكون كما قال) أي سبحانه وتعالى (في الحديث) أي القدسي والكلام الأنسي على ما رواه البخاري لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه (فإذا أحببته) أي أظهرت حبي له فإن حبه سبحانه وتعالى قديم غير حادث بعد تقرب عبده (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يبصر به ولسانه الذي ينطق به) وفي رواية زيادة ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها أي كنت حافظ أعضائه وحامي أجزائه أي يتحرك بغير رضائي وأن يسكن إلى غير قضائي والحاصل أنه جعل سلطان محبته لربه آخذا بمجامع قلبه فلا يهم إلا بمرضاة محبوبه ولا يسعى بجميع جوارحه إلا في سبيل مطلوبه وقيل أي كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الإسماع وبصره في النظر ولسانه في النطق وهنا معنى أدق من هذا وهو أنه يظهر للعبد في هذا المقام ما يتم به المرام وهو أنه يشاهد أن قوة سمعه وبصره ولسانه وسائر اركانه إنما هي من آثار قدرة ربه وقوته عز شأنه وليس المراد منه الحلول والاتحاد والاتصال على ما توهمه أهل الضلال كما قال (ولا ينبغي أن يفهم) بصيغة المفعول (من هذا) أي الحديث (سوى التّجرّد لله) أي تجرد القلب عن غير حب الرب (والانقطاع إلى الله) أي ترك الالتفات إلى ما سواه (والإعراض عن غير الله) أي بالتوجه الكلي إلى مولاه حتى كأنه بمسمع منه ومرأى له فيما يتحراه (وصفاء القلب لله) أي بحيث لا يخطر بباله سواه كما قال العارف بالله ابن الفارض نفعنا الله به ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي (وإخلاص الحركات لله) وكذا جعل السكنات في رضاه لأن من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل إيمانه وقد قال تعالى حكاية عن حال إبراهيم إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها كان خلقه القرآن) أي في جميع الشأن (برضاه يرضى وبسخطه يسخط) أي لا ينشأ عنه شيء من الهوى ولا ينظر في جميع أحواله غرض السوى بل يدوم على التخلق بأخلاق المولى؛ (ومن هذا) أي المقام (عبّر بعضهم عن الخلّة) أي التي هي خلاصة المرام لسلالة الكرام من الأنام (بقوله قد تخلّلت مسلك الرّوح منّي) أي تداخلت لحبي إياك تخالط الروح من بدني وهو كالماء في العود الطري وكالطراوة في اللؤلؤ المعدني (وبذا) أي وبذلك التخلل المأخوذ من الخلة (سمّي الخليل) أي إبراهيم وغيره (خليلا فإذا ما) زائدة (نطقت) أي عنك (كنت حديثي) أي منك لما قيل من أن الإناء يترشح بما فيه ولما ورد من أحب شيئا أكثر من ذكره (وإذا ما سكتّ) أي بك أو عن غيرك أو عن بيان حالي معك (كنت الغليلا) بالغين المعجمة وألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 الإطلاق أي حرارة العطش وفي نسخة الدخيلا أي الذي يداخل في الأمور ويخالل بما في الصدور (فإذا) بالتنوين وقد يكتب بالنون أي فحينئذ (مزية الخلّة وخصوصيّة المحبّة حاصلة لنبيّنا محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم بما دلّت عليه الآيات) وفي نسخة الآثار وهي ملائمة لقوله (الصّحيحة المنتشرة المتلقّاة بالقبول من الأمّة) كحديث لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أبا بكر خليلا وفي رواية ولكن أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا وكحديث أنا حبيب الله ونحو ذلك من شواهد الأحاديث الصحيحة المطابقة للآيات الصريحة (وكفى بقوله تعالى) أي كفى شاهدا ودليلا قوله سبحانه وتعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ [آلِ عِمْرَانَ: 31] الآية) أي فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وفيه الغاية القصوى في المقام الأسنى حيث جعل متابعته شرط صحة دعوى محبته له تعالى ورتب على متابعته محبته سبحانه وتعالى له ولعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تمنوا كونهم في أمته ومتابعة ملته لتحصيل هذا المرام وهو مرتبة المحبوبية والمرادية المجذوبية المطلوبية لأهل الكمال من السادة الصوفية ولذا قالوا جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين وقد قال الله تعالى يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ فالجملة الأولى إشارة إلى مقام المراد في المرتبة المريد والثانية إلى مقام المريد في حال الانابة ووصف المستزيد والحاصل أن هذه الآية الشريفة لما كانت دالة على المرتبة المنيفة، (حَكَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الْكُفَّارُ إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ تتّخذه حنانا) بفتح الحاء المهملة وتخفيف النونين أي معبودا مسجودا (كما اتّخذت النّصارى عيسى بن مريم) هذا باطل قطعا من وجهين أحدهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يرد هذا المعنى أصلا بل لما قيل له انسجد لك قال لو أمرت أن يسجد أحد لأحد لأمرت أن تسجد المرأة لزوجها وأيضا إنما نزل القرآن من أوله إلى آخره على رد أهل الشرك الغنيد وإثبات التوحيد على وجه التجريد والتفريد فكيف يتصور له أن يريد خلاف ذلك حيث يكون مناقضا لما هنالك ولكنهم على زعمهم وقياس الكاملين على نفوسهم ومقتضى طباعهم صدر هذا الكلام عنهم وظهر هذا المرام منهم وثانيهما أن التشبيه في كلامهم غير صحيح لأن عيسى ابن مريم لم يرد اتخاذ النصارى له إلها معبودا كما ظنوا لأنه من صغره إلى حال كبره كان يقول إني عبد الله وأبرئ الأكمة والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ولم يخطر بباله وجود من سواه فضلا عن إشراكه مع مولاه وأما ما ذكره الدلجي من قوله الحنان الرحمة والعطف أي نتخذه موضع حنان من الرحمة فنرحمه ونعطف عليه ونتبرك به كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا فلا يناسب التشبيه الذي يلائم التنزيه ولا يسبب لما قاله أهل التفسير (فأنزل الله غيظا لهم) أي زيادة غيظ في حالتهم (ورغما) بفتح الراء ويضم وحكي كسرها أي ردا (على مقالتهم هذه الآية) أي الآتية وهي قوله (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران: 32] ) لان إطاعة كل واحد مستلزمة لإطاعة الآخر وفيه إيماء له خفاء إلى أن الرسول لا يأمر بالمنكر فتدبر (فَزَادَهُ شَرَفًا بِأَمْرِهِمْ بِطَاعَتِهِ وَقَرْنِهَا بِطَاعَتِهِ ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 توعّدهم على التولّي) أي الاعراض (عنه) أي ابتداء وانتهاء (بقوله تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا) يحتمل الماضي والمضارع أي تتولوا (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 32] ) أي لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم وفي وضع الظاهر موضع المضمر تسجيل على كفرهم لئلا يشمل الفاجرين بنوع من التولي لا يكون موجبا للكفر وفيه أيضا تنبيه نبيه على أن مدار الأمر على الخاتمة ونوع حض على التوبة الموجبة للمحبة والمغفرة والمثوبة (وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ) بضم أوله وهو غير منصرف للعلمية والعجمة وقد يصرف (عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ كَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ المحبّة والخلّة يطول جملة إشاراته) أي وتفصيل عباراته (ترجع إِلَى تَفْضِيلِ مَقَامِ الْمَحَبَّةِ عَلَى الْخِلَّةِ وَنَحْنُ نذكر منه طرفا) بفتحتين أي شيئا يسيرا من الكلام (يهدي إلى ما بعده) أي من مقام المرام، (فمن ذلك قولهم: الخليل يصل) أي إلى من اتخذه خليلا (بالواسطة) أي اخذا لوصوله إليه بها دليلا (من قوله: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْأَنْعَامِ: 75] ) أي وليكون بواسطة إراءة الله له ذلك من الموقنين لما هنالك (والحبيب يصل إليه) أي لحبيبه كما في نسخة (به) أي بذاته دون واسطة من إراءة كائناته أخذا له (من قوله تعالى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أي قدرهما أَوْ أَدْنى [النجم: 9] ) أي بل أدنى من قابهما (وَقِيلَ الْخَلِيلُ الَّذِي تَكُونُ مَغْفِرَتُهُ فِي حَدِّ الطّمع) أي لأنه من المريدين وهذا المعنى مأخوذ (من قوله تعالى وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشُّعَرَاءِ: 82] ) أي يوم الدين (والحبيب الذي مغفرته في حدّ اليقين) أي الناجز الذي غير متوقف ولا متأخر إلى حين لكون صاحبه من المرادين (مِنْ قَوْلِهِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ) أي من جميع ما يصح فيه العتاب دون العقاب لعدم مناسبته في هذا الباب وفي عطف ما تأخر اعتناء عظيم فتدبر فإن الغفران السابق يشمل الواقع واللاحق (الآية) أي ومع زيادة إتمام النعمة وإكمال المنة بالهداية الخاصة والنصرة العامة المستفادة من تتمة الآية التي هي قوله سبحانه وتعالى وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً هذا وقد ذكر فرقا آخر بينهما بقوله، (وَالْخَلِيلُ قَالَ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاءِ: 87] ) أي لكونه طالبا في الطريق (وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ [التحريم: 8] ) أي لأنه مطلوب في مقام التحقيق وهذا معنى في التوفيق هو الذي بينه المصنف بقوله (فابتدىء) أي الحبيب (بالبشارة) أي بنفي الخزي من يقال الفضاحة عنه (قبل السّؤال) أي بحصول المنال في المآل بخلاف الخليل حيث وقع منه السؤال ولم يقع جواب حصوله لا في الحال ولا في الاستقبال فيكون بين الخوف والرجاء في تحسين المآل ثم ذكر فرقا آخر فقال، (والخليل قال في المحنة) أي في ابتلائه بنمرود حين القاه في النار (حسبي الله) أي كان في دفع بلائي ورفع عنائي فكانت عليه بردا وسلاما، (والحبيب قيل له يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال: 64] ) ووجه الفرق أن بونا بينا بين من يقول هو حسبي وبين من يقال له أنا حسبك فإن كل أحد يدعي أنه محب لله ولكن الكمال هو أن يقول الله أنا محبوبه أو محبه ونظير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 هذا الفرق ما وقع بين قول يحيى وعيسى عليهما السلام حيث قال في الأول سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا وقال الثاني والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حيا ولا شك أن السلام الأول في هذا المحل أفضل لأنه شهادة من الله تعالى على سلامته في جميع حالاته بخلاف الثاني فإنه يخبر به عن حال نفسه وإن كان صادقا في مقاله ولا يتصور تخلف في وقوعه ثم هذا لا ينافي كون عيسى أفضل من يحيى لأنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل مع أنه قد يقال إن عيسى كان في مقام الانبساط والبقاء فطال لسانه وكان يحيى في مقام القبض والفناء فكل لسانه فقام الحق عنه في الانتهاء كما قال هو بحقه سبحانه وتعالى في الابتداء حيث لم يهم بمعصية في الاثناء ومن كان لله كان الله له ومن ترك حظ نفسه قام الله معه هذا (والخليل قال وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) أي في الآخرين كما في نسخة أي ثناء جميلا وذكرا جزيلا قال واجعل لي لسان صدق) أي في الآخرين كما في نسخة أي ثناء جميلا وذكرا جزيلا فيمن يجيء بعده إلى يوم الدين فاستجيب له فما من أمة إلا وهم محبون له ومثنون عليه ومتمنون أن ينتسبوا إليه ولا يبعد أن يقال المراد بالآخرين هذه الأمة من السابقين واللاحقين (وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْحِ: 4] ) أي فوق المنابر والمنابر مقرونا بذكر ربه بل مكتوبا على ساق عرشه وأشجار جنته وقصورها ونحور حورها (أعطي) أي الحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك المنال في الحال (بلا سؤال) وأجيب دعوة الخليل عليه السلام في الاستقبال؛ (وَالْخَلِيلُ قَالَ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي بعدني وإياهم عن عبادتها وهذه لغة نجد ولغة الحجاز جنبني وأراد بنيه لصلبه حتى يصدق عليه أن دعاءه مستجاب عند ربه لظهور الكفر من بعض أحفاده وفيه إيماء إلى أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه (والحبيب قيل له) أي من غير سؤال منه (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) أي الذنب المدنس (أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33] ) بالنصب على المدح أو النداء ولعل المراد بأهل البيت من كان في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أولاده وذريته وأزواجه هذا والخليل قال الملائكة لسارة زوجته رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت فمن هنا نشأ فرق آخر بين نسبة أهل بيت الحبيب ونسبة أهل بيت الخليل (وفيما ذكرناه) أي من الخلاف في تفسير الخلة والمحبة وما صدر من أهل المعرفة (تنبيه على مقصد أصحاب المقال من تفضيل المقامات والأحوال) أي للمحبة والخلة وتفاوت مرتبة كل منهما في الحال والمآل وهو بالضاد المعجمة أو المهملة كما في النسخ المختلفة (وكُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلال أو على عادته وجبلته التي طبع عليها في أوائل الأحوال كما قال الله تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الآيتين (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 84] ) أي وبمن هو أخطأ مسلكا ودليلا فسبحان من أراد جعله مهيبا عزيزا ولو شاء صيره مهينا ذليلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 فصل [في تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود] (في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على غيره (بالشّفاعة) أي العظمى تحت اللواء الممدود (والمقام المحمود) كالتفسير لما قبله (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) أي يقيمك (مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] ) أي يحمده فيه الأولون والآخرون (أخبرنا الشّيخ أبو عليّ الغسّانيّ) بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة (الجيّانيّ) بفتح الجيم وتشديد التحتية (فيما كتب به) أي به كما في نسخة (إليّ) أي مرسلا أو أصلا إلى (بخطّه) أي إجازة فإن القاضي لم يسمع منه شيئا، (ثنا) أي حَدَّثَنَا (سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي حَدَّثَنَا أبو محمّد الأصيليّ حدّثنا أبو زيد) أي المروزي (وأبو أحمد) أي الجرجاني (قالا) أي كلاهما (حدّثنا محمّد بن يوسف) أي الفربري (حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي البخاري (حدّثنا إسماعيل بن أبان) بفتح الهمزة وفيه الصرف وعدمه والأجود الصرف هو أبو إسحاق الوراق أزدي كوفي روى عنه أحمد بن معين والدارمي وأبو حاتم وخلق وثقه أحمد وجماعة وقال البخاري صدوق وقال غيره فيه تشيع ذكره الحلبي قلت هو لا ينافي كونه صدوقا (حدّثنا أبو الأحوص) بحاء وصاد مهملتين له أربعة آلاف حديث (عن آدم بن عليّ) أي العجلي (قال سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول) أي موقوفا لكنه لكونه مما لا يقال مثله من قبل الرأي يكون في الحكم مرفوعا (إنّ النّاس يصيرون) أي يكونون يوم القيامة (جثى) بضم الجيم فمثلثة مقصورا منونا جمع جثوة بضم جيمها وقد تكسر وحكي الفتح وهي ما جمع من تراب ونحوه ثم استعير للجماعة ومنه حديث عامر رأيت قبور الشهداء اجثاء أي اتربة مجموعة وأما قول بعضهم جمع جاث وهو الذي يكون معتمدا على ركبتيه فبعيد بل لا يصح لأن فاعلا لا يجمع لعى فعل مخففا وفي نسخة جثاء مضموم الجيم ممدود الآخر أي جماعات واحدها جثوة وفي أخرى بتشديد المثلثة جمع جاث وهو من يجلس على ركبتيه ومنه حديث علي أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله أي يصيرون فيه جماعات متخاصمين ومنه قوله تعالى وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا وهو الملائم لقوله (كلّ أمّة تتبع نبيّها يقولون) أي قائلين لأنبيائهم باسمائهم (يا فلان اشفع لنا) أي لخصوصنا أو لعمومنا (يا فلان اشفع لنا) أي وهكذا واحدا بعد واحد وهو يقول لست لها (حتّى تنتهي الشّفاعة) أي العظمى (إلى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فذلك) أي الوقت (يوم) بالرفع وروي بالنصب أي فذلك الحال في يَوْمُ (يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ. وَعَنْ أَبِي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي فيما رواه أحمد والبيهقي (سئل عنها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعني قوله) أي يريد أبو هريرة بضمير عنها آية هي قَوْلَهُ (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] فقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جوابا لمن سأل (هي الشّفاعة) أي المراد بها مقام الشفاعة الكبرى لأهل الموقف عامة ولا يبعد أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 الضمير راجعا إلى المقام المحمود وتأنيثه باعتبار الخبر فتدبر. (وروى كعب بن مالك) أي كما رواه أحمد (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أنا وأمّتي على تلّ) أي مكان مرتفع (ويكسوني ربّي حلّة خضراء) لعله إشارة إلى مقام سعادة السيادة (ثمّ يؤذن لي) أي في القول بعد أن الخلق ما كانوا ينطقون (فأقول ما شاء الله أن أقول) أي من محامد الحق وشفاعة الخلق (فذلك المقام المحمود) وهذا لا ينافي ما ورد عن بعضهم منهم مجاهد أن المقام المحمود هو أن الله يجلس معه محمدا على كرسيه كما ورد به حديث وتعقبه القرطبي بأنه قول غريب وإنه إن صح يتأول على أنه يجلسه مع انبيائه وملائكته ثم ذكر كلام ابن عبد البر قريبا منه على ما نقله الحلبي وفيه أنه تأول بعيد عن المقام سديد في حصول المرام بل المراد بالمعية انفراده صلى الله تعالى عليه وسلم عن البرية في مرتبة المزية كقول موسى إِنَّ مَعِي رَبِّي وسيأتي ما يؤيد هذا التأويل في مقام التفضيل. (وعن ابن عمر رضي الله عنهما) أي في رواية (وذكر حديث الشّفاعة) أي العظمى (قال فيمشي) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (حتّى يأخذ بحلقة الجنّة) بسكون اللام وتفتح (فيومئذ) أي فحينئذ (يبعثه الله المقام المحمود الذي وعده) بصيغة الفاعل أو المفعول أي وعده الله سبحانه وتعالى أن يقيمه يوم القيامة وفي رواية فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني إلى أن تلا عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم. (وعن ابن مسعود عنه) كما رواه أحمد وغيره (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنّه) أي المقام المحمود الموعود (قِيَامُهُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ مَقَامًا لَا يَقُومُهُ غيره يغبطه) بفتح الياء وكسر الباء أي يتمناه (فيه الأوّلون والآخرون) وفي أصل الدلجي به وجعلها إما ظرفية أو سببية؛ (ونحوه عن كعب) أي كعب الأحبار (والحسن) أي البصري، (وفي رواية هو المقام الذي أشفع فيه لأمّتي) أي أصالة ولغيرهم تبعا أو جعل الكل أمة له لأنه أخذ الميثاق منهم بأنهم لو أدركوه لآمنوا به واتبعوه كما ورد لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي. (وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) على ما رواه أحمد (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إني لقائم المقام المحمود) اللام المفتوحة للتأكيد في خبر إن وتوهم الدلجي حيث قال أي والله إني لقائم ثم قال وهذا مرشد إلى جواز القسم في الأمر العظيم انتهى ولا خلاف في جوازه مطلقا إلا أن بعض العارفين لم يحلفوا من جهة أمر الدنيا لحقارتها (قبل وما هو) وللدارمي عنه قيل له ما المقام المحمود (قال ذلك يوم) روي بالنصب على أنه ظرف مضاف إلى الجملة وبالرفع والتنوين فيقدر فيه (ينزل الله تبارك وتعالى على كرسيّه) أي يتجلى عليه كتجليه سبحانه على الطور وهو صلى الله تعالى عليه وسلم جالس على الكرسي كما سبقت به الرواية ولا يبعد أن يكون ينزل بضم أوله وكسر الزاء أي يوم يجلسه الله على كرسيه إشعارا للمقام عليه لكن يوافق المعنى الاول بقية الحديث الذي أشار إليه بقوله (الحديث) أي بطوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 مع تتمة قوله فيئط أي يصوت كما يئط الرجل الجديد من تضايقه به أي لعظمة تجليه عليه وهو أي الكرسي يسع السماء والأرض ويجاء بكم حفاة عراة غرلا بضم فسكون أي قلفا غير مختونين لقوله تعالى كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فيكون أول من يكسى إبراهيم لأنه أول من عري في ذات الله حين ألقي في النار والظاهر أن الأول هنا إضافي لقوله عليه الصلاة والسلام فيما سبق ويكسوني ربي حلة خضراء مع أنه لا بدع أن يكون في المفضول بعض ما لا يوجد في الفاضل لا سيما وهو في مقام البنوة وحالة التبعية في مرتبة النبوة يقول الله تعالى اكسوا خليلي فيؤتى بريطتين أي ملاءتين رفيعتين بيضاوين من رياط الجنة ثم أكسى على أثره بفتحتين وبسكر فسكون أي على عقبه وهو يحتمل أن يكون خلعة أخرى بعد ما سبقت له الكسوة الأولى ثم أقوم عن يمين الله أو يمين عرشه أو كرسيه أو جانب يمينه حال تجليه مقاما يغبطني الأولون والآخرون أي يتمنون أن يعطوا مثل ما أعطى ولا ينالونه أبدا. (وعن أبي موسى) أي الأشعري مات بمكة وقيل بالكوفة (عنه عليه الصلاة والسلام) كما رواه ابن ماجة (خيّرت) بصيغة المجهول أي جعلت مخيرا ورواية المصابيح أتاني آت فخيرني (بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة) أي من غير حساب وعذاب (وبين الشّفاعة) أي في هذا الباب (فاخترت الشّفاعة) أي من أول الوهلة (لأنّها أعمّ) أي في المنفعة والظاهر أن هذه الشفاعة دون الشفاعة العظمى مختصة بهذه الأمة إما لإدخال جماعة الجنة بغير محاسبة أو لمن استحق دخول النار فلا يدخلها أو لمن دخلها فيخرج منها وفي الجملة الشفاعة ثابتة على ما أجمع عليه أهل السنة لقوله تعالى يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ولا عبرة بمنع الخوارج وبعض المعتزلة مستدلين بقوله تعالى فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ فإنه مخصوص بالكافرين وأما تخصيصهم أحاديث الشفاعة بزيادة الدرجات في الجنة فباطل لتصريح الأدلة بإخراج من دخل النار من المؤمنين منها كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم (أترونها) بالاستفهام الإنكاري بمعنى النفي وبضم التاء وفتح الراء أي لا تظنون الشفاعة التي اخترتها (للمتّقين) أي عن المعاصي خاصة، (ولكنّها) وفي نسخة لا ولكنها الشفاعة (للمذنبين الخطّائين) وفي نسخة للمؤمنين أي الكاملين وفي أخرى للمنقين بفتح النون وتشديد القاف المفتوحة والظاهر أنه تصحيف عن الدلجي حيث اقتصر عليه نعم رواية ابن عرفة أترونها للمنقين ولكنها للمذنبين الملوثين فالتلويث يناسب التنقية في مقام المقابلة ثم رأيت الحلبي قال وهو كذا في أصلنا لسنن ابن ماجة وهو أصل صحيح وقفه الملك المحسن وقد كتب تجاهه على الهامش ن ق وعليها تصحيح مرتين والله تعالى أعلم ثم الخطائين بتشديد الطاء أي المبالغين في الخطأ أي بالتعمد أو الكثرة أو العظمة ويؤيده قوله عليه السلام فيما رواه أبو داود والترمذي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وفي نسخة الخاطئين وفي أخرى للخاطئين بإعادة العامل تأكيدا. (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) أي قال كما في نسخة وقد رواه البيهقي عنه وكذا شيخه أبو عبد الله الحاكم وصححه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 (قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا وَرَدَ) من الورود أي نزل (عليك في الشّفاعة) ما استفهامية وذا موصولة بمعنى الذي وصلته ما بعده وفي نسخة صحيحة ما رد بضم راء وتشديد دال أي ماذا أجيب عليك في مقام الشفاعة أو في أهلها وفي أخرى بصيغة الفاعل لله أو الملك (فقال شفاعتي) أي ورد على شفاعتي أو أجيب شَفَاعَتِي (لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله) أي وإن لم يكن من أمتي وقيل التقدير وأني رسول الله اكتفاء بأحد الجزأين عن الآخر علما بأنه لا بد من الاتيان به في صحة الإسلام وقيل هذه الكلمة صارت علما لكلمتي الشهادة (مخلصا) أي لا كرها ولا نفاقا ولا رياء (يصدّق) بتشديد الدال أي يطابق ويوافق (لسانه) بالنصب على أنه مفعول أو بالرفع على أنه فاعل وقوله (قلبه) عكس ذلك. (وعن أمّ حبيبة) أي أم المؤمنين كما رواه البيهقي والحاكم (أريت) بضم الهمزة وكسر الراء أي أظهر الله لي (ما تلقى) أي من النوائب والمتاعب (أمّتي) وفي أصل الدلجي من أمتي أي بعضهم (من بعدي) متعلق بتلقى وفي نسخة بعدي أي بعد ذهابي إلى ربي (وسفك بعضهم دماء بعض) وهو مصدر مضاف إلى فاعله معطوف على ما تلقى ولا يبعد أن يكون سفك ماضيا عطفا على ما تلقى أي وما سفك ويؤيده قوله (وسبق) أي وما سبق (لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا سَبَقَ لِأُمَمٍ قَبْلَهُمْ) أي من الابتلاء ببعض اللمم (فسألت الله أن يؤتيني) أي يعطيني (شفاعة) وفي نسخة يوليني شفاعتهم بتشديد اللام المكسورة أي يجعلني متوليا لشفاعتهم (يوم القيامة فيهم) أي في حقهم (ففعل) أي أعطاه ما سأل. (وقال حذيفة) كما رواه البيهقي والنسائي وهو وإن كان موقوفا لكنه مرفوع حكما (يجمع الله النّاس في صعيد واحد) أي أرض مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (حيث يسمعهم الدّاعي) أي صوته وهو بضم الياء وكسر الميم وهذا على الفرض والتقدير وقال الدلجي لعله بعد الشفاعة لفصل القضاء أيتها الخلائق هلموا إلى الحساب انتهى ويرد عليه ما سيأتي من بقية الحديث في الكتاب (وينفذهم البصر) بفتح الياء وضم الفاء والذال المعجمة وفي نسخة بضم الياء وكسر الفاء أي يبلغهم ويجاوزهم بصر الباصر بحيث لا يخفى أحد منهم من الأكابر والأصاغر لاستواء الصعيد الباهر وعن أبي عبيد ينفذهم بصر الرحمن أي يأتي عليهم جميعهم وفيه أن بصره تعالى دائما محيط بهم وقد يدفع بأن اثباته مقيدا لا ينافي دوامه ولعل وجه التخصيص هو إفادة هول المقام أو ظهور ذلك الوصف على وجه الكمال والتمام على سائر الأنام كما ذكروا في قوله سبحانه مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وعن أبي حاتم أن المحدثين يروونه بالذال المعجمة وإنما هو بالمهملة أي يبلغ أولهم وآخرهم حتى يراهم كلهم من نفد الشيء وانفدته قال الحجازي وفيما قاله نظر إذ في الصحاح نفذ البصر بالمعجمة القوم بلغهم وجاوزهم ونفذ بالمهملة فنى ولعله من أنفذ فيضم أول مضارعه انتهى وقال النووي محصله خلاف في فتح الياء وضمها وفي الذال والدال وفي الضمير في ينفذهم والأصح فتح الياء وبالذال المعجمة وأنه بصر المخلوق انتهى قال أبو عبيد وحمل الحديث على بصر المبصر أولى من حمله على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 بصر الرحمن لأن الله يجمع الناس يوم القيامة في أرض يشهد جميع الخلائق حساب العبد الواحد على انفراده ويبصرون ما يصير إليه هذا وقد روي أن صفوف أهل الجنة مائة وعشرون صفا منها ثمانون لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وباقيها لغيرهم زاد كعب ما بين كل صفين كما بين المشرق والمغرب (عراة) لا ثياب على بدنهم ولا نعال بأرجلهم وفي رواية حفاة وزاد الشيخان في روايتهما غرلا بضم الغين المعجمة وسكون الراء جمع أغرل وهو الأقلف (كما خلقوا) أي أول مرة (سكونا) أي غير ناطقين (لا تكلّم) بحذف إحدى التاءين أي لا تتكلم (نفس) أي بما ينفع أو ينجي من جواب أو شفاعة (إلّا بإذنه) كقوله تعالى لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وهذا في موقف وأما قوله هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ففي موقف آخر أو المأذون فيه هو الجوابات الحقة والممنوع منه هو الاعتذارت الباطلة (فينادى) بصيغة المفعول (محمّد) بالرفع والتنوين على أنه نائب الفاعل وفي رواية بالضم على حذف حرف النداء يؤيد الأول قوله (فيقول لبّيك) أي أحببت لك إجابة بعد إجابة (وسعديك) أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة (والخير في يديك) أي بتصرفك وفي حيز إرادتك وقدرتك في الدنيا والعقبى كما قال الله تعالى وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (والشّرّ ليس إليك) أي منسوبا وإن كنت خالقه أدبا أولا يتقرب به إليك أصلا أو لا يصعد إليك وإنما يصعد إليك الخير قولا وعملا أو ليس الشر بالنسبة إلى حكمك وحكمتك فإنك لا تحكم باطلا ولا تخلق عبثا وإلا فمن المعلوم عند أهل الحق من أهل السنة والجماعة أن جميع الكائنات خيرها وشرها ونفعها وضرها وحلوها ومرها من الله تعالى ومنسوبة إلى خلقه على وجه اراده (والمهتدي) أي في الحقيقة وفي نسخة والمهدي (من هديت) أي بخلق الهداية وتوفيق الطاعة وتحقيق الرعاية (وعبدك بين يديك) أي حاضر معتمد عليك (ولك) أي الحكم والقضاء (وإليك) أي مرجع الخلق والأمر في الابتداء والانتهاء (لا ملجأ) بالهمز مقصورا (ولا منجى) بالقصر وقد يهمز للازدواج وقد يبدل همز الأول ألفا للمشاكلة أي لا مستند ولا معتمد ولا ملاذ ولا معاذ (منك) أي من قضائك (إلّا إليك) أي بالرجوع إلى ساحة فنائك (تباركت) أي تكاثر خيرك (وتعاليت) أي تعظم شأنك (سبحانك ربّ البيت) بالنصب على النداء وجوز رفعه على الابتداء أي أنت رب البيت والإضافة للتشريف (قال) أي حذيفة (فذلك) أي المجمع المذكور والمقال المسطور هو (المقام المحمود الذي ذكره الله) . أي ذكره في كتابه المشهور بقوله عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (وقال ابن عبّاس) لفظه موقوف وحكمه مرفوع (إِذَا دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الجنّة) لعل تقديم أهل النار للاشعار بأنها ممر الأبرار والفجار أو لأن ذكر النعمة أوقع في النفس بعد ذكر النقمة أو ترهيبا في أول الوهلة من أهوالها وترغيبا في الجنة نظرا إلى حسن مآلها (فيبقى آخر زمرة) أي جماعة (من الجنّة) أي من زمر أهلها باقية في النار (وآخر زمرة من النّار) أي ثابتة فيها (فتقول زمرة النّار) أي من الكفار (لزمرة الجنّة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 أي الواقعة في النار من الفجار (ما نفعكم إيمانكم) أي المجرد عن الطاعة حيث لم يدخلكم الجنة (فيدعون ربّهم ويضجّون) بفتح الياء وكسر الضاد المعجمة وتشديد الجيم أي ويصيحون لما يجزعون من شماتة الأعداء في فظاعة البلاء ولذا قيل النار ولا العار (فَيَسْمَعُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَيَسْأَلُونَ آدَمَ وَغَيْرَهُ بَعْدَهُ في الشّفاعة لهم) ولعل الحكمة في سؤالهم من غير نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أولا ليظهر اختصاصه بذلك المقام آخرا (فكلّ) أي فكل واحد منهم (يعتذر) أي بما عوتب عليه وبما انسب من صورة الذنب إليه (حتّى يأتوا محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم فيشفع لهم) أي فيشفع في حقهم وتقبل شفاعته لهم (فذلك المقام المحمود) أي في الجنة وهو لا ينافي كونه المقام المحمود أيضا في الموقف (ونحوه) أي مثل قول ابن عباس فيما رواه أحمد والطيالسي (عن ابن مسعود أيضا ومجاهد) أي موقوفا أو مقطوعا (وذكره) أي مثله أو نحوه (عليّ بن الحسين) أي ابن علي بن أبي طالب وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مرسلا ورواه الحاكم عن أهل العلم عنه موصولا (وقال جابر بن عبد الله) أي كما رواه مسلم (ليزيد الفقير) هو يزيد بن صهيب الفقير لأنه كان يشكو فقار ظهره فهو فعيل بمعنى مفعول وفقرات الظهر خرزاته من عجب الذنب إلى نقرة القفا ثنتان وثلاثون فقرة وقد ضربت عائشة مثلا في عثمان فقالت ركبوا منه الفقر الأربع استعارته من فقار الظهر لما ارتكبوا منه لأنها موضع الركوب أي انتهكوا فيه أربع حرم حرمة الصحبة والصهورة والخلافة والبلدة روى عنه أبو حنيفة ومسعر وجماعة ثقة أخرج له الشيخان وغيرهما (سمعت) بفتح التاء أي اسمعت (بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ، يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ) أي من المقام المحمود (قال) أي يزيد (قلت نعم) أي سمعت اللفظ الذي أفادنيه (قال) أي جابر (فإنّه مقام محمّد) أي الخاص به (المحمود الذي يخرج الله به) أي بسببه (من يخرج) بضم ثم كسر أي من يخرجه من عصاة عامة المؤمنين أو خاصة هذه الأمة والأول أظهر لما سبق فتدبر (يعني من النّار) أي يريد إخراج من يخرجه من النار، (وذكر) أي جابر (حديث الشّفاعة في إخراج الجهنّميين) أي فوجا فوجا من النار على حسب مراتب الفجار. (وعن أنس رضي الله تعالى عنه نحوه) أي في رواية الشيخين (وقال) أي أنس (فهذا) أي الإخراج المذكور (المقام المحمود الذي وعده) أي الله سبحانه وتعالى وفي نسخة بصيغة المجهول (وعن سلمان) أي الفارسي وهو سلمان الخير وسلمان ابن الاسكار عاش ثلاثمائة وفي أصل التلمساني عن شيبان بدل عن سلمان قال وهو بشين معجمة وياء مثناة من أسفل وبعدها موحدة لعله شيبان بن عبد الرحمن النحوي انتهى والظاهر أنه مصحف لمخالفته سائر النسخ المعتبرة والأصول المعتمدة (المقام المحمود هو الشفاعة في أمته يوم القيامة) أي بالأصالة وفي غيرهم بالتبعية أو لأنه هو البادئ في مقام الشفاعة ويتبعه الأنبياء في تلك الساعة (ومثله عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الصحيحين (وقال قتادة) تابعي مشهور (كان أهل العلم) أي من أكابر الصحابة وإجلاء التابعين (يرون) بصيغة الفاعل من الرأي أو بصيغة المفعول أي يظنون (المقام المحمود شفاعته يوم القيامة) أي لعامة الخلق في اراحتهم من عذاب الموقف (وعلى) أي وكانوا على (أن المقام المحمود) أي هو كما في نسخة (مقامه عليه الصلاة والسلام للشفاعة) أي العظمى في الساعة الكبرى (مذاهب السلف) أي السالفين (من الصحابة والتابعين وعامة أئمة المسلمين) أي من المجتهدين والمفسرين والمحدثين وسائر علماء الدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين (وبذلك) أي وبطبق ما ذكر وعلى وفق ما سطر (جاءت) الشفاعة (مفسرة) أي مبينة (في صحيح الأخبار) أي مما كادت أن تتواتر عن الأخيار (عنه عليه الصلاة والسلام وجاءت مقالة في تفسيرها شاذة) أي منفردة (عن بعض السلف) وهو مجاهد مخالفة لنقل الثقات ضعيفة في أصول الروايات وحصول الدرايات (يجب أن لا تثبت) أي عند الاثبات لعدم الاثبات (إذ لم يعضدها) أي لم يقوها (صحيح أثر) من منقول (ولا سديد نظر) أي من معقول والنظر السديد والسداد ما كان موافقا للحق والرشاد ومنه قوله تعالى وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (ولو صحت) أي على فرض صحة بعض أسانيدها حيث لا يقاوم ما يعارضها (لكان لها تأويل غير مستنكر) أي معروف معتبر عند أرباب النظر جمعا بين الأدلة كما هو طريق المحققين من الأئمة وحاصله أنه روي عن مجاهد أنه قال يجلسه معه على العرش وعن عبد الله بن سلام قلا يقعده على الكرسي وأمثال ذلك مما ظاهره منكر من القول فيجب رده وانكاره على ناقله أو تأويله لحسن الظن بقائله وبعضهم أول ذلك بأن يجلسه مع انبيائه وملائكته على ما حكاه الطبري وقد قدمنا تأويلا آخر فتدبر (لكن ما فسره النبي (في صحيح الآثار يرده) بتشديد الدال أي يرد ظاهر ما جاء بخلافه ويدفعه فيتعين أن يأول غيره إليه ولا ينعكس الأمر عليه وفي نسخة ترده بفتح التاء وكسر الراء وتخفيف الدال أي ترد عليه ويلائمه قوله (فلا يجب أن يلتفت إليه) أي بتأويل قال وقيل لأنه تضييع عمر في توضيح أمر (مع أنه لم يأت) أي خلافه (في كتاب ولا سنة) أي ثابتة حتى يحتاج إلى تأويل ومعالجة (ولا اتفق) وفي نسخة ولا اتفقت (على المقال به أمة) أي جماعة من المجتهدين وعلماء الدين حتى يحتاج إلى تأويل بجمعه أرباب اليقين (وفي إطلاق ظاهره منكر من القول وشنعة) بضم فسكون أي وشناعة في العبارة يأتي دفعها بالإشارة (وفي رواية أنس وأبي هريرة وغيرهما) على ما في الصحيحين ونحوهما (دخل حديث بعضهم في حديث بعض) أي فيما ذكرناه هنا عنهم (قال عليه الصلاة والسلام يجمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة) أي يوم يقوم الناس لرب العالمين (فيهتمّون) بتشديد الميم أي فيحزنون حزنا شديدا إلا أنه لا يهتم أحد إلا لنفسه ولا يلتفت إلى غيره ولو كان أقرب أهله ويقصدون إزالة هذا الهم العظيم والكرب الفخيم وذلك لما وجد في حديث إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قبله ولا بعده مثله (أو قال فيلهمون) أي إلى طلب الشفاعة بالوسيلة إلى أحد من كبراء البرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 (فيقولون لو استشفعنا إلى ربّنا) أي لكان حسنا أو لربما يكون فيه نجاتنا أو لو للتمني ولا جواب له (ومن طريق آخر) أي لهذا الحديث باعتبار إسناده أو راويه (عنه) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ماج النّاس بعضهم في بعض) أي دخلوا فيما بينهم واضطربوا اضطراب ماء البحر حال شدة غليانه إيماء إلى قوله تعالى وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بعض وإشارة إلى قوله تعالى أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ، (وعن أبي هريرة) أي في حديث الشيخين (فتدنو الشّمس) أي تقرب من رؤوسهم قدر الميل كما في رواية على اختلاف في أن المراد منه ميل الفرسخ أو ميل المكحلة ثم قيل الشمس في الدنيا وجهها إلى جهة السماء وهي ظاهرة لنا من جهة القفا فينقلب أمرها في العقبى (فيبلغ النّاس) بالنصب وقيل بالرفع (من الغمّ) بيان مقدم لقوله (ما لا يطيقون) أي الصبر عليه والتحمل لديه وهذا معنى قوله (ولا يحتملون) أي لا يقدرون ولا يستطيعون (فيقولون) أي بعضهم لبعض (ألا تنظرون) أي ألا تختارون (من يشفع لكم) أي إلى ربكم في ازاحة شدة الموقف عنكم (فيأتون آدم) بدأوا بما بدأ الله به ليظهر جلالة ما ختم الأمر بسببه (فيقولون) أي له جل مقصودهم من الشفاعة لمعبودهم (زاد بعضهم) أي في بيان ما أجمل من القول (أنت آدم أبو البشر) أي فيتعين عليك الشفقة والمرحمة على الذرية مع كونك معظما مكرما عنده سبحانه وتعالى من جملة الطائفة البشرية (خلقك الله بيده) أي بقدرته من غير واسطة في خلقته (ونفخ فيك من روحه) أي الخاص بتشريفه وكرامته (وأسكنك جنّته) أي وأظهر عليك نعمته ورحمته (وأسجد لك ملائكته) أي تعظيما لشأنك وتفخيما لبرهانك (وعلّمك أسماء كلّ شيء) أي دليلا على ظهور سلطانك (اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مكاننا) من الاراحة بمعنى الازاحة واعطاء الراحة بالإزالة من محل الغضب إلى موضع حكم به الرب من دار الثواب أو دار العقاب (ألا ترى ما نحن فيه) أي من الغم والحزن (فيقول إنّ ربّي غضب اليوم غضبا) أي عظيما لكونه عميما (لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مثله) أي فلا يمكنني الشفاعة فيه لا سيما (ونهاني عن الشّجرة) أي أكلها (فعصيت) أي بذوقها وهي شجرة الكرم وقيل السنبلة وقيل شجرة العلم عليها معلوم الله تعالى من كل لون وطعم ذكره الحلبي وفيها أقوال أخر وهي النخلة والتين والكافور ذكرها الحجازي. (نفسي نفسي) أي أهم عندي من غيري أو الزم نفسي أو أخلص نفسي ولا اجترئ على غير مقامي (اذهبوا إلى غيري) من الأنبياء والأصفياء عموما (اذهبوا إلى نوح) أي خصوصا لأنه أول أولي العزم من الرسل (فيقولون) أي فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ (أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أهل الأرض) أي من الكفار والفجار فلا ينافي أن آدم أيضا مرسل إلى أولاده الأبرار وكذا شيت ابن آدم وإدريس جد نوح ولد شيت على ما عليه علماء الأخبار (وسمّاك الله عبدا شكورا) أي وصفك به حيث قال في كتابه كانَ عَبْداً شَكُوراً أي مبالغا في الشكر مع أنه تعالى قال وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (ألا ترى ما نحن فيه) أي من الغم والحزن (ألا ترى ما بلغنا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 بفتح الغين وجوز اسكانها وصلنا من الشدة (ألا تشفع لنا إلى ربّك) أي ليكون خلاصنا بسببك (فيقول إنّ ربّي غضب اليوم) أي أظهر (غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بعده مثله) أي لانقطاع تكليف من يؤاخذ بترك ما كلفه (نفسي نفسي) فيه إيماء إلى قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها. (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (في رواية أنس ويذكر) أي نوح اعتذارا عن ترك الشفاعة في تلك الساعة (خطيئة التي أصاب) أي أصابها وتابها (سؤاله ربّه) بيان أو بدل مما قبله (بغير علم) حال من الضمير في سؤاله ووجه العتاب أنه كان الأولى أن يفوض الأمر إلى المولى ولم يقل أن ابني من أهلي حتى لا يقال إنه ليس من أهلك عندي (وفي رواية أبي هريرة) أي زيادة في قول نوح (وقد كانت لي دعوة) مستجابة في حق العامة (دعوتها على قومي اذهبوا إلى غيري) أي من بعدي من أكابر إخواني (اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ فَيَأْتُونَ إبراهيم فيقولون أنت نبيّ الله تعالى) أي ورسوله (وخليله من أهل الأرض) أي في زمانه (اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نحن فيه) أي من الكرب (فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا فذكر مثله) أي مثل آدم أو مثل نوح أو مثل ما تقدم (ويذكر ثلاث كلمات) أي في صورة كذبات وهي إِنِّي سَقِيمٌ وفعله كبيرهم هذا وأنها أختي لسارة (كذبهنّ) أي وليست كذبات وإنما هي معاريض وتوريات حيث اراد بقوله فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا معنى التبكيت بدليل قوله تعالى إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ وبقوله إِنِّي سَقِيمٌ أي سأسقم لأن من عاش يسقم أو يهرم ويموت وبقوله أختي في الإسلام إلا أن الأولى لمراتب الأنبياء تركها (نفسي نفسي لست لها) أي للشفاعة العظمى لكوني متلوثا بنوع من الخطايا (ولكن عليكم بموسى) استدراك لدفع ما أرهقهم من خيبة الأمل ووصمة الخجل وعليكم اسم فعل والباء زائدة لمزيد الاستعانة أي الزموا موسى واستعينوا به على الشفاعة عند المولى (فإنّه كليم الله تعالى) ويقتضي أنه ممن طال لسانه لا ممن كل بيانه. (وفي رواية فإنّه عبد) وفي نسخة عبد الله (أتاه الله التّوراة) أي وهي من أعظم الكتب الإلهية وأولها (وكلّمه) أي تكليما (وقرّبه) أي تشريفا وتكريما (نجيّا) أي مناجيا (قال فيأتون موسى فيقول لست لها) أي للحال التي ظننتم أني مستعد لها (ويذكر خطيئته التي أصاب) أي أصابها ووقع فيها (وقتله النّفس) أي وقتله القبطي وهو عطف تفسيري بدليل رواية بعض رواة البخاري بدون عاطفة وقد عده خطيئة كما عده من عمل الشيطان في الآية وسماه ظلما واستغفر ربه منه جريا على عادة الأنبياء في استعظامهم محقرات جائزة صدرت عنهم إذ لم يكن هذا عن عمد بل وقع خطأ في كافر حربي ظالم على مسلم سبطي قبل الاذن بقتله وقد أبعد الدلجي في شرحه للخطيئة بعجلته إلى ربه فإنها في نفسها نقيصة ومن ثمة عتبه عليها بشهادة وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى فإنه سؤال عن سببها تضمن إنكارها من حيث إنها نقيصة انضم إليها اغفال قومه انتهى ولا يخفى أن هذه جرأة عظيمة ونقيصة فخيمة من الدلجي حيث أثبت خطيئة لكليم الله تعالى هو عنها نزيه وقد لاطفه سبحانه وتعالى بقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى ليترتب عليه الجواب بالوجه الأولى كما قال تعالى وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى فكذا في الجواب هنا قال هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي ما تقدمتهم إلا بخطى يسيرة ابتغاء لمرضاتك في المسارعة إلى امتثال أمرك والمبادرة إلى الوفاء بوعدك (نَفْسِي نَفْسِي وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ الله) أي ذو وح خاص من خلقه أجراه فيه بنفخ جبريل في جيب درع أمه فأوجده في بطنها بلا توسط مادة أو إضافته للتشريف كبيت الله وناقة الله (وكلمته) أي حيث كان بكلمة كن أو كان يكلم الناس في المهد بطريق خرق العادة فكذا ينبغي أن يتكلم في مقام الشفاعة وهول الساعة في موقف القيامة (فيأتون عيسى فيقول لست لها) أي مجازا أو مأذونا لأمرها (عليكم بمحمّد) فإن علمه ووصفه معلم بكون المقام المحمود له خاصة (عبد) بالجر على أنه صفة لمحمد وبالرفع على تقدير هو عَبْدٌ (غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنبه وما تأخّر) أي بالنص في كتابه وأما غيره فممن أبهم في جوابه والحاصل أنه غير معاتب بما صدر عنه فيطلب هذا المقام منه (فأوتي) بصيغة المفعول المضارع المتكلم من أتى يأتي وإبدال الهمزة الثانية واوا للاجتماع الذي وقع فيه الإجماع والمعنى فيأتوني كما في رواية وهي بتشديد النون أي فيجيئونني ويطلبون الشفاعة مني (فأقول أنا لها) أي كائن أو معد أو مختص أو مدخر أو مأذون أو مخلوق (فأنطلق) أي إلى جهة العرش أو باب الجنة (فأستاذن على ربّي) أي في الطلوع إلى الكرسي أو في الدخول إلى الجنة وفي مقام الشفاعة لما ورد مصرحا به في مكان لا يقف فيه داع إلا أجيب ليس فيه بينه وبين ربه حجاب (فيأذن لي) أي ويتجلى علي بظهور آثار الجمال وسر مكاشفة استار الكبرياء والجلال (فإذا رأيته) أي علمته بهذا الحال من أوصاف الكمال (وقعت ساجدا) أي شكرا لما أنعم علي من الإفضال هذا ولا بدع أن يكون المراد بالرؤية رؤية الذات الجامعة لجوامع كمال الصفات فإنه جائز في الآخرة عند أهل السنة والجماعة خلافا للمحرومين من سعادة الزيادة ثم الحكمة في نقله صلى الله تعالى عليه وسلم من موقف العرض والحساب المؤذن بحالة السآمة والملامة إلى موقف الرحمة والكرامة لتقع الشفاعة موقع الإجابة كمن يتحرى بدعائه موقف الخدمة فإنه أحق بالاستجابة لموضع الحرمة وقد جاء في مسند أحمد أن هذه السجدة والسجدة والسجدة الآتية بعدها مقدار كل سجدة جمعة من جمع الدنيا وجاء في بعض الأخبار أن كل يوم مقدار عشر سنين فهاتان السجدتان كل سجدة مقدار سبعين سنة. (وفي رواية فآتي) أي فأجيء (تحت العرش فأخرّ ساجدا. وفي رواية) أي بدل فآتي تحت العرش (فأقوم بين يديه) أي يدي العرش أو بين يدي ربه يعني في مقام العبودية والخلوص عن الملاحظة الغيرية (فأحمده بمحامد لا أقدر عليها) أي الآن كما في نسخة يعني لا أعرفها في الدنيا ولا أقدر على أن أعبر عنها لرواية ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن (إلّا أنّه) أي لكنه سبحانه وتعالى (يلهمنيها الله) أي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ذلك المقام لتكميل المرام وفي نسخة إلا أن يلهمنيها وفي أخرى أن يلهمنيه الله وفي نسخة بمحامد لا أقدر عليه قال النووي هكذا هو في الأصول يعني في أصول مسلم قال وهو صحيح ويعود الضمير في عليه إلى الحمد؛ (وفي رواية فيفتح الله عليّ بمحامده) وفي نسخة من محامده (وحسن الثّناء عليه) عطف تفسيري على ما قاله الدلجي والأظهر هو التأسيس بالمغايرة فإن الثناء أعم من الحمد كما لا يخفى من أن الحمد قد يرد بمعنى الشكر (شيئا) أي عظيما (لم يفتحه على أحد قبلي) أي ولا بعدي من باب الاكتفاء أو بالبرهان الأولى أو المعنى قبل وقتي هذا؛ (قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيُقَالُ يَا محمّد ارفع رأسك) أي رفع الله قدرك (سل) أي لنفسك (تعطه) بهاء السكت على بناء المفعول مجزوما على جواب الأمر (واشفع) أي في حق غيرك (تشفّع) بتشديد الفاء المفتوحة أي تقبل شفاعتك ولا ترد دعوتك (فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا ربّ أمّتي) أي اسألك عفوهم أولا وعفو غيرهم آخرا أو لوحظ في الأمة معنى التغليب للاشرفية أو كان جميع الأمة في تلك الحالة كأمته لرجوعهم إلى حضرته والتجائهم إلى دعوته والتكرير للتأكيد أو أمتي حقيقة أمتي كافة مجازا وهذا كله إذا أريد به المقام المحمود من الشفاعة الكبرى كما هو الظاهر من السباق والسياق واللحاق (فيقول) أي الله سبحانه وتعالى أو ملك بأمره وفي نسخة فيقال (أدخل من أمّتك) أي من أهل الإجابة (من لا حساب عليه) أي لا مؤاخذة ولا عتاب إما عدلا وإما فضلا وهو الأظهر فضلا (من الباب الأيمن) أي الأبرك أو الأقرب بكونه يمينا فإن أبواب الجنة من جهة اليمين لا شك أنها كثيرة كما يشير إليه قوله (مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سوى ذلك من الأبواب) أي إن اختاروا دخلوهم منها وهذا غاية التعظيم ونهاية التكريم أنه يعرض عليهم جميع الأبواب ويختار لهم الأفضل الأبرك الأقرب إلى ذلك الجناب الأقدس قال المؤلف في شرح مسلم للجنة ثمانية أبواب باب الصلاة وباب الصدقة وباب الصوم ويقال له الريان وباب الجهاد وباب التوبة وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس وباب الراضين ثم قال فهذه سبعة أبواب جاءت في أحاديث ولعل الثامن هو الباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه والله تعالى أعلم (ولم يذكر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. (في رواية أنس رضي الله تعالى عنه) أي عنه (هذا الفضل) أي من الكلام وهو قوله عليه الصلاة والسلام فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارفع رأسك إلى قوله فيما سواه من الأبواب، (وقال) أي في رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (مكانه) أي بدل ما سبق (ثمّ أخرّ) بفتح همزة وكسر خاء معجمة فتشديد راء أي أسقط (ساجدا) أي لله متوسلا به لأنه أقرب حال يكون العبد من ربه في مقام قربه (فَيُقَالُ لِي يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يسمع لك) أي كل كلامك (واشفع تشفّع وسل تعطه) أي جميع مرامك (فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيُقَالُ انْطَلِقْ فمن كان في قلبه مثقال حبّة) أي وزنها (من برّة) بضم موحدة وتشديد راء أي حنطة (أو شعيرة) شك من الراوي في رواية مسلم (من إيمان) أي من ثمراته من أعمال القلب كشفقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 على مسكين أو خوف من الله تعالى أو نية صادقة أو نحو ذلك والله تعالى أعلم لأن نفس الإيمان لا يتجزأ ويدل عليه ما جاء في رواية أخرى وكان في قلبه من الخير ما يزن كذا (فأخرجه) أي من النار أو من موقف العار (فأنطلق) أي فأذهب (فأفعل) أي ما أمرت به من إخراج من يستوجب العذاب قال الغزالي وفي مفهوم هذا الحديث أن من إيمانه يزيد على مثقال حبة من برة أو شعيرة لا يدخل النار إذ لو دخل لأمر بإخراجه أولا قال ومن أهل النار من يعذب قليلا ومنهم من يعذب ألف سنة وأقصاه في حق المؤمنين سبعة ألف سنة قال وذلك آخر من يخرج من النار على ما ورد في الأخبار (ثمّ أرجع إلى ربّي) أي مقام الخطاب (فأحمده بتلك المحامد، وذكر مثل الأوّل) أي مثل ما تقدم أو مثل ما ذكر الراوي الأول وهو قوله ثم أخر ساجدا الخ (وقال فيه) أي في هذا الحديث من رواية مسلم (مثقال حبّة من خردل) أي من إيمان والخردل بالدال ويقال بالذال حب الرشاد والواحد خردلة، (فأفعل) وفي نسخة قال فافعل (ثمّ أرجع) أي إلى ربي كما في نسخة صحيحة، (وذكر مثل ما تقدّم وقال) وفي نسخة ثم قال (فيه) أي في الحديث من رواية مسلم (مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى) ثلاث مرات كذا في أصول مسلم على ما ذكره النووي (من مثقال حبّة من خردل) وهذا كله مثل للقلة لأن الإيمان والمعرفة عرض لا يوزن بالكمية وإنما يختلف باعتبار الكيفية، (فأفعل) وفي نسخة قال فافعل أي في المرة الثالثة ما أمرت به من الإخراج (وذكر في المرّة الرّابعة) أي من رواية البخاري (فيقال لي ارفع رأسك وقل متسمع) كما في نسخة أي يجب قولك وتستجب دعوتك (واشفع تشفّع وسل) وفي نسخة واسأل (تُعْطَهُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ) أي في شفاعة من (قال لا إله إلّا الله) أي في إخراج من اكتفى بالتوحيد المقرون بإقرار النبوة من النار وإدخاله في دار الأبرار وفي هذا إشعار بأن ما سبق من تقدير مثقال حبة ونحوها من الإيمان ثمرته المعبر عنها بالإيقان أو العمل بالأركان لا مجرد الإيمان الذي هو التصديق القلبي والاعتراف اللساني فكأنه أراد بمن قال لا إله إلا الله من لم يصدر عنه عبادة سواه. (قال ليس ذلك) أي الأمر بالشفاعة في حقه راجعا (إليك) ولعل وجهه أنه لم يصدر عنه ما يوجب المتابعة الباعثة على الشفاعة وإنما وقع منه مجرد إطاعة الأمر الإلهي بالتوحيد الرباني وقبول إرسال النبي الصمداني هذا ولما كان النفي موهما أن لا شفاعة لهم اصلا ولا خلاص لهم فضلا وإنما يجب عذابهم عدلا كما توهم المعتزلة في هذه المسألة فصلا استدرك سبحانه وتعالى وأكده بالقسم وعظم شأنه بقوله (ولكن وعزّتي وكبريائي) أي ارتفاع مقامي (وعظمتي وجبريائي) بكسر الجيم والراء ممدودا قيل أتى به كذا اتباعا والصحيح أنه لغة في الجبروت أي وجبروتي المشعر بالجبر والقهر المشير إلى أني لا أبالي (لَأُخْرِجَنَّ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إلّا الله) أي ولو مرة من غير تكرار وإكثار يعني من شهد أنه لا معبود موجود قادر على كل شيء سواه وبه خص عموم حديث البخاري أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أي وعمل عملا صالحا لربه ويؤيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 حديث الشيخين ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط أي غير لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، (وَمِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عنه) أي عن أنس رضي الله تعالى عنه (قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (فلا أدري في الثّالثة أو الرّابعة) اعتراض بين قال ومقوله أفاد صدور شك إما من أنس أو من قتادة في ايتهما قَالَ (فَأَقُولُ يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النّار إلّا من حبسه القرآن) أي منعه ترك الإيمان بما نزل به القرآن وقوله (أي من وجب عليه الخلود) حاصل المعنى وخلاصة المبنى وهذا تفسير قتادة قيل ومعناه من أخبر القرآن أنه مخلد في النار وهم الكفار. (وعن أبي بكر) أي الصديق رضي الله تعالى عنه برواية أحمد وابن حبان (وعقبة بن عامر) أي برواية ابن أبي حاتم وابن مردويه (وأبي سعيد) أي برواية الترمذي (وحذيفة) أي برواية أبي داود في البعث (مثله) أي مثل حديث أنس (قال فيأتون محمّدا فيؤذن له) أي في الشفاعة (وتأتي الأمانة والرّحم فتقومان) بالتأنيث تغليبا (جنبتي الصّراط) بفتح النون ويسكن أي جانبيه وناحيتيه وطرفيه يمنة ويسرة والمعنى أنهما يمثلان أو يجسمان فيشهدان للأمين والواصل وعلى الخائن والقاطع وقال بعضهم ويجوز أن تحمل الأمانة على الأمانة العظمى المؤذن بها آية إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ والرحم على صلتها الكبرى المشير إليها قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ إلى قوله تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ فيدخل في الحديث معنى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكأنهما اكتفتا جنبتي الصراط المستقيم والدين القويم هذا وقد جاء أن الصراط صعوده ألف سنة واستواؤه ألف سنة وهبوطه ألف سنة وفي مسلم عن أبي سعيد بلغنا أنه أحد من السيف وأدق من الشعر وهذا جاء مسندا مرفوعا عنه عليه الصلاة والسلام وأما قول الحلبي فإن قيل الصراط مم هو فالجواب أنه شعرة من جفون عين مالك فغير منقول المبنى ولا معقول المعنى فلا يجزم بهذا الجواب بل يقال في مثل هذا لا أدري لأنه نصف العلم والله تعالى أعلم بالصواب؛ (فذكر) وفي نسخة وذكر بالواو (في رواية أبي مالك) كما أخرجه أبو داود في البعث (عَنْ حُذَيْفَةَ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَشْفَعُ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ) بصيغة المجهول أي فيوضع على متن جهنم جسرا ممدودا ففي حديث الحاكم على شرط مسلم ورواه غيره أيضا بوضع الصراط مثل حد الموسى (فيمرّون) أي عليه كما في نسخة وجاء في رواية فيتهافت أهل النار فيها وينجو أهل الجنة منها كما قال تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (أوّلهم كالبرق) أي الخاطف كما في رواية (ثمّ كالرّيح والطّير) أي وكالطير (وشدّ الرّجال) بالجيم أي عدوهم وجريهم وقد خطئ من رواه بالمهملة وهو العرفي وجعله جمع رحل وهي رواية ابن ماهان والمراد به هنا الناقة فإن الرحل ما يوضع على البعير ثم يعبر به تارة عن البعير مجازا لكن الأول هو الصحيح المعروف بخط المصنف مضبوط بالجيم وهو كذا لكافة رواة مسلم وعند الهروي الرحال بالحاء قال ابن قرقول وهو تصحيف هذا وقد أغرب بعضهم في قوله إن المرور للصراط بهم (ونبيّكم) بالرفع يعني نفسه على طريقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 التجريد (على الصّراط) أي مستعليا (يقول اللهمّ سلّم سلّم) التكرير للتكثير أي بالنسبة إلى كل أحد من دعوة التغرير ويؤيده قوله (حتّى يجتاز النّاس) وحتى تحتمل الغاية والعلة (وذكر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (آخرهم جوازا الحديث) بفتح الجيم أي مرورا على الصراط ولو روي بكسرها لجاز ويكون معناه مجاوزة عنه (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يجيز) بضم الياء وكسر الجيم وبالزاي أي من يمضي عليه ويقطعه وفي نسخة صحيحة يجوز وهما لغتان يقال جاز وأجاز بمعنى كما ذكره النووي وزاد في نسخة صحيحة يومئذ. (وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي كما رواه الشيخان (عنه عليه الصلاة والسلام يوضع) يجوز تذكيره وتأنيثه (للأنبياء منابر) أي على قدر مراتبهم (يَجْلِسُونَ عَلَيْهَا وَيَبْقَى مِنْبَرِي لَا أَجْلِسُ عَلَيْهِ قائما) أي تاركا جلوسي حال قيامي (بين يدي ربّي منتصبا) أي على هيئة طالب الحاجة عند صاحب النعمة (فيقول الله تبارك وتعالى ما تريد أن أصنع بِأُمَّتِكَ فَأَقُولُ يَا رَبِّ عَجِّلْ حِسَابَهُمْ فَيُدْعَى بهم فيحاسبون فمنهم من يدخل الجنّة برحمته) أي بتوفيق طاعته (ومنهم من يدخل الجنّة بشفاعتي) أي لتقصيره في متابعتي (ولا أزال أشفع حتّى أعطى) بصيغة المفعول للمتكلم (صكاكا) بكسر الصاد جمع صك بفتح الصاد فارسي معرب أي كتبا (برجال) أي بأشخاص كتب فيها اسماؤهم (قد أمر بهم إلى النّار) أي أولا فيقع خلاصهم بالشفاعة آخرا (حتّى إنّ خازن النّار) بكسر الهمزة وفتحها (ليقول) بفتح اللام المؤكدة (يَا مُحَمَّدُ مَا تَرَكْتَ لِغَضَبِ رَبِّكَ فِي أمّتك من نقمة) بكسر نون وسكون قاف ويقال إنها ككلمة أي عقوبة وفي نسخة بقية أي من نفس باقية؛ (ومن طريق زياد) أي ابن عبد الله (النّميريّ) بضم النون وفتح الميم بصري اختلف في توثيقه وتضعيفه (عن أنس) كما رواه البيهقي وأبو نعيم (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْفَلِقُ) بالفاء بعد النون أي تنشق وتنفرق (الأرض عن جمجمته) بضم الجيمين أي عن رأسه ومنه قوله تعالى فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أي شاقهما للانبات والمعنى أنه أول من ينشق عنه القبر في البعث (ولا فخر) أي ولا أقول فخرا بل اتحدث شكرا أو أمتثل أمرا. (وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ. وَمَعِي لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَا أَوَّلُ من تفتح له الجنّة) أي بابها (ولا فخر) أي فيه وفيما قبله أيضا. (فآتي) الفاء تفصيلية أي فأجيء (فآخذ بحلقة الجنّة) بسكون اللام وتفتح والمعنى فأحركها كما في رواية (فَيُقَالُ مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ، فَيُفْتَحُ لِي فيستقبلني الجبّار تعالى) أي بتجلي الصفات العلى (فأخرّ ساجدا) أي استعطافا له على مراده وطلبا منه لمرضاته على عباده (وذكر نحو ما تقدّم) أي من رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ (ومن رواية أنيس) تصغير أنس وفي نسخة من رواية أنس والأول هو الصواب وهو رجل من الأنصار روى عنه شهر بن حوشب ولم ينسبه ولم يرو عنه غيره حديثه كذا في الاستيعاب وقال إسناده ليس بالقوي (سمعت رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَأَشْفَعَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَكْثَرَ ممّا في الأرض من حجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وشجر) وقد رواه أحمد بسند حسن عن بريدة إني لأشفع الخ والمعنى لعدد هو أكثر مما في الأرض جميعها من حجر وشجر والقصد الكثرة أو المراد بهما نوع من الحجر والشجر فتدبر وقد ابعد الدلجي حيث قال ولا يستبعد أن يستغيث به صلى الله تعالى عليه وسلم الناميات والجمادات مما لا يعقل فرقا من حر نار جهنم وبرد زمهريرها نعوذ بالله تعالى منهما (فَقَدِ اجْتَمَعَ مِنَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآثَارِ) وفي نسخة صحيحة من اختلاف ألفاظ هذه الآثار أي الاخبار المنقولة عن الأخيار (أنّ شفاعته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي للخلق (ومقامه المحمود) أي بين يدي الحق (من أوّل الشّفاعات) وهو الشفاعة العظمى لفصل القضاء (إلى آخرها) وهو إخراج المؤمنين من النار (من حين يجتمع النّاس) بفتح النون وفي نسخة بالتنوين أي من وقت فيه يجتمع الناس (للحشر) وهذا الجار والمجرور خبر ان أو ما قبله هو الخبر وهذا ظرف لوقوع الشفاعات وظهور مقامه المحمود فيه ومن ابتدائية أي فابتداؤها من حين اجتماعهم للحشر بعد سؤالهم الأنبياء ليشفعوا كما يشير إليه قوله (وتضيق بهم الحناجر) حتى لا يكاد أحد منهم يخرج نفسا من تفاقم الهم وتراكم الغم بصوادع القول وصوارع الهول فيرتفع إلى الحنجرة وهي رأس الغلصمة حيث تراه ناتئا فيضيق ومنه قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وهذا كناية عن ضيق الأحوال عند مشاهدة الأهوال (ويبلغ منهم) أي يؤثر فيهم (العرق) أي عرق الخجالة (والشّمس) أي حرارتها مع دنوها (والوقوف) أي تعب القيام على أرجلهم (مبلغه) أي نهاية وصوله وغاية حصوله (وذلك) أي وجميع ما ذكر من أنواع التعب الحاصل لعامة الخلق (قبل الحساب) أي الذي يترتب عليه الثواب والعقاب (فيشفع حينئذ لإراحة النّاس من الموقف) بالراء أي لتخليصهم من تعبه وبالزاي لإزالتهم وتبعيدهم من نصه (ثمّ يوضع الصّراط) أي على ظهر جهنم كما ورد (وَيُحَاسَبُ النَّاسُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أبي هريرة وحذيفة رضي الله تعالى عنهما) أي كما سبق (وهذا الحديث أتقن) بالتاء الفوقية والقاف أي أحكم وبالقبول أحق ولو روي بالياء التحتية لجاز ومعناه أثبت (فَيُشَفَّعُ فِي تَعْجِيلِ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ من أمّته إلى الجنّة) أي أولا (كما تقدّم في الحديث) أي السابق (ثمّ يشفع فيمن وجب عليه العذاب) أي استحق العقاب لارتكاب المعاصي من المؤمنين (ودخل النّار منهم حسب) بسكون السين وفتحها ونصبه على المصدر أي وفق ومثل (ما تقتضيه الأحاديث الصّحيحة) أي بالدلالات الصريحة (ثُمَّ فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أي وعمل عملا ما بمقتضاه (وليس هذا) أي قبول شفاعته لمن قال لا إله إلا الله (لسواه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من بين الشفعاء (وفي الحديث المنتشر) أي المشتهر (الصّحيح) أي الوارد في الصحيحين (لكلّ نبيّ دعوة) أي عامة (يدعو بها) أي لأمته أو عليهم وقد دعا بها كل منهم في الدنيا كما وقع لنوح وصالح وهود وموسى عليهم السلام (واختبأت) وفي رواية ادخرت (دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة) أي لأجل النفع العام في أهم المقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 (قال أهل العلم) أي بعضهم (معناه) أي معنى حديث لكل نبي دعوة لكل منهم (دعوة أعلم) بصيغة المجهول أي أعلم (أنّها) أي تلك الدعوة (تستجاب لهم) أني بضمير الجمع نظرا إلى معنى كل وأفرد في اعلم باعتبار لفظه وفي رواية اعلموا بصيغة الجمع مجهولا وهو ظاهر (ويبلغ) بصيغة المجهول أي يوصل (فيها مرغوبهم) ويحصل مطلوبهم (وإلّا) أي وإن لم يكن كذلك ولم يحصل على ما هنالك (فكم) أي فكثيرا (لكلّ نبيّ منهم من دعوة مستجابة) أي استجيب لهم في الدنيا (ولنبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم منها) أي من أصناف الدعوة (ما لا يعدّ) أي ما لا يحصى (لكن حالهم) أي في باقي دعواتهم (عند الدّعاء بها) أي بالدعوة التي لم يعلموا باستجابتها (بين الرّجاء والخوف) وهو لا ينافي غلبة رجاء المراد على خوف قوته في بعض المواد (وضمنت لهم) بصيغة المجهول مخففا أي جعلت مضمونة (إجابة دعوة) أي واحدة (فيما شاؤه) أي أرادوه واختاروه (يدعون بها على يقين من الإجابة) حال من ضمير يدعون؛ (وقد قال محمّد بن زياد) أي الجمحي البصري يروي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله تعالى عنهما وغيرهما وعنه شعبة والحمادان وآخرون ثقة (وأبو صالح) أي السمان الزيات الكوفي هو من الأئمة الثقات روى عن عائشة وأبي هريرة وغيرهما وعنه بنوه وخلق سمع منه الأعمش ألف حديث توفي بالمدينة واسمه ذكوان بالذال المعجمة (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِكُلِّ نبيّ دعوة دعا بها) أي استعجل بها (في أمّته) أي في هلاكهم أو نجاتهم (فاستجيب له وأنا أريد أن أوخّر دعوتي) بهمز ويبدل وفي نسخة صحيحة أدخر بالدال المشددة أي أجعلها ذخيرة لوقت الشدة (شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صالح) عن أبي هريرة كما في الصحيحين (لكلّ نبيّ دعوة مستجابة) أي في حق عامة أمته (فتعجّل كلّ نبيّ دعوته) أي طلب حصولها في الدنيا وأني ادخرت شفاعتي لأمتي في العقبى أي فإن نفعها أعم وأبقى زاد مسلم فهي نائلة أي واصلة وشاملة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئا. (وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هريرة) وأبو زرعة هذا هو هارم بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي يروي عن جده وغيره وروى عنه خلق من التابعين وثقه ابن معين وغيره (وَعَنْ أَنَسٍ مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمَذْكُورَةُ مَخْصُوصَةً بالأمّة مضمونة الإجابة) أي في حق العامة (وإلّا فقد أخبر صلى الله تعالى عليه وسلم أنّه سأل) أي ربه (لأمّته) أي لبعضهم أو لكلهم (أشياء من أمور الدّين والدّنيا أعطي بعضها ومنع بعضها) أي من حيث إنها لم تكن مضمونة الإجابة (وادّخر لهم هذه الدّعوة) أي لعامة الأمة التي هي مضمونة الإجابة (ليوم القيامة) وفي نسخة صحيحة ليوم الفاقة أي لوقت شدة الحاجة (وخاتمة المحن) أي وغاية أنواع المحنة ونهاية أصناف الشدة (وعظيم السّؤال) بسكون الهمز ويبدل هو الأمنية (والرّغبة) عطف تفسيري (جزاه الله) أي عنا (أحسن ما جزى) أي الله تعالى (نبيّا عن أمّته) أي ورسولا عن دعوته (وصلّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الله عليه وسلّم تسليما كثيرا) أي سلاما كثيرا يترتب عليه مراما كبيرا هذا وقد ثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال سألت ربي لأمتي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها وفي مسلم استأذنت ربي في أن استغفر لها يعني أمه فلم يؤذن لي واستأذنت في أن أزور قبرها فأذن لي والله سبحانه وتعالى أعلم ثم قيل آخر من يخرج من النار هناد بعد سبعة آلاف سنة قال الحسن يا ليتني كنت هنادا يعني لقطعه بحسن الخاتمة خوفا من سوء العاقبة فنسأل الله تعالى العافية. فصل [في تفضيله فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْكَوْثَرِ وَالْفَضِيلَةِ] (في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنّة بالوسيلة) وهي منزلة القربة والوصلة (والدّرجة الرّفيعة) أي العالية التي ليس فوقها درجة (والكوثر) فوعل من الكثرة ومعناه الخير الكثير والعطاء الوفير وفي الحديث أعطيت الكوثر وهو نهر في الجنة يعني ويصب منه في حوض الكوثر يوم القيامة (والفضيلة) أي الصفة الزائدة التي عجز عن بيانها الواصفون مما لا عين رأي ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا يبعد أن يراد بها أنواع الفضيلة فهو تعميم بعد تخصيص (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عيسى التّميميّ) تقدم، (والفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد) سبق (بقراءتي عليهما قالا ثنا) أي حدثنا (أبو علي الغّسّاني) بتشديد السين المهملة مر ذكره (قال حدّثنا النّمريّ) بفتح النون هو الحافظ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ) أي عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن القرطبي (حدّثنا أبو بكر التّمّار) بتشديد الميم نسبة إلى التمر (حدّثنا أبو داود) وهو محدث العصر صاحب السنن (حدّثنا محمّد بن سلمة) أي المرادي أبو الحارث المصري وكان أحد الأئمة الأثبات. (حدّثنا ابن وهب) سبق ذكره (عن ابن لهيعة) بفتح فكسر حضرمي بصري ضعيف وكان قاضي مصر (وحيوة) بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية ابن شريح المصري الحمصي كان حافظا مجاب الدعوة روى عنه البخاري وغيره (وسعيد بن أبي أيّوب) أي المصري ثقة (عن كعب بن علقمة) وفي نسخة عن كعب عن علقمة والأول هو الصواب كما صرح به الحلبي وغيره وهو تابعي روى عن سعيد بن المسيب وطائفة وعنه الليث وجماعة (عن عبد الرّحمن بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة مصري فقيه مقرئ ثقة وكان مؤذنا (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) وفي نسخة العاصي بالياء والصواب الأول (أنّه سمع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقول) قال الحلبي هذا الحديث أخرجه القاضي كما ترى من سنن أبي داود وقد أخرجه أبو داود في الصلاة وأخرجه مسلم أيضا فيها بالسند الذي أخرجه أبو داود سواء إلا أنه قال عن ابن وهب عن حيوة بن شريح وسعيد بن أيوب وغيرهم كلهم عن كعب بن علقمة به وأخرجه الترمذي في المناقب وقال صحيح والنسائي في الصلاة وفي اليوم والليلة وإنما أخرجه المصنف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 عند أبي داود ولم يخرجه من عند مسلم للتنوع في الروايات ولأن بينه وبين أبي داود في هذا الحديث خمسة أشخاص بالسماع ولو روي بالإجازة عن أبي علي الغساني كان بينه وبينه أربعة وليس كذلك مسلم فمسلم يقع له بالسماع بينه وبينه ستة وتارة خمسة فوقع له حديث مسلم موافقة في شيخه انتهى وحاصله أنه إنما أسنده إلى أبي داود دون مسلم لقرب سنده إليه (إذا سمعتم المؤذّن) أي صوته وفي نسخة يؤذن أي حال كونه يؤذن أو حين أذانه (فقولوا مثل ما يقول) أي من كلمات الأذان جميعها إلا الحيعلتين لحديث مسلم وغيره عن عمر المستفاد منه أنه يقال عند سماعهما لا حول ولا قوة إلا بالله ثم هل الأمر بالقول المعلق بالسماع واجب على من سمع حيث لا مانع أو مندوب قال النووي فيه خلاف ذكره الطحاوي والصحيح عن الجمهور ندبه واختلفوا هل يندب عن سماع كل مؤذن أو الأول فقط والأصح يندب إجابة الكل وكون الاول آكد (ثمّ صلّوا عليّ) قال الحلبي صرفه عن الوجوب الإجماع (فإنّه) أي الشأن (من صلّى عليّ مرّة) كذا في الأصول وكأنها سقطت من أصل الدلجي فقال أي مرة بقرينة المقام (صلّى الله عليه) أي بها كما في اصل الدلجي وقال بالمرة أو بالصلاة مرة لكنه هو غير موجود في الأصول والمعنى رحمه وضعف أجره (عشرا) أي باعتبار اقل المضاعفة الموعودة بقوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها (ثمّ اسألوا) وفي نسخة ثُمَّ سَلُوا (اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ) أي عظيمة كائنة (في الجنّة لا تنبغي) وفي نسخة لا ينبغي أي لا تحصل أو لا تليق (إلّا لعبد) أي كامل (من عباد الله) تعالى أي من أنبيائه وأصفيائه (وأرجو أن أكون أنا هو) ثم جوز أن يجعل أنا مبتدأ خبره هو والجملة خبرا أكون وأن يجعل تأكيدا لاسمها وخبرها وضع موضع إياه أو موضع اسم إشارة أي أنا ذلك العبد وأتى بلفظ الرجاء تأدبا وإيماء إلى أنه لا يجب على الله شيء (فمن سأل الله لي الوسيلة) أي هذه الدرجة وفي معناه كل ما يتوسل به إلى زيادة الزلفة (حلّت) بتشديد اللام أي نزلت ووقعت (عليه الشّفاعة) أي وجبت وجوبا واقعا عليه وقيل غشيته وقيل حقت وثبتت له وفي الحديث إيذان بجواز سؤال الدعاء من المفضول ليفوز من الفاضل المدعو له مع ثواب الله سبحانه وتعالى لهما بفائدة عظيمة وعائد جسمية من نحو شفاعة وسعادة قربة مع الإيماء إلى أن مراتب القرب إلى الله تعالى لا يتصور فيها الانتهاء. (وفي حديث آخر) كما رواه الترمذي (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الْوَسِيلَةُ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه) كما في البخاري (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إذ عرض لي) أي فاجأني وظهر لي (نهر) بفتح الهاء وتسكن (حافتاه) بتخفيف الفاء أي جانباه وطرفاه (قباب اللؤلؤ) بكسر القاف جمع قبة وهي بيت صغير مستدير ووقع في أصل الدلجي فيهما لؤلؤ مثل القباب وهو ليس من نسخ الكتاب ولا أظنه أنه رواية في هذا الباب بل هو من تصرف الكتاب وفي أصل التلمساني اللؤلؤ والدر فقيل هما بمعنى وقيل اللؤلؤ الكبير (قلت لجبريل ما هذا) أي الذي أراه (قال هذا الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى) أي خاصة (قال) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ثمّ ضرب) أي جبريل (بيده إلى طينته) بالإضافة وفي نسخة إلى طينة بالتنكير وتاء التأنيث أي من طينه (فاستخرج مسكا) أي شيئا هو مسك أو كمسك وسماه طينا جريا على غالب العادة في كون مقر الماء طينا أو بحسب الصورة. (وعن عائشة وعبد الله بن عمرو) بالواو (مثله) أي مثل حديث أنس قبله (قال) أي في حديثهما (ومجراه) أي جريان مائة (على الدّرّ) اسم جنس واحده درة وكذا قوله (والياقوت) أي ومن تحتهما المسك كالطين تحت حصى الماء فلا منافاة بين حديثهم (وماؤه أحلى) أي أكثر حلاوة وأشد لذاذة (من العسل وأبيض) وفي رواية وأشد بياضا (من الثّلج) وفي رواية أبيض من اللبن قال الدلجي ولا يلزم من كونه أحلى من العسل الاستغناء به عن أنهار العسل المصفى في الجنة لأنها ليست للشرب انتهى ولا يخفى أن نفي كونها للشرب يحتاج إلى بيان حجة في تحقيق المدعي والتحقيق أن الأنهار الأربعة عامة لأهل الجنة والكوثر موضوع للخاصة مع أنه قد يقال التقدير وماؤه أحلى من العسل الموجود في الجنة باعتبار كمال اللذة (وفي رواية عنه) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فإذا هو) أي ماؤه (يجري) أي على وجه الأرض من غير نهر (ولم يشقّ) بصيغة الفاعل وفي نسخة بصيغة المفعول (شقّا) أي لم يمل إلى شق من أحد طرفيه بل يجري جريا مستويا كما أراده سبحانه أو تمناه صاحبه من أهل الجنة (عليه) أي على النهر (حديث حوض) أي عظيم (ترد عليه) وفي نسخة صحيحة ترده (أمّتي) أي ضيافة في الجنة أو يوم القيامة والثاني أظهر لقوله (وذكر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (الحوض) ومطلقه ينصرف إلى الأشهر مع احتمال التعدد فتدبر ومعنى كون الحوض على النهر اعتماده عليه من حيث إن ماءه ممتد من مائة ومنتهى إليه إذ النهر في الجنة والحوض خارجها لما ورد ليردن على الحوض أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول إنهم مني فيقال لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي (ونحوه) أي ونحو ما ذكر عن المذكورين مروي (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا) كما في البخاري (قَالَ الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ) أي ومنه الحوض وغيره ولعله لم يصفه بالكثير كما في بعض الروايات لما يستفاد من الصيغة للمبالغة. (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّهْرُ الَّذِي فِي الجنة من الخير الذي أعطاه الله تعالى) أي لأنه مقصور على النهر أو الحوض بل الكوثر أتم وأعم والله تعالى أعلم. (وعن حذيفة فيما ذكر عليه الصلاة والسلام عن ربّه) أي روايا عنه (وأعطاني الكوثر نهرا من الجنّة) بنصب نهرا على أنه بدل أو بتقدير أعني أو على المدح ووقع في أصل الدلجي مخالفا للنسخ نهر بالرفع فقال خبر حذف مبتدأه أي هو بشهادة رواية أعطيت الكوثر وهو نهر في الجنة (يسيل) أي ينصب (في حوضي) أي يوم القيامة أو في الجنة (وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) كما روى ابن جرير وابن أبي حاتم بسند صحيح (في قوله) أي تفسير قوله تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] قال) أي ابن عباس (أَلْفُ قَصْرٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ تُرَابُهُنَّ الْمِسْكُ وَفِيهِ) أي وفي كل قصر أو فيما ذكر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 القصور وقد اخطأ التلمساني بقوله صوابه فيهن (ما يصلحهنّ) بضم الياء وكسر اللام أي ما يصلح القصور ويزينهن ويحسنهن من الخدم والأزواج والأثاث وأصناف الحور وأنواع الحبور. (وفي رواية أخرى) أي مبينة للأولى (وفيه) أي وفي كل قصر (ما ينبغي) أي يليق (له من الأزواج) أي نساء الجنة من الحور وغيرها من نساء الدنيا وهن أفضلهن وأكملهن جمالا لما قدمن في الدنيا أعمالا (والخدم) أي من غلمان كأنهن لؤلؤ مكنون والله تعالى أعلم وقد ذكر الدارقطني من طريق مالك بن مغول عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى أعطاني نهرا يقال له الكوثر لا يشاء احد من أمتي أن يسمع خرير ذلك الكوثر إلا سمعه فقلت يا رسول لله كيف ذلك قال أدخلي أصبعيك في اذنيك وسدي فالذي تسمعين فيهما من خرير الكوثر ونقله السهيلي ذكره التلمساني. فصل [فَإِنْ قُلْتَ إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ وصحيح الأثر] (فإن قلت إذا تقرّر) أي ثبت وتحرر (من دليل القرآن وصحيح الأثر) وفي نسخة الآثار ووقع في أصل الدلجي الأخبار (وإجماع الأمّة) أي من اتفاقهم (كونه أكرم البشر) يعني والبشر خير من الملك كما هو مقرر (وأفضل الأنبياء) وهم أعم من الرسل (فَمَا مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِنَهْيِهِ عَنِ التَّفْضِيلِ) أي بين الأنبياء (كَقَوْلِهِ فِيمَا حَدَّثَنَاهُ الْأَسَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا السَّمَرْقَنْدِيُّ ثنا) أي حدثنا (الفارسيّ) بكسر الراء وهو عبد الغفار (حدّثنا الجلوديّ) بضم الجيم واللام (حدّثنا ابن سفيان) وهو إبراهيم (حدّثنا مسلم) وهو صاحب الصحيح (حدّثنا محمّد بن مثنّى) وفي نسخة محمد بن مثنى بضم ميم وفتح مثلثة وتشديد نون منون (حدّثنا محمّد بن جعفر) وهو غندر وقد تقدم (حدّثنا شعبة) أي ابن الحجاج (عن قتادة سمعت أبا العالية) يراد به هنا رفيع بن مهران فإنه الذي يروي عنه قتادة وأما زياده بن فيروز فيروي عنه أيوب السختياني ومطر الوراق وبديل بن هبيرة كما حققه الحلبي (يَقُولُ حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يعني) أي يريد به (ابن عبّاس) وهو عبد الله (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) قال الحلبي وهذا الحديث في البخاري ومسلم وأبي داود (قال ما ينبغي) أي ما يصح أو ما يصلح (لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بن متّى) بفتح الميم وتشديد المثناة فوق مقصورا وقد تقدم أنها أمه والمراد بعبد كل مكلف ثم يختلف الحكم بمرجع أنا فإن لم يكن نبينا فقد كفر لما فيه من الانتقاص الذي بمثله كفر إبليس إذ قال أنا خير منه وإن كان نبيا فينبغي له التواضع لما أكرم به النبوة كذا قرره الدلجي والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يريد أنه لا يجوز لأحد من أمتي أن يعظمني وأن يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى تفضيلا لي عليه وهذا من كمال التواضع لديه قال التوربشتي وإنما خص يونس بالذكر دون غيره من الرسل لما قصه الله تعالى في كتابه عنه من توليه عن قومه وتضجره منهم وقلة صبره فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ وقال وَهُوَ مُلِيمٌ وقال إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فلم يأمن صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخامر بواطن ضعفاء أمته ما يؤدي إلى تنقيصه فبين أن ذلك ليس بقادح فيما منحه الله له من كرامة النبوة وشرف الرسالة وأنه مع ما صدر منه كإخوانه من المرسلين انتهى وقد يقال وجه تخصيصه من بين الأنبياء لكونه صلى الله تعالى عليه وسلم لما وقع عروجه إلى السماء ليلة الإسراء وحصل له مقام قاب قوسين أو أدنى مع سائر الكرامات وكان معراج يونس بطن الحوت في الظلمات لربما يتوهم متوهم أن معراج السموات أقرب إلى الرب فيكون صاحبه أفضل وأحب فدفع بأن الأمكنة بالنسبة إلى الله تعالى مستوية إذ هو بذاته تعالى منزه عن المكان ولو كان أعلى في ظهور الشأن (وَفِي غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال يعني) أي يريد أبو هريرة بالقائل (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما ينبغي لعبد الحديث) أي الخ كما تقدم (وفي حديث أبي هريرة) أي كما رواه الشيخان (في اليهودي الذي قال) أي حين استب هو ورجل من الأنصار (والذي اصطفى موسى على البشر) أي في زمانه ولكنه بإطلاقه المتبادر كان يعم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بحسب الظاهر (فلطمه رجل من الأنصار) أي غيرة على نبينا المختار (وقال تقول ذلك) أي أتقول هذا القول (والنبي بين أظهرنا) أي بيننا موجود وطالعنا بطلوعه مسعود (فبلغ ذلك) أي الخبر (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فدعا الأنصاري فأخبره بذلك (فقال لا تفضّلوا) بضم أوله وتشديد الضاد المكسورة أي لا توقعوا التفضيل (بين الأنبياء) يعني بمجرد الأهواء والآراء وزاد بعضهم ثم قال وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ يُونُسَ بن متى ثم إن النسخ والأصول بالضاد المعجمة وأعرب الدلجي حيث قال ومعناه بالصاد المهملة أي لا تفرقوا بينهم بتفصيل وبالمعجمة لا توقعوه بينهم انتهى وهو صحيح المعنى وإنما الكلام في ثبوت المبنى مع ما فيه من معارضته لقوله تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فلا بد من اعتقاد التفضيل بالإجمال أو التفصيل وأما قوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فالمعنى نؤمن بكلهم تعريضا لليهود فيما حكاه الله تعالى عنهم ويقولون نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، (وفي رواية) أي للشيخين ولأبي داود والنسائي (لا تخيّروني) بضم التاء وكسر الياء المشددة لا تفضلوني (على موسى) قاله تواضعا أو ردعا عن تفضيل يوجب نقيصة أو فتنة مفضية إلى عصبية وحمية جاهلية أو كان هذا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ والله تعالى أعلم (فذكر) أي الراوي (الحديث) أي بقيته وهي قوله قال فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان فيمن استثنى الله تعالى وفي رواية فلا أدري أجوزي بالصعقة أم لا وهي لغة أن يغشى على الإنسان من صوت شديد سمعه وربما مات ثم استعمل في الموت كثيرا والمراد بها ههنا ما أفاده وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قال المصنف رحمه الله تعالى وهذا من أشكل الاحاديث لأن موسى مات فكيف يصعق وإنما يصعق الأحياء فيتحمل أن تزن هذه الصعقة صعقة فزع بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 البعث حين تنشق السماء ويؤيده قوله فأفاق فإنه إنما يقال أفاق من الغشي وبعث من الموت وبه جزم التوربشتي حيث قال وأما الصعقة في الحديث فهي بعد البعث عند نفخة الفزع وأما البعث فلا تقدم لأحد على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فيه واختصاص موسى عليه السلام بهذه الفضيلة لا يوجب له تفضيلا على من فاز بسوابق جمة ولواحق عمة (وفيه) أي وفي هذا الحديث (وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ يُونُسَ بن متّى. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كما في رواية البخاري (مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متّى) أي من جميع الوجوه. (فقد كذب) إذ قد يكون له خصوصية في نوع من الفضيلة قال الدلجي ويجوز رجوع أنا كما مر إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أو إلى كل قائل أي لا يقول ذلك أحد وإن بلغ في العلم والعبادة أو غيرهما من الفضائل ما بلغ إذ لم يبلغ يونس من درجة النبوة انتهى ولا يخفى أن أنا في الحديث السابق يحتمل الاحتمالين وأما هنا فالاحتمال إلى القائل بعيد عن موضع تحقيق وتأييد لأن جزاءه حينئذ فقد كفر كما سبق فتدبر وأيضا ما كان أحد يتوهم منه أنه يدعي كونه أفضل من يونس حتى ينهى عنه وإنما كان يتوهم بعضهم أن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل منه في أمر النبوة والرسالة أو في علو المرتبة وفضيلة الدرجة فنهاهم إما إعلاما بتسوية نسبة النبوة والرسالة وإما تواضعا لربه وهضما لنفسه وإما قبل علمه بعلو مقامه. (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَفِي حَدِيثِهِ) أي ابن مسعود (الآخر) أي الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي (فجاءه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (رجل فقال يا خير البريّة) أي الخلق من برأه الله يبرؤه براءة خلقه فهو فعيل بمعنى مفعول والتاء للمبالغة في الكثرة وأصله مهموز كما قرأ به نافع وابن ذكوان ثم أبدلت الهمزة ياء وأدغمت وهي قراءة الباقين فقول صاحب النهاية ولم يستعمل مهموزا مبني على عدم علمه بالقراءة (فقال ذاك) وفي نسخة ذلك باللام (إبراهيم) قاله تواضعا وإكراما لكونه أبا أو لأنه أمرنا باتباعه أو قبل العلم بأنه أفضل منه. (فاعلم) جواب الشرط السابق أي فإن قلت الخ فاعلم (أنّ للعلماء في هذه الأحاديث) أي الناهية عن التفضيل بين الأنبياء (تأويلات) أي وجوها أربعة أو خمسة تقدم بيان بعضها في حل لفظها (أحدها) أي الوجه الأول منها (أنّ نهيه عن التفضيل) أي فيما بينهم (كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فَنَهَى عَنِ التَّفْضِيلِ إِذْ يَحْتَاجُ إِلَى توقيف) أي إلى سماع في تفضيل الأنبياء إذ لا درك فيه لعقول العلماء (وأنّ من فضّل) أي أحدا منهم على غيرهم (بلا علم) أي يقيني أو ظني يصلح للاستدلال (فقد كذب) أي في ذلك المقال، (وكذلك) أي مأول (قَوْلُهُ لَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْهُ) أي من يونس (لا يقتضي تفضيله هو) أي يونس على إطلاقه وقد أبعد الدلجي في قوله أي هو صلى الله تعالى عليه وسلم على يونس لدخوله في عموم النكرة في سياق النفي انتهى ووجه غرابته لا يخفى مع عدم ملائمته للمدعي بحسب المعنى (وإنّما هو) أي قوله هذا (في الظّاهر كفّ) بتشديد الفاء أي منع منه صلى الله تعالى عليه وسلم لغيره (عن التّفضيل) إذ من شأنه أن يكون منشأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 للنقص أو التجهيل (الوجه الثّاني أنّه قاله صلى الله تعالى عليه وسلم على طريق التّواضع) أي مع إخوانه وأقرانه أو لربه في عظمة شأنه (ونفي التّكبّر، والعجب) أي عن باطنه تعليما لأمته وإرشادا إلى طريقته (وهذا) أي الوجه من التأويل (لا يسلم من الاعتراض) أي في صحة التعليل فإن عدم جريه على موجب علمه أخبار بخلاف وقوعه وهو ينافي منصب النبوة وفيه أن هذا الاعتراض إنما يرد لو ثبت نفيه تواضعا بعد علمه بكونه أفضل الأنبياء أو بتفصيل التفضيل بين الأصفياء وأما قبل العلم فلا يرد اعتراض أصلا مع احتمال حمل التواضع من حيث إنه لا مفضول إلا وقد يوجد فيه ما لا يوجد في الفاضل فليس أحد منهم أفضل مطلقا على أن من تواضع لله رفعه الله وقد أبعد التلمساني حيث قال الاعتراض هو أنه لا يظهر حينئذ فائدة تخصيص يونس عليه السلام بالذكر انتهى وتبعه الأنطاكي وبعد كلامهما لا يخفى لأنه كما قال الخطابي إنما خص يونس عليه السلام لأن الله تعالى لم يذكره في جملة أولي العزم من الرسل فكأنه قال فإذا لم آذن لكم أن تفضلوني على يونس فلا تفضلوني على غيره من أولي العزم بالأولى. (الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَلَّا يُفَضِّلَ بَيْنَهُمْ تَفْضِيلًا يُؤَدِّي إلى تنقّص بعضهم) أي طلب نقصان في المرتبة أو ظهور منقصة في المنقبة لبعضهم (أو الغض) بغين وضاد مشددة معجمتين أي النقص منهم جميعا كذا ذكره الدلجي وفيه أن النسخ كلها (منه) بضمير الإفراد الراجع إلى بعضهم فالاولى أن يفسر الغض بالإغماض الذي هو كناية عن الاعراض (لا سيّما) كلمة استثناء مركبة من سي بمعنى مثل ومن ما وهي إما موصولة فيرتفع الاسم بعدها خبر مبتدأ محذوف كما في جاء القوم لا سيما أخوك أي لا مثل الذي هو أخوك وأما زائدة فينجر ما بعدها بسي لأنها كما في أكرم القوم لا سيما أخيك أي لا مثل أخيك إكراما وقول امرئ القيس ولا سيما يوم بدارة جلجل ورد مرفوعا ومجرورا والمعنى هنا خصوصا إذا كان التفضيل المتنازع فيه (فِي جِهَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَخْبَرَ الله عنه بما أخبر) أي في تنزيله بقوله ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم وبقوله فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ وبقوله إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فوقع النهي عن التفضيل عليه (لِئَلَّا يَقَعُ فِي نَفْسِ مَنْ لَا يَعْلَمُ) أي مقام قربه وأنه تداركه نعمة من ربه (منه) متعلق بيقع أي لئلا يقع في نفس الجاهل بمقامه من جهة منزلته (بذلك) أي بسبب ما أخبر الله عنه (غضاضة) بفتح أوله مرفوعة على أنها فاعل يقع أي نقص وحقارة (وانحطاط) أي تنزل (من رتبته) بضم الراء أي مرتبته (الرّفيعة) أي العالية التي هي أصل النبوة والرسالة (إذ قال تعالى) بدل من قوله إذ خبر الله تعالى (عنه) أي حكاية عن حاله ورواية عن مآله حيث قال في موضع (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أي فارق قومه وخرج عنهم حال كونه مغاضبا عليهم لإصرارهم على الكفر والعدوان وعدم رجوعهم إلى الإيمان والإحسان وكان خروجه وذهابه لم يكن عن إذن من الرحمن ولذا عبر عنه بقوله (إذ أبق) بفتح الباء وحكي كسرها (إلى الفلك المشحون) أي المملوء فإن أصل الإباق هو الهرب من السيد فحسن إطلاقه عليه ههنا لهربه من قومه بغير إذن ربه (فَظَنَّ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: 8] ) أي لن نضيق عليه أو لن نقضي عليه بالعقوبة وينصره قراءته مثقلا وروى الزمخشري أن معاوية قال لابن عباس رضي الله تعالى عنه ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك قال وما هي يا معاوية فقرأ هذه الآية فقال أو يظن نبي الله أن لا يقدر الله عليه فقال له هذا من القدر لا من القدرة قال ابن عرفة أي من الإرادة أي فظن أن لن نريد عقوبته (فَرُبَّمَا يُخَيَّلُ لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ حَطِيطَتُهُ) أي حط مرتبته ونقص منزلته عن رتبة نبوته ورفعة رسالته (بذلك) أي بسبب ما ذكره ومن جهة ما أخبر (الوجه الرّابع منع التّفضيل) أي نهيه (في حقّ النّبوّة والرّسالة) أي باعتبار أصلهما وحقيقة ماهيتهما لا في ذوات الأنبياء وزيادة خصائص الأصفياء، (فإنّ الأنبياء فيها على حدّ واحد) أي سواء غير متعدد (إذ هي) أي مادة النبوة والرسالة (شيء واحد) وهو البعثة المجردة الحاصلة بالوحي فقط وتسمى النبوة أو منضمة إلى تبليغ الغير وتسمى الرسالة وهي في حد ذاتها شيء واحد (لا يتفاضل) أي بالنسبة إى أصحابها فلا يقال مثلا نبوة آدم أفضل من نبوة غيره منهم ونظيرها حقيقة الإيمان فإنها شيء واحد بالنسبة إلى المؤمنين حال الإيقان وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام لا تفضلوني على إخواني المرسلين فإنهم بعثوا كما بعثت. (وإنّما التّفاضل في زيادة الأحوال) أي الناشئة عنها من تحسين الأخلاق والأعمال (والخصوص) أي والخصوصيات في مقامات أرباب الكمال (والكرامات) أي المعجزات وخوارق العادات (والرّتب) أي ومراتب العبادات والمجاهدات. (والألطاف) أي وأنواع الملاطفة وأصناف المخالطة من حسن المعاشرة والمجاملة والمداراة مع الأمة كاختلاف مراتب أهل الإيمان من ظهور ثمرات الإيقان ونتائج الإحسان ولوايح العوارف ولوامع المعارف وخوارق العادات للأولياء ومراتب الاجتهادات للعلماء والأصفياء. (وأمّا النّبوّة في نفسها) وكذا الإيمان في حد ذاته (فلا تتفاضل) أي لا تفاوت في حالاتها ولا تتزايد في مقاماتها، (وإنّما التّفاضل بأمور أخر) أي كما سبقت الإشارة إليها (زائدة عليها) أي على حقيقتها (ولذلك منهم رسل) أي بعض الأنبياء موصوفون بزيادة وصف الرسالة على نعت النبوة (ومنهم أولو عزم) أي الجد والاحتياط والحزم (من الرّسل) أي بناء على أن من تبعيضية وهو المعتمد لا بيانية ثم هم مجموعون في آيتين إحديهما قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وفي تقديم منك إشعار بأوليته وأفضليته صلى الله تعالى عليه وسلم على بقيتهم والباقي ذكر على ترتيب وجودهم حين بعثتهم وإن كان بعض أفضل من بعض في مقام كرمهم وجودهم وسيرتهم (ومنهم) أي وكان من الأنبياء (من رفع مكانا عليّا) كإدريس عليه السلام وهو سبط شيث وجد نوح كما قال تعالى وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا أي رفع إلى السماء وقيل إلى الجنة، (ومنهم من أوتي الحكم) أي النبوة أو الحكمة أو فهم التوراة (صبيا) أي حال صغره كيحيى عليه السلام كما قال تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا قيل أوتي النبوة وهو ابن ثلاث سنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وقيل قرأ التوراة وهو صغير (وأوتي) أي أعطي (بعضهم الزّبور) وهو داود عليه السلام ووقع في أصل التلمساني ههنا الزبر بضمتين جمعا أي صحفا مزبورة أي مكتوبة كما قال تعالى وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (وبعضهم البيّنات) أي المعجزات الظاهرات أو المبينات للنبوة بحسب الدلالات كعيسى عليه السلام كما قال تعالى وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات (ومنهم من كلّم الله تعالى) كموسى كلمه مرتين ليلة الحيرة وعلى الطور (ورفع بعضهم درجات) تفضيلا له على غيره في المقامات وهو نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لا تحصى درجات كمالاته ولا تعد مراتب مقاماته وحالاته مع مشاركته لكل من الأنبياء في ظهور آياته واقتران زيادة معجزاته وخصوصياته ولعله أبهم اعتمادا على ما أفهم لأنه كالمتعين من حيث إنه الفرد الأكمل لا سيما في مقام الختم المؤذن بكونه الأفضل (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الإسراء: 55] الآية) فالتفضيل ثابت مقطوع به في الجملة بين أرباب النبوة وكذا بين أصحاب الرسالة لقوله (وقال) أي الله سبحانه وتعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الْبَقَرَةِ: 253] ) أي بفضائل سنية وشمائل بهية وفواضل انسانية منزهة عن علائق جسمانية وعوائق شهوانية ونحوها في الدنيا ومراتب جلية ودرجات علية وأمثالها في العقبى فإن الدنيا مزرعة للآخرة (قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالتَّفْضِيلُ الْمُرَادُ لَهُمْ هنا في الدّنيا) أي غير مقصور في العقبى لا أنه غير موجود في الأخرى (وذلك) أي سبب تفضيلهم في الدنيا (بثلاثة أحوال) أي يعرف بثلاثة أوصاف (أن تكون آياته) أي خوارق عاداته (ومعجزاته) أي المقرونة بالتحدي فهي أخص مما قبله (أبهر) أي أظهر (وأشهر) ولا شك أن معجزات نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أظهر وأشهر ولو لم يكن إلا القرآن لكفى دليلا للبرهان (أو تكون أمّته أزكى) أي اتقى (وأكثر) أي أزيد من غيرهم كيفية وكمية أما الكيفية فقد قال تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وأما الكمية فقد ثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال صفوف المؤمنين مائة وعشرون وأمتي منهم ثمانون وفي نسخة أظهر بالظاء المعجمة بدل أكثر والأظهر هو الأول فتدبر وعلى تقدير صحته فلعل معناه أغلب (أو يكون) أي النبي المفضل (في ذاته أفضل وأطهر) بالطاء المهملة أي أنور وقد تصحف بالمعجمة على الدلجي وفسره بأشهر ثم مما يدل على أفضلية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم في ذاته أنه سبحانه وتعالى خلقه قبل جميع موجوداته بل جعله كالعلة الغائية في مراتب مخلوقاته وجعله أولا وآخرا في مقامات كائناته وجعل نور مشكاته محل فيوض أنوار ذاته واسرار صفاته ومعدن ظهور تجلياته هذا، (وفضله) أي وفضل كل نبي (فِي ذَاتِهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا خَصَّهُ اللَّهُ به من كرامته) أي من إكرام الله له بمناقب عظيمة ومراتب جسيمة (واختصاصه) بالجر أي وإلى اختصاص كل نبي بمقام علي وحال جلي (من كلام) أي كما وقع لموسى في الطور ولنبينا في مقام دنا بل أدنى في معرض الظهور (أو خلّة) أي كما ثبت للخليل ولنبينا الجليل مع زيادة المحبة الخاصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 والحالة الجامعة بين المحبية والمحبوبية بل الوسيلة لكل محب ومحبوب في المرتبة المطلوبية والمجذوبية (أو رؤية) أي بصرية كما اختص به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على ما تقدم أو رؤية بصيرية وهي مقام المشاهدة برفع الحجب الجسمانية كما يحصل للكمل من الافراد الإنسانية (أو ما شاء الله من ألطافه) أي الخفية وهي بفتح الهمزة جمع لطف وهو برد دقيق (وتحف ولايته) أي العلية وهي بضم التاء وفتح الحاء جمع تحفة بمعنى الهداية، (واختصاصه) أي إياهم بالمراتب الجلية (وقد روي) كما في تفسير ابن أبي حاتم ومستدرك الحاكم عن وهب بن منبه (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إنّ للنّبوّة) أي المقرونة بالرسالة (اثقالا) أي تكاليف مثقلة ذات مرارة تعرض لها بسبب التبليغ بشارة ونذارة كما أشار إليه قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (وإنّ يونس) أي لعدم تحمله وغلبة ضجره في مقام صبره عند ترك انقياد قومه وإصرارهم وشدة عنادهم وتمادي أضرارهم (تفسّخ منها) أي انسلخ منها وتجرد عنها (تفسّخ الرّبع) بالنصب أي كتفسخه تحت الحمل الثقيل وهو بضم الراء وفتح الباء أي الفصيل وهو ولد الناقة يولد في الربيع والمعنى أن يونس عليه السلام لم يستطع أن يحمل أعباء النبوة كما أن الربع لا يستطيع أن يحمل الأثقال الكبيرة (فحفظ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بنهيه عن التفضيل بينهم (موضع الفتنة من أوهام) التي هي أوهام (من يسبق إليه) أي إلى فهمه من وهمه والوهم هو الاحتمال المرجوح عند تردد حكم العقل (بسببها) أي بسبب اثقالها من سآمة وضجر وضيق نفس وقلة صبر (جرح) بفتح الجيم وسكون الراء أي طعن (في نبوّته) وفي نسخة بفتح حاء وراء وبجيم أي ضيق والظاهر أنه تصحيف (أو قدح) أي عيب (في اصطفائه) أي بالرسالة أو في اجتبائه الثابت في قوله تعالى فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (وحطّ في رتبته) أي وضع من رفعته (ووهن في عصمته) أي ضعف فيها بتوهمه ذلك (شفقة) على الحفظ أي راعي هذا المعنى المفاد من المبنى أي مخالفة (منه صلى الله تعالى عليه وسلم على أمّته) ورحمة على أهل ملته كيلا يقع أحد في وهدة غفلته وينزجر عن الإقدام على جرأته (وقد يتوجّه على هذا التّرتيب) أي على ما رتب من أن يونس ممن خصه الله تعالى بعهد النبوة والطاف الكرامة (وجه خامس وهو أن يكون) لفظ (أنا) أي في الحديث السابق (رَاجِعًا إِلَى الْقَائِلِ نَفْسِهِ أَيْ لَا يَظُنُّ) يعني لا يتوهم (أحد) أي من العلماء والأولياء (وإن بلغ من الزّكاء) أن وصلية أي وإن وصل من الفهم العالي وهو بالزاء في خط المصنف وعند العرفي بالذال المعجمة ومعناه قريب من الأول فتأمل (والعصمة) أي من الأفعال الردية (والطّهارة) أي من الأخلاق الدنية (ما بلغ) أي من الغاية والنهاية في مرتبة الولاية (أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ لِأَجْلِ مَا حَكَى الله تعالى عنه) أي من ظهور تضجره وتبرمه وقلة صبره على تمادي قومه في ترك الإيمان بما جاء به (فإنّ درجة النّبوّة أفضل) يروى أعظم (وأعلى) أي من درجة الولاية ولهذا فرق بين الحفظ والعصمة حيث خصت العصمة للأنبياء والحفظ للأولياء إذ لا يتصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 حصول الذنب عمدا من أرباب النبوة بخلاف أصحاب الولاية ولذا لما سئل جنيد أيزني العارف أطرق مليا ثم قال وكان أمر الله قدرا مقدورا وبهذا يتبين أنه لا يوجد في النبي ما يكون سببا لسلب النبوة أو الإيمان والمعرفة بخلاف الولي فإنه قد يخرج عن مرتبة الولاية بارتكاب الكبيرة ويخاف عليه من سوء الخاتمة نسئل الله العافية ولعل هذا التفصيل يبين لك معنى قوله، (وإنّ) بكسر الهمزة وفتحها (تلك الأقدار) أي المقدرات جمع قدر محركة وتسكن (لم تحطّه عنها) بتشديد الطاء أي لم تنزله عن درجة النبوة (حبّة خردل) وهي حبة الرشاد (ولا أدنى) أي أقل منها بقدر ذرة بل أقول إنها كلها كانت أسباب زيادة مثوبة ورفعة درجة من حيث إنها نشأت عن الغضب في الله والهجرة في مرضاته إلا أن بعضها كان خلاف الأولى بالنسبة إلى المقام الأعلى فإن حسنات الأبرار سيئات الأحرار فعوتب في ذلك تنبيها لما هنالك؛ (وسنزيد في القسم الثّالث في هذا) أي المبحث (بيانا) أي شافيا كافيا (إن شاء الله تعالى) أي أراد كونه جامعا مانعا (فقد بان لك الغرض) بفتح الغين المعجمة والراء أي المقصود (وسقط بما حرّرناه شبهة المعترض) أي المردود، (وبالله التّوفيق) أي على طاعة المعبود (وهو المستعان) أي في كل مورود (لا إله إلّا هو) أي الواجب الوجود وصاحب الكرم والجود وهو نعم الإله ولا إله سواه. فصل [في أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته] (في أسمائه عليه الصلاة والسلام وما تضمّنته من فضيلته) أي المشعرة بتفضيله على سائر الأنبياء الكرام اعلم أن ابن العربي المالكي في الأحوذي شرح الترمذي حكى عن بعضهم أن لله تعالى ألف اسم وللنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألف اسم ثم ذكر منها على التفصيل نيفا وستين قال الحلبي وقد رأيت مجلدين في القاهرة مصنفا يقال له المستوفى في اسماء المصطفى لابن دحية الحافظ جمع فيه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فوق الثلثمائة قلت وكان شيخ مشايخنا السيوطي اختصره في كراريس وسماها بالبهجة البهية في الاسماء النبوية واقتصر منها على التسعة والتسعين وفق عدد اسماء الله الحسنى الثابتة بالطرق المرضية إذ قد قال ابن فارس هي الفان وعشرون وفي الجملة كثرة الاسماء تدل على شرف المسمى المشعرة بكثرة النعوت والأوصاف (حدّثنا أبو عمران) بكسر أوله (موسى بن أبي تليد) بفتح فكسر (الفقيه) بالرفع (ثنا) أي حدثنا (أبو عمر الحافظ) أي ابن عبد البر، (ثنا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ) بفتح همزة وسكون مهملة وفتح موحدة فغين معجمة غير مصروف الإمام الحافظ محدث الأندلس سمع ابن قتيبة وابن أبي الدنيا وروى عنه حفيده قاسم بن محمد والحافظ الباجي وفي آخر عمره قطع الرواية خوفا من الغلط وانتهى إليه علو الإسناد والحفظ والجلالة وتوفي بقرطبة سنة أربعين وثلاثمائة (ثنا محمّد بن وضّاح) بتشديد الضاد المعجمة (ثنا يحيى) أي راوي الموطأ (ثنا مالك) أي الإمام (عن ابن شهاب) أي الزهري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أبيه) قال التلمساني لم يثبت في رواية يحيى هكذا وإنما أرسله ابن شهاب عن محمد بن جبير عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم قيل وارساله هو الصحيح عن مالك في الموطأ ووصله غيره عن مالك وغيره عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بن مطعم عن أبيه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم ورواه ابن بكر والقعنبي وابن القاسم وعبد الله بن يوسف وإسماعيل بن أبي أويس كيحيى ووصله معن بن عيسى وعبد الله بن نافع وأبو مصعب ومحمد بن المبارك الهروي ومحمد بن عبد الرحيم ورواه القعنبي عن مالك مرسلا وعن ابن عيينة مسندا والأكثر عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ ورواه حماد بن سلمة عن جعفر بن أبي وحشية عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه يعني جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل صحابي اسلم بعد الحديبية قال الحلبي هذا الحديث أخرجه القاضي من الموطأ كما ترى وهو في البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وإنما لم يخرجه من عند البخاري مثلا فإنه بين القاضي وبين مالك في هذا الحديث ستة أشخاص ولو أخرجه من طريق البخاري كان بينه وبين مالك في بعض الطرق ثمانية أشخاص فاجتمع له في رواية هذا الحديث علو لا يجتمع له إذا رواه من عند البخاري وكذا يجتمع له إذا أخرجه من بقية الكتب والله تعالى أعلم (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لي خمسة أسماء) أي عظيمة أو شهيرة (أنا محمّد) اسم مفعول من التحميد مبالغة الحمد نقل من الوصفية إلى الاسمية سمي به رجاء أن يحمده الأولون والآخرون بالهام الله تعالى وكان كذلك في الدنيا والعقبى وعن ابن قتيبة أن من أعلام النبوة أنه لم يسم قبله أحد باسمه صيانة من الله تعالى لرسمه إذ قد سماه به في كتبه وبشر به الأنبياء قبله فلو تسمى به غيره وقع الاشتراك له وربما انتشرت دواعي النبوة ووقعت الشبهة وقامت الفتنة لكن لما قرب زمنه وبشر بقربه أهل الكتاب تسمى به قليلون لم يدع أحد منهم النبوة لئلا تقع الشبهة والله تعالى ولي العصمة، (وأنا أحمد) اسم تفضيل بمعنى الفاعل أو المفعول كما سيأتي بيانه من المنقول. (وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ) أي الكفر العام أو غلبته على دين الإسلام ولم يقل به ليعود ضمير الصلة إلى الموصول لأن قصده الإخبار عن نفسه مع أن ضميرها عبارة عنه فلم يبال بعوده إليه لا من اللبس لديه وقال التلمساني روي الكفر ومعناه يذهب أصله والتشرع به حتى يكون معتقدا ومذهبا وروي الكفرة جمع كافر فالتقدير دين الكفرة أو نفس الكفرة قتلا وسبيا وإجلاء (وأنا الحاشر) أي الجامع (الذي يحشر النّاس) بصيغة المجهول (على قدمي) بتخفيف الياء وكسر الميم على الإفراد أي على سابقتي كذا قيل وبتشديدها مع فتح الميم على التثنية قال النووي كذا ضبطوه بالوجهين أي على أثري وبعد ظهوري وقيامي في قبري بدليل حديث أنا أول من تنشق عنه الأرض كما ذكره البغوي في شرح السنة وبهذا المعنى يغاير قوله (وأنا العاقب) أي الآتي عقب الأنبياء ليس بعدي نبي ففي الصحاح العاقب يعني آخر الأنبياء وكل من خلف بعد شيء فهو عاقبة وبالجمع بينهما أشار إلى حديث نحن الأولون الآخرون وقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 معنى على قدمي على أثري وزمان نبوتي وليس بعدي نبي بشهادة رواية وأنا الحاشر الذي يحشر الناس خلفه وعلى ملته دون غيره فيكون قوله وأنا العاقب كالتأكيد لما قبله. (وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مُحَمَّدًا) أي بقوله وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ومحمد رسول الله (وأحمد) أي بقوله حكاية عن عيسى وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (فمن خصائصه تعالى له) مصدر مضاف إلى فاعله أي فمما خصه الله سبحانه وتعالى به (أن ضمّن) بتشديد الميم أي تضمين الله سبحانه (أسماءه) أي من نحو أحمد ومحمد مع انهما أعلام له (ثناءه) أي ما يثنى به عليه (فطوى) بالفاء لا بالواو كما وقع في أصل الدلجي أي فأدخل (أثناء ذكره) أي خلال ذكر اسمه (عظيم شكره) كقوله وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، (فأمّا اسمه أحمد فأفعل) أي للتفضيل (مبالغة) أي لإفادته ثبوت زيادة الحمد وحذف متعلقه لإفادة الشمول وإلا فافعل ليس من صيغ المبالغة كالحماد لكن في المعنى أبلغ منه (من صفة الحمد) أي مأخوذ منه، (ومحمّد مفعّل مبالغة) أي للمبالغة (من كثرة الحمد) أي المحمودية المستفادة من مصدره الذي هو التحميد الموضوع باعتبار بنائه للتكثير والمبالغة في التكرير قال التلمساني وقد ضمن اسمه سورة الحمد انتهى وقد أشار إليه العارف الجامي حيث قال في ألم ألف لام الحمد ميم يعني بطريق التبديل على قواعد التعمية فيصير المعنى محمد وأن الإشارة به في ذلك إليه صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه الكتاب الجامع واللباب اللامع (فهو صلى الله تعالى عليه وسلم أجلّ من حمد) أي أعظمه بفتح فكسر (وأفضل من حمد) بضم فكسر أي أكرمه ففيه لف ونشر مرتب لمعنيي أحمد ومحمد وضبط في بعض النسخ بعكس ما ذكر فيكون لفا ونشرا مشوشا ولا يبعد أن يكون المعنيان مستفادين من احمد وحده لأن أفعل قد يبنى للفاعل وقد يبنى للمفعول ويراد بقوله (وأكثر النّاس حمدا) كون مصدره بمعنى المفعول وإن احتمل كونه للفاعل أيضا والحاصل أن صفة الحامدية والمحمودية فيه بلغت غاية الكمال ونهاية الجمال (فَهُوَ أَحْمَدُ الْمَحْمُودِينَ وَأَحْمَدُ الْحَامِدِينَ وَمَعَهُ لِوَاءُ الحمد يوم القيامة) أي المسمى بيوم الدين (ليتمّ له) بفتح ياء وكسر تاء وروي بصيغة المجهول (كمال الحمد ويتشهّر) من باب الافتعال وفي نسخة ويتشهر من باب التفعل أي وتظهر هيبته وتنتشر (في تلك العرصات) بفتح الراء جمع عرصة بسكون الراء وهو في الأصل كل موضع واسع لا بناء فيه من فناء الدار وساحتها وجمع للمبالغة كما في عرفات والمراد به مقامات يوم القيامة ومواقفها ولا يبعد أن يكون وجه الجمع هو أن كل عرصة مخصوصة بأمة (بصفة الحمد) أي العامة للخلق، (وَيَبْعَثَهُ رَبُّهُ هُنَاكَ مَقَامًا مَحْمُودًا كَمَا وَعَدَهُ) أي في كتابه بقوله عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (يحمده فيه الأوّلون والآخرون بشفاعته لهم) أي عامة وخاصة (ويفتح) أي الله تعالى (عليه فيه) أي في ذلك المقام (من المحامد) جمع محمدة بمعنى الحمد (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: ما لم يعط غيره) أي أحد من العالمين (وسمّى أمّته) أي وصفهم (في كتاب أنبيائه بالحمّادين) كما في حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 الدارمي عن كعب يحكي عن التوراة قال نجد مكتوبا فيها محمد رسول الله عبدي المختار لا فظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون يحمدون الله تعالى في السراء والضراء يحمدون الله في كل منزل ويكبرونه على كل شرف رعاة للشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها يتأزرون على أنصافهم ويتوضأون على أطرافهم مناديهم ينادي في جو السماء صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء لهم بالليل دوي كدوي النحل (فحقيق) أي وإذا اختص بما منحه الحق من مناقب حميدة ومراتب محمودة فجدير (أن يسمّى محمّدا وأحمد) أي لأكثرية حامديته وأظهرية محموديته (ثمّ في هذين الاسمين) أي العظيمين الوسيمين (من عجائب خصائصه) أي غرائب خصوصياته، (وبدائع آياته) أي الدالة على كمال صفاته (فنّ آخر) أي نوع آخر من أنواع كراماته (وهو أنّ الله جلّ اسمه حمى) أي حفظ اسمي حبيبه ومنع بالقدرة (أن يسمّى بهما أحد قبل زمانه) أي لئلا يشاركه أحد في علو شأنه كما يشير إليه قوله تعالى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (أمّا أحمد الذي أتى في الكتب) أي من نحو الإنجيل (وبشّرت به الأنبياء) كموسى وعيسى عليهما السلام (فمنع الله تعالى بحكمته) أي وبإرادته وقدرته (أن يسمّى) وفي نسخة يتسمى (به أحد غيره) أي على جهة العلمية (ولا يدعى به مدعوّ قبله) أي على نسبة الوصفية (حتّى لا يدخل لبس) بفتح اللام أي التباس واشتباه صوري (على ضعيف القلب) أي ممن ينظر إلى مجرد الاسم ولم يتفكر في حقيقة مسماه (أو شكّ) أي تصوري في معدن النبوة ومنبع الرسالة فيستوي عنده الإسمان مع أن مسمياهما لا تستويان كما وقع لبعض أرباب العقول الخالية من المعقول والمنقول من التسوية بين اله العالمين وبين الإله المنحوت من الحجر والطين ولهذا قال الله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ قال الانطاكي وهذا الذي ذكره المؤلف هو الصواب ونقل الحافظ أبو حفص الأنصاري عن القشيري قولا في تسمية الخضر بأحمد ثم قال وقد وهاه ابن دحية والله تعالى أعلم (وكذلك) أي وكاسمه أحمد (محمّد أيضا) أي حمى (لم يسمّ) وفي نسخة لم يتسم (بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَلَا غَيْرُهُمْ إِلَى أن شاع) أي بإخبار الرهبان وغيرهم (قبيل وجوده عليه الصلاة والسلام وميلاده) أي قبيل زمان ولادته (أن نبيّا) أي عظيم الشأن في آخر الزمان (يبعث) أي يرسل (اسمه محمّد فسمّى قوم) أي جمع (قَلِيلٌ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءَهُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يكون أحدهم هو) أي إياه يعني النبي المبعوث، (والله أعلم حيث يجعل رسالته) وفي قراءة رسالاته (وهم) أي المسمون بمحمد قبل ميلاده (محمّد بن أحيحة) بضم همزة وفتح حاءين مهملتين بينهما تحتية ساكنة (ابن الجلاح) بجيم مضمومة وتخفيف اللام في آخره مهملة وعده من الصحابة ابن عبد البر وأبو موسى (الأوسيّ) بفتح الهمزة نسبة إلى قبيلة من الأنصار، (ومحمّد بن مسلمة) بفتح فسكون ففتح (الأنصاريّ) أحد بني حارثة شهد بدر أو غيرهما ومات بالمدينة وفي عده منهم نظر ذكره الشمني وغيره. (ومحمّد بن بدّاء) بفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 موحدة وتشديد دال مهملة بعدها ألف ممدودة وفي نسخة صحيحة بباء موحدة فراء ممدودة وعده من الصحابة أبو موسى (البكريّ) بفتح فسكون (ومحمّد بن سفيان بن مجاشع) بضم الميم وكسر الشين المعجمة واختلف في صحبته على ما قاله أبو نعيم وأبو موسى قال التلمساني والصحيح أنه لم يسلم. (ومحمّد بن عمران) بكسر العين وسكون الميم وفي نسخة حمران بضم الحاء من الحمرة واقتصر عليه التلمساني (الجعفيّ) بضم الجيم (ومحمّد بن خزاعي) بضم الحاء وبالزاي المعجمة (السّلميّ) بضم ففتح (لا سابع لهم) وزاد بعضهم على المصنف اسماء أخر لا فائدة في ذكرها. (ويقال أوّل) وفي نسخة أن أول (من سمّي) بصيغة المجهول وفي نسخة تسمى (محمّدا محمّد بن سفيان) أي ابن مجاشع التميمي، (واليمن، تقول) أي وأهل اليمن يقولون (بل) وفي نسخة محمد بن سفيان باليمن ويقولون بل (محمّد بن اليحمد) أي هو المسمى به أولا واليحمد بضم الياء وسكون الحاء وكسر الميم على ما ضبطه المحققون كالنووي وغيره وفي نسخة بفتح الياء وضم الميم وفي أخرى بالفتح والكسر وفي القاموس يحمد كيمنع وكيعلم قال التلمساني وروي الحمد مصدر حمد (من الأزد) بالفتح الهمزة وسكون الزاي قبيلة عظيمة في اليمن فيكون هو السابع على ما هو الشائع (ثُمَّ حَمَى اللَّهُ كُلَّ مَنْ تَسَمَّى بِهِ أن يدّعي النّبوّة) أي بنفسه (أو يدّعيها أحد له) أي ويتبعه (أو يظهر عليه سبب) أي من خرق العادات (يشكّك) بكسر الكاف الأولى أي يوقع في الشك (أحدا) أي من أهل زمانه (في أمره) أي شأنه (حتّى تحقّقت السّمتان) بكسر السين وفتح الميم أي العلامتان الدالتان على المحمدية والأحمدية (له صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي بعض النسخ السيمتان بياء بعد السين والصواب الأول هذا وتحققت بصيغة الفاعل على ما هو المتبادر وضبطه الأنطاكي بضم التاء والحاء على بناء المجهول وهو خلاف الظاهر (ولم ينازع) بفتح الزاي أي يعارضه أحد (فيهما) أي في النعتين الموسومين، (وأمّا قوله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بي الكفر) أي يزيله ربي بسببي (ففسّر) بصيغة المجهول أي فبين (في الحديث) أي نفسه من غير احتياج إلى تفسير غيره غايته أن محوه مجمل محتمل كما بينه بقوله (ويكون محو الكفر) أي ذهاب أثره، (إمّا من مكّة وبلاد العرب) أي أيام حياته (وما زوي) بضم الزاي وكسر الواو أي قبض وجمع (له من الأرض) كما ورد أن الله زوي لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها (ووعد) بصيغة المجهول (أنّه يبلغه ملك أمّته) أي بعد مماته فعلى هذا يكون المحو خاصا (أو يكون) حقه أن يقول ويما أن يكون (المحو عامّا بمعنى الظّهور والغلبة) أي في الحجة على كل دين وملة في جميع الأمكنة والأزمنة (كما قال تعالى: لِيُظْهِرَهُ) أي ليغلبه ويعليه والضمير إلى دين الحق أو إلى الرسول المطلق (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33] ) أي على الأديان جميعها بمحو أدلتها وبرهانها وظهور بطلانها وإبطال سلطانها (وقد ورد تفسيره في الحديث) أي على ما رواه البيهقي وأبو نعيم (أَنَّهُ الَّذِي مُحِيَتْ بِهِ سَيِّئَاتُ مَنِ اتَّبَعَهُ) قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 الدلجي لقوله تَعَالَى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وفيه أن هذا حكم عام غير مختص به عليه الصلاة والسلام فالأولى أن تحمل السيئات على الصغائر والاتباع على معظم الحسنات واجتناب الكبائر بشهادة قوله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقوله تعالى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ولا يبعد أن تكون هذه الخصلة من خصائص هذه الملة. (وَقَوْلُهُ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قدمي) قد سبق تحقيق مبناه وتدقيق معناه إلا أنه زاد الموصول هنا ثم لم يقل على قدمه لأن قصده الإخبار عن نفسه كما في قول علي أنا الذي سمتني أمي حيدره واعاده هنا أيضا ليفسره بقوله (أي على زماني وعهدي) فالمراد بالناس الخلق الآتون بعده كما بينه بقوله (أي ليس بعدي نبيّ) أي يكون على عهده وفيه إيماء إلى أن عيسى عليه السلام بعد نزوله يكون تابعا له في دينه وحاكما على وفق قوله كما قال الله تعالى (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ) بكسر التاء وفتحها (وسمّي عاقبا لأنّه عقب) بفتح القاف أي خلف (غيره من الأنبياء) وجاء بعدهم لتكميل الخير وزيد في بعض النسخ المصححة هنا (وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ. وَقِيلَ مَعْنَى عَلَى قَدَمِي أَيْ يُحْشَرُ النّاس بمشاهدتي) أي بمشهد مني ومحضر عندي (كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي شاهدين لهم أو شاهدين عليهم (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] ) أي شاهدا ومطلعا أو مزكيا ومثنيا الذي قررنا دفع قول الدلجي وهذا مخالف لظاهر الآية المفاد فيها بالتعدية بعلى ولو كانت كما زعم لكانت باللام على أن على قد تأتي بمعنى اللام في الكلام كقوله تعالى لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وزيد في بعض النسخ هنا (وقيل على قدمي) أي معناه (على سابقتي) أي سبق قدمي وتقدم قيامي من قبري وتحقق تقدمي في مقامي (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: 2] ) أي مراتب تقدم مترتب على تفاوت صدق لهم في حالهم عند ربهم ووقوعهم على قدر مقامهم (وَقِيلَ عَلَى قَدَمِي أَيْ قُدَّامِي وَحَوْلِي أَيْ يجتمعون إلى يوم القيامة) يعني ويلجأون إلي في طلب الشفاعة (وقيل قدمي على سنّتي) أي على قدر متابعتي ومقدار طاعتي في الدنيا ليكون لهم القرب والمنزلة في العقبى وفي نسخة وقيل قدمي سنتي (ومعنى قوله لي خمسة أسماء) أي مع أن له اسماء كثيرة (قيل إنّها موجودة) أي الخمسة جميعها مذكورة ومسطورة (في الكتب المتقدّمة) أي بأجمعها (وعند أولي العلم) أي ومشهورة عند العلماء من الأنبياء والأصفياء (من الأمم السّالفة) أي الماضية فهذا وجه تخصيصها؛ (والله أعلم) أي بما أراد نبيه بها (وقد روي) أي كما في الدلائل لأبي نعيم وفي تفسير ابن مردويه من طريق أبي يحيى التيمي وهو وضاع عن سيف بن وهب وهو ضعيف عن أبي الطفيل (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة عليه الصلاة والسلام (لي عشرة أسماء) الجمهور على أن مفهوم العدد ليس بحجة فلا معارضة بينه وبين ما سبق من حديث لي خمسة اسماء (وذكر منها) أي من جملة العشرة (طه ويس؛ حكاه مكّيّ) أي كما سبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 وأعاده هنا لبيان مبناه وتبيان معناه (وقد قيل في بعض تفاسير طه. إِنَّهُ يَا طَاهِرُ يَا هَادِي، وَفِي يس يا سيّد) إيماء بذكر الحروف الواقعة في اوائل المسميات إلى تلك الصفات غايته أنه مع تصريح ياء النداء في يس وتقديره في طه، (حكاه) أي هذا التأويل (السّلميّ) بضم ففتح وهو أبو عبد الرحمن بن عبد الخبير صاحب تفسير الحقائق (عن الواسطي) وهو الإمام الجليل الصوفي محمد بن موسى (وجعفر بن محمّد) أي وعنه أيضا وهو الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر أحد أكابر أئمة أهل بيت النبوة؛ (وذكر غيره) أي غير أبي محمد مكي (لي عشرة أسماء، فذكر) أي ذلك الغير (الخمسة) أي الاسماء (التي في الحديث الأوّل) وهي محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب، (قال) أي ذلك الغير في بيان الخمسة الأخر (وأنا رسول الرّحمة) الخ وأما تفسير الدلجي قال كما رواه ابن سعد عن مجاهد مرسلا فهو وإن كان يناسب المقام إلا أنه ينافي المرام هذا وقد جاء أنا رحمة مهداة وقال الله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (ورسول الرّاحة) أي لما يترتب على الرحمة الراحة في الدنيا والآخرة والأظهر أن المراد بالراحة نفي الكلفة ورفع المشقة عن هذه الأمة لقوله تعالى وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ولقوله وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ولقوله عليه الصلاة والسلام عليكم بدين العجائز (ورسول الملاحم) بفتح الميم وكسر الحاء المهملة جمع ملحمة وهو الحرب الشديد وأصلها معركة القتال وهي موضعه ولفظ مجاهد فيما رواه ابن سعد عنه مرسلا أنا رسول الرحمة أنا رسول الملحمة وأضيف إليها لحرصه على المجاهدة المأمور بها ومن ثمه قال علي كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يكن أحد منا إلى العدو أقرب منه ثم لا تعارض بين كونه رسول الرحمة ورسول الملحمة إذ هو سلم لأوليائه وحرب لاعدائه كالنيل ماء للمحبوبين ودماء للمحجوبين وكالقرآن شفاء ورحمة للمؤمنين وداء ونقمة للمتكبرين وقد قال الله تعالى في حقه بَشِيراً وَنَذِيراً أي للمطيعين والعاصين ولعل رحمته كانت غالبة تخلقا باخلاق ربه حيث قال في الحديث القدسي والكلام الأنسي سبقت رحمتي غضبي كما يشير إليه تقديم البشير في مقام العموم وهو لا ينافي تقديم الأنذار حال خطاب الكفار المفيد في ذلك المحل تقديم التخويف فتأمل قال التلمساني وروي أن قوما من العرب قالوا يا رسول الله أفنانا الله تعالى بالسيف فقال ذاك أنقى لآخركم فهذا معنى الرحمة المبعوث بها صلى الله تعالى عليه وسلم اعلم (وأنا المقفيّ) بصيغة الفاعل من باب الافتعال وفي نسخة المقفي بضم ففتح فتشديد فاء مكسورة بضيغة الفاعل كما صرح به شمر وهو أنسب بقوله (قفّيت) بتشديد الفاء وفي نسخة بتخفيفها وفي نسخة قفوت (النّبيّين) أي جئت بعدهم واتبعت هديهم او أريد به المولى الذاهب والمعنى أنه آخر النبيين فإذا قفى فلا نبي بعده وأما قول الدلجي قال الله تعالى ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا فيوهم أن الوصف بصيغة المفعول وليس كذلك (وأنا قيّم) بتشديد الياء المكسور، (والقيّم الجامع) أي للخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 (الكامل) أي للفضائل والفواضل في تحسين الشمائل (كذا وجدته) أي بخط بعض العلماء أو في تصنيف بعض العلماء (ولم أروه) أي عن أحد من أئمة الحديث في طريق الأنبياء لكن رواه الديلمي في فردوسه ولم يسنده في مسند الفردوس وفي النهاية حديث أتاني ملك فقال أنت قيم وخلقك قيم أي حسن مستقيم (وأرى) بفتح الهمزة والراء أي أذهب أو بضم الهمزة وفتح الراء أي وأظن (أنّ صوابه قثم بالثّاء) أي المثلثة المفتوحة بعد القاف المضمومة وهو غير مصروف لأنه معدول عن قائم وهو المعطي (كما ذكرناه بعد) أي كما سيأتي ذكره بعد ذلك (عن الحربيّ) أي منقولا عنه بلفظ قثم بالمثلثة وهو المأخوذ من القثم بمعنى الجمع كما أشار إليه بقوله (وهو أشبه) أي من حيث اللفظ (بالتّفسير) أي الذي سبق قريبا من قوله الجامع الكامل واستحسن كلامه الحلبي ولا يبعد أن تكون الروايتان ثابتتين وكون إحديهما أشبه بالتفسير لا يفيد صوابها وتصحيف غيرها مع أنه قد يكون التفسير حاصل المعنى لا أصل المبنى على أن قوام الشيء واستقامته لا يكون إلا بكماله وجامعيته في حد ذاته ويؤيد ما قررنا ويقوى ما حررنا قوله (وقد وقع أيضا) أي القيم بالتحتية (في كتب الأنبياء) أي الماضية ومنها رواية المصنف (قَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اللَّهُمَّ ابْعَثْ لَنَا محمّدا مقيم السّنّة) أي مقومها بطريق الوفرة (بعد الفترة) أي الفتور في الطاعة (فقد يكون القيّم بمعناه) أي بمعنى المقيم الوارد بمعنى المقوم كما فسر الدعاء الوارد اللهم أنت قيم السموات بمعنى مقومها ومقيمها ومديمها وقد أبعد الدلجي في تقييد قوله معناه بالمثلثة، (وروى النّقّاش عنه عليه الصلاة والسلام لي في القرآن) أي مذكور ومسطور (سبعة أسماء محمّد) وهو قوله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (وأحمد) وهو قول عيسى عليه السلام يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (وطه ويس) وفي نسخة تقديم وتأخير بينهما وسبق بيانهما (والمدّثّر، والمزّمّل) أي في أوائل سورهما (وعبد الله) كما في قوله سبحانه وتعالى وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ ولعله اقتصر عليها لشهرتها وإلا فله فيه اسماء كثيرة كالنبي والرسول والخاتم والحريص والعزيز والرؤوف والرحيم وأمثال ذلك مما يدل على صفات له هنالك. (وفي حديث) أي ثابت (عن جبير) بالتصغير (ابن مطعم) بضم ميم وكسر عين (رضي الله عنه هي) أي اسمائي (ستّ) الظاهر ستة ولعل وجه التّذكير تأنيث الضمير (محمّد، وأحمد وخاتم) بكسر التاء وفتحها (وعاقب وحاشر وماح) اسم فاعل من المحو وقد سبق معانيها في ضمن مبانيها؛ (وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه) كما رواه مسلم (أنّه كان صلى الله تعالى عليه وسلم يسمّي لنا نفسه أسماء) أي متعددة (فيقول: «أنا محمّد وأحمد والمقفّي) بكسر الفاء المشددة أي الذاهب المولى فمعناه آخر الأنبياء والمتبع لهم كالقفا فكل شيء يتبع شيئا فقد قفاه (والحاشر) أي الجامع للحشر والباعث للنشر (ونبيّ التّوبة) أي من حيث إنه يتوب على يده جمع كثير من أهل دينه أو لأن توبة هذه الأمة حاصلة بمجرد الندامة وما يتبعها من العلامة بخلاف توبة الأمم السالفة فإنها كانت بارتكاب الأمور الشاقة أو أنه كثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 التوبة بالرجعة والأوبة لحديث البخاري إني لأستغفر الله تعالى في اليوم مائة مرة أو لأن باب التوبة ينغلق في آخر هذه الملة، (ونبيّ الملحمة) بفتح الميم والحاء القتال العظيم وهو كقوله بعثت للسيف. (ونبي الرحمة ويروى المرحمة والرّاحة) روايات أربع (وكلّ) أي من الألفاظ المذكورة (صحيح إن شاء الله تعالى) أي كما سيأتي وجوهها مسطورة (ومعنى المقفّي معنى العاقب) وقد سبق بيانه وقيل المتبع للنبي (وأمّا نبيّ الرّحمة والتّوبة والمرحمة والرّاحة فقد قال الله تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 107] ) يعني والرحمة مرادفة للمرحمة ومتضمنة للراحة ومتسببة عن التوبة (وكما وصفه) أي سبحانه وتعالى (بأنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بكونه منعوتا بالرحمة الموجبة للراحة والباعثة على التوبة المقتضية للمرحمة (يزكّيهم) أي يطهر أمته عن دنس المعصية (ويعلّمهم الكتاب والحكمة) أي السنة وكلها أسباب الرحمة وبواعث التوبة (ويهديهم إلى صراط مستقيم) أي ويدلهم على دين قويم. (وبالمؤمنين رؤوف رحيم) أي وعلى العاصين كافة كريم حليم (وقد قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (في صفة أمّته إنّها أمّة مرحومة) أي مغفور لها متاب علينا كما رواه الحاكم في الكنى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بسند ضعيف ورواه أبو داود والطبراني والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عقاب في الآخرة إنما عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والبلايا (وقد قال تعالى فيهم) أي في حقهم أصالة وفي حق غيرهم تبعا حيث نزل فِيهِمْ: (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [الْبَلَدِ: 17] ) أَيْ بموجبات الرحمة أو بها كافة على البرية (أَيْ يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَبَعَثَهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ربّه تعالى) أي على وجه الإكرام (رحمة لأمّته) أي خاصة (ورحمة للعالمين) أي عامة إذ هو رحمة للكفار من عذاب الاستئصال في هذه الدار (ورحيما بهم) أي بخصوصهم وعمومهم بحسب استحقاقهم (ومترحّما) أي متكلفا لإظهار الرحمة أو مبالغا في استنزال المرحمة (ومستغفرا لهم) أي طالبا المغفرة لذنوب أمة الإجابة وتوفيق الإيمان لأمة الدعوة (وجعل) أي الله سبحانه وتعالى (أمّته أمّة مرحومة) أي لكونه نبي الرحمة (ووصفها بالرّحمة) أي بكونها راحمة كما قال الله تعالى رُحَماءُ بَيْنَهُمْ لكونه نبي الرحمة فهم جامعون بين الراحمية والمرحومية كما يشير إليه قوله (وأمرها بالتّراحم) أي بأن يترحم بعضهم على بعض (وأثنى عليه) أي ومدح التراحم وبالغ فيه ليكون سببا لرحمته سبحانه وتعالى عليهم وفي نسخة وأثنى عليها أي على صفة الرحمة (فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) كما رواه الشيخان عن أسامة بن زيد إلا أنه بلفظ يرحم بدل يحب (وقال) أي في حديث آخر رواه أبو داود والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يرحمكم) بالجزم والرفع (من في السّماء) أي من الملأ الأعلى أو من في السماء ملكه وعرشه أو من هو معبود في السماء زاد الترمذي والرحمة شجنة من الرحمن أو قطعة مأخوذة من صفة الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 من وصلها وصله الله تعالى ومن قطعها قطعه الله تعالى وهو حديث مسلسل بالأولية لبعض أرباب الرواية لكن أسانيده غير صحيحة عند أصحاب الدراية لانقطاع التسلسل من عمرو بن دينار عن أبي قابوس عن مولاه ابن عمرو، (وأمّا رواية نبيّ الملحمة) على ما أخرجه ابن سعد عن مجاهد (فَإِشَارَةٌ إِلَى مَا بُعِثَ بِهِ مِنَ الْقِتَالِ والسّيف) أي وضرب السيف بعد انقطاع المقال وثبوت الحجة ووضوح المحجة حال الجدال بسببه (صلى الله تعالى عليه وسلم وهي) أي هذه الرواية او الإشارة (صحيحة) وعلى تصحيح المدعي صريحة قال تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (وروى حذيفة مثل حديث أبي موسى) كما رواه أحمد والترمذي في الشمائل، (وفيه) أي وفي حديث حذيفة (ونبيّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلَاحِمِ وَرَوَى الْحَرْبِيُّ) أي كأبي نعيم في الدلائل عن يونس بن ميسرة (في حديثه عليه الصلاة والسلام أنّه قال أتاني ملك فقال) أي لي كما في نسخة (أنت قثم) بالمثلثة (أي مجتمع) يعني لأنواع العطاء فإن القثم هو الإعطاء (قال) أي الحربي (والقثوم) بفتح القاف (الجامع للخير) يروي والقثم ويؤيده قوله (وهذا) أي قثم (اسم هو في أهل بيته عليه الصلاة والسلام معلوم) ، أي عند أهله وهو قثم بن العباس وقثم عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا هذا وقال التلمساني والجامع إما للخير أو ما افترق في غيره أو جمع الله به شمل الأمة وكان قد افترق الملة ثم قال وقثم عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو شقيق الحارث بن عبد المطلب وبه سميت محلة بسمرقند لأنه دفن فيها انتهى والصحيح أن قثم عمه مات صغيرا وأن المحلة التي بسمرقند دفن فيها قثم بن العباس على ما ذكره المغرب ونقله الأنطاكي (وقد جاءت من ألقابه عليه الصلاة والسلام) وهي الصفات الغالبة عليه (وسماته) بكسر أوله جمع سمة وهي العلامة (في القرآن) أي نعوته المعلمة المعلومة فيه مما نسب إليه (عدّة كثيرة) أي جملة معدودة مبنية لديه (سوى ما ذكرناه) أي ومعناه قررناه (كالنّور) أي في قوله تعالى قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ (والسّراج المنير) أي في قوله تعالى وَسِراجاً مُنِيراً، (والمنذر) أي في قوله تعالى وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ ولِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (والنّذير والمبشّر) أي في قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (والبشير) قال تعالى فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ (والشّاهد) كما سبق لقوله تعالى وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (والشّهيد) قال تعالى وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً. (والحقّ المبين) لقوله تعالى قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وهو أولى من قول الدلجي لما في حديث البخاري اللهم أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن وفيه ومحمد حق إذ فيه أن هذا ليس في القرآن والكلام في اسماء مذكورة فيه مع أنه خبر عنه لا وصف له كما في بقية الحديث والجنة حق والنار حق إلا أن حق المصنف كان أن يقول والمبين بالعطف للإشارة إلى أنهما وصفان مستقلان وللإشعار إلى قوله تعالى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فإن وصفه عليه الصلاة والسلام بمجموع الحق المبين غير معروف لا في الكتاب ولا في السنة ولعله ذكرهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 بحذف العاطف (وخاتم النّبيّين) كما قال تعالى وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وهو بفتح التاء على الاسم آي آخرهم وبالكسر على الفاعل لأنه ختم النبيين فهو خاتمهم ذكر الأنطاكي والتحقيق أن المراد بالفتح ما يختم به من الطابع فقوله أي آخرهم حاصل المعنى لأجل المعنى لأجل المبني، (والرّؤوف الرّحيم) جمع بينهما من غير عاطف كما جاء في الآية بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ والرأفة شدة الرحمة فأخر لمراعاة الفاصلة أو للتعميم والتتميم (والأمين) لقوله تعالى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ على أحد القولين في تفسيره ولحديث إني لأمين في الأرض أمين في السماء وكان قبل البعثة يسمى أمينا، (وقدم الصّدق) أي من حيث إنه أوحي إليه أن يبشر الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ ربهم فهو أولى بهذا الوصف من غيره وكان حق المصنف أن يأتي به منكرا على طبق وروده وقيل سمى قدم صدق لأنه يشفع لهم عند ربهم (ورحمة للعالمين) لقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (ونعمة الله) أي أنعم به على من آمن به في الدارين ذكره الدلجي والأولى أن يقال لقوله تعالى وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ كما قاله المفسرون (والعروة الوثقى) أي من حيث أن من آمن به فقد تمسك من الدين بعقد وثيق لا تحله شبهة ذكر الدلجي والأظهر لقوله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي بعهد المصطفى وذمة المجتبى قال الأنطاكي قيل إنه محمد عليه الصلاة والسلام وقيل هو الإسلام (والصّراط المستقيم) أي من حيث هداية من آمن به إليه ودلالته عليه كذا ذكره الدلجي ولعله مأخوذ من قوله تعالى يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى نبي كريم ودليل قويم قال الأنطاكي قوله الصراط المستقيم قيل هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل هو طريقه عليه الصلاة والسلام وقيل هو طريق الجنة وقيل طريق أهل السنة والجماعة وقيل هو الإسلام وقيل هو القرآن انتهى والكل متقارب البيان في معرض البرهان وزيد في نسخة هنا طه ويس وهي غير صحيحة لقول المصنف سوى ما ذكرناه وقد ذكرا فيما قدمناه وحررناه، (والنّجم الثّاقب) أي المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه بظهوره وهو مأخوذ من قَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ولعل في إيراده إيماء إلى أنه مشبه به (والكريم) قال تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (والنّبيّ الأمّيّ) أي الذي لا يقرأ ولا يكتب قال تعالى فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ (وداعي الله) لقوله تعالى وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ولقوله سبحانه وتعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وكان الأظهر أن يقال والداعي إلى الله ثم رأيت قوله تعالى أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ قال البغوي يعني محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم (في أوصاف كثيرة) أي مع صفات أخر كثيرة (وسمات جليلة) أي نعوت عظيمة شهيرة (وجرى منها) أي من اسمائه (في كتب الله المتقدّمة) كالتوراة والزبور والإنجيل (وكتب أنبيائه) أي الماضية من الصحف الوافية (وأحاديث رسوله) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 الثابتة (وإطلاق الأمّة) أي من العلماء والأئمة (جملة شافية) فاعل جرى جملة من الاسماء والصفات شافية في حصول المهمات (كتسميته بالمصطفى) وهو وإن شاركه سائر الرسل حيث قال الله تعالى الله يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ الآية إلا أنه هو الفرد الأكمل من هذا الجنس أفضل وكذا قوله، (والمجتبى) من قوله تعالى اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ، (وأبي القاسم) وهو كنيته بولده القاسم، (والحبيب) لما سبق من حديث إلا وأنا حبيب الله (ورسول ربّ العالمين) فإنه أولى من يطلق عليه من بين المرسلين (والشّفيع المشفّع) أي المقبول شفاعته التي تعم أمته وسائر أهل محبته (والمتّقي) اسم فاعل من الاتقاء وأصله الموتقى من الوقاية وهو من يقي نفسه مما يوجب العذاب ومما يقتضي الحجاب، (والمصلح) أي لما أفسده غيره من أمر الدين ففي التوراة وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ العوجاء أي ملة إبراهيم وسميت عوجاء لتغيير العرب إياها. (والطّاهر) أي بحسب الباطن والظاهر (والمهيمن) أي المبالغ في المراقبة لأحوال الأمة. (والصّادق) أي قولا ووعدا وفعلا (والمصدوق) أي من يأتيه الصدق من عند ربه شهادة في حق أمره (والهادي) أي للخلق إلى الحق (وسيّد ولد آدم) من المبدأ والمختم عموما (وسيّد المرسلين) أي خصوصا (وإمام المتّقين) أي من الأولياء الصالحين والعلماء العاملين (وقائد الغرّ) بضم الغين وتشديد الراء أي بيض الوجوه من آثار أنوار الوضوء إطلاقا لاسم الجزء على الكل إذ الغرة بياض في جبهة الفرس قدر الدرهم (المحجّلين) بتشديد الجيم المفتوحة أي المبيضين أيديا وأرجلا من أنوار الطهارة وآثار العبادة يوم القيامة وفيه إشارة إلى ما استدل به الأئمة على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة وقيل لا وإنما المختص الغرة والتحجيل لحديث هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي وأجيب بضعفه وعلى فرض صحته احتمل أن يكون الأنبياء اختصوا بالوضوء دون أممهم. (وخليل الرّحمن) لحديث مسلم وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا يعني نفسه (وصاحب الحوض المورود) أي يوم القيامة وقد ورد فيه أحاديث صحيحة وفي بيان اختصاصه صريحة (والشّفاعة) أي العظمى (والمقام المحمود) عطف تفسير أو مغاير إن أريد بالشفاعة جنسها الشامل لجميع أنواعها (وصاحب الوسيلة) لحديث مسلم سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله وأرجوان أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حلت عليه الشفاعة (والفضيلة) أي المرتبة على مرتبة الوسيلة لحديث الشيخين مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حلت له شفاعتي يوم القيامة وفي رواية النسائي وابن حبان والبيهقي المقام المحمود، (والدّرجة الرّفيعة) أي العالية، (وصاحب التّاج) أي الخاص به في الجنة يلبس فيها ليمتاز به عن أهلها فقد روى أبو داود عن سهل بن معاذ عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من قرا القرآن وعمل بما فيه البس والداه تاجا يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل بهذا الحديث فما ظنكم بالذي جاء به ونزل عليه وهو سيد الأولين والآخرين وما أبعد الدلجي وغيره حيث فسروا التاج بالعمامة وقالوا كانت إذا ذاك خاصة بالعرب فهي تيجانهم ومن ثم قيل ألعمائم تيجان العرب انتهى وتعبيره بقيل غير مرضى إذ ورد في حديث رواه الديلمي في مسند الفردوس عن علي وابن عباس مرفوعا (والمعراج) أي وصاحبه الخاص به (واللّواء) لحديث آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة، (والقضيب) أي السيف فعيل بمعنى الفاعل من قضب إذا قطع وقيل العصا فهو فعيل بمعنى المفعول لأنه مقطوع من الشجر، (وراكب البراق) أي في ليلة الإسراء. (والنّاقة) أي وراكبها في حجة الوداع وغيرها (والنّجيب) عطف تفسير للناقة فإنه عرفا يطلق على الخفيف السريع من الإبل ولعله زيد لمراعاة السجع في مقابلة القضيب، (وصاحب الحجّة) أي القاطعة (والسّلطان) أي السلطنة الغالبة والدولة القاهرة (والخاتم) أي وصاحب الخاتم بفتح التاء وهو بخاتم النبوة أقرب وبكسرها وهو بملبوس اليد أنسب وأما قول الدلجي لأن الله تعالى ختم به أنبياءه بشهادة وخاتم النبيين أي آخرهم فليس في محله إذ يأباه إضافة الصاحب إليه (والعلامة) أي وصاحب العلامة الدالة على نبوته وإدامته وكم من علامة ظاهرة على رسالته وكرامته (والبرهان) أي صاحب البرهان الظاهر والتبيان الباهر، (وصاحب الهراوة) بكسر الهاء أي العصا وهو القضيب قاله سطيح وأراد به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إذ كان كثيرا ما تحمل بين يديه ويمسكها ويمشي بها وتغرز له فيصلي إليها وقد أفردت رسالة لها وقال الهروي الهراوة هي العصا الضخمة وتبعه الجوهري (والنّعلين) أي وصاحبهما إذ كان يمشي بهما وأما ما قيل يا خير من يمشي بنعل فرد أي طاق واحدة لم تخصف مع غيرها على عادة عرب البادية وهم يمدحون رقته ويجعلونه من لباس الملك ونعمته؛ (ومن أسمائه في الكتب) أي من التوراة وغيرها، (المتوكّل) أي على ربه دون غيره في جميع أمره، (والمختار) أي من بين البرية (ومقيم السّنّة) كما ورد عن داود عليه السلام اللهم ابعث مقيم السنة أي مظهر الملة (والمقدّس) أي المنزه عن المنقصة (وروح القدس) بضم الدال وسكونها وسمي به لمجيئه بما فيه حياة الأرواح التي بها قوة الأشباح (وروح الحقّ) لإحياء الحق به فهو بمنزلة روحه، (وهو معنى البار قليط) بالباء الموحدة وبفتح الراء وتكسر وبسكون القاف وقد تسكن الراء وتفتح القاف وكسر اللام بعدها ياء مثناة ساكنة فطاء مهملة (في الإنجيل) أي باللغة العبرانية قيل وعند أكثر النصارى على أن معناه المخلص. (وقال ثعلب) هو العلامة المحدث شيخ اللغة والعربية أبو العباس أحمد بن يحيى البغدادي المقدم في نحوى الكوفيين مات سنة إحدى وتسعين ومائتين (البار قليط الذي يفرّق بين الحقّ والباطل) أي فرقا بينا وفصلا معينا بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر أصلا وقطعا (ومن أسمائه في الكتب السّالفة) باللام والفاء أي السابقة (ماذ ماذ) بفتح ميم فألف فذال معجمة منونة فيهما وفي نسخة بضم الذال من غير تنوين على أنه غير مصروف للعلمية والعجمة وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 نسخة بسكون الذال ولعله إجراء للفصل مجرى الوصل قال الحلبي ماذ بميم ثم ألف لا همزة ثم ذال معجمة ساكنة كذا في النسخة التي وقفت عليها وينبغي أن تضم الذال لأنه لا ينصرف للعجمة والعلمية أي أنت ماذ أو يا ماذ وإن كان في الأصل صفة انتهى وفيه بحث لا يخفى وأما ما ضبطه الدلجي بميم مضمومة فإشمام الهمزة ضمة بين الواو والألف ممدودة فغير مطابق للرواية وغير موافق للدارية ثم رأيت الحجازي نسبه إلى السهلي منقولا عن رجل اسلم من علماء بني إسرائيل قال، (ومعناه طيّب طيّب) ولعل التكرار كناية عن غاية من الطيب فإن الظاهر أن مجموع اللفظين هو الاسم (وحمّاطايا) بكسر الحاء المهملة وفتحها وسكون الميم وطاء مهملة ثم ياء تحتية وفي نسخة بفتح الحاء والميم مشددة أي حامي الحرم ومحتمي الحرم وفي النهاية لابن الأثير ما لفظه وفي حديث كعب أنه عليه الصلاة والسلام في الكتب السابقة محمد وأحمد وحمياطا كذا بفتح الحاء وسكون الميم فياء تحتية بعدها ألف فطاء فألف قال أبو عمرو سألت بعض من أسلم من اليهود عنه فقال معناه يحمي الحرم ويمنع من الحرم ويعطي الحلال انتهى، (والخاتم) بالخاء المعجمة (والحاتم) ، بالحاء المهملة وهذا هو المطابق للنسخ المعتمدة والحواشي المعتبرة وهو الموافق لترتيب ما سيأتي من معنييهما وعكس الحلبي في ضبطهما فقال الحاتم بالحاء المهملة والخاتم هذا بالخاء المعجمة (حكاه كعب الأحبار) وقد سبق عنه إلا أنه بلفظ حمياطا (وقال) الأظهر قال (ثعلب) كما في أصل الحلبي والدلجي (فالخاتم) أي بالمعجمة وفتح التاء أو كسرها (الذي ختم الأنبياء والحاتم) أي بالمهملة وكسر التاء لا غير وهو من له السماحة والملاحة والحلاوة والرحمة والراحة (أحسن الأنبياء خلقا) بفتح الخاء أي صورة وبشاشة (وخلقا) بضم الخاء أي سيرة ولطافة (ويسمّى) أي هو صلى الله تعالى عليه وسلم (بالسّريانيّة) بضم السين وسكون الراء وبتشديد الياء الثانية وهي اللغة الأولى التي تكلم بها آدم والأنبياء والألسنة ثلاثة سرياني وعبراني وعربي وهو لأهل الجنة وفي الموقف سرياني قال السيوطي وسؤال القبر بالسريانية أقول ولعله مختص بالأمم الماضية لئلا يخالف ظواهر الأحاديث الواردة وأما العبرانية فسميت بذلك لأن إبراهيم عليه السلام إنما نطق بالعبرانية حين عبر النهر فارا من نمرود وقد كان نمرود قال للطلاب الذين أرسلهم في طلبه إذا وجدتم من يتكلم بالسريانية فردوه فلما أدركوه استنطقوه فحول الله لسانه عبرانيا ذكره السهيلي (مشفّح) بضم ميم وفتح شين معجمة ففاء مشددة مفتوحة فحاء مهملة منونة وفي نسخة بالقاف بدل الفاء وهو أصل الحاشية الحجازية ولا يعرف له معنى في العربية وأما قول الدلجي غير منصرف للعلمية والعجمة فغير ظاهر لأنه مع مخالفته للنسخ المصححة غير صريح في العلمية بل ظاهر في الوصفية (والمنحمنّا) بضم ميم فنون ساكنة فحاء مهملة مفتوحة فميم مكسورة فنون مشددة مفتوحة وهو مقصور كذا في النسخ بالقلم ذكره الحلبي وتبعه الدلجي وعبر عنه بقيل ثم قال وقيل جميع حروفه مفتوحة إلا المهملة فساكنة انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 وهو أصل صحيح من النسخ المعتمدة وفي نسخة بضم الميم الأولى وكسر الميم الثانية وضبطه الحجازي بفتح الميم والمهملة وسكون النون الأولى وتشديد الثانية ثم في آخره ألف في أكثر النسخ وفي بعضها بياء مبدلة من ألف كالمستصفى هذا وقد قال أبو الفتح اليعمري في سيرته والمنحمنا بالسريانية هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قال الحلبي وهذا الكلام يحتمل معنيين أحدهما أن يكون معناه بالسريانية محمد بالعربية ويحتمل غير ذلك قلت وفي سيرة ابن سيد الناس هو بالسريانية اسم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في المعنى الثاني أظهر فتدبر وقال ابن إسحاق هو بالزنجانية محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، (واسمه أيضا في التّوراة أحيد) بفتح همزة فسكون حاء مهملة فكسر تحتية فدال مهملة مضمونة غير منونة وفي نسخة بضم الهمزة وكسر الحاء وسكون الياء التحتية وفي نسخة وهي موافقة لما ذكر الحلبي بضم فسكون ففتح وفي أخرى بضم ففتح وفي أخرى بكسر التحتية وهي التي اقتصر عليها الدلجي وفي أخرى بضم ففتح فسكون وفي آخرى فسكون ففتح وهو مختار الحلبي وصوبه الأنطاكي لحديث أورده أبو حذيفة إسحاق بن بشر في كتاب سماه المبتدأ وأسنده إلى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال اسمي في القرآن محمد وفي الإنجيل أحمد وفي التوراة أحيد قال سميت أحيد لأني أحيد أمتي عن نار جهنم يوم القيامة انتهى ووجه تصويبه غير ظاهر كما لا يخفى (روي) وفي نسخة وروي (ذلك) أي كون اسمه في التوراة أحيد (عن ابن سيرين) وهو تابعي جليل وكان ثقة حجة كثير العلم والورع قيل كان يصوم يوما ويفطر يوما وله سبعة أوراد في اليوم والليلة هذا وقد قال المصنف بعد ما نقل من المبنى في الاسماء (ومعنى صاحب القضيب أي السّيف) يعني بدليل أنه، (وقع ذلك) أي اللفظ (مفسّرا في الإنجيل) أي مبينا بقرينة اقترانه بما يدل عليه (قال) أي الله سبحانه وتعالى في الإنجيل عند نعته عليه الصلاة والسلام (معه قضيب من حديد) أي معه سيف حديد مشابه للقضيب طولا وعرضا وطراوة ولطافة أو سيف قاطع من حديد حاد (يقاتل به) بكسر التاء أي يجاهد به أعداءه. (وأمّته كذلك) أي معهم قضبان يقاتلون بها اعداءه ويتابعون أهواءه ويتبعون اقتداءه (وقد يحمل) أي القضيب في الحديث (على أنّه القضيب الممشوق) أي الطويل الدقيق (الذي كان يمسكه عليه الصلاة والسلام) أي بيده حال القيام وعند خطبته للانام وموعظته لاصحابه الكرام، (وهو الآن عند الخلفاء) أي وكانوا يتداولونه واحدا فواحدا على سيرة الخطباء، (وأمّا الهراوة التي وصف بها) أي بكونه صاحبها وحاملها (فهي في اللّغة العصا) أي مطلقا أو الضخمة على ما ذكره الجوهري تبعا للهروي (وأراها) بضم الهمزة أي وأظنها أن المراد بها ههنا. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْعَصَا الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ الْحَوْضِ) أي حيث قال (أذود) بضم الذال المعجمة أي أدفع وأمنع وأطرد (النّاس) أي العصاة (عنه) أي عن حوضي (بعصاي) أي التي في يدي حينئذ (لأهل اليمن) أي أذود الناس لأجلهم حتى يتقدموا وفي هذا كرامة لأهل اليمن في تقديمهم للشرب منه مجازاة لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 بحسن صنيعهم وتقدمهم في الإسلام وفي نسخة لأهل اليمين وهي رواية مسلم في المناقب وهي التي جعلها الدلجي أصلا والحلبي صوبها وقال المراد بها الجهة المعروفة عن يمين الكعبة انتهى والأظهر أن المراد بأهل اليمين اصحاب اليمين من أرباب الجنة ويدخل في عمومهم أهل اليمن وخص بهم لأن السابقين يفهم منه بالأولى كما لا يخفى هذا وقد ضعف النووي هذا الظن من القاضي بأن المراد من وصفه بها تعريفه بصفة يراها الناس معه ويستدلون بها على صدقه وأنه المبشر به المذكور في الكتب السالفة فلا يصح تفسيرها بعصا تكون في الآخرة فالصواب ما قاله الأئمة في تفسير كونه صاحبها أنه يمسك القضيب بيده كثيرا وقيل لأنه كان يمشي والعصا بين يديه وتغرز له فيصلي إليها وهذا في الصحيح مشهور هكذا ذكره الدلجي وقرره تبعا للحلبي حيث قال وتعقبه النووي فإن هذا ضعيف وباطل إلى آخر ما ذكره وأقول لعل وجه ما اختاره المصنف هو الأحرى بحمل هذا النعت على الدار الآخرة لأن أخذ العصا من سنن الأنبياء في الدنيا فإذا لم يحمل على هذا المعنى لم يتميز عن إخوانه بالوصف الأول بخلاف الصفة الأولى فإنه النعت المختص به في العقبى لا سيما وعامة العرب لا يمشون إلا بالعصا فلا يصلح أن تكون العلامة لخاتم الأنبياء مع أن أخذه إياها إنما كان أحيانا ثم لا يلزم من ذكر نعوته في الكتب السابقة أن لا يكون بعضها متعلقا بالدار الآخرة وبعضها بالأحوال السابقة. (وأمّا التّاج فالمراد به العمامة) فيه بحث فإن المراد به غير معلوم إلا لرب العباد وأما باعتبار اللغة والعرف فهو مستعمل في غير العمامة على اختلاف في عرف العامة وأما ما ورد في الحديث فظاهره أنه أراد المعنى المجازي حيث نزل العمامة منزلة التاج وأقامها مقامه في مرتبة الوقار والرواج كما يدل عليه أو يشير إليه قوله (ولم تكن) أي العمامة (حينئذ) أي حين وجوده صلى الله تعالى عليه وسلم (إلّا للعرب) أي وكان الناس كلهم أصحاب التيجان إما مع العمامة أو بدونها (والعمائم) أي بدون التيجان (تيجان العرب) أي اكتفاء بها عن غيرها وفيه إشعار بأنهم من أهل القناعة الدنيوية وموصوفون بعدم التكلف في موجبات الرعاية العرفية والحاصل أن الأصح أن يراد بقوله صاحب التاج تاج الكرامة يوم القيامة كما قدمناه. (وأوصافه) أي نعوته من اسمائه، (وألقابه) أي المشعرة بأنواع مدحه وثنائه، و (سماته) بكسر السين أي شمائله وعلامات فضائله (في الكتب) أي الماضية والمتقدمة (كثيرة وفيما ذكرناه منها) أي وإن كانت قليلة يسيرة (مقنع) بفتح الميم والنون أي محل كفاية ومكان قناعة (إن شاء الله تعالى) إذ إحصاؤها غير ممكن كما لا يخفى (وكانت كنيته المشهورة أبا القاسم) لحديث البخاري كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في السوق فقال رجل يا أبا القاسم فالتفت إليه فقال إنما دعوت هذا فقال سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ولعل وجهه أنه كان يدعي بالكنية تعظيما ولا يدعي باسمه للنهي الوارد عنه تكريما وزيد في رواية فإني إنما جعلت قاسما أقسم بينكم وفيه إشارة إلى أن المراد بأبي القاسم هو الموصوف بهذا الوصف وهو لا ينافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 كونه أبا لولد له مسمى بالقاسم. (وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه) كما في مسند أحمد والبيهقي (أنّه لمّا ولد إبراهيم) أي ابن نبينا عليه الصلاة والسلام من مارية (جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أبا إبراهيم) فهي كنيته أيضا وهو يحتمل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد سمى ولده إبراهيم قبل نزول جبريل عليه السلام ويحتمل أن تكون تسميته وقعت في ضمن تكنيته اثناء تهنئته وفي الجملة صار صلى الله تعالى عليه وسلم أبا إبراهيم كما كان أبوه إبراهيم فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحيى اسم جده عليهما الصلاة والسلام ثم قيل وكنيته أيضا أبو الأرامل وهو لقب في المعنى وإن كان كنية في المبنى فإن معناه مراعي الأرامل ومحافظ أحوالهن ومتفقد مالهن والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل [في تشريف الله تعالى له بما سماه به من أسمائه الحسنى] (في تشريف الله تعالى بما سمّاه به من أسمائه الحسنى) تأنيث الأحسن لأن الأسماء في معنى الجماعة (ووصفه به من صفاته العلى) بضم العين جمع العليا ووصفه بفتح الواو والصاد والفاء عطفا على سماه ويحتمل كونه مصدرا معطوفا على تشريف الله تعالى. (قال القاضي أبو الفضل) يعني المصنف نفسه (وفّقه الله) أي لما يحبه ويرضاه (ما أحرى هذا الفضل) بالنصب فإن الصيغة للتعجب أي ما أحقه وأخلقه وأجدره وأليقه (بفصول الباب الأوّل) أي من هذا الكتاب وهو المعنون بالفصل في ثناء الله تعالى عليه وإظهار عظيم قدره لديه كما أشار في ضمن تعليله وجه الاحرى إليه بقوله (لانحراطه) أي لانضمامه (في سلك مضمونها وامتزاجه) أي اختلاطه (بعذب معينها) بفتح ميم وكسر عين أي بحلو مائها وعلو صفائها (لكن لم يشرح الله) وفي نسخة لكن الله لم يشرح (الصّدر للهداية إلى استنباطه) أي استخراجه من أماكنه وهو استدراك على وجه الأعتذار عما فاته من جعل هذا الفصل من تلك الفصول المناسبة لهذه الإسرار المتضمنة للأنوار (ولا أنار الفكر) بالنون أي لا أشرقه ولا أضاء له وفي نسخة بالثاء المثلثة أي ولا بعثه ولا هيجه (لاستخراج جوهره، والتقاطه) أي من بحره وبره الشامل لعموم كرم علمه وبر حلمه (إلّا عند الخوض) أي الشروع والدخول (في الفصل الذي قبله) أي فشرح الصدر للهداية إلى ذلك أولا على وفق ما هنالك (فرأينا أن نضيفه إليه) أي بتعقيبه له زيادة عليه (ونجمع به شمله) أي تفرقه عند حصوله لديه (فاعلم) أي أيها الطالب الراغب (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) أي الذين هم من جملة الاصفياء (بكرامة خلعها) أي ألقاها (عليهم) وفي نسخة عليه وعليهم أي ألبسهم خلعة الكرامة الواصلة إليهم والحاصلة لديهم وفي نسخة جعلها أي صيرها أعلاما عليهم (من أسمائه) بأن ذكر فيهم صفات هي مبادي اشتقاق وصف له وأخذ من بنائه (كتسمية إسحاق وإسماعيل) أي ابني إبراهيم الخليل على خلاف في المراد بالمبشر به من أحد أولاده الجليل وكان الأولى تقديم إسماعيل لأنه أكبر ولكونه جدا لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ولموافقة قوله سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 وتعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ (بعليم) في قوله تعالى وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (وحليم) في قوله سبحانه وتعالى فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وجمع بينهما للإشعار بأن الكمال هو الوصف باجتماع العلم والحلم المنبعث عنهما جميع الفضائل البهية والشمائل السنيد وقد أغرب الدلجي حيث جعل الوصفين نشرا مرتبا على الابنين إذ لم يقل أحد بالتفضيل بينهما وإنما اختلفوا في أن أيهما المراد به مع الاتفاق على أن المبشر به أحدهما ولذا قال الأنطاكي ولعل المؤلف من أجل الاختلاف جمع هنا بين إسحاق وإسماعيل وقد أفرد السيوطي رسالة في تعيين الذبيح وتوقف في أن أيهما الصحيح لكن المعتمد عند المفسرين والمحدثين المعتبرين أنه إسماعيل لحديث أنا ابن الذبيحين وغيره من أدلة ليس هذا محل بسطها. (وإبراهيم بحليم) أي في قوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ولعل الاكتفاء به للعلم بأنه عليم أو للزومه أو لغلبة حلمه على علمه ولذا استغفر لوالده، (ونوح بشكور) أي في قوله سبحانه وتعالى إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً، (وعيسى ويحيى ببرّ) بفتح الباء وتشديد الراء مبالغة بار في قوله تعالى وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ (وموسى بكريم) أي في قوله سبحانه وتعالى وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ في (وقويّ) أي في قوله سبحانه حكاية عن بنت شعيب وتقريرا لكلامها إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ وفي نسخة بدلهما بكليم والظاهر أنه أصل سقيم (ويوسف بحفيظ عليم) أي في قوله سبحانه حكاية عن يوسف مقرا شأنه ومعتبرا بيانه حيث انطق لسانه بقوله إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ الدخان (وأيّوب بصابر) أي في قوله تعالى إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً وفيه أن الصابر غير معروف من اسمائه وإنما الصبور من اسمائه سبحانه على المشهور (وإسماعيل بصادق الوعد) أي في قوله تعالى عند ذكره إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ولعل وجهه قوله سبحانه وتعالى وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وحديث صدق الله وعده وإلا فصادق الوعد والصادق المطلق ليس من الاسماء المشهورة (كما نطق به) وفي نسخة صحيحة بذلك أي بما خص أنبياءه (الكتاب العزيز) أي بإنبائه على وفق اشتقاق اسمائه (من مواضع ذكرهم) بالإضافة أي في مواضع ذكرهم ووصفهم وشكرهم فيها كما قدمناه وفي نسخة صحيحة من مواضع بدل في ولعلها بمعناها أو بيان لما لإبهام مبناها (وفضّل نبيّنا محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على سائر الأنبياء والأصفياء بزيادة اشتقاق بناء الاسماء في الأنباء (بأن حلّاه) بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام أي زينه (منها) أي من اسمائه سبحانه (في كتابه العزيز) أي البديع المنيع المشتمل على التعجيز أو القوي الغالب على سائر الكتب بنسخها على وجه التمييز وقد قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، (وعلى ألسنة أنبيائه) أي كما نقله بعض أوليائه (بعدّة كثيرة) أي بجملة كثيرة وهي بكسر العين والباء للسببية والباء الأولى بيانية أي بسبب تعداد نعوت كثيرة وأوصاف غزيرة (اجْتَمَعَ لَنَا مِنْهَا جُمْلَةٌ بَعْدَ إِعْمَالِ الْفِكْرِ) بكسر الهمزة أي استعماله (وإحضار الذّكر) بضم الذال وكسرها والمعنى بعد إفراغ الوسع تفكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 وتذكرا. (إذ لم نجد) أي من العلماء المصنفين (مَنْ جَمَعَ مِنْهَا فَوْقَ اسْمَيْنِ وَلَا مَنْ تفرّغ فيها لتأليف فصلين) أي ليعرف منه بيان فرعين أو أصلين (وحرّرنا) بحاء وراءين مهملات ويروى جردنا بجيم ودال أي أخرجنا (منها في هذا الفضل نحو ثلاثين اسما) أي مما اشتق من اسماء الله الحسنى والصفات العلى (ولعلّ الله تعالى) أي أرجو من كرمه أنه (كما ألهم) أي أرشد (إلى ما علّم) بتشديد اللام أي عرف (منها وحقّقه يتمّ النّعمة) أي يكملها (بإبانة ما لم يظهره لنا الآن) أي بإظهار اسراره وإبداء أنواره (ويفتح غلقه) بفتحتين أي إغلاقه واشكاله وأمثلته وأمثاله إذا عرفت ذلك. (فمن أسمائه) أي الله سبحانه وتعالى (الحميد) وهو فعيل بمعنى المفعول أو الفاعل والأول أظهر ولذا قدمه بقوله (ومعناه المحمود لأنّه حمد نفسه) أي أزلا (وحمده عباده) أي أبدا وقد يقال هو المحمود في ذاته سواء حمد أو لم يحمد على لسان مخلوقاته مع أنه وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ في مراتب تعيناته فهو المحمود في كل فعال وجميع حال إذ هو المولى لكل نوال (ويكون) أي الحميد (أيضا) أي كما يكون بمعنى المحمود (بمعنى الحامد لنفسه) أي في نفس أو في كلام قدسه تعليما لعباده على وفق مراده (ولأعمال الطّاعات) بمعنى ثنائه وشكر أهله وجزائه وقد يقال الحامدية والمحمودية في جميع مراتب الربوبية فهو الحامد وهو المحمود لأنه في نظر الشهود سوى الله والله ما في الوجود (وسمّى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي نبيا وهو مرفوع أو منصوب وهو الأظهر فتدبر (محمّدا وأحمد فمحمّد بمعنى محمود) بل ابلغ منه (وكذا) أي محمد أو محمود (وقع اسمه في زبر داود) بضم الزاء والباء أي في صحفه المزبورة بمعنى المكتوبة والمراد بها الزبور ووقع في أصل التلمساني على ما ضبطه بكسر الزاء وسكون الباء أي في كتابه وهو غير معروف في الرواية والدراية (وأحمد بمعنى أكبر) أي أعظم (من حمد) بفتح الحاء. (وأجلّ من حمد) بضم الحاء وفيه إيماء إلى أن أفعل التفضيل قد يكون بمعنى الفاعل وهو أكثر وقد يكون بمعنى المفعول وهو هنا أظهر والجمع بينهما أبهر لحيازته شرف الحامدية والمحمودية المشيرة إلى مرتبة المحبية والمحبوبية فأحمد بهذا الاعتبار يكون أبلغ من محمد في نظر النظار مع ما فيه من الإشارة إلى الصفة الجامعة بين مرتبة المجذوبية المطلوبية ومنزلة المرادية المحبوبية بالنسبة الأزلية الممتدة إلى الأبدية بخلاف وصف الحامدية المشعرة بتعلق الحادثة الكونية كما علم تحقيق هذا المعنى في قوله تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ من تدقيق المبنى (وقد أشار إلى نحو هذا) أي مما قررناه وحررناه (حسّان بقوله) أي ابن ثابت بن المنذر بن حرام بالراء الأنصاري النجاري عاش هو والثلاثة فوقه من آبائه كل واحد مائة وعشرين سنة وقد عاش حسان ستين في الإسلام وستين في الجاهلية وقد شاركه في الوصف الثاني حكيم بن حزام قيل وغيره أيضا (وشقّ) بفتح الشين أي الله تعالى (له) صلى الله تعالى عليه وسلم (من اسمه) قطع همزة الوصل ضرورة ولو قال من نعته او وصفه لخلص (ليجلّه) أي ليعظمه بالمشاركة في الجملة الاسمية من حيث تلاقي اسميهما اشتقاقا من مأخذ واحد ولم يرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 الاشتقاق الاصطلاحي لأن مبدأهما متحد بل أراد كون اسمه بمعنى اسمه كما يشير إليه قوله (فذو العرش محمود وهذا محمّد) فمحمود مأخوذ من معنى الحمد على ما سبق وقد ورد يا الله المحمود في كل فعاله والحاصل أن لفظ شق من شق الشيء جعله شقين أي نصفين ومعناه أنه أعطاه من معنى اسمه جزءا من مبناه وقيل شق بمعنى اشتق أخذه منه وصاغه من حروف اسمه هذا وقد قال الإمام حجة الإسلام في المقصد الأسنى في اسماء الله الحسنى الحميد من عباد الله تعالى من حمدت عقائده وأخلاقه وأفعاله وأقواله وهو نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن قرب منه من الأنبياء والأولياء فكل واحد منهم حميد بقدر ما حمد من أوصافه والحميد المطلق هو الله سبحانه وتعالى (ومن أسمائه تعالى الرّؤوف الرّحيم) أي ذو الرأفة والرحمة وقدم الأبلغ منهما لما مر غير مرة (وهما بمعنى) أي واحد (متقارب) أي في المؤدى وإن كانت الرأفة شدة الرحمة (وسمّاه) أي نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (في كتابه بذلك) أي بما ذكر من الوصفين أو بالجمع بين النعتين (فقال بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحَقُّ الْمُبِينُ وَمَعْنَى الْحَقِّ، الموجود) أي دوامه الثابت قيامه (والمتحقّق أمره) لأنه الثابت مطلقا لوجوب شأنه وأما غيره فلا وجود له في حد ذاته لإمكانه وهذا وجه قوله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وإلى هذا المعنى أشار لبيد بقوله (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) وهذا إيراد شيخ مشايخنا أبو الحسن البكري قدس الله سره السري بقوله استغفر الله مما سوى الله (وكذلك المبين أي البيّن) يعني الظاهر (أمره) أي أمر وجوده وشأن ربوبيته (وإلهيّته) أي بوصف وأجبيته واحديته وواحديته ثم قوله (بان وأبان بمعنى واحد) يعني أن بان ههنا بمعنى أبان فهما لازمان وقد يكون أبان متعديا فيكون المبين بمعنى المظهر وهذا معنى قوله (ويكون بمعنى المبين لعباده أمر دينهم) أي ما يتعلق به من معاشهم في دنياهم (ومعادهم) أي وأمر معادهم في عقباهم وهذا المعنى في حقه تعالى (وسمّى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك) أي بما ذكر من الاسمين (في كتابه فقال) أي بعد قوله بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف: 39] ) وهذا على قول بعض المفسرين من أن المراد بالحق هو الرسول الأمين خلافا لمن قال إن المراد بالحق هو الكتاب المبين (وقال: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89] ) أي الظاهر الإنذار أو مظهر الأخبار (وقال) أي بعد قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس: 801] ) يعني به محمدا أو القرآن (وَقَالَ: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ [الْأَنْعَامِ: 5] قيل) أي المراد بالحق (محمّد) أي كذبوا بالنبي الثابت نبوته المتحقق معجزته بدليل الآيات السابقة المشيرة إليه فلا التفات إلى قول الدلجي وهذا القيل مما لا دليل عليه (وقيل القرآن) وكلاهما صحيح وفي المدعي صريح فإن تكذيب كل منهما يستلزم تكذيب الآخر سواء تقدم الأول أو تأخر فتدبر (ومعناه) أي ومعنى الحق (هنا) أي في كل من التفسيرين (ضدّ الباطل والمتحقّق صدقه وأمره) أي شأنه جميعه ثم المتحقق بكسر القاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 الأولى وهو مرفوع عطفا على ضد الباطل فهو خبر بعد خبر إشعارا بأن للحق معنيين مشهورين وأما قول الحلبي بفتح القاف الأولى المشددة وهو مبتدأ وصدقه الخبر وأمره معطوف على الخبر فهو مرفوع أيضا فخطأ من جهة البناء الصرفي والإعراب النحوي (وهو بمعنى الأوّل) أي فيما سبق فتأمل، (والمبين) على أنه نعت الرسول الأمين معناه (البين أمره ورسالته) أي الظاهر والواضح بناء على أن أبان لازم (أو المبين) بتشديد الياء المكسورة أي المظهر والمخبر (عن الله تعالى ما بعثه به) أي من أمر الرسالة لتعليم الأمة بناء على أن أبان متعد (كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] ) أي من مرغوب ومرهوب (وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى النُّورُ وَمَعْنَاهُ ذُو النُّورِ) يعني على مضاف مقدر (أي خالقه) أو سمى نورا مبالغة كالعدل فمعناه النور ومبناه الظهور لأنه تعالى ظاهر بذاته وصفاته ومظهر حقائق مخلوقاته أو معنى ذي النور أن حجابه النور بحيث لو انكشفت سبحات وجهه لأحرقت ما انتهى إليها بصره من خلقه أو لأن ظهور الأشياء إنما هو بنوره وتبين الأمور ليس إلا لظهوره وأما اطلاق النور عليه سبحانه وتعالى بناء على ما هو في عرف الحكماء من أنه كيفية تدركها الباصرة أولا ثم بها تدرك سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من القمرين على الأجرام المحاذية لها فلا يصح حقيقة إلا أنه قد يتجوز من حيث إن ظهوره تعالى بذاته الموصوف بالقدم مبرأ عن ظلمة العدم وأن ظهور غيره ووجوده فائض عنه تعالى ثم تحقيق هذا المبنى وتدقيق هذا المعنى عند قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حيث قيل من جملة معانيه (أو منوّر السّموات والأرض) أي كما قرىء به في الآية على أن النور بمعنى التنوير مصدر بمعنى الفاعل وقوله (بالأنوار) أي بسبب الأنوار الحسية من الكواكب القمرية والشمسية (ومنوّر قلوب المؤمنين بالهداية) أي الوهبية أي بسبب امداد الأنوار المعنوية في الأفلاك القلبية (وسمّاه) أي النبي عليه السلام (نورا) أي على أحد التفسيرين (فَقَالَ: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] قيل) أي المراد بالنور (محمّد وقيل القرآن) وقيل المراد بهما محمد لأنه كما هو نور عظيم ومنشأ لسائر الأنوار فهو كتاب جامع مبين لجميع الإسرار (وقال فيه) أي في حق نبيه (وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 46] ) أي شمسا مضيئا لقوله تعالى وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً ففيه تنبيه لنبيه على أن الشمس أعلى الأنوار الحسية وأن سائرها مستفيض منها فكذلك لنبي عليه السلام أعلى الأنوار المعنوية وأن باقيها مستفيد منه بحكم النسبة الواسطية والمرتبة القطبية في الدائرة الكلية كما يستفاد من حديث أول ما خلق الله نوري وأما الحق فهو في المقام المطلق (سمّي بذلك) أي بما ذكر من النور والسراج المنير (لوضوح أمره) أي أمر رسالته (وبيان نبوّته وتنوير قلوب المؤمنين) عموما (والعارفين) خصوصا (بما جاء به) وما ظهر لهم من الأنوار والأسرار بسببه قال الحلبي ولعل ابن سبع استنبط من هذا ومن الحديث الذي سأل فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ربه أن يجعل في جميع أعضائه وجهاته نورا وضم ذلك لقوله واجعلني نورا ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 قاله من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان من خصائصه أنه كان نورا وكان إذا مشى في الشمس أو القمر لا يظهر له ظل والله سبحانه وتعالى أعلم. (ومن أسمائه تعالى الشّهيد) من الشهود بمعنى الحضور (ومعناه العالم) أي بظاهر ما يمكن مشاهدته كما أن الخبير هو العالم بباطن ما لم يمكن إحساسه (وقيل) أي في معناه (الشّاهد على عباده يوم القيامة) الأولى إطلاقه لقوله تعالى وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً ولعل وجه تقييده المناسبة في إطلاقه على صاحب الرسالة (وسمّاه) أي الله نبيه في كتابه (شهيدا وشاهدا) كان الأولى تقديم شاهدا ليلائم ترتيب ما رتبه (فقال إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً [الفتح: 8] ) أي عالما أو مطلعا (وقال) أي في موضع آخر (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: 143] وَهُوَ بِمَعْنَى الأوّل) أي إلا أنه أبلغ وأدل والأظهر أنه من مادة الشهادة فتأمل فإنه المعول. (ومن أسمائه تعالى الكريم معناه الكثير الخير) أي النفع (وقيل المفضل) بضم الميم وكسر الضاد أي ذو الإفضال بالنوال قبل السؤال (وقيل العفو) وفيه أن عفوه من جملة كرمه (وقيل العليّ) أي رفيع الشأن عظيم البرهان يتعالى كرمه عن النقصان (وفي الحديث المرويّ) أي مما رواه ابن ماجة (في أسمائه تعالى الأكرم) وكذا جاء في التنزيل اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (وَسَمَّاهُ تَعَالَى كَرِيمًا بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40] قيل) أي المراد به (محمّد وقيل جبريل) وهو الأظهر وعليه الأكثر (وقال عليه الصلاة والسلام أنا أكرم ولد آدم) وسنده قد تقدم وفي لفظ أنا أكرم الأولين والآخرين أي أفضلهم (ومعاني الاسم) أي اسم الكريم والأكرم على ما تقدم (صحيحة في حقّه عليه السلام) أي بالكمال والتمام إذ من جملة ما صدر عنه من الكرم والإنعام ما يدل عليه قول صفوان بن أمية وقد أعطاه غنما بين جبلين أن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر وهذا غاية الكرم في ابن آدم (ومن أسمائه تعالى العظيم) من عظم الشيء إذ اكبر جسما وهيئة ثم استعير لما كبر قدرا ورتبة (وَمَعْنَاهُ الْجَلِيلُ الشَّأْنِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ) أي في الظهور والبرهان هذا وقيل الكبير اسم للكامل في ذاته والجليل في صفاته والعظيم فيهما فهو اجل منهما (وقال في النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) في كلامه القديم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] ) فله العظمة المعنوية باعتبار أخلاقه البهية (ووقع في أوّل سفر) بكسر أوله أي أول دفتر (من التّوراة) أي من اسفارها (عن إسماعيل) أي ابن الخليل والمعنى عن جهته وفي حقه (وستلد عظيما) بالخطاب وفي نسخة بالغيبة بناء على جهتي التعبير من رعاية المبنى والمعنى فالمعنى ستلد ولدا عظيما يكون نبيا كريما (لأمّة عظيمة) أي في الكمية أو الكيفية كما يشير إليه قوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وخيرية كل أمة تابعة لخيرية نبيها (فهو عظيم) أي في ذاته (وعلى خلق عظيم) أي في صفاته وتعبيره بعلى الموضوع للاستعلاء تمثيل لتمكنه من غاية الاستيلاء. (ومن أسمائه تعالى الجبّار) فعال للمبالغة من الجبر بضرب من القهر على ما هو في الأصل ثم قد يستعمل في الإصلاح المجرد كقول علي رضي الله تعالى عنه يا جابر كل كسير ومسهل كل عسير وتارة في القهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 المجرد ومنه ما ورد لا جبر ولا تفويض ومن ثم قيل كما قال (ومعناه المصلح) أي لأمور عباده على وفق مراده (وقيل القاهر) أي فوق عباده فلا موجود إلا وهو مقهور تحت قدرته وهدف لإرادته ومشيئته (وقيل العليّ) أي الرفيع البرهان (العظيم الشّأن، وقيل المتكبّر) أي المستغني عن كل أحد في كل زمان ومكان ولا يستغني عنه أحد في كل شأن وأوان (وسمّي النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في كتاب داود) وفي نسخة في كتب داود أي زبوره أو زبره (بجبّار) الأظهر أن لقول بالجبار لقوله (فقال) أي مناديا له في عالم الأرواح ومستحضرا له في عالم الإشباح (تقلد أيّها الجبّار سيفك) أي للكفار (فإنّ ناموسك) بألف قال التلمساني يهمز ويسهل والناموس وعاء العلم وصاحب سرك الذي تطلعه على باطن أمرك وهو جبريل عليه السلام قال الأنطاكي والمراد هنا والله تعالى أعلم ما يوحي إليه وهو القرآن انتهى والأظهر أن يقال في المعنى أي اعتبارك واقتدارك وأنوار علومك وأسرارك (وشرائعك) أي أحكامك وأخبارك (مقرونة بهيبة يمينك) أي قوة تصرفك وغلبة قهرك وكثرة نصرك على وفق يقينك. (ومعناه في حقّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي باعتبار معانيه في حقه سبحانه والمناسبة التامة مما يقتضي شأنه (إمّا لإصلاحه الأمّة بالهداية والتّعليم) أي بإظهار العناية والرعاية مما تحتاجون في البداية والنهاية (أو لقهره أعداءه) أي ولجبره أحباءه (أو لعلوّ منزلته على البشر) أي جنس بني آدم في الفواضل النفسية والفضائل الإنسية (وعظيم خطره) بفتحتين أي قدره ومزيته على غيره (ونفى) أي الله تعالى (عَنْهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ جَبْرِيَّةَ التَّكَبُّرِ الَّتِي لا تليق به) وفي نسخة جبرية التكبر والأظهر جبرية القهر لقوله (فقال: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] ) أي بمسلط وقهار تقهرهم على الإيمان وتقدرهم على العرفان أو أنت عليهم بوصف الجبابرة بل بنعت الرأفة والرحمة. (ومن أسمائه تعالى الخبير) مبالغة من الخبرة وهي العلم بالأمور الخفية، (ومعناه المطّلع بكنه الشّيء) بضم الكاف أي على غايته ونهايته. (العالم) وفي نسخة والعالم (بحقيقته) أي بماهيته وكيفيته (وقيل معناه المخبر وقال الله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان: 59] ) واختلف في المراد بالسائل والمسؤول (قال القاضي بكر بن العلاء) هو بكر بن محمد بن زياد القشيري من أولاد عمران بن الحصين رضي الله تعالى عنه مات سنة أربع وأربعين وثلاثمائة ذكره التلمساني وقال الأنطاكي هو المالكي (المأمور بالسّؤال غير النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم والمسؤول الخبير هو النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فاسئل بما ذكر أو عما ذكر مما تقدم من خلق الأشياء ووصف الاستواء عالما يخبرك بحقيقة الإنباء وهو سيد الأنبياء (وقال غيره) أي غير بكر (بل السّائل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم والمسؤول هو الله تعالى) وهو أظهر الأقوال وقيل جبريل أو من وحد الله في كتبه المتقدمة (فالنّبيّ خبير بالوجهين المذكورين) أي ما قدمه القاضي آنفا من قوله الخبير أما معناه العالم بحقيقة الشيء أو المخبر (قيل) أي في توجيه الوجهين (لِأَنَّهُ عَالِمٌ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ مِنْ مَكْنُونِ عِلْمِهِ وَعَظِيمِ مَعْرِفَتِهِ) يعني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 فيصلح أن يكون سائلا (مخبر لأمّته بما أذن) أي أبيح (له في إعلامهم به) أي بما ينفعهم معاشا ومعادا فيصح أن يكون خبيرا بمعنى مخبرا فيصير مسؤولا (ومن أسمائه تعالى الفتّاح) أي كما قال الله تعالى وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (ومعناه الحاكم بين عباده) كقوله تعالى رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا أي احكم لأن الحكم فتح أمر مغلق بين الخصمين وقد بين الله الحق وأوضحه وميز الباطل وأدحضه بإنزال الكتاب المبين وإقامة البراهين في أمر الدين (أو فاتح أبواب الرّزق) أي على أنواع الخلق من أسباب النعمة الدنيوية والأخروية (والرّحمة) أي من قبول التوبة وحصول المغفرة (والمنغلق) بالنون الساكنة والغين المعجمة المفتوحة واللام المكسورة أي المشكل (من أمورهم عليهم أو يفتح قلوبهم) أي أعين بصيرتهم فقوله (وبصائرهم) عطف تفسير وفي نسخة وأبصارهم فالمعنى أبصارهم الباطنة والظاهرة (لمعرفة الحقّ) أي وتمييزه عن الباطن (ويكون) أي الفتاح (أيضا بمعنى النّاصر) وكان الأظهر أن يقول ويكون الفتح بمعنى النصر (كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الْأَنْفَالِ: 19] أَيْ إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ وقيل معناه) أي معنى الفتاح (مبتدىء الفتح والنّصر) يعني ملاحظة المعنيين من الفتح وهو الافتتاح والفتح ولا يبعد أن تكون الدال مفتوحة فمعنى جاءكم الفتح أي مبتدأ ولذاو أوله وهذا كله بناء على النسخ المعتمدة من بناء الكلمة على الابتداء من باب الافتعال وفي أصل الدلجي مبدئ الفتح والنصر من الابداء من باب الأفعال ولذا قال أي مظهرهما (وسمّى الله تعالى نّبيّه محمّدا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَاتِحِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الطَّوِيلِ) أي على ما سبق بطوله (مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي العالية وغيره عن أبي هريرة) أي مرفوعا (وفيه من قول الله تعالى) يعني الحديث القدسي (وجعلتك فاتحا وخاتما) بكسر التاء فيهما (وفيه من قول النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَنَائِهِ عَلَى رَبِّهِ وَتَعْدِيدِ مراتبه) أي قياما بشكره (ورفع لي ذكري) أي بعد ما شرح صدري ووضع عني وزري (وجعلني فاتحا وخاتما) أي أولا بالنبوة في عالم الأرواح وآخرا بالرسالة في عالم الأشباح؛ (فيكون) أي فيحتمل أن يكون (الفاتح هنا بمعنى الحاكم) أي بين الخصوم بما أعطى له من العلوم (أو الفتاح لأبواب الرحمة على أمته) أي لكونه رحمة للعالمين وأمته أمة مرحومة (والفاتح) الأظهر أو الفاتح (لبصائرهم بمعرفة الحقّ والإيمان بالله) أي على جهة الصدق (أو النّاصر للحقّ) أي بخذلان اعدائه وتبيان أحبائه (أو المبتدي بهداية الأمّة) بكسر الدال بمعنى البادئ المأخوذ من الفتح بمعنى الافتتاح ومنه الفاتحة (أو المبدّأ) بضم الميم وفتح الموحدة وتشديد الدال المهملة ثم همزة مقصورة أي المبتدأ كما في نسخة (المقدّم في الأنبياء) أي عند خلق أنوارهم وتقسيم أسرارهم (والخاتم لهم) أي بالمنع عن إظهارهم (كما قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ) أي في حال الخلقة (وآخرهم في البعث) أي في بعثة الدعوة. (ومن أسمائه تعالى في الحديث) أي على ما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا (الشّكور) وفي القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ وهو مبالغة الشاكر (ومعناه المثيب) أي المجازي بالجزاء الجزيل (على العمل القليل) فيرجع إلى صفة الفعل (وقيل المثني على المطيعين) فيرجع إلى صفة الذات وقيل الشكور لمن شكره فيكون من قبيل المقابلة وأما قول الدلجي المجازي عباده على شكرهم فليس من باب المشاكلة كما وهم بل يرجع إلى الأخص من المعنى الأول فتأمل (وَوَصَفَ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الإسراء: 3] ) ولقد قال أيضا في حق هذه الأمة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي لكل مؤمن كامل عالم عامل فإن الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر فالأول باجتناب المعصية والثاني بارتكاب الطاعة وقد قال تعالى اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وقيل مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وقيل الشكور هو المعترف بالعجز عن أداء الشكر هذا وقد قال الأنطاكي لم يقع هذا من القاضي موقعه لأنه في معرض تحرير ما فضل الله تعالى به نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وما خلع تعالى عليه من اسمائه وأما من خص بكرامة غير محمد من الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام فقد قدمهم في أول الفصل وذكر نوحا عليه الصلاة والسلام في جملتهم وكان في ذلك غنية عن إعادة ذكره هنا مرة أخرى (وقد وصف النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم نفسه بذلك) أي الوصف (فقال) أي في الحديث المتقدم كما ذكره الترمذي وغيره لما قيل له حين انتفخت قدماه من قيام الليل اتتكلف هذا وقد غفر الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ (أفلا أكون عبدا شكورا) يعني وعلى مشقة عبادته صبورا، (أي معترفا بنعم ربّي عارفا بقدر ذلك) أي بمقدار إنعامه عندي (مثنيا عليه) أي بلساني وجناني (مجهدا نفسي) أي في القيام بأركاني (في الزّيادة) أي في تحصيلها (مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] ) أي نعمة على نعمة والحاصل أن المبالغة في القيام بشكر المنحة موجبة لزيادة مراتب المنة ومقتضية لإزالة مثالب المحنة. (ومن إسمائه تعالى العليم) قال الله تعالى وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (والعلّام) كان حقه أن يقول علام الغيوب أو علام الغيب إذ لم يرد العلام في اسمائه سبحانه وتعالى (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي في آية وفي آخرى عالِمِ الْغَيْبِ إما للاكتفاء وإما على برهان الأولى وغيبوبته بالنسبة إلى غيره وإلا ففي الحقيقة لا غيب بالنسبة إليه تعالى لأنه موجد كل شيء وخالقهم. (ووصف نبيّه بالعلم) أي في الجملة مع المشاركة لغيره (وخصّه بمزيّة منه) أي بفضيلة زائدة منه على غيره لاختصاصه بفضل منته عليه (فقال: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) أي من المعارف الدينية والعوارف اليقينية (وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 113] ) أي بالنسبة إلى غيرك من الأنبياء والأصفياء وإن أعطى كل منهم حظا جسيما (وقال) أي في مرتبة التكميل به مزية الكمال (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) أي قراءته مبني (وَالْحِكْمَةَ) أي ألسنة لبيانه معنى (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 151] ) أي بعقولكم ما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي بإبداء نبوته وإظهار رسالته وفي تكرير الفعل إيماء إلى أنه نوع آخر فتدبر ولعل المراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 به أحوال الحقيقة وبما سبق من الكتاب والسنة أحكام الشريعة والطريقة وقد روي الشريعة أقوالي والطريقة فعالي والحقيقة أحوالي (ومن أسمائه تعالى الأوّل) أي وجودا بلا ابتداء (والآخر) أي شهودا بلا انتهاء (ومعناهما السّابق للأشياء قبل وجودها) أي أزلا (والباقي بعد فنائها) أي أبدا لحديث اللهم أنت الأول فليس قبلك أي قبل ابدائك شيء وأنت الآخر فليس بعدك أي بعد افنائك الخلق شيء وأنت الظاهر فليس فوقك أي فوق ظهورك شيء باعتبار مظاهر أفعالك وصفاتك وأنت الباطن فليس دونك أي دون بطونك شيء باعتبار حقيقة ذاتك اقض عني ديني واغنني من الفقر يعني فإنك الغني المغني (وتحقيقه) أي تحقيق كونه أولا وآخرا (أنّه ليس له أوّل) يعني وهو موجد الأشياء ومبدعها (ولا آخر) لأنه مفني الأشياء ومعيدها فهما بهذا المعنى من صفات التنزيه له تعالى وإن كان باعتبار مؤداهما من إفادة كونه أزليا وأبديا يكون وصفا ثبوتيا (وقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ) أي في بدء عالم الخلق (وآخرهم في البعث) أي في نهاية عالم الأمر (وفسّر بهذا) أي بكونه أول الأنبياء خلقا (قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أي عهدهم بتبليغ دعوة الحق والرسالة إلى الخلق (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7] ) أي وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وخصوا بالذكر لأنهم أشهر أرباب الشرائع وهم أولو العزم من الرسل (فقدّم) أي الله سبحانه (محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ذكره على المتقدمين من الأنبياء المذكورين مع أنه متأخر في الوجود عنهم في عالم الأشباح لسبق رتبته وتقدم نبوته في عالم الأرواح وقد روي أول ما خلق الله نوري وفي لفظ روحي وورد أنه أول من قال بلى في الميثاق (وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَحْوٍ مِنْهُ عُمَرُ بْنُ الخطّاب رضي الله عنه) أي فيما تقدم من قوله بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ بَعَثَكَ آخر الأنبياء وذكرك أولهم أي في الأنباء فقال وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ الآية (ومنه) أي ومن قبيل قوله كنت أول الأنبياء الخ أي باعتبار النسبة الأولية والسابقية والقبلية في الجملة من مرتبة المزيد (قوله نحن الآخرون) أي في الخلقة (السّابقون) أي في البعثة يوم القيامة أو المقضي لهم قبل الخليقة كما صرح به في حديث مسلم (وقوله) أي ومنه قوله (أنا أوّل من تنشقّ الأرض عنه) وفي نسخة عنه قبل الأرض، (وأوّل من يدخل الجنّة) أي هو وأمته من الباب الأيمن من أبوابها كما ورد في بعض طرق الحديث، (وأوّل شافع، وأوّل مشفّع) أي مقبول الشفاعة (وهو خاتم النّبيّين) أي لا نبي بعده (وآخر الرّسل) تأكيد لما قبله (صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وعليهم أجمعين قال الدلجي وهو صلى الله تعالى عليه وسلم سمى بالأول والآخر إنما هو من حيث كونه أولا في الخلق وآخرا في البعث لا من حيث معناهما في حقه تعالى فلا التفات إلى ما ذكر هنا انتهى ولا يخفى أنه لا خصوصية للتفرقة بهذين الوصفين من بين سائر الصفات السابقة واللاحقة إذ لا يتصور اشتراك المخلوق مع الخالق في نعت من النعوت بحسب الوصف الحقيقي وإنما يكون بملاحظة المعنى المجازي أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 العرفي فالله سميع بصير عليم حي قدير مريد متكلم وقد أثبت هذه الصفات أيضا لبعض المخلوقات ولكن بينهما بون بين ولا يخفى مثل هذا على دين وقد افرد المصنف كما سيأتي فصلا في بيان هذا الفضل لئلا يعدل أحد عن مقام العدل هذا وقد روى التلمساني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نزل جبريل فسلم علي فقال في سلامه السلام عليك يا أول السلام عليك يا آخر السلام عليك يا ظاهر السلام عليك يا باطن فانكرت ذلك عليه وقلت يا جبريل كيف تكون هذه الصفة لمخلوق مثلي وإنما هذه صفة الخالق الذي لا تليق إلا به فقال يا محمد اعلم أن الله أمرني أن اسلم بها عليك لأنه قد فضلك بهذه الصفة وخصك بها على جميع النبيين والمرسلين فشق لك اسما من اسمه ووصفا من وصفه وسماك بالأول لأنك أول الأنبياء خلقا وسماك بالآخر لأنك آخر الأنبياء في العصر وخاتم الأنبياء إلى آخر الأمم وسماك بالباطن لأنه تعالى كتب اسمك مع اسمه بالنور الأحمر في ساق العرش قبل أن يخلق أباك آدم بألفي عام إلى ما لا غاية له ولا نهاية فأمرني بالصلاة عليك فصليت عليك يا محمد ألف عام بعد ألف عام حتى بعثك الله بشيرا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وسماك بالظاهر لأنه أظهرك في عصرك هذا على الدين كله وعرف شرعك وفضلك أهل السموات والأرض فما منهم من أحد إلا وقد صلى عليك صلى الله عليك فربك محمود وأنت محمد وربك الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت الأول والآخر والباطن فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحمد لله الذي فضلني على جميع النبيين حتى في اسمي وصفتي. (وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْقَوِيُّ وَذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) وهو تفسير لما قبله (ومعناه القادر) أي التام القدرة الكامل القوة (وقد وصفه الله تعالى) أي نبيه (بِذَلِكَ فَقَالَ: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 20] قيل) أي المراد به (مُحَمَّدٌ وَقِيلَ جِبْرِيلُ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الصَّادِقُ) كما رواه ابن ماجة في الاسماء الحسنى (في الحديث المأثور) أي المروي عن أبي هريرة مرفوعا وقد يؤخذ من قوله تعالى وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ (وورد في الحديث) أي الصحيح عن ابن مسعود (أيضا اسمه عليه الصلاة والسلام بالصّادق) أي فيما يقوله (المصدوق) أي فيما يخبره يعني المشهود له بصدق في كلامه سبحانه وتعالى بقوله وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. (ومن أسمائه تعالى) أي في القرآن (الوليّ) أي من قوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا كذا ذكره الدلجي وكأنه غفل عن قوله تعالى فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وقوله تعالى وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (والمولى) قال تعالى فَنِعْمَ الْمَوْلى (ومعناهما) أي معنى كل من الولي والمولى (النّاصر) والأظهر المغايرة بينهما لقوله سبحانه وتعالى فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ فالولي هو المتصرف في أمر عباده على وفق مراده وكذلك المولى في وصفه تعالى بالمعنى الأعم من معنى النصير كما لا يخفى على الناقد البصير وهو لا ينافي أنه قد يراد بالولي والمولى الناصر كما بينه المصنف بقوله (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 [المائدة: 55] ) وقال عليه الصلاة والسلام أنا ولي كل مؤمن رواه البخاري عن أبي هريرة وروى أحمد وأبو داود عن جابر نحوه (وقال الله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وقال عليه الصلاة والسلام) أي على ما رواه الترمذي وحسنه (من كنت مولاه فعليّ مولاه) أي من أحبني وتولاني فليتوله فإنه مني قال الشافعي ولاء الإسلام كقوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ وقد قال عمر لعلي رضي الله تعالى عنهما أصحبت مولى كل مؤمن أي وليه على لسان نبيه قيل سببه أن أسامة بن زيد قال لعلي لست مولاي إنما مولاي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ. (وَمِنْ أَسْمَائِهِ تعالى العفوّ) أي كثير العفو (ومعناه الصّفوح) أي كثير الاعراض عن الاعتراض وأصله إمالة صفحة العنق عن الجاني ثم استعمل مجازا في المعاني (وقد وصف الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا) وفي نسخة صحيحة بهذا نبيه (في القرآن. و) في (التّوراة) أما التوراة فكما سيأتي وأما القرآن فكما قال المصنف (وأمره بالعفو) ولا شك أنه كان ممتثلا لأمره فيتحقق وصفه به (فقال خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199] ) أي هذه الخصلة الحميدة وهي المجاوزة عن مرتكب السيئة إذا كانت بنفسك متعلقة وتمامه وأمر أي الناس بالعرف أي المعروف شرعا وعرفا أو نقلا وعقلا وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي المعاندين من المجادلين (وقال) أي عز وجل (فَاعْفُ عَنْهُمْ) أي تجاوز (وَاصْفَحْ [المائدة: 13] ) أي تغافل (وقال له جبريل وقد سأله) أي النبي (عن قوله) أي عن معنى قوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199] ) أي الآية (قال أن تعفو عمن ظلمك) أي وتصل من قطعك وتعطي من حرمك (وقال في التّوراة) زيد في نسخة والإنجيل قال الأنطاكي قال شيخنا برهان الدين الحلبي هذا الحديث ذكره البخاري في صحيحه من رواية عبد الله بن عمرو ليس فيه ذكر الإنجيل (في الحديث المشهور) أي الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص فيما سبق (في صفته) أي نعته في التوراة (ليس بفظّ) أي سيئ الخلق (ولا غليظ) أي جافي القلب (ولكن يعفو) أي يمحو في الباطن (ويصفح) أي ويعرض في الظاهر فاشتق له من اسمه العفو لاتصافه بكثرة العفو. (ومن أسمائه تعالى الهادي وهو) أي الهداية في صفة الحق (بمعنى توفيق الله تعالى لمن أراد من عباده) أن يخلق الاهتداء فيه فيصير مهتديا به فالمراد بالهداية هنا الدلالة الموصلة إلى المطلوب ومنه قوله تَعَالَى إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وقد يستعمل بمعنى البيان ومجرد الدلالة كما في قوله تعالى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ وقوله سبحانه وتعالى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وهذا معنى قوله (وبمعنى الدّلالة) أي على طريق الحق وبيان سبيل الرشد (والدّعاء) أي وبمعنى الدعاء وهو قريب مما قبله (قال الله تعالى وَاللَّهُ يَدْعُوا) أي عامة الخلق بدعوة الحق (إِلى دارِ السَّلامِ) أي دار الله التي فيها رؤيته التي هي أعز المرام أو دار يسلم الله تعالى وملائكته على من فيها بوجه الدوام أو دار السلامة من الآفة والملامة (وَيَهْدِي) بتوفيقه (مَنْ يَشاءُ) بتخصيصه (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25] ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 أي دين قويم (وأصل الجميع) أي جميع أنواع الهداية مما هو بمعنى التوفيق وهو خلق الاهتداء وما هو بمعنى الدلالة وما هو بمعنى الدعاء (من الميل) أي والإقبال (وقيل من التقديم) يعني فكان من هدى مال إلى ما هدى إليه أو قدم إليه وكلام القولين غير معروف في كتب اللغة مع أنه لا يظهر وجه الدلالة على سبيل الأصالة ثم لا فائدة فيه غير الإطالة (وقيل في تفسير طه إنه) أي معناه بإشارة مبناه (يا طاهر يا هادي يعني) أي يريد به أو بهما (النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال تعالى له) أي في حقه عليه الصلاة والسلام (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي لتدعو كما قرئ به والمعنى تدل الخلق إلى طريق الحق (وقال فيه وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ) أي بأمره أي بتيسيره زيد في نسخة وسراجا منيرا والحاصل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم موصوف بكونه هاديا إلا أنه مختص بالمعنى الثاني وهو مجرد الدلالة والدعاء (فالله تعالى مختصّ بالمعنى الأوّل) وهو التوفيق لمن يشاء بخلق الاهتداء، (قال الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي لا تقدر أن تخلق فيه قبول الهداية وإنما وظيفتك مجرد الدعوة والدلالة (وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] ) بتوفيقه للإجابة وقبول الهداية (وبمعنى الدّلالة يطلق على غيره تعالى) أي قد يطلق على غيره سبحانه وتعالى فاستعمال الهداية في حق البارئ بالمعنى الأعم وهو إرادة المعنيين واختصاصه تعالى بالمعنى الأول واختصاص غيره بالمعنى الثاني ولذا زيد في نسخة هنا فهو في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم بمعنى الدلالة أي لا غير، (ومن أسمائه تعالى المؤمن المهيمن) بكسر الميم الثانية وقد تفتح (قيل هما بمعنى واحد) وهذا مبني على قول فاسد كما سيجيء معبرا عنه بقيل من أن الصيغة للتصغير وإن الهمزة مبدلة بالهاء فإن التصغير الذي وضع للتحقير غير مناسب لوصف العلي الكبير فالصحيح أن المهيمن مأخوذ من هيمن على كذا صار رقيبا إليه وحافظا عليه نعم قد يقال إن معناهما واحد من آمن غيره من الخوف على أن أصله مأمن قلبت الهمزة الأولى هاء والثانية ياء وقيل هو بمعنى الأمين أو المؤتمن (فَمَعْنَى الْمُؤْمِنِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى الْمُصَدِّقُ وَعْدَهُ عباده) أي وعده عباده كما في نسخة أي المنجز ما وعدهم في الدنيا من نعيم العقبى كما جاء في التنزيل وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أو بالمعنى الأعم كما في الحديث صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده (والمصدّق) أي بذاته (قوله الحقّ) بنصبه على أنه نعت قوله أي من كلماته الثابتة في آياته قال الله تعالى فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ، (والمصدّق لعباده المؤمنين) كما أشار في التنزيل رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (ورسله) حيث قال فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ (وقيل الموحّد نفسه) أي بقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وقوله سبحانه إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فهو مؤمن بتصديقه لنفسه (وقيل المؤمن) بتخفيف الميم بعد الهمزة الساكنة وفي نسخة بتشديدها بعد الهمزة المفتوحة وهو مما لا حاجة إليه أي معطي الأمن والامان (عباده في الدّنيا من ظلمه) أي لتنزهه عن وقوعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وفي نسخة من غضبه وهي في غير محلها لعموم عباده كما يدل عليه عطف خواصهم عليه بقوله (والمؤمنين في الآخرة من عذابه) أي من عذابه المخلد أو من تعذيبه فإن ما يقع لبعض المجرمين فهو من باب تهذيبه أو أراد بالمؤمنين الكاملين، (وقيل المهيمن بمعنى الأمين) مفيعل من الأمانة (مصغّر منه) أي من الأمين بزيادة ميمه الاولى فصار مؤيمن كذا ذكره الدلجي وهو غير متجه في العربية بل الصواب أنه مصغر على ما قيل من المؤمن على أن اصله مؤيمن (فقلبت الهمزة هاء) إذ كثيرا ما يتعاقبان قلبا كما قيل أراق وهراق وايهات وهيهات وإياك وهياك وقد قدمنا ما يتعلق به من التحقيق والله ولي التوفيق (وقد قيل إنّ قولهم) أي قول المؤمنين (في الدّعاء) أي في عقبه (آمين) أي بالمد والقصر (اسم) وفي نسخة أنه أي آمين اسم (من أسماء الله تعالى) والظاهر أنه بكسر همزة وأنه بجملته ساد مسد خبر أن الأول فتأمل وقال الانطاكي إنه بفتح الهمزة وهو للتعليل أي لأنه اسم من اسماء الله تعالى كما روي ذلك عن مجاهد قال الانطاكي فمعناه يا آمين استجب انتهى ولا يخفى أن هذا تركيب في المعنى بين القولين في المبنى قال النووي في التهذيب وهذا لا يصح لأنه ليس في اسماء الله تعالى اسم مبنى ولا غير معرب مع أن اسم الله تعالى لا يثبت إلا قرآنا أو سنة متواترة وقد عدم الطريقان ذكره الحلبي ثم قال وقوله أو سنة متواترة كذلك آحادا وقد ذكر هو عن إمام الحرمين أنه يثبت إطلاقه عليه بالآحاد ذكره في قوله إن الله جميل يحب الجمال انتهى ولا يخفى أن ورود آمين ثبت آحادا بل كاد أن يثبت متواترا باعتبار جمع معنى ما ورد إفرادا إلا أن المراد به اسمه سبحانه في محل الاحتمال والله تعالى اعلم بالحال نعم قد ورد في الحديث آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين كما رواه ابن عدي والطبراني في الدعاء عن أبي هريرة لكن المشهور في معناه استجب وهو اسم مبني على الفتح يمد ويقصر والد أكثر وورد في حديث قال بلال لرسول الله لا تسبقني بآمين أي بعد قراءة الفاتحة في الصلاة ولعل الكلام وقع مقلوبا والمعنى قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في التأمين لبلال لا تسبقني بآمين هذا وفي القاموس آمين بالمد والقصر وقد يشدد الممدود ويمال أيضا عن الواحدي في البسيط اسم من اسماء الله تعالى أو معناه اللهم استجب أو كذلك مثله فليكن أو كذلك فافعل انتهى فتأمل (ومعناه معنى المؤمن) ولعله مأخوذ من الأمين مقصورا بمعنى المؤمن كما أن البديع بمعنى المبدع ويكون المد متولدا من اشباع الحركة (وقيل المهيمن بمعنى الشّاهد) فهو مغاير للمؤمن من جهة المعنى على ما قدمناه من تحقيق المبنى إذ معنى الشاهد العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة أو الذي يشهد على كل نفس بما كسبت من خير أو شر (والحافظ) أي وبمعنى الحافظ والواو بمعنى أو أي الحافظ لعباده أحوالهم والمحصي عليهم أفعالهم وأقوالهم، (والنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أمين) أي مأمون يعني معصوم ومصون أو صاحب الأمانة وطالب الديانة (ومهيمن) أي بمعنى عالم ومشاهد ورقيب وقريب (ومؤمن) أي مصدق أو معطي الأمن (وقد سمّاه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 أي الله (أمينا) أي عند بعض المفسرين (فقال: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 21] ) وقيل المراد به جبريل الأمين (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما بين أهل الجاهلية (يُعْرَفُ بِالْأَمِينِ وَشُهِرَ بِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَهَا) أي لكمال أمانته ووضوح ديانته وحفظ الله سبحانه إياه عن خيانته (وسمّاه العبّاس) أي في شعره كما في نسخة (مهيمنا في قوله) أي من أبيات أنشأها أو أنشدها في مدحه عليه السلام (ثم احتوى بيتك المهيمن من خندف علياء تحتها النّطق) وقد مر بيانه مبنى ومعنى فالمهيمن مرفوع على أنه فاعل احتوى وهو المناسب للمرام في هذا المقام (وقيل المراد يا أيّها المهيمن) فيكون المراد به الله تعالى، (قاله القتيبيّ) بالتصغير وفي نسخة بدون التحتية وفي أخرى بالعين بدل القاف والظاهر الأول فإنه الإمام أبو محمد عبد الله ابن مسلم بن قتيبة وقد صرح به التلمساني بأنه منسوب إلى قتيبة بالتصغير لكن ذكر الأنطاكي عن الأصمعي أن الأقتاب هي الأمعاء واحدتها قتبة وتصغيرها قتيبة وبها سمي الرجل والنسبة إليها قتبي كما تقول جهني في جهينة حكاه عن الجوهري وغيره ثم هو عن الدينوري بكسر الدال وفتح النون وقيل المروزي النحوي صاحب كتاب المعارف وأدب الكاتب كان فاضلا سكن بغداد وحدث بها عن إسحاق بن راهويه وأبي حاتم السجستاني وتلك الطبقة وله تصانيف كثيرة مفيدة منها غرائب القرآن وغريب الحديث ومشكل القرآن ومشكل الحديث ومنها التاريخ وطبقات الشعراء وغير ذلك توفي سنة ست وسبعين ومائتين على ما صححه ابن خلكان. (والإمام أبو القاسم القشيريّ) هو عبد الكريم بن هوزان النيسابوري صاحب الرسالة وولي الله توفي سنة خمس وستين وأربعمائة (وقال تعالى) أي في حق نبيه (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أي يصدق بوجوده لما شاهد عنده من كرمه وجوده (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61] ) أي يصدقهم بعلمهم بخلوصهم واللام مزيدة للفرق بين إيمان الشهود والتصديق وإيمان الأمان بوجود التحقيق فقوله (أي يصدّق) تفسير لمطلق الإيمان وقيل عدي بالباء واللام لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به وقصد السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولون ويصدقهم لكونهم صادقين عنده ونحوه قوله تعالى وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ وقالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما في حديث مسلم على ما مر مبنى ومعنى (أنا آمنة) بفتحتين (لأصحابي) أي ذو من أمن هو من باب رجل عدل (فهذا بمعنى المؤمن) أي معطي الأمن والأمان لأهل الإيمان إذ كانت الصحابة في ظل حرم كنفه آمنين وأما قول الدلجي جمع أمين كبررة جمع بر فهو غير موافق أصلا لأنه غير مطابق وزنا وحملا. (ومن أسمائه تعالى القدّوس) بضم القاف ويفتح صيغة مبالغة من القدس وهو الطهارة والنزاهة ولذا قال (ومعناه المنزّه عن النّقائص) أي أزلا، (المطهّر عن سمات الحدث) بكسر السين جمع سمة وهي العلامة أي من صفات الحدوث أبدا وقد يقال في معناه المبرأ من أن يدركه حس أو يتخيله وهم أو يحيط به عقل أو يتصوره فهم لما قيل ما خطر ببالك فالله وراء ذلك (وسمّي بيت المقدس) أي على ما ورد وهو بفتح الدال المشددة وضم الميم وقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 بفتح الميم وكسر الدال مخففا والظاهر أن بيت مرفوع على نيابة الفاعل والمفعول الثاني مقدر وترك لظهوره وثقل تكرره أي سمي بيت المقدس ببيت المقدس وجزم الأنطاكي بأن بيت بالنصب على أنه المفعول الثاني لسمي والمفعول الأول القائم مقام الفاعل مستكن فيه أي وسمي بيت المقدس بيت المقدس انتهى ولا يخفى أن تقديرنا أولى لأن المفعول الثاني بالحذف أحرى لكونه فضلة والمفعول الأول بالثبات أنسب لكونه كالعمدة (لأنّه يتطهّر) بصيغة المجهول أي يتنظف (فيه من الذّنوب) بناء على أنه يعبد فيه علام الغيوب (ومنه الوادي المقدّس) أي كما جاء في القرآن وهو بمعنى المطهر أو المبارك وهو الأظهر (وروح القدس) أي ومنه روح القدس بضم الدال وسكونها في قوله تعالى وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ بضم الدال وسكونها أي قويناه بجبريل (ووقع في كتب الأنبياء) أي الكرام والمعنى في جميعها أو بعضها (في أسمائه عليه الصلاة والسلام) أي من بيان نعوته وصفاته (المقدّس) أي وقع المقدس في جملة اسمائه وسماته (أي المطهّر من الذّنوب) يعني والمبرأ من العيوب (كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ) أي على فرض وقوع ذلك فتدبر (أَوِ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَيُتَنَزَّهُ باتّباعه عنها) أي عن العيوب (كما قال تعالى وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم مما لا يليق بهم صدوره عنهم (وقال يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 129] ) أي من ظلمات أنواع الكفر إلى نور وحدة الإيمان والشكر أو من ظلمات الشبهة في الدين بما يهديهم الله به ويضيء لهم نور اليقين ولا يخفى بعد هذا المعنى من هذا المبنى فإن صيغة المفعول بمعنى الآلة للدلالة غير معقول ولا منقول وعلى تقدير أنه منقول فيلزم منه أن يكون هذا النعت لاتباعه أكثر قبول (أو يكون) أي النبي عليه الصلاة والسلام (مقدّسا بمعنى مطهّرا من الأخلاق الذّميمة) بالذال المعجمة أي الردية (والأوصاف الدّنيئة) بتشديد الياء التحتية وأصله الهمز من الدناءة بمعنى الرداءة كما في نسخة وهذا المعنى يقارب ما سبق من قوله المطهر من الذنوب لأن المراد به الطهارة من ذنوب الظواهر وغيوب السرائر. (ومن أسمائه تعالى العزيز) من عز يعز بالكسر (ومعناه الممتنع) أي بذاته (الغالب) باعتبار صفاته (أو الذي لا نظير له) من قوله فلان عزيز الوجود في نظر أرباب الشهود وهو معنى البديع المنيع (أو المعزّ لغيره) فهو فعيل بمعنى كبديع بمعنى مبدع على قول وقد يقال معناه القوي من عز يعز بالفتح ومنه قوله تعالى فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي قوينا (وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ أي القوة والغلبة والمنعة (وَلِرَسُولِهِ [المنافقون: 8] أي الامتناع) يعني بظهور السلطان (وجلالة القدر) أي بارتفاع الشأن له سبحانه وتعالى ولمن أعزه كرسوله فعزته بربه في الآية وكذا قوله تعالى وَلِلْمُؤْمِنِينَ لأن عزتهم بربهم أولا وبنبيهم آخرا هذا وذكر الحلبي أنه قال المعلق أراد به الشيخ تاج الدين عبد الباقي اليمني في الاكتفاء في شرح الشفاء منه ولقائل أن يقول يجوز أن يكون هذا الوصف أيضا للمؤمنين لشمول العطف إياهم فلا اختصاص للنبي والغرض اختصاصه وعجيب من القاضي كيف خفي عليه مثل هذا الشأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 انتهى ولا يخفى أن قوله والغرض اختصاصه يحتاج إلى البيان فإنه غير ظاهر في معرض البرهان فإن أكثر الأوصاف المتقدمة إنما هي واقعة بالصفة المجتمعة ومنها المؤمن حيث أطلق عليه سبحانه وعلى رسوله وعلى كل فرد من أفراد اتباعه على أنه لا يلزم من وصف الشيء بالشيء اختصاصه به ولا نفيه عن غيره نعم كان الأحسن أن يستدل بقوله تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ الفعل على أن ما بعده وهو قوله عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ كلام منقطع عما قبله وصفة أخرى له (وقد وصف الله تعالى نفسه بالبشارة) يعني بطريق الإشارة لا على سبيل العبارة حيث أثبت له هذا الفعل وإن لم يذكر بطريق الوصف (والنّذارة) بكسر النون ولعل الانذار يؤخذ من قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً على أن ضمير يكون راجع إلى الموصول على تجويز عوده إلى الفرقان وإلى عبده المعني به رسوله (فقال) أي عز وعلا (يُبَشِّرُهُمْ) بالتشديد والتخفيف (رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) للعامة (وَرِضْوانٍ [التوبة: 21] ) للخاصة (وقال تعالى أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أي في موضع (و) في محل آخر يُبَشِّرُكَ (بِكَلِمَةٍ مِنَ [آل عمران: 39] ) أي اسمه المسيح عيسى (وسمّاه الله تعالى) أي محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم (مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي في قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وزيد في نسخة وبشيرا أي أي وسماه بشيرا في قوله سبحانه وتعالى في موضع وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وهو فعيل بمعنى مفعل كالنذير (أي مبشّرا لأهل طاعته) يعنى بدار الثواب (ونذيرا) أي ومنذرا ومخوفا (لأهل معصيته) يعني دار العقاب. (وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: طه، ويس) ولعل في الطاء إيماء إلى أنه طاهر وفي الهاء إلى الهادي وفي الياء إلى يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وفي السين إلى أنه سيد أو سميع، (وقد ذكر بعضهم أيضا) أي من المفسرين (أنّهما من أسماء محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة وشرف وكرم فهو طاهر وهاد كما تقدم وقد سبق أن يس معناه يا سيد كما يدل عليه قوله سبحانه إِلْ ياسِينَ على ما ذكره بعض المفسرين وقد قال بعض العلماء المعتبرين أن طه أيضا منادي بحذف حرف النداء وأن المعنى يا مشيها بالقمر ليلة البدر فإن الطاء والهاء أربعة عشر على حساب أبجد الجمل فتأمل وأغرب الدلجي في قوله إن هذا قيل بلا بينة ولا دليل يعتمد والله تعالى أعلم بمراده بهما انتهى ولا يخفى أن المراد خفي في المقطعات وسائر المتشابهات وإنما ذكر ما ذكر بناء على الاحتمالات الناشئة من العبارات أو المنبئة عن الإشارات. فصل [قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وها أنا أذكر نكتة] (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وفّقه الله تعالى) أي لما يحبه ويرضاه (وههنا) أي في هذا المقام (أذكر نكتة) أي جملة مفيدة (أذيّل بها هذا الفصل) بتشديد التحتية المكسورة أي اجعل لها ذيلا لتمام المرام في مقام الفضل ووقع في أصل الدلجي وغيره وها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 أنا على أن ها حرف تنبيه بعده مبتدأ أو خبر نبه به عن حاله في ذكره بعد فكره وكذا ذكره الحجازي وقال ويروى أذكر (وأختم بها هذا القسم) أي من بين أقسام بيان الفصل بالفصل بين الفرع والأصل (وأزيح الإشكال بها) بضم الهمزة وكسر الزاء أي وازيل بها الإغلاق الواقع (فيما تقدّم) أي من متشابه الحديث وغيره (عن كلّ ضعيف الوهم) بسكون الهاء ويحرك (سقيم الفهم) أي حذارا من وقوعه فيما يرديه (تخلّطه) أي تلك النكتة تنجيه (من مهاوي التّشبيه) بفتح الميم وكسر الواو جمع مهواة وهي الحفرة العميقة المهلكة أي مهالكه في مباديه أو تناهيه ويروى وساوس جمع وسوسة وهي حديث النفس والشيطان (وتزحزحه عن شبه التّمويه) بضم الشين وفتح الموحدة أي وتبعده عن الشبهات المموهة الخالية عن التنزيه لأن الطريق القويم والدين المستقيم هو اعتقاد التنزيه المتوسطة بين التعطيل والتشبيه (وهو) قال الدلجي أي ضعيف الوهم وهو وهم والصواب أي ذلك الاشكال (أن يعتقد) أي ضعيف الخيال (أنّ الله تعالى جلّ اسمه) أي وصفه ورسمه (في عظمته) أي في ذاته (وكبريائه) أي في صفاته (وملكوته) أي في أرضه وسمواته (وحسنى أسمائه) أي وأسمائه الحسنى (وعلا صفاته) بضم العين وفتح اللام مقصورا ومعناه الرفيعة أي وصفاته العلى وضبط في نسخة صحيحة بفتح العين وكسر اللام وتشديد الياء مجرورا ومعناه الرفيع أي وصفاته العلية ونعوته السنية (لا يشبه) أي الله سبحانه (شيئا من مخلوقاته ولا يشبّه به) بصيغة المجهول أي ولا يمثل به شيء مكنوناته لكمال ذاته وجلال صفاته (وأنّ ما جاء) أي من الاسم والصفة (ممّا أطلقه الشّرع) أي في الكتاب والسنة (على الخالق) أي تارة (وعلى المخلوق) أي أخرى لما بينهما من الاشتقاق اللغوي (فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقيّ) بل إطلاقه على غيره سبحانه وتعالى إنما هو بالطريق المجازي؛ (إذ صفات القديم) أي الأزلي الأبدي لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه (بخلاف صفات المخلوق) أي المشاهد حدوثه بالدليل العقلي والنقلي (فكما أنّ ذاته تعالى لا تشبه الذّوات) أي وإن وقع الاشتراك في إطلاق الذات (كذلك صفاته) كالعليم والحليم والصبور والشكور والسميع والبصير والحي والمريد والمتكلم والقادر (لا تشبه صفات المخلوقين) أي من جميع الجهات (إذ صفاتهم) أي لحدوثها (لا تنفكّ) أي لا تزول (عن الأعراض) بالعين المهملة (والأغراض) أي عن عروضهما (وهو تعالى منزه عن ذلك) إذ لا عرض يعرض هنالك لأنه لا يعتري ذاته عرض ولا تعلل أفعاله بغرض وأما ما يشبه في فعله من العلة فهو محمول على سبب الحكمة (بل لم يزل بصفاته وأسمائه) أي موجودا ولا يزال بذاته ونعوته في نظر أرباب التوحيد وأصحاب التفريد مشهودا وأما صفات الأفعال كالخالق والرازق والمحيي والمميت فهي قديمة أيضا على ما اختاره المحققون من الماتريدي ومتابعيه خلافا للاشعري ومشايعيه وليس هذا محل تبيين مبانيها وتعيين معانيها وأما قول الدلجي من أنه سبحانه وتعالى موصوف بسمع وبصر يزيد الانكشاف بهما على الانكشاف بالعلم فهو خطأ نشأ من القياس حيث يوجب التشبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 بأوصاف الخلق من قبول نعت الزيادة والنقصان باعتبار بعض الحواس مع أنه سبحانه وتعالى يجب التنزه له عن ذلك إذ ليس كمثله شيء هنالك لا ذاتا ولا صفة ولا فعلا أصلا (وكفى في هذا) أي حسبك في كون ذاته وصفاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذات مخلوقاته وصفات مكوناته في جميع حالاتهم وعلو مراتبهم ودرجاتهم (قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ) قيل الكاف زائدة في هذا المقام إذ الكلام يتم بدونه في حصول المرام وقيل بزيادة المثل مبالغة في نفي المثل كما في قولهم مثلك لا يبخل فإنه إذا نفي البخل عن مشابهه ومناسبه كان نفيه عنه أولى في مراتبه وقيل المعنى ليس كذاته وصفته شيء وقال التلمساني والمحققون على أن لا صلة هنا لأن المراد منه نفي المماثلة من وجه وهذا لأنه لم يقل أحد بأن لله مثلا من كل وجه وإنما قالوا بالمماثلة من وجه فيحتاج إلى نفي هذه المماثلة ومن شأنهم أنهم يقولون عند ثبوت المماثلة من كل وجه هذه مثله وعند ثبوتها من وجهه هذا كمثله انتهى وهنا وجه أدق وهو بالبيان أحق وهو أن نفي مثل المثل يوجب نفي المثل (ولله درّ من قال) الدر في الأصل اللبن حال كثرته وقصد به هنا عمله أو خيره (من العلماء والعارفين) أي الجامعين في العلم والمعرفة الباهرة بين الأنوار الظاهرة والأسرار الباطنة (المحقّقين) أي في تبيان المبنى والمدققين في برهان المعنى (التّوحيد إثبات ذات غير مشبهة) بكسر الباء مخففة أو بفتحها مثقلة أي غير مشبهة (للذّوات) أي لسائر ذوات الموجودات وفيه رد على الوجودية والاتحادية والحلولية (ولا معطّلة عن الصّفات) أي الصفات الكاملات القديمات إذ التعطيل نفيها وإليه ذهب المعتزلة هربا من تعدد القدماء مبالغة في التوحيد قلنا لا محذور في تعدد الصفات وإنما المحظور في تعدد الذوات؛ (وزاد هذه النّكتة) أي معناها (الواسطي بيانا) أي وضوحا وبرهانا وظهورا وتبيانا (وهي مقصودنا) أي ليعرف معبودنا ومشهودنا (فقال ليس كذاته ذات) أي لاتصافه بالقدم وحدوث غيره بالعدم (ولا كاسمه) أي الخاص به (اسم) أي كاسم الله والرحمن فإنهما لا يطلقان على غيره (ولا كفعله فعل) أي من خلق ورزق وإحياء وافناء وإيجاد وامداد (ولا كصفته صفة) أي لقدمها وحدوث غيرها ولكمالها ونقصان ما عداها (إلّا من جهة موافقة اللّفظ اللّفظ) أي مطابقة لفظة وصف الخلق لنعت الحق كالعليم والحليم وغيرهما مما سبق (وجلّت) بتشديد اللام أي عظمت (الذَّاتُ الْقَدِيمَةُ أَنْ تَكُونَ لَهَا صِفَةٌ حَدِيثَةٌ) أي حادثة وجدت او جديدة بعد عدم لأنها إن كانت صفة كمال صفة كما فخلوه عنها قبل حدوثها وجدت أو جديدة بعد عدم لأنها إن كانت صفة كمال فخلوه عنها قبل حدوثها مع جواز اتصافه بها نقص اتفاقا وإلا استحال اتصافه بها إجماعا وأيضا لا يجوز أن تكون ذات القديم محلا للحوادث كما في علم الكلام تمام المرام (كَمَا اسْتَحَالَ أَنْ تَكُونَ لِلذَّاتِ الْمُحْدَثَةِ صِفَةٌ قديمة) لامتناع وجود صفة قبل موصوفها وهو من العلوم الضرورية والأمور البديهية (وهذا) أي الكلام من زبدة المشايخ الكرام (كلّه مذهب أهل الحقّ والسّنّة والجماعة) أي من العلماء والأئمة (رضي الله عنهم) أي أجمعين. (وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 فسّر الإمام أبو القاسم القشيريّ قوله) أي قول الواسطي (هذا) أي المذكور سابقا (ليزيده بيانا) أي وبرهانا لاحقا (فقال هذه الحكاية) أي ما زاده الواسطي آنفا مما تقدم عنه الرواية (تشتمل على جوامع مسائل التّوحيد) أي مما عليها مدار أرباب الدراية وهي اعتقاد أن لا شريك له في الآلهية والصفات الذاتية والفعلية واستحقاق العبودية بمقتضى النعوت الربوبية (وكيف) استفهام تعجب أو إنكار أي ولا (تشبه ذاته) أي الغنية بصفاته (ذات المحدثات) أي المفتقرة إلى موجدها في جميع الحالات (وهي) أي والحال أن ذاته تعالى (بوجودها) أي بوجوب وجودها وثبوت شهودها واتصافها بكرمها وجودها (مستغنية) أي عن جميع الأشياء كما قال وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ (وكيف يشبه فعله فعل الخلق) يجوز كونه فاعلا أو مفعولا وفي نسخة من فعل الخلق (وهو) أي والحال أن فعله لا يعلل بغرض ولا عرض ولا عوض فصدوره عنه (لغير جلب أنس) لاستغنائه عن جليس وأنيس (أو دفع نقص) أي ولا دفع نقص (حصل) أي تداركا لما به يتكمل (ولا بخواطر) باللام ويروى بالباء فاللام تعليلية والباء سببية أي ولا يكون بحصول خواطر باعثة له عليه (وأغراض) بالغين المعجمة (وجد) أي شيء منها لامتناع أن يكون فعله معللا بغرض وتصحف على الدلجي بقوله وجد بكسر الجيم وتشديد الدال فقال ولا يكون فعله تعالى باجتهاد على أنه مستدرك بقول المصنف (ولا بمباشرة ومعالجة ظهر) أي لا بانفراده ولا بالواسطة بل كما قال تعالى إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، (وَفِعْلُ الْخَلْقِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ) أي من الغرض والعرض والمباشرة والمعالجة، (وقال آخر) غير معرف كما ذكره الحلبي (من مشايخنا) أي مخاطبا لمريديه (ما توهّمتموه بأوهامكم أو أدركتموه بعقولكم) أي ولو في أكمل أحوالكم وأفضل مرامكم (فهو محدث) بفتح الدال أي حادث (مثلكم) واختصره بعض العارفين فقال كل ما خطر ببالك فالله وراء ذلك، (وقال الإمام أبو المعالي) عبد الملك أي ابن أبي محمد (الجوينيّ) بالتصغير وهو المشهور بإمام الحرمين ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة وحج وجاور بمكة والمدينة أربع سنين ثم عاد إلى وطنه نيسابور وهو من جملة مشايخ الغزالي (مَنِ اطْمَأَنَّ إِلَى مَوْجُودٍ انْتَهَى إِلَيْهِ فِكْرُهُ) أي وتقرر فيه ذهنه وتصور أنه بعينه لا يتصور غيره (فهو مشبّه) بكسر الموحدة والمشددة أي فهو من أهل التشبيه لله بذلك الموجود مما سواه (ومن اطمأنّ) أي سكن (إلى النّفي المحض) أي ذاتا وصفة (فهو معطّل) أي من أهل تعطيل الكون من أن يكون له مكون كالدهرية أو المعتزلة (وإن قطع بموجود) أي من غير توهم تشبيه وتصور تعطيل (اعترف بالعجز عن درك حقيقته) بفتح الراء وسكونها أي إدراك حقيقته من جهة ذاته وصفاته (فهو موحّد) كما روي عن الصديق الأكبر رضي الله عنه. العجز عن درك الادراك أدراك ويؤيده حديث سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ويقويه قوله تعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وهذا أحد محامل ما ورد عليكم بدين العجائز (وما أحسن قول ذي النّون المصريّ) وهو الزاهد الواعظ العارف بالله كان أبوه نوبيا وصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 عالما فصيحا حكيما توفي سنة خمس واربعين ومائتين قال الدارقطني روى عن مالك بن أنس أحاديث في إسنادها نظر (حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ في الأشياء) أي في إيجادها (بلا علاج) أي بلا معالجة ومزاولة ومباشرة واستعمال آلة (وصنعه) أي وتعلم أن صنعه (لها بلا مزاج) أي بلا خلط شيء بشيء أو بأشياء لتركيبه في الإبداء بل خلق الأشياء إما إبداعا بدون مادة كالسموات أو تكوينا منها كالإنسان من نطفة بحسب ما تعلق القدرة بمقدورها على وفق الإرادة (وعلّة كلّ شيء صنعه) أي مجرد صنعته وظهور قدرته بحسب إرادته (ولا علّة لصنعه) لأن أفعاله لا تعلل (وما تصوّر) بصيغة المفعول أو الفاعل أي وما خطر (في وهمك فالله بخلافه) أي بخلاف ذلك قال المصنف؛ (وهذا كلام عجيب نفيس) أي مرام غريب (محقّق) أي ثابت في مقام العلم مدقق. (والفضل الآخر) وفي نسخة الآخر بكسر الخاء وهو الفقرة الثالثة يعني قوله وما تصور في وهمك فالله بخلافه هو (تفسير) أي توضيح وتعبير (لقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] والثّاني) أي من الفصول وهو قوله وعلى كل شيء صنعه ولا علة لصنعه (تفسير لقوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] ) أي كما أشار إليه الحديث القدسي والكلام الأنسي خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي ومجمله في التفسير قوله تعالى فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وغايته أن فعله وقع أولا فضلا وثانيا عدلا (والثّالث) أي من الفصول وهو قوله التوحيد الخ (تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] ) أي ليس هناك إلا ظهور أثر القدرة على وفق الإرادة من غير تصور العلة (ثبّتنا الله وإيّاك على التّوحيد) أي على العلم بالوحدانية له سبحانه من جهة الذات (والإثبات) أي من جهة الصفات (والتّنزيه) أي واعتقاد أن ذاته ليست كسائر الذوات وصفاته ليست كصفات المحدثات، (وجنّبنا) أي بعدنا (طرفي الضّلالة والغواية من التّعطيل والتّشبيه) أي من جهة ذاته وصفته (بمنّه ورحمته) إذا لا يجب عليه شيء لبريته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 الْبَابُ الرَّابِعُ [فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ والكرامات] أي من القسم الأول (فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ المعجزات) أي الأمور الخارقة للعادة الشاهدة بصدق دعوى الرسالة (وشرّفه به من الخصائص) أي الخصوصيات (والكرامات) حتى لعلماء أمته وأولياء ملته قال الحلبي نقل بعض مشايخي فيما قرأته عليه بالقاهرة عن الزاهد مختار بن محمود الحنفي شارح القدوري ومصنف القنية في رسالته الناصرية أنه قيل ظهر على يد نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الف معجزة وقيل ثلاثة آلاف انتهى ولعله أراد غير المعجزات التي في القرآن كما سيأتي في كلام المصنف من البيان (قال القاضي أبو الفضل) أي المؤلف رحمه الله تعالى (حسب المتأمّل) بسكون السين أي كافيه (أن يحقّق أنّ كتابنا هذا) أي المسمى بالشفاء (لَمْ نَجْمَعْهُ لِمُنْكِرِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي ورسالته (ولا لطاعن في معجزاته فنحتاج) هو بالنصب بتقدير أن أي حتى نحتاج نحن معه في بحث الدين (إلى نصب البراهين) أي الأدلة النقلية والعقلية (عليها) أي على اثبات معجزاته (وتحصين حوزتها) بمهملة مفتوحة فواو ساكنة ثم زاء مفتوحة وأصلها بيضة الملك ودائرتها بأجمعها من حواليها وأطرافها وناحيتها أي وحفظ افرادها مجموعة محصنة (حتّى لا يتوصّل المطاعن إليها) أي إلى مقدماتها بالتردد في إثباتها (وتذكر) بالنصب عطفا على فنحتاج أي وحتى نظهر (شروط المعجز) وهو النبي المدعي (والتّحدّي) بالنصب أي ونبين التحدي وهو بكسر الدال المشددة طلب المعارضة وهو شرط كونه معجزة (وحده) بالنصب أيضا وهو بفتح الحاء وتشديد الدال أي وتعريفه بأنه طلب المعارضة (وفساد) أي ونذكر فساد (قول من أبطل نسخ الشّرائع) كاليهود وغيرهم (وردّه) أي ونذكر رد قول مبطله والحاصل أنا لم نجمعه لشيء من ذلك فلم نحتج إلى ذكر ما يدفع شيئا مما هنالك. (بل ألّفناه) بتشديد اللام أي جمعنا كتابنا هذا (لأهل ملّته) أي لأهل إجابة دينه وشريعته من أمته (المليّن) بتشديد الموحدة المكسورة أي المجيبين (لدعوته المصدّقين لنبوّته ليكون) أي ما في تأليفنا هذا (تأكيدا في محبّتهم له ومنماة) بفتح الميم مفعلة من النمو أي ومزيدا (لأعمالهم) أي وفق متابعتهم له (ولِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح: 5] ) أي بضم إيقانهم إلى مجرد إيمانهم (ونيّتنا) أي قصدنا وغرضنا (أن نثبت) بالتخفيف والتشديد أي نذكر (في هذا الباب أمّهات معجزاته) أي معظماتها وأصولها (ومشاهير آياته) أي من فصولها (لتدلّ) بالتاء الفوقية أي تلك المعجزات الواضحات والكرامات البينات (على عظيم قدره) وفي نسخة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 عظم قدره بكسر العين وفتح الظاء أي على عظمة مقدار قربه (عند ربّه) أي وفق كمال حبه وفي نسخة لندل بالنون أي بسبب تأليفنا وقع في أصل الدلجي بصيغة التذكير فقال أي ما نواه من إثباتها (وأتينا) بفتح الهمز أي وجئنا (منها) أي بعد أن نوينا إثباتها (بالمحقّق) بفتح القاف أي بالثابت وقوعه في القرآن القديم (والصّحيح الإسناد) أي الواقع في الحديث الكريم كحنين الجذع وتسبيح الحصى وتكثير الطعام والشراب، (وأكثره) أي أغلب ما ذكر في هذا الباب (ممّا بلغ القطع) أي العلم القطعي أو الأمر اليقيني (أو كاد) أي قارب أن يبلغه للتواتر المعنوي دون اللفظي وحذف خبر كاد مراعاة لسجع ما سبق من الإسناد أو للاكتفاء للعلم بالمراد (وأضفنا إليها) أي إلى المعجزات الثابتة بالكتاب والسنة (بَعْضَ مَا وَقَعَ فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِ الْأَئِمَّةِ) من نحو صحاح الستة؛ (وإذا تأمّل المتأمّل المنصف) أي الخارج عن وصف التعسف يقال انصف إذا أعطى الحق من نفسه (ما قدّمناه من جميل أثره) أي مآثره الجميلة ومفاخره الجزيلة (وحميد سيره) أي شمائله الحميدة وفضائله السعيدة (وبراعة علمه) أي وتفوقه على جميع العلماء (ورجاحة عقله وحلمه) أي رزانتهما وزيادتهما على سائر العقلاء والحلماء (وجملة كماله) أي ومجمل كمالاته العلية (وجميع خصاله) أي اعماله وأحواله السنية (وشاهد حاله) من ظهور شمائله البهية (وصواب مقاله) أي من حكمه الجلية (لم يمتر) جواب إذا أي لم يشك (في صحّة نبوّته وصدق دعوته) أي في نسبة رسالته بتبليغ دعوة الحق إلى عامة الخلق (وقد كفى هذا) أي ما ذكرنا (غير واحد) أي ممن تأمل في حال كونه داخلا (في إسلامه) أي من جهة انقياده (والإيمان به) أي من حيث اعتقاده (فروينا) بصيغة المجهول وقد تشدد واوه وروي بصيغة الفاعل أيضا والمعنى فوصل إليها رواية (عن التّرمذيّ) وهو صاح الجامع (وابن قانع) وهو الحافظ عبد الباقي بن قانع وهو بالقاف والألف والنون والعين المهملة وقد تصحف بابن نافع بالنون أولا والفاء بعد الألف وقد سبق ترجمتهما (وغيرهما) أي من المخرجين (بأسانيدهم أنّ عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام وهو من الصحابة الكرام (قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم المدينة) أي الأمينة السكينة (جئته) جواب لما أي أتيته (لأنظر إليه) أي إلى وجه أمره وظهور شأنه واتأمل في تحقيق بيانه وتدقيق برهانه (فلمّا استبنت وجهه) أي رأيت ظاهر وجهه الدال على صدق سره وباطنه وفي رواية فلما تبينت وجهه أي أبصرت وجهه ظاهرا (عرفت) أي ظهر لي من أمارات صدقه اللائحة على صفحة وجهه لأن الظاهر عنوان الباطن (أنّ وجهه ليس بوجه كذاب) وتركيبه بالإضافة ويجوز بالوصفية للمبالغة. (حدّثنا به) أي بالحديث الآتي بعد إتمام سنده والمراد بحديث عبد الله بن سلام هذا بعينه (القاضي الشّهيد أبو عليّ رحمه الله) وهو الحافظ ابن سكرة (قال حدّثنا أبو الحسين) بالتصغير هو الصواب على تقدم قي صدر الكتاب (الصّيرفيّ وأبو الفضل بن خيرون) بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية وضم راء وسكون واو ونون منصرف ويمنع (عن أبي يعلى البغداديّ) بالدال المهملة أولا والمعجمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 ثانيا وهو أفصح من عكسه وكذا إهمالهما واعجامهما وهو معروف بابن زوج الحرة (عن أبي عليّ السّنجيّ) بكسر المهملة فنون ساكنة فجيم فياء نسبة (عن ابن محبوب) وهو المحبوبي (عن التّرمذيّ) صاحب الجامع، (حدّثنا محمّد بن بشّار) بفتح الموحدة وتشديد المعجمة (حدّثنا عبد الوهّاب الثّقفيّ) أي الحافظ أحد الاشراف عن أيوب ويونس وحميد وعنه أحمد وابن إسحاق وابن عرفة وثقه ابن معين وقال اختلط بآخره أخرج له الأئمة الستة (ومحمّد بن جعفر) وهو غندر وقد سبق (وابن أبي عديّ) بصري سلمي يروي عن حميد وطبقته وعنه جماعة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة (ويحيى بن سعيد) هذا هو القطان البصري أحد الاعلام عن هشام وحميد والأعمش وعنه أحمد وابن معين وابن المديني قال أحمد ما رأت عيناي مثله وقال بندار إمام أهل زمانه يحيى القطان واختلفت إليه عشرين سنة فما أظن أنه عصى الله قط (عن عوف بن أبي جميلة) بفتح الجيم وكسر الميم وهو عوف (الأعرابيّ) لدخوله درب الأعراب قاله ابن دقيق العيد أخرج له الأئمة الستة (عن زرارة) بضم الزاي في أوله (ابن أوفى) وفي نسخة ابن أبي أوفى قال الحلبي والصواب الأول وهو قاضي البصرة ويروي عن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وعنه قتادة وغيره عالم ثقة كبير القدر أم في داره فقرأ فإذا نقر في الناقور فشهق فمات قال الحلبي وقد ذكر خبر موته كذلك الترمذي في جامعه في باب ما جاء في وصف صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالليل بسنده أخرج له الأئمة الستة (عن عبد الله بن سلام الحديث) أي على ما تقدم آنفا قال الحلبي وحديثه المذكور هنا على ما أخرجه القاضي عياض من جامع الترمذي أخرجه في الزهد وقال صحيح وهو في سنن ابن ماجة أيضا في الصلاة عن محمد بن بشار به أي بسنده وفي الأطعمة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة عن أبي عوف نحوه وكما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في أول أمره كلما نظر إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وتأمل في ذاته الكريمة كان يقول خلق هذا لأمر عظيم فلما دعاه إلى الإسلام قال هذا الذي كنت أرجو منك في سابق الأيام (وعن أبي رمثة) بكسر الراء وميم ساكنة ثم مثلثة (التّميميّ) بميمين وفي نسخة التيمي ويقالان في حقه على ما ذكره الحلبي (أتيت) وفي نسخة قال أتيت (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جئته (ومعي ابن لي) لا يعرف اسمه (فأريته) بصيغة المجهول أي فأرانيه بعض من يعرفه من أصحابه وغيرهم (فلمّا رأيته) وظهر لي ما عليه من لوامح الصدق ولوائح الحق (قلت هذا نبيّ الله) رواه ابن سعيد؛ (وروى مسلم وغيره أنّ ضمادا) بكسر الضاد المعجمة وهو ابن ثعلبة من ازد شنوءة وكان صديقا له صلى الله تعالى عليه وسلم قبل بعثته بالنبوة (لمّا وفد عليه) أي جاء إليه بمكة وقد سمع بعض قريش يقول محمد مجنون فقال يا محمد إني راق هل بك شيء أرقيك (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) نفيا لما نسب إليه بإثبات كمال العقل مما يظهر من دلالة كلامه عليه (أنّ الحمد لله) بكسر الهمزة وتشديد النون ونصب الحمد وفي نسخة واقتصر عليها الشمني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 بفتح الهمزة وكسر النون المخففة ورفع الحمد ووجهه غير ظاهر وإن اختاره كثير من الشراح واقتصر عليه بعض المحشيين نعم لفظ الحديث على ما في الحصن الحصين وإن تولى عقدا فخطبته أن الحمد لله فضبط هناك بالوجهين وأما ههنا فلا يصح كون أن المصدرية بعد القول لاقتضائه الجملة ولا التفسيرية لوجود القول الصريح وهي لا تكون إلا مقرونة بما فيه معنى القول كالوحي والنداء وأمثال ذلك (نحمده) جمع بين الجملة الاسمية والفعلية تأكيدا للقضية فإن الأولى تفيد الثبات والدوام والثانية تدل على تجدد الإنعام أو الأولى خبرية والثانية انشائية أو الأولى نظرا إلى أفراده ووحدته والثانية اشتراكا لغيره من أمته وأهل ملته وأما كون النون للعظمة على ما ذكره الدلجي فلا يلائم مقام العبودية (ونستعينه) أي في الحمد وغيره (من يهده الله) وفي نسخة صحيحة مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ (فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يضلل فلا هادي له) بحذف المفعول في جميع الأصول وفيه نكتة لا تخفى على أصحاب الوصول (وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له) تأكيد لما قبله (وأنّ محمّدا عبده ورسوله) أفرد الفعل في مقام التوحيد كما يناسبه مرام التفريد ولأن الشهادة أمر غيبي لا يطلع عليه كل أحد بخلاف ظهور الحمد والاستعانة بالحق فإنه ظاهر على جميع الخلق وهذا كله أولى مما حمله الدلجي على التفنن في العبارة والتنوع في الإشارة (قال) أي ضماد (له) أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أعد عليّ كلماتك هؤلاء) أي كررها لدي وأظهرها علي فإنه كما قيل: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع ثم هؤلاء إشارة إلى الكلمات فإن هؤلاء قد يستعمل لغير العقلاء وقد جاء في رواية أنه عليه السلام أعادها عليه ثلاث مرات فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء (فلقد بلغت قاموس البحر) بالقاف والميم أي وصلن إلى وسطه أو قعره أو لجته وتموج حجته وتبين محجته تعجبا من فصاحة مبانيها وبلاغة معانيها وفي نسخة قاعوس بالعين المهملة وفي أخرى قابوس بالموحدة وفي أخرى تاعوس بالتاء الفوقية أو النون مع العين المهملة والمعاني متقاربة ولعل بعض النسخ مصحفة (هات) بكسر التاء أي أعطني (يدك) أي اليمنى (أبايعك) بسكون العين جزما على جواب الأمر أي لأبايعك على الإيمان فبايعه وهو ممن اسلم في أول الإسلام على ما ذكره ابن عبد البر وأما قول الحلبي هات أمر من هاتى يهاتي فهو خلاف المشهور وما عليه الجمهور من أنه اسم فعل ولذا ذكره صاحب القاموس في مادة هيت وقال هات بكسر التاء أي اعطني لكن ذكره في المعتل اللام أيضا وقال هات يا رجل أي أعط والمهاتاة مفاعلة منه ويؤيده أنه يقال للمرأة هاتي. (وقال جامع بن شدّاد) بتشديد الدال الأولى وجامع هذا محاربي أسدي كوفي يقال له أبو صخرة يروي عن صفوان بن محرز وعدة وعنه القطان وابن عدي وهو ثقة توفي سنة ثمان عشرة ومائة على ما قاله ابن سعد ذكره الحلبي والحديث رواه البيهقي عنه أنه قال (كان رجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 منّا) أي من أهل زماننا (يقال له طارق) وهو ابن شهاب أبو عبد الله المحاربي وله صحبة ورواية (فأخبر أنّه رأى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة فقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام له ولرفقائه (هَلْ مَعَكُمْ شَيْءٌ تَبِيعُونَهُ قُلْنَا هَذَا الْبَعِيرُ) أي معنا للبيع (قال بكم) أي تبيعونه من الثمن (قلنا بكذا وكذا) لعل العطف لبيان عددين (وسقا من تمر) بفتح الواو وتكسر أي ستين صاعا على ما في حديث (فأخذ) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بخطامه) أي برسنه الذي يقاد به (وسار إلى المدينة) وفيه دلالة على صحة المعاطاة في المعاملة (فقلنا) أي فيما بيننا (بعنا) أي بعيرنا (من رجل لا ندري من هو) أي باسمه ولا برسمه (ومعنا ظعينة) أي امرأة مسافرة أو في هودجها أو تحمل إذا ظعنت أي ارتحلت على راحلتها وقد أبعد الدلجي في قوله أي امرأة سميت ظعينة لأنها تظعن أي تسير مع زوجها حيث سار (فقالت أنا ضامنة) أي متضمنة وفي نسخة بالإضافة وهو مصحفة (لثمن البعير) مبالغة في ضمانها بقبول الذمة لكمال الهمة وزوال التهمة (رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) أي في وقت كماله من القدر (لا يخيس) بفتح الياء أي لا يغدر (بكم فأصبحنا) أي على ذلك المنوال (فجاء رجل بتمر) أي كثير (فَقَالَ أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ هذا التّمر) أي مقدار ما شئتم ضيافة لكم (وتكتالوا) أي وأن تكتالوا (حتّى تستوفوا) أي حتى تقبضوا قيمة بعيركم وافية (ففعلنا وفي خبر الجلندي) بضم الجيم واللام وسكون النون ودال مهملة وألف مقصورة أو ممدودة على اختلاف في اللغة وعبارة القاموس وجلنداء بضم أوله وبفتح ثانية ممدودة وبضم ثانيه مقصورة اسم مالك عمان ووهم الجوهري فقصره مع فتح ثانيه انتهى وقوله (ملك عمان) بضم العين وتخفيف الميم على ما اختاره الحلبي وقال وفي نسخة عوض عمان غسان انتهى والظاهر أنه سهو أو تصحيف كما لا يخفى وذكر الدلجي أنه بفتح العين وتشديد الميم مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء وأما ما هو بالضم والتخفيف فصقع عند البحرين وحاصله أنه روى وسيمة في كتاب الردة عن ابن إسحاق في خَبَرِ الْجُلَنْدِيِّ مَلِكِ عَمَّانَ (لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام) أي مع سائر الأنام وهو يحتمل أن يكون بالكتابة او بالرسالة (قَالَ الْجُلَنْدِيُّ وَاللَّهِ لَقَدْ دَلَّنِي عَلَى هَذَا النّبيّ الأمّيّ) أي على صدق قضيته وثبوت حقيته (أنّه) أي كونه عليه الصلاة والسلام (لا يأمر بخير) أي أحدا (إلّا كان أوّل آخذ به) بصيغة الفاعل أي عامل له (ولا ينهى عن شيء) أي أحدا (إلّا كان أوّل تارك له) وفي نسخة عن شر بدل عن شيء وهي الملائم لمقابلة قوله بخير (وأنّه) أي عليه الصلاة والسلام (يغلب) بصيغة المعلوم أي على اعدائه (فلا يبطر) بفتح الطاء أي لا يطغى أو لا يفتخر عند احبائه (ويغلب) بصيغة المجهول (فلا يضجر) بفتح الجيم أي لا يجزع ولا يفزع بناء على قوله تعالى وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ولما في حكم ابن عطاء ما دمت في هذه الدار لا تستغرب وقوع الأكدار وكما قيل الحرب سجال ولقوله بعضهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 فيوما علينا ويوما لنا ... ويوما نساء ويوما نسر وفيه تنبيه على حسن الرضى تحت حكم القضاء مع العلم بأن في غالبيته نصرة الأولياء وفي مغلوبيته كثرة الشهداء كما قال تعالى قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ فكل أمر المؤمن مقرون بخير في الكونين وقد قال تعالى إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ (ويفي بالعهد وينجز) بضم الياء وكسر الجيم (الموعود) أي ويصدق الوعد، (وأشهد أنّه نبيّ) فلله دره وما أتم نظره حيث حملته محاسن جملته على الإقرار بنبوته من غير حاجة إلى إظهار حجته وبيان معجزته (وقال نفطويه) بكسر النون وسكون الفاء وفتح الطاء المهملة والواو فتحتية ساكنة فهاء مكسورة وقد سبق ذكره (في قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) أي يفيض بالأنوار من حيث ذاته (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [النور: 35] ) تفيد إنارته باستنارة صفاته (هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يقول) أي كأنه تعالى يقول (يكاد منظره) أي يقرب ظاهر رؤيته (يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَتْلُ قُرْآنًا) من التلاوة وروي وإن لم يقل من القول والفاعل فيهما ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم أي وإن لم ينضم لرؤيته تلاوة قراءته الدالة على أنواع معجزته (كما قال ابن رواحة) أي في نعته وهو بفتح الراء انصاري نقيب بدري أحد شعرائه صلى الله تعالى عليه وسلم حضر أحدا والخندق واستشهد بمؤتة بضم الميم أميرا فيها سنة ثمان من الهجرة: (لو لم تكن فيه آيات مبينة) بكسر التحتية وفتحها أي لو لم يوجد في حقه آيات ظاهرة أو معجزات باهرة (لكان منظره ينبيك بالخبر) أصله ينبئك بالهمزة فسكن ضرورة ثم جواز إبداله ياء لغة هذا وقد نسب الشيخ تقي الدين بن تيمية هذا البيت إلى حسان مع تغير شطره الثاني حيث قال وما أحسن قول حسان: لو لم تكن فيه آيات مبيّنة ... كانت بديهته تأتيك بالخبر انتهى ولا يخفى أنه يمكن الجمع بالتوارد في المبنى وإن كان أحدهما أظهر في المعنى (وقد آن) أي حان (أن نأخذ) أي نشرع (في ذكر النّبوّة) وهي حالة الولاية قبل الرسالة (والوحي) أي وبيان الوحي الشامل لحال النبوة (والرّسالة) أي نعت الرسالة وما تتميز به عن مرتبة النبوة (وبعده) أي وبعد فراغ هذا الشأن نشرع (في معجزة القرآن) أي وما يتعلق به من البيان (وما فيه) أي في القرآن (من برهان) أي حجة (ودلالة) بفتح الدال وتكسر أي وبينة من آية وعلامة تبين مبانيها وتعين معانيها ثم في هذا الباب ثلاثون فصلا. فصل [اعلم أن الله عز وجل قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ] (اعلم أنّ الله تعالى قادر على خلق المعرفة) أي جميع المعارف الجزئية من العلوم الشرعية والعرفية (في قلوب عباده) أي على وفق مراده كما حكي عن سنته سبحانه في بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 الأنبياء وكما روي عن مجاهد أوحى الله الزبور إلى داود عليه السلام في صدره (والعلم) أي وعلى خلق العلم الكلي الإجمالي المتعلق (بذاته) أي الأسنى (وأسمائه) أي الحسنى (وصفاته) أي العلى (وجميع تكليفاته) أي التي الزمها عقلاء مخلوقاته (ابتداء) أي بإفاضة جذبة من جذباته (ودون واسطة) أي من ارسال ملائكته (لو شاء) أي لو تعلقت به مشيئته واقتضته حكمته (كَمَا حُكِيَ عَنْ سُنَّتِهِ فِي بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ) أي وروي عن بعض الأولياء من أمته حيث حصل لهم العلم اللدني من الإلهام الإلهي في أمور خارقة للعادة ظهر تحقيقها عند أصحاب الإرادة (وَذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشورى: 51] ) أي وحي الهام أو رؤيا منام كما وقع لأم موسى عليه السلام (وجائز) أي في قدرته بعد تعلق ارادته وفق حكمته (أن يوصل إليهم جميع ذلك) أي ما ذكر من العلوم الكلية والمعارف الجزئية (بواسطة) أي من ملك أو نبي أو ولي (تبلّغهم كلامه) أي مما يقتضي مرامه (وَتَكُونُ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ إِمَّا مِنْ غَيْرِ الْبَشَرِ كَالْمَلَائِكَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ مِنْ جِنْسِهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ مع الأمم) وفي معناهم الأولياء مع اتباعهم فيما ينبغي لهم اتباعهم (ولا مانع لهذا) أي لما ذكر من حالتي الابتداء والواسطة في الابداء (من دليل العقل) أي وقد ثبت بدليل النقل (وإذا جاز هذا) أي نقلا وعقلا (ولم يستحل) أي ولم يعد ذلك محالا أصلا (وَجَاءَتِ الرُّسُلُ بِمَا دَلَّ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنْ معجزاتهم) أي الباهرة وآياتهم القاهرة (وجب) أي على المرسل إليهم (تصديقهم في جميع ما أتوا به) أي من الامور الواجبة عليهم (لأنّ المعجز مع التّحدّي) أي طلب المعارضة (من النّبيّ) أي ممن يصح أن يكون له نعت النبوة ولم يكن من أهل الاستدراج والسحر والمكر والحيلة (قائم مقام قول الله تعالى) أي شهادته في تحقيق دعوته (صدق عبدي فأطيعوه) أي في الأصول (واتّبعوه) أي في الفروع (وشاهد على صدقه فيما يقوله) أي من أخبار الأولين وانباء الآخرين وأحوال الدنيا وأهوال العقبى فإن التصديق بالفعل كالتصديق بالقول وتوضيحه أنه إذا ادعى نبي الرسالة ثم قال آية صدقي في دعواي أن الله تعالى أرسلني أن يفعل كذا ففعل الله تعالى ذلك كان ذلك من الله تصديقا له فيما يدعيه من الرسالة بما فعل من نقض العادة فيكون ذلك كقوله عقيب دعواه صدقت ويستحيل من الحكيم تصديق الكاذب اللئيم ونظير هذا أن الرجل إذا قام في محفل عظيم وقال معشر الاشهاد إني رسول الملك إليكم ودعواه هذه بمرأى من الملك ومسمع ثم قال فإن كنت أيها الملك صادقا في دعواي فخالف عادتك وانتصب قائما وضع يدك على رأسي ثم اقعد فإذا فعل الملك اضطر الحاضرون إلى تصديق الملك إياه وعلم صدقه بالضرورة في دعواه (وهذا كاف) أي للمدعي، (والتّطويل فيه خارج عن الغرض) أي الأصلي ههنا (فمن أراد تتبّعه) أي مستقصى (وجده مستوفى في كتب أئمتنا) أي مصنفات ائمتنا كما في نسخة (رحمهم الله تعالى) حيث بالغوا في تحقيق أمر التوحيد وما يتعلق به من أمر النبوة وما يتبعه من إثبات المعجزة وغيرها مع الأدلة العقلية والنقلية وبيان المذاهب الباطلة كالحكماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 والدهرية ثم المراد بالأئمة علماء هذه الأمة وأبعد الدلجي في قوله يعني المالكية إذ لا دخل لهذه المباحث في الفروع الفقهية الخلافية (فالنّبوّة في لغة من همز) وهو نافع من بين القراء (مأخوذة من النّبأ وهو الخبر) وتعديته بالهمزة تارة كقوله تعالى أَنْبِئُونِي وبالتضعيف أخرى كقوله سبحانه نَبِّئْ عِبادِي (وقد لا يهمز على هذا التّأويل) أي مع بقائه على هذا المبنى وإرادته من المعنى (تسهيلا) أي تخفيفا أوجبه كثرة الاستعمال بجعل الهمزة واوا وادغامها في مثلها كالمروة وأما في نحو النبي فتخفيفه بجعل الهمزة ياء وادغامها فيما قبلها وأما في الأنبياء فبابدال الهمزة ياء لانكسار ما قبلها، (والمعنى) أي حينئذ على القراءتين (أنّ الله تعالى أطلعه على غيبه) أي بعض مغيباته أو على غيبه المختص به من عند ربه (وأعلمه أنّه نبيّه فيكون نبيا) أي في المبنى، (منبّأ) أي في المعنى وهو بضم الميم وسكون النون وفتح الموحدة بعدها الهمزة المنونة أو بفتح النون وتشديد الموحدة (فعيل بمعنى مفعول) أي ولو كان على زنة مفعل (أو يكون) أي النبي (مُخْبِرًا عَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَمُنَبِّئًا) بالتخفيف أو التشديد مكسورا أي معلما (بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أو يكون) أي النبي (عند من لم يهمزه) أي ولم يقل بتسهيله وإدغامه بعد تبديله (من النّبوّة) أي مأخوذا من النبوة بفتح النون وسكون الموحدة، (وهو) ذكر باعتبار ما أخبر بقوله (ما ارتفع من الأرض) أو بمعنى الرفعة (ومعناه) أي حينئذ على طبق مبناه (أنّ له رتبة شريفة ومكانة نبيهة) أي منزلة لطيفة (عند مولاه منيفة) بضم الميم وكسر النون أي زائدة أو مرتفعة وأصلها من أناف إذا أشرف ثم هو أيضا بهذا المعنى يحتمل أن يكون في المبنى بمعنى الفاعل أو المفعول أي مرتفع الشأن أو رفيع البرهان (فالوصفان في حقّه مؤتلفان) أي الوصفان بالمعنيين من الخبر والرفعة وبالمبنيين من البناء للمفعول والفاعل باعتبار كل منهما في حق النبي مجتمعان بل متلازمان وأما قول الدلجي فالوصفان من كونه منبئا أو منبأ فقاصر عن استيفاء حق الموصوف كما لا يخفى على أهل المعروف، (وأمّا الرّسول فهو المرسل) من ربه إلى مكلفي خلقه لإنفاذ حكمه، (وَلَمْ يَأْتِ فَعُولٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ فِي اللُّغَةِ إلّا نادرا) أي قليلا وقوعه بل ولم يعلم لغيره وروده (وإرساله) أي لكونه ليس بحقيقي بل على وجه حكمي هو (أمر الله له بالإبلاغ) وروي بالبلاغ أي بتبليغ أمره (إلى من أرسله إليه) قال تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ثم هذا الإرسال قد يكون بواسطة الملائكة وقد يكون بدون الواسطة كما وقع لموسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. (واشتقاقه) أي أخذه من حيث المبنى (من التّتابع) أي من حيث المعنى لقوله (ومنه قولهم جاء النّاس أرسالا) بفتح أوله جمع رسل بفتحتين (إذا تبع بعضهم بعضا) أي في المأتي وقد ورد أنهم صلوا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم إرسالا أي بعضهم تبع بعضا (فكأنّه) أي الرسول (ألزم) بصيغة المجهول (تكرير التّبليغ) بالنصب على أنه مفعول ثان وفي نسخة التزم تكرير التبليغ فهو مفعول أول (أو) وفي نسخة بالواو (ألزمت) وفي نسخة التزمت (الأمّة اتّباعه) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 فهذا بيان التفرقة بين النبي والرسول بحسب المبنى وعلى مقتضى أصل اللغة في المعنى (واختلف العلماء) أي بحسب الاصطلاح الشرعي أو العرفي (هل النّبيّ الرّسول بمعنى) واحد فيكونان مترادفين في إطلاق كل منهما على الآخر (أو بمعنيين) أي متباينين أو متغايرين بأن يكون النبي أعم والرسول أخص. (فقيل هما سواء) أي في المعنى فكل منهما إنسان أوحى إليه بشرع مجدد أو غير مجدد (وأصله) أي أصل هذا المعنى باعتبار المبنى مأخوذ (من الأنباء) أي الأخبار (وهو الإعلام) يعني فليزم معنى النبوة إذا كانت من الانباء معنى الرسالة التي بمعنى الإعلام والإبلاغ وفيه أنه لا يلزم من انباء الله تعالى لعبده أمر أن يكون مأمورا بإعلامه لغيره (واستدلّوا) أي لكونهما سواء في المعنى (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج: 52] فقد أثبت) أي الله تعالى (لهما الإرسال معا) أي ولم يجعل للعطف حكما بمغايرة بينهما، (ولا يكون) وفي نسخة قال ولا يكون والصحيح قالوا ولا يكون والأظهر فلا يكون (النّبيّ إلّا رسولا ولا) أي ولا يكون (الرّسول إلّا نبيّا) أي بناء على ذلك المعنى وفيه أن الإرسال هنا بالمعنى اللغوي وهو البعث والإظهار لا بالمعنى الاصطلاحي وإلا لكفى أن يقول وما أرسلنا من قبلك أحدا وسيأتي زيادة بيان لهذا المبحث (وقيل هما مفترقان من وجه) يعني ومجتمعان من وجه إذ العطف يقتضي التغاير في الجملة لا سيما مع وجود لا المزيدة للتأكيد والمبالغة (إذ قد اجتمعا) تعليل للقضية المطوية أي اجتمع مادتهما معنى (في النّبوّة) أي على تقدير أنها مهموزة وهي مأخوذة من الانباء (التي هي الاطلاع) أي لهما من عنده سبحانه وتعالى (على الغيب) أي على بعض الأمور الغيبية من الأمور الدينية والدنيوية والأخروية (والإعلام) أي وكذا الإعلام لهما من عند ربهما (بخواصّ النّبوّة) أي والرسالة والمعنى باختصاصهما بأمور لا توجد في غيرهما (أو الرّفعة) أي أو اجتمعا في الرفعة (بمعرفة ذلك) أي شأن النبوة والرسالة (وحوز درجتهما) أي إحاطة مرتبة كل منهما (وافترقا في زيادة الرّسالة للرّسول) أي باختصاص الإرسال (وهو الأمر بالإنذار) وهو الإعلام بالشيء الذي يحذر منه (والإعلام) تفسير أو أخص مما قبله لشموله التبشير وتبيين أحكام الإسلام (كما قلنا) أي بينا فيما سبق من الكلام (وحجّتهم) أي ودليل أصحاب هذا القيل من الاجتماع من وجه والافتراق من آخر لا كما قال الدلجي أي من قال بافتراقهما فتدبر (من الآية) أي من جهة الآية المتقدمة (نفسها) أي بعينها، (التّفريق بين الاسمين) أي ضرورة كون المعطوف غير المعطوف عليه كما هو الأصل في تغاير المتعاطفين (ولو كانا شيئا واحدا) أي هنا (لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ) أي البالغ غاية البلاغة المعجز لأرباب الفصاحة عن قدرة المعارضة بأقصر سورة (قالوا) أي هؤلاء (والمعنى) أي المراد بالآية (وما أرسلنا من رسول) وفي نسخة من نبي (إلى أمّة) أي مأمور بالعبادة والدعوة (أو نبيّ) أي مأمور بالعبادة فقط (وليس بمرسل إلى أحد) أي من الخلق بدعوة إلى طريق فالأول كامل والثاني مكمل فهو أخص وذاك أتم وأعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 والله تعالى أعلم (وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ مَنْ جاء بشرع مبتدأ) أي مجدد بأن لا يكون مقررا لشرع من قبله (ومن لم يأت به) أي بشرع مبتدأ وقد أوحي إليه فهو (نبيّ غير رسول، وإن أمر) أي ولو أمر (بالإبلاغ، والإنذار) لأنه لم يأت بزيادة من الأحكام والآثار، (والصّحيح) وكذا الشهير (والذي عليه الجمّاء) بفتح الجيم وتشديد الميم ممدودا وفي نسخة الجم (الغفير) بالغين المعجمة والفاء أي الجمع الكثير وهم الجماهير (أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رسولا) إذ النبي إنسان أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا بخلاف الرسول فإنه نبي مأمور بتبليغ الرسالة سواء تكون هذه الرسالة تقدمت أو تجددت. (وأوّل الرّسل آدم عليه السلام) أي إلى بنيه وكانوا مؤمنين وكذا شيت وإدريس عليهما السلام وأما نوح عليه السلام فأول رسول إلى كفار قومه (وآخرهم محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي إجماعا بشهادة قوله تعالى وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ولحديث لا نبي بعدي (وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرفوعا على ما رواه أحمد وابن حبان (إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نبيّ وذكر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أنّ الرّسل منهم) أي من الأنبياء (ثلاثمائة وثلاثة عشر) وفي رواية خمسة عشر جم الغفير أي الجمع الكثير فهو من باب مسجد الجامع. (أوّلهم آدم عليه السّلام) أي أول الرسل آدم وهو في مستدرك الحاكم أيضا في ترجمة عيسى ابن مريم بسنده إلى أبي ذر قال دخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في المسجد فاغتنمت خلوته فقال لي يا أبا ذر إن للمسجد تحية ركعتان فركعتهما ثم قلت يا رسول الله إنك أمرتني بالصلاة فما الصلاة قال خير موضوع فمن شاء أقل ومن شاء أكثر ثم ذكر الحديث إلى أن قال قلت كم النبيون قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي قلت كم المرسلون منهم قال ثلاثمائة وثلاثة عشر وذكر باقي الحديث وتعقبه الذهبي في تلخيص المستدرك فقال قلت السعدي ليس بثقة انتهى وفي الصحيحين في باب الشفاعة قالوا يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض الحديث قال القاضي في شرح مسلم وتبعه النووي ومثل هذا يسقط الاعتراض بآدم وشيث ورسالتهما إلى من معهما وإن كانا رسولين فإن آدم إنما أرسل لبنيه ولم يكونوا كفارا بل أمر بتبليغهم الإيمان وطاعة الله وكذلك خلفه شيث بعده فيهم بخلاف رسالة نوح إلى كفار اهل الأرض قال القاضي وقد رأيت أبا الحسن بن بطال ذهب إلى أن آدم وإدريس رسولان هذا وذكر بعضهم أن عدد أصحابه عليه السلام كعدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وذكر أبو زرعة أنه مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه مائة ألف وأربعة عشر ألفا ولعله اقتصر على ذكر الصحابة الكبار أو الرواة منهم والله تعالى أعلم ثم قيل والرسل ثلاثمائة وأربعة عشر وقيل كعدد أصحاب طالوت الذين وزوا معه النهر ولم يجاوزه إلا مؤمن وهم ثلاثمائة وبضعة عشر وكذا عدد أهل بدر وقيل إن عدد الرسل مأخوذ من لفظ حروف محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وجملته ثلاثمائة وأربعة عشر وأن مد الحاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 فخمسة عشر فالميم ثلاثة أحرف ميم وياء وميم والحاء حرفان حاء وألف والميمان المضعفان ستة أحرف والدال ثلاثة أحرف دال وألف ولام فإذا عددت حروف اسمه كلها ظواهرها الجلية وبواطنها الخفية حصل لك ثلاثمائة وأربعة عشر فالثلاثة عشر والثلاثمائة على عدد الرسل الجامعين للنبوة ويبقى واحد من العدد وهو مقام الولاية المفرق على جميع الأولياء والاقطاب التابعين للأنبياء فاسمه جامع للنبوة والولاية وفيه أنه هو اصلهم وما افترق فيهم اجتمع فيه ومن هذه الزبدة ما في البردة: وكلهم من رسول الله ملتمس ... غرفا من البحر أو رشفا من الديم هذا وقد ذكر التلمساني في حديث أبي ذر بلفظ طويل جدا ومن جملته بأبي أنت وأمي يا رسول الله فكم كتاب أنزل الله قال أنزل الله تعالى مائة كتاب واربعة كتب أنزل على شيث ابن آدم خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين وعلى إبراهيم عشرا وروي عشرين وعلى موسى من قبل إنزال التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان الحديث ثم اعلم أن الأحوط أن لا نعين في الأنبياء والرسل عددا معينا ولا حدا مبينا بل نؤمن أن أولهم آدم وآخرهم نبينا الخاتم وأن ما بينهما من الأنبياء والمرسلين كانوا على الحق المبين لأنك متى حصرتهم على عدد يحتمل أن يكونوا أزيد من ذلك أو انقص مما هنالك فيؤدي إما إلى انكار بعض الأنبياء أو إلى شهادة غير النبي بأنه نبي وهذا طريق الماتريدي (فقد بان) أي ظهر وتبين (لك معنى النّبوّة والرّسالة وليستا) أي النبوة والرسالة (ذاتا للنّبيّ) لقضاء البديهية وبه (ولا وصف ذات) أي قائمة بها (خلافا للكرّاميّة) بتشديد الراء والياء التحتية للنسبة وفي نسخة بتخفيف الراء على أنه لغة بمعنى الكرم أو الكرامة وفي أخرى بكسر الكاف على أنه جمع الكريم والمعول هو الأول على أنه علم له أو لقب لكونه عاملا في الكرم أو حافظا له والله تعالى أعلم والحاصل أنهم ينسبون إلى محمد بن كرام ومحمد هذا كنيته أبو عبد الله السجزي سمع على ابن حجر وغيره مات بالقدس سنة خمس وخمسين ومائتين وهو صاحب المقالة كذا ذكره الحلبي وفي القاموس ومحمد بن كرام كشداد إمام الكرامية القائل بأن معبوده مستقر على العرش وأنه جوهر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وكان قد سجن بنيسابور ثمانية أعوام لأجل بدعته ثم أخرج فسار إلى بيت المقدس وما يلي الشام (في تطويل لهم) أي في كثرة تعليل (وتهويل) أي تخويف وتخييل (ليس عليه تعويل) أي اعتماد من جهة دليل إذ قالوا هما صفتان قائمتان بذات الرسول سوى الوحي وأمر الله له بالتبليغ والمعجزة والعصمة وصاحبهما لاتصافه بهما رسول وإن لم يرسله الله ويجب عليه إرساله لا غير فهو إذا أرسل مرسل وكل مرسل رسول بلا عكس أي وليس كل رسول مرسلا إذ قد لا يرسله قالوا ويجوز عزل المرسل عن كونه مرسلا دون الرسول إذ لا يتصور عزله عن كونه رسولا على ما زعموا كذا ذكره الدلجي وقال التلمساني إن الكرامية قائلون بأن الأنبياء والرسل مجبولون على النبوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 والرسالة وأنهم أنبياء مذ خلقوا من دون أن يوحى إليهم واستدلوا على ذلك بما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ قَالَ وَآدَمُ بين الروح والجسد (وأمّا الوحي) أي وإن كان يطلق على معاني من الصوت الخفي والإلهام والإشارة ونحوها (فأصله الإسراع) لحديث إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته فإن كان شرا فانته وأن كان خيرا فتوحه أي فأسرع إليه وهاؤه للسكت كذا ذكره الدلجي والظاهر أنه تصحف عليه وأنه بالجيم وسكون الهاء الاصلي على أنه أمر من التوجه ويؤيده أن لفظ الحديث على ما في الجامع الصغير للسيوطي إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته فإذا كان خيرا فامضه وإن كان شرا فانته رواه ابن المبارك في الزهد عن أبي جعفر عبد الله بن مسور الهاشمي مرسلا وفي معناه حديث إذا أردت أمرا فعليك بالتؤدة حتى يريك الله منه المخرج رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في شعب الإيمان عن رجل من بلي مرفوعا (فلمّا كان النّبيّ) أي جنسه (يتلقّى) أي يأخذ ويتلقن (ما يأتيه من ربّه بعجل) أي بسرعة من غير تؤدة (سمّي وحيا) ولعله من هذا القبيل كان سرعة أخذ نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم في تناول التنزيل عند قراءة جبريل حتى نزل تسلية له في التحصيل قوله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (وسمّيت أنواع الإلهامات) أي الواردة لافراد الإنسان والحيوانات (وحيا) كقوله تَعَالَى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وقوله سبحانه وتعالى وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ الآية (تشبيها) أي لها (بالوحي إلى النّبيّ) أي في تلقيها بعجله والإلهام هو القاء شيء في الروع يبعث على الفعل أو الترك يختص به الله من يشاء من عباده ومخلوقاته (وسمّي الخطّ) أي الكتابة (وحيا لسرعة حركة يد كاتبه) أو لسرعة إدراك الخط من صاحبه، (ووحي الحاجب) أي إشارته، (واللّحظ) أي إيماء العين (سرعة إشارتهما) أي حركتهما بهما (ومنه) أي ومن قبيل إطلاق الوحي على الإشارة المطلقة (قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11] أي أومأ ورمز) أي أشار بأحد اعضائه (وقيل كتب) أي لهم على الأرض أن سبحوا (ومنه) أي من كون الوحي بمعنى الإشارة بالسرعة (قولهم) كما في حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه (الوحا) بفتح الواو (الوحا) يمد ويقصر على ما ذكره الجوهري وقيل إن كرر مد وقصر وإن أفرد مد والتكرير للمبالغة ونصبه على الإغراء ومعناه كما قال (أي السّرعة السّرعة) بضم السين وقيل بفتحها أيضا يعني الزموها ويقال الوحاء الوحاء بكسر الواو أي البدار البدار بمعنى المبادرة والمسارعة (وقيل أصل الوحي السّرّ) أي الإسرار (والإخفاء) ومن ثمة قالوا هو الإعلام على وجه الخفاء، (ومنه) أي ومن كون الوحي هو السر (سمّي الإلهام وحيا) أي لخفائه على غير أهله (ومنه قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الأنعام: 121] ) يعني من المشركين (أي يوسوسون في صدورهم) يعني لإغوائهم (ومنه وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [الْقَصَصِ: 7] أَيْ أُلْقِيَ في قلبها) بصيغة المجهول كما صرح به الحلبي وغيره ويجوز أن يكون بصيغة المعلوم أي قذف الله تعالى الهاما أو مناما أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 أرضعيه أي ما أمكنك إخفاؤه فإذا خفت عليه الآية (وقد قيل ذلك) أي ما ذكر من الوحي بمعنى الإلهام أو المنام (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشُّورَى: 51] أَيْ مَا يلقيه في قلبه) يعني الهاما أو مناما (دون واسطة) أي كما يفهم من المقابلة بقوله أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ كموسى عليه السلام أو يرسل رسولا كجبريل أو غيره من الملائكة فالواسطة إما معنوية أو صورية ودونها مختصة بالواقعة القلبية والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق القضية. فصل [اعلم أن معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة] (اعلم أنّ معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء) أي من الآيات الخارقة للعادة (معجزة هو أنّ الخلق) أي المرسل إليهم (عجزوا) بفتح الجيم وهي اللغة الفصحى ومنه قوله تعالى أَعَجَزْتُ وتكسر على لغة فالمستقبل على عكسهما أي لم يقدروا حيث ضعفوا (عن الإتيان بمثلها) فكأنها أعجزتهم عن معارضة إظهار نظيرها وإلا فالمعجز في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى كما أنه قادر على اقدار العبد بنحوها أو على ابدائها على يد مظهرها والتاء للمبالغة أو لكونها وصفا للآية الخارقة للعادة (وهي) أي المعجزة (على ضربين) أي صنفين من حيث كونها مقدورة للبشر وغير مقدورة لهم، (ضرب هو من نوع قدرة البشر) أي في الجملة أو بالقوة على تقدير خلق القدرة فيه بأن يمكن دخوله تحت قدرتهم (فعجزوا عنه) أي بناء على صرفهم (فتعجيزهم) أي تعجيز الله تعالى إياهم (عنه) بصرف توجههم عَنْهُ (فِعْلٌ لِلَّهِ دَلَّ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِ) لأنه كصريح قوله صدق عبدي في دعواه الرسالة لجري العادة بخلقه تعالى عقبه علما ضروريا بصدقه كمن قال لجمع أنا رسول الله إليكم ثم نتق فوقهم جبلا ثم قال إن كذبتموني وقع عليكم وإن صدقتموني أنصرف عنكم فكلما هموا بتصديقه بعد عنهم أو بتكذيبه قرب منهم فإنهم يعلمون حينئذ ضرورة صدقه مع قضاء العادة بامتناع صدور ذلك من الكاذب (كصرفهم) أي كصرف الله تعالى لكفار اليهود (عن تمنّي الموت) بقوله تعالى قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم أخبر عنهم بقوله وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لو تمنوا اليهود الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار كما رواه البخاري وغيره (واعجازهم) بالجر عطفا على صرفهم أي وكاعجاز المشركين وغيرهم (عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ) أي أنه بناء على صرفهم كالنظام من المعتزلة والمرتضى من الشيعة والحق إن عجزهم عنه إنما كان لعلو درجته في فصاحته وبلاغته وغرابة أساليبه وجزالة تراكيبه مع اشتماله على أخبار الأولين وآثار الآخرين وتضمنه للأمور الغيبية الواقعة سابقا ولاحقا فهو معجزة من جهة المبنى ومن حيثية المعنى (ونحوه) أي وكتعجيزهم عن نحو الإتيان بمثل القرآن من سائر خوارق العادة (وضرب) أي نوع من المعجزة (هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 خارج عن قدرتهم) أي حتى بالقوة (فلم يقدروا على الإتيان بمثله) أي بالكلية (كإحياء الموتى) أي ليس من جنس أفعال البشر ولا الملك وأما احياؤهم بدعاء عيسى معجزة له فإنما كان من الله تعالى لا منه بدليل قوله تعالى وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ (وقلب العصا حيّة) أي تسعى معجزة لموسى. (وإخراج ناقة من صخرة) أي بلا واسطة وأسباب معهودة معجزة لصالح (وكلام شجرة) أي لموسى من قبل الله تعالى أو لنبينا عليه الصلاة والسلام بإظهار كلمة الإسلام (ونبع الماء من الأصابع) وفي نسخة من بين الأصابع معجزة لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم كما وردت به الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة (وانشقاق القمر) معجزة لبينا صلى الله تعالى عليه وسلم كما صح به الخبر ونص القرآن بقوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ والمعنى أن ذلك وأمثاله (ممّا لا يمكن) وفي نسخة مما لا يجوز (أن يفعله أحد إلّا الله فيكون ذلك) أي هذا الضرب الذي لا يفعله إلا الله وفي نسخة فَكَوْنُ ذَلِكَ (عَلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي صورة (من فعل الله تعالى) أي حقيقة كما حقق في قوله تعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (وتحدّيه) أي وطلب معارضة النبي (من يكذّبه أن يأتي بمثله تعجيز) وفي نسخة تعجيز له أي عن ذلك. (وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم ودلائل نبوّته وبراهين صدقه) أي في دعوى رسالته واعلاء حجته كانشقاق القمر ومجيء الشجر وتسليم الحجر وحنين الجذع وأما سقوط شرف بناء الأكاسرة وخرور الأوثان ليلة ولد وأظلال الغمام قبل البعثة فهو من الارهاصات لا المعجزات خلافا لما توهمه عبارة الدلجي (من هذين النّوعين معا) أي جميعا باعتبار البعض والبعض فمنها ما هو من نوع قدرة البشر ومنها ما هو خارج عنها (وهو) أي نبينا (أكثر الرّسل معجزة وأبهرهم آية) أي أنورهم (وأظهرهم برهانا) أي حجة وبيانا (كما سنبيّنه) في محله إن شاء الله تعالى وحده (وهي) أي معجزاته (في كثرتها لا يحيط بها ضبط) أي لجزئياتها (فإنّ واحدا منها) أي مما هو أعظمها (وهو القرآن) أي من حيث آياته وسوره المشتملة على دلالات بيناته (لا يحصى) بصيغة المجهول أي لا يحصر ولا يعد (عَدَدُ مُعْجِزَاتِهِ بِأَلْفٍ وَلَا أَلْفَيْنِ وَلَا أَكْثَرَ) لما أورثه من فنون البلاغة وصنوف الفصاحة من جملتها إفادة المعاني الكثيرة في المباني اليسيرة إلى غير ذلك من أنواعها العجيبة وأصنافها الغريبة التي عجز عنها الخطباء والبلغاء من العرب العرباء (لأنّ النّبيّ) وهو الرسول الأعظم والنبي الأفخم صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وكرم (قد تحدّى بسورة منه) أي طلب المعارضة بأقصر سورة من سور القرآن (فعجز عنها) بصيغة المجهول أي فعجز جميع أهل المعاني والبيان عن الاتيان بمثل سورة من القرآن تصديقا لقوله تعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي معاونا ونصيرا، (قال أهل العلم وأقصر السّور) أي سور القرآن وفي نسخة سوره بالضمير (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] ) أي إلى آخره وكان الأظهر الأقصر أن يقول وأقصر السور سورة الكوثر لأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 ثلاث آيات حروفها أقل من حروف آيات سورة هي ثلاث مثلها كقل هو الله أحد كذا قرره الدلجي وهو وهم منه لأن سورة الإخلاص أربع آيات نعم سورة العصر نحوها في عدد الآيات لكنها أطول منها باعتبار الحروف والكلمات في عددها (فكلّ آية) أي منه (أو آيات منه) أي من القرآن وسورة (بعددها) أي طويلة بعدد أقصر سورة من جهة الآيات أو الحروف أو الكلمات (وقدرها معجزة) فقوله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ أعم من أن تكون حقيقية أو حكمية (ثمّ فيها) أي في سورة الكوثر (نفسها) أي بعينها (معجزات) أي بخصوصها (على ما سنفصّله) أي نبينه (فيما انطوى) أي اشتمل القرآن واحتوى (عليه من المعجزات) أي التي لا تكاد تستقصى (ثمّ معجزاته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي الثابتة لدينا والواصلة إلينا (على قسمين) أي باعتبار ما يكون حصوله قطعيا ووصوله ظنيا، (قسم منها علم) أي لنا من طريق كونه (قطعا) كذا قدره الدلجي بناء على جعله لفظ علم مصدرا والصحيح أنه فعل ماض مجهول وأن قطعا صفة لمصدر مقدر أي علم ذلك القسم علم قطع كما يدل عليه عطف قوله (ونقل إلينا متواترا) أي نقل تواتر وفي نسخة متواترا (كالقرآن) فإنه لكون طريق وصوله إلينا تواترا صار علمه لدينا قطعا (فلا مرية) بكسر الميم وقد تضم أي ولا شك ولا شبهة ويروى بلا مرية (ولا خلاف) أي بين أئمة الأمة (بمجيء النّبيّ به وظهوره من قبله) بكسر القاف وفتح الباء أي من جهته وهو عطف تفسير لزيادة تقرير (واستدلاله بحجّته) أي واستشهاد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بحجة القرآن على صدق محجته وتصديق نبوته وإرسال الله تعالى إياه إلى كافة بريته (وإن أنكر هذا) أي ما ذكر من مجيئه به وظهوره من قبله واستدلاله به (معاند) أي حائد يرد الحق مع علمه (جاحد) أي منكر له ملحد في حكمه (فهو) أي انكار ذلك (كإنكاره وجود محمّد في الدّنيا) حيث أنكر كل منهما انكار مكابرة ومجاحدة لتحقق وجودهما بثبوت مشاهدة وين كان أحدهما حسيا والآخر معنويا والحاصل أن وجوده صلى الله تعالى عليه وسلم وشهوده لا ينكره أحد من الموجودين (وإنّما جاء اعتراض الجاحدين) أي المنكرين والملحدين (في الحجّة به) أي في كونه حجة له قاله الدلجي والصحيح في الاحتجاج به أو في ثبوت الحجة بكتابه كما ورد في طعن المشركين إذ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (فهو) أي القرآن (في نفسه) أي في حد ذاته (وجميع ما تضمّنه) أي من سوره وآياته (من معجز) الأولى من معجزاته (معلوم ضرورة) أي بديهة لا تقتضي روية كما شهد به الأعداء من أهل الخبرة كالوليد بن المغيرة إذ قال في حقه لما تلى عليه بعضه إِنَّ لَهُ لِحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً وَإِنَّ أسفله لمغدق وأن أعلاه لمثمر وما هو من كلام البشر، (ووجه إعجازه معلوم ضرورة ونظرا) كان الأولى أن يقال ووجه اعجازه مفهوم ضرورية ونظرية لئلا يقع تكرار صريح في العبارة أما ضرورة فلان سلاسة مبناه وجزالة معناه ونظم آياته والفة كلماته وصباحة وجوه فواتحه وخواتمه في بداياته ونهاياته في أعلى مراتب البلاغة وأعلى مناقب الفصاحة لا يحتاج العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 به إلى الدلالة فيحكم العقلاء بإعجازه في البداهة وأما نظرا فلافتقار بعض وجوهه إلى النظر والتفكر في خصوص ذلك الأمر (كما سنشرحه) أي نبين ذلك القدر، (قال بعض أئمتنا) أي أئمة المالكية وفي نسخة صحيحة بعض مشايخنا (ويجري هذا المجرى) أي مجرى كون القسم الأول من معجزاته الذي علم قطعا ونقل إلينا تواترا (على الجملة) أي في الجملة باعتبار المعنى لا بطريق المبنى (أنّه) فاعل يجري أي الشأن (قد جرى على يده) وفي نسخة صحيحة على يديه (صلى الله تعالى عليه وسلم آيات) أي علامات أو معجزات (وخوارق عادات) أي شاملة لمعجزات وكرامات (إن لم يبلغ واحد منها) أي لم يصل أمر واحد من تلك الأمور (معيّنا) أي مشخصا ومبينا (القطع) بالنصب أي العلم القطعي بالنسبة إلى غير الصحابي، (فيبلغه) أي العلم اليقيني (جميعها) أي باعتبار معانيها دون مبانيها (على مرية) أي بناء على ما صدر لديه (ولا يختلف مؤمن ولا كافر) كان الأولى أن يقول وكافر بدون لا أو يقول ولا يخالف مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ (أَنَّهُ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ عجائب) أي آيات غرائب مما أزاغت أبصارهم وحيرت بصائرهم (وإنّما خلاف المعاند) أي مخالفته مع الموحد (في كونها) أي في وصول العجائب فائضة (من قبل الله تعالى) أي من جهة المبدأ الفياض كما يقوله المؤمن الموحد أو حاصلة من تلقاء نفسه عليه الصلاة والسلام وأنه شاعر أو ساحر ونحوهما كما تفوه به المشرك الملحد (وقد قدّمنا كونها) أي كون المعجز فائضة (من قبل الله تعالى) أي لا واصلة من تلقاء نبيه (وأنّ ذلك) أي المعجز مع التحدي (بمثابة قوله) أي الله سبحانه وتعالى (صدقت) أي يا عبدي فيما ادعيت من رسالتي (فقد علم وقوع مثل هذا) أي الذي قدمناه (أيضا من نبيّنا) صلى الله تعالى عليه وسلم (ضرورة) أي بديهة (لاتّفاق معانيها) أي مع قطع النظر عن اختلاف مبانيها في كونها خوارق عادات وعلى صدق صاحبها علامات (كما يعلم ضرورة) أي عند الأخباريين وكذا عند بعض العامة (جود حاتم) بكسر التاء أي ابن عبد الله بن سعد الطائي مشهور بين العرب والعجم مات على كفره (وشجاعة عنترة) بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح التاء الفوقية فراء بعدها هاء وهو العبسي، (وحلم أحتف) أي ابن قيس التميمي (لِاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) أي من المؤرخين والأخباريين (على كرم هذا) يعني حاتما (وشجاعة هذا) يعني عنترة (وحلم هذا) احنف فأشار إلى كل واحد بما للقريب تنزيلا له في ذهنه منزلته (وإن كان كلّ خبر) أي من أخبار هؤلاء الثلاثة (بنفسه) أي بانفراده ويروى في نفسه (لا يوجب العلم) أي القطعي (ولا يقطع بصحّته) لعدم تواتر كل واحد منها منفردا في كل عصر وطبق ثم اعلم أن حاتما هذا والد عدي قدم المدينة ابنه على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سنة تسع في شعبان وكان نصرانيا فأسلم واسلمت أخته بنت حاتم قبل عدي رضي الله تعالى عنهما وأما عنترة فهو ابن معاوية بن شداد وكان عنترة شديد السواد وأمه زبيبة أمة سوداء كانت لأبيه وكان من أشهر فرسان العرب وأشدهم بأسا وفي القاموس عنتر كجعفر وجندب في لغية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 الذباب والعنترة صوته والشجاعة في الحرب هذا ولو قال كشجاعة علي لكان أظهر فإنه بهذا الوصف بين العرب والعجم أشهر وأما الأحنف فهو بفتح الهمزة ثم حاء مهملة ساكنة ثم نون مفتوحة ثم فاء روى عن عمر وعثمان وعلي وعدة وعنه الحسن وحيد بن هلاك وجماعة وكان سيدا نبيلا أخرج له الأئمة الستة مخضرم وقد أسلم في عهده عليه السلام ودعا له ولم يتفق له رؤيته قال صاحب القاموس تابعي كبير. (والقسم الثّاني) أي من معجزاته صلى الله تعالى عليه وسلم هو (ما لم يبلغ) أي لم يصل علمه (مبلغ الضّرورة، والقطع) قطعا يصير ضروريا بديهيا ولا فكريا قطعيا (وهو) أي هذا القسم الذي بمنزلة الجنس (على نوعين نوع مشتهر) أي عند الخاصة (منتشر) أي عند العامة وكلاهما بصيغة الفاعل (رواه العدد الكثير) أي من الصحابة والتابعين (وشاع الخبر به عند المحدّثين) أي من المخرجين والمصنفين (والرّواة) أي من المتأخرين (ونقلة السّير) بفتح النون والقاف جمع ناقل والسير بكسر السين وفتح الياء جمع سيرة أي ومن الذين نقلوا سير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من صفاته وآياته ومعجزاته (والأخبار) بفتح الهمزة أي الأحاديث المتعلقة بسيد الأبرار صلى الله تعالى عليه وسلم الواردة عن بقية العلماء الأخيار (كنبع الماء من بين أصابعه) أو من أصابعه كما في بعض طرقه (وتكثير الطّعام) أي المأكول والمشروب كما في حديث أنس وغيره وكحنين الجذع وكلام الضب والذراع مما رواه الشيخان وغيرهما. (ونوع منه) وهو الذي غير مشتهر ولا منتشر (اختصّ به) أي بنقله (الواحد) أي تارة (والأثنان) أي أخرى (ورواه العدد اليسير) أي ولو وصل إلى مرتبة الجمع في بعض طرقه (ولم يشتهر) أي هذا القسم (اشتهار غيره) أي الثابت بالعدد الكثير والجم الغفير (لكنّه إذا جمع إلى مثله) أي في المبنى (اتّفقا في المعنى) أي المراد به ثبوت الإعجاز في المدعي (واجتمعا على الإتيان بالمعجز كما قدّمناه) أي من أنه لا مرية في جريان معانيها على يديه وأنه إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد القطع لديه. (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وأنا أقول صدعا بالحقّ) أي جهرا به ومنه قوله تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ (إنّ كثيرا من هذه الآيات) أي الواردات كمجيء الشجر إليه وتسليم الحجر عليه وتسبيح الحصى في يديه (المأثورة) أي المروية (عنه عليه السلام) أي ولو كانت آحادا مبنى (معلومة بالقطع) لتواترها معنى (أمّا انشقاق القمر) أي على يديه بمكة حين سأله كفار قريش آية (فالقرآن نصّ بوقوعه) أي في الجملة لأنه ظني الدلالة وأما قوله الدلجي أما انشقاق القمر فإنه متواتر لفظا إذ القرآن نص بوقوعه فليس على إطلاقه (وأخبر عن وجوده) أي ثبوته وحصوله لقوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وقرئ وقد انشق أي اقتربت وقد حصل من آيات اقترابها انشاق القمر قبلها (ولا يعدل عن ظاهر) أي من تحقق وقوعه وثبوت وجوده إلى تأويل بأنه سينشق يوم القيامة وأنه جيء بالماضي لتحقق وقوعه في مستقبله (إلّا بدليل) موجب لحمله عليه وصرفه إليه (وجاء) أي وقد ورد (برفع احتماله) أي احتمال الدليل الدال على صرف الآية عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 ظاهرها (صحيح الأخبار) أي الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة (من طرق كثيرة) كخبر الصحيحين وغيرهما (ولا يوهن) وكان الأنسب في ترتيب السبب أن يقال فلا يوهن بالفاء وهو بضم الياء وكسر الهاء مخففا أو مثقلا أي لا يضعف (عزمنا) أي جزمنا (خلاف أخرق) أي مخالفة جاهل أحمق أفعل من الخرق ضد الرفق (منحلّ عرى الدّين) بضم ميم وسكون نون وحاء مهملة مفتوحة ولام مشددة مضاف إلى عرى بضم العين وفتح الراء جمع عروة وهي ما يتمسك به في أمر الديانة ومنه قوله تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها أي لا انقطاع لها (ولا يلتفت) بصيغة المجهول أي ولا ينظر (إلى سخافة مبتدع) بفتح السين المهملة والخاء المعجمة أي رقة عقل ضال عدل عن الحق المبين (يلقي) بضم الياء وكسر القاف أي يوقع (الشّكّ) أي التردد والشبهة (على قلوب ضعفاء المؤمنين) فربما قبلته ووقعت في ضلالة المبتدعين (بل يرغم بهذا أنفه) بصيغة الفاعل المتكلم من أرغم أنفه الصقه بالرغام بالفتح وهو التراب والمعنى نذله (وننبذ) بفتح النون الأولى وكسر الموحدة أي نطرح (بالعراء) أي بالصحراء والفضاء ومكان الخلاء (سخفه) بضم السين المهملة وتفتح وسكون الخاء المعجمة أي رقة عقله وكثافة جهله والمعنى نلقي جهله بالعراء لا شيء يستره من البناء وفي بعض النسخ يرغم وينبذ بصيغة التذكير وبناء المجهول وأنفه وسخفه مرفوعان (وكذلك) أي وكانشقاق القمر في كثرة الرواة طرقا صريحة وأسانيد صحيحة (قصّة نبع الماء) أي من بين أصابعه أو من أصابعه (وتكثير الطّعام رواها) أي قصة النبع والتكثير (الثّقات) أي من الرواة (والعدد الكثير) أي من الاثبات والمراد منهم طبقة الاتباع (عن الجمّاء) وفي نسخة الجم (الغفير) أي عن الجمع الكثير من التابعين (عن العدد الكثير من الصّحابة) فمن روى نبع الماء بالزوراء بقرب مسجده بالمدينة السكينة الشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه وبالسفر البخاري عن ابن مسعود وممن روى تكثير الطعام البخاري والنسائي عن الشعبي عن جابر في قضاء دين والده والشيخان والترمذي والنسائي عن أنس في قصة أبي طلحة يوم الخندق (ومنها) أي ومن جملة المعجزات أو من جملة رواية الثقات (ما رواه الكافّة) أي الجماعة (عن الكافّة) أي عن مثلهم في الكثرة (متّصلا) أي نقلا متصلا غير منقطع أصلا (عمّن حدّث بها) أي بالمعجزة أو بتلك الرواية الدالة عليها (من جملة الصّحابة) بيان لمن وفي نسخة من جلة الصحابة بكسر الجيم وتشديد اللام أي أكابرهم أو معظمهم ويؤيده قوله (وأخيارهم) على ما ضبط في نسخة صحيحة من فتح الهمزة ثم الياء التحتية لكن في أكثر النسخ إخبارهم بكسر الهمزة ثم الموحدة مجرورا ولا يظهر وجهه ولعله مرفوع عطفا على ما رواه أي ومنها نقل الصحابة (أنّ ذلك) أي ما ذكر من تكثير الطعام (كان في موطن اجتماع الكثير منهم) أي من الصحابة وغيرهم (في يوم الخندق) أي حول المدينة في غزوة الأحزاب وكانت سنة خمس (وفي غزوة بواط) بضم الباء الموحدة وتفتح جبل من جبال جهينة وكانت في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 الهجرة (وعمرة الحديبيّة) بتخفيف الياء الثانية وتشدد وكانت سنة ست في ذي القعدة ووهم من قال في رمضان وإنما كان الفتح فيه (وغزوة تبوك) بفتح الفوقية وضم الموحدة ممنوعا وقد يصرف وكانت في السنة التاسعة وهي آخر غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم بذاته وهو موضع بطرف الشام بينه وبين المدينة أربع عشرة مرحلة (وأمثالها من محافل المسلمين) أماكن اجتماعهم (ومجمع العساكر) أي مكان جمع المجاهدين وكان الأولى أن يؤتى بصيغة الجمع فيهما أو بافرادهما (ولم يؤثر) بصيغة المفعول من الأثر أي ولم ينقل (عن أحد من الصّحابة مخالفة للرّاوي) أي منه في قصتهما (فيما حكاه) أي رواه (ولا) أي ولا نقل عن أحد منهم (إنكار عمّا ذكر عنهم) بصيغة المجهول أي ذكره بعضهم (أنّهم) أي بقية الصحابة (رأوه) أي شاهدوه منه صلى الله تعالى عليه وسلم، (كما رواه) أي عنه (فسكوت السّاكت منهم) أي إذا وقعت الرواية في مكانهم أو زمانهم (كنطق النّاطق) أي بمنزلة رواية الراوي منهم به؛ (إذ هم المنزّهون) أي المبرؤون (عَنِ السُّكُوتِ عَلَى بَاطِلٍ وَالْمُدَاهَنَةِ فِي كَذِبٍ) بفتح الكاف وكسر الذال أو بكسر فسكون وهذا بشهادة قوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وبدلالة قوله عليه الصلاة والسلام خير القرون قرني فكلهم عدول رضي الله تعالى عنهم (وليس هناك رغبة) أي ميل وطمع (ولا رهبة) أي خوف وفزع والمعنى أنه ما كان هناك موجبة من مداراة مع الخلق ومداهنة في الحق (تمنعهم) من الإنكار وتحملهم على السكوت الذي هو بمنزلة الإقرار (وَلَوْ كَانَ مَا سَمِعُوهُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ وَغَيْرَ معروف لديهم) أي ولو في الجملة (لأنكروه) أي ذلك المسموع أنكروا على ناقله أيضا (كما أنكر بعضهم) أي بعض الصحابة (على بعض) أي آخرين (أشياء رواها) أي نقلها بعضهم (من السّنن والسّير وحروف القرآن) بيان لأشياء والمراد بالسنن الأحاديث المتعلقة بالأحكام وبالسير الروايات المختصة بشمائله عليه الصلاة والسلام وبحروف القرآن قراآته كإنكار عمر رضي الله تعالى عنه على هشام بن حكيم بن حزام إذ سمعه يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجاء به إليه فقال سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما اقرأتنيها فقال اقرأ يا هشام فقرأ فقال هكذا أنزلت ثم قال اقرأ يا عمر فقرأ فقال هكذا انزلت أن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه رواه الأئمة الستة (وخطّأ بعضهم بعضا) بتشديد الطاء أي نسب بعضهم بعضا إلى الخطأ في اجتهاداتهم واستنباطاتهم (ووهّمه) بتشديد الهاء أي ونسب بعضهم بعضا إلى الوهم في رواياتهم (في ذلك) أي في جميع ما ذكر من السنن والسير والقراآت (ممّا هو معلوم) أي عند أرباب الدرايات كتخطئة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نوفل البكالي في قوله إن موسى الخضر ليس موسى بني إسرائيل (فهذا النّوع) أي الذي رواه العدد اليسير لا الجمع الكثير (كلّه) أي جميع أفراده (يلحق) بفتح الياء على ما قاله الحلبي وغيره وكذا بفتح الحاء والأظهر أن يكون بصيغة المجهول ووقع في أصل الدلجي ملحق بالميم وصيغة المفعول وهو نسخة أيضا والمعنى يوصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 (بالقطعيّ من معجزاته) ويعطي حكمه من كراماته (لما بيّنّاه) مما يؤذن بأن رواية بعضهم وسكوت بعضهم بمنزلة وقوع الإجماع فإن هذه الأمة لا تجتمع على الضلالة (وَأَيْضًا فَإِنَّ أَمْثَالَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا أَصْلَ لها) أي كالموضوعات (وبنيت على باطل) أي غرض فاسد من الخيالات (لا بدّ مع مرور الأزمان) أي مضي الأوقات (وتداول النّاس) أي في الروايات (وأهل البحث) أي عن حال الرواة (من انكشاف ضعفها) أي لا فراق من تبين ضعف أمرها (وخمول ذكرها) أي وخموده عند أهل المعرفة بسندها (كما يشاهد) بصيغة المجهول وفي نسخة بضم النون وكسر الهاء أي كما يرى ويعلم ويظهر (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ وَالْأَرَاجِيفِ الطَّارِئَةِ) بالهمزة ويبدل أي الحكايات العارضة، (وأعلام نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) بفتح الهمزة أي معجزاته التي هي لشهرتها وانتشارها كالاعلام جمع علم على عجز من ناواه ورد من عاداه (هذه الواردة) أي كل واحد منها (من طريق الآحاد) أي المفيدة للظن مبنى لكنه إذا ضم بعضها إلى بعض صارت متواترة موجبة للقطع معنى (لا تزداد) أي بإيراد تلك الآحاد (مع مرور الزّمان إلّا ظهورا) أي إجلالا للمؤيد بها وإمدادا وارغاما لمنكرها عنادا (ومع تداول الفرق) أي للأمور فرقة ففرقة كذا قرره الدلجي بناء على ما وقع في أصله وفي أكثر النسخ تداول القرون وهو المناسب لمقابلة ما سبق من قوله تداول الناس (وكثرة طعن العدوّ) أي الأعداء فإنه يطلق على الجمع والمفرد مع أفراد لفظه ولذا قال (وحرصه على توهينها) أي إبطالها (وتضعيف أصلها) أي باعتبار متنها وإسنادها (وإجهاد الملحد) أي بذل الظالم وسعه عادلا عن الحق قال الدلجي وفي نسخة وإجهاد بلا تاء أي نفسه أي إيقاعها في مشقة وجد وكد ومبالغة (على إطفاء نورها) يعني وهي لا تزداد مع ذلك (إلّا قوّة وقبولا) أي للمنصف المذعن للحق (ولا للطّاعن) أي ولا تزداد للذام العائب (عليها إلّا حسرة وغليلا) بفتح الغين المعجمة أي حرارة وعطشا يهلك من كان عليلا (وكذلك) أي وكإعلامه بفتح الهمزة فيما ذكر من الازدياد (إخباره) بكسر الهمزة أي إعلامه (عن الغيوب) كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم مما أخبر به عن المغيبات في حديث الحاكم بلاء يصيب هذه الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم وقد وجد هذا عند أهل العلم (وإنباؤه) بكسر الهمزة أي وإخباره (بما يكون) أي في الآخرين (وكان) أي وبما كان في الأولين أو بما يكون في الغيوب وبما كان من العدم، (معلوم) أي كل ذلك معلوم كونه (من آياته) أي علاماته الدالة على صدق حالاته وصحة معجزاته (على الجملة) أي من غير نظر إلى الطريق المفصلة (بالضّرورة) أي بالبداهة العقلية فهو في الجملة قطعي الدلالة من غير احتياج علمنا بكونه منها إلى كسب من تفكر واستدلال بالأدلة (وهذا حق) أي أمر ظاهر، (لا غطاء عليه) ولا مرية لديه (وقد قال به) أي بكون إخباره بما يكون الخ (من أئمتنا) أي الأشعرية (القاضي) قال الحلبي الظاهر أنه أبو بكر الباقلاني المالكي (والأستاد) بالدال المهملة وقيل بالمعجمة (أبو بكر) أي ابن فورك بضم الفاء (من الشافعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 وغيرهما) أي من الأئمة الحنفية والحنبلية والمشايخ الماتريدية من أكابر أهل السنة والجماعة (وعندي أوجب قول القائل) بالنصب وفي أصل الدلجي ما أوجب أي ما اثبت قوله وفي نسخة وَمَا عِنْدِي أَوْجَبَ قَوْلَ الْقَائِلِ (إِنَّ هَذِهِ القصص المشهورة) أي في باب المعجزات وخوارق العادات (من باب خبر الواحد) أي إنما هي من خبر الآحاد وهي لا تفيد إلا ظنا مبينا لا علما يقينا وما الجأه إلى قوله هذا (إلّا قلّة مطالعته) أي ملاحظة هذا القائل (للأخبار) أي للأحاديث الصريحة (وروايتها) أي وقلة معرفته بالأسانيد الصحيحة، (وشغله بغير ذلك من المعارف) بضم الشين وفتحها وبضمتين أي وكثرة اشتغاله بغير ما ذكر من الأدلة النقلية المفيدة للعلوم اليقينية من الآلات والأدوات العربية والمعارف الجزئية التي مأخذها الأمور الظنية والعوارف الوهمية (وإلّا) أي وإن لم يكن موجب قوله ذلك قلة اعتنائه بما هنالك (فمن اعتنى) أي اهتم (بطرق النّقل) أي أسانيد المنقول في هذا الباب (وطالع الأحاديث والسّير) أي كتبهما على ما رتب في الأبواب (لم يرتب) من الارتياب أي لم يشك (في صحّة هذه القصص المشهورة) أي الروايات المأثورة والحكايات المذكورة وتبين له أنها (على الوجه الذي ذكرناه) أي على الطريق الذي قررناه والمنهج الذي حررناه من أنها من باب التواتر معنى وإن كانت من أحاديث الآحاد مبنى (وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ واحد) أي من أهل الحديث والقراءة مثلا (ولا يحصل عند آخر) إذا كان عاريا عن معرفتها أصلا وفرعا (فإنّ أكثر النّاس يعلمون بالخبر كون) وفي نسخة إن في أخرى كون إن (بغداد موجودة وأنّها مدينة عظيمة) أي كبيرة مشهورة (ودار الإمامة والخلافة) ومحل العلماء ومنزل الأولياء بعد أن عمرت في زمن أبي جعفر المنصور العباس أخي السفاح سنة خمس وأربعين ومائة وكانت قبل ذلك مبقلة وسبق أنه يجوز في داليها اعجام وإهمال والمرجح إهمال الاول وإعجام الثاني كما صرح في رواية الشاطبية (وآحاد من النّاس) أي الذين في أطراف العالم واكنافه (لا يعلمون اسمها فضلا عن وصفها) أي من رسمها ووسمها (وهكذا) أي وكعلم بعض الناس بغداد وجهل غيرهم بها (يعلم الفقهاء من أصحاب مالك) أي مثلا من حيث تقليدهم لما هنالك (بالضّرورة) أي بالبديهة الضرورية من غير احتياج إلى التفكر والروية (وتواتر النّقل) وفي نسخة صحيحة والنقل المتواتر (عنه) أي عن مالك الإمام (أنّ مذهبه إيجاب قراءة أمّ القرآن) أي سورة الفاتحة من غير البسملة (في الصّلاة للمنفرد والإمام) أي دون المأموم وإن لم يسمع قراءة إمامه بل يكر له في الجهرية قراءتها وهذا موافق لمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى على تفصيل في كتبهم والشافعي يوجبها على المأموم أيضا، (وإجزاء النّيّة) أي وإن مذهبه الاكتفاء بالنية (في أوّل ليلة من رمضان) أي لجميع أيامه (عمّا سواه) أي من بواقي لياليه (وأنّ الشّافعيّ) أي وكذا يعلم الفقهاء من أصحابه وربما يعلم غيرهم أيضا بالضرورة ونقل المتواتر عنه وكذا عن أبي حنيفة أنه (يرى) أي وجوبا لا ندبا (تجديد النّيّة كلّ ليلة) أو قبل نصف النهار الشرعي عند أبي حنيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 (والاقتصار) أي وأن الشافعي يرى الاقتصار (في المسح على بعض الرّأس) وهو ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين ومالك يرى وجوب مسح كله احتياطا وأبو حنيفة عمل بحديث مسلم في مسحه صلى الله تعالى عليه وسلم على الناصية وهو ربع الرأس ودليلنا حجة عليهما (وأنّ مذهبهما) أي مالك والشافعي (القصاص) أي القود (في القتل بالمحدّد) أي مما يجرح كالسنان (وغيره) مما لا يجرح كالعصا (وإيجاب النّيّة في الوضوء) أي في أوله (واشتراط الوليّ في النّكاح) أي في عقده (وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُخَالِفُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ) أي لما قام عنده مما صح من الدلائل كما بيناه في شرحنا المسمى بالمرقاة للمشكاة في حل المشكلات لكل طالب وسائل وما يتوقف عليه من الوسائل (وغيرهم) أي من الفقهاء المذكورين ونحوهم كالحنبليين (ممّن لم يشتغل بمذاهبهم ولا روى) وفي نسخة صحيحة ولا رأي (أقوالهم) أي ولا عرف مشار بهم (لا يعرف) وفي نسخة صحيحة ولا يعلم (هذا) أي ما ذكر من هذه المسائل وأمثالها (من مذاهبهم) أي ولو كان على منهجهم وادعى بأنه في مشربهم لكنه ما باشر إلا علوما أخر وضيع عمره فيما لا ينفعه فتدبر (فضلا عمّن) وفي نسخة عما (سواه) أي ممن لم يباشر العلوم أصلا ولم يمازج كتابا ولا فصلا ولا فرعا ولا أصلا (وعند ذكرنا آحاد هذه المعجزات) أي إجمالا كافيا (نزيد الكلام فيها بيانا) أي شافيا (إن شاء الله تعالى) . فصل [في إعجاز القرآن العظيم الوجه الأول] (في إعجاز القرآن) أي بيان اعجازه في إطنابه وإيجازه (اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ العزيز) أي الغالب على سائر الكتب لكونه معجزا ولكونه ناسخا لغيره في بعض أحكامه (منطو) أي مشتمل ومحتو (على وجوه من الإعجاز) أي أنواع (كثيرة) وأصناف غريزة (وتحصيلها) مبتدأ أي وتحصيل وجوهه الكثيرة بطريق إجمالها (من جهة ضبط أنواعها) أي مع اندماج أصنافها واندراج أجناسها (في أربعة وجوه) أي منحصرة فيها (أوّلها حسن تأليفه) أي تركيبه بين حروفه وكلماته وآياته وسوره وقصصه وحكاياته (والتئام كلمه) أي وانتظام كلماته في سلك مبانيها المتناسبة لمقتضى معانيها المتناسقة بين أعاليها وأدانيها (وفصاحته) أي ووضوح بيان معانيه مع اقتصاد مبانيه (ووجوه إيجازه) أي من قصر وحذف لاكتفاء وإيماء. (وبلاغته) أي في عجائب التراكيب وغرائب الأساليب وبدائع العبارات وروائع الإشارات (الخارقة) أي المتجاوزة (عادة العرب) من فصاحتهم وبلاغتهم (وذلك) أي ما ذكر من عادتهم (أنّهم كانوا أرباب هذا الشّأن) أي من جهة الفصاحة (وفرسان الكلام) أي في ميدان البراعة (قد خصّوا من البلاغة، والحكم) بكسر ففتح جمع حكمة وهي كمال العقل واتقان العمل (ما لم يخصّ به غيرهم من الأمم) أي سابقة ولاحقة (وأوتوا من ذرابة اللّسان) بفتح الذال المعجمة أي حدته وبساطته وسلاطته (ما لم يؤت) أي مثله (إنسان) أي ممن عداهم وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 الاولى أن يقول الإنسان ويراد به جنسه لأنه أنسب في مقام سجعه (ومن فصل الخطاب) أي بيان المراد في الفصول والأبواب (ما يقيّد الألباب) بكسر التحتية الثانية المشددة أي يمنع أرباب العقول الخالصة أن يأتوا بمثل كلامهم وعلى نهج مرامهم (جعل الله لهم ذلك) أي ما خصوا به (طبعا وخلقة) أي سليقة وجبلة (وفيهم) أي وجعل ذلك فيهم (غزيزة) أي سجية (وقوّة) أي وقدرة بديعة (يأتون منه) أي من الكلام الوافي للمرام (على البديهة) من غير الروية (بالعجب) أي العجاب (ويدلون) بضم الياء واللام أي يتوسلون (به إلى كلّ سبب) أي من الأسباب في السؤال والجواب وسائر فصول الخطاب (فيخطبون) أي الخطب البليغة (بديها) أي من جهة البديهة (في المقامات) أي على حسب ما يلائمها من المقالات (وشديد الخطب) أي في الأمر العظيم الشأن والحال الذي يقع فيه تفخيم البيان، (ويرتجزون به) أي يوردونه مرجزا في حال الحرب (بين الطّعن والضّرب) فالطعن بالرمح ونحوه والضرب بالسيف وغيره (ويمدحون) أي بعضهم بعضا إظهارا لمفخرة أو كسبا لمحمدة أو جلبا لفائدة. (ويقدحون) أي ويطعنون ويذمون بعضهم بعضا أيضا لأحد الأغراض السابقة وهذا المعنى بحسب التقابل هو المناسب للمرام وأبعد الدلجي في قوله ويقدحون أفكارهم فيستخرجون سحر الكلام في أحسن النظام (ويتوسّلون) أي به إلى من يقصدون منه نجاح مآربهم (ويتوصّلون) أي به إلى الفوز بمطالبهم (ويرفعون) أي بمدحهم من أرادوا (ويضعون) أي بذمهم من شاؤوا (فيأتون من ذلك) الكلام على وجه الإجمال وطريق الكمال (بالسّحر الحلال) وهو ما لطف مبناه وشرف معناه ويستعار للكلام البليغ وقد ورد إن من البيان لسحرا أي سواء كان نثرا أو شعرا فإنه ربما سحر الإنسان وصرفه عن حيز التبيان والسحر في الشرع حرام إلا أنه حلال في مقال وقع في مقام مرام (ويطوّقون) بكسر الواو المشددة أي يحملون (من أوصافهم) أي صفاتهم الحميدة وسماتهم المجيدة من ظنوه أهلا لتلك الأحوال نعوتا (أجمل من سمط الّلآل) بكسر السين هو الخيط ما دام فيه الخرز وإلا فهو سلك وفي نسخة بضمها على أنه جمع سمط واختاره اليماني لكن في القاموس أن جمعه سموط هذا وقد قال الحلبي اللؤلؤة الدرة وجمعها اللؤلؤ واللآلي انتهى وفيه مسامحة إذ اللؤلؤ جنس واللآلي جمع وقد حذف المصنف ياءه مراعاة للسجع ونظيره في الفواصل قوله تعالى الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (فيخدعون الألباب) في ملهياتهم (ويذلّلون الصّعاب) أي يهونونها في مهماتهم بحسب ما يزينون مراماتهم في مقالاتهم على وفق مقاماتهم (ويذهبون) بضم الياء وكسر الهاء أي يزيلون (الإحن) بكسر الهمزة وفتح الحاء جمع إحنة بكسر فسكون وهي الحقد والضغينة وإضمار العداوة (ويهيّجون) بتشديد الياء الثانية المكسورة وفي نسخة بفتح الياء الأولى وكسر الهاء وتخفيف الياء الثانية أي يحركون ويثيرون (الدّمن) بكسر الدال المهملة وفتح الميم جمع دمنة وهي في الأصل ما تدمنه الإبل ونحوها بأبوالها وأبعارها أي تلبده في مرابضها ثم استعمل في الحقد لتلبده في باطنه ولكونه من دمائم خاطره وفي نسخة الزمن بفتح الزاء وكسر الميم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 المقعد والمفلوج وفي نسخة الذمر بفتح الذال المعجمة وكسر الميم فراء وهو الشجاع وهو وإن كان يخالف ما قبله من مراعاة السجع إلا أنه أبعد من التكرار المعنوي وأقرب للمقابل اللفظي بقوله (ويجرّئون الجبان) بتشديد الراء المكسورة أي يحملونه على الجرأة والشجاعة والجبان بفتح الجيم والموحدة المخففة ضد الشجيع (ويبسطون) بضم السين أي ويفتحون (يد الجعد البنان) أي البخيل اللئيم الشأن وأصل الجعد بفتح الجيم وسكون العين وهو الانقباض في الشعر ضد السبط المسترسل والبنان بفتح الموحدة وتخفيف النونين أطراف الأصابع جمع بنانة ومنه قوله تعالى بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (ويصيرون) بتشديد التحتية الثانية أي يحولون (النّاقص كاملا) بحسن رعايتهم وعين عنايتهم (ويتركون النّبية) أي المشهور بالنباهة والتنبه عن نوم الجهالة (خاملا) أي متروكا شأنه ومجهولا بيانه. (منهم البدويّ) أي من يسكن البادية مع كون غالبهم عنه المعرفة عارية (ذو اللّفظ الجزل) بفتح الجيم وسكون الزاء أي صاحب الألفاظ التي فيها الجزالة والسلاسة الكاملة في الدلالة في مراتب الفصاحة والبلاغة (والقول الفصل) أي البين أمره والمبين حكمه. (والكلام الفخم) أي العظيم المرام (والطّبع الجوهري) منسوب إلى جوهر وهو معرب واحده جوهرة وهذا مدح جزيل ووصف جليل كذا ذكره الحلبي واقتصر عليه ووقع في أصل الدلجي بلفظ الجهوري أي الشديد الصوت العالي والواو زائدة من جهر بصوته إذا رفعه بشدة وفي حديث العباس أنه نادى بصوت جهوري انتهى والظاهر أنه تصحيف في المبنى وتحريف في المعنى اللهم إلا أن يتكلف كما اقتصر عليه الشمني فقال المراد بالطبع الجبلة والجهوري الذي قد اشتهر من قولهم جهر بصوته إذا شهره ورفعه إذ الطبع لا يقبله والمقام لا يلائمه كما لا يخفى على من تأمله (والمنزع القويّ) بفتح الميم والزاء أي والمشرب الصفي (ومنهم الحضريّ) بفتحتين أي من يسكن الحاضرة ضد البادية من المصر أو القرية (ذو البلاغة البارعة) أي الفائقة اللائقة (والألفاظ النّاصعة) أي الخالصة من شوائب الركاكة لبلاغة مبانيها وفصاحة معانيها (والكلمات الجامعة) أي لمعان كثيرة في ضمن مبان يسيرة. (والطّبع السّهل) أي المنقاد للأهل كالماء في سلاسته والنسيم في لطافته (والتّصرّف في القول القليل الكلفة) أي اليسير المؤنة لسهولة المعونة (الكثير) أي وفي القول الكثير (الرّونق الرّقيق الحاشية) أي الجزيل الحسن في المبنى واللطيف الطرف في المعنى (وكلا البابين) أي بابي كلام كل في كل مقام مطابق لما قصد من المرام (فلهما في البلاغة الحجّة البالغة) أي الواصلة إلى مقام النهاية والغاية وأعاد المصنف الضمير في فلهما إلى معنى كلا وهو مذهب الكوفي والمختار رأى البصري وهو أن يفرد الضمير بناء على لفظه وبه جاء القرآن في قوله سبحانه وتعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها (والقوّة الدّامغة) أي الماحقة للأمور الزاهقة ومنه قوله تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ وفي حديث علي دامغ جيش الاباطيل. (والقدح) بكسر القاف أي السهم والمراد به واحد الازلام لا الذي قبل أن يراش كما يتوهم من تقرير الحلبي نعم هو أصله لكن قصد هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 فصله بقرينة قوله (الفالج) بكسر اللام أي الفائز الغالب (والمهيع) بفتح الميم والتحتية أي الطريق الواسع (النّاهج) أي السبيل السالك الواضح وفي حديث علي اتقوا البدع والزموا المهيع (لا يشكّون أنّ الكلام طوع مرادهم) أي منقاد لما يرون من إيرادهم. (والبلاغة ملك قيادهم) بكسر الميم ثم كسر القاف وهو حبل تربط به الدابة ذكره الحلبي فيكون من القيد أي يقيدونه بما أرادوا والأظهر أنه ما يقاد به فهو من القود وهو السوق من قدام أي يقودونه حيث شاؤوا من روائع لطائفه وبدائع عوارفه (قد حووا) بفتح الواو أي حازوا وجمعوا (فنونها) أي من مبانيها (واستنبطوا عيونها) استخرجوا من معانيها لبابها (وَدَخَلُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا وَعَلَوْا صرحا) أي ورفعوا بناء ظاهرا (لبلوغ أسبابها فقالوا في الخطير والمهين) بفتح الميم أي في العظيم والحقير (وتفنّنوا في الغثّ) بفتح الغين المعجمة وتشديد المثلثة أي المهزول (والسّمين) ومنه قول ابن عباس لعلي ابنه الحق بابن عمك يعني عبد الملك بن مروان فقل له نغثك خير من سمين غيرك والمعنى فغايروا في كلامهم بين أسلوب وأسلوب وإيراد وإيراد بلطائف مبان وشرائف معان في كل مراد (وتقاولوا) أي فيما بينهم (في القلّ والكثر) بضم أولهما أي في القليل والكثير مدحا وهجوا وإيجازا وأطنابا (وتساجلوا) بالسين المهملة والجيم مأخوذ من السجل وهو الدلو أي تناوبوا وتراسلوا (في النّظم والنّثر) أي تفاخروا وتكاثروا وعن ابن الحنفية رحمه الله تعالى أنه قرأ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فقال هي سجلة للبر والفاجر أي مرسلة مطبقة في الإحسان إلى كل واحد من أفراد الإنسان ومنه قولهم الحرب سجال (فما راعهم) أي ما أفزعهم شيء اليم (إلّا رسول كريم) أي جاءهم بخلاف هواهم لكن معه هداهم وطريق مناهم حين أتاهم (بكتاب الْعَزِيزُ) أي بديع منيع رفيع حيث لا نظير لمثله (لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي لا يتعلق البطلان به بوجه من وجوهه (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] ) يحمده خلقه بما ظهر عليهم من نعمه (أحكمت آياته) أي نظمت نظما محكما متقنا لا يغشاه خلل لا لفظا ولا معنى (وفصّلت كلماته) أي ميزت وبينت ما يحتاج إليه في أبواب الدين من عقائد وأحكام وأخبار ومواعظ ووعد ووعيد على وجه اليقين (وبهرت بلاغته العقول) أي غلبتها (وظهرت فصاحته على كلّ مقول) أي نظما ونثرا (وتظافر) بالظاء المشالة أي تظاهر وتغالب على غيره (إيجازه وإعجازه) أي مبنى ومعنى ومنه قوله تعالى أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وهو الموافق لما في النسخ المصححة وتصحف علي الدلجي فقال تصافر بالصاد من تصافر القوم تعاونوا (وتظاهرت حقيقته ومجازه) أي تعاونت لبلوغهما أقصى مراتبهما (وتبارت) بمثناة فوقية فموحدة تعارضت (في الحسن مطالعه ومقاطعه) والمعنى تجارت فيه فواتح سوره وآياتها وقصصها وخواتمها تسارعا وتسابقا لا يتصور له لاحق فضلا عن أن يوجد له سابق ثم التباري معتل لا مهموز وفي الحديث نهى عن أكل طعام المتبارين أي المتسابقين المتعارضين بفعلهما ليغلب أحدهما الآخر في صنعهما وإنما كرهه لما فيه من المباهاة والرياء أو لاشتمالهما على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 عدم الرضى لإعطائهما بسيف الحياء ويمكن حمل كلام المصنف على هذا المعنى أي تعارضت مطالعه ومقاطعه في الحسن وتغالبت كأن كل واحدة منهم غالبت أختها وعارضت شبيهتها (وحوت) أي جمعت (كلّ البيان) بالنصب أي جميع ما يحتاج إلى البيان من جهة الأديان (جوامعه) أي بكلم قليلة وحكم جزيلة (وبدائعه) أي على أوفق إيجاز وأوثق إعجاز (واعتدل مع إيجازه) أي استقام قاله الدلجي والأظهر توسط بين غاية الاطناب ونهاية الإيجاز (حسن نظمه) وفي نسخة حسن لفظه بجزالة بلاغته وغرابته (وانطبق) أي احتوى (على كثرة فوائده) أي من معانيه (مختار لفظه) أي من إيجاز مبانيه (وهم أفسح) أوسع (ما كانوا في هذا الباب) أي باب السؤال والجواب (مجالا) أي قوة واحتمالا وفي نسخة صحيحة أفصح بالصاد وهو ظاهر المراد (وأشهر في الخطابة) أي في باب المخاطبة والمحاورة (رجالا) ولو قال في الخطاب لكان سجعا لما في الكتاب من لفظ الباب ثم نصب مجالا ورجالا كليهما على التمييز المحمول عن الفاعل فيهما والجملتان حاليتان أي مجالهم ورجالهم إذ مجالهم في باب البلاغة أظهر ورجالهم في باب الفصاحة أشهر (وأكثر) أي من غيرهم (في السّجع) أي في الكلام المقفى في النثر (والشّعر) بزيادة قيد الموزون في النظم (ارتحالا) أي انتقالا من كلام إلى كلام ومن مرام إلى مرام بقوة تفننهم في نوعي الكلام ووقع في أصل الدلجي بالجيم فقال أي بدون ترو ومهلة إذ كان لهم سجية وطبيعة انتهى وفي القاموس ارتجل الكلام تكلم به من غير أن يهيئه وفي نسخة سجالا أي تارة وتارة باعتبار المناوبة أو المغالبة (وأوسع) أي ممن عداهم (في الغريب) أي غريب الاستعمال (واللّغة) بالمعنى الأعم المتناول للقريب والغريب على وجه الكمال (مقالا) أي قالا مما يوجب حالا ومثالا (بلغتهم) متعلق بكتاب أو حال منه أي حال كونه بألسنتهم (التي بها يتحاورون) أي يتجاوبون في محاوراتهم (ومنازعهم) بفتح الميم أي محال المنازعة بمعنى المجاذبة في الأعيان والمعاني (التي عنها يتناضلون) بالضاد المعجمة أي يتغالبون بالكلام من النظم والنثر (صارخا بهم) أي حال كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو القرآن المعظم داعيا لهم ومناديا عليهم (في كلّ حين) أي زمان من ليل ونهار منفردين أو مجتمعين تسجيلا عليهم بإنكارهم للدين واستكبارهم عن الحق معرضين (ومقرّعا) بتشديد الراء المكسورة بعد القاف أي وموبخا (لهم بضعا وعشرين عاما) بكسر الموحدة وقد تفتح ما بين الثلاث إلى التسع والمراد به هنا ثلاثة على الصحيح من أنه بعث على رأس الأربعين وعاش ثلاثا وستين وقيل خمسا وستين وقيل ستين وقد جمع بين الأقوال الثلاثة كما هو مقرر في محله ولعل المصنف لوقوع اختلاف ما أطلق بضعا وعشرين عاما (على رؤوس الملإ) أي من أشرافهم ورؤسائهم (أجمعين أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) اقتباس أورده شاهدا بثبوت نبوته وأم بمعنى بل والهمزة للإنكار أي بل أيقولون اختلقه محمد وجاء به من عنده وكذب على ربه (أَقُلْ) أي لهم إن كان الأمر كما زعمتم وتوهمتم (فَأْتُوا) على صورة الافتراء (بِسُورَةٍ) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 بأقصر سورة (مِثْلِهِ) أي تماثله في بلاغة مبانيه وفصاحة معانيه فإنكم عربيون مثلي بل أنتم مشهورون بالخطابة نظما ونثرا من قبلي (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي استعينوا بمن يمكن استعانتكم به من غير تعالى على الإتيان بسورة مثله لا به فإنه تعالى قادر عليه بانفراده (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38] ) أي في أنه أتى به من عنده (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي في شك وشبهة (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) أي في كل سورة (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَةِ: 23] إِلَى قَوْلِهِ وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] ) وهو قوله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنه سبحانه وتعالى ما انزله عليه وما أوحاه إليه فإن لم تفعلوا أي في الحال ولن تفعلوا أي في الاستقبال فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فهذه الآية منادية عليهم بعجزهم عن المعارضة في الأزمنة الحاضرة مع إخباره سبحانه وتعالى بأن الخلق كلهم عاجزون عن الإتيان بمثله إلى يوم القيامة (وقوله) أي وأصرح من هذا كله قوله تعالى (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ) ومنهم أصناف العرب (وَالْجِنُّ) ومنهم أنواع الملائكة (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ [الْإِسْرَاءِ: 88] ) في كمال مبناه وجمال معناه (الآية) يعني قوله لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي متعاونين على الإتيان بمثله وقال الدلجي ولم يدرج الملائكة في الفريقين مع عجرهم أيضا عنه لأنهما المتحديان به انتهى ولا يخفى أن إدراجهم معهم كما حررنا هو الأولى فإنه أظهر في المدعي لا سيما وقد قال بعض العلماء بأن نبينا مبعوث إلى الملائكة بل إلى الخلق كافة كما قررناه في محله اللائق به (وقيل) أي في آية أخرى وفي نسخة وقل (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13] ) أي مختلقات من عند أنفسكم وحاصله أنه ألزمهم الحجة بإتيان قرآن مثله ثم أرخى العنان بتنزله إلى عشر سور مثله ثم تحداهم بسورة واحدة كائنة من عندهم تسهيلا للأمر عليهم وتسجيلا بنداء العجز لديهم كذا قرره الشراح وهو المستفاد مما سيأتي وكلام المصنف على ما حرره وفيه أنهم من أول الوهلة طولبوا المعارضة لا بعد تمام القرآن سورة وسورة والقرآن كما يطلق على الكل يطلق على البعض كما عرف في علم الأصول بما يؤيده من دليل المنقول والمعقول فالوجه أن المراد بالقرآن قدر ما تتعلق به المعجزة وهو اقصر سورة أو قدرها من آيات وحروف وكلمات ويقويه قوله تعالى فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ وعلى كل تقدير فالتحدي بعشر سور مثله تهكم بهم في إثبات عجزهم (وذلك أنّ المفترى) بفتح الراء على ما صرح به الحلبي وغيره (أسهل) أي أهون تلفيقا (ووضع الباطل والمختلق) بفتح اللام أي المكذوب (على الاختيار) أي اختيار المعارض (أقرب) أي أنسب تزويقا وأروج تنميقا ومع ذلك فلم يجدوا إليه طريقا (واللّفظ) أي بعد وضعه في المبنى الفصيح (إذا تبع المعنى الصّحيح كان أصعب) أي ترتيبا وأتعب تهذيبا وهذا أيضا وجه عجزهم عن المعارضة لأن القرآن جمع بين غرائب المعاني وعجائب البيان (ولذلك) وفي نسخة ولهذا أي ولكون المبنى إذا اتبع المعنى أصعب في المدعي (قيل فلان يكتب كما يقال له) فيفتق أكمام ما قيل له من أخبار مبانيه عن أزهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 معانيه ويراعي جميع ما يوافيه بتحريره ويدفع كل ما ينافيه بتقريره حتى يستحسنه المملي إذ عبر عن مراده في شأنه ما كان عاجزا هو عن إيراد بيانه (وفلان يكتب) أي ما يقال له إلا أنه (كما يريد) أي بنفسه لا أنه كما يراد منه بحسب أنسه (وللأوّل) أي من الكاتبين (على الثّاني فضل) أي مزيد سديد (وبينهما شأو بعيد) وفي نسخة صحيحة شأو وبعد وهو بفتح الشين المعجمة وسكون الهمزة فواو منون أي مدى ونهاية وسبق وغاية والمعنى فرق بعيد وفصل عميق لإتيان الأول بالمأمور مفرغا في قالب مراد آمره دون الثاني لإتيانه بمأموره في قالب مراد نفسه إذا عرفت ذلك (فلم يزل صلى الله تعالى عليه وسلم يقرّعهم) بتشديد الراء (أشدّ التّقريع) تفسيره قوله (ويوبّخهم غاية التّوبيخ) أي اسوأه ولا يبعد أن يكون أحدهما بمعنى يهددهم بل هو أولى لأن التأسيس بالنسبة إلى التأكيد أعلى (ويسفّه أحلامهم) بتشديد الفاء أي ينسب عقولهم إلى السفه وبعدهم سفهاء كقوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ وقوله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ (ويحطّ) بضم الحاء وتشديد الطاء أي ينكس (أعلامهم ويشتّت) بتشديد التاء الأولى أي يفرق (نظامهم) ويمزق مرامهم (ويذمّ آلهتهم) أي يعيبها في حد ذاتها بقوله لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها (وإيّاهم) أي ويعيبهم على عبادتها بقوله وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وقوله مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وأمثالهما (ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم) أي بالاستيلاء عليها (وهم) أي والحال أنهم (في كلّ هذا) أي مما ذكر من الأحوال (ناكصون) أي راجعون القهقرى إلى وراء (عن معارضته محجمون) بحاء ساكنة فجيم مكسورة أي متأخرون (عن مماثلته) لظهور مباينته (مخادعون أنفسهم بالتّشغيب) أي بتهييج الشر وإثارة الفتنة والمخاصمة بين القريب والغريب وفي نسخة بالتكذيب وجمع بينهما أصل الدلجي وهو لا يناسب التهذيب خصوصا مع تكرار الباء وعدم العاطف المفيد للجمع أو الترتيب (والإغراء بالافتراء) أي الحث والالزام على وجه التزام نسبة سيد الأنبياء بالافتراء على خالق الأشياء وقد تصحف الإغراء على الدلجي بتوهم الاعتراء على ما في بعض النسخ فقال من عراه إذا مسه وأصابه إلى آخر ما ذكره (وقولهم) أي وبقول بعضهم كالوليد بن المغيرة كما حكى الله تعالى عنه بقوله ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فقال (إن هذا) أي ما هذا (إلّا سحر يؤثر) أي يروى عن أهل بابل وغيرهم وإنما قال هذا الكلام حين سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ حم السجدة فقال لقد سمعت من محمد كلاما ليس بكلام إنس ولا جن وأنه ليعلو ولا يعلى فقيل قد صبا الوليد فقال ابن أخيه أنا اكفيكموه فقد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقال لهم تزعمون أن محمدا مجنون هل رأيتمون يخنق وزعمتم أنه كاهن هل رأيتموه تكهن وأنه شاعر هل رأيتموه يقول شعرا قالوا لا فقال ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه فاهتز النادي فرحا وفي نسخة زيد هنا إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ؛ (وسحر مستمرّ) أي وقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 بعضهم كما حكى الله تعالى عنهم وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي هو أو هذا سحر مطرد دائم صادر عنه أو ذاهب باطل كما قاله قتادة ومجاهد رحمة الله تعالى عليهما أو قوي محكم يغلب كل سحر كما قاله أبو العالية والضحاك (وإفك افتراه) أي وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ أي كذب صرفه عن وجهه واختلقه من تلقاء نفسه وأعانه عليه قوم آخرون، (وأساطير الأوّلين) أي وقالوا هذا أو هو أقاويلهم المزخرفة التي سطرها المتقدمون (اكتتبها) أي استكتبها لنفسه فهي تملي عليه بكرة وأصيلا. (والمباهتة) أي والإغراء بالمباهتة من بهته إذا رماه بما يتحير منه والمعنى ومخادعون أنفسهم بأكاذيب وافتراآت يحيط بهم ضررها ويحيق بهم مكرها ولا يتخطاهم أثرها (والرّضى بالدّنيئة) بالهمز وقد يسهل أي وبرضاهم منه بالخصلة الرديئة (كقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف أي هي مغشاة بأغطية لا يصل إليها هداية ولا رواية؛ (وفي أكنّة) أي وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي في أغطية (ممّا تدعونا إليه) أي مانعة من وصوله إليها فضلا عن حصوله لديها (وفي آذاننا وقر) أي ثقل وصمم، (ومن بيننا وبينك حجاب) أي حاجز مانع من تقربنا إليك ومن نفعنا بما لديك وزيد من تلويحا بأن ابتدأ منهم وانتشأ عنهم وامتد مستوعبا للمسافة المتوسطة بينهما بحيث لم يبق فراغ فيها (ولا تسمعوا) أي وقال الذين كفروا لأصحابهم وأحبابهم لا تسمعوا (لهذا القرآن والغوا فيه) أي بخرافات الكلام وساقطات المرام (لعلّكم تغلبون) أي قارئه بتشويش خاطره الباعث على ترك قراءته. (والادّعاء مع العجز) أي وبمجرد دعواهم مع ظهور عجزهم عن مدعاهم (بِقَوْلِهِمْ لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَالِ: 31] ) ولعمري أي مانع كان لهم لو ساعدتهم الاستطاعة أن يشاؤوا ذلك حيث تحداهم وقرعهم بالعجز مع فرط أنفتهم واستنكافهم أي يغلبوا لا سيما في ميدان الفصاحة والبيان والتجأوا إلى معالجة السلاح من السيف والسنان والعاقل لا يترك الأسهل ويتبع الأثقل (وَقَدْ قَالَ لَهُمُ اللَّهُ وَلَنْ تَفْعَلُوا فَمَا فعلوا ولا قدروا) فإخباره صدق وكلامه حق (ومن تعاطى ذلك) أي ومن تجرأ على قصد المعارضة في ميدان الفصاحة والبلاغة (من سخفائهم) أي سفهائهم (كمسيلمة) أي الكذاب بهذيانات مخترعات منها قوله يا ضفدع الا تتقين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين لا الماء تكدرين ولا الشراب تمنعين ومنها وقوله حين سمع أول سورة النازعات والزارعات زرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا والطاحنات طحنا والحافرات حفرا والباردات بردا واللاقمات لقما لقد فضلتم على أهل الوبر وما سبقكم أهل المدر ومنها قول آخر الم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج من بطنها نسمة تسعى وقال آخر الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل ومشفر طويل وإن ذلك من خلق ربنا لقليل (كشف عواره) بفتح العين المهملة وتضم وقيل الضم أفصح أي أظهر عيب نفسه (لجميعهم) أي من عقلائهم إذ لم يكن ما عارضه به من بديع كلامهم وبليغ نظامهم بل كان مما ينفر عنه الطبع السليم وينبو عنه السمع القويم من قلة سلاسته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 وكثرة ركاكته وأغرب من هذا أنه لما قتل مسيلمة على يد المسلمين من الصحابة قال رجل من بني حنيفة يرثيه لهفي عليك أبا ثمامه ... لهفي على ركن اليمامه كم آية لك فيهم ... كالشمس تطلع من غمامه حكاه السهيلي وقال كذب بل كانت آياته معكوسة وراياته منكوسة فإنه كما يقال تفل في بئر قوم سألوه ذلك تبركا فملح ماؤها ومسح رأس صبي فقرع قرعا فاحشا ودعا لرجل في ابنين له بالبركة فرجع إلى منزله فوجد أحدهما قد سقط في البئر والآخر قد أكله الذئب ومسح على عيني رجل استشفى بمسحه فابيضت عيناه (وسلبهم الله ما ألفوه) أي استعملوه (من فصيح كلامهم) أي في صحيح مرامهم وهذا يومي ترجيح القول بالصرفة كما فهم الدلجي وصرح بقوله ولا أقول به بل الصارف عن معارضته كمال بلاغته وأنا أقول وإنما صرفوا عن ما ألفوا لما أراد الله بهم من فضاحتهم وإلا لو عارضوا بطبق كلمات محاورتهم لربما أوهموا الضعفاء أنهم قاموا بمعارضتهم كما يشير إليه قوله (وإلّا فلم يخف على أهل المنبر) أي أصحاب التمييز (منهم أنّه) أي كلامهم هذا في مقام معارضتهم (ليس من نمط فصاحتهم) بضم النون والميم أي من نوعها (ولا جنس بلاغتهم) أي في فنها (بل ولّوا) أي أهل الميز من عقلائهم ولو كانوا من فصحائهم وبلغائهم (عنه مدبرين) أي أعرضوا عن الإتيان بمثله مولين بأدبارهم عن نحوه (وأتوا مذعنين) أي منقادين مقرين بكونهم عاجزين غايته أنهم صاروا مفترقين (من بين مهتد) أي مصدق به وبمن أنزل عليه من جهة رسالته (وبين مفتون) أي متحير في بديع بلاغته ومنيع فصاحته متعجب من عجزهم عن معارضته (ولهذا) أي ولكونه ليس من نمط فصاحتهم وجنس بلاغتهم (لَمَّا سَمِعَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) مِنَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل: 90] الآية) يعني وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (قال) أي الوليد (والله إنّ له لحلاوة) وفي نسخة حلاوة أي لذة عظيمة يدركها من له سجية سليمة (وإنّ عليه لطلاوة) بفتح الطاء وقد تضم أي رونقا وحسنا فائقا (وإنّ أسفله لمغدق) بغين معجمة اسم فاعل من الغدق بفتحتين وهو كثرة الماء تلويحا بغرارة معانيه في قوالب مبانيه وفي نسخة لغدق من غير ميم وضبط بفتح عين مهملة فسكون ذال معجمة استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وهي العذق وهو رواية ابن إسحاق وبفتح معجمة فكسر مهملة من الغدق وهو الماء الكثير وهو رواية ابن هشام قال السهيلي ورواية ابن إسحاق أفصح لأنها استعارة تامة يشبه آخر الكلام أوله قال الحلبي فيوجه اللفظ الذي قاله القاضي في الكلام على رواية ابن إسحاق وابن هشام (وإنّ أعلاه لمثمر) إشارة إلى غزارة نفعه وزيادة رفعه بكريم فوائده وعميم عوائده (ما يقول هذا) أي مثل هذا (بشر) أي مخلوق وفي أصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 الدلجي ما هذا بقول بشر وفي حاشية الحلبي قال الغزالي في كتاب الإحياء عند آداب تلاوة القرآن حديث أن خالد بن عقبة جاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال اقرأ علي فقرأ عليه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية فقال أعد فاعاد فقال إن له لحلاوة الخ كما هو في الإحياء ذكره أبو عمرو بن عبد البر في استيعابه بغير إسناد ورواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس بسند جيد إلا أنه قال الوليد بن المغيرة بدل خالد بن عقبة كما قال القاضي وكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة فإن صح ما قاله الغزالي تبعا لما في الاستيعاب فإنهما قضيتان والله تعالى أعلم بالصواب؛ (وذكر أبو عبيد) بالتصغير وفي نسخة أبو عبيدة بزيادة تاء وهو الإمام الحافظ القاسم بن سلام بتشديد اللام البغدادي معدود فيمن أخذ عن الشافعي الفقيه وكان إماما بارعا في علوم كثيرة منها التفسير والقراآت والحديث والفقه واللغة والنحو والتاريخ قال الخطيب كان أبوه سلام عبدا روميا لرجل من أهل هرات سمع أبو عبيد إسماعيل بن جعفر وشريكا وإسماعيل بن عياش وابن علية وغيرهم وروى عنه محمد بن إسحاق الصاغاني وابن أبي الدنيا والحارث بن أبي أسامة وآخرون توفي سنة أربع وعشرين ومائتين (أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] ) ما مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف أي أجهر بأمرك أو بالذي تؤمر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو افرق بين الحق والباطل على أن أصل الصدع بالحجة هو التمييز والإبانة وتتمة الآية وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي ولا تبال بإنكار من أنكر وبإشراكه كفر (فسجد) أي الأعرابي وانقاد لما أبداه (وقال سجدت لفصاحته) أي لوصوله نهاية فصاحته وبلوغه غاية بلاغته؛ (وسمع آخر) أي أعرابي آخر أو رجل آخر من المشركين (رجلا) أي من المسلمين (يقرأ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) أي حين يئسوا من يوسف إذ لم يجبهم وزيادة السين التاء للمبالغة (خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80] ) أي انفردوا واعتزلوا متناجين في تدبير أمرهم ووحده لكونه مصدرا أو فعيلا (فقال أشهد أنّ مخلوقا) أي أحدا من الأنام (لا يقدر على مثل هذا الكلام) أي في غاية النظام ونهاية المرام (وَحُكِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه كان يوما) أي من الأيام (نائما في المسجد) ولعله كان معتكفا في مسجد سيد الأنام (فإذا هو) أي عمر (بقائم) أي رجل واقف (على رأسه) ووقع في أصل الدلجي وعلى رأسه قائم فقال جملة حالية (يتشهّد شهادة الحقّ) أي يأتي بكلمتي الشهادة على وجه الإخلاص وطريق الصدق (فاستخبره) أي عمر عن سبب ذلك الخبر والمعنى أنه طلب منه خبره وما أوجب أثره (فأعلمه) أي ذلك القائم (أنّه) أي باعتبار أصله (من بطارقة الرّوم) بفتح الباء الموحدة جمع بطريق بكسرها وهو كالأمير أو الوزير في لغتهم (ممّن) أي وأنه من جملة من (يحسن كلام العرب) أي فهمه (وغيرها) أي وغير لغة العرب أو كلماتهم من كلام الترك والعجم والهند ونحوها (وأنّه سمع رجلا من أسرى المسلمين) أي من أسرائهم في أيدي أعدائهم (يقرأ آية من كتابكم فتأمّلتها فإذا) أي هي كما في نسخة (قد جمع) بصيغة المجهول أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 اجتمع (فيها ما أنزل الله عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا) أي من علائق المعاش (والآخرة) أي من لواحق المعاد (وهي) أي تلك الآية الجامعة (قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ) في فرائضه (وَرَسُولَهُ) أي في سننه أو في جميع ما يأمرانه وينهيانه (وَيَخْشَ اللَّهَ) أي ويخف خلافه وعقابه وحسابه (وَيَتَّقْهِ [النور: 52] ) فيه قراآت مشهورة في محلها مسطورة أي ويتق الله فيما بقي من عمره في جميع أمره (الآية) تمامها فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أي الظافرون بالمراد في المبدأ والمعاد؛ (وحكى الأصمعيّ) وهو عبد الملك بن أصمع البصري صاحب اللغة والغريب والأخبار والملح ولد سنة ثلاث وعشرين ومائة (أنّه سمع جارية) أي بنتا أو مملوكة خادمة تتكلم بعبارة فصيحة وإشارة بليغة وهي خماسية أو سداسية وهي تقول: استغفر الله من ذنوبي كلها فقال لها مم تستغفرين ولم يجر عليك قلم فقالت: استغفر الله لذنبي كله ... قتلت انسانا لغير حله مثل غزال ناعم في دله ... انتصف الليل ولم أصله (فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك) أي هي حقيقة بأن يقال لها ذلك تعجبا من فصاحة قولها كما يقال قاتله الله ما أعجب فعله أي بلغ في الكمال غاية لم يصل غيره إليها فاستحق أن يحسد فيه فيدعي عليه (فقالت أو) بفتح الواو (يعدّ هذا) بصيغة المجهول والمفهوم من الدلجي أن أصله بصيغة الخطاب المعلومة حيث قال عطف على مقدار أي ايعجبك وتعده (فَصَاحَةً بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) أي أشرنا إليها إلهاما أو مناما (أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7] ) أي أخفيه ما أمكنك فيه (الآية) وهي قوله تعالى فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أي من لحوق الهم فألقيه في اليم ولا تخافي عليه ضياعه ولا تحزني فراقه أنا رادوه إليه لتقري عينا وجاعلوه من المرسلين عنا بمرأى منا (فجمع) أي الله سبحانه وتعالى (في آية واحدة بين أمرين) هما أرضعيه والقيه (ونهيين) أي لا تخافي ولا تحزني (وخبرين) يعني وأوحينا فإذا خفت عليه (وبشارتين) أي رادوه وجاعلوه (فهذا) أي الجمع بين المذكور في الآية ذكره الدلجي والأظهر أن هذا الذي ذكر من غاية الفصاحة ونهاية البلاغة في هذه الآية وغيرها مما سبق ذكره (نوع من إعجازه) أي إعجاز القرآن (منفرد) وفي نسخة مستقل (بذاته غير مضاف إلى غيره) أي من أنواعه المتعلقة بصفاته من حيث إخباره عن مغيباته وإنبائه عن أحكام عباداته ومعاملاته ومأموراته ومنهياته (على التّحقيق) أي عند أهل التوفيق (وعلى الصّحيح من القولين) أي اللذين سبق ذكرهما بالتصريح فإن الأول وهو الأولى هو القول بأنه خارج عن قدرة البشر وثانيهما أنه صرفهم عن معارضته خالق القوى والقدر فتأمل وتدبر (وكون القرآن) أي نزوله باعتبار ظهوره ووصوله (من قبل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بكسر القاف وبفتح الموحدة أي من جانبه وطرف حصوله (وأنّه أتى به معلوم ضرورة) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 بديهة لا يفتقر إلى إقامة بينة ولا قيام حجة (وكونه صلى الله تعالى عليه وسلم متحدّيا به) أي طالبا لمعارضته ولو بأقصر سورة (مَعْلُومٌ ضَرُورَةً وَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ) أي المتحدين به الموجودين في زمنه (معلوم ضرورة وكونه) أي القرآن (في فصاحته) أي وبلاغته (خارقا للعادة معلوم ضرورة للعالم) بكسر اللام وفي نسخة صحيحة للعالمين أي للعلماء (بالفصاحة ووجوه البلاغة) أي لمقاماتها المقتضية (وسبيل من ليس من أهلها) أي من أهل المعرفة بفنون الفصاحة ووجوه البلاغة (علم ذلك) بكسر العين وفي نسخة بصيغة الماضي معلوما وقيل مجهولا والأول هو المعول أي هو أن يعلم كون القرآن في الفصاحة والبلاغة معجزة خارقا للعادة (بعجز المنكرين) أي لكونه كلام الله تعالى (من أهلها عن معارضته واعتراف المقرّين) أي بكونه كلامه (و) اعتراف (المفترين) أي القائلين بافترائه (بإعجاز بلاغته) أي لهم عن مناقضته (وأنت) أي أيها المخاطب (إذا تأمّلت) أي من جهة الإيجاز الباهر في الإعجاز الظاهر (قوله تعالى: وَلَكُمْ) أي ولغيركم (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] ) أي المودع فيه من بدائع التركيب وروائع الترتيب مع ما فيه من المطابقة بين معنيين متقابلين وهما القصاص والحيات ومن الغرابة بجعل القتل الذي هو مفوت الحياة ظرفا لها ومن البلاغة حيث أتى بلفظ يسير متضمن لمعنى كثير فإن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل اقتص منه دعاه إلى ردعه عن قتل صاحبه فكأنه أحيى نفسه وغيره فيرتفع بالقصاص كثير من قتل الناس بعضهم بعضا فيكون القصاص حياة لهم مع ما في القصاص من زيادة الحياة الطيبة في الآخرة وهو أولى من كلام موجز عندهم وهو أن القتل أنفى للقتل في قلة المباني وكثرة المعاني وعدم تكرار اللفظ المنفر للحظ وفي الإيماء إلى أن القصاص الذي بمعنى المماثلة سبب للحياة دون مطلق القتل بالمقابلة إذ ربما يكون سببا لفتنة فيها قتل فئة وفساد جماعة (وقوله) بالنصب (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) أي عند موتهم أو بعثهم أو وقت هلاكهم (فَلا فَوْتَ) أي لهم من الله بهرب وسبب غريب (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [سبأ: 51] ) أي من ظهر الارض إلى بطنها أو من الموقف إلى النار قعرها أو من نحو صحراء بدر إلى قليبها (وقوله تعالى ادْفَعْ) أي سيئة من أساء إليك من الكائنات (بِالَّتِي) أي بالحسنة التي (هِيَ أَحْسَنُ) الحسنات أو بالخصلة التي هي أحسن الأخلاق في المعارضات من الحلم والصبر والعفو وما يمكن دفعها به من المستحسنات (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي صديق قريب رفيق (وقوله وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) أي انشفي (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [هود: 44] ) أي أمسكي (الآية) يعني وغيض الماء أي نقص وقضي الأمر أي أمر هلاك الأعداء وانجاء الأحباء واستوت استقرت السفينة على الجودي جبل بالموصل أو الشام روي أنه ركبها عاشر رجب وهبط منها بعد استقرارها عليه عاشر شهر المحرم وصامه فصار سنة وقيل بعدا للقوم الظالمين أي هلاكا لهم حين وضعوا العبادة في غير موضعها وفي نداء الأرض والسماء مع أنهما ليستا من العقلاء إيماء إلى باهر عظمته وقاهر قدرته حيث انقادتا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 لما يريد منهما إيجادا وإعداما كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهما بقوله فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ امتثالا لأمره وانقيادا لحكمه مهابة من عظمته ومخافة من سطوته وين أردت تفصيل ما يتعلق بهذه الآية في الجملة فعليك بشرح الدلجي حيث ذكر بعض ما يتعلق بها من حسن مبانيها ولطافة معانيها وبدائع الحكم التي أودعت فيها. (وقوله تعالى فَكُلًّا) أي عقيب ارسالنا الأنبياء إلى أممهم وتكذيبهم كلا منهم (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) عاقبناه بإصراره على كفره وعدم رجوعه إلى توحيد ربه (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً [العنكبوت: 40] ) أي ريحا عاصفا فيه حصباء وهم قوم لوط (الآية) تمامها وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وهم ثمود ومدين وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وهو قارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وهم قوم نوح وفرعون مع قومه (وأشباهها) بالنصب أي أمثال هذه الآية ووقع في أصل الدلجي وأشباهه فقال أي أشباه ما ذكر (من الآي) أي من سائر آيات القرآن (بل أكثر القرآن) أي وبل إذا تأملت أكثر القرآن أي مما هو بمحل من إيجاز لا يرام وإعجاز لا يسام (حقّقت) جواب إذا تأملت أي عرفت (ما بيّنته من إيجاز ألفاظها) أي مبانيها (وكثرة معانيها وديباجة عبارتها) أي مما يكسوها زينة إشارتها (وحسن تأليف حروفها) أي من غير تنافر فيما بينها (وتلاؤم كلمها) بفتح فكسر أي توافق كلماتها وتناسبها في مقاماتها قال الدلجي وقد تخفف همزة تلاؤم فتصير ياء من الملائمة أي الموافقة لا واوا وما روي في الحديث بها فتحريف لا أصل له لأن الملاومة مفاعلة من اللوم انتهى ولا يخفى أن تخفيف الهمز المضموم بعد الألف لا يعرف إلا بالواو كالتناوش وأما عروض المشابهة بعد التخفيف فلا عبرة به أصلا كما حقق في تخفيف رئاء وأمثالها. (وأنّ تحت كلّ لفظة منها) أي من مبانيها (جملا) أي من جمل الكلام المجملة (كثيرة) أي من معانيها (وفصولا جمّة) أي غزيرة من الفصول المهمة والأمور المتمة (وعلوما زواخر) لها في مقام الكثرة فواخر كما قال ابن عباس: جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال وقد سأل بعض الحكماء من بعض العلماء ما في كتاب الله تعالى من علم الطب فقال كله في نصف آية هي قوله تعالى كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال صدقت وبالحق نطقت (ملئت الدّواوين) أي الدفاتر (من بعض ما استفيد منها) أي مما يعسر احصاؤه (وكثرت المقالات في المستنبطات عنها) أي مما لا يمكن استقصاؤه (ثمّ هو) مبتدأ أي القرآن الكريم (في سرد القصص الطّوال) أي في إيرادها متتابعة (وأخبار القرون السّوالف) أي أهلها السوابق متوالية (التي يضعف) أي يعجز (في عادة الفصحاء عندها الكلام) أي لطولها (ويذهب ماء البيان) أي عند إرادة تقرير فصولها (آية) خبر المبتدأ أي علامة ظاهرة (لمتأمّله) أي لمتذكره وحجة باهرة لمتدبره (من ربط الكلام) أي من جهة ارتباط اجزاء كلامه (بعضه ببعض) في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 ترتيب مقامه وتحصيل مرامه (والتئام سرده) أي وتناسب ما قبله لما بعده (وتناصف وجوهه) أي توافق ضروبه وتعانق فنونه كأن كلا منها أنصف الآخر في أخذ حظه من قولهم تناصفوا إذا انصف بعضهم بعضا من نفسه (كقصّة يوسف على طولها) أي المشتملة على دررها وغررها من بيان أبوابها وفصولها (ثمّ إذا تردّدت) أي تكررت (قصصه) بكسر القاف جمع قصة بخلاف فتحها فإنه مصدر قص كما يستفاد من قوله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ وليس كما يتوهم جمع بأنه جمع (اختلفت العبارات) أي إيجازا وإطنابا وتفننا في بيانها غيبة وخطابا (عنها) أي عن تلك القصة (على كثرة تردّدها) أي مع كثرة تردادها وتكرارها (حتّى تكاد كلّ واحدة) أي من القصص (تنسّي) بضم التاء وكسر السين مخففا أو مثقلا أي تذهب على خاطر المستمع المصغي المتأمل (في البيان) أي في مراتب بيانه ومناقب شأنه من القصص (صاحبتها) أي نظيرتها (وتناصف) بضم التاء وكسر الصاد أي وتحاكي (في الحسن) أي في حسن مطالعتها حال مقابلتها مرآة (وجه مقابلتها) بكسر الباء (ولا نفور للنّفوس من ترديدها) أي ولا تنفر للنفوس النفيسة من سمع تكريرها وتعداد تقريرها (ولا معاداة) أي من أحد (لمعادها) بضم الميم أي لمكررها والضمير للقصص على منوال ما قبلها ووقع في أصل الدلجي لمعاده بإفراد الضمير المذكر فقال أي القرآن والحاصل أنه كما قال الشاطبي: وخير جليس لا يمل حديثه ... وترداده يزداد فيه تجملا وكما قال غيره: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع ولكن هذا بالنسبة إلى صاحب قلب سليم لا إلى من له طبع سقيم. فصل [الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ والأسلوب الغريب] (الوجه الثّاني من إعجازه) أي من وجوه ضبط أنواع إعجاز القرآن (صورة نظمه العجيب) لما فيه من بدائع التركيب وروائع الترتيب، (والأسلوب) بضم الهمزة واللام الفن (الغريب) وكان المناسب أن يقول وأسلوبه الغريب (المخالف) أي بغرابته مع نهاية فصاحته وغاية بلاغته (لأساليب كلام العرب) أي لما أودع فيه من دقائق البيان وحقائق العرفان وحسن العبارة ولطف الإشارة وسلاسة التركيب وسلاسة الترتيب (ومناهج نظمها) أي طريق مبانيها الواضح البين عند أهلها (ونثرها) أي خطبا ورسائل وغيرها (الذي جاء عليه) أي نزل على وفقه القرآن إيماء بأن ما عجزوا عنه إنما هو كلام منظوم من عين ما ينظم كلامهم منه ليعلموا أنه ليس من كلام النبي الكريم بل هو منزل عليه من عند الله العظيم (ووقفت مقاطع آية) أي أواخر وقوف فواصلها من التام والكافي والحسن وباختلاف محالها وزيد في أصل الدلجي هنا لفظ عليه فقال أي على الأسلوب الغريب الذي قصرت عن وصف كنه إعجازه العبارة إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 الإعجاز كالملاحة يدرك ولا يوصف بالإشارة (وَانْتَهَتْ فَوَاصِلُ كَلِمَاتِهِ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ) أي من الكتب المتقدمة (ولا بعده) أي ولا يتصور أن يوجد بعده (نظير له) أي شبيهه ومثله في حسن المباني وروانق المعاني (ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه) أي لجزالة فصاحته وفخامة بلاغته (بل حارث فيه عقولهم) أي تحيرت (وتدلّهت) بالدال المهملة وفي نسخة تولهت بالواو أي أندهشت (دونه) أي عنده (أحلامهم) أي فهومهم في تصوره وتدبره (ولم يهتدوا إلى مثله) أي إلى إتيان شبهه (فِي جِنْسِ كَلَامِهِمْ مِنْ نَثْرٍ أَوْ نَظْمٍ أو سجع) أي في أحدها (أو رجز) بفتح الراء والجيم وفي آخره زاء وهو من بحور الشعر وأنواعه وقيل لا يسمى شعرا ولذا عطف عليه بقوله (أو شعر) وعلى الأول يكون تعميما بعد تخصيص وضبط في بعض النسخ بفتح الزاء وسكون الجيم في آخره راء والظاهر أنه تصحيف لعدم المناسبة بين السابقة واللاحقة (ولمّا سمع كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم الوليد بن المغيرة) وهو والد خالد رضي الله تعالى عنه لكن هلك على دينه لقلة يقينه (وقرأ عليه القرآن رقّ) بتشديد القاف أي تأثر بسماعه لما القي عليه (فجاءه أبو جهل) وهو ابن أخيه (منكرا عليه) أي رقته لديه (قال) وفي نسخة فقال أي الوليد (والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار) أي بأنواع الشعر (مِنِّي وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا من هذا) أي من جنس الشعر (وفي خبره الآخر) أي عن الوليد كما رواه البيهقي عن ابن عباس (حين جمع قريشا عند حضور الموسم) أي قرب ورود أهله وهو بفتح ميم وكسر سين قال اليمني موسم الحاج مجمعهم سمي بذلك لأنه معلم يجتمع إليه وهو يصلح أن يكون اسما للزمان والمكان انتهى والظاهر الأول فتأمل (وقال) وفي نسخة فقال (إنّ وفود العرب) جمع وفد وهو القوم يجتمعون ويردون البلدة والقرية لمآرب تحوجهم إلى النقلة (ترد) أي يجيئون إليكم وينزلون عليكم (فأجمعوا فيه رأيا) بفتح الهمزة وكسر الميم من أجمع الأمر وأزمعه إذا نواه وعزم عليه أي اجتمعوا بالعزم على رأي فيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومنه قوله تعالى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ وقرأ أبو عمرو بهمزة الوصل وفتح الميم ووجهه ظاهر ولا يبعد أن يضبط هنا كذلك أيضا أي أجمعوا رأيا فيه لا يوجد ما ينافيه كما أشار إليه بقوله (لا يكذّب بعضكم بعضا) وهو بتشديد الذال وتخفف كما قرئ بهما في قوله تعالى فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ والمعنى لا ينسب بعضكم بعضا إلى الكذب (قالوا) وفي نسخة فقالوا (نقول كاهن) وهو من يزعم أنه يخبر عن الكائنات في الأزمنة الآتية ويدعي معرفة أسرار المغيبات الماضية وكان في العرب كهنة كشق وسطيح وهما اللذان أخبرا بمبعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فمنهم من زعم أن له رئيا من الجن يلقى إليه أخبارا يسترقها من السماء ويلقطها مما يراه في أطراف الأرض ومنهم من زعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب من كلام من يسأله أو فعله أو حاله ويخصونه باسم العراف كمن يزعم معرفة المسروق ومكان الضال وحلوان الكاهن والعراف حرام (قال) أي الوليد (والله ما هو بكاهن) إذ لم يعهد منه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه سلك طريقهم في تزوير أقاويل باطلة روجها بسجع في كلمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 متقابلة إذ كانوا يروجون أخبارهم المزورة وأقوالهم المصورة بأسجاع مزخرفة تروق السامعين يستميلون بها قلوبهم وأوهامهم ويستصغون إليها اسماعهم وأفهامهم ولا يتكلمون إلا بالسجع المتكلف في تأدية مرامهم ومن ثمة عاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قول من قال في حديث قتل الجنين كيف ندى من لا أكل ولا شرب ولا استهل ومثل ذلك يطل أي يهدر وفي رواية بطل إنما هذا من إخوان الكهان لما تضمنه سجعه من الباطل وما ليس تحته طائل وإلا فقد ورد السجع في كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا (ما هو) أي ليس كلامه صلى الله تعالى عليه وسلم المعنى به القرآن أو مطلق ما يظهره في عالم البيان (بزمزمته) أي بزمزمة الكاهن (ولا سجعه) وهو صوت خفي لا يكاد يفهم فكأنه والله تعالى أعلم إذا أراد حضور قرينه من الجن زمزم له فحضر عنده وأخبره والنفي الثاني بمنزلة الدليل للنفي الأول فتأمل أو معطوف عليه بحذف الباء كما سيأتي في قرائنه هذا وقيل زمزمة الكهان صوت يديرونه في خياشيمهم وأفواههم من غير صريح نطق وربما افهموا به من الفهم (قالوا مجنون) أي مصاب اختلط عقله من مس الجن على ما يعتقدون فيما يزعمون ولقد رأى رجل قوما مجتمعين على إنسان فقال ما هذا قالوا مجنون قال هذا مصاب إنما المجنون الذي يضرب بمنكبيه وينظر في عطفيه ويتمطى في مشيته وما أحسن مقابلته بالمصاب فإنه المخطئ في فعله عن صوب الصواب لكونه أصيب بآفة في عقله الخارج عن دائرة أولي الألباب، (قال) أي الوليد (ما هو بمجنون ولا بخنقه) بفتح الحاء المعجمة وكسر النون وتسكن وتفتح وبالقاف مصدر لدخول حرف الجر بعد لا المزيدة لتأكيد النافية السابقة والمقصود انه ليس بفعل نفي كما توهم قال الحلبي الخنق بكسر النون كذا في غير مؤلف في اللغة ولكن في مطالع ابن قرقول قال بضبط المصدر بفتح النون والإسكان ولم يتعرض للكسر فحصل من ذلك ثلاث لغات في المصدر قلت وفي القاموس اقتصر على الأول حيث قال خنقه خنقا ككتف فهو خنق أيضا وخنيق ومخنوق انتهى والمصدر هنا بمعنى المفعول أي ليس هو ممن أصابه الجن وخنقه ولا وسوس في صدره لعدم ظهور أثره في أمره كما أفاده بقوله (ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال) أي الوليد (مَا هُوَ بِشَاعِرٍ قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ) أي أصنافه جميعه مأخوذ من الشعور وقال اليمني هو مصدر شعرت بالشيء بالفتح أشعر به أي فطنت له ومنه قولهم ليت شعري أي ليتني علمت وفي الاصطلاح هو الكلام المقفى المقصود به الشعر ليخرج ما لم يقصد مما وافق في الوزن والتقفية كما جاء في القرآن والسنة وعبارات الأئمة من غير قصد ويقال في كلامه سبحانه وتعالى إنه غير مقصود بالذات وإلا فلا يتصور بدون إرادته وقوع شيء من الكائنات (رجزه وهزجه) بفتحتين فيهما (وقريضه ومبسوطه ومقبوضه) بيان لبعض أنواعه وأصول أصنافه هذا وقوله قريظه في النسخ بالظاء المشالة وفي أصل الدلجي بالضاد المعجمة فقال فعيل بمعنى مفعول من القرض وهو لغة القطع وسمي الشعر قريضا لأن قارضه أي الشاعر يورده قطعا انتهى وهو الموافق لما في القاموس في حرف الضاد من قوله قرضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 قطعه وجاراه كقارضه والشعر قاله وقال اليمني وسمي قريضا لكونه يقرض ويقال قرظته إذا مدحته ويجوز أن تكتب هذه اللفظة بالضاد والظاء، (ما هو بشاعر) تأكيد للأول وفي نسخة وما هو بشاعر انطقه الله تعالى بالصدق وما وفقه للحق فما أقربه في الظواهر وما أبعده في السرائر فهو ممن أضله الله على علم بقدرته القاهرة وإرادته الباهرة (قَالُوا فَنَقُولُ سَاحِرٌ، قَالَ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ ولا نفثه ولا عقده) بالجر فيهما على أنهما معطوفان على مدخول الباء أي ولا هو بنفث الساحر أي نفخه ولا بعقده في خيط عند نفثه ومنه قوله تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (قالوا فما تقول قال ما أنتم بقائلين شيئا من هذا) أي مما رميتموه به من الأباطيل (إلّا وأنا أعرف أنّه باطل) أي وليس تحته طائل (وإنّ أقرب القول إنّه ساحر) بفتح الهمزة على أنه مع اسمه وخبره خبر أن الأولى فتأمل ولا تتبع طريق الدلجي في ضبط الهمزة بالكسر على أنه مقول لقول مقدر حيث قال وأقرب القول فيه أن يقال بأنه ساحر ثم قال الوليد (فإنّه سحر) أي كلامه مشابهه حال كونه (يفرّق) أي به كما في نسخة أي بكلامه المماثل للسحر (بين المرء وابنه) أي أعز أولاده وأقاربه وفي نسخة وأبيه أي والده الذي هو أقرب أسلافه وأجداده (والمرء وأخيه) أي شقيقه وأقوى قرينه ورفيقه (والمرء وزوجه) أي امرأته أو الشخص الشامل للمرأة وزوجها بأحد معنييه (والمرء وعشيرته) أي عموم قرابته بواسطة المخالفة في دينه وملته (فتفرّقوا) أي راضين على هذا القول من ذلك المجلس (وجلسوا على السّبل) أي سبل الوافدين وطرق الواردين (يحذّرون النّاس) أي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومتابعته واقتفاء سنته وطريقته، (فأنزل الله تعالى في الوليد) أي ما يشير إلى الوعيد الأكيد تهديدا شديدا (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] ) حال من الياء في ذرني أي اتركني معه وحدي فأنا أكفيكه أو من العائد المحذوف أي ومن خلقته وحيدا لا مال له ولا ولد بل فريدا أو تهكم به صرفا له عن كونه لقب مدح له بأنه وحيد قومه في الدنيا تقدما ورياسة ويشار إلى ذمه وعيبه وبما يقتضي أن يكون وحيدا في شره (الآيات) أي من قوله تعالى وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً إلى قوله سبحانه وتعالى فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، (وقال عتبة بن ربيعة) أي ابن عبد شمس بن عبد مناف قتل في بدر كافرا وقد قيل قتله حمزة حين كرهوه وعلي عليه (حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ: يَا قَوْمُ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَتْرُكْ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُهُ وقرأته وقلته، والله لقد سمعت) أي من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (قَوْلًا، وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ مَا هو) أي ليس قوله (بِالشِّعْرِ وَلَا بِالسِّحْرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ؛ وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ نَحْوَهُ وَفِي حَدِيثِ إِسْلَامِ أَبِي ذرّ) أي الغفاري بكسر الغين وقد رواه مسلم (ووصف) أي والحال أنه قد وصف أبو ذر (أخاه أنيسا) بضم الهمزة وفتح النون وسكون التحتية فسين مهملة وكان أبو ذر أرسله قبل اسلامه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة والقصة مشهورة وهو صحابي معروف (فقال) أي أبو ذر: (والله ما سمعت بأشعر) أي بأكثر شعرا وأحسن نظما (من أخي أنيس لقد ناقض) أي عارض (اثني عشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 شاعرا) أي معروفا (في الجاهليّة أنا أحدهم وأنّه) أي أنيسا (انْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ وَجَاءَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ) نقل بالمعنى أو التفات في المبنى وفي نسخة وجاءني (بخبر النّبيّ) أي بأخبار بعثته وإظهار نبوته (صلى الله تعالى عليه وسلم قلت فما يقول النّاس) أي في وصفه ونعته (قال يقولون شاعر كاهن ساحر) أي هم مختلفون بين قول شاعر وساحر أو هم قائلون بأنه لا يخلو عن واحد من هؤلاء الطوائف المذكورة أو مدعون بأنه جامع بين هذه الأوصاف الثلاثة المسطورة ثم قال أخو أبي ذر (لقد سمعت قول الكهنة) أي كثيرا (فما هو) أي قوله (بقولهم) أي لعدم المناسبة (ولقد وضعته) أي كلامه (على أقراء الشّعر) بفتح الهمزة وسكون القاف فراء ممدودة أي طرقه وأنواعه أي أنواع بحوره (فلم يلتئم) أي لم يلائم على شيء عن أوزانه (وما يلتئم) أي وما يتفق (على لسان أحد بعدي) أي غيري أيضا (أنّه شعر) إذ الشعراء اتفقوا على ذلك لما استوزنوا كلامه على اقراء شعرهم هنالك (وإنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لصادق) أي في دعوى الرسالة وفي قوله نقلا عن ربه وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ (وإنّهم لكاذبون) في كونه شاعرا أو كاهنا أو ساحرا؛ (والأخبار في هذا) أي المعنى المذكور والمدعي المسطور (صحيحة) أي إسنادا (كثيرة) متنا صريحة دلالة (والإعجاز) أي عن الإتيان بمثل هذا القرآن (بكلّ واحد من النّوعين) أي اللذين أحدهما (الإيجاز والبلاغة بذاتها) أي بانفرادها فهما مرفوعان كما في بعض النسخ على أنهما خبران لمبتدأ مقدر وفي بعضها بكسرهما على كونهما بدلين من النوعين وفي نسخة والإيجاز والبلاغة بذاتهما على أنهما عطف بيان لما قبلهما والحاصل أن الإيجاز والبلاغة كلاهما نوع كما سبق ذكره حيث عبر عنهما بصورة نظمه العجيب والنوع الآخر وهو الذي بينه بقوله (والأسلوب الغريب بذاته) أي مع قطع النظر عن بقية صفاته وفي نسخة أن بدل أو ووجهه لا يظهر فتأمل وتدبر ثم صرح بمقصوده في ضمن وروده تحت قوله، (كلّ واحد منهما) أي من النوعين وهو النظم العجيب والأسلوب الغريب (نوع إعجاز على التّحقيق) أي عند أرباب التوفيق واصحاب التدقيق وفي نسخة نوع إيجاز والظاهر أنه تصحيف إذ في المعنى تحريف (لَمْ تَقْدِرِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا) أي لا بالنظم العجيب ولا بالأسلوب الغريب (إذ كلّ واحد) أي من النوعين (خارج عن قدرتها) أي عن قدرة العرب العرباء (مباين لفصاحتها وكلامها) أي مغاير لفصاحتهم وبلاغتهم من الشعراء والخطباء؛ (وإلى هذا) أي القول بأن كل واحد منهما نوع إعجاز بذاته (ذهب غير واحد) أي كثيرون (من أئمّة المحقّقين) بسلامة فطنتهم وصحة فطرتهم (وذهب بعض المقتدى بهم) بفتح الدال أي بعض من يقتدي الناس بهم ويميلون في الجملة إلى تقليدهم وقبول قولهم (إلى أنّ الإعجاز في مجموع البلاغة) أي المتضمنة للفصاحة، (والأسلوب) أي من جهة الغرابة والحاصل أن تحقق الإعجاز بهما مجتمعا لا بكل واحد منهما منفردا (وأتى على ذلك) أي واستدل على ما ذهب إليه أي من أن الإعجاز في مجموعهما (بقول تمجّه الأسماع) بضم الميم وتشديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 الجيم أي تدفعه الطباع السليمة وتقذفه الفهوم المستقيمة (وتنفر منه القلوب) أي من أول الوهلة ومبدأ المقدمة. (والصّحيح ما قدّمناه) أي من كون الإعجاز لكل واحد منهما بذاته منفردا، (والعلم بهذا كلّه ضرورة وقطعا) عند أصحاب الذوق من أن وجه الاعجاز أمر من جنس البلاغة يدرك كالملاحة ولا يوصف ولا طريق إليه من جهة الصنيع إلا معرفة علوم المعاني والبيان والبديع مع معونة فيض الهي يورث العلم بكون ذلك ضرورة قطعا (ومن تفنّن) وفي نسخة ومن تكلم (في علوم البلاغة) وفي نسخة في فنون البلاغة أي ومن علم فنون البلاغة وصنوف الفصاحة (وأرهف خاطره) بالنصب أي رقق وحدد ذهنه بتوجه جنانه (ولسانه) أي بتحصيل بيانه (أدب هذه الصّناعة) فاعل ارهف والمعنى أن من أكثر ممارستها وأطال خدمتها حتى صارت له بديهة معرفتها (لم يخف عليه ما قلناه) أي ما قدمناه كما في أصل الدلجي من أن كلا منهما نوع إعجاز بذاته منفردا عند أهل التحقيق بصفاته (وقد اختلف أئمّة أهل السّنة) وفي نسخة ائمة المسلمين (في وجه عجزهم عنه) أي عن الإتيان بمثله (فأكثرهم يقول) أي قالوا مستمرين على قولهم (إنّه) أي وجه عجزهم (ممّا جمع) بصيغة المجهول وفي نسخة بصيغة الفاعل أي جمع الله (في قوّة جزالته) أي لطائف معانيه (ونصاعة ألفاظه) أي شرائف مبانيه بخلوصها من شوائب الركاكة وتنافر الكلمات والغرابة (وحسن نظمه وإيجازه) أي واستحسان نظم المعاني الكثيرة في ضمن المباني اليسيرة من غير خلل في مبناه ولا قصور في معناه (وبديع تأليفه وأسلوبه) أي على صنيع منيع ليس على أسلوب نظم الشعراء ولا نثر الخطباء (لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ) لاشتماله على لطائف وشرائف في باب البلاغة والفصاحة إلى أن خرج عن طاقة الخلق فتعين أنه من كلام الحق (وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَوَارِقِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ أَقْدَارِ الخلق) بفتح الهمزة أي مقدوراتهم (عَلَيْهَا كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَقَلْبِ الْعَصَا وَتَسْبِيحِ الْحَصَى) أي مما لا يقدر عليه غيره تعالى (وذهب الشّيخ أبو الحسن) أي علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن عبد الله ابن أمير العراقين بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري إمام أهل السنة (إلى أنّه) أي القرآن (مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ مِثْلُهُ تَحْتَ مَقْدُورِ البشر) أي في الجملة ممن هو ماهر في وجوه البلاغة وباهر في فنون الفصاحة، (ويقدرهم الله عليه) بضم الياء وكسر الدال أي وأن يعطيهم الله القدرة والقوة على اتيان مثله لأنه من جنس نتائج أفكارهم وكرائم اسرارهم (ولكنّه) الضمير للشأن (لم يكن هذا ولا يكون) أي هذا وفي نسخة زيد هذا هو الشأن أي الشأن عدم قدرتهم عليه (فمنعهم الله هذا وعجّزهم عنه) بتشديد الجيم أي وجعلهم عاجزين عن أمر المعارضة في ميدان المقاومة، (وقال به جماعة من أصحابه) أي من علماء الأمة لكن هذا هو القول بالصرفة وقد مر أنه مرجوح عند أكابر الأئمة (وعلى الطّريقين) أي من أن كونه معجزا بذاته عن مقاومته أو بتعجيزه سبحانه وتعالى إياهم عن معارضته (فعجز العرب عنه ثابت) أي بلا شبهة (وإقامة الحجّة عليهم) أي واقع (بما يصحّ أن يكون في مقدورهم) وفي نسخة مقدور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 البشر أي على ما ذهب إليه الأشعري وبعض اتباعه، (وتحدّيه) أي وطلب معارضته صلى الله تعالى عليه وسلم لهم (بأن يأتوا بمثله قاطع) أي بلا ريبة (وهو) أي تحديه أن يأتوا بمثله مع كونه مما يصح أن يكون في مقدورهم (أبلغ في التّعجيز وأحرى) أي اليق وأولى (بالتّقريع) أي بالتوبيخ (والاحتجاج) مبتدأ أي والاستدلال على عجزهم (بمجيء بشر مثلهم) وفي نسخة منهم أي من جملتهم (بشيء ليس من قدرة البشر لازم) أي على القول بأنه معجز بنظمه العجيب وأسلوبه الغريب (وهو) أي كونه ليس من قدرة البشر (أبهر آية) أي أظهر علامة (وأقمع) أي أقهر (دلالة) أي في ثبوت الحجة (وعلى كلّ حال) أي كل تقدير من قول الإعجاز بالصرفة أو البلاغة (فما أتوا) بفتح الهمزة أي فما جاؤوا (في ذلك) أي في معارضته (بمقال) أي في مقام جدال (بل صبروا على الجلاء) بفتح الجيم أي الخروج من أوطانهم (والقتل) أي وعلى قتل أنفسهم وإخوانهم (وتجرّعوا كاسات الصّغار) بفتح الصاد أي الحقارة (والذّلّ) أي المسكنة والمهانة (وكانوا) أي والحال أنهم كانوا (من شموخ الأنف) بضم الشين المعجمة أي من شماخته ورفعته كبرا وعتوا وهو بفتح الهمزة وسكون النون عضو معروف وجمعه أنوف وفي نسخة بضمتين على أنه جمع أنف وضبطه الحلبي بهمزة ممدودة يعني وضم نون على أنه جمع آخر (وإباءة الضّيم) بكسر همزة فموحدة فألف بعدها همزة أو ياء فتاء وفي نسخة بغير تاء وفي أخرى الضير براء بدل الميم وكلاهما بفتح الضاد أي وكانوا من منوع الضرر تحاميا عنه وتباعدا منه (بحيث لا يؤثرون ذلك) أي لا يختارون ما ذكر من الجلاء والقتل والصغار والذل (اختيارا) أي طوعا (ولا يرضونه إلّا اضطرارا) أي كرها (وإلّا) أي وإن لم يكن الأمر من عجزهم وصبرهم على ذلهم (فالمعارضة) أي للقرآن وسائر المعجزات (لو كانت من قدرهم) بضم وفتح أي مقدوراتهم (والشّغل بها أهون عليهم) والظاهر أن يقال فالشغل بالفاء أو لكان الشغل ولعل الجملة حالية وهو بضم فسكون وبضمتين وبفتح وبفتحتين أي الاشتغال بالمعارضة أسهل إليهم (وأسرع بالنّجح) بضم نون فسكون جيم أي بالظفر على المراد (وقطع العذر) أي المعذرة عند العباد في البلاد (وإفحام الخصم) أي الزامه (لديهم) أي عندهم (وهم) أي والحال أنهم (ممّن لهم اقتدار) وفي نسخة قدرة (على الكلام) وفي نسخة وهم من هم بفتح الميم قدرة بفتح القاف والدال جمع قادر وفي أخرى وهم ممن هم قدرة بفتحتين وقدرة في الجميع مرفوعة وفي اصل الدلجي وهم منهم قدرة بالنصب فقال تمييز للضمير المنفصل قبله والجملة حالية من ضمير لديهم (وقدوة) عطف على قدرة وهو بضم القاف وكسرها وحكي فتحها أي اقتداء وأسوة (في المعرفة به) أي بالكلام (لجميع الأنام) متعلق بالقدوة (وما منهم) أي من أحد (إلّا من جهد جهده) بضم الجيم وفتحه أي بذل جده وبالغ اجتهاده (واستنفذ) بالفاء والدال المهملة أي استفرغ (ما عنده) أي من قوة طاقته (في إخفاء ظهوره) أي ظهور نور القرآن أو علو نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من جهة رفعة الشأن (وإطفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره) ويعلو ظهوره وهو مقتبس من قوله تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ (فما جلوا في ذلك) أي فما أظهروا في مقام المعارضة مما اجتهدوا فيه غاية المجاهدة (خبيئة) بفتح الخاء المعجمة وكسر الموحدة فتحتية ساكنة فهمزة مفتوحة أو مبدلة مدغمة أي مخبوءة ومخفية (من بنات شفاههم) بفتح الموحدة قبل النون أي من كلمات صدرت من أفواههم والشفاه بكسر الشين المعجمة جمع الشفة بفتحها وتكسر وشفتا الإنسان طبقا فمه (ولا أتوا بنطفة) أي ولا جاؤوا بقطرة يسيرة (من معين مياههم) أي من ظواهر أنهار بلاغتهم وأسرار فصاحتهم بل صاروا بكما في معارضتهم (مع طول الأمد) أي الزمان (وكثرة العدد) أي الأعوان (وتظاهر الوالد وما ولد) الأولى أن يقال والولد أي ومعاونتهم ومعاضدتهم في مقام الرد وأما ما في نسخة من الأمل باللام يدل الأمد بالدال فتصحيف وتحريف (بل أبلسوا) بصيغة الفاعل أي أيسوا من المعارضة ويئسوا من المقاومة (فما نبسوا) بفتح النون والموحدة المخففة وقيل المشددة وبضم السين المهملة أي فما نطقوا (ومنعوا) بصيغة المفعول أي فما أعطوا القدرة على المقاومة (فانقطعوا) أي عن المعارضة (فهذان النّوعان) وفي نسخة صحيحة نوعان (من إعجازه) أي اجتماعا وانفرادا. فصل [الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ من الأخبار] (الوجه الثّالث من الإعجاز) أي من وجوهه (ما انطوى) أي اشتمل واحتوى (عليه من الأخبار) بكسر الهمزة أي الإعلام (بالمغيّبات) أي الكائنات في الأزمنة السابقة (وما لم يكن ولم يقع) أي بعد (فوجد) أي في الأيام اللاحقة (كما ورد) أي مطابقا لما ورد (على الوجه الذي أخبر كقوله تعالى) خطابا للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ) تعليق لعدته بالمشيئة تعليما لعباده وإيماء إلى عدم وجوب شيء على الله تعالى في تحقيق مراده وتلويحا بأن بعضهم لا يدخله لعلة من موت أو غيبة أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه حالة الرواية (آمِنِينَ [الفتح: 27] ) حال من واو لتدخلن والجملة الشرطية معترضة (وقوله تعالى: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) أي الروم من بعد غلبة الفرس عليهم (سَيَغْلِبُونَ [الروم: 3] ) الفرس وكانوا مجوسا والروم نصارى فورد خبر غلبة الفرس إياهم مكة ففرح المشركون وشتموا بالمسلمين وقالوا أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون لا كتاب لنا وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن عليكم فنزلت الآية إلى قوله فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يقرن الله أعينكم فو الله لتظهرن الروم على فارس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 بضع سنين فقال أبي بن خلف كذبت أجعل بيننا وبينك أجلا فراهنه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين فأخبر أبوبكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده أي في الإبل وماده في الأجل فجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين ومات أبي بعد قفوله من أحد بجرح من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسرف كافرا وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية فأخذ أبو بكر القلائص من ورثة أبي فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تصدق بها وبه أخذ ائمتنا الحنفية جواز العقود الفاسدة في دار الحرب وأجاب الشافعية بأنه كان قبل تحريم القمار والله تعالى اعلم (وقوله) أي وكقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ) أي ليغلب دين الحق ويعليه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الفتح: 33] ) أي على جنس الدين جميعه بتمام إفراده بتسليط المسلمين على أهله بالعزة والغلبة والقهر والقوة فضلا عن الحجة (وَقَوْلِهِ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: 55] الآية) أي في الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأنبياء السالفة وأممهم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (وَقَوْلِهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النَّصْرِ: 1] ) أي فتح مكة (إلى آخرها) أي إلى آخر السورة أو إلى آخر ما يتعلق به معنى الآية وهو قوله وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (فكان جميع هذا كما قال) أي وقع كله كما أخبر عنه أي فكان جميعه كما قال معجزة ومن أعلام النبوة (فغلبت الرّوم فارس في بضع سنين) أي يوم الحديبية قيل عند رأس سبع سنين وكان حقه أن يقول أيضا ودخل أهل الإسلام في المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين غير خائفين في عام عمرة القضاء وكان صلح الحديبية مقدمة فتح مكة وهذا وإن كان باعتبار الآية الواردة فيه مقدما لكن وقوعه عن قضية غلبة الروم صار مؤخرا؛ (ودخل النّاس في الإسلام) أي بعد فتح مكة (أفواجا) أي فوجا بعد فوج من أهل مكة والطائف واليمن وغيرها (فما مات صلى الله تعالى عليه وسلم وفي بلاد العرب كلّها لم يبق موضع لم يدخله الإسلام واستخلف) أي الله تعالى كما في نسخة (المؤمنين في الأرض) أي في عامة البلاد (ومكّن فيها دينهم) أي ثبته فيما بين العباد (وملّكهم إيّاها) أي الأرض وبلادها (من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب) أي ليتم نظام مرادهم ويكمل أمور معاشهم ومعادهم (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما رواه مسلم عن ثوبان مرفوعا (زويت لي الأرض) بضم الزاء وكسر الواو أي جمعت وطويت لأجلي (فأريت) بصيغة المجهول وفي أصل الدلجي فرأيت (مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لي منها) أي بأسرها (وَقَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ) أي من التحريف بالزيادة والنقصان مما تواتر عند علماء الأعيان من قراء الزمان (فكان كذلك) أي بمقتضى حفظه (لا يكاد يعدّ) بصيغة المجهول أي يحصر (من سعى في تغييره) أي من مبانيه (وتبديل محكمه) أي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 معانيه (من الملحدة) أي المائلة عن الحق إلى الباطل كالحلولية والاتحادية وأمثالهما (والمعطّلة) أي القائلة بتعطيل الكون من المكون كالدهرية ونحوها (لا سيّما القرامطة) بالرفع على أن سي بمعنى وما موصولة صدر صلتها محذوف أي ولا مثل الذين هم القرامطة وبالجر على أن ما زائدة وبالنصب على أنها أداة استثناء وهم طائفة معروفة وقال بعضهم فرقة من الإباضية وهم اتباع حمدان القرمطي (فأجمعوا كيدهم وحولهم) أي جهدهم (وقوّتهم) أي جدهم (اليوم) أي إلى يومنا هذا (نيّفا) بفتح النون وسكون الياء مخففة وقيل مشددة مكسورة أي زيادة (على خمسمائة عام) أي بالنسبة إلى تاريخ زمن المصنف وأما الآن فهو نيف وألف (فما قدروا) أي القرامطة وغيرهم من الملاحدة ونحوهم (عَلَى إِطْفَاءِ شَيْءٍ مِنْ نُورِهِ وَلَا تَغْيِيرِ كلمة من كلامه) وفي نسخة صحيحة من كلمه بفتح فكسر ويجوز بكسر فسكون (وَلَا تَشْكِيكِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ) أي لا من حروف مبانيه ولا من حروف معانيه ولا ترديدهم في يعراب بل ونقطة مما ينافيه في باب (والحمد لله) أي على تمام هذه المنة وإتمام هذه النعمة (ومنه) أي ومن اعجاز القرآن في أخبار الغيب من مستقبل الزمان (قوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) أي جمع أهل الكفر (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 11] ) أي الإدبار كما قرئ به وأفرد لقصد الجنس أو لإرادة كل واحد ولمراعاة الفواصل وعن عمر رضي الله تعالى عنه لما نزلت لم أعلم ما هو حتى كان يوم بدر سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو يلبس درعه ويقول سيهزم الجمع فعلمته (وقوله تعالى) أي ومنه قوله تعالى (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة: 14] ) أي قتلا (الآية) أي ويخزهم أسرا وينصركم عليهم نصرا ويشف صدور قوم مؤمنين أي مما امتلأت منهم ضجرا قيل هم خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بطون من اليمن وردوا مكة واسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اصبروا فإن الفرج قريب (وقوله تعالى) أي وكذا منه قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى [التَّوْبَةِ: 33] الْآيَةَ) وقد سبق وهذا من التكرير في التعبير (وقوله: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) أي ضررا يسيرا كطعن في الدين وتهديد في التخمين (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ [آل عمران: 111] الآية) أي يولوكم الأدبار أي منهزمين ثم لا ينصرون أي لا بنصر أحد لهم ولا بدفع البأس عنهم (فكان كلّ ذلك) أي فوقع هنالك كل ذلك كذلك من هزم جمعهم وتعذيبهم وشفاء صدور المؤمنين بنصرهم عليهم وانحصار الأذى في ضررهم وانهزامهم كبني قريظة والنضير وأمثالهم (وما فيه) أي ومما في القرآن (من كشف أسرار المنافقين واليهود ومقالهم) أي من إيضاح أقوالهم وإفضاح أحوالهم (وكذبهم في حلفهم وتقريعهم بذلك) أي ومن توبيخ الله إياهم بسوء أعمالهم وتقبيح آمالهم وتفظيع مآلهم (كقوله) أي كما في قوله سبحانه وتعالى: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي فيما بينهم أو في نفوسهم (لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ [المجادلة: 8] ) أي هلا يعاقبنا بقولنا في محمد طعنا منا فيه وفي الإسلام ودفعا عنا بالسام بدل السلام قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 الله تعالى وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (وقوله) أي وكقوله تعالى في حق المنافقين (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ [آل عمران: 154] الآية) أي لو كان لنا من الأمر شيء كما زعم محمد أن الأمر كله لله وأن حزبه هم الغالبون ما قتلنا ههنا أي في المعركة (وقوله) أي وكقوله تعالى في حق اليهود (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي بعض اليهود منهم قوم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [المائدة: 41] الآية) أي أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ الخ، (وَقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي يميلونها عن مواضعها التي وضعها الله تعالى فيها بإزالتها من مكانها وإثبات غيرها في محلها أو يأولونها على ما يشتهون فيها (إلى قوله وَطَعْناً فِي الدِّينِ [النساء: 46] وقد قال مبديا) بالهمزة أو الياء أي حال كونه تعالى مظهرا (ما قدّره الله) بتشديد الدال أي ما قضاه (واعتقده) ويروى وما اعتقده (المؤمنون) أي مقتضاه الواقع (يوم بدر) على وفق رضاه من الظفر بإحدى الطائفتين العير والنفير (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) أي القافلة الراجعة من الشام أو الطائفة الآتية من بيت الله الحرام (أَنَّها لَكُمْ) حاصلة من أموال إحديها أو غنيمة أخريها (وَتَوَدُّونَ) أي تتمنون وتحبون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) وهي السلاح يعني العير المقبلة مع أبي سفيان (تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال: 7] ) حيث لا حدة فيها ولا شدة بخلاف ذات الشوكة من النفير وهو الجمع الكثير ممن نفروا مع أبي جهل من مكة لاستنقاذ العير واستخلاصهم من أيدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه متقوين بكثرة عددهم وعددهم (ومنه) أي ومن اعجازه سبحانه وتعالى (قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] ) أي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي والحارث بن قيس والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب بن أسد قيل وكذا عمه أبو لهب وعقبة بن أبي معيط والحكم بن أبي العاص إلا أنه أسلم يوم الفتح والباقون أهلكوا بأنواع من العقوبة (ولما نزلت) أي هذه الآية فيهم على ما رواه الطبراني في الأوسط (بشّر النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُ إيّاهم) أي شرهم وأذاهم ورواه البيهقي وأبو نعيم بمعناه (وكان المستهزئون نفرا بمكّة) أي جماعة مترصدين للواردين بها والصادرين عنها (ينفّرون النّاس عنه) بتشديد الفاء أي يصدونهم عن الإيمان به (ويؤذونه) أي بهذا واضرابه (فهلكوا) أي بضروب البلاء وفنون العناء فتم نوره وكمل ظهوره؛ (وقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ) عدة من الله تعالى بعصمة روحه من غوائل عدوه (فكان كذلك) أي كما أخبر به من لا خلف في خبره (على كثرة من رام ضرّه) أي مع كثرة من قصد ضره (وقصد قتله والأخبار بذلك معروفة) أي مشهورة في كتب المغازي في باب السير (صحيحة) أي مذكورة عند أرباب الأثر فعصمه الله تعالى وحفظه حتى انتقل من دار الدنيا إلى منازل الحسنى في العقبى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 فصل [الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ القرون السالفة] (الوجه الرّابع) أي من وجوه اعجاز القرآن (ما أنبأ به) أي أخبر به واعلمه (من أخبار القرون السّالفة) أي الماضية (والأمم البائدة) أي الهالكة الفانية (والشّرائع الدّاثرة) أي الدار الدارسة (مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ إلّا الفذّ) بفتح الفاء وتشديد الذال المعجمة أي الفرد الواحد المنفرد عن أقرانه في علو شأنه (من أخبار أهل الكتاب) بالحاء المهملة أي من علمائهم (الذي قطع عمره) أي صرفه (في تعلّم ذلك) أي الخبر الواحد من ألسنة كبرائهم أو من كتب فضلائهم (فيورده النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم على وجهه) إذ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (ويأتي به على نصّه) أي كما قرأه عليه جبريل من غير تصرف في لفظه (فيعترف العالم) أي منهم كما في نسخة (بذلك) أي بسبب ما أورده (بصحّته وصدقه) متعلق بيعترف (وأنّ مثله لم ينله بتعليم) أي لم يصل إليه بواسطة تعليم وتعلم من الخلق وحينئذ قد يغترف من بحر تحقيقه ويتشرف بتوفيق تصديقه لعلمه أنه أخبر الخلق بوحي من الحق (وقد علموا) أي جميعهم قبل ذلك (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم أمّيّ) أي في جميع أمره (لا يقرأ ولا يكتب) أي في جميع عمره (ولا اشتغل بمدارسة) أي مع العلماء (ولا مثافنة) بالمثلثة والفاء والنون أي ولا مجالسة مع الشعراء والفضلاء وفي نسخة بالقاف والموحدة ولعلها مصحفة أو يراد بها المزاحمة في المعرفة من ثقوب الذهن وهو وصوله إلى الصواب ثم هذا فيما بينهم (ولم يغب عنهم) أي غيبة يمكنه التعلم فيها من غيرهم (ولا جهل حاله أحد منهم) أي منذ كان صغيرا إلى أن بعث كبيرا لأنه كان من أعيانهم والحاصل أنه كما قال صاحب البردة ذائقا من هذه الزبدة كفاك بالعلم في الأمي معجزة (وقد كان أهل الكتاب) أي من اليهود والنصارى (كثيرا ما) أي في كثير من الأوقات (يسألونه صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذا) أي عن أخبار القرون الماضية (فينزل) بصيغة الفاعل أو المفعول مخففا أو مشددا (عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ مِنْهُ ذكرا) أي بيانا لأعمالهم وأحوالهم وما جرى لهم في مآلهم (كقصص الأنبياء مع قومهم) أي أقوامهم من أممهم إجمالا تارة ومفصلا أخرى وعموما مرة وخصوصا كرة كما أشار إليه بقوله (وخبر موسى والخضر) بفتح فكسر وروي بكسر فسكون قيل لأنه إذا جلس أو صلى اخضر ما حوله وفي البخاري أنه جلس على فروة فإذا هي تهتز خلفه خضراء والفروة الأرض اليابسة أو الحشيش اليابس وفي اسمه اختلاف وكذا في كونه نبيا مرسلا أو غيره أوليا وبه جزم جماعة وأغرب ما قيل فيه إنه من الملائكة وقيل إنه ابن آدم وقيل ابن فرعون وقال الثعلبي نبي على جميع الأقوال معمر محجوب عن الأبصار واختلف في حياته وقد أنكرها جماعة منهم البخاري وقال ابن الصلاح هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم على ذلك وإنما شذ بإنكارها بعض المحدثين قال الحلبي ونقل النووي عن الأكثرين حياته وقيل إنه لا يموت إلا في آخر الزمان وفي صحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 مسلم في أحاديث الدجال أنه يقتل رجلا ثم يحييه قال إبراهيم بن سفيان راوي مسلم يقال إنه الخضر وكذا قال معمر في مسنده وأما ما استدل به البخاري ومن تبعه كالقاضي أبي بكر بن العربي على أنه مات قبل انقضاء المائة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد فالجواب أن هذا الحديث عام فيمن يشاهده الناس ويخالطونه لا في من ليس كذلك كالخضر بدليل أن الدجال خارج عن هذا الحديث لما روى مسلم من حديث الجساسة الدال على وجود الدجال في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى بقائه إلى زمن ظهوره مع أن مسلما روى عن ابن عمر أن المراد بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد انخرام ذلك القرن، (ويوسف وإخوته) كما هو مبين في سورته بأحسن صورته (وأصحاب الكهف) قال الحلبي واختلف في بقائهم إلى الآن فروي عن ابن عباس أنه أنكر أن يكون بقي منهم شيء بل صاروا ترابا قبل المبعث وقال بعض أصحاب الأخبار غير هذا وأن الأرض لم تأكلهم ولم تغيرهم وأنهم على مقربة من القسطنطينية وفي مكانهم أقوال وروي أنهم سيحجون البيت إذا نزل ابن مريم قال الإمام السهيلي الفيت هذا الخبر في كتاب البدء لابن أبي خيثمة هذا وقد اختلف في عدتهم ومدة إقامتهم (وذي القرنين) روى الحاكم في المستدرك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال لا أدري أنبي هو أم لا وجاء فيه عنه عليه السلام أنه كان ملكا سيح في الأرض بالأسباب وقيل في قوله تعالى وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً أي علما يتبعه وفي قوله تعالى فَأَتْبَعَ سَبَباً أي طريقا يوصله وقال ابن هشام في غير السيرة السبب جبل من نور كان ملك يمشي به بين يديه فيتبعه واختلف في تسميته بذي القرنين كما اختلف في اسمه واسم أبيه فأصح ما قيل في ذلك ما روي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال سأل ابن الكوا علي بن أبي طالب فقال أرأيت ذا القرنين أنبيا كان أم ملكا فقال لا نبيا كان ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا دعا قومه إلى عبادة الله فضربوا على قرني رأسه ضربتين وفيكم مثله يعني نفسه وقيل ذو القرنين ملك الخافقين وأذل الثقلين وعمر الفين ثم كان في ذلك كلحظة عين (ولقمان وابنه) تقدم ذكرهما وفي سورته بعض حكمته (وأشباه ذلك من الأنباء) كخبر نوح وابنه وابني آدم (وبدء الخلق) أي ابتدائهم وانتهائهم (وَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى ممّا صدّقه فيه العلماء) أي من أهل الكتاب (بها) أي حين تلاها عليهم (ولم يقدروا) أي وما قدر أحد منهم (على تكذيب ما ذكر منها) بصيغة الفاعل أو المفعول أي تكذيبه في شيء ذكر من الكتب المذكورة (بل أذعنوا) أي انقادوا له (لذلك) أي لعلمهم بصدقه (فمن موفّق) بتشديد الفاء المفتوحة أي موافق (آمن) أي بالقرآن وما أنزل عليه (بما سبق له) أي في الأزل (من خير) أي من سابقة إرادة السعادة له (ومن شقيّ) أي مخذول (معاند حاسد) وزيد في نسخة خاسر جاهل وقال الحجازي يروى خاسر ويروى جاهل أي لم يصدقه بما سبق له في الأزل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 سابقة إرادة الشقاوة له (ومع هذا لم يحك عن واحد) وفي أصل الدلجي وغيره عَنْ وَاحِدٍ (مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ عَلَى شِدَّةِ عداوتهم له) أي مع مبالغتهم في مناقضتهم لحقه (وَحِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَطُولِ احْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا في كتبهم) أي مما أوجب العلم بأنه رسول الله إلى كافة الناس (وتقريعهم) أي توبيخهم ردعا لهم (بما انطوت عليه مصاحفهم) أي بما اشتملت عليه كتبهم وكان الأظهر أن يقول صحفهم أو صحائفهم (وكثرة سؤالهم له عليه الصلاة والسلام) أي إخبارا أو امتحانا (وتعنيتهم إيّاه) أي تكليفهم له بما شق عليه بكثرة سؤالهم (عَنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَائِهِمْ) وَأَسْرَارِ عُلُومِهِمْ (وَمُسْتَوْدَعَاتِ سِيَرِهِمْ) أي كل ذلك تعنتا وعنادا لا تفهما وإرشادا (وإعلامه لهم بمكنون شرائعهم) أي مخفيها ومستورها (ومصنّفات كتبهم مثل سؤالهم) أي على لسان قريش إذ قالوا لهم سلوه (عن الرّوح) كما رواه الشيخان (وذي القرنين وأصحاب الكهف) فيما رواه ابن إسحاق والبيهقي فإن أجاب عنها أو سكتت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فبين لهم كما رواه الشيخان قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين وأبهم أمر الروح كما هو مبهم في التوراة (وعيسى عليه الصلاة والسلام) أي وسؤالهم عن عيسى فبينه لأهل الكتابين (وحكم الرّجم) فبينه لليهود (وما حرّم إسرائيل على نفسه) أي وسؤالهم عنه كما روى الترمذي أي حرم باجتهاده أو بإذن من ربه لحوم الإبل والبانها فبينه لهم بقوله تعالى كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ (وما حرّم عليهم) بصيغة المجهول (من الأنعام) أي وسؤالهم عنه فبينه بقوله سبحانه وتعالى وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية (ومن طيّبات كانت أحلّت لهم فحرّمت عليهم ببغيهم) أي وسؤالهم عنها فبينه بقوله تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ الآية، (وقوله) أي مثل قوله تعالى (ذلِكَ) أي سيماهم في وجوهم من أثر السجود (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الْفَتْحِ: 29] ) أي كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ الآية والمراد وصفهما العجيب الشأن فيهما (وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمُ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا القرآن) أي لكشف مستورهم (فأجابهم) أي عن ذلك كله (وعرّفهم بما أوحي إليه من ذلك) أي من بيانه (أنّه) بفتح الهمزة متعلق بما سبق وما بينهما معترضة أي فلم يحك عن أحد منهم أَنَّهُ (أَنْكَرَ ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ صرّح بصحّة نبوّته وصدق مقالته) وفي نسخة صحيحة مقاله وفي أخرى بفتح الصاد وتشديد الدال على أنه فعل ماض ومقاله مفعوله (واعترف بعناده) أي بعناد نفسه (وحسده إيّاه) وفي نسخة صحيحة وحسدهم (كأهل نجران) بفتح النون وسكون الجيم طائفة من النصارى حين حاجوه في عيسى فدعاهم إلى المباهلة كما في آيتها وسيأتي تفصيل حكايتها (وابن صوريا) بضم الصاد وكسر الراء مقصورا وفي نسخة ممدودا ويقال له ابن صوري وقد ذكر السهيلي عن النقاش أنه اسلم نقل ذلك الذهبي في تجريد الصحابة (وابني أخطب) بالخاء المعجمة يهوديان معروفان هلكا على كفرهما (وغيرهم ومن باهت في ذلك) أي فيما لم ينكر منه ولم يكذب فيه (بعض المباهتة) أي نوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 من المباحثة (وَادَّعَى أَنَّ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِمَا حكاه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (مخالفة دعي) بصيغة المجهول أي فقد دعي من جانب ربنا سبحانه وتعالى (إلى إقامة حجّته وكشف دعوته) أي من أن عنده فيما حكاه مخالفة كموافقته لإبراهيم عليه السلام في تحليل لحوم الإبل وألبانها ويروى وكشف عورته (فقيل له) أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجترئوا أن يأتوا بها وهذا برهان عظيم على نبوته وصدق دعوته (إلى قوله: الظَّالِمُونَ [آل عمران: 93- 94] ) يعني فمن افترى على الله الكذب أي بزعمه أن ذلك حرم على بني إسرائيل وعلى من قبلهم قبل نزول التوراة من بعد ذلك أي بعد ظهور الحق له وثبوت الحجة عنده فأولئك هم الظالمون بعدم انصافهم من أنفسهم ومكابرتهم وعنادهم بعد ما تبين الحق لهم (فقرّع) بتشديد الراء (ووبّخ) بتشديد الموحدة أي فأظهر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم التقريع والتوبيخ لهم (ودعا) أي دعاهم (إلى إحضار ممكن غير ممتنع) وهو الاتيان بالتوراة فلم يقدروا على ذلك وتفرقوا باختلافهم هنالك (فمن معترف بما جحده) أي أنكره إما بإسلامه أو بإنصافه (ومتواقح) بالقاف والحاء أي ومن قليل حياء (يلقى) بضم الياء وكسر القاف أي يضع (على فضيحته) أي الكاشفة لعيبه التي هي ظاهرة (من كتابه يده) بالنصب على أنه مفعول يلقى وفي أصل الدلجي من كتابة يده بالإضافة والظاهر أنه تصحيف بل تحريف وهي آية الرجم سماها بالفضيحة لأنها سبب لهتك حالته قال الحلبي وقد جاء في صحيح البخاري أن عبد الله بن سلام قال له ارفع يدك يا أعور وسماه بعض الحفاظ عبد الله بن صوريا الأعور الحبر الذي تقدم ذكره وأنه اسلم بعده (ولم يؤثر) بصيغة المفعول أي ولم يرو أحد (أنّ واحدا منهم) أي من أهل الكتاب (أظهر خلاف قوله) صلى الله تعالى عليه وسلم (من كتابه) وفي نسخة من كتبه (ولا أبدى) أي ولا أظهر (صحيحا ولا سقيما من صحفه) جمع صحيفة والظاهر من تغاير المتعاطفين أن الصحيفة تطلق على الكتاب الصغير والكتاب إذا أطلق فالمراد به الكبير وإن كان معناه الأعم لا سيما حال الجمع بينهما وهذا أولى مما قاله الدلجي من أنه جمع بينهما تفننا وتزينا ومما يؤيد ما قدمناه حديث عيينة بن حصين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتب له كتابا فلما أخذه قال يا محمد أترى أني حامل إلى قومي كتابا كصحيفة المتلمس وهو شاعر معروف قدم هو وطرفة الشاعر على عمرو بن هند فنقم عليهما أمرا فكتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين يأمره بقتلهما وأعطى كلا صحيفة وقال إني كتبت لكما بجائزة فاجتازا بالحيرة فقرأ المتلمس صحيفته فإذا فيها الأمر بقتله فألقاها في الماء ومضى إلى الشام وقال لطرفة أقرأ صحيفتك وألقها فإنها كصحيفتي فأبى ومضى إلى العامل فقتله فضار مثلا (قال الله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ) اللام لام الجنس والمراد بهم اليهود والنصارى جميعهم (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) يعني محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) كنعته صلى الله تعالى عليه وسلم وآية الرجم مما في التوراة وبشارة عيسى به عليهما السلام مما في الإنجيل (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة: 15] ) أي مما يخفونه مما لا ضرورة إلى تبيينه أو عن كثير منكم لحلمه حيث لا يؤاخذه بجرمه (الآيتين) يعني قوله تَعَالَى قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فصل [هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نزاع فيها ولا مرية] (هذه الوجوه الأربعة) أي المتقدمة في فصولها السابقة (من إعجازه) أي إعجاز القرآن (بيّنة) أي واضحة ولائحة (لا نزاع فيها) أي ليس لأحد فيها منازعة (ولا مرية) أي لا شك ولا شبهة (وَمِنَ الْوُجُوهِ الْبَيِّنَةِ فِي إِعْجَازِهِ مِنْ غَيْرِ هذه الوجوه) الأربعة الواردة في حق تعجيز الأمة (آي) بهمزة ممدودة أي آيات (وردت بتعجيز قوم) أي جماعة خاصة (في قضايا) أي أحكام مختصة (وإعلامهم) بالجاي وبإخباره تعالى عنهم (أنّهم لا يفعلونها) أي كقوله تعالى وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً وأما شرح الدلجي بقوله ولن يفعلوا ففيه أن هذا من الأمور العامة لا من القضايا الخاصة (فما فعلوا ولا قدروا على ذلك) أي بل عجزوا عن المعارضة هنالك (كقوله لليهود) على ما نص عليه في سورة الجمعة بقوله قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لله الآية (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) أي الجنة وما فيها من المثوبة (عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً [البقرة: 94] ) أي لكم (مِنْ دُونِ النَّاسِ) أي باقيهم أو المؤمنين كما ادعيتم بقولكم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً (الآية) أي فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في دعواكم على وفق متمناكم لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاقها وأحب الخلاص من دار الأكدار إليها وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من الأعمال السيئة الموجبة لدخول النار المؤبدة (قال أبو إسحاق الزّجّاج) بتشديد الجيم الأولى (فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْظَمُ حُجَّةٍ وَأَظْهَرُ دَلَالَةٍ على صحّة الرّسالة لأنّه) أي الله سبحانه وتعالى (قال لهم فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [الْجُمُعَةِ: 6] وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا فلم يتمنّه واحدا منهم وعن النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقُولُهَا) أي لا يتمناه بهذه التمنية أو لا يتصور في نفسه هذه الأمنية (رجل منهم إلّا غصّ بريقه) بفتح الغين المعجمة وتشديد الصاد المهملة لا بضم أوله لأنه لازم لا يبني مفعول له ذكره الدلجي والظاهر ما ضبطه في بعض النسخ من أنه بصيغة المجهول وأن معناه شرق بريقه في حلقه بعد بلعه وفي القاموس الغصة الحزن وما اعترض من الحلق فأشرق (يعني يموت مكانه) الأظهر مات مكانه ولفظ الحديث هذا رواه البيهقي من طريق الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مرفوعا ورواه أحمد بسند جيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولفظه لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا (فصرفهم الله عن تمنّيه) أي تمنى الموت (وجزّعهم) بتشديد الزاء أي أدخل الخوف قلوبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 (ليظهر) بضم الياء وكسر الهاء أو بفتحهما أي ليبين أو يتبين (صدق رسوله) أي في دعوى رسالته (وصحّة ما أوحي إليه) بصيغة المفعول له أو الفاعل (إذ لم يتمنّه) أي الموت (أحد منهم وكانوا على تكذيبه أحرص) أي من غيرهم (لو قدروا) أي على ما أمكنهم من المكيد (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فَظَهَرَتْ بِذَلِكَ) أي بصرفهم عن تمنيهم مع كونهم على تكذيبه أحرص من غيرهم (معجزته وبانت) أي ظهرت (حجّته؛ قال أبو محمّد الأصيليّ) بفتح فكسر (من أعجب أمرهم أنّه) أي الشأن (لا يوجد منهم جماعة ولا واحد) أي منهم (من يوم أمر الله بذلك نبيّه) أي بقوله تعالى قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ إلى قوله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ (يقدم عليه) بضم الياء وكسر الدال أي على تمني الموت (ولا يجيب إليه) أي إلى تمنيه إذا قيل له تمنه (وهذا) أي امتناعهم من تمنيه (موجود) أي ثابت فيما بينهم (مشاهد) بفتح الهاء أي معلوم (لمن أراد أنّ يمتحنه منهم، وكذلك) أي مثل ما تقدم من آية التمني (آية المباهلة) بفتح الهاء من البهلة وتضم اللعنة فهي الملاعنة والدعاء باللعنة على الظالم من الفريقين وبأهل بعضهم بعضا وتباهلوا أي تلاعنوا والابتهال الاجتهاد في الدعاء واخلاصه (من هذا المعنى) أي من حيثية عدم الإجابة إلى ما دعت إليه الآية (حيث وفد) بفتح الفاء أي قدم (عليه أساقفة نجران) جمع أسقف بضم الهمزة والقاف وتشديد الفاء رئيس دين النصارى وقاضيهم ونجران بنون مفتوحة وجيم ساكنة بلدة كان فيها النصارى بين مكة واليمن على نحو سبع مراحل من مكة (وأبوا الإسلام) بفتح الهمزة والباء وضم الواو أي وامتنعوا عن قبول الإسلام والإيمان وأصروا على اعتقادهم الفاسد في حق عيسى عليه السلام (فأنزل الله تعالى عليه آية المباهلة) أي الملاعنة (بقوله: فَمَنْ حَاجَّكَ) أي جادلك وخاصمك (فِيهِ [آل عمران: 61] ) أي في عيسى عليه السلام وأنكر خلقه وزعم أنه إله يعبد (الآية) يعنيى فَقُلْ تَعالَوْا أي هلموا بالعزم والرأي نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ أي يدع كل منا نفسه وأعز أهله وألصقهم بقلبه فتقديمهم على الأنفس لمخاطرة الإنسان لنفسه لهم ومدافعته عنهم كذا ذكره الدلجي والأظهر أن المراد بأنفسنا أقرب أقاربنا كما سيأتي خروجه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الحسنين وفاطمة وراءهما وعلي وراءها فترتيبهم على مراتبهم ويؤخذ منه علو مناقبهم ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتضرع إلى رب العالمين فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ أي منا ومنكم (فامتنعوا منها) أي بعد ما دعاهم إليها (ورضوا بأداء الجزية) أي عوضا عنها (وَذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِبَ عَظِيمَهُمْ قَالَ لَهُمْ قَدْ علمتم أنّه نبيّ) أي بما جاءكم من أمر الحق من ربكم (وأنّه ما لاعن قوما نبيّ قطّ) أي أبدا (فبقي كبيرهم ولا صغيرهم) وتمام الحديث فإن أبيتم إلا الف دينكم فوادعوه وانصرفوا فأتوه وهو محتضن حسينا وآخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي وراءه وعلي وراءها وهو يقول إذا دعوت فأمنوا فقال اسقنهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا فأذعنوا له وبذلوا له الجزية كل سنة ألفي حلة وثلاثين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 درعا من حديد فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لو باهلوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله نجران حتى الطير على الشجر (ومثله) أي ومثل فمن حاجك فيه (قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: 23] ) والأظهر أن المثل هنا بمعنى النظير فإن المحاجة من القضايا الخاصة وهذه الآية من الأمور العامة (إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] فأخبرهم) أي الكفار وغيرهم (أنّهم) أي احدا منهم (لا يفعلون) أي المعارضة في الأزمنة المستقبلة (كما كان) أي كما تحقق عدم فعلهم في الأيام الماضية (وهذه الآية أدخل) أي من جهة المعجزة (في باب الإخبار عن الغيب) أي من حيث إنه سبحانه وتعالى نفى عنهم صدور ما طلب منهم تحديا في المستقبل أبدا (ولكن فيها) أي هذه الآية (من التّعجيز) أي لقريش وأمثالهم (ما في التي قبلها) أي من التعجيز لنصارى نجران بخصوصهم إذ كل منهما طلب منه الإسلام فأبوا وادعوا أنهم على الحق وكذبوا النبي المطلق فطولبوا بمصداقه فعجزوا. فصل [ومنها الروعة] (ومنها الرّوعة) بفتح الراء أي الخشية (الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ وَأَسْمَاعَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِ) أي سماعهم له على لسان تاليه (والهيبة) أي العظمة (التي تعتريهم) أي تصيبهم وتحصل لهم (عند تلاوته لقوّة حاله) أي حالته في تمام حلاوته وفي نسخة لقوة جلالته (وإنافة خطره) بفتحتين أي رفعة قدره وعظمة أمره (وهي) أي روعته أو تلاوته (على المكذّبين به أعظم) أي أصعب منها على المصدقين به (حتّى كانوا) أي المكذبون (يستثقلون سماعه ويزيدهم نفورا) أي هربا من استماعه (كما قال الله تعالى) أي فيما أخبر عنهم وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (ويودّون انقطاعه) أي تلاوته (لكراهتهم له) أي كما قال الله تعالى وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (ولهذا) أي ولما ذكر من ودادهم انقطاعه وكراهتهم تلاوته واستماعه (قال عليه الصلاة والسلام) أي كما رواه الديلمي وغيره عن الحكم بن عمير مرفوعا (إنّ القرآن) وفي نسخة صحيحة أن هذا القرآن (صعب) أي شديد (مستصعب) بكسر العين وتفتح وهو تأكيد (على من كرهه) وفي أصل الدلجي يكرهه (وهو) أي القرآن (الحكم) بفتحتين أي الحاكم بين الحق والباطل والفاصل بين البر والفاجر المبين لكل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر المميز بين السعيد والشقي بالثواب والعقاب، (وأمّا المؤمن) أي به كما في نسخة (فلا تزال روعته به) أي روعة القرآن بالمؤمن (وهيبته إيّاه مع تلاوته توليه) بضم التاء وسكون الواو أي تعطيه (انجذابا) وفي نسخة انجباذا أي اقبالا عليه (وتكسبه هشاشة) بفتح الهاء أي ارتياحا واستبشارا وفرحا وخفة (لميل قلبه إليه وتصديقه به) أي بما لديه (قال الله تَعَالَى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي ترتعد وتنقبض مما فيه من الوعيد بالعقوبة (ثُمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزُّمَرِ: 23] ) أي تسكن وتطمئن إلى ما فيه من ذكر الوعد بالرحمة والمغفرة (وقال) أي الله سبحانه وتعالى (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الْحَشْرِ: 21] الآية) أي لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي متشققا ومتقطعا من هيبته (ويدلّ على أنّ هذا) أي ما يغشي قلوب سامعيه وأسماعهم عند تلاوة تاليه (شيء خصّ) أي القرآن (به) أي دون سائر كتب الله تعالى وصحفه (أنّه) بدل من هذا أو تقديره وهو أنه (يعتري) أي يصيب (مَنْ لَا يَفْهَمُ مَعَانِيهِ وَلَا يَعْلَمُ تَفَاسِيرَهُ) أي المتعلقة بجمل مبانيه كما هو مشاهد في كثير من العوام أنه يحصل لهم هذا المقام من وصول المرام بل وقد يحصل لمن لم يكن مؤمنا به (كما روي عن نصرانيّ أنّه مرّ بقارىء) أي بمن يتلو القرآن (فوقف يبكي فقيل له لم) أو مم (بكيت) وفي نسخة مم تبكي (فقال للشّجى) بفتح معجمة فسكون جيم وفي بعض النسخ بفتحتين مقصورا وهو الظاهر أي للحزن الذي أصابه من استماعه فرق فلبه وخشع بدنه أو للطرب الذي حصل له من أثر كلام الرب (والنّظم) أي لما جمع بين المعاني الدقيقة البيان وبين الفصاحة والبلاغة في ميدان التبيان (وَهَذِهِ الرَّوْعَةُ قَدِ اعْتَرَتْ جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِسْلَامِ وبعده) أي في قليل من الأيام (فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ لَهَا لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ وَآمَنَ به ومنهم من كفر) أي استمر على كفره أو كفر حينئذ ثم رجع بعده إلى ربه ولعله تعالى اشار إلى هذا المعنى في قوله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي اشتدت أو اسودت، (فحكي في الصّحيح) بل روي في الصحيحين (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطّور) أي بسورة الطور (فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي من غير موجد ومحدث وخالق فلا يعبدونه (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي أنفسهم (إلى قوله: الْمُصَيْطِرُونَ [الطور: 35- 37] ) يعني قوله تعالى أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ في قولهم هو الله إذا سئلوا من خلق السموات والأرض إذ لو أيقنوا في خالقيته لما أعرضوا عن عبوديته قضاء لحق ربوبيته أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أي حتى يعطوا النبوة من شاؤوا أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي الغالبون على الاشياء يدبرونها كيف أرادوا وأم في المواضع الثلاثة منقطعة بمعنى بل والهمزة لإنكار القضية (كاد قلبي أن يطير) أي فزعا بما اعتراه من الروعة والهيبة أو فرحا لما حصل له من شرح الصدر وسعة القلب في معرفة الرب ويؤيده قوله (للإسلام: وفي رواية أخرى) أي عنه (وذلك أوّل ما وقر الإيمان) أي تمكن وتثبت واستقر (قلبي) وفي نسخة الإسلام بدل الإيمان. (وعن عتبة) بضم فسكون (ابن ربيعة) أي ابن عبد شمس بن عبد مناف قتل كافرا بالله في بدر والحديث رواه البغوي في تفسيره (أنّه كلّم النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ خِلَافِ قومه) أي مما لم يوافق اعتقاداتهم الباطلة وضلالاتهم العاطلة (فتلا عليهم حم كِتابٌ فُصِّلَتْ إلى قوله أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] ) أي قوم هود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 وصالح (فأمسك عتبة بيده على فيه) أي فم النبي عليه الصلاة والسلام كما في نسخة (وناشده الرّحم) أي أقسم وسأله بالقرابة التي بينهم (أن يكفّ) أي يمسك عن تلاوته ويقف في قراءته (وفي رواية) لابن إسحاق في سيرته عن محمد بن كعب القرظي (فجعل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ وعتبة مصغ) أي مستمع إليه (ملق بيديه) وفي نسخة يديه أي مرسل لهما (خلف ظهره معتمد عليهما) أي مستندا إليهما (حتّى انتهى) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إلى السّجدة) أي آيتها ونهايتها (فسجد النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ومن معه لله سبحانه وتعالى (وقام عتبة لا يدري بم يراجعه) أي يحاوره ويرادده (وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى قَوْمِهِ حتّى أتوه) أي جاؤوا إليه وعاتبوا عليه بما جرى لديه (فاعتذر لهم) أي عن انقطاعه عنهم وعدم خروجه إليهم (وقال والله لقد كلّمني) أي محمد عليه الصلاة والسلام (بِكَلَامٍ وَاللَّهِ مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ بِمِثْلِهِ قَطُّ) أي لجزالة مبانيه وفخامة معانيه (فما دريت) أي ما علمت (ما أقول له) أي شيئا مما يناقضه وينافيه، (وقد حكي عن غير واحد) أي عن كثيرين (ممّا رام معارضته) أي قصد مناقضته (أنّه اعترته روعة وهيبة) أي اصابته فزعة وخشية (كفّ) أي منع نفسه وامتنع (بها) أي بتلك الروعة المقرونة بالهيبة (عن ذلك) أي عما قصده من محاولة المجادلة (فحكي أنّ ابن المقفّع) بضم الميم وفتح القاف وتشديد الفاء المفتوحة أو المكسورة فعين مهملة (طلب ذلك ورامه) أي قصده (وشرع فيه) أي فيما بدا له على ظن أن كلامه يفيد مرامه من المعارضة لما في القرآن من فنون البلاغة وفنون الفصاحة التي صار بها معجزة (فمرّ بصبيّ يقرأ وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هود: 44] الآية فرجع) أي قبل أن يسمع بقية الآية (فمحا) أي مسح وغسل (ما عمل) أي على منوال القرآن ظنا منه أن مهملاته تصلح كونها معارضا في مقام مناقضاته ومرام مجادلاته (وَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارَضُ وَمَا هو من كلام البشر) أي حتى يناقض (وكان) أي ابن المقفع (من أفصح أهل وقته) أي في دقة فهمه وحدة فطنته (وكان) أي ابن المقفع (من أفصح أهل وقته) أي في دقة فهمه وحدة فطنته (وكان يحيى بن حكم) بفتح الحاء المهملة والكاف وفي المشتبه للذهبي ابن حكيم زيادة ياء (الغزال) بتشديد الزاء وذكره الذهبي في قسم المخفف من المشتبه واختاره الشمني (بليغ الأندلس) بفتح الهمزة والدال وقيل بضمهما إقليم بالمغرب وضم اللام متفق عليه (في زمنه فحكي) بصيغة المجهول (أنّه رام) أي أراد (شيئا من هذا) أي الذي ذكر من المعارضة (فَنَظَرَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِيَحْذُوَ عَلَى مِثَالِهَا) أي ليأتي على أسلوبها (وينسج) بكسر السين وضمها (بزعمه) بضم الزاء وفتحها أي وينظم الكلام ويسرد المرام بمقتضى ظنه وبموجب وهمه (على منوالها قال) أي يحيى المذكور (فاعترتني منه خشية ورقّة) أي أصابتني هيبة ولينة (حملتني على التّوبة) أي عن تلك الإرادة هي أقبح المعصية (والإبانة) أي وعلى الرجوع إلى الله تعالى والإقبال عليه في طلب العفو والمغفرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 فصل [وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لا تعدم ما دامت الدنيا] (ومن وجوه إعجازه المعدودة) أي عند علماء الأعيان (كونه آية باقية) أي على صفحات الزمان متلوة في كل مكان (لا تعدم ما بقيت الدّنيا) أي لا تفقد مدة ما أراد الله تعالى بقاء الدنيا وأهلها في خير وعافية (مع تكفّل الله تعالى بحفظه) أي من النقصان والزيادة (فقال) أي الله سبحانه وتعالى ردا لإنكارهم واستهزائهم في يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ) أي بحملنا القرآن على حفظه ولذا ورد أهل القرآن أهل الله وخاصته (وَقَالَ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] ) أي لا يجد إليه سبيلا ليتعلق به (الآية) يعني تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (وسائر معجزات الأنبياء عليهم السلام) أي حتى سائر معجزات نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (انقضت بانقضاء أوقاتها) أي مضت بانقطاع ساعاتها (فلم يبق) وفي نسخة ولم يبق (إلّا خبرها) أي عند أرباب أثرها (والقرآن العزيز) أي البديع المنيع (الباهرة آياته الظّاهرة معجزاته) أي اللائحة مبانيه واللامعة معانيه (على ما كان عليه) أي في أول مباديه (اليوم) بالنصب أي إلى يومنا هذا (مدّة خمسمائة عام وخمس وثلاثين سنة) وفي نسخة وسبع عطف بيان وقال الدلجي اليوم خبر المبتدأ أعني القرآن وما بينهما صفات له هذا وفي نسخة منذ خمسمائة عام الخ وهذا تاريخ زمن المصنف رحمه الله تعالى ولذا قال (لأوّل نزوله إلى وقتنا هذا) ونقول وكذا مدة ألف وزيادة عشر إلى زماننا هذا (حجّته قاهرة) أي بينته غالبة وفي نسخة ظاهرة أي مبينة (ومعارضته ممتنعة والأعصار) أي أهلها من أرباب القرى وأصحاب الأمصار (كلّها طافحة) أي مملوءة وفائضة (بأهل البيان) أي في الفصاحة (وحملة علم اللّسان) أي اللغة (وأئمّة البلاغة وفرسان الكلام) أي في ميدان المرام (وجهابذة البراعة) أي المهرة في تقدم الصناعة وهو بفتح الجيم وكسر الموحدة جمع الجهبذ والبراعة مصدر برع إذا فاق، (والملحد) أي والحال أن المائل عن الحق إلى الباطل (فيهم كثير والمعادي للشّرع عتيد) أي المخالف والمناوي لهم حاضر مهيأ في مقام النكير وفي نسخة عنيد بالنون أي معاند شرير (فما منهم من أتى بشيء يؤثر) أي يروى (في معارضته ولا ألّف كلمتين) أي ولا ركبهما وألف بينهما (فِي مُنَاقَضَتِهِ وَلَا قَدَرَ فِيهِ عَلَى مَطْعَنٍ صحيح) أي لم يجد في القرآن محلا يتعلق به طعن صحيح أو عيب صريح (وَلَا قَدَحَ الْمُتَكَلِّفُ مِنْ ذِهْنِهِ فِي ذَلِكَ) أي في طعنه (إلّا بزند شحيح) أي بإخراج النار عند وريه فلم يور بقدحه وتحقيقه أن الزند بفتح الزاء وسكون النون قد يراد به موصل طرف الذراع في الكف وقد يطلق على العود الذي يقدح به النار وهو الأعلى والزندة بالهاء هي السفلى وهو في المدن قطعة حديد تضرب بحجر صلد والظاهر أن القاضي قصد معنيي الزند ووصف كلا منهما بالشحيح أما العضو فشحه أن لا يخرج درهما أو دينارا وأما زند النار فشحه كونه لا يخرج نارا وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 الجمع بينهما إشارة إلى غاية القلة (بل المأثور) أي المروي والمحكي (عن كلّ من رام ذلك) أي قصد الطعن فيه (إِلْقَاؤُهُ فِي الْعَجْزِ بِيَدَيْهِ وَالنُّكُوصُ عَلَى عَقِبَيْهِ) أي التأخر في الرجوع بالقهقرى أي إلى الورى. فصل [وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ في إعجازه وجوها كثيرة] (وقد عدّ جماعة من الأئمّة) وهم علماء السلف (ومقلّدي الأمّة) بفتح اللام وهم فضلاء الخلف (فِي إِعْجَازِهِ وُجُوهًا كَثِيرَةً. مِنْهَا أَنَّ قَارِئَهُ لا يملّه) بفتح الميم وتشديد اللام أي لا يسأمه (وسامعه لا يمجّه) بضم الميم وتشديد الجيم أي لا يدفعه (بل الإكباب) أي الإقبال والآداب (على تلاوته يزيده حلاوة) أي لذة (وترديده) أي تكراره (يوجب له محبّة) أي يقتضي زيادة مودة فقد ورد من أحب شيئا أكثر ذكره (لا يزال غضّا طريّا) أي لا تزول طراوته وطلاوته (وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ وَلَوْ بَلَغَ فِي الْحُسْنِ والبلاغة مبلغه) أي تمام نظام المرام (يملّ مع التّرديد) أي في السمع (ويعادى) بفتح الدال أي ويكره في الطبع (إذا أعيد) لقولهم المعادات معاداة ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم فضل كلام الله على غيره كفضل الله على خلقه (وكتابنا) أي الذي فيه خطابنا وعتابنا وثوابنا وعقابنا (يستلذّ به في الخلوات ويؤنس) بالهمز ويسهل وبالنون مخففا ومشددا أي ويستأنس (بتلاوته فهي الأزمات) بفتح الهمز والزاء جمع أزمة بفتح فسكون وهي الشدة أي في أوقات الآفات (وسواه من الكتب) أي المؤلفات المصنوعة والمركبات الموضوعة (لا يوجد فيها ذلك) أي ما ذكر من اللذة والأنسة المطبوعة (حتّى أحدث أصحابها لها لحونا وطرقا يستجلبون بتلك اللّحون تنشيطهم) أي تنشيط أنفسهم وغيرهم (على قراءتها ولهذا) أي لما اختص به القرآن من حسن البيان المستغنى عن الإتيان بأنواع الألحان (وصف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن بأنّه لا يخلق) كما رواه الترمذي وغيره عن علي كرم الله وجهه مرفوعا القرآن لا يخلق وهو بفتح الباء وضم اللام لا فتحها كما في نسخة نقلها الحلبي وتبعه الحجازي أو بضم ياء وكسر لام أي لا يبلى (على كثرة الرّدّ) أي مع كثرة ترديده وتكريره (ولا تنقضي عبره) بكسر ففتح جمع عبرة أي لا تنتهي مواعظه المعتبرة (ولا تفنى عجائبه) أي لا تنفد عجائب مبانيه وغرائب معانيه، (وهو الفصل) أي البالغ في الفرق بين الحق والباطل (ليس بالهزل) أي أمره جد كله (لا يشبع منه العلماء) أي تدبرا وتبصرا وعبارة وإشارة (ولا تزيغ) أي ولا تميل (به الأهواء) عن طريق السواء (ولا تلتبس به الألسنة) أي ولا تشتبه به اللغات المختلفة المتناقضة (هو الذي لم تنته الجنّ) أي طائفة من جن نصبيين وفي صحيح مسلم أنهم كانوا من الجزيرة ولا منع من الجمع (حين سمعته أن قالوا) أي لم يتوقفوا عن قولهم لبعضهم أو لقولهم حين رجوعهم إليهم، (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الجن: 1] ) أي مقروءا عجيبا من جهة جزالة مبانية ومدلولا غريبا من فخامة معانيه بديعا في بلاغته ومنيعا في فصاحته (يهدي إلى الرشد) أي صوب الصواب أو إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 طريق الثواب والعقاب هذا وذكر أبو علي الغساني في مناقب عمر بن عبد العزيز قال بينما عمر يمشي بأرض فلاة فإذا هو بجثة ميتة فكفنها بفضل ردائه ودفنها وإذا قائل يقول يا سرق أشهد بالله لقد سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول لك ستموت بأرض فلاة ويدفنك رجل صالح فقال من أنت يرحمك الله تعالى فقال رجل من الجن الذين سمعوا القرآن من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يبق منهم إلا أنا وسرق هذا سرق قدمات (ومنها جمعه لعلوم) أي كلية (ومعارف) أي جئية (لَمْ تَعْهَدِ الْعَرَبُ عَامَّةً وَلَا مُحَمَّدٌ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم قبل نبوّته خاصّة بمعرفتها) أي بعلم شيء منها (ولا القيّام بها) أي الدوام والثبات عليها (وَلَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَمِ) أي من أحبار اليهود والنصارى وغيرهم (ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم) أي من السماوية وغيرها (فجمع) بصيغة المجهول أي فجمع الله (فيه من بيان علم الشّرائع) أي أصولها وفروعها من النقليات (والتّنبيه) أي في اثناء التعبيرات (على طرق الحجج) أي أنواع الدلالات (العقليّات) وفي نسخة العقلية (والرّدّ على فرق الأمم) أي من أرباب الضلالات (ببراهين قويّة) أي قاهرة (وأدلّة بيّنة) ظاهرة (سهلة الألفاظ) أي المباني (موجزة المقاصد) بصيغة المجهول مختصره المعاني (رام المتحذلقون) بالحاء المهملة والذال المعجمة من الحذق زيدت فيه اللام للمبالغة والتاء المطالبة أي قصد المبالغون في الحذاقة إذا أظهروا المهارة في مقام الفصاحة والبلاغة (بعد) أي بعد ورودها في عالم وجودها (أن ينصبوا أدلّة مثلها) أي مشابهتها في الجملة (فلم يقدروا عليها) أي على أن يقربوا إليها وأني لهم المقدرة على مقاومة المعجزة (كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي مع كبرهما وسعة قدرهما (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي مع صغر جرمهم (بَلى [يس: 81] ) جواب من الله إيماء إلى أن لا جواب سواه أي بلى قادر على خلقهم ابتداء وإيجادهم انتهاء وهو الخلاق العليم يعني إلا يعلم من خلق (وقُلْ) أي وكقوله سبحانه وتعالى (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس: 79] ) أي لبقاء قدرته وقف إرادته وقابلية المادة على حالته وهو بكل خلق عليم أي بأعضائه وأجزائه (ولَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ) أي غيره (لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ) أي لخرجتا عن نظامهما واختلتا عن مرامهما لوجود التمانع المانع من إتمامهما (إلى ما حواه) أي منضما إلى ما جمعه القرآن أو مع ما اشتمله الفرقان (من علوم السّير) بكسر ففتح جمع سيرة أي المفهومة من أخبار الأنبياء والأصفياء، (وأنباء الأمم) أي أحوالهم الأعم من الأحياء والاعداء (والمواعظ) أي بالترغيب في ولائه والترهيب عن بلائه (والحكم) بكسر ففتح أي الكلمات المرشدة إلى تكميل النفوس الإنسانية باقتباس العلوم الربانية كقوله تعالى حكاية عن لقمان يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (وإخباره الدّار الآخرة) أي من النعيم المقيم والجحيم الأليم (ومحاسن الآداب والشّيم) بكسر ففتح أي الأخلاق في جميع الأبواب (مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 تقدم ذكره) أي بيانه بقوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية (قال الله جلّ اسمه) أي عظم اسمه ومسماه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ أي القرآن الجامع للفصول والأبواب (مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ) يحتاج إليه أرباب الألباب (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْلِ: 89] ) أي مما يحتاج إليه من أمر الدين (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: 58] ) أي بيّنا لهم فيه بعض الأمثال الحكمية ليقتبسوا المعاني الحقيقة من صور المباني الحسية (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: إنّ الله أنزل عليه الصلاة والسلام) أي كما رواه الترمذي عن علي وتقدم بعضه وأورده هنا بتغيير بعض لفظه وبزيادة في صدره (أن الله أنزل هذا القرآن آمرا) أي بكل معروف واجبا كان أو ندبا (وزاجرا) أي ناهيا عن كل منكر حراما كان أو مكروها (وسنّة خالية) أي طريقة متبعة ماضية (ومثلا مضروبا) أي مبينا ومعينا في الألسنة الجارية (فيه نبؤكم) أي الخبر المتعلق بكم (وخبر ما كان قبلكم) أي من الأمم السالفة (ونبأ ما بعدكم) أي مما يكون إلى يوم القيامة (وحكم ما بينكم) بفتح الحاء والكاف أي والحكم الذي تحتاجون إليه فيما بينكم مما لكم وعليكم (لا يخلقه) بضم الياء وكسر اللام أي لا يبليه (طول الرّدّ) أي كثرة تكراره وترديد أخباره (ولا تنقضي عجائبه) أي لا تنتهي غرائبه، (هو الحقّ) أي الحكم العدل (ليس بالهزل) بل هو الجد في بيان الفصل (من قال به صدق) أي في قوله (ومن حكم به عدل) أي في حكمه (ومن خاصم به فلج) بفتح الفاء واللام والجيم أي غلب على مرغوبه وظفر بمطلوبه (ومن قسم به) بتخفيف السين ويجوز تشديده أي عين قسط كل واحد ونصيبه في حكم متعلق به (أقسط) أي عدل في أمره وأصاب في حكمه يقال أقسط فهو مقسط إذا عدل ومنه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وقسط فهو قاسط إذا جار ومنه قوله تعالى أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً فهمزة أقسط للسلب كما في شكا إليه فأشكاه أي أزال شكواه (ومن عمل به أجر) بصيغة المفعول أي أثيب على عمله من عند ربه وفضله (ومن تمسّك به) أي تشبث علما وتعلق عملا (هدي) بصيغة المجهول أي هداه الله فاهتدى (إلى صراط مستقيم) أي مذهب قويم ودين كريم (ومن طلب الهدى من غيره) أي من غير بابه (أضلّه الله) أي أعماه بحجابه (ومن حكم بغيره) أي عدولا عن حكمه وأمره (قصعه الله) أي كسره وأهلكه وفي الحديث استغنوا عن الناس ولو بقصعمة السواك وهي بالكسر ما انكسر منه بإبانة وفي رواية ولو بشوص السواك على ما رواه البزار والطبراني والبيهقي عن ابن عباس وفي النهاية شوص السواك غسالته وقيل ما يتفتت منه عند تسوكه، (هو الذّكر الحكيم) أي المشتمل على الحكم والاحكام والحاكم على وجه الإتقان والإحكام (والنّور المبين) أي الظاهر والمظهر لليقين (والصّراط المستقيم) أي ذو الاستقامة المنتهي إلى الفوز بالسعادة والكرامة معاشا ومعادا (وحبل الله المتين) من المتانة وهي القوة أي عهده المحكم الذي لا ينقطع وسبب وصول وعده الذي لا يمتنع وقال ابن الأثير حبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 الله نور هداه وقيل عهده وأمانه الذي يؤمن من العذاب والحبل للعهد والميثاق انتهى (والشّفاء النّافع) أي لكل داء وبلاء؛ (عصمة لمن تمسّك به) أي معتصم وثيق لمن تشبث به وتعلق بذيله وفيه وفيما قبله اقتباس من قوله وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ (ونجاة لمن اتّبعه) بتشديد التاء أي تبعه علما وعملا، (لا يعوجّ) بتشديد الجيم (فيقوّم) بفتح الواو المشددة ونصب الميم أي لا يميل عن صوب الاستقامة فيحتاج إلى تقويم العدالة (ولا يزيغ) أي ولا يميل عن منهج الحق (فيستعتب) أي فيحتاج إلى العتب في عدوله عن نهج الصدق (ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق) بالوجهين (على كثرة الرّدّ) أي الترداد والتكثار في العد. (ونحوه) أي نحو هذا الحديث في المعنى مع اختلاف في المبنى (عن ابن مسعود) كما رواه الحاكم عنه مرفوعا (وقال) أي ابن مسعود (فيه) أي في مرويه (ولا يختلف) بالفاء أي ليس محلا للاختلاف بل وقع مبناه ومعناه على وجه الائتلاف والمعنى ما وجد فيه أحد تخالفا يسيرا ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وفي نسخة بالقاف فهو بمعنى لا يخلق على كثرة الرد كما سبق (ولا يتشانّ) بتشديد النون بعد الألف مأخوذ من الشن كما صرح به الهروي وابن الأثير في هذا الحديث وقال اليمني هو الصواب وهو الجلد اليابس البالي أي لا تذهب طلاوته ولا تبلى طراوته حين تكثر تلاوته وترداد قراءته لما أودع فيه من بدائع الكمال وروائع الجمال وفي نسخة صحيحة ولا يتشانأ بنون مخففة بعدها همزة من الشنئان ولكن ينبغي أن يضبط بصيغة المجهول وأما ما ذكره الحلبي من أنه بفتح أوله ثم مثناة فوقيه مفتوحة ثم شين معجمة ثم ألف ثم نون همزة ممدودة ونسبه إلى النسخة التي وقف عليها فلا يصح بوجه أي لا يتباغض ولا يكره ولا يمل، (فيه نبأ الأوّلين والآخرين) أي بما وقع لهم في الدنيا وبما سيقع لهم في العقبى. (وفي الحديث) أي القدسي من رواية ابن أبي شيبة مرسلا لكن بلفظ أنزلت على محمد توراة محدثة فيها نور الحكمة وينابيع العلم ليفتح بها أعينا عميا وقلوبا غلفا وآذانا صما وروى ابن الضرير في فضائل القرآن عن كعب أنه قال في التوراة (قال الله تعالى لمحمّد إني منزل عليك) بالتخفيف والتشديد أي ملق إليك (توراة) أي كتابا كالتوراة أو ما جمع مضمون ما في التوراة (حديثة) أي جديدة الإنزال أي قريبة العهد من الملك المتعال (تفتح بها أعينا عميا) أي عن سنن الحق (وآذانا صمّا) أي عن استماع الصدق (وقلوبا غلفا) أي ممنوعة عن طريق الوفق وممتنعة عن وصول الرفق (فيها ينابيع العلم) أي هي منابع العلوم الكثيرة والمعارف الغزيرة (وفهم الحكمة) أي وفيها معرفة الحكم الربانية والأحكام المحكمة الصمدانية (وربيع القلوب) أي وفيها من الأنوار والأسرار نظير ما يشتمل عليه فصل الربيع من أزهار أثمار الأشجار بواسطة الأمطار (وعن كعب) أي كعب الأحبار ويقال كعب الحبر (عليكم بالقرآن) أي خذوا بمبانيه والزموا بمعانيه (فإنّه فهم العقول) أي غاية فهوم عقول الفحول (ونور الحكمة) أي لعين البصر والبصيرة ونظر العبرة (وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي اليهود والنصارى (أَكْثَرَ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل: 76] ) أي كلهم فيما بينهم أو كل صنف منهم من التشبيه والتنزيه وعزيز وعيسى وما فيه من أنواع التنبيه (وقال هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ أي لأحوالهم وأحكامهم وآمالهم في مآلهم (وَهُدىً [آل عمران: 138] ) لما فيه كمالهم (الآية) أي وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ أي نصائح في أعمالهم بها جمالهم وخص المتقين لكونهم المنتفعين، (فجمع فيه) بصيغة المجهول أي فجمع الله في كلامه ما أراد من مرامه (مع وجازة ألفاظه) بفتح الواو أي مع اختصار مبانيه (وجوامع كلمه) أي باعتبار إكثار معانيه (أضعاف ما في الكتب) أي الكتب المنزلة على الأنبياء (قبله التي ألفاظها على الضّعف) بالكسر أي التزايد (منه) أي من القرآن (مرّات) لاشتمالها على الإطناب الموجب لتكثير كلمات واحتواء القرآن على إيجاز بحسب البلاغة والفصاحة موجب إعجاز. (ومنها جمعه فيه) أي جمع الله سبحانه وتعالى في كلامه عز شأنه (بين الدّليل ومدلوله) أي برهانه وتبيانه (وذلك) أي وسبب ذلك الجمع في معرض البيان (أنّه احتجّ بنظم القرآن) أي بإدخال جواهر معانيه في سلك مبانيه (وحسن وصفه) أي وبحسن وصفه حيث صبغ حلي كلماته في قوالب مقاماته وفي نسخة رصفه بالراء بدل الواو أي تركيبه وصفه من تهذيبه (وإيجازه) أي بإتيان معان كثيرة في مبان يسيرة وفي أصل الدلجي وإعجازه أي كل منطيق فصيح (وبلاغته) أي بإتيان معان كثيرة في مبان يسيرة وفي أصل الدلجي وإعجازه أي كل منطيق فصيح (وبلاغته) أي الرائعة المنضمة إلى فصاحته البارعة (وأثناء هذه البلاغة) أي في خلالها (أمره ونهيه ووعده ووعيده فالتّالي له) أي ممن يدرك معانيه (يفهم موضع الحجّة والتّكليف) باعتبار مبانيه (معا) أي مجتمعين في بيان علومه (من كلام واحد) أي باعتبار منطوقه ومفهومه (وسورة منفردة) أي باعتبار عبارتها وإشارتها فيفهم مثلا من قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ تحريم غير الألف بالأولى وأن الكف عنه أقوى ومن قوله فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر أنه حجة لوجوب صلاة العيد والأضحية وأنه مكلف بهما في القضية. (ومنها أن جعله) أي الله سبحانه (في حيز المنظوم) بفتح الحاء وتشديد التحتية المكسورة أي في مقامه (الذي لم يعهد) أي لم يعرف مثله ولم يسبق قوله يجعله ذا قرائن لها فواصل معلومة القوافي كقوافي الأبيات المنظومة (ولم يكن في حيّز المنثور) أي المتفرق الخارج عن هيئة المنظوم (لأنّ المنظوم أسهل) أي من المنثور (على النّفوس) أي في درك مبانيه (وأوعى للقلوب) أي وأحفظ لها في أخذ معانيه (وأسمح) بالحاء المهملة أفعل تفضيل من السماح وهو بمعنى الجود والكرم والمسامحة هي المساهلة وتسامحوا تساهلوا ومنه حديث السماح رباح أي أسهل قبولا وأقرب وصولا (إلى الآذان) بعد الهمزة جمع الأذن والمراد بها الاسماع وأغرب الدلجي في قوله اسمح بحاء مهملة من الاسماح لغة في السماح انتهى ووجه غرابته لا يخفى وقال الحلبي بالحاء المهملة من سمح العود إذا لان انتهى وهو تكلف مستغنى عنه مع أن صاحب القاموس استاذه ذكر أسمحت الدابة لانت بعد استصعاب وعود سمح لا عقدة فيه انتهى وكلاهما لا يلائم المقام كما لا يخفى على طباع الكرام هذا وقدم الحلبي على هذا قوله اسمخ هو من سماخ الأذن أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 أسرع استقرارا في سماخ الأذن انتهى ويؤيده أنه في نسخة اسمع بالعين المهملة (وأحلى على الأفهام) لاشتمال ما فيه من التلاوة على أنواع من الحلاوة مع زيادة الطراوة والطلاوة (فالنّاس إليه أميل والأهواء إليه أسرع) أي وأقبل والحاصل أن منهجه ليس على طريق الشعراء في نظمهم وقوافيهم ولا على طريق الخطباء في التزام سجعهم في أواخر مبانيهم بلا كلام بديع منيع يباين كلام غيره سبحانه وتعالى معظمة شأنه وسلطنة برهانه. (ومنها تيسيره) أي تسهيله (تعالى حفظه لمتعلّميه) أي طالبي تعلمه نظرا (وتقريبه) أي تهوينه (على متحفّظيه) أي طالبي حفظه غيبا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر: 22] ) تمام الآية فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كما في نسخة أي من متعظ وأصله مذتكر (وسائر الأمم) أي وبواقيها (لا يحفظ كتبها الواحد) أي كل ما يطلق عليه اسم الواحد (منهم) فاللام للعهد الذهني الذي هو في المعنى نكرة وهي في سياق النفي تفيد العموم وحينئذ يناسب قوله (فكيف الجمّاء) وفي نسخة الجم أي فيستبعد أن يحفظه الجم الغفير والجمع الكثير (على مرور السّنين عليهم) وفي نسخة الأعوام جمع عام بمعنى سنة (والقرآن) أي بحمد الله والمنة (ميسّر) وفي نسخة متيسر (حفظه للغلمان) بكسر الغين جمع غلام أي الأولاد الصغار (في أقرب مدّة) أي كسنة أو أقل أو أكثر بحث مراتب جودة الذهن والفطنة والفطرة. (ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضا) أي مشابهته في تناسب مبانيه وتجاذب معانيه (وحسن ائتلاف أنواعها) أي أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا وقصة وموعظة (والتئام أقسامها) أي توافقها في سلامة التركيب وسلاسة الترتيب (وحسن التّخلّص) أي الانتقال (مِنْ قِصَّةٍ إِلَى أُخْرَى وَالْخُرُوجِ مِنْ بَابٍ إلى غيره على اختلاف معانيه) أي المأخوذة من تفاوت مبانيه (وَانْقِسَامُ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ واستخبار ووعد ووعيد وإثبات نبوّة) أقول وقد اجتمعت هذه الوجوه في آية وهي قوله تعالى قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ مع زيادة الاعتذار بقوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ مع التنبيه لهم في صدر الآية بالنداء وتنزيل النمل منزلة العقلاء وغير ذلك من الإشارات والإيماء (وتوحيد) أي في الذات (وتفريد) أي في الصفات (وترغيب) أي إلى الطاعة بالمثوبة (وترهيب) أي من المعصية بالعقوبة (إلى غير ذلك من فوائده) أي منضمة إلى ما عدا ذلك من منافعه وعوائده مما يلتقط من مساقط موائده كضرب مثال وبيان حال وإشعار إيثار يوجب للسالك وصوله (دون خلل يتخلّل فصوله) أي أنواع أبواب مما يقتضي حصوله وأبعد الدلجي في جعل الفصل بمعنى الفاصلة؛ (والكلام الفصيح) كان الأظهر أن يقول إذ الكلام أو لأن الكلام الصحيح ولو كان على المنهج الصحيح والغرض الصريح (إذا اعتوره) أي تداوله وفي أصل الدلجي إذا اعتراه أي غشيه والم به (مثل هذا) أي الذي يتخلل الفصول وهو في الحقيقة بمعنى الفضول (ضعفت قوّته) أي نزلت مرتبته في فن البلاغة (ولانت جزالته) أي وهانت منزلته عن درجة عظمة الفصاحة (وقلّ رونقه) أي حسنه وبهجته في تأديته الحلاوة (وتقلقلت ألفاظه) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 اضطربت مبانيها واختلفت معانيها وفي نسخة تقلقت بلام واحدة مشددة أي صارت قلقة في المبنى وغلقة في المعنى (فتأمّل) أي في بيان المراد (أوّل ص) أي سورتها حيث صدرها بقوله ص أي يا صادق وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أي صاحب العز والشرف للموافق (وما جمع فيها من أخبار الكفّار وشفاقهم) وخلافهم مع سيد الأبرار بقوله تعالى حكاية عنهم بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ أي استكبار عن الحق واستدبار عن الصدق (وتقريعهم) أي ومن توبيخهم وتخويفهم (بإهلاك القرون من قبلهم) بقوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ) صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم (وتعجّبهم ممّا أتى به) أي حيث قال تعالى وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (والخبر عن اجتماع ملئهم) وفي نسخة عن إجماع ملئهم (على الكفر) وذلك لما روي أن عمر رضي الله تعالى عنه لما اسلم شق ذلك على قريش فقال أشرافهم لأبي طالب أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء فاقض بيننا وبين ابن أخيك فقال هل هؤلاء قومك يسألونك القصد فلا تمل عليهم كل الميل فقال ما تسألونني قالوا ارفضنا وآلهتنا ونرفضك وإلهك فقال أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعط أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم قالوا نعم وعشرا قال قولوا لا إله إلا الله فقالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي في غاية من العجب (وما ظهر من الحسد في كلامهم) أي من قوله تعالى حكاية عن مرامهم أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا (وتعجيزهم) أي بقوله تعالى فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (وتوهينهم) أي وتحقيرهم بقوله سبحانه وتعالى جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (ووعيدهم بخزي الدّنيا) وفي نسخة بخزي في الدنيا أي بهزيمتهم فيها (والآخرة) أي بذوق أليم عذابها (وتكذيب الأمم قبلهم) أي أنبياءهم ورسلهم (وإهلاك الله لهم) أي للمكذبين منهم بقوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (ووعيد هؤلاء) يعني قريشا واضرابهم (مثل مصابهم) بقوله تعالى وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (وتصبير النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حمله على الصبر (على أذاهم) أي الذي من جملته ما بلغوا في تكذيبهم له وقالوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ فسلاه بقوله تعالى اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي لا تبال بقولهم ولا تكترث بفعلهم وكن معنا مشاهدا لنا في آياتنا وقدرتنا على كائناتنا (وتسليته) أي الشاملة (بكلّ ما تقدّم ذكره) أي بيانه عنهم (ثمّ أخذ) أي شرع بعد تسليته (في ذكر داود) أي بقوله تعالى وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي كثير الرجوع إلى أبواب رب الأرباب فأنت كذلك لازم الباب ولا تلتفت إلى ما صدر من أرباب الحجاب وأما ما ذكره الدلجي هنا فمما لا يصلح أن يفسر به فصل الخطاب ولذا أعرضت عن ذكره في الكتاب والله تعالى أعلم بالصواب (وقصص الأنبياء) أي حكاياتهم كسليمان وأيوب وإبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 وإسحاق ويعقوب وغيرهم عليهم السلام مع ما اشتمل عليه من عظيم الثناء وكريم العطاء، (كلّ هذا) أي الذي ذكره أول ص (في أوجز كلام وأحسن نظام) أي وأتم مرام (ومنه) أي من اعجاز القرآن أو من هذا القبيل الذي ذكر أول ص من إيجاز الفرقان (الجملة) الأولى الجمل (الكثيرة) أي من جهة المعاني (التي انطوت) أي اشتملت (عليها الكلمات القليلة) أي من حيثية المباني (وهذا) أي ما ذكر (كلّه) أي جميعه (وَكَثِيرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ ذُكِرَ فِي إِعْجَازِ القرآن إلى وجوه) أي مع إلى وجوه أو منضما وجوه (كثيرة ذكرها الأئمّة لم نذكرها) أي نحن في وجوه اعجازه (إذ أكثرها داخل في باب بلاغته) أي المتضمنة لمراتب فصاحته (فلا نحبّ أن يعدّ) بصيغة المجهول أي فلا يليق أن يجعل على حدته وفي نسخة صحيحة فلا نحب أي لا نود أن نعد بنون المتكلم فيهما (فنّا منفردا) وفي نسخة منفردا أي من أنواع بلاغته (فِي إِعْجَازِهِ إِلَّا فِي بَابِ تَفْصِيلِ فُنُونِ البلاغة) وفي نسخة صحيحة بالضاد المعجمة (وكذلك) أي مثل ما هو داخل في بابها (كَثِيرٌ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عَنْهُمْ يُعَدُّ فِي خواصّه) أي التي لا توجد في غيره (وفضائله) أي الزائدة عن نحوه (لا إعجازه) بالجر وفي نسخة صحيحة لا في إعجازه؛ (وحقيقة الإعجاز) أي ما به العجز (الوجوه الأربعة التي ذكرناها) أي في فصولها (فليعتمد عليها وما بعدها) وأما ما عداها مما ذكرنا فإنما هو (مِنْ خَوَاصِّ الْقُرْآنِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي لَا تَنْقَضِي) أي لا تنتهي غرائبه وهذا غاية التحقيق (والله وليّ التّوفيق) . فصل [في انشقاق القمر وحبس الشمس] (في انشقاق القمر وحبس الشمس) قال اليمني لا يسمى قمرا إلا بعد مضي ثلاث ليال من الشهر والكرة الأرضية أكبر منه بمقدار مائة وعشرين مرة ومن جملة خواصه أنه يبلى الكتان إذا ترك في سمره ويعفن اللحم إذا ترك تحت وأما الشمس فيقال إنها تنور العالمين العلوي والسفلي وأن الله جعل فيها خواص إصلاح العالم من الحيوان والنبات والمعدن (قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي قربت غاية القرب (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) روي أن الكفرة سألوه آية فانشق ويؤيده قراءة حذيفة وقد انشق القمر ويقويه قوله (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً أي معجزة (يُعْرِضُوا أي عن الإيمان بها (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر: 1- 2] ) أي دائم لترادف الآيات وتتابع المعجزات (أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي) أي فيجب تحققه حقيقة ولا يجوز صرفه إلى المجاز بلا ضرورة وحمله على أنه سينشق يوم القيامة وأنه عبر بالماضي لتحقق وقوعه في المستقبل (وإعراض الكفرة عن آياته) أي وأخبر تعالى بإعراضهم عن آياته وهذا مما يدل على وقوعه فإنه لا يتصور الإعراض الحقيقي قبل تحققه (وأجمع) وفي نسخة صحيحة بالفاء أي فلهذا أجمع (المفسّرون) أي من السلف (وأهل السّنّة) أي أرباب الحديث أو أهل السنة والجماعة الجامعون بين الكتاب والسنة من السلف والخلف (على وقوعه) قال الأنطاكي في قول القاضي اجمع المفسرون نظر فقد نقل السجاوندي والنسفي في تفسيرهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 عن الحسن البصري أن معناه سينشق عند الساعة وكذا أبو الليث قال في تفسيره وأكثر المفسرين قالوا إن هذا قد مضى انتهى ويمكن دفعه بأنه اراد بالمفسرين المشهورين منهم أو أنه لم يطلع على خلافهم وعلى تقدير الخلاف لا يلزم عدم وقوع انشقاق القمر في عهده صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أجمعوا على تحققه بالأحاديث الستة وإنما الخلاف في معنى الآية هل يراد به الانشقاق الماضي أو الانشقاق الآتي والله سبحانه وتعالى أعلم (أخبرنا الحسين بن محمّد الحافظ) أي أبو علي الغساني (من كتابه) لأن المصنف ليس له إلا الإجازة في بابه (ثنا) أي حدثنا (القاضي سراج بن عبد الله ثنا الأصيليّ ثنا المروزيّ) تقدم ذكرهما (ثنا الفربريّ) بكسر الفاء وفتح الراء وقيل غيره وقد سبق ذكره (ثنا البخاري) أي صاحب الجامع الصحيح (ثنا مسدّد) بفتح الدال المهملة المشددة وهو كاسمه مسدد بصري أسدي (ثنا يحيى) أي ابن سعيد روى عنه أحمد وغيره وأخرج له الأئمة الستة (عن شعبة) أي ابن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث (وسفيان) أي ابن عيينة أحد الأعلام وهو الأعور الكوفي (عن الأعمش عن إبراهيم) أي النخعي (عن أبي معمّر) بفتح الميمين أزدي كوفي مخضرم (عن ابن مسعود) أي موقوفا كما ساقه القاضي عن البخاري وقد أخرجه البخاري في تفسيره وقد أخرجه أيضا عنه مسلم والترمذي والنسائي وقال الترمذي حسن صحيح (قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي زمانه (فرقتين) أي فلقتين كما رواية الترمذي عن ابن عمر بمعنى قطعتين وفي الصحيحين بلفظ شقين بكسر السين المعجمة أي نصفين وفي لفظ في حديث جبير فانشق القمر باثنتين وفي رواية أبي نعيم في الدلائل فصار قمرين (فرقة) بالنصب على البدلية ويجوز رفعها على الابتدائية أي منهما فرقة (فوق الجبل) أي جبل حراء أو أبي قبيس (وفرقة دونه) أي أسفل منه أو قريب منه هذا وقد قال الحجازي يجوز النصب والضم أفصح منه ومنه قوله تعالى قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قلت وقد يقال الضم أصح إذا فصل النعت وإلا فالبدل في مثل هذا التركيب أفصح كما حقق في قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لما رآه منشقا (اشهدوا) الظاهر أنه خطاب للكفار فإنهم أهل الإنكار والعنى أشهدوا على نبوتي أو الخطاب للمؤمنين فالمعنى أشهدوا على معجزتي وأخبروا من بعدي من أمتي، (وفي رواية مجاهد) أي في الصحيحين عن ابن مسعود زيادة قوله (ونحن مع النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْأَعْمَشِ وَنَحْنُ بمنى) وفي نسخة زيادة قوله بمنى وهذا لا يعارض قول أنس وذلك كان بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة والسلام كان ليلته بمكة فمراده أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة وفيه إيماء إلى أنه لم يشاهد القضية بالرؤية بل وصلت إليه بالرواية لأنه إذ ذاك كان ابن أربع أو خمس بالمدينة (ورواه) أي الحديث المذكور (أيضا عن ابن مسعود الأسود) أي كما ذكره أحمد في المسند وأسود هذا تابعي جليل روى عن عمر رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 تعالى عنه وعلي ومعاذ وغيرهم له ثمانون حجة وعمرة وكان يصوم حتى احتضر ويختم القرآن في ليلتين (وقال) أي ابن مسعود (حتّى رأيت الجبل بين فرجتي القمر) بضم الفاء وتفتح أي فلقتيه (ورواه) أي الحديث المسطور (عنه) أي ابن مسعود (مسروق أنّه) أي انشقاقه (كان بمكّة) كما رواه البيهقي في دلائله (وزاد) أي مسروق في رواية عنه (فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ سَحَرَكُمُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ) بفتح كاف فسكون موحدة فشين معجمة يعنون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو كبشة اسم رجل تأله قديما وفارق دين الجاهلية وعبد الشعرى فشبه المشركون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم به وقيل بل كانت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخت من الرضاعة تسمى كبشة وكان أبوه من الرضاعة يكنى بها وقيل بل كان في أجداده لأمه من يكنى بذلك قيل وذكر بعضهم أن جماعة من جهة أبيه وأمه يكنون بأبي كبشة (فقال رجل منهم) وروى من القوم قيل إنه أبو جهل (إنّ محمّدا إن كان سحر القمر) أي لعيونكم وقت السحر (فَإِنَّهُ لَا يَبْلُغُ مِنْ سِحْرِهِ أَنْ يَسْحَرَ الأرض) أي أهلها (كلّها) أي جميعها (فَاسْأَلُوا مَنْ يَأْتِيكُمْ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ هَلْ رأوا هذا) أي الانشقاق (فأتوا) أي جاء بعضهم من بلد آخر (فسألوهم) أي أهل مكة قريش (فأخبروهم أنّهم رأوا مثل ذلك) أي كما ذكر من انشقاق القمر فرقتين (وحكى السّمرقنديّ عن الضّحّاك نحوه) أي بمعناه مع اختلاف في مبناه (وقال) أي السمرقندي فيما رواه (فقال) وفي نسخة قال (أبو جهل هذا سحر) أي نوع من الاختلاق (فابعثوا إلى أهل الآفاق) أي بنسبتهم إلى اختلاف المطالع في حيز الخلاف والشقاق (حتّى تنظروا أرأوا ذلك أم لا) أي أو ما رأوا ذلك كذلك هنالك (فأخبر أهل الآفاق أنّهم رأوه منشقا) أي بوصف الانشقاق (فقالوا) يعني الكفار (هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي دائم بنعت الاستمرار أو ذاهب وماض وزائل ومار، (ورواه) أي الحديث السابق (عن ابن مسعود علقمة) أي ابن قيس الليثي النخعي ولد في حياته عليه الصلاة والسلام وروى عن أصحابه الكرام كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم (فهؤلاء الأربعة) أي مجاهد أو أبو معمر والأسود ومسروق وعلقمة (عن عبد الله) أي رووه كلهم عن ابن مسعود على وفق ما رواه عنه معمر فتدبر (وقد رواه غير ابن مسعود) أي من الصحابة (كما رواه ابن مسعود) أي فليس هو شاذا في هذه الرواية (منهم) أي ممن رواه (أنس وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) كما رواه الشيخان عنهما وهما وإن لم يدركا بأعينهما فقد سمعا ممن حضر وروى ومرسل الصحابة بالإجماع حجة (وابن عمر) أي فيما رواه مسلم والترمذي (وحذيفة) أي ابن اليمان كما عند ابن جرير وابن أبي حاتم وأبي نعيم في الدلائل (وعليّ) أي ابن أبي طالب قال الدلجي لا يعرف مخرجه (وجبير بن مطعم) أي على ما رواه أحمد والبيهقي عنه (فَقَالَ عَلِيٌّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ الْأَرْحَبِيِّ) بفتح الهمزة فسكون الراء ففتح الحاء المهملة فموحدة مكسورة فياء نسبة إلى قبيلة من همدان وقيل إلى مكان أخرج له مسلم والترمذي والنسائي وفي نسخة الأرجي بجيم بعد راء ساكنة وفي أخرى بزاء بدل الراء قال الحلبي وكلاهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 تصحيف والصواب ما تقدم والله تعالى أعلم (انشقّ القمر) هذا مقول علي كرم الله وجهه وفي نسخة وانشق القمر بالواو العاطفة إما على كلام سبق له أو أراد الحكاية (ونحن مع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وقد شاهدناه. (وَعَنْ أَنَسٍ سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم أن يريهم آية) أي معجزة باهرة وعلامة ظاهرة على صدق ما إدعاه من النبوة والرسالة (فأراهم انشقاق القمر مرّتين) أي فرقتين كما في نسخة صحيحة (حتّى رأوا حراء بينهما) وهو جبل على ثلاثة أميال من مكة على يسار المار منها إلى منى وهو بكسر الحاء المهملة ممدود ويقصر ويصرف ولا يصرف ويؤنث ويذكر وقد خطأ الخطابي فتح الحاء وقصر الراء وقال النووي والصحيح أنه مذكر مصروف. (رواه) أي الحديث (عن أنس قتادة) أي بهذا اللفظ (وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ) أي عن أنس (أراهم القمر مرّتين) أي شقين أو فلقتين ويؤيده أنه في نسخة فرقتين وقيل بمعنى كرتين وقوله (انشقاقه) بالنصب بدل اشتمال من القمر وفي صحيح مسلم فأراهم انشقاق القمر مرتين قال الحلبي هذه المسألة فتشت عنها كثيرا حتى وجدتها في كلام أبي عبد الله ابن إمام الجوزية ذكرها في كتابه إغاثة اللهفان فذكر كلاما وفيه أن المرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان تارة وأكثر ما تستعمل في الأفعال وأما الأعيان فكقوله في الحديث انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم مرتين أي شقين وفلقتين ولما خفي هذا على من لم يحط به علما زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة في زمانين وهذا مما يعلم أهل الحديث ومن له خبرة بأحوال الرسول وسيرته أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة انتهى وقال شيخي العراقي في سيرته التي نظمها أنه انشق مرتين بالإجماع وإن ذلك متواتر وقد راجعته بكتاب وذكرت له فيه كلام ابن القيم فلم يرد جوابه على أقول ولعله أعرض عن الجواب اكتفاء بما بين في الكتاب أن إرادة الفلقتين بالمرتين هو الصواب وقال العسقلاني وأظن قوله بالإجماع يتعلق بقوله انشق لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث يتعدد الانشقاق ولعل قائل مرتين أراد فلقتين وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات هذا (وَرَوَاهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ وابن ابنه جبير بن محمّد) أي النوفلي (وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عبد الله بن عتبة) أي ابن مسعود ولد أخي عبد الله بن مسعود وهو الفقيه الأعمى أحد الفقهاء السبعة معلم عمر بن عبد العزيز وكان من بحور العلم، (وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مُجَاهِدٌ وَرَوَاهُ عَنْ حذيفة أبو عبد الرّحمن السّلميّ) بضم ففتح هو الإمام مقرئ الكوفة يروي عن عمر وعثمان وعنه عاصم بن أبي النجود وأبو إسحاق (ومسلم بن أبي عمران الأزديّ) والمقصود نفي توهم أن يكون أحد من الرواة وقع منفردا أو شاذا في الرواية بل ثبت تعدد الصحابة والتابعين في إسناد هذه الحكاية (وأكثر طرق هذه الأحاديث) أي مما بيننا وبين السلف (صحيحة والآية مصرّحة) بكسر الراء أي ودلالة الآية في هذه القضية صريحة فتكاد أن تصير متواترة معنوية وإن لم تكن لفظية (ولا يلتفت) بصيغة المجهول أي ولا ينظر عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 صوب إقبال قبول (إلى اعتراض مخذول) أي متروك النصرة من المبتدعة كطبقة المعتزلة وجمهور الفلاسفة وعامة الملاحدة الواقع في قول مائل إلى المجاز وعادل عن الحقيقة في مدلول الآية متشبثا بأصلهم الفاسد بأن الأجرام العلوية لا يتأتى فيها الانخراق والالتيام ومتمسكا (بأنّه) أي الشأن (لو كان هذا) أي الانشقاق واقعا أو لو وقع هذا الأمر (لم يخف على أهل الأرض) أي كلهم (إذ هو شيء ظاهر لجميعهم) وهذا المقدار بيان الاعتراض واما بيان خذلانه فهو قوله (إِذْ لَمْ يُنْقَلْ لَنَا عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أنّهم رصدوه تلك اللّيلة) أي انتظروا انشقاق القمر حتى نظروا شقاقه أو رأوا خلافه في تلك الليلة وهذا معنى قوله (فلم يروه انشقّ) أي مع أن القاعدة الاصولية مضبوطة بأن رواية المثبت مقدمة على رواية النافي بلا شبهة كما في رواية الهلال مشاهدة هذا ومن المعلوم أنهم لم يترصدوه لكونهم غافلين عن القضية ذاهلين عن المقدمة المطوية وإنما أراد المصنف فرض الوقوع في البلية فبطل قول الدلجي بعد قوله فلم يروه انشق وفيه نظر لتوقف رصده على معرفة أنه سينشق في ليلة فيرصدونه ثم قال المصنف على طريق ارخاء العنان مع الخصم في ميدان البيان (وَلَوْ نُقِلَ إِلَيْنَا عَمَّنْ لَا يَجُوزُ تَمَالُؤُهُمْ) أي توافقهم وتواطؤهم (لكثرتهم) أي المتعاضدة (على الكذب كما كانت علينا به) أي بسبب نفيهم على فرض ترصدهم (حجّة) أي دلالة قاطعة ملزمة (إِذْ لَيْسَ الْقَمَرُ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ لِجَمِيعِ أهل الأرض) أي لاختلاف مطالعه وتباين مقاطعه كما بينه بقوله (فَقَدْ يَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ على الآخرين) وفي نسخة على آخرين (وقد يكون) أي القمر في مرأى (مِنْ قَوْمٍ بِضِدِّ مَا هُوَ مِنْ مُقَابِلِهِمْ) أي بضد مرأى من قوم مخالفيهم (من أقطار الأرض) أي جوانبها (أو يحول بين قوم وبينه) أي بين القمر (سحاب أو جبال) وكذا حجاب (ولهذا) أي ولكونه ليس في حد واحد من العباد (نجد الكسوفات) أي محو أحد النيرين (في بعض البلاد دون بعض) أي من البلاد حتى لا يوجد فيه كسوف أصلا وقد نقل الحافظ المزي عن ابن تيمية أن بعض المسافرين ذكر أنه وجد في بلاد الهند بناء قديما مكتوبا عليه بني ليلة انشق القمر (وفي بعضها) أي ونجد الكسوفات في بعض البلاد أو في بعض الأوقات بالنسبة إلى بعض العباد (جزئيّة) أي وقوعها باعتبار بعض اجزائه (وفي بعضها كلّيّة) أي وقوعها يستوفي أطرافه كلها (وفي بعضها لا يعرفها) أي الكسوفات (إلّا المدّعون لعلمها) أي الماهرون والحاذقون بمعرفتها؛ (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) أي الغالب بقدرته (الْعَلِيمِ [يس: 38] ) أي المحيط علمه بإرادته وحكمته ووقع في أصل المصنف الحكيم بدل العليم ولا يرد عليه أنه مخالف للفظ التنزيل لأنه ما قصد به الآية إذ ليس عليه شيء من الدلالة هذا (وآية القمر كانت ليلا) أي مبهما وقته ومجهولا ساعته قال الخطابي الحكمة في وقوعها ليلا أن من طلبها من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بعض من قريش خاص فوقع لهم ذلك ليلا ولو أراد الله تعالى أن يكون هذه المعجزة نهارا لكانت داخلة تحت الحس قائمة للعيان بحيث يشترك فيها الخاصة والعامة لفعل ذلك ولكن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 تعالى بلطفه أجرى سنته بالهلاك في كل أمة أتاها نبيها بآية عامة يدركها الحس فلم يؤمنوا وخص هذه الأمة بالرحمة فجعل آية نبيها عقلية وذلك لما أوتوه من فضل الفهم بالنسبة إلى سائر الأمم والله سبحانه وتعالى أعلم (والعادة من النّاس باللّيل) أي بحسب الأغلب (الهدوّ) بضم الهاء والدال فواو مشددة أو ساكنة بعدها همزة على أصل الكلمة ومعناه قوله (والسّكون) أي عن الحركة والمشي والتردد في الطرق مع قطع النظر عن ملاحظة ما في السماء وترصدهم إلى مراكز القمر ناظرين إليه غير غافلين عنه ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر (وإيجاف الأبواب) بهمزة مكسورة وتحتية ساكنة فجيم أي إغلاقها بسرعة (وقطع التّصرّف) أي بالتردد في داخل البيوت من إغلاقها واعماقها (ولا يكاد يعرف من أمور السّماء) أي لا سيما في فصل الشتاء (شيئا) أي من أمر السماء لحجاب البناء وعدم توجه نظرهم إى صوب الهواء (إلّا من رصد ذلك) أي انتظره قصدا لما هنالك ومنه قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ بالطريق المنتظر (واهتبل به) بفوقية فموحدة أي تحيل واعتنى بنظره (ولذلك) أي ولكون آيته كانت ليلا وفي نسخة وكذلك (ما يكون الكسوف القمريّ) أي بخلاف الشمسي النهاري (كثيرا) خبر كان أي لم يكن وقوعه كثيرا (في البلاد) وجعل الدلجي كثيرا حالا من اسم كان وخبرها في البلاد (وأكثرهم لا يعلم به) أي والحال أن أكثر الناس أو أكثر أهل البلاد لا يعلم بكسوف القمر (حتّى يخبر) أي بوقوعه في السمر والمعنى لا يقع فيها كثيرا مع عدم تعلق العلم به إلا يسيرا (وكثيرا ما) أي وأحيانا كثيرة (يحدّث الثّقات) أي من العلماء بالهيئة الفلكية (بعجائب يشاهدونها من أنوار) أي ظاهرة (ونجوم طوالع عظام) أي باهرة (تظهر في الأحيان باللّيل) أي في بعض الاوقات أو الساعات منه (ولا علم ولأحد بها) أي من غيرهم وفي نسخة ولا علم عند أحد منها ثم هذا مما يتعلق بانشقاق القمر على ما نزل به الآية وورد فيه صحيح الخبر وصريح الأثر وأما رد الشمس له صلى الله تعالى عليه وسلم فاختلف المحدثون في تصحيحه وضعفه ووضعه والأكثرون على ضعفه فهو في الجملة ثابت بأصله وقد يتقوى بتعاضد الأسانيد إلى أن يصل إلى مرتبة حسنة فيصح الاحتجاج به. (وخرّج) بتشديد الراء أي أخرج (الطّحاويّ في مشكل الحديث) وهو الإمام الحافظ العلامة صاحب التصانيف المهمة روى عنه الطبراني وغيره من الأئمة وهو مصري من أكابر علماء الحنفية لم يخلف مثله بين الأئمة الحنفية وكان أولا شافعيا يقرأ على خاله المزني ثم صار حنيفا توفي سنة إحدى وعشرين وثلثمائة وطحا من قرى مصر قال بعضهم كان أولا شافعيا ثم تقلد مذهب مالك كذا نقله التلمساني ولعله انتقل من مذهب مالك إلى مذهب أبي حنيفة كما يشهد به كتبه في الرواية والدراية (عن أسماء) وأصله وسماء من الوسامة فأبدلت واوه همزة وقيل جمع اسم والأول أولى وهو منقول عن سيبويه ولعل وجهه ان اطلاق الجمع على المفرد بعيد جدا مع أن اسم الجمع لا يجعل علما أبدا (بنت عميس) بضم مهملة وفتح ميم فتحتية ساكنة فسين مهملة وتقدمت ترجمتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 (من طريقين) أي بإسنادين وكذا الطبراني رواه بأسانيد رجال بعضها ثقات (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كان يوحى إليه) أي مرة (ورأسه في حجر عليّ) أي ابن أبي طالب كرم الله وجهه (فلم يصلّ) أي علي (الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بعد ما أفاق من الاستغراق (أصلّيت يا عليّ قال لا فقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ) أي لما بينهما من الملازمة (فاردد عليه) أي لأجله (الشّمس) أي شرقها كما في نسخة بالتحريك ويسكن وهو منصوب على الظرفية أي في ارتفاعها أو على البدلية أي ضوءها (قالت أسماء فرأيتها غربت ثمّ رأيتها طلعت) أي رجعت على أدراجها من مغربها (بَعْدَ مَا غَرَبَتْ وَوَقَفَتْ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ) ويروي وقعت بالعين بدل الفاء (وذلك بالصّهباء) بالمد ويقصر وهو موضع على مرحلة من خيبر وكذا رواه ابن مردويه بسند فيه ضعف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال نام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حجر علي ولم يكن صلى العصر حتى غربت الشمس فذكر نحوه (قال) أي الطحاوي (وهذان الحديثان ثابتان) أي عنده وكفى به حجة (ورواتهما ثقات) أي فلا عبرة بمن طعن في رجالهما وإنما جعله حديثين لروايته له من طريقين هذا وقال ابن الجوزي في الموضوعات حديث رد الشمس في قصة علي رضي الله عنه موضوع بلا شك وتبعه ابن القيم وشيخه ابن تيمية وذكروا تضعيف رجال أسانيد الطحاوي ونسبوا بعضهم إلى الوضع إلا أن ابن الجوزي قال أنا لا أتهم به إلا ابن عقدة لأنه كان رافضيا بسبب الصحابة انتهى ولا يخفى أن مجرد كون راو من الرواة رافضيا أو خارجيا لا يوجب الجزم بوضع حديثه إذا كان ثقة من جهة دينه وكان الطحاوي لاحظ هذا المبنى وبنى عليه هذا المعنى ثم من المعلوم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ والأصل هو العدالة حتى يثبت الجرح المبطل للرواية وأما ما قاله الدلجي تبعا لابن الجوزي من أنه لو قيل بصحته لم يفد ردها وإن كان منقبة لعلي وقوع صلاته أداء لفواتها بالغروب فمدفوع لقيام القرينة على الخصوصية مع احتمال التأويل في القضية بأن يقال المراد بقولها غربت أي عن نظرها أو كادت تغرب بجميع جرمها أو غربت باعتبار بعض أجزائها أو أن المراد بردها حبسها وبقاؤها على حالها وتطويل زمان سيرها ببطء تحركها على عكس طي الأزمنة وبسطها فهو سبحانه قادر على كل شيء شاءه وأما ما ذكره الذهبي من قوله وقد روى هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لم ترد الشمس إلا على يوشع بن نون وذكره ابن الجوزي من أن في الصحيح أن الشمس لم تحبس لأحد إلا ليوشع فالجواب أن الحصر باعتبار الأمم السالفة مع احتمال وروده قبل القضية اللاحقة. (وحكى الطّحاويّ أنّ أحمد بن صالح) وهو أبو جعفر الطبري المصري الحافظ سمع ابن عيينة ونحوه وروى عنه البخاري وغيره وقد كتب عن ابن وهب خمسين ألف حديث وكان جامعا يحفظ ويعرف الحديث والفقه والنحو مات بمصر سنة مائتين وثمان وأربعين وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 أبوه من أهل طبرستان وجرت بين أحمد هذا وابن حنبل مذاكرات وكتب كل واحد منهما عن صاحبه وكان يصلي بالشافعي (كان يقول لا ينبغي لمن سبيله) وفي نسخة لمن يكون سبيله (العلم) أي بسير سيد الأنبياء (التَّخَلُّفُ عَنْ حِفْظِ حَدِيثِ أَسْمَاءَ لِأَنَّهُ مِنْ علامات النّبوّة) أي وآيات الرسالة. (وروى يونس بن بكير) بالتصغير وهو الحافظ أبو بكر الشيباني عن هشام بن عروة والأعمش ومحمد بن إسحاق بن بشار إمام المغازي وعنه أبو كريب وابن نمير والعطاردي قال ابن معين صدوق وقال أبو داود ليس بحجة يوصل كلام ابن إسحاق بالأحاديث أخرج له مسلم متابعة وقد خرج له البخاري في الشواهد وأخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة (في زيادة المغازي روايته) أي في روايته كما في نسخة (عن ابن إسحاق) أي إمام أهل المغازي (لمّا أسري برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ليلة المعراج (وأخبر قومه بالرّفقة) بضم الراء ويجوز تثليثها أي الجماعة من الرفقاء (والعلامة التي في العير) بكسر العين المهملة أي القافلة من الإبل والدواب تحمل الطعام وغيره من التجارات (قالوا) أي الكفار (متى تجيء) أي القافلة إلى مكة (قال يوم الأربعاء) بالمد وهو بتثليث الباء والأجود كسرها كذا في المحكم وقال ابن هشام فيه لغات فتح الهمزة وكسر الباء وكسر الهمزة وفتح الباء وكسرهما قال وهذه أفصح اللغات (فلمّا كان ذلك اليوم) أي الموعود وهو بالرفع على أنه نعت لذلك المتقدم الذي هو اسم كان التامة كقوله تعالى وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ وفي بعض النسخ المعتمدة ضبط بالنصب ولا وجه له (أشرفت قريش) أي اقبلت (ينظرون) أي ينتظرون (وقد ولّى النّهار) بتشديد اللام المفتوحة أي أدبر أوله آخره (ولم تجىء) أي العير (فدعا رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِيدَ لَهُ فِي النَّهَارِ سَاعَةٌ) أي بسط في ساعاته (وحبست عليه الشّمس) أي ببطء تحركها وقيل توقفت وقيل ردت على أدراجها كما تقدم والله تعالى اعلم هذا وقد حبست الشمس له صلى الله تعالى عليه وسلم في يوم من أيام الخندق حين شغل عن صلاة العصر كما ذكره المصنف في غير هذا الكتاب وحبست لداود كما ذكره الخطيب في كتاب النجوم وضعف رواته كما نقله عنه مغلطاي في سيرته وفي تفسير البغوي أنها حبست لسليمان عليه السلام لقوله تعالى رُدُّوها عَلَيَّ ونوزع بأن الضمير عائد إلى الصافنات الجياد وأيضا لم يكن هناك مأمورون صالحون لرد الشمس عليه مع مخالفته للحديث الصحيح الصريح في حصر حبس الشمس ليوشع مما بين الأمم المتقدمة نعم ذكر الشيخ معين الدين في معراج النبوة أنها حبست لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم هذا وقد قال بعضهم حديث رد الشمس له صلى الله تعالى عليه وسلم ليس بصحيح وإن أوهم تخريج القاضي له في الشفاء عن الطحاوي من طريقين فقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقال ابن تيمية العجب من القاضي مع جلالة قدره وعلو خطره في علوم الحديث كيف سكت عنه موهما صحته وناقلا ثبوته موثقا رجاله انتهى وفي المواهب قال شيخنا قال أحمد لا أصل له وتبعه ابن الجوزي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 فأورده في الموضوعات ولكن قد صححه الطحاوي والقاضي عياض وأخرجه ابن منده وابن شاهين من حديث اسماء بنت عميس وابن مردويه من حديث أبي هريرة انتهى قال القسطلاني وروى الطبراني أيضا في معجمه الكبير بإسناد حسن كما حكاه ابن العراقي في شرح التقريب عن اسماء بنت عميس ولفظه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلى الظهر بالصهباء ثم أرسل عليا في حاجة فرجع وقد صلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم العصر فوضع عليه الصلاة والسلام رأسه في حجر علي فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صليت العصر قال لا يا رسول الله فدعا الله تعالى فرد عليه الشمس حتى صلى العصر قالت فرأيت الشمس طلعت بعد ما غابت حين ردت حتى صلى العصر قال وروى الطبراني أيضا في معجمه الأوسط بسند حسن عن جابر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر الشمس فتأخرت ساعة من النهار انتهى وقال الخطابي انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء وذلك أنه ظهر في ملكوت السموات خارجا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة فلذلك صار البرهان به أظهر قلت وفي معناه الشمس بل سلطانها أكبر وأبهر وأنور إلا أنها لكمال قرب غروبها لم تظهر للأكثر فتدبر وأما ما قال الجوزجاني بعد أن نقل عن ابن الملقن في شرح العمدة أنه روى الحسن وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا لم تحبس الشمس إلا ليوشع حيث سار إلى بيت المقدس هذا الحديث فيه رد لحديث اسماء فقد قدمت الجواب عنه وأما قوله وهذا حديث منكر مضطرب لأنه عليه الصلاة والسلام أفضل من علي ولم ترد الشمس له بل صلى العصر بعد ما غربت فمردود عليه لأنها إنما ردت على علي ببركة داعائه صلى الله تعالى عليه وسلم مع أن كرامات الأولياء في معنى معجزات الأنبياء وقد سبق عن البغوي أنها ردت عليه أيضا فما صلى العصر إلا في وقتها مع أن المفضول قد يوجد فيه ما لا يوجد في الفاضل كما يلزم من القول بعدم حبسها إلا ليوشع فتأمل وتوسع. فصل [في نبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثيره ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم] (فِي نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَتَكْثِيرِهِ ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة وتكثيره ببركته (أمّا الأحاديث في هذا) أي في هذا النوع من جنس المعجزة (فكثيرة جدّا) منصوب على المصدر وأريد به المبالغة في الكثرة فإن ذلك في مواطن متعددة وأعداد مختلفة كما ذكره ابن حبان في صحيحه ففي بعضها أتى بقدح وفي بعضها زجاج وفي بعضها جفنة وفي بعضها ميضأة وفي بعضها مزادة وفي بعضها كانوا خمس عشرة مائة وفي بعضها ثمانمائة وفي بعضها زهاء ثلاثمائة وفي بعضها ثمانين وفي بعضها سبعين انتهى وفي صحيح البخاري في حديث جابر في قصة نبع الماء من بين أصابعه أنهم كانوا ألفا وأربعمائة وفي رواية عنهم أنهم كانوا خمس عشرة مائة وهذه القصة كانت بالحديبية وفي عددهم أقوال مختلفة ثم هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 المعجزة أعظم من تفجر الماء من الحجر كما وقع لموسى عليه السلام فإن ذلك من عادة الحجر في الجملة قال الله تعالى وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وأما من لحم ودم فلم يعهد من غيره صلى الله تعالى عليه وسلم والله تعالى أعلم (رَوَى حَدِيثَ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ أَصَابِعِهِ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَنَسٌ وجابر وابن مسعود) أما حديث أنس فرواه الشيخان عنه أيضا إلا أن المصنف ساقه شاهدا بسنده إلى الإمام مالك عنه فقال (حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا الْقَاضِي عِيسَى بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ محمّد) وقد تقدم ذكرهم (حدّثنا أبو عمر بن الفخّار) بفتح الفاء وتشديد الخاء المعجمة، (حدّثنا أبو عيسى) هو يحيى بن عبد الله بن يحيى ابن كثير الليثي وقد سبق ذكره (حدّثنا يحيى) وفي نسخة عن يحيى وهو يحيى بن يحيى الليثي وفي نسخة صحيحة قبل قوله ثنا يحيى ثنا عبد الله بن يحيى عن أبيه يحيى ويؤيده ما قاله الحلبي أنه سقط رجل بين أبي عيسى وبين يحيى وهو عبد الله أبو مروان ولا بد منه وقد تقدم على الصواب وكذا يأتي على الصواب أيضا وحاصله أن عبد الله يروي عن يحيى عن أبيه ويحيى عن مالك (قال حدّثنا مالك) وهو إمام المذهب (عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طلحة عن أنس بن مالك) وهو عمه لأمه (رأيت) وفي نسخة قال أي أنس رأيت (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحانت صلاة العصر) أي وقد قرب وقتها أو دخل فإن الحين الوقت (فالتمس النّاس الوضوء) بفتح الواو أي ماء الوضوء بضمها وفي نسخة بضمها والمعنى ماءه بتقدير مضاف والمؤدي واحد وقيل يطلق على كل لكن الظاهر أن أحدهما مجاز (فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي جيء (بوضوء) أي في إناء (فوضع رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ النّاس أن يتوضّؤوا منه) أي من الماء ومن الإناء أو من ماء ذلك الإناء (قال) أي أنس (فرأيت الماء ينبع) بتثليث الموحدة والضم أشهر أي يفور (من بين أصابعه صلى الله تعالى عليه وسلم) قال النووي في كيفية النبع قولان أحدهما الماء كان يخرج من نفس أصابعه وينبع من ذاتها وهو قول أكثر العلماء وثانيهما أنه تعالى أكثر الماء في ذاته فصار يفور من بين أصابعه (فتوضّأ النّاس) أي منه (حتّى توضّؤوا من عند آخرهم) أي إلى انتهاء أولهم فالقضية معكوسة للمبالغة والمراد جميعهم وقال النووي من هنا بمعنى إلى وهي لغة (ورواه أيضا عن أنس قتادة) كما في صحيح مسلم (وقال) أي أنس أو قتادة عنه (بإناء) أي فأتى بإناء (فيه ماء يغمر أصابعه) بسكون الغين المعجمة وضم الميم أي يغطيها ويسترها (أو لا يكاد يغمر) شك من الراوي (قال) أي قتادة لأنس كما صرح به الترمذي (كم كنتم) أي حينئذ وكم اسم استفهام وسؤال عن العدد (قال زهاء ثلاثمائة) بضم زاء وهاء ممدودة أي كنا قدر ثلثمائة، (وفي رواية عنه) أي عن أنس (وهم بالزّوراء) بفتح الزاء وسكون الواو فراء ممدودة مكان يعرف بالمدينة قرب المسجد (عند السّوق) وفي البخاري بالسوق أي سوق المدينة قال الداودي وهو مرتفع كالمنار (ورواه أيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 حميد) بالتصغير وهو الطويل وكان طوله في يديه مات وهو قائم يصلي ثقة لكنه يدلس أخرج له الأئمة الستة (وثابت) تقدم ذكره (والحسن) بن أبي الحسن البصري (عن أنس) أي كلهم عنه إلا أن البخاري انفرد بالأولى والثالثة واتفقا على الثانية (وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ قُلْتُ كَمْ كَانُوا قَالَ ثمانين) أي كانوا ثمانين أي رجلا كما في نسخة، (ونحوه عن ثابت عنه) أي نحو مروي حميد عن أنس في العدد ورد عن ثابت عن أنس (وعنه) أي وعن أنس (أيضا) أي برواية ثابت أو غيره (وهم نحو من سبعين رجلا) لعل رواية السبعين والثمانين في غير قصة الحديبية لما سبق من تعدد القضية ثم رأيت النووي قال إنهما قضيتان جرتا في وقتين فحدث بهما جميعا أنس. (وأمّا ابن مسعود ففي الصّحيح) أي للبخاري وغيره (من رواية علقمة عنه) كما في نسخة أي عن عبد الله بن مسعود (بينما) أي بين ساعات أو أوقات (نحن مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حاضرون (وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْلُبُوا مَنْ مَعَهُ فَضْلُ مَاءٍ) قيل إنما أطلب الماء كيلا يظن أنه موجد للماء فإن ذلك لله سبحانه وتعالى وفيه أن الكل من عنده تعالى (فأتي) أي جيء (بماء) أي في نحوه سقاء (فصبّه في إناء ثمّ وضع كفّه) أي مع أصابعه (فيه فجعل الماء ينبع) أي فشرع يخرج (مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي كما ينبع من الأرض وفي نبعه احتمالان من زيادة الكمية او الكيفية وهو أظهر كما يدل عليه طلبه فضل الماء ويشير إليه ما سبق من الترجمة في قوله تعالى وتكثيره ببركته. (وفي الصّحيح) أي للبخاري وغيره (عن سالم) أي الأشجعي (بن أبي الجعد) وهو من ثقات التابعين روي عنه أنه قال اشتراني مولاي بثلاثة دراهم وأعتقني فقلت بأي حرفة احترف فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير البلد زائرا فلم آذن له (عن جابر عطش النّاس) بكسر الطاء (يوم الحديبية) بالتخفيف وتشدد بئر بين مكة وجدة قبيل جدة وأما قول الدلجي بين مكة والطائف فوهم (ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين يديه ركوة) جملة حالية والركوة بفتح الراء وتضم إناء من جلد نحو الإبريق ذكره الدلجي وهو غير ملائم لوضع اليد فيه اللهم إلا أن يقال المراد به وضع اليد على فيه عند خروج الماء منه ثم رأيت في القاموس أن الركوة مثلثة زورق صغير انتهى وهو يحتمل أن فمه كبير ثم رأيت التلمساني ذكر أنها للماء من الأدم كالتور يتوضأ منه (فتوضّأ منها وأقبل النّاس نحوه) أي متعطشين إليه (وقالوا) عطف على وأقبل الناس وجعل الدلجي الواو للحال أي قائلين (لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ إِلَّا مَا فِي رَكْوَتِكَ) أي التي هي موجودة في حضرتك (فوضع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يده في الرّكوة) أي ثانيا (فجعل الماء يفور) أي يرتفع متدفقا (من بين أصابعه كأمثال العيون) أي كأمثال مياهها أو شبه أصابعه بمنابع عيون الماء أي بين كل أصبعين يفور الماء كالعين (وفيه) أي في حديث سالم (فقلت) أي لجابر (كم كنتم) أي يومئذ (قال لو كنّا مائة ألف) أي مثلا (لكفانا) أي لكونه معجزة (كنّا) أي لكنا كنا (خمس عشرة مائة) يعني الفا وخمسمائة وقيل ثمانين ألفا رجلا أو أربعين أو خمسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 وعشرين رجلا أو ألفا وستمائة بناء على الاختلاف في عدد من بايع تحت الشجرة قال الحلبي فيقال أربع عشرة مائة وكذا هو في الصحيح وأكثر الروايات كما قال البيهقي أنه ألف وأربعمائة هذا وقال اليمني قوله كذا خمس عشرة مائة هذه اللغة إلى الآن بنجد سمعتها منهم لا تألف ألسنتهم الآلاف بل يقولون عشر مائة وإحدى عشرة مائة وعشرون مائة وهلم جرا (وروي مثله) أي مثل حديث سالم كما في مسند الدارمي (عن أنس عن جابر) وهو من رواية الأصاغر عن الأكابر فإنهما صحابيان قال الحلبي كذا في النسخة التي وقفت عليها الآن بالشفاء وعلى عن التي بين أنس وجابر صح يعني أن أنسا رواه عن جابر فإن صح ذلك فرواية أنس عن جابر ليست في الكتب الستة (وفيه) أي وفي هذا الحديث (أنّه كان بالحديبية) يعني فالاختلاف مبني على اختلاف عدد من حضر في تلك القضية. (وَفِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) الوليد هذا ولد في حياته عليه الصلاة والسلام روى عن أبيه وعنه ابنه عبادة (عنه) أي عن جابر (في حديث مسلم الطّويل) صفة للحديث (في ذكر غزوة بواط) بضم الموحدة وتخفيف الواو في آخره طاء مهملة (قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يا جابر ناد الوضوء) بفتح الواو وتضم وفي نسخة صحيحة الوضوء من غير الباء أي ناد الناس له أو به أو نصبه على الاغراء أي أعطوا أو ناولوا الماء وهو بيان النداء (وذكر الحديث بطوله وأنّه) أي الشأن (لم نجد) بالنون وفي نسخة بالياء وفي أصل الدلجي لم يجدوا (إلّا قطرة) أي شيئا قليلا من الماء (في عزلاء شجب) بالإضافة وهو بفتح العين المهملة فسكون الزاء فلام ممدودة فم المزادة الأسفل والشجب بمعجمة مفتوحة فجيم ساكنة فموحدة ما بلي من القربة وعتق من السقاية (فأتي) أي فجيء (به النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فغمزه) بالراء أي فغطاه وستره وفي اصل الدلجي بالزاء أي فكبسه بيده وعصره (وتكلّم بشيء) أي من الاسماء أو الدعاء والثناء (لَا أَدْرِي مَا هُوَ وَقَالَ نَادِ بِجَفْنَةِ الرّكب) بفتح الجيم وسكون الفاء وهي أكبر قصاع الأطعمة والركب اسم جمع أو جمع للراكب كالصحب وهم العشرة فصاعدا والباء مزيدة ولما كانت الجفنة محل الآية نوديت فكأنها تعقل أو على حذف أي يا قوم هاتوها أو عدي النداء بالباء لتضمنه معنى الإتيان أي ائت بها واحضرها (فأتيت بها) أي فجئت بها إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وقال الحلبي هو مبني لما لم يسم فاعله أي فأتوني بها وفي نسخة فأتيها بضم همزه وكسر ثانيه (فوضعتها بين يديه وذكر) أي جابر (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَسَطَ يَدَهُ فِي الْجَفْنَةِ وَفَرَّقَ) بتشديد الراء ونشر (أصابعه وصبّ جابر عليه) أي الماء، (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بسم الله) أي وعلى بركة رسول الله وروي بسم الله كما أمره على ما في أصل المؤلف (قال) أي جابر (فرأيت الماء يفور) أي يظهر مرتفعا (مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ ثُمَّ فَارَتِ الْجَفْنَةُ وَاسْتَدَارَتْ) أي ارتفع ماؤها ودار (حتّى امتلأت) ورواية مسلم ثم فارت الجفنة فدارت كذا ذكره الدلجي تبعا للحلبي قيل لأن المقام مقام آية فكلما نبع الماء استدارت الجفنة وحديث جابر هذا ليس في شيء من الكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 الستة إلا في مسلم على ما صرح به الحلبي وغيره (وأمر النّاس بالاستقاء) أي بأخذ الماء (فاستقوا حتّى رووا) أي بأجمعهم وهو بضم الواو الأولى وأصله رويوا كرضوا ولقوا (فقلت هل بقي أحد له حاجة) يجوز أن تكون هل نافية كما في قوله تعالى فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ وفي حديث وهل ترك لنا عقيل من دار أي ما بقي من محتاج إلى الماء (فرفع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي يده كما في أصل الدلجي وغيره (من الجفنة وهي ملأى) فعلى من الملئ ويجوز أن يكون هل استفهامية ورفعه يده بعد جوابهم ما بقي لأحد حاجة ولا يبعد أن يكون المراد بقوله فقلت تردده في نفسه أنه هل بقي لأحد حاجة إليه أم لا فرفع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يده شهادة لنفي البقاء فيكون كرامة اخرى. (وعن الشّعبيّ) بفتح أوله تابعي جليل فحديثه هذا مرسل وهو حجة عند الجمهور خلافا للشافعي (أتي النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جيء (في أسفاره بإداوة ماء) وهي بكسر الهمزة إناء صغير من جلد يتخذ للماء ويسمى المطهر (وَقِيلَ مَا مَعَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاءٌ غيرها) أي غير ما في الإداوة هذه وهي لم تكف الجماعة شربا ووضوءا (فسكبها) أي صبها (في ركوة) أي إناء صغير من جلد يشرب فيها الماء كانت معه كما في نسخة (ووضع إصبعه) بتثليث الهمزة والباء والأشهر كسر الهمزة وفتح الباء والمراد الجنس أي أصابعه (وسطها) بفتح السين وسكونها أي في وسطها (وغمسها) أي غطس اصابعه وأدخلها (في الماء وجعل النّاس يجيئون) أي يأتون إليه (ويتوضّؤون) أي منه (ويقومون) أي عنه وفي نسخة صحيحة ثم يقدمون؛ (قال التّرمذيّ) أي صاحب الجامع (وفي الباب) أي وفي الأحاديث الواردة في هذا النوع من الكتاب (عن عمران بن حصين) وهو كما سيأتي في الفصل الآتي من هذا الباب (ومثل هذا) أي ما ذكر من خوارق العادة (في هذه المواطن الحفلة) بفتح الحاء المهملة وكسر الفاء أي الممتلئة المجتمعة الغزيرة وفي نسخة الحفيلة بزيادة الياء وهما بمعنى (والجموع الكثيرة لا تتطرّق التّهمة بضم) التاء وسكون الهاء وتفتح أي لا تتوصل تهمة كذبه (إلى المحدّث به) بكسر الدال المشددة أي المخبر به (لأنّهم) أي السلف من الصحابة والتابعين (كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه) أي تكذيب من أخبره لو عرفوا أنه كاذب في خبره (لما جبلت) بصيغة المجهول أي خلقت وطبعت (عليه النّفوس) أي النفوس كما في نسخة صحيحة (من ذلك) أي الإسراع إلى التكذيب (وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَسْكُتُ عَلَى بَاطِلٍ) أي بأجمعهم لإنكارهم على الباطل ولو من بعضهم لكونه فرض كفاية على كلهم، (فهؤلاء) أي المذكورون من الصحابة وغيرهم (قد رووا هذا) أي الحديث الذي سبق من نبع الماء من بين أصابعه (وأشاعوه) أي نقلوه وأفشوا سنده (ونسبوا حضور الجمّاء الغفير له) وفي نسخة الجم الغفير أي الجمع الكثير كما في قضية الحديبية (ولم ينكر أحد من النّاس) أي ممن حضر تلك الوقعة (عَلَيْهِمْ مَا حَدَّثُوا بِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ) أي من شربهم وسقيهم (وشاهدوه) أي بأعينهم في غيرهم (فصار كتصديق جميعهم له) فيكون إجماعا سكوتيا منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 فصل [وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَفْجِيرُ الْمَاءِ ببركته وانبعاثه] (وممّا يشبه هذا) أي النوع (من معجزاته) وهو نبع الماء من بين أصابعه لكرامته (تفجير الماء ببركته وابتعاثه) بالرفع أي ثورانه وجريانه (بمسّه) أي إياه بجارحته (ودعوته) أي بلسانه أو جنانه. (فيما روى مالك) أي رواه كما في نسخة (في الموطّأ) بتشديد الطاء المفتوحة فهمزة وقيل بألف مقصورة وكذا أخرجه مسلم في صحيحه (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ تبوك) وهي غزوة معروفة كانت سنة تسع من الهجرة (وأنّهم وردوا العين) أي التي كانت فيها (وهي تبضّ) بكسر الموحدة وتشديد المهملة أي تلمح وتلمع أو المعجمة أي تقطر وتسيل واختاره النووي (بشيء) أي قليل (من ماء) أي مما يسمى ماء (مثل الشّراك) بالجر على أنه نعت لشيء أو ماء وفي نسخة بالرفع على تقدير هو وفي أخرى بالنصب على أنه حال من شيء أي مماثلا للشراك في طوله وعرضه وهو سير رقيق يجعل في النعل والمقصود المبالغة في حد القلة (فغرفوا) أي اغترف القوم (من العين بأيديهم حتّى اجتمع) أي الماء كما في نسخة (في شيء) أي من الإناء فيما لديهم (ثمّ غسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيه وجهه. ويديه وأعاده) أي الماء المغسول به (فيها) أي في العين التي بها ماء يسير (فجرت) الفاء عاطفة أي فسالت (بماء كثير فاستقى النّاس) أي فشربوا منه وأسقوا دوابهم (قال) أي معاذ (في حديث ابن إسحاق) أي فيما يرويه إمام أهل المغازي عنه (فانخرق) بالنون والخاء المعجمة والراء أي انفجر وجرى (من الماء ما له حسّ) بكسر الحاء المهملة وتشديد السين أي حركة وصوت لجريه (كحسّ الصّواعق) جمع صاعقة وهو صوت شديد وربما كان معه نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه وأهلكته لكنها مع حدتها سريعة الخمود (ثمّ قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يوشك) أي يسرع ويدنو ويقرب (يا معاذ إن طالت بك حياة) أي مدة عمرك (أن ترى ما هاهنا) أي الموضع الذي ههنا لأجل كثرة ما فيه من الماء (قد ملىء) بصيغة المجهول أي امتلأ (جنانا) بكسر الجيم جمع جنة بالفتح وهي البستان الكثير الأشجار وهي مرة من مصدر جنه جنا إذا ستره فكأنها مرة واحدة بشدة إلفافها وإظلالها ونصبه على التمييز قال الحلبي هذا ذكره ابن إسحاق في طريق تبوك وقت الرجعة ولفظه ثم انصرف قائلا يعني من تبوك إلى المدينة وكان في الطريق ماء ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشفق فذكر القصة والله تعالى أعلم. (وفي حديث البراء) أي على ما رواه البخاري عنه (وسلمة بن الأكوع) أي كما رواه مسلم عنه (وحديثه) أي حديث سلمة (أتمّ) أي من حديث البراء (فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً) أي ألف وأربعمائة (وبئرها لا تروي) أي بضم التاء وكسر الواو أي لا تكفي بمائها (خمسين شاة) قال المزي المعروف عند أهل الحديث خمسين أشياء بفتح الهمزة والمد وهي النخلة الصغيرة ذكره الشمني وقال التلمساني وهو الصواب (فنزحناها) أي فنزعنا ما فيها كله (فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 فقعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على جباها) بفتح الجيم والموحدة المخففة مقصورا ما حول فمها وبالكسر ما جمع فيها من الماء وليس مرادا هنا ويروى شفاها بفتح المعجمة والفاء مقصورا أي جانبها وطرفها (قال البراء وأتي) أي جيء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بدلو) أي فيه ماء (منها فبصق) أي بزق فيه (فدعا) أي بالبركة في مائها وكب ما في الدلو فيها وهذه رواية البراء من غير شك وتردد بها (وقال سلمة) أي ابن الأكوع (فإمّا دعا وإمّا بصق فيها) بكسر الهمزة على الشك فيهما ولعله اطلع على أحدهما دون الجمع بينهما بخلاف البراء فمن حفظ حجة على من لم يحفظ وعلى كل تقدير (فجاشت) بالجيم والشين المعجمة أي فارت البئر وارتفع ماؤها بوصف الكثير (فأرووا أنفسهم وركابهم) أي سقوا ذواتهم ودوابهم (وفي غير هاتين الرّوايتين) أي رواية البراء ورواية سلمة وكان الأول أن يقول وفي غير هاتين الروايتين كما في نسخة أو في غير هذه الرواية عنهما (هذه القصّة) أي قصة زيادة ماء البئر وفي نسخة فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ (مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ) أي الزهري (في الحديبيّة) وقد أبعد الدلجي حيث قال هذه القصة أي قصة الحديبية لما له إلى قصة الحديبية في الحديبية (فأخرج) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (سهما من كنانته) بكسر الكاف أي جعبته وهي كنانته التي فيها سهامه لأنها تكنها وتسترها (فوضع) أي سهمه وهو بصيغة الفاعل ويؤيده نسخة وضعه بإبراز الضمير وفي نسخة ضبط بصيغة المفعول وهو أتم مبنى وأعم معنى (في قعر قليب) أي عمق بئر لم تطو يعني لم تبن وقيل عادية وهو يؤنث ويذكر ولذا قال (ليس فيه ماء فروي النّاس) بكسر الواو أي بأنفسهم ودوابهم (حتّى ضربوا بعطن) بفتح المهملتين منزل الإبل حول الماء لتبرك فيه إذا شربت لتعاد إلى الشرب مرة أخرى وهو ضرب مثل للاتساع والاستغناء لا سيما في باب الاستقاء والمعنى حتى رووا ورويت ابلهم قال التلمساني والذي نزل بسهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو البراء بن عازب وقيل ناجية. (وعن أبي قتادة وذكر) على ما رواه البيهقي عنه (أَنَّ النَّاسَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَشَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَدَعَا بالميضأة) بكسر الميم وسكون التحتية وفتح الضاد المعجمة والهمزة مقصورا وقد يمد فوزنها مفعلة أو مفعالة من الوضوء بزيادة الميم للآلة أي مطهرة كبيرة يتوضأ منها والمعنى فطلبها (فجعلها في ضبنه) بكسر ضاد معجمة وسكون موحدة فنون فهاء ضمير أي حضنه بين كشحه وأبطه (ثمّ التقم فمها) أي أدخله في فمه تشبيها له باللقمة لأنه أدخل فمه فيها كما توهم التلمساني (فالله أعلم) أي وأنا لا أعلم (نفث) أي أنفخ بريق أو بلا ريق (فيها أم لا) أي أم لم ينفث (فشرب النّاس حتّى رووا) بضم الواو أي بأنفسهم ودوابهم (وملؤوا كلّ إناء معهم فخيّل إلي) لصيغة المجهول أي تصور في ذهني (أنّها) الميضأة ملأى (كما أخذها منّي) أي على حالها ما نقص شيء منها وقال التلمساني وروي إليه أقول والظاهر أنه تصحيف لديه (وكانوا اثنين وسبعين رجلا؛ وروى مثله) أي مثل مروى أبي قتادة (عمران بن حصين) بالتصغير (وذكر الطّبريّ) وهو محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 جرير (حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ أهل الصّحيح أنّ) وفي نسخة صحيحة أن على أنه بيان لما ذكره الطبري مخالفا لغيره وهو أن (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم خرج بهم) أي بأصحابه (ممدّا) أي معينا (لأهل مؤتة) بضم الميم وسكون الهمزة ويبدل قرية بين تبوك وحوران من الشام (عند ما بلغه قتل الأمراء) أي أمرائه وهم زيد بن حارثة مولاه عليه الصلاة والسلام وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة (وذكر) أي الطبري (حديثا طويلا فيه معجزات) أي باهرة (وآيات) أي علامات وكرامات ظاهرة (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تعظيما لقدره وتفخيما لأمره (وفيه إعلامهم) أي إخباره لأصحابه (أنّهم يفقدون الماء) بكسر القاف أي يعدمونه ولا يجدونه (في غد) فهو من أعلام النبوة لقوله تعالى ما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً (وذكر) أي الطبري (حديث الميضأة) أي كما سبق، (قال) أي أبو قتادة (والقوم) أي أصحابه (زهاء ثلاثمائة) أي قدرها تخمينا قال المزي الوجه نصب زهاء ولكن أهل الحديث يرفعونه ذكره الشمني (وفي كتاب مسلم) يعني صحيحه (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (قال لأبي قتادة) أي بعد ما قال لهم إنهم يفقدون الماء في غد (احفظ عليّ) أي لأجلي وفي نسخة علينا (ميضأتك فإنّه) أي الشأن (سيكون لها نبأ) أي خبر عظيم قال القاضي في الإكمال قال الإمام للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الحديث معجزتان قولية وهو إخباره بالغيب أنها سيكون لها نبأ وفعلية وهي تكثير الماء القليل (وذكر) أي الطبري (نحوه) أي نحو ما سبق مما ذكره غيره (ومن ذلك) أي ومما يدل على تفجر الماء من بين أصابعه (حديث عمران بن حصين) أي كما في الصحيحين عنه أنه قال (حين أصاب النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه عطش) أي شديد (في بعض أسفارهم) وفي نسخة من أسفارهم (فوجّه رجلين) بتشديد الجيم أي فأرسلهما وهما علي بن أبي طالب وعمران بن حصين (من أصحابه) كما صرح بهما في بعض طرق هذا الحديث (وأعلمهما أنّهما يجدان امرأة) لا يعرف اسمها إلا أنها أسلمت بعد ذلك (بمكان كذا) وفي نسخة بتكرار كذا ويعين الموضع في حديث صاحبه حاطب بن أبي بلتعة وهو روضة خاخ (معها بعير عليه مزادتان) تنبيه مزادة بفتح الميم ظرف من جلد يحمل فيه الماء الراوية أكبر من القربة وميمها زائدة وهي من مادة الزيادة لزيادتها على القربة ولا يبعد أن تكون مأخوذة من الزاد والله تعالى أعلم بالمراد ثم قيل هي الرواية مجازا وإنما الراوية هو البعير الذي يحملها. (الحديث) أي بطوله والمعنى فذهبا على أثرها وطلباها (فوجداها وأتيا بها النّبيّ) وفي نسخة إلى النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (في إناء) أي مما عنده (من مزادتيها) أي بعض مائهما (وَقَالَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ) أي من ثناء أو دعاء أو اسماء (ثمّ أعاد الماء) أي رد الماء المأخوذ (في المزادتين ثمّ فتحت) بصيغة المجهول ولا يبعد أن يكون بصيغة الفاعل (عزاليهما) بفتح العين المهملة والزاء تثنية عزلاء وهو فمها الأسفل واللام مفتوحة وقيل هو جمع فاللام مكسورة (وأمر النّاس) وفي نسخة ثم امر الناس (فملؤوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 أسقيتهم) جمع سقاء وهو إناء من جلد يتخذ للماء (حتّى لم يدعوا) بفتح الدال أي لم يتركوا (شيئا) أي من أوانيهم (إلّا ملؤوه قال عمران) وفي نسخة وعن عمران بن حصين (ويخيّل إليّ) بصيغة المضارع المجهول من التخييل وفي نسخة بصيغة المعنى الماضي المعلوم من التخيل أي وتصور عندي وتقرر في ذهني (أنّهما) أي المزادتين (لم تزدادا) وفي نسخة بصيغة الإفراد أي كل واحدة منهما (إلّا امتلاء) بكسر التاء على المصدرية أي من زيادة البركة في الكمية والكيفية (ثمّ أمر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه أن يزودوها من زادهم زيادة على ما توهمت أنهم أخذوا من مزادتيها وفق مرادها (فجمع) بصيغة المفعول (للمرأة) وفي نسخة لها (من الأزواد) جمع زاد أي من جملتها (حتّى ملأ) أي ذلك الزاد وفي نسخة ملأوا (ثوبها وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (اذْهَبِي فَإِنَّا لَمْ نَأْخُذْ مِنْ مَائِكِ شَيْئًا) أي من كميته (ولكنّ الله سقانا) أي بسبب زيادة كيفيته ببركة اسمائه. (وعن سلمة بن الأكوع) وفي نسخة وقال سلمة (قال النبيّ) وفي نسخة نبي الله (صلى الله تعالى عليه وسلم هل من وضوء) بفتح الواو أي أمعكم أو أعندكم أو أتم ماء وضوء (فجاء رجل بإداوة) بكسر الهمزة أي إناء صغير من جلد يتخذ للماء (فيها نطفة) أي شيء يسير من الماء (فأفرغها) أي صبها (في قدح فتوضّأنا كلّنا) بالرفع توكيد لنا (ندغفقة دغفقة) بدال مهملة وغين معجمة ففاء فقاف أي نصبه صبا كثيرا (أربع عشرة مائة) بيان لقوله كلنا أي الف وأربعمائة (وفي حديث عمر) كما رواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي والبزار عنه (في جيش العسرة) أي الضيق والشدة وهي غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة وكانت في نهار حر ووقت الثمار وكثرة ظلال الأشجار (وذكر) أي عمر رضي الله عنه (ما أصابهم) أي المسلمين (من العطش) أي الشديد (حتّى إنّ الرّجل) بكسر الهمزة وتفتح (لينحر بعيره) بفتح اللام المؤكدة (فيعصر فرثه) أي ما في كرشه (فيشربه فرغب أبو بكر) أي مال وتوجه (إلى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في الدّعاء) أي أمره أو في حمله على الدعاء (فرفع يديه) أي ويدعو ربه ويتضرع لديه ويثني عليه ويلتجئ إليه (فلم يرجعهما) من رجع المتعدي أي لم يرد يديه بعد رفعهما إليه وفي نسخة فلم ترجعا من رجع اللازم أي لم تغير اليدان عن حالهما (حتّى قالت السّماء) أي أمطرت فإن القول يستعمل في جملة من الفعل وقيل مالت وروي قامت بالميم أي اعتدلت بالسحاب أو قامت توجهها بالخيرات (فانسكبت) أي فانصب ماؤها بكثرة (فملؤوا ما معهم من آنية) أي جميع أوانيهم (ولم تجاوز) أي السماء المراد بها السحاب وفي نسخة بالتذكير أي ولم يتعد المطر (العسكر) ما انتهى عنهم بل كان السحاب كالظلة عليهم وفيه إيماء إلى أنه ما كان من القضايا الاتفاقية بل كان معجزة وكرامة خاصة لديهم (وعن عمرو بن شعيب) أي ابن محمد بن محمد بن عبد الله بن عمرو العاص أخرج له الأئمة الأربعة (أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وهو رديفه) جملة حالية تحتمل احتمالين خلافا للتلمساني حيث جزم بأن ضمير هو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمضاف لأبي طالب والرديف الراكب من خلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 (بذي المجاز) بفتح الميم والجيم وزاء في آخره سوق عند عرفات من أسواق أهل الجاهلية (عطشت) بكسر الطاء قال الحلبي وهذا الحديث الذي ذكره القاضي هنا معضل ولا أعلمه في الكتب الستة والرواية عن أبي طالب معلوم ما فيها انتهى وذكر الدلجي عن ابن سعد أنا إسحاق بن يوسف الأزرق ثنا عبد الله بن عون عن عمرو وهو ابن دينار أن أبا طالب قال كنت بذي المجاز ومعي ابن أخي يعني نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت له عطشت (وليس عندي ماء) وروي عنده وروي معي وعند مثلث العين ذكره التلمساني (فنزل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي عن البعير (وَضَرَبَ بِقَدَمِهِ الْأَرْضَ فَخَرَجَ الْمَاءُ فَقَالَ اشْرَبْ) قال الدلجي الظاهر أن هذا كان قبل البعثة يعني فيكون من الارهاصات ولا يبعد أن يكون بعد النبوة فهو من المعجزات ولعل فيه إيماء إلى أنه سيظهر نتيجة هذه الكرامات من بركة قدم سيد الكائنات في أواخر الزمان قريب الألف من السنوات عين في عرفات تصل إلى مكة وحواليها من آثار تلك البركات هذا وأبو طالب لم يصح اسلامه وأما اسلام أبويه ففيه أقوال والأصح اسلامهما على ما انقق عليه الأجلة من الأمة كما بينه السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفة (والحديث) اللام للجنس أي والأحاديث (في هذا الباب كثير) أي غير ما ذكر في هذا الكتاب (ومنه الإجابة بدعاء الاستسقاء. وما جانسه) أي من أنواع استجابة الدعاء. فصل [ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام] (ومن معجزاته تكثير الطعام) أي كمية أو كيفية (ببركته) أي بركة حصول وجوده أو وصول يده (ودعائه) أي لربه مقرونا بثنائه (قال) أي المصنف (نا القاضي الشّهيد أبو عليّ رحمه الله تعالى) هو الحافظ ابن سكرة (حدّثنا العذريّ) بضم مهملة فسكون معجمة (ثنا الرّازيّ حدّثنا الجلوديّ) بضم الجيم وتفتح (ثنا ابن سفيان حدّثنا مسلم بن الحجاج) يعني صاحب الصحيح (ثنا سلمة بن شبيب) بفتح الشين المعجمة وكسر الموحدة الأولى بعدها تحتية ساكنة وهو أبو عبد الرحمن النيسابوري حجة أخرى له مسلم والأربعة مات سنة ست وأربعين وماءتين بمكة (ثنا الحسن بن أعين) بفتح فسكون ففتحتين ثقة أخرج له الشيخان وأبو داود والنسائي (ثنا معقل) بفتح الميم وكسر القاف صدوق تردد فيه ابن معين أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي (عن أبي الزّبير) بالتصغير حافظ ثقة روى عنه مالك والسفيانان وأخرج له مسلم والأربعة وأخرج له البخاري مقرونا بقوله كان مدلسا واسع العلم (عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يستطعمه) أي يطلب طعاما منه لأهله (فأطعمه شطر وسق شعير) الوسق بفتح الواو وتكسر ستون صاعا وشطر الشيء نصفه وهو بفتح أوله ولا يصح كسره قال النووي والشطر هنا معناه شيء كذا فسره الترمذي (فما زال) أي ذلك الرجل السائل المستطعم منه عليه الصلاة والسلام (يأكل منه) أي من ذلك الطعام (وامرأته وضيفه) أي كذلك فهما مرفوعان أو معهما فهما منصوبان ويروى وصيفه بواو فمهملة (حتّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 كاله) أي ليعرف نقصانه وكماله ويوجب اكتياله ما يبين حاله وماله ففني بهذه الحركة وزالت عنه البركة (فأتى) أي الرجل (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره) أي بأنه كاله وجرب حاله (فقال لو لم تكله) أي وما جربتيه (لأكلتم منه) أي كلكم طول عمركم (ولقام بكم) أي بأودكم مدة بقائكم وفي هذا الحديث أن البركة أكثر ما تكون في المجهولات والمبهمات وكان الصوفية من هنا قالوا المعلوم شوم قيل والحكمة في ذلك أن الكائل يكون متكلا على مقداره لضعف قلبه وفي تركه يكون متكلا على ربه والاتكال عليه سبحانه وتعالى مجلبة للبركة وأما الحديث الآخر كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه فقالوا المراد أن يكيله عند إخراج النفقة منه لئلا يخرج أكثر من الحاجة أو أقل بشرط أن يبقى الباقي مجهولا ثم هذا الرجل هو جد سعيد بن الحارث وذلك أنه استعان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في نكاحه امرأة فالتمس النبي عليه الصلاة والسلام ما سأله فلم يجد له فبعث أبا رافع الأنصاري وأبا أيوب بدرعه فرهناها عند يهودي في شرط وسق من شعير فدفعه عليه الصلاة والسلام إليه قال فأطعمنا منه ثم أكلنا منه سنة وبعض سنة ثم كلناه فوجدناه كما أدخلناه كذا ذكره التلمساني وهو خلاف ظاهر ما حرره القاضي ويمكن الجمع بينهما. (ومن ذلك) أي مما يدل على ما هنالك من تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام (حديث أبي طلحة المشهور) بالرفع صفة لحديث وهو المروي في الصحيحين عن أنس في قصته وأبو طلحة هذا هو عم أنس بن مالك زوج أم سليم أنصاري نجاري خزرجي بدري أحد الفقهاء قال صلى الله تعالى عليه وسلم صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة ذكر أنه قتل يوم حنين عشرين رجلا وأخذ سلبهم روى عنه ابنه عبد الله وابن زوجته أنس بن مالك (وإطعامه) بالرفع (صلى الله تعالى عليه وسلم ثمانين أو سبعين رجلا) وجزم مسلم في روايته بثمانين رجلا (من أقراص) أي قليلة (من شعير جاء) وفي نسخة أتى (بها) أي بتلك الأقراص وفي نسخة به أي بما ذكر (أنس تحت يده أي إبطه) يعني حال كون أنس واضعا لها تحت إبطه من كمال قلتها (فأمر بها) أي بالأقراص أو بفتها (ففتّت) بضم الفاء وتشديد الفوقية الأولى مفتوحة أي فجعلت فتاتا والمعنى كسرها بأصابعه وثردها وفي حديث إذا قل طعامكم فأثردوه (وقال فيها) أي في حق الأقراص (ما شاء الله أن يقول) أي من ثناء ودعاء وأسماء وأمر بمجيء عشرة عشرة حتى أكل القوم كلهم الحديث بطوله قال النووي وإنما أذن صلى الله تعالى عليه وسلم لعشرة عشرة ليكون ارفق بهم فإن القصعة التي فت فيها تلك الأقراص لا يتحلق عليها أكثر من عشرة إلا بضرر يلحقهم لبعدها عنهم وقيل لئلا يقع نظر الكثير على الطعام اليسير فيزداد حرصهم ويظنون أنه لا يكفيهم فتذهب بركته ويحتمل أن يكون لضيق المنزل وهو أقرب؛ (وحديث جابر) أي ومن ذلك حديث جابر كما رواه البخاري عنه (في إطعامه صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الخندق) أي زمن حفره وهو يوم الأحزاب (ألف رجل من صاع شعير وعناق) بفتح أوله وهي الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم لها سنة (وقال جابر فأقسم بالله لأكلوا) أي منه (حتّى تركوه) أي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 حاله وفي أصل الدلجي لأكلوا حتى شبعوا للأكل حتى تركوه غاية للشبع (وانحرفوا) أي مالوا إلى حرف أي جانب وطرف والمعنى وانصرفوا (وإنّ برمتنا) بكسر الهمزة حيالة والبرمة بضم الموحدة هي القدر من حجر أو مدر (لتغطّ) بفتح التاء وكسر الغين المعجمة وتشديد المهملة أي تغلي من حرارة النار تحتها حق يسمع غطيطها وهو صوت غليانها (كما هي) أي على هيئتها الأولى وماهيتها بكمالها كأنه لم يؤخذ منها شيء وما كافة مصححة لدخول الكاف على الجملة وهي مبتدأ والخبر محذوف أي مثل ما هي قبل ذلك (وإنّ عجيننا ليخبز) أي كما هو وكل ذلك بعد أن شبعوا أو تركوا وانصرفوا (وكان) أي وقد كان (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بصق) أي بزق (في العجين والبرمة وبارك) أي ودعا لهما بالبركة؛ (رواه عن جابر سعيد بن ميناء) بكسر الميم ممدودا ويقصر ويجر ولا يجر بناء على أنه مفعال أو فعلاء وحديث سعيد هذا عن جابر في الصحيحين (وأيمن) بفتح الميم عطف على سعيد وهو أيمن الحبشي المكي وأمه أم أيمن حاضنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومولاته أخو أسامة بن زيد لأمه استشهد يوم حنين وحديثه عن جابر في الخندق أخرجه البخاري في المغازي وزيد في بعض النسخ الصحيحة ههنا بعد قوله أيمن (وَعَنْ ثَابِتٍ مِثْلُهُ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وامرأته ولم يسمّهما) أي الراوي عنهما لكن جهالتهما لا تضر لكونهما صحابيين (قال) أي ثابت أو كل من الرجل والمرأة (وجيء بمثل الكفّ) أي من العجينة (فجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يبسطها) أي يدلكها ويوسعها (في الإناء ويقول ما شاء الله) أي من الدعاء والثناء (فأكل منه من في البيت والحجرة) بضم الحاء وتفتح ناحية قريبة من الدار (والدّار) أي وما حولها من الفناء (وكان ذلك) أي المقام (قَدِ امْتَلَأَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم لذلك) أي المرام (وبقي) أي ذلك الطعام (بَعْدَ مَا شَبِعُوا مِثْلُ مَا كَانَ فِي الإناء) أي سابقا ببركته عليه الصلاة والسلام. (وحديث أبي أيّوب) أي ومن ذلك حديث أبي أيوب بدري مشهور وهو خالد بن زيد أنصاري نجاري عقبي بدري نزل عنده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في خروجه من بني عمرو بن عوف حين قدم المدينة فلم يزل عنده حتى بنى مسجده ومساكنه شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفد على ابن عباس البصرة فقال إني أخرج لك عن مسكني كما خرجت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن مسكنك وأعطاه ما أغلق عليه ولما قفل اعطاه عشرين ألفا وأربعين عبدا مرض في غزوة القسطنطينية فقال إذا مت فاحملوني فإذا صففتم العدو فادفنوني تحت ارجلكم فدفن عند باب القسطنطينية فقبره في قرب سورها فقال مجاهد فكانوا إذا محلوا كشفوا عن قبره فيمطرون وحديثه هذا رواه الطبراني والبيهقي عنه (أنّه صنع لرسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَبِي بَكْرٍ مِنَ الطَّعَامِ زُهَاءَ ما يكفيهما) بضم الزاي أي مقدار ما يشبعهما وفيه إشعار بكمال اختصاصهما (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْعُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَشْرَافِ الْأَنْصَارِ) خصهم بالدعوة كي يسلموا بالألفة ومشاهدة المعجزة إذ كان ذلك أول الهجرة وسماهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 انصارا لعلمه بأنهم يسلمون على يديه وينصرون دينه (فدعاهم فأكلوا حتّى تركوا) وفي نسخة تزكوه أي الأكل أو الطعام والثاني أظهر في المرام لقرينة المقام ولقوله (ثُمَّ قَالَ ادْعُ سِتِّينَ فَكَانَ مِثْلُ ذَلِكَ) أي فدعاهم فأكلوا حتى تركوه (ثمّ قال ادع سبعين فأكلوا حتّى تركوه وما خرج منهم أحد حتّى أسلم) أي أظهر الإسلام أو ثبت على ذلك المرام قال التلمساني في الأصل هكذا إلا حتى أسلم وصوابه حتى أسلم (وبايع) أي على الجهاد ونصرته عليه الصلاة والسلام لما شاهد المعجزة في بركة ذلك الطعام (قَالَ أَبُو أَيُّوبَ فَأَكَلَ مِنْ طَعَامِي مِائَةٌ وثمانون رجلا) وكأن عشرين أكلوا بعد المائة والستين؛ (وعن سمرة بن جندب) بضم الجيم والدال وتفتح وحكي بكسرهما وكان الأظهر أن يقول وحديث سمرة بن جندب وهو ما رواه الترمذي والبيهقي وصححاه والنسائي عنه ولفظه (أتي النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جيء (بقصعة) بفتح القاف لا بكسر (فيها لحم فتعاقبوها) أي تناوبها في تناولها الصحابة جماعة بعد جماعة (من غدوة) بضم فسكون ففتحتين لأنها معرفة (حتّى اللّيل) أي إلى آخر نهار تلك الغدوة مع أخذ بعض الوقت من العشية (يقوم قوم ويقعد آخرون) جملة مستأنفة مبينة للتعاقب والمناوبة فلا ينافي ما قال التلمساني هكذا في الأصل والمعروف من حديث سمرة من غدوة إلى الظهر وقال فقيل لسمرة هل كان يمد قال فمن أي شيء تعجب ما كان يمد إلا من ههنا وأشار إلى السماء؛ (وَمِنْ ذَلِكَ، حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بكر) على ما في الصحيحين عنه (كنّا مع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاثين) أي رجلا (ومائة) أي رجلا وهو لغة في مائة وثلاثين (وذكر) أي عبد الرحمن (في الحديث) أي في حديثه هذا (أنّه عجن صاع) من طعام بصيغة المفعول وفي نسخة عجن صاعا (من طعام وصنعت شاة) بصيغة التأنيث للمجهول ويحتمل المتكلم على بناء الفاعل وفي أصل الدلجي وصنع شاة أي فرغ من شأنها وهذا إيجاز بليغ إذ بسطه يقول وذبحت وسلخت وقطعت وهذا من كمال صانعه إذ العادة أن يعجز واحد عن القيام بأمورها كلها فقد روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان في بعض اسفاره يأمر بإصلاح شاة فقال رجل يا رسول الله على ذبحها وقال آخر على سلخها وقال آخر على طبخها فقال عليه الصلاة والسلام وعلى جمع الحطب فقالوا إنا نكفيك فقال قد علمت أنكم تكفونني ولكني أكره أن أتميز عنكم لأن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه وقام عليه الصلاة والسلام وجمع الحطب في ذلك المقام (فشوي سواد بطنها) على بناء المفعول ويحتمل الفاعل والمراد بسواد بطنها كبدها خاصة أو معاليقها مما في جوفها واختاره الهروي والنووي الأول وخص الكبد لأنه أصل الحياة وقيل القلب (قال) وفي نسخة ثم قال أي عبد الرحمن (وايم الله) بهمزة وصل أو قطع وضم الميم ويكسر وهو من الفاظ القسم كعمر الله وعهد الله وأصله وأيمن الله كما في نسخة وهو جمع يمين والمعنى أقسم ببركة الله وقدرته وقوته (ما من الثّلاثين ومائة) أي أحد (إلّا وقد حزّ له) بفتح الحاء وتشديد الزاء (حزّة) بفتح الحاء وتضم أي قطع له قطعة (من سواد بطنها) قال الحلبي قوله حزة بفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 الحاء في النسخة التي وقفت عليها ولا أعرفها وأحفظها إلا بالضم وهي القطعة المحزوزة وأما بالفتح فالمرة من الحز وليست المراد هنا إنما المراد القطعة انتهى ولا يخفى أن الظاهر أن المرة من الحز هو المراد في هذا المقام والله تعالى أعلم بالمرام ثم رأيت الشمني جوز الوجهين فتم النظام (ثمّ جعل) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (منها) أي من لحم الشاة وما معه من الطعام (قصعتين) أي جفنتين كبيرتين (فأكلنا أجمعون وفضل) بفتح الضاد في الماضي وضمها في المستقبل وبكسرها في الماضي وفتحها في المضارع أي وزاد (في القصعتين) وقيل الأول من الفضل في السودد والثاني من الفضلة وهي بقية الشيء وقد سوى بينهما الجوهري حيث قال فضل منه شيء مثل دخل يدخل وفيه لغة أخرى مثل حذر يحذر (فحملته) أي ذلك الزائد (عَلَى الْبَعِيرِ، وَمِنْ ذَلِكَ، حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أبي عمرة الأنصاريّ عن أبيه) أي أبي عمرة وهو أنصاري بدري له حديث في بركة الطعام في بعض غزواته عليه الصلاة والسلام رواه عنه ابنه عبد الرحمن قال ابن المنذر قتل ابو عمرة مع علي رضي الله تعالى عنه بصفين أخرج له النسائي فقط كذا قرره الحلبي وقال الدلجي حديثه هذا رواه ابن سعد والبيهقي عنه انتهى وليس بينهما تناف إذ حصر الأول بالنسبة إلى صحاح الستة وهما خارجان عنهم البتة (ومثله) أي مثل مروي عبد الرحمن (لسلمة بن الأكوع وأبي هريرة) كما رواه البخاري عنهما (وعمر بن الخطّاب) كما رواه أبو يعلى بسند جيد عنه (فذكروا) أي هؤلاء الثلاثة (مخمصة) بفتح الميمين أي مجاعة شديدة (أصابت النّاس مع النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَدَعَا بِبَقِيَّةِ الأزواد) جمع زاد والباء زائدة كما في نسخة أي فطلبها ليبرك فيها فتكثر كميتها أو كيفيتها (فجاء الرّجل بالحثية من الطّعام) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة فتحتية أي باليسير منه ويكون قدر الغرفة وفي نسخة بضم الحاء المعجمة وسكون الباء الموحدة فنون فتاء وهي ما يحمل في الحضن (وفوق ذلك) أي في الكثرة أو القلة (وأعلاهم) أي في الزيادة (الَّذِي أَتَى بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ فَجَمَعَهُ عَلَى نطع) بكسر النون وفتحها مع سكون الطاء وبفتحتين وكعنب بساط من الأديم كذا في القاموس وقال الحلبي تلميذه أفصحهن كسر النون وفتح الطاء انتهى وتبعه الشمني وهو خلاف ما يتبادر من عبارة القاموس وكذا هو على خلاف ما هو المشهور على ألسنة العامة من فتح النون وسكون الطاء مع أنه أخف أنواع هذه اللغة هذا وقد وقع في اصل الدلجي فجعله باللام بدل فجمعه بالميم فاحتاج لقوله أي ما جمع من الأزواد والظاهر أنه تصحيف والله تعالى أعلم بالمراد (قال سلمة فحزرته) بفتح الحاء المهملة والزاء فسكون الراء أي خمنته وقدرته (كربضة العنز) بفتح الراء وسكون الموحدة فمعجمة وقيل بكسر الراء وصوب لأنه للهيئة والفتح للمرة أي مثل جثتها إذا بركت والعنز هي الأنثى من المعز واشار سلمة بهذا إلى قلة التمر (ثمّ دعا النّاس) أي طلبهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بأوعيتهم) الأوعية والأزودة واحد وقوله في نص الحديث حتى ملأ القوم ازودتهم قال القاضي في الإكمال كذا الرواية فيه في جميع أصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 شيوخنا والأزودة هي الأوعية كما قال في الحديث الآخر أوعيتهم (فما بقي في الجيش وعاء) بكسر الواو أي ظرف وإناء (إلّا ملؤوه وبقي منه) أي قدر ما جعل كما في نسخة أي جمع أولا (وأكثر) وقد يقال أكثر (ولو ورده أهل الأرض لكفاهم) أي لما فيه من خير كثير ولعل هذا معنى قوله تعالى بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كما روى ابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط بسند جيد أنه قال (أمرني النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أن أدعو له) أي أطلب أنا لأجله (أهل الصّفّة) بالضم والتشديد أي من فقراء المهاجرين وكانوا كثيرين من لم يكن له منزل فأووا موضعا مظللا من مسجده صلى الله تعالى عليه وسلم فعن ابن سعد بسنده إلى أبي هريرة قال رأيت ثلاثين رجلا من أهل الصفة يصلون خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أردية ثم قال أبو الفتح اليعمري منهم أبو هريرة وأبو ذر وواثلة بن الأسقع وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة لقد رأيت سبعين من أهل الصفة وقد عد من أهل الصفة أبو نعيم في الحلية مائة ونيفا فيهم أبو هريرة وابن الأسقع وأصحاب بئر معونة وفي عوارف المعارف للسهروردي أنهم كانوا نحو أربعمائة والله تعالى أعلم وعد منهم سعد ابن أبي وقاص وعمار بن ياسر وعقبة بن عامر وسلمان وبلال وصهيب وحذيفة وغيرهم قال في نظم الدرر وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هديه أرسلها إليهم واشركهم فيها وقال صاحب الكشاف أصحاب الصفة كانوا نحو أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مسكن في المدينة ولا عشيرة كانوا في صفة المسجد يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن كان عنده فضل طعام بهم إذا أمسى (فتتبّعتهم) بتشديد الموحدة أي فتفحصتهم (حتّى جمعتهم فوضعت بين أيدينا صحفة) أي قصعة مبسوطة (فَأَكَلْنَا مَا شِئْنَا وَفَرَغْنَا وَهِيَ مِثْلُهَا حِينَ وضعت) يعني أنها ما زادت ولا نقصت (إلّا أنّ فيها أثر الأصابع) أي أصابع الآكلين فإنها زادت، (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه) كما رواه أحمد والبيهقي بسند جيد أنه (قال جمع رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبَ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ) أي رجلا (منهم قوم) أي بعض (يأكلون الجذعة) أي الشاة الجذعة وهي بفتح الجيم وسكون الذال المعجمة الداخلة في السنة الثانية إذا كانت من المعز وما أتى عليه ثمانية أشهر من الضأن قيل والمراد بها هنا الإبل كما ورد مفسرا في بعض الأحاديث وهو منها ما يدخل في الخامسة أو الرابعة (ويشربون الفرق) بفتح الفاء والراء وتسكن مكيال يسع اثني ثلاثة آصع بكيل الحجاز وقيل إناء يسع صاعا بصاع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك ستة عشر رطلا (فصنع لهم مدّا من طعام) أي قدر مد وهو بضم الميم مكيال وهو رطلان أو رطل وثلاث أو ملء كفي الإنسان والمعتدل إذا ملأهما ومد يده بهما وبه سمي مدا قال صاحب القاموس وقد جربت ذلك فوجدته صحيحا (فأكلوا) أي منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 (حتّى شبعوا وبقي كما هو) أي كأن لم يؤكل شيء منه (ثمّ دعا بعس) بضم عين وتشديد سين مهملتين قدح كبير من خشب يروي الثلاثة والأربعة من لبن (فشربوا حتّى رووا) بضم الواو (وبقي كأنّه لم يشرب منه) أي شيء (وقال أنس) أي على ما رواه الشيخان واللفظ لمسلم (إنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم حين ابتنى) أي تزوج ودخل (بزينب) أي بنت جحش قال الحلبي المعروف أن مثل هذه القصة اتفقت في بنائه بصفية وفي شرح مسلم للمصنف أن الراوي أدخل قصة في قصة وقال بعضهم في حديث الصحيح يحتمل أنه اتفق الشيئآن يعني الشاة والحيس (أمره) أي أنسا (أن يدعو له قوما سمّاهم) أي جمعا عينهم بأسمائهم وخصهم ثم عمهم بعطف غيرهم حيث قال (وكلّ من لقيت) أي فدعوتهم (حتّى امتلأ البيت والحجرة) وهي موضع منفرد عنه وقيل يريد بالبيت الصفة وهكذا جاء مفسرا في حديث أنس الآتي في آخر هذا الفصل وهو قوله تزوج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصنعت أم سليم حيسا إلى قوله حتى ملأوا الصفة والحجرة الحديث وكانت لكل واحد من نسائه صلى الله تعالى عليه وسلم حجرة هي بيتها (فقدّم) وفي نسخة وقدم (إليهم تورا) الفوقية إناء من صفر أو حجارة كالإجانة وهي التي تسمى مركنا طستا أو سطلا وقيل كان (فِيهِ قَدْرُ مُدٍّ مِنْ تَمْرٍ جَعَلَ حَيْسًا) أي بضم سمن وأقط إليه وربما يجعل عوضا عن الأقط دقيق أو فتيت أو سويق (فوضعه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (قدّامه) أي بين يديه (وغمس ثلاث أصابعه) أي فيه (وجعل القوم) أي شرعوا (يتغدّون) بتشديد الدال المهملة المفتوحة من الغداء وهو خلاف العشاء وفي نسخة بالذال المعجمة وهو ما يؤكل أعم من العشاء والغداء قال الحلبي في نسخة التي وقفت عليها بالذال المعجمة وهو غير مناسب لأن الغذاء بكسر الغين وبالذال المعجمتين أعم من الغداء بفتح الغين وبالدال المهملة وفي صحيح مسلم فدعا الناس بعد ارتفاع النهار فذكر القصة وفيه أيضا من حديث اطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار أي ارتفع وهذا صريح في أن ذلك كان في صدر النهار يعني فيناسب الدال المهملة لكن فيه أن المعنى الأخص مندرج في المعنى الأعم والله تعالى أعلم (ويخرجون) أي حتى خرج آخرهم (وبقي التّور) أي بما فيه (نحوا ممّا كان) وهو تمييز لنسبة بقي أو حال من التور (وكانوا) وفي نسخة وَكَانَ الْقَوْمُ (أَحَدًا أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ) وَفِي أصل الدلجي أحد وثلاثين أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي هذه القصّة) أي قصة وليمة زينب (أو مثلها) أي أو في مثل هذه القصة وهي قصة وليمة صفية (إنّ القوم كانوا زهاء ثلاثمائة) بضم الزاء أي قدرها (وإنّهم أكلوا حتّى شبعوا) بكسر الباء (وقال لي) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن شبعوا (ارفع) أي التور وفي أصل التلمساني لترفع بلام الأمر وتاء المخاطب وهو قليل ومنه قوله تعالى فبذلك فلتفرحوا في قراءة شاذة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لتأخذوا مصافكم هذا وعن ابن عمر مرفوعا إذا وضعت القصعة فليأكل أحدكم مما يليه ولا يتناول من ذروة القصعة فإن البركة تأتيها من أعلاها ولا يقوم الرجل حتى ترفع المائدة ولا يرفع يده وإن شبع حتى يرفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 القوم ليعذر فإن ذلك يخجل جليسه ولعله يكون له بالطعام حاجة رواه يحيى بن أبي كثير عن عروة عن ابن عمر فرفعته (فلا أدري) وفي أصل الدلجي فَمَا أَدْرِي (حِينَ وُضِعَتْ كَانَتْ أَكْثَرَ أَمْ حين رفعت) بصيغة التأنيث على بناء المجهول فيهما ولعله التأنيث باعتبار معنى التور من الإجانة ونحوها ولا يبعد أن يكون بصيغتي الفاعل للمتكلم على أن المفعول محذوف والتقدير وضعته ورفعته وأقول بل حين رفعت لحصول البركة وتعلق المعجزة حين رفعها بخلاف حال وضعها (وفي حديث جعفر) أي الصادق (بن محمّد) أي الباقر (عن أبيه) أي أبي جعفر محمد (عن عليّ) أي ابن أبي طالب جد والد محمد وهو زين العابدين علي بن الحسين بن علي كذا رواه ابن سعد منقطعا لأن محمدا ووالده لم يدركا عليا فقول الحلبي رواية الباقر عن علي مرسلة فيه نوع مسامحة (أنّ فاطمة طبخت قدرا) أي طعام قدر أو ذكرت المحل وأرادت الحال (لغذائهما) بفتح الغين المعجمة والدال المهملة (ووجّهت عليّا) أي أرسلته (إلى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي أصل التلمساني في النبي أي في طلبه والتوجه إليه أو في بمعنى إلى (ليتغذى معهما) أي فجاءها (فأمرها فغرفت منها لجميع نسائه صحفة صحفة) وهن كن تسعا عائشة وحفصة وزينب وأم حبيبة وأم سلمة وسودة وميمونة قرشيات وصفية قرظية وجويرية مصطلقية (ثمّ له عليه الصلاة والسلام ثم لعليّ ولها) أي ولأولادها أو ولمن كان معها (ثمّ رفعت القدر وإنّها لتفيض) بفتح الفوقية أي لتفور وتسيل من جوانبها (قالت) أي فاطمة (فأكلنا) وفي نسخة وأكلنا (منها ما شاء الله) أي أن نأكل منها. (وأمر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (عمر بن الخطاب أن يزوّد) بتشديد الواو المكسورة أي يعطي الزاد (أربعمائة راكب من أحمس) بفتح الهمزة والميم اسم رجل نسب إليه قبيلة معروفة والحماسة الشجاعة والشدة في الديانة ولذا سميت قريش الحمس لشدتهم في دينهم وذلك أنهم كانوا ايام منى لا يستظلون ولا يدخلون البيوت من أبوابها وفي رواية أربعمائة راكب من مزينة وهي قبيلة من مضر (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا أصوع) بضم الواو جمع صاع قال الجوهري وإن شئت أبدلت من الواو المضمومة همزة وفي نسخة آصع بهمزة ممدودة وصاد مضمومة قال ابن قرقول وجاء في كثير من الروايات آصع والصواب أصوع (قال اذهب) أي فزودهم منه (فذهب فزوّدهم منه وكان) أي الذي أعطاهم (قدر الفصيل) أي ولد الناقة إذا فصل عن أمه أي فطم (الرّابض) بكسر الموحدة أي الحقير أو البارك (من التّمر وبقي) أي التمر بعد تزويدهم منه (بحاله) أي كان لم يؤخذ منه شيء (من) أي هذا الحديث من (رواية دكين) بالتصغير وأوله دال وقيل راء (الأحمسيّ) رواها أبو داود في الأدب إلا أنه قال عن دكين بن سعيد المزني قال أتينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسألناه الطعام أي الزاد فقال يا عمر اذهب فأعطهم فارتقى بنا إلى علية بضم العين وتشديد اللام المكسورة فتحتية مشددة أي غرفة فأخذ المفتاح من حجزته بالزاي ففتح أي فأعطانا ما أعطانا قال الحلبي يقال له الأحمسي والمزني والخثعمي له صحبة وليس له في الكتب إلا في سنن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 داود وليس له فيه إلا هذا الحديث وهو مختصر منه (ومن رواية جرير) يعني أيضا (ومثله من رواية النّعمان) بضم النون (ابن مقرّن) بتشديد الراء المكسورة وقيل بالسكون والتخفيف أحمسي أيضا اسلم مع إخوته الستة وقال السهيلي بنو مقرن المزني هم البكاءن الذين نزل فيهم قوله سبحانه وتعالى وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ الآية (الخبر) بالرفع أي الحديث هذا (بعينه) أي من غير زيادة ونقصان فيه على ما رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح عنه (إلّا أنّه قال) أي النعمان (أربعمائة راكب من مزينة) أي كما مر عن أبي داود هذا والخبر مرفوع على أنه خبر ومثله مبتدأ وأبعد الدلجي بقوله منصوب بأعني (ومن ذلك) أي من قبيل تكثير الشيء ببركة دعائه وعظمة ثنائه (حَدِيثُ جَابِرٍ فِي دَيْنِ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ) كما رواه البخاري عنه (وقد كان) أي جابر (بذل لغرماء أبيه أصل ماله) أي أراد أن يبذل لهم أو عرض عليهم ورضي لهم أن يأخذوا جميع ماله وبذل بالمعجمة أي أعطى وأما بالمهملة فبمعنى العوض (فلم يقبلوه) أي استحقارا لأصل ماله لعدم الوفاء بكماله كما بينه بقوله (ولم يكن في ثمرها سنتين) أي ثمر البساتين المعبر عنها بأصل ماله أو ثمر نخيل جابر أو أبيه بكماله (كفاف دينهم) بفتح الكاف أي وفاء لأدائه قال الدلجي ومنه قول الحسن ابدأ بمن تعول ولا تلام على كفاف أي إذا لم يكن عندك كفاف فلا تلام على عدم اعطائه انتهى والكفاف قوت الرزق والأظهر أن المعنى فلا تلام على تحصيل ما يكفيك من المال عن السؤال وتشتت البال ثم صدر الكلام وهو قوله ابدأ بمن تعول من حديثه عليه الصلاة والسلام كما رواه الطبراني عن حكيم بن حزام (فجاءه النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن أمره) أي جابرا (بجدّها) بفتح الجيم وتشديد الدال المهملة أي بقطع ثمرها (وجعلها بيادر في أصولها) بفتح الموحدة وكسر الدال المهملة جمع بيدر أي جعلها كومات تحت نخيلها (فمشى فيها) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ودعا) أي بالبركة فيه (فأوفى) أي أعطى (منه جابر غرماء أبيه وفضل) تقدم الكلام عليه وقال التلمساني تثلث ضاده والكسر أعلى أي زاد (مثل ما كانوا يجدّون) بضم الجيم وكسرها وتشديد الدال المهملة أي يقطعون (كُلَّ سَنَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُمْ) أي فضل (قال) أي جابر (وكان الغرماء يهود) خبر كان غير منصرف علم طائفة من اليهود (فعجبوا) بكسر الجيم أي فتعجبوا (من ذلك) أي لما عظم موقعه عندهم مع خفاء سببه إذ هو شأن العجب وسبب تعجبهم هو وفاء دينهم الكثير من الشيء اليسير مع زيادته بدعائه وبركته فإن هذا وأمثاله مما ذكر سابقا ولا حقا من أعلى المعجزات وأعظم الكرامات. (وقال أبو هريرة) على ما رواه البيهقي عنه (أصاب النّاس مخمصة) أي مجاعة شديدة (فقال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل من شيء) أي أهل عندك بعض شيء فمن تبعيضية لا زائدة كما قاله الدلجي ثم تنكير شيء للتقليل فيفيد المبالغة في المطالبة ولو بشيء يسير أو قدر حقير (قلت نعم) أي عندي (شيء) أي قليل (من التّمر في المزود) بكسر الميم وفتح الواو وعاء من جلد يجعل فيه الزاد (قال فأتني به) أي فأتيته به (فأدخل يده. فأخرج قبضة) بفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 القاف أي مرة من القبض بمعنى مقبوضة كالغرفة بمعنى المغروفة وهي مأخوذة من القبض وهو الأخذ بجميع الكف وبالضم اسم للشيء المقبوض كالغرفة بالضم بمعنى المغروف والرواية بالفتح كما ذكر الحجازي وهو ملء الكف قال الحلبي ويفتح أيضا ويؤيده ما في القاموس القبضة وضمه أكثر ما قبضت عليه من شيء هذا وفي نسخة بالصاد المهملة ففي القاموس قبصه تناوله بأطراف أصابعه وذلك المتناول القبضة بالفتح والضم والقبضة من الطعام ما حملت كفاك ويضم انتهى ولا يخفى أن هذا المبنى أبلغ في المعنى (فبسطها) أي يده (ودعا بالبركة) أي لما فيها، (ثمّ قال ادع عشرة) أي فدعوتهم (فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ عشرة) بالنصب أي دعوتهم (كذلك) على ما في نسخة أي فأكلوا حتى شبعوا وهكذا بقية من هنالك (حتّى أطعم الجيش كلّهم وشبعوا) أي وتركوا فضلهم وقد سبقت الحكمة في الاقتصار على العشرة في الجفنة وقيل خصت العشرة لأن لها فضلا حيث إن الله تعالى أقسم بها وفي العشر ليلة القدر وفيها ليلة النحر وفيها يوم عاشوراء وقال تعالى وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ وقال تلك عشرة كاملة (وقال) وفي نسخة قال وفي نسخة ثم قال أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (خذ ما جئت به) أي مع الزيادة الحاصلة من البركة (وأدخل يدك) أي فيه (واقبض منه) بكسر الموحدة (ولا تكبّه) بفتح التاء وضم الكاف وتشديد الموحدة المفتوحة وقد تضم أي لا تقلبه (فقبضت) أي فأخذت (عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا جِئْتُ بِهِ فَأَكَلْتُ مِنْهُ وأطعمت) أي غيري أيضا (حياة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مدة حياته (وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ) وهو عام خمس وثلاثين (فانتهب منّي) بصيغة المجهول أي سلب (فذهب) أي فاستمر غائبا عني في المكان ولعل فقده حينئذ لفساد الزمان (وفي رواية) أي حسنة للترمذي (لقد) وفي نسخة فَقَدْ (حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا) كناية عن عدد مقدار ما حمله (مِنْ وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَذُكِرَتْ مِثْلُ هذه الحكاية في غزوة تبوك) أي من الرواية (وأنّ التّمر) بكسر الهمزة والجملة حالية (كان بضع عشرة تمرة) وروي بضعة عشر والأول أولى (ومنه) أي ومن تكثير الطعام ببركة دعائه عليه الصلاة والسلام (أيضا) كما في نسخة أي كما وقع مكررا في مقام المرام (حديث أبي هريرة) كما رواه البخاري (حين أصابه الجوع) يعني أبا هريرة (فاستتبعه النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فأمره أن يتبعه فتبعه (فوجد) أي النبي أو أبو هريرة (لبنا) أي قليلا (في قدح) أي صغير (قد أهدي إليه) أي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وأمره) أي أبا هريرة (أن يدعو أهل الصّفّة) أي بقيتهم إليه (قال) أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (فقلت) أي في نفسي (ما هذا اللّبن) أي ما تأثيره (فيهم) والاستفهام بمعنى النفي أي لا يغني من شبعهم شيئا (كنت) أي أنا وحدي (أحقّ أن أصيب منه شربة) أي مرة واحدة وأغرب التلمساني في قوله بضم الشين (أتقوّى بها) يعني ولعلها تكفيني أم لا ومع هذا امتثلت الأمر (فدعوتهم) أي فحضروا (وذكر) أي أبو هريرة (أمر النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم له أن يسقيهم) بفتح الياء الأولى وضمها ولفظ الدلجي وأمرني أن أسقيهم ولعله نقل بالمعنى وتغيير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 في المبنى (فجعلت) أي شرعت (أعطي الرّجل فيشرب حتّى يروى) بفتح الياء والواو (ثمّ يأخذه الآخر) أي فيشرب (حتّى) يروى وهكذا حتى (روي جميعهم) بكسر الواو ولفظ الدلجي حتى رووا جميعهم بضم الواو على صيغة الجمع، (قال) أي أبو هريرة (فأخذ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم القدح) أي قدح اللبن (وقال بقيت، أنا) تأكيد لضمير بقيت ليصح عليه عطف قوله (وأنت) نحو قوله تعالى اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (اقعد) أمر أدب (فاشرب فشربت، ثم قال اشرب) أي فشربت كما في أصل الدلجي (وما زال يقولها) أي كلمة أشرب (وأشرب حتّى قلت لا) أي لا أشرب أو لا أقدر على زيادة الشرب (والذي بعثك بالحقّ) أي إلى كافة الخلق (ما أجد) وفي نسخة صحيحة لا أجد (له مسلكا) أي مساغا وهو يحتمل أن يكون جوابا للقسم أو مستأنفا مبينا لامتناعه كأنه علة له (فأخذ) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (القدح فحمد الله) أي على ما منحه من البركة (وسمّى وشرب الفضلة) أي البقية وفيه إيذان بأن أفضل القوم يكون آخرهم شربا ذكره الدلجي وفي الحديث ساقي القوم آخرهم شربا رواه الترمذي وابن ماجة عن أبي قتادة وغيرهما عن غيره وفيه تنبيه أيضا على وجه حكمة تأخير أبي هريرة عن القوم مع الإيماء إلى وجه اختيار الإيثار لا سيما حال المخمصة والاضطرار والله تعالى أعلم بهذه الأسرار وعن عبد الله بن الحارث عن أبيه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اتخذوا عند الفقراء أيادي فإن لهم دولة قيل يا رسول الله وما دولتهم قال ينادى يوم القيامة يا معشر الفقراء قوموا فلا يبقى فقيرا إلا قام حتى إذا اجتمعوا قيل ادخلوا إلى صفوف أهل القيامة فمن صنع معكم معروفا فأوردوه الجنة قال فجعل يجتمع على الرجل كذا وكذا من الناس فيقول له الرجل الم أكسك فيصدقه ويقول الآخر يا فلان الم أكلم لك فلانا فلا يزال يخبرونه بما صنعوا إليه وهو يصدقهم حتى يذهب بهم جميعا حتى يدخلهم الجنة فيبقى قوم لم يكونوا يصنعون المعروف يا ليتنا كنا نصنع المعروف حتى ندخل الجنة وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان ممن كان قبلكم ملك مسرف على نفسه وكان مسلما وإذا أكل طعامه طرح ثفاله طعامه على مزبلة فكان يأوي إليها عابد فإن وجد كسرة اكلها وإن وجد بقلة أكلها وإن وجد عرقا تعرقه قال فلم يزل كذلك حتى قبض الله ذلك الملك فأدخله النار فخرج العابد إلى الصحراء مقتصرا على بقلها ومائها ثم إنه سبحانه وتعالى قبض ذلك العابد فقال له هل لأحد عليك معروف تكافئه قال لا يا رب قال فمن أين كان معاشك وهو اعلم به منه قال كنت آوي إلى مزبلة ملك فإن وجدت كسرة أكلتها وإن وجدت بقلة أكلتها وان وجدت عرقا تعرقته فقبضته فخرجت إلى البرية مقتصرا على بقلها ومائها فأمره تعالى أن خذ بيده فأدخله الجنة من معروف كان منه إليك وهو لم يعلم به أما إنه لو علم به ما أدخلته النار. (وفي حديث خالد بن عبد العزّى) أي ابن سلامة الخزاعي له صحبة روى عنه ابنه مسعود إلا أن حديثه ليس في الكتب الستة على ما في التجريد كما ذكره الحلبي وقال الدلجي حديثه هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 رواه البيهقي عنه (أنّه أجزر النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي أعطاه (شاة) أي تصلح للجزر وهو الذبح ولا تكون إلا من الغنم فلا يقال أجزرت القوم ناقة لأنها قد تصلح لغير الذبح إذ نزل عليه بالجعرانة وظل عنده وأمسى ثم بدت له صلى الله تعالى عليه وسلم العمرة فأرسل إلى رجل من تهامة يقال له مخرش بن عبد الله ليأخذ به طريقا إلى مكة يأمن فيه على نفسه لخوفه من دخولها وحده فانحدر به إلى الوادي حتى بلغا اشغاب قال يا مخرش من هذا المكان إلى الكر وما والاه فهو لخالد وما بقي من الوادي فهو لك ثم سار به حتى قضى نسكه وأحله مخرش أي حلقه ثم رجعا إلى خالد (وكان عيال خالد) بكسر العين أي من يعوله (كثيرا) أي عددهم (يذبح الشّاة) حال أو استئناف مبين لكثرتهم واللام في الشاة للجنس فهو في حكم النكرة أي قد يذبح خالد شاة (فلا تبدّ عياله) بضم الفوقية وكسر الموحدة وتشديد الدال المهملة من بد الشيء وأبده فرقه وأعطى كل واحد بدنه أي نصيبه على حدته قاله الهروي وفي الحديث اللهم أحصهم عددا وأقتلهم بددا أي متفرقين واحدا بعد واحد والمعنى لا نكفي الشاة كلهم إذا فرقت عليهم (عظما عظما وإنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بكسر الهمزة جملة حالية (أكل من هذه الشّاة) أي التي أجزرها إياه (وجعل فضلتها) أي بقيتها (فِي دَلْوِ خَالِدٍ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فَنَثَرَ) بفتح الموحدة فضم المثلثة بعدها راء أي كثر (ذلك لعياله) وفي نسخة صحيحة بالنون والمثلثة والمفتوحتين أي انتثر ذلك لعياله حتى وسعهم وقيل أي صبه وأخرجه ورمى به (فأكلوا وأفضلوا) أي ودخلوا في زيادة البركة (ذكر خبره الدّولابي) بضم الدال المهملة أنصاري رازي سمع محمد بن بشار وغيره من طبقته بالحرمين والعراق ومصر والشام وغيرها وصنف التصانيف وروى عنه ابن أبي حاتم وابن عدي والطبراني وغيرهم قال الدارقطني تكلموا فيه وما تبين في أمره الأخير توفي بين مكة والمدينة بالعرج في ذي القعدة سنة عشر وثلاثمائة هذا وقد قال ابن ماكولا في الإكمال ما لفظه وأما خناش أوله خاء معجمة مضمومة وبعدها نون وآخره شين معجمة فهو أبو خناش خالد بن عبد العزى في الصحابة ذكره أبو بشر الدولابي في كتاب الاسماء والكنى بسنده إلى أن قال عن مسعود بن خالد عن خالد بن عبد العزى بن سلامة أنه أجزر النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً وَكَانَ عِيَالُ خَالِدٍ كَثِيرًا يذبح الشاة فلا تبد عياله عظما عظما وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أكل منها ثم قال أرني دلوك يا أبا خناش ووضع فيها فضلة الشاة ثم قال اللهم بارك لأبي خناش فانقلب به فنثره لهم وقال تواسعوا فيه فأكل عياله وأفضلوا ذكره الحلبي (وفي حديث الآجرّيّ) بهمزة ممدودة وضم جيم وتشديد راء وبعده ياء نسبة صاحب كتاب الشريعة وهو أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي منسوب إلى عمل الآجر (في إنكاح النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لعليّ فاطمة) أي في تزويجها له (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا بِقَصْعَةٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أمداد أو خمسة) أي من دقيق خبز شعير أو حنطة (ويذبح جزورا) أي بعيرا (لوليمتها) وفي نسخة ويذبح جزورا بصيغة المضارع وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 أخرى وبذبح جزور بمصدر مضاف، (قال) أي بلال (فأتيته بذلك) أي فجئت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالذي أمره أن يصنعه من القصعة (فطعن في رأسها) أي في أعلاها بيديه لتنزل البركة عليه، (ثمّ أدخل النّاس) أي أمرهم بالدخول عليه (رفقة رفقة) بضم الراء وجوز تثليثها أي جماعة بعد جماعة (يأكلون منها) وفي نسخة صحيحة فأكلوا منها (حتّى فزعوا) أي عنها (وبقيت منها فضلة) وفي نسخة فضلة منها أي بقية وزيادة (فبرّك) بتشديد الراء أي فدعا بالبركة (فيها وأمر بحملها إلى أزواجه) أي من النساء التسع (وقال) أي لهن بعد إساله إليهن (كلن) أي بأنفسكن (وأطعمن من غشيكنّ) أي أتاكن وحضر عندكن فإن البركة توافي كلكن (وفي حديث أنس) كما رواه الشيخان (تزوّج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعض نسائه) قال الحلبي تقدم أن هذا كان في ابتنائه بصفية (فصنعت أمّي أمّ سليم) بالتصغير (حيسا) تقدم مبناه ومعناه (فجعلته في تور) سبق كذلك (فذهبت) أي أنا وفي نسخة فبعثتني (به) أي بالتور إلى رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ ضَعْهُ وَادْعُ لِي فُلَانًا وفلانا) أي كأبي بكر وعمر خصوصا. (ومن لقيت) أي من غيرهما عموما (فدعوتهم) أي المعينين جميعهم (ولم أدع) بفتح الدال أي ولم أترك (أحدا لقيته) أي في طريقي ذاهبا وآئبا (إلّا دعوته وذكر) أي أنس (أنّهم) أي المدعوين والمجتمعين لا كما قال الدلجي أي الذين دعاهم (كانوا زهاء ثلاثمائة) أي مقدارهم تقريبا (حتّى ملؤوا الصُّفَّةَ وَالْحُجْرَةَ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم: تحلّقوا) بفتح اللام المشددة أي استديروا كالحلقة المفرغة (عشرة عشرة) أي كل عشرة حلقة أو كل حلقة عشرة (ووضع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يده على الطّعام) أي المسمى بالحيس الذي صنعته أم سليم وجاء به أنس إليه عليه الصلاة والسلام (فدعا فيه) أي بما شاء الله من الدعاء (وقال ما شاء الله أن يقول) أي من أصناف الاسماء وأنواع الثناء (فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا كُلُّهُمْ، فَقَالَ لِي ارْفَعْ) فرفعته (فَمَا أَدْرِي حِينَ وُضِعَتْ كَانَتْ أَكْثَرَ أَمْ حين رفعت) بصيغة المجهول فيهما ولا يبعد أن يضبط بصيغة المتكلم المعلوم وتأنيث الضمير مع أنه راجع إلى التور باعتبار الآنية ووقع في أصل الدلجي وضع ورفع بصيغة التذكير فيتعين كونهما للمفعول كما لا يخفى (وأكثر أحاديث هذه الفصول الثّلاثة) أي التي أولهما فصل نبع الماء من بين أصابعه (فِي الصَّحِيحِ وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى مَعْنَى حَدِيثِ هذا الفصل) وفي نسخة حديث الفصل هذا ووقع في أصل الدلجي حديث هذه الفصول (بضعة عشر) بكسر الباء وتفتح أي ثلاثة عشر أو أكثر (من الصّحابة) وأما قول الجوهري تقول بضع سنين وبضعة عشر رجلا فإذا جاوزت العشر لا تقول يضع وعشرون فهو منقوض بقوله عليه الصلاة والسلام صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ ببضع وعشرين درجة ولقوله في حديث مسلم وغيره الإيمان بضع وسبعون شبعة (رواه عنهم) أي روى معنى حديث هذا الفصل أو هذه الفصول عمن ذكر من الصحابة (أضعافهم من التّابعين ثمّ) أي بعدهم رواه عن أضعافهم منهم (من لا ينعدّ) بصيغة المجهول أي لا يحصر وفي نسخة لا ينعد (بعدهم) أي من تابعيهم (وأكثرها) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 وأكثر أحاديث هذه الفصول الثلاث وردت (في قصص مشهورة) بكسر القاف أي حكايات مأثورة (ومجامع مشهودة) أي محصورة مما تقدم فيها (ولا يمكن التّحدّث عنها إلّا بالحقّ) أي على وفق الصدق حذرا من التكذيب في رواية منها (ولا يسكت الحاضر لها) أي المشاهد لها (على ما أنكر منها) حذرا من أن ينسب إليه ما لا يليق بجنابه. فصل [في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته] (في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته صلى الله تعالى عليه وسلم قال) أي المصنف (حدّثنا أحمد بن محمّد بن غلبون) بفتح فسكون فضم موحدة وهو منصرف وقد يمنع بناء على أن مطلق المزيدتين علة عدم الانصراف (الشّيخ الصّالح فيما أجاز فيه) هذه لغة حكاها ابن فارس والمعروف أجازه لي ذكره الحلبي وغيره (عن أبي عمر) وفي نسخة أبي عمرو بالواو (الطّلمنكيّ) بتشديد لام مفتوحة فميم مفتوحة ونون ساكنة (عن أبي بكر بن المهندس) بكسر الدال (عن أبي القاسم البغوي) بفتحتين وهو الحافظ الكبير السند البغوي الأصل البغدادي ابن بنت أحمد بن منيع البغوي روى عن أحمد بن حنبل عاش مائة وثلاث سنين وتوفي ليلة عيد الفطر سنة سبع عشرة وثلاثمائة وله ترجمة في الميزان وقال في آخرها وهذا الشيخ الحجازي يعني به أبا العباس أحمد بن الشحنة راوي صحيح البخاري وغيره بينه وبين البغوي أربعة أنفس وهذا شيء لا نظير له في الاعصار وذلك أن الحجازي توفي سنة ثلاث وسبعمائة فيكون بين وفاته ووفاة البغوي أربعمائة سنة وبضع عشرة (حدّثنا أحمد بن عمران الأخنسيّ) بفتح الهمزة وسكون المعجمة روى عنه ابن أبي الدنيا وغيره (حدّثنا أبو حيّان) بتشديد التحتية (التّيميّ) وفيه أن الأخنسي لم يدركه على ما صرح به المزي ولعله اسقط محمد بن فضيل ويؤيده أنه وجد في نسخة صحيحة قبله حدثنا محمد بن فضيل ويؤيده ما سيأتي المصنف في أول فصل في الآيات في ضروب الحيوانات حديثا في إسناده حَدَّثَنَا أَبُو الْعَلَاءِ أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا محمد بن فضيل الخ والله تعالى أعلم (وكان) أي أبو حيان (صدوقا) وقد روي عن أبي زرعة والشعبي وعنه يحيى القطان وأبو أسامة أخرج له الأئمة الستة (عن مجاهد) تابعي جليل (عن ابن عمر) وقد رواه الدارمي والبيهقي والبزار أيضا عنه (قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في سفر فدنا) أي قرب (منه أعرابيّ) أي بدوي (فقال يا أعرابيّ أين تريد قال أهلي) أي أريد أهلي أو أهلي أريدهم وفي نسخة إلى أهلي أي مرادي التوجه إليهم (قال هل لك) أي ميل ورغبة (إلى خير) أي من أهلك أو خير محض لك في حالك ومآلك (قال وما هو) أي ذلك الأمر أو الخير (قال تشهد) أي أن تشهد أي شهادتك أو خبر معناه أمر أي أشهد (أن) مخففة من المثقلة حذف اسمها أي أنه (لا إله) موجود أو معبود أو مشهود (إلّا الله وحده) حال مؤكدة أي متوحدا ومنفردا (لا شريك له) أي في وحدانية ذاته وسبحانية صفاته (وأنّ محمّدا عبده ورسوله) إلى كافة مخلوقاته (قال من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 يشهد لك على ما تقول) أي من دعوى التوحيد والرسالة (قال هذه الشّجرة السّمرة) بفتح فضم وهي بدل مما قبلها فإنها من الطلح شجر عظام من العضاة له شوك كثير وظل يسير قالوا وهو شجر الصمغ العربي (وهي بشاطىء الوادي) أي طرفه وجانبه (فأقبلت) أي بمجرد قوله عليه الصلاة والسلام هذه الشجرة تشهد على حقية الإسلام وفي نسخة صحيحة فادعها فإنها تجيبك وفي أخرى تجبك قال أي الأعرابي فدعوتها فأقبلت وهذا أبلغ في قبول الإجابة والمعنى فشرعت الشجرة في الإتيان إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (تخذّ الأرض) بضم الخاء المعجمة وتشديد الدال المهملة ومنه الأخدود وهو الشق في الأرض أي حال كونها تشق الأرض وتسعى إليه على ساق بلا قدم (حتّى قامت) أي وقفت كما في نسخة (بين يديه فاستشهدها ثلاثا) أي طلب منها أن تشهد ثلاث مرات (فشهدت) أي ثلاثا (أنّه) أي الأمر (كما قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام أن الله واحد لا شريك له وأنه عبد الله ورسوله (ثمّ رجعت إلى مكانها. وعن بريدة) بالتصغير وهو ابن الحصيب بن عبد الله الأسلمي أسلم حين مر به عليه الصلاة والسلام مهاجرا ثم قدم المدينة قبل الخندق وشهد الحديبية ومات بمدينة مرو بخراسان غازيا وأما بريدة بن سفيان الأسلمي فلا صحبة له وإن ذكره بعضهم في الصحابة بل هو تابعي متكلم فيه كما رواه البزار عنه أنه قال (سأل أعرابيّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم آية) أي علامة تكون معجزة دالة على صدق الرسالة (فَقَالَ لَهُ قُلْ لِتِلْكَ الشَّجَرَةِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم يدعوك قال) أي بريدة (فقالت الشَّجَرَةُ عَنْ يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا وَبَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا) أي من جهاتها كلها واضطربت في مكانها وارتفعت في شأنها متوجهة بجميع دواعيها إلى داعيها (فتقطّعت عروقها) أي المتعلقة بأصولها (ثمّ جاءت تحدّ الأرض تجرّ عروقها) حالان متداخلان أو مترادفان (مغبرّة) بتشديد الراء أو الباء (حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله) قال الدلجي لعله صلى الله تعالى عليه وسلم رد عليها السلام مكافأة لها لا وجوبا إذ ليست مكلفة انتهى وتعليله غير مستقيم كما لا يخفى (قال) وفي نسخة فقال (الأعرابيّ مرها فلترجع إلى منبتها) بكسر الموحدة سماعا وتفتح قياسا (فرجعت) أي بعد أمره لها (فدلّت عروقها) بتشديد اللام أي أرسلتها ومكنتها (في ذلك) أي المكان قال التلمساني الموضع سقط عند العرفي وثبت عند غيره (فاستوت) أي قائمة (فقال الأعرابيّ ائذن لي) يقرأ في الوصل بسكون همزة الأصل وفي الابتداء بهمزة الوصل وإبدال همزة الأصل بالياء أي مرني (أسجد لك) جواب الأمر وفي نسخة صحيحة أن أَسْجُدْ لَكَ (قَالَ لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يسجد لأحد) أي غير الله سبحانه وتعالى (لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) أي لما عليها من حقوقه. (قال فأذن لي) وفي نسخة فقال ائذن لي (أقبل) وفي نسخة أن أقبل (يديك ورجليك فأذن له) أي فقبلها. (وفي الصّحيح) أي صحيح مسلم (في حديث جابر بن عبد الله) أي الأنصاري كما في نسخة وهما صحابيان جليلان (الطّويل) نعت الحديث (ذهب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 يقضي حاجته) كناية عن فعل الغائط أو البول (فلم ير شيئا يستتر به) أي من عيون الينس والجن فتحير في أمره (فإذا بشجرتين) أي ثابتتين أو نابتتين (بشاطىء الوادي) أي في جانبه (فانطلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ذهب (إلى إحدهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال) أي لها كما في نسخة (انقادي عليّ) أي استسلمي لي واطيعيني (بإذن الله) أي بأمره وتيسيره (فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ) أي يلاينه وينقاد له وهو بالخاء والشينين المعجمات الذي جعل في أنفه خشاش وهو بالكسر عود يربط عليه حبل ويجعل في أنفه ويشد به الزمام لينقاد بسهولة ثم إن كان من شعر فهو خزامة أو من صفر أو حديد فهو برة بضم موحدة فتخفيف راء (وذكر) أي جابر (أنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فعل بالأخرى) أي من الشجرتين (كذلك) أي مثل ما فعل بالأولى (حتّى إذا كان بالمنصف) بفتح الميم وإسكان النون وفتح الصاد وتكسر أي وسط الطريق (بينهما) أي بين موضعيهما وهو بيان أو تأكيد (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للشجرتين (التئما) أي اجتمعا وانضما (عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَالْتَأَمَتَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى) أي لمسلم وغيره (فقال يا جابر قل لهذه الشّجرة) أي التي بشاطىء الوادي (يقول لك رسول الله الحقي) بفتح الحاء أي اجتمعي واتصلي (بصاحبتك) أي بنظيرتك وهي الشجرة التي في مقابلتك (حتّى أجلس خلفكما) أي فأقضى حاجتي مستترا بكما وفي أصل الدلجي حتى يجلس بناء على المعنى (ففعلت فرجعت) أي الشجرة عن حالتها التي كانت عليها وفي نسخة فزحفت بالزاء والحاء المهملة والفاء أي انتقلت من محلها (حتّى لحقت بصاحبتها فجلس خلفهما) الظاهر أن القضية متكررة وأن الشجرة الواحدة ما كانت تصلح أن تكون سترة (فخرجت أحضر) بضم الهمزة وسكون الحاء المهملة وكسر المعجمة أي أعدو وأجري وإنما فعل ذلك رضي الله تعالى عنه لئلا يحس به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قريب منه فيأذي بقربه (وجلست أحدّث نفسي) أي بهذا الأمر الغريب والحال العجيب (فالتفتّ) أي فنظرت إلى أحد طرفي (فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فاجأته بغتة فأبصرته. (مقبلا والشّجرتان قد افترقتا) أي من محل اجتماعهما وانتقلتا إلى موضعهما (فقامت كلّ واحدة منهما على ساق) أي في منبتها (فوقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقفة) أي خفيفة (فقال برأسه) أي فأومأ له أو فأومأ به إلى الشجرتين (هكذا يمينا وشمالا) تفصيل لما قبله إجمالا ولعله كان وداعا للشجرتين أو لمن هناك من الملائكة وأما قول الدلجي وقد تبعه التلمساني إذنا منه لهما بالرجوع إلى مكانهما فيأباه الفاء كما لا يخفى على أهل الوفاء. (وروى أسامة بن زيد نحوه) أي كما رواه البيهقي وأبو يعلى بسند حسن عنه (قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في بعض مغازيه) أي غزواته (هل تعني) بالفوقية أي تقصد وتعين (مكانا لحاجة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لقضاء حاجته فيه وتصحف الدلجي وضبط لفظ تعني بالتحتية وتكلف بقوله هل استفهام اكتفى به عن المستفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 عنه استهجانا للتصريح باسمه ومن ثمة بينه الراوي بقوله يعني مكانا لحاجته نعم هذا إنما يصح بناء على نسخة هل ترى يعني مكانا الخ وقد تبعه التلمساني فقال أي ترى أو تجد وهو أما أحذفه للعلم به وأما حذفه الراوي لأنه لم يسمعه أو لم يفهمه أو لم يجده في أصله انتهى وكله تكلف وتعسف مستغنى عنه (فَقُلْتُ إِنَّ الْوَادِيَ مَا فِيهِ مَوْضِعٌ بِالنَّاسِ) أي ليس فيه مكان مستقر بهم بل كله خال عنهم فما التفت إلى كلامه حيث لم يكن على وفق مرامه (فَقَالَ هَلْ تَرَى مِنْ نَخْلٍ أَوْ حِجَارَةٍ) أي ولو في بعد وأغرب التلمساني في قوله إن بالناس معمول إن أي غاص أو ملآن أو عامر أو كائن وكائن بعيد هنا ثم قال موضع يستتر فيه أو يقضي الحاجة وحذف للعلم به (قلت أرى نخلات) بفتح الخاء (متقاربات) بكسر الراء وتفتح وفي أصل التلمساني مقاربات (قَالَ انْطَلِقْ وَقُلْ لَهُنَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ) وفي نسخة أن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَأْمُرُكُنَّ أَنْ تَأْتِينَ لِمَخْرَجِ رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لتستره بكن (وقل للحجارة) أي لجنسها من الحجارات هنالك (مثل ذلك) أي كما قلته للنخلات من الإتيان لمخرجه (فقلت ذلك لهنّ فو الّذي بعثه بالحقّ) فيه تلويح إلى جواز القسم بالأمر العظيم ذكره الدلجي والصواب أنه قسم بفعل الله الكريم (لَقَدْ رَأَيْتُ النَّخَلَاتِ يَتَقَارَبْنَ حَتَّى اجْتَمَعْنَ وَالْحِجَارَةَ) أي ورأيت الحجارة (يتعاقدن حتّى صرن ركاما) بضم الراء أي متراكمة بعضها فوق بعض (خلفهنّ) أي وراء النخلات (فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ لِي قُلْ لَهُنَّ) أي لمجموع النخلات والحجارة (يفترقن) أي ليفترقن أو مجزوم على جواب الأمر مبالغة في تأثيره لهن نحو قوله تعالى قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ الآية ثم قال جابر (والّذي نفسي بيده) وغاير بين القسمين تفننا (لرأيتهنّ) أي النخلات (والحجارة يفترقن) أي بجميع أفرادهن (حتّى عدن) بضم العين أي صرن على حالهن ورجعن (إلى مواضعهنّ وقال يعلى بن سيّابة) بسين مهملة بعدها تحتية مخففة مفتوحتين فألف فموحدة أمه وأبوه مرة وله صحبة أيضا حضر الحديبية وخيبر والفتح والطائف وفي تجريد الذهبي أن يعلى بن مرة بن وهب الثقفي بايع تحت الشجرة وله دار بالبصرة ولم يتعرض لكونه ابن سيابة وقد ذكره في التهذيب فجعلهما واحدا وكذا المزي جعلهما واحدا ثم قال وزعم أبو حاتم أنهما اثنان انتهى وسيأتي قريبا في كلام المصنف ما يؤيد الأول وقد روى حديثه هذا أحمد والبيهقي والطبراني بسند صحيح عنه أنه قال (كنت مع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في مسير) أي سير سفر (وذكر نحوا من هذين الحديثين وذكر) أي يعلى (فأمر) أي المصطفى (وديّتين) بفتح الواو وكسر الدال المهملة وتشديد التحتية أي نخلتين صغيرتين وضبطهما الشمني بفتح الواو فسكون الدال وتخفيف الياء (فانضمّتا) أي اجتمعتا وفي أصل الحجازي فانضما قال وصححه المزي بالتأنيث وكذا رأيته في النسخ المصححة (وفي رواية أشاءتين) بفتح الهمزة والشين المعجمة الممدودة بمعنى وديتين وضبط في نسخة بكسر الهمزة وهو سبق قلم مخالف لما في كتب اللغة (وعن غيلان بن سلمة الثّقفيّ) بفتحتين نسبة إلى قبيلة ثقيف وغيلان هذا بفتح الغين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 المعجمة اسلم بعد الطائف وله عشر نسوة فأمره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن فذهب فقهاء الحجاز إلى أنه يختار أربعا كما شاء وفقهاء العراق إلى أن يمسك الأربع التي تزوجها أولا وهو ممن وفد على كسرى وخبره معه عجيب قال له كسرى ذات يوم أي ولدك أحب إليك فقال له غيلان الصغير حتى يكبر والمريض حتى يبرأ والغائب حتى يؤوب فقال له كسرى زه مالك ولهذا الكلام هذا من كلام الحكماء وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم فما غذاؤك قال خبز البر قال هذا العقل من البر لا من اللبن والتمر وكان شاعرا توفي في آخر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم (مثله) أي نحو ما سبق مروي غيره (في شجرتين) أي من اجتماعهما وافتراقهما (وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم مثله في غزاة حنين) بفتح الغين أي غزوته (وعن يعلى بن مرّة) وهو أبوه (وهو ابن سيّابة) وهي أمه (أيضا) أي هما واحد لا اثنان كما توهم بعضهم (وذكر) أي يعلى (أشياء) أي من خوارق العادات (رآها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر أنّ طلحة) بالتنوين واحدة الطلح شجر عظيم من شجر العضاة وبه سمي طلحة (أو سمرة) تقدم أنها بضم الميم وأنها من شجر الطلح فأوشك من الراوي كذا قرره الشراح وارادوا الشك في رواية المبنى مع اتحاد المعنى والأظهر أن السمرة نوع خاص من جنس شجر الطلح ويحتمل أن يكون أو بمعنى بل (جاءت) أي إحديهما أو أخريهما (فأطافت به) أي المت به وقاربته على ما في القاموس وفي أصل الدلجي فطافت به أي دارت حوله صلى الله تعالى عليه وسلم (ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم إنّها) أي الشجرة المذكورة (استأذنت) أي ربها (أن تسلّم عليّ) أي فأذن لها فجاءت وسلمت. (وفي حديث عبد الله بن مسعود) أي عند الشيخين (آذنت) بهمزة ممدودة وفتح الذال والنون أي اعلمت (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بالجنّ) أي بإتيانهم إليه وحضورهم لديه (ليلة استمعوا له) أي لقراءته أو لكلامه (شجرة) فاعل آذنت وهي سمرة على ما في بعض السنن قال الدلجي وفيه تلويح بأنه لم يرهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته انتهى وفيه أنه ثبت تصريح بتوجهه صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم للقراءة عليهم وقد اخبر ببعض صورهم مما رآه لديهم نعم فيه إيماء بإتيان الشجرة في حضورهم حال الابتداء (وعن مجاهد عن ابن مسعود) نقل الحافظ العلاء عن أبي زرعة أنه مرسل ولا مضرة فإنه عند الجمهور حجة (في هذا الحديث) أي المتقدم آنفا (أنّ الجنّ قالوا من يشهد لك) أي بأنك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (قال هذه الشّجرة) أي الحاضرة (تعالي يا شجرة) بفتح اللام وسكون الياء وقد تكسر لامه كما قرئ في تعالوا بالضم وأغرب التلمساني حيث جزم بأن اللام مكسورة واقتصر عليها أي ارتفعي إلي عن مقامك واطلبي من عندي مرامك (فجاءت تجرّ عروقها) أي من محل أصولها (لها) أي لعروقها (قعاقع) بفتح القاف الأولى وكسر الثانية جمع قعقعة وهي حكاية حركة شيء يسمع له صوت من سلاح ونحوه (وذكر) أي مجاهد أو ابن مسعود (مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 الحديث الأوّل) أي في مبناه (أو نحوه) أي باعتبار معناه من اتيان الشجرة وبيان الشهادة ورجوعها إلى مكانها الأول فتأمل (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (فَهَذَا ابْنُ عُمَرَ وَبُرَيْدَةُ وَجَابِرٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ ويعلى بن مرّة وأسامة بن زيد) راعي الترتيب بينهم لا باعتبار مراتبهم بل على حسب روايتهم لكن كان حقه على هذا أن يقدم أسامة ويعلى على ابن مسعود وإلا فهو أجل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة ثم قوله (وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وابن عبّاس) بناء على ما سيأتي عنهم وقوله (وغيرهم) أي كالحسن وابن فورك وابن إسحاق من الأئمة المذكورين هنا ومنهم عمر أو عمرو على اختلاف فيهما (قد اتّفقوا على هذه القصّة نفسها) أي باعتبار مبناها (أو معناها ورواها عنهم من التّابعين أضعافهم) أي في العدة لا في الرتبة (فصارت في انتشارها) أي في فشو هذه القصة (من القوّة حيث هي) أي على حالها الاول؛ (وذكر ابن فورك) بضم الفاء يضرف ويمنع وهو الأظهر (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم سار في غزوة الطّائف) وهي كانت في السنة الثامنة بعد الفتح وبعد حنين وفي أصل الدلجي زيد وحنين (ليلا) أي من الليالي (وهو وسن) بفتح الواو وكسر المهملة صفة مشبهة من الوسن بفتحتين وهو أول النوم ومقدمته ومنه السنة وأصلها الوسنة كالعدة والمعنى ليس بمستغرق في النوم بل هو نعسان (فاعترضته) أي ظهرت في عرض وجهه (سدرة) أي وهو سائر (فانفرجت له نصفين حتّى جاز) أي جاوز (بينهما وبقيت) أي تلك الشجرة (على ساقين) أي من غير التيام لهما (إلى وقتنا) أي هذا كما في نسخة (وهي) أي تلك الشجرة (هناك) أي في طريق الطائف (معروفة معظّمة) قلت ولعلها كانت في زمانهم وأما في وماننا هذا فليست مشهورة. (ومن ذلك) أي ومن قبيل ما ذكر من إجابة الشجرة (حديث أنس) كما رواه ابن ماجة والدارمي والبيهقي عَنْهُ (أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم ورآه) أي وقد رأى جبريل النبي عليهما الصلاة والسلام (حزينا) أي من تكذيب قومه له فالجملة حال من ضمير قال (أتحبّ أن أريك آية) أي علامة على صحة نبوتك وصدق رسالتك (قال نعم) أي أحب أن تريني آية من آيات ربي ليطمئن قلبي (فنظر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى شجرة) أي بعيدة كائنة (من وراء الوادي) أي الذي كان فيه والمعنى من قدامه أو خلفه (فقال) أي لجبريل ويحتمل عكس هذا القيل (ادع تلك الشّجرة) أي فدعاها (فجاءت تمشي) أي إليه (حتّى قامت) أي وقفت (بين يديه قال) كما مر (مرها فلترجع) أي إلى منبتها كما في نسخة وفي نسخة إلى مكانها أي فأمرها بالرجوع إلى محلها (فعادت إلى مكانها) أي مما كانت فيه أي في ابتداء حالها؛ (وعن عليّ نحو هذا) أي الحديث الذي رواه أنس (ولم يذكر) أي علي (فيه) أي في مرويه وفي نسخة فيها أي في هذه الرواية (جبريل) يعني بل فيه (قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ما رواه أبو نعيم عنه (اللهمّ أرني آية) أي معجزة اطمئن بها وادفع الحزن عني بسببها ويكون من جملة نعتها (لا أبالي) أي لا أكترث ولا أحزن (من كذّبني بعدها فدعا شجرة) أي فجاءته (وذكر) أي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 (مثله) أي مثل حديث أنس (وحزنه صلى الله تعالى عليه وسلم لتكذيب قومه) أي لا لضيق حاله وقلة ماله فكان حزنه لأمر دينه ومرضاة ربه فإن قلت سبق في حديث هند بن أبي هالة أن ابن القيم قال إنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يجوز أن يكون حزنه على الكفار لأن الله تعالى قد نهاه عنه قلت لعل الحزن في الحديث المفسر هنا قبل النهي عن حزنه على الكفار على أن حزنه لتكذيب قومه لا يلزم أن يكون حزنا عليهم لجواز أن يكون لما نسبوه إليه مما هو معصوم منه وهو الكذب عليه (وطلبه) بالرفع أي واستدعاؤه (الآية) أي المعجزة (لهم) أي لاستقامة أمته أو إقامة حجته (لا له) أي لا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لكمال يقينه في معرفته وعدم تردد في طويته (وذكر ابن إسحاق) أي إمام المغازي وكذا رواه أبو نعيم عن أبي أمامة (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أرى ركانة) بضم الراء وهو ابن عبد يزيد صحابي صارعه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأما ركانة المصري الكندي غير منسوب فمختلف في صحبته كذا حققه الفيروز آبادي (مثل هذه الآية) أي المعجزة (في شجرة دعاها) أي طلبها (فأتت) أي جاءت إليه (حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ ارْجِعِي فرجعت) أي إلى محلها (وعن الحسن) أي برواية البيهقي مرسلا (أنّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَا إِلَى رَبِّهِ مِنْ قَوْمِهِ) أي بعضهم (وأنّهم يخوّفونه) أي بضربه أو حبسه أو إخراجه أو قتله (وسأله آية) أي علامة (يعلم بها) أي يزيد علمه بها ويطمئن قلبه بسببها (أن لا مخافة عليه) أن مخففة من المثقلة أي أنه كذا ذكره الدلجي والظاهر أن أن هنا مصدرية ومحلها نصب على المفعولية والمعنى يعرف بها عدم المخافة عليه من إيصال أذيتهم إليه (فأوحي إليه) بصيغة المفعول وفي نسخة بصيغة الفاعل وفي أخرى فأوحى الله إليه (أن ائت وادي كذا) وروي أرأيت وادي كذا أي أبصرت أو علمت وأن مصدرية أو تفسيرية (فيه شجرة) أي عظيمة وهي بالرفع مبتدأ خبره الجار قبله قال التلمساني أو بالنصب بفعل مضمر أي فانظر فيه شجرة أو اطلب انتهى ولا يخفى تكلفه بل تعسفه كما يدل عليه قوله (فادع غصنا منها) أي من الشجرة أو أغصانها (يأتك) وفي نسخة يأتيك بإثبات الياء على أنه مرفوع أو مجزوم على لغة (ففعل) أي ما ذكر (فجاء) أي الغصن منها (يخطّ الأرض خطّا) أي يشقها شقا بأثرها في الإتيان إليه (حتّى انتصب) أي وقف (بين يديه) أي أمامه وقدامه وأغرب التلمساني حيث فسر انتصب بقوله حبس وغرابته من جهة المبنى والمعنى لا تخفى (فحبسه ما شاء الله) أي من زمان بقائه لديه (ثمّ قال له ارجع كما جئت) أي على وجه خرق العادة (فرجع) أي يخط الأرض خطا حتى قام بمنبته (فَقَالَ يَا رَبِّ عَلِمْتُ أَنْ لَا مَخَافَةَ عليّ) أي بعد إراءتك لي هذه الآية وكان صاحب البردة أشار إلى هذه الزبدة بقوله: جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشي إليه على ساق بلا قدم كأنما سطرت سطرا لما كتبت ... فروعها من بديع الخط في اللقم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 (ونحو منه) أي من مروي الحسن كما رواه البزار وأبو يعلى والبيهقي بسند حسن (عن عمر رضي الله عنه) أي ابن الخطاب وفي نسخة عن عمرو أي ابن العاص (وقال) أي أحدهما (فيه) أي مرويه أو وقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في دعائه بعد قوله (اللَّهُمَّ أَرِنِي آيَةً لَا أُبَالِي مَنْ كَذَّبَنِي بعدها وذكر) وفي نسخة فذكر أي الراوي المختلف فيه بقية الحديث (نحوه) أي نحو ما رواه الحسن (وعن ابن عبّاس) كما رواه البخاري في تاريخه والدارمي والبيهقي (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم: قال لأعرابيّ أرأيت) أي أخبرني (إن دعوت هذا العذق) بكسر العين المهملة وسكون الذال المعجمة أي العرجون بما فيه من الشماريخ والعرجون عود العذق الذي كبه الشماريخ وهي العيدان التي عليها البسر والعذق بالفتح النخلة كلها (من هذه النّخلة) أي الحاضرة وأجابتني (أتشهد أنّي رسول الله قال نعم فدعاه فجعل ينقز) بضم القاف ويكسر وبالزاء أي فشرع يثب إليه متوجها لديه (حتّى أتاه) أي أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فَقَالَ ارْجِعْ فَعَادَ إِلَى مَكَانِهِ وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ) بتشديد الراء أي أخرجه في جامعه (وقال هذا حديث صحيح) ووقع في أصل الدلجي وغيره حسن صحيح فقيل جمع بينهما لروايته من طريقين أحديهما تقتضي صحته والأخرى حسنه أو حسن لذاته صحيح لغيره باعتبار تعاضد رواياته أو حسن لغة صحيح حجة. فصل [في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم] (في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم ويعضد) بضم الضاد أي يقوي ويؤيد (هذه الأخبار) أي الأحاديث السابقة الواردة في كلام الأشجار ومجيئها إلى سيد الأخيار (حديث أنين الجذع) وفي نسخة حنين الجذع أي شوقه إليه وبكائه لديه صلى الله تعالى عليه وسلم والجذع بكسر الجيم أصل النخلة والمراد به هنا ما كان من عمد المسجد وكان يتكئ عليه حال الخطبة وسيجيء بقية القصة (وهو) أي وحديثه هذا (في نفسه) أي باعتبار مبناه (مشهور) أي عند السلف (منتشر) أي عند الخلف (والخبر به) أي بانينه وحنينه باعتبار معناه (متواتر) أي يفيد العلم القطعي لمن اطلع على طريق الحديث الآحادي المفيد بانفراده العلم الظني قال الحلبي وكذا قال غيره إنه متواتر وقد أبعد التلمساني حيث قال أراد به التواتر اللغوي يقال تواترت الكتب أي جاء بعضها في أثر بعض من غير أن ينقطع والأول أظهر فتدبر وقد قال السهيلي حديث خوار الجذع وحنينه منقول بالتواتر لكثرة من شاهد خواره من الخلف وكلهم نقل ذلك أو سمعه من غيره فلم ينكره أحد انتهى وسببه ما بينه المصنف بقوله (قد خرّجه) بتشديد الراء أي أخرجه (أهل الصحيح) أي ممن التزم الصحة في رواياته الواردة في كتابه كالبخاري ومسلم وابن حبان وابن خزيمة (ورواه من الصّحابة بضعة عشر) بكسر الموحدة وتفتح أي ثلاثة أو أكثر إلى تسعة إذ البضع منها إليها (منهم) أي بعضهم وهم عشرة منهم (أبيّ بن كعب) وهو أقرأ الصحابة وقد رواه عنه الشافعي وابن ماجة والدارمي والبيهقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 (وجاب بن عبد الله) أي الصحابي ابن الصحابي وسيأتي حديثه (وأنس بن مالك) وهو خادمه عليه الصلاة والسلام وحديثه في الترمذي وصححه (وعبد الله بن عمر) وهو أشهر من أن يذكر (وعبد الله بن عباس) أي ابن عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وسهل بن سعد) الساعدي رضي الله تعالى عنهما وحديثه رواه الشيخان (وأبو سعيد الخدريّ) رواه عنه الدارمي (وبريدة) بالتصغير وقد سبق ذكره (وأمّ سلمة) أي أم المؤمنين رواه عنها البيهقي (والمطّلب) بتشديد الطاء (ابن أبي وداعة) بفتح الواو وهو من مسلمة الفتح وقد رواه عنه الزبير بن بكار في أخبار المدينة (كلّهم) أي جميع المذكورين وغيرهم (يحدّث) أفرد ضميره باعتبار لفظ كل أي يحدثون (بمعنى هذا الحديث) أي وإن كانت الفاظهم مختلفة في باب التحديث وعلى هذا المنبى حصل التواتر في المعنى (قال التّرمذيّ وحديث أنس صحيح) أي إسناده (قال وفي نسخة وقال (جابر) أي ابن عبد الله كما في نسخة صحيحة (كان المسجد) أي مسجد المدينة وهو المسجد النبوي (مسقوفا على جذوع نخل) بمعنى نخيل فإنه اسم جنس ثم بناه عمر ثم عثمان رضي الله تعالى عنهما (وكان) وفي نسخة فكان (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي دائما أو غالبا (إذا خطب يقوم إلى جذع) أي معين (منها) أي من تلك الجذوع (فلمّا صنع له المنبر) بصيغة المجهول وقد صنعه له غلام امرأة من الأنصار أو غيره من اثل الغابة وله ثلاث درجات (سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار) بكسر مهملة فمعجمة جمع عشراء بضم وفتح ممدودة وهي الناقة الحامل أو التي أتي لحملها عشرة أشهر على القول الأشهر وظاهر هذا الحديث أن الجذع بمجرد صنع المنبر قبل طلوع سيد البشر صدر منه البكاء لما أحس من علامة قرب البعد عن مقام دنا وحال الاتكاء. (وفي رواية أنس) أي وهي قوله فلما قعد على المنبر خار الجذع كخوار الثور أي صاح كصياحه (حتّى ارتجّ) بتشديد الجيم أي اضطرب وارتعد (المسجد) أي بأهله (لخواره) بضم الخاء المعجمة وبالواو وفي نسخة بالباء السببية بدل اللام للعلة وفي نسخة بضم الجيم فهمزة مفتوحة بعدها ألف وهو أظهر في هذا المقام باعتبار تمام المرام ففي القاموس جأر جؤارا إذا رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث والبقرة والثور صاحا وأما الخوار بضم الخاء المعجمة من صوت البقر والغنم والظباء والسهام انتهى قال الحجازي وأما بالخاء المعجمة والواو المخففة فصياح الثور ولا أعلم به رواية انتهى والحلبي جعله أصلا ونسب الأول إلى نسخة في الهامش واليمني اقتصر على الثاني وجوز الشمني الوجهين والحاصل أن رواية الجيم أعم وفي الدراية أتم والله تعالى أعلم. (وفي رواية سهل) أي ابن سعد الساعدي (وكثر بكاء النّاس لما رأوا به) أي من الحنين والأنين من جهة التبعد عن خدمة سيد المرسلين أو من خشيته من التنزل في درجته وهو بكسر اللام وتخفيف الميم ويجوز بفتح اللام وتشديد الميم كما قرئ بهما في قوله تعالى وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا. (وفي رواية المطّلب) أي ابن أبي وداعة السهمي وزيد في نسخة صحيحة وأبي ويشير إليه قول الحلبي وهو بضم الهمزة وفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 الموحدة ثم ياء مشددة (حتّى تصدّع) بتشديد الدال أي تشقق (وانشقّ) عطف تفسير قاله الدلجي وغيره والأظهر أن المعنى واستمر على انشقاقه (حتّى جاء) أي أتاه (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فوضع يده عليه) أي تسلية لما لديه (فسكت) أي حيث سكن إليه وسيأتي في رواية أنه عانقه بيديه؛ (زاد غيره) أي غير المطلب ومن معه وقال الدلجي في رواية الشافعي عن أبي بن كعب (فقال النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فَقَدَ) صلى الله تعالى عليه وسلم بالوجهين أي بعد (من الذّكر) أي الموعظة البليغة في الخطبة ومنه قوله تعالى فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (وزاد غيره) أي غير ذلك الغير وفي رواية أبي يعلى عن أنس، (والّذي نفسي بيده) أي بتصرف قدرته وقبضة إرادته (لو لم ألتزمه) أي اعتنقه (لم يزل هكذا) أي باكيا (إلى يوم القيامة تحزّنا) بضم الزاي إظهارا للحزن الزائد على الصبر (على رسول الله) أي على فراقه (صلى الله تعالى عليه وسلم) وما أحسن من قال من بعض أرباب الحال: الصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم (فأمر به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدفن تحت المنبر) أي حتى يقرب إلى الذكر وما يتبعه من أثر الخير (كذا في حديث المطّلب) أي السهمي (وسهل بن سعد) أي الساعدي (وإسحاق) أي ابن عبد الله بن أبي طلحة وهو تابعي روى عن أبيه وعدة وعنه مالك وابن عيينة وجماعة وهو حجة ثقة أخرج له الأئمة الستة (عن أنس) وهو عمه من أمه (وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ سَهْلٍ فَدُفِنَتْ تَحْتَ منبره أو جعلت في السّقف) أي في سقف المسجد شك من الراوي ولعل وجه التأنيث كونه جذع النخلة فاكتسب التأنيث من الإضافة وفي أصل التلمساني فدفن قال وفي طريق فدفنت فأراد الخشبة وقال البرقي إنما دفنه وهو جماد لأنه صار في حكم المؤمن لحبه وحنينه قلت ولعل دفنه تحت منبره ليكون على قربه ولا يحرم من سماع ذكره وأما المنبر فقد احترق أول ليلة من رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة وكان ذلك على الناس من أعظم مصيبة. (وفي حديث أبيّ) أي ابن كعب (فكان) أي أولا (إذا صلّى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم صلّى إليه) وهو لا ينافي أنه عند خطبته كان يعتمد عليه فلما (هدم المسجد) أي عند إرادة تجديده وتوسيعه في تحديده وهو في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه ليزيد فيه من جهة القبلة توسعة للأمة أو في أيام إباحة يزيد المدينة في أحد الأيام الثلاثة (أَخَذَهُ أُبَيٌّ فَكَانَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ أَكَلَتْهُ الأرض) كذا في النسخة المصححة والمراد بها الدابة التي يقال لها الأرضة سميت بفعلها وأضيفت إليه في آية سبأ بقوله تعالى دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ قال المزي المشهور عند أهل الحديث الأرضة (وعاد رفاتا) بضم الراء ففاء فتاء فوقية أي وصار دقاقا وفتاتا قال الحلبي قوله إلى أن أكلته الأرض كذا في النسخة التي وقفت عليها بالشفاء والحديث المذكور أعني حديث أبي وهو مطول في مسند أحمد وفيه الأرضة وهي دابة تأكل الخشب وهو باختصار في سنن ابن ماجة في الصلاة انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 وهذا يدل على تصحيح رواية جعله في السقف وينبغي أن يحمل رواية دفنه تحت منبره بعد أن أكلته الأرض عند أبي حفظا له عن تفرقه وصونا له عن مهانته وتحرقه وما أحسن مناسبة ما تحت منبره كون قبره لحصول دوام ذكره وتمام شكره فإن منبره على حوضه وحوضه داخل في روضه. (وذكر الإسفراييني) بكسر الهمزة وسكون السين وفتح الفاء وتكسر فراء ممدودة فهمزة فنون فياء نسبة إلى بلد في العجم في خراسان وفي نسخة بنون بين ياءين والظاهر أن المراد به أبو إسحاق ويحتمل أنه أبو حامد (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم دعاه إلى نفسه فجاءه يخرق) بضم الراء وكسرها أي يشق (الأرض فالتزمه) أي اعتنقه تودعا منه (ثمّ أمره فعاد إلى مكانه) والحاصل أن قصة حنين الجذع واحدة لرجوعها إلى معنى واحد في المآل وما وقع في ألفاظها من اختلاف الأقوال مما ظاهره التغاير الموجب للإشكال فمن تفاوت تقول الرجال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال (وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ فَقَالَ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي خطابا للجذع (إن شئت أردّك إلى الحائط) أي البستان (الّذي كنت فيه) أي أولا على حالك قبل أن تصير محولا كما بينه بقوله (ينبت لك) بصيغة الفاعل ويجوز بالبناء ويجوز للمفعول أي يخرج لك (عروقك) وتثبت في محل أصولك (ويكمل) بفتح فسكون فضم وبضم ففتح فتشديد ميم مفتوحة أي ويتم (خلقك) أي خلقتك على ما عليه فطرتك (ويجدّد لك خوص) بضم الخاء ورق النخل (وثمرة) بالمثلثة (وإن شئت أغرسك) بكسر الراء (في الجنّة) أي الموعودة (فيأكل أولياء الله من ثمرك) أي تمرك، (ثمّ أصغى له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ألقى له سمعه وقرب رأسه إليه (يستمع ما يقول) أي مما يرده عليه (فقال بل تَغْرِسُنِي فِي الْجَنَّةِ فَيَأْكُلُ مِنِّي أَوْلِيَاءُ اللَّهِ تعالى) أي في دار النعمة (وأكون) أي ثابتا ونابتا (في مكان لا أبلى فيه) بفتح الهمزة واللام أي لا أخلق ولا أعتق ولا أفنى قال الحلبي أبلى بفتح الهمزة ووقع في النسخة التي وقفت عليها الآن مضموم الهمزة بالقلم ولا يصح قلت يصح أن يكون مجهولا من أبلاه متعدي بلى كما صرح بإسناده صاحب القاموس (فسمعه) أي كلام الجذع (من يليه) أي يقربه والضمير له أي للنبي عليه الصلاة والسلام قيل وممن سمعه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال غاب الجذع فلم ير بعد ذلك ذكره التلمساني (فقال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: قد فعلت) أي قبلت أو جزمت على هذا الفعل أو غرست كما أردت. (ثمّ قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (اخْتَارَ دَارَ الْبَقَاءِ عَلَى دَارِ الْفَنَاءِ فَكَانَ الحسن) أي البصري (إذا حدّث بهذا) أي الحديث (بكى وقال يا عباد الله الخشبة) أي مع كونها في حد ذاتها ليست من أهل الرقة والخشية (تحنّ) بفتح فكسر فتشديد نون أي تميل (إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شوقا إليه لمكانه) أي لمكانه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عنده سبحانه وتعالى أو لأجل مكانه المتبعد من مكانها (فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إلى لقائه) ولله در القائل من أهل الفضائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 وألقى حتى في الجمادات حبه ... فكانت لإهداء السلام له تهدى وفارق جذعا كان يخطب عنده ... فأنّ انين الأم إذ تجد الفقدا يحن إليه الجذع يا قوم هكذا ... أما نحن أولى أن نحنّ له وجدا إذا كان جذع لم يطق بعد ساعة ... فليس وفاء أن نطيق له بعدا (رواه) أي الحديث الذي مر (عن جابر حفص بن عبيد الله) بالتصغير (ويقال عبد الله بن حفص) قال الحلبي ويقال جعفر بن عبد الله والصواب الأول وأنه حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك يروي عن جده وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما وغيرهما وعنه ابن إسحاق وأسامة بن زيد وجماعة قال أبو حاتم لا يثبت له السماع إلا من جده انتهى وحديثه هذا عن جابر في البخاري (وأيمن) أي الحبشي مولى ابن أبي عمرة المخزومي قال الذهبي في الميزان ما روى عنه سوى ولده عبد الواحد ففيه جهالة لكن وثقه أبو زرعة وقال ابن القطان إذا وثق وروى عنه واحد انتفت الجهالة وقد أخرج البخاري وحده لأيمن (وأبو نضرة) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة واسمه المنذر بن مالك تابعي يروي عن علي مرسلا وعن ابن عباس وأبي سعيد وعنه قتادة وعوف قال الحلبي وقع في النسخة التي وقفت عليها الآن بالشفاء أبو بصرة بنقطة تحت الباء وهذا شيء لا نعرفه ولا أعلم أبا بصرة غير واحد واسمه جميل وهو صحابي غفاري وليس له شيء عن جابر فيما أعلم (وابن المسيّب) تابعي جليل (وسعيد بن أبي كرب) بفتح فكسر وهو منصرف وفي نسخة بفتح فسكون وهو همداني وثق (وكريب) بالتصغير يروي عن مولاه ابن عباس وعائشة وجماعة وعنه ابناه وموسى بن عقبة وطائفة وثقوه (وأبو صالح) أريد به ذكوان السمان وقد تقدم (ورواه) أي الحديث الذي سبق (عن أنس بن مالك، الحسن) أي البصري (وثابت) وهو كاسمه ثابت (وإسحاق بن أبي طلحة) مر ذكره (ورواه عن ابن عمر نافع) أي مولاه وهو من اعلام التابعين (وأبو حيّة) بتشديد التحتية كلبي كوفي روى عن عمر وهناك أبو حية روى عن علي (ورواه أبو نضرة) وهو الذي سبق ذكره قال التلمساني وهو في الموضعين في الأصل بموحدة من أسفل وصاد مهملة وصوابه بنون مفتوحة وضاد معجمة وهكذا عند الحلبي والأنطاكي (وأبو الودّاك) بتشديد الدال أي رويا الحديث المتقدم كلاهما (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ) بتشديد الميم أي روى الحديث المذكور (عن ابن عبّاس وأبو حازم) بكسر الزاء وهو سلمة بن دينار الأعرج المدني أحد الأعلام (وعباس) بتشديد الموحدة (ابن سهل) أي ابن سعد الساعدي كلاهما (عن سهل بن سعد) أي عن ابيه (وكثير بن زيد) الاسلمي أو الأيلي (عن المطّلب) أي ابن أبي وداعة (وعبد الله بن بريدة) وهو قاضي مرو وعالمها (عن أبيه والطّفيل بن أبيّ) بالتصغير فيهما كنيته أبو بطن لعظم بطنه (عن أبيه) أي أبي بن كعب. (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وفّقه الله فهذا حديث: كما تراه أخرجه) وفي نسخة خرجه (أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 الصّحّة) أي من أرباب الحفظ والثقة (ورواه من الصحابة من ذكرنا) أي من أجلائهم (وغيرهم) بالرفع (من التّابعين ضعفهم) أي زائد عليهم أو قدرهم مرتين منضمين (إلى من لم نذكره) أي للاختصار أو لعدم الاستحضار أو لعدم الاشتهار (وبدون هذا العدد) أي وبجمع أقل من هذا العدد المذكور وفي نسخة وبدون هذا العدد (يقع العلم) أي القطعي (لمن اعتنى بهذا الباب) أي اهتم بشأنه وجمع جميع ما يتعلق ببيانه (والله المثبّت) بتشديد الموحدة ويجوز تخفيفها أي من شاء من عباده (على الصّواب) . فصل [ومثل هذا وقع في سائر الجمادات بمسه ودعوته] (ومثل هذا) أي ما ذكر من حنين الجذع وقع له (في سائر الجمادات) أي بقيتها أو جملتها من غير النباتات التي هي قريبة من الحيوانات فهو في باب المعجزة أقرب وفي خرق العادة أغرب (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عيسى التّيميّ) وفي نسخة ابن محمد (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ المرابط) بضم الميم وكسر الموحدة أذن له أبو عمرو الداني (ثنا المهلّب) بتشديد اللام المفتوحة (ثنا أبو القاسم حدّثنا أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة (حدّثنا المروزيّ ثنا الفربري) بفتح الفاء ويكسر (حدّثنا البخاريّ) صاحب الصحيح (حدّثنا محمد بن المثنّى) بتشديد النون المفتوحة (حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ) بالتصغير نسبه إلى جده فإنه محمد بن عبد الله بن الزبير وليس من ولد الزبير بن العوام بل هو كوفي مولى لبني اسد قال بندار ما رأيت أحفظ منه وقال آخر كان يصوم الدهر (قال حدّثنا إسرائيل) أي ابن يونس بن أبي إسحاق إسماعيل السبيعي الكوفي أحد الاعلام وثقه أحمد وغيره وضعفه ابن المديني وغيره أخرج له الأئمة الستة (عن منصور) أي ابن المعتمر أبو عتاب السلمي من أئمة الكوفة يروي عن أبي وائل وزيد بن وهب وعنه شعبة والسفيانان (عن إبراهيم) أي ابن يزيد النخعي (عن علقمة) أي ابن قيس (عن ابن مسعود قال: لقد كنّا) أي نحن معشر الصحابة معه صلى الله تعالى عليه وسلم (نسمع تسبيح الطّعام وهو يؤكل) جملة حالية والحديث هذا قد ساقه القاضي كما رأيت من رواية البخاري وهو من علامات النبوة وخوارق العادة وقد أخرجه الترمذي في المناقب وقال حسن صحيح ذكره الحلبي، (وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) وفي أصل الدلجي وفي رواية عنه أيضا وقال كما في الترمذي (كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم الطّعام ونحن نسمع تسبيحه) أي تسبيح الطعام والجملة حالية من ضمير تأكل، (وقال أنس) وفي نسخة وعن أنس كما روى ابن عساكر في تاريخه (أخذ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كفا من حصى) أي حجارة دقاق (فَسَبَّحْنَ فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم حتّى سمعن التّسبيح ثمّ صبّهنّ) أي حولهن واضعا لهن (في يد أبي بكر فسبّحن ثمّ) أي بعده وقعن (في أيدينا فما سبّحن وروى مثله) أي مثل حديث أنس (أبو ذرّ رضي الله عنه) على ما رواه البزار والطبراني في الأوسط والبيهقي عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 (وذكر) أي أبو ذر (أَنَّهُنَّ سَبَّحْنَ فِي كَفِّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ الله عنهما) ولعل القضية متعددة (وقال عليّ) وفي نسخة وعن عَلِيٌّ (كُنَّا بِمَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فخرج إلى بعض نواحيها) أي جهاتها وأطرافها (فما استقبله) أي ما واجهه (شجرة) وفي نسخة شجر (ولا جبل) أي حجر كما روي (إِلَّا قَالَ لَهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله) رواه الدارمي والترمذي بسند حسن قال ابن إسحاق وهذا مما بدئ به صلى الله تعالى عليه وسلم من النبوة. (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم إنّي لأعرف) وفي رواية الآن (حجرا بمكّة كان يسلّم عليّ) أي يقال السلام عليك يا رسول الله رواه مسلم؛ (قيل إنّه الحجر الأسود) وقيل إنه الحجر المتكلم ومال إليه القابسي وقال إنه الحجر المبني للجدار المقابل لدار أبي بكر قال السهيلي روي في بعض المسندات إِنَّهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ. (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها) أنها قالت قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لمّا استقبلني جبريل بالرّسالة جعلت) أي شرعت (لا أمرّ) بفتح همز وضم ميم وتشديد راء من المرور (بحجر ولا شجر) وفي نسخة صحيحة بتقديم شجر على حجر وهو الأظهر فتدبر (إِلَّا قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه) كما رواه البيهقي (لم يكن النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا سجد له) أي إنقاد وتواضع له بنحو السلام أو السجود التحية والإكرام كإخوة يوسف عليه السلام له أو كالملائكة لآدم عليه السلام بجعله قبلة، (وفي حديث العبّاس) على ما رواه البيهقي أيضا (إذا اشتمل عليه) أي على عمه (النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى بنيه) أي بني عمه وهم عبد الله وعبيد الله والفضل وقثم (بملاءة) بميم مضمومة ولام فألف ممدودة ريطة كالملحفة قطعة واحدة وأما قول الدلجي بهمزة ممدودة فسهو قلم من أثر وهم نشأ له تبعا للحلبي في قوله بهمزة مفتوحة ممدودة (ودعا لهم) أي للعباس وبنيه (بالسّتر من النّار) بفتح السين مصدر والاسم بالكسر بمعنى الحجاب ويؤيد الأول قوله (كستره إيّاهم بملاءته) كأن قال يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء بنوه فأسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه (فأمّنت) بتشديد الميم أي تكلمت بكلمة آمين (أسكفّة الباب) بضم الهمزة والكاف وتشديد الفاء أي عتبته (وحوائط البيت) جمع حائط يعني الجدار وجدرانه المحدقة به من جميع نواحيه (آمين آمين) كرر إما تأكيدا أو تقديرا لوقوعه مكررا أو باعتبار كل من الأسكفة والحوائط وآمين بالمد ويقصر مبني على الفتح ومعنا استجب أو افعل وفي الحديث آمين خاتم رب العالمين. (وعن جعفر) أي الصادق (بن محمد عن أبيه) أي محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم (مرض النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأتاه جبريل بطبق) أي من سعف أو غيره (فيه رمّان وعنب) أي من فواكه الدنيا أو الجنة (فأكل منه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من مجموعهما أو من كل منهما أو من طبقهما (فسبّح) أي ما في الطبق عند أكله قال الدلجي لم أدر من رواه قلت يكفي أنه رواه المصنف وهو من أكابر المحدثين ولولا أن الحديث له أصل لما ذكره ولذا قال القسطلاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 في المواهب ذكره العاصي عياض في الشفاء ونقله عنه عبد الحافظ أبو الفضل في فتح الباري، (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) كما رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجة عنه أنه قال (صعد) بكسر العين أي طلع (النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ أُحُدًا) بضمتين وهو جبل عظيم قرب المدينة (فرجف بهم) بفتح الجيم أي اضطرب من هيبتهم وارتعد من خشيتهم (فقال أثبت أحد) أي يا أحد (فإنّما عليك نبيّ) أي ثابت النبوة (وصدّيق) أي مبالغ في ثبوت الصداقة (وشهيدان) أي ثابتان في مرتبة الشهادة ومنزلة حسن الخاتمة بالسعادة ووقع في أصل الدلجي بعد قوله فرجف بهم فضربه برجله وهو غير موجود في النسخ المعتبرة وفي أصل التلمساني أو صديق أو شهيد فهي كالواو للمصاحبة أو للتفصيل (ومثله) أي مثل ما روى أنس في أحد روى (عن أبي هريرة في حراء) بكسر الحاء ومد الراء منصرفا وممنوعا وقصره وهو جبل بمكة على يسار الذاهب إلى منى (وزاد) أي أبو هريرة (معه) أي مع ما ذكر (وعليّ) أي قوله وعلي بالعطف على ما قبله والمعنى روى ومعه عَلِيٌّ (وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَقَالَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ أو صدّيق أو شهيد) وفي رواية وسعد بن أبي وقاص بدل وعلي فتحركت الصخرة فقال اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد رواه مسلم والترمذي في مناقب عثمان ولم يذكر سعدا وقال اهدأ بدل اسكن (والخبر) أي الذي رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه رواه الترمذي والنسائي (في حراء أيضا عن عثمان قال) أي عثمان (وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَا فِيهِمْ وَزَادَ) أي عثمان (عبد الرّحمن) أي ابن عوف كما في نسخة (وسعدا) وهو ابن أبي وقاص (قال) وفي نسخة وقال أي عثمان (ونسيت) بفتح فكسر والأولى بضم فكسر مشددا (الاثنين) لعلهما طلحة والزبير. (وفي حديث سعيد بن زيد) أي كما رواه أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة (أيضا مثله) أي مثل الخبر المروي قبله (وذكر عشرة وزاد) أي سعيد (نفسه) أي ذكرها فيهم. (وقد روي) بصيغة المجهول أي في حديث الهجرة من السيرة (أنه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (حين طلبته قريش قال له: ثبير) بفتح المثلثة وكسر الموحدة اسم لجبل بظاهر مكة على ما في القاموس وفي النهاية جبل معروف انتهى والمشهور أنه جبل عظيم بمنى قبالة مسجد الخيف على يسار الذاهب إلى عرفات وأما قول الشمني جبل بمزدلفة فمعناه أنه متصل بآخر مزدلفة وأما قول الحجازي جبل عظيم بالمزدلفة على يمنة الذاهب من منى إلى عرفات فأظنه أنه سهو أو هو من اسمائه وليس بمراد هنا (اهبط يا رسول الله) أي انزل عني (فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ عَلَى ظَهْرِي فَيُعَذِّبُنِي الله تعالى) أي بمشاهدة هذا الأمر فوقي وتحمل هذا الفعل مني (فقال حراء إليّ) أي التجئ واصعد إلي وارتفع لدي (يا رسول الله) وكان الخوف غالبا على ثبير والرجاء على حراء. (وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ) أي عَلَى الْمِنْبَرِ (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91] ) أي وما عظموه حق عظمته أو ما عرفوه حق معرفته بجعلهم له شريكا في الوهيته ووصفهم إياه بما لا يليق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 بربوبيته (ثمّ قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يمجّد الجبّار نفسه) بتشديد الجيم أي يذكر ذاته بوصف المجد والشرف والعظمة وروي يحمد (يقول) كذا في نسخة وهو جملة حالية (أنا الجبّار أنا الجبّار) بالرفع بإثبات التكرار وهو الذي يجبر العباد على وفق ما أراد ويقهرهم بالفناء عن البلاء (أنا الكبير) أي العظيم الذات الكريم الصفات قال الحجازي أنا الجبار مرتين وأنا الكبير ويروى مرتين (المتعال) أي المتعالي وهو الرفيع الشأن المنزه عن التعلق بالزمان والمكان ونحوهما من سمات الحدثان وصفات النقصان (فرجف المنبر) أي اضطرب اضطرابا شديدا وذلك لعظمة الله وهيبته (حتّى قلنا ليخرّنّ) بفتح اللام والياء وكسر الخاء المعجمة وتشديد الراء والنون أي ليسقطن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (عنه) أي عن المنبر. (وعن ابن عباس رضي الله عنهما) كما رواه البزار والبيهقي (قال كان حول البيت) أي على جدرانه ذكره الدلجي (ستّون وثلاثمائة صنم مثبتة الأرجل) بفتح الموحدة المخففة أو المشددة أي مسمرة (بالرّصاص) بفتح الراء على ما في القاموس قيل ويكسر (في الحجارة) أي من أحجار البيت ولا يبعد أن تكون الأصنام موضوعة على حجارات كائنة حول البيت منصوبة بتسميرها فيها الرصاص وكذا كانت الأصنام داخل البيت وفوقه أيضا قال الدلجي وروى أبو يعلى نحوه أي عنه وأنه قال (فلمّا دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المسجد) أي المسجد الحرام وهو يطلق على الكعبة وما حولها من البقعة (عام الفتح) أي سنة فتح مكة (جعل) أي شرع (يشير بقضيب) أي بسيف لطيف أو عود ظريف (في يده) حال من قضيب (إليها) معلق بيشير قال الحلبي وفي رواية صحيحة بقضيب يشبه القوس والقوس قضيب انتهى والتشبيه يحتمل أن يكون من حيثية طوله وعرضه أو من جهة انحراف في وسطه (ولا يمسّها) أي بيده تجنبا عنها لا لبعدها كما ذكره الدلجي، (ويقول) أي ما أمره الله أن يقول (جاءَ الْحَقُّ) أي ظهر الحق وأهله (وَزَهَقَ الْباطِلُ [الإسراء: 81] أي اضمحل وذهب أصله (الآية) أي أن الباطل كان زهوقا أي غير ثابت في نظر أهل الحق دائما (فما أشار) أي به كما في نسخة أي بقضيبه (إِلَى وَجْهِ صَنَمٍ إِلَّا وَقَعَ لِقَفَاهُ وَلَا) أي ولا أشار به (لقفاه إلّا وقع لوجهه) أي سقط عليه هيبة مما أشار به إليه (حتّى ما بقي منها صنم) الآخر ساقطا إما إلى وجهه وإما إلى قفاه؛ (ومثله في حديث ابن مسعود) أي على ما رواه الشيخان عنه (وقال) أي ابن مسعود (فجعل يطعنها) بفتح العين ويضم وهو أولى من عبارة الحلبي بضم العين ويفتح لما في كلام استاذه صاحب القاموس طعنه بالرمح كمنعه ونصره ضربه مع ما في الفتح من الخفة المعادلة لثقل العين كما حرر في يسع ويضع ويدع ويقع ثم المراد بالطعن هنا مجرد الإشارة لما سبق صريحا في العبارة والمعنى يشير إليه في صورة الطاعن لديه (ويقول) أي كما أمر به في آية أخرى (جاء الحقّ وما يبدىء الباطل وما يعيد) أي ظهر الحق ولم يبق للباطل ابتداء ولا إعادة أو ما يبدىء الضم خلقا ولا يعيده أو لا يبدئ ضرا لأهله في الدنيا ولا يعيده في العقبى؛ (ومن ذلك) أي من قبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 ما ذكر عن الجمادات (حديثه) أي خبره الذي رواه الترمذي والبيهقي (مع الرّاهب) وهو بحيرا بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة مقصورا وقيل ممدودا واسمه جرجس أو جرجيس بزيادة ياء ابن عبد القيس من نصارى تيماء أو بصرى ذكره ابن منده وأبو نعيم في الصحابة أيمانه به صلى الله تعالى عليه وسلم قبل بعثته (في ابتداء أمره) أي أمر ظهوره (إذ خرج تاجرا) ظرف لحديثه معه أو لابتداء أمره (مع عمّه) أي أبي طالب وفيه أنه لم يكن في خروجه معه تاجرا بل تعرض له عند خروجه فقال تتركني وليس له أحد فأخذه معه وإنما خرج تاجرا بعد ذلك مع ميسرة غام خديجة وفي هذه لقي لسطور الراهب وقصته معه مشهورة وفي كتب السير مسطورة فقوله تاجرا حال من عمه لا من ضمير خرج (وكان الرّاهب) أي بحيرا (لا يخرج) أي في عادته (إلى أحد) أي ممن كان ينزل المكان (فخرج) أي في ذلك الزمان (وجعل يتخلّلهم) أي شرع يطلب أحدا في خلال من كان في تلك المحال (حَتَّى أَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قريش) أي من المشركين (ما علمك) أي ما سبب علمك به وبقربه عند ربه (فَقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إلّا خرّ ساجدا له ولا يسجد) أي الأشجار والأحجار (إلّا لنبيّ وذكر القصّة) أي على ما أوردها أهل الأخبار من أنه قال وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به كان صلى الله تعالى عليه وسلم في رعية الإبل فقال ارسلوا إليه (ثمّ قال) أي الراهب أو الراوي (فأقبل صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه غمامة تظلّه فلمّا دنا من القوم وجدهم سبقوه) وفي نسخة قد سبقوه (إلى فيء الشّجرة) بفتح الفاء وسكون التحتية بعدهم همزة أي إلى ظلها (فلمّا جلس مال الفيء) أي فيء الشجرة (إليه) فقال انظروا مال الفيء إليه ثم قال أنشدكم الله تعالى أيكم وليه قالوا أبو طالب وإذا بسبعة من الروم قد اقبلوا فسألهم فقالوا إن هذا النبي قد خرج من بلاده في هذا الشهر فوجهوا إلى كل جهة جماعة ووجهونا إلى جهتك فقال افرأيتم أمرا أراده الله تعالى ايقدر أحد يدفعه قالوا لا فأقاموا عنده ثلاثة أيام ولم يزل يناشد عمه حتى رده وبعث معه أبو بكر بلالا وزوده الراهب زيتا كعكا قيل وذكر أبي بكر وبلال فيه وهم. فصل [في الآيات في ضروب الحيوانات] (في الآيات) أي الشاهدة بثبوت نبوته وصدق رسالته وما خص به من بديع الكرامات ومنيع المعجزات (فِي ضُرُوبِ الْحَيَوَانَاتِ حَدَّثَنَا سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ الملك أبو الحسين الحافظ) سبق ذكره (حدّثنا أبي) قال الحلبي تقدم أبوه فما ضبط في بعض النسخ بصيغة التصغير تصحيف وتحريف (حدّثنا القاضي أبو يونس حدّثنا أبو الفضل الصّقليّ) بفتح الصاد وتكسر وسكون القاف (حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أبيه وجدّه) أي كليهما (قال حدّثنا أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 الْعَلَاءِ أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فضيل) بالتصغير وهذا هو الأصل الصحيح ووقع في أصل المؤلف بإسقاط ثنا محمد بن فضيل (ثنا يونس بن عمرو) بالواو قال أبو معين ثقة وقال أبو حاتم لا يحتج به (ثنا مجاهد عن عائشة) قال يحيى بن سعيد لم يسمع منها قال وسمعت شعبة ينكر أن يكون سمع منها وتبعه على ذلك يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي وحديثه عنها في الصحيحين وقد صرح في غير حديث بسماعه منها والله تعالى أعلم (قالت كان عندنا داجن) بكسر الجيم ما يألف البيت من الحيوان كالشاة والطير مأخوذ من المداجنة وهي المخالطة والملازمة (فَإِذَا كَانَ عِنْدَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) وفي نسخة صحيحة عندنا مؤخر (قرّ وثبت مكانه) أي الداجن (فلم يجيء ولم يذهب) أي ولم يغير شأنه توقيرا له وتكريما وهيبة منه وتعظيما (وإذا خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جاء وذهب) أي تردد واضطرب وهذا الحديث رواه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني والبيهقي والدارقطني وهو صحيح وفي المدعي صريح؛ (وروي عن عمر) رضي الله تعالى عنه بصيغة المجهول إشعارا بضعفه فقد قال الحافظ المزي لا يصح إسنادا ولا متنا وقال ابن دحية إنه موضوع لكن قال القسطلاني قد رواه الأئمة فنهايته الضعف لا الوضع فممن رواه الطبراني والبيهقي قال وروي أيضا بأسانيد عن عائشة وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما وما ذكرنا هو أمثلها (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان في محفل) بفتح الميم وكسر الفاء أي مجتمع (مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ قَدْ صَادَ ضبّا) بفتح الضاد المعجمة وتشديد الموحدة حيوان معروف يقال إنه فارق جحره لم يهتد إليه وهو لا يشرب وأطول الحيوان روحا بعد ذبحه ويعيش سبعمائة سنة فصاعدا ويقال إنه يبول في كل أربعين يوما قطرة (فقال) أي الأعرابي (من هذا قالوا نبيّ الله فقال والّلات) بواو القسم (والعزّى) وهما صنمان كانوا يعبدونها في وسط الكعبة (لا آمنت بك) أي بنبوتك ورسالتك وفي نسخة لا أومن بك (أو) بسكون الواو (يؤمن) بالنصب أي إلى أن يؤمن أو حتى يؤمن كما في نسخة (بك هذا الضّبّ) أي فأؤمن أنا أيضا بك حينئذ (وطرحه بين يدي النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ألقى الضب بين جهتي يديه يعني قدامه (فقال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم له: يا ضبّ؛ فأجابه بلسان مبين) أي بين أو مبين حروفه (يسمعه القوم جميعا لبّيك) أي إجابتي لك مرة بعد مرة (وسعديك) أي ومساعدتي لطاعتك كرة بعد كرة (يا زين من وافى القيامة) أي يا زينة من أتاها وحضرها، (قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام له (من تعبد) أي ممن يسمى إلها (قال الذي في السّماء عرشه) أي ملكوته سبحانه (وفي الأرض سلطانه) أي ملكه المظهر شأنه (وفي البحر سبيله) أي طريق آياته ولعله من باب الاكتفاء فإن في البر كثيرا من عجائبه (وفي الجنّة رحمته) أي ثوابه من أثرها للمطيعين (وفي النّار عقابه) أي من أثر سخطه للعاصين (قال فمن أنا قال رسول ربّ العالمين وخاتم النّبيّين) أي آخرهم وهو بفتح التاء على ما قرأ به عاصم بمعنى ختموا به وبكسرها بمعنى ختمهم ويؤيده قراءة ابن مسعود ولكن نبينا ختم النبيين (وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 أفلح) أي فار (من صدّقك) بتشديد الدال أي أطاعك (وخاب) أي خسر (من كذّبك) أي عصاك. (فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ. وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ كَلَامِ الذِّئْبِ المشهورة) بالرفع (عن أبي سعيد الخدريّ) كما رواه أحمد والبزار والبيهقي وصححه (بينا) وفي نسخة بينما على أن ما زائدة كافة وأما ألف بينا فقيل هي إشباع فلا تمنع الجر وقيل مانعة له منه وهو المشهور عند الجمهور (رَاعٍ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ عَرَضَ الذِّئْبُ لِشَاةٍ منها) أي وقت رعي غنمه فاجأ عروض الذئب أي ظهوره في تعرضه لشاة من جملة قطيع الغنم (فأخذها) أي الراعي (منه فأقعى الذّئب) أي الصق استه بالأرض ونصب ساقيه وفخذيه ووضع يديه على الأرض (وقال للرّاعي ألا تتّقي الله) أي أما تخاف والمعنى خف الله تعالى فالاستفهام للتوبيخ لا للإنكار الداخل على النفي المفيد لتحقق ما بعده كما ذكره الدلجي (حلت بيني وبين رزقي) بضم الحاء أي منعت رزقي عني وهو جملة مبينة قائمة مقام العلة (قال الرّاعي العجب) أي كل العجب (من ذئب يتكلّم بكلام الإنس) أي في مقام الْإِنْسِ، (فَقَالَ الذِّئْبُ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذلك) أي وأغرب فيما هنالك (رسول الله بين الحرّتين) بفتح الحاء وتشديد الراء تثنية حرة وهي أرض ذات حجارة سود حول المدينة السكينة الطيبة (يحدّث النّاس بأنباء ما قد سبق) وفي نسخة صحيحة ما بدل من وإنما كان أعجب لأنه إخبار عما لم يعلم به غير الرب، (فأتى الرّاعي النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره) أي بكلام الذئب له (فقال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم له) أي للراعي (قم فحدّثهم) أي الحاضرين والغائبين؛ (ثمّ قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن حدثهم الراعي أو قبله (صدق) أي الراعي في قوله وبالحق نطق في نقله؛ (والحديث فيه قصّة) أي طويلة أو عظيمة وهو الأظهر لقوله (وفي بعضه طول) أي في بعض ألفاظه طول أي ليس هذا محل بسط تلك الفصول وروي أنه لما جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبره صدقه ثم قال إنها أمارات بين يدي الساعة فقد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه ثمة نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعده وفي رواية قال والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده، (وروي حديث الذّئب عن أبي هريرة) أي من طرق (وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ الذِّئْبُ أَنْتَ أَعْجَبُ وَاقِفًا على غنمك) حال (وتركت) أي والحال أنك قد تركت (نبيّا) أي خدمته وصحبته مع أنه نبي عظيم ورسول كريم (لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهُ عنده قدرا) أي رفعة ورتبة (قد فتحت له أبواب الجنّة) أي وكذا لمن تبعه من أكابر الأمة (وأشرف أهلها) أي واطلع أهل الجنة (على أصحابه ينظرون قتالهم) أي في الغزوة وينتظرون وصالهم بالشهادة وحسن مآلهم في الجنة (وما بينك) أي والحال أنه لا حائل بينك (وبينه إلّا هذا الشّعب) بكسر أوله أي قطع هذا الوادي وهو ما انفرج بين الجبلين (فتصير في جنود الله) أي أحزابه المجاهدين؛ (قال الرّاعي من) وفي نسخة ومن (لي بغنمي) أي من يقوم لي برعاية غنمي (قَالَ الذِّئْبُ أَنَا أَرْعَاهَا حَتَّى تَرْجِعَ فَأَسْلَمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 الرّجل إليه غنمه ومضى) أي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما عنده من غنمه (وذكر) أي الراعي (قصّته) أي مع الذئب (وإسلامه ووجوده النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على وفق ما حكاه الذئب له (يقاتل فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عد) بضم العين وسكون الدال المهملة أي ارجع (إلى غنمك تجدها) جواب الأمر أي تصادفها (بوفرها) بفتح الواو وسكون الفاء أي بتمامها وكمالها ما نقص شيء منها (فوجدها كذلك) أي كما أخبره (وذبح للذّئب شاة منها. وعن أهبان) بضم الهمزة (ابن أوس) بفتح أوله أي وروي عنه أيضا (وأنّه) بكسر الهمزة ويجوز فتحها (كان صاحب القصّة) أي المحكية (وَالْمُحَدِّثَ بِهَا وَمُكَلِّمَ الذِّئْبِ وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ عمرو بن الأكوع) على ما في الروض الأنف (وأنّه كان صاحب هذه القصّة أيضا) فيه إيماء إلى تعدد القصة وتكرر القضية (وسبب إسلامه) أي في هذه الرواية (بمثل حديث أبي سعيد) متعلق بروي المقدر قبل قوله وعن أهبان والحاصل أنه اختلف في اسم الراعي المتكلم معه الذئب فقيل هو أهبان بن أوس السلمي أبو عقبة سكن الكوفة وقيل اهبان ابن عقبة وهو عم سلمة بن الأكوع وكان من أصحاب الشجرة وقيل اهبان بن عباد الخزاعي وقيل أهبان بن صيفي وعن الكلبي هو اهبان بن الأكوع وعند السهيلي هو رافع بن ربيعة وقيل سلمة بن الأكوع والجمع ممكن بحمل القصة على تعدد القضية واختلاف المراد بأهبان في الرواية (وقد روى ابن وهب مثل هذا) أي مثل ما جرى في أخذ الذئب شاة (أنّه جرى لأبي سفيان بن حرب) أي والد معاوية رضي الله عنهما (وصفوان بن أميّة) بالتصغير (مع ذئب وجداه أخذ ظبيا) أي أراد أخذه (فدخل الظّبي الحرم فانصرف الذّئب) أي تعظيما للحرم المحترم (فعجبا) بكسر الجيم أي فتعجبا (من ذلك) أي من انصرافه عما هنالك (فقال الذّئب أعجب من ذلك) أي مما تعجبتما (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ يَدْعُوكُمْ إِلَى الجنّة) أي إلى سببها وهو الإيمان (وتدعونه إلى النّار) أي موجبها وهو الكفران فهذا مقتبس من قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جرم إنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (فقال أبو سفيان) أي لصفوان (واللّات والعزّى لئن ذكرت هذا) أي الخبر (بمكّة) أي فيما بين أهلها (لتتركنّها خلوفا) بضم الخاء المعجمة واللام أي بلا راع ولا حام كذا في النهاية ويقال حي خلوف إذا غاب رجالهم وبقي نساؤهم وقيل أي متغيرة أخذا من خلوف فم الصائم والمعنى أن أهلها بعد سماعهم هذا تغيرت أحوالهم وذهبوا إلى المدينة ولم يبق أحد منهم إلا دخل في الإسلام معهم ولعل هذا كان سبب إسلامهم في آخر أمرهم؛ (وقد روي مثل هذا الخبر) أي الذي جرى لأبي سفيان وأحبابه (وأنّه) بفتح الهمزة وكسرها (جرى لأبي جهل وأصحابه) إلا أنه لم يسلم لما سبق له من الشقاوة الأبدية في كتابه هذا وعند ابن القاسم عن أنس كنت مع النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة تبوك فشردت علي من غنمي فجاء الذئب فأخذ منها شاة فاشتدت الرعاء خلفه فقال الذئب طعمة اطعمنيها الله تعالى تنزعونها مني فبهت القوم فقال ما تعجبون الحديث وفي الروض أيضا في غزوة ذات السلاسل وهي في آخر الكتاب ما لفظه وذكر في هذه السرية صحبة رافع بن أبي رافع لأبي بكر وهو رافع بن عمير وهو الذي كلمه الذئب وله شعر مشهور في تكلم الذئب له وكان الذئب قد أغار على غنمه فاتبعه فقال له الذئب ألا أدلك على ما هو خير لك قد بعث الله نبيه وهو يدعو إلى الله فالحق به ففعل ذلك رافع واسلم (وعن عباس بن مرداس) بكسر الميم وكان الاولى أن يقول ومن ذلك حديث عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ (لَمَّا تَعَجَّبَ مِنْ كَلَامِ ضمار) بكسر الضاد المعجمة ويفتح وميم مخففة فألف فراء ذكره الصاغاني وغيره وفي نسخة بالدال (صنمه) بالجر بدل من ضمار أو بيان فإنه اسم لصنم كان يعبده هو ورهطه (وإنشاده) أي ومن قراءته برفع صوته (الشِّعْرَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) روي أن مرداس لما احتضر قال لابنه عباس أي بني اعبد ضمارا فإنه سينفعك ولا يضرك فتفكر عباس يوما عند ضمار وقال إنه حجر لا ينفع ولا يضر ثم صاح بأعلى صوته يا إلهي الأعلى اهدني للتي هي أقوم فصاح صائح من جوف الصنم: أودى ضمار وكان يعبد مدة ... قبل البيان من النبي محمد وهو الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتد قل للقبائل من سليم كلها ... أودى ضمار وعاش أهل المسجد فحرق عباس ضمارا ثم لحق بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فإذا طائر سقط) أي وقع ونزل (فَقَالَ يَا عَبَّاسُ أَتَعْجَبُ مِنْ كَلَامِ ضِمَارٍ ولا تعجب من نفسك) أي بتخلفك عن مورث أنسك (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو) وفي نسخة صحيحة يدعوك (إلى الإسلام وأنت جالس) أي بعيد عن مقام المرام (فكان) أي كلام الطائر (سبب إسلامه) والحديث هذا كما في الطبراني الكبير بسند لا بأس به قريب مما هنا، (وعن جابر بن عبد الله) كما روى البيهقي عنه (عن رجل) وهو اسلم أو يسار وهو رجل أسود استشهد في غزوة خيبر كما ذكره أبو الفتح اليعمري في سيرته (أتى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وآمن به وهو) أي النبي عليه الصلاة والسلام (على بعض حصون خيبر وكان) أي الرجل (فِي غَنَمٍ يَرْعَاهَا لَهُمْ فَقَالَ يَا رَسُولَ الله كيف بالغنم) أي مع أصحابها (قال أحصب) بفتح الهمزة وكسر الصاد أي ارم بالحصباء وهي دقاق الحصى (وجوهها) أي لترجع إلى دور مالكيها (فإنّ) أي لأن وفي نسخة بأن أي بسبب أن (اللَّهَ سَيُؤَدِّي عَنْكَ أَمَانَتَكَ وَيَرُدُّهَا إِلَى أَهْلِهَا) أي بكمالها من غير خلاف لها (ففعل فسارت كلّ شاة) أي في طريقها (حتّى دخلت إلى أهلها؛ وعن أنس) كما رواه أحمد والبزار بسند صحيح (دخل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم حائط أنصاريّ) أي بستان واحد من الأنصار (وأبو بكر وعمر ورجل من الأنصار) أي معه (وفي الحائط غنم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 وهو بحركتين الشاء لا واحد لها من لفظها والواحد شاة وهو اسم مؤنث للجنس يقع على الذكور والإناث وعليهما جميعا (فسجدت له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام سجود التحية والإكرام وانقادت له بإظهار الإسلام فإنه مبعوث إلى كافة الأنام كما اختاره بعض الأعلام والظاهر أن سجودها كان بوضع الجبهة بعد القيام لقوله (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ نَحْنُ أَحَقُّ بِالسُّجُودِ لَكَ منها) أي فإنها مع قلة عقلها إذا كانت تسجد لك فكيف نحن مع كثرة انتفاعنا بك لكن أمرنا متوقف على أذنك (الحديث) بتثليث المثلثة وسيأتي تمامه (وعن أبي هريرة رضي الله عنه) كما رواه البزار بسند حسن (دخل النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا فَجَاءَ بِعِيرٌ فَسَجَدَ لَهُ وذكر) أي أبو هريرة (مثله) أي مثل حديث أنس لا مثل حديث أبي هريرة كما توهم الدلجي فقالوا هذه بهيمة لا تعقل فسجدت لك ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك فقال لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر لو صلح لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما له من الحق عليها؛ (ومثله) أي مثل حديث أبي هريرة (في البعير) وفي نسخة صحيحة في الجمل (عن ثعلبة بن مالك) كما رواه أبو نعيم قال المزي قدم ثعلبة من اليمن على دين يهود فنزل في بني قريظة فنسب إليهم ولم يكن منهم ولم يعرف من الصحابة من اسمه ثعلبة بن أبي مالك غيره واسم أبي مالك عبد الله (وجابر بن عبد الله) كما رواه أحمد والدارمي والبزار والبيهقي عنه (ويعلى بن مرّة) كما رواه أحمد والحاكم والبيهقي بسند صحيح عنه (وعبد الله بن جعفر) كما رواه مسلم وأبو داود عنه قال أبو هريرة (وكان لا يدخل أحد الحائط) أي ذلك البستان من غير أهله (إلّا شدّ عليه الجمل) أي حمل وصال عليه حفظا لحائطه واستغرابا لداخله ورعاية لصاحبه (فلمّا دخل عليه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم دعاه) أي الجمل فجاءه خاضعا وانقاد له خاشعا (فوضع مشفره) بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الفاء فراء أي شفته (على الأرض وبرك) بتخفيف الراء أي ناخ (بين يديه فخطمه) أي فوضع في رأسه بخطامه من رسنه وزمامه (وقال ما بين السّماء والأرض شيء) أي من حيوان أو غيره (إلّا يعلم) أي إلا أنه يعلم وفي نسخة لا يعلم أي ليس يوجد بينهما شيء لا يعلم قال المزي المعروف إلا يعلم وقد يكون رواية (أنّي رسول الله) أي إليه إلى غيره (إلّا عاصي الجنّ والإنس) أي إلا كافر الثقلين والصيغة تحتمل الإفراد والجمع بأن حذفت نونه للإضافة. (ومثله) أي مثل هذا المروي بعينه (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَفِي خَبَرٍ آخَرَ فِي حَدِيثِ الْجَمَلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم سألهم عن شأنه) أي حاله معهم في مآله (فأخبروه أنّهم أرادوا ذبحه) الأولى نحره وكأنه أراد ذبحه اللغوي (وفي رواية أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم) أي لأهل الجمل (إِنَّهُ شَكَا كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ؛ وَفِي رواية أنّه) أي الجمل (شَكَا إِلَيَّ أَنَّكُمْ أَرَدْتُمْ ذَبْحَهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْمَلْتُمُوهُ فِي شَاقِّ الْعَمَلِ مِنْ صِغَرِهِ فَقَالُوا نعم) قال بئس الجزاء أرادوا له كذا نقله الدلجي والظاهر أردتموه له وفي أصل صحيح ثم الحديث بقوله نعم والله تعالى أعلم، (وقد روي في قصّة العضباء) وهي الناقة المشقوقة الأذن ولقب ناقة النبي صلى الله تعالى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 وسلم ولم تكن عضباء ذكره الفيروزآبادي فقيل إنها والقصوى والجدعاء واحدة وقيل اثنتان وقيل ثلاث ولم يكن بها عضب ولا جدع وقيل كان بأذنها عضب (وكلامها للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وتعريفها له بنفسها) أي بذاتها وحالاتها (ومبادرة العشب إليها في الرّعي) أي في رعيها (وتجنّب الوحوش عنها وندائهم) والأظهر وندائها (لها إنّك لمحمّد) أي في زمان حالك أو في مآلك (وَإِنَّهَا لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ بَعْدَ مَوْتِهِ حتّى ماتت، ذكره الإسفرايينيّ) حكى ابن عباس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خرج ذات ليلة وناقة باركة في الدار فلما مر بها قالت السلام عليك يا زين القيامة يا رسول رب العالمين قال فالتفت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إليها فقال وعليك السلام فقالت يا رسول الله إني كنت لرجل من قريش يقال له أعضب فهربت منه فوقعت في مفازة فكان إذا غشيني الليل احترستني السباع فنادت بعضها لا تؤذوها فإنها مركب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإذا أصبحت وأردت أن أرتع نادتني كل شجرة إلي إلي فإنك مركب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حتى وقعت هنا قال فسماها عضباء شق لها اسمها من اسم صاحبها ثم قالت الناقة يا رسول الله إن لي إليك حاجة قال وما هي قالت تسأل الله أن يجعلني من مراكبك في الجنة كما جعلني في الدنيا قال صلى الله تعالى عليه وسلم قضيت ذكره التلمساني؛ (وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ حَمَامَ مَكَّةَ أَظَلَّتِ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جعلت عليه ظلا (يوم فتحها) بفتح فسكون وفي نسخة بفتحات (فدعا لها بالبركة) هذا وقد قيل إنها من نسل الحمامة التي باضت على باب الغار بعد دخول سيد الأبرار لكن قال الدلجي وأما قصة العضباء فلم أدر من رواها ولا حديث حمام مكة. (وروي عن أنس) وفي نسخة عن ابن مسعود (وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة) على ما رواه ابن سعد والبزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم عنهم (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَرَ اللَّهُ لَيْلَةَ الْغَارِ شجرة) وفي نسخة شجرا (فثبتت تجاه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) بضم التاء المبدلة من الواو أي قبالته التي تقتضي مواجهته قال الدلجي هو مجاز عن انبتها كما في كُونُوا قِرَدَةً قلت الظاهر أنه أمر تكوين وأنه على حقيقته كما حقق في قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (فسترته) أي تلك الشجرة عن أعين الفجرة وقد ذكر قاسم بن ثابت في الدلائل فيما شرح من الحديث أنه عليه الصلاة والسلام لما دخل الغار ومعه أبو بكر أنت الله على بابه الراءة مثل الطاعة قال قاسم بن ثابت وهي شجر معروفة فحجبت عن الغار أعين الكفار وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى الراءة من أعلاث الشجر وتكون مثل قامة الإنسان ولها خيطان وزهر أبيض يحشى منه المخاد ويكون كالريش لخفته ولينه لأنه كالقطن ذكره السهيلي والأعلاث من الشجر القطع المختلطة مما يقدح به من المرخ واليبس على ما في القاموس (وأمر حمامتين فوقفتا) بالفاء وروي بالعين أي نزلتا (بفم الغار) أي لئلا يظن الأغيار دخول سيد الأبرار ومن معه من أصحابه الكبار قال الدلجي فسمت صلى الله تعالى عليه وسلم عليهما أي دعا لهما وانحدرا إلى الحرام فافرخا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 كل حمام فيه؛ (وفي حديث آخر وأنّ) وفي نسخة صحيحة وأن (العنكبوت نسجت على بابه) أي على فم الغار (فلمّا أتى الطّالبون له) أي لسيد الأخيار (ورأوا ذلك) أي ما ذكر من وقوف الحمامتين ونسج العنكبوت (قالوا لو كان فيه أحد) أي ممن دخله هذا الوقت (لم تكن الحمامتان ببابه) أي ولا نسج العنكبوت ولعابه (والنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يسمع كلامهم فانصرفوا) أي ولم يدركوا مرامهم وفي مسند البزار أن الله عز وجل أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأرسل إليه حمامتين وحشيتين وأن ذلك مما صد المشركين عنه وأن حمام الحرمين من نسل تينك الحمامتين (وعن عبد الله بن قرط) بضم القاف وسكون الراء له صحبة ورواية قال ابن عبد البر كان اسمه في الجاهلية سلطانا فسماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله انتهى قتل بأرض الروم والحديث رواه الحاكم والطبراني وأبو نعيم عنه أنه قال (قرّب) بضم القاف وتشديد الراء المكسورة أي أدنى (إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بدنات) بفتحتين جمع بدنة وحكي بضمتين وهي ناقة أو بقرة ذكره الجوهري وزاد ابن الأثير وهي بالإبل اشبه وسميت بدنة لعظمها وسمنها فلا يلتفت إلى قول الدلجي وهي خاصة بالإبل ولا يلزم من الحاقه صلى الله تعالى عليه وسلم البقرة بها في الأجزاء عن سبعة تناول اسمها للبقرة شرعا بل الحديث وآية الحج يمنعانه انتهى ولا يخفى أنه إذا ثبت إطلاق البدنة على البقرة لغة وإلحاقها بالإبل شريعة فالمخالفة فيها مكابرة ومنع الحديث وآية الحج لها مصادرة (خمس أو ستّ أو سبع) شك من الراوي (لينحرها يوم عيد) أي من أعياد الأضحى (فازدلفن إليه) افتعلن من الزلف وهو القرب ومنه قوله تعالى حكاية لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ابدلت تاؤه دالا لمجاورتها الزاء ومنه المزدلفة والمعنى تقربن منه (بأيّهن يبدأ) أي في نحرها قال المزي صوابه يأيتهن بتاء التأنيث وفيه بحث. (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في صحراء) أي بادية قفراء (فنادته ظبية يا رسول الله) فالتفت فإذا هي موثقة وأعرابي نائم (قال) أي لها (مَا حَاجَتُكِ قَالَتْ صَادَنِي هَذَا الْأَعْرَابِيُّ وَلِي خشفان) تنبيه خشف وهو بكسر الخاء وسكون الشين المعجمتين ولد الظبية الصغير (في ذلك الجبل فأطلقني) بفتح الهمزة وكسر اللام أي من القيد وأرسلني (حتّى أذهب) أي إلى ولدي (فأرضعهما) بضم الهمزة وكسر الضاد (وأرجع) أي إليك (قال أو تفعلين) بفتح الواو أي أتقولين هذا القول وتفعلين هذا الرجوع وفي نسخة صحيحة وتفعلين فالهمزة مقدرة وفي رواية قال أخاف أن لا ترجعي قالت إن لم أرجع فأنا شر ممن يأكل الربا وشر ممن ينام عن صلاة العشاء وشر ممن يسمع اسمك ولم يصل عليك (قالت نعم فأطلقها فذهبت ورجعت) أي بعد ما ارضعت (فأوثقها) أي فربطها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على حالها (فانتبه الأعرابيّ) أي وهو صلى الله تعالى عليه وسلم في المعالجة لها أو عندها (وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ تطلق) أي نعم هو أن تطلق أو هو خبر معناه أمر وفي نسخة صحيحة اطلق (هَذِهِ الظَّبْيَةَ؛ فَأَطْلَقَهَا فَخَرَجَتْ تَعْدُو فِي الصَّحْرَاءِ) أي تجري (وتقول) أي الظبية (أَشْهَدُ أَنْ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 إله إلّا الله وأنّك رسول الله) رواه البيهقي في دلائل النبوة من طرق وضعفه جماعة من الأئمة حتى قال ابن كثير لا أصل له وأن من نسبه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقد كذب لكن طرقه يقوي بعضها بعضا وقد رواه أبو نعيم الأصبهاني في الدلائل بإسناده فيه مجاهيل عن أم سلمة نحو ما ذكره المصنف وكذا رواه الطبراني بنحوه وساقه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب من باب الزكاة؛ (ومن هذا الباب) أي باب طاعة الحيوانات من طريق خرق العادات لبعض صحابته من تمام بركته صلى الله تعالى عليه وسلم (ما روي من) وفي نسخة في (تسخير الأسد لسفينة) غير منصرف للتأنيث والعلمية (مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) اعتقته ام سلمة وشرطت عليه أن يخدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واسمه مهران عند الأكثر وكنيته أبو عبد الرحمن على الأشهر ولقبه عليه الصلاة والسلام سفينة لقضية مشهورة (إذ وجّهه) أي كان التسخير حين أرسله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إلى معاذ باليمن) أي حال إقامته فيه لقضائه (فلقي) أي سفينة (الأسد فعرّفه) بتشديد الراء أي فذكر له (أنّه مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه كتابه) أي مكتوبه عليه الصلاة والسلام إلى معاذ أو غيره (فهمهم) بهاءين وميمين مفتوحتين فعل ماض من الهمهمة وهي الكلام بالخفية (وتنحّى عن الطّريق) أي وتبعد وتأخر الأسد عن طريق سفينة (وذكر) أي سفينة (في منصرفه) أي مرجعه أيضا (مثل ذلك) قال الدلجي لم أدر من رواه كذا وقد رواه البيهقي أن لقيه الأسد إنما كان حين ضل عن الجيش في أرض الروم قلت يحمل على تعدد الواقعة كما يشير إليه قول المصنف. (وفي رواية أخرى عنه) أي عن سفينة كما رواه البيهقي والبزار: (أنّ سفينة) أي من السفن (تكسّرت به) أي وسفينة في تلك السفينة (فخرج إلى جزيرة) وهي أرض ينجزر البحر عنها (فإذا الأسد) أي حاضر والمعنى فاجأه بغتة (فَقُلْتُ لَهُ أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فجعل يغمرني) بسكون الغين المعجمة وكسر الميم وتضم بعدها زاء أي يشير إلى ويحرك علي (بمنكبه) بفتح الميم وكسر الكاف أي بما بين كتفه وعنقه (حتّى أقامني) أي دلني (على الطّريق) وفي إيراد هذا الحديث إشارة إلى أن كرامة الولي بمنزلة معجزة النبي من حيث الدلالة على صدق النبوة والرسالة فإن الكرامة متفرعة على صحة المتابعة (وأخذ عليه الصلاة والسلام) كان الأولى أن يقال ومن ذلك أنه أخذ عليه الصلاة والسلام (بأذن شاة لقوم من عبد القيس) قبيلة كبيرة مشهورة (بين إصبعيه) بكسر الهمزة وفتح الموحدة وجوز تثليث كل منهما فالوجوه تسعة (ثمّ خلّاها) أي تركها (فصار لها ميسما) بكسر الميم وفتح السين أي صار أثر أصبعيه لها علامة وهو في الأصل الحديدة التي يكوى بها ويجعل بسببها علامة فإطلاقه على العلامة مجاز في العبارة ظاهر العلاقة (وبقي ذلك الأثر فيها) أي في أصل تلك الشاة (وفي نسلها بعد) بالضم أي بعدها قال الدلجي لا أدري من رواه، (وما روي) أي ومن ذلك ما رُوِيَ (عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمَّادٍ بِسَنَدِهِ مِنْ كلام الحمار) في سيرة مغلطاي كان له صلى الله تعالى عليه وسلم من الحمير يعفور وعفير ويقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 هما واحد وآخر أعطاه سعد بن عبادة (أصابه) أي في سهمه وفي نسخة الذي أصابه (بخيبر وقال) أي الحمار وهو كان أسود (له اسمي يزيد بن شهاب) يعني ونعتي أن الله تعالى أخرج من نسلي ستين حمارا كلهم لم يركبه إلا نبي وقد كنت أتوقعك أن تركبني ولم يبق من نسل جدي غيري ولا من الأنبياء غيرك وكنت ليهودي وكنت أعثر به عمدا وكان يجيعني ويضربني على ما رواه ابن أبي حاتم عن حذيفة في رواية يجيع بطني ويضرب ظهري (فسمّاه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يعفورا) بالقصر وفي نسخة يعفور كيعقوب (وأنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (كان يوجّهه) أي يرسله (إلى دور أصحابه) أي بيوتهم (فيضرب عليهم الباب برأسه ويستدعيهم) أي يطلب منهم إجابة الدعوة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (وأنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لمّا مات) أي ودفن (تردّى) أي رمى بنفسه (في بئر) أي لأبي الهيثم بن التيهان (جزعا) أي فزعا (وحزنا) بفتحتين أو بضم فسكون (فمات) أي فصارت قبره رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث أبي منظور وقال لا اصل له وإسناده ليس بشيء وذكره ابن الجوزي في الموضوعات قلت قصة يعفور ذكرها غير القاضي فقد نقلها السهيلي في روضه عن ابن فورك في كتاب الفصول قال السهيلي وزاد الجويني في كتاب الشامل أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا أراد أحدا من أصحابه أرسل هذا الحمار إليه فيذهب حتى يضرب برأسه الباب فيخرج الرجل فيعلم أن قد أرسل إليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي رواية فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا وقد أخرجه ابن عساكر عن أبي منظور وله صحبة نحو ما سبق وقال هذا حديث غريب وفي إسناده غير واحد من المجهولين ورواه أبو نعيم عن معاذ بن جبل كما تقدم والله تعالى أعلم. (وَحَدِيثُ النَّاقَةِ الَّتِي شَهِدَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِهَا أَنَّهُ مَا سَرَقَهَا وَأَنَّهَا ملكه) رواه الطبراني عن زيد بن ثابت فيه مجاهيل والحاكم من حديث ابن عمر قال لذهبي وهو موضوع وفيه نظر. (وفي العنز) أي وفي حديث العنز كما في نسخة صحيحة وهي الأنثى من المعز (الّتي أتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في عسكره) أي حال كونه فيما بين جنده في غزوة له (وقد أصابهم عطش) أي شديد (ونزلوا على ماء) أي لضرورة بهم (وهم زهاء ثلاثمائة) أحوال متتابعة مترادفة أو متداخلة (فحلبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأروى الجند) أي جميع العسكر، (ثمّ قال لرافع) أي مولاه كذا قال الدلجي لكن مولاه أبو رافع ولذا قال الحلبي رافع هذا لا أعرفه بعينه وفي الصحابة جماعة كثيرة يقال لكل منهم رافع (أملكها) بفتح الهمزة وكسر اللام أي أوثقها أو أربطها واحفظها (وما أراك) بضم الهمزة أي ما أظنك تملكها وتحفظها (فربطها) أي وغفل عنها (فوجدها قد انطلقت) أي ذهبت برأسها بحيث لم يدر أحد عنها، (رواه ابن قانع) وقد سبق ذكره (وغيره) منهم ابن سعد وابن عدي والبيهقي عن مولى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، (وفيه) أي وفي حديث ابن قانع (فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنّ الّذي جاء بها) أي الله سبحانه وتعالى (هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 الّذي ذهب بها) فيه إيماء إلى أن إيجادها وإعدامها كليهما من خرق العادة (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لفرسه عليه الصلاة والسّلام) كذا في بعض النسخ المصححة وإنما محله قبله بعد قال كما لا يخفى ثم قيل كانت أفراسه صلى الله تعالى عليه وسلم أربعة وعشرين اتفق منها على سبعة (وقد قام إلى الصّلاة) أي والحال أنه قد أراد قيامه إليها (في بعض أسفاره) متعلق بقام كما هو أقرب أو يقال وهو أنسب (لا تبرح) أي لا تفارق مكانك (بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ حَتَّى نَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِنَا وجعله قبلته) أي في صوب قبلته أو في جهة مقابلته (فما حرّك عضوا) أي من أعضائه وهو بضم أوله ويكسر (حتّى صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حتى فرغ منها كما في أصل الدلجي والحق في بعض النسخ هنا وزعم بعضهم أنه من الأم؛ (ويلتحق بهذا) بصيغة المجهول أو المعلوم (ما روى الواقديّ) بكسر القاف قاضي العراق يروي عن ابن عجلان وثور وابن جريج وعنه الشافعي رحمه الله تعالى والصاغاني قال البخاري وغيره متروك وقد ذكر له ترجمة حسنة ابن سيد الناس في أول سيرته وذكر فيها ثناء الناس عليه وجرحهم له وأنه نسب إلى وضع الحديث وفي آخرها استقر الإجماع على وهن الواقدي (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَجَّهَ رُسُلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ) أي لتبليغ الرسالة إليهم وتحقيق الحجة لديهم (فخرج ستّة نفر منهم) أي من رسله (فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَأَصْبَحَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي صار لما بلغ عندهم وأراد تبليغهم (يتكلّم بلسان القوم الّذين بعثه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إليهم) أي من الملوك واتباعهم من غير تعلم للسانهم وتعرف بشأنهم قال الكلاعي في النقاية وفي حديث ابن إسحاق قال عليه الصلاة والسلام إن الله بعثني رحمة كافة فأدوا عني يرحمكم الله ولا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى فقال أصحابه وكيف اختلفوا يا رسول الله قال دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل فشكا عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك إلى الله تعالى فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها؛ (والحديث في هذا الباب) أي في معنى هذا النوع من المعجزة (كثير) أي ورد بطرق متعددة وقضايا متكثرة (وقد جئنا منه بالمشهور) أي في صحته وثبوته (وما وقع) أي ومما ورد (منه في كتب الأئمّة) أي المعروفين بالسنة والسيرة. فصل [في إحياء الموتى وكلامهم] (في إحياء الموتى وكلامهم) أي للأحياء قال القرطبي في تذكرته وكذا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أحيى الله على يديه جماعة من الموتى قال الحلبي وقد ذكر القاضي فيما يأتي جماعة منهم (وكلام الصّبيان) أي الأطفال قبل أوان التكلم (والمراضع) جمع راضع على خلاف القياس وهو أخص من الأول فتأمل ويحتمل أن يكون العطف تفسيريا ووقع في أصل الدلجي وكلام الصبيان المراضع بالوصف بدون العاطف (وشهادتهم) أي الصبيان (له بالنّبوّة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 أي المتضمنة للرسالة (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ وَالْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ محمد بن رشد) بضم فسكون (وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى التّميميّ) سبق (وغير واحد) أي وكثيرون من مشايخنا (سماعا) أي رواية (وإذنا) أي إجازة (قالوا) أي كلهم (حدّثنا أبو عليّ الحافظ) الظاهر أنه أبو علي الغساني (حدّثنا أبو عمر الحافظ) أي ابن عبد البر (حدّثنا أبو زيد) أي عبد الرحمن بن يحيى كما في نسخة (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ) تقدم (حدّثنا أبو داود) صاحب السنن (حدّثنا وهب بن بقيّة) بفتح موحدة وكسر قاف وتشديد تحتية روى عنه مسلم والبغوي ثقة (عن خالد هو الطّحّان) بتشديد الحاء أحد العلماء ثقة عابد زاهد يقال اشترى نفسه من الله ثلاث مرات يتصدق بزنة نفسه فضة (عن محمد بن عمرو) أي ابن علقمة بن وقاص الليثي يروي عن أبيه وأبي سلمة وطائفة وعنه شعبة ومالك ومحمد بن عبد الله الأنصاري (وعن أبي سلمة) وهو أحد الفقهاء السبعة على قول الأكثر (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) قال المزي في الأطراف كذا وقع هذا الحديث في رواية سعيد عن ابن الأعرابي عن أبي داود مسندا موصولا وعند باقي الرواة عن أبي سلمة وليس فيه أبو هريرة فهو مرسل (أنّ يهوديّة) وهي زينب أخت عبد الله بن سلام وقيل زينب بنت الحارث (أهدت للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بخيبر شاة مصليّة) بفتح الميم وكسر اللام وتحتية مشددة أي مشوية (سمّتها) بتشديد الميم من السم لا من التسمية أي وضعت السم فيها (فأكل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منها والقوم) بالرفع ويجوز نصبه وفي نسخة وأكل القوم أي منها أيضا (فقال أرفعوا أيديكم) أي عنها (فإنّها أخبرتني) أي حينئذ (أنّها مسمومة فمات) أي من أكلها (بشر بن البراء) بفتح الباء وتخفيف الراء وهو ابن معرور وإياك أن تعجمها فإنه تصحيف مغرور وهو خزرجي سلمي شهد العقبة وبدرا وأحدا قيل إنه مات في الحال وقيل لزمه وجعه حتى مات بعد سنة وقضية خيبر كانت في أول السابعة أو في آخر السادسة (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ما حملك) أي أيتها اليهودية (على ما صنعت قالت) أي حملني ما تردد في باطني من أنك (إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ الَّذِي صَنَعْتُ وإن كنت ملكا) بكسر اللام أي ممن يدعى ملكا (أرحت النّاس منك قال) أي أبو هريرة كما رواه البيهقي عنه موصولا وأبو داود عن أبي سلمة مرسلا (فأمر بها) أي بقتلها (فقتلت. وقد روى هذا الحديث) أي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (أنس) أي كما في الصحيحين (وفيه قالت أردت قتلك) إن لم تكن نبينا (فَقَالَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَلِكَ) ويروى ليسلط على ذلك ويسلطك على أي على قتلي فإني نبي موعود بإكمال ديني وعصمة روحي (فقالوا نقتلها) وفي رواية إلا نقلتها (قال لا) أي لا تقتلوها ولعل هذا كان قبل موت بشر فلما مات أمر بقتلها به (وكذلك روي) أي هذا الحديث وفي نسخة وكذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ وَهْبٍ) أي ابن بقية وهو شيخ أبو داود (قال) أي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (فما عرض لها) أي فما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 تعرض لها ولم يأمر بقتلها، (ورواه أيضا، جابر بن عبد الله) كما رواه أبو داود والبيهقي عنه (وفيه) أي في حديثه (أخبرتني به هذه الذّراع قال) أي جابر (ولم يعاقبها) أي ولم يؤاخذها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بما صدر عنها قبل موت بشر منها (وفي رواية الحسن) أي البصري (أنّ فخذها تكلّمني أنّها مسمومة) قلت وفي الجمع بينهما نصاب الشهادة؛ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فقالت) أي الشاة بكمالها أو ببعض اجزائها (إني مسمومة) أي فلا تأكل مني؛ (وكذلك ذكر الخبر ابن إسحاق) أي إمام المغازي (وقال فيه) أي في حديثه (فتجاوز عنها) أي عفا ابتداء؛ (وفي الحديث الآخر) الذي رواه الشيخان (عن أنس أنه قال فما زلت أعرفها) أي أثر سمها (في لهوات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) بفتح اللام والهاء جمع لهاة وهي اللحمة المعلقة في سقف أقصى الفم، (وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كما رواه ابن سعد وهو في الصحيح (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فيه) وفي نسخة منه (ما زالت أكلة خيبر) بضم الهمزة أي لقمتها وخيبر بلدة على أميال من المدينة السكينة أكل بها من الشاة المسمومة (تعادّني) بضم التاء وتشديد الدال أي يراددني ويراجعني ويعاودني الم سمها في أوقات معينة لها وهو مأخوذ من العداد بكسر العين وهو اهتياج وجع اللديغ لوقت معلوم فإنه إذا تمت له سنة من حين اللدغ هاج به الالم (فالآن) وفي نسخة والآن أي وهذا الزمان الذي أنا فيه (أوان قطعت أبهري) والأوان بفتح الهمزة ويكسر بمعنى الوقت وهو هنا بفتح النون لإضافته إلى المبنى كما في قوله: على حين عاينت المشيب على الصبا أو بضمها على أنه مرفوع على الخبرية أي فهذا الزمان أوان قطعت على بناء الفاعل وهو الأكلة ومفعوله أبهري وهو بهمزة مفتوحة وسكون موحدة وفتح هاء عرق يكتنف الصلب والقلب إذا قطع لم يبق معه حياة وهو الذي يمتد إلى الحلق فيسمى الوريد وإلى الظهر فيسمى الوتين فكأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال هذا أوان قتلني السم فكنت كمن انقطع أبهره كذا ذكره التلمساني والظاهر أنه على ظاهره وأن السم سرى إلى أبهره وقال الداودي الالم الذي حصل له من الأكلة هو نقص لذة ذوقه قال ابن الأثير وليس يبين لأن نقص الذوق ليس بألم قلت هو الم من العذاب الأليم كما يشهد به الذوق السليم (وحكى ابن إسحاق) أي في المغازي (إن) مخففة من المثقلة أي أن الشأن (كان المسلمون) أي الصحابة والتابعون (ليرون) بفتح اللام وضم الياء أي ليظنون وفي نسخة صحيحة بفتح الياء أي ليعتقدون (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مات شهيدا) أي نوعا من الشهادة (مَعَ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ) أي والرسالة لئلا يخلو من نوع من أبواب السعادة وهذا لا ينافي قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إذ المراد به عصمته من القتل على أيديهم وأما ما دونه فقد احتمل صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 الله تعالى عليه وسلم في ذات الله ومرضاته حتى سم وسحر وكسرت رباعيته كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم حين أصيبت رجله بحجر في طريقه هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت وقد أجيب بأن الآية نزلت بتبوك والسم كان بخيبر قبل ذلك والله تعالى أعلم (وقال ابن سحنون) بفتح السين وضم النون منصرفا وممنوعا وهو محمد بن سحنون بن سعيد التنوخي (أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم قتل اليهوديّة الّتي سمّته) وهو محمول على آخر أمرها فلا ينافي ما ورد من عدم التعرض لها في ابتداء حالها فقول الدلجي إن دعوى ابن سحنون يردها ما مر من حديث أنس وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهما من رواية غير وهب بن بقية ليس في محله إذ سبق أن كل واحد من الحديثين يحمل نفيه قبل موت البراء وهذا معنى قول المصنف؛ (وقد ذكرنا اختلاف الرّوايات في ذلك) أي بحسب ما يتبين التخالف هنالك (عن أبي هريرة وأنس وجابر) أي ابتداء لا انتهاء كما يسير إليه قوله (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ دَفَعَهَا لِأَوْلِيَاءِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ فَقَتَلُوهَا) أي بعد موت البراء فارتفع النزاع وثبت ما ذكره ابن سحنون من الإجماع، (وكذلك) أي مثل هذا الاختلاف أو نحوه (قَدِ اخْتُلِفَ فِي قَتْلِهِ لِلَّذِي سَحَرَهُ، قَالَ الواقدي وعفوه عنه أثبت عندنا) أي من قتله (وقد روي) وفي نسخة وقد روي عنه (أنّه قتله) ولعله عفا عنه أولا بسبب سحره المتعلق بخاصة نفسه ثم قتله لما صدر عنه بالنسبة إلى غيره أو لدفع ضرره عن المسلمين في آخر أمره أو أوحي إليه بعد عفوه أن يأمر بقتله وهذه الجملة معترضة (وروى الحديث) أي حديث الشاة المسمومة (البزّار عن أبي سعيد) أي الخدري (فذكر مثله) أي نحو ما سبق (إلّا أنّه قال) أي أبو سعيد (في آخره) أي في آخر حديثه (فبسط) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يده) أي مدها، (وقال) أي لأصحابه كما في نسخة (كلوا بسم الله) أي مبتدئين باسمه ومستعينين بذكره (فأكلنا) أي منها (وذكر اسم الله) أي عليها (فلم تضرّ منّا أحدا) عن الحافظ ابن حجر أنه منكر ذكره الدلجي ولعل وجه الإنكار عموم نفي الأضرار مع أنه ثبت في الصحيح موت البراء منه كما سبق به التصريح وكذا تقدم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم تضرر منها إلى أن توفي بسببها وحصل له مرتبة الشهادة بها هذا والحديث رواه الجزري أيضا في الحصن الحصين بلفظ وأمر الصحابة في الشاة المسمومة التي أهدتها إليه اليهودية أن أذكروا اسم الله وكلوا فأكلوا ولم يصب أحدا منهم شيء وأسنده إلى مستدرك الحاكم قال صاحب السلاح رواه الحاكم في مستدركه عن أبي سعيد الخدري وقال صحيح الإسناد انتهى لكن قال بعض مشايخنا وفيه تأمل لا يخفى إذ المشهور بين أصحاب الحديث وأرباب السير أنه لم يأكل من تلك الشاة المسمومة أحد من الصحابة إلا بشر بن البراء كل منها لقمة ومات منها وأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإحراق تلك الشاة ودفنها تحت التراب واحتجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة حجمه أبو هند بالقرن والشفرة وهو مولى لبني بياضة من الأنصار والله سبحانه وتعالى أعلم بالاسرار (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وَقَدْ خَرَّجَ حَدِيثَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ أَهْلُ الصَّحِيحِ) أي الذين التزموا الصحة (وخرّجه الأئمّة) أي البقية من أصحاب السنن المشتملة على الصحيح وغيره من الأقسام، (وهو حديث مشهور) أي بين الخاص والعام عند الجمهور من العلماء الأعلام (واختلف أئمّة أهل النّظر) أي من المتكلمين وغيرهم (في هذا الباب) أي باب خلق الله تعالى الكلام في الأجسام (فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ هُوَ كَلَامٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تعالى) أي في محل من الموجودات أعم من الحيوانات والنباتات والجمادات كما بينه مثلا بقوله (في الشّاة الميّتة) بتخفيف الياء ويجوز تشديدها (أو الشّجر والحجر) ذكرها بلفظ أو للتنويع (وحروف وأصوات) برفعهما عطف على كلام (يحدثها الله فيها) أي يوجدها في هذه الأشياء بلا حياة لها لعدم توقف ما ذكر عليها (ويسمعها) بضم الياء وكسر الميم أي من شاء أي خلقه (منها) أي من الأصوات والحروف (دون تغيير أشكالها) أي أنواع صورها (ونقلها عن هيئتها) أي حالتها وصفتها وتمام حقيقتها (وهو) أي هذا القول (مذهب الشّيخ أبي الحسن) أي الأشعري (والقاضي أبي بكر) أي ابن الطيب الباقلاني (رحمهما الله تعالى) أقول فعلى هذا كلام الشاة من جنس سلام الحجر وكلام الشجر فلا يصلح أن يكون مستندا لإحياء الموتى على ما ساقه المصنف كما لا يخفى بخلاف ما يستفاد من قوله (وآخرون ذهبوا إلى إيجاه) أي الله سبحانه وتعالى (الحياة) وفي نسخة إلى إيجاد الحياة لها (أوّلا ثمّ الكلام) بالنصب أو الجر أي ثم إيجاد الكلام (بعده) أي بعد إيجاد الحياة بها مع عدم تغيرها عن حالها، (وحكي هذا أيضا عن شيخنا) أي معشر أهل السنة (أبي الحسن) أي الأشعري (وكلّ) أي من القولين (محتمل) أي لإيجاد الحياة فيها أو لعدمها ولما كان التناقض بين القولين دفعه المصنف بحمل القول الثاني على الكلام النفسي لاستلزامه الحياة وحمل الأول على اللفظي لعدم استلزام خلقه في محل خلقها فيه بقوله (والله أعلم إذ لم نجعل) أي نحن ويجوز بصيغة الغائب أي أبو الحسن (الْحَيَاةَ شَرْطًا لِوُجُودِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ إِذْ لَا يستحيل وجودها مع عدم الحياة بمجرّدها) أي فيه (فأمّا إذا كانت) أي الحروف والأصوات (عِبَارَةً عَنِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ شرط الحياة لها) أي للأصوات (إِذْ لَا يُوجَدُ كَلَامُ النَّفْسِ إِلَّا مِنْ حيّ) أقول وظاهر الآيات والأحاديث يؤيد القول الأول فتأمل منها قوله تعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وحديث إن الجبل ينادي باسمه أي فلان هل مر بك أحد ذكر الله تعالى فإذا قال نعم قال استبشر الحديث مع أنه ليس هناك خرق للعادة فالصحيح من مذهب أهل السنة والصريح من مشرب الصوفية أن الأشياء لها معرفة بموجدها كما يدل عليه قوله سبحانه وتعالى وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وأن لها السنة مسبحة لخالقها ويفهمها جنسها ومن أراد الله إدراكها (خلافا للجبائيّ) بضم الجيم وتشديد الموحدة بعدها ألف ممدودة نسبة الى جبا قرية بالسواد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 وهو من متقدمي المعتزلة وكان إماما في علم الكلام وأخذه عن يعقوب بن عبد الله الشحام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة في عصره وعنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري علم الكلام وله معه مناظرات مستحسنة بعد ما أقام على الاعتزال معه أربعين سنة ثم رجع عن حاله وحسن مآله ومال إلى مذهب أهل السنة وصار إمام الأئمة قيل إنه مالكي المذهب وقال السبكي أخذ فقه الشافعي عن أبي إسحاق المروزي توفي عام ثلاثين وثلاثمائة وأما الجبائي فمات سنة ثلاث وثلاثمائة (من بين سائر متكلّمي الفرق) أي فرق الإسلامية إذ لم يوافقه أحد منهم (في إحالته) أي عدم إمكانه (وُجُودِ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ وَالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ إِلَّا مِنْ حَيٍّ مُرَكَّبٍ عَلَى تَرْكِيبِ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ النّطق بالحروف والأصوات والتزم) أي الجبائي (ذلك) أي ما ذكره من التركيب (في الحصى) أي الذي سبح في يد المصطفى (والجذع) أي الذي حن وأنّ (والذّراع) أي الذي تكلم وبين (وقال) أي الجبائي (إنّ الله خلق فيها حياة وخرق) بالراء أي شق ويروى خلق (لها فما ولسانا وآلة) أي مما يتوقف النطق عليها (مكّنها) بتشديد الكاف وفي نسخة امكنها أي أقدرها الله تعالى (بها من الكلام وهذا) أي ما ادعاه دعوى بلا بينة منه فإنه كما قال المصنف (لو كان) أي وجد ما ذكره (لكان نقله والتّهمّم به) أي الاهتمام بنقله (أوكد) لكونه أغرب وأعجب فنقله أهم (من التّهمّم بنقل تسبيحه) أي الحصى في يديه صلى الله تعالى عليه وسلم (وحنينه) أي الجذع إليه واخباره أي الذراع له كذا في شرح الدلجي ولم يوجد لفظ وإخباره في الأصول المعتمدة (ولم ينقل أحد من أهل التفسير) أي شراح الحديث وفي نسخة من أهل السير أي أرباب التواريخ (والرّواية) أي من المحدثين (شيئا من ذلك) أي مما ادعاه الجبائي (فدلّ) أي عدم نقلهم ما ادعاه (عَلَى سُقُوطِ دَعْوَاهُ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إليه في النّظر) أي في نظر العقل وخبر النقل إذ المقام مقام خرق العادة وهو إنما يكون على وفق القدرة والإرادة وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير (والله الموفّق) أي لتيسير كل عسير وفي نسخة والموفق الله لا سواه، (وروى وكيع) الظاهر أنه ابن الجراح وقد تقدم (رفعه) بالنصب وفي نسخة بصيغة الفعل أي رفع حديثه (عن فهد بن عطيّة) بالفاء في أوله وبالدال في آخره وفي نسخة بالراء وكلاهما لا يعرف على ما ذكره الدلجي تبعا للحلبي وفي المواهب عن مهد بالميم والدال ولعله تصحيف وإنما روى البيهقي عن سمر بن عطية بكسر السين المهملة وسكون الميم في آخره راء عن بعض أشياخه (أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أتي بصبيّ) أي جيء به إليه (قد شبّ) أي صار شابا (لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ فَقَالَ مَنْ أَنَا فَقَالَ رسول الله) أي أنت رسوله، (وروي) بصيغة المجهول وقد رواه البيهقي وابن عساكر (عن معرّض) بضم ميم وتشديد راء مكسورة وروي معرض بكسر أوله كأنه آلة (ابن معيقيب) بالتصغير وفي نسخة معيقب بحذف الياء الثانية (رأيت من النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عجبا) وفي المواهب أسند الحديث إلى معيقيب اليماني قال حججت حجة الوداع فدخلت دارا بمكة فرأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورأيت منه عجبا أي خرق عادة متضمنا لكرامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 (جيء) أي إليه (بصبيّ يوم ولد فذكر مثله) أي قال له من أنا قال رسول الله، (وهو حديث مبارك اليمامة) قال ابن دحية وهو موضوع ذكره الدلجي ولعله موضوع بإسناد غير معروف لما تقدم من الحديث هذا رواه البيهقي وابن عساكر فتأمل فإنه محل زلل (ويعرف) أي حديث المبارك أيضا (بحديث شاصونة) بضم الصاد وسكون الواو فنون فتاء وضبط في بعض النسخ بتحتية بدل النون وفي أخرى بفتح الصاد والواو وسكون الياء فهاء مكسورة أبو عبيد من أهل اليمن (اسم راويه) أي راوي حديث المبارك قال الحلبي هذا الصبي هو مبارك اليمامة وهو مذكور في الصحابة قال الذهبي في تجريده في الصحابة مبارك اليمامة في حديث معرض الصحابة (وفيه) أي في مروي شاصونة (فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صدقت) أي فيما نطقت (بارك الله فيك) أي في عمرك أو في أمرك (ثمّ إنّ الغلام لم يتكلّم بعدها) أي بعد هذه الكلمة أو الشهادة (حتّى شبّ) أي بلغ زمن التكلم وفيه إيماء إلى أن المراد بالغلام هنا هو الصبي قبل أن يصير شابا فهذا غير الصبي الذي تقدم والله تعالى اعلم (فكان) وفي نسخة صحيحة وكان (يسمّى مبارك اليمامة) أي لكونه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا له بالبركة أضيف إلى اليمامة لأنه كان من أهلها وفي القاموس أن اليمامة جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام وبلاد الجو منسوبة إليها سميت باسمها وهي أكثر نخيلا من سائر الحجاز وهي دون المدينة في وسط الشرق عن مكة هذا وقد جمع الجلال السيوطي رحمه الله تعالى جميع من تكلم وهو صغير في هذه الأبيات: تكلم في المهد النبي محمد ... ويحيى وعيسى والخليل ومريم ومبري جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم وطفل عليه مر بالأمة التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم وماشطة في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم (وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بفتح الواو وتكسر وهي سنة عشر من الهجرة؛ (وعن الحسن) أي البصري (أتي رجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وأسلم هو وامرأته (فذكر) أي الرجل (له أنّه طرح بنيّة) بالتصغير (له في وادي كذا) يعني وأنها هلكت على ظنه بها أو تردد في حياتها ومماتها (فانطلق) أي فذهب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (معه إلى الوادي) أي المعهود. (وناداها) أي البنية أبوها أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الأظهر (باسمها يا فلانة أجيبي) أي دعوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (بإذن الله تعالى) أي بأمره وتيسيره (فخرجت) أي من الوادي وظهرت فيه (وهي تقول لبّيك وسعديك فقال لها) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إِنَّ أَبَوَيْكِ قَدْ أَسْلَمَا فَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أردّك عليهما) أي بالحياة الأصلية أو المجددة ورددتك عليهما وإلا فتركتك على حالك (فقالت) وفي نسخة قالت (لا حاجة لي بهما) وفي نسخة فيهما (وجدت الله خيرا لي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 منهما) والحديث عن الحسن لم يعلم من رواه كذا ذكره الدلجي ثم سياقه محتمل أن يكون من كلام الصغار أو في احياء الموتى لأن القضية تحتملهما إلا أن المصنف رحمه الله تعالى لم يرتب في هذا المحل إذا كان اللائق به أن يذكر أولا ما يتعلق بإحياء الموتى ثم يأتي بكلام الصبيان على طبق العنوان ثم رأيت الحديث في دلائل البيهقي صريحا في إحيائها حيث ذكر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا رجلا إلى الإسلام فقال لا أو من بك حتى تحيي لي ابنتي فقال صلى الله تعالى عليه وسلم أرني قبرها فأراه إياه فقال صلى الله تعالى عليه وسلم يا فلانة قالت لبيك وسعديك فقال صلى الله تعالى عليه وسلم اتحبين أن ترجعي إلى الدنيا فقالت لا والله يا رسول الله إني وجدت الله خيرا لي من أبوي ووجدت الآخرة خيرا من الدنيا فكان حق المصنف أن يقدم هذا الحديث بهذا اللفظ في صدر الباب ليكون مطابقا لعنوان الكتاب ثم يذكر ما أخرجه أبو نعيم أن جابرا ذبح شاة وطبخها وثرد في جفنة وأتى بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأكل القوم وكان عليه الصلاة والسلام يقول لهم كلوا ولا تكسروا عظمها ثم إنه صلى الله تعالى عليه وسلم جمع العظام ووضع يده عليها ثم تكلم بكلام فإذا الشاة قامت تنقص ذنبها كذا ذكره صاحب المواهب وأما ما ذكروا من احيائه عليه الصلاة والسلام أبويه فالأصح أنه وقع على ما عليه الجمهور الثقات كما قال السيوطي في رسائله الثلاث المؤلفات، (وعن أنس) كما رواه ابن عدي والبيهقي وابن أبي الدنيا وأبو نعيم (أَنَّ شَابًّا مِنَ الْأَنْصَارِ تُوُفِّيَ وَلَهُ أُمٌّ عجوز) أي مات حال وجودها (عمياء فسجّيناه) بتشديد الجيم أي غطيناه (وعزّيناها) بتشديد الزاء أي أمرناها بالصبر وحملناها على الشكر لوعد الأجر والحذر من الوزر ودعونا لها بجبر المصيبة ولولدها بالمغفرة (فقالت مات ابني) أي أمات (قُلْنَا نَعَمْ قَالَتْ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ) أي من نيتي في هجرتي (أنّي هاجرت إليك وإلى رسولك رجاء) بالنصب أي من أجل أملي (أن تعينني على كلّ شدّة) أي واقعة لي (فلا تحملنّ عليّ) بتشديد الياء (هذه المصيبة) إذ لست لحملها مطيقة هذا ولا يبعد أن يكون أن بمعنى إذ لكن الأولى ما قدمناه من أن الترديد غير راجع إلى علمه سبحانه وتعالى بل إلى معلومه من حيث عدم جزمها بكون هجرتها خالصة وقد أبعد الدلجي بقوله تجاهلا منها فيه (فما برحنا) بكسر الراء أي ما ذهبنا من مكاننا ولا نزلنا في موضعنا (حتى كشف الثوب) كذا في أصل الدلجي أي إلى أن كشفه وفي الأصول المعتمدة أن كشف الثوب أي فما زلنا كشفه وما فارقنا رفعه (عن وجهه) بعد دعائها إلى احيائه (فطعم وطعمنا) بكسر العين أي فعاش مدة بدعائها وأكل وأكلنا معه وفيه إشارة إلى أن الكرامات نوع من المعجزات بل هي أبلغ منها حيث حصل للتابع ما يحصل للمتبوع من خوارق العادات هذا وليس فيه صريح دلالة على إحيائه بعد أماته لاحتمال اغمائه مع وجود سكته لكن زال الغم بدعاء الأم. (وروي) أي على ما نقله البيهقي (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ كُنْتُ فِيمَنْ دَفَنَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شمّاس) بتشديد الميم قال الحلبي ثابت هذا أنصاري خطيب الأنصار وقد شهد له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 بالجنة وذلك أنه لما نزل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية احتبس ثابت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم وَكَانَ فِي أُذُنَيْهِ صَمَمٌ فَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ وقال لقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنا من أهل النار فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال بل هو من أهل الجنة روى عنه بنوه وأنس (وكان) أي ثابت (قتل باليمامة) وكانت وقعة اليمامة سنة اثنتي عشرة في خلافة الصديق (فَسَمِعْنَاهُ حِينَ أَدْخَلْنَاهُ الْقَبْرَ يَقُولُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ؛ عُمَرُ الشَّهِيدُ، عُثْمَانُ) وفي نسخة وعثمان (البرّ) بفتح الموحدة (الرّحيم) أي البار لقومه عامة والرحيم برحمة خاصة. (فنظرنا) أي مختبرين حاله من حياة وموت (فإذا هو ميّت) هذا الحديث دليل كلام الموتى لا إحيائهم كما لا يخفى، (وذكر عن النّعمان بن بشير) كما رواه الطبراني وأبو نعيم وابن منده عنه وابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت عن أنس (أنّ زيد بن خارجة) بالخاء المعجمة ثم الجيم (خرّ ميّتا) أي سقط من قيام أو قعود حال كونه ميتا وجوز أن يكون التقدير وقد خر حيا فمات به في عقبه ويؤيده ما في رواية ابن أبي الدنيا على ما نقله عنه القسطلاني فبينما هو يمشي في طريق من طرق المدينة بين الظهر والعصر إذ خر فتوفي (في بعض أزقّة المدينة) بكسر الزاء وتشديد القاف جمع زقاق أي بعض طرقها المسلوكة في داخلها (فرفع) أي جسده (وسجّي) أي غطى وجهه (إذ سمعوه بين العشاءين والنّساء يصرخن) بضم الراء أي يبكين بصياحهن (حوله) أي ومعهن رجال من أهله (يقول أنصتوا أنصتوا) بفتح الهمزة وكسر الصاد المهملة فيهما أي اسكتوا واستمعوا والتكرير للتأكيد فنظروا فإذا الصوت من تحت الثياب (فحسر) بصيغة الفاعل أي كشف غطاؤه (عن وجهه) وفي نسخة بصيغة المفعول ويؤيده أنه في رواية فحسروا عن وجهه (فقال) أي القائل على لسانه كما في رواية (محمد رسول الله) صلى الله تعالى عليه وسلم (النبي الأمّيّ وخاتم النّبيّين) أي آخرهم (كان ذلك) أي كونه رسولا نبيا أميا وخاتما كليا (في الكتاب الأول) أي اللوح المحفوظ الذي كل ما فيه لا يبدل (ثمّ قال) أي زيد (صدق صدق) أي رسول الحق والتكرير للتأكيد أو صدق فيما أخبر به عن الابتداء كما أنه صدق فيما انبأ به عن الانتهاء، (وذكر أبا بكر وعمر وعثمان) أي بخير أو بأنهم صدقوا فيما عاهدوا الله عليه أو بأنهم ممن قال تعالى فيهم وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ وذلك لما كشف له من أحوال الآخرة هذا وقد تصحف علي الدلجي حيث قال صدق صدق أمر مخاطب (ثمّ قال) أي زيد (السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته) وهو سلام وداع إما غيبة وإما مشاهدة ويؤيده أنه في رواية قال هذا رسول الله الخ قال التلمساني روي تركناه أقول الظاهر إنه تصحيف (ثمّ عاد ميّتا كما كان) أي عود البدء واعلم أن صاحب الاستيعاب ذكر في زيد بن خارجة بن زيد أنه هو الذي تكلم بعد الموت لا يختلفون في ذلك قال الذهبي وهو الصحيح وقيل هو أبوه وذلك وهم لأنه قتل يوم أحد قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 ابن عبد البر توفي في زمن عثمان فسجي بثوب ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره ثم تكلم فقال أحمد أحمد في الكتاب الأول صدق صدق أبو بكر الصديق الضعيف في نفسه القوي الأمين في أمر الله في الكتاب الأول صدق صدق عمر بن الخطاب القوي الأمين في الكتاب الأول صدق صدق عثمان بن عفان على منهاجه مضت أربع وبقي سنتان أتت الفتن وأكل الشديد الضعيف وقامت الساعة وسيأتيكم خبر بئر أريس وما بئر أريس هذا وعن سعيد بن المسيب أن رجلا من أنصار توفي فلما كفن وأتاه القوم يحملونه تكلم فقال محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخرجه أبو بكر بن الضحاك والله سبحانه وتعالى اعلم. فصل [في إبراء المرضى وذوي العاهات] (في إبراء المرضى وذوي العاهات) أي الآفات (قال) أي المصنف (أخبرنا أبو الحسن عليّ بن مشرّف) بضم الميم وفتح الشين المعجمة وتشديد الراء المفتوحة (فيما أجازنيه وقرأته على غيره قال) أي أبو الحسن أو كل منه ومن غيره (حدّثنا أبو إسحاق الحبّال) بتشديد الموحدة (حدّثنا أبو محمد بن النّحّاس) بتشديد الحاء المهملة (ثنا أبو الورد) وهو راوي سيرة ابن هشام (عن البرقيّ) بفتح الموحدة وسكون الراء وهو أبو سعيد عبد الرحيم بن عبد الله بن عبد الرحيم بن أبي زرعة البغدادي الزهري مولاهم (عن ابن هشام) هو الإمام الأديب العلامة أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب صاحب السيرة قال السهيلي مشهور بكمال العلم متقدم في علم النسب والنحو والأدب وأصله من البصرة قدم مصر وحدث بالمغازي وتوفي بمصر سنة ثلاث عشرة ومائتين (عن زياد البكّائي) بفتح الموحدة وتشديد الكاف نسبة إلى جد له اشتهر بالبكاء وقيل سمي به لأنه دخل على أمه وهي تحت أبيه فبكى وصاح وقال إنه يقتل أمي روى عنه أحمد وقال ابن معين لا بأس به في المغازي خاصة (عن محمّد بن إسحاق) وهو الإمام في المغازي (ثنا ابن شهاب) وفي نسخة ابن هشام والأول هو الصواب والمراد به الزهري وهو أحد مشايخ ابن إسحاق المذكور (وعاصم بن عمر بن قتادة) أي ابن النعمان الظفري يروي عن أبيه وجابر وعنه جماعة صدوق وكان علامة في المغازي مات سنة عشرين ومائة أخرج له أصحاب الكتب الستة (وجماعة) أي آخرون (ذكرهم) أي ابن إسحاق (بقضيّة أحد) أي في غزوته (بطولها) أي بجميع ما يتعلق بها ومنها هذه القصة بخصوصها وقد رواها البيهقي أيضا (قال) أي ابن إسحاق (وقالوا) أي مشايخنا المذكورون (قال سعد بن أبي وقّاص) أي في غزوة أحد وهو أحد العشرة المبشرة (إنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ لَا نَصْلَ لَهُ) بالصاد المهملة حديدة السهم والرمح وفي نسخة بالضاد المعجمة وهو تصحيف وتحريف. (فيقول ارم به) أي فأرمي به فيقتل من أصابه وهذا من خرق العادة ولعل هذا كان بعد فراغ السهام التي لها نصل (وقد رمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على ما رواه ابن إسحاق والبيهقي عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 (يومئذ) أي يوم أحد (عن قوسه) وهي المسماة بالكتوم لانخفاض صوتها إذا رمى عنها (حتّى اندقّت) بتشديد القاف أي انكسرت وفي نسخة حتى اندقت سيتها كذا في السير (وأصيب) وروي وأصيبت (يومئذ عين قتادة يعني ابن النّعمان) بضم النون وهو تفسير من الراوي (حتّى وقعت على وجنتيه) بتثليث الواو والفتح أفصح أي سالت على أعلى خده فأتى به صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي أمرأة أحبها وأخشى إن رأتني تقذرني فأخذها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده وردها إلى موضعها وقال اللهم أكسه جمالا وفي رواية أنه أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له ما هذا يا قتادة فقال هذا ما ترى يا رسول الله فقال إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت رددتها ودعوت الله لك فلم تفقد منها شيئا فقال يا ارسول الله إن الجنة أجر جزيل وعطاء جليل جميل ولكني أكره أن أعير بالعور فردها إلي واسأل الله لي الجنة فقال افعل فاعادها إلى موضعها ودعا لي بالجنة وهذا معنى قوله (فردّها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه ابن إسحاق عن عاصم بن عمر ابن قتادة مرسلا ووصله ابن عدي والبيهقي عن عاصم عن جده قتادة البيهقي من وجه آخر عن أبي سعيد الخدري عن قتادة (فكانت) أي عينه المردودة (أحسن عينيه) لأنها المقبولة وكانت أيضا أحدهما نظرا ولا ترمد إذا رمدت الأخرى ولهذا ظهر ضعف قول التلمساني يجوز أن يكون اكتفى بذكر إحدى العينين عن الأخرى إذ روي أنهما أصيبتا معا فردهما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فبرئتا انتهى ويمكن الجمع بتفرق القضيتين هذا وقد وفد على عمر ابن عبد العزيز رجل من ذريته فسأله عمر من أنت فقال: أبونا الذي سالت على الخد عينه ... فرددت بكف المصطفى أيما رد فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد فوصله عمر وأحسن جائزته وقال: تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بماء فعادا بعد أبوالا وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن قتادة قال كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي دون وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكان آخرها سهما ندرت منه حدقتي فأخذتها بيدي وسعيت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما رآها في كفي دمعت عيناه فقال اللهم ق قتادة كما وقى نبيك بوجهه واجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرا (وَرَوَى قِصَّةَ قَتَادَةَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قتادة) أي كما تقدم قيل وهو الذي قدم على عمر بن عبد العزيز كما سبق (وَيَزِيدُ بْنُ عِيَاضِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ) كذا في النسخ ولم يعرف في رواة الحديث بل ولا في حملة العلم أحد يقال له يزيد بن عياض بن عمر بن قتادة وقال الحلبي الصواب يزيد بن عياض عن ابن عمر بن قتادة فيكون سقط عن وذلك لأن عاصم بن عمر شيخ يزيد هذا ويزيد ابن عياض ليثي حجازي حدث عن نافع وابن شهاب والمقبري وعاصم بن عمر بن قتادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 وجماعة وعنه علي بن الجعد وشيبان وعدة قال البخاري وغيره منكر الحديث وقد رماه مالك بالكذب وقد أخرج له الترمذي وابن ماجة ولا يحتمل أن يكون يزيد بن عياض يروي عن عمر بن قتادة لأن عمر بن قتادة لم يرو عنه إلا ولده عاصم ولا يعرف إلا بروايته عنه وجده ذكره ابن حبان في الثقات (ورواها) أي قصة قتادة (أبو سعيد الخدريّ عن قتادة) فهي رواية الأكابر عن الأصاغر (وبصق) أي بزق (عَلَى أَثَرِ سَهْمٍ فِي وَجْهِ أَبِي قَتَادَةَ) كما رواه البيهقي من حديث أبي قتادة وهو الحارث بن ربعي وقيل غير ذلك (في يوم ذي قرد) بفتح القاف والراء فدال مهملة وحكى السهيلي عن أبي علي الضم فيهما وهو منصرف ماء على ليلتين وقيل ليلة من المدينة بينها وبين خيبر ويقال لها غزوة الغابة كان يومه قبل خيبر بثلاثة أيام ذكره الحجازي قال ابن سعد كانت في ربيع الأول سنة ست وفي البخاري بعد حنين بثلاثة أيام وقبل الحديبية وفي مسلم نحوه وقال ابن القيم في الهدى وهذه الغزوة كانت بعد الحديبية وقد وهم فيها جماعة من أهل المغازي والسير فذكروا أنها قبل الحديبية ثم استدل على صحة ما قال بما أورده فيه (قال) أي أبو قتادة (فما ضرب عليّ) أي ضربانا (ولا قاح) من القيح وهي المدة لا يخالطها دم يقال منه قاح الجرح يقيح إذا حصل فيه مادة بيضاء؛ (وروى النّسائيّ) بالقصر ويمده بإسناده في سننه وهو الذي تأخر بعد الثلاثمائة من أصحاب الكتب الستة سمع قتيبة وطبقته وأصحاب مالك انتهى إليه علم الحديث وروى عنه الكتاني وابن السني (عن عثمان بن حنيف) بضم مهملة وفتح نون وعثمان هذا هو أخو عبادة وسهل وله صحبة ورواية شهد أحدا وما بعدها وهو أحد من تولى مسح سواد العراق لعمر وولى البصرة لعلي (أَنَّ أَعْمَى قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ الله أن يكشف لي عن بصري) أي يزيل عنه ما حجبه (قال فانطلق) وفي نسخة صحيحة فانطلق أي اذهب (فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ اللَّهُمَّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك) أي ملتجئا ومتوسلا (بنبيب) وفي رواية بنبيك (محمّد نبيّ الرّحمة يا محمّد) فيه التفات (إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّكَ أَنْ يَكْشِفَ عن بصري اللهمّ) التفات آخر (شفّعه فيّ) بتشديد الفاء والياء أي أقبل شفاعته في حقي (قال) أي عثمان الراوي (فرجع) أي الأعمى (وقد كشف الله عن بصره) والظاهر أن قوله يا محمد من جملة الدعاء المأمور به فلا يكون التصريح باسمه من باب سوء الأدب في ندائه فلا يحتاج إلى تكلف الدلجي بقوله ولعله كان قبل علمه بتحريمه أو قبل تحريمه بقوله تَعَالَى لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً هذا وقد رواه الترمذي أيضا وقال حسن صحيح غريب والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجة في الصلاة والحاكم والبيهقي وصححاه؛ (وروي) كما رواه أبو نعيم والواقدي عن عروة (أنّ ابن ملاعب الأسنّة) بضم الميم وكسر العين والأسنة بتشديد النون جمع سنان وهو الرمح ويقاله ملاعب الرماح أيضا وتعبيره بالملاعب أبلغ من اللعب سمي به لتقدمه وشجاعته فكأنه يلاعبها قال الحلبي لا أعرف ابنه وأما هو فعامر بن مالك عم عامر بن الطفيل وقد ذكره بعضهم في الصحابة لكن قال الذهبي في تجريده والصحيح أنه لم يسلم وقد قدم المدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 فعرض عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الإسلام فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام في قصة بئر معونة (أصابه استسقاء) أي المرض المعروف بكثرة شرب الماء وسببه اجتماع ماء أصفر في البطن (فبعث إلى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي واحدا يستشفيه (فأخذ) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بيده حثوة من الأرض) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة لغة في حثية بالياء من حثا التراب عليه يحثوه ويحثيه والمعنى أخذ قبضة منها (فتفل عليها) أي بصق قال أبو عبيد النفث بالفم شبيه بالنفخ وأما التفل فلا يكون إلا ومعه شيء من الريق، (ثمّ أعطاها رسوله) أي الذي جاء من عنده (فأخذها متعجّبا يرى) بضم الياء أو فتحها أي يظن أو يعتقد (أنّ قد هزىء به) بضم هاء وفتح وكسر زاء فهمز وأن مخففة من المثقلة اكتفاء بمرفوعها واسمها ضمير الشأن وضمير به راجع إلى ابن الملاعب وذلك لما شاع في هذا الباب أن ذلك تراب (فأتاه بها) أي بالحثوة (وهو على شفا) بفتح الشين المعجمة مقصورا منونا وهو حرف كل شيء ومنه قوله تعالى وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ أي حرفها وطرفها ويقال اشفى المريض على الموت وما بقي الا شفا أي قليل وأشفى عليه أشرف أي والحال أنه مشرف على الموت (فشربها) أي بانضمامها إلى ما عنده من الماء فكأنه عرف بالإيماء إليه أنه نافع للاستسقاء (فشفاه الله) أي عافاه مما ابتلاه (وذكر العقيليّ) بضم المهملة وفتح القاف صاحب كتاب الضعفاء قال ابن القطان أبو جعفر العقيلي مكي ثقة جليل القدر عالم بالحديث مقدم في الحفظ توفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة (عن حبيب بن فديك) مصغر فدك بالدال المهملة (ويقال فريك) أي بالراء وبالأول رواه البيهقي والطبراني ورواه ابن أبي شيبة بالثاني وأما حبيب فبفتح الخاء المهملة وروي بضم المعجمة مصغرا (أَنَّ أَبَاهُ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ فَكَانَ لَا يُبْصِرُ بهما شيئا) وروي أنه عليه الصلاة والسلام سأله عما أصابه قال كنت أقود جملا لي فوقعت رجلي على بيض حية فعميت (فنفث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي نفخ (في عينيه فأبصر) أي بهما (فرأيته) أي أبي بعد ذلك (يُدْخِلُ الْخَيْطَ فِي الْإِبْرَةِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ) أي سنة كما في رواية وفي رواية وأن عينيه لمبيضتان في المواهب رواها ابن أبي شيبة والبغوي والبيهقي والطبراني وأبو نعيم، (وَرُمِيَ كُلْثُومُ بْنُ الْحُصَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ فِي نحره) أي صدره (فبصق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيه فبرأ) بفتح الراء ويكسر وقيل برا من المرض بفتح الراء وبرئ من الدين بكسرها قال الدلجي لا أدري من رواه انتهى قال الخلبي كلثوم بن الحصين أبو ذر الغفاري شهد أحدا وبايع تحت الشجرة واستخلفه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على المدينة في عمرة القضاء وعام الفتح وأصيب بسهم في نحره فسمي المنحور وجاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فبصق عليه فبرأ روى الزهري عن ابن أخيه عنه وقد أخرج له أحمد في المسند والبخاري في كتاب الأدب المفرد وليس له في الكتب الستة شيء (وتفل) أي بصق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (على شجّة عبد الله بن أنيس) بالتصغير والشجة الضربة في الوجه والرأس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 فقط وقد يسمى بذلك ما يكون في سائر الجسد مجازا (فلم تمدّ) بضم التاء وكسر الميم وتشديد الدال من أمد الجرح صارت فيه مدة أي قيحا والمعنى لم تحصل مادة من القيح في ذلك الجرح والحديث رواه الطبراني وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة في نفر من أصحابه منهم عبد الله بن أنيس إلى اليسير بن رزام وكان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما قدموا عليه كلموه وقربوا له وقالوا إن قدمت على رسول الله استعملك وأكرمك فلم يزالوا به حتى خرج معهم فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره حتى إذا كانوا بالقرقرة على تسعة أميال من خيبر ندم اليسير بن رزام على مسيره إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ففطن له عبد الله بن أنيس وهو يدير السيف فاقتحم به ثم ضربه بالسيف فقطع رجله وضربه اليسير بمخرش في يده من شوحط فأمه فلما قدم عبد الله بن أنيس على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه، (وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْ عَلِيٍّ يَوْمَ خَيْبَرَ وَكَانَ) أي على (رمدا) بفتح الراء وكسر الميم أي ذا رمد بفتحتين وهو وجع العين وفي الحديث لا هم إلا هم الدين ولا وجع إلا وجع العين (فأصبح بارئا) بكسر الراء بعدها همزة أي فصار معافى والحديث رواه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي ففي البخاري في غزوة خيبر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال أين علي بن أبي طالب فقالوا يا رسول الله يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه فأتى به فبصق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في عينيه فدعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع وفي رواية مسلم من طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال فأرسلني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى علي فجئت به أقوده أرمد فبصق في عينيه فبرأ وعند الطبراني من حديث علي قال فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلي صلى الله تعالى عليه وسلم الراية يوم خيبر وعند الحاكم من حديث علي فوضع صلى الله تعالى عليه وسلم رأسي في حجره ثم بصق في راحته فدلك بها عيني وعند الطبراني فما اشتكيتهما حتى الساعة قال ودعا لي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال اللهم أذهب عنه الحر والقر قال فما اشتكيتهما حتى يومي هذا (ونفث) أي ثلاث نفثات (عَلَى ضَرْبَةٍ بِسَاقِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ يَوْمَ خيبر فبرئت) بفتح الراء وفي نسخة فبرئت بكسر الراء وهي لغة أهل الحجاز وفي رواية فما اشتكاها قط رواه البخاري (وفي رجل زيد بن معاذ) أي ونفث فيها (حين أصابها السّيف إلى الكعب) أي إلى الكعب رجله (حين قتل ابن الأشرف) وهو كعب بن الشرف اليهودي وقصته مشهورة (فبرئت) أي رجله رواه عبد بن حميد في تفسيره عن عكرمة ورواه ابن إسحاق والواقدي أيضا لكن قالا بدل زيد بن معاذ الحارث بن أوس ورواه البيهقي من حديث جابر وذكر بدلهما عباد بن بشر وهو ممن حضر قتل كعب وأما زيد ابن معاذ فقال الحلبي لا أعرف أنه ذكر في هذه الواقعة بل ولا في الصحابة أحد يقال له زيد ابن معاذ إلا أن يكون أحد نسب إلى جده أو جد له أعلى بل الذي جرح في رأسه أو رجله على الشك من الراوي في قتل كعب بن الأشرف إنما هو الحارث بن أوس بن معاذ بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 النعمان بن امرئ القيس بدري قتل يوم أحد وله ثمان وعشرون سنة وقيل الذي حضر كعبا وهو الحارث بن أوس بن النعمان الحارثي وقد حكى الذهبي القولين ثم قال وقيل هما واحد نسب إلى جده الأعلى لكن افترقا بالنسب كما ترى انتهى وقد سمي في رواية البخاري الذين قتلوا كعبا منهم الحارث بن مسلم وكذا مسلم في الجهاد فعليه الاعتماد هذا وقد وقال بعضهم إن زيد بن معاذ هو ابن أخي سعد بن معاذ وأنه نقله غير القاضي كذلك ولعلهما اطلعا على المراد (وعلى ساق عليّ بن الحكم) بفتحتين صحابي وهو أخو معاوية بن الحكم السلمي (يوم الخندق إذ انكسرت) أي نفث حين انكسرت ساقه (فبرأ) وفي نسخة فبرئ (مكانه) أي ولم يتعد زمانه (وما نزل عن فرسه) أي والحال إنه لم يقدر على نزوله عن فرسه إذ جاءه يستشفيه رواه أبو القاسم البغوي في معجمه (واشتكى عليّ بن أبي طالب) أي مرض أو اشتكى وجعا (فجعل) أي شرع علي أو قصد (يدعو) أي يطلب الله تعالى أن يعافيه (فقال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم اللهمّ اشفه) روي بالضمير وهاء السكت وكذا قوله (أو عافه) والشك من الراوي (ثمّ ضربه برجله) أي لتصيبه بركة فعله بعد أثر قوله (فما اشتكى ذلك الوجع بعد) بضم الدال أي ما شكاه بعد دعائه وأصابه رجله لبعض اجزائه رواه البيهقي (وَقَطَعَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ يَدَ مُعَوِّذِ) بتشديد الواو المكسورة وتفتح (ابن عفراء) بمهملة ففاء فراء ممدودة قال الحلبي والمعروف أن ابن أبي جهل عكرمة فعل ذلك بمعاذ بن عمرو بن الجموح حين ضرب أباه وكذا نقله أبو الفتح اليعمري ابن سيد الناس عن القاضي عياض ثم قال معوذ صحابي قتل يوم بدر وهو من جملة أربعة عشر قتيلا من المسلمين في وقعة بدر رضي الله تعالى عنهم أقول ولا منع من الجمع فتأمل (فجاء) أي معوذ أو معاذ (يَحْمِلُ يَدَهُ فَبَصَقَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي عليها (وألصقها فلصقت) بكسر الصاد، (رواه ابن وهب ومن روايته أيضا) وكذا رواه البيهقي عن ابن إسحاق (أنّ خبيب بن يساف) بفتح الياء في نسخة إساف بكسر الهمزة ويفتح وأما خبيب فهو بخاء معجمة وموحدتين بصيغة التصغير في النسخ وهو موافق لما في القاموس ومطابق لما ذكره الحلبي وضبطه الدلجي بمهملة وباءين بينهما مثلثة والظاهر من كلامه أنه بفتح أوله وكسر ثانيه (أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي حال كونه معه أي بقربه (بضربة على عاتقه) أي ما بين منكبه وعنقه (حتّى مال شقّه) بكسر الشين وتشديد القاف أي أحد شقيه بانفصاله عنه بحد سيفه (فردّه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بإمالته إلى محله (ونفث عليه حتّى صحّ) أي التأم قال الحلبي وحبيب هذا خزرجي شهد بدرا واحدا وما بعدهما وكان نازلا بالمدينة فتأخر إسلامه حتى سار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بدر فلحقه في الطريق فأسلم وشهد بدرا فضربه رجل على عاتقه يومئذ فمال شقه فتفل عليه ولأمه ورده فانطلق فقتل الذي ضربه وتزوج ابنته بعد ذلك وكانت تقول لا عدمت رجلا وشحك هذا الوشاح فيقول لا عدمت رجلا عجل أباك إلى النار وتوفي في خلافة عثمان؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 (وأتته امرأة من خثعم) قبيلة معروفة (معها صبي به بلاء) أي عارض (لا يتكلّم) أي بسببه (فأتي بماء فمضمض فاه) أي فمه (وغسل يديه) الظاهر إلى رسغيه (ثمّ أعطاها إيّاه) أي الماء (وأمرها بسقيه) أي بشرب الصبي منه (ومسّه به) أي مسحه ببله ووقع في أصل الدلجي وأمرها أن تسقيه ومس به أي مس صلى الله تعالى عليه وسلم الصبي بالماء (فبرأ الغلام وعقل عقلا يفضل) بضم الضاد المعجمة وتفتح أي يزيد ويغلب (عقول النّاس) رواه ابن أبي شيبة عن أم جندب مرفوعا. (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا به جنون فمسح) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (صدره فثعّ ثعّة) بمثلثة ومهملة مشددة فيهما أي قاء مرة (فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود) بتثليث الجيم ولد الكلب والسبع (فشفي) بصيغة المجهول أي برئ من جنونه وفي نسخة فسعى بفتح السين والعين المهملتين أي مشى واشتد عدوا والظاهر أنه تصحيف ثم فاعل سعى الجرو وهو الأقرب أو المبتلى وهو الأنسب والحديث رواه أحمد والبيهقي وابن أبي شيبة ففي مسند أحمد ثنا حما ثنا يزيد حدثنا حماد بن سلم عن فرقد السنجي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن به لمما وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا قال فمسح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صدره ودعا له فثع ثعة فخرج من فيه مثل الجرو الأسود فشفى وقد ذكره أحمد أيضا من طريق أخرى فقال حدثنا أبو سملى حدثنا حماد بن سلمة عن فرقد فذكر نحوه إلا أنه قال فثع أي سعل انتهى والظاهر أن قوله سعل بيان لسبب قيئه أي فسعل فقاء، (وانكفأت القدر) بهمزة مفتوحة بعد الفاء أي انقلبت البرمة وسقطت (على ذراع محمد بن حاطب) بحاء مهملة وطاء مكسورة فموحدة وفي نسخة حاتم وهو غير صحيح والمراد به ابن الحارث بن معمر القرشي من بني جمح ولد بالحبشة قيل هو أول من سمي في الإسلام محمدا له صحبة (وهو طفل) جملة حالية (فَمَسَحَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ وَتَفَلَ فِيهِ فَبَرَأَ لحينه) أي على فوره رواه النسائي والطيالسي والبيهقي (وكانت في كفّ شرحبيل) بضم أوله ويقال له شراحيل (الجعفيّ) بضم الجيم (سلعة) بكسر السين وتفتح وسكون اللام وهي زيادات تحدث في الجسد بين الجلد واللحم كالغدة تكون من قدر حمصة إلى قدر بطيخة إذا غمزت باليد تحركت (تمنعه القبض على السّيف وعنان الدّابّة) بكسر العين أي لجامها أو زمامها (فشكاها للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فما زال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يطحنها) بفتح الحاء أي يعالجها ويفصحها بكفه (حتّى رفعها) أي أزالها من كفه (ولم يبق لها أثر) أي في محلها رواه الطبراني والبيهقي. (وسألته جارية) أي بنت أو مملوكة (طعاما، وهو يأكل) جملة حالية (فناولها من بين يديه) أي بعض ما لديه (وكانت) أي قبل ذلك (قليلة الحياء) لعلها لخلل كان بعقلها (فَقَالَتْ إِنَّمَا أُرِيدُ مِنَ الَّذِي فِي فِيكَ) أي في فمك (فناولها ما في فيه، ولم يكن) أي من عادته (يسأل شيئا فيمنعه) بالنصب على جواب النفي (فلمّا استقرّ) أي مأكولها الذي ناولها (في جوفها ألقي عليها من الحياء) أي شيء عظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 منه حتى بسببه (لم تكن امرأة بالمدينة) أي فضلا عن غيرها (أشدّ حياء منها) أي ببركته ويمن همته. فصل [في إجابة دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم] (في إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام) أي لقوم وعلى بعض (وهذا باب واسع) أي متسع ذيله وما يتعلق به (جدّا) بكسر الجيم وتشديد الدال منصوب على المصدر أي وسعا كثيرا (وإجابة دعوة النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لجماعة بما دعا لهم) أي بالخير تارة (وعليهم) أي بالشر تارة وهذا مفهوم كلام المصنف بحسب الظاهر ولكن الأظهر أن المراد به أنه دعا لبعض منهم بالمنفعة ولآخرين منهم بالمضرة ولذا قال التلمساني فكأنه أوصله نفعا وصب عليه شرا (وهذا أمر متواتر في الجملة) وفي نسخة على الجملة أي لا على التفصيل (معلوم ضرورة) أي عند أهل السيرة. (وقد جاء في حديث حذيفة) أي من رواية أحمد بن محمد بن حنبل في مسنده (كان رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا لِرَجُلٍ أَدْرَكَتِ الدَّعْوَةُ) أي أثرها (ولده وولد ولده) وفيه تنبيه على صحة معنى ما يقال الولد سر أبيه ويؤيده قوله تعالى وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قيل كان بينهما سبعة آباء قال أي المصنف. (حدّثنا أبو محمد العتابيّ) بتشديد الفوقية (بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ محمد) بكسر التاء (حدّثنا أبو الحسن) وفي نسخة بالتصغير والأول هو الصحيح (القابسيّ) بكسر الموحدة (حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يوسف) أي الفربري (حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي البخاري صاحب الجامع وقد أخرجه مسلم أيضا (حدّثنا عبد الله بن أبي الأسود) أي البصري من رواية مالك (حدّثنا حرمي) بفتح الحاء والراء وهو ثابت بن روح وكنيته أبو عمارة ابن أبي حفصة (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله عنه قال قالت أمّي) وهي أم سليم بنت ملحان (يَا رَسُولَ اللَّهِ خَادِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللَّهَ له قال اللهمّ أكثر ماله) أي حلالا (وولده) أي صالحا (وبارك له فيما آتيته) أي أعطيته من المال والولد فأوتي مالا كثيرا وأولادا مات له في الطاعون الجارف سبعون ولدا من صلبه غير أولاد أولاده. (ومن رواية عكرمة) أي على ما انفرد بها مسلم وهو ابن عمار الحنفي اليمامي وكان مجاب الدعوة (قال أنس فو الله إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي ليعادّون) بضم الياء وتشديد الدال أي يعد بعضهم بعضا وليزيدون (اليوم على نحو المائة) قال التلمساني وفي رواية الصحيحين والمصابيح ليتعادون بزيادة التاء (وفي رواية) وهي غير معروفة (وما أعلم أحدا أصاب) اليوم (من رخاء العيش) أي سعة المعيشة وكثرة النعمة (ما أصبت) أي ببركة دعوة صاحب النبوة وأثر كثرة الملازمة والخدمة هذا واستدل بعضهم بدعائهم عليه السلام لأنس على تفضيل الغنى على الفقر وأجيب بأنه مختص بدعاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنه قد بارك فيه ومتى بورك فيه لم يكن فيه فتنة فلم يحصل بسببه مضرة (ولقد دفنت بيديّ) بتشديد الياء (هَاتَيْنِ مِائَةً مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 ولدي لا أقول سقطا) بكسر السين ويجوز ضمها وفتحها وهو الجنين الذي يسقط قبل تمامه (ولا ولد ولده) أي لا أحسبها في العدد قال الحلبي واعلم أن في البخاري في الصوم من رواية حميد عن أنس قال حدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مقدم الحجاج البصري عشرون ومائة قيل وكان مقدمه سنة خمس وسبعين وقد ولد لأنس بعد ذلك أولاد كثيرة وتوفي سنة ثلاث وتسعين ونقل عن أبي قتيبة أنه وقع على الأرض من صلب المهلب ابن أبي صفرة البصري ثلاثمائة ولد. (ومثله) وفي نسخة صحيحه ومنه أي ومن دعائه المجاب (دعاؤه لعبد الرّحمن بن عوف بالبركة) على ما رواه البيهقي (قال) أي عبد الرحمن كما في نسخة صحيحه (فَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لَرَجَوْتُ أَنْ أُصِيبَ تَحْتَهُ ذهبا وفتح الله عليه) أي فتوحات كثيرة وأموالا غزيرة (ومات فحفر الذّهب) بصيغة المجهول أي استخرج مما كان مدفونا (من تركته) بفتح فكسر أي متروكاته بعد خيراته ومبراته (بالفؤوس) بضم الفاء والهمزة وسكون الواو جمع فأس بالهمزة ويبدل كراس ورؤوس وكأس وكؤوس (حتّى مجلت) بفتح الجيم ويكسر أي تنفطت من كثرة العمل (فيه الأيدي وأخذت كلّ زوجة) أي من زوجاته (ثمانين ألفا وكنّ أربعا) فجملته ثلاثمائة وعشرون ألفا (وقيل مائة ألف) بالنصب أي أخذت كل واحدة منهن مائة ألف فجملته أربعمائة أَلْفٍ (وَقِيلَ بَلْ صُولِحَتْ إِحْدَاهُنَّ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا في مرضه) أي الذي مات فيه (على نيّف) بتشديد التحتية المكسورة وتسكينها أي زيادة بمعنى كسر (وثمانين ألفا وأوصى بخمسين ألفا) أي ألف دينار في سبيل الله كما صرح به عروة بن الزبير وكذا أوصى بألف فرس في سبيل الله كما ذكر الحجازي وغيره (بعد صدقاته الفاشية) أي الكثيرة الشائعة (في حياته وعوارفه العظيمة) أي معروفاته الجزيلة قبل مماته (أَعْتَقَ يَوْمًا ثَلَاثِينَ عَبْدًا وَتَصَدَّقَ مَرَّةً بِعِيرٍ) بكسر العين أي بقافلة (فيها سبعمائة بعير وردت عليه) أي جاءت من سفر تجارة (تحمل من كلّ شيء) أي من أجناس الأموال وأنواعها (فتصدّق بها) أي بالأبعرة السبعمائة (وبما عليها) أي من أنواع البضائع المختلفة (وبأقتابها) جمع قتب بالتحريك وهو للبعير كالأكاف لغيره (وأحلاسها) جمع حلس بالكسر وهو كساء يلي ظهر البعير تحت القتب وفي ذكرهما مبالغة في الاستيفاء وتأكيد للاستقصاء هذا وقد قال الحلبي الذي استحضره من صدقات عبد الرحمن بن عوف أنه تصدق بشطر ماله أربعة آلاف ثم بأربعين ألفا ثم بأربعين ألف دينار ثم تصدق بخمسمائة فرس في سبيل الله ثم بخمسمائة راحلة وفي الترمذي أنه أوصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعمائة ألف قال الترمذي حديث حسن وقال الزهري أوصى لمن بقي من أهل بدر لكل رجل بأربعمائة دينار وكانوا مائة فأخذوها وأخذ عثمان فيمن أخذ وأوصى بألف فرس في سبيل الله انتهى وروي أنه رضي الله تعالى عنه لما حث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الصدقة جاءه بأربعة آلاف درهم وقال يا رسول الله كان لي ثمانية آلاف درهم فأقرضت ربي أربعة وأمسكت لعيالي أربعة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله في ماله (ودعا لمعاوية) أي ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 أبي سفيان رضي الله عنهما (بالتّمكين في البلاد فنال الخلافة) أي أصابها في الجملة أو على وفق ما أراد إذ الصحيح أنه لا يسمى خليفة على خلاف بعد نزول الحسن والمعتمد أن الخلافة تمت بخلافة الحسن بعد أبيه بستة أشهر لقوله عليه الصلاة والسلام الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك رواه أحمد والترمذي بسند صحيح وكذا ابن حبان عن سفينة ثم رأيت أنه قيل صوابه الإمارة وقد روى ابن سعد دعاءه عليه الصلاة والسلام اللهم علمه الكتاب ومكنه في البلاد وقه العذاب وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لن يغلب معاوية وقد بلغ عليا هذه الرواية فقال لو علمت لما حاربته، (ولسعد بن أبي وقّاص) أي دعا له (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُجِيبَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ فما دعا) أي سعد (على أحد إلّا استجيب له) رواه الترمذي موصولا ورواه البيهقي عن قيس بن أبي حازم مرسلا بلفظ اللهم استجب له إذا دعا وحسنه قد استجيب له دعوات مروية في الصحيح وغيره منها أن رجلا نال من علي كرم الله وجهه بحضرته فقال اللهم إن كان كاذبا فأرني فيه آية فجاء جمل فتخبطه حتى قتله ومنها ما رواه البخاري أنه دعا على أبي سعدة اللهم أطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن قال الراوي فلقد رأيته شيخا كبيرا سقط حاجباه على عينيه يتعرض للجواري يغمزهن فيقال له فيقول شيخ مفتون اصابته دعوة سعد؛ (ودعا) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بِعِزِّ الْإِسْلَامِ بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ بأبي جهل فاستجيب له في عمر) رواه الإمام أحمد والترمذي في جامعه وغيرهما عن ابن عمر به مرفوعا ولفظه اللهم أيد الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب وصححه ابن حبان والحاكم في مستدركه عن ابن عباس اللهم أيد الدين بعمر بن الخطاب وفي لفظ أعز الإسلام بعمر وقال إنه صحيح الإسناد وفيه عن عائشة اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة وقال ينه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأما ما يدور على الألسنة من قولهم اللهم أيد الإسلام بأحد العمرين فلا يعلم له أصل في المبنى وإن كان يصح نقله بالمعنى بناء على تغليب عمر على عمرو بن هشام وهو اسم أبي جهل وكان يكنى أولا أبا الحكم فكناه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أبا جهل فغلبت عليه هذه الكنية، (وعن ابن مسعود) وفي نسخة وقال ابن مسعود (ما زلنا أعزّة) جمع عزيز أي أقوياء وعظماء أو ظاهرين قاهرين (منذ أسلم عمر) قلت وفي الآية إشارة إلى هذه العزة حيث نزل عند إيمانه قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإنه رضي الله تعالى عنه كان تمام الأربعين؛ (وأصاب النّاس في بعض مغازيه) أي مسير غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم (عطش) أي شديد (فسأله عمر الدّعاء) أي الاستسقاء (فدعا فجاءت سحابة فسقتهم حاجتهم) بالنصب أي قدر كفايتهم (ثمّ أقلعت) بفتح الهمزة واللام أي أقشعت السحابة وانجلت (ودعا في الاستسقاء) أي يوم جمعة على المنبر في المدينة كما رواه الشيخان عن أنس (فسقوا) بصيغة المفعول (ثمّ شكوا إليه المطر) أي كثرته حيث خيف ضرره في الجمعة الثانية وهو على منبره (فدعا) أي بكشفه (فصحوا) بفتح الصاد وضم الحاء وفتحها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 أي فانكشف ما بهم من السحابة (وقال لأبي قتادة أفلح وجهك) جملة خبرية في المبنى دعائية في المعنى أي بقي وفاز وظفر (اللهمّ بارك له) أي لأبي قتادة (في شعره) بفتح العين ويسكن (وبشره) بفتحتين أي ظاهر جلده حتى يستمر أحسنين (فمات) أي أبو قتادة (وهو ابن سبعين سنة) جملة حالية وكذا قوله (وكأنّه ابن خمس عشرة سنة) بسكون الشين المعجمة وتكسر رواه البيهقي، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (للنّابغة) أي الجعدي واسمه قيس بن عبد الله وقيل عكسه حين أنشده قصيدته الرائية (لا يفضض الله) بضم الضاد المعجمة الأولى وكسر الثانية على أن لا ناهية وضمها على أن لا نافية وهي أبلغ أي لا يسقط وقيل لا يكسر من فض كسر وفرق وروي لا يفض الله فاك من الفضاء وهو الخلاء أي يجعل الله فاك فضاء لا اسنان فيه (فاك) أي أسنانك أو أسنان فيك باعتبار أحد المجازين كقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (فما سقطت له سنّ) رواه البيهقي وابن أبي أسامة وروي مثله عن عمه العباس قال يا رسول الله إني مدحتك فقال لا يفضض الله فاك فأنشد الأبيات السابقة (وفي رواية فكان) أي النابغة (أحسن النّاس ثغرا) بفتح المثلثة وسكون الغين المعجمة أي سنا وقيل هو ما تقدم من الإنسان ويؤيد الأول عموم قوله (إِذَا سَقَطَتْ لَهُ سِنٌّ نَبَتَتْ لَهُ أُخْرَى وعاش عشرين ومائة) هو لغة في مائة وعشرين (وقيل أكثر من هذا) فقيل عاش مائة وثمانين سنة وقيل مائتين وأربعين سنة وكان في الجاهلية يصوم ويستغفر وبقي إلى أيام ابن الزبير وأخرج له بقي مخلد حديثا واحدا وفي الشعراء جماعة غيره يقال لكل منهم النابغة وإذا أطلق فهو المراد واختلف في سبب الدعاء له فقيل قوله: بلغنا السماء مجدنا وسناءنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال إلى أين يا أبا ليلى قال فقلت إلى الجنة فقال نعم إن شاء الله وقال الحديث وقيل قوله: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... تأن إذا ما أورد الأمر أصدرا وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أجدت فلا سقط له سن، (ودعا لابن عبّاس) كما رواه الشيخان (اللهمّ فقّهه في الدّين) أي علمه ما يحتاج إليه في أمر الدين من الأمور الواضحة للمجتهدين (وعلّمه التّأويل) أي تأويل الكتاب والسنة من آل يؤول إلى كذا إذا رجع إليه وأريد به صرف اللفظ عن ظاهره لدليل لولاه ما صرف عن حاله (فسمّي) أي ابن عباس (بعد) بضم الدال أي بعد دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم له (الحبر) بفتح الحاء وتكسر أي حبر الأمة وهو عالمها سمي به وهو المداد لمزاولته له غالبا في أداء المراد وفي نسخة البحر بدل الحبر أي بحر العلم، (وترجمان القرآن) بفتح التاء وضم الجيم وضمهما وحكي فتحهما أي مفسره ومعبره والترجمان في الأصل من يترجم الكلام أي ينقله من لغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 إلى لغة أخرى وفي القاموس الترجمان كعنفوان وزعفران وريهقان المفسر للسان. (ودعا لعبد الله بن جعفر) أي ابن أبي طالب (بالبركة في صفقة يمينه) أي تبايعه وسمى صفته لوضع كل من البائعين يده في يد الآخر عرفا وعادة (فما اشترى شيئا إلّا ربح فيه) رواه البيهقي عن عمرو بن حريث؛ (ودعا للمقداد) أي ابن الأسود (بالبركة فكان له) وفي نسخة صحيحة عنده (غرائر) بفتح الغين جمع غرارة بالكسر وهي جوالق (من المال) رواه البيهقي في الدلائل عن بضاعة بنت الزبير (ودعا بمثله) أي بمثل ما دعا للمقداد من البركة (لعروة بن أبي الجعد) قال ابن المديني أخطأ من قال فيه عروة بن الجعد وإنما هو ابن أبي الجعد انتهى وهو صحابي مشهور وحديثه هذا رواه البخاري (وقال) أي عروة كما رواه أحمد (فلقد كنت أقوم) أي أقف كما في نسخة (بالكناسة) بضم الكاف موضع أو سوق بالكوفة وكانوا يرمون فيه كناسات دورهم (فما أرجع) أي عنها (حتّى أربح) بفتح الموحدة أي استفيد (أربعين ألفا) يحتمل الدينار والدرهم، (وقال البخاريّ في حديثه. فكان) أي عروة (لو اشترى التّراب) أي مثلا (ربح فيه، وروي مثل هذا) أي الدعاء بالبركة (لغرقدة) بغين معجمة فراء ساكنة (أيضا) قال الدلجي لا أدري من رواه (وندّت) بنون وتشديد أي نفرت وذهبت على وجهها شاردة (له) أي لغرقد (ناقة فدعا) أي النبي عليه الصلاة والسلام على ما هو ظاهر الكلام (فجاءه بها) وفي نسخة صحيحة فجاءه بها (إعصار ريح) بالإضافة والإعصار بالكسر ريح عاصف يستدير في الأرض ثم يسطع إلى السماء مستديرا كالعمود (حتّى ردّها) أي الأعصار الناقة (عليه) أي على غرقد، (ودعا لأمّ أبي هريرة) أي بالهداية كما رواه مسلم وغيره (فأسلمت) فعن أبي هريرة قال دعوت أمي يوما إلى الإسلام وهي مشركة فأسمعتني فى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما أكره فأتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا أبكي فقلت يا رسول الله ادع الله يهدي أم أبي هريرة فقال اللهم اهد ام أبي هريرة فخرجت مستبشرا بدعوته عليه السلام فلما صرت إلى الباب فإذا هو مجاف فسعمت أمي خشف قدمي فقلت مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فرجعت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح فحمد الله وقال خيرا، (ودعا لعليّ أن يكفى) بصيغة المفعول أي يحفظ (الحرّ والقرّ) بضم القاف وفتحها وتكسر البرد أو شديده أي شرهما، (فكان) أي علي (يَلْبَسُ فِي الشِّتَاءِ ثِيَابَ الصَّيْفِ، وَفِي الصَّيْفِ، ثياب الشّتاء، ولا يصيبه) ويروى ولا يسيئه ويروى ولا يسوؤه (حرّ ولا برد) أي مع اختلاف الأحوال والحديث رواه ابن ماجة والبيهقي، (ودعا الله لفاطمة ابنته أن لا يجيعها) أي جوعا شديدا (قالت فما جعت. بعد) أي بعد ذلك الدعاء ابدا رواه البيهقي عن عمران بن حصين، (وسأله) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة (الطّفيل) بالتصغير أي ابن عمرو كما في نسخة وهو ابن طريف الأزدي الدوسي قتل يوم اليمامة وكان شريفا مطاعا في قومه روى أبو الزناد عن الأعرج عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 أبي هريرة أنه قال لما قال الطفيل بن عمرو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن دوسا قد غلب عليهم الزنا والربا فادع الله عليهم قلنا هلكت دوس حتى قال عليه السلام اللهم أهد دوسا (آية) أي علامة تكون كرامة (لقومه) أي عندهم (فقال اللهمّ نوّر له فسطع) أي ظهر ولمع (له نور بين عينيه فقال يا ربّ أخاف أن يقولوا مثلة) بضم الميم ويفتح ويكسر وسكون المثلثة أي تنكيل وعقوبة وهي مرفوعة وقيل منصوبة (فتحوّل) أي فاستجيب دعاؤه وانتقل ذلك النور (إِلَى طَرَفِ سَوْطِهِ فَكَانَ يُضِيءُ فِي اللَّيْلَةِ المظلمة) وروي الظلماء (فسمّي ذا النّور) كالحسنين ابني علي وأسيد بن حضير وعباد بن بشر وحمزة بن عمرو الأسلمي وقتادة بن النعمان كل سمي بذلك وأما ذو النورين فهو لقب عثمان لأنه تزوج بنتين لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والحديث هذا وراه ابن إسحاق بلا سند والبيهقي عنه وابن جرير من طريق الكلبي. (ودعا على مضر) على وزن عمر وهم قبيلة (فأقحطوا) بصيغة المجهول أي فدخلوا في القحط باحتباس المطر عنهم وانقطاع الخير منهم (حتّى استعطفته قريش) أي طلبوا منه أن يعطف عليهم ويرحمهم، (فدعا لهم) أي بالمطر (فسقوا) بصيغة المجهول أي فأعطوا مطرا فأخصبوا رواه النسائي عن ابن عباس والبيهقي عن ابن مسعود وأصله في الصحيحين، (ودعا على كسرى) بكسر الكاف وتفتح لقب لكل ملك الفرس وهو هنا أبرويز بن هرمز قال الطبري وتفسيره المظفر بن هرمز بن أنوشروان وتفسيره بالعربية مجدد الملك (حين مزّق كتابه) بتشديد الزاء أي شقق مكتوبه عليه السلام (أن يمزّق الله ملكه) أي بتمزيق الله ملكه فمزقه كل ممزق، (فلم تبق له باقية) أي نفس باقية أو أثر وبقية قال السهيلي ولما دعا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عليه وقع أمره في الانحطاط إلى أن قتله ابن له يقال له شيرويه ومات ابنه الذي قتله بعد أبيه بزمن يسير وسببه أن أبرويز قيل له أن ابنك شيرويه يريد قتلك قال إذا قتلني فأنا أقتله ففتح خزانة الأدوية وكتب على حقة السم الدواء النافع للجامع وكان ابنه مولعا بالجماع فلما قتل أباه وفتح الخزانة ورأى تلك الحقة تناول منها فمات من ذلك ومات سائر أولاده وأكثر أقاربه بعد دعائه عليه الصلاة والسلام لستة أشهر ومالت عنهم الدولة حتى انقرضوا عن آخرهم في خلافة عثمان، (ولا بقيت لفارس) بكسر الراء مصروفا وممنوعا أي لأهل فارس (رياسة في أقطار الدّنيا) أي نواحيها رواه البخاري من طريق ابن عباس (ودعا على صبيّ قطع عليه) أي بمروره بين يديه (الصّلاة) أي صلاته كما في نسخة (أن يقطع الله أثره) ومن جملته مشي قدميه كما قال وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ، (فأقعد) بصيغة المجهول أي صار مقعدا لا يستطيع النهوض وفي رواية قطع صلاتنا قطع الله أثره وفي أصل الدلجي دابره بدل أثره فتكلف في وجهه بأن الدابر في الأصل الآخر ومنه قوله تعالى فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي آخرهم فلم يبق أحد منهم ثم استعير للزمانة كما هنا بسلب قوة مشيه هذا والحديث رواه أبو داود والبيهقي ورواه ابن حبان عن سعيد بن عبد العزيز عن يزيد بن مهران يقول مررت بين يدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلي فقال اللهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 اقطع أثره فما مشيت وقد ضعف عبد الحق وابن القطان إسناده وكذا ابن القيم وقال الذهبي أظن أنه موضوع ثم على تقدير ثبوته فيه إشكال وهو أنه عليه الصلاة والسلام كيف يدعو على الصبي وهو غير مكلف بالأحكام مع أن القاضي جزم بذلك في مقام المرام وجوابه نقل عن البيهقي في المعرفة أن الأحكام إنما صارت متعلقة بالبلوغ بعد الهجرة قال الحلبي وفي كلام السبكي أنها إنما سارت متعلقة بالبلوغ بعد أحد ثم قال الحلبي أو يقال إن هذا من باب خطاب الوضع لأنه اتلاف لا يشترط فيه التكليف انتهى وتبعه الأنطاكي وقرره التلمساني وفيه أن الصلاة صحيحة بالإجماع فليس من الاتلاف بلا نزاع نعم اتلاف لكمال الحال في حضور البال وهو غير مقتض لهذا النكال ولذا قال الدلجي وأجيب هنا بما لا يشفى ثم أقول ولعل الصبي كان من أولاد الكفار وقد أمره أهله بأن يقطع الصلاة على سيد الابرار فأراهم صلى الله تعالى عليه وسلم معجزة إظهارا للمعزة ودفعا للمذلة أو كان الصبي مراهقا فظنه عليه الصلاة والسلام بالغا وفي قطعه قاصدا فتبين أنه كان صبيا قاصرا أو يكون من باب قضية الخضر مع الصغير مكاشفا، (وقال لرجل) هو بسر بضم الموحدة وسكون المهملة ابن راعي العير الأشجعي قيل كان منافقا (رآه يأكل بشماله) فقال له (كل بيمينك، فقال لا أستطيع) أي أن آكل بيميني لعذر بي، (فقال لا استطعت) أن تأكل بيمينك دعاء عليه لكونه كاذبا فيما ادعاه (فلم يرفعها) أي يمينه بعد ذلك (إليّ فيه) أي فمه لا عند أكله ولا في حال غيره والحديث رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع واستدل به على وجوب الأكل باليمين ولا دلالة فيه عند المحققين، (وقال لعتبة) بضم أوله وفي نسخة بالتصغير (ابن أبي لهب) أي ابن عبد المطلب ابن هاشم (اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ فَأَكَلَهُ الأسد) أي ليلا وهو مسافر وقد جعله أصحابه بينهم محيطين فتخطاهم نائمين فافترسه رواه ابن إسحاق عن عروة بن الزبير عن هبار ابن الأسود والحاكم من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه والبيهقي من طرق عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهم قال الحلبي واعلم أن عتبة اسلم يوم الفتح وكذا أخوه معتب ولم يهاجرا من مكة وهذا هو المشهور وبعضهم جعل هذا عقير الأسد وجعل عتيبة المصغر هو الذي أسلم وصحب والمشهور أن المصغر عقير الأسد والمكبر هو الصحابي والله تعالى أعلم وسبب دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم ما روى عروة بن الزبير أن عتيبة بن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال لآتين محمدا فلأوذينه فأتاه فقال يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنى فتدلى ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورد عليه ابنته وطلقها فقال عليه الصلاة والسلام اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فرجع عتيبة إلى أبيه فأخبره ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم إن هذه أرض مسبعة فقال أبو لهب لأصحابه أغيثونا يا معشر قريش فإني أخاف على ابني دعوة محمد فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم وأحدقوا بعتيبة فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتيبة فقتله هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 نسخة زيد هنا وقال لامرأة أكلك الأسد فأكلها قيل هذا بخطه ليس من الرواية، (وحديثه المشهور) أي كما رواه الشيخان (من رواية عبد الله بن مسعود فِي دُعَائِهِ عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ وَضَعُوا السَّلَا) بفتح المهملة مقصورا هو للبهيمة كالمشيمة لبني آدم وهي جلد رقيق يخرج مع الولد من بطن أمه ملفوفا فيه قال الشمني أن شقت عن وجه الفصيل ساعة ينتج والإقتلته وكذا إذا انقطع السلا في البطن فإذا خرج السلا سلمت الناقة وسلم الولد وإن انقطع في بطنها هلكت وهلك الولد وقيل يخرج بعد الولد (عَلَى رَقَبَتِهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ مَعَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ وسمّاهم) أي قريشا مجملا ومفصلا حيث قال اللهم عليك الملأ من قريش اللهم عليك بأبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمثالهم، (فقال) وفي نسخة وقال أي ابن مسعود (فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر) أي معظمهم فإن اشقاهم عقبة بن أبي معيط الذي وضع على رقبته الشريفة السلا حمل من بدر أسيرا فقتله علي بعرق الظبية بأمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مقفلهم من بدر إلى المدينة ولعل الحكمة في تأخير الأشقى ليشاهد العقوبة في أصحابه في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى قال الحلبي وعمار بن الوليد لم يقتل ببدر أيضا وإنما جرى له قصة مع النجاشي مشهورة وقد سحر فصار متوحشا وهلك على كفره بأرض الحبشة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، (ودعا على الحكم بن أبي العاص) أي ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وهو أبو مروان عم عثمان أسلم يوم الفتح وتوفي في خلافة عثمان (وكان يختلج بوجهه ويغمز) بكسر الميم (عند النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي يجلس خلفه صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا تكلم يحرك شفتيه وذقنه حكاية لفعله ويرمز مشيرا بعينه أو حاجبه (أي لا) أي أراد به ردا لكلامه استهزاء وسخرية، (فرآه) أي النبي عليه الصلاة والسلام مرة وهو يختلج (فقال كذلك) وفي نسخة صحيحة كذلك كن (كن فلم يزل يختلج) أي يرتعد ويضطرب (إلى أن مات) رواه البيهقي من طرق عن عبد الرحمن بن أبي بكر وعن ابن عمر وعن هند ابن خديجة وفي رواية فضربه فصرع شهرين ثم أفاق مختلجا قد أخذ لحمه وقوته وقيل مرتعشا وقال التلمساني قوله يغمز إما يعيب لأنه كان يخبر المنافقين بسر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لأنه كان يحكي فعله صلى الله تعالى عليه وسلم في مشيه وأمره ونحوه أولا بالفتح وتشديد الواو خلاف الأخير وروي أي لا بأي التفسيرية ولا النافية فعلى الأول معناه كان يختلج أولا قبل الدعوة ثم اختلج ثانيا بها ومعناه أنه كان صحيحا ثم هلك بالدعوة فهو مفعول أي يختلج أولا أي قبل الدعوة ويجوز أن يريد بالأول زمن الصحة وبالثاني زمن السقم فيكون خبرا لكان أو مفعول أي يختلج أولا يشير إلى ما كان عليه من الاستهزاء فمنى باولا عنه لأن فعله إنما كان عن جهالة ولا يخرجه ذلك عن عداد الصحابة فقد ذكر فيهم وعلى الثاني تفسير لفعله وحذف ما بعدها تشنيعا لذكره لأن ذكر مثل هذا لا يليق لأن فيه تنقيص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومعناه لا يكون كذلك الأولى أو الأحق ما شاكل هذا بموطن أو موطنين في غيبته أو حضوره والله تعالى أعلم (ودعا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 محلّم) بكسر اللام المشددة (ابن جثّامة) بفتح الجيم وتشديد المثلثة (فمات) في حمص أيام ابن الزبير على ما قاله السهيلي (لسبع) أي بعد سبعة أيام (فلفظته الأرض) بفتح الفاء وإعجام الظاء أي قذفته الأرض ورمته على ظهرها بعد دفنه في بطنها وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ما لفظته الأرض أن لتقبل من هو شر منه ولكن أراد الله أن الأرض يجعله لكم عبرة فألقوه بين صوحي جبل فأكلته السباع والصوح هو الشق (ثمّ ووري) بضم أوله مجهول وارى أي ستر تحت الأرض (فلفظته مرّات) ظرف للفعلين (فألقوه) بفتح القاف أي رموه (بين صدّين) بفتح الصاد ويضم جبلين أو واديين (ورضموا عليه) بفتح الراء والضد المعجمة أي كوموا عليه (بالحجارة) رواه البيهقي عن قبيصة بن ذؤيب وابن جرير موصولا عن ابن عمر وقال الحسن بلغني أنه دعا الحديث وسبب دعائه على محلم أنه كان بعث سرية للغزو فيها محلم فأمر عليهم عامر بن الأضبط فلما بلغوا بطن واد قتل محلم عامرا غدرا فجرى ما جرى (وجحده رجل) أي من الصحابة على ما ذكره الدلجي ولعله كان منافقا (ببيع فرس) أي أنكره. (وهي) القصة (التي شهد فيها خزيمة) بالتصغير (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بأنه اشتراه منه مع أنه لم يره وجعل صلى الله تعالى عليه وسلم شهادته وحدها مقبولة عن اثنين (فردّ الفرس بعد) بالضم أي بعد جحده وشهادة خزيمة له (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم على الرّجل) والمعنى فرد على الرجل فرسه (وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَلَا تُبَارِكْ له فيها) أي فرسه (فأصبحت شاصية برجلها) أي رافعة بسبب نفخها من شصا بصره أي شخص (وَهَذَا الْبَابُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ) أي يجمع فصوله من فروعه وأصوله. فصل [في كراماته صلى الله عليه وسلم] (في كراماته وبركاته وانقلاب الأعيان) أي بتحولها وتغيرها عن حالتها الأولى (لَهُ فِيمَا لَمَسَهُ أَوْ بَاشَرَهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) والكرامة اسم من الاكرام (أنا) أي أخبرنا كما في نسخة (أحمد بن محمد) أي ابن غلبون الخولاني (ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ إِجَازَةً وَحَدَّثَنَا الْقَاضِي أبو عليّ سماعا) تقدم أنه الحافظ ابن سكرة (والقاضي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وغيرهما) أي وغير القاضيين أيضا (قالوا) أي جميعهم (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الْقَاضِي حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الهرويّ) سبق (حدّثنا أبو محمد) وهو السرخسي (وأبو إسحاق) وهو المستملي (وأبو الهيثم) وهو الكشميهني (قالوا) أي الثلاثة (حدّثنا الفربريّ) بكسر ففتح على الأشهر (حدّثنا البخاريّ) أي صاحب الجامع الصحيح (حدّثنا يزيد بن زريع) بالتصغير وهو أبو معاوية البصري الحافظ فقال الحلبي وقد سقط واحد بين البخاري وبين يزيد بن زريع فإن يزيد بن زريع ليس شيخا للبخاري وإنما هو شيوخه والساقط هو عبد الأعلى بن حماد وقد أخرج البخاري هذا الحديث الذي ذكره القاضي في كتاب الجهاد عن عبد الأعلى بن حماد عن يزيد ابن زريع بالسند الذي ساقه القاضي قال الحجازي وكذا وجدته في النسخة المعتمدة انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 وعبد الأعلى هذا روى عن الحمادين ومالك وعنه الشيخان وأبو داود وأبو يعلى والبغوي (حدّثنا سعيد) أي ابن أبي عروبة (عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عنه أنّ أهل المدينة فزعوا) بكسر الزاء أي خافوا واستغاثوا (مرّة) أي وقتا من الأوقات (فركب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي قبل الناس حين خرج من المدينة (فرسا لأبي طلحة) أي مستعارا منه (كان) أي الفرس (يقطف) بضم الطاء ويكسر أي يقارب خطوه في سرعة وزيد في أصل الدلجي به فقال أي بأبي طلحة (أو به قطوف) بضم أوله شك من رواه عن أنس ذكر الدلجي أو ممن بعده قال الجوهري القطوف من الدواب البطيء وقال أبو زيد هو الضيق المشي وقد قطفت الدابة قطفا والاسم القطاف (وقال غيره) أي غير أنس (يبطّأ) بفتح الطاء المهملة المشددة فهمزة أي لضيق الخطى وهو من البطئ وعند الطبري ثبطا أي ثقيلا وقال أبو عبيد في قوله تعالى فَثَبَّطَهُمْ أي عوقهم (فلمّا رجع) أي من الفزع إلى المدينة ولم ير بأسا (قال) أي لأبي طلحة (وجدنا فرسك بحرا) أي واسع الجري سريع العدو (فكان) أي ذلك الفرس (بعد) أي بعد ركوبه أو قوله هذا (لا يجارى) بضم الياء وفتح الراء من الجري بالجيم أي لا يسابق ولا يباري والمعنى لا سبقه غيره حينئذ (ونخس جمل جابر) بالنون والخاء المعجمة المفتوحتين أي طعنه عند دبره أو جنبه بمحجن أو نحوه (وكان) أي الجمل (قد أعيي) أي عجز عن المشي وتعب عن السير (فنشط) بكسر الشين المعجمة وفي مضارعه بفتحها أي خف وأسرع وفي النهاية كثيرا ما يجيء في الرواية انشط وليس بصحيح (حتّى كان) أي انتهى نشاطه إلى أن صار جابر (ما يملك) ويروى لا يملك (زمامه) رواه الشيخان. (وصنع مثل ذلك بفرس لجعيل) بضم الجيم وفتح العين المهملة فتحتية ساكنة (الأشجعي خفقها) أي ضربها (بمخفقة) بكسر الميم وفتح الفاء أي بدرة (معه وبرك عليها) بتشديد الراء أي دعا بالبركة لها (فلم يملك) أي جعيل بعد ذلك (رأسها نشاطا) بفتح النون أي من أجل إسراعها (وباع من نسلها) وفي نسخة من بطنها (باثني عشر ألفا) وهذا من أثر دعائه بالبركة لها وما قبله من أثر ضربه وتوجهه إليها فهما نشر ولف مرتب لما قبلهما رواه البيهقي (وركب حمارا قطوفا) بفتح القاف (لسعد بن عبادة فردّه) أي من محله الذي انتهى إليه أو من وصفه الذي كان عليه (هملاجا) بكسر فسكون ثم جيم أي سريع الهرولة فارسي معرب ويسمى الآن رهوانا (لا يساير) بصيغة المفعول أي لا تسايره دابة إلا سبقها رواه ابن سعد من حديث إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ (وكانت شعرات من شعره) بفتح العين ويسكن أي من شعراته كما في نسخة صلى الله تعالى عليه وسلم (في قلنسوة خالد بن الوليد) بفتح القاف واللام وضم السين ما يوضع على الرأس مثل الكوفية (فلم يشهد بها) أي فلم يحضر خالد بتلك القلنسوة (قتالا إلا رزق النّصر) بصيغة المفعول ونصب النصر أي أعطي الفتح والظفر رواه البيهقي (وفي الصّحيح) أي من رواية مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة (عن أسماء بنت أبي بكر) أي الصديق رضي الله تعالى عنهما (أنّها أخرجت جنّة طيالسة) بالإضافة كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 في شرح مسلم للنووي وفي نسخة بالوصف جمع طيلسان بفتح اللام ويثلث فارسي معرب وفي نسخة طيالسة بزيادة تحتية وفسرت بالخلق وهو أما من أصلها وأما لما طرأ عليها لأن هذه الجبة صارت بيد اسماء بعد موت أختها عائشة وهي ماتت بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنحو خمس وأربعين سنة وفسرت بالأكسية وبالخضراء ثم طيالسة بالتنوين لأنها في زنة رفاهية وثمانية (وقالت) أي اسماء (أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يلبسها) بفتح الموحدة (فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها) جملة حالية أو مستأنفة مبينة وهي بصيغة المفعول وفي نسخة بصيغة المتكلم هذا وقال المصنف (وحدّثنا القاضي أبو عليّ) وهو ابن سكرة (عن شيخه أبي القاسم بن المأمون) أخذ عن أبي محمد الباجي (قال كانت عندنا قصعة) بفتح القاف ومن لطائف كلام أرباب اللغة لا تفتح الجراب ولا تكسر القصعة (من قصاع النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بكسر القاف جمع (فكنّا نجعل فيها الماء للمرضى يستشفون) وفي نسخة فيستشفون (بها) أي فيشفيهم الله تعالى ببركة نسبتها (فأخذ جهجاه) بالتنوين وهو بالجيمين والهاءين ابن سعد أو سعيد أو مسعود وقال الطبري المحدثون يزيدون في آخره الهاء والصواب جهجا بدون هاء في آخره (الغفاريّ) بكسر أوله حضر بيعة الرضوان وعن عطاء أنه كان يشرب حلاب سبع شياه فلما اسلم لم يتم حلاب شاة (القضيب) هو عصا النبي التي كان الخلفاء يتداولونها (من يد عثمان) أي وهو على المنبر (ليكسره على ركبتيه) أي متعمدا عليها (فصاح به النّاس) وفي نسخة فصاح الناس به (فأخذته فيها الآكلة) بفتح فكسر ويسكن فسكون وبفتحتين أي الحكمة وفي نسخة بمد فكسر (فقطعها) أي ركبته وتذكير الضمير العائد إلى الأكلة بتأويل الداء (ومات قبل الحول) رواه أبو نعيم في الدلائل وابن السكن في معرفة الصحابة وقال ابن عبد البر هو الذي تناول العصا من يد عثمان وهو يخطب وكانت عصا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتوفي بعد عثمان بسنة ذكره الحلبي ثم كسر العصا ليس صريحا في كلام القاضي وهو صريح في كلام ابن عمر ولكني رأيت في حاشية على كتاب الروض الأنف للسهيلي عن ابن دحية نقلا عن ابن العربي في كتاب العواصم أنه لا يصح كسر العصا ممن أطاع ولا ممن عصا قلت وكذا يخالف بين قوليهما حيث قال القاضي مات قبل الحول وقال ابن عبد البر توفي بعد عثمان بسنة والله سبحانه وتعالى اعلم (وسكب) أي صب (من فضل وضوئه) بفتح الواو ويضم أي وماء وضوئه (في بئر قباء) بهمز مصروف ويمنع وقد يقصر ولعلها بئر أريس (فما نزفت) أي ما فنيت ولا نقصت وفي نسخة بصيغة المجهول ففي الصحاح نزفت ماء البئر إذا نزحته ونزفت هي فيتعدى ولا يتعدى ونزفت أيضا على ما لم يسم فاعله وحكى الفراء نزفت البئر إذا ذهب ماؤها (بعد) أي بعد صبه إلى يومنا هذا رواه البيهقي عن أنس، (وَبَزَقَ فِي بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِ أَنَسٍ فلم يكن) أي ماء (بالمدينة) وفي نسخة في المدينة (أعذب منها) أي أطيب وأحلى ماء من تلك البئر رواه أبو نعيم ولله در القائل من صاحب الشمائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 ولو تفلت في البحر والبحر مالح ... لاصبح ماء البحر من ريقها عذبا (ومر على ماء فسأل عنه فقيل) أي له كما في نسخة (له اسمه بيسان) بكسر موحدة وتفتح فسكون تحتية (وماؤه ملح) بكسر فسكون مبالغة مالح أي أجاج (فقال بل هو نعمان) بضم أوله وفي نسخة صحيحة بفتحه واختاره التلمساني للمشاكلة ولو كسر لكان له وجه وجيه لقضية حسن المقابلة وهو مأخوذ من النعمة بكسر أولها أو فتحها (وماؤه طيّب فطاب) أي بمجرد قوله صلى الله تعالى عليه وسلم قيل بيسان موضعان أحدهما بالشام وهو المراد في حديث الدجال والآخر بالحجاز وهو الذي مر به عليه الصلاة والسلام في غزوة ذي قرد فسأل عنه فقيل له اسمه بيسان فقال هو نعمان وهو طيب فغير صلى الله تعالى عليه وسلم فغير الله وصفه ورسمه فاشتراه طلحة فتصدق به فسماه عليه الصلاة والسلام طلحة الفياض (فأتي) كذا في نسخة صحيحة والظاهر وأتى بالواو كما في بعض النسخ المصححة وهو بصيغة المفعول أي وجيء (بدلو من ماء زمزم فمجّ) بفتح الميم وتشديد الجيم أي ألقى من فيه ماء (فيه) أي في الدلو وهو مؤنث وقد يذكر على ما في القاموس (فصار أطيب من المسك) رواه ابن ماجة وروى البيهقي عن وائل الحضرمي ولم يقل من ماء زمزم (وأعطى الحسن والحسين) أي كلا منهما (لسانه فمصّاه) بتشديد الصاد (وكانا يبكيان عطشا) جملة حالية وعطشا مفعول من أجله لا تمييز كما اختاره الحلبي (فسكتا) أي بسكون عطشها رواه الطبراني عن أبي هريرة (وكان لأمّ مالك) أي الأنصارية روى عنها عطاء بن السائب بواسطة رجل أو البهزية روى عنها طاوس والظاهر أن المراد بها الأول وقال الشارح الصواب أم أنس بن مالك فسقط ذكر أنس قاله أبو علي الغساني وهي أم سليم بنت ملحان (عكّة) بضم مهملة فكان مشددة إناء من جلد يجعل فيه السمن (تهدي) بضم التاء وكسر الدال أي ترسل (فيها للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم سمنا) أي ليأتدم به (فأمرها النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا تعصرها) بضم الصاد أي أمرها بترك عصرها (ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ مَمْلُوءَةٌ سَمْنًا فيأتيها بنوها يسألونها الأدم) بضم فسكون وبضمتين وهو كل ما يؤتدم به (وليس عندهم شيء) من الأدم أو من السمن (فتعمد إليها) بكسر الميم أي تقصد على العكة (فتجد فيها سمنا فكانت تقيم إدمها) وفي نسخة أدمهم أي تديم ذلك الأدام (حتّى عصرتها) رواه مسلم عن جابر (وكان يتفل) بضم الفاء وكسرها (في أفواه الصّبيان المراضع) بفتح الميم أي أولاد المراضع كما قاله الحلبي وهو الظاهر وقال الدلجي جمع رضيع يعني مرضع اسم مفعول (فيجزئهم) بضم الياء وكسر الزاء فهمزة ويسهل لا كما قال الدلجي بفتح التحتية أي يكفيهم (ريقه إلى اللّيل ومن ذلك) أي من قبيل كراماته (بركة يده) البيضاء أي الحاصلة (فيما لمسه) أي مسه بها مطلقا (أو غرسه) أي من شجر وغيره كما في أصل الدلجي وفي النسخ المصححة وغرسه (ولسلمان) بالواو وهو الظاهر لأنه حديث مستقل رواه البيهقي عن سلمان أنه عليه الصلاة والسلام غرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 له (حين كاتبه مواليه) وهم يهود وأصله من فارس من قوم مجوس فخرج يطلب الدين وطريق اليقين وجعل ينتقل من دين إلى دين حتى أخذه قوم من العرب فباعوه منهم فكاتبوه (على ثلاثمائة وديّة) بتشديد التحتية صغير فسيل النخل (يغرسها لهم) بكسر الراء (كلّها) بالرفع أي جميعها (تعلق) بفتح اللام وتضم أي تمسك أو تحبل (وتطعم) بضم التاء وكسر العين أي تعطي الثمرة أو تدرك (وعلى أربعين أوقيّة) بضم الهمزة وتشديد التحتية على المشهور وبحذف الهمزة وفتح الواو في لغة وهي كانت أربعين درهما من فضة في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم فالمراد هنا وزنها لقوله (من ذهب) قال الحلبي إنما كانت سلمان مولاه ففيه مجاز ولكن جاء في بعض طرقه وهو في المسند أنه عليه الصلاة والسلام اشتراه من قوم من اليهود بكذا وكذا درهما وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يعمل فيها سلمان حتى تدرك (فقام صلى الله تعالى عليه وسلم وغرسها له) أي لسلمان أو لمالكه (بيده إلّا واحدة) بالنصب (غرسها غيره) وهو عمر بن الخطاب على ما ذكره ابن عبد البر بسنده في الاستيعاب وهو مسند أحمد أيضا وفي طريق أخرى ذكرها البخاري في غير صحيحه أن الذي غرسها سلمان فيجمع بينهما بأن واحدة غرسها عمر وأخرى غرسها سلمان وإن يكونا غرسا واحدة فلم تطعم ويكون الراوي مرة عزا غرسها لعمر ومرة عزا غرسها لسلمان إن كان الراوي واحدا وهو بريدة كما رواه أحمد وإن كان غيره فيكون فيه مجاز كذا حققه الحلبي ويؤيد الثاني من القولين قوله (فأخذت كلّها) أي نبتت وأثمرت (إِلَّا تِلْكَ الْوَاحِدَةَ فَقَلَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وردّها) أي بيده الكريمة (فأخذت) عروقها ونشبت في محلها (وفي كتاب البزّار) بتشديد الزاء وفي آخره راء (فأطعم النّخل) أي جنس ما ذكر (من عامه إلّا الواحدة) أي التي غرسها غيره عليه الصلاة والسلام (فقلعها رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَرَسَهَا فَأَطْعَمَتْ مِنْ عَامِهَا وَأَعْطَاهُ) أي سلمان (مثل بيضة الدّجاجة) بفتح الدال ويثلث أي مقدارها وزنا أو حجما (من ذهب بعد أن أدارها) أي تلك القطعة التي هي كالبيضة (على لسانه) أي مبالغة للبركة في شأنه وإذا جاز حمله على حقيقته فلا معنى لقول الدلجي لعله أراد بذلك أنه برك عليها أي دعا فيها بالبركة فلم يسمعه من شاهده فظن أنه إنما أدارها عليه (فوزن) أي سلمان (مِنْهَا لِمَوَالِيهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَبَقِيَ عِنْدَهُ مِثْلُ ما أعطاهم) أي كمية وأزيد منه كيفية وكان سلمان من المعمرين عاش على الأصح مائتين وخمسين سنة وقيل ثلاثمائة وخمسين سنة وقيل اربعمائة سنة مائة في المجوسية ومائة في اليهودية ومائة في النصرانية ثم لما اسلم قال يا رب عمرني في الإسلام مائة سنة فعاش مائة في الإسلام وكان يأكل من عمل يده ويتصدق بعطائه وهو أحد الذين اشتقاقت إليهم الجنة ومناقبه كثيرة وفضائله غزيرة مات بالمدائن سنة خمسين وثلاثين وما ترك شيئا يورث عنه. (وفي حديث حنش) بمهملة فنون مفتوحتين فمعجمة (ابن عقيل) بفتح العين وكسر القاف وفي بعض النسخ المصححة بالتصغير وهو حديث طويل رواه قاسم بن ثابت في الدلائل من طريق موسى بن عقبة عن المسور بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 مخرمة عنه وقال الشارح لم ار له أثرا في كتاب الصحابة لابن عبد البر ولا خبرا فعلى من رآه أن يرسمه هنا (سقاني رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْبَةً مِنْ سَوِيقٍ شَرِبَ أَوَّلَهَا وشربت آخرها فما برحت) بكسر الراء أي ما زلت (أجد شبعها) بكسر ففتح (إذا جعت وريّها) بكسر راء فتشديد تحتية (إذا عطشت) بكسر الطاء (وبردها إذا ظمئت) بكسر الميم من الظمأ وهو العطش الشديد من كثرة الحر أو شدة الحرارة (وأعطى قتادة بن النّعمان) بضم النون (وَصَلَّى مَعَهُ الْعِشَاءَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مَطِيرَةٍ) جملتان معترضتان وردتا اعتراضا بين أعطى ومفعوله الثاني كذا ذكره الدلجي والظاهر أن الجملة واحدة وأن قوله في ليلة ظرف لقوله (عرجونا) بضم العين والجيم ويكسر مع فتح الجيم وقرئ بهما وهو أصل العذق الذي يعوج ويقطع منه الشماريخ فبقي على النخل يابسا ولعله هو العذق مطلقا وقيل إذا يبس واعوج وهو الملائم لقوله تعالى حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (وَقَالَ انْطَلِقْ بِهِ فَإِنَّهُ سَيُضِيءُ لَكَ مِنْ بين يديك عشرا) أي عشرة أذرع أو نحوها والعدد إذا حذف مميزه جاز تذكيره وتأنيثه (وَمِنْ خَلْفِكَ عَشْرًا فَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَتَرَى سوادا) أي جسما ذا سواد أو جسما وشخصا (فَاضْرِبْهُ حَتَّى يَخْرُجَ فَإِنَّهُ الشَّيْطَانُ فَانْطَلَقَ فَأَضَاءَ له العرجون) هو أصل العذق كما تقدم (حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ وَوَجَدَ السَّوَادَ فَضَرَبَهُ حَتَّى خرج) رواه أحمد عن أبي سعيد بسند صحيح وفي توثيق عرى الإيمان للبارزي فإنه قنفذ بدل فإنه شيطان ولا تنافي فلعله تمثل بصورته أسود (ومنها) أي ومن كراماته مما كان سببا لانقلاب الأعيان (دفعه) أي إعطاؤه عليه الصلاة والسلام (لعكاشة) بضم أوله وتشديد الكاف وتخفيفه (جذل حطب) بكسر جيم ويفتح وسكون ذال معجمة أي أصل شجرة وأراد به هنا عودا وقيل هو الحطبة أو الخشبة الغليظة (وقال اضرب به حين انكسر سيفه) ظرف لدفعه (يوم بدر) أي زمن وقعته (فعاد) أي فتحول (في يده سيفا) وفي نسخة فصار فيكون مجازا عنه إذا لم يكن قط سيفا فيعود (صارما) أي قاطعا (طويل القامة أبيض) أي بريق اللمعان (شديد المتن) من المثانة وهي القوة أو قوى الظهر فإن المتن هو أصل الشيء الذي به قوامه بمنزلة الظهر للأعضاء ومنه متن الحديث (فقاتل به) أي في وقعة بدر حتى انقضت (ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَوَاقِفَ) أي لقتال الكفرة (إلى أن استشهد) أي عكاشة (فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَكَانَ هَذَا السَّيْفُ يقال له) وفي نسخة يسمى (العون) بالمصدر للمبالغة أو بمعنى المعين أو المعان والمستعان رواه البيهقي وقال الخطابي يجب أن يعلم أن الذين لزمهم اسم الردة من العرب كانوا صنفين صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر وهم المعنيون بقول أبي هريرة وكفر من كفر وهم أصحاب مسيلمة ومن نحا نحوهم في إنكار نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وانكروا الزكاة يعني إعطاءها لا وجوبها وهؤلاء هم أهل بغي وإنما لم يخصوا بهذه السمة لدخولهم في غمار أهل الردة بخلاف المسلمين فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين خطبا وصار مبدأ قتال أهل البغي مؤرخا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 بأيام علي رضي الله تعالى عنه إذ كانوا منفردين في عصره ولم يختلطوا بأهل شرك في دهره (ودفعه) أي ومنها دفعه عليه الصلاة والسلام (لعبد الله بن جحش) بفتح جيم فسكون مهملة (يوم أحد وقد ذهب سيفه) جملة حالية اعتراضية (عسيب نخل) أي جريدة منه مما لا خوص عليه وما نبت عليه الخوص فهو سعف والخوص الأوراق (فرجع) أي انقلب (في يده سيفا) رواه البيهقي وفي سيرة ابن سيد الناس أنه أعطى سلمة بن أسلم يوم بدر قضيبا من عراجين ابن طاب كان في يده فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيدة انتهى ونقل الواحدي بإسناده (ومنه) أي ومن هذا النوع (بركته في دور الشّياه الحوائل) بالهمز جمع الحائلة وهي الشاة العديمة اللبن (باللّبن الكثير كقصّة شاة أمّ معبد) بفتح الميم والموحدة وقصتها ما رواه ابن سعد والطبراني عن أبي معبد الخزاعي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما هاجر ومعه أبو بكر ومولاه عامر بن فهيرة وعبد الله بن الأريقط استأجره دليلا وهو على دين كفار قريش فأخذ بهم طريق الساحل فمروا بقديد على أم معبد عاتكة بنت خالد الخزاعية وكانت برزة تختبي بفناء بيتها فتطعم وتسقي من مر بها وكانوا مرملين مسنتين فطلبوا منها لبنا فلم يجدوا فرأوا عندها شاة خلفها الجهد عن الغنم فقال اتأذنين لي أن أحلبها قالت نعم فدعا بها فاعتقلها ومسح ضرعها وسمى الله فتفاجت ودرت ودعا بإناء بربض الرهط فحلب فيه ثجا وسقى القوم حتى رووا ثم شرب آخرهم ثم حلب فيه ثانيا ثم تركه عندها وارتحلوا فجاء زوجها أبو معبد يسوق أعنز عجافا يتساوكن هزالا فرأى اللبن فعجب فقال أنى لك هذا قالت مر بنا رجل مبارك الحديث (وأعنز معاوية) بفتح همزة وسكون عين وضم نون جمع قلة لعنز أي شاة انثى وفي أصل العرفي المصحح من أصل المؤلف معونة بفتح الميم وضم العين وبالنون من العون والظاهر أنه تصحيف فقد ذكر الطبري في كتاب الدلائل معاوية (ابن ثور) بفتح مثلثة وسكون واو وفد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو شيخ كبير ومعه ابنه بشر فدعا له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومسح رأسه وأعطاه اعنزا عشرا فقال محمد بن بشر بن معاوية بن ثور في أبيه: وأبي الذي مسح الرسول برأسه ... ودعا له بالخير والبركات والتقدير وقصتها كما رواه ابن سعد وابن شاهين عن الجعد بن عبد الله (وشاة أنس) أي وقصتها (وغنم حليمة مرضعته وشارفها) وهي المسنة من النوق وقيل من الأبل وقيل من المعز على ما رواه أبو يعلى والطبراني وغيرهما بسند حسن (وشاة عبد الله بن مسعود) أي كما رواه البيهقي (وكانت) أي تلك الشاة (لم ينز) بفتح الياء وسكون النون وضم الزاء أي لم يثب ولم يعل (عليها فحل) أي للضراب وروي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مسح ضرع شاة حائل لا لبن لها لابن مسعود فدرت وكان ذلك سبب اسلامه (وشاة المقداد) كما في صحيح مسلم وكلها كانت مثل شاة أم معبد وقد درت ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 وقصة شاة المقداد مختصة ما روي عنه أنه قال أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهب اسماعنا وأبصارنا من الجهد يعني الجوع فعرضنا أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يقبلنا أحد فأتينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاث أعنز فقال احتلبوا هذا اللبن بيننا فكنا نحتلب فكان يشرب كل إنسان نصيبه ونرفع للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم نصيبه فيجيء من الليل فيشربه فوقع في نفسي ذات ليلة أي نبي الله يأتي الأنصار فيتحفونه ما به حاجة إلى هذه الجرعة فشربتها ثم ندمت على ما فعلت خشية أنه إذا جاء فلم يجده يدعو علي فأهلك وجعل لا يجيء النوم وأما صاحباي فناما فجاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كعادته وكشف عن نصيبه فلم يجد شيئا فرفع رأسه إلى السماء فقلت الآن يدعو علي فقال اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني قال فأخذت الشفرة وانطلقت إلى الاعنزايتها اسمن أذبحها له أذاهن حفل كلهن فعمدت إلى إناء فحلبت فيه حتى علته رغوة فجيئت به إليه فشرب ثم ناولني فلما عرفت أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد روى وأصبت دعوته ضحكت حتى القيت على الأرض فقال أفدني سوءتك يا مقداد يعني أنك فعلت سوءة من الفعلات فما هي قال فقلت يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا فقال صلى الله تعالى عليه وسلم ما هذا إلا رحمة من الله (ومن ذلك) أي من قبيل كراماته وزيادة بركاته كما رواه ابن سعد عن سالم بن أبي الجعد مرسلا (تزويده أصحابه سقاء) بكسر أوله أي وعاء (ماء بعد أن أوكاه) بألف بعد الكاف أي ربطه بالوكاء وهو خيط يشد به الوعاء (وَدَعَا فِيهِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُمُ الصَّلَاةُ نَزَلُوا فَحَلُّوهُ) بضم اللام المشددة أي ففتحوا السقاء بحل الوكاء (فإذا به) أي فيه وفي نسخة فإذا هو فاجأهم ذلك الماء في السقاء (لبن طيّب وزبدة) بتاء وحدة وفي أصل الدلجي زبده بالإضافة أي زبد اللبن (في فمه) وفي نسخة في فمه أي في فم السقاء (من رواية حماد بن سلمة) متعلق بقوله تزويده قال الحلبي هو الإمام أبو سلمة أحد الأعلام قال ابن معين إذا رأيت من يقع فيه فاتهمه على الإسلام وقد تقدم عليه الكلام (ومسح على رأس عمير بن سعيد) بضم عين وفتح ميم وفي نسخة عمر بن سعد كلاهما صحابي قال الحلبي وما أعرف من جرت له القصة منهما قلت ولا يبعد ثبوت القضية عنهما ففي كل نسخة إشارة إلى أحدهما بل روى الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن محمد بن عبد الرحمن ابن سعد أنه عبادة لا عمير ولا عمر فتدبر (وبرّك) أي دعا له بالبركة (فمات وهو ابن ثمانين فما شاب) أي رأسه خصوصا أو شعره عموما والله تعالى أعلم (وروي مثل هذه القصص) أي الروايات المتضمنة للحكايات الدالة على عموم البركات من سيد السادات وسند أرباب السعادان (عن غير واحد) أي عن كثيرين من الصحابة (منهم السّائب بن يزيد) وقد سبق ذكره. (ومدلوك) وهو ابن سفيان الفزاري مولاهم اسلم مع مواليه علق البخاري حديثه وقيل هو مولى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكره ابن حبان في ثقاته فقال مدلوك أبو سفيان كان يسكن الشام أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم فدعا له النبي صلى الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 عليه وسلم ومسح برأسه فكان رأس أبي سفيان ما مسه من يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسود وسائر رأسه أبيض (وكان يوجد لعتبة بن فرقد) أي ابن يربوع السلمي له صحبة ولي الموصل لعمر وكان شريفا وشهد خيبر وابتنى بالموصل دارا ومسجدا وأما ابنه عمرو فمن الأولياء ذكره الذهبي (طيب يغلب طيب نسائه) أي رائحة وفائحة (لأنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مسح بيديه على بطنه وظهره) رواه البيهقي والطبراني (وسلت الدّم) أي مسحه وأماطه (عن وجه عائذ) بالذال المعجمة بعد الهمز (ابن عمرو) أي ابن هلال أبو هبيرة المزني بايع تحت الشجرة وكان من الصالحين (وكان) أي وقد كان (جرح يوم حنين) وفي نسخة يوم أحد (ودعا له فكانت) أي بعده كما في نسخة أي بعد سلته من موضعه (له غرّة) أي بياض في وجهه من غير سوء به (كغرّة الفرس) وفي أصل الدلجي ولا كغرة الفرس أي بل أعلى منها رواه الطبراني (وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِ قَيْسِ بْنِ زَيْدٍ الْجُذَامِيِّ) بضم الجيم له وفادة (ودعا له) أي بالبركة (فهلك) أي مات (وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَرَأْسُهُ أَبْيَضُ وَمَوْضِعُ كفّ النبيّ) وفي نسخة كف رسول الله (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَرَّتْ يَدُهُ عَلَيْهِ مِنْ شعره) أي بقية شعر رأسه (أسود فكان) أي قيس بسبب تلك الغرة في جبهته (يدعى الأغرّ) أي تشبيها لما في وجهه من البياض كغرة الفرس ذكره ابن الكلبي (وروي مثل هذه الحكاية) أي من مسح الرأس وظهور أثر المسح كما رواه البيهقي (لعمرو بن ثعلبة الجهني) بضم ففتح (ومسح وجه آخر) وفي نسخة على وَجْهَ آخَرَ (فَمَا زَالَ عَلَى وَجْهِهِ نُورٌ) قال الحلبي هذا الآخر لا أعرفه وقال الدلجي لعله خزيمة بن سواد بن الحارث إذ قد روى ابن سعد عن وحرة السعدي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مسح وجهه فصارت له غرة بيضاء (ومسح وجه قتادة بن ملحان) بكسر الميم وسكون اللام قال الحلبي مسح رأسه ووجهه ولعل غالب مسحه كان على وجهه ولذا اقتصر عليه (فكان لوجهه بريق) أي لمعان عظيم (حتّى كان ينظر في وجهه) بصيغة المجهول (كما ينظر في المرآة) بكسر الميم والهمزة الممدودة رواه أحمد والبيهقي (ووضع يده على رأس حنظلة بن حذيم) بكسر حاء مهملة وسكون ذال معجمة ففتح تحتية وفي نسخة بالجيم مصغرا وهو تصحيف وضبطه التلمساني بخاء معجمة مضمومة وراء مفتوحة وبمثناة من أسفل ساكنة قال وروي مثل ما قدمنا واخترناه قال وكذا ذكره أبو عمرو وهو الذي روى حديث لا ينم بعد احتلام قال الذهبي حديثه في مسند أحمد ولأبيه صحبة وذكر في التجريد حنيفة والد حذيم لهما صحبة ولابنه حنظلة قيل ولابن ابنه أيضا لكن قال موسى بن عقبة فيما نقله عنه ابن الجوزي وغيره ما نعلم أربعة أدركوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا هؤلاء يعني أبا قحافة وابنه أبا بكر وابنه عبد الرحمن وابنه محمد ويكنى أبا عتيق قال الحلبي ومحمد أبو عتيق الصحيح أنه تابعي ولو قال موسى بن عقبة عبد الله بن الزبير وأمه أسماء وأبوها أبو بكر وأبوه أبو قحافة لكان صوابا فإن هؤلاء لا خلاف في صحبتهم (وبرّك عليه) أي دعا له بالبركة (فكان حنظلة يؤتى بالرّجل) اللام للعهد الذهني فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 في حكم النكرة أي برجل من الرجال (قد ورم وجهه) بكسر الراء أي تورم وانتفخ (والشّاة) أي وبالشاة (قد ورم ضرعها) بفتح أوله أي ثديها (فيوضع) وفي نسخة فيضع أي محال الورم منها (على موضع كفّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من رأسه (فيذهب الورم) أي من وجه الرجل وضرع الشاة رواه البيهقي وغيره (ونضح) بالحاء المهملة وقيل بالمعجمة وقيل بمهملة إن اعتمد ويعجم إن لم يعتمد رش (في وجه زينب) أي ربيبته (بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ نَضْحَةً مِنْ مَاءٍ فَمَا يعرف كان) وفي نسخة فما كان يعرف (فِي وَجْهِ امْرَأَةٍ مِنَ الْجَمَالِ مَا بِهَا) أي مثل ما كان بوجهها من الكمال رواه ابن عبد البر في استيعابه وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين ابتنى بأم سلمة دخل عليها بيتها في ظلمة فوطىء على زينب فبكت فلما كان من الليلة الآخرى دخل في فاطمة فقال انظروا زيانبكم لئلا اطأ عليها أو قال أخروا حكاه السهيلي هكذا ومن قصتها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يغتسل فدخلت عليه فنضح في وجهها بالماء فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت وتوفيت يوم مات معاوية (ومسح على رأس صبي به عاهة) أي آفة من قرع ونحوه (فبرأ) أي زال ما به (واستوى شعره) أي على حاله بل أحسن منه في مآله هذا الحديث لا يعرف من رواه بهذا اللفظ إلا أن أبا نعيم روى عن الأوزاعي أنه انطلق إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بابن له مجنون فمسح وجهه ودعا له فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوته له أعقل منه أي ببركة دعائه وكان القياس أن يقال ولا أحسن منه ببركته ومسح وجهه هذا وزيد في نسخة هنا وروي مثله خبر المهلب بن قبالة بفتح القاف والباء الموحدة المخففة وباللام وروي هلب بن قنافة بضم الهاء وسكون اللام وآخره موحدة وقنافة بضم القاف وفتح النون مخففة وبالفاء كذا ذكره أبو عمرو قيل وهو الصواب ولعلهما قصتان لرجلين وقال الطبري هو المهلب بن يزيد بن عدي بن قنافة الطائي وفد على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو أقرع فمسح على رأسه فنبت شعره فسمي المهلب (وعلى غير واحد) أي ومسح على كثيرين (من الصّبيان والمرضى والمجانين) عطف على الصبيان (فبرؤوا) بفتح الراء ويكسر فعوفوا من مرضهم وجنونهم (وأتاه رجل به أدرة) بضم همزة وتفتح وسكون دال وبفتحتين أي نفخة في خصيته (فأمره أن ينضحها) بفتح الياء وكسر الضاد المعجمة أي يرشها (بماء من عين) أي ماء وفي نسخة من عين غس بفتح غين معجمة وتشديد سين مهملة (مجّ) أي صب من فيه (فيها) أي في تلك العين وفي نسخة فيه أي في الماء أو في ذلك المكان (ففعل) أي النضح (فبرأ) قال الدلجي لا أعلم من رواه. (وعن طاوس) يكتب بواو ويقرأ بواوين كداود والهمزة غلط فيهما وهو ابن كيسان اليماني من ابناء الفرس وقيل اسمه ذكوان فلقب به لأنه كان طاوي القراء كما قاله ابن معين روى عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة وخلق وعنه الزهري وسليمان التيمي وابنه عبد الله بن طاوس وجمع وهو رأس في العلم والعمل توفي بمكة سنة ست أو خمس ومائة أخرج له الأئمة الستة (لم يؤت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ما جيء (بأحد به مسّ) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 جنون أو وله (فصكّ) بتشديد الكاف أي ضرب (في صدره إلّا ذهب) أي ما به من المس (والمسّ الجنون) لأنه يحصل بسببه كذا وقفه المصنف على طاوس ولم يعلم من رواه عنه من المخرجين، (ومجّ) بتشديد الجيم صب من فمه (في دلو) أي فيه ماء (من بئر) وسبق في رواية القاضي من بئر زمزم (ثمّ صبّ) بفتح الصاد ويضم أي كب الدلو يعني ماءه (فيها) في تلك البئر (ففاح) أي سطح وانتشر (منها ريح المسك) أي مثل ريحه تشبيها بليغا وإنما شبه به لأنه أعلى أنواع الرائحة وإن كان رائحة ما مجه أتم أصناف الفائحة لأن مصدرها الخاتمة والفاتحة رواه أحمد عن وائل بن حجر وفي شرح التلمساني فمج أطيب من المسك هكذا رواه وصوابه فصار أطيب أو فعاد أطيب ويجوز أن يكون معناه فصار المج أطيب من المسك، (وأخذ قبضة من تراب) بضم القاف وتفتح أي مقبوضة منه (يوم حنين) وفي نسخة يوم بدر وهو أصل التلمساني قال وروي حنين بحاء مهملة والكل صحيح والمعنى حين وقع من بعضهم الفرار ومن باقيهم القرار (وَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ وَقَالَ شَاهَتِ الوجوه) أي قبحت مأخوذة من الشوهة وهو القبح وأول من تكلم به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذكره التلمساني (فانصرفوا يمسحون القذى) بقاف مفتوحة وذال معجمة وألف مقصورة جمع قذاة وهي ما يقع في العين وغيرها من تراب وتبنة ونحوها أي يميطونها ويزيلونها (عن أعينهم) رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع، (وَشَكَا إِلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النّسيان) أي نسيان ما يسمعه من الحديث والقرآن (فأمره ببسط ثوبه) أي بفتحه ونشره لديه (وغرف) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بيده فيه) أي تشبيها بمن أخذ شيئا والقاه في ثوبه (ثمّ أمره بضمّه) أي بجمع ثوبه إلى صدره (ففعل فما نسي شيئا بعد) أي من أمره في عمره رواه الشيخان، (وما يروى في هذا كثير) أي ما يروى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا المعنى وهو الدعاء لذهاب النسيان كثير طرقه ولا يبعد أن يكون المعنى وما يروى عن أبي هريرة لأجل هذا كثير مع أن زمن صحبته يسير وهو أربع سنين (وضرب صدر جرير بن عبد الله) أي البجلى (ودعا له) أي بالثبات ظاهرا وباطنا ولذا خص الضرب بصدره لأنه محل الرهبة والجزع (وكان) أي جرير (ذكر له) أو كان صلى الله تعالى عليه وسلم ذَكَرَ لَهُ (أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ) أي حال جريها (فصار من أفرس العرب) بضم الفاء أي شجعانهم وفي نسخة من أفرس العرب (وأثبتهم) أي على الخيل من ركبانهم كذا في الصحيحين، (ومسح رَأْسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ) أي ابن أخي عمر بن الخطاب (وهو صغير) جملة حالية من عبد الرحمن لا من زيد كما توهم الدلجي (وكان دميما) بدال مهملة أي قبيحا ورميما لكونه هزيلا قصيرا والدمامة بالمهملة في الخلق بالفتح وبالمعجمة: في الخلق بالضم وعلى هذا ينشد كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبعدا إنه لدميم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 (ودعا له بالبركة ففرع) بفاء وراء مفتوحتين فمهملة أي طال وعلا وغلب (الرّجال) وفي نسخة الناس (طولا وتماما) رواه الزبير بن بكار عن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزبيري عن أبيه. فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ] (ومن ذلك) أي من قبيل هذا النوع المكنون (ما أطلع عليه) بضم همز وسكون مهملة وفي نسخة بتشديدها مضمومة أي ما الهم إليه (من الغيوب) أي الأمور المغيبة في الحال (وما يكون) أي سيكون في الاستقبال (والأحاديث في هذا الباب) أي في هذا النوع من أنواع الكتاب (بَحْرٌ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَلَا يَنْزِفُ غَمْرُهُ) بصيغة المفعول فيهما ويجوز فتح الياء وكسر الزاء والغمر الماء الكثير في البحر الكبير أي لا يحاط غايته ولا تفنى نهايته (وهذه الجملة) أي الآتية وفي نسخة وَهَذِهِ الْمُعْجِزَةُ (مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ الْمَعْلُومَةِ عَلَى القطع) أي على الوجه القطعي والطريق اليقيني (الواصل إلينا خبرها على التّواتر) أي لدينا (لكثرة رواتها) أي مع اختلاف مبانيها الدالة (واتفاق معانيها على الاطّلاع على الغيب) أي على اطلاعه صلى الله تعالى عليه وسلم على بعض المغيبات عنا. (حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الفهريّ) بكسر الفاء المعروف بالطرطوشي (إجازة وقرأته) وفي نسخة وقرأته (على غيره) أي رواية (قال أبو بكر) احتراز عن غيره (ثنا أبو عليّ التّستريّ) بضم التاء الأولى وفتح الثانية بينهما سين مهملة لام عجمة كما في لسان العامة وهو أحد رواة سنن أبي داود (ثنا أبو عمر الهاشميّ حدّثنا اللّؤلؤيّ) بهمزتين وقد تبدل الأولى راوي سنن أبي داود (ثنا أبو داود) وهو حافظ العصر صاحب السنن وإنما أسند المصنف هنا من حديث أبي داود عن حذيفة ورواه عنه مع رواية الشيخين لما في روايته له من طريق آخر من الزيادة كما سيأتي (ثنا عثمان بن أبي شيبة) روى عنه الشيخان وغيرهما (حدّثنا جرير) بفتح الجيم فكسر الراء روى عنه احمد وإسحاق وابن معين وجماعة وله مصنفات (عن الأعمش) وهو سليمان بن مهران (عن أبي وائل) هو شقيق بن سلمة الاسدي الكوفي مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام لكن لم ير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان من العلماء العاملين (عن حذيفة) أي ابن اليمان (قال قام فينا) أي خطيبا أو واعظا أو معناه خطبنا (مقاما) بفتح الميم في مكان أو قياما (فما ترك) وفي نسخة ما ترك (شيئا) أي مهما (يكون) أي يحدث من القدم (في مقامه ذلك) ظرف لما ترك (إلى قيام السّاعة إلّا حدّثه) وفي نسخة حدث به أي حدث بوجوده (حفظه) ما ذكره (من حفظه) أي جميعه (ونسيه من نسيه) أي بعضه أو كله (قد علّمه) متعلق بيكون أي عرف هذا الخبر (أصحابي هؤلاء) أي من الصحابة الحاضرين أو الموجودين قال الدلجي لم أر هذه الزيادة من مختصات رواية أبي داود لأن لفظه قد علمه أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم (وإنّه) أي الشأن (ليكون منه) أي ليحدث ويقع مما أخبرنا به (الشّيء) أي الذي قد نسيته فأراه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 موجودا في الأعيان (فأعرفه) أي أنه مما أخبرنا به (فأذكره) أي أتذكره بعد ما نسيته (كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عنه) أي كما إذا غاب وجه الرجل عن الرجل فينساه (ثمّ إذا رآه عرفه) أي بعد نسيانه إياه قال الدلجي إلى هنا رواية الشيخين وزاد أبو داود بسند آخر من طريق قبيصة بن ذؤيب عن أبيه عن حذيفة وإن كان صنيعه يقتضي اتصاله به، (ثمّ قال) أي حذيفة كما في أكثر النسخ (ما أدري أنسي أصحابي) أي حقيقة (أم تناسوه) أي تكلفوا نسيانه لقلة اهتمامهم به لقيامهم بما هواهم منه ولما أراد الله من اختصاص كل منهم ببعض ما استفادوا عنه (وَاللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم من قائد فتنة) أي أمير لها يقودها إلى المحاربة ويجرها إلى المخاصمة بالطرق الباطلة المحدث بدعة كعلماء المبتدعة من الخوارج والروافض والمعتزلة يحدث من زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم (إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا يَبْلُغُ مَنْ مَعَهُ) أي مع قائد الفتنة (ثلاثمائة فصاعدا) أي فأكثر والجملة صفة قائد (إلّا قد سمّاه) أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك القائد (لنا) أي لأجلنا (باسمه واسم أبيه وقبيلته) أي التي تؤويه (وقال أبو ذرّ) أي على ما رواه أحمد والطبراني بسند صحيح وأبو علي وابن منيع عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال (لقد تركنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مات عنا (وَمَا يُحَرِّكُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا ذكرنا) بتشديد الكاف أي أفهمنا (منه) من ذلك الطائر أو تحريكه (علما) أي حكما إجماليا أو تفصيليا (وقد خرّج أهل الصّحيح) أي من التزم صحة ما رواه كالشيخين وابن حبان وابن خزيمة والحاكم في كتبهم المعروفة (والأئمة) كمالك وأحمد وبقية أصحاب الكتب الستة وغيرهم ممن لم يلتزموا في كتبهم الصحة (ما أعلم به) مفعول خرج أي ما أخبر به (أصحابه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّهُورِ) أي الغلبة (على أعدائه) وفي نسخة على اعدائهم (وفتح مكّة) تخصيص بعد تعميم وهذا مما رواه الشيخان وغيرهما (وبيت المقدس) كما رواه البخاري عن عوف بن مالك (واليمن والشّام والعراق) كما في الصحيحين عن سفيان بن أبي زهير (وظهور الأمن حتّى تظعن) بسكون المعجمة وفتح المهملة أي ترحل (المرأة من الحيرة) بمهملة مكسورة مدينة بقرب الكوفة وأخرى عند نيسابور (إلى مكّة لا تخاف إلّا الله) على ما رواه البخاري عن عدي بن أبي حاتم (وأنّ المدينة) أي السكينة (ستغزى) بالغين والزاء على بناء المفعول وهو من الغزو أي ستحارب وتقاتل وفي رواية بمهملتين قال الحافظ المزي الرواية في الحديث بالعين المهملة والراء يعني من العرى أي تصير عراء والمعنى ستخرب ليس فيها أحد فقد رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ يتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي وهذا لم يقع بعد كما اختاره النووي وغيره وإنما يقع قرب الساعة وقال التلمساني وقع هذا في زمن يزيد بن معاوية ندب عسكرا من الشام إلى المدينة فنهبها والوقعة معروفة بالحرة وهي أرض بظاهر المدينة ذات حجرات سود وقتل فيها كثير من ابناء المهاجرين والأنصار وكانت في ذي الحجة سنة ثلاث وستين وعقيبها هلك يزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 (وَتُفْتَحُ خَيْبَرُ عَلَى يَدَيْ عَلِيٍّ فِي غَدِ يومه) كما رواه الشيخان عن سهل بن سعد بلفظ لأعطين الراية غدا لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه فدعا عليا وكان أرمد فبصق في عينيه فبرأ وفتح الله على يديه (وَمَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الدُّنْيَا ويؤتون من زهرتها) أي يعطون من بهجتها من كثرة المال وسعة الجاه كما رواه الشيخان من طرق (وقسمتهم) أي ومن تقسيمهم فيما بينهم (كنوز كسرى) بكسر الكاف وبفتح أي ملك فارس (وقيصر) أي وكنوزه وهو ملك الروم كما في الصحيحين من طرق عن أبي هريرة وغيره (وما يحدث بينهم) أي بين أمته (من الفين) بكسر ففتح جمع فتنة وفي نسخة الفتون بالضم مصدر فتن بمعنى الافتتان (والاختلاف والأهواء) على ما رواه الشيخان من طرق ولعل المراد بالاختلاف ظهور التنافس في الملك واختلاف أمر الأمراء وبالأهواء ظهور المعتزلة والغلاة من أهل البدعة (وسلوك سبيل من قبلهم) أي وسلوكهم على نهج من تقدمهم من الأمم فقد رواه الشيخان عن أبي سعيد بلفظ لتتبعن سنن من كان قبلكم شهرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم فسأل اليهود والنصارى قال فمن (وافتراقهم) أي اختلافهم (على ثلاث وسبعين فرقة) أي طائفة كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن أبي هريرة قيل وأصولهم ثمانية معتزلة عشرون فرقة وشيعة اثنتان وعشرون فرقة وخوارج على سبع فرق ومرجئة على خمس فرق ونجارية ثلاث فرق وجبرية محضة فرقة واحدة ومشبهة فرقة واحدة وطرقهم مختلفة (النّاجية منها) أي من تلك الفرق (واحدة) أي فرقة واحدة كما في نسخة صحيحة وهم الذين قال فيهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هم الذين على ما أنا عليه وأصحابي وهم أهل السنة والجماعة من الفقهاء كالأئمة الأربعة والمحدثين والمتكلمين من الأشاعرة والماتريدية ومن تبعهم لخلو مذاهبهم من البدعة (وأنّه) أي الشأن وفي نسخة وأنها أي القصة وفي نسخة صحيحة وأنهم (ستكون لهم) أي لأمته (أنماط) بفتح الهمزة جمع نمط وهو ضرب فراش ويغشى عليه الهودج أيضا وهذا في الصحيحين عن جابر وفي الترمذي عن علي (ويغدو) أي يصرح أو يمر (أحدهم في حلّة، ويروح) أي يمسي أو يرجع (في أخرى وتوضع بين يديه صحفة) أي إناء كالقصعة المبسوطة (وترفع) أي من بين يديه (أخرى) أي صحفة أخرى (ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة) وفيه إيماء إلى أن الدنيا تبسط عليهم بالسعة، (ثمّ قال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مخاطبا لأصحابه الكرام (آخر الحديث) أي في آخر الكلام (وأنتم اليوم خير منهم يومئذ) قالوا والعاطفة رد لقولهم نحن يومئذ خير من اليوم ظنا منهم أنهم يصرفون الدنيا في طرق العقبى فالمعنى ليس الأمر كما تظنون بل وأنتم اليوم خير لأن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وفيه تنبيه على أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر، (وأنّهم إذا مشوا المطيطاء) بضم الميم وفتح الطاءين بينهما ياء ساكنة والكلمة ممدودة وتقصر وهي مشية فيها مد اليدين والتبختر والخيلاء ومنه قوله تعالى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى وفي نسخة المطيطيا بزيادة ياء بعد طاء مكسورة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 مفتوحة (وخدمتهم بنات فارس والرّوم) أي بسبيهم لهن (ردّ الله بأسهم) أي شدة عداوتهم بكثرة محاربتهم (بينهم) أي لطغيانهم بكثرة المال وسعة الجاه والإقبال (وسلّط) أي الله (شرارهم على خيارهم) لأن الغالب غلبة أهل الشر في الشوكة والدولة الدنيوية والحديث رواه الترمذي عن ابن عمر كما قاله الدلجي وأما ما ذكره الحلبي من أن الحديث رواه الذهبي في ميزانه من ترجمة محمد بن خليل الحنفي الكرماني ولفظه وروي عن ابن المبارك عن ابن سوقة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر الحديث ثم قال لا يصح فلا يعارض ما تقدم فإن عدم صحته يحمل على روايته مع أنه لا يلزم من عدم الصحة نفي الثبوت بطريق الحسن وهو كاف في الحجة هذا وقد ثبت أنهم بعد أن فتحوا بلاد فارس والروم وغنموا أموالهم وسبوا ذراريهم واستخدموهم سلط الله على عثمان شرارا فقتلوه وعلى علي جماعة حتى قتله اشقاهم وهلم جرا إلى أن قتل زياد بأمر يزيد وشرار أعوانهم الحسين رضي الله عنه وأصحابه خيار زمانهم وقد سلط بنو أمية سبعين سنة على بني هاشم ففعلوا ما فعلوا (وقتالهم التّرك) كما في الصحيحين بلفظ لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا أقواما نعالهم الشعر وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة والظاهر أن المراد بهم التتار ولعل القضية متأخرة أو وقعت وليس لنا بها معرفة (والخزر) أي وقتالهم الخزر بضم معجمة وسكون زاء فراء طائفة من الترك جمع أخزر والخزر بفتحتين ضيق العين وصغرها وكذا ضبط الأصل أيضا في كثير من النسخ واقتصر عليه الشمني وفي حديث حذيفة كما في بهم خنس الأنوف خزر العيون فالعطف تفسيري (والرّوم) وهم طائفة معروفة وقد سبق في الصحيح قتالهم مع قيصر فلا وجه لقول الدلجي لا أدري من روى حديث الطائفتين (وذهاب كسرى) أي ذهاب ملكه بذهابه (وفارس) أي وذهاب قومه أي من أرض العراق وغيره (حَتَّى لَا كِسْرَى وَلَا فَارِسَ بَعْدَهُ وَذَهَابِ قيصر) أي ملك الروم من الشام ونحوه (حتّى لا قيصر بعده) رواه الشيخان بدون فارس وذكر الحارث عن ابن محيريز مرفوعا فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعد هذا ابدا وقد وقع ما أخبر به من زوال ملكهما من إقليمهما فلم يبق من كسرى وقومه طارفة عين بدعوته صلى الله تعالى عليه وسلم أن يمزق كل ممزق وقيصر أعني به هرقل قد انهزم من الشام في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه إلى أقصى بلاده فافتتح المسلمون بلادهما فلله الحمد والمنة وأخذ السهيلي من هذا أن لا ولاية للروم على الشام إلى يوم القيامة انتهى وأراد بالروم كفارهم من الإفرنج والنصارى ثم قيل التقدير ولا مثل كسرى ولا مثل قيصر لأنه علم ولا تدخل عليه لا إلا إذا كان أول بالنكرة (وذكر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أنّ الرّوم ذات قرون) أي كلما هلك قرن خلفه قرن إلى آخر الدهر قال الفارسي معناه إن هلك منهم رئيس خلفه آخر وليسوا كالفرس لأنهم مزقوا وقد ورد في هذا المعنى حديث وكأنه تفسير لهذا قال عليه السلام فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعد ها أبدا والروم ذات قرون كلما هلك قرن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 خلف مكانه قرن أهل صخر وبحر هيهات إلى آخر الدهر انتهى (وبذهاب الأمثل فالأمثل) أي الأفضل فالأفضل (من النّاس) أي من الصحابة والتابعين واتباعهم ومن بعدهم والفاء مؤذنة بترتيب التفاضل فأثبتت الأمثلية للأول ثم للثاني وهكذا حتى تبقى حثالة لا يباليهم الله بالة (وتقارب الزّمان) كما في حديث الترمذي لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فيكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة أي العرفية والساعة الضرمة بالنار والمراد به آخر الزمان واقتراب الساعة لأن الشيء إذا قل وقصر تقارب أطرافه والظاهر أنه أريد به زمن عيسى فإنه لكثرة الخيرات تستقصر الأوقات للاستلذاذ بالمسرات أو زمن الدجال فإنه لكثرة اهتمام الناس بما يدهمهم من همومهم لا يدرون كيف تنقضي أيامهم أو أريد به تسارع الأزمنة فيتقارب زمانهم في المنحة أو المحنة أو أريد به قلة البركة في أعمالهم مع كثرة الحركة في أحوالهم، (وقبض العلم) أي بقبض العلماء لحديث أن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا كما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة (وظهور الفتن، والهرج) بفتح الهاء فسكون الراء فجيم قيل لغة حبشية ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة يتقارب الزمان يقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال القتل القتل، (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في حديث الشيخين عن أم المؤمنين زينب (ويل) أي هلاط عظيم (للعرب من شرّ قد اقترب) ولعل المراد به فتنة عثمان في محنة المحاصرة وفتنة علي مع معاوية وفتنة الحسين مع يزيد وهلم جرا من المزيد ويفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، (وأنّه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (زويت له الأرض) أي جمعت وضمت (فأري) بصيغة المفعول وفي نسخة فرأى (مشارقها ومغاربها) ولفظ مسلم عن ثوبان أن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها أي جمعها لي وطواها بتقريب بعيدها إلى قريبها حتى اطلعت على ما فيها جميعها (وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِهِ مَا زُوِيَ لَهُ مِنْهَا) وهذه الجملة من تتمة حديث مسلم عن ثوبان ولفظه وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا والمعنى زويت لي جملة الأرض مرة واحدة وستفتحها أمتي جزءا فجزءا حتى تملك جميع أجزائها (ولذلك) أي ولأجل تقييده لها بمشارقها ومغاربها (كان أمتدّت) بتشديد الدال أي انبثت أمته وانتشرت ملته وفي نسخة وكذلك كان بكاف التشبيه والمعنى وكذا وقع ثم استأنف للبيان فقال امْتَدَّتْ (فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَا بَيْنَ أَرْضِ الهند) بدل أو بيان للمشارق والمغارب (أقصى المشرق) بيان الأرض الهند أو بدل منه (إلى نحر طنجة) بفتح طاء وسكون نون وفتح جيم بلدة عظيمة بساحل بحر المغرب (حيث لا عمارة) بكسر أوله (وراءه) أي فيما وراء ذلك المكان (وذلك) أي ما ملكت أمته (مَا لَمْ تَمْلُكْهُ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ وَلَمْ تمتدّ في الجنوب) بفتح الجيم أي في الجهة الغربية إذا توجهت للقبلة وهو ريح يخالف الشمال مهبه من مطلع سهيل أي إلى مطلع الثريا (ولا في الشّمال) بكسر أوله وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 الجهة الشرقية إذا توجهت للقبلة (مثل ذلك) أي مثل امتداد جهتي المشرق والمغرب ولعل في اتيانهما بلفظ الجمع إيماء إلى ما هنالك وكذلك إلى ظهور كثرة العلماء منهما بالنسبة إلى غيرهما وأن علماء المشرق أكثر وأظهر من علماء المغرب فتدبر (وقوله) أي كما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا (لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ) أي على طريق الحق ومنهج الصدق وسبيل الطاعة من الجهاد وتعليم العلوم للعباد (حتّى تقوم السّاعة) أي إلى قرب القيامة (ذهب ابن المديني) هو الإمام أبو الحسن علي بن عبد الله المديني الحافظ يروي عن أبيه وحماد بن زيد وخلق وعنه البخاري وأبو داود والبغوي وأبو يعلى قال شيخه عبد الرحمن بن مهدي علي بن المديني اعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وخاصة بحديث ابن عيينة تلومونني على حب علي بن المديني والله لا تعلم منه أكثر مما يتعلم مني وكذا قال يحيى القطان فيه وقال البخاري ما استصغرت نفسي إلا بين يدي علي قال النسائي كأن الله خلقه لهذا الشأن توفي بسامرا هذا والمديني نسبة إلى المدينة المشرفة قاله ابن الأثير وقال إن أصل المديني منها ثم انتقل إلى البصرة وقال إن الأكثر فيمن ينسب المدينة مدني ثم قال المديني فنسبة إلى أماكن وساق سبعة وأما الجوهري فقال المدني نسبة إلى مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأما المديني فنسبة إلى المدينة التي بناها المنصور هذا وهو بفتح الميم وكسر الدال وسكون الياء لا بصيغة التصغير كما توهمه بعض معاصرينا من العلماء (إلى أنّهم) أي أهل الغرب (العرب لأنّهم المختصّون بالسّقي بالغرب) بغين معجمة فسكون راء (وهي الدّلو) أي العظيمة وفي نسخة وهو الدلو، (وغيره) أي غير ابن المديني (يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَقَدْ وَرَدَ المغرب) أي بدل الغرب فارتفعت الشبهة في مبناه (كذا في الحديث بمعناه) لكن فيه أنه لا يعلم من رواه نعم يروي عن مالك عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم يكون بالمغرب مدينة يقال لها فاس أقوم أهل المغرب قبلة وأكثرهم صلاة وهم على الحق مستمسكون لا يضرهم من خالفهم يدفع الله عنهم ما يكرهون إلى يوم القيامة. (وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ) كما رواه أحمد والطبراني عنه مرفوعا (لا تزال طائفة من أمّتي) أي أمة الإجابة (ظاهرين على الحقّ) أي مستعلين عليه غير مخففين لديه (قاهرين لعدوّهم) أي غالبين عليهم من قهره غلبه واللام للتقوية (حتّى يأتيهم أمر الله) أي بفنائهم أو خفائهم (وهم كذلك) أي لا بثون على ما هنالك (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ ببيت المقدس) بفتح الميم وكسر الدال وضبطه بضم الميم وفتح الدال المشددة ولعل مثل هذا الحديث حمل ابن المديني على تأويل ما تقدم وقال غيره المراد بأهل الغرب أهل الشام لأنه غرب الحجاز بدلالة رواية وهم بالشام لكن لا منع من الجمع بأن يوجد في كل منهما جمع يقومون بأمر الحق من إظهار العلم وإفشاء شعار الدين والاجتهاد في باب الجهاد مع الكفار والملحدين ويؤيده ما رواه مسلم عن جابر بن سمرة مرفوعا لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 من المسلمين حتى تقوم الساعة. (وأخبر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بملك بني أمّية) فيما رواه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي ورواه البيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلا وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضغيف وعن أبي هريرة وفي سنده الزنجي وهو غير معروف ذاتا وحالا والمراد ببني أمية بنو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأول خلفائهم وأفضلهم عثمان بن عفان ثم معاوية بن أبي سفيان وهو أول الملوك بقي تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر ثم ابنه يزيد ثلاث سنين وأشهر ثم معاوية بن يزيد ومات بعد أربعين يوما ثم مروان بن الحكم ومات بعد سبعة أشهر ثم عبد الملك بن مروان ومات في شوال سنة ست وثمانين ثم بويع ابنه الوليد وكان مدته تسع سنين ثم بويع أخوه سليمان بن عبد الملك وكانت ولايته سنتين ثم بويع عمر بن عبد العزيز بن مروان وولايته سنتان ثم بويع هشام بن عبد الملك بن مروان ومات سنة خمس وعشرين ومائة ثم بويع الوليد بن يزيد بن عبد الملك فقتل سنة ست وعشرين ومائة ثم بويع يزيد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المسمى بالناقص وكانت ولايته خمسة أشهر ثم بويع إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك فخلع نفسه ومدته سبعون يوما ثم بويع مروان بن محمد بن مروان بن الحكم سنة سبع وعشرين ومائة وقيل سنة اثنتين وثلاثين ومائة وهو آخرهم ومجموعهم أربعة عشر ما عدا عثمان رضي الله تعالى عنه (وولاية معاوية) أي ابن أبي سفيان وهو منهم لكن خص لأنه متميز عنهم بأشياء منها قوله (ووصّاه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه البيهقي عنه بلفظ ما حملني على الخلافة وإلا قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يا معاوية إن ملكت وفي رواية إذا وليت فأحسن وضعفه البيهقي ثم قال غيره إن له شواهد منها حديث سعيد بن العاص أن معاوية أخذ الإداوة فتبع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل ومنها حديث رشد بن سعد عنه سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم يقول أبو الدرداء كلمة سمعها معاوية منه صلى الله تعالى عليه وسلم فنفعه الله بها، (واتّخاذ بني أميّة مال الله دولا) بضم ففتح جمع دولة بضم فسكون وقد يفتح أوله أي متداولة متناوبة فيها من غير استحقاق لها والحديث رواه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي ورواه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا اتخذوا دين الله دغلا وعباد الله خولا ومال الله دولا وعن أبي سعيد الخدري إذا بلغوا ثلاثين الحديث، (وخروج ولد العبّاس) أي ابن عبد المطلب وفي نسخة وخروج بني العباس أي ظهورهم في غلبة أمورهم (بالرّايات السّود) أي الأعلام الملونة بالسواد تفاؤلا بغلبتهم على العباد (وملكهم) بضم الميم أي تملكهم (أضعاف ما ملكوا) أي ملك غيرهم من ملوك البلاد فقد رواه أحمد والبيهقي بأسانيد ضعيفة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال تظهر الرايات السود لبني العباس حتى ينزلوا بالشام ويقتل الله على أيديهم كل جبار وعدو لهم في إسناده عبد القدوس وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 ضعيف وفي رواية تخرج الرايات السود من خراسان لا يردها شيء حتى تنصب بإيليا وهي بيت المقدس في إسناده رشد بن سعيد وهو ضعيف وأما أولاده الخلفاء وأحفادهم الأمراء فأولهم أبو العباس السفاح بويع سنة اثنتين وثلاثين ومائة ثم أبو جعفر المنصور ثم المهدي بن المنصور ثم الهادي ثم موسى بن الهادي ثم الرشيد أبو جعفر هارون بن المهدي ومات بطوس ثم الأمين محمد بن الرشيد وقتل ثم المأمون بن الرشيد ثم المعتصم بالله وهو محمد ابن هارون ثم الواثق واسمه هارون أبو جعفر ثم المتوكل أبو الفضل جعفر بن محمد المعتصم ثم المنتصر أبو جعفر محمد بن المتوكل ثم المستعين بالله أحمد بن محمد بن المعتصم وخلع نفسه ثم المعتز بالله بن المتوكل على الله ثم المهدي بالله أبو عبد الله بن الواثق ثم المعتمد أبو العباس بن المتوكل ثم المعتضد أحمد بن أحمد الواثق بن المتوكل ثم المكتفي علي بن المعتضد ثم المقتدر جعفر بن المعتضد ثم القاهر محمد بن المعتضد وخلع نفسه عام اثنين وعشرين وثلاثمائة وقد ارتكب أمورا قبيحة لم يسمع بمثلها في الإسلام قال بعضهم صليت في جامع المنصور ببغداد فإذا أنا بإنسان عليه جبة عتابية قد ذهب وجهها وبقيت بطانتها وبعض قطن فيها وهو يقول أيها الناس تصدقوا علي فإني كنت بالأمس أميرا وصرت اليوم فقيرا فسألت عنه فقيل لي إنه القاهر بالله وكانت له حربة يأخذها بيده فلا يضعها حتى يقتل إنسانا ثم الراضي محمد بن جعفر ثم المقتفي بعد أخيه وهو أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله ثم الفضل وهو المطيع للدين المقتدر بالله وخلع نفسه ثم الطائع عبد الكريم بن الفضل بن المطيع القادر ثم القادر بالله ثم ولده القائم بأمر الله ثم ابنه المقتدي بأمر الله ثم ابنه المستظهر بالله ثم ابنه المسترشد بالله ثم ابنه المستكفي بالله وكان خلفاء بني العباس ثلاثين وكلهم ببغداد إلى أن استولى عليهم الزمان سنة ست وخمسين وستمائة ولله الأمر من قبل ومن بعد (وخروج المهديّ) بفتح الميم وتشديد التحتية قال الحلبي واسمه محمد بن عبد الله من ولد فاطمة من ولد الحسن كما في الأحاديث انتهى وأصل أحاديثه في أبي داود في سننه وقيل من أولاد الحسين وقيل من ذريتهما وليس المراد به أحد الأئمة الاثني عشرية كما اعتقد الشيعة وأنه مخفي في المكان وسيظهر في آخر الزمان ولا أحد المشايخ الذي انتهت إليه الطائفة المهدوية القائلة بأنه جاء ومضى وأن من لا يعتقد ذلك فهو ضال وقد أفرد شيخ مشايخنا جلال الدين السيوطي رسالة مفردة في معرفة المهدي فعليك بها وينبغي أن لا يتوهم أن المهدي هذا من بني العباس ولذا ذكر الدلجي أحاديث مما يوهم أنه هو ثم دفعه بأن المراد غيره فقال رواه أحد والبيهقي بأسانيد ليست بقوية عنه صلى الله تعالى عليه وسلم تقتتل عند كنزكم هذا ثلاثة كلهم ولد خليفة لا يصير إلى واحد منهم ثم تقبل الرايات السود من خراسان فيقتلونكم مقتلة لم تروا مثلها ثم يجيء خليفة الله المهدي فإذا كان كذلك فأتوه ولو حبوا على الثلج فإنه خليفة الله وفي إسناده مجهول وفيه أبو اسماء وهو ضعيف وفي رواية أخرى يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع أمن الزمان وظهور الفتن يقال له السفاح يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 عطاؤه حثيا في سنده عطية العوفي وهو ضعيف قال التلمساني وعلامة وقته خسوف القمر أول ليلة من رمضان أو ثالثه أو السابع والعشرين وهي علامة لم تكن منذ خلق الله السموات والأرض (وما ينال أهل بيته) أي وما يصيبهم من المحن كقضية الحسنين وبقية أئمة أهل البيت (وتقتيلهم وتشريدهم) أي تطريدهم كما أخبر به فيما رواه الحاكم من حديث أبي سعيد أن أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلا وتشريدا وضعفه الذهبي (وقتل عليّ) كما رواه أحمد عن عمار بن ياسر والطبراني عن علي وصهيب وجابر بن سمرة (وأنّ أشقاها) أي أشقى الطائفة أو الثلاثة حيث تيسر له ما قصده فإن من العصمة أن لا يقدر بخلاف من قصد قتل معاوية وابن العاص فكان اشقاهم بل اشقى الآخرين لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال يا علي أتدري من أشقى الأولين قال الله ورسوله أعلم قال عاقر الناقة قال أتدري من اشقى الآخرين قال الله ورسوله أعلم قال قاتلك ولما جرح هذا الشقي عليا أدخل عليه فقال أطيبوا طعامه والينوا فراشه فإن أعش فأنا ولي دمي عفوا وقصاصا وإن مت فالحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين فلما مات علي أخرج من السجن وقطع عبد الله بن جعفر يديه ورجليه وكحل عينيه بمسمار محمي وجعل يقرأ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى آخر السورة وأن عينيه لتسيلان ثم أمر به فقطعوا لسانه ثم جعلوه في قوصرة وأحرقوه بالنار (الذي يخضب) بكسر الضاد أي يصبغ (هَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَيْ لِحْيَتِهِ مِنْ رَأْسِهِ) يعني بدمها قال الأسنوي في المهمات تبعا للنووي في تهذيبه أن الأشقى هو عبد الرحمن بن ملجم بميم مضمومة فلام ساكنة فجيم مفتوحة أو مكسورة، (وأنّه) أي عليا (قسيم النّار) أي والجنة كما قيل على حبه جنة ... قسيم النار والجنة فهو من باب الاكتفاء ويشير إليه قوله (يدخل أولياؤه الجنّة وأعداؤه النّار) والمعنى أن الناس فريقان فريق معه وهم مهتدون وفريق عليه فهم ضالون اعداء له فيكون سببا لدخولهما الجنة والنار ويلائمه ما ضبط في نسخة يدخل بصيغة المعلوم من باب الافعال لكن الحديث لا يعرف من رواه إلا أنه قد جاء ما يقوي معناه (فكان) أي علي (فيمن) وفي نسخة ممن (عاداه الخوارج) وهم المحكمية خرجوا عليه عند التحكيم وكانوا اثني عشر ألفا أصحاب صلاة صيام قال فيهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم وصومه في جنب صومهم لا تجاوز قراءتهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية على ما جاء في طرق، (والنّاصبّة) بالموحدة الذين يتدينون ببغض علي رضي الله تعالى عنه وقد نصبوا له الحرب وقد روى مسلم تكون أمتي فرقتين فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلها أولاهم بالحق وهم الذين قتلهم علي بالنهروان وكانوا أربعة آلاف ولم يقتل من المسلمين سوى تسعة (وطائفة ممّن ينسب) بالياء والتاء وروي ينتسب (إليه) أي إلى حب علي كرم الله تعالى وجهه (من الرّوافض كفّروه) أي لتركه في زعمهم الكاذب الخلافة لغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 وهي حقه فكان رضي بالباطل وسكت عن الحق مع قدرته عليه، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (يقتل عثمان وهو يقرأ المصحف) بضم الميم ويكسر ويفتح ورواه الترمذي عن ابن عمر ولفظه ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتنته فقال يقتل هذا مظلوما لعثمان وحسنه، (وأنّ الله) بفتح الهمزة وكسرها (عسى أن يلبسه) بضم أوله (قميصا) أي خلعة الخلافة والتلبس بها، (وأنّهم) أي أهل الفتنة (يريدون خلعه) أي عزله عنها فامتنع من انخلاعها لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه الترمذي وحسنه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يا عثمان إنه لعل الله أن يقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم فقتلوه ظلما وعدوانا فأهدر الله بدمه سبعين الفا قتلوا بصفين وغيرها، (وأنّه) أي الشأن (سيقطر دمه) بضم الطاء وفي نسخة بصيغة المجهول أي ستقع قطرات دمه (على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 137] ) كما رواه الحاكم عن ابن عباس قال الذهبي إنه موضوع لكن نقل المحب الطبري في الرياض أن أكثرهم يروي أن قطرة من دمه أو قطرات سقطت على قوله تعالى فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ في المصحف ونقل عن حذيفة قال أول الفتن قتل عثمان وآخرها خروج الدجال والذي نفسي بيده لا يموت أحد وفي قلبه مثقال حبة من حب قتله عثمان إلا تتبع الدجال إن أدركه وإن لم يدركه آمن به في قبره أخرجه السلفي الحافظ (وَأَنَّ الْفِتَنَ لَا تَظْهَرُ مَا دَامَ عُمَرُ حيّا) كما رواه البيهقي فهو سد باب الفتنة كما أخبر به حذيفة، (وبمحاربة الزّبير لعليّ) كما رواه البيهقي في دلائل النبوة من طرق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أخبر بمحاربة الزبير لعلي وهو ظالم له وذكره به على يوم الجمل فقال بلى والله لقد نسيته منذ سمعته منه صلى الله تعالى عليه وسلم ثم ذكرته الآن والله لا أقاتلك فرجع يشق الصفوف راكبا فعرض له ابنه عبد الله فقال مالك فقال ذكرني علي حديثا سمعته من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول لتقاتلنه وأنت ظالم له فقال له ابنه إنما جئت لتصلح بين الناس لا لمقاتلته فقال قد حلفت أن لا أقاتله قال اعتق غلامك وقف حتى تصلح بينهم ففعل فلما اختلف الأمر ذهب (وبنباح كلاب الحوأب على بعض أزواجه) أي وأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بنباحها وهو بضم نون وتكسر فموحدة أي صياحها والحوأب بمهملة ثم همزة مفتوحتين موضع بين البصرة ومكة نزلته عائشة لما توجهت للصلح بين علي ومعاوية فلم تقدر اتفاقا فكانت وقعة الجمل، (وأنّه يقتل حولها) أي حول بعض الأزواج وهي عائشة رضي الله تعالى عنها (قتلى كثيرة) أي جمع كثير من المقتولين قيل قتل يومئذ نحو من ثلاثين ألفا وفي نسخة كثيرة نظرا إلى الجماعة (وتنجو بعد ما كادت) أي إلى الهلاك كما رواه البزار بسند صحيح عن ابن عباس (فنبحت) بفتح الباء وكسرها أي كلاب ذلك الموضع (على عائشة عند خروجها) أي توجهها من مكة (إلى البصرة) كما رواه أحمد وكذا البيهقي بلفظ لما أتت الحوأب سمعت انباح الكلاب فقالت ما أظنني إلا راجعة إني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لنا أيتكن تنبح عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 كلاب الحوأب ترجعين لعل الله أن يصلح بك بين الناس (وأنّ عمّارا) وهو ابن ياسر (تقتله الفئة الباغية) رواه الشيخان ولفظ مسلم قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لعمار تقتلك الفئة الباغية وزاد وقاتله في النار (فقتله) أي عمارا (أصحاب معاوية) أي بصفين ودفنه علي رضي الله تعالى عنه في ثيابه وقد نيف على سبعين سنة فكانوا هم البغاة على علي بدلالة هذا الحديث ونحوه وقد ورد إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق وقد كان مع علي رضي الله تعالى عنهما وأما تأويل معاوية وابن العاص بأن الباغي علي وهو قتله حيث حله على ما أدى إلى قتله فجوابه ما نقل عن علي كرم الله وجهه أنه يلزم منه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قاتل حمزة عمه والحاصل أنه لا يعدل عن حقيقة العبارة إلى مجاز الإشارة إلا بدليل ظاهر من عقل أو نقل يصرفه عن ظاهره نعم غاية العذر عنهم أنهم اجتهدوا وأخطأوا فالمراد بالباغية الخارجة المتجاوزة لا الطالبة كما ظنه بعض الطائفة (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ) أي مشقة وهلاك في الآخرة بقتله ظلما (وويل لك من النّاس) أي في الدنيا فلقد حاصره الحجاج بمكة ورمى البيت بالمنجنيق فهدم ركنه الشامي (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام على ما رواه الشيخان (في قزمان) أي في حقه وهو بضم القاف وسكون الزاي ذكره الحلبي رجل من المنافقين قاتل قتالا شديدا (وقد أبلى مع المسلمين) بفتح الهمزة واللام جملة حالية أبانت شجاعته ومحاربته لغير الله بدليل قوله عليه الصلاة والسلام (إنّه من أهل النّار) فقتل نفسه أي في خيبر كما ذكره البخاري وصوبه المصنف وأقره النووي ومسلم في حنين والخطيب تبعا لأصحاب السير في أحد وأقره النووي ولعل الأشخاص متعددة فكل ذكره في قضية (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (في جماعة فيهم) أي في حق جماعة من جملتهم (أَبُو هُرَيْرَةَ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ وَحُذَيْفَةُ آخِرُكُمْ موتا في النّار) أي يكون في موته في نار الدنيا لا أنه يدخل في نار العقبى كما توهم الدلجي على ما سيأتي فعامله موتا وهو إبهام أو تورية وايهام (فكان بعضهم) أي تلك الجماعة (يسأل عن بعض) أي عن حياته ومماته كما رواه البيهقي عن ابن حكيم الضبي إذا لقيت أبا هريرة سألني عن سمرة فإذا أخبرته بحياته وصحته فرح وقال كنا عشرة في بيت فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آخركم موتا في النار فمات منا ثمانية ولم يبق غيري وغيره وفي رواية للبيهقي عنه وكان إذا أراد أحد أن يغيظ أبا هريرة قال مات سمرة فيصعق ويغشى عليه ثم مات أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قبل سمرة (فكان سمرة آخرهم موتا هرم وخرف) بكسر الراء فيهما أي أصابه خلل في بدنه وخبل في عقله (فاصطلى بالنّار) أي استدفأ بها (فاحترق فيها) وفي تاريخ ابن عساكر عن ابن سيرين أن سمرة أصابه كزاز هو داء من البرودة أو برد شديد لا يكاد يدفأ منه فأمر بقدر عظيمة صلى الله تعالى عليه وسلم فملئت ماء وأوقد تحتها واتخذ فوقها مجلسا فكان يصل إليه بخارها فيدفأ فلم يلبث أن سقط به فاحترق ويوافقه ما رواه البيهقي عن بعض أهل العلم أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 مات في الحريق تصديقا لقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تعالى عليه وسلم وقد أغرب الدلجي حيث استدل به بأنه يدخل النار في الآخرة ثم يخرج منها ثم قال ويحتمل أنه يورد النار بقتل زياد وابن زياد بحضرته خلقا كثيرا ثم ينجى منها بإيمانه بشهادة حديث البيهقي عن ابن سيرين كان سمرة عظيم الأمانة صدوق الحديث يحب الإسلام وأهله قال عبد الله بن صبيح لابن سيرين بهذا وبصحبته رسول الله صلى الله تعالى عليه نرجو له بعد تحقيق قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيه الخير انتهى ولا يخفى أن هذا الحديث ما يقتضي دخوله في النار ثم نجاته منها بل الظاهر نجاته منها ابتداء وأن احتراقه في الدنيا يكون سبب خلاصه عنها في العقبى على تقدير وقوع ذنب يستحقها وإلا فهو موجب زيادة درجة عالية في الجنة وغرفها ثم حضوره مجلس زياد وابن زياد حين قتلهما خلقا كثيرا لا يدل على استحقاق عذاب ولا استيجاب عتاب إذ لم يعرف أنه كان راضيا بفعلهما وربما كان مكرها في حضوره عندهما هذا وللبيهقي أنه استجمر فغفل عنه أهله حتى أخذته النار ولا يخفى إمكان الجمع بين هذا وما تقدم والله تعالى أعلم وأما حديث البيهقي عن أوس بن خالد كنت إذا قدمت على أبي محذورة سألني عن سمرة وإذا قدمت على سمرة سألني عن أبي محذورة فسألت أبا محذورة عن سؤالهما إياي فقال كنت أنا وسمرة وأبو هريرة في بيت النبي عليه الصلاة والسلام فجاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال آخركم موتا في النار فمات أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ثم أبو محذورة ثم سمرة فلا يخلو من الاشكال لما سبق من معارضته في المقال والله تعالى اعلم بالحال، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم (في حنظلة) أي ابن أبي عامر الأنصاري (الغسيل) أي مغسول الملائكة (سلوا زوجته عنه) أي عن حاله قبل موته (فإنّي رأيت الملائكة تغسّله) أي بعد قتله شهيدا بأحد مع أن الشهيد لا يغسل (فسألوها فقالت إنّه خرج جنبا) حين غسلت أحد شقي رأسه وسمع الهيعة وكان قد ابتنى بها تلك الليلة (وأعجله الحال عن الغسل) أي عن تمامه لمبادرته إلى القتال ومسارعته للامتثال، (قال أبو سعيد) أي الخدري (ووجدنا رأسه يقطر ماء وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام، (الخلافة في قريش) رواه أحمد والترمذي ولعل المراد به أن الخلافة على استحقاقها في طائفة من قريش وهم الخلفاء الأربعة فيكون إخبارا عن الغيب المطابق للواقع بعده وأما إذا أريد به الحكم بأن الخلافة منحصرة فيهم وأن شرط صحة الخلافة أن يكون الخليفة واحد منهم كما ذكره الدلجي فلا يلائم سياقه في هذا الباب كما لا يخفى على أولي الألباب ويؤيد ما قدمناه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه البخاري عن معاوية (ولن يزال هذا الأمر) أي أمر الخلافة (في قريش ما أقاموا الدّين) يعني فإذا لم يقيموا أمر الدين على ما ينبغي انتقل الأمر عنهم إلى غيرهم فكان كما أخبرهم زاد البخاري في رواية ولا يعاديهم أحد إلا كبّه الله على وجهه أي في الدنيا أو في العقبى قال النووي انعقد الإجماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 في زمن الصحابة ومن بعدهم على أن الخلافة مختصة بقريش لا تجوز لغيرهم ولا عبرة بمن خالف فيه من أهل البدعة (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (يكون) أي سيوجد (في ثقيف) بفتح فكسر هو أبو قبيلة من هوازن (كذّاب ومبير) بضم فكسر أي مهلك من أبار أهلك مأخوذ من البوار وهو الهلاك ومنه قوله تعالى وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً أي هلكى (فرأوهما الحجّاج والمختار) أي فرأى السلف أن أحدهما الحجاج وهو بفتح الحاء كليب بن يوسف والآخر المختار بن أبي عبيد وأن الثاني هو الكذاب والأول هو المبير فهما لف ونشر مشوش ففي حديث اسماء بنت أبي بكر من طريق مسلم وغيره أنها قالت مسافهة للحجاج حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن في ثقيف كذابا ومبيرا فأما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فلا أخالك إلا إياه وقال الترمذي في جامعه ويقال الكذاب المختار والمبير الحجاج ثم ذكر بسنده إلى هشام بن حسان قال أحصوا ما قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة وعشرين ألفا انتهى وأما المختار فهو الكذاب حيث زعم أن جبريل أتاه بوحي الكتاب فقد رواه البيهقي عن رفاعة بن شداد قال دخلت على المختار يوما فقال دخلت وقد قام جبريل من هذا الكرسي فأهويت إلى السيف فذكرت حديثا حدثينه عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال إذا أمن الرجل رجلا على دمه ثم قتله رفع له لواء الغدر يوم القيامة فكففت عنه قال النووي في شرح مسلم واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب المختار بن أبي عبيد وبالمبير الحجاج بن يوسف انتهى وكان المختار واليا على الكوفة ولقبه كيسان وإليه ينسب الكيسانية كان خارجيا ثم صار زيديا ثم صار شيعيا وكان يدعو إلى محمد ابن الحنفية ومحمد يتبرأ منه وكان أرسل ابن الأشتر بعسكر إلى ابن زياد لقتال الحسين فقتله وقتل كل من كان في قتل الحسين ممن قدر عليه وكان غرضه في ذلك صرف وجوه الناس إليه والتوسل به إلى تحصيل الإمارة لديه فكان يظهر الخير ويضمر الشر ولما ولي مصعب بن الزبير البصرة من جهة عبد الله بن الزبير قاتل المختار وقتله؛ (وأنّ) وفي نسخة صحيحة وبأن (مسيلمة) بضم الميم وفتح السين ثم كسر اللام (يعقره الله) بكسر القاف أي يهلكه أو يقتله أو يهلكه قتلا فقتله وحشي بن حرب في قتال أهل الردة زمن أبي بكر رواه الشيخان بلفظ ولئن توليت ليعقرنك الله؛ (وأنّ فاطمة) أي بنته الزهراء رضي الله عنها (أوّل أهله) أي أهل بيته كما في نسخة (لحوقا به) أي موتا ووصولا إليه ففي الصحيح عن الزهري عن عروة عن عائشة مكثت فاطمة بعد وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم ستة أشهر، (وأنذر بالرّدّة) أي وحذر صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه وخوفهم وعرفهم بأنها ستكون كما في حديث الشيخين لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وفي حديث مسلم لا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان فوقعت الردة في خلافة أبي بكر ارتد عامة العرب إلى أهل مكة والمدينة والبحرين وكفى الله أمرهم بالصديق صاحب مقام التحقيق (وأنّ) وفي نسخة وبأن (الخلافة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 أي الحقيقة الحقية (بعده ثلاثون سنة ثمّ تكون) أي تصير الخلافة (ملكا) أي سلطنة بالغلبة فقد روى أحمد والترمذي وأبو يعلى وابن حبان عن سفينة بلفظ الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك (فكانت) أي الخلافة (كذلك) أي ثلاثين سنة (بمدّة الحسن بن عليّ) أي بمضي مدة خلافته وهي ستة أشهر تقريبا وفيه دلالة على أن معاوية لم يحصل له ولاية الخلافة ولو بعد فراغ الحسن له بالإمارة ويشير إليه ما رواه البخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة بلفظ الخلافة بالمدينة والملك بالشام ثم اعلم أن خلافة أبي بكر كانت سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يوما وخلافة عمر عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام وخلافة عثمان إحدى عشرة سنة وإحدى عشر شهرا وثمانية عشر يوما وخلافة علي أربع سنين وعشرة أشهر أو تسعة وتمامها بخلافة الحسن (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (إنّ هذا الأمر) أي أمر ملة هذه الأمة (بدأ) بهمزة أي ابتدأ أو بألف أي ظهر (نبوّة ورحمة) أي نبوة مقرونة بالرحمة العامة. (ثمّ يكون) أي الأمر (رحمة وخلافة) أي رحمة في ضمن الخلافة (ثمّ يكون) أي الأمر (ملكا) قال التلمساني وفي أصل المؤلف ثم ملكا (عضوضا) بفتح العين أي سلطنة خالية عن الرحمة والشفقة على الرعية فكأنهم يعضون بالنواجذ فيه عضا حرصا على الملك ويعض بعضهم بعضا حثا على الهلك وفيه إيماء إلى ما قال عارف بهذا الباب الدنيا جيفة وطالبها الكلاب وفي النهاية ثم يكون ملك عضوض أي يصيب الرعية عسف وظلم فكأنهم يعضون فيه عضا بأسنانهم أي يتحملون فيه محنة شديدة في شأنهم وفي رواية وسترون بعدي ملكا عضوضا وفي أخرى ثم يكون ملوك عضوض قيل وهو جمع عض بالكسر أي شرير خبيث (ثمّ يكون) أي الأمر (عتوّا) بضمتين فتشديد أي تكبرا (وجبروتا) بفتحتين فعلوت من الجبر بمعنى القهر مبالغة أي تجبرا وقهرا (وفسادا في الأمّة) أي في أمر دينهم ودنياهم هذا ولفظ البيهقي أن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة وكانتا خلافة ورحمة وكانتا ملكا عضوضا وكانتا عتوا وجبرية وفسادا في الأمة يستحلون الفروج والخمور والحرير وينصرون على ذلك ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله تعالى وقد ابتدأ هذا الفساد من بدأ إمارة يزيد وولاية زياد وهلم جرا في الزيادة إلى يومنا هذا فيما بين سلاطين البلاد والله رؤوف بالعباد (وأخبر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بشأن أويس) أي ابن عامر (القرني) بفتحتين أي منسوب إلى بطن من مراد قبيلة باليمن وغلط الجوهري في نسبته إلى قرن المنازل روي أنه كان به بياض فدعا الله فأذهبه إلا قدر دينار أو درهم وله أم كان بها بارا ولو أقسم على الله لأبره وقال من لقيه فليستغفر وعن عمر مرفوعا يأتي عليكم أويس بن عامر مع إمداد أهل اليمن من مراد ثم قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل قال الأرزنجاني في شرح المشارق الإمداد جمع مدد والمراد هنا القافلة قال وكان عمر إذا أتى إمداد اليمن يسألهم أفيكم أويس بن عامر فلما كانت السنة التي توفي فيها عمر قام على جبل أبي قبيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 فنادى بأعلى صوته يا أهل الحجيج من اليمن أفيكم أويس فقام شيخ طويل اللحية فقال إنا لا ندري من أويس ولكن ابن أخي يقال له أويس وهو أخمل ذكرا وأهون أمرا من أن نرفعه إليك وأنه ليرعى إبلا حقير بين أظهرنا فقال له عمران اين ابن أخيك قال بإزاء عرفات فركب مر وعلي سراعا إلى عرفات فإذا هو قائم يصلي والإبل حوله ترعى فسلما عليه وقالا من الرجل قال عبد الله قالا قد علمنا أن أهل السموات والأرض كلهم عبيد الله فما اسمك الذي سمتك به أمك قال يا هذان ما تريدان قالا وصف لنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أويسا القرني وأخبرنا أن تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء فاوضحها لنا فإن كانت بك فأنت هو فأوضح منكبه فإذا اللمعة فاشتدا يقبلانه وقالا نشهد أنك أويس القرني فاستغفر لنا غفر الله لك قال ما أخص باستغفاري نفسي ولا أحدا من ولد آدم ولكنه في المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات يا هذان قد أشهر الله لكما حالي وعرفكما أمري فمن انتما قال علي أما هذا فعمر أمير المؤمنين وأما أنا فعلي بن أبي طالب فاستوى أويس قائما وترهب بهما فقال له عمر مكانك يرحمك الله حتى أدخل مكة فآتيك بنفقة من عطائي وفضل كسوة من كسوتي فقال يا أمير المؤمنين ما أصنع بالنفقة والكسوة أما ترى علي إزار ورداء من صوف متى أخرقهما وقد أخذت من رعايتي أربعة دراهم متى آكلها يا أمير المؤمنين إن بينك وبينه عقبة كؤودا ولا يجاوزها إلا كل ضامر مخف به فأخف يرحمك الله فلما سمع عمر ذلك ضرب بدرته الأرض نادى بأعلى صوته ألا ليت عمر لم تلده أمه إلا من يأخذها بما فيها ولها ثم قال أمير المؤمنين خذ أنت ههنا حتى آخذ عنها فولى عمر ناحية مكة وساق أويس ابله فوافى القوم وخلا عن الرعاية وأقبل على العبادة حتى لقي الله تعالى وروى الحاكم في مستدركه عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا خير التابعين أويس ولا ينافيه قول أحمد وغيره أن خيرهم سعيد بن المسيب لأن مرادهم في العلوم الشرعية لا في أكبرية الدرجة العلية قال الحلبي وقد قتل مع علي بصفين في وقعتها وقال ابن حبان واختلفوا في محل موته فمنهم من يزعم أنه مات على جبل أبي قبيس بمكة ومنهم من يزعم أنه مات بدمشق ويحكون في موته قصصا تشبه المعجزات التي رويت عنه وقد كان بعض أصحابنا ينكر كونه في الدنيا ثم ساق بسنده إلى شعبة قال سألت عمرو بن مرة وأبا إسحاق عن أويس القرني فلم يعرفاه أقول ولعلهما لم يعرفاه لعدم كونه من رواة الحديث إذ لم يرو شيئا وكان غلب عليه حب الخمول والعزلة والخلوة وكره الصحبة والخلطة وقد علم كل أناس مشربهم وعرف كل طائفة مذهبهم (وبأمراء) أي وبأن امراء (يؤخّرون الصّلاة عن وقتها) فقد روى مسلم من طرق عن أبي ذر ولفظه كيف أنت إذا كنت عليك امراء يؤخرون الصلاة عن وقتها قلت فما تأمرني قال صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة زاد في رواية أخرى وإلا كنت قد أخرت صلاتك قال النووي أي عن وقتها المختار لا عن جميع وقتها وروي يميتون الصلاة وهو بمعنى يؤخرون قال وقد وقع هذا في ومن بني أمية (وسيكون في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 أمّته) وفي أصل الدلجي فِي أُمَّتِهِ (ثَلَاثُونَ كَذَّابًا فِيهِمْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ) رواه أحمد والطبراني والبزار منهم مسيلمة الحنفي والأسود العنسي بالنون والمختار بن أبي عبيد الثقفي وسجاح بفتح السين فجيم زعمت أنها نبية في زمن مسيلمة، (وفي حديث آخر ثلاثون دجّالا) وفي نسخة رجلا (كذّابا أحدهم) وفي نسخة وهي الأولى آخرهم (الدّجّال الكذّاب) أي الأعور الذي يقتله عيسى ابن مريم كما رواه الشيخان عن أبي هريرة ولفظهما بين يدي الساعة ثلاثين رجلا كذابا (كلّهم يكذب) وفي نسخة يكذبون (على الله ورسوله) قال الحلبي وفي الصحيح قريب من ثلاثين وقد جاء تعيين عددهم في حديث آخر أنهم سبعة وعشرون دجالا فيهم أربع نسوة والدجل تمويه الشيء وتغطيته والمموه الدجال وهو الكذاب أيضا لأنه يدجل الحق بالباطل. (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (يوشك) أي يقرب (أن يكثر فيكم العجم) أي ضد العرب لا الفرس فقط (يأكلون فيئكم) بفتح الفاء وسكون الياء مهموزا أي أموالكم (ويضربون رقابكم) أي يريقون دماءكم أو يبلغون في إيذائكم وقد وقع في دولة الترك من بعدهم رواه البزار والطبراني بسند صحيح (ولا تقوم السّائحة حتّى يسوق النّاس بعصاه) أي يسترعيهم مسخرين له كراعي غنم يسوقها بعصاه وهو كناية عن طاعة الناس له واستيلائه عليهم ولم يرد نفس العصا إلا أن في ذكرها دليلا على خشونته وعسفه بهم في إطاعته (رجل) قال القرطبي في تذكرته لعله الجهجاه (من قحطان) وهو أبو اليمن رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظهما لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه. (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان (خيركم قرني) ولفظهما خير أمتي وفي رواية خير الناس قرني وهم الصحابة (ثمّ الذين يلونهم) وهم التابعون (ثمّ الذين يلونهم) وهم الاتباع وثم تفيد التنزل في الرتبة إلى أن يرتفع الاشتراك في الخيرية فيستقيم قوله (ثمّ يأتي بعد ذلك قوم) وفي تغيير العبارة إيماء إلى ما أشرنا إليه وفي رواية لهما ثم إن بعدكم قوما (يشهدون ولا يستشهدون) بصيغة المجهول أي يبادرون بتأدية الشهادة قبل أن يطلب منهم أداؤها فإنها لا تقبل وأما حديث خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها فمعناه أن يظهر عند غير القاضي أن عنده الشهادة حيث جهل أو شك صاحب الشهادة أنها عنده أم لا أو هل يظهر الشهادة أم يخفيها وقيل يشهدون بالزور قال الحلبي وقيل معناه يحلفون ولا يستحلفون كما قال في رواية أخرى يسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه كذبا شهادته واليمين تسمى شهادة ومنه قوله تعالى فشهادة أحدهم (ويخونون ولا يؤتمنون) بفتح الميم (وينذرون) بضم المعجمة وتكسر (ولا يوفون) أي بنذرهم وفي رواية ولا يفون من وفى يفي (ويظهر فيهم السّمن) بكسر ففتح وفي حديث يكون في آخر الزمان قوم يتسمنون وفي رواية ويل للمتسمنات يوم القيامة وفي رواية ويخلف قوم يحبون السمانة وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لمالك بن الصيف أليس في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين قال نعم قال له فأنت الحبر السمين فقال ما أنزل الله على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 بشر من شيء. (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ منه) رواه البخاري ولفظه قال الزبير اتينا إنسا فشكونا إليه الحجاج فقال اصبروا فإنه لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ منه حتى تلقوا ربكم سمعته من نبيكم وفي رواية أشر منه وهو لغة كأخير في خير قال بعض الحفاظ إلا والذي بعده شر منه فيما يتعلق بالدين قال الحلبي والذي فهم الحسن غير ذلك حيث سئل الحسن فقيل له ما بال زمن عمر بن عبد العزيز بعد زمن الحجاج فقال لا بد للناس من تنفيس يعني أن الله ينفس عباده وقتا ما ويكشف البلاء عنهم حينا ما قلت وهو ما ينافي ما سبق من التنزل في أمر الدين كما هو مشاهد في نظر أرباب اليقين فإنه كلما يبعد عن النور تبقى الظلمة في الظهور فالبعد عن الحضرة يفيد هذا الترتيب في الحالة ويشير إليه صدر الحديث خير القرون قرني ثم وثم في الجملة بل جاء في حديث رواه أحمد والبخاري والنسائي عن أنس مرفوعا لا يأتي عليكم عام ولا يوم إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم. (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين (هلاك أمّتي على يدي أغلمة) تصغير تحقير لا غلمة جمع غلام يعني صبيان (من قريش) وفي رواية أعوذ بالله من أمارة الصبيان وقال إن أطعتموهم اذلتكم وإن عصيتموهم أهلكتكم إذ هم صغار الأسنان (وقال أبو هريرة راويه) أي راوي هذا الحديث (لو شئت سمّيتهم لكم) أي لبينتهم وقلت لكم إنهم (بنو فلان وبنو فلان) لكني ما أشاء تسميتهم صريحا خوف الفساد والفتنة إلا أن في العبارة إشارة بالكناية والمراد يزيد بن معاوية فإنه بعث إلى المدينة السكينة مسلم بن عقبة فأباحها ثلاثة أيام فقتل من خيار أهلها كثيرا فيهم ثلاثة من الصحابة وأزيلت بكارة ألف عذراء وبعده بنو مروان بن الحكم بن العاص فلقد صدر عنهم ما أوجب أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تبرأ منهم كما رواه الشيخان أنه قال إِنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ ولكن لهم رحم سأبلها ببلالها فالمكنى هو الحكم بن العاص وبنوه فإنهم آله فكنى عنهم بعض رواة هذا الحديث حذرا منهم إذ كانوا ولامر وأصحاب الشر هذا وقد قال القرطبي هم والله تعالى أعلم يزيد بن معاوية وعبد الله بن زياد ومن جرى مجراهم من أحداث ملوك بني أمية. (وأخبر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بظهور القدريّة) كما رواه الترمذي وأبو داود والحاكم أنه قال القدرية مجوس هذه الأمة إشارة إلى مدح أمته وذمهم جعلهم مجوسا حيث شابه مذهبهم مشربهم فالمجوس أثبتوا الهين زعموا أن الخير من فعل النور وسموه يزدان والشر من فعل الظلمة وسموه أهرمن وقد قال الله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أي خلقهما وأما القدرية فزعموا خالقين خالق الخير وهو الله وخالق الشر وهو الإنسان وقد قال تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهو ما ينافي أن ينسب إليه الفعل خلقا وإيجادا والينا عملا واكتسابا (والرّافضة) بالألف بمعنى الرفضة أي وأخبر بظهور الطائفة الرافضة التاركة لحب جل الصحابة وقد رواه البيهقي من طرق كلها ضعيفة إلا أنها يتقوى بعضها ببعض ويعضدها ما رواه البزار بلفظ يكون في أمتي قوم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 آخر الزمان يسمون الرافضة يرفضون الإسلام أي بالكلية لأنهم يستحلون سب الصحابة ويكفرون أهل السنة والجماعة والمعنى يتركون كمال الإسلام وجماله إن لم يصدر منهم ما ينافي أحكام الإيمان وفي رواية يلفظونه أي يرمونه فاقتلوهم فإنهم مشركون أي مشابهون لهم حيث لم يعملوا بالكتاب والسنة (وسبّ آخر هذه الأمّة أوّلها) أي وأخبر بظهور هذا الأمر من الرافضة وقد رواه أبو القاسم البغوي عن عائشة مرفوعا بلفظ لا تذهب هذه الامة حتى يلعن آخرها أولها وللترمذي من حديث طويل عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولعن هذه الأمة أولها فارتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتتابع كنظام قطع سلكه والتتايع بالياء التحتية هو الوقوع في الشر كما أنه بالموحدة يستعمل في الخير هذا وقد ظهر لعن السلف على لسان الروافض والخوارج جميعا ولعل مذمة الرافضة في بعض الأحاديث وردت بالمعنى اللغوي الشامل لكل من الطائفتين وإن كان العرف خصها باعتبار الغلبة (وقلّة الأنصار) أي وأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بقلتهم والأظهر أن المراد بهم طائفة معروفة من الصحابة وقد يتوسع ويراد بهم ذريتهم أيضا ولا يبعد أن يراد بهم انصار الدين ومعاونيهم حتى يشمل المهاجرين وغيرهم وقد رواه البخاري عن ابن عباس خرج علينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار أي بعدي (حتّى يكونوا كالملح في الطّعام) كناية عن غاية قلتهم فيما بين أهل الإسلام وتمام الكلام فمن ولي منكم شيئا يضر فيه قوما وينفع آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم (فلم يزل أمرهم يتبدّد) أي يتفرق (حتّى لم يبق لهم جماعة، وأنّهم) أي وأخيرا (سيلقون بعده أثرة) بفتحتين وبكسر فسكون وحكي بضم فسكون أي إيثار الناس أنفسهم عليهم فيما هم أولى به من العطايا ومناصب القضايا ففي الصحيحين بلفظ أنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض قال اليعمري كانت هذه الأثرة زمن معاوية، (وأخبر بشأن الخوارج) أي على علي بالنهروان وكانوا أربعة آلاف فقتلهم علي قتلا ذريعا ولم يقتل ممن معه إلا تسعة (وصفتهم) أي وبيان حالهم وأفعالهم حيث قال فرقة يحسنون القول ويسيئون الفعل أو العمل يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يرجعون إليه حتى يرتد إلى فوقه هم شر الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم، (والمخدّج) بضم الميم وسكون المعجمة وفتح الدال المخففة وبالجيم أي الناقص وكان ناقص اليد واسمه نافع وفي نسخة مشددة أي بناقص الخلق (الذي فيهم) أي بأن إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة (وأنّ سيماهم التّحليق) أي علامتهم المبالغة في حلق شعورهم وقيل جلوسهم حلقا حلقا (ويرى) بصيغة المجهول وقال الدلجي بصيغة الخطاب العام (رعاة الغنم) وفي أصل الدلجي رعاء الشاء وهو نائب الفاعل أو المفعول الأول والثاني قوله (رؤوس النّاس) أي رؤساءهم، (والعراة والحفاة) وفي نسخة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 والحفاة العراة (يتبارون) بفتح الراء أي يتفاخرون (في البنيان) أي في إطالة بيوتهم وتحسينها وتزيينها فقد روى الشيخان معناه ببعض مبناه فلمسلم وإن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان وللبخاري وإذا تطاول رعاء الإبل إليهم في البنيان وله أيضا وإذا كانت الحفاة العراة رؤوس الناس فذلك من أشراطها ولهما وإن ترى الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض وفيه إشارة إلى أن أرباب الجهالة والقلة والذلة يغلبون على أهل العلم والغنى والعزة (وأن تلد الأمّة ربّتها) أي سيدتها فإن ولد الأمة من سيدها لحسيدها لأنه سبب لعتقها فهي بنتها فبالأولى ابنها قال الحلبي وفي رواية ربها وفي رواية بعلها أي تلد مثل سيدها ومالكها ومتصرفها أراد به كثرة السبي والسراري في أوقات السعة أو في أزمنة الفتنة أو كناية عن كثرة العقوق وقلة تأدية الحقوق (وأنّ قريشا) أي وأخبر بأن كفار قريش بالخصوص (والأحزاب) أي وسائر طوائف الكفار (لا يغزونه أبدا) ولعله بعد غزوة الخندق فعن سليمان ابن صرد أنه عليه الصلاة والسلام قال حين أجلى الأحزاب عنه الآن نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم (وأنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (هو يغزوهم) أي يبدؤوهم بالمحاربة كما وقع له ولأصحابه بفتح مكة وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم فتحها لا تغزى قريش بعده أي لا يكفرون فيغزون وقوله في رواية أخرى لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة أي لا تعود مكة دار كفر يغزى عليه وأما ما قيل من أن المعنى لا يغزوها كفار أبدا فإن المسلمين قد غزوها مرات فيرده قصة القرامطة وكذا حديث يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة يقلعها حجرا حجرا، (وأخبر بالموتان) بضم الميم وتفتح أي بالوباء (الذي يكون بعد فتح بيت المقدس) كما رواه البخاري عن عوف بن مالك قال أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فقال اعدد ستا بين يدي الساعة موتى ثم فتح بيت المقدس ثم موتان يأخذ فيكم كقصاص الغنم العقاص بضم القاف داء يأخذ الغنم لا يلبثها حتى تموت من وقتها ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ثم فتنة لا يبقى من العرب حي إلا دخلته ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية أي راية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا انتهى وكان هذا الموتان في خلافة عمر بعمواس من قرى بيت المقدس وبها كان عسكره وهو أول طاعون وقع في الإسلام مات به سبعون ألفا في ثلاثة أيام وبنو الأصفر هم الروم لأن جدهم المنسوبون إليه كان أصفر وهو روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، (وما وعد من سكنى البصرة) بفتح الموحدة وحكي ضمها إلا أنه لا يجوز في النسبة اتفاقا فقد روى أبو داود عن أنس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال له يا أنس إن الناس يمصرون امصارا منها يقال لها البصرة فإن مررت بها أو دخلتها فإياك وسباخها وكلاءها بتشديد اللام أي ساحلها وسوقها وباب أمرائها وعليك بضواحيها أي نواحيها الظاهرة بها فإنه يكون خسف وقذف ورجف وقوم يبيتون ويصبحون قردة وخنازير ولعل هذه الامور وردت معنوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 أو ترد بعد ذلك صورية هذا وقد بنى البصرة عتبة بن غزوان في خلافة عمر سنة سبع عشرة وسكنها الناس سنة ثماني عشرة لم يعبد الصنم قط على أرضها (وَأَنَّهُمْ يَغْزُونَ فِي الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ) كما في الصحيحين بلفظ كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان من خالات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الرضاع وكانت تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها يوما فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه فنام ثم استيقظ يضحك فقالت مم تضحك قال ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر أي وسطه ومعظمه وقيل ظهره ملوكا على الأسرة أو كالملوك على الأسرة فقالت ادع الله تعالى أن يجعلني منهم فدعاهم ثم نام ثم استيقظ يضحك فقالت مم تضحك فقال كالأول فقالت ادع الله تعالى أن يجعلني منهم فقال أنت من الأولين فركبت البحر في زمن معاوية فصرعت عن دابتها بعد خروجها منه فهلكت والأسرة جمع سرير وهو بساط الملك، (وأنّ) أي وأخبر بأن (الإيمان لو كان منوطا) أي معلقا (بالثّريّا لناله رجال من أبناء فارس) وهم المشهورون الآن باسم العجم ولفظ الشيخين عن أبي هريرة كنا كنا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فلما نزلت وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قالوا من هم يا رسول الله فوضع يده على سلمان الفارسي ثم قال لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء وجمع اسم الإشارة مع أن المشار إليه واحد لإرادة الجنس ولو هنا لمجرد الفرض والتقدير مبالغة لحدة فطنتهم وقوة فطرتهم وأراد بآخرين التابعين اللاحقين بالصحابة السابقين وأعلاهم في هذا المقام الافخم هو الإمام الأعظم والله تعالى أعلم (وهاجت ريح) أي هبت بشدة (في غزاته) أي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وغزاته في بعض غزواته وهي غزوة تبوك من أرض الشام على ما ذكره الدلجي أو غزوة بني المصطلق كما قرره الحلبي وهو أولى بالاعتماد، (فقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (هَاجَتْ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وجدوا ذلك) أي موت المنافق على وفاق ما أخبره هنالك وهذا المنافق هو رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء اليهود وكهناء المنافقين كذا قاله أبو إسحاق على ما ذكره الحلبي (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه الطبراني عن رافع بن خديج (لقوم من جلسائه) وهم أبو هريرة الدوسي وفرات بن حبات العجلي والرجال بن عنقوة اليمامي وهو المراد من قوله (ضرس أحدكم) أي واحد منكم لا كل واحد منكم (في النّار أعظم من أحد) أي هيئة وصورة في هذا تلويح بأن يموت أحدهم كافرا الحديث ضرس الكافر في النار مثل أحد رواه مسلم وغيره (قال أبو هريرة فذهب القوم يعني) أي يريد بقوله ذهبوا. (ماتوا وبقيت أنا ورجل فقتل) أي ذلك الرجل (مرتدّا يوم اليمامة) ناحية شرقي الحجاز معروفة؛ (وأعلم) أي أخبر صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه أبو داود والنسائي عن زيد بن خالد الجهني (بالذي غلّ) أي خان فأخذ من الغنيمة قبل القسمة (خرزا من خرز يهود) بفتح الخاء المعجمة والراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 فزاء وهي الجواهر وما ينتظم من نحوها والمراد بها هنا فصوص من الحجارة (فوجدت) أي تلك الخرز (في رحله) أي بعد موته فعن زيد بن خالد الجهني قال توفي رجل يوم خيبر فذكروا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال إن صاحبكم قد غل في سبيل الله قال ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرزات يهود ما تساوي درهمين، (وبالذي) أي واعلم صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه الشيخان عن أبي هريرة بالذي (غلّ الشّملة. وحيث هي) أي وبالمكان الذي هي فيه وهي كساء يشتمل به الرجل ولفظهما أهدى رجل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غلاما اسمه مدعم فبينما هو يحط رحلا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جاء سهم عائر أي لا يدري راميه فقتله فقالوا هنيئا له الجنة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم قبل القسمة لتشتعل عليه نارا ذكره الدلجي وقال الحلبي الذي غل الشملة هذا كركرة قال النووي يقال بكسر الكافين وبفتحهما جعله في المبهمات وكذا هو في سنن ابن ماجة في الجهاد (وناقته) ضبط بالرفع في النسخ ولعل التقدير وكذا ناقته أي قضيتها أو وحيث هي وناقته كما في اصل التلمساني والظاهر جرها أي واعلم صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه البيهقي بناقته ومكانها (حين ضلّت) أي ضاعت وفقدت (وكيف تعلّقت بالشّجرة بخطامها) أي برسنها أو زمامها وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حين قفل من غزوة بني المصطلق أخذتهم ريح كادت أن تدفن الراكب وهي التي أخبر أنها هاجت لموت منافق وضلت ناقته عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة فقال رجل من المنافقين كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته إلا يخبره الذي يأتيه بالوحي فأتاه جبريل عليه السلام وأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة وأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه بها وقال ما أزعم أني أعلم الغيب ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي وهي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعون قبل الشعب فوجدوها حيث قال وكما وصف فجاؤوا بها وآمن ذلك المنافق (وبشأن كتاب حاطب) بكسر الطاء وهو ابن أبي بلتعة وكان مكتوبه بالخفية (إلى أهل مكّة) وهم سهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أبي لهيعة من مسلمة الفتح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده وقيل كتب أن محمدا قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم فعليكم الحذر ذكرهما السهيلي ولا منع من الجمع فتدبر ومن فضائل حاطب على ما في نظم الدر أنه عليه الصلاة والسلام حين بعثه إلى المقوقس قال له إن كان صاحبك نبيا فلم لم يدع على قومه حين أخرجوه من بلده فقال له حاطب منعه الذي منع عيسى من الدعاء على من رام صلبه فأسكته بذلك وأخجله هنالك (وبقضية عمير) وفي نسخة بقضية عمير وهو بالتصغير ابن وهب بن خلف (مع صفوان) أي ابن أمية بن خلف (حين سارّه) بتشديد الراء أي خافته صفوان بقتله صلى الله تعالى عليه وسلم (وشارطه) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 جعل له جعلا (على قتل النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فخاب سعيهما وضاع كيدهما (فلمّا جاء عمير النّبيّ) وفي نسخة إلى النبي (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاصِدًا لِقَتْلِهِ وَأَطْلَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم على الأمر) أي الذي جاء بصدده، (والسّرّ) أي المخفي عن غيره (أسلم) أي عمير وكذا أسلم صفوان بعد حنين ذكره الحلبي والحديث رواه ابن إسحاق والبيهقي والطبراني؛ (وَأَخْبَرَ بِالْمَالِ الَّذِي تَرَكَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ الله عنه عند أمّ الفضل) أي زوجته وهي لبابة بنت الحارث أول امرأة أسلمت بعد خديجة وقيل بل هي فاطمة بنت الخطاب وفي نسخة أم الفضيل بالتصغير وهو غلط محض بل لم يعلم في الصحابيات من يقال لها أم الفضيل بالتصغير وكان ذلك (بعد أن كتمه) أي العباس ذلك الخبر عن الغير، (فقال) أي العباس (ما علمه غيري وغيرها) أي وما هذا إلا بإعلام الله سبحانه إياك (فأسلم) أي فصار سبب إسلامه بعد أن فدى نفسه فقيل له لم لم تسلم قبل الفداء ليبق لك ما افتديت به فقال لم أكن لا حرم المؤمنين مما طعموا من مالي أقول ولعله أخر إسلامه بعد أن تحقق حاله لئلا يظن به أنه إنما اسلم لئلا يدفع ماله والحديث رواه أحمد عن ابن عباس والحاكم وصححه والبيهقي عن الزهري وغيره مرسلا، (وأعلم أنّه) وفي نسخة بأنه أي النبي عليه السلم (سيقتل) أي بيده (أبيّ بن خلف) كما رواه البيهقي عن عروة وسعيد بن المسيب مرسلا وسبق أنه عليه السلام جرحه بأحد في عنقه فمات بسرف (وفي عتبة) وفي نسخة عتيبة وهي الصواب كما تقدم (ابن أبي لهب) أي واعلم صلى الله تعالى عليه وسلم في شأنه أنه (يأكله كلب من كلاب الله) وفي نسخة يأكله كلب الله وأبعد الدلجي في تقديره هنا حيث قال وقال في عتبة لعدم دلالة عليه وللزوم كسر همزة أنه مع أن الرواية بالفتح. (وعن مصارع أهل بدر) أي واعلم كما في مسلم عن مواضع هلاك كفار قريش ممن قتل بها بقوله هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان (فكان كما قال) أي كما أخبره في الحال، (وقال) النبي عليه الصلاة والسلام كما روى الشيخان وغيرهما من طرق (في الحسن) أي ابن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما (إنّ ابني هذا سيّد) أي كريم حليم (وسيصلح الله به بين فئتين) وفي رواية ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين أي جماعتين كثيرتين من أشياعه واتباع معاوية وقد بلغت كل فئة أربعين ألفا قال الحسن البصري فلما ولي ما أهريق بسببه محجمة دم وقال هشيم لما اسلم الأمر لمعاوية قال له معاوية قم فتكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن أكيس الكيس التقي وإن أعجز العجر ألا وإن هذه الأمر الذي اختلف فيه أنا ومعاوية حق لامرئ كان أحق به مني أو حق لي تركته لمعاوية إرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ثم استغفر ونزل وفي رواية خطب معاوية ثم قال قم يا حسن فكلم الناس فتشهد ثم قال أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دول وأن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام قل إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين وفي شرح السنة قد خرج مصداق هذا الحديث في الحسن بترك الأمر حين صارت الخلافة إليه وكان أحق بها وأهلها فسلمها إلى معاوية وترك الملك والدنيا ورعا ورغبة فيما عند الله وإشفاقا على الأمة من الفتنة لا من القلة والذلة إذ كان معه يومئذ أربعون ألفا قد بايعوه على الموت فأصلح الله به بين الفرقتين أهل الشام فرقة معاوية وأهل العراق فرقة الحسن (ولسعد) أي وقال كما رواه الشيخان لسعد بن أبي وقاص في مرضه بمكة وقد قال له سعد اخلف عن أصحابي (لعلّك تخلّف) بفتح اللام المشددة أي يؤخر موتك (حتّى ينتفع بك أقوام) أي من الأبرار (ويستضرّ) وفي نسخة بصيغة المجهول أي ويتضر (بك آخرون) أي أقوام من الفجار زيد في رواية اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على اعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن مات بمكة وذلك لكراهتهم الموت بأرض هاجروا منها حذرا من ردهم على أعقابهم بموته فيها (وأخبر) أي فيما رواه الشيخان عن أنس (بقتل أهل مؤتة) بضم ميم فهمزة ساكنة ويبدل (يوم قتلوا) أي امراء غزوها فقال أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب ثم جعفر بن أبي طالب فأصيب ثم عبد الله بن رواحة فأصيب ثم خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح الله على يديه (وبينهم) أي والحال أن بينه عليه الصلاة والسلام وبين أهل مؤتة وأمرائهم الكرام (مسيرة شهر أو أزيد) أي بل أكثر ويؤيده ما في نسخة بالواو فأو بمعنى الواو أو بمعنى بل ولعل الدلجي حمل أو على الشك من الراوي فقال بل اقل من شهر لأنها من أرض البلقاء آخر حوران الشام إلى جهة مدينة الإسلام (وبموت النّجاشي) بفتح النون ويكسر وتخفيف آخره ويشدد لقب لكل من ملك الحبشة واسم هذا اصحمة وكان ممن آمن وأخبر عليه الصلاة والسلام بموته كما رواه الشيخان عن أبي هريرة (يوم مات) أي سنة تسع من الهجرة، (وهو بأرضه) وصلى عليه صلاة الغائب عن أصحابه وقد أحضرت جنازته لديه، (وأخبر فيروز) بكسر الفاء وتفتح وسكون الياء وبضم الراء غير منصرف للعجمة والعلمية أي وأخبره صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه البيهقي (حين ورد عليه) وفي نسخة إذ ورد عليه أي حين وفد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (رسولا من كسرى) أي ملك فارس وهو وزيره (بموت كسرى ذلك اليوم) أي في يوم ورود فيروز أو في يوم موت كسرى (فلمّا حقّق فيروز القصّة) أي ما قصه عليه من موته في وقته (أسلم) ففاز فيروز فوزا عظيما (وأخبر أبا ذر) كما رواه أحمد (بتطريده) أي بإخراجه من المدينة إلى الربذة (كما كان) أي كما وقع في زمان عثمان بن عفان وفي أصل الدلجي فكان كما كان أي فكان إخباره بتطريده كما كان ثم لا ينافيه ما في دلائل النبوة للبيهقي من أن امرأته أم ذر قالت والله ما سيره عثمان إلى الربذة ولكن قال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا بلغ البناء سلعا فاخرج فلما بلغه وجاوز خرج أبو ذر إلى الشام وذكر رجوعه ثم خروجه إلى الربذة وموته بها إذ يمكن حمل كلامها على أن تسييره عثمان لم يكن قهرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 عليه إذ كان أمكنه أن يمتنع منه إلا أنه وافق حكمه أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بخروجه اختيارا فاختار خروجه من غير أن يكون هناك إكراه واجبارا وإلا فالأمر بإخراجه محقق بلا شبهة لقوله (ووجده في المسجد) أي مسجد المدينة (نائما، فقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (له) أي لأبي ذر (كيف بك إذا أخرجت منه) أي في هذا المسجد وما حواليه (قال أسكن المسجد الحرام) أي وما حوله من الحرم، (قال فإذا أخرجت منه الحديث) أي بطوله قيل كان أخرجه عثمان إلى الشام لأنه كان إذا مر به عثمان يقرأ قوله تعالى يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ ثم رضي عليه فرده إلى المدينة ثم أخرجه إلى الربذة هي قرية خربة فسكنها إلى أن مات (وبعيشه وحده وموته وحده) أي وأخبر أن أبا ذر يعيش وحيدا ويموت فريدا فكان كما أخبره عليه الصلاة والسلام على ما رواه أحمد وابن راهويه وابن أبي أسامة والبيهقي واللفظ له قالت أم ذر لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت فقال وما يبكيك فقلت وما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ما يسع كفنا لي ولا لك قال فأبشري ولا تبكي فإني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المسلمين وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعة فأنا ذلك الرجل فأبصري الطريق فبينما أنا وهو كذلك إذا أنا برجال على رحالهم كأنهم الرخم فألحفت بثوبي فأسرعوا حتى دخلوا عليه فقال لهم كما قال ثم قال أنتم تسمعون أنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لكفنت فيه إني أنشدكم الله ثم أنشدكم الله أن لا يكفني رجل منكم كان أميرا عريفا أو بريدا أو نقيبا وليس منهم أحد إلا قارف ما قال إلا فتى من الأنصار قال أنا اكفنك يا عم في ردائي هذا وثوبين في عيبتي من غزل أمي قال فكفني فكفنه وقاموا فدفنوه وعن ابن مسعود قال لما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى غزوة تبوك تخلف أبو ذر يتلوم بعيره فقالوا يا رسول الله تخلف أبو ذر فقال دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم قال فلما أبطأ عليه بعيره أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج ماشيا يتتبع أثر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في شدة الحر وحده فلما رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دمعت عيناه وقال يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده فكان كذلك لما مات رضي الله تعالى عنه بالربذة لم يكن معه إلا امرأته وغلامه فلما غسلاه وكفناه وضعاه على قارعة الطريق ينتظران من يعين على دفنه إذ أقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق فلما رآهم الغلام قام إليهم وقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأعينونا على دفنه فنزل ابن مسعود وجعل يبكي رافعا صوته ويقول صدق رسول الله في قوله، (وأخبر أنّ أسرع أزواجه به لحوقا) أي وصولا إليه بعد موته (أطولهنّ يدا فكانت زينب) أي بنت جحش. (أسرعهن) لحوقا به (لطول يدها بالصّدقة) رواه مسلم ولفظه عن أم المؤمنين عائشة قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسرعكن لحوقا بي أطولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 يدا فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا فكانت زينب أطولنا يدا لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق ورواه الشعبي مرسلا فقال قلن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ايتنا أسرع لحوقا بك قال أطولكن يدا في الصدقة وللبخاري عن عائشة اجتمع زوجاته صلى الله تعالى عليه وسلم فقلن له ايتنا أسرع لحوقا بك قال أطولكن يدا فأخذنا قصة نذرعها وكانت سودة بنت زمعة أطولنا ذراعا فتوفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكانت أسرعنا لحوقا به فعرفنا أن طول يدها في الصدقة وكانت تحب الصدقة قال الدلجي وهو مخالف لحديث مسلم والشعبي مع منافاة ما أفاده قولها إن طول يدها كان بالصدقة من أنه طول معنى لما أفاد قولها كانت أطولنا ذراعا من أنه طول حسا انتهى ولا منافاة لظنها أولا أن المراد بالطول هو الحسي فتبين لها بعدها أن المقصود هو الطول المعنوي كما هو المعتبر عند أرباب النظر مع ما في العبارة من حسن الإشارة إلى أن التلويح أبلغ من التصريح وأن في التعمية حسن التورية عند الفصيح ثم يمكن الجمع بين ما ورد في الصحيحين أن تكون إحداهما أسرع حقيقيا والأخرى إضافيا ولعل الاسرع منهما هي الأكثر منهما مبادرة إلى الصدقة وهذا مما الهمني الله من التحقيق والله ولي التوفيق ثم رأيت الحلبي قال زينب هذه بنت جحش توفيت سنة عشرين أو إحدى وعشرين لا زينب بنت خزيمة التي تدعى أم المساكين لأنها توفيت في آخر الربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرا من الهجرة (وأخبر بقتل الحسين) أي ابن علي رضي الله تعالى عنهما (بالطّفّ) بفتح الطاء وتشديد الفاء مكان بناحية الكوفة على شط نهر الفرات واشتهر الآن بكربلاء كأنه مركب من الكرب والبلاء وحذفت الباء الأولى تخفيفا والاكتفاء بحسب الإيماء واستشهد وهو ابن خمس خمسين سنة ووجد به ثلاث وثلاثون طعنة وثلاث وثلاثون ضربة وكان جميع من حضر معه من أهل بيته وشيعته سبعة وثمانين منهم علي بن الحسين الأكبر وكان يرتجز ويقول: أنا علي بن الحسين بن علي ... نحن وبيت الله أولى بالنبي تالله لا يحكم فيها ابن الدعي وقتل من ولد أخيه عبد الله بن الحسن والقاسم بن الحسن ومن أخواته العباس بن علي وعبيد الله بن علي وجعفر بن علي وعثمان بن علي ومحمد بن علي وهو أصغرهم ومن ولد جعفر بن أبي طالب محمد بن عبد الله بن جعفر وعون بن عبد الله بن جعفر ومن ولد عقيل ابن أبي طالب عبد الله بن عقيل وعبد الرحمن بن عقيل وعبد الله بن عقيل وقتل معه من الأنصار أربعة والباقي من سائر العرب ودفنوا بعد قتلهم بيوم وذكر أبو الربيع بن سبع في مناقب الحسين عن يعقوب بن سفيان قال كنت في ضيعتي فصلينا العتمة ثم جلسنا في البيت ونحن جماعة فذكروا الحسين بن علي فقال رجل ما من أحد أعان على قتل الحسين إلا أصابه عذاب قبل أن يموت وكان في البيت شيخ كبير فقال أنا ممن شهدها وما أصابني أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 أكرهه إلى ساعتي هذه فطفئ السراج فقام لإصلاحه ففارت النار فأخذته فجعل يبادر بنفسه إلى الفرات ينغمس فيه فأخذته النار حتى مات قلت بل جمع له بين الإحراق والإغراق (وأخرج بيده تربة) أي قبضة من التراب، (وقال فيها مضجعه) بفتح الميم والجيم ويكسر أي مقتله أو مدفنه رواه البيهقي من طرق ولفظ حديثه عن عائشة أن جبريل كان عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فدخل عليه الحسين فقال جبريل من هذا فقال ابني فقال ستقتله أمتك وإن شئت أخبرتك بالأرض التي يقتل فيها فأشار بيده إلى الطف من العراق فأخذ تربة حمراء فأراه إياها، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه ابن عدي والبيهقي (في زيد بن صوحان) بضم أول المهملتين اختلف في صحبته (يَسْبِقُهُ عُضْوٌ مِنْهُ إِلَى الْجَنَّةِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ في الجهاد) ولفظ البيهقي عن علي قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سره أن ينظر إلى رجل يسبقه بعض أعضائه إلى الجنة فلينظر إلى زيد بن صوحان وفي إسناده هذيل بن بلال ضعفه البيهقي وفي الحديث إيماء إلى جواز تعلق الروح بالإجزاء من غير تمام الأعضاء كما حققه العلماء، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام والتحية والثناء (في الذين كانوا معه) أي كما سبق ذكرهم من الشيخين وعثمان وغيرهم رضي الله تعالى عنهم (على حراء) أي وقد تحرك بهم كما مر في الانباء والمعنى قال في حقهم وعلو شأنهم مخاطبا للجبل (اثبت) أي مع الثابتين من الإعلام (فإنّما عليك نبيّ وصدّيق وشهيد) وفي نسخة بأو في الموضعين فهي للتنويع ولفظ مسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحرك فقال اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد زاد بعضهم سعدا مكان علي (فقتل عليّ وعمر وعثمان) كذا في النسخ ولعل تقديم علي لثبوت شهادته بصريح الخبر وفي أصل الدلجي فقتل عمر وعثمان وعلي (وطلحة والزّبير وطعن سعد) أي وجرح حصلت له الشهادة بسبب الجراحة وبشهادة الحديث وقال التلمساني أي أصابه طاعون وهو شهادة لكل مسلم انتهى لا كما قال الدلجي ولم تنله الشهادة كما لا يخفى على أهل الإفادة (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه البيهقي (لسراقة) بضم السين وهو ابن مالك بن جعشم بضمتين (كيف بك) أي كيف حالك (إذا لبست سوارى كسرى) تثنية السوار بكسر السين وتضم وجمعه اسورة وجمع الجمع اساور وهو ما يلبس في اليد وفيه تنبيه على هلكه وزوال ماله وملكه مع كمال شوكته وقوته منتقلا إلى أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم وأئمة أمته (فلمّا أتي عمر بهما) أي جيء بسواريه (ألبسهما إيّاه) أي سراقة إظهارا لتحقيق ما صدر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم إخبارا (وقال) أي عمر (الحمد لله الذي سلبهما كسرى) أي ملك العجم (وألبسهما سراقة) أي واحدا من بدو العرب ولعل في تقديم المفعول الثاني إيماء إلى الاهتمام بذكرهما وما يعقبه من شكرهما فاندفع اعتراض الدلجي ولو قال ألبسه إياهما لكان أولى، (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه أبو نعيم في الدلائل عن جرير بن عبد الله والخطيب في تاريخه (تبنى) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 ستبنى (مدينة بين دجلة) بكسر الدال وتفتح نهر مشهور بالعراق (ودجيل) بالتصغير بالأهواز عليه مدن كثيرة مخرجه من أصفهان (وقطربل) بضم قاف وسكون مهملة فضم راء وموحدة فلام مشددة ممنوعا من الصرف موضع بالعراق (والصّراة) بمهملة مفتوحة نهر بالعراق وفي بعض الأصول بالهاء بدل الصاد ذكره الشمني قال الحلبي والهراة كذا في الأصل وهو بفتح الهاء بلد معروف وفي القاموس الهراة بلد بخراسان وقرية بفارس والنسبة هروي محركة (تجبى إليها) بضم التاء وسكون الجيم وفتح الموحدة أي تجمع وتجلب إلى تلك المدينة (خزائن الأرض) لأنها صارت دار الملك (يخسف بها) أي يستحق أن يخسف بها لكثرة ظلم أهلها ولأن بناءها أسس على شفا جرف هار (يعني) أي يريد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بها) أي بتلك المدينة (بغداد) مر بيان لغاتها وقد بناها أبو جعفر الدوانيقي ثاني خلفاء بني العباس لكن قال أحمد بن حنبل لم يحدث به أي بحديث بغداد ثقة ومداره على عمار بن سيف وهو مغفل وقال الذهبي في ميزانه حديثه منكر؛ (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ هُوَ شَرٌّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِرْعَوْنَ لقومه) رواه أحمد ورواه البيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلا وحسنه قال وولد لأخي أم سلمة من أمها غلام فسموه الوليد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا تسموا باسماء فراعنتكم فسموه عبد الله فإنه سكون فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ بن عبد الملك ثم رأينا أنه ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك لفتنة الناس إذ خرجوا عليه لأمور اقترفها فقتلوه فانفتحت به الفتن على الأمة كذا ذكره الدلجي وقال الحديث في مسند أحمد من حديث سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله تعالى عنه وسعيد اختلف في سماعه من عمر وقد ذهب أحمد إلى أنه سمع منه وقد ذكر هذا الحديث ابن الجوزي في موضوعاته من طريق أحمد ثم نقل عن ابن حبان أنه خبر باطل إلى آخر كلامه. (وقال) أي كما في الصحيحين (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا واحدة) وهي الإسلام أو الخلافة فوقع كما أخبر في حرب صفين فإن صفوان بن عمرو قال كان أهل الشام ستين ألفا فقتل منهم عشرون ألفا وأهل العراق مائة وعشرون ألفا فقتل منهم أربعون ألفا. (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لعمر) أي ابن الخطاب كما رواه البيهقي وشيخه الحاكم عن الحسن بن محمد مرسلا (في سهيل بن عمرو) أي في شأنه وقد قال له عمر يا رسول الله دعني أنزع ثنيته فلا تقوم خطيبا في قومه فقال دعها (عسى أن يقوم مقاما ما يسرّك يا عمر فكان) أي الأمر (كذلك) أي مثل ما أخبر عنه هنالك (فإنه قام بمكّة) أي عند الكعبة (مقام أبي بكر) أي في مرتبته وثبات حالته في المدينة (يوم بلغهم موت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بتخفيف اللام أي وصلهم خبر موته صلى الله تعالى عليه وسلم (وخطب بنحو خطبته) أي بمثل خطبة الصديق في المدينة يومئذ (وثبّتهم) بتشديد الموحدة أي حملهم على الثبات في الدين (وقوّى بصائرهم) بتشديد الواو أي وصار سببا لتقوية كشف بصائرهم في اليقين فقال من كان محمد الهه فإن محمدا قد مات والله حي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 لا يموت وكانت خطبة أبي بكر من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت إلا أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه زاد عليه بإتيان الآيات البينة الدالة على موته صلى الله تعالى عليه وسلم لزيادة كماله في الرتبة قال البيهقي ثم لحق في أيام عمر بالشام مرابطا في سبيل الله حتى مات بها في طاعون عمواس، (وقال لخالد) أي ابن الوليد (حين وجّهه) بتشديد الجيم أي أرسله (لأكيدر) بالتصغير ملك كندة اختلف في إسلامه وصحبته (إنّك تجده يصيد البقر) أي بقر الوحش قال الخطيب كان نصرانيا ثم أسلم وقيل بل مات نصرانيا وجمع بينهما بأنه اسلم ثم ارتد قال ابن مندة وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما معرفة الصحابة أن أكيدر هذا اسلم وأهدى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حلة سيراء فوهبها لعمر قال ابن الأثير إما الهدية والمصالحة فصحيحان وأما الإسلام فغلطا فيه فإنه لم يسلم بلا خلاف بين أهل السير وكان أكيدر نصرانيا فلما صالحه عليه الصلاة والسلام عاد إلى حصنه وبقي فيه ثم إن خالدا حاصره زمن أبي بكر فقتله مشركا نصرانيا لنقض العهد قال وذكر البلادري أن أكيدر لما قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعاد إلى دومة بضم الدال ويقال دومة الجندل موضع بين مكة وبرك الغماد والحجاز والشام فلما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ارتد أكيدر ومنع ما قبله فلما سار خالد من العراق إلى الشام قتله. (فَوُجِدَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ موته) أي وقعت هذه الأخبار المذكورة جميعها إلا أن منها ما وقع في حياته ومنها ما وقع أو سيقع بعد مماته (كما قال عليه الصلاة والسلام) أي على نهج ما أخبر به عنه في ذلك المقام من المعنى المرام (إلى) أي منضمة أو منتهية إِلَى (مَا أَخْبَرَ بِهِ جُلَسَاءَهُ مِنْ أَسْرَارِهِمْ) أي خفيات أفعالهم (وبواطنهم) أي مكنونات أحوالهم كقوله لرجل وصف له بالعبادة هل حدثت نفسك أنه ليس في القوم خير منك قال نعم وفي رواية ومواطنهم أي ومشاهدهم وفي أصل التلمساني ومواصلتهم أي مواصلة الناس من أهل الإسلام ونقل ما يصنعون إلى إخوانهم الكفرة (واطّلع عليه) أي وإلى ما انكشف عليه (من أسرار المنافقين) أي فيما بينهم (وكفرهم) أي من جهة تواطئهم كما ظهر منهم في غزوة تبوك وهم سائرون بين يديه انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأعلمهم به فقالوا لا ما كنا في شيء من أمرك بل كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر فوبخهم الله وكذبهم بقوله تعالى قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (وقولهم فيه) أي ومن تكلمهم في حقه عليه الصلاة والسلام (وفي المؤمنين) أي من أصحابه الكرام كما وقع لرئيس المنافقين عبد الله بن أبي حين قال لأصحابه وقد استقبله نفر من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر فقال مرحبا بسيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله ثم أخذ بيد عمر فقال مرحبا بسيد بني عدي الفارق في دين الله ثم أخذ بيد علي فقال مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله تعالى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 وسلم وخنتنه ثم افترقوا فقال لأصحابه كيف رأيتموني فعلت فأثنوا عليه فنزلت فيهم وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ الآيات (حتّى إن) مخففة (كان بعضهم) أي المنافقين (ليقول لصاحبه) أي رفيقه إذا طعن في الإسلام وأهله (اسكت) أي من نحو هذا الكلام (فو الله لو لم يكن عنده من يخبر) أي شيء من الأشياء (لأخبرته حجارة البطحاء) أي صغار الحصى كما وقع يوم فتح مكة حين دخل النبي عليه الصلاة والسلام في البيت وأمر بلالا أن يؤذن فقال عتاب بن أسيد لقد أكرم الله أسيدا أنه لم يسمع هذا فقال الحارث بن هشام أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته وفي رواية أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا فقال أبو سفيان لا أقول شيئا تكلمت لأخبرته عني هذه الحصباء فلما خرج قال لهم لقد علمت الذي قلتم وأخبرهم فقال عتاب والحارث نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك، (وإعلامه) أي ومن إخباره عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين عن عائشة (بِصِفَةِ السِّحْرِ الَّذِي سَحَرَهُ بِهِ لَبِيدُ بْنُ الأعصم) أي من يهود (وكونه) أي من كون سحره (في مشط) بضم الميم وسكون المعجمة وتثلث وبضمهما ما يمشط به (ومشاقّة) وفي نسخة صحيحة ومشاطة وكلاهما بضم أولهما بمعنى وهو ما يسقط من الشعر عند امتشاطه (في جفّ طلع نحلة) بضم الجيم وتشديد الفاء أو وعائه في غشائه الذي يكون فوقه ويروى جب بالموحدة وهما بمعنى وهو داخلها وقوله (ذكر) بفتحتين صفة طلع أو نخلة على أن التاء للوحدة كالنملة وليس بفعل ماض معلوم أو مجهول كما يتوهم من أقوال الدلجي (وأنّه) أي السحر فيما ذكر (ألقي في بئر ذروان) بفتح الذال المعجمة وسكون الراء وهي بالمدينة بستان لبني زريق ويقال له بئر ذي أروان كذا في مسلم وكلاهما صحيح وما في مسلم أصح وادعى ابن قتيبة أنه الصحيح ذكره النووي وأما بالواو قبل الراء فموضع بين قديد والجحفة (فكان) أي فوقع الأمر (كما قال) أي من خبر السحر، (ووجد على تلك الصّفة) أي الهيئة من كونه في مشط ومشاطة، (وإعلامه) أي ومن إخباره (قريشا) كما رواه البيهقي عن الزهري (بأكل الأرضة) بفتح الهمزة والراء دويبة تأكل الخشب (ما في صحيفتهم التي تظاهروا) أي تعاونوا وتناصروا (بِهَا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَقَطَعُوا بِهَا رَحِمَهُمْ) أي قرابتهم ممن بينهم وبينهم نسب يجمعهم (وأنّها) أي وبأن الأرضة (أبقت فيها كلّ اسم لله) وقد روى ابن أبي الدنيا في سيرته مرسلا أنها لم تترك فيها اسما لله إلا لحسته وبقي فيها ما كان من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم وقد ذكر الروايتين أبو الفتح اليعمري في سيرته ولعل القضية متعددة أو وقع وهم لبعض في قلب الرواية والمذكور في الأصل هو الأنسب بالدراية فإن لله الأسماء الحسنى باقية على صفحات الدهر بالنعت الأسنى ثم رأيت الحلبي احتار أن كونها لحست اسم الله أقوى وإن كان فيه ابن لهيعة وهو مرسل والآخر ذكره ابن هشام انتهى ولا يخفى أن التعارض إذا وقع فيجمع مهما أمكن وإلا فيرجح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 وإلا فيحمل على التعدد إذا تصور بأن يقال علقت واحدة في الكعبة وأخرة عندهم والله تعالى اعلم (فوجدوها) أي الصحيفة (كما قال) أي من أكل بعض ما فيها وإبقاء باقيها (ووصفه) عطف على إعلامه أي ونعته عليه الصلاة والسلام (لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ بَيْتَ الْمَقْدِسِ حِينَ كَذَّبُوهُ فِي خبر الإسراء) أي في صبيحة ليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى منتهيا إلى السماء (ونعته إيّاه) أي بيت المقدس لهم على ما مر (نعت من عرفه) أي كنعت من عرفه حق معرفته (وإعلامهم) أي وإعلامه إياهم (بعيرهم) بكسر العين أي بقافلة إبلهم (التي مرّ عليها في طريقه) أي حين رجع من مسيره إلى مقام تحقيقه (وإنذارهم) أي أعلامهم (بوقت وصولها) وأن جملا أورق يقدمها في يوم كذا قبل أن تغيب الشمس في مغربها (فكان) أي فوقع ذلك (كلّه كما قال) أي كما أخبره صلى الله تعالى عليه وسلم (إلى ما) أي مع مَا (أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَكُونُ) أي ستوجد ويأتي أمرها (ولم تأت بعد) بضم الدال أي ولم تقع عقب زمن إخباره بل ستأتي بعد أزمان متباعدة عن آثاره (منها) أي من الحوادث التي تكون (ما ظهرت مقدّماتها) بكسر الدال المشددة وتفتح وفي نسخة مقدماته (كقوله) أي فيما رواه أبو داود (عمران بيت المقدس) بضم العين أي كثرة عمارته باستيلاء الكفار على إمارته (خراب يثرب) أي سبب خراب المدينة المشرفة وضعف جماعته (وخراب يثرب خروج الملحمة) أي علامة ظهور الحرب والفتنة، (وخروج الملحمة فتح القسطنطينيّة) بضم القاف والطاء الأولى وتفتح وبكسر الطاء الثانية وبعدها ياء ساكنة فنون وتاء تأنيث كذا في النسخ المصححة وفي رواية السجزي بزيادة مشددة وهي دار ملك الروم ثم كل سابقة مما ذكر علامة مستعقبة للاحقة وفي حاشية الحجازي وقسطنطينية ويروى بلام التعريف وفيها ست لغات فتح الطاء الأولى وضمها مع تخفيف الياء الأخيرة ومع تشديدها ومع حذفها وحذف النون والقاف مضمومة بكل حال ثم اختلفوا هل افتتحت أم لا فقيل كان ذلك في زمن عمر أو عثمان وقيل لا بل إنما ستفتح مع قيام الدجال والله تعالى أعلم بالحال (ومن أشراط السّاعة) أي وإلى ما أخبر به من علاماتها المتقدمة كما في الصحيحين أن من اشراط الساعة أن يرفع العلم ويكثر الجهل والزنا وشرب الخمر وتقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم والواحد (وآيات حلولها) أي علاماته المؤذنة بوقوعها وحصولها لحديث مسلم لن تقوم الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوفات خسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم (وذكر النّشر والحشر) أي ومن ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم إياهما في أشراط الساعة فالمراد بهما ما يقع قبل القيامة من التفرقة والجمع كما حكى النووي عن العلماء من أن آخر أشراطها في الدنيا قبل النفخة الأولى نفخة الصعق أي الموت بدليل ذكره مع آيات حلولها ولقوله عليه الصلاة والسلام ويحشر بقيتهم النار تبيت معهم وتقيل معهم كما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 حديث مسلم يحشر الناس أي أحياء إلى الشام على ثلاث طرائق راغبين راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير ويحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا وأما ما بعد بعثهم من القبور فعلى خلاف هذه الصفة من ركوب الإبل والتعاقب عليها بل هو على ما ورد من كونهم حفاة عراة غرلا كما بدأكم تعودون هذا ووقع في أصل الدلجي والنشر بعد الحشر وفسره بالبعث وهو إعادة ما افناه ولا يخفى أنه لا يناسب المقام مع أنه لغة غير مطابق للمرام فالصواب ما قدمناه في الأصل من النسخ المصححة المشيرة إلى أن الحشر بعد النشر في علامات الساعة بخلاف يوم القيامة فإن الحشر قبل النشر لأنه يجمع الخلق أولا ثم يفرق بينهم كما أخبر عنه سبحانه وتعالى بقوله فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، (وأخبار الأبرار) جمع بر أو بار أي وذكر أخبارهم بما يسرهم مجملا وتفصيلا لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم إخبارا عن الله سبحانه وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (والفجّار) جمع فاجر من فاسق وكافر وأخبارهم أي بما يسوؤهم كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم إن التجار يوم القيامة يبعثون فجارا إلا من اتقى الله وصدق، (والجنّة، والنّار) أي ومن ذكرهما (وعرصات القيامة) أي وذكر مواقفها من الميزان والحوض والصراط وغيرها وكان الأنسب تأخير الجنة والنار عن عرصات القيامة هذا وإن أردت تفصيل ذلك في الجملة فعليك بكتاب شيخ مشايخنا جلال الدين السيوطي المسمى بالبدور السافرة في أحوال الآخرة. (وبحسب هذا الفصل) بسكون السين والياء زائدة كما في قولهم بحسبك درهم أي حسبك والمعنى كفى هذا الفصل من كماله في الفضل (أن يكون ديوانا مفردا) أي دفترا منفردا (يشتمل على أجزاء وحده) أي متوحدا غير منضم إلى غيره (وَفِيمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ نُكَتِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذكرناها كفاية) أي غنية لمن له دراية (وأكثرها في الصّحيح) أي رواية (وعند الأئمّة) أي من كتب أصحاب السنة (والله ولي التوفيق) أي بالهداية في البداية والنهاية. فصل [في عصمة الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم من الناس وكفايته من آذاه] (في عصمة الله تعالى له) أي في وقايته وحمايته (من الناس وكفايته من آذاه) أي وكفاية الله إياه شر من آذاه ممن عاداه ويروى وكفاية من آذاه (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ) أي يمنعك منهم ويكفيك عنهم (وَقَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] ) أي بمرأى منا ومرعى في حفظنا وجمع العين مناسبة لضميرها أو مبالغة في تعبيرها (وقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] ) وفي إنكار النفي مبالغة في إثبات الكفاية (قيل بكاف محمّدا صلى الله تعالى عليه وسلم أعداءه المشركين) فالمراد بعبده الفرد الأكمل أو المعهود الأفضل ويؤيده أن المشركين كانوا يقولون له إنا نخاف أن يعتريك آلهتنا بسوء لتعييبك إياها وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها فقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 سادنها إني أحذركها يا خالد إن لها شدة لا يقوم لها شيء فعمد إليها خالد فهشم انفها فنزل أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي مما لا يقدر على نفع وضر في نفسه (وقيل) أي في معنى الآية (غير هذا) أي القول بقصر الكفاية على محمد بل كافيه ولا كافي غيره فتكون الإضافة للجنس ويؤيده قراءة حمزة والكسائي أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ بصيغة الجمع (وَقَالَ: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحِجْرِ: 95] وَقَالَ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30] الآية) وقد سبق معناهما وما يتعلق بمبناهما وقد قال الله تعالى أيضا فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي بالأقوال والأحوال. ( [أخبرنا القاضي الشّهيد أبو عليّ الصّدفيّ) بفتحتين وهو ابن سكرة (بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ وَالْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بن عبد الله المعافريّ) بفتح الميم وتضم وكسر الفاء هو الاشبيلي وهو المعروف بابن العربي سمع نصر بن إبراهيم المقدسي وطبقته وروى عنه جماعة توفي بفاس سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وهو على دابته بباب فاس وقد كان سقي سما فمات شهيدا مظلوما (قالا) أي كلاهما (حدّثنا أبو الحسين) بالتصغير وهو الصواب (الصّيرفيّ) وهو المبارك بن عبد الجبار (قال حدّثنا أبو يعلى البغداديّ) وهو المعروف بابن زوج الحرة (حدّثنا أبو عليّ السّنجيّ) بكسر السين والجيم بينهما نون ساكنة (حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى الحافظ) أي الترمذي كما في نسخة وهو صاحب الجامع (حدّثنا عبد بن حميد) بالتصغير وتقدم أن هذا من غير إضافة (ثنا مسلم بن إبراهيم) أي الأزدي سمع ابن المبارك وغيره روي عنه البخاري وأبو داود والدارمي (ثنا الحارث بن عبيد) هو أبو قدامة الأيادي البصري روى عن ثابت الجوني أخرج له مسلم واستشهد به البخاري (عن سعيد الجريريّ) بضم الجيم وفتح الراء روى عن أبي الطفيل ويزيد بن الشخير وعنه شعبة ويزيد بن هارون (عن عبد الله بن شقيق) هو العقيلي البصري يروي عن عمر وأبي ذر والكبار وعنه قتادة وأيوب قال أحمد ثقة تحمل عن علي رضي الله تعالى عنه (عن عائشة) قال الحلبي أخرجه الترمذي في التفسير عن الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ عبد الله بن شقيق قال ولم يذكروا عائشة (قالت كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يحرس) بصيغة المجهول أي يحفظ من الأعداء (حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ) أي يحرسك من قتلهم إياك (فأخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأسه من القبّة) هي بيت صغير من الخيام مستدير من بيوت العرب (فقال لهم يا أيّها النّاس انصرفوا) إلى رحالكم وكونوا على حالكم (فقد عصمني ربّي عزّ وجلّ) أي فقد تكفل بعصمتي ومحافظتي من كيد أعدائي من غير واسطة لي (وروي أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا اخْتَارَ له أصحابه شجرة يقيل) بفتح الياء وكسر القاف أي يستريح (تحتها) من القيلولة وهي نوم نصف النهار ومنه قوله تعالى أَوْ هُمْ قائِلُونَ ومنه شعر الهاتف بمكة في حديث الهجرة إلى المدينة: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 أي نزلا فيها عند القائلة وهي وقت الاستراحة من الظهيرة (فأتاه أعرابيّ) أي بدوي (فاخترط سيفه) أي سله من غمده ومرجع الضمير إما هو عليه السلام وإما الأعرابي (ثُمَّ قَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي فَقَالَ اللَّهُ) أي الله يمنعني منك (فرعدت) وفي نسخة صحيحة فرعدت بالبناء للمفعول فيهما وفي نسخة فارتعدت ويروى فذعرت بذال معجمة من الذعر وهو الفزع لكن لا يلائم إسناده إلى قوله (يد الأعرابيّ) أي إصابته رعدة وحركة مضطربة من الخوف (وسقط سيفه) في أصل الدلجي وسقط السيف من يده (وضرب برأسه الشّجرة حتّى سال دماغه) أي دما ونحوه (فنزلت الآية) أي آية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وما رواه من الزيادة فغير معروف عند أرباب الدراية، (وقد رويت هذه القصّة) أي مثلها (في الصّحيح) أي للبخاري وغيره (وأنّ غورث بن الحارث) فوعل آخره مثلثة ويهمل أوله ويعجم مكبرا ومصغرا كما في الرواية الأخرى وتقدم أنه اسلم وصحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وروي أنه دعثور فعلول كبهلول وعينه مهملة ذكره التلمساني (صَاحِبُ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا عَنْهُ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ وَقَدْ حكيت) في نسخة وهي الأولى وقد حكي (مثل هذه الحكاية أنّها) وفي نسخة وَأَنَّهَا (جَرَتْ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدِ انْفَرَدَ من أصحابه) جملة حالية (لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَذَكَرَ) بصيغة المجهول والمعلوم (مثله) أي مثل قوله من يمنعك أو مثل ما حكي من أنه اخترط سيفه الخ فرده الله خاسئا (وقد روي) أي كما في سيرة ابن إسحاق الكبرى موصولا عن جابر بن عبد الله (أنّه وقع له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام (مثلها في غزوة غطفان) بفتحتين قبيلة (بذي أمر) بفتحتين موضع معروف من ديارهم ويقال لها غزوة نجد أيضا وولي المدينة حينئذ عبد الله ابن أم مكتوم استعمله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليها حين خرج إليها محاربا لهم (مع رجل اسمه دعثور) بالضم (ابن الحارث) أي الغطفاني والظاهر أن الخبرين واحد ويؤيده قول الذهبي في تجريده الأشبه أنه غورث بن الحارث وقال الحجازي ويروى غويرث (وأنّ الرّجل) أي المشار إليه (أَسْلَمَ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ الَّذِينَ أَغْرَوْهُ) من الإغراء أي الزموه وحثوه على فعله هذا وفي نسخة أغووه أي أضلوه (وكان) أي الرجل (سيّدهم) أي رئيسهم (وأشجعهم) جملة معترضة (قالوا له أين ما كنت تقول) أي من دعوى القدرة وإظهار الشجاعة (وقد أمكنك) أي والحال أنك قد تمكنت من الفتك فيه (فَقَالَ إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ أَبْيَضَ طَوِيلٍ دفع في صدري فوقعت لظهري) وفي نسخة إلى ظهري (وسقط السّيف) أي من يدي (فعرفت أنّه ملك وأسلمت؛ قيل وفيه نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة: 11] ) أي قصدوا أن يمدوها فتكا وأهلاكا (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي فمنعها الله أن تمد إليكم (الآية) تمامها وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وفي رواية أن المشركين رأوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بعسفان قد صلوا الظهر جميعا فندموا أن لا كانوا أكبوا عليه وهموا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 يوقعوا بهم فعلا إذ قاموا إلى صلاة العصر فنزلت صلاة الخوف وقيل أتى صلى الله تعالى عليه وسلم بني قريظة ومعه الخلفاء الأربعة يستقرضهم دية مؤمنين قتلهما عمرو بن أمية خطأ ظنهما كافرين فقالوا نعم يا أبا القاسم اجلس نطعمك ونقرضك فجلس في صفة فهموا بقتله فعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله يده فأخبره جبريل فخرجوا من عندهم سالمين. (وَفِي رِوَايَةِ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ غَوْرَثَ بْنَ الْحَارِثِ) وفي نسخة غويرث مصغرا واختاره الحلبي وتبعه الحجازي وروى الخطابي أن غورث أو غويرث بن الحارث المحاربي على الشك أهو بالغين المهملة والمعجمة ولم يشك في التصغير والمشهور ما ذكره الحافظ المزي أن غورث بالمعجمة غير مصغر كما أورده المصنف فيما تقدم والله سبحانه وتعالى اعلم (المحاربيّ) بضم الميم وكسر الراء والموحدة (أراد أن يفتك) بكسر التاء الفوقية وتضم وحكي الفتح أيضا أي يأخذ على غرة وغفلة باطشا (بالنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بقتله فجأة (فلم يشعر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بِهِ (إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ مُنْتَضِيًا) بالضاد المعجمة والتحتية أي سالا (سَيْفَهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِ بِمَا شِئْتَ فَانْكَبَّ من وجهه) أي انقلب أو سقط ومن ابتدائية أو بمعنى على وفي أصل الدلجي فاكب لوجهه أي عليه (من زلّخة) بضم زاء وتشديد لام مفتوحة فخاء معجمة وقيل مشددة (زلّخها) بضم أوله وكسر ثانيه مخففة أي من أجل زلخة (بين كتفيه وندر) أي خرج وسقط (سيفه من يده والزّلّخة وجع الظّهر) أي بحيث لا يتحرك من شدته ويروى بتخفيف اللام من الزلخ وهو الزلق (وقيل في قصّته) أي قصة غورث (غير هذا) أي ما ذكر من نوع آخر وهو ما روي أنه أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو عليه السلام متقلد بسيفه قال ابن هشام وكان محلى بفضة فقال يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومرة إلى السقف فقال من يمنعك مني يا محمد قال الله فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فشام السيف ومضى فأنزل الله هذه الآية، (وذكر) بصيغة المجهول أي وذكر بعضهم وفي أصل الدلجي ذكر بصيغة الفاعل أي ذكر الخطابي (أنّ فيه) أي في غورث (نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ [الْمَائِدَةِ: 11] الْآيَةَ) أي كما سبقت (وقيل كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخاف قريشا) أي من أن يقتلوه أو يخذلوه (فلمّا نزلت هذه الآية) أي ونحوها من قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وما اخترنا من الجمع بينهما أولى مما قال الدلجي أي هذه الآية أو وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ (استلقى) جواب لما أي رقد على قفاه أو كناية عن استراح من أذى من آذاه (ثمّ قال من شاء فليخذلني) أو من شاء فلينصرني فإن ربي لا يخذلني فالأمر للتهديد نحو قوله تعالى فمن شاء فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ أو المعنى فليخذلني أي فليقتلني فإنه لا يقدر على ذلك فالأمر للتعجيز. (وَذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ كَانَتْ حَمَّالَةُ الحطب) وهي العوراء أخت أبي سفيان بن حرب زوجة أبي لهب عم النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل بنت هشام أخت أبي جهل (تضع العضاة) بكسر العين وفي آخر الكلمة هاء وقفا ووصلا وهي أشجار عظام ذات شوك ولعل التقدير ترمى شوكها وقد تصحف على الحلبى حيث ضبط بفتح الغين والضاد المعجمتين وهو مخالف لما في الأصول المعتمدة والحواشي المعتبرة (وهي جمر) جملة حالية ولعل المراد تشبيه الشوك بالجمرة حال حدتها فإن الجمرة هي النار المتوقدة ثم اعلم أن بعضهم ذكر في معناه أنه شجر لجمره حرارة شديدة وقد قال أهل التفسير إنها كانت تضع الشوك ولذا سميت حمالة الحطب على أحد الأقوال ولعلها كانت تضع الشوك مرة والجمر أخرى أو كانت تجمع بينهما والله تعالى أعلم (على طريق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يمشي عليها (فكأنّما يطؤها كثيبا أهيل) بفتح فسكون فتحتية فلام وروي بميم وهما بمعنى أي رملا سائلا حيث لم يتضرر بها (وذكر ابن إسحاق عنها) أي عن حمالة الحطب ورواه أبو يعلى والبيهقي وابن أبي حاتم عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهما (أنّها) أي حمالة الحطب (لَمَّا بَلَغَهَا نُزُولُ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] ) وزيد في نسخة وتب (وذكرها) أي وبلغ ذكر الله إياها (بِمَا ذَكَرَهَا اللَّهُ مَعَ زَوْجِهَا مِنَ الذَّمِّ) أي بقوله وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (أتت رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أبو بكر وفي يدها فهر) بكسر الفاء وسكون الهاء بعدها راء حجر ملء الكف (فلمّا وقفت عليهما) أي قريبا من مكانهما (لم تر) جواب لما أي ما رأت (إلّا أبا بكر وأخذ الله ببصرها) أي صرفه وحجبه (عن نبيه عليه الصلاة والسلام فَقَالَتْ يَا أَبَا بَكْرٍ أَيْنَ صَاحِبُكَ فَقَدْ بلغني أنّه يهجوني) أي يذمني (والله لو وجدته) أي حاضرا ولو صادفته (لضربت بهذا الفهرفاه) أي فمه فرجعت خائبة خاسئة، (وعن الحكم بن أبي العاص) والد مروان بن الحكم عم عثمان بن عفان اسلم يوم الفتح وقد روى أبو نعيم في الدلائل والطبراني بسند جيد عنه (قال تواعدنا) أي اجتمعنا وتمالأنا معشرا من الكفار (على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على قتل النبي المختار واستمر هذا الإصرار (حتّى إذا رأيناه) أي في موضع (سمعنا صوتا خلفنا) أي صوتا عظيما من ورائنا (ما ظننّا أنّه بقي بتهامة) أي بأرضها والمراد بها هنا مكة (أحد) أي حيا هكذا في الأصول بقي ووقع في أصل الدلجي لم يبق فتكلف بل تعسف حيث قال الظن وإن لم به حرف النفي فليس بمنفي بل المنفي ظنا هو البقاء أي ظننا أنه لم يبق بتهامة أحد هذا وتهامة أولها من ذات عرق إلى البحر (فوقعنا) أي سقطنا (مغشيّا علينا) أي من فزع ما سمعنا وهول ما ظننا (فما أفقنا) أي ما انتبهنا (حتّى قضى صلاته) أي فرغ عليه الصلاة والسلام منها (ورجع إلى أهله) أي مضى كما في نسخة (ثمّ تواعدنا ليلة أخرى فجئنا) أي قاصدين له (حتّى إذا رأيناه) أي خاليا في مكان (جاءت الصّفا والمروة) أي حضرتا أو تصور شيء بصورتهما (فحالت بيننا وبينه، وعن عمر تواعدت أنا وأبو جهم بن حذيفة) بالرفع هو عبد الله بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 حذيفة بن غانم العدوي اسلم عام الفتح وصحب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان مقدما في قريش معظما وكانت فيه وفي بنيه شدة وقد أدرك بنيان الكعبة حين بناها ابن الزبير فعمل فيها ثم قال قد عملت في الكعبة مرتين مرة في الجاهلية بقوة غلام يافع وفي الإسلام بقوة شيخ فان وهو صاحب الأنبجانية (ليلة) أي من الليالي حال غفلة (قتل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) بالنصب على نزع الخافض وهو علي كما في نسخة صحيحة (فجئنا منزله) أي لنتفحص حاله (فسمعنا له) أي صوتا وفي نسخة فتسمعنا له أي لصوته (فافتتح) أي ابتدأ القراءة (وقرأ الْحَاقَّةُ) أي الساعة الواجب وقوعها الثابت مجيئها ويحقق الأمور فيها وتعرف حقيتها مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1- 2] ) خبر المبتدأ أي أي شيء هي فوضع المظهر موضع المضمر تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها (إِلَى فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 8] ) أي ما ترى لهم من بقية أو بقاء أو نفس باقية وما بينهما من معلوم القرآن وتفسيره مما لا يحتاج إلى البيان (فَضَرَبَ أَبُو جَهْمٍ عَلَى عَضُدِ عُمَرَ وَقَالَ) عمر (انج) أمر من نجا ينجو (وفرّا) وفي نسخة ففرا أي ذهبا كلاهما (هاربين) أي شاردين وفيه مبالغة لا تخفى (فكانت) أي القضية وقال الدلجي أي المواعدة أو قراءة الحاقة (من مقدّمات إسلام عمر) أي مقتضياته وكذا من إسلام أبي جهم على ما تقدم (ومنه) أي ومن قبيل أخذ بصر الأعداء محافظة لسيد الأحباء (العبرة المشهورة) بكسر العين وهي ما يعتبر من القضية العامة (والكفاية التّامّة عند ما أخافته قريش) أي خوفوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وأجمعت) وفي نسخة واجمعت أي عزمت (على قتله وبيّتوه) بتشديد التحتية أي دبروه ليلة ليقتلوه غيلة على غرة وغفلة (فخرج عليهم من بيته) كما رواه ابن إسحاق والبيهقي عنه عليه الصلاة والسلام (فقام على رؤوسهم وقد ضرب الله على أبصارهم) أي حجبها عن رؤيته (وذرّ التّرّاب) بذال معجمة فراء مشددة أي نثره وفرقه (على رؤوسهم) قال الحلبي وكانوا مائة وفي نسخة بتخفيف الراء فهمزة وهو تصحيف وتحريف (وخلص منهم) أي نجا وتخلص من غير أن يصيبه شيء وفي رواية أنه خرج من ظهر البيت طأطأت له جارية اسمها مارية خادمته عليه الصلاة والسلام حتى تسور الجدار الذي للبيت من ظهره (وحمايته) أي ومنه حفظه بحجبه (عن رؤيتهم) أي له ولأبي بكر (في الغار) متعلق بأحد المصدرين وقال الدلجي حال والتقدير وهما في الغار وهو تكلف بل تعسف (بما هيّأ الله) أي قدره (له من الآيات) أي من خوارق العادات (ومن العنكبوت) عطف بيان لبعض ما قبله (الّذي نسج عليه) أي على باب الغار وهو غار ثور جبل يمنة مكة (حتّى قال أميّة بن خلف) وهو ممن مات كافرا (حين قالوا) أي أصحابه (ندخل الغار) بصيغة الاخبار على تقدير الاستفهام وروي أدخل فعل أمر أي رجاء أن يكون فيه مخفيا (ما أربكم فيه) بفتح الهمزة والراء وهو مقول أمية أي شيء حاجتكم الداعية لدخولكم في الغار (وعليه من نسج العنكبوت ما أرى) بضم الهمزة وفتحها أي شيء أظن (أنّه قبل أن يولد محمّد) أي كائن أو موجود على باب الغار وفي نسخة إن هو إلا من قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 أن يولد محمد وفي نسخة ما رابكم بدل ما اربكم أي أي شيء أوقعكم في الريبة وشبه المظنة أنه في الغار والحال الخ (ووقفت) بالفاء وروي بالعين أي سقطت (حمامتان على فم الغار) وهو نقب في الكهف (فقالت قريش) أي كلهم أو بعضهم (لَوْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ لَمَا كَانَتْ هُنَاكَ الحمام) أي لكمال نفرته عن الأنام (وقصّته) أي ومن ذلك قصته عليه السلام كما رواه الشيخان عن البراء (مع سراقة بن مالك بن جعشم) بضم جيم وشين معجمة (حين الهجرة) بكسر الهاء وقال التلمساني بفتح وبكسر (وقد جعلت قريش فيه) أي في حق النبي (وفي أبي بكر) أي في أخذهما (الجعائل) جمع جعيلة أو جعالة بالفتح وهي الأجرة على شيء فعلا أو قولا والجعل بالضم الاسم وبالفتح المصدر فتدبر وقد عين السهيلي ذلك فقال بذلت قريش مائة ناقة لمن يرد عليهم محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم (فأنذر به) على بناء المفعول أي فاعلم سراقة بتوجهه صلى الله تعالى عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة (فركب فرسه واتّبعه) بتشديد الفوقية أي تبعه رجاء أن يلحقه (حتّى إذا قرب) بضم الراء أي دنا (منه دعا عليه النّبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لما رأى عليه من آثار الشر وتوهم الضر (فساخت) بالخاء المعجمة أي غاصت وغابت في الأرض وانخسفت (قوائم فرسه فخرّ عنها) أي فسقط أو فنزل عنها (واستقسم بالأزلام) جمع زلم بفتحتين أو بضم ففتح وهي سهام لا ريش بها ولا نصل كان يكتب على أحدها أفعل وعلى الآخر لا تفعل وغيرها غفل وكان محلها داخل الكعبة عند السدنة كما في تفسير قوله تعالى وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وكان بعضهم يضعها في متاعه أو جعبته فإذا عرض له مهم أخرج منها سهما فإن خرج له افعل فعل أو لا تفعل انفعل وان خرج الغفل أعاد العمل وقيل كان المكتوب على الواحد أمرني ربي وعلى الثاني نهاني ربي والثالث غفل لا شيء عليه وقيل إن الازلام حصى بيض كانوا يضربون بها لذلك والأول أعرف وأصل معنى استقم ضرب بها لإخراج ما قسم الله له من أمره ونهيه وطلب معرفة تمييزه بكونه ان خرج له ما يحب فعله أو خرج له ما يكره كف عنه وهذا كله بناء على زعمه (فخرج له ما يكره) أي من الفال وعلى كل فال مع هذا ما التفت عن تلك الحال (ثُمَّ رَكِبَ وَدَنَا حَتَّى سَمِعَ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم وهو) أي النبي (لا يلتفت) أي إليه أو مطلقا (وأبو بكر يلتفت) أي إلى سراقة أو إلى جوانبه أو إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وقال للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أتينا) بصيغة المجهول أي لحقنا من طلبنا أو لحقونا أو أتانا البلاء وجاءنا العناء (فقال لا تحزن إنّ الله معنا) أي ناصرنا ومعيننا أو معية خاصة من قرب الرب إلينا وفيه إيماء إلى ما ورد من أن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة. (فساخت) أي قوائم فرسه (ثانية) أي مرة أخرى (إلى ركبتيها وخرّ عنها فزجرها) أي صاح عليها ونهرها (فنهضت) أي فقامت ووثبت (ولقوائمها مثل الدخّان) بتخفيف الخاء وتشدد أي من آثار الغبار المرتفع (فناداهم) أي النبي والصديق وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر (بالأمان) أي بطلبه (فكتب له النّبيّ أمانا) أي أمر بكتابته لقوله (كتبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 ابن فهيرة) بضم الفاء وفتح الهاء وسكون الياء كان أسود وهو ممن عذب في الله قتل ببئر معونة والتمس ليدفن فلم يوجد فرأوا أن الملائكة دفنته وهو قديم الإسلام اسلم قبل أن يدخل عليه السلام دار الأرقم بن أبي الأرقم ثم ما تقدم هو في الصحيح قال التلمساني اشتراه أبو بكر من الطفيل بن عبد الله بعد ما اسلم فأعتقه وكان يرعى الغنم في جبل ثور ثم يروح بها على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر في الغار وكان رفيقهما إلى المدينة حين هاجرا وشهد بدرا وأحدا وقتله عامر بن الطفيل يوم بئر معونة يروى عنه أنه قال حين طعنت ابن فهيرة رأيت نورا خرج من الطعنة (وقيل أبو بكر) أي ونقل في السيرة أنه كتبه أبو بكر وجمع بأن عامرا كتبه أولا فلم يرض سراقة إلا بكتابة أبي بكر لسيادته المعروفة في قريش وأن عامرا مولاه قال الحلبي وكتابه عليه الصلاة والسلام نيف وأربعون نفرا ومنهم الخلفاء الأربعة وأكثرهم ملازمة لكتابه عليه السلام زيد بن ثابت ثم معاوية بن أبي سفيان بعد الفتح ذكر ذلك غير واحد من الحفاظ انتهى وقيل معاوية لم يكتب الوحي وإنما كتب غيره والله تعالى أعلم (وأخبرهم) أي سراقة (بالأخبار) أي أخبار الأغيار من كفار قريش وما جعلوه من الجعائل فيهما (وأمره النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا يترك أحدا) أي ممن يلقاه من ورائه (يلحق بهم) بل يدفعه عن اتصاله إليهم ويلحق بالرفع وهو حال وفي نسخة بالنصب ووجهه إسقاط إن وابقاء عملها وهو قليل ومعناه هنا بعيد جدا (فانصرف) أي سراقة (يقول للنّاس) أي المقبلين لطلبهم (كفيتم) بصيغة المجهول (ما ههنا) أي ما يتصور وجوده في جهتها أو المعنى ليس أحد ممن تطلبونه ههنا وأغرب التلمساني في قوله أمنتم من خوفكم وعصمتم مما هنا (وقيل بل قال لهما) أي سراقة (أراكما دعوتما عليّ) أي بالمضرة (فادعوا لي) أي بالمنفعة (فنجا) أي بعد ما دعوا له (وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ ظُهُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي فكان من مقدمات إسلامه (وفي خبر آخر) غير معروف عند أهل الأثر (أنّ راعيا عرف خبرهما) أي من أنهما توجها إلى صوب المدينة ونحوها (فخرج) أي من مكانه (يشتدّ) أي يعدو عدوا سريعا (يعلم) أي حال كونه يريد أن يعلم وفي نسخة ليعلم (قريشا) أي بأحوالهما (فلمّا ورد مكّة ضرب) بصيغة المفعول أي ضرب بعض حجبه (على قلبه) وحبس على خاطره (فما يدري ما يصنع) أي من كمال الذهول والغفلة والدهشة والوحشة (وأنسي ما خرج له) أي لأجله وفي نسخة إليه أي إلى حصوله (حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ وَجَاءَهُ فِيمَا ذَكَرَ ابن إسحاق) في المغازي (وغيره) كأبي نعيم في الدلائل عن ابن عباس أنه أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أبو جهل بصخرة وهو) أي والحال أنه عليه الصلاة والسلام (ساجد وقريش ينظرون) أي إليه كما في نسخة (ليطرحها عليه) وحلف لئن رآه ليدمغنه (فلزقت) بكسر الزاء أي لصقت كما في رواية (بيده ويبست) بكسر الموحدة أي جفت (يداه إلى عنقه) أي مغلولتين إليه وممنوعتين من الحركة لديه في طرحها عليه (وأقبل يرجع) أي وشرع راجعا (القهقرى) بفتح القافين مقصورا هو الرجوع إلى الوراء فقوله (إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 خلفه) تأكيدا لما قبله أو تجريد لمعناه من أصله (ثمّ سأله) أي أبو جهل (أن يدعو له ففعل) أي دعا له ولم يؤاخذه كرما وشفقة وحلما ولما كان بينهما قرابة ورحما مما يقتضي لطفا ورحما (فانطلقت يداه) أي عقب ما دعا الله تعالى (وكان) أي أبو جهل (قد تواعد مع قريش بذلك) أي بطرح صخرة عليه (وحلف) أي عندهم (لئن رآه) أي ساجدا كما في نسخة (ليدمغنّه) أي ليصيبن دماغه وليهلكنه (فسألوه عن شأنه) أي عن رجوعه بعد ظهور طغيانه (فذكر أنّه عرض لي) وفي نسخة له أي ظهر (دونه) أي بين يديه أو حواليه (فحل) أي من الإبل أو نحوه (ما رأيت مثله) أي عظمة وهيبة (قطّ) أي أبدا (همّ) وفي نسخة فهم (بي) أي قصدني (أن يأكلني فقال النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك جبريل) أي تمثل له بصورة الفحل (لو دنا) أي قرب مني (لأخذه) أي أخذ عزيز مقتدر، (وَذَكَرَ السَّمَرْقَنْدِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ) وهو أبو جهل بن هشام بن المغيرة أو أحد أقاربه (أتى النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلَهُ فَطَمَسَ اللَّهُ عَلَى بَصَرِهِ) أي محا قوة نظره (فلم يره) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة (النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ قَوْلَهُ فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ) أي وهو أعمى (فلم يرهم حتّى نادوه) أي فعرف مكانهم ثم رآهم أو استمر على عماه (وذكر) أي السمرقندي (أنّ في هاتين القّصتين) أي قصة أبي جهل والنبي بعدها وروي القضيتين (نَزَلَتْ إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: 8] الآيتين) وفي نسخة إلى قوله مُقْمَحُونَ والإقماح رفع الرأس وغض البصر وقد روى أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس بلفظ أن ناسا من قريش قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم عمى لا يبصرون فقالوا ننشدك الله والرحم فدعا حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس إلى قوله لا يُؤْمِنُونَ، (ومن ذلك ما ذكره ابن إسحاق) أي وغيره كما في نسخة صححية كالكلبي في تفسيره (فِي قِصَّتِهِ إِذْ خَرَجَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ) وقال الحجا أي وغيره الذي ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير أن ذلك ما كان من بني النضير وهو سبب غزوهم لا من بني قريظة فإن سببهم غزوة الخندق ثم قريظة والنضير أخوان هما ابنا الخزرج من ذرية هارون أخي موسى عليه السلام بالتصغير قال الحلبي والصواب أن يقول بني النضير كما في سيرة ابن سيد الناس (في أصحابه) وفي نسخة في نفر من أصحابه أي مع جماعة منهم الخلفاء الأربعة فيهم (فجلس إلى جدار بعض آطامهم) بمد الهمزة أي أبنيتهم المرتفعة كالحصون فتخافتوا بينهم أنكم لن تجدوه على مثل هذه الحالة من يعلو على مثل هذا الجدار ويرسل عليه ما يقتله فقال سلام بن مشكم لا تفعلوا فو الله ليخبرن بما هممتم به وأنه ينقض ما بيننا وبينه من العهد وأما نقض بني قريظة فسببه غزوة الخندق لأنهم ظاهروا قريشا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونقضوا العهد وسيأتي من عند السمرقندي أنه خرج إلى بني النضير فذكر القصة فهذه هي الصواب (فانبعث) أي فقام وأسرع أشقاهم (عمرو بن جحّاش) بفتح الجيم وتشديد الخاء أو بكسر وتخفيف والشين معجمة قتل كافرا (أحدهم) وفي نسخة منهم أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 أحد منهم (ليطرح عليه رحى) بالقصر ويمد (فقام النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بعد إخبار جبريل بذلك كما سيأتي (فانصرف إلى المدينة) أي وتبعه أصحابه (وأعلمهم) أي بعد إنصرافه أو قبله (بقصّتهم) أي تمالئهم على قتله (وقد قيل إنّ هذه الآية) وفي نسخة أن قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ [الْمَائِدَةِ: 11] الْآيَةَ) أي بتمامها (في هذه القصّة) أي قصة بني النضير (نزلت وحكى السّمرقنديّ أنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (خَرَجَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُ فِي عَقْلِ الكلابيّين) أي في دية الاثنين من قبيلة بني كلاب بكسر أوله (اللّذين قتل) أي قتلهما كما في رواية (عمرو بن أميّة) أي الضمري وفي نسخة الكلابي الذي قتله عمرو بن أمية فالمراد به الجنس إذ صرح أبو الفتح اليعمري في السيرة أنهما من بني عامر وقتلهما عمرو على ظن أنهما كافران بعد قتل أصحابه ببئر معونة ورجوعه إلى المدينة عتيقا لعامر بن الطفيل العامري وذلك للجوار الذي كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عقده إذ كان بني نبي النضير وبني عامر وحلف على يده صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يعلم به عمرو بن أمية (فقال) أي له كما في نسخة صحيحة (حييّ) بالتصغير (ابن أخطب) بالخاء المعجمة وهو أعدى عدوه عليه السلام (اجلس يا أبا القاسم حتّى نطعمك) أي نضيفك مع أصحابك (ونعطيك ما سألتنا) أي من الاستعانة في الدية (فجلس النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ الله عنهما وتوامر) بالواو والهمزة وهو أفصح أي تشاور (حييّ معهم) أي مع يهود (على قتله فأعلمه جبريل بذلك فقام) أي وحده (كأنّه يريد حاجته) أي قضاء حاجته واستمر على مشيته (حتّى دخل المدينة) فلما استلبث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه ثم سار إليهم وحاصرهم ست ليال فتحصنوا بحصونهم فقطع نخيلهم وحرقها تنكيلا لهم ثم قال لهم اخرجوا ولكم ما حملت الإبل فنزلوا على ذلك وحملوا على ستمائة بعير فلحقوا بخيبر وهذه القصة بعينها هي الأولى وكان هذه عند القاضي قضية أخرى والله تعالى أعلم بما هو أولى وأحرى هذا وحيي هذا والد صفية أم المؤمنين يهودي قتل على كفره مع بني قريظة صبرا (وذكر أهل التّفسير الحديث) أي السابق المروي (عن أبي هريرة) وفي نسخة ومعنى الحديث عن أبي هريرة وفي أصل الدلجي وعن أبي هريرة والحديث في صحيح مسلم وسنن النسائي (أنّ أبا جهل وعد قريشا) أي وحلف عندهم وعهد (لئن رأى محمّدا يصلّي ليطأنّ رقبته) وفي نسخة على رقبته أي ليضعن رجله فوق رقبته صلى الله تعالى عليه وسلم واللام جواب قسم محذوف أي والله لا موطئة للقسم كما توهم الدلجي (فلمّا صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تلبس بالصلاة (أعلموه) أي أخبروا أبا جهل (فأقبل) أي على قصد أذيته من وضع الرجل على رقبته (فلمّا قرب منه ولّى) أي أدبر (هاربا) أي فارا (ناكصا على عقبيه) أي راجعا إلى خلفه مخالفا لحلفه (متّقيا بيديه) أي متحفظا بهما لشيء ظهر عليه متوجها إليه (فسئل) أي عن سبب رجوعه واتقائه (فقال لمّا دنوت منه) أي قربت (أشرفت) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 أي اطلعت (على خندق) أي واد أو حفير (مملوء نارا كدت) أي قاربت (أهوي) بكسر الواو أي أسقط (فيه وأبصرت هولا عظيما) أي أمرا شديدا يهول ويفزع (وخفق أجنحة) أي وأبصرت ضرب أجنحة وتحريكها (قد ملأت) أي الأجنحة لكثرتها (الأرض) أي جميعها (فقال صلى الله تعالى عليه وسلم تلك) أي أصحاب تلك الأجنحة (الملائكة) أي لا الطيور (لو دنا) أي أبو جهل مني حينئذ (لاختطفته) أي أخذته الملائكة سرعة (عضوا عضوا) أي بأن وقع كل عضو وجزء منه في يد ملك أو جمع منهم (ثمّ أنزل على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كَلَّا) أي حقا (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ [العلق: 6] ) أي لأجل أن علم نفسه (استغنى) عن ربه (إلى آخر السّورة؛ ويروى) بصيغة المجهول وفي نسخة وروي والحديث لأبي نعيم في الدلائل (أن شيبة) وفي نسخة أن رجلا يعرف بشيبة (ابن عثمان الحجبيّ) بفتح الحاء والجيم منسوب إلى الحجبة جمع الحاجب بمعنى البواب فإنه كان من سدنة الكعبة المشرفة وفي نسخة الجمحي بالجيم المضمومة وفتح الميم فحاء وهي غلط كما صرح به الحلبي (أدركه) أي لحق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يوم حنين) وهو واد بقرب ذي المجاز أو ماء بقرب الطائف من الحجاز (وكان حمزة قد قتل أباه وعمّه) جملة معترضة مشيرة إلى الباعث على القضية من أخذ الثأر كما في عادة الجاهلية (فقال) أي عثمان (اليوم أدرك ثأري) بمثلثة وهمزة ويجوز تخفيفها أي دم حميمي من أبي وعمي بانتقامي فيه (من محمّد) أي بأن أقتله بدل حمزة فإنه ابن أخيه وهذا يرد من قال إنه اسلم يوم الفتح ولعله أظهر إسلامه ولم يحقق مرامه ثم إن التلمساني ضبط الثار بالتاء المثناة الفوقية وهو تصحيف وتحريف (فلمّا اختلط النّاس) أي اشتغلوا فيما بينهم من الحرب (أتاه) أي عثمان (من خلفه ورفع سيفه ليصبّه عليه) أي فيقتله (فقال فلمّا دنوت منه ارتفع إليّ) أي لدي (شواظ) بضم أوله ويكسر أي لهب (مِنْ نَارٍ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ فَوَلَّيْتُ هَارِبًا) أي حذرا منه (وأحسّ بي النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فدعاني) أي فجئته (فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إليّ) جملة حالية (فما رفعها) أي يده عني (إِلَّا وَهُوَ أَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَقَالَ لِي ادن) أي أقرب إلى العدو (فقاتل فتقدّمت أمامه أضرب) أي الناس (بسيفي وأقيه بنفسي) أي وأحفظه بدفع الناس عنه ووقايته منهم بتفدية نفسي (ولو لقيت أبي) أي والدي فرضا (تلك السّاعة لأوقعت به) أي بأبي وقتلته (دونه) أي دون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مجاوزا عنه أو مدافعا منه واعلم أن في السيرة لأبي الفتح اليعمري عن ابن سعد أن طلحة بن أبي طلحة وهو كسر بن الكتيبة صاحب اللواء قتله علي ثم حمل اللواء عثمان بن أبي طلحة فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره وبدا سحره أي رئته وفي التجريد والتهذيب للذهبي في ترجمة شيبة بن أبي طلحة أن عليا قتل أباه يوم أحد ذكره الحلبي ففي نسبة قتلهما إلى حمزة نوع مسامحة؛ (وعن فضالة بن عمرو) بفتح الفاء أي ابن الملوح الليثي وفي نسخة عمير بالتصغير عوض عمرو بالواو وهو الموافق لما ذكره الذهبي في الصحابة على ما حرره الحلبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 والحديث رواه ابن إسحاق وابن سيد الناس، (قال أردت قتل النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ قَالَ: أَفَضَالَةُ قُلْتُ نَعَمْ) وفي رواية زاد يا رسول الله؛ (قال ما) وفي رواية ماذا (كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ قُلْتُ لَا شَيْءَ) وفي رواية زاد كنت أذكر الله تعالى؛ (فضحك واستغفر لي) أي قال غفر الله لك ما خطر ببالك أو أراد به استحقاق الغفران بتوفيق الإيمان وفي رواية فضحك النبي ثم قال استغفر الله (ووضع يده على صدري فسكن قلبي) أي واطمأن بمعرفة ربي، (فو الله ما رفعها) أي يده عن صدري (حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ منه؛ ومن مشهور ذلك) أي ما ذكر من عصمة الله سبحانه له على ما رواه ابن إسحاق والبيهقي بلا سند وأبو نعيم في الدلائل مسندا إلى عروة (خبر عامر بن الطّفيل) أي ابن مالك العامري سيد بني عامر في الجاهلية كذا قال الذهبي في تجريد الصحابة وقال روى عنه أبو ذر بابة ذكره المستغفري وأجمع أهل النقل على أن عامرا مات كافرا وقد أخذته عدة وكان يقول غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية قال الحلبي ولا شك فيما قاله الذهبي في قصته لما في صحيح البخاري بنحو من اللفظ الذي ذكره (وأربد) بفتح فسكون ففتح (ابن قيس) هو أخو لبيد بن ربيعة لأمه ولبيد صحابي وكان أربد شاعرا أيضا بعث الله عليه صاعقة فأحرقته كافرا بالله سبحانه وتعالى وفيه نزل قوله تعالى وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ الآية (حين وفدا على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي متفقين على قتله (وكان عامر قال له) أي لأربد (أنا أشغل عنك وجه محمّد) أي بالكلام معه (فاضربه أنت) أي من خلفه (فلم يره فعل شيئا) أي مما قاله (فلمّا كلّمه في ذلك) أي بالمعاتبة عن تقصيره هنالك (قال له والله ما هممت) أي ما عزمت (أَنْ أَضْرِبَهُ إِلَّا وَجَدْتُكَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفَأَضْرِبُكَ) الهمزة الأولى استفهام انكاري والثانية للمتكلم وهو أربد والمخاطب هو عامر قال البرقي في غريب الموطأ وفد عامر وأربد على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدعواه أن يجعل الأمر بعده إلى عامر ويدخلان في دينه فأبى عليه الصلاة والسلام فقال له أكون على أهل الوبر وأنت على أهل المدر فأبى عليه الصلاة والسلام فخرجا من عنده (ومن عصمته له تعالى له) وفي نسخة وفي عصمته له تعالى وهو خطأ فاحش (أنّ كثيرا من اليهود) أي من أحبارهم ورهبانهم (والكهنة) أي ممن يزعم أنه يخبر عن الكوائن المستقبلة (أنذروا به) اعلموا الناس بقرب نوره وخوفوهم بظهوره فإن الإنذار إعلام بتخويف (وعيّنوه لقريش) أي وبينوه لهم خصوصا من جهة نسبه وحسبه وعلامة ولادته وأمارة سيادته وسعادته (وأخبروهم بسطوته بهم) أي بغلبته عليهم وشوكته لديهم (وحضّوهم) أي حثوهم وحرضوهم (على قتله) أي قبل ظهور نصره (فعصمه الله تعالى) أي من كيد كل عدو مكره (حتّى بلغ) بتخفيف اللام أي وصل وتم (فيه أمره) وفي نسخة حتى بلغ عنه أمره بتشديد اللام ونصب أمره، (ومن ذلك نصره بالرّعب) بسكون العين ويضم أي بالخوف في قلب اعدائه (مسيرة شهر) أي من كل جانب له (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 فصل [ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم] (ومن معجزاته الباهرة) أي آياته الظاهرة (ما جمعه الله له من المعارف) أي الجزئية (والعلوم) أي الكلية والمدركات الظنية واليقينية أو الاسرار الباطنية والأنوار الظاهرية (وخصّه به) أي ما خصه بِهِ (مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا والدّين) أي ما يتم به إصلاح الأمور الدنيوية والأخروية واستشكل بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وجد الأنصار يلقحون النخل فقال لو تركتموه فتركوه فلم يخرج شيئا أو أخرج شيصا فقال أنتم بامر دنياكم وأجيب بأنه إنما كان ظنا منه لا وحيا وقال الشيخ سيدي محمد السنوسي أراد أنه يحملهم على خرق العوائد في ذلك إلى باب التوكل وأما هنالك فلم يمتثلوا فقل أنتم أعرف بدنياكم ولو امتثلوا وتحملوا في سنة وسنتين لكفوا أمر هذه المحنة انتهى وهو في غاية من اللطافة (ومعرفته) بالرفع عطفا على ما والأقرب جره بالعطف على الاطلاع (بأمور شرائعه) أي أحكامه المتعلقة بالعبادات والمعاملات (وقوانين دينه) أي من القواعد الكلية المندرج تحتها الفروع الجزئية، (وسياسة عباده) أي الجامعة بين صلاح معاش الخلق ومعادهم (ومصالح أمّته) أي المتعلقة بأمر زادهم في حق عبادهم وزهادهم (وما) أي ومعرفته بما (كان في الأمم قبله) أي من أحوالهم وما جرى لهم من نجاة وهلاك في مآلهم (وقصص الأنبياء والرّسل) أي من دعاة الخلق إلى دين الحق (والجبا برة) أي من الكفرة والفجرة المتكبرة، (والقرون الماضية) أي الأزمنة الخالية (من لدن آدم) بضم الدال وسكون النون وبسكون الدال وكسر النون ويروى من زمن أي من ابتداء زمن آدم (إلى زمنه) أي زمن الخاتم سيد العالم صلى الله تعالى عليهما وسلم (وحفظ شرائعهم وكتبهم) أي مما قذفه الله في قلبه فروى قلبه عن ربه (ووعي سيرهم) بسكون العين أي وإحاطة أنواع سيرتهم وأصناف طريقتهم مع اتحاد جنس ملتهم (وسرد أنبائهم) أي وذكر أخبارهم متتابعا (وأيّام الله فيهم) أي وقائعه الكائنة فيهم من الهلاك والنجاة (وصفات أعيانهم) أي أفاضلهم كذا قاله التلمساني والأظهر أن المراد بهم جماعة معينة من المؤمنين كذي القرنين والخضر ولقمان ومن الكافرين كفرعون وقارون وهامان (واختلاف آرائهم) جمع رأي بمعنى أهوائهم كعبادة قوم إبراهيم الأوثان وقوم موسى العجل وقول النصارى بالأقانيم الثلاثة من العالم والحياة وروح القدس وتعبيرهم عنها بالأب والأم والابن (والمعرفة بمددهم) بضم الميم جمع مدة أي أيام مكثهم في الدنيا جملة (وأعمارهم) أي على اختلافها قلة وكثرة (وحكم حكمائهم) بكسر الحاء وفتح الكاف أي والمعرفة بما صدر من أنواع الحكمة عن أصناف حكمائهم (ومحاجّة كلّ أمّة) أي مجادلتهم ومغالبتهم (من الكفرة) أي بما يناسبهم في الدعوة كإبطال الأصنام بأن ليس لها منفعة ولا قدرة لها على مضرة وكمحاجة نصارى نجران في دعواهم أن عيسى ابن الله فدعاهم إلى المباهلة فأبوا وبذلوا له الجزية (ومعارضة كلّ فرقة من الكتابين) أي من أهل الكتابين وهما التوراة والإنجيل (بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 في كتبهم) كمعارضة يهود في دعواهم أن من زنى منهم محصنا عقوبته التحميم والتجبية أي يسود وجوههما ويحملان على دابة يخالف بين وجوههما بجعل ظهر أحدهما لظهر الآخر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم أنشدكم بالله ما تجدون في التوراة على من زنى قال حبرهم إذ نشدتنا فعليه الرجم فأمر صلى الله تعالى عليه وسلم بهما فرجما عند باب مسجده في بني غنم بن مالك بن النجار (وإعلامهم بأسرارها) أي وإعلامه أهل الكتاب بأسرار كتبهم (ومخبّآت علومها) أي مخفيات أخبارهم وفي نسخة علومها (وإخبارهم) أي وأعلامه إياهم (بما كتموه من ذلك) كنعته صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل (وغيّروه) أي بذكر اضداده وبتصحيفه أو تحريفه لمبناه أو معناه (إلى الاحتواء) أي مع احتوائه واشتمال علومه في بنائه (على لغات العرب) أي مع كثرتها واختلاف مادتها وبنيتها وهيئتها في تأديتها من متداولاتها (وغريب الألفاظ فرقها) بكسر الفاء وفتح الراء أي غرائب معاني طوائف العرب من شواذها ونوادرها (والإحاطة بضروب فصاحتها) أي بأنواع فصاحتها في مفرداتها ومركباتها حيث خاطب كل فرقة بلغاتها كما مر في مخاطبته لإقيال حضر موت في محاوراتها، (والحفظ لأيّامها) أي وقائع العرب في الحرب في أوقاتها (وأمثالها) أي كلماتها التي يضربون المثل بها كقولهم الصيف ضيعت اللبن ونحوها ومنه قوله عليه الصلاة والسلام حمى الوطيس أي اشتد حمى تنور الحرب (وحكمها) أي والحكميات الواردة في لسانها مع اللطافة في شأن بيانها وسلطان برهانها (ومعاني أشعارها) كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألاكل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل وكإنشاده نحو قوله: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وأمثالها (والتّخصيص بجوامع كلمها) أي مما مبانيها يسيرة ومعانيها كثيرة وقد جمعت أربعين حديثا مما اشتمل كل على كلمتين فقط (إلى المعرفة) أي منضمة إلى المعرفة (بضرب الأمثال الصّحيحة) أي من الكلمات البديعة المشيرة إلى المرادات الصريحة، (والحكم البيّنة لتقريب التّفهيم للغامض) أي الخفي بالنسبة إلى الجاهل، (والتّبيين للمشكل) لكونه صلى الله تعالى عليه وسلم مبينا لما نزل (إلى) أي مع (تمهيد قواعد الشّرع) أي مما شرع لنا من طريقي الأصل والفرع (الذي لا تناقض فيه) أي فيما أرسل إلينا وفي نسخة فيها أي في قواعده لدينا (ولا تخاذل) أي ولا تعارض فيما أنزل علينا أي لا كثيرا ولا يسيرا كما قال الله تعالى وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (مع اشتمال شريعته) أي المتضمنة لمكارم الأفعال (على محاسن الأخلاق) أي في طريقته (ومحامد الآداب) أي المورثة لمجامع الأحوال في حقيقته (وكلّ شيء مستحسن مفصّل) بالصاد أي مبين ومعين وفي نسخة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 بالمعجمة أي مفضل على غيره كما يشير إلى هذا المرام قوله عليه الصلاة والسلام بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (لم ينكر منه) أي من شرعه ولو هو (ملحد) أي جائر لكنه (ذو عقل سليم) أي وطبع قويم (شيئا) أي أصلا (إلّا من جهة الخذلان) وهو عدم توفيق العرفان فينكره من غير البرهان بل على جهة العدوان وطريق الطغيان (بل كلّ جاحد له) أي منكر لما ذكر (وَكَافِرٍ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ بِهِ إِذَا سَمِعَ مَا يدعو إليه صوّبه) أي فيما ظهر لديه (واستحسنه دون طلب إقامة برهان عليه) أي كما سبق من كلام المغيرة وأبي جهل وأبي طالب (ثمّ ما أحلّ لهم من الطّيّبات) أي مما حرم على غيرهم منها كلحم كل ذي ظفر وشحم البقرة (وحرّم عليهم من الخبائث) كالميتة والدم ولحم الخنزير مما أحل لغيرهم كالخمر (وصان) أي وما حفظ (به أنفسهم) أي دماءهم (وأعراضهم) بفتح الهمزة جمع عرض (وأموالهم من المعاقبات والحدود) أي المرتبة على أسبابها كالقصاص وحد القذف والسرقة (عاجلا) أي في الدنيا (والتّخويف) وفي أصل الدلجي والتحريق (بالنّار آجلا) أي في العقبى (مِمَّا لَا يَعْلَمُ عِلْمَهُ وَلَا يَقُومُ بِهِ) أي بعمل كله (ولا ببعضه إلّا من مارس الدّرس) أي من درس الكتب الالهية (والعكوف على الكتب) أي القيام والاطلاع على كتب العلماء الربانية (ومثافنة بعض هذا) بالمثلثة والفاء والنون أي متابعة بعض ما ذكر (إلى الاحتواء) أي مع اشتمال شريعته (على ضروب العلم وفنون المعارف كالطّيب) بكسر الطاء وتثلث (والعبارة) بكسر العين أي التعبير للرؤيا (والفرائض) أي المتعلقة بالارث (والحساب) أي كمية الأعداد (والنّسب) بفتحتين أي معرفة الأنساب (وغير ذلك من العلوم) أي أنواعها الآتي بعضها (مِمَّا اتَّخَذَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ كَلَامَهُ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فيها) قال الدلجي أي في شريعته والظاهر في هذه المعارف (قدوة) بضم القاف وكسرها وتفتح أي مقتدى (وأصولا) أي قواعد كلية (في علمهم) أي في أساس علومهم (كقوله عليه الصلاة والسلام) على ما رواه ابن ماجة عن أنس (الرّؤيا لأوّل عابر) أي معبر ذي رأي ثاقب عالم بالعبارة على وجه الإشارة إذا أصاب وكان يحسن تعبيرها فإذا اعتبر شروطها وعبرها وقعت وكان ابن سرين يقول إني اعتبرت الحديث والمعنى أنه يعبرها به كما يعبرها بالقرآن فيعبر الغراب مثلا برجل فاسق والمرأة بالضلع أخذا من تسميته صلى الله تعالى عليه وسلم فاسقا وتسميتها ضلعا (وهي) أي الرؤيا (على رجل طائر) كما رواه أبو داود والترمذي وصححه أي قدر جار وقضاء ماض وحكم نافذ من خير أو شر أو نفع أو ضر وقال ابن قتيبة أراد أنها غير مستقرة يقال للشيء إذا لم يستقر هو على رجل طائر وعلى قرن ظبي وقال ابن الأثير هو من قولهم اقتسموا دارا فطار سهم فلان إلى ناحية كذا يعنى أن الرؤيا التي يعبرها المعبر الأول فكأنها سقطت ووقعت حيث عبرت كما يسقط الذي يكون على رجل الطائر بأدنى حركة انتهى والحاصل أن هذا تمثيل وتصوير لجعلها على قدر قدره الله تعالى لصاحبها بشيء متعلق برجل طائر يسقط بأدنى حركة فإذا عبرها أول عابر فكأنها كانت على رجله فسقطت وكل حركة جرت لك من شيء فهو طائر ومنه قوله تعالى وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أي حركاته في عباداته ومعاملاته في ذمته غير منفكة عنه (وقوله) أي كما رواه الشيخان وغيرهما هذا وقد قيل الرؤيا أمثال يضربها ملك الرؤيا والله يعلم بها من يشاء روي أن امرأة أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت رأيت كأن جائزة بيتي قد انكسرت فقال عليه الصلاة والسلام يرد الله غائبك فرجع زوجها ثم غاب فرأت مثل ذلك فأتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلم تجده ووجدت أبا بكر رضي الله تعالى عنه فأخبرته فقال يموت زوجك فذكرت ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال هل قصصتها على أحد قالت نعم قال كما قيل لك (الرّؤيا ثلاث) أي ثلاثة أنواع (رؤيا حقّ) بالإضافة أي ثابت موافق وصدق مطابق كرؤية الأنبياء والأصفياء فإنها تخرج على وجهها أو على نحو ما أول بها (ورؤيا يحدّث بها الرّجل نفسه) فيراها في منامه فهي أضغاث أحلام وخيالات منام (ورؤيا تحزين) بالجر وفي نسخة بالرفع (من الشّيطان) بأن يرى في منامه ما يكون سببا لحزنه كما في حديث مسلم جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رأيت في المنام كأن رأسي قطع فضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال إذا الم الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به الناس وفي رواية إذا رأى في منامه ما يحبه فليحمد الله وإذا رأى ما يكره فليتعوذ من شرها ولا يحدث بها أحدا فإنها لا تضره. (وقوله) أي فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا (إِذَا تَقَارَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تكذب) وفي رواية إذا اقترب والمراد اقترب الساعة ويؤيده حديث في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب وقيل المراد قصر الأيام والليالي على الحقيقة وقيل تقارب الليل والنهار من الاعتدال لقول العابرين أن أصدق الأزمان لوقوع العبارة وقت انفتاق الأنوار والأزهار ووقت أدراك الثمار حين يستوي الليل والنهار وفي بعض الأخبار أصدق الرؤيا بالأسحار رواه أحمد والترمذي وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد هذا وكان الأنسب للمصنف أن يرتب كل ما يتعلق بعلم من العلوم المذكورة على وفق ما قدمه من المعارف المسطورة لكنه رحمه الله شوش النشر وقدم الرؤيا على الطب ثم قال (وقوله) كما رواه الدارقطني في العلل عن أنس وضعفه وابن السني وأبو نعيم في الطب عن علي وعن أبي سعيد وعن الزهري مرسلا (أصل كلّ داء البردة) بفتحتين وقد تسكن الراء أي التخمة وثقل الطعام على المعدة وسميت بردة لأنها تبرد المعدة فلا يستمرئ الطعام في العادة وعلاجه أولا بالقيء وثانيا بالإسهال (وما روي عنه) أي عن النبي عليه الصلاة والسلام (في حديث أبي هريرة) كما رواه الطبراني في الأوسط (من قوله المعدة) بفتح فكسر وقيل بكسر فسكون (حوض البدن) لجمعها الطعام كجمع الحوض الماء (والعروق إليها واردة) أي تتصاعد إليها بمنافع الطعام نفعا لأبدان الأنام. (وإن) وصلية (كان هذا) أي الحديث (حديثا) وفي نسخة وإن كان هذا الحديث (لا نصحّحه) أي لا نحكم بصحته بل ولا بثبوته (لضعفه) أي لضعف سنده عند بعضهم (وكونه موضوعا) أي عند غيرهم (تكلّم عليه الدّارقطني) أي مضعفا له والله سبحانه وتعالى اعلم؛ (وقوله) كما رواه الترمذي عن ابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 (خير ما تداويتم به السّعوط) بفتح فضم ما يجعل في الأنف من الدواء (واللّدود) ما يسقاه المريض في أحد شقي فمه (والحجامة) بكسر أوله (والمشي» ) بفتح فكسر فمشددة المسهل ويقال بفتح ميم فسكون شين فتحفيف وسمي به لحمله صاحبه على كثرة المشي إلى الخلاء. (وخير الحجامة) أي وقوله عليه الصلاة والسلام كما رواه الحاكم عن ابن عباس وصححه خير الحجامة (يوم سبع عشرة) أي من كل شهر (وتسع عشرة) بسكون الشين وتكسر (وإحدى وعشرين) زاد أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا كان شفاء من كل داء هذا والتأنيث باعتبار مضاف مقدر أي يوم ليلة سبع عشرة مراعاة للأسبق منهما فإن ليلة الشهر منه وقيل سبق الليل في الوجود أيضا وفي قوله تعالى اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ إيماء إلى ذلك وأنه أصل هنالك وأبعد الدلجي في قوله بحذفه المميز كما في حديث من صام رمضان فأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر كله فإن لفظ اليوم مميز مستغنى عن مميز آخر وأما قوله تعالى ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فلمجرد التأكيد (وفي العود) أي وفي قوله كما رواه البخاري عن أم قيس في العود (الهنديّ) قيل هو القسط البحري وقيل عود التبخر قاله ابن الأثير (سبعة أشفية) قيل المراد بها الكثير (منها ذات الجنب) كما في حديث وخص بالذكر لأنه أصعب داء قلما يحصل فيه شفاء. (وقوله) أي كما رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم عن المقدام ابن معدي كرب (مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بطنه إلى قوله فإن كان لا بدّ) أي بحسب ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لا محالة (فثلث للطّعام وثلث للشّراب وثلث للنّفس) والنفس بفتحتين بمعنى التنفس وفي الأصول المذكور لطعامه وشرابه ولنفسه بالإضافة (وقوله) أي في علم النسب كما رواه أحمد والترمذي (وقد سئل عن سبإ) بكسر الهمزة وبفتحها وبإبدالها الفا كما قرىء بها في قوله تعالى لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آية (أَرَجُلٌ هُوَ أَمِ امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ فَقَالَ رجل) أي هو أبو قبيلة سميت به مدينة بلقيس باليمن ومن ثمة قيل اسم مدينة (ولد عشرة) أي ولد له عشرة أولاد وهو بمكة (تيامن منهم ستّة) أي أخذوا نحو اليمن فنزلوا فيه وتوالدوا وأكثر قبائله منهم وهم كندة والأشعرون والأزد ومذحج وأنمار وحمير الذين منهم خثعم وبجيلة وفي الحديث الإيمان يمان والحكمة يمانية لأن الإيمان بدا من مكة لأنها من تهامة وتهامة من اليمن (وتشأمّ أربعة) أي أخذوا نحو الشام وهو من العريش إلى الفرات وهم عاملة ولخم وجذام وغسان. (الحديث: بطوله) أي مما يدل على طول باعه في هذا الفن؛ (وكذلك جوابه في نسب قضاعة) بضم القاف، (وغير ذلك) أي من سائر النسب (ممّا اضطرّت العرب) بصيغة الفاعل أو المفعول ورجحه التلمساني أي اضطربت واختلفت والتجأت أو التجئت (على شغلها بالنّسب) أي مع كمال اشتغالهم بعلم النسب (إلى سؤاله) أي سؤالهم إياه (عمّا اختلفوا فيه من ذلك) ومن ذلك ما رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني عن عمرو بن مرة الجهني قال صلى الله تعالى عليه وسلم من كان هنا من معد فليقم فقمت فقال اقعد فقلت ممن نحن قال أنتم من قضاعة بن مالك بن حمير (وقوله) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 كما رواه البزار وقال العسقلاني إنه منكر (حمير) بكسر فسكون ففتح ممنوعا قبيلة معروفة من اليمن (رأس العرب) أي أساسها وأصلها (ونابها) أي عمدة أهل كلامها لشرفهم فإنهم ولد معد بن عدنان من ولد إسماعيل بن خليل الرحمن (ومذحج) بالذاك المعجمة والحاء المهملة والجيم كمجلس على ما في القاموس وقيل بفتح وهو قبيلة فعبارة الدلجي بالدال المهملة (هامتها) بتخفيف الميم وهي وسط الرأس أي أشرفها أو رأسها (وغلصمتها) بفتح الغين المعجمة ثم لام ساكنة رأس الحلقوم وهو الموضع الثاني في الحلق وهو إشارة إلى تمكنهم في الشرف وعلوهم وإصالتهم وعظمهم (والأزد) بالزاء الساكنة قبيلة من اليمن (كاهلها) بكسر الهاء مقدم الظهر ما بين كتفيه وهو محل الحمل أي عمدتها (وجمجمتها) بجيمين مضمومتين عظم الرأس المشتمل على الدماغ أي سادتها وقيل جماجم العرب هي القبائل التي تجمع البطون فكاهل مضر تميم (وهمدان) بفتح فسكون فدال مهملة قبيلة معروفة (غاربها) بكسر الراء ما بين السنام والعنق (وذروتها) بكسر الذال وضمها وبفتح وسكون الراء أي أعلاها والحاصل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بين ما لهذه القبائل من الفضائل وهذا من علم الأنساب (وقوله) أي في علم الحساب كما رواه الشيخان عن أبي بكرة (إنّ الزّمان قد استدار) أي رجعت أشهره إلى ما كانت من حرمة وغيرها وبطل نسيء الجاهلية من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر وكانت حجة الوداع التي ذكر في خطبتها هذا الحديث في السنة التي استدار فيها (كهيئته) أي ترتيبه وصفته (يوم خلق الله السّموات والأرض وقوله) أي في معرفة المساحة كما رواه الشيخان عن ابن عمرو (في الحوض) أي الكوثر (زواياه سواء) أي مربع تربيعا مستويا لا يزيد طوله على عرضه، (وقوله) أي في معرفة جمع العدد كما رواه أبو داود (في حديث الذّكر) أي الإذكار حيث قال تسبح عشرا وتحمد عشرا وتكبر عشرا وتلك ثلاثون (وإنّ الحسنة بعشر أمثالها. فتلك) أي الكلمات المذكورة دبر الصلوات المزبورة مجموعها (مِائَةٌ وَخَمْسُونَ عَلَى اللِّسَانِ وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الميزان وقوله) أي فيما رواه الطبراني بسند ضعيف عن أبي رافع. (وهو بموضع) أي في موضع ليس به حمام وفي أصل التلمساني ومر بدل وهو على كل فالجملة حال (نعم موضع الحمّام هذا) وهذا من علم الهندسة ومعرفة المساحة فكان أولى بعد ذكر الحوض لما بينهما من المناسبة (وقوله) كما رواه الترمذي عن أبي هريرة وصححه (ما بين المشرق والمغرب قبلة) أي لأهل المدينة ونحوهم ممن هو في جنوبه أو شماله قال التلمساني هذا في طيبة ولكل مدينة بين مشرقها ومغربها لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جعل جميع ما يقع بين المشرق والمغرب قبلة ومساحة الكعبة لا تفي بما بينهما وإنما تفي جهتها فهو حجة العامة في عهد اشتراط إصابة عين الكعبة للنائي عنها وهذا من جملة علوم الهندسة المتعلقة بمعرفة القبلة وظاهره أن القبلة هي الجهة لا عين الكعبة وإلا فلا وجه للخصوصية فهو حجة للحنفية على الشافعية. (وقوله) أي في معرفة الفرس (لعيينة) بالتصغير وهو ابن حصين الفزاري من المؤلفة قلوبهم شهد حنينا والطائف قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 الذهبي وكان أحمق مطاعا دخل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واساء الأدب فصبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على جفوته وأعرابيته وقد ارتد ثم اسر فمن عليه الصديق ثم لم يزل مظهر الإسلام وكان يتبعه عشرة آلاف فقاه انتهى وقال غيره اسلم يوم الفتح وقيل قبله وقال الواقدي إنه عمي في خلافة عثمان (أو للأقرع) أي ابن حابس التميمي وفد بعد الفتح وشهد مع خالد بن الوليد حرب أهل العراق وكان على مقدمته واستعمله عبد الله بن عامر على جيش سيره إلى خراسان فأصيب هو والجيش بجوزجان وكان من المؤلفة (أنا أفرس) مأخوذ من الفراسة أي أنا أعرف (بالخيل منك) وفي نهاية غريب الحديث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم عرض الخيل وعنده عيينة فقال له أنا أعلم بالخيل منك فقال له وأنا أفرس منك (وقوله) أي كما رواه الترمذي عن زيد بن ثابت (لكاتبه) أي لأحد من كتابه أو لكاتبه الأخص به وهو زيد وقيل معاوية وفي أبي داود عن ابن عباس قال السجل كان كاتبا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سبق في كلام الحلبي أن كتابه بلغوا ثلاثا وأربعين إلا أن ابن أبي سرح ارتد ثم رجع ومات ساجدا لله وأما ابن خطل فقتل يوم الفتح وهو متعلق بأستار الكعبة لقوله عليه الصلاة والسلام من قتل ابن خطل فهو في الجنة واختلف في قاتله (ضع القلم) أي إذا فرغت (على أذنك) أي فوقها (فإنّه) أي وضعه هذا (أذكر) أي أكثر تذكرا قال الحلبي لأنه يقتضي التؤدة وعدم العجلة (للمملّ) بضم الميم الأول وكسر الثاني وتشديد اللام أي للمملي كما في نسخة من أمللت وأمليت وبهما ورد القرآن وليملل الذي عليه الحق فهي تملي عليه (هذا) أي ما ذكر مما جمع له صلى الله تعالى عليه وسلم من المعارف والعلوم (مع أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا يكتب) والأظهر أن الإشارة إلى ما سبق من تعليم بعض كتابه ما يتعلق بعلم الخط وآدابه وأما عدم كتابته فلحديث أنا أمة لا نكتب ولا نحسب ذكره الدلجي وفيه أن نفي الشيء عن الجنس لا يوجب انتفاءه عن جميع أفراده بدليل أنه كان فيهم من يكتب فالأولى هو الاستدلال بقوله تعالى وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (ولكنّه) أي مع كونه أميا (أوتي علم كلّ شيء) أي لدنيا (حتّى قد وردت آثار) أي أخبار (بمعرفته حروف الخطّ وحسن تصويرها) أي من تطويلها وتدويرها (كقوله لا تمدّ) وفي نسخة لا تمدوا أي لا تطولوا (بسم الله الرّحمن الرّحيم) أي سينه من غير تبيين سنه مخافة أن يظن باء ممدودة فيقرأ بالباء والميم من غير سين بينهما لما روى الدارمي عن زيد بن أنس إذا كتبت فبين السين في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (رَوَاهُ ابْنُ شَعْبَانَ) وهو أبو إسحاق المصري المالكي له ترجمة في الميزان قال فيها وهاه ابن حزم ولا أدري لماذا انتهى ومات سنة خمس وخمسين وثلاثمائة (من طريق ابن عبّاس؛ وقوله) أي كما في مسند الفردوس (فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي يُرْوَى عَنْ مُعَاوِيَةَ أنّه كان يكتب بين يديه عليه الصلاة والسلام فقال له ألق الدّواة) بفتح الهمزة وكسر اللام أمر من الاق الدواة إذا جعل لها ليقة وأصلح لها مدادها وهو بمعنى مجرده لاق على ما في القاموس فقوله الجوهري والاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 لغة أي قليلة لا ردية (وحرّف القلم) بتشديد الراء المكسورة أمر من التحريف أي اجعل طرف شقه الأيمن أزيد من الطرف الآخر قليلا لأنه أسرع في الكتابة وأبدع في اللطافة (وأقيم الباء) أي طولها (وفرّق السّين) أي أسنانها (ولا تعوّر الميم) أي لا تطمسها بل بين وسطها وهو بتشديد الواو بعد العين المهملة وأما ما في أصل الدلجي بالقاف بعد كونه عينا فأصلح في نسخة قرئت على المصنف وعليها خطه فخطأ فاحش وتصحيف وتحريف لما في القاموس قار الشيء قطعه من وسطه خرقا مستديرا كقوره (وحسّن الله) أي جميع حروفه (ومدّ الرّحمن) أي أكثر حروفه من الحاء والميم والنون أو آخرها وهو الأولى (وجوّد الرّحيم) أي حروفه لا سيما الميم وقد روى الديلمي عن أنس إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم فليمد الرحمن أي مدا ليمدد له الرحمن مدا وقيل خص الرحمن بالمد لعموم الرحمة الشاملة للدنيا والآخرة وخص الرحيم بالتجويد لأنه يخص أصحاب التوحيد (وهذا) أي ما ذكر مما شهد بأن مما أوتيه من المعارف معرفة حروف الخط (وإن لم تصحّ الرّواية) أي من أحد رواة الحديث وأصحاب الدراية (أنّه عليه الصلاة والسلام كتب) أي بيده (فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْزَقَ عِلْمَ هَذَا وَيُمْنَعَ الكتابة، والقراءة) أي لحكمة تقتضي هنالك كما قدمنا ذلك قال الدلجي ولا يبعد أيضا وإن كان يحرم عليه التوصل إليهما معرفة أن يقعا منه في وقت معجزة له وكرامة بشهادة ما في صحيح البخاري فأخذ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله وفيه في عمرة القضاء أنه قال لعلي امح رسول الله قال لا والله لا أمحوك أبدا فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله انتهى ولا يخفى أن لفظ كتب وقع مجازا لا شك فيه على ما قاله الحلبي وأبو الوليد الباجي حقيقة وهو في هذا القول شاذ منفرد عن الجماعة والمسألة شهيرة وملخصها أن اللفظة صحيحة مبنى وهي مجاز معنى لا أنها ليست بصحيحة أصلا كما توهم عبارة المصنف هذا ووقع في سيرة أبي الفتح اليعمري ما لفظه وقد روى البخاري أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كتب ذلك بيده قال الحلبي قوله بيده لم أرها في صحيح البخاري والله سبحانه وتعالى اعلم ثم اعلم أن المراد بالقراءة القراءة بالنظر لا مطلق القراءة فالمعنى منع الكتابة والقراءة من الكتابة وقد أبعد التلمساني في جعل القراءة معطوفة على العلم أي رزق العلم والقراءة ومنع الكتابة انتهى وبعده لا يخفى في إعراب المبنى وإغراب المعنى. (وأمّا علمه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ وَحِفْظُهُ مَعَانِيَ أَشْعَارِهَا) أي خصوصا (فأمر مشهور قد نبّهنا على بعضه) أي بعض ما ورد عنه في لغات العرب لا في أشعارهم (أوّل الكتاب) وفي نسخة في أول الكتاب أي على ما سبق من غرائب مبانيها وبيان معانيها ومنها قوله عليه الصلاة والسلام وقد أنشد كعب بن زهير في لاميته قوله: قنواء في حرتيها للبصير بها ... عتق مبين وفي الخدين تسهيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 فقال لأصحابه ما الحرتان فقالوا العينان فقال صلى الله تعالى عليه وسلم الأذنان وما قاله صلى الله تعالى عليه وسلم هو المعروف عند العرب الأول في الحرتين ومنها ما أنشده كعب بن مالك في قصيدته العينية وفيها قوله: مجالدنا عن جزمنا كل فححمة ... مدربة فيها القوانس تلمع فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أيصلح أن يقول مجالدنا عن ديننا فقال كعب نعم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو أحسن فقال كعب مجالدنا عن ديننا على ما قاله نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (وكذلك حفظه لكثير من لغات الأمم) أي مما عدا العرب (كقوله في الحديث سنه سنه) بفتح السين وتخفيف النون وتشدد فهاء ساكنة فيهما وفي رواية سناه سناه وفي أخرى سنا سنا بفتح مهملتها وكسرها رواية القابسي وشدد نونها وخففها أبو ذر وغيره قال ابن قرقول كلها بفتح السين وتشديد النون إلا عند أبي ذر فإنه خفف النون وإلا القابسي فإنه كسر السين وقال ابن الأثير في النهاية قيل سنا بالحبشية حسن وهي لغة وتخفف نونها وتشدد وفي رواية سنة وفي الحديث وفي أخرى سناه بالتشديد والتخفيف فيهما وقال الهروي في الحديث إنه صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ الحميصة بيده ثم ألبسها أم خالد وقال لها أبلي وأخلقي ثلاث مرات ثم نظر إلى علم فيها أخضر وأصغر فجعل يقول يا أم خالد سنا سنا بالحبشية حسن وهي لغة انتهى وأم خالد هذه هي ابنة خالد ابن سعيد التي ولدت بأرض الحبشة وهي امرأة الزبير بن العوام وهي التي كساها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهي صغيرة وأبوها أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم ومات بأجنادين شهيدا استعمله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على صنعاء اليمن فلما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن يستعمله قال له لا أعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (وهي) أي معنى هذه الكلمة (حسنة بالحبشيّة) أي باللغة المنسوبة إلى الحبشة ولا يبعد أن تكون عربية وحذف الهاء للإيماء إلى قصد الرمزية وقال عكرمة السنا الحسن ولا يبعد أن يطلق السنا بمعنى النور ويراد به الحسن والظهور؛ (وقوله) أي كما رواه الشيخان وغيرهما من طرق (ويكثر الهرج) بهاء مفتوحة فراء ساكنة فجيم (وهو القتل بها) أي بالحبشة وقد سئل عنه صلى الله تعالى عليه وسلم فقال القتل ونص عليه كثير من أئمة اللغة فهو من توافق اللغتين وأما قول ابن قرقول الهرج بإسكان الراء فسره في الحديث بالقتل بلغة الحبشي فقوله بلغة الحبش من بعض الرواة وإلا فهي كما عرفت عربية صحيحة (وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَشْكَنْبَ دَرْدَ) بفتح الهمزة وسكون الشين وتفتح والكاف ساكنة فنون وفتح الياء وتكسر وتضم وتسكن فدالين مهملتين مفتوحتين بينهما راء ساكنة وفي نسخة الأولى منهما معجمة وفي أخرى دردم بميم في آخره (أي وجع البطن بالفارسيّة) فإن اشكنب هو البطن ودرد معناه الوجع ولعل أصلها أشكم بدردم بكسر الهمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 وفتح الكاف بعده ميم وباتصال الباء بدردم بالمهملتين وميم المتكلم فيكون فيه نوع تقريب أو لفظ غريب هذا والحديث رواه ابن ماجة وفي سنده داود ابن علية والكلام فيه معروف قال الذهبي في ميزانه روى جماعة عن داود ابن علية عن مجاهد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يا أبا هريرة اشكنب درد قلت لا الحديث أخرجه أحمد في مسنده والأصح ما رواه المحاربي عن ليث عن مجاهد مرسلا فقوله لا يدل على استفهام مقدر أو ملفوظ أن تكن الشين مفتوحة فإنه لغة ويدل أيضا على بطلان نسخة زيادة الميم لكنه فيه إشكال وهو أنه لا يظهر وجه خطاب أبي هريرة بهذه الكلمة اللهم إلا أن يحمل على المزاح والمطايبة في المخاطبة ثم رأيت التلمساني ذكر الحديث ولفظه قال أبو هريرة دخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو مضطجع على بطنه فقلت له ما هذا يا رسول الله فقال اشكنب دردم ثم فسره صلى الله تعالى عليه وسلم وتمام الحديث وعليك بالصلاة فإنها شفاء من كل سقم ونقل الأنطاكي من إكمال ابن ماكولا عن أبي الدرداء قال رآني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا نائم مضطجع على بطني فضربني برجله فذكر الحديث قال وهو مخالف لما تقدم قلت ولا منع من الجمع والله تعالى أعلم هذا وحديث «العنب دو دو يعني ثنتين ثنتين والتمريك» يعني واحدة مشهور على ألسنة العامة ولا أصل له عند الخاصة (إلى غير ذلك) أي مع غير ما ذكر من المعارف السنية والعوارف البهية (مُمَا لَا يَعْلَمُ بَعْضَ هَذَا وَلَا يَقُومُ به) أي بكله (ولا ببعضه) أي عادة (إلّا من مارس الدّرس) أي داوم المدارسة ولازم المدرسة (والعكوف على الكتب) أي المواظبة على مطالعة الكتب المطولة (ومثافنة أهلها) بالمثلثة والفاء والنون أي مجالسة أهل العلوم وفي نسخة بالقاف والموحدة بمعنى المباحثة (عمره) بالنصب أي في جميع أيام عمره من غير ضياع دهره (وهو) أي والحال أنه عليه الصلاة والسلام (رجل) معروف وموصوف (كما قال الله تعالى) في حقه عند قوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ (أمّيّ) أي منسوب إلى أمه يعني كما ولد بعينه (لم يكتب) أي بيده (ولم يقرأ) أي بنظره أو مطلقا قبل بعثه (ولا عرف) أي هو صلى الله تعالى عليه وسلم (بصحبة من هذه صفته) أي بمصاحبة أهل الدراسة والقراءة والكتابة (ولا نشأ) أي ولا انتشأ ولا تربى (بين قوم لهم علم) أي دراية (ولا قراءة) أي رواية (بشيء من هذه الأمور) أي التي يمكن بمدارستها الاتصاف بممارستها (ولا عرف هو قبل) أي قبل بعثته ودعوى نبوته (بشيء منها) أي من أمور القراءة والدراسة والكتابة ويروى ولا عرف هو قبل شيئا (قال الله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل نزول القرآن (مِنْ كُتُبٍ) أي من الكتب الإلهية وغيرها (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48] ) أي ولا تكتبه من قبل أيضا وقوله بيمينك أي بيدك للتأكيد كما في قولهم رأيت بعيني وسمعت بأذني (الآية) تمامها إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت قارئا كاتبا لشك أهل الباطل المتعلق بغير الطائل إذ لا كل كاتب وقارئ قادر أن يأتي بهذا الكتاب الذي عجز عن الاتيان بأقصر سورة منه جميع أرباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 الألباب والحاصل أن صدور هذا النور وظهور هذه الأمور على يد الأمي أظهر معجزة وأبهر كرامة وأبعد شبهة مما لو ظهر على يد القارئ الكاتب لا سيما وقد كان يحصل الارتياب لأهل الكتاب لكونه النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل هذا والجمهور على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكتب وقيل كتب مرة واحدة وهو قول الباجي وصوبه بعضهم فإنه لا يقدح في المعجزة كونه كتب مرة واحدة بل يكون معجزة ثانية قال القرطبي في مختصره قوله في البخاري فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب فكتب ظاهر قوي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتب بيده وقد أنكره قوم تمسكا بقوله تعالى وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ الآية ولا نكرة فيه فإن الخط المنفي عنه الخط المكتسب من التعلم وهذا خط خارق للعادة أجراه الله تعالى على أنامل نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم مع بقائه أنه لا يحسن الكتابة المكتسبة وهذا زيادة في صحة نبوته انتهى ولا يخفى أن في قوله وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن وحصول النبوة والرسالة إشارة إلى أنه كان ممنوعا من القراءة والكتابة وهو لا ينافي أن يعطيهما الله تعالى له بعد تحقق رسالته زيادة في الكرامة؛ (إنّما كانت غاية معارف العرب النّسب) أي علم النسب لكل قبيلة إلى حدها من أبيها وجدها (وأخبار أوائلها) أي وقائع سلفها من هزلها وجدها وتنعمها وكدها (والشّعر) أوزانها وقوافيها (والبيان) أي النثر في الخطب وأمثالها أو ما يتعلق بما فيها حتى كاد أن يكون بيانهم في شعرهم ونثرهم سحرا وشاع وذاع فيما بينهم ذكرا وفكرا وبلغوا غاية البلاغة ووصلوا نهاية الفصاحة نظما ونثرا (وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ لَهُمْ بَعْدَ التَّفَرُّغِ لِعِلْمِ ذلك) أي عمرا (والاشتغال بطلبه ومباحثة أهله عنه) أي عصرا؛ (وهذا الفنّ) أي النوع من العلم بجميع افنانه وأغصانه في جميع أحيانه وأزمانه (نقطة من بحر علمه) أي ونكتة من نهر فهمه وشكلة من شطر كلمه (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَبِيلَ إِلَى جَحْدِ الْمُلْحِدِ) أي إنكار المائل عن الحق والمعاند (بشيء ممّا ذكرناه) أي من المطالب والمقاصد (ولا وجد الكفرة حيلة) أي مكيدة يتشبثون بها في عقيدة (في دفع ما نصصناه) وفي نسخة ما نصصناه أي حكيناه وبيناه (إلّا قولهم أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل: 24، والفرقان: 5] ) أي هو يعني القرآن أقاصيص السابقين كما حكى الله عنهم بقوله وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا وقد تولى الله سبحانه وتعالى جوابهم بقوله وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (وإِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] ) أي من الإعجام أؤ الاروام (فردّ الله قولهم) أي مقولهم هذا لا كما قال الدلجي هو أساطير الأولين وإنما يعلمه بشر (بقوله: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ) وفي قراءة بفتح الياء والحاء أي يميلون (إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النَّحْلِ: 130] ثمّ قالوه مكابرة العيان) بكسر العين أي المعاينة والمشاهدة (فَإِنَّ الَّذِي نَسَبُوا تَعْلِيمَهُ إِلَيْهِ إِمَّا سَلْمَانُ) أي الفارسي كما في نسخة صحيحة وسماه النبي صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 تعالى عليه وسلم سلمان الخير (أو العبد الرّوميّ) وهو غلام حويطب بن عبد العزى أسلم وكان ذا كتب (وَسَلْمَانُ إِنَّمَا عَرَفَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَنُزُولِ الْكَثِيرِ مِنَ الْقُرْآنِ وَظُهُورِ مَا لَا يَنْعَدُّ مِنَ الآيات) أي القرآنية أو المعجزات البرهانية والعلامات الفرقانية فلا يتصور أنه كان يعلمه سلمان؛ (وَأَمَّا الرُّومِيُّ فَكَانَ أَسْلَمَ وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم؛ واختلف في اسمه) أي كما سيأتي من أنه يعيش أو بلعام أو جبرا أو يسار (وقيل بل كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يجلس عنده) أي إليه ويقبل عليه لما كان يلمح قابلية الهداية لديه (عند المروة وكلاهما أعجميّ اللّسان) أي وضعيف البيان (وهم الفصحاء اللّدّ) بضم اللام وتشديد الدال جمع الألد وهو شديد الخصومة (والخطباء اللّسن) بضم فسكون جمع ألسن وقيل جمع لسن بفتح فكسر وهو المنطلق اللسان في ميدان النطق والبيان (وقد عجزوا) بفتح الجيم وتكسر (عن معارضة ما أتى به) أي أظهره (والإتيان بمثله) بل عن الإتيان بأقصر سورة من نحوه (بل عن فهم وصفه) وفي نسخة رصفه بالراء والظاهر أنه تصحيف وقيل معناه الاتقان (وصورة تأليفه) أي تركيبه (ونظمه) أي سلكه فهم إذا عجزوا عن هذا كله (فكيف بأعجميّ ألكن) أفعل للمبالغة من اللكنة وهي بالضم المعجمة من اللسان والعي في النطق والبيان وأبعد الدلجي في تعبيره أي ابكم (وقد كان سلمان أو بلعام الرّوميّ) بالموحدة المفتوحة وسكون اللام ويقال بلعم (أو يعيش) بفتح التحتية الأولى وكسر العين قال الذهبي في تجريده يعيش غلام ابن المغيرة قال عكرمة هو الذي نزل فيه بفتح يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ وقال الحلبي يعيش رأيتهم قد ذكروه في الصحابة (أو جبر) بفتح جيم وسكون موحدة هو غلام للفاكه بن المغيرة اسلم وقد روي أن مولاه كان يضربه ويقول له أنت تعلم محمدا فيقول له لا والله بل يعلمني ويهديني قال الحلبي ما رأيت له ذكرا في الصحابة وكذا في قوله (أو يسار) بفتح التحتية (على اختلافهم في اسمه) أي اختلاف العلماء في تعيينه أو اختلاف السفهاء في نسبته من كمال تحيرهم في تبيينه (بين أظهرهم) أي كانوا كلهم فيما بينهم عارفين بأخبارهم (يكلّمونهم) وفي نسخة يكلمونه (مدا أعمارهم) بفتح الميم والدال مقصورا أي مدتها (فهل حكي عن واحد منهم) كسلمان والرومي (شيء) أي صدور شيء ما (مِنْ مِثْلِ مَا كَانَ يَجِيءُ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة (وهل عرف واحد منهم) أي وهم عندهم (بمعرفة شيء من ذلك) أي مما جاء به عليه الصلاة والسلام (وما منع) أي وعلى الفرض والتقدير أي شيء منع (العدوّ) أي أعداءه من المنكرين وروي المغرور (حينئذ على كثرة عدده) بفتح العين أعدادهم (ودؤوب صلبه) بضم دال وهمزة فسكون واو فموحدة أي جده وتعبه في كده (وقوّة حسده أن يجلس إلى هذا) أي من سلمان أو غيره وأخطأ الدلجي بقوله أي ما جاء به عليه السلام (فيأخذ عنه) وفي نسخة عليه (أيضا) أي على زعمه (ما يعارض به) أي ما جاء به عليه السلام (وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى شِيعَتِهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 بسكون الغين المعجمة وتفتح على لسان العامة أي على تهيج شره وخصامه كذا في أصل الدلجي وهو ظاهر جدا وفي النسخ على شيعته فعلى للعلة أي لأجل مشايعيه ومتابعيه (كفعل النّضر بن الحارث) تقدم أنه قتل كافرا (بما كان يمخرق) من المخرقة بالخاء المعجمة وهي كلمة مولدة كما ذكره الجوهري أي يزخرف (به من أخبار كتبه) أي مما لا يجدي نفعا له ولغيره (ولا غاب النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عن قومه) أي غيبة يمكن فيها من تعلمه (ولا كثرت اختلافاته) ترداداته (إلى بلاد أهل الكتاب) وفي نسخة الكتب أي كالمدينة ونحوها من بلاد قومه (فيقال) بالنصب (إنّه استمدّ منهم) أي استفاد عنهم (بل لم يزل) أي من أول عمره إلى آخر أمره (بين أظهرهم) أي بينهم (يرعى) أي الغنم (في صغره وشبابه) وقال الدلجي يرعى من المراعاة وهي الملاحظة والمحافظة وهو بعيد جدا (على عادة أنبيائهم) أي أنبياء سلفهم وفي أصل الدلجي ابنائهم بإصلاح أنبيائهم وكذا في نسخة صحيحة وهو ظاهر جدا (ثمّ لم يخرج عن) وفي نسخة من (بلادهم إلّا في سفرة) أي واحدة (أو سفرتين) أي مرة مع عمه أبي طالب فرده من الطريق بإشارة بحيرا وأخرى في تجارته لزوجته خديجة ومعه غلامها ميسرة والترديد بأو نظرا إلى ان الخرجة الأولى هل تسمى سفرة أو لا فاندفع قول الحلبي وهاتان سفرتان ذكرهما جماعة وكان ينبغي أن يقول إلا في سفرتين على أنه قد يقال المعنى بل سفرتين (لم يطل فيهما) ويروى فيهما (مكثه) بضم الميم وتفتح أي إقامته ولبثه (مدّة يحتمل) بصيغة المعلوم أو المجهول (فيها تعليم القليل) أي اليسير (فكيف الكثير) أي فكيف يحتمل فيها تعليم الكثير والاستفهام للإنكار (بَلْ كَانَ فِي سَفَرِهِ فِي صُحْبَةِ قَوْمِهِ ورفاقه وعشيرته) بفتح الراء (لم يغب عنهم ولا خالف حاله) بالنصب أو الرفع والمعنى وما اختلف حاله (مدّة مقامه بمكّة من تعليم) أي عن معلم عربي ومن بيان لحاله لا مزيدة كما قاله الدلجي وفي نسخة ومن تعلم وهو الأظهر (واختلاف إلى حبر) بفتح الحاء وتكسر أي عالم يهودي وأغرب الدلجي بقوله بكسر المهملة أفصح من فتحها نعم كذلك في معنى المداد إلا أنه ليس ههنا المراد (أو قسّ) بفتح القاف ويكسر وضمه خطأ فسين مشددة أي عالم نصراني وكذا القسيس (أو منجم) أي متعلق بعلم النجوم (أو كاهن) أي ممن يزعم أنه يخبر عن كائن (بل لو كان بعد) بضم الدال أي بعد مكثه وتصور تعلمه (هذا كلّه) اسم كان وفي أصل الدلجي بل لو كان هذا كله بعد وهو ظاهر جدا وفي نسخة صحيحة بَلْ لَوْ كَانَ هَذَا بَعْدُ كُلُّهُ (لَكَانَ مجيء ما أتى به في) وفي نسخة من (معجز القرآن) بل من معجزاته (قاطعا لكلّ عذر ومدحضا) أي مزيلا ودافعا (لكلّ حجّة) أي داحضة وفي نسخة صحيحة لكل شبهة (ومجليّا) بضم ميم وسكون جيم وتخفيف لام فتحتية مخففة وفي نسخة بفتح الجيم وكسر اللام المشددة لا كما قال الحلبي بإسكان الخاء والمعنى كاشفا وموضحا (لكلّ أمر) أي مما يلوح عليه مخايل ريبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 فصل [ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة] (ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام) أي خصوصياته في حالاته (وكراماته وباهر آياته) أي غالب معجزاته (أنباؤه) بفتح الهمزة أي أخباره الواقعة له (مع الملائكة والجنّ وإمداد الله) أي إعانته (له بالملائكة) أي المقربين كما في وقعة بدر وحنين (وطاعة الجنّ له) كجن نصيبين (ورؤية كثير من أصحابه لهم) أي للملائكة والجن وهذا إجمال يتبين لك بعد تفاصيل أحواله. (قال الله تعالى: وَإِنْ تَظاهَرا) بتشديد الظاء وتخفيفها والخطاب لعائشة وحفصة أي وإن تتعاونا (عَلَيْهِ) أي على النبي بما يسؤه لديه من الافراط في الغيرة لكثرة ميلهما إليه (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي ناصره (وَجِبْرِيلُ [التحريم: 4] ) بكسر الجيم وفتحها (الآية) أي وصالح المؤمنين كأبي بكر وعمر والملائكة أي بقيتهم بعد ذلك أي بعد نصره سبحانه وتعالى ظهير أي مظاهرون له (وقال تعالى إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12] ) أي بأني معكم معينا لهم (وقال إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أي بمناجاتكم ومناداتكم يا غياث المستغيثين اغثنا أعنا على أعدائنا وعن عمران رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأى الكفار ألفا وأصحابه ثلاثمائة أي في بدر فرفع يديه مستقبلا يقول اللهم انجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه فقال أبو بكر يا نبي الله حسبك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) أي ربكم (أَنِّي مُمِدُّكُمْ [الأنفال: 9] ) أي بأني معاونكم (الآيتين) أي بألف من الملائكة مردفين بكسر الدال أي متتابعين وبفتحها أي يردف بعضهم ببعض وكان الظاهر أن يقول الآية ولعله أراد إشارة بالآيتين من السورتين أي الأنفال وآل عمران وهي قوله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ فيكون الإيماء إلى القصتين من بدر وأحد حيث وقع الوعد في الثاني مقيدا بشرط الصبر ولما فقد فقد المدد والنصر ولا يبعد أن يراد بالآيتين قوله إِذْ يُوحِي وقوله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ بل هو الأظهر فتدبر، (وقال وَإِذْ صَرَفْنا) أي أملنا ووجهنا (إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ) أي جن نصيبين (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29] الآية) أي فلما حضروه نهضوا قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ الآيات هذا وقد ورد أنه لما حرست السماء نهضوا فوافوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بوادي النخلة منصرفه يقرأ في صلاة الصبح فاستمعوا قراءته وأما حديث ابن مسعود أنه حضر معه ليلة الجن فثابت أيضا كما بينته في محله وسيأتي أيضا تقرير بعضه. (حدّثنا سفيان بن العاصي) كذا بالياء والأظهر أنه بلا ياء فإنه معتل العين لا اللام كما قدمنا (الفقيه) سبق ذكره (بسماعي عليه) أي في حضوري لديه (حدّثنا أبو اللّيث السّمرقنديّ) أي من أئمة الحنفية (ثنا عبد الغافر الفارسيّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 بكسر الراء ويسكن (حدّثنا أبو أحمد الجلوديّ) بضم الجيم وتفتح (ثنا ابن سفيان) وهو إبراهيم بن محمد بن سفيان راوي صحيح مسلم عنه (ثنا مسلم) أي القشيري النيسابوري صاحب الصحيح (ثنا عبيد الله) مصغرا (ابن معاذ) بضم الميم قال أبو داود كان يحفظ عشرة آلاف حديث روى عنه مسلم وغيره (ثنا أبي) أبوه معاذ بن معاذ التميمي العنبري الحافظ قاضي البصرة قال أحمد إليه المنتهى في الثبت بالبصرة (ثنا شعبة) إمام جليل في الحديث (عن سليمان الشّيبانيّ) أخرجه له الأئمة الستة (سمع زرّ بن حبيش) بالتصغير وزر بكسر الزاء وتشديد الراء هو أبو مريم الأسدي عاش مائة وعشرين سنة وكان من أكابر القراء المشهورين من أصحاب ابن مسعود وسمع عمر وعليا وعنه عاصم بن أبي النجود وخلق (عن عبد الله) أي ابن مسعود (قال) أي الله سبحانه وتعالى (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النَّجْمِ: 18] قال) أي ابن مسعود (رأى) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (جبريل في صورته) أي اصل خلقته (له ستمائة جناح) يدل على كمال عظمته كما يشير إليه مزيته قوله تعالى جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وهذا الموقوف أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي قال التلمساني قيل رأه في صورته مرتين خاصة وما عداهما لم يره هو وغيره من الملائكة إلا في صورة الآدميين ليأنس بهم ومن تمام الحديث له ستمائة جناح مثل الزبرجد الأخضر فغشي عليه؛ (والخبر) أي الحديث والأثر (في محادثته) أي مكالمته عليه الصلاة والسلام (مع جبريل وإسرافيل وغيرهم) بصيغة الجمع لتعظيمهما أو لأن أقل الجمع اثنان وفي نسخة وغيرهما (من الملائكة) كعزرائيل وملك الجبال ومالك خازن النار (وما شاهده من كثرتهم) كحديث أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فيها موضع قدم إلا وفيه ملك إما راكع أو ساجد (وعظم صور بعضهم) عزرائيل وإسرافيل وسائر حمله العرش (ليلة الإسراء مشهور) أي رواه الأئمة كخبر يا محمد هذا ملك الجبال يسلم عليك قال التلمساني وروى ابن عباس مرفوعا أنه رأى ليلة المعراج في مملكة الله تعالى رجالا على أفراس بلق شاكي السلاح طول كل واحد مسيرة ألف سنة وكذلك طول كل فرس يذهبون متتابعين لا يرى أولهم ولا آخرهم قال فقلت يا جبريل من هؤلاء قال ألم تسمع قوله تعالى وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ثم قال أنا أهبط وأصعد وأراهم هكذا يمرون لا أدري من أين يجيئون ولا أين يذهبون ذكره النسفي في زهر الرياض قاله الأنطاكي (وقد رآهم) أي الملائكة وفي أصل الدلجي رآه أي جبريل (بحضوره) أي بحضوره عليه السلام وهي بفتح فسكون وقال التلمساني إن الحاء مثلثة ويقال أيضا بسكون الضاد وفتحها (جماعة من أصحابه) أي الكرام (في مواطن مختلفة) أي متفاوتة الأيام (فرأى أصحابه) أي بعضهم (جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ يَسْأَلُهُ عن الإسلام) وفي نسخة زيادة والإيمان والحديث رواه الشيخان وغيرهما من طرق متعددة والمعنى في صورة رجل غير معروف كما في أصل الحديث المذكور فقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 الدلجي كدحية ليس في محله وإن تجج بتوشيح شرحه (ورأى ابن عبّاس وأسامة) أي ابن زيد كما في نسخة وهو ابن حارثة (وغيرهما عنده) أي بحضرته (جبريل في صورة دحية) بكسر الدال وتفتح وهو ابن خليفة الكلبي المشهور بالحسن الصوري وقد اسلم قديما وشهد المشاهد كلها بعد بدر وأرسله عليه السلام بكتاب معه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى هرقل وأما رؤية ابن عباس له فزواها الترمذي ولفظه ابن عباس رأى جبريل مرتين وأما رؤية أسامة له فرواها الشيخان عنه وفيها أن أم سلمة رأته وأما غيرهما كعائشة فروى رؤيتها البيهقي وقال التلمساني وحارثة بن النعمان رأى جبريل مرتين وأقرأه جبريل عليه السلام وجرير بن عبد الله البجلي مسحه ملك وحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة وحسان بن ثابت أيده الله بجبريل لمناضحته عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم وسعد بن معاذ نزل لجنازته سبعون ألف ملك ما نزلوا من قبل قط (ورأى سعد) أي ابن أبي وقاص كما في الصحيحين (على يمينه ويساره جبريل وميكائيل) لف ونشر مرتب على ما هو الظاهر المتبادر (في صورة رجلين عليهما ثياب بيض) بالوصف وتجوز الإضافة قال الحلبي في مسلم يعنى جبريل وميكائيل ولم يسميا في البخاري فكونهما جبريل وميكائيل لم يقله سعد وإنما الراوي عنه قاله عنه أو من دونه ذكر ذلك والله تعالى أعلم قلت ولفظ مسلم رأيت عن يمين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد يعنى وميكائيل (ومثله) أي ومثل ما روى سعد (عن غير واحد) أي صدر عن كثير من الصحابة؛ (وسمع بعضهم زجر الملائكة) بفتح الزاء وسكون الجيم أي جثهم وحملهم على السرعة (خيلها يوم بدر) أي كما رواه عن عمر (وبعضهم رأى تطاير الرّؤوس من الكفّار) أي في بدر (ولا يرون الضّارب) كما رواه البيهقي عن سهل بن حنيف وأي واقد الليثي وقال أبو داود المازني على ما في رواية ابن إسحاق إني لاتبع رجلا من المشركين يوم بدر لاضربه إذ رفع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري (ورأى أبو سفيان بن الحارث) بن عبد المطلب وهو ابن عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يومئذ) أي يوم بدر (رجالا بيضا) بكسر الباء جمع أبيض ولم يضم الباء محافظة على الياء (على خيل بلق) بضم فسكون جمع ابلق والبلق محركة سواد وبياض كالبلقة بالضم (بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ) وفي نسخة لا يقوم لها شيء أي لا يطيق ولا يقاوم لتلك الرجال شيء أي مما خلق الله تعالى فإن ملكا واحدا كاف في اهلاك أهل الدنيا جميعا فقد أهلك جبريل مدائن قوم لوط بريشة من جناحه وثمود بصيحة من صياحه هذا وقد روى البيهقي عن سهيل بن عمرو أنه هو الذي رآهم لكن لا منع من الجمع بعد تحقق السمع (وقد كانت الملائكة تصافح عمران بن حصين) كما رواه ابن سعد عن قتادة وفي مسلم أنها كانت تسلم عليه (وأرى النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ جِبْرِيلَ فِي الْكَعْبَةِ فَخَرَّ) أي سقط حمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 (مغشيّا عليه) أي من عظمته وهيبته وحديثه هذا رواه البيهقي عن مسلم بن يسار مرسلا (ورأى عبد الله بن مسعود الجنّ) كما رواه البيهقي عنه (ليلة الجنّ) أي ليلة أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن ينذرهم (وسمع) أي ابن مسعود (كلامهم وشبّههم) أي في الخلق والنطق (برجال الزّطّ) بضم الزاء وتشديد الطاء قوم من السودان أو الهنود طوال قال الحلبي وفي حديث مسلم عنه أنه لم يكن مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة الجن لكن ذكر ابن سيد الناس في سيرته ما لفظه أن الحديث المشهور عن عبد الله بن مسعود من طرق متظاهرة يشهد بعضها لبعض ويشيد بعضها بعضا قال ولم تنفرد طريق ابن زيد إلا بما فيها من التوضئ بنبيذ التمر انتهى وقد جاء الحديث الذي ذكره من غير طريق ابن زيد وهو ابن ماجة من حديث ابن عباس وفيه الوضوء بنبيذ التمر لكن في السند عبد الله بن لهيعة والعمل على تضعيف حديثه وهو مرسل صحابي والعمل على قبوله خلافا لبعض الناس أي من الشافعي واتباعه هذا وقد ورد من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خطب ذات ليلة ثم قال ليقم من لم يكن في قلبه مثقال ذرة من كبر فقام عبد الله ابن مسعود فحمله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع نفسه فقال ابن مسعود خرجنا من مكة فخط رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حولي خطا وقال لا تخرج عن هذا الخط فإنك إن خرجت عنه لم تلقني إلى يوم القيامة ثم ذهب يدعو الجن إلى الإيمان ويقرأ القرآن حتى طلع الفجر ثم رجع بعد طلوع الفجر وقال لي هل معك ماء اتوضأ به قلت لا إلا نبيذ التمر في إداوة فقال تمرة طيبة وماء ظهور وأخذه وتوضأ به وصلى الفجر وقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني عن ابن مسعود نحوه وكذا الطحاوي وغيره وقد اثبت البخاري كون ابن مسعود مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم باثني عشر وجها فلا يلتفت إلى قول الدلجي وأما حديث ابن مسعود أنه حضر معه ليلة الجن فضعيف ففي صحيح مسلم أنه لم يكن معه فإنا نقول رواية البخاري أصح وأرجح والقاعدة أن الإثبات مقدم على النفي عند الأثبات مع أن ليلة الجن كانت ست مرات أو المراد بنفي كونه معه أنه لم يحضر مجلس المحاورات والله أعلم بالحالات؛ (وذكر ابن سعد) وهو مصنف الطبقات الكبرى والصغرى ومصنف التاريخ ويعرف بكتاب الواقدي سمع ابن عيينة وابن معين وحدث عنه ابن أبي الدنيا وغيره مات سنة ثلاثين ومائتين (أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ لَمَّا قُتِلَ يَوْمَ أحد) أي وكان صاحب الراية (أَخَذَ الرَّايَةَ مَلَكٌ عَلَى صُورَتِهِ فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له) أي ظنا منه أنه هو (تقدّم) إلي جهة العدو (يا مصعب فقال له الملك) أي مرة في جوابه (لست بمصعب فعلم) بصيغة الفاعل أو المفعول أي فعرف (أنّه ملك) لكن روى ابن أبي شيبة في مصنفه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال يوم أحد أقدم مصعب فقال له عبد الرحمن بن عوف يا رسول الله ألم يقتل مصعب قال بلى لكن قام مكانه وتسمى باسمه انتهى وفيه احتمال أنه عرفه من أول الوهلة وأنه لم يعرفه حتى عرفه ثم كان يقول له مصعب من قبيل تجاهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 العارف أو تنزيل المجهول منزلة المعلوم أو تسمية له باسمه أو على تقدير مضاف نحو نائبه والله تعالى أعلم؛ (وقد ذكر غير واحد من المصنّفين) كالبيهقي وابن ماكولا في اكماله (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّه قال بينا نحن جلوس) يروى أنا جالس (مع النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ بِيَدِهِ عَصًا فسلّم على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فردّ عليه) أي السلام، (وقال نغمة الجنّ) بفتح النون أي هذه حركته وصوته وفي نسخة نغمة جني، (من أنت) أي منهم (قال أنا هامة) بتخفيف الميم وفي بعض الروايات الهام (بن الهيم) بكسر فسكون تحتية وفي نسخة صحيحة بفتح هاء وكسر تحتية مشددة أو مخففة (ابن لاقس) بكسر القاف أو لاقيس بزيادة تحتية (ابن إبليس) كان اسمه عزازيل قال التلمساني وهو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر وقد ذكره البغوي في تفسيره عن مجاهد قال من ذرية إبليس لاقيس بالياء (فذكر أنّه لقي نوحا ومن بعده) أي من الأنبياء وغيرهم (في حديث طويل) قال بعضهم إنه موضوع كما ذكره الحلبي (وأنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم علّمه سورا في القرآن) قال الحلبي وفي الميزان في حديثه المذكور أنه عليه السلام علمه المرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت والمعوذتين وقل هو الله أحد الحديث بطوله ذكر الأنطاكي وغيره أنه قال بينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يمشي في بعض جبال مكة أو عرفات إذ أقبل شيخ أعرج بيده عصا يتوكأ عليها فقال السلام عليك يا محمد فقال صلى الله تعالى عليه وسلم مشية الجن ونغمتهم قال نعم من أي الجن أنت قال أنا الهام بن الهيم بن لاقيس فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كم أتى عليك قال أنا كنت يوم قتل قابيل هابيل غلاما أطوف في الآكام وأفسد أطايب الطعام وأمنع من الاستعصام وآمر بقطيعة الأرحام فقال صلى الله تعالى عليه وسلم بئس صفة الشاب المؤمل والشيخ المرجو قال مهلا يا محمد دعني عنك من اللوم إنما جئتك تائبا وكانت توبتي في زمن نوح عليه الصلاة والسلام وعلى يديه ولقد كنت معه في السفينة وعاتبته في دعائه على قومه حتى بكى وأبكاني وقال والله أصبحت من النادمين وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقد كنت مع هود حين دعا على قومه فأهلكهم أن بالريح العقيم فعاتبته في دعائه على قومه حتى بكى وأبكاني وقال والله أصبحت من النادمين وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقد كنت مع هود حين دعا على قومه فأهلكهم أن بالريح العقيم فعاتبته في دعائه على قومه حتى بكى وأبكاني وقال والله أصبحت من النادمين وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقد كنت مع صالح في مسجده حين دعا على قومه فأخذتهم الصيحة فعاتبته في دعائه على قومه حتى بكى وأبكاني وقال والله أصبحت من النادمين وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقد كنت مع إبراهيم يوم قذف في النار واسعى بين منجنيقه واطفئ نيرانهم حتى جعلها الله عليه بردا وسلاما وأن موسى بن عمران أوصاني إن بقيت إلى أن يبعث عيسى ابن مريم أن أقرأه منه السلام فلقيت عيسى فاقرأته السلام وقال لي عيسى ابن مريم إن بقيت إلى أن تلقى محمدا فاقرأه مني السلام فجئت اقرأ عليك السلام فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى عيسى السلام ما دامت السموات والأرض وعليك يا هام فإنك قد أديت الأمانة فما حاجتك قال إن موسى علمني التوراة وعيسى علمني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 الإنجيل وأحب أن تعلمني شيئا من القرآن فاقرأه في صلاتي فعلمه عشر سور من القرآن فلم ير بعد انتهى لكن قال ابن نصر هذا الحديث موضوع وقاله ابن الجوزي أيضا وقال العقيلي لا أصل له والله تعالى أعلم (وذكر الواقديّ) وكذا روى النسائي والبيهقي عن أبي الطفيل (قتل خالد) أي ابن الوليد (عند هدمه العزّى) تأنيث الأعز سمرة كانت لغطفان يعبدونها وكانوا بنوا عليها بيتا (للسّوداء التي خرجت له) أي لخالد من الشجرة بعد قطعها (ناشرة) أي مفرقة (شعرها عريانة) أي واضعة يدها على رأسها داعية يا ويلها (فجزّ لها) بجيم وزاء مخففة وتشدد للمبالغة أي قطعها نصفين (بسيفه) وهو يقول يا عزى كفرانك لا غفرانك إني رأيت الله قد أهانك ويروى فجدلها بتشديد الدال أي فصرعها وفي رواية فخزلها بالخاء المعجمة والزاء المخففة أي فقطعها (وأعلم) أي خالد (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فقال) أي له كما في نسخة (تلك العزّى) زيد في رواية لن تعبد أبدا وفي رواية تلك شيطانة (وقال عليه السلام) كما في الصحيحين عن أبي هريرة (إنّ شيطانا) من شطن إذا بعد لبعده عن الخير أو من شاط إذا هلك لهلاكه في الشر (تفلّت) بتشديد اللام أن تخلص بغتة (البارحة) أي في الليلة الماضية (ليقطع عليّ صلاتي) والمعنى تعرض لي بغتة ليغلبني في أداء صلاتي غفلة (فأمكنني الله منه) أي أقدرني الله عليه (فأخذته فأردت أن أربطه) بكسر الموحدة وتضم (إلى سارية من سواري المسجد) أو منضما إلى أسطوانة من أسطوانات مسجد المدينة (حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سليمان رَبِّ اغْفِرْ لِي) أي ما صدر عني في أمر ديني وهو بدل من دعوة أخي (وَهَبْ لِي) أي من الدنيا مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] ) أي لا يتسهل لغيري في حياتي أو بعد مماتي مبالغة في زيادة خارقة للعادة (فردّه الله خاسئا) أي خائبا وهذا صريح في أن هذا الشيطان أحد الجن الموثقة بالقيود لدلالة تفلت عليه ولإشارة التنكير إليه فلا وجه لقول الحلبي هذا الشيطان يحتمل أن يكون إبليس وأنه جاء ليلقي في وجهه عليه السلام شهابا من نار فأخذه ويحتمل أن يكون غيره والذي ظهر لي أنهما قصة واحدة انتهى كلامه وقال القاضي يفهم منه أن مثل هذا مما خص به سليمان عليه السلام دون غيره من الأنبياء واستجيبت دعوته في ذلك ولذلك امتنع نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من أخذه إما تواضعا أو تأدبا أو تسليما لدعوة سليمان عليه السلام قلت والتسليم أولى واسلم وأما ما نقل عن الحجاج أنه قال لقد كان حسودا فصريح في كفره وقال ابن عطية وهذا من فسقه وقال ابن عرفة كان بعضهم يقول هذا من جهله والله سبحانه وتعالى اعلم بحاله ومآله (وهذا باب واسع) أي لا يمكن استقصاؤه ولا يتصور استيعابه. فصل [وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ] (ومن دلائل نبوّته) أي دلالات بعثته من أول حالته (وعلامات رسالته) وبخط القاضي وعلامة رسالته (ما ترادفت به الأخبار) أي تتابعت وتواترت الآثار (عن الرّهبان والأحبار) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 من زهاد النصارى وعبادهم وعلماء اليهود وقوادهم كخبر الراهب بحيرا وكان في زمنه أعلم النصارى وقد سافر به عمه أبو طالب في اشياخ من قريش إلى الشام فوافوا بصرى من ديار الشام فنزل من صومعته وكان قبل ذلك لا ينزل لمن نزل به الحديث وقد تقدم وكخبر حبر بني عبد الأشهل من اليهود إذ أتى نادى قومه فذكر البعث والحساب والميزان والجنة والنار وذلك قبل مبعثه عليه السلام فقالوا ويحك هذا كائن وأن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ويجزون بأعمالهم قال نعم ولوددت إن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور ثم تقذفوني فيه وتطبقوه علي وأني أنجو به من النار غدا فقيل له ما علامة ذلك قال نبي بعثه الله من هذه البلاد وأشار بيده إلى مكة قالوا متى فرمى بطرفه إلى أصغر القوم فقال إن يعش هذا يدركه فلما بعث آمنا به وصدقناه وكفر هو به فقلنا له ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا فقال ليس به (وعلماء أهل الكتب) أي من غيرهم وفي نسخة الكتاب على قصد الجنس وفي أصل الدلجي وعلماء أهل الزمان فهو من باب عطف العام على الخاص (من صفته وصفة أمّته) كخبر عبد الله بن سلام قال في التوراة صفة محمد عليه الصلاة والسلام وعيسى ابن مريم يدفن معه وخبر كعب الأحبار قال نجد في التوراة محمد رسول الله عبدي المختار إلى أن قال مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وأمته الحامدون يحمدون الله تعالى في السراء والضراء الحديث وقد سبق (واسمه) أي محمد في التوراة وأحمد في الإنجيل وقال وهب بن منبه في الزبور يا داود سيأتي من بعدك نبي يسمى أحمد ومحمدا صادقا سيدا لا أغضب عليه أبدا ولا يعصيني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة وأعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوا يوم القيامة نورهم مثل نور الأنبياء (وعلاماته) أي كما في الإنجيل صاحب المدرعة والعمامة والنعلين والهراوة ونحو ذلك (وذكر الخاتم الذي بين كتفيه) كما هو في كتب أهل الكتاب وقد بينت في شرح الشمائل هذا الباب (وَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْمُوَحِّدِينَ) وفي اصل الدلجي وَمَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْمُوَحِّدِينَ أي القائلين بالوحدة الإلهية (المتقدّمين) أي في زمن الجاهلية (من شعر تبّع) بضم التاء وتشديد الموحدة أحد ملوك اليمن وشعره هذا بعد منصرفه من المدينة وكان قد نازل أهلها الأوس والخزرج واليهود فكانوا يقاتلونه نهارا ويضيفونه ليلا واستمر ثلاث ليال فاستحيى فأرسل ليصالحهم فخرج إليه من الأوس أحيحة ابن الجلاح ومن يهود بنيامين القرظي فقال له أحيحة أيها الملك نحن قومك وقال بنيامين أيها الملك هذه بلدة لا تقدر أن تدخلها قال ولم قال لأنها منزل نبي يبعثه الله من قريش فأنشده شعرا منه: ألقى إلى نصيحة كي أزدجر ... عن قرية محجورة بمحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 قال التلمساني وهو أبو كريب الذي كسا البيت ولم يسبقه إليه أحد ومن شعره المتواتر عنه قوله: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله بارئ النسم فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم في أبيات كتبها وأودعها إلى أهله فكانوا يتوارثونها كابرا عن كابر إلى أن هاجر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأدوها إليه ويقال كان الكتاب والأبيات عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه (والأوس بن حارثة) والحارثة بحاء مهملة ابن لأم الطائي وهو ممن يوحد الله تعالى من أهل الفترة (وكعب بن لؤيّ) بضم لام ففتح همزة وتبدل وتشديد تحتية وهو سابع أجداده عليه الصلاة والسلام وأما ما في نسخة لؤي بن كعب فخطأ (وسفيان بن مجاشع) أي وأشعارهم فيه صلى الله تعالى عليه وسلم لكنها غير مشهورة (وقسّ بن ساعدة) بضم القاف وتشديد السين أسقف نجران وكان من حكماء العرب ومن شعره: الحمد لله الذي ... لم يخلق الخلق عبث لم يخلنا منه سدى ... من بعد عيش وأكترث أرسل فينا أحمدا ... خير نبي قد بعث صلى عليه الله ما ... حج له ركب وحث وقد رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعكاظ وغيره ومن ثمه عده ابن شاهين وغيره في الصحابة (وما ذكر) عطف على ما وجد أي وما نقل (عن سيف بن ذي يزن) بفتح الياء والزاء مصروفا ويمنع وهو من ملوك حمير ومن كان شريفا من أهل اليمن يقال له ذو يزن وقد ذكره الذهبي في الصحابة وقال ما لفظه سيف بن ذي يزن أهدى إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حلة وهو مشهور انتهى وقال الدلجي خبره أنه قال لجده عبد المطلب بن هاشم وقد وفد عليه ومن معه من قومه ليهنوه بنصرته على الحبشة أني مفض إليك من سر علمي ما لو غيرك لم أبح به إذ قد رأيتك معدنه فاكتمه حتى يأذن الله فيه أني أجد في علمنا الذي ادخرناه لأنفسنا وحجبناه عن غيرنا خبرا عظيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة قال فما هو قال إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة فقال أيها الملك لقد أتيت بخبر ما آب به وافد ثم قال أيها الملك ابن لي ما ازداد به سرورا قال سيف هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه محمد يموت أبوه وأمه ويكفل جده وعمه وقد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا أو جاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويضرب بهم الناس عن العرش ويفتح بهم كرائم أهل العرض يعبد الرحمن ويدحض الشيطان ويحمد النيران ويكسر الأوثان قوله فصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله فقال أيها الملك قد أوضحت بعض الإيضاح قال سيف والله إنك لجده فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك قال نعم إنه كان لي ابن كنت به معجبا وعليه شفيقا وأن زوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سميته محمدا مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه قال له سيف فاحتفظ به وأحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله تعالى لهم عليه سبيلا وأطو ما ذكرت لك عمن معك فلست آمن عليك أن يحسدوك أو أبناؤهم ولولا أني أعلم أني أموت قبل مبعثه لجعلت يثرب دار ملكي فإنها مهاجره وأهلها أنصاره وبها قبره ولولا خوفي عليه لأعلنت على حداثة سنه امره ولأوطأت على أنوف العرب كعبه وقد صرفت ذلك إليك من غير تقصير مني معك وإذا حال الحول فأتني بخبره وما يكون من أمره فمات سيف قبل الحول وقد ذكره الذهبي في الصحابة مع إيمانه به في حياته ولم يره فالحق أنه مخضرم والله تعالى أعلم (وغيرهم) أي كالراهب الذي قال لسلمان الفارسي إذ قال له بمن توصيني أكون عنده بعدك أعبد الله أي نبي والله ما أعلم أحدا على ما كنا عليه أوصيك أن تكون عنده ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم مهاجره بين حرتين في أرض سبخة ذات نخل فيه علامات لا تخفى بين كتفيه خاتم النبوة يأكل الهدية دون الصدقة فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل. (وما عرّف) بتشديد الراء على بناء الفاعل لا المفعول كما وهم الدلجي أي وما أعلم (به من أمره) أي بعضه (زيد بن عمرو بن نفيل) بالتصغير قال الحلبي زيد هذا والد سعيد أحد العشرة وهو ابن عم عمر بن الخطاب وكان زيد يتعبد في المقبرة قبل النبوة على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويتطلب أحكامه الكرام ويوجد الله ويعيب على قريش ذبائحهم على الأنصاب ولا يأكل مما ذبح على النصب وكان إذا دخل الكعبة قال لبيك حقا تعبدا ورقا عذت بما عاذ به إبراهيم جاء ذكره في أحاديث وتوفي قبل النبوة فرثاه ورقة بن نوفل بأبيات معناها أنه خلص نفسه من جهنم بتوحيده واجتنابه عن عبادة الأوثان وفي صحيح البخاري في كتاب المناقب ذكره وبعض مناقبه قال الدلجي ذكر زيد عن راهب بالجزيرة إذ قال له وقد سأله عن دين إبراهيم عليه السلام أن كل من رأيت يعني من الأحبار والرهبان في ضلال أنك تسأل عن دين الله ودين ملائكته وقد خرج في أرضك نبي أو هو خارج يدعو إليه أرجع إليه فصدقه واتبعه فلقيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يبعث ببلدح فقال له أي عم ما لي أرى قومك قد أنفوك قال أما والله إن ذلك لغير ثائرة مني إليهم ولكني أراهم على ضلالة فخرجت ابتغي هذا الدين ثم أخبره بما عرف به راهب الجزيرة من أمره صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال فرجعت فلم اختبر شيئا بعد فقدم صلى الله تعالى عليه وسلم له سفرة فيها لحم فقال أنا لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه ثم مات قبل أن يبعث فقال صلى الله تعالى عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة كما رواه النسائي هذا وعد ابن منده له ولغيره ممن رآه عليه السلام واجتمع به قبل البعثة من الصحابة الكرام توسع في الكلام إذ لم يجتمع به صلى الله تعالى عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 بعدها مؤمنا (وورقة بن نوفل) أي وما عرف به من أمره ورقة بن نوفل بن أسد عن رهبان كثيرين وقد أخبرته خديجة بنت خويلد بن أسد بما أخبرها به غلامها ميسرة من قول الراهب وأنه رأى ملكين يظلانه فقال إن كان هذا حقا فمحمد نبي هذه الأمة وقد عرفت إن لها نبيا ينتظر وهذا زمانه ثم إنه كان يستبطئ الأمر حتى قال شعرا: تبكر أم أنت العشية رائح ... وفي الصدر من إضمارك الحزن فادح لغرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح فأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح فذاك الذي وجهت يا خير حرة ... بغور وبالنجدين حيث الصحاصح إلى سوق بصرى والركاب التي غدت ... وهن من الأحمال قعص دوائح يخبرنا عن كل خير بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح بان ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما بعث العبدان هود وصالح وموسى وإبراهيم حتى يرى له ... بهاء وميسور من الذكر واضح وتتبعها حبا لؤي جماعة ... شبابهموا والأشيبون الجحاجح فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فأنى به مستبشر الود فارح والأفاني يا خديجة فاعلمي ... عن أرضك في الأرض العريضة سائح وهذه شواهد صدق بإيمانه مع ما ذكر بعضهم بأنه صحابي بل هو أول الصحابة من أنه اجتمع به بعد الرسالة إذ صح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أتاه بعد مجيء جبريل إليه وإخباره له عن ربه بأنه رسول هذه الأمة بعد إنزال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ عليه وبعد قول ورقة له أبشر فأنا اشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على ناموس عيسى وأنك نبي مرسل وقد ورد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رآه في الجنة وعليه ثياب خضر وفي مستدرك الحاكم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لا تسبوا ورقة فإني رأيته في الجنة وعليه جبة أو جبتان وأما ما نقله الذهبي عن ابن منده أنه قال الأظهر أنه مات بعد النبوة قبل الرسالة فواه جدا ويرده ما في صحيح البخاري عنه صريحا (وعثكلان) بفتح العين والكاف وتضمان واقتصر عليه بعضهم (الحميريّ) بكسر الحاء وفتح الياء نسبة إلى حمير أبي قبيلة من اليمن ومنهم كانت الملوك في الدهر الأول أي وما عرف به من أمره من الرهبان لكني لم أر من ذكره في معرض البيان (وعلماء اليهود) وفي نسخة وعلماء يهود أي من كتبهم أو من أخبارهم عن أحبارهم كقوله عالم منهم كان بمكة يتجر في نادي من قريش هل ولد فيكم الليلة مولود قالوا لا نعلم قال الله أكبر أما إذا أخطأكم خبر فانظروا واحفظوا ما أقول لكم ولد في هذه الليلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس فتفرقوا متعجبين من قوله فسأل كل أهله فقالوا قد ولد الليلة لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا فأخبروا اليهودي به فقال اذهبوا ننظره فدخلوا به على أمه فرأى العلامة فخر مغشيا عليه ثم أفاق فقالوا ويلك ما دهاك فقال ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل افرحتم به معشر قريش ليسطون بكم سطوة يطير خبرها في المشرق والمغرب (وشامول) بشين معجمة ثم ميم وفي آخره لام لا كاف كما في أصل الدلجي (عالمهم صاحب تبّع) وهو الذي مر بالمدينة ومعه رهبان فقالوا له إن هذه مهاجر نبي آخر الزمان وإنا لن نبرح منها لعلنا ندركه أو ابناؤنا فأعطى كل واحد منهم مالا وجارية فمكثوا فيها وتوالدوا بها فيقال الأنصار من ذريتهم (من صفته وخبره) بيان لما عرف به زيد ومن ذكر من بعده (وما ألفي) بضم همزة فكسر فاء وأما القاف كما في نسخة فهو تصحيف والمعنى ما وجد (من ذلك) أي مما دل على ما ذكر من صفته وخبره (فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِمَّا قَدْ جَمَعَهُ الْعُلَمَاءُ) أي علماء هذه الأمة (وبيّنوه) ففي التوراة أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام أن هاجر تلد ويكون من ولدها من يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخشوع وقال لموسى عليه السلام إني مقيم لهم نبيا من بني إخوتهم مثلك وأجري قولي في فيه يقول لهم ما آمرهم والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي فأنا انتقم منه وفي الإنجيل قال عيسى عليه السلام إني أطلب إلى ربي فارقليطا يكون معكم إلى الأبد وفيه على لسانه فارقليط روح القدس الذي يرسله ربي باسمي أي النبوة هو الذي يعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء ويذكركم ما قلته وإني قد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنوا به وفارقليط معناه كاشف الخفيات وفيه أقول لكم الآن حقا انطلاقي عنكم خير لكم فإن لم تنطلق عنكم إلى ربكم لم يأتكم الفارقليط وإن انطلقت أرسلت به إليكم فإذا جاء يفيد العالم ويؤنبهم ويوبخهم ويوقعهم على الخطيئة والبراذن روح اليقين يرشدكم ويعلمكم ويدبر لجميع الخلق لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء نفسه (ونقله عنهما) أي عن التوراة والإنجيل وفي أصل الدلجي عنهم فإن صح نسخة فالضمير إلى العلماء لكنه لا يلائم قوله (ثقات من أسلم) وفي نسخة ثقاة من أسلم بالإضافة (منهم) أي من علماء اليهود والنصارى (مثل ابن سلام) هو الحبر عبد الله بن سلام من علماء اليهود وأخباره شهيرة كثيرة (وابني سعية) بفتح فسكون فتحتية أو فنون والمعروف انهما اثنان فما في بعض النسخ وبني سعية من غير ألف لعله سهو أو محمول على ان أقل الجمع اثنان وأن قول الحلبي فيحتمل أن القاضي رأى معهما أسد بن عبيد فظنه أخاهما فهو من الظن السوء به نعم قوله ويحتمل أنه وقف على أنهم ثلاثة ظن حسن وتوجيه مستحسن هذا وفي دلائل النبوة للبيهقي وسيرة ابن سيد الناس عن ابن إسحاق قال أسيد أو ثعلبة ابني سعية وأسيد بن عبيد نفر من هذيل ليسوا من بني قريظة ولا النضير يعني نسبهم فوق ذلك وهو بنو عم القوم اسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالوا قدم علينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 قبل البعثة بسنتين حبر من يهود الشام يقال له ابن الهيبان فأقام عندنا فكنا نستسقي به فحضرته الوفاة فجئناه فقال يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من الرخاء إلى أرض البؤس قالوا أنت أعلم قال إنما خرجت أتوقع مبعث نبي قد أظل زمانه ومهاجره هذه البلاد فاتبعوه فلا يسبقكم إليه أحد فإنه يبعث بسفك دماء من خالفه وسبي ذراريهم ثم مات فلما فتحت خيبر قال أولئك النفر الثلاثة وكانوا شبانا أحداثا يا معشر يهود والله إنه للذي كان يذكر لكم ابن الهيبان قالوا ما هو به قالوا بلى ثم نزلوا فاسلموا وخلوا أموالهم وأولادهم وأهليهم في الحصن فردها عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (وبنيامين) سمي أخي يوسف عليه السلام (ومخيريق) بالتصغير وخاؤه معجمة قال السهيلي إنه أسلم وأوصى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال المصنف أوصى بسبعة حوائط قال الحلبي قاتل يوم أحد حتى قتل وقال الواقدي كان حبرا عالما فآمن بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو من بني النضير انتهى وقد صرح غير واحد من الحفاظ بأنه اسلم (وكعب) أي كعب الأحبار (وأشباههم ممّن أسلم من علماء اليهود) أي ولو بعد موته عليه الصلاة والسلام مثل كعب فإنه تابعي مخضرم ولم ير النبي عليه الصلاة والسلام وإنما اسلم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه (وبحيرا) بفتح باء وكسر حاء فراء ممدودا ومقصورا ممن شهد له بالرسالة قبل دعوى النبوة فهو من الصحابة إن لم يشترط الاجتماع بعد البعثة (ونسطور) بفتح النون وسكون السين وفي نسخة نصطور وفي نسخة بنون في آخر بدل الراء (الحبشة) قيده بهم احترازا من نسطور الشام وهو الذي جرى له ما جرى مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في متجره لخديجة في رحلته الثانية إلى الشام (وضغاطر) بفتح أوله وكسر الطاء وهو الأسقف الرومي اسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه فهو تابعي مخضرم وذكره الذهبي في تجريد الصحابة (وصاحب بصرى) بضم موحدة وسكون مهملة مقصورا والمراد به عظم بصرى كما في البخاري (وأسقف الشّام) بضم همزة وقاف وتشديد فاء ولعله نسطوره المحترز عنه فيما تقدم (والجارود) أي ابن العلاء وفد في قومه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال والله لقد جئت بالحق ونطقت بالصدق والذي بعثك بالحق نبيا لقد وجدت وصفك في الإنجيل وبشر بك ابن البتول فطول التحية لك والشكر لمن أكرمك لا أثر بعد عين ولا شك بعد يقين مد يدك فأنا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ محمد رسول الله ثم آمن قومه (وسلمان) أي الفارسي (والنّجاشيّ) وهو أصحمة (ونصارى الحبشة وأساقف نجران) بفتح الهمزة وكسر القاف وتخفيف الفاء جمع اسقف أي علمائهم ورؤسائهم ونجران بفتح نون وسكون جيم موضع باليمن فتح سنة عشر كذا في القاموس وقال الذهبي في تجريد الصحابة ما لفظه أسقف نجران قال أبو موسى لا أدري أسلم أم لا ويذكره غيره نقله الحلبي (وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى وَقَدِ اعترف بذلك) أي بصحة نبوته وعموم رسالته (هرقل) بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف وفي نسخة بسكون الراء وفتح القاف وفي أخرى بفتح الهاء والقاف (وصاحب رومة) كذا في أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 النسخ وقال الحلبي صوابه رومية بتخفيف الياء كما في الصحيح وهي مدينة رياسة الروم وعلمهم (عالما النّصارى ورئيساهم) كما في البخاري ثم هرقل كتب إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى جاءه كتاب من صاحبه يوافقه على خروج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنه نبي ويروى النصرانية ورئيساها (ومقوقيس) بضم الميم وكسر القاف الثانية (صاحب مصر) أي ملك القبط قال الذهبي في تجريد الصحابة المقوقس صاحب الإسكندرية أهدى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا مدخل له في الصحابة ذكره ابن منده وأبو نعيم وما زال نصرانيا ومنه أخذت مصر واسمه جريج انتهى وسماه الدارقطني جريج بن مينا انتهى وأثبته أبو عمرو في الصحابة ثم أمر بأن يضرب عليه وقال يغلب على الظن أنه لم يسلم وكانت شبهته في إثباته في الصحابة رواية رواها ابن إسحاق عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله بن عتبة قال أخبرني المقوقس أنه أهدى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومسلم قدحا من قوارير وكان يشرب فيه قال الحلبي فائدة لهم شخص آخر معدود في الصحابة يقال له المقوقس في معجم ابن قانع قال الذهبي لعله الأول (والشّيخ صاحبه) وهذا لا يعرف اسمه (وابن صوريا) بضم الصاد وكسر الراء ممدودا ومقصورا قال الحلبي اسمه عبد الله ذكر السهيلي عن النقاش أنه أسلم وقال الدلجي اسلم ثم ارتد إلى دينه والله تعالى أعلم (وابن أخطب) هو حيي أبو صفية أم المؤمنين (وأخوه) هو أبو ياسر بن اخطب قتلا كافرين صبرا مع أسرى بني قريظة (وكعب بن أسد) صاحب عقد بني قريظة وعهدهم موادعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم نقض العهد فقاتلهم النبي عليه السلام فغلبهم فقتل مقاتلتهم وسبى ذريتهم فقتلوا صبرا ومعهم كعب بن أسد وكانوا ستمائة أو سبعمائة أو ثمانمائة أو تسعمائة (والزّبير) بفتح الزاء وكسر الباء (ابن باطيا) بكسر الطاء قال الدلجي وفي نسخة باطا بلا تحتية وقال الحلبي وفي غير هذا المؤلف بأطا بلا مد ولا همزة وهو أي الزبير والد عبد الرحمن بن الزبير الذي تزوج امرأة رفاعة القرظي الحديث كما في البخاري وقال ابن منده وأبو نعيم هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد ابن أمية الأوسي (وغيرهم) أي قد اعترف بثبوت نبوته وحقية رسالته هؤلاء وَغَيْرُهُمْ (مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ مِمَّنْ حَمَلَهُ الْحَسَدُ) وهو إرادة زوال نعمة الغير (والنّفاسة) بفتح النون من نفست عليه الشيء نفاسة إذا لم تره يستأهله أنفة (على البقاء) أي بقائه على الكفر في الدنيا (على الشّقاء) أي تبعه بالعذاب في العقبى وفي نسخة الشقاوة وفي أصل الدلجي وبعض النسخ على البقاء على الشقاء أي المداومة على الشقاوة، (والأخبار في هذا) أي فميا ذكر من دلالا نبوته وعلامات رسالته (كثيرة لا تنحصر) أي بحيث لا تحصى ولا تستقصى (وقد قرّع) بفتح القاف وتشديد الراء أي ضرب عليه السلام بشدة وأبلغ بحدة (أسماع يهود) وفي نسخة اليهود (والنّصارى بما ذكر) أي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام (أَنَّهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَتِهِ وَصِفَةِ أَصْحَابِهِ) كقوله تعالى ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ الآية وفي الإنجيل أيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 جد في أمري واسمع واطلع با ابن الطاهرة البتول إني خلقتك من غير فحل إلى آخر ما تقدم وفي التوراة أيضا قال موسى رب إني أجد في التوراة أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله فأجعلهم أمتي قال تلك أمة محمد قال إني أجد فيها أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة فأجعلهم أمتي قال تلك أمة محمد قال أجد أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها وكان من قبلهم يقرؤون في كتبهم نظرا ولا يحفظونها فاجعلهم أمتي قال تلك أمة محمد الحديث وفي الزبور يا داود يأتي بعدك نبي يسمى أحمدا ومحمدا صادقا سيدا أمته مرحومة افترضت عليهم أن يتطهروا لكل صلاة كما افترضت على الأنبياء وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء وأمرتهم بالحج والجهاد يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها أعطيتهم ستا لم أعطها غيرهم لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان وكل ذنب فعلوه عمدا إذا استغفروني منه غفرته لهم وما قدموه لآخرتهم طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافا مضاعفة ولهم في المذخور عندي أضعاف مضاعفة وأعطيتهم على المصائب إذ صبروا وقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون الصلاة والهدى والرحمة إلى جنات النعيم فإن دعوني استجبت لهم فإما أن يروه عاجلا أو أصرف عنهم سوءا أو أدخره لهم في الآخرة (واحتجّ) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (عليهم) حيث أنكروا نعته ونعت أمته (بما انطوت) أي اشتملت (عليه من ذلك) أي النوع (صحفهم) أي كتبهم (وذمّهم) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بتحريف ذلك) أي بتغيير مبناه أو تعبير معناه (وكتمانه) أي بعدم تبيانه (وليّهم ألسنتهم) أي فتلها وصرفها (ببيان أمره) أي وتبيان ذكره (ودعوتهم) بالتاء وفي نسخة ودعواهم (المباهلة) بالنصب على نزع الخافض والمعنى وقرع اسماع نصارى نجران بما أمره ربه به من دعواهم إلى المباهلة أي الملاعنة الكاملة (على الكاذب) أي في المعاملة فأبوا حذرا من العقوبة وبذلوا له الجزية كما مرت القصة (فما منهم) أي من اليهود والنصارى (إلّا من نفر) أي هرب وفي نسخة صحيحة نفر أي أعرض (عن معارضته وإبداء) بكسر الهمزتين والمد وفي نسخة وأبدى بصيغة الماضي أي أظهر (ما ألزمهم من كتبهم إظهاره) كآية الرجم وغيره (ولو وجدوا) أي في كتبهم (خلاف قوله لكان إظهاره) أي المسارعة إليه في مقام الجدال (أهون علهيم مِنْ بَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَتَخْرِيبِ الدِّيَارِ وَنَبْذِ القتال) أي طرح المقاتلة بين الرجال (وقد قال لهم) أي لليهود حين قالوا عندما قرع سمعهم قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وقوله وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على إبراهيم ومن بعده حتى انتهى الأمر إلينا فرد الله عليهم بقوله تعالى (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: 93] ) فبهتوا ولن يقدروا أن يأتوا فثبت أنها لم تحرم إلا عليهم بظلمهم وبغيهم وهو أمر له بمحاجتهم ومدافعتهم بما في كتابهم تبكيتا وتوبيخا لهم (إلى ما أنذر به) أي مع ما أعلم بظهوره ووجود نوره (الكهّان) أو بما خوفوه من حلول البأس والنقم بمن خالف وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 اسلم (مثل شافع بن كليب) بالتصغير وفي نسخة بسين مهملة وهو من كهان العرب إلا أنه غير معروف النسب (وشقّ) بكسر أوله وتشديد ثانيه من كهانهم لم يكن له سوى عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة فكأنه شق إنسان (وسطيح) بفتح فكسر كاهن بني ذؤيب من غسان بفتح معجمة وتشديد مهملة لم يكن في بدنه عظم سوى رأسه بلا جسد ملقى لا جوارح له لا يقدر على جلوس إذا غضب انتفخ فجلس وزعم الكلبي أنه عاش ثلاثمائة سنه وأنه خرج مع الأزد أيام سيل العرم ومات في أيام شيرويه بن هرمز والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة وهو الذي أول رؤيا المؤبذان أن إبلا صعابا تقول خيلا عرابا قطعت دجلة وانتشرت في بلادها بما حاصله أن ملكه يزول بظهور النبي عليه الصلاة والسلام وقد فتح بلاده في زمن عمر رضي الله تعالى عنه على يد الصحابة الكرام (وسواد بن قارب) بكسر الراء أزدي كان كاهنهم في الجاهلية أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن أخبره أن الله يبعث نبيا فانهض إليه على ما سيأتي مفصلا (وخنافر) بضم الخاء المعجمة وكسر الفاء كاهن بني حمير أسلم على يد معاذ ولم ير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو تابعي مخضرم (وأفعى نجران) بفتح همزة وسكون فاء فعين مهملة مقصورا كاهنهم في الجاهلية وهذا هو الظاهر المتبادر من السياق واللحاق وقال الحلبي ما أدري ما أراد القاضي أحية أم شخص اسمه أفعى (وجذل بن جذل) بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة فيهما (الكنديّ) بكسر الكاف قبيلة وهو كاهنهم فيها (وابن خلصة) بفتح الخاء المعجمة واللام (الدّوسي) بفتح الدال (وسعدي) بضم السين وفتح الدال مقصورا (بنت كريز) بالتصغير وفي آخره زاء وفي نسخة صحيحة سعد ابن بنت كريز وفي أصل الدلجي سعد بن كرز (وفاطمة بنت النّعمان) ويروى نعمان وهو بضم النون ولم تعرف لهم ترجمة (ومن لا ينعدّ كثرة) أي ممن أخبر بظهوره وسطوع نوره (إلى) أي مع (مَا ظَهَرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ نُبُوَّتِهِ) أي من بيان حصول نبوته (وحلول وقت رسالته) كقول بأجر صنم مازن الطائي وهو مازن السادن وقد عتر له عتيرة: يا ماز انهض وأقبل ... تسمع كلاما تجهل هذا نبي مرسل ... جاء بحق منزل آمن به كي تعدل ... عن حر نار تشعل وقودها بالجندل ... فقلت هذا والله لعجب ثم عترت له ... بعد أيام أخرى فقال يا مازن استمع تسر ... ظهر خير بطن شر وهو نبي من مضر ... يدين لله الكبر فدع نحيتا من حجر ... تسلم من حر سقر فقلت هذا والله لعجب وخير يراد وقدم علينا رجل من الحجاز فقلنا ما وراءك فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 ظهر رجل من تهامة يقول أجيبوا داعي الله اسمه أحمد فقلت هذا والله نبأ ما سمعت منه فكسرته ورحلت إليه صلى الله تعالى عليه وسلم فشرح لي الإسلام فأسلمت وكقوله صنم عمرو بن جبلة يا عصام يا عصام جاء الإسلام ... وذهب الأصنام وقول صنم طارق من بني هند بن حرام يا طارق يا طارق ... بعث النبي الصادق (وسمع) بصيغة المجهول أي وما سمع (من هواتف الجن) كذا في أصل الدلجي وفي النسخ الجان وهو غير ظاهر فإنه أبو الجن ولعله لغة والهاتف هو الصائح بالشيء الداعي إليه كسماع ذئاب بن الحارث هاتفا منهم يا ذئاب يا ذئاب ... اسمع العجب العجاب بعث محمد بالكتاب ... يدعو بمكة فلا يجاب وكسماع ابن مرة الغطفاني ... جاء حق فسطح ودمر باطل فانقمع ... وكسماع خالد بن بطيح جاء الحق القائم والخير الدائم وكسماع سواد بن قارب من رئيه وهو نائم ليلا قم فافهم واعقل إن كنت تعقل ... قد بعث نبي من لؤي بن غالب ثم قال: عجبت للجن وأجناسها ... وشدها العيس بأحلاسها تهوى إلى مكة الهدى ... ما مؤمنو الجن كأرجاسها فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها ثم نبهني وأفزعني وقال يا سواد إن الله بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد ثم نبهني في الليلة الثانية وقال: عجبت للجن وطلابها ... وشدها العيس بأقتابها تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ليس قدماها كأذنابها فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى نابها ثم نبهني في الثالثة وقال: عجبت للجن وأخبارها ... وشدها العيس بأكوارها تهوى إلى مكة تبغي الهدى ... ليس ذوو الشر كأخيارها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 فانهض إلى الصفوة من هاشم ... ما مؤمنو الجن ككفارها فوقع في قلبي حب الإسلام فأتيته عليه الصلاة والسلام بالمدينة فلما رآني قال مرحبا بك يا سواد قد علمنا ما جاء بك فقلت له قلت شعرا فاسمعه مني ثم إني أنشدت: أتاني رئي ليلة بعد هجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبي من لؤي بن غالب فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت ... بي الذ علب الوجناء عقد السباسب فاشهد أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين شفاعة ... إلى الله يا بن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب قال فضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال أفلحت يا سواد (ومن ذبائح النّصب) جمع نصيب بمعنى منصوب للعبادة أي وما سمع منها كسماع عمر رضي الله تعالى عنه من عجل رأى رجلا يذبحه لنصب يقول يا آل ذريح أمر نجيج رجل نصبح يقول لا إله إلا الله (وأجواف الصّوّر) أي وما سمع من أجوافها كما مر عن مازن السادن وغيره (وَمَا وُجِدَ مِنَ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ مَكْتُوبًا فِي الحجارة والقبور) مفعول ثان لوجد أو حال من ضميره (بالخطّ القديم ما) أي الذي (أكثره مشهور) أي كما هو في كتب السير وغيرها مسطور (وَإِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مَذْكُورٌ) أي في كتب العلماء الأخيار بنقل الثقة في الأخبار. فصل [وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مولده عليه الصلاة والسلام] (ومن ذلك) أي مما يدل على نبوته ورسالته (ما ظهر من الآيات) أي خوارق العادات (عند مولده) أي قرب ولادته صلى الله تعالى عليه وسلم (وما حكته) أي آمنة بنت وهب أنها أتيت فقيل لها قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا خرج فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد (ومن حضره) أي وما حكاه من حضر مولده (من العجائب) أي مما سيأتي قريبا (وكونه) بالرفع أي وجوده (رافعا رأسه) أي للدعاء (عندما وضعته شاخصا ببصره إلى السّماء) كما رواه البيهقي عن الزهري مرسلا. (وما رأته) أي أمه (مِنَ النُّورِ الَّذِي خَرَجَ مَعَهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ) حتى رؤيت منه قصور بصرى كما رواه أحمد والبيهقي عن العرباض وأبي أمامة (وما رأته إذ ذاك) أي وقت ولادته (أمّ عثمان بن أبي العاص) أي الثقفي (من تدلّي النّجوم) أي نزولها ودنوها منه تبركا بحضرته (وظهور النّور) أي الذي سطع منه بأشعته (عند ولادته حتّى ما تنظر) أي أم عثمان (إلّا النّور) وفي رواية إلا لنور كما رواه البيهقي والطبراني عن ابنها عنها (وقول الشّفاء) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 بكسر أوله ممدودا ومقصورا والأول هو المفهوم من القاموس حيث قال الشفاء الدواء وسموا شفاء وقد صرح بالمد أيضا في اسماء الأسانيد وقال الحلبي الشفاء بكسر الشين المعجمة وبالفاء مقصورا فيما أعلمه انتهى والتحقيق أن الشفاء مصدر في الأصل ثم نقلته العرب علما للمؤنث وأما قول الدلجي بمعجمة مفتوحة ففاء مشددة فالظاهر أنه تصحيف وتحريف (أمّ عبد الرّحمن بن عوف) قال الذهبي وهي بنت عوف بن عبد الزهرية من المهاجرات (لمّا سقط صلى الله تعالى عليه وسلم على يديّ) بالتثنية وفي نسخة بالإفراد على إرادة الجنس (واستهلّ) بتشديد اللام أي رفع صوته بأن عطس وقال الحمد لله بدليل قولها (سمعت قائلا يقول رحمك الله) وقال الحلبي أي صاح وقال الدلجي عطس لا صاح من غير أن يذكر الحمد لله فالجمع أولى كما لا يخفى والمناسب لعلو شأنه وظهور برهانه أن لا يكون أول كلامه عبثا في مرامه بل يكون ذكرا ملائما لمقامه على طبق ما ورد عن آدم عليه السلام من أنه عطس عند وصول روحه إلى بعض أعضائه الكرام (وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب) أي مما يتنور بنوره من معمورة العالم وتحقيق هذا المبحث قد تقدم ويشير إليه قولها (حتّى نظرت إلى قصور الرّوم) أي بأرض الشام رواه أبو نعيم في الدلائل عن ابنها عبد الرحمن بن عوف عنها. (وما تعرّفت به حليمة) أي السعدية (وزوجها) المسمى بالحارث وذكر ابن إسحاق بسنده أنه اسلم (ضئراه) بكسر أوله وسكون همزة تثنية الظئر وهي المرضعة وقد يطلق على أبي الرضاعة أيضا كما هنا وقد يقال إنه للتغليب (من بركته ودرور لبنها) أي نزوله بكثرة (له) أي لأجله صلى الله تعالى عليه وسلم ولولدها رضيعه بعد أن لم يكن لها لبن يغنيه (ولبن شارفها) بكسر الراء أي درور لبن ناقتها المسنة (وخصب غنمها) بكسر الخاء المعجمة روى ابن إسحاق وابن حبان والطبراني وأبو يعلى والحاكم والبيهقي بسند جيد عن عبد الله بن جعفر عنها أنها قالت أخذته وتركته المراضع ليتمه فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي فشرب حتى روي وشرب أخوه حتى روي وقام زوجي إلى شارفنا فوجدها حافلا فحلب ما شرب وشربت حتى روينا وبتنا بخير ليلة وقال والله يني لأراك قد أخذت نسمة مباركة الم تر ما بتنا به الليلة من الخير والبركة قالت وكانت أتاني قمراء قد أزمت بالركب فلما رجعنا إلى بلادنا سبقت حتى ما يتعلق بها حمار فتقول صواحبي هذه أتانك التي خرجت عليها معنا فأقول والله إنها لهي فقلن والله إن لها شأنا فقدمنا أرض بني سعد به وما أعلم أرضا أجدب منها وإن غنمي لتسرح ثم تروح شباعا لينا فنحلبها وما حولنا أرض تبض لها شاة بقطرة لبن وأن أغنامهم لتسرح ثم تروح جياعا فيقولون لرعيانهم أسرحوا مع غنم ابن أبي ذؤيب فيسرحون فتروه جياعا ما فيها قطرة لبن وتروح غنمى شباعا لبنا فنحلبها فلم يزل الله يرينا البركة ونتعرفها حتى بلغ سنتيه (وسرعة شبابه) أي وما تعرق ظئراه من سرعة شبابه بالنسبة إلى جنابه (وحسن نشأته) أي نمائه وبهائه في كبر جثته قبل تكامل هيئته قالت والله ما بلغ سنتيه حتى صار غلاما جفرا فقدمنا به على أمه ونحن أضن شيء به لما رأينا فيه من البركة بسببه ثم قلنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 لها دعينا نرجع به حذرا عليه من وباء مكة فما زلنا بها حتى قالت نعم (وما جرى من العجائب) وهي ما عظم وقوعه وخفي سببه (ليلة مولده صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه البيهقي وابن أبي الدنيا وابن السكن عن مخزوم بن شاهين (من ارتجاج إيوان كسرى) أي اضطرابه جدا وتحركه شديدا مع إحكام بنائه من غير خلل نشأ به والإيوان بالكسر الصفة العظيمة وأصله أوان فأعل كديوان وسبق أن كسرى بكسر أوله ويفتح معرب خسرو لقب ملوك الفرس كقيصر لقب ملوك الروم وتبع لملوك اليمن والنجاشي لملوك الحبشة (وسقوط شرفاته) بضم الشين المعجمة والراء وتفتح وحكي سكونها جمع شرفة بضم فسكون وهو جمع قلة وضعت موضع كثرة لأنهن أربع عشرة ولعل الحكمة في عدولها عن الكثرة إلى القلة تحقيرا لها لخراب مآلها هذا وقد ملك منهم ملوك بعددها عشرة في أربع سنين وأربعة إلى خلافة عثمان وفتح المسلمين (وغيض بحيرة طبريّة) بفتحتين مدينة معروفة في الشام بناحية الأردن ذات حصن بينها وبين بيت المقدس نحو مرحلتين وهي من الأرض المقدسة والبحيرة مصغرة مع أنها عظيمة وغيضها نقصها هذا والمعروف أن الغائضة هي بحيرة ساوة من قرى بلاد فارس قال الحلبي اللهم إلا أن يريد عند خروج يأجوج ومأجوج فإن أوائلهم يشرب ماءها ويجيء آخرهم فيقول لقد كان بها ماء انتهى وبعده عن السياق من السباق واللحاق لا يخفى وفي نسخة صحيحة بدل طبرية ساوة والله تعالى اعلم (وخمود نار فارس) أي انطفائها وقت غيض بحيرتها فكأنها طفئت بمائها (وكان لها ألف عام لم تخمد) بفتح التاء وضم الميم وتفتح فإنه ورد من باب نصر ينصر وباب علم يعلم (وأنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه ابن سعد وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه (كَانَ إِذَا أَكَلَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وآله) أي وأهل بيته (وهو صغير) جملة حالية معترضة (شبعوا) بكسر الباء (ورووا) بضم الواو (وإذا) وفي نسخة فإذا (غاب) أي عنهم (فأكلوا في غيبته لم يشبعوا) بفتح الباء وزيد في نسخة ولم يرووا بفتح الواو ولعل النسخة الأولى مبنية على الاكتفاء أو على تغليب شبع الطعام على ري الماء (وكان سائر ولد أبي طالب) بفتحتين وبضم فسكون أي بقية أولاده أو جميعهم (يصبحون) أي يدخلون في الصباح (شعثا) بضم أوله جمع أشعث أي مغبرة شعورهم مغيرة وجوههم متغيرة ألوانهم بقرينة المقابلة بقوله (ويصبح صلى الله تعالى عليه وسلم صقيلا) أي صافي اللون (دهينا) أي مدهون الشعر بريق الوجه (كحيلا) أي كان مكحول العينين هذا وأولاده عقيل وطالب وجعفر وعلي وأم هانىء وحمامة وأم طالب فأسلموا كلهم إلا طالبا مات كافرا ويقال أن الجن اختطفته ثم اعلم أنه قال الحلبي استعمل القاضي رحمه الله تعالى سائر بمعنى جميع والشيخ أبو عمرو بن الصلاح أنكر كون سائر بمعنى جميع وقال إن ذلك مردود عند أهل اللغة معدود في غلط العامة وأشباههم من الخاصة قال الزهري في تهذيبه أهل اللغة اتفقوا على أن سائر بمعنى الباقي وقال الحريري في درة الغواص في أوهام الخواص ومن أوهامهم الفاضحة وأغلاطهم الواضحة أنهم يستعملون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 سائر بمعنى الجميع وهو في كلام العرب بمعنى الباقي واستدل بقصة غيلان لما أسلم على عشر نسوة وقال له صلى الله تعالى عليه وسلم أمسك أربعا وفارق سائرهن انتهى وقال ابن الصلاح ولا التفات إلى قول صاحب الصحاح سائر الناس جميعهم فإنه ممن لا يقبل ما ينفرد به وقد حكم عليه بالغلط وهذا من وجهين أحدهما تفسير ذلك بالجميع وثانيهما أنه ذكره في سر وحقه أن يذكر في سار وقال النووي وهي لغة صحيحة ذكرها غير الجوهري ولم ينفرد بها وافقه عليها الجواليقي في أول شرح أدب الكاتب إلى آخر كلام النووي في تهذيبه انتهى كلام الحلبي وتبعه الدلجي في تفسير السائر بالجميع وقال صاحب القاموس السائر الباقي لا الجميع كما توهم جماعات أو قد يستعمل فقد ضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية بتطبيبه فقال بطني عطري وسائري ذري انتهى ولا يخفى أنه يحتمل كلام الأعرابي أن يكون السائر بمعنى الباقي بل هو المتبادر على ما هو الظاهر والتحقيق أن السائر بمعنى الباقي حقيقة وبمعنى الجميع مجازا وأنه مأخوذ من السؤر مهموزا وهو البقية الملائمة لمعنى الباقي بخلاف السور معتلا وهو سور البلد المناسب لمعنى الجميع وبهذا يرتفع الخلاف لمن ينظر بعين الانصاف ويظهر فساد ما في كلام ابن الصلاح من المناقضة ونوع من المعارضة (قالت أمّ أيمن) وهي بركة بنت محصن (حاضنته) أي مربيته ومرضعته أيضا على ما قيل وهي مولاة له صلى الله تعالى عليه وسلم حبشية اعتقها أبو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واسلمت قديما وابنها أيمن بن عبيد الحبشي ثم تزوجها زيد بن حارثة زارها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما واختلف في زمن وفاتها (ما رأيته صلى الله تعالى عليه وسلم اشتكى) أي بلسانه (جوعا ولا عطشا صغيرا) أي حال كونه صغيرا (ولا كبيرا) إذ كان ربه يطعمه ويسقيه بمعنى يخلق قوتهما فيه وحديثها رواه ابن سعد وأبو نعيم في الدلائل. (ومن ذلك حراسة السّماء) بكسر الحاء أي حفظها من بلوغ الجن إليها (بالشّهب) أي بالنجوم رجوما لئلا يكون لهم هجوما (وقطع رصد الشّياطين) أي ترصدهم وانتظارهم ظهور شيء إليهم ونزول خبر عليهم (ومنعهم استراق السّمع) أي بالكلية فإنهم كانوا لا يسمعون إلا القول الحق من ملائكة السماء فيلقونه إلى أوليائهم فيكذبون معه ما شاؤوا من أنبائهم فمنعوا منه بظهور نوره صلى الله تعالى عليه وسلم فلما بعث اشتد الأمر بهم وكثر الحرس عليهم كما قال تعالى حكاية عنهم وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً الآيات (وما نشأ) بالهمز أي ومن ذلك ما تربى (عليه) وجبل إليه (من بغض الأصنام) كما في حديث البيهقي عن زيد بن حارثة قال كان صنم يتمسح به المشركون إذا طافوا بالبيت فطفت به قبل البعثة فلما مررت بالصنم تمسحت به فقيل لي لاتمسه ثم طفنا فقلت في نفسي لأمسنّه حتى أنظر ما يؤول فمسحته فقال الم تنه قال زيد فو الذي أكرمه بالذي أكرمه ما التمس صنما قط (والعفّة) أي وما نشأ من النفرة (عن أمور الجاهليّة) أي معايبها. (وما خصّه الله به من ذلك) أي من الأعمال الرضية والأحوال الزكية (وحماه) أي وحفظه قبل بعثته من الصفات الرديئة والسمات الدنيئة، (حتّى في ستره) بفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 السين أي تستره من التعري وهو كشف العورة (في الخبر المشهور عند بناء الكعبة) كما رواه الشيخان عن جابر والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما (إذ) أي حين (أخذ إزاره) أي بأمر عمه العباس (ليجعله على عاتقه) وهو ما بين المنكب والعنق (ليحمل عليه الحجارة) أي ولم تظهر عليه الإمارة (وتعرّى) أي وانكشفت عورته (فسقط إلى الأرض) أي مائلا إليها وطمحت عيناه إلى السماء (حتّى ردّ) أي بنفسه (إِزَارَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ مَا بَالُكَ) وفي نسخة ما لك أي ما حالك (قال إنّي نهيت عن التّعرّي) في رواية وكنت وابن أخي يحمل الحجارة على رقابنا وأزرنا تحتها فإذا غشينا الناس أتزرنا فبينا أنا أمشي ومحمد أمامي خر لوجهه وهو ينظر إلى السماء فقلت ما شأنك فأخذ إزاره وقال إني نهيت أن أمشي عريانا قال فكنت أكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون (وَمِنْ ذَلِكَ إِظْلَالُ اللَّهِ لَهُ بِالْغَمَامِ فِي سفره) أي على ما مر في حديث بحيرا الراهب كما رواه الترمذي والبيهقي. (وفي رواية) أي لابن سعد عن نفيسة بنت منبه (أنّ خديجة) رضي الله تعالى عنها (ونساءها رأينه لمّا) بتشديد الميم أي حين (قدم وملكان يظلّانه فذكرت) أي خديجة (ذلك) أي خبر الإظلال (لميسرة) أي غلامها قال الحلبي لا أعلم له ذكرا في الصحابة وكان توفي قبل النبوة وإلا فلو أدركها لأسلم انتهى وفيه بحث لا يخفى والله تعالى أعلم (فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُنْذُ خَرَجَ مَعَهُ في سفره) أي من أول أمره إلى آخره؛ (وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حَلِيمَةَ رَأَتْ غَمَامَةً تُظِلُّهُ وهو عندها) كما رواه الواقدي وابن سعد وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس، (وروي ذلك) أي تظليل العمامة له (عن أخيه من الرّضاعة) وفي رواية عن أخته بالفوقية وهي أصح كما في سيرة أبي الفتح اليعمري من أن حليمة بعد رجوعها من مكة كانت لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا فغفلت عنه يوما في الظهيرة فخرجت تطلبه حتى وجدته مع أخته فقالت في هذا الحر فقالت أخته يا أمه ما وجد أخي حرا رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت الحديث قال الحلبي صريح أن يكون ما في الأصل غلط تصحف على الكاتب اللهم إلا أن يروى أن أخاه من الرضاعة رأى ذلك أيضا والله تعالى اعلم. (وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ تَحْتَ شَجَرَةٍ يَابِسَةٍ فَاعْشَوْشَبَ مَا حولها) أي كثر عشبه وهو الكلاء ما دام رطبا والمعنى أنه نبت فيه عشب كثير، (وأينعت) بتقديم التحتية على النون (هي) أي الشجرة والمعنى أدرك ثمارها ونضجت ومنه قوله تعالى كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذا أثمر وينعه أي نضجه (فأشرقت) بالقاف أي أضاءت بحسن صفائها كإشراق الشمس بضيائها ويروى بالفاء أي علت وارتفعت (وتدلّت) بتشديد اللام وفي أصل الدلجي بلامين أي استرسلت ونزلت (عليه أغصانها بمحضر من رآه) قال الدلجي لم أدر من رواه (وميل فيء الشّجرة) أي ظلها (إليه في الخبر الآخر) أي المتقدم عن بحيرا الراهب (حتّى أظلّته وما ذكر) أي ومن ذلك ما ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عبد الرحمن بن قيس وهو مطعون عن عبد الملك بن عبد الله بن الوليد وهو مجهول عن ذكوان (من أنّه كان لا ظلّ لشخصه فِي شَمْسٍ وَلَا قَمَرٍ لِأَنَّهُ كَانَ نُورًا) أي بنفسه والنور لا ظل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 له لعدم جرمه وهذا معنى ما في النوادر ولفظها لم يكن له ظل في شمس ولا قمر ونقله الحلبي عن ابن سبع أيضا (وأنّ الذّباب) أي ومن ذلك ما ذكر من أن الذُّبَابَ (كَانَ لَا يَقَعُ عَلَى جَسَدِهِ وَلَا ثيابه) قال الدلجي لا علم لي بمن رواه انتهى وقال الحلبي نقل أيضا بعض مشايخي فيما قرأته عليه بالقاهرة عن ابن سبع أنه لم يقع على ثيابه ذباب قط قلت فعلى جسده بالأولى كما لا يخفى. (ومن ذلك تحبيب الخلوة إليه) أي بنزول القرآن عليه كما في الصحيحين ولفظ البخاري ثم حبب إليه الخلا أي العزلة عن الملا (ثمّ إعلامه بموته ودنوّ أجله) كما رواه الشيخان وغيرهما (وأنّ قبره بالمدينة) وفي نسخة في المدينة (وفي بيته) كما رواه أبو نعيم في الدلائل عن معقل بن يسار ولفظه المدينة مهاجري ومضجعي من الأرض وروى البيهقي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن قبره يكون في بيته (وأنّ بين بيته وبين منبره) وفي نسخة صحيحة وبين منبره (روضة من رياض الجنّة) كما سيأتي ما فيه من الأحاديث الواردة (وتخيير الله له عند موته) أي بين الدنيا والآخرة كما رواه البيهقي في الدلائل عن عائشة بلفظ كنا نتحدث أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة فسمعته في مرضه الذي مات فيه يقول مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فظننا أنه كان يخير وفي رواية قالت لما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت وقال اللهم الرفيق الأعلى وهي آخر كلمة تكلم بها وفي رواية أن جبريل قال له إن ربك يقرؤك السلام ورحمة الله ويقول إن شئت شفيتك وكفيتك وإن شئت توفيتك وغفرت لك قال ذلك إلى ربي يصنع بي ما يشاء (وما اشتمل) أي ومن ذلك ما احتوى (عليه حديث الوفاة) كما رواه الشافعي في سننه والعدني في مسنده والبيهقي في دلائله (من كراماته وتشريفه) أي بخدمة الملائكة له وعموم رسالته إليهم وإرسال جبريل إليه يقول إن الله يقرؤك السلام ورحمة الله وفي رواية قال يا محمد إن الله أرسلني إليك إكراما وتفضيلا وخاصة لك ليسألك عما هو أعلم به منك يقول لك كيف تجدك قال أجدني مغموما مكروبا (وصلاة الملائكة) أي ومن ذلك صلاة الملائكة (على جسده) أي بعد خروج روحه الشريفة (على ما رويناه) بصيغة الفاعل ويحتمل المفعول (في بعضها) أي في بعض الروايات والأسانيد من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال وإن الملائكة يدخلن قبلكم من حيث يرونكم ولا ترونهم فيصلون علي صلاة الجنازة بتحريم وتكبير وتسليم ثم صلى عليه أصحابه كذلك كما رواه يحيى بن يحيى في الموطأ بلاغا قال اخبرنا مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم توفي يوم الاثنين ودفن يوم الثلاثاء وصلى عليه الناس أفذاذا لا يؤمهم أحد ورواه الشافعي في الأم بلفظ فقد صلى الناس على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرادى لا يؤمهم أحد وذلك لعظم أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتنافسهم في أن لا ينوي الإمامة في الصلاة عليه واحد من الأمة صلوا عليه مرة بعد مرة أقول الأظهر أنهم صلوا عليه في محله ولا كان يسع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 ذلك المحل إماما لقومه كله فصلوا فرادى لإدراك فضله وتكرار الصلاة عليه من خصوصيات حكمه هذا ومن زعم أن المراد بالصلاة هنا الدعاء فقد عدل عن الحقيقة من غير قرينة صارفة (واستئذان ملك الموت عليه) أي ومن طلب إذن ملك الموت في الدخول عليه لقبض روحه (ولم يستأذن على غيره قبله) أي من الأنبياء والأصفياء فضلا عما بعده من العلماء والأولياء وروي أن جبريل قال إن ملك الموت بالباب يستأذن عليك ولم يستأذن على أحد قبلك ولا بعدك فقال ائذن له فقال السلام عليك يا محمد إن الله أمرني أن أطيعك فيما أمرتني به أن أقبض نفسك قبضتها وإن أتركها تركتها (وندائهم الذي سمعوه أن لا تنزعوا) بكسر الزاء غيبا وخطابا أي لا تخلعوا (القميص عنه) أي عن بدنه (عند غسله) بضم الغين أو فتحه وذلك حين قالوا ما تدري أنجرده من ثيابه أم نغسله بها فألقي عليهم النوم فما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ثم سمعوا قائلا لا يدرون من هو غسلوه وعليه ثيابه فغسلوه وعليه قميص يصبون الماء فوقه رواه أبو داود والبيهقي وصححه واستشهد له بما رواه عن شيخه أبي عبد الله الحاكم من طريق بريدة قال أخذوا في غسله فإذا هم بمناد من داخل لا تخرجوا عنه قميصه (وَمَا رُوِيَ مِنْ تَعْزِيَةِ الْخَضِرِ وَالْمَلَائِكَةِ أَهْلَ بيته عند موته) إذا سمعوا قائلا لا يرون شخصه السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته إن في الله خلفا من كل هالك وعزاء من كل مصيبة ودركا من كل فائت فبالله ثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب رواه البيهقي في دلائل النبوة نقله الدلجي وقال الحلبي حديث تعزية الخضر رواه الشافعي من حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه قال لما مرض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الحديث الطحاوي آخره قال علي أتدرون من هذا هذا الخضر وهذا مرسل وقد رواه الشافعي أيضا في الأم بإسناد ضعيف إلا أنه لم يقل الخضر بل سمعوا قائلا يقول وإنما ذكره أصحاب الشافعي قاله النووي في شرح المهذب وقال بعض مشايخي أخرجه الحاكم في المستدرك من رواية أنس وفيه فقال أبو بكر وعلي هذا الخضر لكن في إسناده عباد بن عبد الصمد وهو ضعيف وقد أخرجه الشافعي أيضا في غير الأم وفيه فقال أتدرون من هذا هذا الخضر رواه الطحاوي عن المزني عنه في السنن المشهورة (إلى ما ظهر على أصحابه من كراماته) أي الظاهرة (وبركته) أي الوافرة (في حياته وموته) أي بعد مماته (كاستسقاء عمر بعمّه) أي العباس كما رواه البخاري (وتبرّك غير واحد) أي كثيرين من الصحابة والتابعين (بذرّيته) كالحسين وزين العابدين وصالحي أولادهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين وأرضاهم. فصل [قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى قد أتينا في هذا الباب] (قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ أتينا) أي أوردنا (في هذا الباب) أي الرابع من أبواب الكتاب (على نكت) بضم ففتح أي لطائف وشرائف (من معجزاته واضحة) صفة نكت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 وقال الدلجي حال مما قبله (وجمل من علامات نبوّته مقنعة) نعت جمل وهو بضم ميم وسكون قاف وكسر نون وفتح عين وقال الدلجي حال من جمل أي تغني من عرف حقيقتها (في واحد) خبر مقدم (منها) أي من النكت والجمل (الكفاية والغنية) بضم فسكون أي الاكتفاء والاغتناء في باب الاعتناء (وتركنا الكثير) أي من الأنباء (سوى ما ذكرنا) أي من النكت والجمل (واقتصرنا من الأحاديث الطّوال) بكسر الطاء أي الطويلة الاذيال (على عين الغرض) أي نفس المراد (وفصّ المقصد) أي زبدة المقصود والفص للخاتم بفتح الفاء ويثلث والصاد مشددة والمقصد بفتح الصاد وتكسر قال الحلبي بكسر الصاد وجد بخط النووي (ومن كثير الأحاديث) أي واقتصرنا وقد أبعد الحلبي في تقديره وأتينا (وغريبها) أي مما انفرد رواتها بها (على ما صحّ) أي سنده (واشتهر) أي نقله عند أهله (إلّا يسيرا) أي شيئا قليلا (من غريبه ممّا ذكره مشاهير الأئمّة) أي من نقاد الأمة وحفاظ السنة بحيث إنه خرج عن حيز الغرابة (وحذفنا الإسناد في جمهورها) أي أكثرها (طلبا للاختصار) أي حذرا من الإكثار الممل للنظار (وبحسب هذا الباب) بسكون السين وزيادة الباء أي ويكفي هذا الباب الرابع الموضوع في المعجزات (لو تقصّي) بتاء وقاف مضمومتين فصاد مشددة مكسورة أي لو استقصي وضبطه الدلجي بالفاء أي لو تتبع (أن يكون ديوانا) أي دفترا ومصنفا على حدة (جامعا) أي محيطا وحاويا (يشتمل على مجلّدات عدّة) بكسر فتشديد أي كثيرة وقال الدلجي وحسب مبتدأ خبره أن يكون ديوانا وجواب لو محذوف أي لأمكن. (ومعجزات نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أظهر) أي أكثر وأبهر (من سائر معجزات الرّسل) الأظهر من معجزات سائر (بوجهين) أي نظرا إلى الكمية والكيفية كما يشير إليه قوله (أحدهما كثرتها) أي مع شهرتها إذ الكثرة لا تستلزم الشهرة (وَأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ نَبِيٌّ مُعْجِزَةً إِلَّا وَعِنْدَ نبيّنا مثلها) أي شبيهها ونظيرها (أو ما هو أبلغ منها) أي دلالة كانشقاق القمر والإسراء ونحوهما وأما معجزة القرآن المجيد كما مثل به الدلجي فهذا ليس محلها (وقد نبّه النّاس على ذلك) أي على هذا المعنى على وجه الاستقصاء منها أنه تعالى خلق آدم بيده فقد شرح صدر نبينا بنفسه وأنه رفع إدريس مكانا عليا فقد رفعه في المعراج دنو الدنيا وغير ذلك مما يطول بيانها وقد سبق بعضها وسيأتي شيء منها (فإنّ أردته فتأمّل فصول هذا الباب) أي من معجزات نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم (ومعجزات من تقدّم من الأنبياء) أي وقابل بين واحدة مع ما يناسبها من الانباء (تقف على ذلك) أي المعنى (إن شاء الله؛ وأمّا كونها) أي معجزاته (كثيرة فهذا القرآن) أي ظاهر كثرته، (وكلّه معجز) أي والحال أن جميعه باعتبار كله وجزئه مُعْجِزٌ (وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ الْإِعْجَازُ فِيهِ عِنْدَ بعض أئمة المحقّقين) بل عند أكثر المدققين حيث قالوا إعجازه بالفصاحة والبلاغة (سورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] ) أي أقصر سورة نحوها (أو آية في قدرها) لقوله تعالى فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وفي حكم السورة قدرها لا أقلها (وذهب بعضهم) أي ممن قال بالصرفة (إلى أنّ كلّ آية منه) أي من القرآن (كيف كانت) أي وجدت طويلة أو قصيرة (معجرة) خبر أن (وزاد آخرون) أي على ما ذكر (أنّ كلّ جملة منتظمة منه) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 من القرآن وفي أصل الدلجي مُنْتَظِمَةٍ مِنْهُ (مُعْجِزَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَلِمَةٍ أو كلمتين) ويؤيده ظاهر قوله تعالى فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ولعل الإعجاز أولا كان بعشر سور ثم بسورة ثم بحديث كما هو أسلوب التدريج على وجه الترقي، (والحقّ) أي الثابت عند الجمهور (ما ذكرناه أوّلا لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] ) وفي نسخة من مثله (فهو) أي اتيان نحو سورة (أقلّ ما تحدّاهم) أي طلب معارضتهم (به مع ما ينصر هذا) أي يؤيده ويقويه (من نظر) أي نظر اعتبار وتفكر واستبصار (وتحقيق) أي مشتمل على تدقيق (يطول بسطه) أي والقصد وسطه (وإذا كان هذا) أي أكثر ما تحداهم به أقل (ففي القرآن من الكلمات) أي الاسمية والفعلية والحرفية (نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَنَيِّفٍ) بتشديد التحتية وتخفيفها أي وبعض زيادة وجمع بينه وبين نحو مبالغة في الملاحظة لقصد المحافظة (على عدد بعضهم) أي ممن عد كلماته (وعدد إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] ) أي إلى آخرها (عشر كلمات فتجزىء القرآن) بتشديد الزاء فهمز مبينا للمفعول وفي نسخة فيتجزأ بالهمز وفي أخرى بالألف وفي أصل الدلجي فتجزى القرآن بصيغة المصدر المضاف (على نسبة عدد إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي كلماتها العشر (أزيد) بالنصب وعلى أصل الدلجي وبعض النسخ بالرفع أي أكثر (من سبعة آلاف جزء) أي حصة (كلّ واحد منها بمعجز في نفسه) أي مع قطع النظر عما قبله وما بعده وما فيه من إخبار الله تعالى عن نبأ ما قبله وما بعده؛ (ثمّ إعجازه كما تقدّم) أي في محله (بوجهين) أي من طرق الإعجاز (طريق بلاغته) أي باشتماله على لطائف الإعجاز (وطريق نظمه) أي بسلوكه بين الاطناب والإيجاز (فَصَارَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ) أي السبعة آلاف (معجزتان) أي باعتبار الطريقين (فتضاعف العدد من هذا الوجه) أي الذي له جهتان فيصير أربعة عشر ألفا (ثمّ فيه) أي في القرآن من حيث مجموعه (وجوه إعجاز أخر) بضم ففتح (من الإخبار بعلوم الغيب) أي مما تقدم أو تأخر (فقد يكون في السّورة الواحدة) أي حقيقة أو حكما (مِنْ هَذِهِ التَّجْزِئَةِ الْخَبَرُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الغيب) كقصة موسى وهارون وفرعون وهامان وقارون (كلّ خبر منها بنفسه) أي بانفراده (معجز) أي مستقل في بابه (فتضاعف العدد) أي فتزايد المبلغ المضاعف (كرّة أخرى) أي في الجملة لا في نحو كل سورة فلا يصير ثمانية وعشرين ألفا على ما جزم به الدلجي (ثمّ وجوه الإعجاز الأخر التي ذكرناها) قال الدلجي وهي الغيبة وفيه أنها مما سبق ذكره (توجب التّضعيف) أي إلى ما لا يكاد يحصى ولا يستقصى؛ (هذا) أي التضعيف الوافر (في حقّ القرآن) هو الظاهر (فلا يكاد يأخذ العدّ) أي العدد كما في نسخة (معجزاته) أي لكثرتها (ولا يحوي) أي ولا يكاد يشتمل (الحصر براهينه) لعظمتها، (ثمّ الأحاديث الواردة) أي الصريحة، (والأخبار الصّادرة) أي الصحيحة (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه، الأبواب) أي المذكورة فيها من المعجزات وخوارق العادات والإخبار عن المغيبات (وعن مّا دلّ على أمره) أي ظهور أمره وحكمه (ممّا أشرنا إلى جمله) بضم ففتح أي إلى جمل من مفصله (يبلغ نحوا من هذا) أي التضعيف (الوجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 الثّاني) أي من وجهي كون معجزاته أظهر من معجزات غيره (وضوح معجزاته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ظهورها وانتشارها واشتهارها (فإنّ معجزات الرّسل كانت) أي واردة على أيديهم (بقدر همم أهل زمانهم) أي حالا ومقدارا في شأنهم (وبحسب) هذا (الفنّ) بفتح السين (الذي) قد (سما فيه قرنه) أي علا وارتفع أهل عصره شهرة بمعرفة ذلك الفن في دهره كما بينه بقوله (فلمّا كان زمن مُوسَى غَايَةُ عِلْمِ أَهْلِهِ السِّحْرُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مُوسَى بِمُعْجِزَةٍ تُشْبِهُ مَا يَدَّعُونَ قُدْرَتَهُمْ عَلَيْهِ) أي وما يزعمون مهارتهم لديه ويوجهون همتهم إليه (فجاءهم منها) أي على يد موسى (ما خرق عادتهم) أي من انقلاب العصا حية تسعى واليد السمراء بيضاء من غير سوء (ولم يكن) أي ذلك المعجز (في قدرتهم) أي في نطاق قواهم وقدرهم (وأبطل سحرهم) وما أظهره من التخييل عند مكرهم؛ (وكذلك زمن عيسى عليه السلام أغنى) أفعل تفضيل من الغاية أي أنهى (ما كان) أي علم أهله (الطّبّ) بكسر الطاء ويثلث وهو علاج الأمراض الظاهرة وفي نسخة أعيى بالعين المهملة بمعنى أعجز وفي أخرى بالغين المعجمة والنون أي أوفى وفي أخرى بالمهملة والنون أي اقصد وكلها صحيحة على ما لا يخفى (وأوفر ما كان أهله) أي أكثر ما كان أهل قرنه في تتبعه (فجاءهم) أي على يد عيسى (أَمْرٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَأَتَاهُمْ مَا لَمْ يحتسبوه) أي شيئا لم يظنوا وجوده لديه وأمره مفوضا إليه (من إحياء الميّت) ويروى الموتى وفي نسخة الميتة (وإبراء الأكمه) أي الذي ولد ممسوح العين ذكره الدلجي قال الحلبي الأكمه هو الذي يولد أعمى ويقال الأعشى وقد قال البخاري في الصحيح أن الأكمة من يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل انتهى وهو تفسير للأعشى على ما لا يخفى (والأبرص) من في بدنه بياض من المرض المعروف (دون معالجة ولا طبّ) أي بمداواة بل كان يأتيه من إطاق الاتيان لديه ومن لم يطق ذهب إليه عليه الصلاة والسلام فربما اجتمع عنده الألوف من المرضى وذوي العاهات فيداويهم بالدعوات والآيات (وهكذا سائر معجزات الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام أي كانت بقدر علم أهل زمانهم من الأنام، (ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وجملة معارف العرب وعلومها) أي من الجزئيات والكليات (أربعة) أي من أنواع المدركات وأصناف الملكات (البلاغة) أي المقرونة بالفصاحة (والشّعر) أي النظم المقابل للنثر (والخبر) بفتحتين أي الإخبار بأنساب العرب وأيامها من وقائعها ومعرفة تاريخها وتفصيل ما جرى فيها من ضروب خروجها وفنون رجوعها (والكهانة) بكسر الكاف وتفتح وهي مزاولة الخبر عن الكائنات وإظهارها وادعاء معرفة اسرارها (فأنزل) بصيغة المجهول أي فأنزل الله تعالى كما في نسخة وفي أخرى زيادة عليه (القرآن الخارق لهذه الأربعة فصول) أي المتقدمة وهي البلاغة والشعر والخبر والكهانة. (من الفصاحة) أي من أجل فصاحة القرآن (والإيجاز) أي وإيجاز الفرقان، (والبلاغة الخارجة عن نمط كلامهم) بفتح النون والميم أي نوعه ونهجه (وَمِنَ النَّظْمِ الْغَرِيبِ وَالْأُسْلُوبِ الْعَجِيبِ الَّذِي لَمْ يهتدوا) أي فصحاؤهم وبلغاؤهم وخطباؤهم وشعراؤهم (في المنظوم) أي من كلامهم (إلى طريقه) أي في مرامه (ولا علموا في أساليب الأوزان) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 نظما ونثرا وفي أصل الدلجي في أساليب الكلام والافنان من النثر المسجع والنظم المرصع (منهجه) أي طريقته السهلة الممتنعة (ومن الإخبار) بكسرة الهمزة (عن الكوائن والحوادث) أي الكائنات والمحدثات من الأعيان والأكوان (والأسرار) أي في البواطن (والمخبأت) أي في الظاهر (والضّمائر فتوجد على ما كانت) أي ذاتا أو صفة (ويعترف المخبر) بفتح الباء أي من أخبر (عنها بصحّة ذلك وصدقه، وإن كان) أي ولو كان ذلك المعترف المخبر (أعدى العدوّ) أي بكونه من أهل الكفر والنكر (فأبطل) أي القرآن أو النبي او الله سبحانه وتعالى (الْكِهَانَةَ الَّتِي تَصْدُقُ مَرَّةً وَتَكْذِبُ عَشْرًا ثُمَّ اجتثّها) بتشديد المثلثة أي اقتلعها (من أصلها برجم الشّهب ورصد النّجوم) بفتح الصاد أي جعلها معدة لحفظ السماء من استراق الشياطين السمع من الانباء حيث ترميهم بشهب منفصلة من نارها لا نفسها لثبوتها في مقارها كقبس أخذ من نار وهي ثابتة لم تنقص مما لها من مقدار (وجاء) أي في القرآن (من الأخبار) بفتح الهمزة (عن القرون السّالفة) أي السابقة (وأنباء الأنبياء والأمم البائدة) أي الهالكة ومنه حديث الحور العين نحن الخالدات فلا نبيد أبدا (والحوادث الماضية) أي الواقعات المتقدمة من المنفعة والمضرة (ما) أي شيء أو الذي (يعجز من تفرّغ لهذا العلم) أي في صرف جميع عمره (عن بعضه) أي عن معرفة بعض أمره (على الوجوه التي بسطناها) أي أوضحناها (وبيّنّا المعجز فيها) أي مع ما وشحناها ورشحناها (ثمّ بقيت هذه المعجزة) المتعلقة بالفصاحة والبلاغة والاخبار عن الكوائن الحادثة (الجامعة لهذه الوجوه) أي المذكورة المسطورة المضمومة (إلى الفصول الأخر) أي المتقدمة (التي ذكرناها في معجزات القرآن) أي فيما مضى من البيان (ثابتة إلى يوم القيامة) أي حال كونها مستمرة دائمة (بيّنة الحجّة) أي ظاهرة الدلالة في الاعجاز مع غاية الايجاز (لكلّ أمّة تأتي) أي بعد جماعة تنقضي (لا يخفى وجوه ذلك) أي المعجز المتقدم (عَلَى مَنْ نَظَرَ فِيهِ وَتَأَمَّلَ وُجُوهَ إِعْجَازِهِ إلى) أي منضما إلى (ما أخبر به من الغيوب) بضم الغين وكسرها أي المغيبات (على هذه) وفي نسخة على هذه (السّبيل) فإن السبيل يذكر ويؤنث ومنه قوله تعالى وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ومنها جائر (فلا يمرّ عصر ولا زمن) أي ولا ينقضي قرن ولا دهر (إلّا ويظهر فيه صدقه) أي زيادة صدقه أو موجب تصديقه (بظهور مخبره) بضم الميم وفتح الموحدة (على ما أخبر) أي على طبقه ووفقه وأغرب الدلجي بقوله على ما أخبر من وجوه الفصاحة والإيجاز والبلاغة (فيتجدّد الإيمان ويتظاهر البرهان) فيستمر الإيقان ويتقوى العرفان (وليس الخبر كالعيان) بكسر أوله إذ غاية إفادة الخبر غالبا ظنية ونهاية أفاده المعاينة يقينية؛ (وللمشاهدة زيادة في اليقين) ، أي المستفاد مثلا من المتواتر استدلالا (والنّفس أشدّ طمأنينة) أي سكونا (إلى عين اليقين) أي الذي تفيده المعاينة (منها) أي من الطمأنينة (إلى علم اليقين) أي المستفاد بالتواتر استدلالا (وإن كان كلّ) أي من علم اليقين وعين اليقين (عندها) أي عند النفس (حقّا) أي ثابتا وصدقا لكن عين اليقين اسكن لها على ازدياد طمأنينتها وأعون لها على عدم ترددها ووسوستها ومن ثم لما قيل للخليل أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي بعلم الوحي المقدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 والاستدلال بالخبر المكرر قالَ بَلى إي ربي وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بمصاحبة علم العيان لعلم البرهان ومن ههنا قيل علمان خير من علم واحد (وسائر معجزات الرّسل انقرضت بانقراضهم) بل اندرس بعضها حال حياتهم كما أشار إليه بقوله (وعدمت) بصيغة المجهول أي وانعدمت (بعدم ذواتها) أي بعدم وجودها وتحقق صفاتها وفي أصل الدلجي بعدم ذواتهم أي وجودا في الدنيا وإلا فثبت أن الأنبياء في البرزخ أحياء فالجملة تأكيد لما قبلها وعلى الأول تأسيس وهو أولى في محلها، (ومعجزة نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم لا تبيد) أي لا تفنى أبدا (ولا تنقطع) أي ولا تنقضي سرمدا (وآياته) أي علاماته الدالة على صدقه (تتجدّد) أي يوما فيوما (ولا تضمحل) بتشديد اللام أي ولا تزول أصلا (ولهذا) أي المعنى إلا عليّ (أشار صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله) أي الذي هو غاية المرام في هذا المقام المندرج (فيما حدّثنا القاضي الشّهيد أبو عليّ) أي الحافظ ابن سكرة (حدّثنا القاضي أبو الوليد) وهو الباجي (حدّثنا أبو ذرّ) أي الهروي (حدّثنا أبو محمّد) أي ابن حمويه السرخسي (وأبو إسحاق) أي المستملي (وأبو الهيثم) أي الكشميهني (قالوا) أي كلهم (حدّثنا الفربريّ) بكسر الفاء وتفتح (حدّثنا البخاريّ) أي صاحب الجامع (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) أي العامري الأويسي الفقيه عن مالك ونافع مولى ابن عمر (حدّثنا اللّيث) أي ابن سعد (عن سعيد عن أبيه) أي أبي سعيد المقبري روى أن عمر جعله على حفر القبور فسمي به توفي سنة مائة (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) والحديث كما ترى رواه البخاري وقد أخرجه مسلم والنسائي أيضا (قال ما من الأنبياء نبيّ) هو أعم من رسول (إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عليه البشر) أي ليس نبي منهم إلا أعطاه الله من المعجزات شيئا الجأ من شاهده إلى الإيمان به فخص كل نبي بما أثبت دعواه من خوارق العادة التي أعطاه مولاه في زمانه وبعد انقراضه اختفى شأنه ولم يبق سلطانه ولم يلمع برهانه كقلب العصا لموسى حية تسعى (وإنّما كان الذي أوتيت) أي بخصوص ما أنعم علي (وحيا أوحاه الله إليّ) أي معجزا في أعلى طبقات البلاغة وأقصى غايات الفصاحة كريم الفائدة عميم العائدة على السابقين واللاحقين من هذه الأمة قرنا بعد قرن على مرور الأزمنة ولذا رتب عليه قوله (فأرجو) أي بسبب بقائه وظهور ضيائه (أني أكثرهم) وفي اصل الدلجى أن أكون أَكْثَرُهُمْ (تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ) أي المذكور (عند بعضهم وهو) أي هذا المعنى المسطور هو (الظّاهر) أي المتبادر (والصّحيح) أي الصريح (إن شاء الله) أي فلا يعدل عما قدمناه، (وذهب غير واحد) أي كثيرون (مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَظُهُورِ معجزة نبيّنا) أي وتأويل غلبة معجزة نبينا (صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معنى آخر) أي غير ما أفاده منطوقا (من ظهورها بكونها) أي من قوة معجزة نبينا بسبب كونها (وحيا) أي خفيا (وكلاما) أي جليا (لا يمكن التّحيّل فيه ولا التّخيّل عليه) بالحاء المهملة من الحيلة (ولا التّشبيه) أي من حيث إنه لا يتصور فيه التمويه (فإنّ غيرها) أي غير معجزة نبينا (مِنْ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ قَدْ رَامَ الْمُعَانِدُونَ لَهَا) أي قصدوا لإبطالها (بأشياء طمعوا في التّخييل بها) أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 بتلك الأشياء (على الضّعفاء) أي ليتوصلوا بذلك إلى إبطال معجزات الأنبياء (كإلقاء السّحرة حبالهم وعصيهم) أي في معارضة معجزة موسى بالقاء العصا، (وشبه هذا) بالرفع أي وشبيه هذا الذي فعله سحرة فرعون (بما يخيّله السّاحر) أي جنسه على الضعيف في دينه وأمر يقينه (أو يتحيّل فيه) أي يطلب الحيلة في دفعه أنه صدق أو في إثباته أنه حق؛ (والقرآن كلام) أي لله تعالى كما في أصل الدلجي كلام الله تعالى والأظهر أنه أريد به هنا أنه مطلق كلام أي إعجاز القرآن واقع في كلام (ليس للحيلة ولا للسّحر، ولا للتّخييل فيه) أي في الكلام (عمل) أي مما يوجب التمويه (فكان) أي القرآن (من هذا الوجه عندهم) أي عند أرباب هذا المعنى (أَظْهَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ كَمَا لَا يتمّ لشاعر، ولا خطيب أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ خَطِيبًا بِضَرْبٍ مِنَ الحيل، والتّمويه) أي مما يكدر أمر المعجزة وينافيه، (والتّأويل الأوّل) أي الذي هو المعول (أخلص) أي أظهر وأنص (وأرضى) عند النفوس الخلص، (وفي هذا التّأويل الثّاني ما يغمّض) أي بصيغة المفعول مخففا وقال الحلبي مشددا أي يغطى (الجفن) بفتح الجيم وسكون الفاء أي غطاء العين (عليه) ويروى عنه (ويغضى) بصيغة المجهول من الإغضاء بمعنى الإغماض وفي أصل الدلجي بالفاء وهو تصحيف وتحريف كما لا يخفى والتحقيق أنه لا منع من الجمع وأن بناء الثاني على التدقيق والله ولي التوفيق وعلى كل تقدير ظهر الوجهان في ثبوت المعجزة للقرآن. (ووجه ثالث) أي وهنا وجه آخر وفي نسخة صحيحة وجه بدون عاطفة والمعنى وجه ثالث في كون القرآن معجزا خارقا للعادة (على مذهب من قال بالصّرفة) بفتح الصاد وقيل بكسرها وهو مذهب بعض المعتزلة والشيعة حيث قالوا صرف الله هممهم عن الاتيان بأقصر سورة منه مع تمكنهم عنه، (وأنّ المعارضة) أي بمثله في الجملة (كانت في مقدور البشر، فصرفوا عنها) أي بسلب دواعيهم لا بسلب قدرتهم كما ذكره الدلجي فإنه مذهب آخر كما سيأتي، (أَوْ عَلَى أَحَدِ مَذْهَبَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أنّ الإتيان بمثله من جنس مقدورهم) أي من جنس كلامهم الذي لهم القدرة عليه (ولكن لم يكن ذلك) أي الاتيان بمثله بعد من تمكنهم منه (قبل ولا يكون بعد) أي قبل التحدي ولا بعده كما ذكره الدلجي والأظهر أن المراد بقوله قبل الزمان السابق وبقوله ولا يكون بعد الزمان اللاحق إلى يوم القيامة ويؤيده قوله (لأنّ الله تعالى لم يقدرهم) أي على الاتيان بمثله قبله (ولا يقدرهم عليه) أي بعده (وبين المذهبين فرق بين) بتشديد التحتية المكسورة أي ظاهر لتمكنهم على المذهب الأول منه إلا أنهم صرفوا عنه ولعدم تمكنهم منه على الثاني مع كونه من جنس مقدورهم (وعليهما) أي وعلى المذهبين (جميعا) أي جميعهما (فتترك العرب) وفي نسخة بغير الفاء أي ترك معارضتهم (الإتيان بما في مقدورهم) أي في الجملة (أو ما هو من جنس مقدورهم) أي في الصورة (ورضاهم بالبلاء) أي العناء في أبدانهم، (والجلاء) أي عن أوطانهم وهو بفتح الجيم الخروج من البلد (والسّباء) بكسر السين ممدودا أي والسبي كما في نسخة أي أسر أطفالهم ونسائهم وأعيانهم، (والإذلال) أي لأنفسهم في بعض الأحوال، (وتغيير الحال) أي بمحالفتهم من الخير إلى الشر (وسلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 النّفوس) أي في حال القتال (والأموال) أي بذلها في فك رقابهم من الأغلال، (والتّقريع) أي قهرا، (والتّوبيخ) أي زجرا، (والتّعجيز) أي بالإذلال، (والتّهديد) أي بعظائم النكال (والوعيد) أي بوخائم الوبال (أبين آية) خبر لقوله ترك والمعنى أظهر علامة وأبهر دلالة، (لِلْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَالنُّكُولِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ) أي والاعراض والامتناع عن معارضة نحوه، (وإنّهم) بكسر الهمزة ويجوز فتحها (مُنِعُوا عَنْ شَيْءٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ) وفي نسخة مقدرتهم بضم الدال وتفتح أي قدرتهم (وإلى هذا) أي المذهب الثاني (ذهب الإمام أبو المعالي) أي عبد الملك بن أبي محمد (الجوينيّ) بالتصغير النيسابوري وهو الملقب بإمام الحرمين أفصح الشافعية وله اليد الباسطة في الطول من علمي الكلام والأصول توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (وغيره) أي من علماء أهل السنة والجماعة (قال) أي أبو المعالي (وهذا عندنا أبلغ في خلاف الْعَادَةِ بِالْأَفْعَالِ الْبَدِيعَةِ فِي أَنْفُسِهَا كَقَلْبِ الْعَصَا حيّة ونحوها) وكإخراج اليد البيضاء ويحياء الموتى وغيرهما، (فإنّه قد يسبق إلى بال النّاظر) أي قلب المتأمل (يدارا) بكسر الباء أي مبادرة ومسارعة من أول وهلة قبل التأمل في حقيقة أمره وخفية سره (أنّ ذلك) أي ما ذكر من قلب العصا حية ونحوها (من اختصاص صاحب ذلك بمزيد معرفة في ذلك الفنّ وفضل علم) أي في ذلك النوع كما توهم في فرعون حيث قال إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ (إلى أن يردّ ذلك) أي السابق إلى بال الناظر مما ذكر من وهم الخاطر (صحيح النّظر) أي فيتحقق الفهم ويضمحل الوهم ويتبين لقلب الحي أن قلب العصا حية ونحوها مما لا يدخل تحت طوق البشر إذ هو فعل فاعل القوي والقدر (وأمّا التّحدي للخلائق) أي طلب المعارضة منهم باعتبار السابق واللاحق (المئين) وفي نسخة مئين جمع مائة وفي نسخة في المئين (مِنَ السِّنِينَ بِكَلَامٍ مِنْ جِنْسِ كَلَامِهِمْ لِيَأْتُوا بمثله) أي على وفق مرامهم (فلم يأتوا) أي الخلائق بتمامهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى الْمُعَارَضَةِ ثمّ عدمها) أي بترك المناقضة (إلّا أن منع الله الخلق عنها) أي عن المعارضة لأحد الوجوه الثلاثة في بيان المعجزة (بمثابة ما لو قال نبيّ) أي وقد طلب منه آية وعلامة دالة على صدق دعواه للنبوة (آيَتِي أَنْ يَمْنَعَ اللَّهُ الْقِيَامَ عَنِ النَّاسِ مع مقدرتهم) وفي نسخة مع قدرتهم (عليه وارتفاع الزّمانة عنهم) أي عن بعضهم للاستواء في حال عجزهم ولا يبعد أن تكون الواو بمعنى أو التنويعية (فلو كان ذلك) أي الذي قال ذلك النبي (وعجّزهم الله تعالى عن القيام) أي في ذلك المقام (لكان ذلك من أبصر آية وأظهر دلالة) أي في إقامة البرهان وإبانة التحقيق (وبالله التّوفيق) ونظيره قوله تعالى لزكريا آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا؛ (وقد غاب عن بعض العلماء) أي خفي عليه (وجه ظهور آيته) أي معجزته التي هي القرآن (على سائر آيات الأنبياء) أي في باقي الأزمان ولم يدر أنها ببقائها معلومة لكل واحد في كل أوان متلوة بكل مكان (حتّى احتاج للعذر عن ذلك) أي الذي زعمه من عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 ظهورها هناك (بدقّة أفهام العرب وذكاء ألبابها) أي شدة فطانة فهومهم وحدة علومهم (ووفور عقولها) أي وكثرة تعلقهم وتأملهم (وأنّهم أدركوا المعجزة فيه) أي في القرآن (بفطنتهم) أي ما الجأهم إلى الاعتراف بكونه من معجزتهم (وجاءهم من ذلك) أي مما أدركوا فيه هنالك (بحسب إدراكهم) بفتح السين أي بمقتضى إدراكاتهم، لغاية فصاحته ونهاية بلاغته، (وغيرهم) أي ممن بعدهم ما عدا العرب (من القبط) أي قوم فرعون (وبني إسرائيل) أي قوم موسى (وغيرهم) أي ممن بعدهم ما عدا العرب (لم يكونوا بهذه السّبيل) أي بهذه الطريقة من دقة الفهم وذكاء الفطنة (بل كانوا من الغباوة) بفتح الغين المعجمة وهي عدم الفطنة وكمال الجهالة (وقلّة الفطنة) أي في بعض القضية (بحيث جوّز عليهم) أي على عقولهم (فرعون أنّه ربّهم) كما قال الله تعالى حكاية عنه أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وقد قال عز وعلا فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (وجوّز عليهم السّامريّ) وكان من عظماء بني إسرائيل واسمه موسى بن ظفر (ذلك) أي كون ظهور ربهم (في العجل بعد إيمانهم) أي بموجبات إيقانهم (وعبدوا) أي طائفة من بني إسرائيل (المسيح) أي عيسى ابن مريم (مع إجماعهم على صلبه وَما قَتَلُوهُ) أي اليهود (وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء: 157] ) أي كما أخبر الله عنهم والمعنى صلبو من ألقي عليه الشبه بعد قتله كما قال تعالى وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ؛ (فجاءتهم) أي اليهود (من الآيات الظّاهرة البيّنة) أي الواضحة (للأبصار) المنفتحة (بقدر غلظ أفهامهم) أي وغلظ أوهامهم (ما) فاعل جاء وفي نسخة مما (لا يشكون فيه ومع هذا) أي المجيء بالأمور الظاهرة والأحوال الواضحة (قالوا) وفي نسخة فقالوا أي خطابا لنبيهم كما حكى الله عنهم بقوله تعالى (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] ) أي معاينة ظاهرة (ولم يصبروا على المنّ والسّلوى) أي على أكلهما وجعلوا الترنجبين من الحلوى والسماني من طير الشوي طعاما واحدا وقالوا لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ (واستبدلوا الذي هو أدنى) أي أقرب إلى الدناءة وأدون في المقدار والمرتبة كالبقل والقثاء والفوم والعدس (بالذي هو خير) أي في المرتبة واللذة وعدم الحاجة إلى الكد والمشقة وأقرب إلى الحيلة، (والعرب على جاهليّتها) أي على حالتها التي كانت عليها قبل ظهور النبوة من الجهل بأمور الشريعة وأحوال الديانة (أكثرها يعترف بالصّانع) بل جميعها كما هو ظاهر قوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ولذا جاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بكلمة التوحيد وهو أن يقولوا لا إله إلا الله لا بأن يقولوا الله موجود لأن هذا مما اجمع عليه أهل الملل والنحل ولا يلزم من قول بعضهم حيث قالوا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ إن الدهر خالقهم إذ لم يقل به أحد منهم بل أرادوا به أن طول الزمان ودورة الدوران يقتضي أن يحيى بعضنا ويموت بعضنا فنسبوا بعض الأفعال إلى الدهر كما قد يتفوهون به أهل العصر وقد قال الله تعالى أنا الدهر أي خالقه أو المتصرف فيه (وإنّما كانت) أي العرب (تتقرّب بالأصنام إلى الله زلفى) أي تقربا كما قال الله تعالى حكاية عنهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وَيَقُولُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ (ومنهم من آمن بالله وحده) أي وسفه من عبد غيره (من قبل الرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من قبل إرساله (بدليل عقله وصفاء لبّه) أي آمن بتوحيد ربه كزبد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعد وكذا ورقة بن نوفل إلا أنه أدرك البعثة وآمن به وتشرف بالصحبة؛ (ولمّا جاءهم) أي العرب (الرّسول بكتاب الله) وهو القرآن الكريم والفرقان القديم (فهموا حكمته) أي لحدة فطنتهم وشدة معرفتهم (وتبيّنوا بفضل إدراكهم) أي بزيادة قابليتهم وأهليتهم (لأوّل وهلة معجزته فآمنوا به) أي بعضهم أولا وجلهم آخرا (وازدادوا كلّ يوم إيمانا) أي واكتسبوا يوما فيوما إحسانا وإيقانا (ورفضوا الدّنيا) أي تركوها (كلّها) أي مالها وجمالها (في صحبته) أي وبيمن همته وبركة متابعته (وهجروا ديارهم وأموالهم) أي وفارقوهما باختيارهم (وقتلوا آباءهم وأبناءهم) أي وسائر أقاربهم وأحباءهم (في نصرته) أي في نصرة دينه وقوة يقينه؛ (وأتي) أي وأورد ذلك البعض من العلماء (في معنى هذا) أي المبنى من عبارات البلغاء واعتبارات الفصحاء وإشارات العقلاء (بما يلوح له رونق) أي بما يلمع له ضياء ويلمح له صفاء (ويعجب منه) بصيغة المفعول أي ويبرق من أثره وظهور أمره (زبرج) بكسر الزاء والراء بينهما موحدة ساكنة وفي آخره جيم أي زينة من ذهب أو جوهر أو وشي (لو احتيج إليه) أي إلى كلامه (وحقّق) أي أمره في مرامه، (لكنّا) يروى فقد (قَدَّمْنَا مِنْ بَيَانِ مُعْجِزَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وظهورها) أي ووضوح أمرها (مَا يُغْنِي عَنْ رُكُوبِ بُطُونِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ وظهورها) مثل معقولات المعاني بمحسوسات المباني وقصد الاستغناء عن هذه الاستعلاء ونحن نقول لا منع من الجمع فإن الآيات والمعجزات لكل منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع (ورضي الله تعالى عنهم وبالله أستعين) أي في كل وقت وحين (وهو حسبنا) أي كافينا ووافينا وشافينا (ونعم الوكيل) أي اعتمادا واستنادا معاشا ومعادا باطنا وظاهرا وأولا وآخرا والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وعلى آله وصحبه نجوم الاقتداء والاهتداء وعلى اتباعهم من العلماء والأولياء والحمد الله الذي هدانا لهذا وأغنانا عما سواه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله اللهم اختم لنا بالخيرات أعمالنا وبالمبرات آجالنا وبالمسرات أحوالنا واغفر لنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات آمين آمين آمين يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وقد تم نصف الكتاب بعون الملك الوهاب ويتلوه القسم الثاني الذي ليس له ثان في هذا الباب عند أرباب الألباب والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب حرره مصنفه الجاني في أوائل جمادى الثاني من شهور عام عشرة بعد الألف السابع من عالم المباني رحمه الله تعالى رحمة واسعة بمنه آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 فهرس المحتويات المقدمة 3 ترجمة القاضي عياض 5 خطبة الكتاب 9 أما بعد بيان سبب تأليف الكتاب وتصنيفه 15 القسم الأول في تعظيم العلي الأعلى جل وعلا 33 (الْبَابُ الْأَوَّلُ) فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عليه السلام 39 الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَجِيءَ المدح والثناء 39 الفصل الثاني: في وصفه تعالى بالشهادة وما تعلق به من الثناء والكرامة 61 الفصل الثالث: فيما ورد من خطابه تعالى إياه مورد الملاطفة والمبرة 73 الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم 81 الفصل الخامس: في قسمه عز وجل 90 الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في جهته عليه الصلاة والسلام مورد الشفقة والإكرام 108 الفصل السابع: فيما أخبره الله بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ 114 الْفَصْلُ الثَّامِنُ: فِي إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بصلاته عليه وولايته له 120 الْفَصْلُ التَّاسِعُ: فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كراماته عليه السلام 129 الْفَصْلُ الْعَاشِرُ: فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كتابه العزيز من كراماته عليه ومكانته عنده 140 (الْبَابُ الثَّانِي) فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ المحاسن خلقا وخلقا 149 فصل: قال القاضي رحمه الله تعالى إذا كانت خصال الكمال والجلال الخ 153 فصل: إن قلت أكرمك الله تعالى لا خفاء على القطع بالجملة الخ 158 فصل: وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه عليه الصلاة والسلام 164 فصل: وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وفصاحة لسانه واعتدال حركاته وحسن شمائله 174 فصل: وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول 183 فصل: وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشأه 204 فصل: وأما تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إِلَيْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثلاثة ضروب الضرب الأول 207 فصل: وأما الضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره 214 فصل: وأما الضرب الثالث فهو ما تختلف فيه الحالات 223 فصل: وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة 229 فصل: وأما أَصْلُ فُرُوعِهَا وَعُنْصُرُ يَنَابِيعِهَا وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ الخ 239 فصل: وأما الحلم 241 فصل: وأما الجود 254 فصل: وأما الشجاعة والنجدة 261 فصل: وأما الحياء والإغضاء 268 فصل: وأما حسن عشرته وآدابه 282 فصل: وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق الخ 280 فصل: وأما خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في الوفاء 287 فصل: وأما تواضعه صلى الله تعالى عليه وسلم 293 فصل: وأما عدله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته 301 فصل: وأما وقاره صلى الله تعالى عليه وسلم 307 فصل: وأما زهده صلى الله تعالى عليه وسلم في الدنيا 313 فصل: وأما خوفه صلى الله تعالى عليه وسلم من ربه عز وجل 319 فصل: اعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن صفات جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الخ 326 فصل: قد آتيناك أكرمك الله سبحانه من ذكر الأخلاق الحميدة 339 فصل: في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله 357 فصل: (الْبَابُ الثَّالِثُ) فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ ومشهورها بتعظيم قدره عند ربه عز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 وجل 365 الفصل الأول: فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عز وجل 365 فصل: في تفضيله صلى الله تعالى عليه وسلم بما تضمنته كرامة الإسراء إلخ 385 فصل: ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده 408 فصل: إبطال حجج من قال أنها نوم 416 فصل: وأما رؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم لربه عز وجل 422 فصل: في فوائد متفرقة 436 فصل: وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَظَاهِرُ الآية من الدنو والقرب 439 فصل: في ذكر تفضيله في القيامة بخصوص الكرامة 443 فصل: في تفضيله بالمحبة والخلة 451 فصل: في تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود 463 فصل: في تفضيله فِي الْجَنَّةِ بِالْوَسِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْكَوْثَرِ وَالْفَضِيلَةِ 479 فصل: فَإِنْ قُلْتَ إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ وصحيح الأثر الخ 482 فصل: في أسمائه صلى الله تعالى عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته 489 فصل: في تشريف الله تعالى له بما سماه به من أسمائه الحسنى 505 فصل: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وها أنا أذكر نكتة إلخ 521 (الْبَابُ الرَّابِعُ) فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ والكرامات 526 فصل: اعلم أن الله عز وجل قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ 531 فصل: اعلم أن معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة إلخ 538 فصل: في إعجاز القرآن العظيم الوجه الأول إلخ 547 فصل: الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ والأسلوب الغريب 560 فصل: الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ من الأخبار 567 فصل: الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ القرون السالفة 571 فصل: هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ إِعْجَازِهِ بَيِّنَةٌ لَا نزاع فيها ولا مرية 575 فصل: ومنها الروعة الخ 577 فصل: وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً بَاقِيَةً لا تعدم ما دامت الدنيا 580 فصل: وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلِّدِي الْأُمَّةِ في إعجازه وجوها كثيرة 581 فصل: في انشقاق القمر وحبس الشمس 588 فصل: في نبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثيره ببركته صلى الله تعالى عليه وسلم 596 فصل: وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَفْجِيرُ الْمَاءِ ببركته وانبعاثه 601 فصل: ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه عليه الصلاة والسلام 605 فصل: في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته 618 فصل: في قصة حنين الجذع له صلى الله تعالى عليه وسلم 625 فصل: ومثل هذا وقع في سائر الجمادات بمسه ودعوته 630 فصل: في الآيات في ضروب الحيوانات 634 فصل: في إحياء الموتى وكلامهم 644 فصل: في إبراء المرضى وذوي العاهات 653 فصل: في إجابة دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم 660 فصل: في كراماته صلى الله عليه وسلم 668 فصل: وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْغُيُوبِ الخ 679 فصل: في عصمة الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم من الناس وكفايته من آذاه 709 فصل: ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم 721 فصل: ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام وكراماته وباهر آياته أنباؤه مع الملائكة الخ 734 فصل: وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرَادَفَتْ الخ 739 فصل: وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عِنْدَ مولده عليه الصلاة والسلام 750 فصل: قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى قد أتينا في هذا الباب الخ 756 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 الجزء الثّاني [ المقدمة ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذي الجلال والإكرام، الذي يجب أن يبدأ بذكره المرام، ويختم بشكره الكلام (الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْأَنَامِ مِنْ حقوقه صلى الله تعالى عليه وسلم) أي القسم الثاني من كتاب الشفا في حقوق المصطفى في بيان ما يجب على المكلفين من حقوق خاتم النبيين وسيد المرسلين (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) يعني المصنف (وهذا) أي القسم الثاني (قسم) أي عظيم (لخّصنا فيه الكلام) أي اقتصرنا واختصرنا (في أربعة أبواب على ما ذكرناه) أي وفق ما قررناه وحررناه (في أوّل الكتاب ومجموعها) أي مجموع أبواب هذا القسم الأربعة (في وجوب تصديقه عليه الصلاة والسلام) أي الإيمان به فيما جاء عن ربه (واتّباعه في سنّته) أي في وجوب متابعته في شريعته وطريقة حقيقته (وطاعته) أي وفي وجوب امتثال أوامره واجتناب زواجره كما بينه في فصول الباب الأول (ومحبّته) أي وفي وجوب محبته وجعل محبته تابعة لمحبته كما ورد لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به لأن محبته سبب لمتابعته ومتابعته علامة لمحبة الله تعالى ابتداء ومحبة الله تعالى إياه انتهاء كما قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ كما عينه في فصول الباب الثاني (ومناصحته) أي وفي وجوب قبول نصحه له في أمره ونهيه ونصحه لرسوله ودينه كما ورد الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقد أوضحنا معنى هذا الحديث في شرح الأربعين والمناصحة مفاعلة للمبالغة قصد هنا منها المبالغة في النصح وهو الخلوص لغة والنصيحة في الشريعة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له (وتوقيره) أي وفي وجوب تعظيمه لقوله تعالى: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ كما زينه في فصول الباب الثالث (وبرّه) أي في وجوب الإحسان بأهل وده والقيام بحكمه وأمره (وحكم الصلاة عليه والتّسليم) أي وفي وجوب حكمهما من وجوب وغيره (وزيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم) أي وفي بيان زيارة قبره وما يتعلق به كما حسنه في الباب الرابع، وهذا الأمر اجمالي سيرد عليك القدر التفصيلي في ضمن الأبواب وفصولها بالوجه التكميلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 الْبَابُ الْأَوَّلُ [فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ وَوُجُوبِ طاعته واتّباع سنّته] (فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ سنّته صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وكرم) وفخم وعظم أي في بيان فرضية تصديقه في المعتقدات وفي وجوب طاعته في الواجبات واستحباب متابعته في المستحبات أو التقدير وفي وجوب اتباع شريعته التي تعم جميع الحالات وفي المغايرة بين الفرض والوجوب ايماء بأن الأول ركن الدين ومهماته والأخيران من مكملاته ومتمماته ولا يلزم من عدمهما فقد الأول بخلاف العكس فتأمل (إذا تقرّر بما قدّمناه) أي في ضمن ما تحرر (ثبوت نبوّته) أي بظهور معجزاته (وصحّة رسالته) أي بوضوح آياته (وجب الإيمان به) لأنه فرع ثبوتهما كتوقف المشروط على الشرط (وتصديقه فيما أتى به) أي من عند ربه تعالى من جهة الوحي الجلي أو من طريق الوحي الخفي والمعنى ووجب تصديقه بجميع ما في الكتاب والسنة وان كان وجوب تصديقه من جهة السنة ثابتا بالكتاب أيضا لقوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ولقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ واحذروا أي من مخالفتهما فيما أمرا به ونهيا عنه وبما قررنا ظهرت المغايرة في العطف وإما كونه عطف تفسير كما ذكره الدلجي رحمه الله تعالى عند من يقول: الإيمان هو التصديق فقط فلا وجه له لأن المحققين على أن الإيمان هو التصديق والإقرار شرط لاجراء أحكام الإسلام والأعمال شرط الكمال بخلاف المعتزلة والخوارج حيث ادخلوا الأعمال في أجزاء الإيمان وعلى كل تقدير ففرق بين الإيمان برسالته عليه الصلاة والسلام وتصديق ما جاء به من الأحكام حتى لا يحرم الحلال ولا يحلل الحرام (قال الله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وهو الفرد الأكمل والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم الأفضل (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [التغابن: 8] أي القرآن المشبه بالنور الفرقان بين الحق والباطل والبرهان المزيل لظلمات الشكوك والظنون والأوهام الحاصلة للجاهل والغافل وسمي نورا لأنه بإعجازه ظاهر بنفسه مظهر ما فيه لغيره (وقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي بتصديق من بعثت إليهم وإخلاصهم وهدايتهم وبتكذيبهم وضلالتهم (وَمُبَشِّراً) أي بالجنة ونعيمها للمؤمنين (وَنَذِيراً) أي بالنار وأليمها للكافرين (لِتُؤْمِنُوا) قرىء بالخطاب والغيبة في السبعة أي لتصدقوا (بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الفتح: 8- 9] ، قال الدلجي رحمه الله تعالى: الخطاب له ولأمته أي على سبيل التغليب أولهم تنزيلا لخطابه منزلة خطابهم انتهى. والأظهر أن الضمير للأمة على قراءة الخطاب والغيبة كما يدل عليه سياق الكلام والله تعالى أعلم بحقيقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 المرام (وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ) أي بذاته وصفاته (وَرَسُولِهِ) أي الثابت رسالته بمعجزاته (النَّبِيِّ) أي الجامع بين نعتي الرسالة والنبوة التي هي عبارة عن ولايته التي يأخذ بها الفيض السبحاني ويفيد النوع الإنساني (الْأُمِّيِّ) [الأعراف: 158] أي المنسوب إلى أم القرى وهي مكة المكرمة كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أو المنسوب إلى أمة العرب التي غالبها لم يقرأ ولم يكتب كما ورد أنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الحديث أو المنسوب إلى الأم يعني على الوصف الذي خرج به من بطن أمه ما اكتسب شيئا من القراءة والكتابة ونحوهما، وفيه إيماء إلى أنه على أصل الفطرة كما قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها وكما ورد كل مولود يولد على الفطرة الآية أي إلى آخرها وهو قوله تعالى: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أي بما أنزل عليه وعلى غيره من الرسل أو بأسمائه وصفاته واتبعوه في مأموراته ومنهياته لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ تفوزون بما تسعدون ببركاته (فالإيمان بالنبيّ محمد صلى الله تعالى عليه وسلم واجب) أي امتثالا لأمر ربه (متعيّن) أي لا يمكن التخلص عن حكمه (لا يتمّ) أي لأنه لا يتم لأحد (الإيمان) أي الشرعي (إلّا به) أي إلا بالإيمان به أو إلا بسببه (ولا يصحّ الإسلام) أي استسلام الأحكام (إلّا معه) أي إلا مع الإيمان به أو مع موافقة انقياده في حكم ربه. وفي نسخة إيمان وإسلام بتنكيرهما ثم هذا بناء على تغايرهما حقيقة واتخاذهما شريعة قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) [الفتح: 13] . قيل: وضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمانين فهو كافر وعندي إن الأظهر في المعنى أن يقال واعتدنا للكافرين منهم ومن غيرهم فيكون المعنى الأعم هو الأتم أو المعنى اعتدنا لمن مات على كفره لتكون الآية جامعة بين النذارة والبشارة وهذا الملحظ أولى لأنه يشمل الكل كما لا يخفى (حدّثنا أبو محمد الخشنيّ الفقيه) بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين نسبة إلى قبيلة خشينة، وقد تقدم. وفي نسخة زيد الفقيه وقوله: (بقراءتي عليه) أي لا بمجرد سماعي لديه (ثنا) أي قال حدثنا (الإمام أبو عليّ الطّبريّ) بفتح مهملة وموحدة (حدّثنا) أي حدثنا (عبد الغافر الفارسيّ) بكسر الراء ويسكن. وفي نسخة: القاري وهو تصحيف وقد تقدم أيضا (حدّثنا) أي حدثنا (ابن عمرويه) بفتح مهملة وسكون ميم وفتح راء وواو فسكون تحتية فكسرها وضبط أيضا بضم راء وسكون واو فتحتية وفوقية مفتوحتين وهو الجلودي وقد تقدم (ثنا) أي حدثنا (ابن سفيان) وهو إبراهيم بن محمد بن سفيان راوي صحيح مسلم عنه (ثنا) أي حدثنا (أبو الحسين) رحمة الله تعالى عليه هذا هو مسلم صاحب الصحيح (ثنا) أي حدثنا (أميّة) بالتصغير (ابن بسطام) بكسر الموحدة وفتحها ويصرف وقد يمنع (ثنا) أي حدثنا (يزيد بن زريع) بضم الزاء مصغرا أخرج له الأئمة الستة (ثنا) أي حدثنا (روح) بفتح الراء أخرج له الستة ما عدا الترمذي رحمه الله (عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ) أحد علماء المدينة روى عنه شعبة ومالك وأخرج له مسلم والأربعة (عن أبيه.) هو عبد الرحمن بن يعقوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الجهني أخرج له مسلم والأربعة (عن أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (أمرت) أي أمرني الله تعالى إذ لا آمر له سواه (أن أقاتل النّاس) أي بمقاتلة الكفار وهو عام خص منه من أقر بالجزية (حتّى يشهدوا أن) أي أنه (لا إله إلّا الله) استثناء من الكثرة المفهومة من إله إذ مفهومه كلي في الذهن يتوهم منه الكثيرة في الخارج مع أنه ليس هناك إلا واحد واجب الوجود الموصوف بنعوت الكرم والجود. وفي رواية حتى يقولوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جئت به،) أي مما أمرني ربي أو ألهمني في قلبي (فإذا فعلوا ذلك) أي آمنوا بهما والتزموا أحكامهما أو إذا فعلوا ما أقاتلهم لأجله (عصموا منّي دماءهم وأموالهم) أي منعوها فلا يجوز سفك دمائهم وأخذ أموالهم بسبب من الأسباب (إلّا بحقّها) أي إلا بحق يتعلق بها كقتل نفس بعدوان وزنى بعد احصان وكفر بعد إيمان كما ورد ويلحق بها ترك صلاة وزكاة بتأويل باطل فيهما (وحسابهم على الله) أي فيما يسرونه من كفر ومعصية فالحكم بالإيمان لظواهرهم والله متول لسرائرهم والحديث هذا قد أخرجه القاضي كما ترى من عند مسلم وهو في الإيمان. ورواه البخاري رحمه الله تعالى أيضا وفي رواية أخرجها الستة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال السيوطي وهو متواتر ولفظه أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إله إلا الله وإني رسول الله فإذا قالوها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ على الله. وفي رواية عن أنس رضي الله تعالى عنه قيل: وما حقها، قال زنى بعد احصان أو كفر بعد اسلام أو قتل نفس فيقتل بها (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) يعني المصنف (والإيمان به صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بالنبي عليه الصلاة والسلام (هو تصديق نبوّته) أي إنبائه عن الحق (ورسالة الله تعالى له) أي إلى الخلق والإضافة فيهما بمعنى الباء أوفى أي تصديقه بهما أو فيهما وهذا باعتبار ذاته وصفاته (وتصديقه في جميع ما جاء به) أي من معتقداته (وما قاله) أي وفي جميع مقولاته من مأموراته ومنهياته (ومطابقة تصديق القلب بذلك) أي بما ذكر (شهادة اللّسان) بالنصب وقيل بالرفع أي إقراره (بأنّه رسول الله) أي إلى جميع أفراد الإنس والجن أو إلى الخلق كافة (فإذا اجتمع) أي في العبد (التّصديق به بالقلب) وهو حقيقة الإيمان (والنّطق) أي معه (بالشّهادة بذلك) أي بما ذكر (باللّسان) أي وبالإقرار الذي هو شطر أو شرط على خلاف بين الأعيان (تمّ) أي كمل (الإيمان به) أي بالجنان (والتصديق له) أي باللسان (كما ورد في هذا الحديث) أي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (نفسه) أي بعينه إلا أنه (من رواية ابن عمر رضي الله تعالى عنهما) أي لا من أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (أمرت أن) أي بأن (أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله) ، الحديث أخرجه الشيخان وفد سبق أن هذا اللفظ جاء من طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضا وقد رواه أصحاب الستة عنه إلا أنه بلفظ أني رسول الله (وقد زاده) أي النبي عليه الصلاة والسلام ما ذكر (وضوحا في حديث جبريل) عليه السلام أي سؤاله عنه (إذ قال) أي حين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 قال جبرائيل عليه السلام (أخبرني عن الإسلام فقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة وفي نسخة قال: ( «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأنّ محمّدا رسول الله» ) وهو الإقرار فعده من الإسلام وهو الانقياد الظاهري دال على أن الإيمان هو التصديق القلبي والانقياد الباطني (وذكر أركان الإسلام) أي بقية أركانه إذ الجملة خمسة كما ورد بني الإسلام على خمس حيث قال أن تشهد بالله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا (ثمّ سأله) أي سأله جبرائيل (عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله) أي أن تصدق بحقيقة ذاته وحقيقة صفاته (وملائكته) أي بأنهم عباد مكرمون مطيعون معصومون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة (وكتبه) أي بأنها منزلة من عنده (ورسله) أي بأنهم مبعوثون من الله تعالى إلى خلقه صادقون فيما جاؤوا به (الحديث) ؛ وتمامه واليوم الآخر أي وبأنه وما فيه كالبعث والحساب والثواب والعقاب حق وصدق وتؤمن بالقدر خيره وشره أي حلوه ومره والحديث بطوله مذكور في الأربعين وقد شرحناه في المبين المعين وهو حديث رواه الستة وغيرهم (فقد قرّر) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أنّ الإيمان به) أي بالله سبحانه وتعالى وبما يجب الإيمان به من غيره (محتاج) وفي نسخة يحتاج (إلى العقد بالجنان) بفتح الجيم أي الاعتقاد الجازم بالقلب (والإسلام) أي وإن الإسلام (به) أي الانقياد الظاهري إليه وهو الإقرار به (مضطرّ إلى النّطق باللّسان) أي ليتم بالبيان فإن اللسان ترجمان الجنان (وهذه الحال) وفي نسخة الحالة (المحمودة التّامة) وفي نسخة هي المحمودة التامة أي عند الخاصة والعامة فإنه حينئذ نور على نور وسرور على سرور وجمع بين الظاهر والباطن فيصدق عليه أنه مؤمن مسلم إذ لا خلاف بين أهل السنة أنه حينئذ مؤمن وإن اختلفوا في كون الإقرار شطرا للإيمان أو شرطا لإجراء أحكام الإسلام فاندفع قول الدلجي رحمه الله تعالى إن هذا ذهاب منه إلى أن الإيمان اسم لفعل القلب واللسان وعليه بعض الأشعرية وغيرهم وإما قوله ووصفها بكونها تامة مؤذن بأن العقد بالجنان كاف وإن لم ينطق باللسان فهو مع كونه مناقضا لما سبق له من البيان مدفوع بالفرق الظاهر بين التمام والكمال كما لا يخفى على أرباب الحال لأن تمام الشيء يتوقف على حصول جميع اجزائه بخلاف كماله فإنه يتوقف على وجود ضيائه وبهائه وهو ههنا بأن يكتسب جميع الأوامر ويجتنب جميع الزواجر من الصغائر والكبائر والمعتزلة والخوارج جعلوا الأركان من أجزاء الإيمان والله المستعان هذا ويدل على ما قررنا ويشهد لما حررنا قوله: (وأمّا الحالة المذمومة) أي عند جميع الأمة المسلمة (فالشّهادة باللّسان دون تصديق القلب) أي من غير اعتقاد الجنان (وهذا) أي الاعتقاد المشتمل على الشقاق (هو النّفاق) أي الحقيقي وهو ابطان الكفر واظهار الإيمان وهذا كافر إذا علم حاله بالاتفاق (قال الله تعالى:) حال لازمة أي متعاليا عما لا يليق بذاته وصفاته (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) أي توهيما منهم شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم لا زعما منهم كما قاله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 الدلجي رحمه الله لأنهم ما يزعمون ذلك حيث يعلمون حقيقة ما هنالك (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي كما ظهروه ولو كان مخالفا لما ابطنوه والجملة احتراس من نفي رسالته المتوهم من قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون: 1] ) ولذا فسره المصنف بقوله: (أي كاذبون في قولهم) أي في دعواهم (ذلِكَ) أي كونك رسول الله صادرا (عن اعتقادهم وتصديقهم وهم لا يعتقدونه) أي والحال أنهم لا يعتقدون قولهم إنك لرسول الله (فلمّا لم يصدّق) أي لم يوافق (ذلك) أي قولهم وظواهرهم (ضميرهم) أي قلوبهم وبواطنهم وفي نسخة ضمائرهم وهو يحتمل الرفع والنصب (لم ينفعهم أن يقولوا) أي مجرد قولهم (بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) أي لاعتقادهم أن قولهم ذلك كذب وخبر على خلاف ما عليه خال المخبر عنه (فخرجوا عن اسم الإيمان) أي عن أن يسموا بما اشتق منه فلم يكونوا مؤمنين في الدنيا (ولم يكن لهم في الآخرة حكمه) أي حكم الإيمان فلا يحشرون مع المؤمنين (إذ لم يكن معهم) أي إيمان كما في نسخة (ولحقوا بالكافرين) وفي نسخة بالكفار (فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) بفتح الراء وسكونها أي الطبقة السفلى من دركاتها كما أن المخلصين من المؤمنين في أعلى أماكن الجنة وأرفع درجاتها (وبقي عليهم حكم الإسلام) أي بحسب ظواهر الأحكام فيعاملون كالمسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم (بإظهار شهادة اللّسان) أي بسبب اظهارها منهم وهذا (في أحكام الدّنيا المتعلّقة بالأئمّة) أي أئمة الدين من العلماء العاملين (وحكّام المسلمين) أي من القضاة والسلاطين (الذّين أحكامهم على الظّواهر) أي جارية وسارية (بما أظهروه من علامة الإسلام) أي من الإذعان والانقياد وقبول الأحكام وهذا كله بحسب الظواهر (إِذْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْبَشَرِ سَبِيلٌ إِلَى السَّرَائِرِ ولا أمروا) أي الأئمة والحكام (بالبحث عنها) أي عن السرائر (بل نهى النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحَكُّمِ عَلَيْهَا وَذَمَّ ذَلِكَ) أي التحكم هنالك (وقال) أي فيما رواه البخاري لأسامة بن زيد لما قتل من اضطره فأسلم اقتلته بعد أن أسلم فقال معتذرا إنما أسلم مكرها فقال: (هلا شققت عن قلبه) أي لم ما كشفت عن ضميره وهذا أمر تعجيز إذ لا اطلاع على قلب أحد إلا لربه وقيل هلا إذا دخل على المضارع يفيد الأمر كقولك هلا تضرب زيدا وإذا دخل على الماضي يفيد التوبيخ كقولك هلا ضربت زيدا والحديث في صحيح مسلم عن أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي عليه الصلاة والسلام فقال أقال لا إله إلا الله وقتلته قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح فقال: هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا الحديث والمعنى قالها عن قلبه أم لم يقل عن قلبه وأبعد الأنطاكي حيث قال الفاعل في قوله أقالها هو القلب (والفرق) وفي نسخة وللفرق (بين القول) أي باللسان (والعقد) أي بالجنان (ما جعل) بصيغة المفعول أو الفاعل وما مصدرية أي جعله أو موصولة أي الذي جعله النبي صلى الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 عليه وسلم (في حديث جبريل) عليه السلام أي المتقدم (الشّهادة) بالرفع أو النصب أي الإقرار (من الإسلام) أي من أركانه حيث قال مجيبا له عن سؤاله عنه أن تشهد (والتّصديق من الإيمان) أي وجعله فيه منه بقوله مجيبا له عن سؤاله عنه أن تؤمن (وبقيت حالتان أخريان بين هذين) أي الحالين وهما الحالة المحمودة لخلص المؤمنين والحالة المذمومة للمنافقين فيحتاج إلى بيانهما (إحديهما: أن يصدّق) أي المكلف (بقلبه ثمّ يخترم) بالخاء المعجمة على صيغة المجهول أي يقتطع ويموت (قبل اتّساع وقت للشّهادة) أي قبل أن يأتي بها (بلسانه) أي لضيق زمانه (فاختلف فيه) أي في أنه مؤمن أم لا (فَشَرَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ الْقَوْلَ وَالشَّهَادَةَ به) فعلى هذا لا يكون مؤمنا لعدم تمكنه من الإتيان بها وهذا قول ضعيف سواء قيل إن الإقرار شرط لإجراء الأحكام لا لحقيقة الإسلام أو شطر لأن قائله قائل بأنه ركن قابل لسقوطه في بعض الأنام كالأخرس وخال ضيق المقام (ورآه بعضهم) أي المصدق المذكور قبل تمكنه من الإقرار المسطور (مؤمنا) أي مصدقا ومسلما (مستوجبا للجنة) أي لعذره بعدم تمكنه من الإتيان به وأيضا لو لم يعتبر إيمانه للزم أن يكون في النار مخلدا وهو غير واقع كما أشار إليه المصنف حيث قال: (لقوله عليه الصلاة والسلام) أي فيما رواه الشيخان (يخرج) بصيغة المفعول أو الفاعل (مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذرّة من الإيمان) وفيه تلويح إلى أنه وإن صغر قدره فقد عظم عند الله تعالى أمره ولا يضيع أجره وقد قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وهي كل جزء من أجزاء الهباء في الهواء والمراد بها غاية القلة التي قد يعبر عنها بالعدم أي لا يظلم أصلا (أجزائه بخلاف كماله فإنه يتوقف على وجود ضيائه وبهائه وهو ههنا بأن يكتسب جميع (فلم يذكر) أي النبي عليه الصلاة والسلام (سوى ما في القلب) أي لأن غيره غير نافع عند الرب في العقبى لانقضاء أحكام ظاهر الإسلام في الدنيا (وهذا) أي المؤمن بالجنان العاجز عن إقرار اللسان (مؤمن بقلبه) أي فينفعه إيمانه عند ربه (غير عاص) أي حيث اطاعه وآمن به (ولا مفرّط بترك غيره) أي بترك غير أمره من إقراره لعدم إدراك وقته وفقد استقراره (وهذا) أي الرأي من هذا البعض (هو الصحيح في هذا الوجه) أي لما بيناه من الوجه الذي عيناه (الثانية) أي الحالة الثانية (أن يصدّق بقلبه) أي ويكتفي بعلم ربه (ويطوّل مهله) بفتح الميم وسكون الهاء وتحرك أي زمانه (وعلم ما يلزمه من الشهادة) أي النطق بها (فلم ينطق بها جملة) أي مطلقا (ولا استشهد في عمره) أي ولا تشهد في عمره مرات كثيرة كما كان اللائق به أن يكررها ويتلذذ بذكرها ويقوم بشكرها (ولا مرّة واحدة) أي بل ولا كرة (فهذا) أي المؤمن المذكور بالوصف المسطور (اختلف فيه أيضا) أي كما اختلف فيما قبله (فقيل هو مؤمن) أي لأنه أتى بما يكفي من مقصود الإيمان (لأنّه مصدّق) أي بقلبه وهو من أحسن الأحوال (والشّهادة من جملة الأعمال) أي أركان الإسلام الموجبة للكمال (وهو) في نسخة فهو (عاص بتركها) أي بترك الشهادة كما لو ترك الصلاة والزكاة (غير مخلّد) أي في النار كما في نسخة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 والمعنى إن دخلها لا يخلد فيها كما هو شأن المؤمن العاصي حيث يكون تحت المشيئة إلا أن هذا القول لا يصح عند من يقول الإقرار شطر وكذا عند من يقول إنه شرط حيث لا يوجد المشروط بدون الشرط حال إمكان وجوده فبطل قول الدلجي وهذا كما مر عند المحققين هو الحق ولا يعصى عند من يقول الإيمان هو التصديق فقط انتهى ولا يخفى أنه مخالف للإجماع لأن تارك الشهادة مع القدرة عاص عند الكل من غير نزاع وإنما الخلاف في أنه مؤمن أو ليس بمؤمن والله سبحانه وتعالى أعلم (وقيل ليس بمؤمن حتّى يقارن عقده) أي اعتقاده وتصديقه بالجنان (شهادة) أي إقرار بالله وبرسوله وفي نسخة شهادة اللسان وهي بالنصب وقيل بالرفع وكلاهما جائز لأن من قارن الشيء فقد قارنه ذلك الشيء وإنما قيل بنفي إيمانه (إذ الشّهادة إنشاء عقد والتزام إيمان) أي قبول أحكام الإسلام (وهي) أي الشهادة (مرتبطة مع العقد) أي جزم القلب (ولا يتمّ التّصديق مع المهلة) بضم فسكون أي مع الإمهال زمانا يسعه القيام بشرطه أو شطره (إلّا بها) أي بالشهادة سواء قلنا إنها شرط أو شطر كما بينا (وهذا) أي القول الثاني (هو الصّحيح) أي في أنه ليس بمؤمن لعدم قرانه عقد جنانه بإقرار لسانه مع تمكنه من بيانه في مهلة زمانه وأما قول الدلجي إن هذا إنما يقول به من يجعل الأعمال جزءا منه فخطأ ظاهر إذ أجمع أهل السنة على أن الأعمال ليست جزءا من حقيقة الإيمان خلافا للخوارج والمعتزلة وأما نسبة هذا القول إلى الشافعي رحمه الله تعالى والمحدثين فمحمول على أنها جزء من كمال الإيمان وإنما الخلاف لفظي في مراتب الإيقان فبطل قول الدلجي إن الإيمان قول وعمل واعتقاد كما هو مذهب الفقهاء والمحدثين أو قول واعتقاد كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأشياعه انتهى ولا يخفى أن هذا غفلة منه عن تحقيق الأشعري واتباعه ثم هذا الخلاف فيما إذا لم يؤمر بأداء الشهادة وإذا أمر بها وامتنع وتأبى عنها كأبي طالب فهو كافر بالإجماع (وهذا) أي ما ذكرنا في بحث الإيمان وفي نسخة وهذه أي هذه المسائل أو الأقوال هي الوسائل التي كتب فيها الرسائل لينتفع بها كل طالب وسائل (نبذ) بنون مفتوحة وسكون موحدة فذال معجمة أي شيء قليل يسير على ما في القاموس وهو مطابق لما في النسخ المعتبرة وموافق لما في الشروح المعتمدة وأما ما ذكره الدلجي من قوله بنون وباء موحدة مفتوحتين وفي نسخة بضم النون وسكون الباء جمع النبذة فليس في النسخ وهو مخالف لما في كتب اللغة بل في القاموس أن النبذة بفتح النون وتضم الناحية ولا ريب أن هذا المعنى لا يناسب مقام المرام فهو خالف الرواية والدراية نعم في نسخة نبذ بضم ففتح جمع نبذة أي قطعة يسيرة والمعنى أن ما ذكر من الإيمان وما يتعلق به صحة وعدما في هذا المكان شيء يسير يترتب عليه أمر كثير (يفضي) من الإفضاء أي يوصل ويؤدي (إِلَى مُتَّسَعٍ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وأبوابهما) أي مما يتعلق بهما من الأحكام (وفي الزّيادة فيهما والنّقصان) وفيه أن لا خلاف في زيادة مراتب الإسلام المتعلقة بالأعمال ونقصانها وإنما الخلاف في زيادة نفس الإيمان ونقصانه ويتفرع عليهما قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 (وهل التّجزّي ممتنع على مجرّد التّصديق) أي كما عليه أهل التحقيق (لا يصحّ) أي التجزي وهو قبول الزيادة والنقصان أصلا (فيه) أي في الإيمان (جملة) أي اجمالا بل يحتاج إلى بيانه تفصيلا كما أو ضحه بقوله (وإنّما يرجع) أي التجزي (إلى ما زاد عليه) أي على نفس الإيمان (من عمل) أي وإحسان قول (أو قد يعرض فيه) بكسر الراء ويضم أي يحصل التجزي في التصديق (لاختلاف صفاته وتباين حالاته) أي وتغاير مقاماته وتفاوت درجاته (من قوّة يقين) أي علمي (وتصميم اعتقاد) أي عن دليل قوي (ووضوح معرفة) أي بانضمام مشاهدة (ودوام حالة) أي من غير فتور فيها ولا قصور عنها (وحضور قلب) أي بالغيبة عن غير الرب وهو حال الاطمئنان ومقام الإحسان الذي بينه عليه الصلاة والسلام بقوله الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ولا شك أن مقام الإحسان وأحكام الأركان من أحكام الإيمان وكمال الاتقان لأن الإيمان يقبل الزيادة والنقصان على هذا الوجه كما حققناه في شرح الأربعين ودققناه في شرح الفقه الأكبر بتوفيق المعين (وفي بسط هذا) أي المبحث الشريف (خروج عن غرض التّأليف) لأن المقصود منه اداء حقوق صاحب الاصطفاء بمتابعته على وجه الاستيفاء (وفيما ذكرنا غنية) أي استغناء عن تطويله (فيما قصدنا) أي أردنا (إن شاء الله تعالى) أي إن كان على وفق إرادته سبحانه وتعالى. فصل [وَأَمَّا وُجُوبُ طَاعَتِهِ فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وتصديقه فيما جاء به] (وأمّا وجوب طاعته) أي اطاعة النبي عليه الصلاة والسلام في حكومته واتباع شريعته (فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ به) مجملا (وجبت طاعته) أي مطلقا وهو جواب الشرط (لأنّ ذلك) أي وجوب طاعته (ممّا أتى به) أي من جملة ما جاء به من الدين بالضرورة (قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال: 20] ذكر الله تحسين وتزيين وتوطئة وتنبيه على أن طاعته في طاعة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بشهادة إفراد الضمير في قوله ولا تولوا عنه أي عن رسوله وبدليل قوله تَعَالَى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ أو يقال إفراد الضمير إيماء إلى أن الطاعتين متلازمتان أو الضمير إلى كل واحد منهما والأظهر أن المعنى أطيعوا الله تعالى فيما أنزل من كتابه والرسول فيما أوحي إليه من خطابه في مقام ايجابه (وَقَالَ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) [آلِ عِمْرَانَ: 32] ولم يقل وأطيعوا الرسول لما سبق من تلازم الطاعتين وتداوم الحالتين وأما حيث قال أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ كما في نسخة صحيحة فللإشارة إلى استقلاله بالطاعة فيما ثبت عنه بالسنة وضبط الشريعة (وَقَالَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آلِ عمران: 132] أي بإطاعتهما ومتابعة شريعتهما (وقال وَإِنْ تُطِيعُوهُ [النور: 54] ) أي نبي الخلق (تَهْتَدُوا) أي إلى الحق (وَقَالَ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) [النساء: 80] لأنه المبلغ والآمر في الحقيقة وهو الله وقد نزلت الآية في المنافقين حين قال النبي عليه الصلاة والسلام من أحبني فقد أحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 الله ومن أطاعني فقد أطاع الله فقالوا لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه ما يريد إلا أن تتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى (قال وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) أي اعطاكم من أمره وامتثاله فتمسكوا به (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) أي عن اتيانه (فَانْتَهُوا) [الحشر: 7] أي عنه لوجوب طاعته وامتثال متابعته (وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ الآية) [النساء: 69] أي فالذين أطاعوهما يكونون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصديقين المبالغين في التصديق والصدق والتحقيق من العلماء والأولياء والشهداء والصالحين أي القائمين بحقوق الله وحقوق خلقه الجامعين بين تعظيم أمره والشفقة على عباده ومن بيانية حال منه أو من ضميره وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي لأنهم في أعلى عليين ذلك الفضل من الله أي لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء وكفى بالله عليما أي بالمطيعين والعاصين (وَقَالَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) [النساء: 64] أي بأمره وتيسيره (فجعل) أي الله (طاعة رسوله طاعته) أي طاعة نفسه بقوله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (وقرن طاعته بطاعته) أي في كثير من آياته (ووعد على ذلك) أي ما ذكر من الطاعة والإطاعة (بجزيل الثّواب) بقوله تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية (وأوعد على مخالفته بسوء العقاب) بقوله فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (وأوجب امتثال أمره واجتناب نهيه) بقوله تعالى وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (قال المفسّرون والأئمة) أي المجتهدون (طَاعَةُ الرَّسُولِ فِي الْتِزَامِ سُنَّتِهِ وَالتَّسْلِيمِ لِمَا جَاءَ بِهِ وَقَالُوا: مَا أَرْسَلَ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا فَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إليهم) ونهاهم عن معصيته لقوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ أي الا ليطيعه من بعث اليهم بسبب إذنه لهم في طاعته أو بتوفيقه لمتابعته فمن لم يطعه في شريعته ولم يرض برسالته فهو كافر في ملته (وقالوا من يطع الرّسول في سنّته) الأولى سنته بصيغة الجمع ليلائم قوله (يطع الله في فرائضه) جواب الشرط والمعنى من يطع الرسول فيما أمر به ونهى عما لم يرد به القرآن الكريم يطع الله في فرائضه الثابتة في الفرقان العظيم لأن أمره ونهيه من أمره ونهيه لقوله تعالى: ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ولقوله عليه الصلاة والسلام لا ألفينّ أحدكم على اريكته يأتيه الأمر مما أمرت أو نهيت فَيَقُولُ لَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ الله عملنا به فهذا نهي مؤكد منه صلى الله تعالى عليه وسلم لمن لم يعمل بسنته إذ العمل بها كالعمل بكتاب الله وشريعته (وسئل سهل بن عبد الله) أي التستري (عن شرائع الإسلام) أي جميعها (فقال وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر: 7] أي تمسكوا به في أمره ونهيه (وقال السّمرقنديّ) أي الفقيه أبو الليث رحمه الله تعالى (يُقَالُ أَطِيعُوا اللَّهَ فِي فَرَائِضِهِ وَالرَّسُولَ فِي سنّته) أي في شريعته الشاملة لفريضته وسنته المستفادة من أحاديثه الواردة وفق طريقته (وقيل: أطيعوا الله تعالى فيما حرّم عليكم) والأول أبلغ لأن الفرض يشمل فعل الواجب المحتم وترك الفعل المحرم (والرّسول فيما بلّغكم) أي أوصلكم من أمره ونهيه ولو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 لم يسنده إلى ربه (ويقال: أطيعوا الله بالشّهادة له بالرّبوبيّة) أي بوصف الوحدة ونعت العبودية له وحده (والنّبيّ بالشّهادة له بالنّبوّة) أي المقترنة بالرسالة وفي نسخة بالرسالة والأولى أشمل والثانية أكمل وكان الجمع بينهما أفضل إظهارا للنعمة بهما عليه وتعظيما للمنة لديه والمعنى إن هذه الإطاعة أقل ما يطلق عليه اسم الطاعة (حدّثنا أبو محمد بن عتّاب) بفتح فتشديد فوقية (بقراءتي عليه) أي لا بسماعي لديه (ثنا) أي قال حدثنا (حاتم بن محمد) أي ابن الطرابلسي (ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خلف) بفتحتين وهو القابسي (ثنا) أي حدثنا (محمد بن أحمد) وهو أبو زيد المروزي (ثنا) أي حدثنا (محمّد بن يوسف) أي الفربري (ثنا) أي حدثنا (البخاريّ) وهو صاحب الصحيح (ثنا) أي حدثنا (عبدان) بفتح فسكون موحدة وهو بوزن التثنية غير مصروف وهو العتكي المروزي يقال تصدق بألف ألف (أنا) أي أخبرنا (عبد الله) أي ابن وهب فيما يغلب على الظن لأن مسلما روى هذا عن اثنين وعنه به (أنا) أي أخبرنا (يونس) أي ابن يزيد الأيلي أحد الأثبات روى عن القاسم وعكرمة والزهري وعنه ابن المبارك وابن وهب أخرج له أصحاب الكتب الستة (عن الزهري) تابعي جليل (قال أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن) أحد الفقهاء السبعة على قول الأكثر (أنه سمع أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال من أطاعني) أي فيما جئت به عن الله تعالى (فقد أطاع الله) لقوله تَعَالَى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (ومن عصاني فقد عصى الله) وهو اللازم لجعل طاعته طاعته والحاصل أن الأول معلوم الكتاب والثاني مفهوم الخطاب (ومن أطاع أميري فقد أطاعني) أي بطريق القياس لأن طاعته من طاعته لكن بشرط أن يأمر بطاعته لا بمعصيته كما يستفاد من إطاعته فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق والحديث الأول رواه الشيخان وإن أسنده المصنف من طريق البخاري (وطاعة الرَّسُولِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِذِ اللَّهُ أَمَرَ بطاعته فطاعته امتثال لما أمر الله وطاعة له) أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم باتباعه فيما أمر ونهى ومن جملة ذلك تأمير أميره هنالك (وقد حكى الله تعالى عن الكفار في دركات جهنم) أي طبقاتها السفلية بحسب مقامات أهلها في المعاصي الجلية والخفية حيث قال: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي تصريف من جهة إلى جهة استيعابا لجميع أعضائهم واستيفاء لسائر أجزائهم كقطعة لحم تدور في قدر غلت فترامى بها الغليان من ناحية إلى أخرى والمراد من الوجوه ذواتهم أو أريد بها أشرف أعضائهم وألطف أجزائهم لا سيما وسائر البدن تابع لها في إقبالها وإدبارها (يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) بإثبات الألف رسما واختلفت القراءة وقفا ووصلا (فتمنوا طاعته) أي حين شاهدوا التعني (حيث لا ينفعهم التمني وقال) وفي نسخة وقد قال: (عليه الصلاة والسلام) أي فيما رواه الشيخان (إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بشيء) وفي نسخة بأمر أي مأمور به إيجابا أو ندبا (فأتوا منه ما استطعتم) أي من غير ترك الواجب (وفي حديث أبي هريرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 رضي الله تعالى عنه عليه الصلاة والسلام كل أمتي) أي جميعهم (يدخلون الجنة إلا من أبى) أي امتنع عن دخول الجنة والظاهر أنه استثناء منقطع والمراد بالأمة أمة الإجابة ودخول الجنة أعم من أن يكون أولا أو آخرا ولا يبعد أن يكون الاستثناء متصلا على أن المراد بالأمة أمة الدعوة وأن المعصية مختصة بالكفرة (قالوا ومن أبى) وفي نسخة قالوا يا رسول الله ومن يأبى أي عن دخول الجنة مع أن فيها حصول النعمة ووصول المنة (قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فقد أبى) أي بتركه الطاعة التي هي سبب لدخولها وموجب لوصولها والحديث رواه الحاكم بلفظ كلكم يدخل الجنة إلا من أبى الحديث كذا ذكره الدلجي وفي الجامع الصغير برواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبى (وفي الحديث الآخر الصحيح) أي الذي رواه البخاري في صحيحه (عنه عليه الصلاة والسلام مثلي ومثل ما بعثني الله تعالى به) أي مما يورث الفوز بنصر الدنيا وذخر العقبى والمعنى حالتنا العجيبة الشأن وصفتنا الغريبة البرهان (كمثل رجل أتى قوما) أي جاءهم يحذرهم من عدوهم وراءهم (فقال يا قوم إني رأيت الجيش) أي عسكر العدو (بعيني) بصيغة التثنية للمبالغة في التأكيد ودفع توهم المجاز في الخبر الأكيد (وإني أنا النذير العريان) أي المخوف الذي ليس له غرض في التحذير بل هو عار عن تلبيس وتدليس في وصف النذير وقيل هذا مثل ضربه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مبالغة في صدق النذارة لأنه إذا كان عريانا كان أبين وقيل بل كان يتجرد عن ثيابه ويلوح بها في مقام خطابه ليجتمعوا إليه ويحققوا ما لديه وقيل هو الذي سلب العدو ما عليه من الثوب فأتى قومه عريانا يخبرهم فصدقوه لما عليه من آثار الصدق (فالنجاء) بفتح النون قبل الجيم ممدودا وقد يقصر وهو منصوب على الإغراء أي الزموا النجاء وهو الإسراع إلى المنجى والملجأ في حال البلاء لتسلموا من الأعداء وقيل إنه منصوب على المصدر أي انجوا النجاء بمعنى اطلبوا النجاة وهو في غالب النسخ مرة واحدة وفي بعضها النجاء النجاء مرتين للتأكيد أو أحدهما إشارة إلى أمر الدنيا والآخرة إيماء إلى أمر العقبى (فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا) بتخفيف الدال وقطع الهمزة وفي بعض النسخ بتشديدها ووصل الهمزة فقيل هما لغتان تستعملان في سير الليل كله وقال أكثرهم ادلج سار آخر الليل وأدلج سار الليل كله وقيل إن ساروا من آخر الليل فأدلجوا بالتشديد وإن ساروا من أول الليل فأدلجوا بالتخفيف والقول الأكثر هو الأوسط المعتبر لكن المراد في الحديث هو المعنى الأعم فتدبر (فانطلقوا على مهلهم) بسكون الهاء وبفتح أي فذهبوا على مهلتهم بوصف تؤدتهم من غير عجلتهم (فنجوا) أي فتخلصوا من عدوهم ونهبتهم وفي حديث علي إذا سرتم إلى العدو فمهلا مهلا وإذا وقعت العين على العين فمهلا مهلا قال الأزهري الساكن الرفق والمتحرك التقدم أي إذا سرتم فتأنوا وإذا لقيتم فاحملوا أي وتعنوا (وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم) أي دخلوا في الصبح في محلهم (فصبّحهم الجيش) بتشديد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الموحدة أي نزلوا عليهم وقت صباحهم قبل رواحهم (فأهلكهم) أي الجيش (واجتاحهم) أي استأصلهم ولم يبق واحدا منهم (فذلك) أي المثل المذكور (مثل من أطاعني) أي انقاد لي في الطاعة على وجه الصدق (واتّبع ما جئت به) أي من الأمر الحق فيه إيماء إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يكتفي بظاهر الطاعة عن اتباع ما جاء به من العبادة (ومثل من عصاني) أي بالوجه المطلق (وكذّب ما جئت به من الحقّ) فيه إشارة إلى أن مطلق العصيان غير مستأصل للإنسان بل العصيان مع التكذيب هو الموجب لاستئصال البنيان لكونه كمال العدوان (وفي الحديث الآخر) أي الذي رواه الشيخان (في مثله) بفتحتين أي في تمثيله صلى الله تعالى عليه وسلم (كمثل من بنى دارا) وأصل هذا المثل منسوب إلى الملائكة حيث قالوا في حقه عليه الصلاة والسلام إما في حال اليقظة وإما في حال المنام مثله كمثل رجل بنى دارا (وجعل فيها مأدبة) بضم الدال المهملة وقد تفتح أي أطعمة ملونة موضوعة للدعوة (وبعث داعيا) أي إلى الناس ليحضروها ويأكلوا منها (فمن أجاب الدّاعي) أي بقبول الدعوة (دخل الدّار) أي دار النعمة (وأكل من المأدبة) أي على قدر الطاقة في الطاعة (وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ) أي دار القربة (ولم يأكل من المأدبة) أي لأن نصيبه الفرقة والحرقة (فالدّار الجنّة) أعدت للمتقين الذين أجابوا دعوة سيد المرسلين (والدّاعي) أي إلى الله تعالى ودار نعمته (محمد) صلى الله تعالى عليه وسلم (فمن أطاع محمدا) صلى الله تعالى عليه وسلم (فقد أطاع الله) لأنه الداعي إليه بأمره (ومن عصى محمدا) صلى الله تعالى عليه وسلم (فقد عصى الله تعالى) أي بخروجه عن حكمه (ومحمّد فرق) بفتح فسكون أي فارق (بين النّاس) أي من المؤمنين والكافرين بتصديقه وتكذيبه فهو مصدر وصف به للمبالغة كرجل عدل وفي نسخة بفتح الراء مشددة ومخففة بالقاف أي فصل بينهم بإعزاز المطيعين وإذلال العاصين. فصل [وَأَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ وَامْتِثَالُ سُنَّتِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ] (وأمّا وجوب اتباعه) أي متابعته (وامتثال سنّته) أي طريقته (والاقتداء بهديه) أي سمته وحالته وسيرته (فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) أي تدعون محبته وتريدون مودته (فَاتَّبِعُونِي) أي فيما يظهر مني من شريعته وطريقته وحقيقته (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) جواب الأمر وهو جواب الشرط أي يرض عنكم ويكشف حجب قلوبكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران: 31] أي جميع عيوبكم (وقال تعالى فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ) وفي وصفه به تلويح إلى أن كمال علمه من معجزاته (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ) أي بكتبه وآياته (وَاتَّبِعُوهُ) أي في أوامره وزواجره (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] ) ببركات ظواهره وسرائره (وقال فَلا وَرَبِّكَ) زيدت لا لتأكيد معنى القسم كما قاله الدلجي تبعا لغيره لكن يأباه الجمع بين الفاء والواو فالأظهر أن تقديره فليس الأمر كما يظنون من أنهم يصلون إلى الله تعالى من غير أن يتبعوا رسوله وربك (لا يُؤْمِنُونَ) أي بي ولا بك (حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 يُحَكِّمُوكَ) أي يجعلوك حكما (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي اختلفوا في أمرهم ويرضوا بحكمك في حقهم (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً) أي ضيقا (مِمَّا قَضَيْتَ) أي حكمت به أو من حكمك (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء: 65] مصدر مؤكد لفعله بمنزلة تكريره (أي ينقادوا لحكمك) يعني انقيادا كاملا يكون لجميع أحكامك شاملا ولظواهرهم وبواطنهم كافلا (يقال) أي في اللغة (سلّم) بتشديد اللام (واستسلم وأسلم إذا انقاد) أي مطلقا (وقال تعالى: كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ) بضم الهمزة وكسرها أي خصلة (حَسَنَةٌ) من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ) أي ثوابه أو لقاءه (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب: 21] أي نعيم الآخرة أو لمن كان يخاف عقابه أو حجابه واليوم الآخر أي حسابه وعذابه (قال محمّد بن عليّ التّرمذي) أي الحكيم وهو ليس صاحب الجامع (الأسوة في الرّسول) أي معناها في حقه (الاقتداء به) أي في أمر شريعته (والاتّباع لسنّته) أي طريقته (وترك مخالفته في قول أو فعل) وكذا في جميع ما علم من حالته (وقال غير واحد) أي كثير من المفسرين (بمعناه) أي بمعنى قول الحكيم وإن اختلف عنهم مبناه (وقيل هو) أي قوله تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ الآية (عتاب) أي ملامة من الله (للمتخلّفين عنه) أي في غزواته وخصوص حالاته وعلو درجاته ورفعة مقاماته (وقال سهل) أي ابن عبد الله كما في نسخة وهو التستري من أكابر الصوفية (في قوله تعالى) أي في تفسيره (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7] قال بمتابعة السّنّة) وفي نسخة سنته أي أنعمت عليهم بسبب اتباع طريقته (فأمرهم الله تعالى بذلك) أي باتباع شريعته (ووعدهم الاهتداء باتّباعه) أي بمتابعته حيث قال وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (لأنّ الله تعالى أرسله بالهدى) أي بالهداية الموصلة إلى المولى (ودين الحقّ) أي الملة الثابتة بمخالفة الهوى (ليزكّيهم) أي يطهرهم من الشرك والمعاصي (ويعلّمهم الكتاب) أي القرآن الجامع لمكارم الأخلاق (والحكمة) أي السنة أو الأحكام المحكمة والمعارف الصادرة عن أهل الحكمة ممن جمع بين ايقان العلم واتقان العمل (ويهديهم إلى صراط مستقيم) هو الدين القويم بالطاعة في الدنيا وطريق الجنة في العقبى (ووعدهم) أي على اتباعه (محبّته تعالى في الآية الأخرى) وهي قوله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وهذا معنى قوله (ومغفرته) أي ووعدهم غفران ذنوبهم (إذا اتّبعوه) أي في الإيمان به وامتثال أمره ونهيه (وآثروه) بألف ممدودة أي قدموه على أنفسهم وآثروه (على أهوائهم) واختاروا هداه على آرائهم وأحبوه ازيد من آبائهم وأبنائهم (وما تجنح) بفتح النون وتضم أي وعلى ما تميل (إليه نفوسهم) أي من محبة الجاه والمال والجمال المتعلقة بالأمور الدنيوية الشاغلة عن المراتب الدينية والمناقب الأخروية (وأنّ صحّة إيمانهم) أي وأخبر في قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ الآية أن صحته (بانقيادهم له) أي لأمره (ورضاهم بحكمه) أي فيما شجر بينهم (وترك الاعتراض عليه) أي فيما حكم لهم أو عليهم (وروي) كما في تفسير ابن المنذر (عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 الحسن) أي البصري (أنّ أقواما) أي جمعا كثيرا (قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُحِبُّ اللَّهَ) أي ونطلب رضاه (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31] الآية وروي) قال الدلجي لا أدري من رواه (أنّ الآية) أي هذه الآية (نزلت في كعب بن الأشرف) وهو يهودي قتل غيلة كافرا بالله تعالى (وغيره) أي من اليهود (وأنّهم قالوا نحن أبناء الله) زعما منهم أنهم أشياع عزير (وأحبّاؤه) يعنون به كما قال المصنف (ونحن أشدّ حبّا لله) أي مقربون قرب الأولاد من آبائهم بل هم مبعدون عنه بعد أعدى الأعداء من أعدائهم إذ لو كانوا أبناءه وأحباءه لم يأتوا قبيحا من عيوبهم ولما عذبوا بذنوبهم مسخا في الدنيا ومسا بالنار دائما في العقبى لا أياما معدودات كما زعموا وتمنوا من جهة النفس والهوى وقد أجاب عنه سبحانه وتعالى بقوله قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بالإيمان وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بالكفران وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الإحسان والخذلان وهذا لا ينافي قوله (فأنزل الله الآية) أي آية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ حيث لا مانع من تعدد الجواب في مقام الخطاب والعتاب (وقال الزّجّاج معناه) أي معنى ما ذكر من الآية أو معنى إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ (أن تقصدوا طاعته) أي تريدوها وتحبوا القيام بحقها (فافعلوا ما أمركم به) أي رسولنا وهذا تفسير بالمعنى لقوله تعالى فَاتَّبِعُونِي أي اتبعوا أمري ونهيي (إِذْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ طَاعَتُهُ لَهُمَا ورضاه بما أمرا) أي ونهيا (ومحبّة الله لهم) أي لعباده (عفوه عنهم) أي برأفته (وإنعامه عليهم برحمته) حتى يدخلهم في جنته (ويقال الحبّ من الله) أي للعبد (عصمة) أي حفظ له عن المعصية (وتوفيق) أي للعبادة (ومن العباد) أي والحب من العباد لله (طاعة) أي اطاعة له في أمره ونهيه ومتابعة رسوله (كما قال القائل) قيل القائل رابعة العدوية وفي الأحياء أن قائله عبد الله بن المبارك: (تعصي الإله وأنت تزعم حبّه هذا) أي الجمع بين اختيار المعصية واظهار المحبة (لعمري) بفتح العين اعتراض بين المبتدأ والخبر وما في حيزه من جار ومجرور وخبر أقسم به والتقدير والله لبقائي أو لعمري مما أقسم به إن هذا الأمر (في القياس) وفي نسخة في الفعال وهو موافق لتفسير أبي الليث وأحياء الغزالي (بديع) أي عجيب وغريب وبعيد عن القياس أو من فعال الناس لأنه. (لو كان حبك صادقا لأطعته) . كما هو القياس لكنك لم تطعه فلم يكن حبك له صادقا بدليل قوله. (إن المحب لمن يحب مطيع) . وفي رواية يطيع (ويقال محبّة العبد لله) أي غاية ميله إليه سبحانه وتعالى (تعظيمه له) أي في شأنه (وهيبته منه) أي في سلطانه (ومحبّة الله له) أي للعبد (رحمته له) أي بإنعامه فيكون من الصفات الافعالية (وإرادته الجميل له) أي بإكرامه فيكون من النعوت الذاتية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 والجميل منصوب على أنه مفعول المصدر الذي هو ارادته (وتكون) أي وقد تكون المحبة (بمعنى مدحه وثنائه عليه) أي على العبد عند ملائكته وعلى ألسنة رسله أو على ألسنة الخلق فإنها أقلام الحق (قال القشيريّ) وهو الإمام أبو القاسم صاحب الرسالة والتفسير (فإذا كان) أي الحب (بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَدْحِ كَانَ مِنْ صِفَاتِ الذّات) والأظهر ما قدمناه (وسيأتي بعد) أي بعد ذلك (في ذكر محبّة العبد غير هذا) أي غير ما ذكر هنا (بحول الله تعالى) أي بتصرفه وقوته وهو متعلق بسيأتي (حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَقِيهُ قال ثنا) أي حدثنا (أبو الأصبغ) بفتح الهمزة والموحدة وفي آخره غين معجمة (عيسى بن سهل وثنا) أي وحدثنا وفي نسخة وأخبرنا (أبو الحسن يونس بن مغيث) اسم فاعل من الإغاثة (الفقيه) أي الكامل في الفقه (بقراءتي عليه) أي هذا الحديث (قالا) أي عيسى ويونس كلاهما (ثنا) أي حدثنا (حاتم بن محمد) بكسر الفوقية (قال ثنا) أي حدثنا (أبو حفص الجهنيّ) بضم ففتح نسبة إلى قبيلة جهينة بالتصغير (ثنا) أي حدثنا (أبو بكر الآجرّي) بهمزة ممدودة وضم جيم وتشديد راء وهو الإمام الحافظ القدوة (ثنا) أي حدثنا (إبراهيم بن موسى الجوزيّ) بفتح الجيم وسكون الواو وكسر الزاء منسوب إلى الجوز (ثنا) أي حدثنا (داود بن رشيد) بالتصغير خوارزمي روى عنه مسلم وأبو داود وابن ماجه والبغوي والسراج وخلق أخرج عنه الستة ما عدا الترمذي ووثقه غير واحد (ثنا) أي حدثنا (الوليد بن مسلم) هو الحافظ أبو العباس عالم أهل الشام روى عنه أحمد وإسحاق قال ابن المديني ما رأيت في الشاميين مثله أخرج له الجماعة وهو مدلس (عن ثور بن يزيد) هو الحافظ الحمصي روى عن خالد بن معدان وعن عطاء وعنه القطان وأبو عاصم وكان ثبتا قدريا أخرجوه من حمص وأحرقوا داره أخرج له البخاري والأربعة (عن خالد بن معدان) هو الكلاعي عن معاوية وثوبان وغيرهما يقال كان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة وقيل غير ذلك أخرج له الجماعة (عن عبد الرّحمن بن عمرو السلميّ) بضم ففتح هو الصواب كما في سنن أبي داود وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة وفي بعض النسخ الأسلمي (وحجر) بضم مهملة وسكون جيم (الكلاعيّ) بفتح الكاف (عن العرباض) بكسر العين المهملة وفي آخره ضاد معجمة (ابن سارية) أي ابن نجيح السلمي من البكائين من أهل الصفة أخرج له أصحاب السنن الأربعة (في حديثه) أي في حديث رواه العرباض (في موعظة النّبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخلفاء الرّاشدين المهديّين) أي الخلفاء الأربعة ومن سار سيرتهم كعمر بن عبد العزيز والراشد اسم فاعل من الرشد وهو خلاف الغي والمهدي من هداه الله تعالى إلى الحق (عضّوا) بفتح فتشديد (عليها بالنّواجذ) بالذال المعجمة أي تمسكوا بها كما يتمسك العاض بجميع أضراسه (وإيّاكم ومحدثات الأمور) تحذير منها ومن الرضى بها جمع محدثة وهي ما لم يكن معروفا من كتاب ولا سنة ولا إجماع أمة (فإنّ كلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة) بالنصب وفي نسخة بالرفع (ضلالة) وخص منها البدعة الحسنة بحديث من سن سنة حسنة فله أجرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وأجر من عمل بها ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه في التراويح نعمت البدعة هذه والحديث في الأربعين للنووي وقد أوضحناه في شرحه المبين المعين بيان مبناه وعيان معناه وقد أخرجه أبو داود في السنة عن أحمد بن حنبل عن الوليد بن مسلم بالسند الذي ساقه القاضي والترمذي في العلم وقال حسن صحيح وابن ماجه في السنة والمصنف عدل عن السنن الثلاث وأخرجه من خارجها طلبا للعلو في الإسناد فإن بينه وبين شيخ شيخ أبي داود في هذا الحديث وهو الوليد بن مسلم ستة اشخاص ولا يتفق له ذلك في رواية أبي داود (زاد في حديث جابر) على ما رواه مسلم (بمعناه) أي زيادة أفادت عدم روايته بلفظه ومبناه (وكلّ ضلالة في النّار) أي وكل محدثة فيها بإسقاط المكرر (وفي حديث أبي رافع) كما رواه الشافعي في كتابه الأم عن سفيان بن عيينة عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه (عنه عليه الصلاة والسلام لا ألفينّ) بضم الهمزة وكسر الفاء ونون مشددة أي لا أجدن (أحدكم متّكئا على أريكته) أي جالسا على سريره أو فراشه متمكنا على مقعده أو مائلا في قعوده معتمدا على أحد شقيه كما هو شأن الجهلة من المتكبرين الراضين بالقعود مع المتخلفين كما قيل: دع المكارم لا يرحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي (يأتيه الأمر من أمري) أي يبلغه أمر من أموري أو من مأموري بدليل قوله (ممّا أمرت به) على أن من فيه بيانية وبدلالة رواية ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكىء على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله تعالى (أو نهيت عنه فيقول لا أدري) أي غير القرآن ولا أتبع سوى الفرقان (ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه) أي وما وجدنا في غيره أو مخالفا فيه تركناه والحديث جاء محذرا من ترك امتثال أوامره واجتناب زواجره لأنه عليه الصلاة والسلام جاء مبينا لما في القرآن من الأحكام ولقوله تعالى وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وقوله وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وقوله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وقوله قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي وأمثال ذلك مما يدل على أنه لا يسوغ لمسلم أن يخالفه في أمر أو نهي هنالك (وفي حديث عائشة رضي الله عنها) كما رواه الشيخان (صنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا ترخّص فيه) أي اختار الرخصة على العزيمة في عمل ذلك الشيء عملا بقوله عليه الصلاة والسلام إن الله يحب أن يؤتى برخصة كما يحب أن يؤتى بعزائمه والظاهر أن ما ترخص فيه هو الإفطار في السفر أو القصر وهو الأظهر لقوله عليه الصلاة والسلام صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته ومن هنا قال أبو حنيفة إن القصر واجب وإتمامه إساءة (فتنزّه عنه) أي تبعد عن ذلك الشيء أو عن الترخص فيه (قوم) أي جماعة من الرجال ما بلغوا مبلغ الكمال (فبلغ ذلك النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 فحمد الله) أي شكره (وأثنى عليه) أي فيما أفاض إليه (ثمّ قال ما بال قوم) أي ما حالهم وشأنهم (يتنزّهون عن الشيء أصنعه) جملة وصفية أو حالية (فو الله إنّي لأعلمهم بالله وأشدّهم له خشية) إذ بقدر المعرفة بالله وصفاته تكون الخشية من عقوباته وحجاب حالاته ومقاماته كما يشير إليه قوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (وروي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) من حديث أبي الشيخ وأبي نعيم والديلمي (أنه قال: القرآن صعب) أي باعتبار مبناه (مستصعب) بكسر العين وتفتح أي باعتبار معناه (على من كرهه) أي ولم يتلذذ بمقتضاه ومفهومه أنه سهل متيسر على من أحبه وارتضاه كما يشير إليه قوله تعالى وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فهو كالنيل ماء للمحبوبين ودماء للمحبوبين وشفاء للمؤمنين وشقاء للعاصين (وهو) أي القرآن (الحكم) بفتحتين الحاكم العدل والفاتح الفصل والجد الذي ليس فيه الهزل أو ذو الحكمة من كمال الفضل (فمن استمسك بحديثي) أي تعلق به من كمال رضاه (وفهمه) أي القرآن من جهة معناه (وحفظه) أي من جهة مبناه أي ضبط حكمه وراعاه (جاء) أي ورد يوم القيامة (مع القرآن) أي بعلمه وعمله بهما (ومن تهاون بالقرآن وحديثي) بأن لم يعمل بهما ولو حفظهما وفهمهما (فقد خسر الدّنيا والآخرة) أي وتلك الخسارة الظاهرة (أمرت أمّتي) بصيغة المجهول للتأنيث وفي نسخة بصيغة الفاعل المتكلم والأول هو الظاهر أي أمرهم الله (أن يأخذوا بقولي) أي اعتقادا لقوله تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (ويطيعوا أمري) أي اعتمادا لقوله تَعَالَى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (ويتّبعوا سنّتي) أي استنادا لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (فمن رضي بقولي) أي بحديثي (فقد رضي بالقرآن) وفي الكلام قلب للمبالغة أي فمن رضي بالقرآن فقد رضى بقولي ومن لم يرض بقولي فلم يرض بِالْقُرْآنِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (وقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي) أي متصل بي ومعي أو من أشياعي واتباعي وقد رواه عبد الرزاق في مصنفه من مراسيل الحسن إلا أنه بلفظ من استن بسنتي أي اتبعها وعمل بها فهو مني (ومن رغب عن سنّتي) يقال رغب في الشيء إذا أراده ورغب عنه إذا لم يرده والمعنى ومن مال عنها كراهة لها (فليس منّي) كما في الصحيحين (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كتاب الله تعالى) هذا مقتبس من قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً (وخير الهدي) بالنصب ويجوز رفعه (هدي محمّد) وهو بفتح الهاء وسكون الدال فيهما بمعنى السمت والطريقة وضبط في بعض النسخ بضم الهاء وفتح الدال على أنه ضد الضلالة لقوله تعالى قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى والمعنى به سيرته السنية وطريقته الرضية وهيئته السوية (وشرّ الأمور) بالوجهين (محدثاتها) جمع محدثة بالفتح وهي البدعة التي تخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة قال الدلجي لا أدري من روى هذا الحديث ولعله انكره من حيث اسناده إلى أبي هريرة وإلا فقد ورد من حديث جابر كما رواه أحمد ومسلم والنسائي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وابن ماجه ولفظه أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وإن أفضل الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار الحديث وروى البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عقبة بن عامر الجهني وأبو نصر السجزي في الإبانة عن أبي الدرداء مرفوعا وابن أبي شيبة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه موقوفا بلفظ أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأوثق العرى كلمة التقوى وخير الملل ملة إبراهيم عليه السلام وخير السنن سنة محمد وأشرف الحديث ذكر الله تعالى وأحسن القصص هذا القرآن وخير الأمور عوازمها وشر الأمور محدثاتها وأحسن الهدى هدى الأنبياء وأشرف الموت قتل الشهداء وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى وخير العلم ما نفع وخير الهدى ما اتبع وشر العمى عمى القلب واليد العليا خير من اليد السفلى وما قل وكفى خير مما كثر وألهى وشر المعذرة حين يحضر الموت وشر الندامة يوم القيامة ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا ومنهم من لا يذكر الله إلا جهرا وأعظم الخطايا اللسان الكذوب وخير الغنى غنى النفس وخير الزاد التقوى ورأس الحكمة مخافة الله تعالى وخير ما وقر في القلب اليقين والارتياب من الكفر والنياحة من عمل الجاهلية والغلول من جشاء جهنم والكنز كيّ من النار والشعر من مزامير إبليس والخمر جماع الإثم والنساء حبالة الشيطان والشباب شعبة من الجنون وشر المكاسب كسب الربا وشر المأكل مال اليتيم والسعيد من وعظ بغيره والشقي من شقي في بطن أمه وإنما بصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والأمر بآخره وملاك العمل خواتمه وشر الرؤيا رؤيا الكذب وكل ما هو آت قريب وسباب المؤمن فسوق وقتال المؤمن كفر وأكل لحمه من معصية الله تعالى وحرمة ماله كحرمة دمه ومن يتأل على الله يكذبه ومن يغفر يغفر الله له ومن يعف يعف الله عنه ومن يكظم الغيظ يأجره الله ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ومن يتبع السمعة يسمع الله به ومن يصبر يضعف الله له ومن يعص الله يعذبه الله اللهم اغفر لي ولأمتي استغفر الله لي ولكم كذا في الجامع الصغير وإنما ذكرته لما فيه من النفع الكثير للصغير والكبير (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله تعالى عنه) وفي نسخة العاصي والأول هي الأولى لما حققناه فيما سبق من أصل المبنى (قال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم العلم) أي أصوله (ثلاثة) أي أقسام (وما سوى ذلك) يعني كل علم سوى هذه الثلاثة وما يتعلق بها مما تتوقف عليه (فهو فضل) أي زائد لا يفتقر إلى علمه وإن لم يسع المرء جهله (آية محكمة) أي أحكم بيانها فلم يحتج إلى زيادة بيان في شأنها (أو سنّة قائمة) أي أحاديث ثابتة مستمرة العمل بها دائمة (أو فريضة عادلة) أي في القسمة أو عادلة ومساوية في العمل بها الكتاب والسنة وهي الثابتة بإجماع الأمة أو قياس الأئمة رواه أبو داود وابن ماجه (وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تعالى) أي البصري كما رواه عبد الرزاق عن معمر عن زيد عن الحسن مرسلا والدارمي عن ابن مسعود موصولا (قال عليه الصلاة والسلام عمل قليل في سنّة) أي مصاحبا لها (خير من عمل كثير في بدعة) أي من أصلها لأن ذاك وإن قل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 كثر نفعه بل هو نفع كله وذا أكثر ضررا ونفعه قليل وإن كثر عمله ففي بمعنى مع كما في قوله تعالى ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ أي معهم والحاصل أن الاقتصاد في السنة أفضل من الاجتهاد في البدعة ولو كانت مستحسنة (وقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ الْعَبْدَ الجنّة) أي أعلى مراتبها (بالسنّة) أي بسبب القيام بها (تمسّك بها) أي أخذها وعمل بمقتضاها ففاز بمقام القدس ومرام الإنس وفي نسخة يتمسك بها فالأولى استئناف والثانية حال والحديث غير معروف المبنى لكنه صحيح المعنى (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه الطبراني في الأوسط (قال المتمسّك بسنّتي عند فساد أمّتي) أي حين يكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي فإن قلت من يتمسك بالسنة إذا فسدت الأمة أجيب بأن المراد أكثر الأمة ولا يبعد أن يراد بفسادهم سوء اعتقادهم بترك العمل بالأحاديث واعتمادهم على مجرد ما يفهمونه بعقولهم الكاسدة وآرائهم الفاسدة كما هو طريق أهل البدعة بخلاف مذهب أهل السنة والجماعة حيث جمعوا بين الكتاب والسنة على ما ورد (له أجر مائة شهيد) أي حيث جاهد في طريق سديد (وقال عليه الصلاة والسلام) كما رواه الترمذي (إنّ بني إسرائيل افترقوا) أي تفرقوا (على اثنتين وسبعين ملّة) أي مذهبا ومشربا وفي نسخة فرقة أي جماعة (وإنّ أمّتي) أي أهل الدعوة والإجابة (تفترق) وفي رواية ستفترق (على ثلاث وسبعين) أي بزيادة ملة (كلّها) أي جميع الملل السابقة والنحل اللاحقة (في النّار) أي في طريقها فكأنهم فيها (إلّا واحدة) أي إلّا أهل ملة واحدة أو إلّا جماعة (قالوا) أي بعض الصحابة (وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي) أي الجمع والفوج الذي أو أهل الطريق الذي (أنا عليه اليوم وأصحابي) أي من متابعة الكتاب والسنة ومجانبة الأمور المحدثة والبدعة (وعن أنس) رضي الله تعالى عنه (قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «من أحيا سنّتي» أي أشاعها بعملها أو أذاعها بنقلها (فقد أحياني) أي رفع ذكري وأظهر أمري (ومن أحياني كان معي) أي مشاركا لي في علو قدري وفي نسخة كان معي في الجنة أي مصاحبا لي في النعمة رواه الأصبهاني في ترغيبه واللالكائي في السنة (وعن عمرو بن عوف المدني) كما رواه الترمذي وحسنه ابن ماجه (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ مَنْ أحيا سنّة من سنّتي) أي من سنني (قد أميتت بعدي) بترك ذكرها أو العمل بها (فإنّ له من الأجر مثل من) أي مثل أجر مَنْ (عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ) أي ذلك الأجر الذي يكون له (من أجورهم) أي من أجور من عمل بها تبعا له (شيئا) مفعول ينقص وقد اعتبر في ضميرهم معنى من دون لفظها (ومن ابتدع بدعة ضلالة) بالإضافة أو بالوصف أي بدعة سيئة كالبناء على القبور وتجصيصها لا بدعة مستحسنة كالمنارة وترصيصها (لا يرضي الله ورسوله) من الإرضاء صفة كاشفة والمعنى لا تكون موافقة للكتاب والسنة ولا مأخوذة من القياس أو اجماع الأمة (كان عليه) أي من الإثم (مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذلك من أوزار النّاس شيئا) أي من آثام من عمل بها تبعا له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 فصل [وأما وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ] (وأمّا ما ورد عن السّلف) أي عن الصالحين من الصحابة والتابعين (والأئمة) أي العلماء العالمين المجتهدين في أمر الدين (من اتّباع سنّته) وفي نسخة في اتباع سنته فالجار متعلق بورد وعلى الأول بيانية (والاقتداء بهديه) أي طريقته (وسيرته) أي هيئته فالأول بيان الكمية والثاني بيان الكيفية أو هما إيماء إلى قاله وحاله وهذا الأمر التقريري أولى من القول بالعطف التفسيري (فَحَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرّحمن بن أبي تليد) بفتح فوقية وكسر لام فتحتية (الفقيه) أي الكامل في الفقه (سماعا عليه) لا قراءة لديه ولا بواسطة إليه (قال ثنا) أي حدثنا (أبو عمر الحافظ) أي ابن عبد البر (ثنا) أي حدثنا (سعيد بن نصر ثنا) أي حدثنا (قاسم بن أصبغ) بفتح همزة وموحدة وغين معجمة منونة كذا في نسخة مضبوطة والظاهر أنه غير منصرف كأحمد وأسلم والله تعالى أعلم (ووهب بن مسرّة) بفتح ميم وسين مهملة وتشديد راء (قالا) أي كلاهما (ثنا) أي حدثنا (محمد بن وضّاح) بتشديد الضاد المعجمة (ثنا) أي حدثنا (يحيى بن يحيى) الليثي راوي الموطا وفي نسخة اقتصر على يحيى الأول لشهرته فتأمل (ثنا) أي حدثنا (مالك) وهو الإمام صاحب المذهب (عن ابن شهاب) أي الزهري (عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ) بفتح فكسر وفي نسخة بالتصغير وخالد أخو عتاب أسلم عام الفتح وكان من المؤلفة قلوبهم وأما الرجل فغير معروف (أنّه سأل عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال يا أبا عبد الرّحمن) يكتب بلا ألف ويقرأ بها على الصحيح (إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَصَلَاةَ الْحَضَرِ فِي القرآن) أي في قوله تعالى وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآية إلى قوله إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (ولا نجد صلاة السّفر) أي بوصف القصر في القرآن صريحا وإلّا فصلاة الخوف متضمنة للقصر في الآية على ما ورد في السنة (فقال ابن عمر رضي الله عنهما يا ابن أخي) أي في الإسلام جريا على عادة العرب في خطاب الأقوام وإيماء إلى الشفقة على الأنام (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ولا نعلم شيئا) أي من حقيقة الأحكام (وإنّما نفعل كما رأيناه يفعل) أي فنتبعه ونقتدي به في جميع أموره وقد رأيناه يقصر في السفر فقصرنا معه بل وقد أمرنا بالقصر وأوجب علينا هذا الأمر بقوله هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته والأمر للوجوب ولذا قال أبو حنيفة بأن الإتمام إساءة ومكروه كراهة تحريمية والحاصل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مبين للشريعة بالكتاب والسنة فمن ترك شيئا منهما فقد وقع في الضلالة والبدعة والحديث رواه مالك والنسائي وابن ماجه (وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى) أي ابن مروان بن الحكم الأموي القرشي وأمه ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو تابعي جليل وإمام جميل وسادس الخلفاء على ما قيل روى عن عبد الله بن جعفر وأنس وابن المسيب وجماعة وعنه ابناه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 والزهري وعدة أخرج له أصحاب الكتب الستة مات بدير سمعان من أرض حمص سنة إحدى ومائة وله من العمر أربعون ومدة ولايته سنتان وخمسة أشهر وأيام ومناقبه ظاهرة ومراتبه متواترة وهذا الحديث رواه عنه اللالكائي في السنة أنه قال (سنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي شرع طريقة مرضية (وولاة الأمر) أي وسن الخلفاء الراشدون (بعده سننا) أي موافقة لقواعد الكتاب والسنة كجمع عمر رضي الله تعالى عنه الناس على أبي بن كعب في صلاة التراويح وأمر عثمان رضي الله تعالى عنه بكتابة المصاحف ثم بعثها إلى الآفاق (الأخذ بها) أي العمل بسنته وسنة من بعده (تصديق لكتاب الله) أي حيث قال وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ (واستعمال لطاعة الله) أي في طاعة رسوله لقوله سبحانه وتعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وقد قال عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي والمراد الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم وإن عم كل من سار بسيرتهم من الأئمة (وقوّة على دين الله) أي واستعمال سنته وسنة من أتى على طريقته تقوية على كمال ملته وجمال شريعته (ليس لأحد تغييرها) أي بزيادة ونقصان فيها (ولا تبديلها) أي بغيرها ظنا أنه أحسن منها (ولا النّظر) أي ولا يجوز لأحد النظر (في رأي من خالفها) أي بلا دليل شرعي من اجماع أو قياس بل بمجرد رأية واتباع عقله وقد تسفه الدلجي هنا من قلة فهمه وكثرة جهله وسوء ظنه بالإمام الأعظم والهمام الأفخم الأقدم حيث قال وكفاك هذا حاكما بالغا قول من قال بنفوذ شهادة الزور ظاهرا وباطنا وقوله لو أقام رجل شاهدي زور أن فلانة امرأته فشهدا بذلك جاز له أن يطأها مع علمه بأنها ليست زوجته وهذا لم يرد به كتاب ولا سنة انتهى ولا يخفى أن الخلق عيال أبي حنيفة في الفقه كما صرح به الشافعي فهل يتصور لإمام المجتهدين أن يتكلم برأيه المجرد في أمر الدين أو يتوهم أن يكون جاهلا بالكتاب والسنة وهو إمام الأئمة ومقتدى أكثر الأمة فهذا ظن فاسد ووهم كاسد ولكنه خلف لسلفه كما بينته في تشييع الحنفية لتشنيع الشافعية مع أن المسألة المذكورة هي الرواية المشهورة عن علي كرم الله وجهه حيث قال شاهداك زوجاك فبهذا علم أن هذا القائل لم يصل إلى مقام الاجتهاد والتأييد بل هو واقع في حضيض التقليد بل حمله عليه التعصب الجاهلي والتكسب الغافلي حيث تكلم بهذا القليل ولم يعرف إن المجتهد أسير الدليل كما قال الشافعي يجوز نكاح الرجل ووطئه بنته الحاصلة من الزنا نظرا إلى ما قام عنده من الدليل مع عدم التفات إلى قبح صوري في هذا القيل والله سبحانه وتعالى يهديهم إلى سواء السبيل (من اقتدى بها) أي بسنته وسنتهم (فهو مهتد) أي ما دام مقتديا بها وفي نسخة فهو مهتد (ومن انتصر بها) أي استعان بها واستوثق بسببها واستدل على مطلوبه بمدلولها (منصور) أي فهو منصور كما في نسخة (ومن خالفها) أي فلم يتمسك بها وعمل بغيرها (واتّبع غير سبيل المؤمنين) أي المجتمعين عليها (ولّاه الله ما تولّى) أي جعله واليا لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 تولاه من الضلال وخلى بينه وبين ما اختاره من الوبال (وأصلاه جهنّم) أي ادخله فيها وأحرقه بها (وساءت) أي قبحت جهنم (مصيرا) أي مرجعا له ولمن تبعه والحديث مقتبس من قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الحسن) أي البصري رحمه الله تعالى (عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كثير في بدعة) وقد سبق هذا الحديث مرفوعا فلعله جاء عنه موقوفا أيضا فلذا ذكره هنا مكررا ليكون لتأكيد الأمر مقررا والمعنى أن الاقتصاد فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْبِدْعَةِ (وقال ابن شهاب) أي الزهري كما أخرجه عنه اللالكائي في السنة (بلغنا عن رجال من أهل العلم) أي من الصحابة والتابعين (قالوا: الاعتصام بالسنّة نجاة) أي الاستمساك بها سبب خلاص من ورطة الهلاك ووصمة الانهماك (وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه) كما في سنن سعيد بن منصور عنه رضي الله تعالى عنه (إلى عمّاله) أي بالأمصار (بتعلّم السنّة) أي الأحاديث أو السنن وفي نسخة بتعليم السنة أي للناس (والفرائض) أي تفصيلها وتمييزها عما عداها أو أريد بها علم الفرائض وقسمة المواريث (واللّحن أي اللّغة) تفسير من أحد رواة الحديث أو من المصنف والمراد باللغة أصولها الشاملة لعلم الصرف وفروعها المركبة الكافلة لعلم النحو المتعلق بالمباني وكذا علم البيان والمعاني (وقال) أي عمر رضي الله تعالى عنه أيضا على ما رواه الدارمي (إنّ ناسا يجادلونكم- يعني بالقرآن) تفسير في الأصل أي بظواهر الآيات القرآنية ومجملات الدلالات الفرقانية (فخذوهم بالسّنن) وفي نسخة بالسنة أي فغالبوهم بالأحاديث النبوية لأنها مبنية للأحكام الدنيوية والأخروية وهذا معنى قوله (فإنّ أصحاب السّنن أعلم بكتاب الله تعالى) أي من غيرهم لأنهم جامعون بينهما بخلاف من اقتصر على معرفة أحدهما فالمراد بأصحاب السنن العلماء بالحديث المبين للكتاب وأما قول الدلجي كالبخاري ومسلم وأبي داود فخارج عن صوب الصواب (وفي خبره) أي خبر عمر الذي رواه مسلم عنه (حين صلّى) أي عمر رضي الله تعالى عنه (بذي الخليفة) بالتصغير وهو مكان معروف قرب المدينة ميقات أهلها ومن مر بها من غيرها (ركعتين) أي سنة الإحرام ولبى في هذا المقام (فقال اصنع) أي افعل أنا (كما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصنع) أي في حجته محافظة على سلوك محجته واتباع سنته وطريقته وحجته والظاهر أنه أراد القرآن كما يدل عليه قوله (وعن عليّ رضي الله تعالى عنه) كما رواه الشيخان (حين قرن) بين الحج والعمرة قيل أي تمتع إذ القرآن قد يطلق على التمتع من حيث إن القارن متمتع أيضا بسقوط إحدى السفرتين وحصول ثواب الهدى بالجمع بين العبادتين كما أنه قد يطلق التمتع على القرآن بالمعنى اللغوي الشامل للمعنى الشرعي ولعل قوله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ من هذا القبيل (فقال له عثمان رضي الله تعالى عنه) وهو الصواب بخلاف ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 في نسخة فقال له عمر (ترى) من الرأي لا من الرؤية أي تعلم (أنّي أنهى النّاس عنه) أي عن القرآن أو التمتع (وتفعله) أي أنت مخالفا لأمري (قال) أي علي لعثمان (لم أكن أدع) أي وادعا وتاركا ويروى لا أدع (سنّة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لقول أحد من النّاس) وفيه دليل صريح ونقل صحيح أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا في حجة الإسلام ويدل عليه سكوت عثمان على وجه الإلزام وكأنه كان يظن أن أفضل أنواع الحج هو الافراد والتمتع مبنيا على أن أشهر الحج تكون مخصوصة بالحج وأن العمرة تقع في غيرها قبلها أو بعدها كما كان عليه أهل الجاهلية قبل حجه عليه الصلاة السلام من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ولدفع هذا الأمر أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بعض الصحابة بفسخ الحج للعمرة ولعله ما بلغ عثمان هذا المعنى أو كان له تأويل في هذا المبنى وقد قيل وإنما نهى عثمان عن المتعة لتكون أشهر الحج للحج لا غير ولتكون العمرة في غيرها حتى يزار البيت في أشهر الحج وبعدها وقيل إنما نهى عنها لمنفعة أهل مكة ليكون لهم موسمان في كل عام والله أعلم وحمل فعله صلى الله تعالى عليه وسلم على أحدهما لا على الجمع بينهما كما عليه المحققون الذين جمعوا بين الرواية والدراية هذا وقال الحلبي في النسخة التي وقفت عليها فقال له عمر وفي الهامش عثمان عوض عمر وعليه صح وفي صحيح البخاري وسنن النسائي كلاهما في الحج من حديث مروان بن الحكم قال شهدت عثمان وعليا رضي الله تعالى عنهما وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلما رأى على نهيه أهل بهما وقال لبيك بعمرة وحجة وقال ما كنت لأدع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقول أحد وأخرج الشيخان والنسائي كلهم في الحج من حديث سعيد بن المسيب قال اجتمع علي وعثمان بعسفان وكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال على ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تنهى عنه دعنا منك فقال إني لا أستطيع أن أدعك فلما رأى علي ذلك أهل بهما جميعا وأخرج مسلم من حديث عبد الله بن شقيق كان عثمان ينهى عن المتعة وكان علي يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة فقال علي لقد علمت أن قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رجل ولكنا كنا خائفين انتهى ولا يظهر وجه الخوف فإنه عليه الصلاة والسلام حج بيت الله الحرام بعد فتح مكة وغلبة أهل الإسلام ثم المراد بالتمتع التمتع اللغوي وهو القرآن فلا مخالفة بين الأحاديث المروية عن علي كرم الله تعالى وجهه والله أعلم (وعنه) أي عن علي وهو غير معروف عنه (إنّي) وفي نسخة صحيحة إلّا أني أي انتبهوا فإني (لست بنبيّ) أي لا يوحى إلي بوحي جلي (ولا يوحى إليّ) أي بوحي خفي أعمل به (ولكنّي أعمل بكتاب الله وبسنّة نبيّه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة وسنة نبيه (ما استطعت) أي قدر ما قدرت بحسب الطاقة البشرية (وكان ابن مسعود يقول) كما رواه الدارمي والطبراني واللالكائي في السنة عنه وعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أبي الدرداء (القصد في السّنّة) أي التوسط في العمل بها بين الكثرة والقلة (خير من الاجتهاد في البدعة) أي أحسن من المبالغة في بذله الوسع والطاقة والكثرة من الطاعة في حال الأخذ بالبدعة ولو كانت مستحسنة وأما تقييد الدلجي بالضلالة فنشأ من بعض الجهالة لأنها قوبلت بالسنة الثابتة ولا شك أنها خير من البدعة الحسنة ولا معنى لمقابلتها ببدعة الضلالة إذ لا خير فيها في جميع الحالة لا محالة (وقال ابن عمر) رضي الله تعالى عنهما كما رواه عبد بن حميد في مسنده بسند صحيح (صلاة السّفر ركعتان) أي لا زيادة عليهما كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام قولا وفعلا في الليالي والأيام (من خالف السنة) أي لم يقبلها (كفر) أي قارب الكفر أو كفر بالنعمة فإن القصر رخصة وهي منة ولذا سمي صدقة وقيل من خالفها عنادا أو مستحلا فقد كفر وخرج عن دائرة الإسلام بامتناع قبول أحكامه عليه الصلاة والسلام وهذا إذا كانت السنة متواترة معلومة من الدين بالضرورة وتركها من غير تأويل لها (وقال أبيّ بن كعب) كما رواه الأصفهاني في ترغيبه واللالكائي في سننه (عليكم بالسّبيل) أي الزموا طريق الطاعة (والسنّة) أي ومتابعة الشريعة (فإنّه ما على الأرض من عبد) أي من عبيده سبحانه وتعالى (على السّبيل) أي سبيل الله تعالى (والسنّة) أي سنة رسول الله والمعنى يكون ثابتا على طريق الكتاب والسنة (ذكر الله في نفسه) أي في باطنه والمعنى بحضور قلبه سواء كان الذكر بلسانه أو بمجرد ذكر جنانه ولا شك أن الجمع أولى لظهور برهانه فلا معنى لقول الدلجي أي بدون تلفظ لوضوح بطلانه (ففاضت عيناه) أي سالت دموعهما من أثر بكائه (من خشية الله) أي من خوف عقابه أو حجابه (فيعذّبه) بالنصب أي الألم يعذبه (الله أبدا) أي لا في دنياه ولا في آخرته حيث طلب مرضاة مولاه وفي نسخة فيعذبه بالرفع (وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ) أي الطريقة المرضية (والسّنّة) أي الهيئة السنية (ذكر الله في نفسه) أي من غير أن يتعلق به الرياء والسمعة (فاقشعرّ جلده) أي انقبض واجتمع (من خشية الله) أي من عظمة مولاه (إلا كان مثله) بفتحتين أي صفته العجيبة وحالته الغريبة (كمثل شجرة قد يبس ورقها) أي أوراقها وذهب رونقها ورواجها (فهي كذلك) أي فبينما هي في أوقات كونها كذلك (إذا أصابتها ريح شديدة) أي من جوانبها (فتحاتّ) بتشديد الفوقية الثانية أي فتناثر (عنها ورقها) كرر بدلا أو تأكيدا لبعد المسافة بينهما باعتراض المثل (إلّا حطّ عنه خطاياه) بصيغة المجهول أي وضع عنه عيوبه ومحي عنه ذنوبه (كما تحاتّ عن الشّجرة ورقها) أي تساقط (فإنّ اقتصادا) أي توسطا (في سبيل) أي في طريق خير (وسنّة) أي طريقة حسنة من كتاب وسنة (خير من اجتهاد) أي مبالغة في الطاعة وسع الطاقة (في خلاف سبيل وسنّة) أي في مخالفتهما (وموافقة بدعة) أي ولو حسنة لا بدعة ضلالة كما قاله الدلجي هنا أيضا وهذا عطف تفسير ولم يوجد في بعض النسخ (وانظروا) أي وتأملوا حرصا منكم (أن يكون عملكم إن) كان (اجتهادا أو اقتصادا) أي مبالغة في الجد أو توسطا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 الجهد (أن يكون) بدل من أن يكون الأول أو تأكيد له لبعد المسافة بينهما باعتراض الشرط والمعنى أن يوجد (على منهاج الأنبياء عليهم السلام) أي شريعتهم ويروي مناهيج الأنبياء أي شرائعهم (وسنتهم) أي طريقتهم لتصلوا إلى مقام حقيقتهم (وَكَتَبَ بَعْضُ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أي نوابه (إلى عمر) أي إليه حال كونه (يخبره بحال بلده) أي مما عليه أهله من فساده (وكثرة لصوصه) أي سراقه ونهابه (هل نأخذهم) بالنون وفي نسخة صحيحة بالياء التحتية (بالظّنّة) بكسر الظاء المعجمة المشالة وتشديد النون أي التهمة والمعنى هل نؤاخذهم ونعاقبهم بمجرد العلامات الدالة على أخذ السرقة عملا بالسياسة (أو) وفي نسخة أم (نحملهم على البيّنة) أي بذلك (فلا أصلحهم الله) تعالى أي عند انكارهم (وما جرت عليه) فيه (السّنّة) وفي نسخة صحيحة وما جرت به السنة أي من أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر (فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ خُذْهُمْ بِالْبَيِّنَةِ وَمَا جَرَتْ عليه السّنّة) أي وبما يترتب عليها من غرم وقتل وقطع ونحوها (فإن لم يصلحهم الله تعالى) أي أيضا بخلاف ما هناك ولا يبعد أن تكون الجملة الثانية دعائية والأول أظهر والمعنى أن الله تعالى حكيم في صنعه وعليم في حكمه فلا تجوز الزيادة والنقصان في حده وقد روي أن بعض الملوك كان يقتل اللصوص بالسياسة ومع هذا تكثر السرقة فذكر ذلك لبعض العلماء هنالك فقال له اعمل بالسنة تندفع بها الكثرة فسمع كلام ذلك الإمام وعمل بالشريعة في تلك الأحكام فقلت السرقة فسأله عن الحكمة فقال لما كثرت مشاهدة قطع الأيدي اعتبر أهل الفساد وقل اللصوص في العباد (عن عطاء) أي ابن أبي رباح أو عطاء الخراساني (في قوله) أي في تفسير قوله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ) أي اختلفتم أنتم وأولو الأمر منكم (فِي شَيْءٍ) أي من أمور الدين (فَرُدُّوهُ) أي ارجعوا فيه (إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [النِّسَاءِ: 59] أَيْ إِلَى كِتَابِ الله وسنّة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي إلى حكمهما فيكم وهذا يشمل حياته ومماته عليه الصلاة والسلام (وقال الشّافعي رحمه الله تعالى) وهو الإمام المجتهد روى عن مالك وروى عنه أحمد وأخرج له أصحاب السنن الأربعة وذكره البخاري في موضعين من صحاحه في الركاز والعرية ويقال إنه غيره ومال إلى كل قول بعض وولد سنة خمسين ومائة يوم مات أبو حنيفة رحمه الله تعالى ومات سنة أربع ومائتين (لَيْسَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم إلّا اتّباعها) أي اقتداؤها علما وعملا قال تعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وهذا قريب في المعنى مما يحكى عنه إذا صح الحديث فهو مذهبي (وقال عمر رضي الله تعالى عنه) فيما رواه الشيخان (ونظر إلى الحجر الأسود) جملة معترضة حالية (إنك) والله كما في نسخة حجر (لا تنفع ولا تضر) أي في حد ذاتك وهو لا ينافي ما ورد من أنه يشهد لمن استلمه يوم القيامة (وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ ثُمَّ قَبَّلَهُ) وهذا يدل منه رضي الله تعالى عنه على كمال المتابعة للسنة وخبر لولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 واجب الحذف عند النحاة لأن طول الكلام سد مسد الخبر مع الجواب لكن المسألة مفصلة فإن خبر لولا منقسم إلى أقسام ثلاثة قسم واجب الحذف وهو ما دل على كون مطلق كقولك لولا زيد لهلك عمرو وقسم واجب الإثبات وهو ما دل على كون مقيد إذ لو حذف لما فهم المعنى كقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله تعالى عنها لولا قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم فلو حذف حديثو عهد لكان المعنى لولا قومك على كل حال من أحوالهم لنقضت الكعبة ومن جملة أحوالهم بعد عهدهم بالكفر فيما يستقبل فكل ما لم يفهم عند الحذف يتعين الإتيان به ومنه قول الشافعي: ولولا الشعر بالعلماء يرزي ... لكنت اليوم أشعر من لبيد وكذا قول الخنساء ترثي أخاها صخرا: ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي ومنه قول عمر هذا والتقدير لولا رؤيتي تقبيل النبي عليه الصلاة والسلام مستصحبة لما قبلتك وقسم إن شئت اثبتته وإن شئت حذفته كقولك لولا أخو زيد يبصره لغلب فمن راعى الكون المطلق حذف ومن راعى الكون المقيد اثبت (ورؤي) وفي نسخة رئي بكسر الراء وسكون الياء فهمزة على بناء المجهول من ريأ مقلوب رأى (عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما) كما رواه أحمد والبزار بسند صحيح (يدير ناقته في مكان) أي يطيفها حوله حتى عاد إلى موضع أوله (فسئل عنه) أي عن سبب فعله وإن إدارته لأي شيء (فقال لا أدري) أي وجهه وحكمته (إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم فعله) أي مرة وفي نسخة يفعله (ففعلته) أي اقتداء به صلى الله تعالى عليه وسلم في فعله وهذا يشير إلى أن أكابر الصحابة كانوا يتبعونه في الأمور العادية أيضا (وقال أبو عثمان الحيريّ) بمهملة مكسورة فمثناة تحتية محلة بنيسابور كان يسكنها وهو شيخ الصوفية بها ذكره الذهبي في المشتبه وفي نسخة الجنيدي بالتصغير وهو تصحيف وتحريف على ما قاله أبو القاسم القشيري في رسالته من نسبة هذا القول إليه والثناء عليه بقوله فمنهم أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري المقيم بنيسابور وكان قد صحب شاه الكرماني ويحيى بن معاذ الرازي ثم ورد بنيسابور مع شاه الكرماني على أبي جعفر الحداد وأقام عنده وزوجه أبو جعفر بنته مات سنة ثمان وتسعين ومائتين (من أمر السّنّة) بتشديد الميم أي من جعل السنة أميرا وحاكما (على نفسه قولا وفعلا) أي واعتقادا (نطق بالحكمة) لأنه تبع من لا ينطق عن الهوى واختار سبيل الهدى (ومن أمّر الهوى على نفسه) بأن تبع رأيه وهواه في فعله وقوله وأمور دنياه وأخراه (نطق بالبدعة) أي بالأمور الخارجة عن طريق السنة والمائلة عن سبيل المرضي لمولاه (وقال سهل التّستريّ أصول مذهبنا) أي معاشر الصوفية لا جماعة المتصوفة بشهادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 الإضافة (ثلاثة: الاقتداء بالنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في الأخلاق) أي الأحوال الباطنة (والأفعال) أي الأعمال الظاهرة (والأكل من الحلال) أي الطيب الخارج عن الشبهة (وإخلاص النّيّة في جميع الأعمال) أي تخليصها من شوائب الرياء والسمعة إذ قد تصير العادات بها عبادات والكل مأخوذ من مكارم أفعاله ومحاسن أقواله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله وزيد في نسخة وقد كان على خلق عظيم وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت كان خلقه القرآن أي يأتمر بأوامره وينتهي بزواجره (جاء فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أنه) [فاطر: 10] أي العمل الصالح الذي يرفعه الله تعالى أو يرفع الكلم الطيب إلى الله تعالى (هو الاقتداء به) أي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما في نسخة أي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله وقد فسر الكلم الطيب بقول لا إله إلّا الله وقيل هو ذكر من تسبيح وتهليل وقراءة قرآن وغير ذلك والهاء في قوله يرفعه راجع إلى الكلم الطيب وعليه أكثر المفسرين فمن قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل كما جاء في الحديث لا يقبل الله قولا إلّا بعمل ولا عملا إلّا بنية ولا نية إلّا بإصابة السنة (وحكي عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى) هو الإمام المذهب أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني الزاهد الرباني روى عن البخاري وغيره وعنه ابناه وجمع وفي نسخة أن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (قَالَ كُنْتُ يَوْمًا مَعَ جماعة تجرّدوا) أي عن ثيابهم (ودخلوا الماء) أي بلا سترة والظاهر أن الجملة حالية والمعنى أنهم تجردوا عن ثيابهم بعد أن دخلوا وسط الماء على أن الواو لمطلق الجمع (فاستعملت الحديث) أي إطلاق الحديث الذي رواه مثله الترمذي أيضا (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يدخل الحمّام) بصيغة النهي وقيل بالنفي وأريد النهي بل هو أبلغ (إلّا بمئزر) بكسر ميم وسكون همزة ويبدل وفتح زاء أي إلّا بإزار يستر عورته (ولم أتجرّد) أي أنا من ثيابي احتياطا في ذلك المقام (فرأيت) أي في المنام (تلك اللّيلة) أي القابلة من يوم تجردهم (قائلا) يقول (لي يا أحمد أبشر) أي بكل خير وفي نسخة أبشر يا أحمد (فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ بِاسْتِعْمَالِكَ السُّنَّةَ وجعلك إماما) أي يقتدى بك (يُقْتَدَى بِكَ، قُلْتُ مَنْ أَنْتَ قَالَ جِبْرِيلُ) عليه الصلاة والسلام. فصل [وَمُخَالَفَةُ أَمْرِهِ وَتَبْدِيلُ سُنَّتِهِ ضَلَالٌ وَبِدْعَةٌ مُتَوَعَّدٌ من الله تعالى عليه بالخذلان والعذاب] (ومخالفة أمره) وكذا مناقضة نهيه بعد الانقياد لحكمه (وتبديل سنّته) أي بتغييرها مبنى أو بتفسيرها معنى على خلاف مراده وطريقته (ضلال) أي في الاعتقاد (وبدعة) أي في الاجتهاد لا تصلح للاعتماد (متوعّد) بفتح العين المشددة أي موعود (من الله تعالى عليه) أي ما ذكر من المخالفة والمبادلة (بالخذلان) أو بترك النصرة له وعدم التوفيق للطاعة وخلق المعصية فيه في الدنيا (والعذاب) أي وبالعقوبة في العقبى (قال الله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي معرضين عنه أو ما نعين عن مقتضى حكمه (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي كراهة أن يلحقهم محنة وبلية في الدنيا (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] أي مؤلم في العقبى والآية دالة على أن الأمر للوجوب الأكيد حيث رتب على تركه الوعيد الشديد (وقال تعالى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يخالفه لأن كلا من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي ظهر له الحق ببيان المولى (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء: 115] أي غير ما هم عليه من اعتقاد علم أو اعتماد عمل (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى الآية) أي نجعله واليا لما تولاه من ضلال وبدعة ونصله جهنم أي ندخله فيها ونحرقه بها وساءت أي جهنم مصيرا أي مرجعا لهم والآية مؤذنة بحرمة مخالفة الإجماع (حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جعفر وعبد الرّحمن بن عتّاب) بتشديد الفوقية وفي نسخة أبو محمد بلفظ التثنية فإن كلاهما مكنى بأبي محمد (بقراءتي عليهما) قيل هو فوق السماع لأنه أدل على القابلية الظاهرة في الطباع (قالا) أي كلاهما (ثنا) أي حدثنا (أبو القاسم حاتم بن محمد ثنا) أي حدثنا (أبو الحسن القابسيّ) بالقاف وكسر الموحدة (ثنا) أي حدثنا (أبو الحسين) وفي نسخة صحيحة الحسن (بن مسرور الدّبّاغ) أي صانع الدبغ أو بائعه (ثنا) أي حدثنا (أحمد بن أبي سليمان ثنا) أي حدثنا (سحنون) بفتح سين وضم نون (ابن سعيد) وهو عبد السلام (ثنا) أي حدثنا (ابن القاسم ثنا) أي حدثنا (مالك) وهو إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى (عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) كذا رواه مسلم وأبو داود عنه والنسائي عنه واختار المصنف طريق مالك فإن بينه وبين مالك سبعة أشخاص وبينه وبين مسلم ثمانية (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج إلى المقبرة) بتثليث الباء والفتح أفصح والظاهر أن المراد به مقبرة البقيع في المدينة (وذكر الحديث) أي بطوله (في صفة أمته) أي نعتهم وفضلهم حيث قال لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غرا محجلين من أثر الوضوء الحديث (وفيه) وفي جملته (فليذادنّ) بفتح اللام القسمية وضم الياء وذال معجمة فألف ودال مهملة فنون مشددة من الذود وهو الطرد والبعد أي فليصدن ويمنعن (رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ) أي عن مزاحمة بعير الرجال في الشرب من حوض ماء الزلال (فأناديهم) أي ظنا أنهم من أصحابي وأهل ناديهم (ألا) أي تنبوا (هلمّ ألا هلمّ ألا هلم) أي تعالوا وأقبلوا وهو بلغة قريش يستوي فيه الواحد والجمع بخلاف بني تميم فإنهم يقولون هلم هلما هلموا هلمي والأول افصح وبه ورد التنزيل قال هلم شهداءكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا وقال الخليل أصله لمّ من قولهم لمّ الله شعثه أي جمعه كأنه أراد لم نفسك إلينا أي أقرب والهاء للتنبيه وحذف ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسما واحدا في الأمر بإلاقبال (فيقال) أي فيقول المانعون والدافعون وهم الملائكة الجامعون (إنّهم قد بدّلوا بعدك) أي دينهم كفرا بدليل قوله (فأقول فسحقا فسحقا فسحقا) أي ثلاث مرات وهو بسكون الحاء وضمها بمعنى بعدا وانتصب بتقدير الزمهم الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 سحقا أو أسحقهم الله سحقا أي فأبعدهم الله بعدا أو فطردهم الله طردا أو بدليل حديث أنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم قال النووي اختلف العلماء في المراد بهم على أقوال أحدها أن المراد بهم المنافقون فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل فيناديهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للسيما التي عليهم فيقال إن هؤلاء بدلوا بعدك أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم. وثانيها أن المراد بهم من كان في زمنه عليه الصلاة والسلام من أهل الإسلام ثم ارتدوا بعده فيناديهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء لما كان يعرفه في حياته من إسلامهم فيقال ارتدوا بعدك. والثالث أن المراد أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد وأصحاب البدع فلا يقطع لهؤلاء بالنار بل يجوز أن يذادوا عقوبة لهم ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى ثم اعلم أن في بعض النسخ فلا يذادن بزيادة ألف بعد اللام فتصير لا نافية وأكثر الرواة عن مالك في الموطا على الأول ورواه يحيى ومطرف وابن نافع على الثاني ورده ابن وضاح بناء على الرواية الأولى وكلاهما صحيح المبنى بل النافية أفصح في المعنى أي فلا تفعلوا فعلا يوجب ذلك هنالك ومنه حديث فلا ألفين أحدكم على رقبة بعير أي لا تفعلوا ما يوجب ذلك فما في بعض حواشي الشفاء من أن قوله فلا يذادن لا معنى له لا معنى له (وروى أنس رضي الله تعالى عنه أن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال) أي في حديث طويل مما رواه الشيخان عنه آخره (فمن رغب) وفي نسخة صحيحة من رغب (عن سنّتي) أي أعرض عنها وما مال إليها (فليس منّي) أي بمتصل بي أو ليس من أتباعي وأشياعي (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين (من أدخل في أمرنا) ولمسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا وفي رواية من أدخل فى ديننا وهو كذلك في نسخة وفي أخرى في أمرنا هذا على ما في رواية صحيحة أي هذا الأمر الواضح الكامل الذي لا يحتاج إلى زيادة احداث (ما ليس منه) أي شيئا لم يكن له من الكتاب والسنة عاضد ظاهر أو خفي ملفوظ أو مستنبط وفي نسخة ما ليس فيه (فهو) أي ذلك المحدث أو ذلك الشيء المحدث (ردّ) أي مردود غير مقبول وهذا الحديث أصل في الاعتصام بالكتاب والسنة ورد الأهواء والبدعة (وروى ابن أبي رافع) كما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه واسمه عبيد الله (عن أبيه) أي أبو رافع مولى النبي عليه الصلاة والسلام (عن النبي) وفي نسخة أن النبي (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا على أريكته) نهى لنفسه عليه الصلاة والسلام أن يراهم في ذلك المقام مريدا به نهيهم عن أن يكونوا عليها فإنهم إذا كانوا عليها وجدهم كذلك لديها (يأتيه) حال ثانية أو جملة استئنافية بيانية أي يجيئه (الأمر من أمري) أي حكمي (ممّا أمرت به أو نهيت عنه) أي مما هو غير ظاهر في الكتاب (فيقول لا أدري) أي غير القرآن (مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ زَادَ) أي الراوي أبو داود والترمذي والحاكم (في حديث المقدام) بكسر الميم الأولى وهو ابن معدي كرب روى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم (ألا) للتنبيه (وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 الله صلى الله تعالى عليه وسلم مثل ما حرّم الله تعالى) أي فيجب اجتناب ما حرمه لأنه ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى فالكتاب وحي جلي والسنة وحي خفي (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه أبو داود في مراسيله والدارمي والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة (وجيء بكتاب) جملة حالية معترضة مؤذنة بأنه سبب للمقالة أي وقد جيء بمكتوب من التوراة (في كتف) أي من الشاة والجائي به عمر أو ابنته حفصة أو عائشة رضي الله تعالى عنهم أو غيرهم ولا منع من الجمع كما يشير إليه قوله (كفى بقوم حمقا) بضم فسكون أي حماقة وجهالة (أو قال ضلالا) أي ضلالة وغواية والشك من الراويّ والباء زائدة في فاعل كفى ونصب ما بعده على التمييز المحول عن الفاعل والمعنى كفى الحمق أو الضلال قوما (أن يرغبوا) أي يميلوا أو يعرضوا (عَمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَى غَيْرِ نَبِيِّهِمْ) أي ملتفتين ومقبلين إلى ما جاء به غير نبيهم يعني ولو كان نبيا إلى غيرهم كما يدل عليه قوله عليه السلام في رواية ولو كان موسى حيا لما وسعه إلّا اتباعي (أو كتاب) أي أو إلى كتاب (غير كتابهم) أي النازل إليهم ولو كان من كتب الله تعالى إلى غيرهم هذا ولفظ ما رووه جاء ناس من المسلمين بكتب قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال صلى الله تعالى عليه وسلم كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم (فَنَزَلَتْ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت: 51] الآية أي دائما ما بقيت الدنيا (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) فيما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (هلك المتنطّعون) مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم ثم استعير لكل تعمق قولا وفعلا أي المتعمقون في كلامهم الغالون في أقوالهم وأفعالهم المتكلمون بأقصى حلوقهم البالغون في خوضهم (وقال أبو بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه) كما رواه أبو داود وغيره (لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يعمل به) أي في حال (إلّا عملت به) أي اقتفاء بسنته الحميدة واقتداء بسيرته المجيدة (إنّي أخشى) أي أخاف خوفا عظيما (إن تركت شيئا من أمره) أي الذي كان عليه في دينه (أن أزيغ) أي أميل عن الحق والهدى وأقبل على موافقة النفس وموافقة الهوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 الباب الثاني [في لزوم محبته عليه الصلاة والسلام] (في لزوم محبته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في ذكر ما يؤذن بوجوب لزوم محبته لكل مكلف من أمته في لوازم ملته (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) أي أصولكم وفروعكم (وَإِخْوانُكُمْ) أي أمثالكم وأقرانكم (وَأَزْواجُكُمْ) أي أشباهكم من نسائكم ورجالكم (وَعَشِيرَتُكُمْ) وفي قراءة وعشيراتكم بصيغة الجمع أي جميع أقاربكم أو كل من تعاشرونه وتصاحبونه مأخوذ من العشرة (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) [التوبة: 24] أي اكتسبتموها من النقود والأجناس (الآية) وهي وتجارة تخشون كسادها أي تخافون قلة رواجها ونقصان نفاقها ونفادها ومساكن من البيوت والبساتين ترضونها يعجبكم سكونها أحب إليكم حبا اختياريا من الله ورسوله وجهاد في سبيله أي من حب الله ورسوله ومجاهدة في طاعته وعبادته فتربصوا أمر تهديد أي فانتظروا حتى يأتي الله بأمره أي بمحنة عاجلة أو نقمة آجلة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يرشد الخارجين عن محبة الله ومرضاته إلى موافقات نفوسهم وهوى متابعتها (فكفى بهذا) أي التهديد والوعيد الشديد (حضّا) أي تحريضا وحثا (وتنبيها) أي نبيها (ودلالة) أي واضحة (وحجّة) أي لائحة (على إلزام محبّته) أي إثبات مودته عليه الصلاة والسلام وفي نسخة على التزام محبته أي قبولها (ووجوب فرضها) أي ثبوت حتمها (وعظم خطرها) بكسر العين وفتح الظاء المعجمة أو بضم فسكون والخطر بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة أي القدر أي عظمة شأنها ورفعة قدرها (واستحقاقه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لها) أي للمحبة الكاملة (عليه الصلاة والسلام) أي الكامل التمام (إذ قرّع) بفتح قاف وتشديد راء أي لأنه وبخ (الله تعالى) أي ارتفع شأنه وسطع برهانه (من كان ماله) أي من تجارة ومساكن وغيرها (وأهله) أي ما له من الأرقاب عموما (وولده) أي وأولاده خصوصا (أحبّ إليه) أي إلى نفسه (من الله ورسوله) أي من رضاهما واتباع أمرهما (وأوعدهم) أي خوفهم (بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة: 24] أي بالذي أراد بكم من سوء في الدنيا أو العقبى أو فيهما جميعا (ثمّ فسّقهم) بتشديد السين أي نسبهم إلى الفسق (بتمام الآية) أي بما تتم الآية به في الدلالة وهو آخرها حيث قال وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (وأعلمهم) أي بطريق الكناية (أنّهم ممّن ضلّ) أي بخذلانه سبحانه وتعالى (ولم يهده الله تعالى) أي إلى برهانه وتحقيق إيمانه (حدّثنا أبو علي الغسّانيّ) بفتح الغين والمعجمة وتشديد المهملة (الحافظ) أي الجياني (فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 أجازنيه) أي من غير سماع منه ولا قراءة عليه (وهو) أي هذا المروي (ممّا قرأته على غير واحد) أي على كثير من المحدثين غيره ولعله خصصه بالرواية عنه لعلو سنده أو صحة نسبه (قال) أي الغساني (ثنا) أي حدثنا (سراج بن عبد الله القاضي ثنا) أي قال حدثنا (أبو محمّد الأصيليّ) بفتح فكسر (ثنا) أي حدثنا (المروزي) بفتح الميم والواو (ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) أي الفربري (ثنا) أي حدثنا (محمّد بن إسماعيل) أي البخاري صاحب الصحيح (ثنا) أي حدثنا (يعقوب بن إبراهيم) أي الدورقي البغدادي روى عنه أصحاب الكتب الستة وله مسند توفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين (ثنا) أي حدثنا (ابن عليّة) بالتصغير هو الإمام أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم بن القاسم المشهور بابن علية وهي أمه روى عنه أحمد وإسحاق وابن معين وجماعة إمام حجة أخرج له الستة (عن عبد العزيز بن صهيب) بالتصغير هو البناني الأعمى التابعي أخرج له الجماعة وقال أحمد ثقة (عن أنس رضي الله تعالى عنه) وكذا رواه مسلم والنسائي (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لا يؤمن أحدكم) الخطاب يشمل الموجودين ومن بعدهم من المولودين وفي رواية مسلم عبد وفي رواية غيرهما أحد أي لا يكمل إيمان أحد بدلالة رواية ابن حبان لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان والمعنى لا يعتد بإيمانه (حتّى أكون أحبّ) أي أشد حبا (إليه من ولده ووالده) أي خصوصا (والنّاس أجمعين) أي وسائر الخلق عموما حبا اختياريا يوجب اكراما له عليه الصلاة والسلام وإجلالا في مقام الاحترام* واعلم أن المراد بالحب هنا ليس الحب الطبيعي التابع لهوى النفس فإن محبة الإنسان لنفسه من حيث الطبع أشد من محبة غيره وكذا محبة ولده ووالده أشد من محبة غيرهما وهذا الحب ليس بداخل تحت اختيار الشخص بل خارج عن حد الاستطاعة فلا مؤاخذة به لقوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها بل المراد الحب العقلي الاختياري الذي هو ايثار ما يقتضي العقل رجحانه وإن كان على خلاف الطبع ألا ترى أن المريض يكره الدواء المر بطبعه ومع ذلك يميل إليه باختياره ويهوى تناوله بمقتضى عقله لما علم أو ظن صلاحه فيه وكذلك المؤمن إذا علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر ولا ينهى إلّا بما فيه صلاح دينه ودنياه وآخرته وعقباه وتيقن أنه عليه الصلاة والسلام أشفق الناس عليه وألطفهم إليه وحينئذ يرجح جانب أمره بمقتضى عقله على أمر غيره وهذا أول درجات الإيمان وأما كماله فهو أن يصير طبعه تابعا لعقله في حبه عليه الصلاة والسلام قيل ومن محبته نصر سنته والذب عن شريعته والاقتداء بسيرته (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحوه) مبتدأ مقدم الخبر والمعنى أنه روى عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه بمعناه وإن اختلف مبناه (وعن أنس رضي الله تعالى عنه عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) كما في الصحيحين (ثلاث) أي خصال ثلاث (من كنّ فيه) أي من وجدن واجتمعن في حقه (وجد) أي أدرك بنفسه (حلاوة الإيمان) أي في قلبه والتذ به كما يجد حلاوة العسل من تناوله غير أن الالتذاذ الأول عقلي روحاني والثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 حسي نفساني والجملة خبر أو صفة لثلاث (أن يكون الله تعالى ورسوله) بدل من ثلاث على الأول وخبره على الثاني أو خبر مبتدأ محذوف وهو هي أو هن أن يكون الله تعالى ورسوله عنده (أحبّ إليه ممّا سواهما) ولم يقل ممن سواهما لعموم ما والمعنى من كل شيء مما عداهما وفي تثنية ضميرهما هنا مع انكاره عليه الصلاة والسلام على خطيب ثناهما بقوله ومن يعصهما فقد غوى بقوله بئس الخطيب أنت قل وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إشارة إلى أن المعتبر في المحبتين هو مجموعهما لا كل واحدة بانفرادها ودلالة على أن كل واحد من العصيانين مستقل بلزوم الغواية له بشهادة العطف فإنه في تقدير التكرير وقيل إن الجامع هنا يجوز له ما يجوز لغيره وقيل إنما أنكره عليه لوقوفه على يعصهما ورد بقوله قل وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ويمكن دفعه بأن المراد بالأمر هو الابتداء به حين وقف عليه (وأن يحبّ المرء) أي الشخص أعم من الرجل والمرأة وأغرب الأنطاكي حيث توهم أن المرء مختص بالرجل وأتى بما لا يناسب المقام في تحصيل المرام (لا يحبّه) أي لشيء (إلّا لله وتعالى) أي لا لأمر آخر أي في مبتغاه وفيه إيماء إلى أن محبة رسول الله أيضا إنما هو لمحبة الله تعالى ورضاه (وأن يكره أن يعود في الكفر) لثبات إيمانه وكمال ايقانه (كما يكره أن يقذف في النّار) بصيغة المجهول أي يرمى في النار في هذه الدار وذلك لأن المرء لا يكمل إيمانه ولا يتحقق إيقانه حتى يعتقد أنه تعالى هو المنعم على الاطلاق في تقسيم الأرزاق والأخلاق لا مانح سواه ولا مانع ما عداه وأن النبي عليه الصلاة والسلام واسطة بيننا وبينه في ايصال المرام ساع بهدايته له في المرتبة والمقام لإصلاح شأنه ورفعة مكانه وذلك مشعر بوجوب تصحيح محبتهما وترجيح مودتهما (وعن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه) كما رواه البخاري (أنّه قال للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لأنت) أي والله لَأَنْتَ (أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا من نفسي) أي روحي (التي بين جنبيّ) صفة كاشفة أي التي في بدني وبها قوام أمري ونظام قدري ولذة حياتي الموجبة لكراهة مماتي وهذا جري منه بناء على صدق مقامه وحسن مرامه حيث ظن أن المراد بمحبته عليه الصلاة والسلام هو الحب الطبيعي في هذا المقام (فقال له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لن يؤمن أحدكم) أي إيمانا كاملا (حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه) أي حبا اختياريا يوجب اختيار محبة رسول الله ورضاه على محبة المخلوقين مما سواه لقوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وقوله تعالى وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فلما تفطن لهذا المعنى من هذا المبنى (فَقَالَ عُمَرُ وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ فقال له النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الآن يا عمر) أي في هذا الزمان قد استقمت إيمانا وتكملت ايقانا ولا يبعد أن يكون الاستفهام مقدرا ابطاء لهذا الأمر الذي وجب أن يكون من أول الوهلة مقررا (قال سهل) أي ابن عبد الله التستري رحمه الله تعالى (من لم ير ولاية الرّسول) أي أمره وحكمه (عليه) أي جاريا على نفسه (في جميع الأحوال) وفي نسخة صحيحة في جميع أحواله أي من أفعاله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وأقواله (ويرى نفسه في ملكه) بكسر الميم أي في تصرف نفسه وتدبير أمره وإماما في بعض النسخ من زيادة عليه الصلاة والسلام بعد قوله ملكه فلا يصح نعم لو وجد يرى مجزوما لكان له وجه (لا يذوق حلاوة سنّته) أي طراوة سيرته (لأنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لا يؤمن أحدكم) أي إيمانا كاملا (حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ الْحَدِيثَ) أي إلى آخره فهو مجرور أو منصوب بتقدير أعني ونحوه أو مرفوع أي تمام الحديث سبق وهو قوله وماله وولده والناس أجمعين. فصل [في ثواب محبته صلى الله تعالى عليه وسلم] (في ثواب محبته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مما يرجوه محبه في الدنيا ويأمله في دار العقبى (حدّثنا أبو محمد بن عتّاب) بتشديد الفوقية (بقراءتي عليه ثنا) أي حدثنا (أبو القاسم حاتم) بكسر التاء (ابن محمد ثنا) أي حدثنا (أبو الحسن عليّ بن خلف) بفتحتين وهو الحافظ القابسي (ثنا) أي حدثنا (أبو زيد المروزيّ) تقدم (ثنا) أي حدثنا (محمّد بن يوسف) أي الفربري (ثنا) أي حدثنا (محمّد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري (ثنا) أي حدثنا (عبدان) هو عبد الله بن عثمان (ثنا) أي حدثنا (أبي) أي أبوه عثمان بن جبلة بن أبي داود العتكي المروزي أخرج له الشيخان (حدّثنا) أي حدثنا (شعبة) وهو إمام جليل (عن عمرو بن مرّة) أحد الأعلام وكان من الأئمة العاملين الكرام روى عن ابن أبي أوفى وابن المسيب وجماعة وعنه سفيان وغيره قال ابن أبي حاتم ثقة يرى الأرجاء أخرج له الستة (عن سالم بن أبي الجعد) تابعي جليل (عن أنس رضي الله تعالى عنه) لا يخفى أن هذه الطريق التي أخرجها القاضي عن البخاري هي في الأدب من جملة الصحيح وأخرجه من طريق أخرى في الأحكام أيضا وأخرجه مسلم في الأدب وليس لسالم بن أبي الجعد في الكتب الستة عن أنس رضي الله تعالى عنه غير هذا الحديث (أن رجلا) قيل هو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقيل أبو موسى أو أبو ذر وقيل غيرهم والله تعالى أعلم (أتى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فقال متى السّاعة) أي القيامة أو ساعة القيامة وحالة الندامة والملامة (يا رسول الله) كأنه أظهر الشوق إليها والذوق لديها (قال ما أعددت لها) أي ما أعددت لما يصيبك من أهوالها وشدائد أحوالها (قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ ولا صوم ولا صدقة) من فيها زائدة للمبالغة والمراد بها العبادات النافلة (ولكنّي أحبّ الله ورسوله) أي أطيعهما فيما يوجب رضاهما من الفرائض وهذا زبدة معنى قول صاحب البردة «ولم أصل سوى فرض ولم أصم» أي سوى فرض (قال أنت مع من أحببت) وفيه إيماء إلى أن دعوى المحبة مع مجرد الإطاعة الواجبة كافية وللمعية في الجملة دلالة صحيحة وافية وأما دعوى المحبة مع ارتكاب المعصية فمذمومة وأصحابها على هذا الادعاء مذؤومة ثم لما كثرت المتابعة زادت المحبة وكملت المعية حتى وصلت إلى هذه المرتبة العينية والحالة الجمعية (وعن صفوان بن قدامة رضي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 تعالى عنه) بضم القاف قال الذهبي روى عنه ابنه عبد الرحمن ولهما صحبة وقيل هو تابعي ولأبيه صفوان صحبة (قال هاجرت إلى النّبيّ صلى الّله تعالى عليه وسلم) أي وهو في المدينة السكينة (فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَاوِلْنِي يَدَكَ أبايعك) بالجزم على جواب الأمر ويجوز رفعه على الاستئناف (فناولني يده) فبايعته (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّكَ قَالَ المرء مع من أحبّ) أجاب بحكم عام شامل تام وفيه إشارة إلى أن المعية على قدر والمحبة الموجبة للطاعة والحديث رواه الترمذي والنسائي عن صفوان بن قدامة (وروى هذا اللّفظ) أي في هذا الحديث (عن النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو موسى وأنس) رضي الله تعالى عنهم (وعن أبي ذرّ رضي الله تعالى عنه بمعناه) أي بدون هذا اللفظ ومبناه وفي الجامع الصغير المرء مع من أحب رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه وفي الصحيحين عن ابن مسعود في رواية الترمذي المرء مع من أحب وله ما اكتسب وفي هذه الزيادة إشارة إلى أن قرب المعية على قدر كسب الجمعية كما يشير إليه قوله تَعَالَى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ كما يومي إليه البيان بالأنبياء وغيرهم فالناقص في الصلاح مع محبة أكمل الصالحين يحشر معهم كما قيل: أحب الصالحين ولست منهم ... لعلي أن أنال بهم شفاعه وأكره من بضاعته المعاصي ... ولو كنا سواء في البضاعه وعلى هذا القياس في الصديقين والشهداء وأما العلماء فهم ورثة الأنبياء (وعن عليّ كرم الله وجهه) كما رواه الترمذي (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين رضي الله عنهما) الظاهر أن أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله (فقال: من أحبّني) أي الله تعالى (وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما) أي لأجلي أو لذواتهم المشتملة على حسن صفاتهم (كان معي) أي مقربا عندي (في درجتي) أي في جواري في الجنة أو في درجة أهل بيتي لما سبق من أن المرء مع من أحب (يوم القيامة) وكذا فيما بعده حال دخول الجنة (وروي) أي رواه الطبراني وابن مردويه عن عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم (أنّ رجلا) قال البغوي في تفسيره إن الآية الآتية نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن النقاش أنها نزلت في عبد الله بن زيد بن عبد ربه (أتى النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي وَإِنِّي لَأَذْكُرُكَ فما أصبر) أي عنك رؤية (حتّى أجيء) أي أحضر لديك (فأنظر إليك) أي لتقر عيني ويسكن قلبي (وإنّي ذكرت مؤتي وموتك) أي أنه لا بد من وقوعهما معا أو متعاقبا (فَعَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النّبيّين) أي المرسلين (وإن دخلتها) أي بالفرض والتقدير (لا أراك) أي لأن أحدا لا يكون مع الأنبياء سواك فأكون محروما عن رؤية طلعتك هناك فتصير جنة النعيم في نظري حينئذ كنار الجحيم (فأنزل الله تعالى) أي تسلية للعشاق عن حصول الفراق (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 يحبهما ويتبع أمرهما (فَأُولئِكَ) أي المحبون لأحبائي والمشتاقون لأوليائي (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي بنعمة المعية والقربة في المرتبة الجمعية (مِنَ النَّبِيِّينَ) أعم من المرسلين (وَالصِّدِّيقِينَ) أي المبالغين في الصدق والتصديق والكاملين في مقام اليقين والتحقيق (وَالشُّهَداءِ) أي بسيف المجاهدة وسلاح المحاربة في طريق العبادة (وَالصَّالِحِينَ ) أي القائمين بحقوق الله وحقوق خلقه (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء: 69] أي ما أحسنهم رفيقا وفقنا الله إلى كمال متابعتهم وجمال محبتهم توفيقا (فدعا به) أي نادى الرجل الذي شكاه (فقرأها عليه) وشفاه مما كان خائفا أنه على شفاه (وفي حديث آخر) لا يعرف مخرجه (كان رجل عند النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ينظر إليه) أي إلى وجهه صلى الله تعالى عليه وسلم (لا يطرق) بكسر الراء وفي نسخة ما يطرف أي لا يغض بصره لديه (قال ما بالك) أي شأنك وحالك (قال) وفي نسخة فقال (بأبي أنت وأمي) أي أفديك بهما (اتمتّع من النّظر) ويروى بالنظر (إليك) أي في الدنيا (فإذا كان يوم القيامة رفعك الله تعالى) في أعلى الدرجة (بتفضيله) أي بسبب تفضيله سبحانه وتعالى إياك على من سواك فحينئذ بالضرورة لا أراك (فأنزل الله الآية) أي الماضية تسلية لما سيأتي من الأحوال الآتية (وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه) كما رواه الأصفهاني في ترغيبه (أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال من أحبّني كان معي في الجنّة) أي وإن تفاوتت الدرجة على تفاوت مراتب المحبة المقتضية لحسن الطاعة على وفق المتابعة. فصل [فِيمَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِمْ للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم] (فيما روي عن السلف) أي الصحابة والتابعين (والأئمة) أي من الخلف في أمر الدين من المجتهدين (من محبتهم للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وشوقهم له) أي اشتياقهم إلى رؤيته ووصولهم إلى قرب درجته (حدّثنا) وفي نسخة قال حدثنا (القاضي الشّهيد) هو ابن سكرة (ثنا) أي حدثنا (العذريّ) بضم العين وسكون الذال المعجمة (حدّثنا الرّازيّ ثنا) أي حدثنا (الجلودي) بضم الجيم (ثنا) أي حدثنا (ابن سفيان) وهو إبراهيم بن محمد بن سفيان راوي صحيح مسلم عنه (حدّثنا) أي حدثنا (مسلم) أي صاحب الصحيح (حدّثنا) أي حدثنا (قتيبة) بالتصغير لقبه وهو ابن سعيد واختلف في اسمه (ثنا) أي حدثنا (يعقوب بن عبد الرّحمن) هذا هو القارىء بتشديد الياء المدني نزيل الإسكندرية (عن سهيل) بالتصغير وفي نسخة سهل (عن أبيه) أبوه هو أبو صالح السمان واسمه ذكوان (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال من أشد أمتي) وفي نسخة من أشد الناس (لي حبّا ناس) أي جماعة وهو مبتدأ خبره الجار والمجرور المتقدم ونعته (يكونون بعدي) أي يولدون بعد حياتي ويوجدون بعد وفاتي (يودّ أحدهم) أي يتمنى (لو رآني) أي أن يبصرني (بأهله وماله) أي بدلهما (وتقدم مثله عن أبي ذرّ) وفي نسخة وقد تقدم حديث عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 رضي الله تعالى عنه أي في هذا المعني (وقوله) أي في آخر المبنى (للنبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي) أي روحي (وما تقدّم من الصّحابة في مثله) أي في مثل هذا ورد كثيرا (وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) وفي نسخة العاصي بالياء والأول هو الصواب كما ذكرنا تحقيقه فيما سبق من شرح الكتاب (ما كان أحد) أي من الخلق (أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ عَبْدَةَ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ معدان) المعروف عبدة بنت خالد بن صفوان روت عن أبيها ذكرها ابن حبان في ثقاته فالسهو إما من الكتاب أو من صاحب الكتاب والله أعلم بالصواب (قَالَتْ مَا كَانَ خَالِدٌ يَأْوِي إِلَى فِرَاشٍ) أي مرقد له (إِلَّا وَهُوَ يَذْكُرُ مِنْ شَوْقِهِ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي إلى رؤيته (وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار) أي الذين سبقوه (يسمّيهم) أي يذكرهم بأسمائهم واحدا بعد واحد (ويقول هم) أي جميعهم ويروى منهم (أصلي) أي في أصول الدين (وفصلي) أي وفرعي في فرع المجتهدين أو معناهما حسبي ونسبي وقيل الأصل الوالد والفصل المولود والمعنى أن كبارهم وصغارهم بمنزلة آبائي وأولادي وأما ما نقله الحلبي عن الجوهري أن الكسائي قال قولهم لا أصل له ولا فصل الأصل الحسب والفصل كاللسان فلا يظهر وجهه كما لا يخفى على أهل البيان (وإليهم يحنّ قلبي) بكسر الحاء أي يميل (طال شوقي إليهم فعجّل ربّ قبضي) أي قبض روحي (إليك) أي إلى رحمتك (حتّى) أي يكرر الجملة الأخيرة أو الجمل كلها حتى (يغلبه النّوم) فموت الأقران موجب الأحزان (وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه) وفي نسخة وروي عن أبي بكر كما رواه ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه (أنّه قال للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم والّذي بعثك بالحقّ) أي أرسلك إلى الخلق (لإسلام أبي طالب كان أقرّ لعيني) أي أشد سرورا عندي (من إسلامه يعني أباه) عثمان بن عامر رضي الله تعالى عنه (أبا قحافة) بضم القاف عاش بعد ابنه وخصه من تركة أبي بكر رضي الله تعالى عنه السدس فرده في أولاده وتوفي سنة أربع عشرة (وذلك) أي قال وسبب ذلك (أَنَّ إِسْلَامَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ أَقَرَّ لِعَيْنِكَ) يعني والله غالب على أمره ولعله قال ذلك حين نزل قوله تَعَالَى إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أو حين أسلم أبوه عام الفتح وهناه النبي عليه الصلاة والسلام (ونحوه عن عمر رضي الله تعالى عنه) أي نظير حديث أبي بكر ما رواه البيهقي والبزار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (أنه قال) أي قال نحو حديث الصديق (للعبّاس) أي تسلية وترغيبا له في الإسلام أن قال قبل إسلامه أو تهنئة له وترحيبا به إن كان بعده (أن تسلم) بفتح الهمزة على أن أن مصدرية أي إسلامك (أحب إلي) أي بالحب الشرعي (من إسلام الخطاب) أي لو وجد فرضا (لأنّ ذلك) أي إسلامك (أحبّ إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بحسب ميله الطبيعي ورجح الدلجي كون إن بكسر الهمزة شرطية وهو بعيد رواية ودراية (وعن ابن إسحاق) أي إمام المغازي وكذا عن البيهقي عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 مرسلا (أنّ امرأة من الأنصار) أي من بني دينار كما في رواية ابن إسحاق (قتل أبوها وأخوها وزوجها) أي في سبيل الله تعالى (يوم أحد) أي زمن وقعته (مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في قتال كفار قريش وكسر المسلمين وانهزام بعض المؤمنين واستشهاد طائفة من الموقنين وإشاعة قتل سيد المرسلين على لسان المشركين والمنافقين (فَقَالَتْ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) بصيغة الفاعل ويجوز كونه للمفعول أي ما جرى له وكيف حاله (قالوا خيرا) أي فعل خيرا وفي نسخة بخير أي هو بخير في بدنه وسالم من عدوه (هو) وفي نسخة وهو (بحمد الله كما تحبّين) أي من الصحة والعافية (قالت) أي لبعض أصحابه (أرنيه حتّى أنظر إليه) أي ليطمئن قلبي لديه وفي نسخة صحيحة أرونيه بصيغة الجمع فأروه (فلمّا رأته قالت كلّ مصيبة) أي من قتل أب وأخ وزوج وغيرهم (بعدك) أي بعد سلامتك أو غير مصيبتك (جلل) بفتح الجيم واللام الأولى أي هين وجاء في رواية ابن إسحاق مفسرا تريد صغيرة أي هينة حقيرة لا شاقة كبيرة (وسئل عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه) لا يدري مخرجه (كيف كان حبّكم) أي معشر الصحابة أو جماعة أهل البيت (لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال) أي علي رضي الله تعالى عنه (كان) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (والله) قسم معترض (أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ أَمْوَالِنَا وَأَوْلَادِنَا وَآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا ومن الماء البارد على الظّمإ) بفتحتين مقصورا ويجوز مده وهو شدة العطش وفي إعادة الجار إشعار بأنه أشد نفعا لأنه روح الروح وإيماء إلى أنه أحب إليهم من أرواحهم (وعن زيد بن أسلم رحمه الله) أي الفقيه العمري تابعي جليل روى عن ابن عمر وجابر وعنه مالك وغيره أخرج له أصحاب الكتب الستة والحديث رواه عنه ابن المبارك في الزهد (خرج عمر رضي الله تعالى عنه ليلة يحرس النّاس) أي يحفظهم بمراعاته ويتخبر عن أحوالهم على عادته في أيام خلافته (فرأى مصباحا) أي سراجا (في بيت) أي فقصده (وإذا عجوز تنفش) أي تندف (صوفا) وهو بضم الفاء والشين المعجمة من النفش وهو تفريق الشيء بأصابعك حتى ينتشر كالتنفيش (وتقول) أي وهي تنشد رجزا (على محمّد صلاة الأبرار) جمع بر أو بار والمراد بالصلاة هنا تعظيمهم له في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار أمره وفي الآخرة بتضعيف أجره ورفعة قدره (صلّى عليه الطّيّبون الأخيار) جمع خير بالتشديد والتخفيف (قد كنت) أي أنت (قوّاما) أي كثير القيام للعبادة وفي رواية صواما وجعله الدلجي أصلا أي كثير الصيام للرياضة (بكا) بضم الموحدة مقصورا منونا لغة في الممدود أي ذو بكاء أو أريد به المبالغة كرجل عدل يعني كثرة بكائه كأنه عين البكاء وهذا المعنى انسب لمقابلة ما قبله وقد أغرب الدلجي بقوله قصر لضرورة الوزن وأصله بفتحها ممدودا مشدد الكاف مبالغة في كثرة البكاء ولا يخفى وجه غرابته في المبنى وقيل البكاء يرفع الصوت ممدود والدمع بلا صوت مقصور وأما ما وقع في بعض النسخ المقروءة بكاء بتشديد الكاف وبالمد والتنوين فهو مستقيم معنى ولكنه سقيم وزنا ومبنى وكذا ما في نسخة من ضبطه بالتشديد منونا بدون مد وهو الذي ذهب إليه الدلجي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وقال الانطاكي وفي بعضها بكاء بالتخفيف فإن المشدد قد يخفف للوزن انتهى والصواب ما قدمناه كما لا يخفى (بالأسحار) ايماء إلى قوله تعالى وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ وإشارة إلى وصية لقمان لابنه يا بني لا يكن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم أي غافل عن البكاء والاستغفار (يا ليت شعري) أي أتمنى علمي وشعوري بغيبتي وحضوري (والمنايا أطوار) أي تارات جملة حالية بين المعمولين اعتراضية أفادت بها أن ما يحول بين المرء ومتمناه حالات شتى مختلفة بحسب تفاوتها في أطوار الموت وأسرار الفوت فإن المنايا جمع منية وهي الموت من منى الله عليك أي قدر ومن ثمه سمي منية لأنه مقدر بوقت معين وقد ورد أن منشدا أنشد للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني فالخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان فقال صلى الله عليه وسلم لو أدرك قائل هذا الإسلام لأسلم والمعنى حتى تلاقي ما قدر لك المقدر وهو الله سبحانه تعالى وهي تريد والله أعلم لأن المنية تارة تأخذ الكرام وأخرى تبيد اللئام والمعنى ليت علمي حاضر أعلم به (هل تجمعني) بفتح الميم وضم العين وتخفيف النون وفي نسخة بفتح العين وتشديد ما بعدها (وحبيبي) بفتح الياء لغة لا كما قال الأنطاكي ضرورة (الدّار) يعني أم يحولن بيني وبينه المزار (تعني) أي المرأة بقولها حبيبي (النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) وبقولها الدار الجنة دار القرار (فجلس عمر رضي الله تعالى عنه يبكي) أي للاشتياق أو للفراق أو الافتراق (وفي الحكاية طول) أي ليس هذا مقام ايرادها (وروي) أي في عمل اليوم والليلة لابن السني (أنّ عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما خدرت رجله) بفتح معجمة وكسر مهملة أي فترت عن الحركة وضعفت باجتماع عصبها من جهة كسل وفتور أصابها كأنها رجل ناعس ولم يذهب ما بها (فَقِيلَ لَهُ اذْكُرْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْكَ يَزُلْ عنك) بضم الزاء أي يزول عنك هذا الانقباض بسبب ما يترتب على ذكر المحبوب من الانبساط (فصاح) أي فنادى بأعلى صوته (يا محمّداه) بسكون الهاء للندبة وكأنه رضي الله تعالى عنه قصد به اظهار المحبة في ضمن الاستغاثة (فانتشرت) أي رجله في الفور (ولمّا احتضر بلال رضي الله تعالى عنه) بصيغة المفعول أي حضرته الوفاة وقاربه الممات (نادت امرأته) وهي صحابية على ما ذكره الذهبي في آخر النساء من التجريد ما لفظه زوجة بلال أتاها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسأل عن بلال اثمه بلال (واحزناه) بضم حاء فسكون زاء ويجوز فتحهما وتصحف على الدلجي وضبط بفتح الحاء والراء وبالموحدة بدل النون قال وهو في الأصل النهب والسلب فكأنها لفجعها وحزنها بموته قد نهبت وسلبت (فقال) أي بلال (واطرباه) أي فرحاه وهو يؤيد ما قدمناه معنى وإن كان أنسب لما قاله الدلجي مبنى وفي نسخة بل وأطرباه بصريح الاضراب للابطال ثم رجز مناسبا للحال واستدلالا لذلك المقال (ألقى غدا) ويروى نلقى (الأحبة) بالهاء وقفا (محمّدا وصحبه) وفي نسخة صحيحة وحزبه وقد روي عن عمار أيضا أنه قال بصفين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 الآن ألقى الأحبة ... محمدا ثم حزبه (ويروى أنّ امرأة) وفي نسخة ويروى عن امرأة وفي حاشية الحلبي أن امرأة هاشم قال ولا أعرفها (قالت لعائشة رضي الله تعالى عنها اكشفي لي) أي بيني لي وأريني (قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكشفته لها) أي بكشف الستارة عنه لأجلها (فبكت حتّى ماتت) أي حزنا على فراقه أو شوقا إلى لقائه (ولمّا أخرج أهل مكّة) أي كفارهم كما رواه البيهقي عن عروة (زيد بن الدّثنة) بدال مهملة مفتوحة فمثلثة مكسورة وتسكن فنون مفتوحة مخففة فهاء تأنيث بياضي خزرجي بدري أحدي (من الحرم) متعلق بأخرج (ليقتلوه) أي صبرا وكان قد أسر مع خبيب يوم الرجيع فباعوهما بمكة (قال له) أي لزيد (أبو سفيان بن حرب) أي ابن أمية وهو أبو معاوية أسلم عام الفتح وهذا الكلام قبل الإسلام (أنشدك الله تعالى) بضم الشين أي اسألك الله واذكرك به أو أقسم عليك به وفي نسخة صحيحة أنشدك بالله (يَا زَيْدُ أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الْآنَ عِنْدَنَا مكانك) أي يكون في مكانك ومهانتك (يضرب عنقه) بصيغة المجهول والعنق بضمتين وبضم فسكون وكصرد الجيد ويؤنث (وأنّك) وفي نسخة وأنت (في أهلك) أي والحال أنك تكون فيما بين أهلك وطول أملك (فَقَالَ زَيْدٌ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الآن في مكانه الّذي هو فيه) أي مع كمال أمنه وعزته (تصيبه شوكة) أي فضلا عن أن يصيبه محنة فوقها (وإنّي) وفي نسخة وأنا (جالس في أهلي) ولعله ذكره لمقابلة كلام أبي سفيان لا أنه حال مقيدة في هذا الشأن بل الأنسب للمبالغة أن يقول وأنا في هذه الحال فكيف إذا كنت فيما بين أهلي ومالي من المنال والمعنى أن ما أصابني في طريقه من المحنة لم ينقص لي شيئا في حقه من المحبة (فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أحدا) أي من الأتباع (يحبّ أحدا) أي من المتبوعين (كحبّ أصحاب محمّد محمّدا) أي احتراما مؤكدا واحتشاما مؤبدا قال الحلبي ما ذكره القاضي قاله ابن إسحاق ونقل أبو الفتح اليعمري في سيرته الكبيرة ذلك عن ابن إسحاق وذكر عن ابن عقبة أن الذي قيل له اتحب أن محمدا مكانك هو خبيب بن عدي حين رفع على الخشبة فقال لا والله فضحكوا منه انتهى ولا منع من الجمع كما لا يخفى (وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) فيما رواه ابن جرير والبزار عنه (قال كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي مهاجرة إليه في المدينة السكينة (حلّفها بالله ما خرجت) أي هي من أرضها إليه (من بغض زوج) أي من أجل كراهة زوج لها (ولا رغبة) بالنصب عطفا على محل الجار والمجرور والمراد بها العلة وبالجر عطفا على المجرور أي ولا من أجل الميل (بأرض) أي في بلدة (عن أرض) أي انصرافا عن بلدة لقلة رغبة فيها (وما خرجت) أي عن أرضها (إِلَّا حُبًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَوَقَفَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما) فيما رواه ابن سعد (على ابن الزّبير) أي عند جذعه الذي صلبه عليه الحجاج بالمعلاة (بعد قتله) أي عند البيت (فاستغفر) أي ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (له) أي لابن الزبير (وقال كنت والله) وفي نسخة والله كنت (فيما علمت) وفي نسخة ما علمت أي مدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 علمي بك (صوّاما قوّاما) أي كثير الصيام والقيام (تحبّ الله ورسوله) صلى الله تعالى عليه وسلم. فصل [في علامات محبته صلى الله تعالى عليه وسلم] (في علامة محبته صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي أصل الدلجي في علامة حبه على أنه مصدر مضاف إلى معموله أي يذكر فيه ما يؤذن بحب غيره له (اعلم أنّه) وفي نسخة أن (من أحبّ شيئا آثره) بالمد أي اختاره على نفسه (وآثر موافقته) على مخالفته (وإلّا) أي وإن لم يؤثرها (لم يكن صادقا في حبّه) أي في مودته (وكان مدّعيا) أي في محبته وكان كما قيل وكل يدعي وصلا بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا (فالصّادق في حبّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَظْهَرُ عَلَامَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ) أي دلالة الحب لديه (وأوّلها) أي أول علاماته وأسبق دلالاته (الاقتداء به) أي في ملته (واستعمال سنّته) أي في طريقته (واتّباع أقواله وأفعاله) أي في جميع أحواله (وامتثال أوامره) أي وجوبا وندبا (واجتناب نواهيه) أي حرمة وكراهة (والتّأدّب بآدابه) أي في جميع أبوابه من مكارم شمائله ومحاسن فضائله (في عسره ويسره) أي في وقت ضره وشكره على صعوبة أمره وسهولته ومحنته ونعمته وجوعه وشبعه وبلائه ورخائه وقبضه وبسطه ومحوه وصحوه وفنائه وبقائه (ومنشطه ومكرهه) بفتح أولهما وثالثهما مصدران بمعنى النشاط والكراهة أو اسما زمان أي في حال سعته وضيقه أو حال رضاه وغضبه أو وقت فرحه وحزنه أو زمن انشراح صدره أو انقباض أمره (وشاهد هذا) أي دليل ما ذكر كله (قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) أي تريدون طاعته أو تدعون محبته (فَاتَّبِعُونِي) أي في طريقته (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] يثبكم عليه ويقربكم إليه وتمامه قوله تعالى وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي يتجاوز عما فرط من عيوبكم (وإيثار ما شرعه) أي وشاهده أيضا تقديم ما أظهره واختيار ما بينه من وجوب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح ونحوه (وحضّ عليه) أي وإيثار ما حث وحرض على فعله أو تركه (على هوى نفسه) أي على ما تميل إليه نفس المحب (وموافقة شهوته قال الله تعالى) أي في مدح الأنصار من جهة الإيثار الذي هو في الجملة من شين الأبرار وسمة الأحرار (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) أي اتخذوا المدينة منزلا والإيمان منزلة ومحملا والمعنى لزموهما ولم يفارقوهما (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل نزول المهاجرين عليهم (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) ولا يثقل أحد من قريش ولا غيرهم عليه و (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ) كذا في النسخ المصححة وفق الآية ووقع في أصل الدلجي في أنفسهم فقال صوابه في صدورهم (حاجَةً) أي حزازة (مِمَّا أُوتُوا) أي لم يخطر ببالهم ما تطمح به نفوسهم إلى ما أعطي المهاجرون وغيرهم من فيء وغيره (وَيُؤْثِرُونَ) أي يقدمون المهاجرين وغيرهم (عَلى أَنْفُسِهِمْ) في محبة الله ورسوله (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 [الحشر: 9] أي مجاعة وشدة حاجة حتى أن من كان عنده داران أو بستانان ترك أحسنهما للمهاجرين ومن كان عنده امرأتان نزل عن إحدى زوجتيه التي كانت أكرمهما لديه وزوجها بأحدهم بين يديه هذا وسبب نزول الآية أنه عليه الصلاة والسلام قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلّا ثلاثة محاويج أبا دجانة سماك بن خراشة وسهل ابن حنيف والحارث بن الصمة وقال لبقية الأنصار إن شئتم شركتكم في هذا الفيء معهم وقسمتم لهم من دياركم وأموالكم وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولا تأخذوا منه شيئا فقالوا بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالفيء علينا ولا نشاركهم فيه أصلا (وإسخاط العباد) أي وشاهدوا أيضا إسخاط العباد (في رضى الله تعالى) أي في تحصيل رضاه فمن ارضاه تعالى بسخط عباده رضي عنه وأرضى عنه العباد ومن أرضاهم بسخطه سخط عليه وأسخطهم عليه كما ورد به حديث هذا مبناه أو معناه (حدّثنا القاضي أبو عليّ الحافظ) وهو ابن سكرة (ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَبُو الْحُسَيْنِ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ خيرون) بخاء معجمة مفتوحة وتحتية ساكنة وراء مضمومة وهو غير منصرف في النسخ المصححة (قالا) أي كلاهما (ثنا) أي حدثنا (أبو يعلى البغداديّ) ويقال له ابن زوج الحرة (ثنا) أي حدثنا (أبو عليّ السّنجي) بكسر السين وسكون النون والجيم (ثنا) أي حدثنا (محمّد بن محبوب) ويروى أحمد بن محبوب (ثنا) أي حدثنا (أبو عيسى) أي الترمذي الإمام (ثنا) أي حدثنا (مسلم بن حاتم) أي الأنصاري إمام جامع البصرة وثقه الترمذي وغيره (ثنا) أي حدثنا (محمّد بن عبد الله الأنصاري) قاضي البصرة يروي عن حميد وابن عوف وطبقتهما وعنه البخاري وأحمد وابن معين وخلائق أخرج له الأئمة الستة (عن أبيه) أي عبد الله بن المثنى ابن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري يروي عن عمومته والحسن وجماعة وعنه طائفة قال أبو حاتم صالح ووثقه وغيره وقال النسائي ليس بالقوي وقال أبو داود لا أخرج حديثه لكن أخرج له البخاري والترمذي وابن ماجه (عن عليّ بن زيد) أي ابن جدعان التيمي البصري الضرير تابعي أحد الحافظ وليس بالثبت وقال منصور بن زادان لما مات الحسن قلنا لابن جدعان اجلس مجلسه أخرج له مسلم متابعة (عن سعيد بن المسيّب) تقدم ذكره (قَالَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يا بنيّ) بكسر الياء المشددة وفتحها لغتان وقراءتان متواترتان وهو تصغير شفقة (إن قدرت أن تصبح وتمسي) أي تدخل في الصباح والمساء أو يمر عليك النهار والليل (ليس في قلبك غشّ) أي حقد وحسد (لأحد) أي من المسلمين جملة حالية معترضة (فافعل) أي كن ثابتا على هذا العمل فإن من غشنا فليس منا على ما ورد (ثمّ قال لي: يا بنيّ وذلك) أي هذا المقام (من سنّتي) أي من طريقتي (ومن أحيا سنّتي) أي بالعمل بها أو بانتشارها في تعلمها وتعليمها ويروى ومن أحب سنتي (فقد أحبّني) أي بالغ في حبي (ومن أحبّني) أي بالمبالغة (كان معي في الجنّة) أي في درجة أرباب المحبة وأصحاب القربة (فمن اتّصف بهذه الصّفة) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 الظاهر بهذه الصفات التي هي علامات المحبة أو المراد بهذه الصفة إحياء السنة وأمثالها من أنواع الموافقة والمتابعة الصادقة (فهو كامل المحبّة لله تعالى) أي أصالة (ولرسوله) أي تبعا (ومن خالفها) أي هذه الصفات (في بعض هذه الأمور) أي المذكورة (فهو ناقص المحبّة ولا يخرج) أي ولكن لا يخرج مع هذا (عن اسمها) أي عن اسم المحبة فيجوز إطلاق المحب عليه في الجملة (ودليله) أي ودليل عدم خروج ناقص المحبة عن أصل المحبة (قوله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما في حديث البخاري عن عمر رضي الله تعالى عنه (للّذي حدّه في الخمر) أي لأجله وفي حقه وهو عبد الله الملقب بالحمار كذا وقع في صحيح البخاري وهو صاحب مزاح كان يهدي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويضحكه (فلعنه بعضهم) وفي صحيح البخاري فقال بعض القوم أخزاك الله تعالى قال بعض الحفاظ القائل به هو عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه رواه البيهقي وفي رواية له فقال رجل من القوم اللهم العنه (وقال) أي ذلك البعض تعليلا لطعنه ولعنه (مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ ورسوله) وفي كلام الدمياطي في حواشيه على البخاري أن هذا وهم منه فإن صاحب القصة نعيمان تصغير نعمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن غنم بن مالك بن النجار شهد العقبة مع السبعين وبدرا واحدا والخندق وسائر المشاهد وأتي به في شرب الخمر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فجلده أربعا أو خمسا فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يشرب وأكثر ما يجلد فقال عليه الصلاة والسلام لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله وكان صاحب مزاح انتهى وقال الواقدي بقي نعيمان حتى توفي أيام معاوية وكان كثير المزاح يضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من مزاحه انتهى ومما يحكى عن نعيمان هذا أنه كان لا يدخل في المدينة طرفة أو تحفة إلّا اشترى وجاء بها إليه صلى الله تعالى عليه وسلم ويقول أهديته لك فإذا جاء صاحبه يطالبه بثمنه جاء به إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال يا رسول الله أعطه ثمن متاعه فيقول النبي عليه الصلاة والسلام أو لم تهده فيقول يا رسول الله لم يكن والله عندي ثمنه وأحببت أن تأكله فيضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه وفي هذا الحديث بشارة عظيمة وإشارة جسيمة لعصاة المؤمنين وحجة واضحة وبينة لائحة لأهل السنة والجماعة على الخوارج والمعتزلة حيث قالوا يكفر من فعل كبيرة أو هي مخرجة له من الإيمان ولا تدخله في الكفر فيثبتون لصاحبها منزلة بين المنزلتين ويقولون بتخليده في النار (ومن علامات محبّة النبيّ) أي محبته للنبي (صلى الله تعالى عليه وسلم كثرة ذكره له) أي في الحالات والأوقات (فمن أحبّ شيئا أكثر من ذكره) أي وصرف إليه غالب فكره وقوله من أحب شيئا أكثر من ذكره حديث رواه الديلمي في مسند الفردوس عن عائشة رضي الله تعالى عنها (ومنها) أي من علامات محبته عليه عليه الصلاة والسلام (كثرة شوقه إلى لقائه) أي إلى مشاهدة طلعة ذاته في دار بقائه (فكلّ حبيب) أي محب (يحبّ لقاء حبيبه) أي محبوبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 والجملة كالعلة لما قبلها (وفي حديث الأشعريّين) أي أبي موسى وأصحابه (عند قدومهم المدينة) أي من اليمن أو الحبشة (أنّهم كانوا يرتجزون) أي يقولون هذا الرجز قبل حصول الصحبة ووصول القربة (غدا نلقى الأحبّة) جمع حبيب فعيل بمعنى مفعول (محمدا وصحبه) ويروى وحزبه والمراد بالرجز هنا الشعر الذي يشبه الرجز إذ ليس هذا من بحر الرجز المعروف فإنه بفتحتين ضرب من الشعر وزنه مستفعلن ست مرات سمي لتقارب أجزائه وقلة حروفه وزعم الخليل أنه ليس بشعر وإنما هو انصاف من أبيات وأثلاث (وتقدّم قول بلال) أي انشاده هذا الرجز عند موته شوقا إلى لقائه (ومثله قال عمّار قبل قتله) وفي نسخة وكما قال عمار أي ابن ياسر أبو اليقظان العبسي من السابقين المعذبين في الله البدريين وكان معذبا بالنار في أيدي المشركين وكان عليه الصلاة والسلام يمر به فيمر يده عليه ويقول يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم روى عنه علي وابن عباس وغيرهما قتل بصفين مع علي عن ثلاث وتسعين من عمره وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم له تقتلك الفئة الباغية وقتله أبو الغادية واسمه يسار بن سبع سكن الشام ونزل واسط وعداده في الشاميين أدرك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو غلام وسمع منه قوله لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وكان محبا لعثمان رضي الله تعالى عنه وكان إذا استأذن على معاوية يقول قاتل عمار بالباب أخرج له أحمد في المسند (وما ذكرناه) أي وتقدم أيضا ما ذكرناه (من قصّة خالد بن معدان) وفي نسخة في قصة خالد بن معدان (ومن علاماته) أي ومن دلالة شوق المحب إلى لقاء محبوبه (مع كثرة ذكره تعظيمه له) أي لذاته أو لأمره (وتوقيره) أي له كما في نسخة (عند ذكره) أي تنويها لرفعة محله (وإظهار الخضوع) وفي نسخة وإظهاره الخضوع وفي نسخة الخشوع بدل الخضوع والمعنى بهما التواضع والتذلل ظاهرا وباطنا (والانكسار) أي بوصف الافتقار وفي نسخة الانكماش أي الانقباض والاجتماع (مع سماع اسمه) أي حين سماع اسمه أو وصفه (قال إسحاق) وفي نسخة أبو إسحاق (التّجيبيّ) بضم التاء الفوقية وتفتح وقيل هو الأصح وبكسر الجيم نسبة إلى تجيب بطن من كندة منهم كنانة بن بشر التجيبي قاتل عثمان رضي الله تعالى عنه وتجوب قبيلة من حمير منهم ابن ملجم قاتل علي كرم الله تعالى وجهه (كان أصحاب النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بعده) أي بعد وفاته (لا يذكرونه) أي في حال من الأحوال (إلّا خشعوا) أي خضعوا وتذللوا (واقشعرّت جلودهم) أي انقبضت لحسرتهم عليه (وبكوا) أي لفراقه شوقا إليه (وكذلك) أي ومثل أصحابه في ذلك (كثير من التّابعين منهم) في نسخة كان منهم (من يفعل ذلك) أي يخشع ويقشعر ويبكي (محبّة له وشوقا إليه، ومنهم) أي من التابعين أو من الصحابة والاتباع أجمعين (من يفعله) أي ما ذكر من الخشوع والاقشعرار والبكاء (تهيّبا) أي مهابة (وتوقيرا) أي إجلالا وعظمة والحاصل أن بعضهم كانت المحبة غالبة عليهم وبعضهم كانت المخافة ظاهرة لديهم وهما مقامان شريفان لطائفتين من الصوفية السنية لكن مقام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 الرجاء والمحبة أفضل من مقام الخوف والهيبة بالنسبة إلى المنتهين وعكسه بالإضافة إلى المبتدئين ويسمى الأولون بالطيارين والآخرون بالسيارين ثم هذه الأوصاف المحمودة كلها مقتبسة من قوله تعالى في مدح المؤمنين الموقنين حيث قال تعالى أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إلى أن قال تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ الآية فذكر الله وذكر رسوله متلازمان في حصول كل واحد ووصوله (ومنها) أي ومن علامات محبة الإنسان للنبي عليه الصلاة والسلام (محبّته لمن أحبّ النّبيّ) بالرفع أي أحبه النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) ويجوز أن ينصب كما في نسخة وهو المعنى الأعم الأتم لكن الأول هو المناسب لسياق الكلام والله تعالى أعلم ولذا عطف عليه بقوله (ومن) أي ولمن (هو بنسبه) أي بسبب نسبه ونسبته وفي نسخة نسبه أي منسوبه (من آل بيته) أي أهل بيته وفي أصل الحجازي بنون وشين معجمة وموحدة (وَصَحَابَتِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَعَدَاوَةُ مَنْ عَادَاهُمْ) أي تجاوز الحد الشرعي في حقهم من الكفار (وبغض من أبغضهم) أي كرههم وقلاهم من الفجار (وسبّهم) أي وبغض من شتمهم من كلاب أهل النار (فمن أحبّ شيئا) أي أحدا (أحبّ من يحبّ) وفي نسخة من يحبه أي ذلك المحبوب ويبغض من يبغضه (وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم) كما في البخاري وغيره (في الحسن والحسين) أي في حقهما وشأنهما (اللهمّ إنّي أحبّهما فأحبّهما) أي زد لهما الهدى والتوفيق في الدنيا وحسن المثوبة ورفعة الدرجة في العقبى (وقال) أي في رواية (من أحبّهما فقد أحبّني) أي فكأنه أحبني (ومن أحبّني) حقيقة (فقد أحبّ الله تعالى ومن أبغضهما فقد أبغضني) أي فكأنه أبغضني (ومن أبغضني) حقيقة (فقد أبغض الله تعالى) أي ومن أبغض الله فقد كفر بالله (وفي رواية) أي أخرى (في الحسن) أي قال في حق الحسن وحده (اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ وَقَالَ) أي في رواية الترمذي (الله الله) بالنصب فيهما أي اتقوه واحذروه (في أصحابي) ولا تذكروهم بسوء فإنهم أحبابي (لا تتّخذوهم غرضا) بمعجمتين أي هدفا ترمونهم بما لا يليق من الكلام كما يرمى الهدف بالسهام وفي نسخة عرضا بالعين المهملة والظاهر أنه تصحيف (بعدي) أي في غيبتي أيام حياتي أو بعد مماتي (فمن أحبّهم فبحبّي) أي فبسبب حبه إياي أو حبي إياهم (أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي) أي فبسبب بغضه إياي (أبغضهم) ومن هنا قول بعض المالكية من سبهم قتل (ومن آذاهم) أي بما يسوؤهم (فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تعالى) أي خالفه وكره الله فعله (ومن آذى الله يوشك) أي يقرب ويسرع (أن يأخذه) أي الله تعالى كما في نسخة ولعل الحديث مقتبس من قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (وقال) أي كما رواه البخاري وغيره (في فاطمة) أي في شأنها (أنّها بضعة) بفتح الموحدة وتكسر أي جزء وقطعة (منّي) أي من لحمي ودمي (يغضبني ما أغضبها) وفي نسخة ما يغضبها وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 ورد هذا الحديث حين خطب علي رضي الله تعالى عنه جويرية ابنة عدو الله أبي جهل على فاطمة رضي الله تعالى عنها قال مسرور بن مخرمة سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول وهو على المنبر إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن إلّا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني فمن أبغضها أبغضني فهذا من خصوصياتها (وقال) أي في رواية (لعائشة رضي الله تعالى عنها في أسامة بن زيد) أي في حقه (أحبّيه فإنّي أحبّه) وقد ورد أنه أراد عليه الصلاة والسلام أن ينحي مخاط أسامة فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها دعني حتى أنا الذي أفعل قال يا عائشة أحبيه فإني أحبه (وقال) كما في الصحيحين (آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُهُمْ) أي علامة كمال إيمان من آمن أو علامة نفس إيمانه حبهم ويؤيده ظاهر الحديث وحديث لا يحبهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق ولعل وجه تخصيصهم أنهم كانوا مختلطين فيما بين المنافقين والمخلصين أو للإشعار بأن حكم المهاجرين أولى بذلك كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار إيماء إلى جلالة رتبة الهجرة وأنه عليه الصلاة والسلام نبي مهاجر من المهاجرين وقد جاء بطريق العموم حب العرب إيمان وبغضهم نفاق كما رواه الحاكم في مستدركه عن أنس رضي الله تعالى عنه (وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما) أي كما تقدم (مَنْ أَحَبَّ الْعَرَبَ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فببغضي أبغضهم) ظاهر مبناه اخبار ولا يبعد أن يكون معناه انشاء أي من أحبهم فينبغي أن يكون بسبب حبي لهم أحبهم حيث يكونون صالحين وكذا البغض إذا كانوا طالحين لما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من أحب لله وأبغض لله فقد استكمل إيمانه وفي رواية حب قريش إيمان وبغضهم كفر وحب الأنصار من الإيمان وبغضهم كفر فمن أحب العرب أي جنسهم والمراد مؤمنوهم أو متقوهم فقد أحبني ومن أبغض العرب فقد أبغضني رواه الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله تعالى عنه وروى ابن عساكر عن جابر مرفوعا حب أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما كفر وحب الأنصار من الإيمان وبغضهم كفر وحب العرب من الإيمان وبغضهم كفر ومن سب أصحابي فعليه لعنة الله ومن حفظني فيهم فأنا أحفظه يوم القيامة والأحاديث كثيرة في هذا الباب وبالجملة فيجب على كل أحد أن يحب أهل بيت النبوة وجميع الصحابة من العرب والعجم لا سيما جنسه عليه الصلاة والسلام ولا يكون من الخوارج في بغض أهل البيت فإنه لا ينفعه حينئذ حب الصحابة ولا من الرافض في بغض الصحابة فإنه لا ينفعه حينئذ حب أهل البيت ولا يكون من جملة الجهلاء العوام حيث يكرهون العرب بالطبع الملام ويذمونهم على الإطلاق بسوء الكلام فإنه يخشى عليهم من سوء الختام (فَبِالْحَقِيقَةِ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَحَبَّ كُلَّ شَيْءٍ يحبّه) أي يحب ذلك الشيء وهذا أظهر (وهذه) أي الطريقة الموافقة للحقيقة (سيرة السّلف) أي سمة الصحابة والتابعين في حبهم ما أحبه عليه الصلاة والسلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 في جميع الحالات (حتّى في المباحات وشهوات النّفس) أي فيحبون ما اشتهاه ويتكلمون بمقتضاه ويكلفون أنفسهم بموافقة ما يهواه مبالغة في طاعة مولاه (وقد قال أنس رضي الله تعالى عنه حين رأى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يتتبّع الدّبّاء) بالمد ويقصر أي يطلبه (من حوالى القصعة) بفتح اللام والقاف أي من أطرافها لكمال محبته له (فما زلت) أي ما دمت وعشت (أحبّ الدّبّاء من يومئذ) بفتح الميم وكسرها أي من حين رأيته يتتبعه ويأكل حبا له لحبه عليه الصلاة والسلام إياه وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه ما صنع لي طعام ويوجد الدباء إلّا وقد جعل فيه وقد روي في مجلس أبي يوسف أنه عليه الصلاة والسلام كان يحب الدباء فقال رجل أنا ما أحب الدباء فسل له السيف وقال جدد الإسلام وإلّا قتلتك نظرا إلى ظاهر معارضته له عليه الصلاة والسلام (فهذا الحسن بن علي وعبد الله ابن عباس وابن جعفر رضي الله تعالى عنهم) أي ابن أبي طالب (أتوا سلمى) أي خادمته صلى الله تعالى عليه وسلم ومولاة له أو مولاة عمته صفية زوجة أبي رافع قابلة ابنه إبراهيم وداية ابنته فاطمة وغاسلتها مع أسماء بنت عميس قال الحلبي في الصحابيات وسلمى غير هذه خمس عشرة امرأة وإنما يدل على أنها المراد هنا ما أخرجه الترمذي في الشمائل بسنده عنها أنهم أتوها (وَسَأَلُوهَا أَنْ تَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامًا مِمَّا كَانَ يعجب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي يشتهيه ويستحسن أكله فقالت يا بني لا تشتهيه اليوم قال بلى اصنعيه لنا فقامت وأخذت شيئا من الشعير فطحنته ثم جعلته في قدر وصبت عليه شيئا من الزيت ودقت الفلفل والتوابل فقربته فقالت هذا مما كان يعجب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويستحسن أكله (وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما) على ما في الصحيحين وأما ما وقع في أصل الدلجي من ابن عباس بدل ابن عمر فليس في محله (يلبس) بفتح الموحدة (النّعال السّبتيّة) بكسر السين نسبة إلى السبت وهو جلد البقر المدبوغ بالقرظ وهو ورق السمر وقيل صمغه يتخذ منه النعال سميت بذلك لأن شعرها قد سبت عنها أي أزيل وقيل منسوبة إلى موضع يقال له سوق السبت بالكسر (ويصبغ) بتثليث الموحدة وضمها أشهر (بالصّفرة) أي بالحناء (إذ رأى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك) أي مثل ما ذكر من لبس النعال السبتية وصبغ اللحية بالصفرة لكمال المتابعة في الهيئة الموافقة من الكمية والكيفية (ومنها) أي من علامات محبته عليه الصلاة والسلام (بغض من أبغض الله ورسوله) بالنصب في النسخ المصححة أي من أبغضهما ووقع في أصل الدلجي بالرفع فقال أي من ابغضاه والأول أيضا قد نص عليه الحلبي وهو الأظهر فتدبر لأن بغض الله تعالى للعبد إرادة عقابه وإيقاع الهوان به وهذا غير معلوم لنا بخلاف من ظهر منه بغضهما كأبي لهب وأبي جهل ونحوهما واسم الله للتزيين وللإشعار بأن من أبغض رسوله فقد أبغضه وإلّا فلا يوجد في العالم من أبغض الله تعالى فكل يدعي محبته إلا أن أكثرهم أخطأوا طريق ما يقتضي مودته ولذا اكتفى بضميره عليه الصلاة والسلام في قوله (ومعاداة من عاداه) أي من اتخذه عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 الصلاة والسلام عدوا (ومجانبة من خالف سنّته) أي طريقته أي عمل بغيرها (وابتدع في دينه) أي أظهر البدع في سبيله (واستثقاله) أي عد المؤمن المحب ثقيلا (كلّ أمر) أي من قول أو فعل أو حال ويروى واستثقال كُلَّ أَمْرٍ (يُخَالِفُ شَرِيعَتَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) أي اعلاما بما ذكر من كمال محبته (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يكملون في الإيمان بحسب الباطن والظاهر (يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة: 22] أي يحابون ويصادقون من خالفهما والمعنى أنه لا ينبغي أن يكون هذا الأمر بل حقه أن يمتنع مبالغة في النهي عنه بمجانبة أعدائهما (ولو كانوا آباءهم) أي أصولهم (أو أبناءهم) أي فروعهم (أو إخوانهم) أي أقرانهم (أو عشيرتهم) أي أقاربهم وأهل صحبتهم وهو تعميم بعد تخصيص (وهؤلاء) أي المؤمنون بالله واليوم الآخر حقا (أصحابه) أي عدلا وصدقا (قد قتلوا أحبّاءهم) أي أحبابهم وأصحابهم (وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته) أي في سبيل رضى الله ورسوله روي عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الآية عني بها جماعة من الصحابة فقوله ولو كانوا آباءهم يريد أبا عبيدة قتل أباه يوم أحد أو أبناءهم يريد أبا بكر رضي الله تعالى عنه لأنه دعا ابنه للبراز يوم بدر فأمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقعد أو إخوانهم يريد مصعب بن عمير لأنه قتل أخاه يوم أحد أو عشيرتهم يريد عليا ونحوه ممن قتلوا عشائرهم كذا في مبهمات القرآن لشيخ مشايخنا الجلال السيوطي وقد قتل عمر خاله العاص بن هشام يوم بدر على ما نقله الدلجي (وقال له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ) وكان أبوه علم النفاق ورأس الكفر ورئيس الشقاق وهو من أكابر أهل الوفاق (لو شئت) لو أردت وأمرت بقتله (لأتيتك برأسه يعني) أي يريد بضميره (أباه) أي عبد الله والحديث رواه البخاري وقال ذلك لما هموا بأبيه حين بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل وعنى بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتى ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني به وأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتل فلا تدعني نفسي أن انظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فاقتله فاقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا استشهد عبد الله رضي الله عنه يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه سنة اثنتي عشرة روى عنه أبو هريرة وعائشة رضي الله تعالى عنهما وغيرهما (ومنها) أي من علامات محبته عليه الصلاة والسلام (أَنْ يُحِبَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَتَى بِهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وهدى به) أي بسببه الأنام (واهتدى) أي في نفسه بأخلاق الكرام (وتخلّق به) أي اتخذه خلقا في جميع الأحكام (حتّى قالت عائشة رضي الله تعالى عنها) أي في تفسير قوله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (كان خلقه القرآن) أي كان ممتثلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 بأوامره ومنتهيا عن زواجره ومتمسكا بآدابه وما اشتمل عليه من مكارم أخلاقه نحو قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وأمثاله (وحبّه القرآن) أي علامة حبه له (تلاوته) أي دوام قراءته (والعمل به) والأنسب ما في نسخة من تأخيره عن قوله (وتفهّمه) أي طلب فهمه في مواعظه وقصصه ووعده ووعيده وبيان أحوال أنبيائه وأوليائه وعاقبة أعدائه (ويحبّ) أي وأن يحب (سنّته) أي أحاديثه (ويقف عند حدودها) أي أوامرها ونواهيها (قال سهل بن عبد الله) التستري (عَلَامَةُ حُبِّ اللَّهِ حُبُّ الْقُرْآنِ وَعَلَامَةُ حُبِّ القرآن حبّ النّبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَامَةُ حُبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم حبّ السّنّة) أي حب أحاديثه وأخباره وأحواله وسيره وآثاره (وعلامة حبّ السّنّة) أي بعد علمها وفهمها (حبّ الآخرة) إذ أقل العلم معرفة أن الدنيا فانية والآخرة باقية ونتيجته أن يعرض عن الدنيا ويقبل على العقبى وهذا معنى قوله (وعلامة حبّ الآخرة بغض الدّنيا) لأنهما لا يجتمعان لقوله عليه الصلاة والسلام من أحب آخرته أضر بدنياه ومن أحب دنياه أضر بآخرته فآثروا ما يبقى على ما يفنى وقد شبهتا بالضرتين وبالكفتين (وعلامة بغض الدّنيا أن لا يدّخر منها) أي لا يأخذ ولا يمسك منه (إلّا زادا) أي قدر ما يتزود به (وبلغة) بضم فسكون أي مقدار ما يبلغه (إلى الآخرة) فإن تحصيل الزيادة على قدر الضرورة وبال وحسرة فإن حلالها حساب وحرامها عقاب والاشتغال بها حجاب وفي أصل الحجازي زاد وبلغة بالرفع فيقرأ لا يدخر مجهولا (وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا يسأل أحد عن نفسه) أي عن طيب حالها وخبث مآلها (إلّا القرآن) فإنه ميزان الإنسان للعدل والإحسان (فإن كان يحبّ القرآن) أي تلاوته ومتابعته (فهو يحبّ الله ورسوله) أي ومن يحبهما فهما يحبانه أيضا والمعنى أنه لا ينبغي لأحد أن يرضى بما في نفسه من الدعوى فإنه كما قيل ما أيسر الدعوة وما أعسر المعنى (ومن علامات حبّه) أي أصل حب المؤمن المحب (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم شفقته) أي خوفه ومرحمته (على أمّته ونصحه لهم) أي قيامة بنصيحتهم في أمرهم ونهيهم وموعظتهم (وسعيه في مصالحهم) أي الدينية والدنيوية الضرورية (ورفع المضارّ عنهم) أي بعد وقوعها ووصولها وفي نسخة ودفع المضار عنهم أي عند خوف حصولها (كما كان صلى الله تعالى عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفا رحيما) والرأفة شدة الرحمة ولعلها كانت مختصة بكمل المؤمنين وعموم الرحمة لعامة المؤمنين مع أنه كان رحمة للعالمين وفيه إشارة إلى حسن المتابعة وكمال الموافقة وإيماء إلى قوله عليه الصلاة والسلام تخلقوا بأخلاق الله تعالى والمعنى أن التخلق يكون بقدر التعلق في باب التحقق (ومن علامة تمام محبّته) أي وكمال متابعته (زهد مدّعيها) أي قلة رغبة مدعي محبته عليه الصلاة والسلام (في الدّنيا) أي التي هي دار الأكدار ومقام الآلام (وإيثاره) أي اختياره (الفقر) أي قلة المال على كثرته (واتّصافه به) أي بالفقر حال ضرورته ويكون غني القلب في صورته وهذا إنما يكون بإعراضه عنها وتركه الالتفات إليها وعدم الإقبال عليها وسئل الزهري عن الزهد فقال هو إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 لا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره (وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لأبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه إنّ الفقر إلى من يحبّني منكم) أي حبا بالغا (أسرع من السيل) أي الواقع عند نزوله (من أعلى الوادي أو الجبل) شك من الراوي (إلى أسفله) فإن الله سبحانه وتعالى ربى أكثر الأصفياء والأولياء بوصف الفقر المؤدي إلى المسكنة والفناء بخلاف الغنى فإنه غالبا يؤدي إلى العجب والغرور والجفاء ويشهد لذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما عرض عليه ملك الجبال بقوله إن شئت جعل الله لك الأخشبين ذهبا أبي وفي حديث آخر أن ربه عرض عليه أن يجعل له بطحاء مكة ذهبا فقال لا يا رب ولكني أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك وكأنه عليه الصلاة والسلام اختار أن يكون تربيته تارة بوصف الجمال وتارة بنعت الجلال كما هو حال أرباب الكمال (وفي حديث عبد الله بن مغفّل) بتشديد الفاء المفتوحة مزني من أصحاب الشجرة روى عنه الحسن البصري وغيره وتوفي بالبصرة سنة ستين قال الحسن رحمه الله تعالى ما نزل البصرة أشرف منه (قال رجل للنّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّكَ فقال انظر ما تقول) أي تأمل في قولك وتفكر في أمرك فإنك ادعيت دعوى فلا بد من تحقيق مآلها من المعنى ليكون مبنيا على أساس التقوى (قال إني والله) وفي نسخة والله إني (لأحبّك- ثلاث مرّات) أي ذكرها مكررا بالقسم مؤكدا مقررا (قال إن كنت تحبّني) أي حبا كاملا أو إن كنت صادقا في دعوى محبتي اللازم منها كمال متابعتي (فأعدّ) بفتح همزة وكسر عين وتشديد دال مفتوحة ويجوز كسرها أي فهيء (للفقر تجفافا) بكسر الفوقية وسكون الجيم أي اتخذ له عدة ووقاية تقتضي رعاية وتستوجب عناية وتستجلب هداية وأصل التجفاف لبسة للفرس تمنعه السلاح وتقيه الأذى من الجراح وقد يلبسه الإنسان ويروى جلبابا وهو الإزار قال القتيبي معناه أن يرفض الدنيا ويزهد فيها ويصبر على الفقر والتقلل منها وكني بالتجفاف أو الجلباب عن الصبر لأنه يستر الفقر كما يستر البدن وقال ابن الأعرابي أي لفقر الآخرة يعني يعمل عملا لا يكون في الآخرة فقيرا مفلسا حقيرا وعن علي كرم الله وجهه من أحبنا أهل البيت فليعد للفقر جلبابا أو قال تجفافا (ثمّ ذكر) أي النبي عليه الصلاة والسلام قاله الدلجي والصواب أي ذكر عبد الله بن مغفل (نحو حديث أبي سعيد بمعناه) أي الذي تقدم قبله وهو قوله عليه الصلاة والسلام إن الفقر إلى من يحبني إلى آخره غير أن في حديث عبد الله بن مغفل للفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه. فصل [في معنى المحبة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحقيقتها] (في معنى المحبة للنبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَقِيقَتِهَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ محبة الله تعالى ومحبّة النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي محبة العبد لهما (وكثرت عباراتهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 ذلك) أي وتعددت إشاراتهم هنالك (وليست ترجع) أي مقالاتهم (بالحقيقة) أي في الحقيقة كما في نسخة (إلى اختلاف مقال) أي لاتفاق ما فيها في مآل (ولكنّها اختلاف أحوال) كما قال قائل: عباراتنا شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذاك الجمال يشير (فقال سفيان) أي الثوري أو ابن عيينة (المحبّة اتّباع الرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي علامة محبة العبد لله تعالى أو نتيجة محبة الله تعالى للعبد حسن المتابعة ومداومة الموافقة لصاحب الرسالة وهذا معنى قوله (كأنّه) أي الشأن أو سفيان (التفت) أي في كلامه مشيرا (إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) [آل عمران: 31] الآية أي يحببكم الله (وقال بعضهم محبّة الرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم اعتقاد نصرته) أي اعتقاد وجوب نصرة دينه وملته (والذّبّ عن سنّته) أي ودفعه عن إماتة سيرته (والانقياد لها) أي لشريعته وفي نسخة له أي لذاته وحقيقته (وهيبة مخالفته) أي خوف مخالفة طريقته بملاحظة عظمته وهذا الكلام أيضا إيماء إلى علامة المحبة أو نتيجة المودة (وقال بعضهم المحبّة دوام الذّكر للمحبوب) «1» وروي ذكر المحبوب أي لما ورد من أن من أحب شيئا أكثر من ذكره حيث لا يذهل المحبوب عن فكره في تمام أمره ودوام دهره (وقال بعضهم المحبّة الشّوق إلى المحبوب) وهذا أقرب في بيان المطلوب (وقال بعضهم المحبّة مواطأة القلب) أي موافقته (لمراد الرّبّ يحبّ ما يحبّ) أي يحب المحب ما يحب المحبوب فالجملة استئنافية وفي نسخة صحيحة ما أحب وفي أخرى بحب بالجار والمجرور على أن الباء لبيان المواطأة وكذا قوله (ويكره ما كره) وفي نسخة ما كره بصيغة الماضي وفي الكشاف محبة العباد الله مجاز عن ارادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها ومحبة الله عباده أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم (وَقَالَ آخَرُ: الْمَحَبَّةُ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى مُوَافِقٍ له) أي لقلب المحب من الأمور الحسية النفسية الدنية أو الأحوال المعنوية الدينية وهذا قريب من المحبة الحقيقية (وَأَكْثَرُ الْعِبَارَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِشَارَةٌ إِلَى ثَمَرَاتِ الْمَحَبَّةِ) أي نتائجها (دون حقيقتها وحقيقة المحبّة) أي من حيث هي (هو الميل) أي ميل الجنان (إلى ما يوافق الإنسان) أي بموجب الطبع أو بمقتضي الشرع (وتكون موافقته له) أي ويحصل موافقة القلب للإنسان وميله له (إمّا لاستلذاذه) أي لتلذذ الإنسان (بإدراكه) أي بإدراك ما يميل إليه مما يوافقه بإحدى مشاعره الحسية سواء كانت على وفق الشهوات النفسية أو على طبق اللذات الإنسية (كحبّ الصّور) ويروى الصورة (الجميلة) أي من المبصرات أعم من أن تكون من الحيوانات أو النباتات أو الجمادات حيث وقعت بالأشكال الموزونة (والأصوات الحسنة) أي من   (1) وقال آخر ايثار المحبوب نسخة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 المسموعات الواردة على لسان الإنسان أو الطير أو سائر الحيوانات (والأطعمة) أي من المأكولات (والأشربة) أي من المذوقات (اللّذيذة) قيد لهما (وأشباهها) أي كحب الرائحة الطيبة من المشمومات والنعومة واللينة من الملموسات (ممّا كلّ طبع سليم) أي لا قلب سقيم (مائل إليها) أي ومقبل عليها (لموافقتها له) أي بمقتضى طبيعته مع قطع النظر عن موافقة شريعته (أَوْ لِاسْتِلْذَاذِهِ بِإِدْرَاكِهِ بِحَاسَّةِ عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ مَعَانِيَ باطنة شريفة) أي مبنية على مباني لطيفة (كحبّ الصّالحين) أي من الأنبياء والأولياء (والعلماء) وكذا الشهداء (وأهل المعروف) أي من الأصفياء (المأثور عنهم السّير الجميلة) أي الأحوال الجليلة (والأفعال الحسنة) أي والأقوال المستحسنة وهذا تعميم بعد تخصيص ليشمل الملوك والأمراء والفقراء والأغنياء (فإنّ طبع الإنسان) أي الكامل في هذا الشأن (مائل إلى الشّغف) بالغين المعجمة وقيل بالمهملة وقرىء بهما قوله تعالى قَدْ شَغَفَها حُبًّا يقال شغفه الحب أي بلغ شغافه وهو غلاف قلبه وهي جلدة رقيقة على القلب كالحجاب دونه والمعنى مائل إلى الحب الذي يخرق شغاف القلب وحجابه حتى يبلغ الفؤاد الذي هو سويداء القلب ومحل المراد (بأمثال هؤلاء) أي الموصوفين بمراتب الثناء (حتّى يبلغ) أي الشغف (بقوم) أي من اتباع عالم أو شيخ أو كريم (التّعصّب لقوم) أي كانوا على ضدهم هو بالنصب علىّ أنه مفعول يبلغ وكذا قوله (والتّشيّع) أي كمال التتّبع ومنه حديث القدرية شيعة الدجال وفي نسخة صحيحة حَتَّى يَبْلُغَ التَّعَصُّبُ بِقَوْمٍ لِقَوْمٍ وَالتَّشَيُّعُ (مِنْ أمّة) أي طائفة (في أخرى) أي في جماعة وفي نسخة في آخرين (ما يؤدّي) أي ما ذكر من التعصيب والتشيع (إلى الجلاء) بالفتح والمد أي الخروج (عن الأوطان وهتك الحرم) بضم ففتح أي قطع ستارة حرمة الذرية والنسوان (واخترام النّفوس) بالخاء المعجمة أي استئصالها باقتطاع الأرواح من الأشباح (أو يكون حبّه إيّاه) أي ميل الإنسان إلى موافقة هواه (لموافقته له من جهة إحسانه له) وفي نسخة إليه (وإنعامه عليه فقد جبلت النّفوس) أي خلقت مجبولة ومطبوعة (على حبّ من أحسن إليها) وفي نسخة من أحسن إليه وفي أخرى له فقد ورد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها رواه ابن عدي وأبو نعيم في الحلية والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وصححه وورد في الدعاء اللهم لا تجعل لفاجر على يدا يحبه قلبي (فإذا تقرّر لك هذا) أي ثبت عندك هذا الكلام (نظرت) أي رأيت (هذه الأسباب) أي أسباب المحبة من الجمال الصوري والكمال المعنوي والإحسان الوفي (كلّها) أي جميعها موجودة ثابتة (في حقّه صلى الله تعالى عليه وسلم فعلمت أنّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامِعٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الْمُوجِبَةِ للمحبّة) أي على وجه التمام (أَمَّا جَمَالُ الصُّورَةِ وَالظَّاهِرِ وَكَمَالُ الْأَخْلَاقِ وَالْبَاطِنِ فقد قرّرنا منها) أي من الشمائل الدالة عليهما والفضائل المشيرة إليهما (قبل) أي قبل هذا الباب فيما سبق من الكتاب (ما لا يحتاج إلى زيادة) أي وكثرة إطناب (وأمّا إحسانه) أي الدنيوي الصوري (وإنعامه) أي الديني والأخروي (على أمّته) أي اتباع ملته (فكذلك قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 مرّ) ويروى مضى (منه) أي بعضه (في أوصاف الله تعالى) أي فيما أعطاه الله تعالى (له) وأثنى عليه من الصفات الجميلة والنعوت الجليلة (مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ وَرَحْمَتِهِ لَهُمْ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ وشفقته) أي وخوفه (عليهم واستنقاذهم) أي استخلاصهم (به من النّار وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم) أي بحسب مراتب إيمانهم ومناقب انعامهم (ورحمة للعالمين) أي بجميع أعيانهم (ومبشّرا) بالنصب على الحكاية أو التقدير كان مبشرا للمؤمنين المطيعين بالجنة (ونذيرا) أي مخوفا للعاصين بالعقوبة (وداعيا إلى الله) أي إلى محل قربه (بإذنه) أي بتيسيره وتوفيقه (ويتلو عليهم آياته) أي آيات القرآن المشتملة على معجزاته (ويزكّيهم) أي يطهرهم بنصائح بيناته (ويعلّمهم الكتاب) أي أحكامه الخفية (والحكمة) أي السنة الجلية (ويهديهم إلى صراط مستقيم) أي طريق قويم ودين قديم (فأيّ إحسان أجلّ قدرا وأعظم خطرا) أي أمرا (من إحسانه) عليه الصلاة والسلام (إلى جميع المؤمنين) أي خصوصا (وأيّ إفضال) أي اكرام وإقبال (أعمّ منفعة وأكثر فائدة) أي أتم نتيجة (من إنعامه على كافّة المسلمين) أي جميع المنقادين ولو من أهل الذمة والمنافقين (إذ كان) أي النبي عليه الصلاة والسلام (ذريعتهم) أي وسيلة أهل الإسلام (إلى الهداية) أي هدايتهم إلى سبل السلام ودلالتهم إلى مقام الكرام (ومنقذهم من العماية) بفتح العين أي ومخلصهم من الغواية ومنجيهم من الضلالة إلى الهداية (وداعيهم إلى الفلاح) أي الفوز والنجاح (والكرامة) أي بحملهم على الصلاح (ووسيلتهم إلى ربّهم) أي إلى تقربهم إليه (وشفيعهم) أي لديه (والمتكلّم عنهم) أي في إلزام الحجة بما يلقي عليه (والشّاهد لهم) أي مزكيهم بالخير (والموجب) أي الطالب وفي نسخة المحب (لهم البقاء الدّائم) أي إلى الأبد (والنّعيم السّرمد) أي المستمر الذي لا نهاية له ولا غاية (فقد استبان) أي ظهر (لك أنّه عليه الصلاة وسلام مستوجب) أي مستحق (للمحبّة الحقيقيّة) أي والمودة العرفية (شرعا) أي وطبعا (بما قدّمناه) ويروى لما مر (من صحيح الآثار) أي وصريح الأخبار المنقولة عن المشايخ الأخيار والعلماء الأحبار (وعادة) أي رسوما عادية (وجبلّة) أي خلقة طبيعية (بما ذكرناه) أي من أن جميع ما يصل إلينا من نعم الدارين فهو من فيض انعامه علينا (آنفا) أي زمانا قريبا وهو بمد الهمزة وقصرها وقد قرىء بهما في السبعة (لإفاضته الإحسان) أي على جميع أفراد الإنسان (وعمومه الإجمال) أي المعاملة بالجميل في جميع الأوقات والأحوال (فإذا كان الإنسان) أي بطبعه (يحبّ من منحه) أي أعطاه عطية من لبن أو غيره من هدية (في دنياه مرّة أو مرّتين) أي ولو على وصف القلة (معروفا) أي ما عرف حسنة شرعا وطبعا وفي الحديث أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في العقبى وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يأتي أصحاب المعروف في الدنيا يوم القيامة فيغفر لهم بمعروفهم وتبقى حسناتهم فيعطونها لمن زادت سيئاته على حسناته فيغفر له ويدخل الجنة فيجتمع لهم الإحسان في الدنيا والآخرة (أو استنفذه) أي استخلصه وفي نسخة انقذه أي انجاه وأخلصه (من هلكة) بفتحتين كان الأولى أن يقال من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 مهلكة (أو مضرّة) أي مما فيه هلاك نفس أو ضرر مال أو تلف حال أو نقصان جاه (مدّة) أي من الزمان قليلة أو كثيرة (التّأذّي بها) أي بالمضرة وكذا بالهلكة (قليل) أي أيامه (منقطع) أي زائل دوامه (فمن منحه) أي أعطى الإنسان (ما لا يبيد) أي ما لا ينفد ولا ينقص (من النّعيم) أي المقيم بجنة طيبة وحالة حسنة ويروى من النعم (ووقاه) أي حفظه وحماه من عَذابَ الْجَحِيمِ وكذا من الماء الحميم (أولى بالحب) أي بالمحبة من غيره وفي نسخة وهي أصل الدلجي فهو أي فهذا المانح الكامل والباعث الكافل أولى ما يحب بصيغة المجهول والظاهر أنه تصحيف (وإذا كان يحبّ) بصيغة المجهول (بالطّبع) أي من غير اختيار الطبيعة بل بحكم أصل الجبلة (ملك) أي من الملوك ولو لم يره ولم يحصل له بره وهو نائب فاعل يحب (لحسن سيرته) أي معاملته في رعيته (أو حاكم) أي أمير أو وزير يحب (لما يؤثر) أي يروى ويخبر (عنه من قوام طريقته) بكسر القاف أي من اعتدال سيرته ونظام عدله في حكومته (أو قاصّ) بمعجمة قال الدلجي أو مهملة أي مشددة أي واعظ ويروى يحب مبنيا للفاعل فتنصب الثلاثة بعده (بعيد الدّار) أي عن من يحبه بالطبع (لما يشاد) بصيغة المجهول من أشاد البناء إذا رفعه أي يشاع ويذاع ويروى لما فشا أي ظهر وانتشر (من علمه) أي المقرون بعلمه (أو كرم شيمته) أي حسن خلقه مع رعيته (فمن جمع هذه الخصال) أي وبل زاد من هذه الأحوال (على غاية مراتب الكمال) جملة في محل نصب على الحال أي مجموعة وليست في بعض النسخ موجودة والمعنى فهو صلى الله تعالى عليه وسلم (أحقّ بالحبّ وأولى بالميل) أي إليه (وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صفته صلى الله تعالى عليه وسلم من رآه بديهة) أي في أول وهلة (هابه) أي توقيرا وتعظيما (ومن خالطه معرفة) تمييز أي علما بكريم خصاله وعميم فعاله (أحبّه) أي حبا عظيما بجماله وكماله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله. فصل [في وجوب مناصحته صلى الله تعالى عليه وسلم] (في وجوب مناصحته صلى الله تعالى عليه وسلم) أي قبول نصحه وخلوص النصح له (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) أي ليس على الفقراء اثم في ترك الغزاء كمزينة وجهينة وبني عذرة (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي أخلصوا الإيمان بهما والطاعة لهما سرا وعلانية في أمرهما (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي طريق معاقبة ولا معاتبة لإحسانهم في إيمانهم كما يشير إليه وضع الظاهر موضع المضمر والأظهر أن وجه العدول عن الضمير إفادة المعنى الأعم والإيماء إلى أن هذا الحكم لمن دام على هذا الوصف واستحكم والله تعالى أعلم (وَاللَّهُ غَفُورٌ) لهم ولغيرهم (رَحِيمٌ) [التوبة: 91] بهم وبأمثالهم (قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي معناه (إذا كانوا مخلصين) أي في أفعالهم وأقوالهم (مسلمين في السّرّ والعلانيّة) أي منقادين في جميع أحوالهم (حدّثنا القاضي) وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 نسخة صحيحة الفقيه (أبو الوليد بقراءتي عليه ثنا) أي حدثنا (حسين بن محمّد) الظاهر أنه أبو علي الغساني على ما ذكره الحلبي (ثنا) أي حدثنا (يوسف بن عبد الله) وهو حافظ الغرب أبو عمر بن عبد البر (حدّثنا عبد المؤمن) وفي نسخة ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمَّارُ) بتشديد الميم (حدّثنا أبو داود) أي صاحب السنن (حدّثنا أحمد بن يونس) وهو أبو عبد الله اليربوعي الحافظ الكوفي يروي عن الثوري وجماعة وعنه الشيخان وطائفة قال أحمد بن حنبل لرجل اخرج إلى أحمد بن يونس فإنه شيخ الإسلام أخرج له أصحاب الكتب الستة قال أبو حاتم كان ثقة متقنا كذا حققه الحلبي وفي نسخة أحمد بن يوسف والظاهر أنه تصحيف (حدّثنا زهير) بالتصغير وهو ابن محمد التميمي المروزي أخرج له الأئمة الستة (حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَطَاءِ بن يزيد) أي الليثي أخرج له أصحاب الكتب الستة (عن تميم الدّاريّ) نسبة إلى جده الدار ويقال له الديري أيضا نسبة إلى دير كان يتعبد فيه قبل الإسلام أسلم سنة تسع من الهجرة وكان نصرانيا قبل ذلك وتوفي سنة أربعين ومن مناقبه الفخام أنه عليه الصلاة والسلام روى عنه حديث الجساسة على المنبر كما في آخر صحيح مسلم وفيها رواية الفاضل عن المفضول والتابع عن المتبوع وقبول خبر الواحد وذكر الدارقطني أنه روى عن الشيخين وروي أيضا عن محرز كما في الصحيح وعن امرأة لا استحضر الآن اسمها كما في المسند (قال) أي الداري (قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ؛ إِنَّ الدِّينَ النّصيحة؛ إنّ الدّين النّصيحة) أي ثلاث مرات للمبالغة وقد ساق المصنف هذا الحديث بسند أبي داود وقد أخرجه أبو داود في الأدب ولفظه الدين النصيحة من غير تكرار وأخرجه مسلم في الإيمان بنحوه وليس فيه تكرار إن الدين النصيحة ثلاثا بل مرة واحدة ولفظه الدين النصيحة بغير إن وأخرجه النسائي في البيعة ولفظه في الطريق الأولى أن الدين النصيحة مرة وفي نسخة إنما الدين النصيحة مرة (قالوا) أي بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم (لمن) أي النصيحة لِمَنْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ) كما في الأصول (ولرسوله وأئمّة المسلمين) ويروى ولأئمة المسلمين (وعامّتهم) أي جميع أفراد جماعتهم (قال أئمّتنا) أي من المالكية ذكره الدلجي والظاهر أي علماؤنا ومشايخنا إذ لا خلاف في هذه المسألة وهي قوله (النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ وَاجِبَةٌ) أي فرض عين على كل أحد وفي شرح مسلم للنووي عن بعضهم أنها فرض كفاية يسقط بقيام بعض عن الباقين انتهى ولعله محمول على تفاصيل ما يتعلق بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله بأن يقوموا بجميع الأمور الشرعية والأحكام الفرعية ومن جملتها علم التفسير والحديث والفقه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيله وهذا لا ينافي قول الجمهور حيث أرادوا وجوب النصيحة الإجمالية والموجبة للطاعة التفصيلية هذا وليس قوله ولكتابه من عبارة المصنف ولعله سبق قلم (قال الإمام أبو سليمان البستي) بضم موحدة وسكون سين ففوقية بلد بسجستان والمراد به الخطابي (النّصيحة كلمة يعبّر بها عن جملة) بالتنوين بدون إضافة ذكره الدلجي ويجوز الإضافة كما في كثير من النسخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وعلى الأول تقديره هي (إِرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يعبّر عنها) أي عن تلك الجملة (بكلمة واحدة) أي غيرها بصيغة (تحصرها) أي تجمع معناها وتحصرها (ومعناها) أي النصيحة (في اللّغة) أي لسان العرب (الإخلاص) فمعنى النصيحة الحالة الخالصة مأخوذة (من قولهم) أي استعمال العرب في محاوراتهم (نصحت العسل إذا خلّصته) بالخطاب وهو بتشديد اللام أي ميزته بنار لطيفة (من شمعه) بفتح الميم ويسكن أي مومه ففي القاموس الشمع محركة وتسكين الميم مولد وهو الذي يستصبح به أو موم العسل الواحدة بهاء (وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْخَفَّافُ) بتشديد الفاء الأولى (النّصح) بضم النون (فعل الشيء الّذي فيه الصّلاح والملاءمة) أي المناسبة والمرابطة وقد تخفف الهمز ياء فيقال الملائمة وهي الموافقة بين الأشياء (مأخوذ من النّصاح) بكسر النون (وهو الخيط الّذي يخاط به الثّوب) أي يلائم بين أجزائه ويصلح للمرء أن يلبسه على أعضائه (وقال أبو إسحاق الزّجّاج نحوه) أي قريبا من معناه وفي الجملة من هذه المادة قوله تعالى تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أي خالصة صالحة بأن تكون كاملة شاملة (فنصيحة الله تعالى) أي نصيحة العبد له سبحانه وتعالى (الاعتقاد له بالوحدانيّة) أي في الألوهية والربوبية (ووصفه بما هو أهله) أي من صفات الثبوتيه من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام ونحوها (وتنزيهه) أي تبعيده (عمّا لا يجوز) أي اطلاقه (عليه) من النعوت السلبية فإنه ليس بجوهر ولا عرض ولا في مكان وغيرها (والرّغبة في محابّه) بتشديد الموحدة أي الميل في كل ما يحبه الله ويرضاه (والبعد من) وفي نسخة عن (مساخطه) أي والتبعد عن جميع ما يكرهه وينهاه (والإخلاص في عبادته) أي فيما يأمره الله من أمور دنياه وعقباه وما ذكر فهو في الحقيقة راجع إلى العبد في نصحه لنفسه لأنه تعالى غني عنه وعن عمله (والنّصيحة لكتابه: الإيمان به) أي أولا (والعمل بما فيه) ثانيا سواء كان عالما به أو جاهلا (وتحسين تلاوته) أي وتزيين قراءته (والتّخشّع عنده) أي اظهار الخشوع وإكثار الخضوع في حضرته (والتّعظيم له) أي لكتابه بأدب يقتضي إجلاله وبوصف يوجب اكماله (والتّفقّه فيه) أي طلب الفهم لمبانيه والعلم بمعانيه (والذّبّ عنه) أي الدفع عما لا يليق به وينافيه (من تأويل الغالين) بالغين المعجمة من الغلو أي المجاوزين عن الحد كالمعتزلة واضرابهم (وطعن الملحدين) أي من الزنادقة وأصحابهم (والنّصيحة لرسوله التّصديق بنبوّته) أي أولا (وبذل الطّاعة له) أي الانقياد لحكمه (فيما أمر به ونهى عنه قاله) أي جميع ما يتعلق بالنصيحة أو ما خص بها لرسوله وهو أقرب وإلى ما بعده أنسب (أبو سليمان) وهو الخطابي (وقال أبو بكر) أي الخفاف وقيل المراد به أبو بكر الآجري (وموازرته) أي النصيحة لرسوله هي معاونته ومعاضدته في دينه وملته (ونصرته) أي اعانته على أعدائه وأهل محاربته (وحمايته) أي المدافعة عنه وممانعة من أراد نوعا من اساءته (حيّا وميّتا) أي في حال حياته ومماته (وإحياء سنّته بالطّلب) أي بالعمل بها (والذّبّ عنها) أي وبالدفع لمن يلحد فيها أو يزيغ عنها (ونشرها) أي إظهارها للتمسك بها (والتّخلّق بأخلاقه الكريمة) أي الاتصاف بمحاسن شمائله وميامن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 فضائله الجزيلة (وَآدَابِهِ الْجَمِيلَةِ، وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ التُّجِيبِيُّ) بضم الفوقية وتفتح وكسر الجيم فتحتية فموحدة فياء نسبة كما مر (نصيحة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم التّصديق بما جاء به) أي مجملا أو مفصلا (والاعتصام بسنّته) أي بأحاديثه علما وعملا (ونشرها) أي للخلق كملا (والحضّ) أي الحث والتحريض (عليها) أي لمن يعمل بها جملا (والدّعوة) أي دعوة الخلق (إلى الله) أي دينه مجملا (وإلى كتابه) أولا (وإلى رسوله) ثانيا (وإليها) أي وإلى السنة (وإلى العمل بها) آخرا (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ مَفْرُوضَاتِ الْقُلُوبِ) أي من الواجبات المؤكدة عليها (اعتقاد النّصيحة) وهي ارادة الخير (لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لطريقته وأهل ملته (وقال أبو بكر الآجرّيّ) بمد همزة وضم جيم وتشديد راء وهو صاحب كتاب الشريعة (وغيره) أي من علماء الأمة (النّصح له يقتضي نصحين) أي باختلاف حالاته (نُصْحًا فِي حَيَاتِهِ وَنُصْحًا بَعْدَ مَمَاتِهِ فَفِي حياته نصح أصحابه له بالنّصر) أي بالمعاونة (والمحاماة) أي بالمدافعة (عنه) أي عن ذاته (ومعاداة من عاداه والسّمع والطّاعة له) أي وبالقبول والانقياد لأمره ونهيه (وبذل النّفوس والأموال دونه) أي عنده حماية لجماله ورعاية لأحواله (كما قال تعالى) في حقهم (رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الْأَحْزَابِ: 23] أي من الثبات معه حال بلائه ورخائه ووقت قتاله مع أعدائه (الآية) أي فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي نذره وعهده وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ أي وعده وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا أي ما غيروا تحويلا وهم الأنصار (قال) أي في حقهم أيضا (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ) أي دينه (وَرَسُولَهُ الآية) [الحشر: 8] أي أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وهم المهاجرون (وَأَمَّا نَصِيحَةُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَالْتِزَامُ التّوقير والإجلال) أي ملازمة التعظيم والتكريم (وشدّة المحبّة له) أي بكثرة الرغبة إليه وانقياد الطاعة لديه (والمثابرة) أي المواظبة والمداومة (على تعلّم سنّته) وفي نسخة على تعليم سنته (والتّفقّه) بالرفع أو الجر أي التفهم (في شريعته ومحبّة آل بيته) أي أقاربه وعترته (وأصحابه) أي وجميع صحابته وأهل عشرته (ومجانبة من رغب عن سنّته) أي مباعدة من مال عن طريقته وأعرض عن متابعة شريعته وحقيقته (وانحرف عنها) أي انصرف عن ملته بكليته وجملته (وبغضه) بالرفع أي عداوته (والتّحذير منه) أي من صحبته (والشّفقة) أي المرحمة (على أمّته والبحث عن تعرّف أخلاقه) أي تعلم شمائله وتفهم فضائله (وسيره وآدابه والصّبر على ذلك) أي ما ذكر من أقواله وأفعاله وأحواله (فعلى ما ذكره) أي الآجري (تَكُونُ النَّصِيحَةُ إِحْدَى ثَمَرَاتِ الْمَحَبَّةِ وَعَلَامَةٌ مِنْ علاماتها كما قدّمناه) أي في تحقيق المحبة بأنها نتيجة الطاعة والمتابعة (وحكى الإمام أبو القاسم القشيريّ) وهو الأستاذ صاحب الرسالة الصوفية (أنّ عمرو) بفتح أوله (ابن اللّيث أحد ملوك خراسان ومشاهير الثّوّار) هو بالثاء المثلثة المضمومة وتشديد الواو في آخره راء وهم الأبطال الشجعان (المعروف بالصّفّار) بتشديد الفاء (رؤي) بضم الراء وكسر الهمزة على أنه مجهول رأى ويروى بكسر الراء فتحتية ساكنة فهمزة مفتوحة على أنه مجهول راء لغة في رأى على ما في القاموس (في النّوم) أي بعد موته (فقيل له ما فعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ غَفَرَ لي) أي ذنوبي (فقيل له بماذا) أي بأي سبب غفر لك (فقال صعدت) بكسر عينه أي طلعت (ذروة الجبل) بكسر المعجمة وضمها ويحكى فتحها أي أعلاه (يوما) أي من الأيام (فأشرفت على جنودي) أي اطلعت عليهم (فَأَعْجَبَتْنِي كَثْرَتُهُمْ فَتَمَنَّيْتُ أَنِّي حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في بعض غزواته أو سراياه (فأعنته ونصرته) أي على عداه (فشكر الله لي ذلك) أي جازاني بمثوبته وأثنى علي وذكرني عند ملائكته (وغفر لي) أي وسامحني فيما وقع مني وصدر عني لخلوص نيتي وصدق طويتي انتهى كلام القشيري (أمّا النّصح لأئمة المسلمين) أي من العلماء العاملين والأمراء الكاملين (فطاعتهم في الحقّ) أي ثابتة على الخلق واجبة إلّا أنه عليه الصلاة والسلام قال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق رواه أحمد والحاكم عن عمران رضي الله تعالى عنه وروى الشيخان وغيرهما عن علي كرم الله وجهه ولفظه لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف وقد خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إذ ولي الخلافة فقال اطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (ومعونتهم) أي ومعاونتهم قولا وفعلا في مؤنتهم (فيه) أي في أمر الحق وفعل العدل (وأمرهم) أي إياهم (به) أي بالحق إذا عدلوا عن العدل لكن بطريق اللطف والرفق كما هو شأن أهل الفضل وقد قال تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً وقال عز وجل ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (وتذكيرهم إيّاه) أي إذا نسوه (على أحسن وجه) أي الطف طريق (وتنبيههم على ما غفلوا عنه) بأن خفى عليهم شيء من الأحكام (وكتم عنهم) بصيغة المفعول أي ستر عنهم أمر (من أمور المسلمين وترك الخروج عليهم) أي بالبغي ولو جاروا (وتضريب النّاس) بالضاد المعجمة أي وترك إغراء العامة وتخريشهم (وإفساد قلوبهم عليهم) أي على الأئمة (والنّصح) كان الأولى أن يقال وأما النصح (لعامّة المسلمين) أي لعوامهم فهو (إرشادهم) أي دلالتهم وهدايتهم (إلى مصالحهم) أي الأخروية (ومعونتهم) أي مساعدتهم ومعاضدتهم (في أمر دينهم ودنياهم بالقول والفعل) أي مما ينفعهم معاشا ومعادا (وتنبيه غافلهم) أي بتذكير ما غفل عنه (وتبصير جاهلهم) أي بتعريف ما جهله (ورفد محتاجهم) أي معاونة فقرائهم في حال بلائهم وعنائهم (وستر عوراتهم) أي باللباس أو ستر عيوبهم عن الناس (ودفع المضارّ عنهم وجلب المنافع) أي إيصالها (إليهم) وهو بفتح الجيم وسكون اللام مصدر وأما الجلب محركة فما جلب من خيل وغيرها على ما في القاموس فقول الحلبي هنا هو بسكون اللام وفتحها ليس في محله ثم هذا كله مستفاد من قوله عز وجل وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ومن حديثه عليه الصلاة والسلام إن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم وإن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الْبَابُ الثَّالِثُ [فِي تَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَوُجُوبِ تَوْقِيرِهِ وبره] (في تعظيم أمره ووجوب توقيره وبرّه) أي في تعظيم أمره بقبوله وامتثاله والتوقير التعظيم ومحله في ظاهره وباطنه وجميع أحواله والبر هو الإحسان أي ووجوب الإحسان إلى ما يتعلق به عليه الصلاة والسلام من أهل بيته وعلماء أمته (قال الله تعالى) أي تعظم شأنه وظهر سلطانه وبرهانه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) أحوال مقدرة وأوصاف مقررة أي شاهدا على من أرسلناك إليهم فأنت مقبول عندنا لهم وعليهم ومبشرا لمن آمن منهم بالجنة والقربة ومخوفا لمن كفر بالحرقة والفرقة (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ الآية) [الفتح: 8- 9] أي بكمالها بالخطاب على الالتفات وفي قراءة بالغيبة أي تصدقوا وتقووا دينه وتعظموا أمره والظاهر ان الضمائر لله لقوله سبحانه وتعالى وَتُسَبِّحُوهُ ومن فرق فقد أبعد* ثم اعلم أن قوله قال الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ إلى قوله تعالى وَتُوَقِّرُوهُ هكذا وقع في أكثر الأصول وهذه الآية في سورة الفتح وليس فيها يا أيها النبي وإنما هو إِنَّا أَرْسَلْناكَ كما هو في بعض النسخ نعم في سورة الأحزاب وقعت الآية مصدرة بقوله سبحانه وتعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ إلا أنه ليس فيها لتؤمنوا بالله والحاصل أنه وقع تركيب بينهما بالانتقال في تصورهما (وقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا) أي أمرا أو معناه لا تتقدموا ويؤيده قراءة يعقوب لا تقدموا بحذف إحدى تاءيه وفتح الأخرى (قوله بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات: 1] أي قدامهما بمعنى قبل اذنهما وآخر الآية وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (ويا أَيُّهَا) أي وبعدها يا أيها (الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) [الحجرات: 2] أي لا تجاوزوا بأصواتكم حدا يبلغ صوته فضلا عن أن يعلوه بل عليكم أن تغضوها حتى يكون صوته فوق أصواتكم لتكون مزيته عليكم لائحة ومنزلته عندكم واضحة بأن يخفض الصوت بين يديه ويخافت المتكلم إليه تعظيما وتكريما لديه (الثّلاث الآيات) أي اقرأ الآيات الثلاث وأكملها لأن البقية لها دخل في تحقيق القضية وهي قوله سبحانه وتعالى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ أي إذا كلمتموه كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم أي مخافة حبوطها وأنتم لا تشعرون أي بحبوطها وبطلانها إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ أي يخفضونها عند رسول الله مراعاة للأدب والإجلال أو مخافة مخالفة النهي في الأقوال أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي جربها للتقوى ودربها لمشقتها ومرنها لكلفتها والمعنى علم سرها وعلانيتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 لهم مغفرة أي كثيرة لسيئاتهم وأجر عظيم على طاعاتهم واعلم أنه تنبغي هذه المراعاة أيضا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام في مسجده لا سيما عند مشهده وكذا عند قراءة حديثه ومسنده وكذا عند سماع القرآن وتفسير الفرقان كما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (وَقَالَ تَعَالَى: (لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور: 63] أي برفع الصوت فوق صوته أو بندائه بأسمائه فلا تقولوا يا محمد يا أحمد بل قولوا يا نبي الله ويا رسول الله كما خاطبه به سبحانه وعظم شأنه ذكره مجاهد وقتادة ولا منع من الجمع بين المعنيين في الآية فالمعنى نادوه بأوصافه الحميدة المذكورة في كلام الرب من خفض صوت مراعاة للأدب (فأوجب الله) أي تعالى على خلقه (تعذيره وتوقيره) أي تكريمه وتبجيله (وألزم) أي اتباعه (إكرامه وتعظيمه؛ قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما تعزّروه تجلّوه) من الإجلال (وقال المبرّد) بتشديد الراء المفتوحة وقد سبق ذكره (تُعَزِّرُوهُ تُبَالِغُوا فِي تَعْظِيمِهِ؛ وَقَالَ الْأَخْفَشُ تَنْصُرُونَهُ) الظاهر تنصروه أي دينه أو رسوله وهذه المباني متقاربة المعاني. واعلم أن من يقال له الأخفش ثلاثة أصغر وهو أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل المعروف بالأخفش الصغير النحوي كان عالما روى عن المبرد وثعلب وغيرهما وروى عنه الحريري وغيره وهو ثقة توفي في شعبان سنة خمس عشرة وثلاثمائة فجأة ببغداد وأما الأوسط فهو أبو الحسن سعيد ابن مسعدة المجاشعي بالولاء النحوي البلخي المعروف بالأخفش النحوي أحد نحاة البصرة من أئمة العربية وأخذ النحو عن سيبويه وكان أكبر منه وكان يقول ما وضع سيبويه في كتابه شيئا إلّا وعرضه علي رحمه الله تعالى وكان يرى أنه أعلم به مني وأنا اليوم أعلم به منه وهذا هو الذي زاد في العروض بحر الخبب وله تصانيف كثيرة منها الأوسط في النحو وتفسير معاني القرآن وغير ذلك توفي سنة خمس عشرة ومائتين وكان يقال له الأخفش الصغير فلما ظهر علي بن سليمان المعروف بالأخفش المتقدم صار هذا وسطا وأما الأكبر فهو أبو الخطاب عبد الحميد بن حميد من أهل هجر من مواليهم وكان نحويا لغويا وله ألفاظ لغوية انفرد بنقلها وأخذ عن سيبويه وأبي عبيدة ومن في طبقتهما وهذا ملخص كلام ابن خلكان والأخفش هو الصغير العين مع سوء بصره وقد يكون الخفش علة وهو الذي يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار ويبصر في الشيء في يوم غيم ولا يبصر في يوم صاح قاله الجوهري قال الحلبي والظاهر أن مراد القاضي هو الأوسط والله أعلم (وقال الطّبريّ) بفتحتين وهو محمد بن جرير (تعينونه، وقرىء) أي شاذا (تعزّزوه بزايين) بياءين لا بهمز وياء كما يتوهم (من العزّ) أي مجرد العز بمعنى الشدة والقوة كما قال تعالى فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ بالتخفيف والتشديد ونقل هنا إلى التعزيز من باب التفعيل للمبالغة والتكثير (ونهى) أي الله سبحانه وتعالى وفي نسخة بصيغة المجهول (عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْقَوْلِ وَسُوءِ الْأَدَبِ) أي بالفعل (بسبقه بالكلام) ويروى في الكلام (عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 اختيار ثعلب) وهو العلامة المحدث شيخ اللغة والعربية أبو العباس أحمد بن يزيد الشيباني مولاهم والبغدادي المقدم في نحو الكوفيين مولده سنة مائتين (قال سهل بن عبد الله) أي التستري (لا تقولوا قبل أن يقول) أي لا تبدؤوا بالكلام عنده (وإذا قال فاستمعوا له وأنصتوا) أي اسكتوا قال الحجازي يروى بعكسه قلت فيصير عكس الآية والمعنى أنه يجب السماع عند كلامه الذي هو الوحي الخفي كما يجب سماع القرآن الذي هو الوحي الجلي وفيه إيماء إلى رعاية هذا الأدب عند سماع الحديث المروي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال المصنف (ونهوا) أي أصحابه وأحزابه (عن التّقدّم) أي المبادرة (والتّعجّل) وفي نسخة والتعجيل (بقضاء أمر) أي بحكم شيء (قبل قضائه فيه وأن يفتاتوا) افتعال من الفوت أي يسبقوه (بشيء) أي منفردين برأيهم دونه في تصرفهم (فِي ذَلِكَ مِنْ قِتَالٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أمر دينهم إلا بأمره ولا يسبقوه به) أي ولو في أمر دنياهم والمعنى أن يكونوا تابعين له في جميع قضاياهم من امور دنياهم وأخراهم (وإلى هذا) أي المعنى المذكور (يرجع قول الحسن) أي البصري (ومجاهد والضّحّاك والسّدّيّ والثّوريّ) أي يوافق قول هؤلاء ذلك المقال في المآل (ثمّ وعظهم) أي نصحهم الله (وحذّرهم) بالتشديد أي وخوفهم (مخالفة ذلك) المنهي هنالك (فقال وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي احذروا مخالفته واحترسوا من معاقبته (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) بأقوالكم (عَلِيمٌ) [الحجرات: 1] بأحوالكم (قال الماورديّ اتّقوه يعني في التّقدّم) أي بشيء من القول والفعل بين يديه قبل أن يعرف منه ميل إليه (وقال السّلميّ) وهو أبو عبد الرحمن (اتّقوا الله في إهمال حقّه) أي في الأوامر (وتضييع حرمته) أي في الزواجر (إنّه) وفي نسخة صحيحة أن الله (سُمَيْعٌ لِقَوْلِكُمْ عَلِيمٌ بِفِعْلِكُمْ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ رفع الصّوت فوق صوته) تعظيما لمقامه وتكريما لمرامه (والجهر) أي ونهاهم عن الجهر (له بالقول) أي في محاوراتهم (كما يجهر بعضهم لبعض) في مخاطباتهم (ويرفع) أي بعضهم (صوته) أي لبعض في مجلسه (وقيل) أي روي (كما ينادي بعضهم بعضا باسمه) كما هو أحد القولين في قوله تَعَالَى لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً على ما تقدم والله أعلم (قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ أَيْ لَا تُسَابِقُوهُ بالكلام وتغلظوا) بضم التاء وكسر اللام أي ولا تغلظوا (له بالخطاب) أي بالقول (ولا تنادوه باسمه) أي العلم (نداء) كمناداة (بعضكم بعضا) أي باسمه الذي سماه به أبواه (ولكن عظّموه) أي باطنا (ووقّروه) أي ظاهرا (ونادوه بأشرف ما يحبّ) أي ما يعجبه (أن ينادي به) أي من وصف رسالة أو نعت نبوة بأن تقولوا (يا رسول الله يا نبيّ الله) أي وأمثالهما من نحو يا حبيب الله يا خليل الله وهذا في حياته وكذا بعد وفاته في جميع مخاطباته (وهذا) أي مقول مكي (كقوله) أي كقول الله سبحانه وتعالى (فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النُّورِ: 63] عَلَى أَحَدِ التّأويلين) أي التفسيرين المشهورين في الآية وقد قدمنا هذا التأويل عن مجاهد وقتادة في أول الباب والتأويل الآخر هو ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما احذروا دعاء الرسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 عليكم إذا اسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره (وقال غيره) أي غير مكي (لا تخاطبوه إلّا مستفهمين) أي عن قول أو فعل تريدون صدوره منكم أيجوز هذا أم لا وفي رواية إلّا مشفقين أي وجلين خائفين (ثمّ خوّفهم الله تعالى بحبط أعمالهم) بفتح الحاء وسكون الباء أي بحبوطها وإبطالها (إن هم فعلوا ذلك) أي المنهي هنالك (وحذّرهم منه) أي مما يتعلق به من المهالك (قيل نزلت الآية) أي الآية التي بعد هذه الآيات وهي قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ (فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ وَقِيلَ فِي غَيْرِهِمْ أتوا النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فنادوه) أي على عادة الأعراب فيما بينهم عند الوقوف على الأبواب (يا محمّد يا محمّد) مرتين (اخرج إلينا فذمّهم الله تعالى بالجهل) أي الغالب عليهم (ووصفهم بأنّ أكثرهم لا يعقلون) أي آداب أولي الألباب وأبعد الدلجي حيث قال المراد بالآية قوله تعالى لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ فإنه يأبي عنه قوله فذمهم الله إلى آخره ومما يدل على ما اخترناه قوله (وقيل نزلت الآية الأولى) أي ما قبل هذه الآية وهي قوله تعالى لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ (في محاورة) بحاء مهملة أي مكالمة ومجاوبة (كانت) أي وقعت (بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي قدامه (واختلاف) ويروى لاختلاف (جرى بينهما حتّى ارتفعت أصواتهما) أي أمامه فنهيا عن ذلك وغيرهما كذلك لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب روي أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أمر القعقاع بن سعيد بن زرارة وقال عمر رضي الله تعالى عنه أمر الأقرع بن حابس قال أبو بكر ما أردت إلا خلافي قال عمر ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت (وقيل نزلت) كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (في ثابت بن قيس بن شمّاس) بتشديد الميم وتخفف (خطيب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مفاخرة بني تميم) فعن جابر قال جاءت بنو تميم فنادوا على الباب اخرج إلينا يا محمد نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا لنشاعرك ونفاخرك فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال ما بالشعر بعثت ولا بالفخر أمرت ولكم هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لثابت بن قيس قم فأجبه فقام فأجابه وكان أحسن قولا (وكان في أذنيه صمم) أي ثقل (فكان يرفع صوته) أي عند تكلمه وربما تأذى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم به (فلمّا نزلت هذه الآية) أي آية لا تَرْفَعُوا (أقام في منزله) أي بيت نفسه وحرم من مجلس أنسه عليه الصلاة والسلام (وخشي أن يكون حبط عمله ثمّ) أي بعد تفقده عليه الصلاة والسلام له واطلاعه على خبره وطلبه إلى محضره (أتى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي معتذرا (فقال يا نبيّ الله لقد خشيت) أي بعد نزول هذه الآية (أن أكون هلكت) أي بحبوط عملي وقنوط أملي (نهانا الله أن نجهر بالقول) أي مطلقا في الشرع (وأنا امرؤ جهير الصّوت) بحسب الطبع (فقال النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تسلية له عما تقدم (يَا ثَابِتُ أَمَّا تَرْضَى أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنّة) أي سعيدا (فقتل يوم اليمامة) في خلافة الصديق تحقيقا للكرامة (وروي) كما أخرجه البزار من طريق طارق بن شهاب (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) أي لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ (قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ بعدها) وفي نسخة صحيحة بعد هذا (إلّا كأخي السّرار) بكسر السين المهملة أي إلّا مشابها لصاحب النجوى والمساررة والمعنى لا أكلمك إلّا سرا (وأنّ عمر رضي الله تعالى عنه) كما في البخاري (كان إذا حدّثه) أي كلمه عليه الصلاة والسلام (حدّثه كأخي السّرار) أي في خفض صوته كما بينه بقوله (مَا كَانَ يَسْمَعُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) بضم الياء وكسر الميم (بعد هذه الآية) وفي نسخة بعد هذه الآية أي بعد نزولها (حتّى يستفهمه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من عمر عما ساروه به لكمال اخفائه (فأنزل الله تعالى فيهم) أي في أبي بكر وعمر وأمثالهما رضي الله تعالى عنهم (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) أي يخفضونها (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ) مراعاة للأدب أو محاذرة من مخالفة الرب (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي جربها لها ومرنها عليها حتى صاروا أقوياء على احتمال مشاقها من أنواع الابتلاء وقيل اختبرها واخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه (وَقِيلَ نَزَلَتْ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ [الحجرات: 4] في غير وفد بني تميم) أي كما مر وهو صريح فيما قدمناه (نادوه باسمه، وروى صفوان بن عسّال) بمهملتين وتشديد الثانية صحابي مشهور وقد أخرج عنه الترمذي والنسائي (أنه قال بينا) بألف معوضة عن المضاف إليه أي بين أوقات كان ويروى بينما (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في سفر إذ ناداه أعرابيّ) نسبة إلى أعراب البادية ممن آثار الجهل عليهم بادية (بصوت له جهوريّ) بفتح الجيم والواو أي شديد عال والواو زائدة قال الجوهري جهر بالقول رفع صوته وجهور وهو رجل جهوري الصوت وجهير الصوت (أيا محمّد أيا محمّد) وفي نسخة صحيحة أيا محمد ثلاث مرات (فقلنا له اغضض) بضم عينه أي أخفض (من صوتك فإنّك) أي في ضمن غيرك (قد نهيت عن رفع الصّوت) أي عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وقال الله تعالى) أي تعظيما له وتعلميا لنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) [البقرة: 104] أي لا تخاطبوه به واختلف في سببه (قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ لُغَةٌ كَانَتْ فِي الأنصار) بمعنى راقبنا وتأن علينا حتى نفهم كلامك الوارد إلينا (نهوا عن قولها) أي عن هذه الكلمة (تعظيما للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وتبجيلا له أي تفخيما (لأنّ معناها) أي مفهوم كلمة راعنا وهو الأمر بالمراعاة من باب المفاعلة (ارعنا) بفتح العين أمر من الرعاية (نرعك) مجزوم على جواب الأمر (فَنُهُوا عَنْ قَوْلِهَا إِذْ مُقْتَضَاهَا كَأَنَّهُمْ لَا يَرْعَوْنَهُ إِلَّا بِرِعَايَتِهِ لَهُمْ بَلْ حَقُّهُ أَنْ يرعى) بصيغة المجهول أي يلاحظ ويحافظ (على كلّ حال) أي سواء رعاهم أم لا (وقيل بل كانت اليهود) أي حين سمعوا هذه الكلمة من الآية انتهزوا الفرصة بما عندهم من الغنيمة (تعرّض بها) من التعريض بمعنى الكناية (للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بالرّعونة) وهي الحماقة والمعنى تلوح بهذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 الكلمة المستعملة في مبناها مرادا بها غير مقتضاها من مبناها (فنهي المسلمون عن قولها) أي وأمروا أن يقولوا وانظرنا بدلها (قطعا للذّريعة) أي الوسيلة إلى مقاصدهم الشنيعة (ومنعا للتّشبّه) أي تشبه المؤمنين (بهم في قولها) أي في التفوه بها (لمشاركة اللّفظة) أي اللفظة في المبنى ومخالفتها في المعنى (وقيل غير هذا) أي غير ما ذكر من التفسيرين في معنى الآية محله الكتب المطولة. فصل [في عادة الصحابة في تعظيمه عليه الصلاة والسلام وتوقيره وإجلاله] (فِي عَادَةِ الصَّحَابَةِ فِي تَعْظِيمِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وتوقيره وإجلاله) الأولى تأخير عليه الصلاة والسلام إلى هذا المقام (حدثنا القاضي أبو عليّ الصّدفيّ) بفتحتين وهو ابن سكرة (وأبو بحر) بفتح موحدة وسكون مهملة (الأسديّ) بفتحتين نسبة إلى قبيلة (بسماعي عليهما في آخرين) أي مع جماعة آخر من المشايخ أو من التلامذة ويؤيد الأول قوله (قالوا) بصيغة الجمع ويؤيد الثاني ما في نسخة قالا بصيغة التثنية (ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الحسن) وفي بعض النسخ بصيغة التصغير والصواب هو الأول (حدّثنا محمّد بن عيسى) أي الْجُلُودِيُّ (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ) صاحب الصحيح (حدّثنا محمّد بن مثنّى) اسم مفعول من التثنية (وأبو معن) بفتح فسكون (الرّقّاشيّ) بفتح الراء وتخفيف القاف ثم شين معجمة بصري ثقة (وإسحاق بن منصور) هذا هو الكوسج الحافظ (قالوا) أي ثلاثتهم (حدّثنا الضّحّاك بن مخلد) بسكون خاء معجمة بين فتحتين أبو عاصم الشيباني والنبيل البصري روي عنه أنه قال ما دلست قط ولا اغتبت أحد منذ عقلت تحريم الغيبة روى عنه البخاري وغيره أخرج له الأئمة الستة (أنا) أي أنبأنا وفي نسخة أخبرنا (حيوة) بفتح فسكون (ابن شريح) بالتصغير (حدّثني يزيد بن أبي حبيب) عالم أهل مصر وكان حبشيا من العلماء الحكماء الأتقياء (عن ابن شماسة) بضم الشين المعجمة وفتحها فميم مخففة وبعد الألف سين مهملة واسمه عبد الرحمن (المهريّ) بفتح ميم وسكون هاء فراء توفي أول خلافة يزيد بن عبد الملك (قال حضرنا عمرو بن العاص فذكر) وفي نسخة فذكر لنا أي ابن شماسة (حديثا طويلا فيه عن عمرو قال) وفيه أيضا فحول وجهه إلى الجدار فجعل يقول (وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أجلّ) أي أعظم (في عيني منه) وفي نسخة بصيغة التثنية (وما كنت أطيق) بضم الهمزة أي أقدر (أن أملأ عيني منه إجلالا له) أي وإكمالا له (ولو سئلت) وفي نسخة ولو شئت (أن أصفه) أي اذكر نعت ظاهر خلقه (ما أطقت) أي ما قدرت لعدم احاطتي بأوصافه خبرا (لأنّي لم أكن أملأ عيني منه) أي نظرا (وروى التّرمذي) أي صاحب السنن لا الحكيم الترمذي وكذا الحاكم (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم كان) أي النبي عليه الصلاة والسلام (يَخْرُجُ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهُمْ جلوس) حال (فيهم أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما) أي من جملتهم أو فيما بينهم أبو بكر والجملة حال أيضا (فلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 يرفع أحد منهم إليه بصره) أي نظره اجلالا لمحضره (إلّا أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فإنّهما كانا ينظران) أي يطالعان (إِلَيْهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمَا وَيَتَبَسَّمَانِ إِلَيْهِ وَيَتَبَسَّمُ لَهُمَا) أي لكمال فضلهما على غيرهما قال الحلبي أخرجه الترمذي في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث الحاكم وقد تكلم بعضهم فيه انتهى (وروى أسامة بن شريك) بفتح فكسر ثعلبي كوفي صحابي وقد روى عنه أصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي (قال أتيت النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه حوله) الجملة حال وفي نسخة حوله جلوس أي جالسون والمعنى أنهم محيطون به متحلقون لديه متأدبون بين يديه (كأنّما على رؤوسهم الطّير) بالرفع أي بحيث لو فرض أن يكون طير على رؤوسهم لا يتحرك لسكونهم وحال جلوسهم (وفي حديث صفته) بكسر ففتح أي نعته ووصفه عليه الصلاة والسلام وتصحف على بعضهم بصفية أم المؤمنين وليس لها هذا الحديث (إذا تكلّم أطرق جلساؤه) أي أرخوا رؤوسهم (كأنّما على رؤوسهم الطّير) أخرجه الترمذي في الشمائل من حديث هند بن أبي هالة رواه عنه الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنهما (وقال عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه) أي الثقفي على ما رواه البخاري عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم بن أبي العاص أنه (حين وجّهته قريش) أي أرسلته (عام القضيّة) أي قضية صلح الحديبية (إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في طلب الصلح سنة ست من الهجرة النبوية سمي بها لأنه كتب فيها هذا ما قاضى عليه الصلاة والسلام أي صالح وأما ما ذكره الأنطاكي من أن القضية كانت في السنة السابعة بعد الحديبية فهو وهم لأنها تسمى عام القضاء وقد تسمى عام القضية إلّا أنها ليست هذه القضية (ورأى) أي عروة (من تعظيم أصحابه له ما رأى) أي مما لا يكاد يستقصي (وأنّه) بالفتح عطفا على ما رأى وبالكسر على الجملة الحالية (لا يتوضّأ) أي لا يستعمل الوضوء (إلّا ابتدروا وضوءه) بفتح الواو وقد يضم أي سارعوا إلى بقية ما توضأ به من الماء أو إلى ما تقاطر منه من الأعضاء (وكادوا يقتتلون عليه) أي لفرط حرصهم على التبرك بما لديه أو بما أصابه من يديه ومن لم يصب منه شيئا يكون من نصيبه أخذ من بلل يد صاحبه (ولا يبصق) بضم الصاد (بصاقا) أي ولا يبزق بزاقا من الفم (ولا يتنخّم نخامة) بضم النون ما يخرج من اقصى الحلق ومن مخرج الخاء المعجمة (إلّا تلقّوها) أي أخذوها من الهواء (بأكفّهم) أي من غاية الهوى ونهاية الهدى (فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم) أي فبالغوا في مسح أعضائهم بها (ولا تسقط منه شعرة) بسكون العين وتفتح (إلّا ابتدروها) أي بادروا إلى أخذها وحفظها سواء كانت من رأسه الشريف أو بقية مساسه (وإذا أمرهم بأمر) أي من أمر ونهي (ابتدروا أمره) أي امتثاله (وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده) أي إن طلب جوابا منهم وإلّا سكتوا وسمعوا كلامه وفهموا مرامه (وما يحدّون) بضم أوله وكسر ثانيه وتشديد داله أي ما يشخصون (إليه النّظر تعظيما له) أي وهيبة وتكريما له (فلمّا رجع) أي عروة (إِلَى قُرَيْشٍ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنِّي جئت كسرى) بكسر الكاف ويفتح وفتح الراء وقد يقال هو لقب ملك فارس أي حضرته (في ملكه) أي تحت سلطنته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وتحت هيبته وعظمته (وقيصر) أي وجئت قيصر وهو لقب ملك الروم (في ملكه) أي في معظم ملكه (والنّجاشيّ) بفتح النون وبكسر بتشديد الياء ويخفف وهو لقب ملك الحبشة (في ملكه) أي في دياره وداره (وإنّي والله ما رأيت ملكا) أي من الملوك المذكورة معظما ومكرما (في قوم) أي فيما بين جنده (قطّ) أي أبدا (مثل محمد في أصحابه؛ وفي رواية) أي أخرى كما في نسخة (إن) بكسر همز وسكون نون أي ما (رأيت) أي ما أبصرت أو ما علمت (ملكا) أي من الملوك (قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم) أي مثل ما يعظم (محمدا أصحابه، وقد رأيت) أي أبصرت أصحابه وعلمت أحبابه وأحزابه (قوما لا يسلمونه) بضم الياء وسكون السين وكسر اللام أي لا يخذلونه (أبدا) من أسلمته إلى شيء ثم خص بالالقاء في المهلكة بدليل حديث إني وهبت لخالتي غلاما قلت لها لا تسلميه حجاما ولا صائغا ولا قصابا أي لا تعطيه لمن يعلمه إحدى هذه الصنائع فكراهة القصاب والحجام لما يباشرانه من النجاسة مع تعذر الاحتراز ولما فيه من لوازم القساوة وقلة المرحمة وأما الصائغ فلما يدخل صنعته من الغش والربا وخلف الوعد والإيمان الكاذبة (وعن أنس رضي الله تعالى عنه (كما رواه مسلم) لقد رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والحلاق يحلقه) أي يحلق شعر رأسه إما بعد عمرة أو بعد الحج إذ لم يحلق في غيرهما (وأطاف به أصحابه) أي داروا حوله ليأخذوا من شعره ويتبركوا بأثره (فما يريدون) أي من كمال اتفاقهم (أن تقع شعرة) أي من شعراته (إلّا في يد رجل) أي من طلاب بركاته واختلف في اسم من حلق رأس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والصحيح والمشهور أنه معمر بن عبد العزيز العدوي كما ذكره النووي في شرح مسلم وفي صحيح البخاري زعموا أنه معمر وعن ابن عبد البر أن خراشا حلقه يوم الحديبية انتهى وأما في عمرة الجعرانة فقيل حلقه أبو هند والله أعلم (ومن هذا) أي ومن جملة تعظيم أصحابه وتكريم أحبابه (لمّا أذنت قريش) أي مراعاة (لعثمان رضي الله عنه) أي حين قدومه مكة (في الطّواف بالبيت) أي بعد منعه منه (حين وجّهه النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم في القضيّة) أي في قضية صلح الحديبية (أبى) أي امتنع عثمان أن يطوف به (وقال ما كنت لأفعل) أي الطواف وحدي (حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) لكمال أدبه وجمال طلبه وكان ذلك حين انتهى إليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قاصدا مكة ليعتمر فصده المشركون فدخل عثمان إلى مكة للصلح وتقدم بقية القضية في الفصل التاسع من أول الكتاب (وفي حديث طلحة رضي الله تعالى عنه) أي ابن عبيد الله أحد العشرة المبشرة وسيأتي بعض منقبته قريبا وقد روى عنه الترمذي وحسنه (أنّ أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالوا لأعرابيّ جاهل سله) يعنون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (عمّن قضى نحبه) أي في قوله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي وفى بنذره وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ أمر قضائه وقدره في تحقيق أمره روي أن رجالا من الصحابة منهم عثمان بن عفان وسعيد بن زيد وحمزة ومصعب بن عمير وغيرهم رضي الله تعالى عنهم نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 الله تعالى عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وقد ثبت طلحة يوم أحد وبذل جهده في القتال حتى شلت يده إذ وقى بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر أنه أصيب في جسده بضعا وثمانين من بين طعن وضرب (وكانوا يهابونه ويوقّرونه) أي يعظمونه ولهذا ما كانوا بأنفسهم يسألونه وكان عليه الصلاة والسلام يتحمل من الأعراب ما لا يتحمل من الأصحاب (فسأله) أي الأعرابي (فأعرض عنه) أي عن جوابه ولم يلتفت إلى ما يتعلق ببابه (إذ طلع طلحة رضي الله تعالى عنه) أي الراوي (فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هذا ممّن قضى نحبه) فكأنه الزم نفسه أن يصدق الله تعالى في قتل أعدائه في الحرب وقد وفى بعهده يوم أحد وقيل المراد بالنحب هو الموت فكأنه التزم أن يقاتل حتى يموت ففي الحديث إيماء إلى أنه سيموت شهيدا وفي الحلية أنه عليه الصلاة والسلام تلا على المنبر فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ فسأله رجل من هم فأقبل على طلحة بن عبيد الله وقال هذا منهم وفي تفسير ابن أبي حاتم أن عمارا منهم وهذا يحتمل التأويلين المتقدمين وفي تفسير يحيى بن سلام المغربي هم حمزة وأصحابه والظاهر أن المراد بهم شهداء أحد ولا يبعد أن يقال المراد بهم الشهداء والثابتون في مقابلة الأعداء واختار ابن الملقن المعنى الأول حيث قال والذي يظهر لي أنهم المقتولون معه صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى وما قلناه هو الأتم والأعم والله تعالى أعلم وقد قتل طلحة رضي الله تعالى عنه في وقعة الجمل سنة ست وثلاثين ودفن بالبصرة قال الحلبي وفي الصحابة أربعة عشر غيره ممن يقال له طلحة (وفي حديث قيلة) بقاف مفتوحة فتحتية ساكنة بنت مخرمة العنبرية على ما رواه أبو داود في الأدب والترمذي في الشمائل (فلمّا رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسا القرفصاء) بضم القاف والفاء أي جلسة المحتبي بيديه (أرعدت) أي اضطربت (من الفرق) بفتحتين أي الخوف والفزع (وَذَلِكَ هَيْبَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا؛ وَفِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ) الذي رواه الحاكم في علوم الحديث والبيهقي في المدخل (كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرعون) أي يضربون (بابه بالأظفار) وفي نسخة بالأظافير أي ضربا خفيفا ودقا لطيفا تعظيما وتكريما وتشريفا وفي حديث عمر رضي الله تعالى عنه أنه أخذ قدح سويق فشربه حتى قرع القدح جبينه أي ضربه والمعنى شربه جميعه (وقال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه كما روى أبو يعلى لَقَدْ كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم عن الأمر فأؤخّر) وفي نسخة فأؤخره أي فأؤخر سؤاله (سنين) بصيغة التثنية وفي نسخة سنين بصيغة الجمع (من هيبته) أي من كمال هيبته وجلال عظمته صلى الله تعالى عليه وسلم. فصل [واعلم أن حرمة النبي بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم] (واعلم أن حرمة النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه) بنصبهما أي بعد وفاته (لازم) أي على كل مسلم (كما كان) أي ما ذكر واجبا (حال حياته) أي لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 الآن حي يرزق في علو درجاته ورفعة حالاته (وذلك) أي التعظيم والإكرام (عند ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر حديثه) أي كلامه (وسنّته) أي وذكر طريقته (وسماع اسمه) الشريف وكذا نعته اللطيف (وسيرته) أي في جميع هيئاته من حركاته وسكناته (ومعاملة آله) أي أهل بيته (وعترته) بكسر أوله أي ذريته وقرابته (وتعظيم أهل بيته) أي من أزواجه وخدمته ومواليه (وصحابته) أي أهل صحبته (قال أبو إبراهيم) زيد في نسخة إسحاق (التّجيبيّ) بضم التاء وتفتح وبكسر الجيم (واجب على كلّ مؤمن متى ذكره) أي بنفسه (أو ذكر عنده) أي على لسان غيره (أن يخضع) أي ظاهرا (ويخشع) أي باطنا (ويتوقّر) أي يتكلف الوقار والرزانة في هيئته (ويسكن من حركته ويأخذ) أي يشرع ويسرع (في هيبته وإجلاله) أي في مقام تعظيمه وإكرامه (بما كان يأخذ به نفسه) أي يطلب منها (لو كان) أي فرضا (بين يديه) أي أمام عينيه (ويتأدّب) بالنصب أو الرفع (بما أدّبنا الله به) أي من وجوب تعظيمه وتكريمه وخفض الصوت ونحوه (قال القاضي أبو الفضل) يعني المصنف (وهذه) أي الطريقة المرضية (كانت سيرة سلفنا الصّالح) يروى الصالحين أي المتقدمين من الصحابة والتابعين (وأئمّتنا الماضين) أي العلماء العاملين (حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ بْنُ بقيّ) بفتح موحدة وكسر قاف وتشديد تحتية (الحاكم وغير واحد) أي وكثيرون (فيما أجازونيه) هذا لغة في أجازوه لي (قالوا) أي كلهم (أخبرنا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ دِلْهَاثٍ) بكسر داله وسكون لامه ومثلثة في آخره (قال ثنا) أي حدثنا (أبو الحسن عليّ بن فهر) بكسر فاء فسكون هاء ثم راء (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الفرج) بفتح الفاء والراء فجيم (حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُنْتَابِ) بضم ميم فسكون نون ففوقية (قال حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ حدّثنا ابن حميد) بالتصغير (قال ناظر) أي جادل وباحث (أبو جعفر) هذا هو المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ثاني خلفاء بني العباس (أمير المؤمنين) اطلاق هذا عليه غير معروف بين المصنفين (مالكا) أي الإمام (في مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ورفع صوته في كلامه معه (فقال له) أي مالك كما في أصل صحيح (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِي هذا المسجد) أي خصوصا لأنه بقرب قبره عليه الصلاة والسلام (فإنّ الله تعالى) وفي نسخة عز وجل (أدّب قوما) أي معظمين (فَقَالَ لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] الآية) أي وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (ومدح قوما) أي مكرمين (فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ) [الحجرات: 4] الآية) أي أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مغفرة وأجر عظيم (وذمّ قوما) أي من الأعراب (فقال إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ [الحجرات: 4] الآية) أي أكثرهم لا يعقلون (وإن حرمته ميتا) بالتشديد والتخفيف (كحرمته حيّا فاستكان لها أبو جعفر) أي خضع وخشع لمقالة مالك رحمه الله تعالى وفيه تنبيه نبيه على أنه يجب التأدب بين يدي العالم لما روي من أن الشيخ في قومه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 كالنبي في أمته (وقال) أي أبو جعفر لمالك رحمه الله تعالى (يا أب عبد الله) بحذف الألف كتابة وإثباته قراءة (استقبل القبلة) استفهام استرشاد والتقدير استقبلها (وأدعو) أي الله سبحانه وتعالى بعد الزيارة (أم أستقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقال) أي مالك (ولم تصرف وجهك عنه) أي عن رسولك (فهو) وفي نسخة صحيحة وهو أي والحال أنه (وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام) أي وسائر الأنام (إلى الله تعالى يوم القيامة) أي كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة (بل استقبله واستشفع به) أي اطلب شفاعته وسل وسيلته في قضاء مراداتك وأداء حاجاتك (فيشفّعك الله) بتشديد الفاء أي يقبل الله به شفاعتك لأمرك ولغيرك وفي نسخة فيشفعه أي فيقبل شفاعته في حقك ويعفو عن ذنبك بوسيلة نبيك (قال الله تعالى) أي مصدقا لذلك فيما قرره مالك (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [النِّسَاءِ: 64] الْآيَةَ بالمعصية (جاؤوك) أي للمعذرة والتوبة (الآية) يعني فاستغفرا الله أي بلسانهم وجنانهم واستغفر لهم الرسول فيه التفات عدل إليه تفخيما لشأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لوجدوا الله أي لعلموه توابا رحيما أي منعوتا بهذين الوصفين حين تاب عليهم ورحمهم بعدم المؤاخذة على ما صدر منهم (وَقَالَ مَالِكٌ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ) أي عن مقامه ومرتبته وهو بسين مفتوحة وتضم وبسكون معجمة فتحتية مكسورة نسبة لبيع السختيان وهو الجلد المدبوغ معرب وهو عنزي وقيل جهني مولاهم يروي عن ابن سيرين وجماعة وعنه شعبة وطائفة قال ابن علية كنا نقول عنه ألفي حديث وقال شعبة ما رأيت مثله كان سيد الفقهاء وحدث عن أم خالد بنت خالد واسمها آمنة وحديثه عنها في البخاري وقال في أثره ولم أسمع أحدا يقول قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي من غير ذكر واسطة سوى أم خالد والجملة حالية معترضة بين القول ومقوله (ما حدّثتكم) أي ما رويت لكم حديثا (عن أحد) أي من اتباع التابعين (إلّا وأيوب أفضل منه، قال) أي مالك رحمه الله للدلالة على ذلك (وحجّ) أي أبو أيوب (حجّتين) أي مرتين (فكنت أرمقه) بضم ميم أي انظر إليه وأتأمل لديه (ولا أسمع منه) أي كلاما يكون عليه أولا أسمع منه حديثا يحدثني به (غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم بكى) الظاهر يبكي (حتّى أرحمه) أي من شدة بكائه وكثرة عنائه شوقا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (فلمّا رأيت منه ما رأيت) أي من حسن فعاله ما يقتضي بعض كماله (وإجلاله للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كتبت عنه) أي الحديث ورويت عنه العلم (وقال مصعب بن عبد الله) أي ابن مصعب بن ثابت الزبيري يروي عن مالك وغيره وعنه الشيخان وغيرهما (كَانَ مَالِكٌ إِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) وفي نسخة بصيغة المفعول وهو يشمل ما ذكره وذكره غيره عنده ويؤيده أن في نسخة فإذا ذكر عنده النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يتغيّر لونه وينحني) أي يميل ظهرة (حتّى يصعب) بضم العين أي يشتد (ذلك على جلسائه) أي من أجل مشاهدة شدة عنائه (فقيل له يوما في ذلك) أي في تهوين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 الأمر على نفسه هنالك (فقال لو رأيتم ما رأيت) أي لو عرفتم ما عرفت من جلال مقامه وجمال مرامه (لما أنكرتم عليّ ما ترون) أي ما تبصرون من اضطراب حالي وتغير مقالي ولا يبعد أن يكون المعنى لو أبصرتم ما أبصرت من مشاهدة جماله ومطالعة جلاله في مقام مكاشفة كماله (ولقد كنت أرى محمّد بن المنكدر) أي التميمي المدني الحافظ يروي عن أبيه وعائشة وأبي هريرة وهو مرسل قاله ابن معين وأبو زرعة وعن أبي قتادة قال العلائي والظاهر أن ذلك مرسل وعن أبي أيوب وجابر وعنه شعبة ومالك والسفيانان إمام مسن له بكاء وتوفي سنة ثلاثين ومائة (وكان سيّد القرّاء) جملة معترضة (لا نكاد نسأله عن حديث أبدا) أي قط (إلّا يبكي) من لوعة الاحتراق بلذعة الافتراق (حتّى نرحمه) من كثرة بكائه وشدة عنائه (ولقد كنت أرى جعفر بن محمّد) أي الصادق كما في نسخة وهو بالنصب لقب جعفر ولقب أبيه الباقر وهو ابن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم (وكان كثير الدّعابة) بضم الدال المهملة أي المزاح (والتّبسّم) يعني لكمال خلقه وجمال خلقه والجملة معترضة (فإذا ذكر عنده النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم اصفرّ) بتشديد الراء أي تغير لونه وتحول كونه (وَمَا رَأَيْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم إلّا على طهارة، ولقد اختلفت) أي ترددت (إليه زمانا) أي كثيرا (فما كنت أراه) أي أشاهده (إلّا على ثلاث خصال) أي احدى حالات ثلاث (إمّا مصلّيا وإمّا صامتا) أي ساكتا متفكرا (وإمّا يقرأ القرآن) كان الأولى أن يقول وإما قارئا للقرآن (ولا يتكلّم فيما لا يعنيه) بفتح الياء وكسر النون أي ينفعه في دينه عملا بقوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وامتثالا لقوله عليه الصلاة والسلام من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه (وكان) أي الإمام جعفر الصادق (من العلماء والعبّاد) أي ممن جمع بين العلم والعمل وترك الهوى وطول الأمل (الّذين يخشون الله) أي يخافون عقوبته ويهابون عظمته (عزّ) أي شأنه وسلطانه (وجلّ) أي برهانه سبحانه وتعالى (ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم) أي ابن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي ولد زمن عائشة رضي الله تعالى عنها وسمع أباه وابن المسيب وعنه شعبة ومالك وابن عيينة ثقة ورع مكثر إمام قال ابن عيينة كان أفضل زمانه وكذلك أبوه وقد توفي بالمدينة سنة ست وعشرين ومائة (يذكر النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فينظر إلى لونه) بصيغة المفعول (كأنّه نزف) بضم النون وكسر الزاء أي سال (منه الدّم) ولم يبق منه شيء وهو كناية عن اصفرار وجهه وضعف بدنه (وقد جفّ لسانه) بفتح الجيم وتشديد الفاء أي يبس (في فمه) أي فلم يطق على تمام كلامه من كمال إكرامه واحترامه (هيبة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي إعظاما لمقامه (ولقد كنت آتي) أي أجيء (عامر بن عبد الله بن الزّبير) أي ابن العوام العابد الكبير القدر سمع أباه وجماعة وعنه مالك وطائفة قال ابن عيينة اشترى نفسه من الله تعالى ست مرات توفي بعد عشرين ومائة (فإذا ذكر عنده النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بكى) أي كثيرا (حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 عينيه دموع ولقد رأيت الزّهريّ) وهو محمد بن شهاب (وكان من أهنا النّاس) بفتح همزة وسكون هاء فنون فهمزة أي ألطفهم في العشرة (وأقربهم) أي في المودة (فإذا ذكر عنده النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ مَا عَرَفَكَ وَلَا عَرَفْتَهُ) أي لتغير حاله واختلاف مقاله في مقام جلاله (لقد كنت آتي صفوان بن سليم) بالتصغير وهو الإمام القدوة المدني ممن يستشفي بذكره يروي عن ابن عمر وعبد الله بن جعفر وابن المسيب وعنه مالك وغيره (وكان من المتعبّدين المجتهدين) يقال إنه لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة (فإذا ذكر النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بكى) فإن البكاء هو الشفاء من العناء والشقاء والمعنى استمر على البكاء (حتّى يقوم النّاس عنه ويتركوه) أي حذرا من رؤيته على تلك الحالة المحزنة (وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الحديث) أي حديثه عليه الصلاة والسلام (أخذه العويل) بفتح المهملة وكسر الواو أي صوت الصدر بالبكاء (والزّويل) بفتح الزاء وكسر الواو أي القلق به والعناء وأصل الزويل عدم الاستقرار يقال زال عن مكانه يزول زوالا وزويلا (ولمّا كثر على مالك النّاس) أي اجتمعوا عليه بكثرة بعد ما كانوا بوصف قلة (قيل له لو جعلت مستمليا) أي مبلغا للناس (يسمعهم) من الاسماع أي ليسمع القوم كلهم لكثرتهم وبعد بعضهم وجواب لو مقدر أي لكان حسنا أو معناه التمني أي تمنينا جعلك أحدا مستمليا (فقال قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) [الحجرات: 2] أي توقيرا له وتكريما وتعزيزا له وتعظيما (وحرمته حيّا وميّتا سواء) لأن فناءه في الحقيقة بقاء فإنه حي يرزق بدار اللقاء (وكان ابن سيرين) من أجلاء التابعين (ربّما يضحك) أي يتبسم (فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم خشع) أي خاف وخضع وتواضع كذا في نسخة هنا والظاهر أنه مكرر لما سيأتي في الفصل الذي يليه (وكان عبد الرّحمن بن مهديّ) وهو أحد الأعلام في الحديث روى عنه أحمد قال ابن المديني أعلم الناس بالحديث هو عبد الرحمن بن مهدي وقال الزهري ما رأيت في يده كتابا يعني كان حافظا (إذا قرأ حديث النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أمرهم) أي الناس أو أصحابه (بالسكوت) أي رعاية لحرمته وعناية لفهم مقولته (وقال) أي عبد الرحمن مقتبسا من القرآن (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) يعني وكذا فوق صوت راوي حديثه (ويتأول أنه يجب له) أي لأجله (من الإنصات عند قراءة حديثه) أي روايته بعد مماته (ما يجب له عند سماع قوله) أي كلام نفسه في حال حياته. فصل [فِي سِيرَةِ السَّلَفِ فِي تَعْظِيمِ رِوَايَةِ حَدِيثِ رسول الله وسنته عليه الصلاة والسلام] (في سيرة السلف) أي طريقتهم (فِي تَعْظِيمِ رِوَايَةِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وسنته) ولعله أراد بالحديث قوله وبالسنة فعله (حدّثنا الحسين بن محمّد الحافظ) أي ابن سكرة (حدّثنا أبو الفضل بن خيرون) بفتح أوله المعجم فسكون تحتية فضم راء يمنع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وقد يصرف (حدّثنا أبو بكر البرقانيّ) بفتح الموحدة هو الحافظ الإمام أحد الأعلام أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي الشافعي شيخ بغداد صنف التصانيف وخرج على الصحيحين روى عنه البيهقي والخطيب وأبو إسحاق الشيرازي قال الخطيب كتبنا عنه توفي ببغداد سنة خمس وعشرين وأربعمائة (وغيره) أي من المشايخ (حدّثنا أبو الحسن الدّارقطنيّ) بفتح الراء ويسكن وهو الحافظ الإمام شيخ الإسلام المنسوب إلى دار قطن محلة ببغداد (حدّثنا عليّ بن مبشرّ) بفتح ميم وسكون موحدة وكسر معجمة (حدّثنا أحمد بن سنان) بكسر أوله وتنوين آخره (القطّان) بفتح القاف وتشديد الطاء هو الحافظ أبو جعفر الواسطي روى عنه الشيخان وغيرهما قال ابن أبي حاتم هو إمام أهل زمانه (حدّثنا يزيد بن هارون) وهو أبو خالد الواسطي السلمي أحد الأعلام قال أحمد حافظ متقن وقال ابن المديني ما رأيت احفظ منه وقال العجلي ثبت متعبد حسن الصلاة جدا يصلي الضحى ست عشرة ركعة وقد عمي (حدّثنا المسعودي) أي عبد الرحمن بن عتبة الكوفي أحد الأعلام روى عنه ابن المبارك ووكيع ثقة كثير الحديث توفي سنة ستين ومائة (عن مسلم البطين) بفتح الموحدة وكسر المهملة أبو عبد الله مسلم بن عمران الكوفي يروي عن أبي وائل وعلي بن الحسين وأبي عبد الرحمن السلمي والأعمش وابن عون وثقه أحمد وغيره (عن عمرو بن ميمون) هو الأزدي يروي عن عمر ومعاذ وطائفة وكان كثير الحج والعبادة (قال) أي عمرو بن ميمون كما في رواية الدارمي (اختلفت إلى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه) أي ترددت إلى خدمته (سَنَةً فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بصريح اسمه وكأنه كان يكتفي بضمير اسمه (إلّا أنّه حدّث يوما) أي وقتا من زمانه (ثم جرى عَلَى لِسَانِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ثمّ علاه كرب) بفتح وسكون أي غلبه غم يأخذ بالنفس (حتّى رأيت العرق يتحدّر) بتشديد الدال وفي نسخة ينحدر بالنون أي يسيل نازلا (عن جبهته) أي من جهة كثرته (ثمّ قال) أي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه حديثه الذي رويته لكم عنه عليه الصلاة والسلام (هكذا) أي بهذا اللفظ (إن شاء الله تعالى) أي لكمال احتياطه (أو فوق ذا) أي بقليل (أو ما دون ذا) أي ببعض شيء (أو ما هو قريب من ذا) أي مما أقوله في نقل هذا وهذا كله تفاديا من الدخول في قوله عليه الصلاة والسلام من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وكان أبو الدرداء أيضا إذا حدث قال مثله وكان أنس رضي الله تعالى عنه إذا حدث قال أو كما قال (وفي رواية فتربّد وجهه) بتشديد الموحدة أي فتغير لون وجه ابن مسعود وزيد في نسخة إلى غبرة وهي سواد مشوب ببياض فإن الربدة لون إلى الغبرة قال الهروي يقال تربد لونه أي تلون وصار كلون الرماد (وفي رواية وقد) وفي نسخة فقد (تغرغرت عيناه) أي امتلأت عينا ابن مسعود دمعا يتردد فيهما من الغرغرة وهي في الأصل أن يجعل المشروب في الفم ويردد إلى الحلق من غير أن يبلع ومنه حديث أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أي ما لم تبلغ روحه حلقومه تشبيها لها بالشيء الذي يتغرغر به المريض (وانتفخت أوداجه) جمع ودج هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ما أحاط بالعنق من عروق الحلق التي يقطعها الذابح (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرَيْمٍ) مصغر قرم بالقاف أي مقدام في المعركة وعن علي انا أبو الحسن القرم المقدام في الرأيّ وهو في الأصل فحل الإبل والمعنى أنا فيهم بمنزلته (الأنصاريّ قاضي المدينة) أخرج له الترمذي فقط (مرّ مالك بن أنس) وهو إمام دار الهجرة (على أبي حازم) بكسر الزاء وحاؤه مهملة وهو سلمة بن دينار الأعرج أحد الأعلام يروي عن سهل بن سعد وابن المسيب وعنه مالك وأبو ضمرة قال ابن خزيمة ثقة لم يكن في زمانه مثله (وهو يحدّث) أي والحال أن أبا حازم يحدث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فجازه) أي جاز الموضع أو الشيخ وهو بمعنى جاز به وجاوزه والمعنى لم يجلس إليه ليأخذ الحديث عنه (وقال) اعتذارا لمن أورد عليه السؤال بلسان القال أو ببيان الحال (إنّي لم أجد موضعا أجلس فيه) أي متأدبا (فكرهت أن آخذ) أي أسمع وأتحمل (حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا قائم) قال الدلجي والعجب منه رحمه الله تعالى أنه كان مع مبالغته في تعظيم حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقدم عليه عمل أهل المدينة وإن خالفه ويقول هذا لم يصحبه عمل فجعل العمل بحديثه صلى الله تعالى عليه وسلم مشروطا بعلم غيره مع قوله تعالى وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ولم يوافقه أحد من علماء الأمصار على ذلك قال الشافعي كنت أظن أنه لم يخالف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلّا في ستة عشر حديثا فوجدته يعمل بالفرع ويترك الأصل فمكثت سنة استخير الله تعالى في مخالفته ولما خالفه سعى به المالكية إلى السلطان فأمره بأن يخرج من مصر فقال له اجلني ثلاثة أيام فأجله فليلة الثالث مات السلطان فمكث الشافعي وألف كتبه الجديدة بها إلى أن توفي بها تاسع عشرين من جمادى الآخرة سنة أربع ومائتين رحمه الله تعالى انتهى ولا يخفى أن المجتهد أسير الدليل وأصول الفقهاء مختلفة في التعليل فمذهب مالك إن عمل أهل المدينة بناء على أنهم أخذوا عن آبائهم من المهاجرين والأنصار التابعين لسيد الأبرار مقدم على حديث بظاهره يخالفهم فكأنه جعل عملهم بمنزلة اجماعهم وهذا يشبه اختلاف أصول علمائنا الحنفية وهو أن الراوي إذا عمل بخلاف روايته دل على أن حديثه منسوخ أو توهم في نقله ورجع عنه بفعله ونظير هذا عمل أهل مكة في الطواف بإرسال اليد حيث يكون بمنزلة الإجماع المانع من أن يكون وضع اليد فيه مستحبا بل يحكم فيه بأنه مكروه لكونه بدعة وأما قول الشافعي في حقه مع قلة أدبه فمحمول على ظنه به أنه كان يخالف ظاهر الأحاديث النبوية وهكذا شأن كل مجتهد بالنسبة إلى غيره من الأئمة مع أن الفضل للمتقدم بلا شبهة وقوله فوجدته يعمل بالفرع دون الأصل هو الفعل الذي لا يليق أن يصدر مثله من أرباب الفضل (وَقَالَ مَالِكٌ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ الْمُسَيَّبِ) بتشديد الياء المفتوحة وقد تكسر (فسأله) أي الرجل (عن حديث وهو) أي والحال أن ابن المسيب (مضطجع) أي واضع جنبه على الأرض (فجلس وحدّثه) ولعله كان مريضا فتكلف في جلوسه (فقال له الرّجل وددت) بكسر الدال الأولى أي أحببت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وتمنيت (أنّك لم تتعنّ) بالعين المهملة وتشديد النون أي لم تتعب ولم تتكلف العناء لنفسك بجلوسك (فَقَالَ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا مضطجع) جملة حالية (وروي) بصيغة المجهول أي نقل (عن محمّد بن سيرين) بمنع صرفه للعلمية وزيادة الياء والنون على مذهب الفارسي وهو أحد الأعلام يروي عن أبي هريرة وعمران بن الحصين ولم يسمع منه قاله الدارقطني وروايته عنه في الصحيح وقد تعقب الدارقطني النووي في شرح مسلم فقال بل هو معدود فيمن سمع منه انتهى وكان ثقة حجة كثير العلم ورعا بعيد الصيت قليل كان يصوم يوما ويفطر يوما وله سبعة أوراد في الليل وترجمته طويلة (أنّه قد يكون يضحك) أي مع أصحابه (فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم خشع) أي ظاهرا وباطنا (وقال أبو مصعب) هو أحمد بن أبي بكر بن القاسم ابن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف أبو مصعب الزهري العوفي قاضي المدينة وعالمها سمع مالكا وطائفة وعنه جماعة وهو ثقة حجة ولا عبرة بقول أبي خثيمة لابنه أحمد لا تكتب عن أبي مصعب واكتب عمن شئت (كان مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه لَا يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم إلّا وهو على وضوء) أي طهارة (إجلالا له) أي لحديثه عليه الصلاة والسلام (وحكى مالك ذلك) أي مثل ذلك (عن جعفر بن محمّد) وهو الصادق وقد تقدم (وقال مصعب بن عبد الله) أي ابن مصعب بن ثابت الزبيري (كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِذَا حَدَّثَ عَنْ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي إذا أراد تحديثه عنه (توضّأ وتهيّأ) أي بالمشط ونحوه (ولبس ثيابه) أي غير ثياب البذلة (ثمّ يحدث قال مصعب فسئل) أي مالك (عن ذلك) أي عن سبب ما ذكر هنالك (فَقَالَ إِنَّهُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي المقام مقام تحديثه عليه الصلاة والسلام فيجب التوقير على الأنام (قال مطرّف) بتشديد الراء المكسورة وهو ابن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار أبو مصعب اليساري المدني مولى ميمونة الهلالية وهو ابن أخت الإمام مالك ابن أنس يروي عن خاله ونافع القاري وعنه البخاري وأبو زرعة (كان إذا أتى النّاس مالكا) أي وقفوا على بابه (خرجت إليهم الجارية) أي الخادمة أولا بإذنه ليعلم من هو فيعامله بما يليق بشأنه من دخول أو خروج ونحوه (فتقول) أي الجارية (لهم يقول لكم الشّيخ تريدون) أي أتريدون (الحديث) أي نقل الأحاديث النبوية (أو المسائل) أي رواية الفروع الفقهية والاستفهام للاستعلام لا للتقدير كما وهم الدلجي على ما لا يخفي عند ذوي الأفهام (فإن قالوا المسائل) أي نريدها (خرج إليهم) أي على هيئته من غير تغير في حالته (وإن قالوا الحديث) أي نطلبه (دخل مغتسله) أي موضع اغتساله (واغتسل) أي غسلا كاملا أو توضا وضوءا كاملا أو معناه فتطهر (وتطيّب) الواو للمعية فلا ينافي كونه قبل قوله (ولبس ثيابا جددا) بضمتين جمع جديد حقيقة أو حكما فيشمل النظيف المغسول (ولبس ساجه) بالإضافة إلى ضميره أي طيلسانه وقيل الأخضر ههنا خاصة وفي القاموس هو الطيلسان الأخضر أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 الأسود (وتعمم) أي لبس عمامته (ووضع على رأسه رداءه وتلقى) بصيغة المجهول أي توضع (له منصّة) بكسر ميم ويفتح وبفتح نون وتشديد صاد مهملة سرير العروس وقيل مثل المخدة العالية وقيل المراد بها الكرسي (فيخرج فيجلس عليها وعليه الخشوع) أي آثاره من الخضوع (ولا يزال) قيل أي الشأن والظاهر أن الضمير لمالك (يبخّر) بتشديد الخاء المعجمة المفتوحة ويروى يتبخر (بالعود) ويعاد بِالْعُودِ (حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم قال غيره) أي غير مطرف (ولم يكن) أي مالك رحمه الله (يَجْلِسُ عَلَى تِلْكَ الْمِنَصَّةِ إِلَّا إِذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم) أي بخلاف سائر العلوم من التفسير والفقه ونحوهما (قال ابن أبي أويس) وهو إسماعيل بن عبد الله بن أويس الأصبحي ابن أخت مالك بن أنس يروي عن خاله مالك وأبيه وجماعة وعنه الشيخان وعلي البغوي وطائفة قال أبو حاتم محله الصدق وضعفه النسائي (فقيل لمالك في ذلك) أي فسئل عن سبب ما فعله هنالك (فَقَالَ أُحِبُّ أَنْ أُعَظِّمَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أحدث) بالنصب ويرفع (به) أي بحديثه عليه الصلاة والسلام (إلا على طهارة) أي كاملة (متمكنا) أي على حالة فاضلة لا متكئا ومعتمدا على شقة مائلة (قال) أي ابن أبي أويس (وكان) أي خاله مالك (يكره أن يحدّث) بكسر الدال المشددة أي يتكلم بالحديث النبوي (في الطّريق) أي سائرا (أو وهو قائم أو مستعجل) خوفا من الخطأ أو الخطل ومن ثمة قيل: قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل (وقال) أي مالك في تعليل ذلك (أحبّ أن أفهّم) بالتشديد أي الطالب (حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) بالوجه الأتم (قال ضرار بن مرّة) بضم ميم وتشديد راء أي أبو سنان الشيباني الكوفي يروي عن سعيد بن جبير وعنه شعبة ونحوه وكان من العباد والثقات (كانوا) أي السلف (يكرهون أن يحدّثوا) أي الحديث كما في نسخة (على غير وضوء) أي طهارة (ونحوه عن قتادة رضي الله تعالى عنه) أي وكان قتادة لا يحدث إلا على طهارة ولا يقرؤه إلّا على وضوء (وكان الأعمش) أي سليمان بن مهران (إذا حدّث) أي أَرَادَ أَنْ يُحَدِّثَ (وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ تَيَمَّمَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ كُنْتُ عند مالك) أي يوما (وَهُوَ يُحَدِّثُنَا فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ سِتَّ عَشْرَةَ مَرَّةً) كذا في النسخ المصححة ووقع في أصل الدلجي ستة عشر مرة فقال صوابه ست عشرة مرة إذ التاء إنما تلحق في مثل هذا التركيب ثاني جزأيه (وهو) أي مالك (يتغيّر لونه) أي من شدة الألم (ويصفرّ) أي وينحل إلى صفرة من أثر السم (وَلَا يَقْطَعُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي محافظة على اكماله ومراعاة لإجلاله (فلمّا فرغ من المجلس) أي مجلس التحديث (وتفرّغ عنه النّاس) أي العامة (قُلْتُ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَقَدْ رأيت منك اليوم عَجَبًا قَالَ نَعَمْ لَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ سِتَّ عَشْرَةَ مَرَّةً وَأَنَا صَابِرٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا صبرت) أي هنالك (إجلالا لحديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ مَشَيْتُ يَوْمًا مَعَ مَالِكٍ إلى العقيق) قال الجوهري كل مسيل شقه ماء السيل فهو عقيق وقال الحلبي العقيق واد عليه مال من أموال أهل المدينة وهو على ثلاثة أميال وقيل ميلين وقيل سبعة قال ابن وضاح وهما عقيقان أحدهما عقيق المدينة عق عن حرتها أي قطع وهو العقيق الأصغر وفيه بئر رومة والعقيق الآخر أكبر من هذا وفيه بئر على مقبرة منه وهو من بلاد مزينة وهو الذي أقطعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلال بن الحارث ثم اقطعه عمر الناس فعلى هذا تحمل المسافتان لا على الخلاف والعقيق الذي جاء فيه إنك بواد مبارك هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة وهو الأقرب منها والعقيق ميقات أهل العراق موضع قريب من ذات عرق قبلها بمرحلة أو مرحلتين والظاهر أنه ليس المراد وإنما المراد واحد من التي بالمدينة ولعله الأول وفي بلاد العرب مواضع كثير تسمى العقيق والله ولي التوفيق (فسألته عن حديث فانتهرني) أي زجرني (وقال لي كنت في عيني أجلّ) أي أعظم (مِنْ أَنْ تَسْأَلَ عَنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن نمشي) جملة حالية (سأله) أي مالكا (جرير بن عبد الحميد القاضي) أي الضبي يروي عنه أحمد وإسحاق وابن معين وله مصنفات (عن حديث وهو قائم) حال من مالك أو من جرير (فأمر) أي مالك (بحسبه، فقيل له إنّه قاض فقال) أي مالك (قال: القاضي أحقّ من أدّب) بصيغة المجهول أي هو أولى ليتأدب به غيره أو ليتعلم الأدب قال الدلجي ودب كذا بالواو والأصل الهمزة يعني فأبدلت الهمزة واوا كما في وكد وأكد انتهى لكن لا أصل له هنا فإن الودب سوء الحال لا غير على ما في القاموس زيادة على الصحاح (وذكر) بصيغة المفعول أي وحكي (أنّ هشام بن الغازي) وفي نسخة الغاز بلا ياء قال الحلبي هذا هشام بن الغاز بن ربيعة الجوشني يروي عن مكحول وعطاء وقد توفي سنة ست وخمسين ومائة فهو معاصر لمالك وقد توفي قبل مالك والله تعالى أعلم بذلك وقال بعض الفضلاء لا نعلم لهشام بن الغازي رواية عن مالك رحمه الله تعالى وإنما الحكاية عن هشام بن عمار الدمشقي ونقل ذلك عن الحافظ الرشيد العطار انتهى فأخطأ الدلجي في جزمه بقوله وصوابه هشام بن عمار خطيب جامع دمشق ثم قوله وأما ابن الغاز فتابعي لم يرو عن مالك لموته قبل مالك غير صحيح لما ثبت قبل ذلك أنه كان معاصرا لمالك وهو لا ينافي موته قبل مالك ثم لا يبعد أنه سمع مالكا ولم يرو عنه ولعل هذه القضية سبب ذلك والحاصل أنه أو غيره (سأل مالكا عن حديث وهو واقف) أي قائم كما سبق (فضربه عشرين سوطا ثمّ أشفق عليه) أي حن عليه لما وقع له من الإهانة لديه (فحدّثه عشرين حديثا) أي استمالة لخاطره إليه وأما قول الدلجي أي خاف عليه لضربه إياه بلا ذنب يوجب ذلك فغير مستقيم لأنه يلزم من ذلك اسناد الذنب إلى مالك مع أن للأستاذ تأديب الطالب بما يرى هنالك (قال) وفي نسخة فقال (هشام وددت) بكسر الدال أي تمنيت وأحببت (لو زادني سياطا) أي كثيرة (ويزيدني حديثا) أي يدل كل سوط (قال عبد الله بن صالح) الظاهر أنه أبو صالح الجهني كاتب الليث روى عنه ابن معين والبخاري قال الفضل بن الشعراني ما رأيته إلّا يحدث أو يسبح (كَانَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ لَا يَكْتُبَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 الحديث إلّا وهما طاهران) صفة لهما والأصل امتناع توسط الواو بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ إلّا انها لما شابهت الحال توسطتهما لتأكيد لصوقها بالموصوف كما في قوله عز وجل وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (وكان قتادة يستحبّ) بصيغة الفاعل أي يستحسن (أن لا يقرأ) أي هو أو أحد ولا يبعد أن يضبط بصيغة المفعول (أحاديث النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عَلَى وُضُوءٍ وَلَا يُحَدِّثُ إلّا على طهارة) تأكيد لما قبله وضبط في نسخة بصيغة المجهول فتحصل المغايرة بأن يحمل الأول على فعله والثاني على غيره وأما قول الدلجي أي يغسل بقرينة ما قبله فلا يدفع الاشكال بل يقوي الأعضال والله تعالى أعلم بالحال والأظهر أن يراد بالطهارة المعنى الأعم الشامل للتيمم ويؤيده قوله (وَكَانَ الْأَعْمَشُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحَدِّثَ وَهُوَ على غير وضوء) جملة حالية اعتراضية بين الشرط وجزاءه (تيمّم) أي اعتناء بتعظيم حديثه صلى الله تعالى عليه وسلم. فصل [ومن توقيره صلى الله تعالى عليه وسلم وبره بر آله] (ومن توقيره صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تعظيمه وتكريمه (وبرّه) أي ومن طاعته في أمره وزجره (برّ آله) أي إحسان أهل بيته وعشيرته ولا وجه لتخصيص الدلجي هنا ببني هاشم وبني الطالب دون بني عبد شمس وبني نوفل وإن خص الأولان بالخمس (وذرّيّته) أي نسله وعترته الشاملة لبناته وللحسنين وأولادهما من الأئمة وغيرهم (وأمّهات المؤمنين أزواجه) أي زوجاته الطاهرات وهن عائشة الصديقة بنت الصديق وخديجة بنت خويلد وحفصة بنت الفاروق وأم حبيبة بنت أبي سفيان أخت معاوية وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وميمونة بنت الحارث وزينب بنت جحش وجويرية بنت ضرار وصفية بنت حيي كذا ذكره الدلجي وكان الأولى أن يقدم خديجة الكبرى أم فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهما (كما حضّ عليه) بتشديد الضاد المعجمة أي حث وحرض على برهم (عليه السلام) أي في أحاديث كثيرة (وسلكه) أي مسلكه أي مسلكه (السّلف الصّالح رضي الله عنهم) أي بالقول والفعل كما وجب عليهم قال ابن الفقاعي السلف الصالح هم الصدر الأول من التابعين (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) استئناف تعليل لأمرهن بالأمر الأهم ونهيهن عن أن يقترفن المأثم صونا لا عراضهن عن أن تتدنس بالرجس واستعير الرجس للمعصية تنفيرا لهن عنها وترغيبا فيما أمرهن بخلافهما ولعله سبحانه وتعالى خاطبهن بخطاب الذكور لأنهن في مقام الكمال كأنهن في حال الرجال قال تعالى في حق مريم وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ وورد كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وفضل عائشة على النساء امرأة كفضل الثريد على سائر الطعام رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي موسى والأظهر أن فيه تغليبا ليشمل بقية آله وأهل بيته ولذا قال (أَهْلَ الْبَيْتِ) [الأحزاب: 33] الآية نصب على النداء أو المدح (ويطهركم) عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 الأخلاق الدنية والأحوال الرديئة (تطهيرا) أي بليغا كثيرا والرجس على ما قال الزهري اسم لكل مستقذر من عمل وأراد بأهل البيت نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهن في بيته وروي ذلك وعن ابن عباس وعن أبي سعيد الخدري وجماعة من التابعين أنهم علي وفاطمة والحسن والحسين قول ولا منع من الجمع وأما تخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما لما ورد أنه عليه الصلاة والسلام خرج غداة يوم وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله فيه ثم الحسين فأدخله ثم فاطمة فأدخلها ثم علي فأدخله ثم قال إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً واحتجاجهم على عصمتهم وكون إجماعهم حجة فمردود بأن تخصيصهم بكونهم أهل البيت يكذبه ما قبل الآية وما بعدها والحديث إنما هو مؤذن بأنهم من أهله لا أن غيرهم ليس بأهله (وقال تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] تشبيه لهن بالأمهات في جوب تعظيمهن واحترامهن وتحريم نكاحهن بدليل قوله تعالى وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً في غير ذلك كالاجنبيات ولذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها لسنا أمهات النساء أرادت انهن إنما كن أمهات الرجال لأنهن محرمات عليهم كتحريم أمهاتهم عليهم وهذا الحكم غير متحقق في حق النساء لأنهن لو كن أمهاتهن لما جوز زواج بناتهن (أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَحْمَدَ الْعَدْلُ) مبالغة العادل (من كتابه) متعلق بأخبرنا (وكتبت من أصله) أي المروي عن مشايخه (ثنا) أي حدثنا (أبو الحسن المقرىء) بالهمزة في آخره وقد يخفف أي معلم قراءة القرآن (الفرغانيّ) منسوب إلى فرغانة بفتح الفاء وسكون الراء فغين معجمة ناحية من المشرق (حَدَّثَتْنِي أُمُّ الْقَاسِمِ بِنْتُ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الخفّاف) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الفاء الأولى (قالت حدثني أبي ثنا) أي قال حدثنا (حاتم) بكسر الفوقية (هو ابن عقيل) بالتصغير (حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا يَحْيَى هو الحمّانيّ) بكسر المهملة وتشديد الميم ثم نون فياء نسبة (حدّثنا وكيع) أي ابن الجراح أحد الأعلام يروي عن الأعمش وغيره وعنه أحمد ونحوه قال أحمد ما رأيت أوعي للعلم منه كان أحفظ من ابن مهدي وقال حماد بن زيد لو شئت لقلت إنه أرجح من سفيان وقال أحمد لما ولي حفص بن غياث القضاء هجره وكيع (عن أبيه) أي الجراح بن مليح بن عدي الرواسي وثقه أبو داود ولينه بعضهم (عن سعيد بن مسروق) أي الثوري يروي عن أبي وائل والشعبي وعنه ابناه سفيان ومبارك وأبو عوانة ثقة أخرج له الأئمة الستة (عن يزيد بن حيّان) بفتح حاء مهملة فتحتية مشددة تيمي ثقة اخرج له مسلم وأبو داود والنسائي (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنشدكم الله) بفتح الهمزة وبضم الشين (أهل بيتي) بالنصب على نزع الخافض وفي نسخة طبق رواية أخرى في أهل بيتي أي أسألكم الله في حق أهل بيتي بالاحسان إليهم والشفقة عليهم أو أقسم عليكم بالله أن تراعوني في أهل بيتي (ثلاثا) أي قالها ثلاث مرات مبالغة في الحث على احترامهم (قلنا لزيد) وهو ابن أرقم راوي الحديث لأن صاحب البيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 أدرى بما فيه (من أهل بيته) أي من المراد بهم في هذا الحديث (قَالَ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ) وهم أولاد أبي طالب (وآل عبّاس) وفي نسخة وآل العباس والمراد هم وآلهم ممن يرجع إليهم في النسب مآلهم وقد يقحم الآل كما في قوله تعالى آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تفخيما لشأنهما ثم اعلم أن هذا الحديث في مسلم أخرجه في الفضائل وأخرجه النسائي في المناقب ولو أخرجه القاضي من مسلم لوقع له أعلى من الطريق الذي ساقه وكذا لو أخرجه من النسائي إلّا أنه أراد التنوع في الروايات لأن من شأن الحفاظ أن الحديث إذا كان في الكتب الستة أو أحدها يخرجونه من غيرها لكن في الغالب إنما يصنعون هذا طلبا للغو أو الزيادة فيه أو تصريح مدلس بالسماع أو الأخبار أو التحديث أو لكون الطريق أسلم أو لغير ذلك مما هو معروف عند أربابه والله أعلم (قال صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما رواه الترمذي عن زيد بن أرقم وجابر وحسنه (إنّي تارك فيكم ما) أي شيئا عظيما فما موصوفة صفتها (إن أخذتم به) أو موصولة والشرطية صلتها أي إن تمسكتم به وعملتم به يروى ما إن تمسكتم به (لن تضلّوا) أي عن الحق بعده أبدا (كتاب الله وعترتي أهل بيتي) تفصيل بعد اجمال وقع بدلا أو بيانا (فانظروا) أي فتأملوا وتفكروا (كيف تخلفوني) بتخفيف النون وتشدد أي كيف تعقبونني (فيهما) أي في حقهما ووقع في أصل الدلجي كتاب الله وعترتي بين الشرط والجزاء وهو مخالف للأصول المعتمدة ثم المراد بعترته أخص قرابته وقيل المراد علماء أمته فالتمسك بالقرآن التعلق بأمره ونهيه واعتقاد جميع ما فيه وحقيته والتمسك بعترته محبتهم ومتابعة سيرتهم (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) لا يعرف راويه (معرفة آل محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم براءة من النّار) أي من ألم حرها وسقم بردها (وحبّ آل محمّد جواز على الصّراط) بفتح الجيم صك المسافر برخصة المرور والعبور أي سبب سهولة مجاوزته الصراط (والولاية) بفتح الواو أي النصرة والإعانة والمحبة (لآل محمّد أمان من العذاب) وبكسرها لغة أيضا كما قرىء بهما في السبعة قوله تعالى ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فقد قرأها حمزة بالكسر فقول الدلجي وأما بكسرها فمن الولاية بمعنى الملك ليس في محله مع أن الولاية قد تأتي بمعنى تولي الأمر وضد التبري وبمعنى المحبة ومنه ما ورد اللهم وال من والاهم (قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَعْرِفَتُهُمْ هِيَ مَعْرِفَةُ مَكَانِهِمْ) أي مكانتهم وقرب شأنهم (من النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي نسبا وحسبا (فإذا) وفي نسخة وإذا (عرفهم بذلك) أي بما ذكر قربة ورتبة (عرف وجوب حقّهم) في التكريم (وحرمتهم) في التعظيم (بسببه) أي بسبب نسبة النبي الكريم عليه التحية والتسليم (وعن عمر بن أبي سلمة) كما رواه الترمذي وهو ربيبه عليه الصلاة والسلام وابن أخيه من الرضاعة أرضعتهما ثويبة مولاة عمه أبي لهب ولد بالحبشة (لمّا نزلت) أي هذه الآية (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) [الأحزاب: 33] (الآية وذلك) أي نزولها كان (في بيت أمّ سلمة) أي زوجته عليه الصلاة والسلام الراوي وهي آخر أمهات المؤمنين موتا توفيت في إمارة يزيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 والجملة معترضة (دعا فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء) جواب لما أي غطاهم به قدام وجهه (وَعَلِيٌّ خَلَفَ ظَهْرِهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا وعن سعد بن أبي وقاص) كما رواه مسلم (لمّا نزلت آية المباهلة) أي الملاعنة مفاعلة من البهلة وهي اللعنة فإذا اختلف قوم في شيء اجتمعوا فقالوا لعنة الله على الظالم منا والمراد من آية المباهلة قوله تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتضرع إلى الله فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (دعا) جواب لما أي طلب (النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا وَفَاطِمَةَ وَقَالَ اللهم هؤلاء أهلي) أي الأقربون (فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كما مر (في علي) أي في حقه (من كنت مولاه) أي وليه وناصره (فعليّ مولاه) أي يدفع عنه ما يكره قال الشافعي رحمه الله تعالى يعني به ولاء الإسلام قال الله تعالى ذلك بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ وإلا ظهر الاستدلال بقوله تعالى إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ لما روي أنها نزلت في علي كرم الله وجهه وإنما أتى بصيغة الجمع لتعظيمه أو المراد به هو وأمثاله مع أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هذا وذهب أكثرهم إلى أن الحديث بمعنى البر والصلة ومراعاة الذمة ومنهم من ضعفه وقال أبو العباس معناه من أحبني وتولاني فليتوله وقال الحافظ أبو موسى أي من كنت أتولاه فعلي يتولاه قيل وكان سببه أن أسامة بن زيد قال لعلي لست مولاي إنما مولاي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام الحديث (وقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) على ما روى أحمد عن أبي أيوب الأنصاري أنه عليه الصلاة والسلام قال فِي عَلِيٍّ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ (اللهمّ وال من والاه) أي أحب من أحبه وراعاه (وعاد من عاداه) أي أبغض من أبغضه وما أرضاه قال في الكشاف الموالاة خلاف المعاداة مفاعلة من الولي وهو القرب كما أن المعاداة مفاعلة من العدو وهو البعد (وقال) كما رواه مسلم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم (فيه لا يحبّك إلّا مؤمن) أي كامل الإيمان (ولا يبغضك إلّا منافق) أي ناقص الإيقان وقد روى عدي بن ثابت عن زر بن حبيش عن علي رضي الله تعالى عنه قال عهد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يَبْغَضُكَ إِلَّا منافق وورد في بعض الأحاديث النظر إلي وجه علي عبادة (وقال للعبّاس رضي الله تعالى عنه) كما روى ابن ماجه والترمذي وصححه (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الإيمان) أي على وجه الإحسان (حتّى يحبّكم لله ورسوله) والخطاب لأهل بيت النبوة (ومن آذى عمّي) أي العباس (فقد آذاني) أي فكأنه آذني (وإنّما عمّ الرّجل صنو أبيه) بكسر الصاد وقد تضم أي مثله في أن أصلهما واحد فقد كالعلة لكون حكمهما في الإيذاء سواء وأصله النخلتان تخرجان من أصل واحد ومنه قوله تعالى وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 صِنْوانٍ فالأخ صنو الشقيق (وقال للعباس) كما روى البيهقي عن أبي أسيد الساعدي (اغد) بضم همزة وصل وضم الدال أمر من غدا يغدو أي ائتني غدوة وهي أول النهار (مع ولدك) بفتحتين وبضم فسكون أي أولادك من ذكور وإناث لشمول الولد لهما (فجمعهم) أي غدوة عليه (وجلّلهم) بالجيم وتشديد اللام الأولى أي غطاهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (بملاءته) بضم أوله وتخفيف اللام والمد أي ريطته أو كسائه (وقال اللهم هذا عمّي وصنو أبي وهؤلاء) أي أولاده (أهل بيتي فاسترهم من النّار) أي في دار القرار (كستري إيّاهم) في هذه الدار (فأمّنت) بتشديد الميم أي قالت آمين (أسكفّة الباب) بضم الهمزة والكاف وتشديد الفاء أي عتبته (وحوائط البيت) أي جدرانه المحيطة به من جميع جهاته (آمين آمين) أي مكررا وهو مقول على وجه التأكيد أو من طريق التجريد وهو بالمد أشهر من قصره ولا يجوز تشديد ميمه على الصحيح وهو اسم مبني على الفتح معناه استجب وفي الحديث آمين خاتم رب العالمين أي طابعه على العباد فكأنه خاتم الكتاب يصونه من الفساد (وكان) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما في البخاري عن أسامة وغيره (يأخذ بيد أسامة بن زيد) أي ابن حارثة مولاه (والحسن) أي بيد الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما (وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَقَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه ارقبوا محمّدا) بضم القاف أي راعوه واحترموه (في أهل بيته وقال) أي الصديق (أيضا) كما في الصحيحين (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم أحبّ إلي أن أصل) أي صلتهم (من قرابتي) أي من صلة أقاربي لقرب مكانتهم عنده مع مراعاة قوله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) كما روى الترمذي وحسنه وابن ماجه عن يعلى بن مرة (أحبّ الله من أحبّ حسنا) وفي رواية حسينا وفي نسخة وحسينا والجملة دعائية ولا يبعد أن تكون خبرية (وقال) كما تقدم مرارا (مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّ هَذَيْنِ وَأَشَارَ إِلَى حَسَنٍ وحسين وأباهما) أي وأحب أباهما عليا المرتضى (وأمّهما) فاطمة الزهراء (كان معي) أي مشاركا لي (في درجتي) أي جواري (يوم القيامة) لأن من أحب قوما حشر معهم (وقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهَانَ قُرَيْشًا أَهَانَهُ اللَّهُ) رواه الترمذي وحسنه عن سهل ابن أبي وقاص بلفظ من يرد هوان قريش أهانه الله لأنهم أفضل بني آدم إجمالا وهم ولد النضر بن كنانة من بني إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن (وقال) كما روى البزار عن علي وابن أبي شيبة عن سهل بن أبي حثمة (قدّموا قريشا) أي في الخلافة ونحوها (ولا تقدّموها) بحذف إحدى التاءين (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) كما في البخاري (لأمّ سلمة لا تؤذيني في عائشة) أي لفضلها نسبا وحسبا روي أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأن نساء النبي عليه الصلاة والسلام كن حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة والحزب الآخر أم سلمة وسائر نسائه عليه الصلاة والسلام فكلم حزب أم سلمة أم سلمة أن كلمي رسول الله صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 تعالى عليه وسلم يقول للناس من أراد أن يهدي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فليهده حيث كان فكلمته فقال لا تؤذيني في عائشة فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلّا عائشة وتمام الحديث في المصابيح (وعن عقبة بن الحارث) كما في البخاري (رأيت أبا بكر) أي الصديق (رضي الله تعالى عنه وجعل الحسن على عنقه) جملة حالية (وهو) أي أبو بكر (يقول: بأبي) أي أفديه بأبي (شبيه بالنّبيّ) أي هو شبيه به في كثير من الوجوه (ليس شبيها بعلي) أي في بعض الوجوه (وعليّ يضحك) أي فرحا بفعل الصديق وقوله الدال على أنه الصديق في مقام التحقيق وممن كان شبيها به عليه الصلاة والسلام من آله جعفر بن أبي طالب وقثم بن العباس والسائب بن زيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب جد الشافعي وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ومن غير آله كثيرون منهم شخص من أهل البصرة يقال له كابس بن ربيعة بن مالك السامي بالسين المهملة قبله معاوية بين عينيه وأقطعه قطيعة وكان أنس إذا رآه بكى وسيأتي قريبا ذكر كابس في أصل الكتاب وقال الذهبي في التهذيب في ترجمة عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أتاهم بعد ما أخبرهم بقتل جعفر فقال لا تبكوا بعد اليوم وذلك بعد ثالثه ثم قال ائتوني ببني أخي فجيء بنا كأننا أفراخ فقال ادعوا إلى الحلاق فأمره فحلق رؤوسنا ثم قال أما محمد فشبه عمنا أبي طالب وأما عبد الله فشبه خلقي وخلقي ثم أخذ بيدي فاشالها ثم قال اللهم اخلف جعفرا في أهله وبارك لعبد الله في صفقته فجاءت أمنا فذكرت يتمنا فقال العلية تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة هذا والحسن بن علي كان يشبهه بنصفه الأعلى والحسين بنصفه الأسفل ولعل هذا هو السر في أن أكثر الذرية من الحسين رضي الله تعالى عنه (وروي عن عبد الله بن الحسن) أي ابن حسن كما في نسخة وهو ابن علي بن أبي طالب يروي عن أبيه وأمه فاطمة بنت الحسن وعنه مالك وابن علية أخرج له أصحاب السنن الأربعة مات سنة خمس وأربعين ومائة (قال أتيت عمر بن عبد العزيز) أي ابن مروان بن الحكم (في حاجة فقال لي إذا كان لك حاجة فأرسل إليّ) أي أحدا (أو اكتب) أي لي كتابا واذكر حاجتك ويروى أو اكتب إلي (فإنّي أستحيي من الله أن يراك) وفي نسخة أن أراك (على بابي وعن الشّعبيّ) فيما رواه الحاكم وصححه البيهقي وغيره (قال صلّى زيد بن ثابت) أي الأنصاري (عَلَى جِنَازَةِ أُمِّهِ ثُمَّ قُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَتُهُ) بصيغة المجهول (لِيَرْكَبَهَا فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخَذَ بِرِكَابِهِ فَقَالَ زيد) تكريما له وتعظيما (خلّ عنه) أي دع الركاب وتباعد منه (يا ابن عمّ رسول الله فقال) أي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (هكذا نفعل) وفي نسخة هكذا أمرنا أن نفعل (بالعلماء) أي إكراما واحتراما (فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ هَكَذَا أمرنا) بصيغة المفعول أي أمرنا الله ورسوله (أن نفعل بأهل بيت نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم ورأى ابن عمر محمّد بن أسامة) أي ابن زيد ابن حارثة مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (فقال ليت هذا عبدي) بفتح أوله وسكون الموحدة من العبودية بمعنى المملوكية وهي كما في المطالع رواية البيهقي ورواية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 الكافة بكسر أوله وسكون النون والأول أوجه انتهى وقال المزي بالنون هو المشهور قال الحجازي وهو الصحيح في الشفاء قيل وكذا في البخاري الذي سمع علي العراقي بالقلم (فقيل له) أي لابن عمر رضي الله تعالى عنهما (هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ، فَطَأْطَأَ ابْنُ عُمَرَ رأسه) أي أطرقه (ونقر بيده الأرض) أي حياء مما صدر عنه (وقال) أي ابن عمر في حقه (لو رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأحبّه) أي كحبه أباه أسامة (وقال الأوزاعي) كما حكى ابن عساكر في تاريخ دمشق (دَخَلَتْ بِنْتُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ صَاحِبِ رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ومولاه واسمها فاطمة (على عمر بن عبد العزيز) أي حين كان أمير المدينة نيابة عن ابن عمه الوليد بن عبد الملك بن مروان أو في أيام خلافته (ومعها مولى لها يمسك بيدها) أي يقودها لكبرها أو لضعف بصرها (فقام لها عمر) أي ابن عبد العزيز (ومشى إليها) أي خطوات (حتّى جعل يديها) وفي نسخة يدها (بين يديه ويداه في ثيابه) أي تأدبا معها (ومشى بها حتّى أجلسها على مجلسه) بفتح اللام وهو موضع التكرمة وهو الذي نهى الشارع عن الجلوس فيه بغير إذن صاحبه وبكسرها المحل الذي يجلس فيها كما يقال مسجد بالكسر للبيت الطاهر الذي يسجد فيه وبالفتح لموضع الجبهة في السجود (وجلس بين يديها) أي متوجها إليها (وما ترك لها حاجة إلّا قضاها) لكونها بنت حبه ومولاته صلى الله تعالى عليه وسلم (ولمّا فرض عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه) أي في ديوان الأرزاق على ما رواه الترمذي وحسنه (لابنه عبد الله في ثلاثة آلاف) أي من الدراهم (وَلِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةٍ) أي زيادة على ما فرض لابنه مع أن كليهما صحابي ابن صحابي وجلالة عمر وفضيلة ابنه غير مخفية على أحد وكان التقسيم حينئذ بحسب المراتب في المناقب لا على عدد الرؤوس كما في زمن الصديق رضي الله تعالى عنه (قال عبد الله لأبيه لم فضّلته) أي أسامة علي بما فضلته (فو الله ما سبقني) أي أسامة (إلى مشهد) أي من المشاهد (فقال) أي عمر (له) أي لابنه إنما فضلته (لِأَنَّ زَيْدًا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم من أبيك) قاله تواضعا وإلا فهو كان أحب إليه من زيد لما في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك قال عائشة قلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر ولعل زيدا كان أحب الموالي إليه وفاطمة أحب بناته وعليا أحب أقاربه فلا تعارض (وأسامة أحبّ إليه منك) أي من حيثية كونه ابن مولاه (فآثرت) أي اخترت بالتقديم والتخصيص (حبّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على حبّي) بكسر الحاء فيها بمعنى المحبوب ويجوز أن تكون مضمومة مصدر حب قال الحلبي الحديث في البخاري في الهجرة عن نافع مولى ابن عمر أن عمر كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة فقيل له هو من المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف قال إنما هاجر به أبواه يقول ليس هو كمن هاجر بنفسه ولعل ما نقله القاضي كان أولا وما في الصحيح كان آخرا انتهى ولا يخفى أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 لا منع من الجمع في وقت واحد أيضا ثم قال وقوله هاجر به أبواه فيه نظر لأن أمه زينب بنت مظعون ماتت بمكة ولم تهاجر وأجيب بأن المراد بالأبوين هنا الأب وزوجة الأب (وبلغ معاوية) أي ابن أبي سفيان كما روى ابن عساكر (أنّ كابس بن ربيعة) قد سبق ذكره (يشبه برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في الصورة فوجه معاوية إليه (فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ الدَّارِ قَامَ عن سريره وتلقّاه) أي بالإقبال بين يديه والمثول لديه (وقبّل بين عينيه) أي ما بينهما (وأقطعه المرغب) بميم مكسورة وقد تفتح فراء ساكنة فمعجمة فموحدة موضع أي جعله له إقطاعا ينفرد به انتفاعا (لشبهه) بفتحتين أي لمشابهته (صورة رسول الله) بالإضافة (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى) وهو ابن أنس صاحب المذهب (لمّا ضربه جعفر بن سليمان) أي ابن علي بن عبد الله بن عباس فهو ابن عم أبي جعفر المنصور بقول بعضهم له أنه لا يرى الإيمان لبيعتكم شيئا لأن يمين المكره لا تلزم فغضب جعفر ودعاه وجرده (ونال منه ما نال) أي من ضرب وغيره فإنه مدت يده حتى انخلعت كتفه أو أزيلت منه (وحمل) أي إلى بيته (مغشيّا) أي عليه كما في نسخة (دخل عليه النّاس) جواب لما (فأفاق) أي من غشيته (فقال) وفي نسخة وقال أي لمن في حضرته (أشهدكم أنّي جعلت ضاربي) أي الآمر بضربي ويروى صاحبي (في حلّ) أي في براءة من ضربه إياي (فسئل) أي مالك (بعد ذلك) أي بعد جعله في حل عن سببه هنالك ويروى فقيل له في ذَلِكَ (فَقَالَ خِفْتُ أَنْ أَمُوتَ فَأَلْقَى النَّبِيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأستحيي منه أن يدخل بعض آله) أي من أن يدخل بعض أقاربه من بني عمه (النَّارَ بِسَبَبِي وَقِيلَ إِنَّ الْمَنْصُورَ أَقَادَهُ مِنْ جعفر) أي طلب أن يقتص له منه ويقيده ففيه تجوز والمعنى أراد أن يؤدبه لقلة أدبه مع مالك (فقال له) أي مالك (أعوذ بالله) أي من ذلك (والله ما ارتفع منها) أي من أسواطه (سَوْطٌ عَنْ جِسْمِي إِلَّا وَقَدْ جَعَلْتُهُ فِي حِلٍّ لِقَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) فلم يزل مالك في علو ورفعة بعد ذلك (وقال أبو بكر بن عيّاش) بتحتية مشددة وشين معجمة هو ابن سالم الأسدي الحناط بالحاء المهملة والنون المشددة المقرىء أحد الأعلام اختلف في اسمه على أحد عشر قولا وصحح أبو زرعة أن اسمه شعبة ووافقه الشاطبي وصحح ابن الصلاح والمزي أن اسمه كنيته يروي عن حبيب بن أبي ثابت وعاصم وأبي إسحاق وعنه أحمد وعلي وإسحاق وابن معين والعطاردي قال أحمد صدوق ثقة ربما غلط وقال أبو حاتم هو وشريك في الحفظ سواء وفي الميزان اثنان غيره يقال لكل منهما أبو بكر ابن عياش قال الأنطاكي مات في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائتين وله ست وتسعون سنة أخرج له البخاري والأربعة (لَوْ أَتَانِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ لَبَدَأْتُ بحاجة عليّ قبلهما) أي قبل الشيخين (لقرابته) أي القريبة ويروى لقرباه (من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) وهذا له وجه وجيه في الأقدمية من هذه الحيثية وأما قوله (ولأن أخرّ) بفتح همزة وكسر خاء معجمة وتشديد راء أي لأن أسقط (من السّماء إلى الأرض) أي من المقام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الأعلى إلى المكان الأدنى (أحبّ إلي من أن أقدّمه عليهما) أي في الأفضلية فدفع توهم التفضيل في القضية ثم فيه أنه يجب على التابع أن يقدم من قدمه المتبوع ولذا أذن عمر رضي الله تعالى عنه بالدخول لبلال وسلمان قبل العباس وأبي سفيان رضي الله تعالى عنهم حين اجتمعوا على باب عمر فقال أبو سفيان للعباس أتريد أن يقدم علينا الموالي فقال العباس الذنب منا حيث تأخرنا فيما كان يجب التقدم علينا وهذا الذي اختاره ابن عياش رأي له وإلا فالجمهور على أن الأفضل يستحق التقديم في كل شيء فتأمل (وقيل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما) كما رواه أبو داود والترمذي وحسنه (مَاتَتْ فُلَانَةُ لِبَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي وسميت باسمها إلا أن الراوي نسيها (فسجد) أي لعظم المصيبة وفقد الأعزة ولا يبعد أن يكون المراد بسجد صلى ركعتين لقوله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ (فقيل له) أي لابن عباس (أتسجد في هذه السّاعة) بهمزة الاستفهام التعجبية بناء على مخالفة العادة العرفية (فقال) أي ابن عباس (أليس قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا رأيتم آية) أي علامة خارقة للعادة من نحو كسوف وخسوف وشدة ريح وكثرة ظلمة (فاسجدوا) أي فصلوا (وأيّ آية أعظم) أي خطرا وأفخم قدرا (من ذهاب أزواج النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي واحدة بعد واحدة حيث إنهن من أخص أصحابه وأقرب أحزابه (وكان أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما) أي مع جلالتهما (يزوران أمّ أيمن) واسمها بركة (مولاة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وتقدم ترجمتها (ويقولان كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يزورها) أي فيتعين علينا زيارتها تبركا بها وتأسيا بزيارته إياها والحديث رواه مسلم (ولمّا وردت) كما روى ابن سعد عن عمرو بن سعد بن أبي وقاص مرسلا قال لما وردت (حليمة السّعديّة) أي أمه من الرضاعة (على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي زائرة مسترفدة وفي سيرة الدمياطي أن الواردة عليه إنما هي ابنتها الشيماء أخته من الرضاعة (بسط لها رداءه وقضى) أي نفذ (حاجتها) رعاية لحرمة الرضاعة وفي الحديث حسن العهد من الإيمان (فلمّا توفّي) أي رسول الله (صلى الله تعالى عليه وسلم قدمت) وفي نسخة صحيحة وفدت أي أمه أو أخته من الرضاعة (على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فصنعا بها مثل ذلك) أي مثل صنيعه عليه الصلاة والسلام في الإكرام ومزيد الإنعام مراعاة لحرمتها وتأسيا برعايتها ثم اعلم أن العلامة أبا محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي أنكر إسلام حليمة وقال إن هذه القصة للشيماء ابنتها لكن رد عليه مغلطاي في مؤلف له سماه التحفة الجسمية في إسلام حليمة فيمكن الجمع بينهما في القضية والله تعالى أعلم بالحقيقة الحقية. فصل [ومن توقيره وبره توقير أصحابه عليه الصلاة والسلام] (ومن توقيره) أي تعظيمه (وبرّه) أي ومن إحسانه (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيرُ أَصْحَابِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وبرّهم ومعرفة حقّهم) أي حقوقهم من فتح البلاد ودفع أهل الفساد وإيصال أنواع العلوم إلى أصناف العباد (والاقتداء بهم) أي في أفعالهم وأقوالهم لقوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم (وحسن الثّناء عليهم) أي إجمالا كما قال تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وكذا في مقام التفصيل إكمالا وتبجيلا له عليه الصلاة والسلام وإجلالا (والاستغفار لهم) لقوله تعالى وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ الآية (والإمساك عمّا شجر) أي اختلف (بينهم) وما وقع لهم من التشاجر والاختلاف الصادر عنهم باجتهاد فلمصيبهم أجران ولمخطئهم أجر واحد كما ورد وكما قال الشاطبي رحمه الله تعالى: وسلم لإحدى الحسنيين إصابة ... والأخرى اجتهاد رام صوبا فامحلا وفي الحديث إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وفي حديث آخر إياكم وما شجر بين أصحابي (ومعاداة من عاداهم) أي من الرافضة والناصبة لأن الصحابة لا شك أنهم أولياء الله وقد ورد من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب (والإضراب) أي الإعراض (عن أخبار المؤرّخين) بفتح الهمزة وكسرها أي عن أقوال أصحاب التواريخ فإن غالبهم غير صحيح بل كذب صريح (وجهلة الرّواة) أي ممن نقلوا الحكايات عن غير الثقاة (كالرافضة) أي الطائفة التي رفضوا محبة الصحابة (وضلّال الشّيعة) أي ممن زعم مشايعة علي ومتابعته وهو بريء منهم ومتبعد عنهم وأصل الشيعة الفرقة المتفقة على ملة من الطريقة ومنه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ الآية وتطلق على الفرقة الذين يفضلون عليا كرم الله وجهه ويزعمون أنهم من شيعته أي من أتباع سيرته (والمبتدعين) أي في الدين كبعض المعتزلة (القادحة في أحد منهم) أي الطاعنة في أحد من الصحابة وهم برآء وأتقياء فيجب أن يسكت عنهم (وأن يلتمس لهم) بصيغة المفعول وكذا (فيما نقل عنهم) أي في حقهم (من مثل ذلك) أي من موجب طعنهم (فيما كان بينهم من الفتن) أي المؤدية إلى المحن أي يطلب (أحسن التّأويلات) إذ كلهم عدول بشهادة الله تعالى لهم حيث قال وكذلك جعلناكم أمة وسطا أي عدولا (ويخرّج لهم) بتشديد الراء المفتوحة أي يحمل لأفعالهم (أصوب المخارج) أي المحامل (إذ هم أهل لذلك) أي أحقاء به هنالك (ولا يذكر أحد منهم بسوء) لأن الله قد أثنى عليهم في مواطن كثيرة من كتابه ووصى النبي عليه الصلاة والسلام أمته في تعظيم أصحابه بنحو قوله لا تسبوا أصحابي مع تعميم قوله عليه الصلاة والسلام لا تذكروا موتاكم إلا بخير ولأنه من الفواحش المحرمة بإجماع أهل السنة على خلاف أنه يعزر فاعله أو يقتل (ولا يغمص) بصاد مهملة على صيغة المجهول أي لا يعاب (عليه) أي على أحد منهم (أمر) أي يطعن به فيه لحديث الله الله في أصحابي أي اتقوه فيهم فلا تنقصوهم ولا تحقروهم بل عظموهم ووقروهم وفي الحديث لما قتل ابن آدم أخاه غمص الله الخلق أي صغرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وحقرهم فنقصهم وطعن فيهم طولا وعرضا وقوة وقوتا وفي نسخة يغمض بضاد معجمة والظاهر أنه تصحيف وقيل في معناه أي يصغر أو يحقر وأغمض نام وفي الأمر والبيع استجاز ما لا يستجاز أو حط من ثمنه (بل يذكر حسناتهم وفضائلهم وحميد سيرهم ويسكت عمّا وراء ذلك) أي عن غيره مما لا يليق بهم هنالك (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم) فيما رواه الطبراني وابن أسامة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) أي عن الطعن فيهم وذكرهم بما لا ينبغي في حقهم (قال الله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) هو خبر مبتدأ محذوف هو هو والجملة من مبتدأ وخبر (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي من الصحابة مبتدأ خبره (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] أي بالنسبة إلى الأبرار وسائر المؤمنين ولو من الفجار لقوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (إلى آخر السّورة) يعني تريهم ركعا سجدا أي راكعين ساجدين في غالب أوقاتهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا في سائر حالاتهم وهو بكسر الراء وضمها سيماهم أي علامة أنوارهم لائحة في وجوههم من أثر السجود أي من تأثير طاعاتهم وأسرارهم ذلك أي الذي وصفوا به مثلهم أي صفتهم العجيبة وحالاتهم الغريبة المذكورة في التوراة ومثلهم في الإنجيل مبتدأ خبره كزرع تمثيل مستأنف أخرج شطأه بسكون الطاء وفتحها أي فراخه من أشطأ الزرع إذا أفرخ فآزره من الموازرة أي المعاونة وأصل معناه من جهة مبناه شد أزره وقواه فاستغلظ أي صار غليظا أي بعد ما كان دقيقا رقيقا فاستوى على سوقه بالواو والهمز جمع ساق بالوجهين أي استقام على قصبه قيل في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر يعجب الزراع بكثرته وقوته واستحكام حالته حتى أعجب الناس من الأبرار ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم من بيانية عند أهل السنة مغفرة وأجرا عظيما هذا وقيل قوله تعالى وَالَّذِينَ مَعَهُ كناية عن الصديق وأشداء على الكفار عبارة عن الفاروق ورحماء بينهم إشارة إلى عثمان تريهم ركعا سجدا إيماء إلى علي يبتغون فضلا من الله ورضوانا تعميم بعد تخصيص واستدل به على تكفير الروافض والخوارج الفجار حيث قال تعالى لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ (وقال) أي عز وجل (وَالسَّابِقُونَ) أي في مناقب الإيمان ومراتب الإحسان (الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ) وهم من أسلم قبل الهجرة أو من صلى إلى القبلتين أو من شهد بدرا وَالْأَنْصارِ [التوبة: 100] أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة والعقبة الثانية وكانوا سبعين ومن آمن حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير (الآية) أي والذين اتبعوهم بإحسان أي اللاحقون بهم إلى يوم القيامة رضي الله عنهم بقبول طاعتهم المرضية ورضوا عنه بما منحهم به من النعم الدينية والدنيوية وأعد لهم جنات تجري تحتها وفي قراءة المكي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي مقدرين الخلود في نعيمها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (وقال) أي عز وعلا وفي نسخة وقال تَعَالَى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ) أي في الحديبية (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح: 18] وتسمى بيعة الرضوان وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 تقدمت القضية (وقال) أي الله سبحانه وتعالى (رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الْأَحْزَابِ: 23] من قتالهم أعداء الله وثباتهم مع رسول الله وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد وحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ونحوهم (الآية) أي فمنهم من قضى نحبه أي نذره حتى قتل شهيدا كحمزة ومصعب وأنس بن النضر ومنهم من ينتظر ان يقضي نحبه أي نذره ليفوز بالشهادة كعثمان وطلحة وسعيد وما بدلوا عهدهم تبديلا ولقد ثبت معه طلحة يوم أحد حتى أصيبت يده فقال عليه السلام أوجب طلحة أوجب طلحة (حدّثنا القاضي أبو عليّ) أي ابن سكرة (ثنا) أي حدثنا (أبو الحسين) أي المبارك بن عبد الجبار الصيرفي (وأبو الفضل) أي ابن خيرون (قالا) أي كلاهما (حدّثنا أبو يعلى) أي البغدادي أحمد بن عبد الواحد المعروف بابن زوج الحرة (حدّثنا أبو عليّ السنجيّ) بكسر أوله (حدّثنا محمّد بن محبوب) المشهور بالمحبوبي (حدّثنا التّرمذيّ) وهو الحافظ أبو عيسى صاحب السنن (حدّثنا الحسن) وفي نسخة صحيحة الحسين بالتصغير (ابن الصّبّاح) بتشديد الموحدة وهو البزار براء في آخره (حدّثنا سفيان بن عيينة) وهو الإمام الجليل (عن زائدة) أي ابن قدامة أبو الصلت الثقفي الكوفي ثقة حجة صاحب سنة توفي غازيا بالروم سنة ستين ومائة أخرج له الأئمة الستة (عن عبد الملك) رأى عليا وسمع جريدا والمغيرة والنعمان بن بشير وعنه شعبة والسفيانان أخرج له الأئمة الستة (ابن عمير) بالتصغير (عن ربعيّ) بكسر راء فسكون موحدة وكسر مهملة فتشديد تحتية (ابن حراش) بكسر مهملة وتخفيف راء وفي آخره معجمة هو أبو مريم العبسي سمع عمر وابن مسعود وعنه منصور وأبو مالك الأشجعي حجة قانت لله لم يكذب قط وحلف أنه لا يضحك حتى يعلم أين مصيره فما ضحك إلا بعد موته توفي سنة أربع ومائة أخرج له الأئمة الستة (عن حذيفة) هو ابن اليماني أبو عبد الله العبسي وفي الصحابة جماعة يقال لكل منهم حذيفة ومنهم من له رواية فلهذا ميزت هذا بأبيه واليماني إثبات الياء فيه أصح من تركها وهو صحابي أيضا رضي الله تعالى عنهما ثم اعلم أن هذا الحديث قد أخرجه المصنف من عند الترمذي كما رأيت وقد أخرجه الترمذي في المناقب به ورواه أيضا من طريق أخرى وأخرجه ابن ماجه في السنة من طريقين وقد أخرجه ابن حبان والحاكم من حديث حذيفة ورواه الحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وصحح اسناده (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بكر وعمر) هذا أمر بطاعتهما متضمن لثنائه عليهما ومؤذن بحسن سيرتهما وصدق سريرتهما ومشير إلى أنهما يكونان خليفتيه من بعده (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما روى عبد بن حميد عن ابن عمر (أصحابي كالنّجوم) بجامع الاهتداء إذ بها يقتدى في غياهب الظلمة الشنيعة وبهم يهتدي إلى محاسن مراتب أنوار الشريعة (بأيّهم اقتديتم اهتديتم) ولعل الحديث مقتبس من قوله سبحانه وتعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ويقويه قوله عليه الصلاة والسلام العلماء ورثة الأنبياء ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 أعلم أن قوله وقال أصحابي حديث آخر وقد أخرجه الدارقطني في الفضائل وابن عبد البر من طريقه من حديث جابر وقال هذا إسناد لا تقوم به حجة ورواه عبد بن حميد في مسنده عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال البزار منكر لا يصح ورواه ابن عدي في الكامل بإسناده عن نافع عن ابن عمر بلفظ فأيهم أخذتم بقوله بدل اقتديتم وإسناده ضعيف ورواه البيهقي في المدخل من حديث عمر ومن حديث ابن عباس بنحوه ومن وجه آخر مرسلا وقال متنه مشهور وأسانيده ضعيفة قال الحلبي وكان ينبغي للقاضي أن لا يذكره بصيغة جزم لما عرف عند أهل الصناعة وقد سبق له مثله مرارا أقول يحتمل إنه ثبت بإسناد عنده أو حمل كثرة الطرق على ترقيه من الضعف إلى الحسن بناء على حسن ظنه مع أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال والله أعلم بحقيقة الأحوال (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) في رواية البزار وأبي يعلى (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مثل أصحابي) زاد البغوي في المصابيح وشرح السنة في أمتي (كمثل الملح في الطّعام) بجامع الصلاح إذ بهم صلاح الدنيا وفلاح العقبى (لا يصلح الطّعام إلّا به) أي بالملح بحسب الحاجة إلى القدر المصلح له قال الحسن قد ذهب ملحنا فكيف نصلح (وقال) عليه السلام (الله الله) بنصبهما أي اتقوه أو راعوه (في أصحابي) أي خاصة (لا تتّخذوهم غرضا) أي هدفا للطعن (بعدي) أي بعد موتي أو بعد غيبتي لأني أقوم لهم بنصرتي في حياتي وحضرتي (فمن أحبّهم فبحبّي) أي إياهم أو فبحبهم لي (أحبّهم) ويؤيده قوله (ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) وهذا بحسب الاعتقاد والأحوال وأما باعتبار الأقوال والأفعال فكما بينه بقوله (ومن آذاهم) أي باللسان أو الأركان (فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله) أي فكأنه آذاه (ومن آذى الله يوشك) بكسر الشين وتفتح أي يقرب (أن يأخذه) أي بأخذ شديد ويؤاخذه بعذاب أكيد ولعل الحديث مقتبس من مجموع قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه مسلم وغيره (لا تسبّوا أصحابي) قال النووي هو من أكبر الفواحش وسيأتي عن المصنف أنه عده من الكبائر ويعزر عند الجمهور ويقتل عند بعض المالكية وكذا عند بعض الحنفية ففي بعض كتبهم إن سب الشيخين كفر (فلو أنفق أحدكم) أي كل يوم كما رواه عبد بن حميد في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مرفوعا لو أنفق أحدكم كل يوم (مثل أحد) أي مالا قدره أو إنفاقا مثله (ذهبا) تمييز (ما بلغ) أي جميعه (مدّ أحدهم) وفي نسخة صحيحة مد أصحابي وهو بضم ميم وتشديد دال وخص بالذكر لأنه أقل ما كانوا يتصدقون به وأصله كان الرجل يمد كفيه فيملأهما طعاما أي قدر مد طعام أحدهم مما أنفقوا في محلهم (ولا نصيفه) لما قارنه من صدق نية وصفاء طوية مع شدة الحاجة وكمال القلة وقد ورد سبق درهم مائة ألف درهم والنصيف بفتح فكسر بمعنى النصف بتثليث النون كما يقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 عشر وعشير وقال الأرزنجاني في شرح المشارق النصيف مكيال معروف وهو دون المد والضمير في نصيفه راجع إلى أحدهم لا إلى المد والمعنى أن أحدكم لا يدرك بإنفاق مثل أحد ذهبا من الفضيلة ما أدرك أحدهم بإنفاق مد من الطعام أو نصيف منه ولعل الحديث مقتبس من قوله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى (وقال) أي فيما رواه الديلمي عن عويم بن ساعدة أبو نعيم في الحلية عن جابر رضي الله تعالى عنه (مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ والنّاس أجمعين) تأكيد لمن ذكر أو للناس فقط أي كلهم أي الطرد والبعد عن الحق والسب والذم من الخلق (لا يقبل الله منه) أي ممن سبهم (صرفا) بفتح الصاد المهملة وسكون الراء أي التوبة أو نافلة (ولا عدلا) بفتح العين وسكون الدال أي فدية أو فريضة وقال الماوردي الجمهور على أن الصرف الفريضة والعدل النافلة وعكسه الحسن وقال الأصمعي أن الصرف التوبة والعدل الفدية ومعنى القبول تكفير الذنوب بهما قال النووي معنى الفدية هنا أنه لا يجد في القيامة فداء يفتدى به خلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله تعالى على ما يشاء منهم بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما ثبت في الصحيح وفي الحديث أن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يمينا وشمالا فإذا لم تجد لها مساغا رجعت إلى الذي لعن إن كان أهلا لها وإلا رجعت إلى قائلها (وقال) كما رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) أي عن الطعن فيهم (وقال) كما رواه الديلمي (في حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَاخْتَارَ لِي مِنْهُمْ أَرْبَعَةً أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا فَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أصحابي) وخير غيرهم بطريق الأولى وكذا من الأمم الأولى (وفي أصحابي كلّهم خير) لحديث خيركم قرني فهم خيرة الله من خلقه بفتح الياء وسكونها أي اختاره الله (وقال) كما روى الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري بسند حسن (مَنْ أَحَبَّ عُمَرَ فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَبْغَضَ عمر فقد أبغضني) لما أوتيه من كرم الشيم وعلو الهمم (قال) وفي نسخة وقال (مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه وغيره) أي من العلماء (من أبغض الصّحابة) أي بجنانه (وسبّهم) أي بلسانه والواو بمعنى أو (فليس له في فيء المسلمين حقّ) أي فيما ينال من أهل الشرك بعد ما تضع الحرب أوزارها وحكمه أن يكون لكافة المسلمين فأراد مالك رحمه الله بنفي حق من أبغض الصحابة وسبهم من الفيء إنه يخرج بذلك عن جماعة المسلمين (ونزع) بنون مفتوحة فزاء فمهملة بصيغة الفاعل وقيل بصيغة المفعول أي بعد عن الفىء فلا حق له فيه فهو تأكيد لما قبله فتكون الباء في قوله (بآية الحشر) سببية والأظهر أنه بصيغة الفاعل وأن ضميره إلى مالك وغيره يقال نزع بآية من القرآن إذا تلاها محتجا بها أي واستدل كل منهم على قوله ذلك بآية الحشر وهي قوله تعالى (وَالَّذِينَ جاؤُ) عطف على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 المهاجرين في قوله للفقراء المهاجرين أي وللفقراء الذين جاؤوا (مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر: 10] الآية، حين قوى شأن الملة أو هم تابعوهم بإحسان إلى يوم القيامة (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي آمنوا قبلنا (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي حقدا وغشا (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي من السابقين واللاحقين (ربنا إنك رؤوف رحيم) بالمحسنين روي عن مالك رحمه الله أنه قال من تنقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ثم قرأ قوله تعالى ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى حتى بلغ قوله رَؤُفٌ رَحِيمٌ أراد أن الله تعالى قد بين من له الحق في الفيء في هذه الآية ورتبهم على ثلاث منازل الفقراء المهاجرين والذين تبوؤوا الدار يعني المدينة وهم الأنصار والذين جاؤوا من بعدهم يعني التابعين الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا إلى قوله تعالى وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي بغضا للذين آمنوا قال فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجا من أقسام المؤمنين (قال) أي مالك بن أنس رضي الله عنه (مَنْ غَاظَهُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ الله تعالى لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) وعن مالك أيضا أنه قال حين تلا قوله تعالى لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية (وقال عبد الله بن المبارك: خصلتان) أي صفتان كريمتان (من كانتا فيه نجا) من محن الدنيا والآخرة (الصّدق) أي مع الحق والخلق (وحبّ أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم؛ قال أيّوب) وفي نسخة أبو أيوب وهي غير صحيحة (السّختيانيّ) بفتح أوله وضمه وسكون المعجمة وكسر التحتية سبق ذكره (من أحبّ أبا بكر) أي محبة كاملة (فقد أقام الدّين) أي بقدم تقدم اليقين (ومن أحبّ عمر فقد أوضح السّبيل) أي بين سبيل الله وهو الإسلام وعينه (ومن أحبّ عثمان فقد استغنى بنور الله) أي عن الاستضاءة بما سواه (ومن أحبّ عليّا فقد أخذ) وفي نسخة فقد استمسك (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَمَنْ أَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَى أَصْحَابِ محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم) أي كلهم (فقد برىء من النّفاق) أي فهو مؤمن كامل صادق في الوفاق (ومن انتقص) وفي نسخة ومن أبغض (أحدا منهم فهو مبتدع) أي صاحب بدعة (مخالف للسّنّة والسّلف الصّالح) أي من أكابر الأمة (وأخاف أن لا يصعد) بفتح أوله وبضمه أي لا يطلع (له عمل إلى السّماء) يعني لا تقبل منه طاعة (حتّى يحبّهم جميعا ويكون قلبه) أي لهم كما في نسخة (سليما) أي من الغل والحقد (وفي حديث خالد بن سعيد) أي ابن العاص بن أمية بن عبد شمس كنيته أبو سعيد وخالد هو ابن عمرو بن سعيد فسعيد جده قالت بنته أم خالد واسمها أمية كان أبي خامسا في الإسلام وقيل كان رابعا أو ثالثا قيل وأسلم قبل أبي بكر أو قبل علي رضي الله تعالى عنه والله أعلم (أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال) قال الحلبي وهو صحابي مشهور لكن لا أستحضر له شيئا في الكتب الستة ولا في مسند أحمد ولا في مسند بقي بن مخلد وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 كان هذا من غيرهم فإن كان تابعيا كان هذا الحديث مرسلا وإلا فمعضلا انتهى ووجدت بخط شيخ مشايخنا الحافظ السخاوي على هامش حاشية الحلبي ما صورته وجدت بخط الحافظ أبيك على بعض نسخ الشفاء ما صورته كذا فيه خالد بن سعيد وإنما هو خالد بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي والحديث ليس من روايته عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن الصحابة وإنما رواه خالد عن سهل بن يوسف بن سهل بن مالك ابن أخي كعب بن مالك عن أبيه عن جده سهل لما قدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من حجة الوداع المدينة صعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قَالَ (أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَاضٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فَاعْرِفُوا لَهُ ذَلِكَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَاضٍ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ عُثْمَانَ) وفي نسخة وعن عثمان وعن علي (وطلحة) وفي نسخة عن طلحة أي ابن عبيد الله (والزّبير) أي ابن العوام (وسعد) أي ابن أبي وقاص (وسعيد) أي ابن زيد بن عمرو بن نفيل (وعبد الرحمن بن عوف) أي الزهري (فاعرفوا ذلك لهم) ولم يذكر أبا عبيدة مع أنه عاشرهم ولعله سقط من الراوي (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِأَهْلِ بَدْرٍ والحديبيّة) بالتخفيف وتشدد وهي قرية سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة بينها وبين مكة مرحلة وقد جاء في الحديث وهي بئر قال أبو حنيفة ومالك وهي من الحرم وخالفهما الشافعي رحمهم الله تعالى وقال ابن القصار والواحدي بعضها من الحل وفي صحيح البخاري والحديبية خارج الحرم أي باعتبار بعضها فلا ينافي ما تقدم والله تعالى أعلم (احفظوني) أي راعوني (في أصحابي وأصهاري) أي خصوصا وهم آباء زوجاته أبو بكر وعمر وأبو سفيان رضي الله تعالى عنهم (وأختاني) أي أزواج بناته عثمان وعلي وأبو العاص بن ربيعة (لا يطالبنّكم أحد منهم بمظلمة) بكسر اللام من الظلم وهو الجور وبالفتح اسم ما يأخذه الظالم وقيل كل منهما يطلق على الآخر والكسر أكثر وعليه الأكثر (فإنّها) أي مظلمتهم (مظلمة لا توهب في القيامة غدا) والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير من رواية علي بن محمد بن يوسف بن شيبان بن مسمع حدثنا سهل بن يوسف بن سهل بن أخي كعب عن أبيه عن جده فذكره (وقال رجل للمعافى) بفتح الفاء (ابن عمران) وهو أبو مسعود الأزدي الموصلي أحد الأعلام يروي عنه بشر الحافي وغيره قال شيخه الثوري رحمه الله هو ياقوتة العلماء أخرج له البخاري وغيره (أين عمر بن عبد العزيز) أي مقامه في العدل والفضل (من معاوية فغضب) أي من قوله لما لاح له من اضمار أفضلية ابن عبد العزيز على معاوية (وَقَالَ لَا يُقَاسُ بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم أحد) أي لأنهم خير من بعدهم لما سبق من حديث الديلمي والبزار إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ سوى النبيين والمرسلين وحديث الشيخين خير أمتي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثم الذين يلونهم ثم عد بعض مناقبه التي تقتضي علو مراتبه حتى بالنسبة إلى بعض أصحابه فقال (معاوية صاحبه وصهره) أي أخوام حبيبة من امهات المؤمنين (وكاتبه) أي لمكاتيبه وغيرها (وأمينه على وحي الله عز وجل) أي حيث كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 يكتب الوحي على خلاف فيه ولعل السائل سأله عن عمله وزهده وعدله لكن المسؤول عدل عن جوابه لقوله عليه الصلاة والسلام إذا ذكر أصحابي فامسكوا وللإيماء إلى أن كل ما وقع منه يكون مكفرا ببركة صحبته ونتيجة خدمته ولذا لما سئل بعض العلماء مثل هذا السؤال قال في الحال لغبار أنف فرس معاوية مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خير من ألف عمر بن عبد العزيز ويؤيده قوله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وقاتل ومعاوية وإن أسلم عام الفتح لكن له سبق ظاهر على من أسلم بعده سواء كان من الصحابة أو التابعين والحاصل أنه لا أحد من علماء هذه الأمة ومشايخ هذه الملة يبلغ مرتبة الصحابة ومنقبة الخدمة فإن رؤيته عليه الصلاة والسلام كانت اكسيرا تؤثر تأثيرا لمن رآه وآمن به صغيرا أو كبيرا (وأتي النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جيء (بجنازة رجل) بفتح الجيم وكسرها (فلم يصلّ عليه وقال) أي جوابا للسؤال عن الاشكال وهو امتناعه عن تلك الحال مع أنها من جملة الكمال (كان يبغض عثمان) أي بغير وجه شرعي (فأنا أبغضه) رواه الترمذي عن جابر وضعفه (وقال صلى الله تعالى عليه وسلم) كما في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه (في الأنصار) أي في حقهم (اعفوا عن مسيئهم) أي عثراتهم (واقبلوا من محسنهم) أي كمالاتهم وللبخاري أوصى الخليفة من بعدي بالمهاجرين والأنصار أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما روى أبو نعيم والديلمي عن عياض الأنصاري وابن منيع عن أنس رضي الله تعالى عنه (احفظوني) بفتح الفاء أي احفظوا وصيتي (في أصحابي) أي عموما (وأصهاري) أي خصوصا ولعله تغليب يشمل اختانه أيضا قال النووي في شرح مسلم عن أهل اللغة الأختان جمع ختن أقارب زوج الرجل والأحماء أقارب زوج المرأة والأصهار يعم الجميع (فإنّه) أي الشأن (من حفظني فيهم) أي راقبني في حقهم (حفظه الله في الدّنيا والآخرة) أي من الهوان والعقوبة (ومن لم يحفظني فيهم تخلّى الله عنه) أي تبرأ منه وأعرض عنه (ومن تخلّى الله عنه يوشك) بكسر الشين وتفتح أي يقرب ويسرع (أن يأخذه) أي يؤاخذه بما يستحقه من الوعيد أن أخذه أليم شديد (وعنه عليه الصلاة وسلام) فيما روى سعيد بن منصور عن عطاء بن أبي رباح مرسلا (مَنْ حَفِظَنِي فِي أَصْحَابِي كُنْتُ لَهُ حَافِظًا يوم القيامة) أي من سوء العقوبة (وقال) كما رواه الطبراني بسند ضعيف (مَنْ حَفِظَنِي فِي أَصْحَابِي وَرَدَ عَلَيَّ الْحَوْضَ) أي وسقيته منه مع أصحابي رعاية لحقوق صحبتهم وخدمتهم ومحبتهم (ومن لم يحفظني في أصحابي) أي من جهة حقوقهم (لم يرد عليّ الحوض) أي من قريب (ولم يرني إلّا من بعيد) وهذا أشد وعيد (قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا النَّبِيُّ مُؤَدِّبُ الخلق الّذي هدانا الله به) أي أرشدنا به إلى أمر الدين وعلم اليقين (وَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ يَخْرُجُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ إلى البقيع) بالموحدة في أوله أي مقبرة أهل المدينة (فيدعو لهم) أي بالرحمة (ويستغفر لهم) أي عما فرط لهم من الزلة (كالمودّع لهم) كما في حديث مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان يبالغ في الدعاء والاستغفار لهم كالمودع عند الوداع لا يترك شيئا مما يهم المودع إلا ذكره وأوصى به (وَبِذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ النَّبِيُّ) صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم (بحبّهم) أي بمحبة الصحابة (وموالاتهم) أي موالاة من والاهم من أهل السنة والجماعة (ومعاداة من عاداهم) أي من الخوارج والروافض وسائر اهل البدعة (وروي عن كعب رضي الله تعالى عنه) أي كعب الاحبار كما ذكره الحلبي (لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا لَهُ شَفَاعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي لمن بينه وبينه زيادة المودة وقال الدلجي وحديث كعب بن سعد ليس مؤمن من آل محمد إلا له شفاعة (وطلب) أي كعب (من المغيرة بن نوفل) أي ابن الحارث ابن عبد المطلب بن هاشم (أن يشفع له يوم القيامة) له رواية وكان من انصار علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وله جماعة اخوة ووالده نوفل أسر يوم بدر ففداه عمه العباس رضي الله تعالى عنه وهو ابن عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأما جده الحارث بن عبد المطلب فهو أكبر ولد عبد المطلب وبه كان يكنى قال الحافظ عبد الغني المقدسي لم يدرك الإسلام وأسلم من اولاده اربعة نوفل وربيعة وابو سفيان وعبد الله وكان نوفل ابين اخوته واسن من اسلم من بني هاشم ولم يذكر المغيرة فيهم وقد ذكره الحافظ أبو عمر بن عبد البر في استيعابه فيكون خامسا غير أنه يقال ومنهم من يجعل المغيرة اسم أبي سفيان والصحيح الاول يعني أنه غيره انتهى ولم يتعقب هذا الحافظ أبو الفتح اليعمري حين ذكره وأما الذهبي فقد ذكر في كنى التجريد أبا سفيان فقال اسمه المغيرة قاله إبراهيم بن المنذر انتهى ولم يتعقبه وقال في المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب قال ابن عبد البر هذا أخو أبي سفيان فوهم بل هو أبو سفيان انتهى والله تعالى أعلم (قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ لَمْ يؤمن بالرّسول) أي حق إيمانه (من لم يوقّر أصحابه ولم يعزّر أوامره) أي ولم يترك زواجره. فصل [ومن إعظامه وإكباره إعظام جميع أسبابه] (ومن إعظامه) أي تعظيم قدره فوق قدر غيره (وإكباره) أي اعظام أمره زيادة على اعظام أمر غيره (إعظام جميع أسبابه) أي أسباب وصلته ومودته وفي حديث كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي والمراد جميع ما ينسب إليه ويعرف به صلى الله تعالى عليه وسلم (وإكرام مشاهده) أي مواضعه التي حضرها أو نزل بها (وأمكنته) أي مساجده (من مكّة) كبيت خديجة رضي الله تعالى عنها مهبط الوحي ودار الأرقم بن أبي الأرقم وغار حراء وثور ومولده (و) من (المدينة) كمسجده وبيوته ومواطنه (ومعاهده) أي وإكرام معاهده التي كان يتعاهدها كقبا إذ قد ورد أنه كان يزورها كل سبت راكبا أو ماشيا (وما لمسه) أي مسه (عليه الصلاة وسلام أو عرف به) بصيغة المجهول أي مما يمكن إكرامه الآن وإعظامه في هذا الزمان (وروي عن صفيّة بنت نجدة) بفتح نون وسكون جيم فدال مهملة (قالت كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 لأبي محذورة) وهو مؤذنه عليه الصلاة والسلام بمكة ولم يزل مقيما بها يؤذن حتى مات سنة تسع وخمسين قال الواقدي وتوارث الآذان بعده بمكة ولده وولد ولده إلى اليوم في المسجد الحرام وقيل كان مؤذنه بقبا أيضا وهو قرشي جمحي روى عنه ابن أبي مليكة وغيره أخرج له مسلم والأربعة وأحمد في المسند (قصّة) بضم القاف وتشديد الصاد المهملة ما اقبل على الجبهة من شعر الرأس (في مقدّم رأسه) سمي بذلك لأنه يقص وقال ابن دريد كل خصلة من الشعر قصة وقال الجوهري شعر الناصية (إذا قعد وأرسلها) أي لم يعقدها (أصابت الأرض) أي وصلت إليها من طولها (فقيل له) أي لأبي محذورة (ألا تحلقها) أي ألا تقصرها بحلق أو بقص (فقال لم أكن بالّذي أحلقها) آثر التكلم رعاية للمعنى على الغيبة باعتبار المبنى مع أنها هنا القياس بدلالة إعادة الضمير إلى الذي ولفظه لفظ الغائب إيثارا لتغليب التكلم عليها لأن الذي وإن كان بلفظه هو الغائب إلا أنه في المعنى عبارة عن المتكلم (وقد مسّها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده ورؤي ابن عمر رضي الله تعالى عنهما) ماض مجهول من الرؤية أبصر حال كونه (واضعا يده على مقعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي موضع قعوده (من المنبر ثم وضعها على وجهه) أي وتمسح بها تبركا بموضع لمسه (وكانت في قلنسوة خالد بن الوليد) بفتحتين فسكون فضم أي في قبعته أو كوفيته (شعرات) بفتحتين (من شعره) بفتح العين ويسكن ويروى من شعراته (عليه الصلاة والسلام فَسَقَطَتْ قَلَنْسُوَتُهُ فِي بَعْضِ حُرُوبِهِ فَشَدَّ عَلَيْهَا شدّة) بفتح الشين أي ربطة طالت فيها المدة (أنكر) وفي نسخة حتى أنكر (عليه أصحاب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بعضهم (كثرة من قتل فيها) أي في مدة تلك الشدة وهي يحتمل أن يكون مفعولا به لأنكر أو مفعولا له (فقال) أي خالد معتذرا (لم أفعلها بسبب القلنسوة) أي ذاتها كما توهمتم لأنكم سببها ما عرفتم (بل) أي فعلته (لما تضمّنته من شعره صلى الله تعالى عليه وسلم لئلا أسلب) بصيغة المجهول أي لئلا أنزع (بركتها) بالنصب على أنه مفعول ثان (وتقع) أي ولئلا تقع (في أيدي المشركين) أي الأنجاس الذين لم يعرفوا قدرها (ولهذا) أي ولتعظيم مشاهده وآثار معاهده (كان مالك رحمه الله تعالى لا يركب بالمدينة دابّة وكان يقول) أي في وجهه أو في جواب سائله (أستحيي من الله أن أطأ) أي من أن أدوس (تربة) أي جملة تراب (فيها) أي دفن في أجزاء تلك التربة (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بحافر دابّة) متعلق بأطأ إذ لو أمكن للإنسان أن لا يطأها برجليه وكان يقدر على أن يمشي فيها بعينيه لكان لائقا لتعظيم ما لديه صلى الله تعالى عليه وسلم (وروي عنه) أي عن مالك رحمه الله تعالى (أنّه وهب للشّافعيّ كراعا) بضم أوله أي خيلا (كثيرا كان عنده فقال الشافعي أمسك منها دابّة) أي واحدة تركبها عند الحاجة (فَأَجَابَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ وَقَدْ حَكَى أَبُو عبد الرحمن السلمي) بضم ففتح وهو الإمام الجليل (عن أحمد بن فضلويه) بضم اللام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وهو نظير نفطويه وعمرويه ونظائرهما في التلفظ بالوجهين على ما تقدم (الزّاهد وكان) أي أحمد (من الغزاة الرّماة) بضم أولهما جمع الغازي والرامي يعني ممن يحسنهما والجملة معترضة (أنّه قال: ما مسست) بكسر السين والأولى وتفتح أي ما لمست (القوس) أي قوسي أو قوس غيري (بِيَدِي إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ مُنْذُ بَلَغَنِي أَنَّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ القوس) أي تناول قوسه أو قوس غيره (بيده وقد أفتى مالك رحمه الله تعالى فيمن قال تربة) ويروى أن تربة (المدينة رديئة) بالهمز وقد تشدد وهي فعلية من الرداءة أي خبيثة غير طيبة (يضرب) بصيغة المجهول وفي نسخة بضرب بالباء السببية والصيغة المصدرية المضافة إلى (ثلاثين درّة) بكسر الدال وتشديد الراء آلة التعزير ونصبها على التمييز (وأمر بحبسه) أي تغليظا لأمره (وكان له) أي والحال أنه كان لهذا المعذر (قدر) أي جاه وعظمة أمر عنده ومنزلة عند غيره (وقال) أي مالك رحمه الله تعالى زيادة على ما هنالك (ما أحوجه) ما تعجبية (إلى ضرب عنقه) أي في جريمة ذلك (تربة دفن فيها النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يزعم أنّها غير طيّبة) أي مع أنه عليه الصلاة والسلام سمى المدينة طابة وطيبة (وفي الصحيح) أي عند الشيخين عن علي وأنس رضي الله تعالى عنهما (أنّه قال صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة) أي في شأنها (من أحدث فيها حدثا) أي أمرا مبتدعا منكرا لا يعرف في السنة وقيل هو عام في الآثام (أو آوى) بالمد ويقصر أي ضم إليه أو إليها (محدثا) بكسر الدال اسم فاعل أي جانيا بأن أجاره ونصره على خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه أو بفتحها فيكون نفس الأمر المبتدع ويواؤه الرضى به والصبر عليه وإفشاؤه فمن رضي ببدعة وأقر عليها محدثها ولم ينكرها مع القدرة على إنكارها فقد آواها وقواها (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يقبل الله منه صرفا) أي نافلة (ولا عدلا) أي فريضة (وحكي أن جهجاها) بفتح أوله وفي نسخة جهجاه بلا تنوين (الغفاريّ) بكسر أوله قال الحلبي وهذا هو ابن مسعود وقال أبو عمر هو ابن سعد بن حرام وقال الطبري المحدثون يزيدون فيه الهاء والصواب جهجا بدون هاء انتهى قال الذهبي جهجاه بن قيس وقيل ابن سعد الغفاري مدني روى عنه عطاء وسليمان ابنا يسار وشهد بيعة الرضوان وكان في غزوة المريسيع أجير العمر إلى أن ذكر عن ابن عبد البر أنه هو الذي تناول العصا من يد عثمان رضي الله تعالى عنه فذكر القصة ثم قال وتوفي بعد عثمان بسنة وسيأتي قريبا أنه مات قبل الحول أي من كسر العصا وقد تقدم الكلام على حديث كسر العصا فيما مضى (أخذ قضيب النبيّ) أي عصاه (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه وتناوله ليكسره على ركبته) أي معتمدا عليها (فصاح به النّاس) أي لمنعه عنه (فأخذته الآكلة) بعد وكسر كاف مرض معروف (في ركبته فقطعها) أي فقطع ركبته خوفا من سرايتها إلى بقيته (ومات قبل الحول) أي الحول الذي وقع كسره فيه (وقال عليه الصلاة وسلام) كما رواه مالك وأبو داود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (من حلف على منبري) أي فوقه أو عنده أو حوله (كاذبا) أي يمينا فاجرة (فليتبوّأ مقعده من النّار) شديد ووعيد أكيد (وحدّثت) بضم الحاء وتشديد الدال أي حكي لي (أَنَّ أَبَا الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيَّ لَمَّا وَرَدَ الْمَدِينَةَ) أي السكينة (زائرا) أي مريدا للزيارة (وقرب من بيوتها) بضم الباء وكسرها (ترجّل) بتشديد الجيم أي نزل عن دابته (ومشى باكيا منشدا) حالان متداخلان والإنشاد قراءة شعر نفسه أو غيره والبيتان لأبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي وسيأتي ترجمة المتنبي إن شاء الله سبحانه وتعالى (وَلَمَّا رَأَيْنَا رَسْمَ مَنْ لَمْ يَدَعْ لَنَا) رسم الدار أثرها (فؤادا) أي قلبا (لعرفان الرّسوم ولا لبّا) أي عقلا (نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة) الكور بالضم رحل الناقة بأكافه كالسرج بآلته للفرس وكرامة نصب على العلة (لمن بان) أي ظهر رسمه (عنه) بالإشباع (أن نلمّ) من الإلمام أي ننزل (به ركبا) من أسماء الجمع كرهط أو جمع راكب كصحب وصاحب فهو تمييز أو حال من ضمير نلم أي راكبين (وحكي) يروي وروي (عن بعض المريدين) أي للزيارة (أنّه لمّا أشرف على مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أنشأ) ويروي أنشد جعل (يقول متمثّلا) أي شاهدا أو واقفا فإن حقيقة المثول هو الانتصاب على القدمين وقد يراد به القيام في الأمر والنهوض فيه بالهمة ولعله المراد هنا (رفع الحجاب لنا) بصيغة المجهول أي كشف الذي كان بيننا وبين من قصدنا جناب حضرته وباب عزته (فلاح لناظر) أي لمع ولمح (قمر تقطّع) بصيغة المضارع مجهولا أو بحذف إحدى التاءين أو بصيغة الماضي معلوما أي تضمحل (دونه) أي عنده (الأوهام) وتنقطع لديه الأفهام بسطوع نوره بكمال ظهوره (وإذا المطيّ بنا بلغنّ محمّدا) جمع مطية وهي التي يركب مطاها أي ظهرها ويقال يمطي بها في السير أي يمد ومنه قوله تعالى يَتَمَطَّى (فظهورهنّ على الرّحال) بالمهملة جمع رحل البعير وفي نسخة بالجيم (حرام) مكافأة لهن على ايصالهن كما قال (قرّبننا من خير من وطىء الثّرى) أي التراب أو الأرض (فلها علينا حرمة ودمام) بكسر أوله أي عهد وأمان والأبيات لأبي نواس الحكمي يمدح بها الأمين أي أمين الدولة كذا بخط السخاوي وقد ذكر السهيلي في روضه في غزوة مؤته كقول أبي نواس (وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ حَجَّ مَاشِيًا فقيل له في ذلك) حذرا عليه من النصب هنالك (فقال) أي في الجواب (العبد الآبق) أي الهارب الشارد من سيده (يأتي) أي أيأتي (إلى بيت مولاه راكبا) وفي نسخة إلى باب مولاه وفي أخرى لا يأتي (لو قدرت أن أمشي على رأسي) بل على عيني (ما مشيت على قدميّ) وهذا علامة الحب الصادق والأدب الفائق وفي نسخة بتشديد الياء مثنى (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) يعني المصنف (وجدير) خبر مقدم أي حقيق ولائق وخليق (لمواطن) أي بمكة والمدينة (عمرت) بصيغة المجهول مخففا ومشددا (بالوحي) أي بوحي النبوة (والتّنزيل) أي وتنزيل القرآن (وتردّد فيها) وفي نسخة بها أي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 الإتيان إليها (جبرائيل) أي دائما (وميكائيل عليهما السلام) أي أحيانا (وعرجت) أي صعدت (منها الملائكة) أي المقربون (والرّوح) أي وأرواح الأنبياء والمرسلين أو الروح الأمين (وضجّت) بتشديد الجيم أي صوتت (عرصاتها) أي أماكنها وجهاتها والمعنى ارتفعت الأصوات في عرصاتها وهي جمع عرصة وهي كل بقعة بين الديار واسعة وليس بها بناء (بالتّقديس) أي التطهير عن التشبيه (والتّسبيح) أي التنزيه (وَاشْتَمَلَتْ تُرْبَتُهَا عَلَى جَسَدِ سَيِّدِ الْبَشَرِ وَانْتَشَرَ عنها) أي عن تلك الأماكن (من دين الله) أي المأخوذ من كتابه (وسنّة رسوله ما انتشر مدارس آيات) جمع مدارس مفعال من الدرس وهو مكانه وفي الحديث تدارسوا القرآن أي تعاهدوه بتلاوته وهذا خبر مبتدأ محذوف أي وهذه مدارس آيات (بينات) أي واضحات أو مبينات (ومساجد وصلوات) أي دعوات أو عبادات (ومشاهد الفضائل) أي من مكارم الشمائل (والخيرات) أي الطاعات والمبرات (ومعاهد البراهين) أي الدلالات الواضحات (من الآيات) أي الخارقة للعادات (والمعجزات) أي على وفق الكرامات (ومناسك الدّين) أي مذابحهم ومعابدهم (ومشاعر المسلمين) أي معالمهم ومعارفهم (ومواقف سيّد المرسلين) أي أماكن وقوفه ومواطن حضوره ومنابع نوره (ومتبوّأ خاتم النّبيّين) بفتح الواو وكسر تاء خاتم وفتحها ويروى مثواه بسكون المثلثة أي منزله ومأواه من مكة (حيث انفجرت النّبوّة) أي ظهرت ظهور الماء النازل من السماء (وأين) أي من مكة وعينها (فاض عبابها) بضم أوله معظم السيل وارتفاعه وكثرة تموجه كذا في القاموس أي سال عذبها الغمر بها (ومواطن مهبط الرسالة) بكسر الموحدة أي أماكن انزالها أو نزولها من مكة حين إيصالها أو وصولها وفي نسخة وَمُوَاطِنُ طُوِيَتْ فِيهَا الرِّسَالَةُ (وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جلد المصطفى ترابها) بالرفع كذا في بعض الأصول والأظهر نصبه والمراد به بعد الموت وفيه تلميح إلى قول الشاعر: بلاد بها نيطت على تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها (أن تعظّم) بتشديد الظاء المفتوحة (عرصاتها) بفتحتين جمع عرصة بفتح فسكون وهي في الأصل كل مكان واسع لا بناء فيه والتقدير تعظيم أماكنها وهو المبتدأ المقدم خبره وإنما قدم عليه لمزيد تشويق السامع إليه ومن ثمة طول الكلام في المسند ليحسن كل الحسن في المرام إذ بازدياد طوله يزداد حسنه وطوله كما أن بازدياده عليه يزداد الشوق إليه ومنه قول الشاعر: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر (وتتنّسّم) بالبناء للمفعول تستنشق وتشم (نفحاتها) جمع نفحة من نفح الطيب إذا فاح وفي الحديث إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها وفي رواية تعرضوا لنفحات رحمة الله تعالى (وتقبّل) بتشديد الموحدة المفتوحة (ربوعها) بضمتين جمع ربع بفتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 فسكون موحدة وهو المنزل ودار الإقامة وفي حديث مكة وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم حين قال أسامة بن زيد أين ننزل غدا يا رسول الله وهل ترك لنا عقيل من رباع جمع ربع أيضا (وجدراتها) بضم الجيم وبالفوقية في آخرها لا بالنون وإن كان هو أيضا جمع جدار وهو ما يحاط به عليها لمراعاة السجع (يا دار خير المسلمين) ويروى زين المرسلين (ومن به) قال الحلبي الذي ظهر لي أن هذا الشعر من قول المصنف انتهى وناداها من لوعة الاحتراق ولذعة الافتراق عن تلك البقعة المنيعة وسكان تلك الرقعة الرفيعة وقال يا دار خير المرسلين لحديث البخاري أنا سيد الأولين والآخرين ثم قال ومن به أي بسبب وجوده وكرمه وجوده (هدي الأنام) أي هداية الخلق (وخصّ) أي هو (بالآيات) أي المنزلة والمعجزات المكملة (عندي لأجلك لوعة) أي شدة ومحبة وكثرة مودة موجبة لزيادة حرقة في حالة فرقة (وصبابة وتشوّق متوقّد الجمرات) الصبابة بفتح أولها أي رقة الشوق ودقة الذوق وعن النخعي كان يعجبهم أن يكون للغلام صبوة لأنه إذا تاب فربما كان ارعواؤه باعثا له على شدة اجتهاده وكثرة ندمه على ما فرط من عمله في سبق قدمه وأبعد له عن أن يعجب بحاله أو يتكل على كماله ولأن المجاز قنطرة الحقيقة والرياء قنطرة الإخلاص (وعليّ عهد) أي وعد عقد (إن ملأت محاجري) بفتح الميم ما دار بالعين أي نواظري (من تلكم الجدرات) بضمتين (والعرصات) بفتحتين (لأعفّرنّ) بتشديد الفاء المكسورة أي لألوثن وأغبرن (مصون شيبي) أي شيبي المصون ووجهي المكنون بتقليبي لهما (بينها) أي بين المذكورات من الجدرات والعرصات (من كثرة التّقبيل) أي تقبيل تلك الأماكن الشريفة (والرّشفات) بفتحتين فقاف كذا في الأصول ولعل معناها رمى سائر الأعضاء على تلك الأجزاء المنيفة من الرشق وهو الرمى بالنبل ففيه تجريد وتشبيه وفي أصل الدلجي بالفاء وكذا في بعض النسخ المصححة فقال جمع رشفة وهو مص المحب ريق محبوبه انتهى ولا يخفى أنه مع عدم وجوده في كتب اللغة غير موافق لكلام الشاعر ومطلوبه نعم لو صحت الرواية بالفاء لتعين أن يقال المراد بها رشفات المشتاق ريقه لكمال حرارة شوقه ومرارة ذوقه في ذلك المكان الموصوف بحسنه وبريقه ففي القاموس رشفه مصه ورشف الماء قليلا قليلا أسكن للعطش (لولا العوادي) جمع عادية وهي شغل يصرفك عن الشيء يريد والله تعالى أعلم ما يعتري الإنسان من العوارض التي تكون عوائق (والأعادي) جمع عدو (زرتها) أي تلك المنازل بسير المراحل (أبدا) أي دائما (ولو) أي وإن كانت زيارتي (سحبا) من قولك سحبت الشيء فانسحب أي جررته فانجر أي سيرا ومشيا (على الوجنات) بفتحتين جمع وجنة بفتح فسكون ويكسر أولها ويضم وهي أعلى الخد (لكن سأهدي) تكلم من الإهداء (من حفيل تحيّتي) أي تحيتي الحافلة الكثيرة الكاملة (لقطين تلك الدّار والحجرات) أي لمقيمها وخادمها من قطن بالمكان إذا لزمه وفي حديث الإفاضة نحن قطين الله تعالى أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 سكان حرمه بحذف المضاف ومنه قول زيد بن حارثة فإني قطين البيت عند المشاعر والحجرات بضمتين جمع حجرة بضم فسكون وهي بيت صغير من الدار منفرد عنها من الحجر وهو المنع أو من الحجر لكونها مبنية منه (أزكى) بمعجمة أي أهدى من كثير التحية والثناء ما هو أضوع (من المسك المفتّق) بمثناة فوقية مشددة أي المشقق ويقال فتق المسك إذا خلط به ما يزكي رائحته وقيل معناه المستخرج الرائحة (نفحة) تمييز للنسبة في أزكي أزيل عن أصله للتفصيل بعد الإجمال ليكون أوقع في نفس أرباب الأحوال (تغشاه) أي تحل بركاته وتغطيه (بالآصال) جمع أصيل من بعد العصر إلى المغرب كذا قاله الدلجي تبعا للحلبي والأولى أن يقال من بعد الزوال (والبكرات) بضمتين جمع بكرة بضم فسكون أي أول النهار والمراد بهما الدوام في الأيام والليالي تابعة لها كما لا يخفى على الأنام وفي القاموس الأصيل العشي والعشاء أول الظلام أو من المغرب إلى العتمة أو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر والعشي والعشية آخر النهار (وتخصّه بزواكي الصّلوات) بفتح الياء أي بظواهرها وكذا في قوله (ونوامي التّسليم والبركات) أي ببواهرها ويروى بفضائل الصلوات ولطائف التسليم ولو روي بشرائف الصلوات ولطائف التسليم لكان الطف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الباب الرابع [في حكم الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم والتسليم] أي من القسم الثاني (في حكم الصّلاة عليه والتّسليم) أي عليه أو لديه واختير التسليم على السلام مع أن كليهما مصدر سلم لإفادة زيادة التوكيد ولتحقق مطابقة لفظ التنزيل صلوا عليه وسلموا تسليما (وفرض ذلك) أي فرضيته (وفضيلته) وفي نسخة وفضله أي فضل ذلك والمعنى في بيان الحكم في كميتها وكيفيتها واختلاف العلماء في حقيقتها (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ ) [الأحزاب: 56] أي يعظمونه بالثناء عليه (الآية) تمامها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي ادعوا له وقولوا اللهم صل وسلم عليه والواو تفيد الجمعية لا المعية كما عليه الأصولية وأرباب العربية فلا دلالة في الآية على كراهية افراد الصلاة عن السلام وعكسه كما ذهب إليه النووي واتباعه من الشافعية وقد أوضحت المسألة في رسالة مستقلة (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يباركون على النّبيّ) أي أن الله يبارك له في أمره ويزيد في قدره وتدعو الملائكة ربه أن يرفع ذكره ويظهر أمره ففيه إشارة إلى أن في قوله يصلون مجازا مرسلا لا جمعا بين الحقيقة والمجاز ولا استعمال المشترك في معنييه كما هو مبين في الأصول لأهل الوصول (وقيل إنّ الله يترحّم على النبيّ) أي يبالغ في إنزال الرحمة عليه فكأنه يطلب من نفسه الرأفة إليه (وملائكة يدعون له) أي ويتواضعون لديه (قال المبرّد وأصل الصّلاة التّرحّم وهي) وفي نسخة فهي (من الله رحمة) أي انزالها وإيصالها (ومن الملائكة رقّة) أي موجبة للرحمة (واستدعاء للرّحمة من الله تعالى) أي على نبي الأمة وكاشف الغمة (وقد ورد) ويروى وقد روي (فِي الْحَدِيثِ صِفَةُ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَنْ جلس) أي في مسجد ونحوه (ينتظر الصّلاة) أي الآتية أو أذانها وإقامتها (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ فَهَذَا دُعَاءٌ) لكنه يليق بالأمة ولا يبعد أن يكون دعاؤهم للنبي بأن يقولوا اللهم عظم شأنه وتمم برهانه وأكثر أمته وأظهر ملته وأرفع درجته (وقال بكر) وفي نسخة أَبُو بَكْرٍ (الْقُشَيْرِيُّ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لمن دون النبيّ) أي لغيره (رحمة) أي عامة (وللنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم تشريف) وهو رحمة خاصة (وَزِيَادَةُ تَكْرِمَةٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَاةُ اللَّهِ وثناؤه عليه عند الملائكة) أي المقربين (وصلاة الملائكة الدّعاء) أي بزيادة الإكرام والإنعام للنبي عليه الصلاة والسلام (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) يعني المصنف (وقد فرّق) بتشديد الراء وتخفيفها وهو أولى أي فصل (النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث تعليم الصّلاة عليه بين لفظ الصّلاة ولفظ البركة) أي في الحديث الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 رواه الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد (فدلّ أنّهما) أي الصلاة والبركة (بمعنيين) أي متغايرين لأن المراد بالصلاة الثناء وبالبركة كثرة الخير والنماء (وَأَمَّا التَّسْلِيمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عباده) أي بقوله وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً وهو يحتمل أن يكون بمعنى الانقياد كما قال تَعَالَى فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ويحتمل أن يراد به التسليم الذي بمعنى التحية فإن السلام تحية أهل الإسلام أو خصوص الدعاء بالسلامة من الآفة للنبي عليه الصلاة والسلام (فقال القاضي أبو بكر بن بكير) بضم موحدة فكاف مفتوحة فتحتية ساكنة (نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ أَنْ يُسَلِّمُوا عليه) وكذا امرهم النبي أن يسلموا عليه في الصلاة بأن يقولوا السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ (وكذلك من بعدهم) أي من التابعين وغيرهم (أمروا) أي تبعا لهم (أن يسلّموا على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عند حضورهم قبره) أي خصوصا (وعند ذكره) أي عموما (وفي معنى السّلام عليه ثلاثة وجوه: أحدها السّلامة لك) أي حاصلة لك أو السلامة الكاملة من الآفات الشاملة خاصة لك (ومعك) أي ومصحوبة معك لا تنفك عنك في جميع أحوالك (ويكون السّلام مصدرا) أي كالسلامة (كاللّذاذ واللّذاذة) فإنهما مصدران من لذيذ إلا أنهما من الثلاثي المجرد والأولان من المزيد (الثّاني) أي من الوجوه (أي السّلام) أي اسمه (على حفظك) أي محافظتك من موجبات قصورك (ورعايتك) أي مراعاة جميع أمورك (متولّ له) أي متصرف لما ذكر من حفظك ورعايتك أو متول عونه ونصره له (وكفيل به) أي ضمين بقيامه ومتكفل بنظام مرامه (ويكون هنا) أي في الوجه الثاني (السّلام اسم الله) أي مصدر وصف به مبالغة ومعناه ذو السلامة من كل نقص وآفة (الثّالث أنّ السّلام بمعنى المسالمة له) أي المصالحة والموافقة (والانقياد) أي بالإدغان وترك المخالفة (كما قال تعالى فَلا) أي فليس الأمر كما زعموا (وَرَبِّكَ) وقيل التقدير فوربك بشهادة فوربك لنسألنهم زيدت فيه لا لتأكيد القسم لا لتظاهر لا في (لا يُؤْمِنُونَ) جواب القسم لأن استواء النفي والإثبات في زيادتها للتاكيد كما في فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وما لا تبصرون يأبى ذلك (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أي يجعلوك حاكما (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي فيما وقع لهم من التنازع والاختلاف (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً) أي ضيقا شرعا لا طبعا أو شكا (مِمَّا قَضَيْتَ أي حكمت به (وَيُسَلِّمُوا أي وينقادوا لما حكمت به (تَسْلِيماً) [النساء: 65] . مصدر مؤكد لفعله بمنزلة تكريره أي وينقادوا انقيادا ظاهرا وباطنا لا ريبة فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 فصل [اعلم أن الصلاة على النبي فرض في الجملة] (اعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم فرض) أي واجب مقطوع به (في الجملة) وفي نسخة على الجملة أي إجمالا (غير محدّد) وفي نسخة غير محدود أي غير موقت ومقدر (بوقت) أي بزمان معين (لأمر الله تعالى بالصّلاة عليه) والأصل في الأمر الوجوب كما عليه الجمهور (وحمل الأئمة) يحتمل أن يكون مصدرا أو ماضيا كما في نسختين صحيحتين والمراد الأئمة المجتهدين (والعلماء) أي من المفسرين والمحدثين (له) أي لأمر الله (على الوجوب) بمعنى الفرض (وأجمعوا عليه) أي على الوجوب والمراد بإجماعهم اتفاق أكثرهم لقوله (وحكى أبو جعفر) أي محمد بن جرير الشافعي (الطّبريّ أنّ محمل الآية) بفتح الميم الأولى وكسر الثانية أي الآية محمولة باعتبار أمرها (عنده على النّدب وادّعى فيه الإجماع) أي على الندب (ولعله) أي الإجماع المذكور (فيما زاد على مرّة) أي لئلا يخالف الإجماع المذكور (والواجب منه) مبتدأ وهو اسم فاعل مشتق فلامه اسم موصول صلته (الّذي يسقط به الجرح) بفتح الجيم وسكون الراء أي الطعن والقدح (ومأثم ترك الفرض) أي ويسقط به الإثم المترتب على تركه (مرّة) خبر المبتدأ المقدم لأنها أقل ما توجد فيها الماهية المطلوبة فيحمل عليها (كالشّهادة له بالنّبوّة) أي المقرونة بالرسالة لوجوبها مرة اجماعا (وما عدا ذلك) أي وأما ما زاد على مرة فيها (فمندوب) أي مستحب ومطلوب (مرغّب فيه) أي مرغوب (من سنن الإسلام وشعار أهله) أي علامتهم في احكام الأحكام (قال القاضي أبو الحسن بن القصّار) من المالكية (المشهور عن أصحابنا) أي علمائنا (أنّ ذلك) أي ما ذكر من أن الصلاة (واجب في الجملة) أي فرض غير موقت بوقت معين (على الإنسان وفرض عليه) أي على كل فرد من أفراد الإنسان من المؤمنين (أن يأتي به) أي بهذا الفرض وفي نسخة بها أي بالصلاة (مرّة من دهره) إذ به يخرج من عهدة أمره (مع القدرة على ذلك) أي على الإتيان بها إذ هي شرط له ولهذا تسقط عن الأبكم (وقال القاضي أبو بكر بن بكير) بضم موحدة وفتح كاف أحد المالكية (افترض الله على خلقه) أي المؤمنين (أن يصلّوا على نبيّه) أي تعظيما وتكريما (ويسلّموا تسليما ولم يجعل ذلك) أي الافتراض (لوقت معلوم) أي في وقت معين وزمان مبين (فالواجب) أي مروءة أو احتياطا أو المراد به الواجوب الذي دون الفرض (أن يكثر المرء منها) أي من الصلاة (ولا يغفل) بضم الفاء أي لا يذهل (عنها) والمعنى أنه تعالى لم يوقت ذلك ليشمل سائر الأوقات هنالك كما قيل في الذكر أنه سبحانه وتعلى قال اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا فجعل لكل عبادة وقتا معينا إلا ذكره عز وجل فإنه لم يجعل له زمانا مبينا سواء يكون ذكرا لسانيا أو جنانيا وكذلك الصلاة عليه غير موقتة حيث قرن ذكره بذكره البتة (قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ نَصْرٍ: الصَّلَاةُ على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم واجبة في الجملة) هذا قول مجمل وفي بيان تفصيله (قال القاضي أبو عبد الله مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ: ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ من أهل العلم) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 أي من الأئمة المجتهدين (إلى) وفي نسخة بدونها (أنّ الصّلاة على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فرض بالجملة بعقد الإيمان) أي بقيد الإيمان المذكور في القرآن فلا تجب على أهل الكفر والكفران (لا يتعيّن في الصّلاة) بمعنى أنها لا تجب فيها ولا أنها لا تصح إلا بها كما قال الشافعي (وأنّ) أي وذهبوا إلى أن (مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ عُمُرِهِ سقط الفرض عنه وقال أصحاب الشّافعيّ) أي تبعا له (الفرض منها) أي من الصلاة (الّذي أمر الله) أي في قديم كلامه (به) أي بإتيانه (ورسوله) أي وأمر به رسوله (عليه السلام) أي في حديثه (هو في الصّلاة) أي منحصر فيها وهو عقب تشهدها قبل سلام تحللها واستدلوا بحديث أبي مسعود البدري في صحيحي ابن حبان والحاكم أما السلام عليك يا رسول الله فقد عرفناه أي فيما علمناه من تشهد الصلاة وهو السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا قال قولوا اللهم صل على محمد إلى آخره زاد ابن ماجه وغيره والسلام علي كما قد علمتم وفيه أنه لا دلالة على فرضيتها على وجه خصوصيتها وبحديث ابن مسعود فيما رواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والحاكم بسند صحيح يتشهد الرجل في الصلاة ثم يصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم يدعو لنفسه بعد وفيه أن هذا اخبار عن أقوال تقال في الصلاة ولا دلالة على وجوب الصلاة بشهادة كون الدعاء مستحبا إجماعا وبحديث ابن عمر فيما رواه العميري بسند جيد لا تكون صلاة إلّا بقراءة وتشهد وصلاة عليّ في الصلاة في الصلاة اللهم صل على محمد وآل محمد الخ وفيه أنه يحتمل أن المراد لا تكون صلاة كاملة مع وجود الاحتمال يمتنع الاستدلال وقال الشافعي قد ورد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم علمهم تشهد الصلاة وورد أنه علمهم كيف يصلون عليه فيها فلم يجز أن نقول بوجوب التشهد فيها دون وجوب الصلاة عليه انتهى ولا يخفى أنه يجوز أن يقع الأمران ويكون أحدهما للوجوب والآخر للندب على أن لفظ الحديث الصلاة المشتملة على آله والشافعي لم يقل بوجوب الجمع بينهما مع أنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بالدعاء فيها أيضا وهو مندوب أيضا قال الدلجي وزعم القرافي في ذخيرته أنه يستدل على وجوب الصلاة عليه عليه السلام فيه بالإجماع ولم يصب في زعمه إذ لا اجماع على وجوبها فيه أقول ولعله أراد أن الإجماع على وجوب الصلاة في الجملة وتعين الوقت فيه بالسنة وهذا معنى قوله (وقالوا) أي أصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى (وأمّا في غيرها) أي غير الصلاة (فلا خلاف أنّها غير واجبة) أي فيتعين كونها في الصلاة واجبة إذ لا بد من وجوبها مرة كما مر فقول الدلجي إلا مرة واحدة كما مر غير مستقيم فتدبر (وَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَحَكَى الْإِمَامَانِ أَبُو جَعْفَرٍ) وفي نسخة أبوا جعفر بلفظ التثنية فإنه كنية لهما (الطّبريّ) وهو محمد بن جرير من أكابر الشافعية (والطّحاويّ) وهو محمد بن أحمد بن سلام من أكابر الحنفية (وغيرهما إجماع جميع المتقدّمين) أي من الصحابة والتابعين (والمتأخّرين من علماء الأمّة) أي المجتهدين (عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم في التّشهّد غير واجبة) وعارضهما الدلجي بنقل النووي في شرح المهذب ومسلم وابن كثير وابن قيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الجوزية وكثيرين نقلوا وجوبها عليه فيه عن أئمة من الصحابة كعمر وابنه عبد الله وابن مسعود وأبي مسعود البدري وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم ومن التابعين محمد بن كعب القرظي والشعبي والباقر ومقاتل رحمهم الله تعالى ومن غيرهم أحمد بن حنبل كما قال أبو زرعة الدمشقي الآخر عملا حتى أن بعضهم أوجب أن يقال فيه صلى الله تعالى عليه وسلم قال وقد ألزم من قال من الحنفية بوجوبها فيه لتقدم ذكره فيه وفيه أن لهم أن يلتزموه لذكره لا لصحتها والظاهر أن الصحابة المذكورين وغيرهم لم ينصوا بوجوبها إذ هذا اصطلاح حادث وإنما كانوا يقولون بوقوعها من غير أن يتعرضوا لكونه واجبا أو مندوبا اللهم إلّا أن صرحوا بعدم صحة الصلاة بدونها أو بصحتها من غير وجودها فحينئذ يعرف الإجماع بثبوتها أو نفيها ولهذا قال ابن حجر العسقلاني لم أر من الصحابة أحدا صرح بعدم الوجوب إلا ما نقل عن النخعي وبهذا الاعتبار قال المصنف (وشذّ الشّافعيّ) أي انفرد هو ومن تبعه (في ذلك) أي القول بوجوبها وعدم صحة الصلاة بدونها (فقال) أي الشافعي (مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم من بعد التّشهّد الأخير) وفي نسخة الآخر وهو أشهد أن محمدا رسول الله (قبل السّلام) أي سلام التحليل (فصلاته فاسدة) أي لأنها ركن عنده تفسد بتركه (وإن صلّى عليه قبل ذلك) أي قبل أشهد أن محمدا رسول الله على ما قاله الدلجي أو قبل ذلك التشهد بأن يقول بعد التشهد الأول (لم تجزه) كان حقه أن يقول لم تجزئه كما في نسخة صحيحة لأنه مهموز من اجزأه يجزئه إذا كفاه (ولا سلف) أي لا سابقة قدم (له) أي للشافعي والمعنى أن أحدا من السلف ما وافقه (في هذا القول) أي من الصحابة والتابعين وسائر المجتهدين (ولا سنّة يتّبعها) بتشديد التاء وتخفيفها أي من الأحاديث الدالة على وجوبها فيه ومن أعجب العجائب قول الدلجي وإن تعجب فعجب قوله بعدم وجوبها عليه فيه منكرا على رأس المجتهدين الشافعي إلى آخر ما ذكره فإن الشافعي لم يكن رأس المجتهدين أصلا بل رأسهم وأساسهم أبو حنيفة ومالك وأمثالهما قطعا فيما يتعلق بالاجتهاد فصلا فصلا فلهما على غيرهما في الفقه والحديث فضل وأما قوله من إن موضوع هذا الكتاب يقتضي وجوب الصلاة عليه السلام فأمر خارج عن تحقيق المرام ثم قوله إن هذا من ورطة العصبية فالمصنف منزه عن حمية الجاهلية ثم أغرب في قوله لم أقل ذلك غمصا لمن شذ عما هدى إمام الأمة إليه من طيب القول بل امتثالا لقول عمر إذا رأيتم من يمزق أعراض الناس لا تقربوا عليه قالوا نخاف لسانه فقال ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء (وَقَدْ بَالَغَ فِي إِنْكَارِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهِ) أي على الشافعي (لمخالفته فيها من تقدّمه) أي من السلف ممن لم يقل بوجوبها عليه (جماعة) أي من علماء الخلف (وشنّعوا) بتشديد النون أي طعنوا (عليه الخلاف فيها) أي في هذه المسألة (منهم الطّبريّ) وهو محمد بن جرير من الشافعية (والقشيري) أي صاحب الرسالة منهم أبو بكر بن العلاء المالكي (وغير واحد) أي وكثيرون من غيرهم (وقال أبو بكر بن المنذر) هو الإمام الأوحد محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري شيخ الحرم توفي بمكة سنة تسع أو عشر وثلاثمائة (يستحبّ أن لا يصلّي أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 صلاة) أي فرضا أو نافلة (إِلَّا صَلَّى فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي عقب التشهد الذي بعده التحليل (فإن ترك ذلك) أي الاستحباب (تارك فصلاته مجزئة) أي كافية له (في مذهب مالك وأهل المدينة) أي من علمائها السبعة (وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ) أي أهل الرأي الثاقب الذي هو من أعلى المناقب وقد سماهم أئمة الحديث به لأخذهم فيما أشكل من الحديث أو فيما لم يرد به حديث بآرائهم (وغيرهم وهو قول جلّ أهل العلم) بضم الجيم وتشديد اللام وفي نسخة جمل بضم جيم وفتح ميم وتخفيف لام أي أكثرهم وجمهورهم (وحكي عن مالك وسفيان) أي الثوري (أَنَّهَا فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ مُسْتَحَبَّةٌ وَأَنَّ تَارِكَهَا في التّشهّد) أي الأخير (مسيء) أي ملام بترك السنة (وشذّ الشّافعيّ فأوجب على تاركها) أي عمدا أو سهوا (في الصّلاة) فرضا أو نفلا (الإعادة) لأنها عنده ركن من أركانها الثلاثة عشر التي لا تتم الصلاة إلا بها ولا تجبر بسجود السهو (وأوجب إسحاق) أي ابن إبراهيم بن راهويه المروزي عالم خراسان روى عنه الجماعة خلا ابن ماجه ثقة حجة توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين (الإعادة مع تعمّد تركها دون النّسيان) ووافقه الحزقي من الحنابلة (وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ محمد بن الموّاز) بفتح الميم وتشديد الواو (أنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فريضة) أي في مذهب المالكية وهذا يحتمل أن يريد مرة أو كلما ذكر أو في تشهد الصلاة (قال أبو محمد) هو ابن أبي زيد (يريد) يعني ابن الموز (ليست) أي الصلاة عليه (من فرائض الصّلاة) أي من أركانها (وقاله) أي وكذا قاله (محمد بن عبد الحكم وغيره) ومحمد بن عبد الحكم هذا هو الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري صاحب الشافعي يروي عن ابن وهب وطائفة وعنه النسائي وابن خزيمة والأصم وآخرون قال ان خزيمة ما رأيت في الفقهاء أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين منه مات سنة ثمان وستين ومائتين (وحكى ابن القصّار) بفتح القاف وتشديد الصاد (وَعَبْدُ الْوَهَّابِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمَوَّازِ يَرَاهَا) أي يرى الصلاة (فريضة في الصّلاة كقول الشّافعي) وصححه ابن الحاجب في مختصره وابن العربي في سراج المريدين وقال ابن عبد السلام المالكي وهو ظاهر كلام ابن المواز (وحكى أبو يعلى العبديّ) بفتح مهملة وسكون موحدة (المالكيّ عن المذهب) أي مذهب مالك (فيها ثلاثة أقوال: الوجوب) أي كما قال الشافعي وأشياعه (والسّنّة) أي المؤكدة كما قال أبو حنيفة وأتباعه (والنّدب) أي كما ذهب إليه مالك وبعضهم ولا فرق عند أكثر الشافعية بين السنة والندب وأما عند غيرهم فتغايرهما بأن السنة ما واظب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم والندب ما لم يواظب عليه وبه قال بعض الشافعية كالقاضي حسين (وَقَدْ خَالَفَ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُ) بالرفع أي وغير الخطابي منهم الحافظ العراقي وأبو أمامة بن النقاش (الشّافعيّ في هذه المسألة) أي حيث لم يروا له حجة واضحة من الأدلة (قال الخطّابيّ وليست) أي الصلاة عليه (بواجبة في الصّلاة وهو) أي عدم وجوبها (قول جماعة الفقهاء) أي من السلف والخلف (إلّا الشّافعيّ) أي بالأصالة إنما وافقه من وافقه من الخلف على سبيل التبعية (ولا أعلم له فيها) أي في المسألة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 (قدوة) بضم القاف وكسرها ويحكى فتحها أي مقتدى من السلف (وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ) وفي نسخة من فرائض الصلاة (عمل السّلف الصّالح) أي إفتاء (قبل الشّافعيّ) أي وجوده وظهوره (وإجماعهم عليه) أي على أن ترك الصلاة عليه غير مفسد للصلاة (وقد شنّع النّاس) أي من المتأخرين (عليه) أي على الشافعي (هذه المسألة) أي فيها (جدّا) أي بطريق المبالغة أو مبالغين له في التخطئة (وهذا تشهّد ابن مسعود) أي الذي هو أصح ألفاظ التشهد حيث رواه أصحاب الكتب الستة ولهذا اختاره بعض العلماء والمشايخ من الشافعية أيضا وقد ذكر ابن الملقن التشهدات الواردة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في تخريج أحاديث الرافعي فبلغت ثلاثة عشر تشهدا ثم أجمعوا على جواز جميع ألفاظ التشهد الوارد وإنما الخلاف في الاختيار فاختار أبي حنيفة تشهد ابن مسعود لكونه اصح سندا واختار الشافعي تشهد ابن عباس واختار مالك تشهد عمر الذي قرأه فوق منبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأما قوله (الّذي اختاره الشّافعيّ) فغير مشهور عنه بل الثابت عنه في كتب اصحابه أن الذي اختاره تشهد ابن عباس لزيادة المباركات فيه الموافقة لقوله تعالى تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً (وهو) أي تشهد ابن مسعود (الّذي علّمه له النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم وكذلك) مثل تشهد ابن مسعود (كُلُّ مَنْ رَوَى التَّشَهُّدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي مُوسَى الأشعريّ وعبد الله بن الزّبير) أي وغيرهم لما سبق (لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ صَلَاةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي ولو كانت الصلاة فرضا كالتشهد لما تركوا ذكرها وفيه بحث لا يخفى إذ كل واحد منهما فرض على حدة ولا يلزم من ذكر أحدهما ذكر الآخر لا سيما وقد اختلف مقام التعليم مع أنه يمكن تأخير وجوب الصلاة بعد تقديم فرض التشهد (وقد قال ابن عباس) كما في مسلم (وجابر) كما رواه الحاكم والنسائي (كان النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ من القرآن) أي ولهذا خص بالوجوب بخلاف الصلاة عليه فإنه ما ورد فيها مثل هذا الاهتمام (ونحوه) أي ونحو ما ذكر عنهما روي (عن أبي سعيد) أي الخدري (وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما) كما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ عَلَى الْمِنْبَرِ) أي وهو فوقه (كما يعلّمون) أي الفقهاء وفي نسخة بصيغة الخطاب أي كما تعلمون أنتم (الصّبيان في الكتّاب) بضم فتشديد أي في المكتب وموضع تعليم الكتاب (وعلّمه) أي التشهد (أَيْضًا عَلَى الْمِنْبَرِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله تعالى عنه) أي ولم يرو عن أحد منهم ذكر الصلاة عليه في هذا الباب (وَفِي الْحَدِيثِ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عليّ) رواه ابن ماجه والحاكم في مستدركه قال وليس على شرطهما إذ لم يخرجاه والطبراني والدارقطني قال وليس عندهم بقوي واليعمري والبيهقي بلفظ لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ولا صلاة لمن لم يصل على نبيه ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار (قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ مَعْنَاهُ كَامِلَةً أَوْ لِمَنْ لم يصلّ عليّ مرّة في عمره) وإنما أوله بحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 البيهقي الدال على أن المراد به نفي الكمال إذ الإجماع منعقد على صحة صلاة من لا يحب الأنصار والاتفاق على صحة من لم يذكر اسم الله على وضوئه خلافا لأحمد فاندفع قول الدلجي بأنه تحكم وترجيح بلا مرجح وصرف للنفي عن المتبادر منه وضعا أعني الحقيقة المجزئة إلى ناقص لا غناء له ثم هذا كله لو ثبتت صحته (وَضَعَّفَ أَهْلُ الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ رِوَايَةَ هَذَا الْحَدِيثِ) أي بجميع طرقه ويعمل بالحديث الضعيف ولا يستدل به قال السخاوي في القول البديع وعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال لا وضوء لمن لم يصل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رواه ابن ماجه وابن أبي عاصم وسنده ضعيف وفي بعض طرقه من الزيادة لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ومعناه لا وضوء كامل الفضيلة والتسمية عندنا من الفضائل ولا أعلم من قال بوجوبها إلا ما جاء عن أحمد في إحدى الروايتين عنه وبه قال إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر فيتعين حمل الحديث على ما تقدم وهو مثل قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد وما أشبه ذلك (وفي حديث أبي جعفر) الصادق محمد الباقر ابن زين العابدين علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم من صلّى صلاة) أي فرضا أو نافلة (لَمْ يُصَلِّ فِيهَا عَلَيَّ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِي لم تقبل منه) أي قبولا كاملا وفي نسخة وقد روي موقوفا من قبل ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ الصَّوَابُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه) أي ابن علي بن أبي طالب قال الحلبي وعلي كونه مرفوعا أيضا يكون منقطعا لأن أبا جعفر لم يدرك ابن مسعود وابن أبي جعفر من ابن مسعود فإنه على ما قيل ولد سنة عشر ومائة وابن مسعود توفي سنة اثنتين وثلاثين (لَوْ صَلَّيْتُ صَلَاةً لَمْ أُصَلِّ فِيهَا عَلَى النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ لَرَأَيْتُ) من الرأي أو معناه لظننت (أنّها لا تتمّ) أي لا تكمل وليس معناه أنها لا تصح فبطل قول الدلجي قد حكم القاضي ولم يشعر على نفسه بأن للشافعي فيما قاله سلفا هو أبو جعفر وقد انقلب عليه قوله الشاهد لديه: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم على أن الصلاة على أهل البيت ليست من فروض الصلاة إجماعا وعليه الشافعي وغيره فلو سلم أن مراد جعفر الصادق عدم صحة الصلاة بدونها فيكون ممن انفرد بها على أنه لم يسنده إلى نفسه بل يرويه غايته أن حديثه مسند متصل أو منقطع وقد حكم بأنه حديث ضعيف لا يصح الاستدلال به وزيد في بعض النسخ (وراويه) أي ناقل هذا الحديث عن أبي جعفر (جابر الجعفي) بفتح الجيم وسكون العين (وهو ضعيف) . فصل [في المواطن التي تستحب فيها الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويرغب فيها] (فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) وفي نسخة التسليم (على النبي صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 الله تعالى عليه وسلم ويرغّب) بصيغة المجهول من الترغيب وهو ضد الترهيب وفي نسخة ويترغب (من ذلك) أي مما ذكر من المواضع وكان الأظهر أن يقول منها (في تشهّد الصّلاة كما قدّمناه) أي من الأدلة وأقوال الأئمة (وذلك) أي محلها (بعد التّشهّد) أي الأخير على ما عندنا (وقبل الدّعاء) أي قبل الدعاء لحديث ثم ليتخير من الدعاء ما شاء (حدّثنا القاضي أبو عليّ) أي ابن سكرة (رحمه الله بقراءتي عليه قال ثنا) أي حَدَّثَنَا (الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الفارسيّ) بكسر الراء (عن أبي القاسم الخزاعيّ) بضم أوله (عن أبي الهيثم) بفتح الهاء وسكون التحتية وفتح المثلثة وهو ابن كليب وفي نسخة صحيحة عن أبي سعيد الهيثم بن كليب وعلي بن سعيد ضبة وكنية الهيثم أبو سعيد فلعله أراد بالضبة أن الكنية ليست في الأصل والله أعلم (عن أبي عيسى الحافظ) أي الترمذي صاحب الجامع (حدّثنا محمود بن غيلان) مروزي حافظ يروي عن ابن عيينة وغيره وعنه أصحاب الكتب الستة سوى أبي داود (حدّثنا عبد الله بن يزيد) وفي نسخة زيد والصواب الأول وهو ابن عبد الرحمن (المقرىء) اسم فاعل من الإقراء وهو تعليم القراءة بتجويد الأداء وهو القصير مولى آل عمر بن الخطاب أصله من ناحية البصرة نزل مكة وروى عن أبي حنيفة وموسى بن علي بن رباح بالموحدة وحرملة وحيوة بن شريح وغيرهم وعنه البخاري وأحمد وابن راهويه وابن المديني وخلق كثير وثقه النسائي وغيره توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين (حدّثنا حيوة) وفي نسخة عن حيوة (ابن شريح) وحيوة بفتح حاء وسكون ياء وشريح بالتصغير (حدّثني) وفي نسخة حدثنا (أبو هانىء) بكسر نون فهمز (الخولانيّ) بفتح الخاء (أنّ عمرو بن مالك) وفي نسخة عمر والصواب بالواو (الجنبي) بفتح الجيم وسكون النون فموحدة فياء نسبة إلى جنب بطن من مذحج البصري وثقه ابن معين توفي سنة اثنتين وثلاثمائة أخرج له أصحاب السنن الأربعة (أخبره أنه سمع فضالة) بفتح الفاء (ابن عبيد) وفي نسخة ابن عبيد الله والصواب الأول وهو أنصاري أوسي شهد أحدا والحديبية وولي قضاء دمشق لمعاوية (يقول سمع النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته) أي في آخرها (فلم يصلّ على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي قبل الدعاء بها (فقال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عجل هذا) بكسر الجيم مخففة أي استعجل في دعائه لنفسه قبل ثنائه على ربه الذي هو وسيلة لقبوله وفي نسخة عجل بتشديد الجيم المفتوحة أي عجل أمر الدعاء على الصلاة (ثمّ دعاه) أي طلبه (فقال له ولغيره) أي فخاطبه خطابا عاما غير مختص به (إذا صلّى أحدكم) أي وقعد في التشهد الأخير (فليبدأ بتحميد الله والثّناء عليه) أي بقوله التحيات لله الخ (ثمّ ليصلّ على النّبيّ) صلى الله تعالى عليه وسلم أي كما مر (ثمّ ليدع بعد) أي بعد الصلاة عليه (بما شاء) أي بما احتاج إليه أي بما لا يسئل من الناس والحديث أخرجه الترمذي في الدعوات وقال صحيح وأخرجه أبو داود ونحوه في الصلاة وكذا النسائي (وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ هَذَا السَّنَدِ بِتَمْجِيدِ اللَّهِ) أي بتعظيمه وهو بتقديم الميم على الجيم بدل بتحميده بتقديم الحاء على الميم ومعناهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 متقاربان (وهو) أي اللفظ الثاني أو سنده (أصحّ) أي مما قبله عند المصنف وفيه بحث إذ روى الأول أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم ثم لا دلالة في الحديث على وجوب الصلاة كما توهمه الدلجي لأن هذا أمر شفقة ونصيحة في مراعاة السنة بدليل امره بالدعاء المجمع على أنه للاستحباب بل فيه دليل على عدم الوجوب حيث أنه لم يأمره بإعادة الصلاة (وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال الدّعاء والصّلاة) أي المكتوبة والنافلة (معلّق) أي كل منهما (بين السّماء والأرض لا يصعد) بفتح أوله وضمه أي لا يطلع ولا يرفع (إلى الله) أي محل قبوله أو مكان عرشه (منه) أي مما ذكر من الدعاء والصلاة (شيء) أي منهما (حتّى يصلّي) أي الداعي وفي نسخة بصيغة المجهول في صلاته (على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي قبل دعائه رواه الترمذي إلا أنه في الحصن الحصين بلفظ حتى يصلي على نبيك وفيه تنبيه نبيه على أن منشأ الحكم المذكور هو وصف النبوة ونعت الوسيلة (وعن عليّ كرم الله وجهه عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بمعناه) رواه أبو الشيخ في الثواب عنه (وقال) أي علي في رواية زيادة (وعلى آل محمد) ولفظ البيهقي في شعب الإيمان الدعاء محجوب حتى يصلى على محمد وأهل بيته وفي رواية وآل محمد وهذا معنى قوله (وروي أنّ الدّعاء محجوب) أي ممنوع عن كمال حصوله وجمال وصوله (حَتَّى يُصَلِّيَ الدَّاعِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) وفي الاقتصار عليه مرة وضم آله أخرى إشعار بأن ذكر أهل بيته إنما هو لبيان الأحرى ثم اعلم أن حديث علي رواه الطبراني في الأوسط موقوفا وروى الحسن بن عرفة عن علي مرفوعا وسنده ضعيف والصحيح وقفه لكن قال المحققون من علماء الحديث إن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي فهو مرفوع حكما (وعن ابن مسعود) كما روى عبد الرزاق والطبراني بسند صحيح عنه (إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ شَيْئًا) أي في الصلاة وغيرها (فليبدأ بمدحه) وفي نسخة بحمده (والثّناء عليه بما هو أهله ثمّ يصليّ) أي هو (على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) ويمكن أن يكون يصلي مجزوما وبقاء الياء على لغة نحو قوله تعالى إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ على رواية قنبل عن ابن كثير وهو الملائم لما قبله وما بعده من قوله (ثمّ ليسأل) أي مطلوبه (فإنّه اجدر) أي أحق وأليق حينئذ (أن ينجح) بضم الياء وكسر الجيم أو بفتحهما من نجح ينجح وأنجح إذا أصاب طلبته وتيسرت حاجته ونجحت وأنجحت وانجحه الله وفي الحديث دليل على استحباب الصلاة حيث علل بقوله فإنه أجدر أن ينجح فتأمل وتدبر (وعن جابر رضي الله عنه) في رواية البزار وأبي يعلى والبيهقي في شعب الإيمان (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا تجعلوني) أي مؤخرا مع كوني مقدما (كقدح الرّاكب) أي حيث يعلقه من ورائه ويلتفت إليه عند حاجته قال الهروي معناه لا تؤخروني في الذكر كتأخير الراكب تعليق قدحه في آخرة رحله بعد فراغه من التعبية ويجعله خلفه قال حسان كما نيط خلف الراكب القدح الفرد انتهى ونحوه لابن الأثير وقد أخذه منه أو التقدير لا تجعلوني مثل ماء قدح الراكب في الالتفات إليه عند الحاجة وتركه عند حال السعة قيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وما قدحه يا رسول الله قال (فإنّ الرّاكب يملأ قدحه ثمّ يضعه) أي في رحله (ويرفع متاعه) أي على مركوبه أو يضع القدح حيث وقع ويرفع متاعه حيث ارتفع (فإن احتاج إلى شراب) أي شربه (شربه أو الوضوء) أي أو احتاج إليه (توضّأ وإلّا) أي وإن لم يحتج إلى شربه ولا إلى وضوئه (هراقه) أي صبه وفي نسخة اهراقه بسكون الهاء وقيل بفتحها والهاء في هراق بدل من همزة أراق يقال أراق الماء يريقه وهراقه يهريقه هراقة ويقال فيه أهرقت الماء أهريقه اهراقا فتجمع بين البدل والمبدل قال الحجازي ولا تفتح الهاء مع الهمزة (وَلَكِنِ اجْعَلُونِي فِي أَوَّلِ الدُّعَاءِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ) أي اذكروني بالصلاة علي في هذه المواطن خصوصا فإنكم لن تستغنوا عني عموما (وقال ابن عطاء: للدّعاء أركان) أي يقوم بها كالإخلاص (وأجنحة) أي يطير بها ويصعد بسببها ولا بد من وجودها كأكل الحلال (وأسباب) أي أحوال للإجابة كحالة السجود والقراءة (وأوقات) أي أزمنة خاصة لها كالسحر وساعة الجمعة وقد بينا كلها في شرح الحصن الحصين (فإن وافق) أي الدعاء (أركانه) بأن قارنها (قوي) أي باستناده إليها (وإن وافق أجنحته طار في السّماء) أي صعد إليها (وإن وافق مواقيته) أي أزمنته وأمكنته (فاز) أي نجح أجابته وقضيت حاجته واستجيب قوله (وإن وافق أسبابه أنجح) أي ظفر بطلبته (فأركانه حضور القلب) أي لمشاهدة الرب (والرّقّة) أي اللينة من أثر الرحمة (والاستكانة) أي الخضوع والتضرع والمذلة (والخشوع) أي الانكسار والافتقار والخشية (وتعلّق القلب بالله) أي بنفي ما سواه (وقطعه) أي الداعي (من الأسباب) وفي نسخة عن الأسباب اعتمادا على رب الأرباب (وأجنحته الصّدق) بأن لا يجري على لسانه الكذب نحوه ويكون صادقا في قوله وفعله وبارا في عهده ووعده (ومواقيته الأسحار) أي ونحوها من مواقيت الاذكار وخصت بالأسحار لأنها وقت الخلو عن الأغيار والخلوص عن الإكدار (وأسبابه الصّلاة) أي أنواعها بجعلها في أول الدعاء وأوسطه وآخره (على محمد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْحَدِيثِ الدُّعَاءُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لا يردّ) أي بلا إجابة بل يستجاب البتة وقد قال الشيخ أبو سليمان الداراني إذا سألت الله حاجة فابدأه بالصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم ادع بما شئت ثم اختم بالصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه سبحانه بكرمه يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما (وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ دُونَ السَّمَاءِ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّلَاةُ عَلَيَّ صَعِدَ الدُّعَاءُ) وهو مضمون حديث الترمذي عن عمر (وَفِي دُعَاءِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ حنش) بفتح مهملة ونون فشين معجمة وهو ابن عبد الله شيباني صنعاني دمشقي نزل إفريقية يروي عن علي وغيره وثقه أبو زرعة وغيره توفي سنة مائة (فَقَالَ فِي آخِرِهِ وَاسْتَجِبْ دُعَائِي ثُمَّ تَبْدَأُ بالصّلاة على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أن تصلي) أي بأن تصلي وفي نسخة تقول اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ (عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكِ وَنَبِيِّكِ وَرَسُولِكِ أَفْضَلَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أحد من خلقك أجمعين) تأكيد لما قبله (آمين) بالمد ويقصر قال الحلبي هذا الحديث الذي أشار إليه القاضي ليس هو في الكتب الستة والذي لحنش عن ابن عباس حديث يا غلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك الحديث أخرجه الترمذي في الزهد وحديث آخر عند ابن ماجه أنه عليه السلام قال لابن مسعود معك ماء قال لا نبيذ في سطيحة الحديث أخرجه ابن ماجه في الطهارة وليس له عن ابن عباس شيء في بقية الكتب ولا فيها إلا هذين لحنش هذا ترجمته في الميزان وصحح عليه انتهى والحاصل أن الحديث ليس له أصل صحيح لكن الضعيف يذكر في الفضائل والمصنف إمام جليل في حسن الشمائل ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والمثبت مقدم والله أعلم (وَمِنْ مُوَاطِنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ وَسَمَاعِ اسمه أو كتابه) وفي نسخة أو كتابه (أو عند الأذان) أي الاعلام الشامل للإقامة (وقد قال عليه السلام) كما في رواية مسلم عن أبي هريرة (رغم) بكسر الغين ويفتح أي لصق بالتراب وذل (أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ) وفي حديث بعثت مرغمة للمشركين وفي هذا دعاء عليه أي لحقه هوان ومذلة مجازاة بترك تعظيمي بالصلاة علي حين سمع اسمي (وكره ابن حبيب) وهو عبد الملك القرطبي أحد الأئمة ومصنف الواضحة (ذكر النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عند الذّبح) ولعل وجه الكراهة توهم اشتراك اسمه بسم الله سبحانه بأن يقول بسم الله وصلى الله تعالى عليه وسلم وأما إن قال بسم الله والنبي نحوه فلا شك أنه حرام ولا يحل أكل تلك الذبيحة وربما يكفر قائله والحاصل أن أصحاب أبي حنيفة كرهوا الصلاة في هذا الموطن كما ذكره صاحب المحيط وعلله بأن قال لأن فيها إيهام الإهلال لغير الله تعالى (وكره سحنون) بفتح فسكون فضم وهو منصرف وهو أبو سعيد عبد السلام (الصّلاة عليه عند التّعجّب وقال) أي في تعليله (لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِسَابِ وطلب الثّواب) عطف تفسير لما قبله ويؤيده ما قال بعض ائمتنا من ذكر الله عند فتح سلعته أو نشر سلعته وارادة ترويجها واجتماع الناس عليها يكفر وفي تحفة الملوك ومنحة السلوك للعيني ويحرم التسبيح والتكبير والصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند عمل محرم أو عرض سلعة أو فتح متاع انتهى فما ذكره الأنطاكي من قوله كذلك كره أصحابنا الحنيفة للسوقي أن يصلي عليه عليه السلام عند فتح بضاعته وعرضها على المشتري لأنه يقصد بذلك تحسين بضاعته وترغيب المشتري في تجارته لا الاحتساب وطلب الثواب ينبغي أن يحمل على الكراهة التحريمية وإذا قصد المثوبة وغيرها فتكون الكراهة تنزيهية والله أعلم (قال) وفي نسخة وقال (أصبغ) بفتح فسكون فموحدة مفتوحة فغين معجمة وهو غير مصروف وهو ابن فرج بن سعيد بن نافع أبو عبد الله الأموي مولى عمر بن عبد العزيز المصري الفقيه يروي عن ابن وهب والداوردي وطائفة وعنه البخاري وجماعة قال ابن معين كان أعلم خلق الله برأي مالك صدوق عالم ورع (عن ابن القاسم) وهو أبو عبد الله المصري الفقيه صاحب مالك وثقه غير واحد ورع زاهد أخرج له البخاري والنسائي ورد عنه قال خرجت إلى مالك اثنتي عشر مرة اتفقت كل مرة ألف دينار (موطنان لا يذكر فيهما) بصيغة المفعول (إلا الله الذّبيحة والعطاس) بضم أوله وهو العطسة (فلا تقل) بصيغة الخطاب وفي نسخة بصيغة الغيبة مجهولا (فيهما) أي في الذبيحة والعطاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 (بعد ذكر الله محمد رسول الله) أي لاختصاص ذكر الله تعالى بهما ويؤيده ما رواه أبو محمد الخلال بسنده عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال موطنان لا حظ لي فيهما عند العطاس والذبح وأخرج الديلمي في مسند الفردوس له من طريق الحاكم عن أنس وهو عند البيهقي في السنن الكبرى عن الحاكم من غير ذكر الصحابي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم قال لا تذكروني في ثلاثة مواطن عند العطاس وعند الذبيحة وعند التعجب (وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى) وفي نسخة وصلى الله تعالى (على محمد لم يكن تسميته) وفي نسخة تسمية (له مع الله) لأنها جملة منفصلة عما قبلها (وقاله) أي وذكره أيضا (أشهب) وهو ابن عبد العزيز بن داود أبو عمر القيسي المصري الفقيه يروي عن الليث ومالك وطائفة وعنه سحنون وجماعة توفي بعد الشافعي بثمانية عشر يوما وله أربع وستون سنة أخرج له أبو داود والنسائي قال ابن يونس هو أحد فقهاء مصر وذوي رأيها وقال ابن عبد البر كان فقيها حسن الرأي والنظر فضله ابن عبد الحكم على ابن القاسم في الرأي (قال) أي أشهب (وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْعَلَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم فيه) أي فيما ذكرا وفي كل منهما (استنانا) وفي نسخة استئنافا أي سنة واستحسانا خلافا للشافعي حيث قال لا أكره مع التسمية على الذبيحة أن يقول صلى الله تعالى عليه وسلم على محمد بل أحب ذلك (وروى النّسائيّ) وكذا أبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه (عن أوس بن أوس) ثقفي صحابي سكن دمشق أخرج له أصحاب السنن الأربعة وأحمد في المسند قال الحلبي وفي الصحابة من اسمه أوس خمسة وأربعون (عن النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ يوم الجمعة) ولفظه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه الصعقة فأكثروا فيه من الصلاة علي فإن صلاتكم معروضة علي قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد ارممت أي بليت قال إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء رواه أيضا أحمد وابن أبي عاصم والبيهقي والطبراني وابن خزيمة وصححه النووي في الأذكار وجاء في هذا الباب أحاديث كثيرة وفي بعضها تعين عدد الصلاة بثمانين وفي بعضها بمائة وفي بعضها بألف وكذا ورد أحاديث في الصلاة عليه ليلة الجمعة (ومن مواطن الصّلاة والسّلام) أي الجمع بينهما (دخول المسجد) أي بعد تحققه وحصوله أو قصد دخوله ووصوله (قال أبو إسحاق بن شعبان) أي المصري المالكي (وَيَنْبَغِي لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى آله ويترحّم عليه ويبارك عليه وعلى آله ويسلّم) أي عليه وعلى آله كما في نسخة (تَسْلِيمًا وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لي أبواب رحمتك وإذا خرج) من المسجد (فعل مثل ذلك) أي من الصلاة والدعاء ويروى يقول مثل ذلك (وجعل موضع رحمتك فضلك) وهذا مأخوذ من حديث أحمد وأبي يعلى والترمذي وحسنه عن فاطمة رضي الله تعالى عنها كان رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ ثُمَّ قال اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رحمتك وإذا خرج قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ ثُمَّ قال اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فضلك واصله في حديث مسلم وليس فيه ولا في غيره وترحم وبارك ثم لا يخفى مناسبة طلب الرحمة في دخول المسجد للطاعة وملاءمة طلب الفضل وهو الرزق عند خروجه على وجه الإباحه كما يشير إليه قوله سبحانه فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ (وقال عمرو بن دينار) هو أبو محمد مولى قيس مكي إمام يروي عن ابن عباس وابن عمر وجابر وعنه شعبة وسفيانان وحمادان وهو عالم حجة أخرج له الأئمة الستة (في قوله) أي الله سبحانه (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) بضم الباء وكسرها (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور: 61] أي على أهليكم تحية من عند الله مباركة طيبة (قال) أي ابن دينار وهو من كبار التابعين المكيين وفقهائهم (إن) وفي نسخة فإن (لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ فَقُلْ السَّلَامُ على النّبيّ ورحمة لله وبركاته) أي لأن روحه عليه السلام حاضر في بيوت أهل الإسلام (السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين) أي من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين (السّلام على أهل البيت) لعله أراد بهم مؤمني الجن (ورحمة الله وبركاته) وظاهر القرآن عموم البيوت لا سيما وسابقه بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ الآية ويؤيده حديث أنس متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين (قال ابن عبّاس) أي في رواية ابن أبي حاتم (المراد بالبيوت هنا المساجد) ولعله أراد أنها تشمل المساجد فإنها أفضل البيوت كما يشير إليه قوله سبحانه فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ الآية فالتنوين للتذكير أو أراد أن التنوين للتعظيم فيختص بالمساجد لأنها أعلى المشاهد (وقال النّخعي) وهو إبراهيم بن يزيد العالم الجليل (إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدٌ فَقُلْ: السّلام على رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصّالحين) ولا منع من الجمع فيهما (وعن علقمة) أي ابن قيس الفقيه النبيه (إذا دخلت المسجد) أي أنا (أَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته صلّى الله وملائكته على محمد) أي اجمع بين الصلاة والسلام عليه (ونحوه عن كعب) أي كعب الأحبار (إذا دخل) المسجد (وإذا خرج) أي في الوقتين (ولم يذكر الصّلاة) أي كعب بخلاف الأحبار (واحتجّ ابن شعبان لما ذكره) أي فيما مر من أنه ينبغي لمن دخل المسجد أن يصلي الخ ويروى لما ذكر (بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ) لكن سبق أنها لم تذكر فيه ترحما ولا مباركة وحديثها أخرجه الترمذي في الصلاة وفيه إرسال فاطمة بنت الحسين ولم يذكر فاطمة بنت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأخرجه ابن ماجه في الصلاة أيضا (ومثله) أي مثل حديثها أو مثل حديث علقمة (عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) أي الأنصاري قاضي المدينة وأميرها يروي عن السائب بن يزيد وغيره وعنه الأوزاعي ونحوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 أخرج له الأئمة الستة (وذكر) وفي نسخة فذكر (السّلام والرّحمة وقد ذكرنا هذا الحديث) أي حديثها (آخر القسم) أي الثاني وفي نسخة في آخر هذا القسم (والاختلاف في ألفاظه) أي من رواية عنها (وَمِنْ مَوَاطِنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَيْضًا الصَّلَاةُ عَلَى الجنائز وذكر) أي وروي (عن أبي أمامة أنّها من السّنّة) قال الحلبي أبو أمامة هذا الظاهر أنه سعد بن سهل بن حنيف بن واهب بن الحكم بن ثعلبة أبو أمامة الأنصاري ولد في زمان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسماه عليه السلام كناه وبرك عليه وحديثه مرسل وروى عن عمر وعنه الزهري ويحيى بن سعد وخلق فإن قيل لم قلت إن أبا أمامة هذا الظاهر أنه سعد فالجواب أن حديثه المشار إليه هو في المستدرك الحاكم رواه من طريق يونس عن الزهري أخبرني أبو أمامة بن سهل أنه أخبره رجال من الصحابة في الصلاة على الجنازة أنه يكبر الإمام ثم يصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويخلص الصلاة في التكبيرات الثلاث ثم يسلم تسليما خفيفا حتى ينصرف والسنة أن يفعل من ورائه مثل ما فعل أمامة قال الزهري حدثني بذلك أبو أمامة وابن المسيب يسمع فلم ينكر فذكرت الذي قال لمحمد بن سويد فقال وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث عن حبيب بن مسلمة في صلاة صلاها على الميت مثل الذي حدثنا به أبو أمامة على شرطهما سكت عليه الذهبي ولم يتعقبه وله حديث في سنن النسائي السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة ثم يكبر ثلاثا والتسليم عند الأخيرة ثم اعلم أن التكبيرات عندنا أركان وأما الثناء بعد الأولى والصلاة بعد الثانية والدعاء بعد الثالثة فسنن ولو قرأ الفاتحة بنية الثناء جاز وذكر الدلجي أن الصلاة على النبي عند الشافعي من أركانها ومحلها كما جزم به في المنهاج التكبيرة الثانية الحديث النسائي ومحمد بن نصر المروزي عن أبي إمامة بن سهل الصحابي لا أبي أمامة الباهلي قال السنة في الصلاة على الجنائز أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن ثم يصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى ثم يسلم حديث صحيح صححه الحاكم وحكمه الرفع إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (وَمِنْ مَوَاطِنِ الصَّلَاةِ الَّتِي مَضَى عَلَيْهَا عَمَلُ الأمّة ولم تنكرها) أي على عاملها (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله في الرّسائل) أي المكاتيب والوسائل (وما يكتب بعد البسملة) أو الحمدلة لا قبلهما (ولم يكن هذا) أي ابتداء الرسائل بها (في الصّدر الأوّل) أي في زمنه عليه السلام مطلقا أو في زمن أصحابه شائعا فلا ينافي ما ذكره الدلجي من أنه أول من فعله من الخلفاء أبو بكر بشهادة ما في سيرة الكلاعي أن بني سليم لما ارتدوا كتب إلى عامله عليهم طريفة ابن حاجر بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر خليفة رسول الله إلى طريفة بن حاجر سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أما بعد إلخ وفي اذكار النووي عن حماد بن سلمة أن مكاتبة المسلمين كانت من فلان إلى فلان أما بعد سلام عليك الخ وأصله كتابه عليه السلام إلى هرقل عظيم الروم ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 أحدث هذه الزنادقة هذه المكاتبات المبدوءة بالطلبقة أي أطال الله بقاك (وأحدث) بصيغة المجهول أي وابتدع ابتداء الرسائل بها (عند ولاية بني هاشم) أي بني عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم وأولهم السفاح (فَمَضَى بِهِ عَمَلُ النَّاسِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ) أي نواحيها (ومنهم من يختم به) أي بما ذكر من الصلاة عليه عليه السلام (أيضا) مع الابتداء به أو بدونه (الكتب) أي المكاتيب (وقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ مَا دَامَ اسمي في ذلك الكتاب) رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن والخطيب في شرف أصحاب الحديث وأبو الشيخ في الثواب وغيرهم (ومن مواطن السّلام) أي بانفراده (على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم تشهّد الصّلاة) أي في أثنائه (قال) كذا في نسخة أي المصنف (حدّثنا أبو القاسم خلف بن إبراهيم المقرىء الخطيب رحمه الله وغيره) أي من مشايخه المعروفة عنده ولا يضره قول الحلبي لا أعرفه (قال) أي أبو القاسم (حدّثتني كريمة) وفي نسخة صحيحة قالوا حدثتنا (بنت محمد) وفي نسخة بنت أحمد وقد تقدمت (قالت) أي حدثنا (أبو الهيثم) الكشميهني (حدّثنا محمد بن يوسف) أي الفربري (حدّثنا محمد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري (حدّثنا أبو نعيم) بالتصغير هو الفضل بن دكين الحافظ يروي عن الأعمش وطائفة وعنه البخاري وجماعة (حدّثنا الأعمش) وهو سليمان بن مهران (عن شقيق بن سلمة) أي الأسدي مخضرم سمع عمر ومعاذا وقال أدركت سبع سنين من سني الجاهلية وكان من العلماء العاملين أخرج له الأئمة الستة (عن عبد الله بن مسعود) وقد رواه أصحاب الكتب الستة عنه (عن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) اعتمد الدلجي على أصله السقيم قال ظاهره على أنه موقوف عليه وهو في حكم المرفوع (قال إذا صلّى أحدكم) أي فرضا أو نقلا (فليقل) أي في كل قعدة من صلاته وجوبا (التحيّات لله والصّلوات والطّيّبات) أي العابدات القولية والفعلية والمالية كلها لله تعالى (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) قال الدلجي وإنما قال عليك دون على النبي تبعا للفظه عليه السلام وقت علمهم وعدوله إليه ليخاطبوه إذا كان حيا فلما توفي ذهب بعضهم إلى الغيبة بشهادة حديث البخاري عن ابن مسعود كنا نقول السلام عليك وهو بين ظهرانينا ولما قبض قلنا السلام على النبي قلت إن ثبت عنه أراد بهذا في الصلاة فهذا مذهبه المختص به إذا جمع الأربعة على أن المصلي يقول أيها النبي وأن هذا من خصوصياته عليه السلام إذ لو خاطب مصل أحدا غيره ويقول السلام عليك بطلت صلاته (السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ- فَإِنَّكُمْ إذا قلتموها) أي جملة السلام علينا إلى آخرها (أصابت) أي السلامة أو كلمة السلام (كلّ عبد صالح في السّماء) من الملائكة (والأرض) من الأنبياء والأولياء والصالح من يقوم بأداء حقوق الله وحقوق عباده (هذا) أي وقت أداء الصلاة أو تشهد الصلاة (أَحَدُ مَوَاطِنِ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ، وَسُنَّتُهُ أَوَّلُ التَّشَهُّدِ) أي بعد الثناء على الله سبحانه وقبل أن يقول أشهد (وقد روى مالك) أي في الموطأ (عن ابن عمر) رضي الله تعالى عنهما (أنّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 كان يقول ذلك) أي السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (إذا فرغ من تشهّد وأراد أن يسلّم) أي ليخرج من صلاته (واستحبّ مالك في المبسوط) وفي نسخة في المبسوطة (أن يسلّم بمثل ذلك) أي استحب فيها أن يقال ما رواه ابن عمر (قبل السّلام) أي من صلاته قال الدلجي وليس هذا من مشهور مذهبه (قال محمد ابن مسلمة أراد) أي مالك (ما جاء عن عائشة وابن عمر) رضي الله تعالى عنهما (أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ عِنْدَ سَلَامِهِمَا السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وعلى عباد الله الصّالحين؛ السّلام عليكم) أي ورحمة الله (واستحبّ أهل العلم أن ينوي الإنسان) أي المصلي إماما أو مأموما أو منفردا (حين سلامه) أي من صلاته عن يمينه ويساره وفي نسخة عند سلامه (كلّ عبد) وفي نسخة على كُلَّ عَبْدٍ (صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنَ الملائكة وبني آدم والجنّ) أي ممن حضره فإن أصحاب أبي حنيفة على أن الإمام ينوي بطرفيه من ثمه من الملك والبشر وكذا المقتدي إلّا أنه ينوي إمامه أيضا في تسليمة واحدة إذا كان في أحد طرفيه وفيهما إذا كان محاذيا والمنفرد ينوي الملك فقط وذكر الدلجي أن أصحاب الشافعي على أن الإمام ينوي بسلامه المقتدين به وهم ينوون بسلامهم الرد عليه وغيره ينوي به من عن يمينه ويساره وهو الرد (قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَأُحِبُّ لِلْمَأْمُومِ إِذَا سَلَّمَ إِمَامُهُ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصّالحين السّلام عليكم) قال الدلجي وهذا غريب ليس من مشهور مذهبه ثم اعلم إن مواطن الصلاة عليه تزيد على أربعين موضعا ولعله سبحانه وتعالى إن وفقني على جمعها أجعلها في رسالة مستقلة مع ما ورد فيها من الأدلة. فصل [في كيفية الصلاة عليه والتسليم] (في كيفية الصلاة عليه والتسليم) أي بألفاظ وردت عليه الصلاة والسلام وثبتت عند العلماء الأعلام (قال) كذا في نسخة أي المصنف (حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَقِيهُ بقراءتي عليه حدّثنا القاضي أبو الأصبغ) بفتح الهمزة والموحدة فغين معجمة عيسى بن سهل (حدثنا أبو عبد الله بن عتّاب) بتشديد الفوقية (حدّثنا أبو بكر بن واقد) بالقاف المكسورة (وغيره) أي من المشايخ (حدّثنا أبو عيسى) المفهوم من كلام الدلجي إنه الإمام الترمذي وهو الظاهر عند إطلاقه وقال الحلبي هو يحيى بن عبد الله بن يحيى بن كثير ووافقه الانطاكي ويؤيده قوله (حدّثنا عبيد الله) قال الحلبي هذا عم أبي عيسى الذي قبله وهو عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي (حدّثنا يحيى) هذا هو يحيى بن يحيى الليثي أحد رواة الموطأ عن مالك (حدّثنا مالك) وهو الإمام (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حزم) وفي نسخة أبي بكر بن عمرو بن حزم روى عنه السفيانان (عن أبيه عن عمرو بن سليم) بالتصغير (الزّرقيّ) بضم الزاء وفتح الراء مخففة فقاف فياء نسبية أنصاري يروي عن أبي قتادة وأبي هريرة رضي الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 عنهما وعنه الزهري وطائفة (أنه قال أخبرني أبو حميد) بالتصغير (الساعديّ) منسوب إلى بني ساعدة من الأنصار خزرجي مدني له صحبة بقي إلى حدود ستين (أنهم) أي بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم (قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ) وهو مطلق يشمل حال الصلاة وغيرها (فقال قولوا) ربما يستدل به على فريضة الصلاة عليه في الصلاة لأن الأصل في الأمر الوجوب والإجماع على عدم وجوبها في غير الصلاة ولعل الجمهور حملوه على الاستحباب مطلقا إلّا إنها في الصلاة آكد والله أعلم (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صلّيت على آل إبراهيم) قيل الآل مقحمة وقيل المراد آل إبراهيم معه والتشبيه من باب إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر لا من باب إلحاق الناقص بالكمال فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم أكمل الخلق فالصلاة المطلوبة له من الحق محمولة على الأفضل فالمعنى صل عليه صلاة مشهورة كشهرة صلاة الملائكة على إبراهيم لقوله تعالى رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وقد ورد في بعض طرق الحديث زيادة إنك حميد مجيد (وبارك) وفي رواية اللهم بارك (على محمّد) أي اثبت وأدم ما منحته إليه وأنعمته عليه (وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إنّك حميد) أي محمود بذاتك وصفاتك سواء حمدت أو لم تحمد على لسان مخلوقاتك أو حامد بكلماتك على ما أظهرت من آلائك في مصنوعاتك فهو الحامد والمحمود سبحانه وتعالى لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه وأسنده إليه بنحو قوله فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (مجيد) أي كريم كثير الإحسان عظيم كبير الامتنان والحديث قد أخرجه القاضي من موطأ يحيى بن يحيى كما ترى وقد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه كلهم عن مالك به فإن قيل لم عدل عن أخراجه من الكتب والمذكورة فالجواب أنه يقع له من الموطأ أعلى لأن بينه وبين مالك فيه ستة أشخاص من غير إجازة في الطريق (وفي رواية مالك) أي في الموطأ (عن أبي مسعود الأنصاري) رضي الله تعالى عنه أي البدري لنزوله بدرا وقيل لحضوره إياه وأبو مسعود هذا هو عقبة بن عمر وقد تقدم (قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله) أي آل محمد (كما صلّيت على آل إبراهيم) وهو صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا من أشرف آله فتكون الصلاة مضاعفة عليه في حاله وإذا دخل في الآل يرتفع ما سبق في التشبيه من الإشكال والله أعلم بالحال. واعلم أنه استشكل هذا الحديث بناء على القاعدة الأغلبية من أن المشبه به يكون أفضل من المشبه فقبل إن ذلك كان قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم عليهما السلام وقيل صدر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم تواضعا عند ربه أو هضما لنفسه أو تأدبا مع جده وقيل سأل صلاة يتخذه بها خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وهذا لا يتم إلا بما قيل من أنه أراد المشابهة في أصل الصلاة لا قدرها كما في قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وقيل التشبيه وقع في الصلاة على الآل والكلام تم عند قوله صل على محمد وقوله وعلى آل محمد كلام مستأنف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 والمعنى وصل على آل محمد كما صليت ويحكى هذا عن الشافعي لكن تكلفه لا يخفى وقيل هو على ظاهره والمراد اجعل لمحمد وآله صلاة كصلاة إبراهيم وآله فالمسؤول مقابلة الجملة بالجملة لأن المختار من القول في الآل إنهم جميع الأتباع فيدخل في آل إبراهيم خلائق لا يحصون من الأنبياء وكذا ذكره الانطاكي ولا يحتاج إلى تفسير الآل بالاتباع لأن الأنبياء عليهم السلام بعد إبراهيم كلهم من ذريته فأنبياء بني اسرائيل من نسل إسحاق ونبينا من نسل إسماعيل فهو صلى الله تعالى عليه وسلم من جملة آله فآله باعتبار هذا المعنى ومآله أعظم والله أعلم (وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حميد) أي في جميع الأحوال (مجيد) أي كثير البر والنوال (والسّلام كما قد علّمتم) بكسر لام مخففة مع فتح أوله أو مشددة مع ضم أوله أي كما عرفتم في التشهد (وفي رواية كعب بن عجرة) بضم مهملة وسكون جيم وهو من أصحاب الشجرة روى عنه الشعبي وابن سيرين وغيرهما مات سنة إحدى وخمسين والحديث رواه الأئمة الستة عنه مرفوعا (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صلّيت على إبراهيم) وفي نسخة على آل إِبْرَاهِيمَ (وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد) أي مبالغ في المجد والشرف والكرم وعن علي كرم الله وجهه أما نحن بنو هاشم فأنجاد أمجاد أي أشراف كرام (وعن عقبة بن عمرو) أي كما رواه مسلم وغيره عنه مرفوعا (فِي حَدِيثِهِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأمّيّ) أي الذي على أصل خلقته لم يتعلم قراءة ولا كتابة بعد ولادته فيكون ظهور كمال علمه من خوارق عاداته (وعلى آل محمد) قال الشافعي رحمه الله هم من حرمت عليهم الزكاة قال الدلجي ويؤيده قول الحسين بن علي إنا آل محمد لا نأكل أو لا يحل لنا الصدقة والأظهر أن المراد جميع أقاربه وأهل بيته وقيل أزواجه وذريته أو جميع أمته ورجحه النووي في شرح المهذب وقيده القاضي حسين بالأتقياء منهم في حديث البخاري وربما يقال أمة الإجابة كلهم اتقياء فإن التقوى ترك الشرك وقد ورد كل تقي آلى نعم على قدر مراتب التقوى تحصل المشاركة في المقام الأعلى (وفي رواية أبي سعيد الخدريّ) رضي الله تعالى عنه (اللهمّ صلّ على محمد عبدك) أي الأكمل (ورسولك) أي الأفضل فالإضافة للتعظيم والتكريم أو للعهد المخرج توهم التعميم وفيه إيماء إلى الاعتراف بالعبودية والتحدث بنعمة رسالة الربوبية (وذكر معناه) أي معنى الحديث ومبناه ويروى وذكر بمعناه (وَحَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ سَمَاعًا عليه وأبو عليّ الحسن بن طريف) بفتح مهملة (النّحويّ) أي المنسوب إلى النحو لمهارته في علمه وشهرته في فنه (بقراءتي عليه قالا) أي كلاهما (ثنا) أي حدثنا (أبو عبد الله بن سعدون) بفتح سين وضم دال مهملتين ممنوع وقيل مصروف (الفقيه) أي العالم بالفقه (حدّثنا أبو بكر المطّوعيّ) بفتح الواو مشددة (قال حدّثنا أبو عبد الله الحاكم) أي النيسابوري شيخ أهل الحديث في عصره وصاحب التصانيف في دهره ولد سنة إحدى وعشرين وثلاث مائة في ربيع الأول وطلب من صغره الحديث باعتناء أبيه وخاله فسمع سنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 ثلاثين وثلاثمائة ورحل إلى العراق وهو ابن عشرين وحج ثم جال في خراسان وما وراء النهر وسمع من ألفي شيخ تقريبا وفي مستدركه أحاديث ضعيفة وموضوعة أيضا لا يخفى بطلانها على من له معرفة بها وقد وثق جماعة قد ضعفهم هو في مواضع أخر وذكر أنه تبين جرحهم بالدليل توفي في صفر سنة خمس وأربعمائة (عن أبي بكر بن أبي دارم) بكسر الراء (الحافظ) أي السبيعي التميمي محدث الكوفة سمع إبراهيم بن عبد الله بن القصّار وأحمد بن موسى الحمار وغيرهما روى عنه الحاكم وتكلم فيه أبو بكر بن مردويه وآخرون وكان موصوفا بالحفظ لكن كان يترفض واتهم بالكذب توفي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة (عن عليّ بن أحمد العجليّ) بكسر مهملة وسكون جيم (عن حرب) بالموحدة وفي نسخة حارث بالمثلثة (ابن الحسن) وهو الطحان قال الأزدي ليس حديثه بذاك قاله في الميزان قال الحلبي لكن ذكره ابن حبان في ثقاته (عن يحيى بن المساور) بضم الميم وكسر الواو قال الذهبي فيه عن جعفر الصادق قال الأزدي كذاب (عن عمرو بن خالد) هو أبو خالد القرشي مولى بني هاشم كوفي نزل واسط يروي عن حبيب بن أبي ثابت وزيد بن علي وأبي جعفر الباقر وجماعة وعنه حجاج بن أرطأة وإسرائيل وإسماعيل بن أبي عياش وخلق كذاب له ترجمة قبحة في الميزان (عن زيد بن علي بن الحسين) أي ابن علي بن أبي طالب وهو أبو الحسين العلوي المدني أخو محمد الباقر وعبد الله وعمر وعلي وحسين روى عن أبيه وأبان بن عثمان وعروة بن الزبير وغيرهم وعنه الزهري وزكريا بن أبي زائدة وشعبة وعمرو بن خالد وخلق ذكره ابن حبان في الثقات وقال رأي جماعة من الصحابة استشهد سنة اثنتين وعشرين ومائة (عن أبيه عليّ) أبوه عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب زين العابدين يروي عن أبيه وعائشة وأبي هريرة وجمع وعنه بنوه محمد وزيد وعمر والزهري وأبو الزناد وخلق قال الزهري ما رأيت قريشا أفضل منه ثقة مأمون (عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أبي طالب قال) أي علي (عدّهنّ) أي الكلمات الآتية فالضمير مبهم مفسر بما بعده (في يدي) وفي نسخة بصيغة التثنية (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) مرفوع على أنه فاعل عد (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (عدّهنّ في يدي جبريل وقال هكذا) أي الكلمات المعدودة (نزلت) بتسكين تاء التأنيث وفي نسخة نزلت بهن (مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعِزَّةِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبراهيم) وفي نسخة ربنا أي ربنا (إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد) وهذا المقدار تقدم أنه صحيح رواه أصحاب الكتب الستة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم (اللهمّ وترحّم) بتشديد الحاء على صيغة الدعاء أي أظهر الرحمة الوافية والرأفة الكافية (عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَرَحَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيد اللهم وتحنن) أي أظهر الحنان وهو على ما في القاموس كسحاب الرحمة والرزق والبركة والوقار والهيبة ورقة القلب والحنان كشداد من اسمائه سبحانه وتعالى ومعناه الذي يقبل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 من أعرض عنه فلا يبعد أن يقال المعنى على قصد التجريد في المبنى اللهم وأقبل (عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَرَحَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ وَتَحَنَّنْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَحَنَّنْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبراهيم إنك حميد مجيد) قال الحلبي هذا الحديث مسلسل وقد رويته عن غير واحد مسلسلا وقال الدلجي ما أورده المصنف هنا عن أبي عبد الله الحاكم فقد قال النميري إسناده ذاهب وفيه عمرو بن خالد الواسطي وهو متروك لوضعه على أهل البيت وفيه حرب بن الحسين الطائي ويحيى بن المساور وهما مجهولان قلت غايته أن الحديث ضعيف وقد أجمع العلماء على أنه يعمل به في فضائل الأعمال (وعن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه أي برواية أبي داود عنه (عن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم من سرّه) أي أعجبه (أن يكتال) بفتح الياء وروي بضمها أي يأخذ الأجر الأعلى (بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إِذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ) بالنصب على المدح أو بتقدير يعني وفي نسخة بالجر على أنه بدل من الضمير في علينا (فليقل) أي صلاته أو في جميع حالاته (اللهمّ صلّ على محمد النبيّ) أي الموصوف بالرسالة (وأزواجه أمّهات المؤمنين) إيماء إلى قوله تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ (وذرّيّته) أي أولاده وحفدته (وأهل بيته) أي أقاربه وهو تعميم بعد تخصيص مشيرا إلى قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ (كما صلّيت على آل إبراهيم) أي بقولك رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ولهذا ختم بقوله (إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَفِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ خارجة الأنصاريّ) وهو الخزرجي الحارثي المتكلم بعد الموت على الصحيح وقيل هو أبوه وذلك وهم لأنه قتل يوم أحد وهذا تكلم في زمن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال ابن منده شهد بدرا والحديث رواه الديلمي في مسند الفردوس عنه (سألت النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ فَقَالَ صَلُّوا) أي الصلاة بشرائطها وأركانها وسننها (واجتهدوا في الدّعاء) أي بعد التحريمة وفي الركوع والسجود وفي آخر الصلاة (ثمّ قولوا) أي وقولوا وعبر بثم للترقي أو للتراخي في الأخبار ولا يبعد أن يراد بالاجتهاد في الدعاء المبالغة في الثناء بالتحيات الواردة عن سيد الأنبياء ثم قولوا بعد السلام المندرج في ضمن التحيات قبل السلام الصارف عن الصلاة (اللهمّ بارك) أي أكثر الصلاة والرحمة (عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ على إبراهيم إنّك حميد مجيد) وفي الحديث دليل على أنه يجوز الاكتفاء بهذا اللفظ الوارد وإن كان ما سبق أفضل وأكمل فتأمل (وعن سلامة الكنديّ) بكسر الكاف ذكره ابن حبان في الثقات (كان عليّ) رضي الله تعالى عنه (يعلّمنا) وفي رواية يعلم الناس (الصّلاة على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لداخل الصلاة وخارجها وهو موقوف وقد صح سنده قال الدلجي لكن أعل وإن صحح سنده بأن روايته عنه مرسلة إذ لم يدركه انتهى وهو مردود بما ذكره ابن حبان أنه روى عن علي وروى عنه نوح بن قيس الطاحي انتهى ومثل هذا لا يقال في الإرسال ثم رأيت قال الشيخ ابن كثير في تفسيره روينا من طريق سعيد بن منصور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وزيد بن الحباب ويزيد بن هارون ثلاثتهم عن نوح بن قيس حدثنا سلامة الكندي أن عليا كان يعلم الناس (اللهمّ داحي المدحوّات) بتشديد الواو وفي رواية المدحيات بتشديد التحتية فيهما اسما مفعول من دحا يدحو ويدحي أي يا باسط المبسوطات كالأرض إذ خلقها ربوة ثم دحاها أي بسطها ومدها مد الأديم قال تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ وفي الآيتين رد على أهل الهيئة القائلة بغير هذه الكيفية من الكرة المخالفة للأدلة النقلية بمجرد التوهمات العقلية (وبارىء المسموكات) من برأ الشيء أي خلقه بريئا من التفاوت قال تعالى ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ وفي قراءة من تفوت أي نقصان وزيادة وقصور في مادة أي خالق المرفوعات من سمكه إذا رفعه كالسموات فإنها مرتفعة عن السفليات مسيرة خمسمائة عام كما ثبت في الروايات وروي سامك المسموكات أي رافعها وما أحسن المناسبة بين الفقرتين فإن معنى الأولى واضعها وخافضها كما قال تعالى وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ وفي العبارة ترق في الكلام وفيه إيماء إلى أنه سبحانه وتعالى يرفع قوما ويضع آخرين كما تقتضيه اسماؤه الجمالية وصفاته الجلالية (اجعل شرائف صلواتك) أي خيارها وارفعها قدرا وأتمها نورا قيل للأعمش لم لم تستكثر من الرواية عن الشعبي فقال كان يحقرني كنت آتي مع إبراهيم النخعي فيرحب به ويقول لي اقعد ثمه أيها العبد ثم يقول لا يرفع العبد فوق سنته ... ما دام فينا بأرضنا شرف ولعله كان يعمل بما روي نزل الناس على قدر منازلهم فلا يكون تحقيرا له (ونوامي بركاتك) الإضافة فيها وفيما قبلها من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف أي بركاتك النامية الزاكية الدائمة في الزيادة الكافية الوافية (ورأفة تحنّنك) أي اجعل رأفة تنشأ من تحيتك والرأفة أشد الرحمة وفي نسخة تحننك بتاء فوقية فمهملة فنونين أي رحمتك ومنه قوله تعالى وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي واجعل أشد تعطفك وترحمك (على محمد عبدك ورسولك) أي الجامع لوظيفة العبودية والقيام بحق الربوبية (الفاتح لما أغلق) بصيغة المجهول أي المبين لمشكلات الأمور قَالَ تَعَالَى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فهو فاتح لما عسر من أبواب كنوز المبرات وأسباب رموز المسرات إذ قد فتح بإقامة الحجة وإشاعة المحجة أبواب الهداية وأسباب الرعاية المانعة عن الوقوع في الغواية وفي الحديث أوتيت مفاتيح خزائن السموات والأرض وكأنه أراد ما سهله الله تعالى له ولأمته من فتح البلاد وإخراج كنوزها للعباد وفي حديث آخر أوتيت مفاتيح الكلام أي ما منحه الله تعالى من البلاغة والبراعة والفصاحة والنصاعة بالوصول إلى حقائق المباني ودقائق المعاني مما أغلق على غيره من الخلق أجمعين (والخاتم) بكسر التاء وفتحها (لما سبق) أي من النبين والمرسلين وفيه تلويح إلى قوله تعالى وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ولا يبعد أن يراد بالفاتح الإسناد المجازي مشيرا إلى أنه الذي أفتتح به الوجودات وابتدىء به الكائنات كما قال أول ما خلق الله روحي أو نوري أو لأنه كالعلة الغائية في ظهور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 المراتب الاسمائية كما ورد لولاك لما خلقت الأفلاك وكما قال تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وهو الأكمل في مقام العبادة وحالة العبودية (والمعلن الحقّ) بالجر على الإضافة وبالنصب على المفعولية بنزع الخافض أي المظهر لأمر الحق (بالحق) أي بطريق الصدق وليس المراد بهما معنى واحد حتى يصح للدلجي أن يقول وضعه موضعه ضميره قصدا لزيادة تمكينه وتلويحا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يعلن إلا به نعم يمكن أن يراد بالحق اسمه تعالى فالمعنى أنه مظهر للحق بمعاونة الحق إيماء إلى مقام الجمع من ملاحظة فنائه ويقائه (والدّامغ لجيشات الأباطيل) جمع جيشة وهو المرة من جاش إذا فار وارتفع والأباطيل جمع باطل على غير قياس وفي نسخة الأباطل بلا ياء وأصل الدمغ اصابة الدماغ وهو مقتل والمراد به هنا الدفع ومنه قوله تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي القامع لظهورها والدافع لشرورها (كما حمل) بضم الحاء وتشديد الميم المكسورة وهو خبر مبتدأ محذوف أي هذه الحال من وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم بما ذكر من الكمال مثل حال وصفه بما حمله من أعباء الرسالة وأثقال النبوة (فاضطلع) بالضاد المعجمة افتعال من الضلاعة وهي القوة ومنها الاضلاع أي فقوي على ما حمله ونهض (بأمرك) أي بإذنك وتيسيرك وإعانتك إياه عليه وتوفيقك له أو فقام بمأمورك الذي كلفته حمله (لطاعتك) أي لأجلها أو ممتثلا لها وفي نسخة صحيحة بطاعتك فالباء للسببية فتشارك اللام في معناها (مستوفزا) بكسر الفا بعدها زاء أي منتصبا ناهضا أو قائما مستعجلا (في مرضاتك) أي لطلب ما فيه رضاك أو في تحصيل مرضاتك وزاد الدلجي في أصله بغير نكل في قدم بضم نون وسكون كاف وكسر قاف وسكون دال من نكل به إذا جعله عبرة لغيره ومنه قوله تعالى فَجَعَلْناها نَكالًا والمعنى بغير جبن في إقدام ولا وهن في عزم أي ولا ضعف في أمر حزم وحكم حتم وجزم وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر متى توتر قال أول الليل وقال لعمر متى توتر قال آخر الليل فقال لأبي بكر أخذت بالحزم ولعمر أخذت بالعزم ولا خير في عزم بلا حزم وأما قول المصنف (واعيا لوحيك) فهو من وعى يعي وعيا إذا حفظ وفهم ومنه قوله تعالى أُذُنٌ واعِيَةٌ ويقال للإناء الوعاء لحفظه ما فيه من نحو الماء أي مراعيا لما أوحيته إليه وفاهما لما بينته لديه صلى الله تعالى عليه وسلم (حافظا لعهدك) أي الذي عاهدك عليه من الإيمان بألوهيتك والإقرار بوحدانيتك والإخلاص في عبوديتك والقيام بحق رسالتك وفي هذا تلويح إلى قوله عليه الصلاة والسلام وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أي مقيم عليهما ومتمسك بهما مدة استطاعتي وحالة طاقتي لعجزي عن بلوغ كنه ما أوجبته على من أطاعني في عبادتي وطاعتي أو عن دفع ما قضيته علي في سابق قضائك أي إن كنت قضيت علي أن انقض العهد وقتا ما فإني أتنصل منه معتذرا إليك (ماضيا) أي جاريا ومستمرا أو مقدما (على نفاذ أمرك) بالذال المعجمة على امضائه ترغيبا إليك وترهيبا لما لديك (حتّى أورى قبسا) من أوريت الزند إذا قدحته فأخرجت ناره والقبس بفتحتين ما اقتبس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 أي أخذ من النار فهو شعلة منها ومنه قوله تعالى بِشِهابٍ قَبَسٍ واستعير النار هنا للنور والجملة غاية لما قبلها أي لم يزل مجاهدا في إبلاغ ما أمر به مرغبا في موافقته مرهبا من مخالفته حتى أظهر دينا بينا كالقبس نورا نيرا (لقابس) أي لطالب النور الموجب للحضور والسرور (آلاء الله) بالرفع مبتدأ أي نعمه (تصل بأهله أسبابه) بالنصب أي وسائله التي قدرها وذرائعه التي قررها وفي اللوح المحفوظ حررها وفي أصل الدلجي لقابس آلاء الله بالإضافة أي لمبتغي سوابغ نعمه ومواهب كرمه تصل بأهله أي بأهل القبس يعني بالمبتغين له أسبابه بالرفع أي وسائله الموصلة إليه من العناية وتوفيق الهداية من البداية إلى النهاية مما به الفوز أبدا معاشا ومعادا (به) أي به عليه الصلاة والسلام (هديت القلوب) بصيغة المفعول وفي نسخة بصيغة الفاعل أي قلوب أهل الإسلام من بين الأنام فانقادت مذعنة لقبول الأحكام (بعد خوضات الفتن والآثام) أي بعد دخول القلوب في ميدان فتن الأيام وشروعها في مهاوي المعاصي أو الآثام (وأبهج) أي عين وبين (موضحات الأعلام) وسقط في أصل الدلجي لفظ وانهج فقال موضحات متعلق بهديت والأصل إلى موضحات فحذف الجار وأوصل الفعل أقول وعلى تقدير صحة ترك وانهج لا يبعد أن يقال المعنى حال كون تلك القلوب مبينات أعلام الغيوب وقال الأنطاكي هو بفتح الضاد على بناء المفعول أي فأصبحت القلوب بما رزقت من الهداية به عليه الصلاة والسلام منشورات الأعلام انتهى ولا يخفى أن ما قدمناه أولى وأنسب بقوله (ونائرات الأحكام) من نار لازما بمعنى ظهر أي واضحاتها وبيناتها وقول الحلبي نايرات بالنون أوله ومثناة تحتية بعد الألف محمول على ما قبل الاعلال وإلا فيقرأ بالهمزة فلا إشكال (ومنيرات الإسلام) من أنار متعديا أي ومظهرات أحكامه ورافعات أعلامه (فهو) بضم الهاء واسكانها لغتان مشهورتان وقراءتان متواترتان والضمير راجع إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (أمينك المأمون) أي حافظ دينك وعهدك الذي ائتمنته عليه وفوضت أمر بيانه إليه (وخازن علمك المخزون) أي وسائر ما استودعته من أسرار الربوبية التي تعجز عن إدراكها عامة أرباب العبودية كما قيل صدور الأحرار قبور الأسرار (وشهيدك) أي الشاهد عندك للأنبياء والأصفياء وعلى أممهم الأشقياء (يوم الدين) أي يوم الجزاء وفصل القضاء قال تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فقيل المراد بالإشارة إلى هؤلاء أمته من العلماء والأولياء وهم شهداء على أمم سائر الأنبياء ويدل عليه قوله تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ولا منع من الجمع بين الشهادة للأصل والفرع (وبعيثك) أي مبعوثك الذي بعثته أي أرسلته (نعمة) أي للمؤمنين أي هداية ودلالة للكافرين (ورسولك بالحقّ) أي إلى الحق (رحمة) أي للعالمين لمن آمن في الدنيا والآخرة ولمن كفر في الدنيا لا في العقبى (اللهمّ أفسح له) أي وسع لأجله المقام الأعلى (في عدنك) أي في جنة عدنك ودار كرامتك فعدن علم لمعنى العدن وهو الإقامة من عدن بالمكان إذا أقام به ولم يبرح منه سمى بها جنتها لعلاقة الظرفية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 قيل عدن اسم جنة من جملة الجنان فهو في الجنان كآدم في نوع الإنسان والصحيح أنه اسم لجملة الجنان فكلها جنات عدن قال تعالى جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ وقال جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وقال وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وجَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ والاشتقاق أيضا يدل على أنه أعم والله أعلم ويروى في عدتك ولعله بكسر العين وتخفيف الدال بمعنى وعدك أي في موضعه ومحله (واجزه) بهمزة وصل وسكون جيم فزاء مكسورة ومنه قوله تعالى وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً وهذا هو الأصل المطابق للرواية الموافق للدراية وكأنه تصحف على الدلجي حيث لم يذكر هذا الوجه الوجيه وقال يجوز أن يكون بهمزة قطع وجيم مكسورة وزاء من أجازه إذا أعطاه انتهى ولا يوجد في القاموس هذا المعنى ثم قال ويجوز أن يكون بوصل وجيم مضمومة وراء أي أعطه أجره فيه أنه لا يتعدى إلى مفعولين ويجوز في مضارعه الكسر والضم ويجوز قطع همزه ممدودا مع كسر جيمه يقال أجره يأجره ويأجره جزاء كآجره فيرجع إلى معنى الأول فتأمل ثم رأيت الحلبي قال في النسخة المذكورة بفتح الهمزة ثم جيم ساكنة ثم بالزاء المكسورة والصواب بوصل الهمزة انتهى وبه تبين خطأ الأنطاكي حيث قال هو بهمزة مفتوحة مقطوعة وقوله (مضاعفات الخير) أي أنواع الخير المضاعفة أضعافا كثيرة (من فضلك) إذ لا يجب عليك شيء من عندك (مهنّئات) بكسر النون المشددة وفي نسخة بفتحها وهو حال من مضاعفات من هنأني الطعام يهنأني إذا ساغ بلا تنغيص وكل ما أتاك بلا تعب كذا ذكره الدلجي وهو توهم أنه من الثلاثي المجرد وليس كذلك بل هو من باب التفعل (غير مكدّرات) بكسر الدال المشددة وفتحها صفة لمهنئات أي غير منغصات (من فوز ثوابك) بالزاء أي من أجل الظفر بأجرك (المحلول) أي الذي يحل فيه وفسر بالمنول وتصحف الفوز على الدلجي فقال من فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة أي من سريع فضلك الذي لا بطء فيه (وجزيل عطائك) أي كثيره (المعلول) مأخوذ من العلل بفتحتين وهو الشرب ثانيا بعد النهل بفتحتين وهو الشرب أولا وقد وهم الدلجي حيث قال في الأول بفتحات ثلاث وفي الثاني بثلاث فتحات والمعنى عطاؤك المضاعف تعل به عبادك مرة بعد مرة أخرى فشبه وافر عطائه بمنهل عذب يرده العطاش ومنه قول كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه. [كأنه منهل بالراح معلول] (اللهمّ أعل) بفتح الهمزة وكسر اللام أمر من الاعلاء وفي نسخة عل بفتح العين وتشديد المكسورة أمر من التعلية أي ارفع (على بناء النّاس) وفي رواية على بناء البانين جمع بان اسم فاعل من بنى يبني بناء بالكسر (بناءه) والمعنى ارفع على عمل العاملين عمله أو على منازلهم في الجنة منزله أو اعل بناء دينه على بناء أديان سائر الناس فيكون إيماء إلى قوله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعليه ويغلبه وفي نسخة بالمثلثة المفتوحة في الموضعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 بدل الموحدة المكسورة وقال الدلجي أو أطل على ذواتهم ذاته حتى لا يطوله أحد بشهادة قول سليمان عليه السلام من هدم بناء ربه تبارك وتعالى فهو ملعون يعني من قتل إنسانا ظلما من حيث إن أصل البناء ضم شيء إلى شيء وهو أجزاء خلقها الله تعالى مضموما بعضها إلى بعض مركبة فشبه بالبناء لذلك انتهى ولا يخفى أن هذا الدعاء إنما يناسب في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه كان لا يكتنفه طويلان إلا طالهما مع أنه كان ربعة أقرب إلى الطول في سائر أحواله المناسب إلى التوسط في اعتداله اللهم إلا أن يقال المراد بإطالة ذاته بقاء جسده الشريف بعد مماته على ما كان عليه مدة حياته فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام ويلائمه قوله (وأكرم مثواه لديك) أي منزله ومأواه عندك (ونزله) بضمتين ويسكن الزاء أي أجره وثوابه وجزاءه وهو في الأصل الطعام المهيأ للضيف (وأتمّ) بتشديد الميم المفتوحة وفي نسخة وأتمم (له نوره) أي الذي سألك أن تجعله في قلبه وبصره وسمعه وعن يمينه وعن شماله ليتحلى بأنوار المعارف ويتجلى بأسرار العوارف وفي الحديث تلميح إلى قوله تعالى رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا (واجره) بفتح الهمزة وسكون الجيم فراء أي جزاءه الذي يوجب سروره قال الحلبي الأجر معروف وهو منصوب معطوف على ما قبله من قوله نوره والمفهوم من قول الدلجي وأجزه الجزاء الأوفى أنه تصحف عليه الراء وأنه جعله أمرا معطوفا على أكرم أو أتم وكأنه تبع الحجازي في قوله ويروى واجزه بهمزة وصل من الجزاء (من ابتعاثك) مصدر من باب الانفعال من البعث أي من بعثك إياه وفي نسخة من الافتعال والجار متعلق بأكرم وهو أنسب أو بأتم وهو أقرب والمعنى لأجل اقامتك إياه من قبره (له مقبول الشّهادة) أي تزكية لأمته إذا شهدوا للأنبياء أنهم قد بلغوا أممهم الرسالة بعد ما جحدوا تبليغهم أي إياهم يوم القيامة ونصبه على الحال من ضمير له أو على المفعولية وكذا قوله (ومرضيّ المقالة) أي مقبول الشفاعة (ذا منطق عدل) مصدر سمي به فوضع موضع عادل مبالغة في جعل منطقه عدلا أي ذا منطق مستقيم وذا كلام قويم ووهم الدلجي حيث قال مبالغة في جعل نفسه عدلا فإنه لو أريد به هذا المعنى لنصب عدل في المبنى كما لا يخفى (وخطّة فصل) أي وذا خطة فصل والخطة بضم المعجمة وتشديد المهملة الأمر والحال والقصة والفصل والقطع أو الفرق أو بمعنى الفاصل أي ذا حالة رشد وهداية واستقامة والمعنى إذا ألم به خطب عظيم وأمر مشكل جسيم فصله برأي قويم وفي حديث الحديبية لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها (وبرهان عظيم) أي وذا دليل واضح وبيان قاطع عظيم في ميدان البيان بحيث يصير الشيء الغائب كالأمر العيان (وعنه) أي وعن علي كرم الله وجهه (أَيْضًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي في جملة الفاظها الواردة عنه كرم الله وجهه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) [الْأَحْزَابِ: 56] أي فنحن أولى بذلك (الآية) يعني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً يعني لا سيما وقد أمرنا بذلك تصريحا بعد ما أشير إليه تلويحا فيجب علينا أداء إجابته والقيام بحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 إطاعته بأن نقول (لبّيك) أي اقمنا مرة بعد أخرى بخدمتك ودمنا بحضرتك (اللهمّ) أي يا الله أمنا برحمتك وأقصدنا بمنتك ونعمتك (ربّي) أي يا ربي (وسعديك) أي نساعد عبادتك مساعدة بعد مساعدة في طاعتك (صلوات الله البرّ) بفتح الموحدة وتشديد الراء وهو أبلغ من البار ولذا لم يرد في أسمائه ومعناه كثير البر بعباده المؤمنين من أولي البر وفي الحديث تمسحوا بالأرض فإنها بكم برة أي عليكم مشفقة كالوالدة البرة بولدها البار يعني أن منها خلقكم وفيها معاشكم ومنها بعد الموت معادكم وقد قيل البر أبر بأهله وقال تعالى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً وأما البحر فإنه يغرق أهله ولا يفرق حزنه وسهله وقد ورد البحر من جهنم رواه الحاكم والبيهقي عن يعلى بن أمية (الرّحيم) أي كثير الرحمة بالمؤمنين وكبير العناية بالمحسنين (والملائكة المقرّبين) أي وصلواتهم (والنّبيّين) وهم أعم من المرسلين (والصّدّيقين) أي العلماء العاملين (والشّهداء والصّالحين) أي القائمين بحقوق الله تعالى وبحقوق الخلق أجمعين (وما سبّح لك من شيء) أي وصلوات جميع الأشياء فهذا تعميم بعد تخصيص كقوله سبحانه وتعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فما موصولة معطوفة على ما قبلها ومن بيانية لها وفي نسخة بدون العاطفة فما مصدرية ومن زائدة أي صلواتهم دائمة مستمرة مدة تسبيح شيء لك أي ما دام يسبحك شيء (يا ربّ العالمين) أي مربيهم ومدبر أمورهم (عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ) بكسر التاء وفتحها (وسيّد المرسلين) لكونهم تحت لوائه يوم الدين (وإمام المتّقين) أي من أرباب اليقين (ورسول ربّ العالمين) أي إلى كافة الخلق أجمعين (الشّاهد) أي للأنبياء (البشير) للأولياء (الدّاعي إليك بإذنك) أي بأمرك وتيسيرك (السّراج المنير) أي من أبصر بنوره ذو العماية واستبصر بظهوره ذو الغواية (وعليه السّلام) أي مما يغشى غيره من الملام وسوء المقام ومن دعائه عليه الصلاة والسلام إذا دخل رمضان اللهم سلمني من رمضان وسلمه لي وسلمني منه أي لا يغشاني فيه ما يحول بيني وبين صومه وسلمه لي أي حذرا من أن يغم علي الهلال أوله وآخره فيلتبس علي صوما وفطرا وسلمني منه أي بعصمتي فيه (وعن عبد الله بن مسعود) كما رواه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان (اللهمّ اجعل صلواتك) أي اجناسها (وبركاتك) أي أنواعها (ورحمتك) أي الخاصة (عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ محمد عبدك ورسولك إمام الخير) أي الكثير على الأمة (ورسول الرّحمة) أي على الكافة (اللهمّ ابعثه مقاما) نصبه على الظرفية أي مقاما عظيما وهو المقام المحمود الذي يحمده الأولون والآخرون بالشفاعة الكبرى والصغرى لقوله عليه الصلاة والسلام هو المقام الذي اشفع فيه لأمتي ولا يبعد أن يراد بأمته جماعته المحتاجة إلى شفاعته وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مقاما يحمدك فيه الأولون والآخرون وتشرف فيه على جميع الخلائق تسأل فتعطي وتشفع فتشفع ليس أحد إلا تحت لوائك وعن حذيفة يجمع الناس في صعيد واحد فلا تتكلم نفس فأول مدعو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيقول لبيك وسعديك والشر ليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وَإِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت فهذا معنى قوله تَعَالَى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (يغبطه) بكسر الموحدة أي يتمنى مثل مقامه (فيه الأوّلون والآخرون) وفي الحديث هل يضر الغبط قال لا إلا كما يضر العضاة الخبط أي يخبط ورقها دون قطعها والمقصود أن الغابط كالخابط ينتفع بالمغبوط والمخبوط من غير أن يحصل هناك ضرر لأحد منهما (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) أي من الأنبياء من ذريته (إنّك حميد مجيد) وقد سبق تحقيق مبناه وتدقيق معناه (وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يشرب بالكأس الأوفى) أي بالحظ الأعلى (من حوض المصطفى) أي من بحر شرعه المرتضى في الدنيا ومن نهر كوثره في العقبى (فليقل) أي دائما أو كثيرا بالقلب الأصفى (اللهمّ صلّ على محمد وعلى آله) أي من يؤول إليه أمره ويعظم لديه قدره وهو يحتمل التعميم والتخصيص ويروى وعلى آل محمد (وأصحابه) أي من أدرك جمال صحبته وتشرف برؤية طلعته (وأولاده) أي الشاملة لبناته وأحفاده (وأزواجه) أي زوجاته وسرياته (وذرّيّته) ولو كان بواسطة كثيرة في نسبته (وأهل بيته) أي المتناول لمواليه وخدمه (وأصهاره) أي من بينه وبينه مصاهرة كالشيخين والختنين (وأنصاره) أي من المهاجرين والأنصار (وأشياعه) أي أتباعه من أهل القرى والأمصار (ومحبّيه) أي من العلماء الأخيار والصلحاء الأبرار (وأمّته) أي الداخل فيهم المؤمنون الفجار (وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ أَجْمَعِينَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَعَنْ طاوس عن ابن عبّاس) في رواية عبد بن حميد وعبد الرزاق بسند جيد وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ تقبّل شفاعة محمد الكبرى) أي العظمى وهي التي يفصل القضاء بين أهل الموقف بما يستحقون من الجزاء (وارفع درجته العليا) أي مرتبته العالية ومنزلته الغالية (وآته سؤله) أي أعطه مسؤوله (في الآخرة والأولى) أي الدنيا وسميت أولى لتقدمها على الأخرى (كما آتيت إبراهيم وموسى وعن وهيب) بالتصغير وفي نسخة وهب (بن الورد) وهو عبد الوهاب المكي الزاهد يروي عن حميد بن قيس وجماعة وعنه عبد الرزاق وطائفة ثقة حجة (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ أَعْطِ محمدا أفضل ما سألك لنفسه) أي من الخيرات (وَأَعْطِ مُحَمَّدًا أَفْضَلَ مَا سَأَلَكَ لَهُ أَحَدٌ من خلقك) أي من المقامات (وأعط محمدا أفضل ما أنت مسؤول له إلى يوم القيامة) أي من الكرامات (وعن ابن مسعود رضي الله عنه) أي في رواية ابن ماجه والبيهقي والديلمي والدارقطني وتمام في فوائده (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأحسنوا الصّلاة عليه) أي في المبنى والمعنى (فإنّكم لا تدرون) أي ما يترتب عليه هنالك (لعلّ ذلك) أي إذا قبل (يعرض عليه) أي يبلغ إليه (وقولوا) أي مثلا (اللهمّ اجعل صلواتك) أي أنواع دعواتك العامة (ورحمتك وبركاتك) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الخاصة (عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ محمد عبدك ورسولك إمام الخير) أي لنفسه (وقائد الخير) أي لغيره (ورسول الرّحمة) أي جميع الأمة فإنه كاشف الغمة (اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ محمد كما باركت على إبراهيم) زيد في نسخة في العالمين (إنك حميد مجيد) وقد سبق أن هذه الجملة الأخيرة من أصح أنواع الصلوات مما ورد فيه الروايات (وما يؤثر) أي ما يروى (من تطويل الصّلاة) وفي نسخة في تطويل الصلاة (وتكثير الثّناء عن أهل البيت) قال الحجازي ويروى عن أهل البيت وهو الملائم لقوله (وغيرهم) أي من أصحابه وأزواجه واتباعه وأشياعه (كثير) أي يطول ذكره ويحتاج إلى مؤلف مستقل حصره (وقوله) أي وقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه موقوفا أو مرفوعا (والسلام كما قد علّمتم) أي بالوجهين والمتقدمين (هو ما علّمهم فِي التَّشَهُّدِ مِنْ قَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وفي تشهّد عليّ رضي الله تعالى عنه) هذا غير معروف سنده (السَّلَامُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى أَنْبِيَاءِ الله ورسله) تعميم بعد تخصيص (السلام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْنَا وعلى المؤمنين والمؤمنات من غاب منهم) أي بالموت وغيره (ومن شهد) أي حضر عنده (اللهمّ اغفر لمحمد) وسيأتي الكلام على غفرانه عليه الصلاة والسلام (وتقبّل شفاعته واغفر لأهل بيته) أي من أزواجه وذريته (واغفر لي ولوالديّ وما ولدا وارحمهما) سيأتي تحقيقه (السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ السَّلَامُ عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته) وفيه إشكال حيث دعا بالمغفرة لوالديه وما ولدا والرحمة لهما مع ثبوت موت أبيه وبعض إخوته كافرين قال الدلجي ولعل الناسخ زاد الألف سهوا وإنما الدعاء بهما لولديه الحسنين ومن ولداه انتهى والأظهر أنه قال ذلك لتعليم غيره لا للدعاء لنفسه وفيه اشكال آخر وهو ما بينه المصنف بقوله (جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ: الدُّعَاءُ للنبيّ بالغفران وفي حديث الصلاة) بالإضافة أي الذي أسنده (أيضا) ويروى في حديث الصلاة عليه والضمير له عليه الصلاة والسلام ويروى عنه أي عن علي قبل ذلك وهو المذكور في أوائل هذا الفصل (قبل) أي من طريق الحافظ أبي عبد الله الحاكم فقبل مبني على الضم وقوله (الدّعاء له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام (بالرّحمة) خبر أي الدعاء له بالرحمة في حديث الصلاة على النبي المروي عن علي (وَلَمْ يَأْتِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ المعروفة) فهل يجوز الدعاء له بهما أولا والظاهر أنه يجوز أما الرحمة فظاهر فإنها أحد معاني الصلاة وقد قال تعالى رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مرادا به إبراهيم عليه السلام وآله وأما المغفرة فحيث وقع له عليه الصلاة والسلام طلب المغفرة لنفسه سبعين مرة وفي رواية مائة مرة امتثالا لقوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ جاز لغيره غايته أن ذنبه المترتب عليه الغفران مأول بالغفلة عن المولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وارتكاب خلاف الأولى أو الاشتغال بالأمور المباحة أو رؤية التقصير في مقام الطاعة وأمثال ذلك مما يليق بشأنه وعلو مكانه فحسنات الأبرار سيئات المقربين مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه فهو من باب التأكيد في القضية أو من قبيل التلذذ بذكر العطية نحو الدعاء بقوله رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا فمعنى اغفر له وارحمه أي أدم له المغفرة الشاملة والرحمة الكاملة (وَقَدْ ذَهَبَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ) وهو من أكابر علماء المالكية (وغيره إلى أنه لا تدعى للنبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحْمَةِ وَإِنَّمَا يُدْعَى لَهُ بِالصَّلَاةِ والبركة الّتي تختصّ به) وفي كون البركة تختص به نظر ظاهر (ويدعى لغيره بالرّحمة والمغفرة) ويروى بالغفران نعم هذا هو الأولى ولكن لأجل النهي يحتاج إلى دليل مثبت للدعوى وقد أغرب الدلجي حيث قال لافتقارهم إليهما دونه وجه غرابته أن كل أحد محتاج إلى غفران الله تعالى ورحمته وكم ورد من دعاء له عليه الصلاة والسلام بقوله اللهم اغفر لي وارحمني وإنما الكلام في دعاء وغيره له بهما لأنه كان في مقام التواضع والأدب كما يقتضي استغناء الرب ثم رأيت في شمائل الترمذي أن واحدا من الصحابة قال له عليه الصلاة والسلام غفر الله لك فقال ولك هذا تقرير منه عليه الصلاة والسلام على جواز مثل هذا الكلام (وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ) أي المالكي في رسالته زيادة الترحم (في الصّلاة على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بقوله (اللَّهُمَّ ارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ كَمَا تَرَحَّمْتَ) بتشديد الحاء وفي نسخة تراحمت (عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَأْتِ هَذَا) أي الدعاء له عليه الصلاة والسلام بالمغفرة والرحمة ويروى ولم تأت هذه الرواية (في حديث صحيح) قال الدلجي إذ ما ورد بزيادتهما كله ضعيف وفيه أنه يعمل بالضعيف في فضائل الأعمال وإنما يحتاج إلى الحديث الصحيح أو الحسن في الأحكام من الأقوال وأما قول النووي في شرح مسلم المختار أن الرحمة لا تذكر فيسلم لأنه خلاف الأولى وأما ما جزم به في الأذكار بأن ذكرها بدعة ففيه بحث لأنه قد ورد في بعض الطرق ولو كان ضعيفا فلا يعد بدعة لا سيما وهي لا تنافي سنة وعلى تقدير التسليم فليكن بدعة حسنة ويقويه ما ذكره المصنف بقوله (وحجّته) أي دليل ابن أبي زيد الذي أخذ به استحباب طلب الرحمة (قوله) أي قول النبي عليه الصلاة والسلام حال تعليم أمته (فِي السَّلَامِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وبركاته) ومما يؤيده قوله تعالى رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ وينصره أن رحمته عامة للخواص والعوام ولا يستغني أحد عن هذا الإنعام العام، ثم اعلم ان الرافعي ذكر في الشرح الكبير عن الصيدلاني أنه قال ومن الناس من يزيد وارحم محمدا كما رحمت على إبراهيم وربما يقولون ترحمت وهذا لم يرد في الخبر وأنه غير فصيح فإنه لا يقال رحمت عليه وإنما يقال رحمته وأما الترحم ففيه معنى التكلف فلا يحسن إطلاقه في حق الله سبحانه وتعالى انتهى ولا يخفى أن نفي الصيدلاني ورود الخبر بلفظ ارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ كَمَا تَرَحَّمْتَ عَلَى إبراهيم غلط نشأ من جهله بطريق الحديث فمن حفظ حجة على من لم يحفظ فهذه الرواية في مستدرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 الحاكم من رواية ابن مسعود بإسناد صححه وقال في موضع آخر بل قد ورد به خبر صحيح قال الحلبي وقد راجعت تلخيص المستدرك للذهبي فرأيت ما لفظه بعد انهاء مسنده إلى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم إذا شهد أحدكم في الصلاة فليقل اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وبارك على محمد وعلى آل محمد وارحم محمدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيد انتهى وقد جاء في جملة حديث وارحم محمدا وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيد وكذا جاء في رواية علي وابن عباس وجابر وجاء أيضا في حديث مسلسل وترحم محمدا إلى آخره وقد ذكر القاضي مثل هذا فيما تقدم ومما يؤيد جواز الرحمة ما في النسائي الصغير بإسناده عن عكرمة قال ظاهر رجل امرأته وأصابها قبل أن يكفر فذكر ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام ما حملك على ذلك فقال رحمك الله يا رسول الله رأيت خلخالها وساقها الحديث وقد جاء مرسلا ومسندا ففي تقريره عليه الصلاة والسلام دليل على جوازه ورد على من عده بدعة أو حكم عليه بالكراهة وأما قوله إن الترحم فيه معنى التكلف فممنوع بل يراد به المبالغة في إنزال الرحمة فاندفع به قول الغزالي أنه لا يجوز ترحم بالتاء وقول الرافعي إنه لا يحسن ولعلهما ما بلغهما الرواية فبنيا الحكم على ظاهر الرواية والعجب من النووي أنه قال وأما ما قاله بعض أصحابنا وابن أبي زيد المالكي من استحباب زيادة وارحم محمدا وآل محمد فهذه بدعة لا أصل لها وكأنه غفل عما ورد وذهل عن قول الشافعي في الرسالة وكان خيرته المصطفى لوحيه المنتخب لرسالته المفضل على جميع خلقه بفتح رحمته وختم نبوته إلى أن قال محمد عبده ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ورحم وكرم انتهى فقد قال رحم في حقه فهذا رد على مقلده هذا وقد قال شمس الأئمة السرخسي وأصحابنا الحنفية لا بأس بقول وارحم محمدا لأن الأثر ورد به ولا عتب على من اتبع الأثر ولأن أحدا لا يستغني عن رحمة الله تعالى. فصل (في فضيلة الصلاة على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم والتسليم عليه والدّعاء له) أي وفي فضيلتهما (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّيْخُ الصَّالِحُ مِنْ كتابه ثنا) أي حدثنا (القاضي يونس ابن مغيث) بضم فكسر (حدّثنا أبو بكر بن معاوية) أي ابن الأحمر الأندلسي وقد روى النسائي الكبير بعضه سماعا وبعضه اجازة (حدّثنا النّسائي) أي صاحب الجامع (أنا) بالموحدة أو النون أي أخبرنا أو أنبأنا (سويد) بالتصغير (ابن نصر) بالمهملة وهو المروزي يروي عن ابن المبارك وابن عيينة وعنه الترمذي والنسائي ثقة (أنا) أي أخبرنا أو أنبأنا (عبد الله) بن المبارك بن واضح الخطلي التميمي مولاهم المروزي أبو عبد الرحمن شيخ خراسان يروي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 عن سليمان التميمي وعاصم الأحوال والربيع بن أنس وعنه ابن مهدي وابن معين وأبوه تركي مولى تاجر وأمه خوارزمية وقبره بهيت «1» يزار ويتبرك به أخرج له الأئمة الستة (عن حيوة) بفتح فسكون (ابن شريح) بالتصغير (قال أخبرني كعب بن علقمة) أي التنوخي المصري تابعي يروي عن سعيد بن المسيب وطائفة وعنه الليث وجماعة ذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (أنه سمع عبد الرحمن بن جبير) بالتصغير مولى نافع قرشي مصري مؤذن ثفة فقيه مقرىء توفي سنة سبع وتسعين أخرج له مسلم وغيره (أنه سمع عبد الله بن عمرو) بالواو وفي نسخة بدونه والحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي أيضا عنه (يقول سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إذا سمعتم المؤذّن) أي أذانه (فقولوا مثل ما يقول) أي جوابا له واختلف في الحيعلتين والأصح أنه يقول فيهما لا حول ولا قوة إلا بالله وقيل يجمع بينهما (وصلّوا عليّ) أي بعد إجابة المؤذن (فإنّه) أي الشأن (من صلّى عليّ مرّة) أي واحدة كما في نسخة (صلى الله عليه عشرا) أي لوعده سبحانه وتعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وهذا أقل مراتب أضعاف أعمالها وهو لا ينافي ما ورد في مسند أحمد بسند حسن موقوفا على عبد الله بن عمرو وهو مرفوع إذ لا مجال للاجتهاد فيه من صلى على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرة صلى الله تعالى عليه بها سبعين مرة نعم لا يبعد أن هذه المضاعفة تكون بخصوص يوم الجمعة إذ قد ورد أن الأعمال كلها تضاعف فيه بسبعين ضعفا وهو يؤيد ما ورد أنه إذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة كان حجه بسبعين حجة (ثمّ سلوا) أي الله تعالى كما في نسخة (لي الوسيلة) وهي المرتبة الجليلة (فإنّها منزلة) أي درجة جميلة (في الجنّة لا تنبغي) أي لا تليق أو لا تحصل (إلّا لعبد) أي عظيم (من عباد الله) أي الصالحين (وأرجو أن أكون أنا هو) أي ذلك العبد فقوله هو خبر كان ووضع موضع إياه وأنا تأكيد لاسمها أو مبتدأ خبره هو والجملة خبرها ويجوز أن يكون موضع اسم إشارة أي أن أكون أنا ذلك العبد كما أشرنا إليه (فمن سأل لي الوسيلة) أي وهي نهاية مراتب الفضيلة (حلّت عليه الشّفاعة) ويروى شفاعتي أي غشيته ونزلت به وفي نسخة حلت له الشفاعة أي ثبتت وفي رواية وجبت له شفاعتي أي حقت (وروى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه) كما في شعب الإيمان (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً) أي واحدة (صلى الله عليه عشر صلوات) أي قياما بشكر عبده (وحطّ) أي وضع (عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ وفي رواية) أي لأبي يعلى (وكتب له عشر حسنات) أي ثوابها (وعن أنس رضي الله تعالى عنه) كما رواه ابن أبي شيبة في مسنده (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنّ جبريل ناداني) أي خاطبني (فقال من صلّى عليك صلاة   (1) بوزن فيل اسم بلدة بالعراق لمصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 صلى الله عليه عشرا) أي عشر مرات (وَرَفَعَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ وَمِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف) كما رواها الحاكم وصححها والبيهقي في شعبه (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ لِي إِنِّي أبشّرك) أي أخبرك بما يسرك (إنّ الله تعالى) بكسر إن وفتحها (يقول من سلّم عليك سلّمت عليه) أي عشرا أو أكثر (ومن صلّى عليك صلّيت عليه) وفي الحديث إيماء إلى جواز انفراد كل منهما عن الآخر فتدبر (ونحوه) أي نحو مروي ابن عوف (مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَالِكِ بْنِ أَوْسِ) بفتح فسكون (ابن الحدثان) بفتحهما أدرك زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورأى أبا بكر وسمع عمر وعثمان وبقية العشرة رضي الله تعالى عنهم وعنه الزهري وابن المنكدر وقال أنس بن عياض عن سلمة بن وردان عنه أنه سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول من ترك الكذب بني له في ربض الجنة وأحمد بن صالح صحح هذا الحديث والأصح عند الذهبي أنه عنده تابعي وحديثه مرسل (وعبيد الله بن أبي طلحة) أي زيد بن سهل الأنصاري وفي بعض النسخ عبيد الله مصغرا والصواب الأول ولد في حياته عليه الصلاة والسلام وهو أخو أنس لأمه حنكه عليه السلام وسماه وتوفي زمن الوليد فهو تابعي له رواية روى عن أبيه ثقة أخرج له مسلم والنسائي ولد له عشرة بنين كلهم قرؤوا القرآن (وعن زيد بن الحباب) بضم المهملة وبالموحدتين (سمعت النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ على محمد وأنزله المنزل) وفي رواية المقعد (الْمُقَرَّبَ عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي) وهذا الحديث سقط منه رجال فإن زيد بن الحباب ليس من الصحابة ولا من التابعين ولا من أتباعهم وإنما روى عن مالك بن أنس والضحاك بن عثمان ومالك بن مغول وعبد الله بن لهيعة وعنه أحمد بن حنبل نعم هذا الحديث محفوظ من رواية رويفع بن ثابت الأنصاري مرفوعا وقد رواه زيد بن الحباب هذا عن ابن لهيعة بفتح اللام وكسر الهاء عن بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم عن وفاء بن شريح الحضرمي قيل ولعل المصنف أورده في أصله عن زيد بن الحباب عن رويفع بن ثابت على وجهة الإرسال وسقط ذكره رويفع من بعض نسخ الكتاب والله تعالى أعلم بالصواب (وعن ابن مسعود) أي مرفوعا (أولى النّاس بي) أي أقرب الناس مني وأحقهم بشفاعتي (يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة) رواه الترمذي وابن حبان (وعن أبي هريرة عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ) أي بأن كتب فيه الصلاة (لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ مَا بَقِيَ اسمي) يروى ما دام اسمي (في ذلك الكتاب) رواه الطبراني في الأوسط وأبو الشيخ في الثواب بسند ضعيف لكنه يعتبر في هذا الباب وربما يقال يكتب له الثواب ما نقل أيضا من ذلك الكتاب والله أعلم بالصواب (وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً) أي واحدة أو أكثر (صلّت عليه الملائكة ما صلّى عليّ) أي مدة صلاته علي (فليقلل) أمر من التقليل أو من الإقلال (من ذلك) أي من قول الصلاة أي عبد كما في نسخة (أو ليكثر) امر من التكثير أو الإكثار والمراد به الاخبار واختيار ما هو المختار رواه أحمد وابن ماجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 والطبراني في الأوسط بسند حسن (وعن أبيّ بن كعب) على ما رواه الترمذي وحسنه (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا ذهب ربع اللّيل) بضمهما ويسكن الثاني وفي رواية المصابيح إذا ذهب ثلثا الليل (قام) أي من نومه أو فراشه (فقال: يا أيّها النّاس) كأنه ينادي أهل بيته أو خواص أمته (اذكروا الله) أي في حال الانتباه واتركوا ما عداه (جاءت الرّاجفة) أي النفخة الأولى التي ترجف الأرض بأهلها والمعنى قرب مجيئها ويموت كل أحد عندها (تتبعها الرّادفة) أي تعقبها النفخة الثانية ويبعث الخلق كلهم بعدها وثبت أن ما بين النفختين أربعون سنة يقول الله سبحانه وتعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ويجيب بذاته عز شأنه لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أو يقول الخلق بلسان الحال في جواب ذلك السؤال لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ واليوم كذلك في نظر أرباب الأسرار وأصحاب الأنوار لا ملك إلا لله الواحد القهار رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار وقيل الرجفة القيامة والرادفة البعث (جاء الموت بما فيه) أي من سكراته ومنكراته أو بما فيما بعده ولا منع من الجمع من البعث والحساب والميزان والكتاب وما يترتب عليها من الثواب والعقاب ويحتاج كل أحد إلى شفاعته عليه الصلاة والسلام في ذلك الباب (فقال) الظاهر وقال إذ لا يظهر وجه الرابطة بالفاء (أبيّ بن كعب) وهو أقرأ الصحابة (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ) أي لكثرة محبتي إياك رجاء حصول الشفاعة لي لديك ويروى أني اكثر من الصَّلَاةَ عَلَيْكَ (فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي) أي من زمان دعائي لنفسي أو من أوقات عبادتي النافلة (قال ما شئت) أي قدر ما أردت من تقربك بي (قال) أي أبي (الرّبع) بالنصب أي اجعل لك من صلاتي ربع أوقاتي (قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (ما شئت) أي اخترت قليلا أو كثيرا (وإن زدت) أي على الربع (فهو خير) أي لك كما في نسخة صحيحة (قال الثّلث) بضمتين ويسكن الثاني وهو بالنصب كما مر (قَالَ مَا شِئْتَ وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ) قال الحجازي وذكر بعد الربع النصف إلى آخره وفي غالب نسخ الشفاء ذكر الربع ثم الثلث ثم النصف إلى آخره وهذا الحديث في الترمذي لم يذكر فيه الثلث (قَالَ النِّصْفَ قَالَ مَا شِئْتَ وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ قَالَ الثُّلُثَيْنِ قَالَ: مَا شِئْتَ وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ قَالَ: يَا رَسُولَ الله فاجعل صلاتي) أي أوقات دعائي (كلّها لك) أي لذكرك وما يتعلق به من الصلاة عليك (قال إذا) بالتنوين أي حينئذ (تكفى) بصيغة المفعول المخاطب وفي رواية همك أي ما يهمك من أمر دينك ودنياك وهو بالنصب على أنه مفعول ثان لتكفي وفي نسخة يكفى بصيغة المجهول الغائب وهمك بالرفع على نيابة الفاعل ويلائمه قوله (ويغفر ذنبك) بصيغة المجهول منصوبا وذنبك مرفوعا والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام لم ير أن يعين له حدا مقدرا من الليالي والأيام لئلا يغلق عليه باب المزيد في مقام المرام أو لأنه به يحصل كفاية المهمات الدينية والدنيوية والأخروية على وجه النظام ونظيره قوله عليه السلام عن الله من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وكان الحديث السابق مستندا للطائفة السنية الأويسية حيث يداومون على الصلوات المصطفوية (عن أبي طلحة) وهو زيد بن سهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وحديثه هذا رواه النسائي وابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح أنه قال (دخلت على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فرأيت من بشره) بكسر الموحدة أي بشاشة بشرته (وطلاقته) أي بساطته ولطافته (ما لم أره قطّ) أي أبدا قبل ذلك (فسألته) أي عن سبب ما هنالك (فقال وما يمنعني) أي عن هذا السرور (وقد خرج جبريل عليه السلام) أي ظهر (آنفا) بالمدة والقصر وقد قرىء بهما في السبعة أي هذه الساعة فكأنها قدام الأنف من كمال قربها (فأتاني ببشارة من ربّي أن) بفتح الهمزة أي هي أن أو بأن (الله بعثني إليك أبشّرك أنّه) بالكسر والفتح (ليس أحد من أمّتك) أي أمة الإجابة (يصلّي عليك إلّا صلى الله عليه وملائكته بها) أي بدلها أو بسببها (عشرا) فهذا الذي يوجب بشرا ويفيد بشرى ويقتضي نشرا (وعن جابر بن عبد الله) على ما رواه البخاري (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ) أي الآذان أو الإقامة أو الاعلام بأحدهما (اللهمّ ربّ هذه الدّعوة) أي الدعاء إلى العبادة (التّامّة) أي الكاملة الشاملة (والصّلاة القائمة) أي الدائمة الفاضلة لا يغيرها ملة ولا ينسخها شريعة (آت محمدا الوسيلة) أي الذريعة المنيعة وفي نسخة والدرجة الرفيعة وفي نسخة بزيادة الفضيلة وقد ورد أن الوسيلة منزلة في الجنة فالفضيلة أعم من الوسيلة (وابعثه مقاما محمودا) وفي نسخة المقام المحمود وقد ورد هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي أي خصوصا بعد أن أشفع للخلق عموما (الّذي وعدته) أي له في الآخرة الذي بدل من مقاما محمودا وقوله وعدته أي في القرآن قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (حلّت له شفاعة) أي الخاصة (يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) كما رواه مسلم (من قال) يروى أنه قال من قال (حين يسمع المؤذّن) أي صوته (يتشهد وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له) مقول (وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وبمحمّد رسولا وبالإسلام دينا) نصبه وما قبله من الاسمين على التمييز (غفر له) أي ذنبه (وروى ابن وهب) أي بسند منقطع (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيَّ عَشْرًا فكأنّما أعتق رقبة) أي في الأجر والمثوبة (وفي بعض الآثار ليردنّ) من الورود بمعنى ليأتين (عليّ أقوام ما أعرفهم) يروى لا أعرفهم (إلّا بكثرة صلاتهم عليّ) رواه الأصبهاني في ترغيبه عن أنس (وفي آخر) أي وفي أثر آخر (إن) بكسر الهمزة وفتحها (أنجاكم) أي اسبقكم نجاة (يوم القيامة من أهوالها ومواطنها) أي مواقفها (أكثركم عليّ صلاة وعن أبي بكر) أي الصّدّيق كما في نسخة (الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمحق للذّنوب) أي أطفأ (مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ لِلنَّارِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ من عتق الرّقاب) رواه الأصبهاني في ترغيبه بلفظ الصلاة عليه أفضل من عتق الرقاب وحبه عليه الصلاة والسلام أفضل من مهج الأنفس أو من ضرب السيف في سبيل الله وفي الجامع الصغير الصلاة علي نور على الصراط فمن صلى علي يوم الجمعة ثمانين مرة غفرت له ذنوب ثمانين عاما على ما رواه الطبراني والدارقطني في الأفراد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 فصل (فِي ذَمِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم وإثمه) أي وإثم من لم يصل عليه وفي معناه من لم يسلم عليه لأنه في الآية الشريفة وجوبهما في الجملة إلا أنه ليس فيهما ما يدل على لزوم الإتيان بهما على وجه المعية (حدّثنا القاضي الشهيد أبو عليّ) أي ابن سكرة (رحمه الله ثنا) أي حدثنا (أبو الفضل بن خيرون) بالمنع والصرف وهو البغدادي (وأبو الحسين الصّيرفيّ) وفي نسخة أبو الحسن والصواب بالتصغير (قالا) أي كلاهما (حدّثنا أبو يعلى) أي ابن زوج الحرة (حدّثنا السّنجيّ) بكسر السين (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى) أي الإمام الترمذي صاحب الجامع (حدّثنا أحمد بن إبراهيم الدّورقيّ) أي البغدادي والدورقي نسبة إلى نوع من القلانس ووهم من اعترض على المزي بأنه منسوب لبلد فقد صرح أبو أحمد الحاكم في الكنى في ترجمة يعقوب بما قاله المزي وله تصانيف قال أبو حاتم صدوق أخرج له مسلم وغيره (حدّثنا ربعيّ) بكسر الراء وسكون الموحدة (ابن إبراهيم) أي ابن مقسم الأسدي روى عنه أحمد والزعفراني (عن عبد الرّحمن بن إسحاق) أي ابن عبد الله بن الحارث بن كنانة القرشي العامري مولاهم المدني ويروي عن المقبري والزهري وعنه يزيد بن زريع وابن علية قال أبو داود قدري ثقة وضعفه بعضهم وقال البخاري ليس ممن يعتمد على حفظه (عن سعيد بن أبي سعيد) أي المقبري (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) وكذا رواه مسلم عَنْهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم رغم) بكسر الغين وفتحها (أنف رجل) أي ذل ولصق بالتراب (ذكرت عنده) بصيغة المفعول (فلم يصلّ عليّ) أي إعراضا أو تهاونا لا كسلا أو نسيانا (ورغم أنف رجل دخل رمضان) أي عليه (ثمّ انسلخ) أي خرج عنه (قبل أن يغفر له) أي بأن لم يفعل فيه ما يستحق به غفران ذنوبه (ورغم أنف رجل أدرك) أي بلغ عنده (أبواه الكبر) بالنصب على المفعول من أدرك والفاعل أبواه وإنما خص حال الكبر لأنه أحوج حال الإنسان إلى الخدمة والإحسان (فلم يدخلاه الجنّة) بضم الياء وكسر الخاء أي بأن لم يبرهما حتى يكونا سببا لدخوله الجنة والمعنى أن برهما عند كبرهما وضعفهما بالخدمة والنفقة سبب لدخول الجنة (قال عبد الرّحمن) أي راوي أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (وأظنّه) أي أبا هريرة (قال أو أحدهما) أي بطريق الشك أو على سبيل التنويع ويؤيده قوله تعالى إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما وأبعد الدلجي في جعل ضمير أظنه راجعا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (وفي حديث آخر) كما رواه الطبراني عن ابن عباس وأنس وعبد الله بن الحارث بن جزء وكعب بن عجرة ومالك بن الحويرث ورواه البزار عن جابر بن سمرة وأبي هريرة وعمار بن ياسر (أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صعد المنبر) بكسر العين أي طلع عليه (فقال) أي عقب صعوده (آمين) بالمد ويجوز قصره قيل معناه اللهم استجب وفي الحديث آمين خاتم رب العالمين (ثمّ صعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 درجة فقال آمين ثمّ صعد درجة فقال آمين فسأله معاذ عن ذلك) أي عن قوله آمين وسبب تكراره هنالك (فَقَالَ إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ من سمّيت) بضم السين وتشديد الميم المكسورة على لفظ الخطاب أي ذكرت (بين يديه) أي عنده والمعنى من ذكر اسمك له وهو حاضر يسمعه (فلم يصلّ عليك) أي عقيب ذكر اسمك (فمات) أي تاركا لصلاته عليك غير تائب مما وقع له من التقصير بالنسبة إليك (فدخل النّار) أي بسبب ترك صلاته لاستهانة أو عدم مبالاة أو لغيره من خطيئاته مع حرمان شفاعته في شدة حالته (فأبعده الله تعالى) أي عن ساحة رحمته وميدان مغفرته والجملة خبرية مبنى وانشائية معنى ولذا قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام (قل آمين فقلت آمين) وهذا في الدرجة الأولى من المنبر وإنما قدم هذه الحالة على البقية لأنها كالمقدمة في القضية (وقال) أي جبرائيل في الدرجة الثانية (فيمن أدرك رمضان فلم يقبل منه) أي صيامه وقيامه (فمات مثل ذلك) بالرفع ويجوز نصبه بل هو الأظهر فتدبر أي فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ قُلْ آمِينَ فَقُلْتُ آمين وهذا في حق من حقوق الله سبحانه (ومن أدرك) وفي نسخة وقال أي جبرائيل من أدرك (أبويه أو أحدهما فلم يبرّهما) بفتح الباء والباء والراء المشددة أي لم يقم بواجبهما (فمات مثل ذلك) وفي نسخة مثله وهذا مما يتعلق بحقوق العباد (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه) كما رواه الترمذي وصححه والبيهقي في شعب الإيمان والنسائي من حديث ابنه الحسين عن أبيه (عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال البخيل) أي كل البخيل كما في رواية (الذي) أي هو الذي (ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ) أي حيث بخل علي بزيادة الفضيلة وعلى نفسه بزيادة المثوبة الجزيلة (وعن جعفر بن محمّد) كما رواه البيهقي في شعب الإيمان عنه (عن أبيه) أي مرسلا فإن جعفرا هذا هو الصادق وأبوه هو الباقر وهو تابعي فالحديث مرسل ورواه الطبراني في الكبير عن محمد جد الحسين موصولا (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عليّ أخطىء به طريق الجنّة) بضم الهمزة وكسر الطاء وجوز الدلجي كونه مبنيا للفاعل أيضا وكأنه قصد به النسبة المجازية (وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْبَخِيلَ كُلَّ الْبَخِيلِ) أي كامل البخل حيث بخل بما لم ينقص من ماله ويزيد من جماله وكماله في حاله ومآله (من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ) وقد تقدم هذا الحديث والظاهر أن هذا من زيادة الكتاب والله أعلم بالصواب وفي الجامع الصغير بلفظ الْبَخِيلِ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن الحسين مرفوعا (وعن أبي هريرة) كما رواه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عنه (قال أبو القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم أيّما قوم جلسوا مجلسا) أي مكان جلوس أو جلوسا وفي نسخة صحيحة مجلسهم (ثمّ تفرّقوا) أي قاموا عنه ويروى ثم تفرقوا عنه (قبل أن يذكروا الله ويصلّوا) أي وقبل أن يصلوا (على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كانت) أي وقعت (عليهم من الله ترة) بمثناة فوقية مكسورة وراء مخففة مفتوحة أي منقصة أو تبعة وهاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 ترة عوض عن واوه المتروكة كعدة ومقة ومنه قوله تعالى وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ وروي ترة بالنصب أي كانت الجلسة أو التفرقة عليهم مضرة (إن شاء) أي الله (عذّبهم) أي بتركهم كفارة المجلس لما صدر عنهم ويكون عدلا (وإن شاء غفر لهم) أي مع تقصيرهم ويكون فضلا (وعن أبي هريرة) على ما رواه البيهقي في الشعب عنه مرفوعا (من نسي الصّلاة عليّ) أي تركها ترك المنسي (نسي طريق الجنّة) أي تركها وأخطأها وضبطه الدلجي بضم أوله وتشديد ثانيه وتبعه الأنطاكي (وعن قتادة) أي من رواية عبد الرزاق عن معمر عنه (عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الجفاء) بفتح الجيم والمد ضد الوفاء وقد يراد به الأذى (أن أذكر عند الرّجل) لم يرد به رجلا معينا فهو كالنكرة في المعنى وإن كان معرفة في المبنى ونظيره قوله تعالى فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ (فلا يصليّ عليّ) لغلظ طبعه وعدم مراعاة شرعه (وعن جابر) كما رواه البيهقي (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا ثُمَّ تفرّقوا) أي منه (على غير صلاة) حال وفي نسخة من غير صلاة صفة مصدر محذوف أي تفرقا صادرا عن غير صلاة (على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في حال من الأحوال (إلّا تفرّقوا على أنتن) أي إلا حال كونهم متفرقين عن حال انتن ويروى على انتن (من ريح الجيف) بما صدر عنهم من رديء الكلام ومذمومه في مقام المرام (وعن أبي سعيد) كما رواه البيهقي في الشعب وسعيد ابن منصور (عن النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَجْلِسُ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَا يُصَلُّونَ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي أو لا يذكرون الله تعالى فيه كما في رواية (إلّا كان) أي ذلك المجلس (عليهم حسرة) أي يوم القيامة كما في رواية ولأن الجنة لا حسرة فيها فلا بد من هذا القيد ليستقيم قوله (وإن دخلوا الجنّة) والمراد بالحسرة الندامة اللازمة لمقامهم من سوء آثار كلامهم فقول الدلجي بعد قوله وإن دخلوا الجنة فيزدادوا حسرة ليس في محله (لما يرون) أي فيها (من الثّواب) أي الأجر العظيم بالصلاة على النبي الكريم (وحكى أبو عيسى التّرمذيّ) أي صاحب السنن (عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: إِذَا صَلَّى الرّجل) أي رجل بل أي شخص (على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم مرّة في المجلس) أي في مجلس (أجزأ) بالهمزة وأجزى لغة فيه أي كفى (عنه ما كان في ذلك المجلس) ما دام فيه دفعا للحرج وهذا هو قول الطحاوي من أصحابنا وهو المعتمد المعتقد والله تعالى أعلم وعن صاحب المجتبى من أئمتنا يتكرر الوجوب بتكرره وإن كثر وفي الجامع الصغير كرر آية السجدة في المجلس الواحد يكفيه سجدة واحدة وكذا في الصلاة ولا تسن السجدة لكل مرة وفي الصلاة تسن لكل مرة. فصل [في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بتبليغ صلاة من صلى عليه صلاة أو سلم من الأنام] (في تخصيصه) أي تخصيص الله إياه (عليه الصلاة والسلام بِتَبْلِيغِ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ) أَوْ سَلَّمَ عليه (من الأنام) أي الخلائق من طوائف الإسلام (ثنا) أي حدثنا كما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 نسخة (القاضي أبو عَبْدُ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ) وهو أبو علي الغساني (حدّثنا أبو عمر الحافظ) أي ابن عبد البر حافظ المغرب (حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا ابْنُ دَاسَةَ) بالمهملتين (حدّثنا أبو داود) أي صاحب السنن (حدّثنا ابن عوف) أي الطائي الحافظ الحمصي شيخ أبي داود والنسائي وغيرهما (حدّثنا المقرىء) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد القصير مولى عمر بن الخطاب أصله من ناحية البصرة نزل مكة وروى عن أبي حنيفة وغيره وعنه البخاري وأحمد وابن راهويه وابن المديني أخرج له الأئمة الستة (حدّثنا حيوة) بفتح مهملة فسكون تحتية (عن أبي صخر) بفتح مهملة وسكون معجمة (حميد) بالتصغير (ابن زياد) وصخر هذا هو الخراط رأى سهل بن سعد وروى عن أبي صالح السمان وأبي سلمة وخلق وعنه ابن وهب وجماعة قال أحمد ليس به بأس (عن يزيد بن عبد الله بن قسيط) بضم قاف وفتح سين مهملة وسكون تحتية ليثي يروي عن ابن المسيب وعنه مالك والليث وثقه النسائي أخرج له الأئمة الستة (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أردّ عليه) أي على من سلم علي (السّلام) مفعول أرد والحديث رواه أبو داود وأحمد والبيهقي وسنده حسن وظاهره الإطلاق الشامل لكل مكان وزمان ومن خص الرد بوقت الزيارة فعليه البيان والمعنى أن الله سبحانه يرد روحه الشريف عن استغراقه المنيف ليرد على مسلمه جبرا لخاطره الضعيف وإلا فمن المعتقد المعتمد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حي في قبره كسائر الأنبياء في قبورهم وهم أحياء عند ربهم وأن لأرواحهم تعلقا بالعالم العلوي والسلفي كما كانوا في الحال الدنيوي فهم بحسب القلب عرشيون وباعتبار القالب فرشيون والله سبحانه وتعالى أعلم بأحوال أرباب الكمال هذا وقال الأنطاكي يمكن أن يقال رد الروح كناية عن اعلام الله تعالى إياه بأن فلانا صلى عليك أو عن علمه عليه السلام بأحوال المسلم من بين الأنام (وذكر أبو بكر بن أبي شيبة) وهو الحافظ الكبير الحجة صاحب التصانيف روى عن ابن المبارك وجماعة وروى عنه الشيخان وطائفة ووثقه الجماعة قال الذهبي أبو بكر ممن قفز القنطرة وإليه المنتهى في الثقة (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سمعته) أي من غير واسطة (ومن صلّى عليّ نائيا) أي بعيدا عني (بلّغته) بصيغة المجهول مشددا أي بلغنيه الملائكة وفي رواية أبلغته والحديث أيضا رواه أبو الشيخ في الثواب والبيهقي في الشعب (وعن ابن مسعود) قال الشمني هو الصواب وقال الحلبي عن أبي مسعود وهو عقبة بن مسعود الأنصاري (إنّ) بفتح الهمزة وكسرها (لله ملائكة سيّاحين) أي سيارين (في الأرض يبلّغوني) بتخفيف النون وتشديدها وهو من باب التفعيل أو الأفعال أي يوصلوني (عن أمّتي السّلام) أي علي فأرده عليهم رواه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي في الشعب (وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) أي موقوفا ويحتمل أن يكون مرفوعا (أَكْثِرُوا مِنَ السَّلَامِ عَلَى نَبِيِّكُمْ كُلَّ جُمُعَةٍ فإنّه) أي السلام (يؤتى به) أي يبلغه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 (منكم في كلّ جمعة) لا يعرف من رواه لكن ورد أكثروا من الصلاة علي في كل يوم جمعة فإن صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة رواه البيهقي عن أبي أمامة ورواه عن أنس بلفظ أكثروا من الصلاة علي في يوم الجمعة وليلة الجمعة فمن فعل ذلك كنت له شهيدا أو شافعا يوم القيامة وروى ابن ماجه عن أبي الدرداء أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة وأن أحدا لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حين يفرغ منها وهذا معنى قوله (وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا عُرِضَتْ صَلَاتُهُ عَلَيَّ حِينَ يَفْرُغُ مِنْهَا) أي أول ما يفرع من غير توقف بخلاف سائر الأيام فإنه يكون موقوفا إلى مجيء يوم الجمعة وفي نسخة حتى يفرغ منها فالمعنى أن جميع صلاته تكون وإن أطال في كلماته تعرض عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وروى البيهقي عن أبي هريرة وابن عدي عن أنس وأبو يعلى عن الحسن وخالد بن معدان مرسلا أكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر فإن صلاتكم تعرض علي (وعن الحسن) برواية الطبراني وأبي يعلى بسند حسن (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صلاتكم تبلغني) أي تصل إلي بواسطة الملائكة يوم الجمعة وروى ابن مردويه عن أبي هريرة صلوا علي فإن صلاتكم علي زكاة لكم وروى ابن عدي عن ابن عمر وأبي هريرة صلوا علي صلى الله عليكم وروى أحمد والنسائي وجماعة صلوا علي واجتهدوا في الدعاء وقولوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد (وعن ابن عباس) كما رواه اسحاق بن راهويه في مسنده والبيهقي في شعبه موقوفا (ليس أحد من أمّة محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم يسلّم عليه ويصلّي عليه إلّا بلّغه) بضم موحدة وتشديد لام مكسورة ويجوز فتحها مخففة (وذكر بعضهم أنّ العبد) أي من عباد الله (إذا صلّى على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عرض عليه اسمه) أي اسم المصلى عليه بخصوصه (وعن الحسن بن عليّ) كما رواه ابن أبي شيبة وعنه أبو يعلى عن زين العابدين علي بن الحسين (إذا دخلت المسجد) أي أردت دخوله أو إذا حققت وصوله (فسلّم على النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم قال: «لا تتّخذوا بيتي» أي قبري كما في رواية لأنه في بيته (عيدا) والمعنى لا تجعلوا زيارة قبري عيدا ومعناه النهي عن الاجتماع لزيارته عليه السلام اجتماعهم للعيد من الأيام وقد كانت اليهود والنصارى يجتمعون لزيارة قبور أنبيائهم ويشتغلون باللهو والطرب مع آبائهم وأبنائهم ونسائهم فنهى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمته عن ذلك تحذيرا لهم عما يقع من الفساد هنالك ويؤيده حديث لعن الله اليهود والنصارى واتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ويحتمل أن يراد به الحث على كثرة زيارته إذ هي أفضل القربات وآكد المستحبات بل قريبة من درجة الواجبات فالمعنى اكثروا من زيارتي ولا تجعلوها كالعيد تزورونني في السنة مرتين أو في العمر كرتين بدليل أحاديث كثيرة وردت بالحث عليها وبوجوب الشفاعة لمن أتى إليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وقيل يحتمل أن يكون نهيه عليه الصلاة والسلام لدفع المشقة عن الأمة بناء على كمال الرحمة ويؤيده قوله الآتي وصلّوا علي حيث كنتم أو لكراهة أن يتجاوزوا في تعظيم قبره زيادة على قدره بنحو السجدة وغيره (ولا تتخذوا بيوتكم قبورا) أي كالقبور لا يصلى فيها والمعنى اجعلوا من صلواتكم في بيوتكم لما روى أحمد عن زيد بن خالد لا تتخذوا بيوتكم قبورا صلوا فيها ويؤيده قول الخطابي لا تجعلوها وطنا للنوم فقط لا تصلون فيها فإن النوم أخو الموت والميت لا يصلي أو لا تجعلوها قبورا لموتاكم تدفنونهم فيها قال الخطابي وليس بشيء فقد دفن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بيته ودفع بأن هذا من خصوصيات الأنبياء بدليل قوله عليه السلام ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه كما رواه الترمذي عن أبي بكر (وصلّوا عليّ حيث كنتم) أي قريبا أو بعيدا (فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) رواه الطبراني وأبو يعلى بسند حسن (وفي حديث أوس) هو أوس بن أوس الثقفي صحابي وفي الصحابة خمسة وأربعون نفرا يسمعون أوسا (أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صلاتكم معروضة عليّ) أي من غير واسطة أو من غير انتظار رابطة رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه (وعن سليمان بن سحيم) بضم سين وفتح حاء مهملتين فتحتية ساكنة مدني يروي عن ابن المسيب وجماعة وعنه ابن عيينة وطائفة أخرج له مسلم وغيره (رأيت النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله هؤلاء الّذين يأتونك) أي للزيارة (فيسلّمون عليك أتفقه سلامهم) أي أتعرف كلامهم وتدري مرامهم (قال نعم وأردّ عليهم) أي سلامهم واقضي مرامهم رواه ابن ابي الدنيا والبيهقي في حياة الانبياء وفي شعب الإيمان (وعن ابن شهاب) الزهري كما رواه المنيري مرسلا (بلغنا أنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ في اللّيلة الزّهراء) أي البيضاء النوراء (واليوم الأزهر) أي الأنور ويروى في الليلة الغراء واليوم الأغر يعني ليلة الجمعة ويوم الجمعة (فإنّهما) أي اليوم والليلة (يؤدّيان) أي ذلك (عَنْكُمْ وَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ وما من مسلم يصلّي عليّ) أي صلاة (إلّا حملها ملك) أي تحملها عنه (حتّى يؤدّيها) أي يوصلها (إليّ ويسمّيه) أي لدي (حتّى إنّه) أي الملك (ليقول إنّ فلانا يقول كذا وكذا) كناية عن ألفاظ الصلاة والسلام إجمالا وتفصيلا وتكثيرا وتقليلا فناهيك به تعظيما وتبجيلا. فصل (فِي الِاخْتِلَافِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ القاضي) وزيد في نسخة أبو الفضل يعني المصنف (وفّقه الله) وفي نسخة رحمه الله تعالى فالأولى من كلامه والأحرى من كلام غيره (عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ على غير النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من سائر الأنبياء وأقول بل هي مستحبة لما روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه والخطيب عن أنس مرفوعا صلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمْ كما بعثني فيستحقون الصلاة كما استحقها لأن المراد بها تعظيم من يصلي عليه ويؤيده الحديث الصحيح كما صليت على إبراهيم وهو في المدعي كالصريح (وروي عن ابن عباسّ) كما في شعب الإيمان للبيهقي وسنن سعيد بن أبي منصور (أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) ولعله رضي الله تعالى عنه أخذ من قوله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام سَلامٌ عَلى نُوحٍ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ومن مفهوم قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً حيث يستفاد منه أن الجمع بينهما من خصوصيته عليه السلام مما بين الأنام (وروي عنه) أي عن ابن عباس كما في فضل الصلاة عليه عليه السلام لإسماعيل القاضي (لَا تَنْبَغِي الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا النَّبِيِّينَ) ولعله رجع عن قوله الأول أو مراده به الجمع على ما ذكرنا فتأمل فإنه يمكن الجمع به على ما هو المعول (وقال سفيان) أي الثوري أو ابن عيينة (يكره أن يصلّى) أي على أحد أصالة (إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ، وَوَجَدْتُ بِخَطِّ بَعْضِ شُيُوخِي) وفي حاشية الحلبي قوله وَقَدْ وَجَدْتُ مُعَلَّقًا عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْفَاسِيِّ بالفاء والسين المهملة نسبة إلى بلد بالمغرب قال ابن ماكولا أبو عمران الفاسي ففيه أهل القيروان في وقته (مذهب مالك أنّه لا يجوز) أي لا ينبغي (أَنْ يُصَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى محمّد صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا) أي النقل (غير معروف من مذهبه) لكن يمكن أن يكون مراده الجمع بين الصلاة والسلام فإنه حينئذ يكون وفق مشربه (وقد قال مالك) أي الإمام (في المبسوطة) وفي نسخة المبسوط (لِيَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ أَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ الأنبياء وما ينبغي لنا أن نتعدّى) أي بالجمع بين الصلاة والسلام (ما أمرنا به) أي من الجمع بين الصلاة والسلام مختصا به في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (قال يحيى بن يحيى) أي الليثي عالم الأندلس راوي الموطأ (لست آخذ بقوله) أي بقول مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى أحد من الأنبياء سوى محمد (ولا بأس بالصّلاة على الأنبياء كلّهم) أي بالأصالة (وعلى غيرهم) أي تبعا ويحتمل أنه أراد به استقلالا لأنا ننزهه عن مخالفة العلماء إجلالا (واحتجّ) أي يحيى لما قاله وفي نسخة صحيحة واحتجوا أي هو ومن تبعه (بحديث ابن عمر) أي الآتي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر (وَبِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي أصحابه فيما مر (الصلاة عليه وفيه) أي وفي حديث تعليمه عليه السلام (وعلى أزواجه) فيه أنه لا خلاف في جواز الصلاة على غير الأنبياء تبعا وزيد في بعض النسخ هنا (وَقَدْ وَجَدْتُ مُعَلَّقًا عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْفَاسِيِّ) بالفاء والسين وفي نسخة القابسي بالقاف وبموحدة بعد الألف فسين مهملة (رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم قال وبه أقول) وفي نسخة وَبِهِ نَقُولُ (وَلَمْ يَكُنْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا مَضَى، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 ورسله فالله) وفي نسخة فإن الله (بعثهم كما بعثني قالوا) أي يحيى وأتباعه أو جمهور العلماء وهو الظاهر من قوله (والأسانيد) أي الواردة (عن ابن عباس) من نحو قوله ولا تجوز الصلاة على غير النبي عليه السلام (ليّنة) أي ضعيفة لا يصلح شيء منها لاحتجاج به على عدم جواز الصلاة على غيره صلى الله تعالى عليه وسلم (وَالصَّلَاةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى التَّرَحُّمِ وَالدُّعَاءِ) أي وتحوهما من الاستغفار وحسن الثناء (وذلك) أي جوازه (على الإطلاق) أي بالاتفاق (حَتَّى يَمْنَعَ مِنْهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَوْ إِجْمَاعٌ) أي صريح (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] الآية) تمامها ليخرجكم من الظلمات إلى النور وفي العالم للبغوي فالصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين وقال أنس لما نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه ما خصك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد اشركتنا فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية (وقال) أي الله تعالى لنبيه عليه السلام (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) أي من رذيلة البخل (وَتُزَكِّيهِمْ) أي وتنمي مالهم (بِها أي بسببها (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة: 103] أي التفت إليهم وترحم عليهم وأقبل عذر ما لديهم (الآية) وهي أن صلاتك سكن لهم أي تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم وفيه إيماء إلى خصوصيته بهذا الدعاء (وقال) أي الله سبحانه (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي تحيات ومدحات (وَرَحْمَةٌ) [البقرة: 157] أي أنواع رحمات وظاهره أن الصلوات عامة للمؤمنين ولا يبعد أن يكون من باب التوزيع والتقسيم وأن تكون الصلوات خاصة للأنبياء والرحمة عامة للأصفياء (وقال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه الشيخان عن عبد الله بن أبي أوفى (اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى) ومن تتمة الحديث قوله (وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ اللَّهُمَّ صلّ على آل فلان) كناية عما ينسبون إليه وقد رواه أبو داود والنسائي عن قيس بن سعد بن عبادة أنه عليه السلام قال اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة وهو مراد معهم كأبي أوفى (وفي حديث الصلاة) أي في التشهد (اللهمّ صلّ على محمد وعلى أزواجه) وفي نسخة وعلى أزواجه (وذرّيته وفي آخر) أي حديث آخر (وعلى آل محمّد، قيل) أي المراد بهم (أتباعه) أي إلى يوم القيامة (وقيل أمّته) أي أمة الإجابة وهو قريب مما قبله وربما يقال هو أعم والأول أخص (وقيل آل بيته) أي أقاربه وأزواجه وذريته (وقيل الأتباع والرّهط والعشيرة) أي جميعهم ويروى الأتباع وهم الرهط وقيل رهط الرجل قبيلته وعشيرته قومه (وقيل آل الرّجل ولده) أي أولاده وأحفاده (وقيل قومه) أي المؤمنون من قريش أو بني هاشم (وقيل أهله الّذين حرّمت عليهم الصّدقة) عن زيد بن أرقم أن آل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من حرم الصدقة عليه وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس (وفي رواية أنس) كما رواه الطبراني في الأوسط وابن مردويه (سئل النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ آلُ مُحَمَّدٍ قَالَ كُلُّ تقيّ) الظاهر إن كل تقي منهم والمعنى من ليس بمتق ليس بآلي ولا يبعد أن يكون المعنى كل من يكون تقيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 يكون آلا وعلى التقديرين يؤيده قوله تعالى إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ (ويجيء على مذهب الحسن) الظاهر أنه الحسن البصري (أنّ المراد بآل محمد محمد نفسه) أي في بعض التراكيب (فإنّه) أي النبي عليه السلام أو الحسن (كان يقول في صلاته على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على ما رواه النميري (اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ) زيد في نسخة يريد نفسه الشريفة إلا أنه لا يلائم قوله (لأنّه) أي قائله (كان لا يخلّ بالفرض) أي في الجملة وهو الصلاة على محمد (ويأتي بالنّفل) وهو الصلاة على آله (لأنّ الفرض الّذي أمر الله به) أي في قوله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ (هو الصّلاة على محمد نفسه) أي ذاته دون غيره بشهادة روايته الأخرى من طرق متعددة على محمد بدون آله (وهذا) أي كون الآل مقحما (مثل قوله عليه السلام) فيما رواه الشيخان (لقد أوتي) أي أبو موسى الأشعري (مزمارا) أي صوتا حسنا (من مزامير آل داود يريد) أي النبي عليه السلام (من مزامير داود) لأنه لا يعرف أحد من آله أنه كان له مزمار ونظير هذا من التنزيل قوله تعالى تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ (وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي الصَّلَاةِ) أي في ألفاظها (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي عند قبره (وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الموطّإ من رواية يحيى الأندلسيّ) بفتح همزة ودال وضم لام وقيل بضم الثلاثة وقيده به احترازا عن يحيى بن يحيى النيسابوري وزيد في نسخة وَالصَّحِيحُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ وَيَدْعُو لِأَبِي بَكْرٍ وعمر (وروى ابن وهب) وهو المصري العلم (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كُنَّا نَدْعُو لِأَصْحَابِنَا بِالْغَيْبِ فَنَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ مِنْكَ عَلَى فُلَانٍ صلوات قوم أبرار الّذين يقومون باللّيل) أي للتهجد والاستغفار (ويصومون بالنّهار قال القاضي) يعني المصنف وفي نسخة قال الفقيه الْقَاضِي (وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَأَمِيلُ إِلَيْهِ ما قاله مالك) أي إمام المذهب (وسفيان) أي الثوري أو ابن عيينة (رحمهما الله، وروي) أي وما روي (عن ابن عباس، واختاره غير واحد) أي كثيرون (مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى غير الأنبياء) وهم أعم من الرسل (عند ذكرهم) أي إفرادا وإنما تجوز اتباعا (بل هو) أي الصلاة وذكر باعتبار خبره وهو قوله (شيء يختصّ) يروى يخص (به الأنبياء) أي عرفا وعادة وفيه رد على الرافضة (توقيرا وتعزيزا) أي تعظيما وتبجيلا (كَمَا يُخَصُّ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِهِ بِالتَّنْزِيهِ والتّقديس والتّعظيم ولا يشاركه فيه) أي فيما ذكر (غيره) فيقال قال تعالى عز وجل وإن كان الأنبياء أعزة وأجلاء عن العيوب برآء (كذلك يجب تخصيص النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ وَلَا يشارك) بالبناء للمفعول أو الفاعل وفي نسخة ولا يشاركهم (فيه) أي في كل واحد منهما (سواهم كما أمر الله) أي المؤمنين (بِقَوْلِهِ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الْأَحْزَابِ: 43] (وَيُذْكَرُ من سواهم من الأئمة) المجتهدين من الصحابة والتابعين (وغيرهم) من العلماء الصالحين (بالغفران والرّضى) وفيه أن الرضى مختص عرفا بالصحابة وإن كانوا يدخلون في المغفرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 تحت عموم الدعاء (كما قال تعالى يَقُولُونَ) أي الذين جاؤوا من بعدهم (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) [الحشر: 10] أي وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (وقال وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) وفي نسخة وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ (بِإِحْسانٍ) أي بإيمان وإيقان وطاعة واتقان إلى يوم القيامة (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] وأيضا فهو) أي ذكر الصلاة والسلام على غير الأنبياء (أمر) ويروى فهذا أَمْرٌ (لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ) أي من السلف والخلف (كما قال أبو عمران) أي الفاسي (وإنّما أحدثه الرّافضة) أي التاركة محبة أكثر الصحابة (والمتشيّعة) أي المظهرة أنهم السابقون والمتابعون (في بعض الأئمة) أي من أهل بيت النبوة (فشاركوهم) أي ائمتهم كعلي والحسنين وغيرهم (عند الذّكر لهم بالصّلاة) وكذا بالسلام فيقولون مثلا علي عليه السلام (وساووهم) أي ائمتهم (بالنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك) أي مقام المرام وهذا لا يليق بالكرام وذكر انطاكي أن الرافضة فرقة من شيعة الكوفة وسموا بذلك لأن زيد بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبي طالب خرج على هشام بن عبد الملك فطعن عسكره في أبي بكر وعمر فمنعهم عن ذلك فرفضوه ولم يبق معه إلا مائتا فارس فقال لهم رفضتموني أي تركتموني فلقبوا بذلك ثم لزم هذا اللقب كل من غلا في مذهبه واستجاز الطعن في الصحابة والمتشيعة هم الذين ينسبون إلى الشيعة وتقدم أنهم فرقة يفضلون عليا ويزعمون أنهم من شيعته أي أتباعه (وأيضا فإنّ التّشبّه بِأَهْلِ الْبِدَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَتَجِبُ مُخَالَفَتُهُمْ فِيمَا التزموه من ذلك) أي وجعلوه شعارا لهم هنالك (وَذِكْرُ الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ وَالْأَزْوَاجِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم بحكم التّتبع) أي له صلى الله تعالى عليه وسلم (والإضافة إليه) أي فهو جائز (لا على التّخصيص) أي بحكم الاستقلال (قالوا) أي العلماء المحققون (وصلاة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم على من صلّى عليه) أي من آل أبي أوفى ونحوه (مجراها مجرى الدّعاء) أي مجرى تلك الصلاة محمول على مجرى الدعاء والرحمة (والمواجهة) أي حسن المقابلة حال المعاشرة (ليس فيها معنى التّعظيم والتّوقير) أي الذي اختص بأرباب الكمال (قالوا) أي العلماء (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور: 61] أي في المناداة باسمه وفي رفع الصوت عنده (فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ لَهُ مُخَالِفًا لدعاء النّاس بعضهم لبعض) أي يتميز به عن غيره (وهذا اختيار الإمام أبي المظفّر الإسفرايينيّ) بكسر الهمزة وتفتح الفاء وتكسر (من شيوخنا) أي الفقهاء المالكيه (وَبِهِ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ) وهو حافظ الغرب في البحر والبر. فصل (فِي حُكْمِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضِيلَةِ مَنْ زَارَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَكَيْفَ يسلم ويدعو وزيارة قبره عليه السلام سنّة من سنن المسلمين مجمع) ويروى مجتمع (عليها) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 مجتمع على كونها شنة وممن ادعى الإجماع النووي وابن الهمام بل قيل إنها واجبة (وفضيلة مرغّب فيها روي «1» عن ابن عمر) فيما رواه ابن خزيمة والبزار والطبراني وله طرق وشواهد حسنه الذهبي لأجلها (قال النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شفاعتي) أي حقت وثبتت وفي رواية حلت رواه الدارقطني وغيره وصححه جماعة من أئمة الحديث (وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ زَارَنِي فِي الْمَدِينَةِ مُحْتَسِبًا) أي ناويا ذلك الجناب وطالبا للثواب ليس له غرض آخر في هذا الباب فعن عمر رضي الله تعالى عنه أيها الناس احتسبوا أعمالكم فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله وأجر حسبته (كان في جواري) بكسر الجيم أي مجاورتي وفي نسخة بضم الجيم أي في ذمتي وعهدي وجيرتي (وكنت له شفيعا يوم القيامة) قال الدلجي لا أعرف من رواه قلت قد رواه العقيلي وغيره بلفظ من زارني معتمدا كان في جواري يوم القيامة ورواه البيهقي ولفظه من زارني محتسبا إلى المدينة كان جواري يوم القيامة وروى أبو عوانة من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة (وفي حديث آخر) أي مما رواه البيهقي وسعيد بن منصور في سننهما والدارقطني والطبراني وأبو يعلى وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما (من زارني بعد موتي) وفي رواية بعد وفاتي (فكأنّما زارني في حياتي) والأحاديث في هذا الباب كثيرة والروايات فيها شهيرة منها ما رواه علي مرفوعا من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن لم يزر قبري فقد جفاني وقد استدل به على وجوب الزيارة بعد الاستطاعة وعن أنس بسند ضعيف بلفظ ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني إلا وليس له عذر وعن ابن عدي بسند يحتج به من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني (وكره مالك رحمه الله) قال ابن تيمية وتبعه طائفة في ذلك (أَنْ يُقَالَ زُرْنَا قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ) أي الداعي إلى كراهية مالك (فقيل كراهية الاسم) وفي نسخة كراهية للاسم وفي أخرى كراهة الاسم أي اسم الزيارة (لما ورد) أي في رواية أحمد والترمذي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (من قوله عليه السلام لعن الله زوّارات القبور) بفتح الزاء وتشديد الواو أي المبالغات في زيارة القبور وفيه أنه عليه السلام إنما لعنهن لأنهن مأمورات بالقرار في بيوتهن فلا يصلح زيارتها لهن نعم قد يؤخذ منه أنه لا يسن في حقهن زيارته عليه السلام كما قال به بعض الأعلام لكن الأصح أنه لا يكره لهن ذلك إذا قمن بشرائط فيما هنالك (وهذا) أي الاستدلال (يردّه قوله) أي فيما رواه مسلم (كنت نهيتكم) وفي نسخة من الكتاب نهيتم (عن زيارة القبور فزوروها) وفي نسخة بزيارة ولا تقولوا هجرا بضم الهاء وسكون الجيم أي كلاما يوجب إثما وفيه بحث إذ يحتمل أن يكون خطاب   (1) وقد سقط في نسخة هذا الشرح السندات فليراجع نسخة المتن وشرح الشهاب قاله المصحح ط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 الرجال بعد خطاب النساء فيكون الحكم الثاني في حقهم ناسخا لا في حقهن ويؤيده التعليل في حقهن بأنهن قليلات الصبر كثيرات الجزع والفزع لا يملكن أنفسهن من الصياح والنياح وأما التعليل في حقهم فلأن أمواتهم في صدر الإسلام كانوا كفرة فمنعوا عن زيارة قبورهم فلما كثر أموات المسلمين أجازهم زيارتهم لما فيها من العبرة لأهل الحياة ومنفعة الدعوة للأموات فهذا حديث اجتمع فيه الناسخ والمنسوخ (وقوله) أي ويرده أيضا قوله فيما مر عن ابن عمر وغيره مرفوعا (من زار قبري) أي وجبت له شفاعتي أو حلت له شفاعتي (فقد أطلق اسم الزّيارة) أي فلم تكن الكراهة لاسم الزيارة (وقيل) أي في توجيه كلام مالك (لأنّ ذلك لما قيل) أي لقول بعضهم (إنّ الزّائر أفضل من المزور وهذا) أي الاستدلال (أيضا ليس بشيء) أي معتد به وفي نسخة ليس ببين أي بظاهر فلم يلتفت إليه (إذ ليس كلّ زائر بهذه الصّفة) بل الغالب عكسه في العرب والعادة (وليس هذا) أي هذا القول (عموما) أي عاما في كل زائر (وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَهْلِ الْجَنَّةِ زِيَارَتُهُمْ لربّهم ولم يمنع هذا اللّفظ) أي إطلاق لفظ الزيارة (في حقّه تعالى) ففي حق نبيه عليه السلام بالأولى فلا يصح الاستدلال بهذا المبنى على هذا المعنى وزيد في بعض النسخ هنا (وقال أبو عمران) أي الفاسي وفي كثير من النسخ أبو عمر وهو ابن عبد البر (إِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُقَالَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وزرنا قبر النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بَعْضُهُمْ لبعض) أي فيما بينهم (فكره تسوية النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم مع النّاس) أي عمومهم (بِهَذَا اللَّفْظِ وَأَحَبَّ أَنْ يُخَصَّ بِأَنْ يُقَالَ سلّمنا على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وفيه أن السلام أيضا يستعمل عاما فلا يكون التعليل تاما (وَأَيْضًا فَإِنَّ الزِّيَارَةَ مُبَاحَةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَوَاجِبٌ شدّ الرحال) وفي نسخة شد المطيّ (إلى قبره صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ بِالْوُجُوبِ هُنَا وُجُوبَ نَدْبٍ وترغيب وتأكيد لا وجوب فرض) أي موجب تهديد وفيه أن لفظ الزيارة قضية لغوية كالحج والعمرة والصلاة والزكاة وأمثالها والوجوب والندب والنافلة من الأحكام الشرعية (والأولى عندي أن منعه) أي منع هذا القول هنالك (وكراهة مالك له) أي لذلك (لإضافته إلى قبر النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وأنه) بكسر الهمزة وفتحها (لو قال زرنا النبيّ لم يكرهه) أي مالك ومن تبعه وإنما ذلك (لقوله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا) أي كالوثن وهو الصنم (يعبد بعدي) أي بعد موتي (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبيائهم مساجد) أي يسجدون لها كما يسجدون للأوثان كما فعله بعض النصّارى (فحمى) أي صان مالك (إضافة هذا اللّفظ) أي لفظ الزيارة (إلى القبر والتّشبّه بفعل أولئك) أي العامة (قطعا للذّريعة) أي الوسيلة (وحسما) أي قطعا (للباب) أي لفتح هذا الباب (والله أعلم) أي بالصواب وفيه أنه قد ورد بروايات متعددة التصريح بهذه اللفظة فلا يلتفت إلى هذه العلة منها ما رواه أبو داود الطيالسي من زار قبري كنت له شفيعا أو شهيدا ومنها حديث علي مرفوعا من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن لم يزر قبري فقد جفاني وجاء عنه موقوفا من زار قبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان في جواره عليه السلام على أنا إذا قلنا زرناه فالمعنى زرنا قبره لأنه لا يتصور زيارة ذاته حقيقة ولهذا المعنى ورد من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي بلفظ التشبيه مع أن المعتقد أنه وسائر الأنبياء في قبورهم من الأحياء فإنهم أولى بذلك من الشهداء بل قولنا زرنا قبره أولى من زرناه عند التحقيق والله ولي التوفيق هذا وما وقع للشعبي والنخعي وغيرهما مما يقتضي كراهة زيارة القبور شاذ لا يعول عليه لمخالفته الإجماع وقد فرط ابن تيمية من الحنابلة حيث حرم السفر لزيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما أفرط غيره حيث قال كون الزيارة قربة معلوم من الدين بالضرورة وجاحده محكوم عليه بالكفر ولعل الثاني أقرب إلى الصواب لأن تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفرا لأنه فوق تحريم المباح المتفق عليه في هذا الباب نعم يمكن حمل كلام من حرم أو كره على صورة خاصة من الزيارة من الاجتماع في وقت خاص على هيئة منكرة أو صفة مكروهة من اجتماع الرجال والنساء في وقت واحد لما فيه من اتخاذ قبره عيدا والموجب لما أورد فيه وعيدا (قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَقِيهُ وَمِمَّا لَمْ يزل) أي من قديم الأيام (من شأن من حجّ) أي من ديدن من قصد بيت الله الحرام (المرور بالمدينة) أي مدينة الإسلام لزيارته عليه السلام أي إما قبل الحج وإما بعده (والقصد) أي أيضا (إِلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) لما ورد فيه من مزيد المضاعفة في تلك المحال الكرام إذ قد ورد أن الصلاة فيه بمائة ألف (والتّبرّك برؤية روضته) أي خصوصا (ومنبره وقبره ومجلسه) أي محل جلوسه في المسجد ومكان صلاته عند الإسطوانات وغيرها (وملامس يديه ومواطىء قدميه) أي في نحو المنبر (والعمود الّذي كان يستند إليه) وفي نسخة يسند ففي الصحاح سندت إلى الشيء واستندت إليه بمعنى (وينزل جبريل بالوحي فيه) أي في حال استناده (عليه وبمن عمره) أي والتبرك بمن عمر مسجده مبنى ومعنى وقيل أي زاره (وقصده) أي وبمن قصده (من الصّحابة وأئمة المسلمين) أي من التابعين واتباعهم من المجتهدين والعلماء والصالحين (والاعتبار) بالرفع (بذلك) أي بما ذكره (كلّه) أي جميعه والحاصل أنه لا منع من الجمع بين النيات في تحصيل الطاعات لكن ينبغي أن يكون الغرض الأصلي بعد أداء فرض حج الإسلام زيارته عليه السلام ويتبعها حضور مشاهده الكرام (وقال ابن أبي فديك) بالتصغير وثقه جماعة واحتج به أصحاب الكتب الستة (سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا) أي في الحديث (أنه) أي الشأن (مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم فتلا هذه الآية (وهي قَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) [الأحزاب: 56] الظاهر أنه يقرأ ما بعدها أيضا وهو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (ثمّ قال صلى الله تعالى عليك) الأولى أن يزيد وسلم (يا محمد) الأولى أن يقول يا نبي الله ونحوه (مَنْ يَقُولُهَا سَبْعِينَ مَرَّةً، نَادَاهُ مَلَكٌ صَلَّى الله عليك يا فلان) أي باسمه (ولم تسقط له) وفي نسخة لك (حاجة) بل ترفع والمعنى قضيت كل حاجة له دنيوية أو أخروية والحديث رواه البيهقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 من طريق ابن أبي الدنيا (وعن يزيد بن أبي سعيد المهريّ) بفتح ميم وسكون هاء فراء فياء نسبة (قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمَّا ودّعته قال: لي إليك حاجة) أي وهي إنك (إِذَا أَتَيْتَ الْمَدِينَةَ سَتَرَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي حقيقة أو مجازا وهو محله وحوله (فأقره منّي السّلام) يجوز قطع همزة وكسر رائه ويجوز وصل أوله وفتح عينه والحديث رواه ابن أبي الدنيا من طريق البيهقي في الشعب عنه (قال غيره) أي غير المهري وهو حاتم بن وردان كما رواه البيهقي في شعب الإيمان (وكان) أي عمر بن عبد العزيز (يبرد) بضم ياء وسكون موحدة وكسر راء أي يوجه ويسير (إليه البريد من الشّام) أي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم القاصد من الشام ليقرأه منه السلام (قَالَ بَعْضُهُمْ رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى قبر النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فوقف) أي بين يديه (فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فسلّم على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ثمّ انصرف) لا يعرف استحباب رفع اليدين في ذلك المقام عن أحد من الأعلام ولعله دعا الله سبحانه وتشفع به عليه السلام (وقال مالك في رواية ابن وهب) أي عنه (إذا سلّم) أي هو أو أحد (على النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا يَقِفُ وَوَجْهُهُ إِلَى الْقَبْرِ لا إلى القبلة) وذهب بعض أرباب المناسك أن الزائر يسلم أولا وهو متوجه إلى القبر ثم يدعو الله وهو مستقبل القبلة فوق رأسه عليه الصلاة والسلام (ويدنو) أي ويقرب إلى القبر قربا يناسب الأدب (ويسلّم ولا يمسّ القبر) وكذا جدار قبته وشبابيك حجرته عليه السلام (بيده) ولا بفمه لعدم وروده عن الصحابة الكرام ولأنه أقرب إلى مقام الأدب لأن ذلك من عادة النصارى على ما نقله الغزالي (وقال) أي مالك (في المبسوطة لا أرى) أي لا أجوز (أن يقف) أي أحد (عند قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو ولكن يسلّم ويمضي) هذا بظاهره يناقض ما سبق عنه اللهم إلا أن يقال هذا بيان الأكمل فتأمل (قال ابن أبي مليكة) بالتصغير تابعي تيمي مؤذن ابن الزبير وقاضيه قال بعثني ابن الزبير على قضاء الطائف فكنت أسأل ابن عباس وأما أبو مليكة فصحابي (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقُومَ وِجَاهَ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) بكسر الواو ويضم أي في مواجهته ومقابلته (فليجعل القنديل) بكسر القاف معروف وأما بفتحه فهو عظيم الرأس (الّذي في القبلة) أي في جهتها (عند القبر على رأسه) أي محاذيا لرأسه (وقال نافع) هو مولى ابن عمر من أئمة التابعين وأعلامهم (كان ابن عمر يسلّم على القبر) أي على من فيه (رأيته) أي ابن عمر بفعل ذلك (مائة مرّة وأكثر) وفي نسخة أو أكثر بمعنى بل أكثر (يَجِيءُ إِلَى الْقَبْرِ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ السَّلَامُ على أبي) وفي نسخة السلام على أبي حفص وهو كنية عمر وهذا أقرب إلى الأدب (ثمّ ينصرف) أي ولم يزد على ذلك رواه البيهقي وغيره (ورؤي) وفي نسخة ورئي أي أبصر (ابْنُ عُمَرَ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي موضع قعوده (من المنبر ثمّ وضعها) أي يده (على وجهه) رواه ابن سعد عن عبد الرحمن بن عبد القارىء أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 رآه وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم (وعن ابن قسيط) بفتح قاف فكسر مهملة أو بالتصغير وهو الأصح (والعتبيّ) بضم عين فسكون فوقية فموحدة (كان أصحاب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خلا المسجد) أي من عامة الناس (جسّوا) بفتح الجيم وتشديد السين المهملة أي حسو ومسوا (رمّانة المنبر) أي العقدة المشابهة للرمانة (التي تلي القبر) يعني التي كان يأخذها عليه السلام بيمينه (بميامنهم) متعلق بجسوا أي تمسحوا بأيمانهم طلبا لليمن والبركة في زيادة الإيمان وإيقان الإحسان (ثمّ استقبلوا القبلة يدعون) أي الله سبحانه بهذه الوسيلة المشتملة على الفضيلة رواه ابن سعد (وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللّيثيّ) هو عالم الأندلس (أنّه) أي ابن عمر (كَانَ يَقِفُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي عند قبره كما في نسخة (فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) أي وهو في مكان يجمع بينهم في السلام من غير تغيير المقام في القيام (وعند ابن القاسم) وهو فقيه مصر (والقعنبيّ) وهو أحد الأعلام وروى عنه البخاري ومسلم وغيرهما (ويدعو لأبي بكر وعمر) أي بدل لفظة وعلى أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ (قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وهب) وهو عالم مصر (يقول المسلّم) بتشديد اللام المكسورة أي الزائر (السّلام) ويروى سلام (عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ: قَالَ) أي مالك (في المبسوطة ويسلّم على أبي بكر وعمر) بأي لفظ كان (قال القاضي أبو الوليد الباجيّ) بالموحدة والجيم وهو أحد الأعلام (وعندي أنّه يدعو للنبي بلفظ الصّلاة) أي بأن يقول الصلاة عليك يا نبي الله أو الصلاة على رسول الله ولا شك أن الجمع بينها وبين السلام أفضل وأكمل كما دل عليه قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (ولأبي بكر وعمر) يعني ويدعو لهما أيضا (كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الْخِلَافِ) أي المتقدم حيث جاء في رواية أخرى عنه أنه كان يقول السلام على النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ السَّلَامُ على أبي وفي رواية أخرى عنه أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر وقد تقدم أن الصلاة على غير الأنبياء تكره استقلالا فكيف يصح قول الباجي عندي أنه يدعو للنبي بلفظ الصلاة ولأبي بكر وعمر وغايته أن حديث ابن عمر في الرواية الثانية أن ذكر الصلاة عليهما وقع تبعا أو تغليبا والحاصل أن الأفضل هو الجمع بين الصلاة والسلام للنبي الأكمل وأما صاحباه فنخصهما بلفظ السلام فتأمل فإنه القول المعول (وقال ابن حبيب) أحد الأئمة ومصنف الواضحة (ويقول) أي الزائر (إذا دخل مسجد الرّسول) أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد كره بعض العلماء إطلاق الرسول من غير الإضافة إلى الله سبحانه لتوهم معناه اللغوي (باسم الله وسلام) أي تمام (على رسول الله السّلام) وفي نسخة عليه الصلاة والسلام (السلام علينا) أي وعلى عباد الله الصالحين (من ربّنا) أي من جانبه ومن لطفه وكرمه (وصلى الله وملائكته) الأولى زيادة وسلم (عَلَى مُحَمَّدٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لي أبواب رحمتك وجنّتك) أي بتوفيق اكتساب طاعتك واجتناب معصيتك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 (واحفظني من الشّيطان الرّجيم) أي من وساوسه وهو اجسه (ثمّ اقصد) فيه التفات أي ثم توجه (إلى الرّوضة) أي الشريفة المطهرة (وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ فَارْكَعْ فِيهَا) أي صل (ركعتين) أي قياما بحق الربوبية كما اقتضته العبودية (قبل وقوفك بالقبر) أي الشريف للزيارة المصطفوية وأداء التحية النبوية (تحمد الله تعالى) أي حال كونك تثني على الله سبحانه (فيهما) أي في الركعتين وفي نسخة فيهما أي في الصلاة أو في الروضة (وتسأله) أي الله فيهما أو بعد الفراغ منها (تمام ما خرجت إليه) أي من المقاصد (والعون عليه) أي في جميع المراصد (وإن كانت ركعتاك) وهما تحية المسجد (في غير الرّوضة أجز أتاك) أي كفتاك عن السنة (وفي الرّوضة) وكذا في المواضع الفاضلة في المسجد (أفضل) أي لورود الأحاديث في فضلها (وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم ما بين بيتي) أي المختص بعائشة المعبر عنه في رواية ما بين قبري (ومنبري روضة من رياض الجنّة) إما حقيقة بأن ينتقل إليها حال وصولها وإما وسيلة بأن تكون العبادة فيها سببا لدخولها وباعثة لوصولها فقد قال القتيبي معناه أن الصلاة والذكر في هذا الموضع يورثان الجنة فكأنه قطعة منها أقول ولا منع من الجمع والله أعلم (ومنبري على ترعة) بضم فوقية فسكون راء فعين مهملة أي عتبة أو روضة مرتفعة (من ترع الجنّة) رواه أحمد بتمامه عن جابر والبزار عن أبي بكر والدارقطني عن عمر بلفظ قبري بدل بيتي ورواه بدون الجملة الأخيرة البيهقي عن أبي هريرة والطبراني في الأوسط عن ابن عمر ورواه فقط أحمد وأبو عوانة عن سهل بن سعد والترعة في الأصل الروضة على مكان مرتفع خاصة فإن كانت في مطمئن فهي روضة وورد ارتعوا في رياض الجنة يعني مجالس الذكر وفي رواية إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا وفسر الرياض بالمساجد والرتع بقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ونحو ذلك (ثمّ تقف) خبر معناه أمر أي قف أيها الزائر (بالقبر) أي قريبا منه ومقبلا عليه (متواضعا) أي مذللا في نفسه (متوقّرا) أي معظما لمن في حضرته (فتصلّي عليه وتثني بما يحضرك) أي لديه (وَتُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَتَدْعُو لَهُمَا) أي بالغفران والرضوان (وأكثر من الصّلاة) أي الطاعة والعبادة أو الصلاة على صاحب السعادة والسيادة (في مسجد النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم باللّيل والنّهار) أي في ساعاتهما (ولا تدع أن تأتي مسجد قبا) أي ولا تترك إتيان ذلك المسجد وزيارة ذلك المشهد فإنه كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأتيها كل يوم سبت راكبا وماشيا وقباء يمد ويقصر ويؤنث ويذكر ويصرف ويمنع والأشهر الأكثر مده وتذكيره وصرفه (وقبور الشّهداء) أي شهداء أحد وغيرهم أي ولا تترك إتيان زيارتهم واستدعاء شفاعتهم (قال مالك في كتاب محمد) يعني واحدا من أصحابه ولعله محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة فإنه روى عنه الموطأ (ويسلّم على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دخل) أي سلام القدوم والزيارة (وخرج) أي وإذا أراد أن يخرج سلام الموادعة (يعني) أي يريد بذلك وهو (في المدينة) أولا وآخرا (وفيما بين ذلك) أي أحيانا (قال محمد وإذا خرج) أي أراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 الزائر أن يخرج من المدينة (جعل آخر عهده الوقوف بالقبر) أي للزيارة قياسا على طواف الوداع (وكذلك من خرج) ولو من أهل المدينة (مسافرا) أي حال كونه مريدا للسفر وهذا كله بطريق الاستحباب واستحسان الآداب الموجب لمزيد الثواب (وروى ابن وهب عن فاطمة) أي البتول الزهراء رضي الله تعالى عنها (بنت النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إذا دخلت المسجد) قال الدلجي بفتح تاء الخطاب ولا أعلم من رواه قلت بل الصواب أن المراد به عموم الخطاب وقد سبق روايته مع مخرجها في الكتاب (فصلّ على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وفي نسخة ضبط دخلت بكسر التاء وفصلي بياء المخاطبة (وقل) وفي نسخة وقولى فيه وفيما بعده (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَإِذَا خَرَجْتَ فَصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى) أي لأبي داود عن أبي حميد وأسيد (فليسلّم مكان فليصلّ فيه) أي في هذا المروي (وَيَقُولُ إِذَا خَرَجَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فضلك وفي أخرى اللهمّ احفظني) أي احرسني واعذني واعصمني (من الشّيطان الرّجيم) أي المطرود المبعود (وعن محمد بن سيرين) أحد أعلام التابعين (كان النّاس) أي الصحابة (يقولون إذا دخلوا المسجد) أي المسجد النبوي أو جنس المسجد الإلهي (صلّى الله وملائكة على محمد) جملة خبرية مبنى إنشائية معنى (السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ باسم الله دخلنا) أي لا باسم غيره (وباسم الله خرجنا) والمعنى دخلنا مستعينين باسمه وخرجنا مستمسكين باسمه ففي الحالين باسمه تعلقنا (وعلى الله توكّلنا) أي في جميع أحوالنا عليه اعتمدنا وجميع أمورنا إليه فوضنا (وكانوا يقولون إذا خرجوا) أي حين خروجهم من هنالك (مثل ذلك، وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها أيضا) أي كما تقدم عنها (كان النبيّ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى محمد وسلم) وفي نسخة صلى الله تعالى عليه وسلم أخرجه أحمد والبيهقي في الدعوات (ثمّ ذكر) أي ابن سيرين (مِثْلَ حَدِيثِ فَاطِمَةَ قَبْلَ هَذَا وَفِي رِوَايَةٍ حَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وذكر مثله) وهذا نقل بالمعنى وقد ثبت باختلاف المبنى فلا عبرة بقول الدلجي لا أدري من رواها (وفي رواية) أي للترمذي وابن ماجه (باسم الله والسلام) وفي نسخة والصلاة (على رسول الله وعن غيرها) أي وروي عن غير فاطمة من الصحابة من طرق متعددة فلا يضر قول الدلجي لم أقف عليه لأن من حفظ حجة على غيره وكذا لا التفات إلى قول الحلبي لا أعرفه بعينه لأنه يكفي أن المصنف رواه وهو حافظ ثقة حجة (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دخل المسجد) أي حقيقة أو إذا أراد دخوله (قال اللهمّ افتح لي أبواب رحمتك) أي الدينية والأخروية (ويسّر لي أبواب رزقك) أي الحسية والمعنوية (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فليصلّ على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وليقل اللهمّ افتح لي) أي أبواب رحمتك رواه ابن ماجه والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن حبان وابن خزيمة (وقال مالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 فِي الْمَبْسُوطِ وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وخرج منه من أهل المدينة) أي كلما دخل به وخرج منه (الوقوف بالقبر) أي للزيارة (وإنّما ذلك) أي لازم (للغرباء) أي من الزائرين دون المقيمين وهذا كما قاله العلماء من أن الصلاة النافلة في مكة أفضل لأهل الإقامة والطواف أفضل للغرباء النازلة (وقال) أي مالك رحمه الله تعالى (فيه) أي في المبسوط (أيضا لا بأس لمن قدم) بكسر الدال أي نزل (من سفر) أي من أهل المدينة وغيرهم (أو خرج إلى سَفَرٍ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فيصلّي عليه ويدعو له) أي بالسلام (ولأبي بكر وعمر فقيل له) أي لمالك (إنّ ناسا من أهل المدينة لا يقدمون) بفتح الدال أي لا يجيئون (من سفر ولا يريدونه) أي ولا يقصدون السفر غالبا وهم مع ذلك (يفعلون ذلك) أي الوقوف على القبر للزيارة (فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ وَرُبَّمَا وَقَفُوا) أي تأخروا (في الجمعة) بضم الجيم والميم ويسكن أي في الأسبوع (أو في الأيّام) أي ولو أكثر من الجمعة (المرّة) أي تارة (أو أكثر) أي أخرى (عِنْدَ الْقَبْرِ فَيُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ سَاعَةً فَقَالَ لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ) أي من المتقدمين (ببلدنا) يعني المدينة (وتركه واسع) أي جائز يعني ولو فعله فسائغ لأنه كما قال ابن مسعود ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن والقياس بوقت الوفاة على حال الحياة صحيح ولا شك أن الصحابة كانوا يكثرون السلام عليه في حال حياته ويتشرفون بتكرار ملاقاته ويتبركون بأخذ الفيض من أنوار بركاته فأي مانع من التردد على بابه والتوسل إلى جنابه على أنه قد ثبت من صلى عليه نائيا بلغه ومن صلى عليه عند قبره سمعه نعم إن كانت الكثرة توجب الملالة فلا شك أن يقال في حقها الكراهة كما يشير إليه حديث زرغبا تزدد حبا وأما عند كثرة الشوق ومزية الذوق فلا سبيل إلى المنع من تلك الحضرة ولو على سبيل المداومة كما يدل عليه حديث أبي بن كعب في تكثير الصلاة والسلام عليه والحاصل أن تكثيرها مستحب بالإجماع فايقاعها أولى في أفضل البقاع ولعل السلف الصالح كان عندهم أمور أهم من ذلك فكانت تشغلهم عن كثرة الوقوف هنالك وكذا نقول إن طلب العلم وتحصيله وتدريسه وتصنيفه إذا كان خالصا في طريقه أفضل من كثرة الطواف والزيادة بل أكمل من حج النافلة وقصد العمرة فاندفع بما قررنا وارتفع بما حررنا ما يفهم من ظاهر قوله (وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الأمّة وصدرها أنّهم كانوا يفعلون ذلك) وقدمنا عذرهم أنهم كانوا يشتغلون بأمور كانت أهم هنالك (ويكره) أي الوقوف للزيارة من أهل المدينة (إِلَّا لِمَنْ جَاءَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ أَرَادَهُ) أي السفر (قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَرَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِذَا خَرَجُوا مِنْهَا أَوْ دَخَلُوهَا أَتَوُا الْقَبْرَ فَسَلَّمُوا) لا شك أن الزيارة في تينك الحالتين أكثر استحبابا وأظهر آدابا لكن لا يلزم منه أنهم لم يكونوا فيما بين ذلك من الواقفين هنالك وقد سبق عن نافع أن ابن عمر كان يسلم على القبر رأيته مائة مرة أو أكثر ولا شك أنه كان من أهل المدينة فتدبر (قال) أي ابن القاسم (وذلك رأي) أي المختار المطابق لظاهر قول مالك (قال الباجيّ) وهو بالموحدة والجيم (ففرق) أي مالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وفي نسخة بفتح فسكون أي فصل وفارق (بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْغُرَبَاءِ لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ قَصَدُوا لذلك) أي في رحلتهم (وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ مُقِيمُونَ بِهَا لَمْ يَقْصِدُوهَا مِنْ أجل القبر والتّسليم) أي على صاحبه وفيه أنه لا يلزمهم ترك ذلك وأي مانع لما هنالك فهل ترى أحدا قال بأن الغرباء لهم الطواف حول الكعبة لأنهم قصدوها في سفرهم دون أهل مكة حيث لم يقصدوها في إقامتهم (وقال عليه الصلاة والسلام) كما روى مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار مرسلا وعبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم (اللهمّ لا تجعل قبري وثنا يعبد) أي صنما يعبد من دون الله تعالى وإنما قاله خوفا على أمته وأهل ملته أن يفعلوا مثل جهلة أهل الكتاب بالنسبة إلى القبور أنبيائهم ومشاهد أصفيائهم ولذا قال عليه الصلاة والسلام (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبيائهم مساجد) أي مسجودا بها ومشهودا فيها حيث عبدوها (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لا تجعلوا قبري عيدا) رواه أبي شيبة موصولا عن علي وسعيد بن منصور في سننه مرسلا من طريقتين وتقدم تحقيق بيانه وتدقيق برهانه (وَمِنْ كِتَابِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْهِنْدِيِّ فِيمَنْ وقف بالقبر: لا يلصق به) لأنه ناشىء عن قلة الأدب مع رسول الرب (ولا يمسّه) أي لعدم وروده بل ورد النهي عن مسه ولمسه (ولا يقف عنده طويلا) أي وقوفا طويلا أو زمانا طويلا خوفا من الرياء والسمعة أو من الملالة والسآمة (وفي العتبيّة) بضم العين المهملة وسكون الفوقية وكسر موحدة وتشديد تحتية منسوبة إلى فقيه الأندلس محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي القرطبي مصنفها وهو من موالي عتبة بن أبي سفيان أخذ عن يحيى بن يحيى الليثي وطبقته (يبدأ بالرّكوع) أي بصلاة التحية للمسجد (قبل السّلام) أي على سيد الأنام حين دخوله (في مسجد النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي قياسا على حال حياته فإنه قد ورد أن واحدا من الصحابة دخل المسجد فجاء وسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له ارجع وصل ركعتين ثم سلم علي وفيه إيماء إلى تقديم الحرمة الربوبية على تعظيم الخدمة النبوية (وَأَحَبُّ مَوَاضِعِ التَّنَفُّلِ فِيهِ مُصَلَّى النَّبِيِّ حَيْثُ العمود المخلّق) بضم ميم وفتح خاء معجمة ولام مشددة مفتوحة أي المبخر أو المطلى بالخلوق بفتح أوله وهو نوع من الطيب المعبق (وأمّا في الفريضة فالتّقدّم إلى الصّفوف) أي أفضل للمأمومين وأما الإمام فلا شك أن مقامه أفضل مصلاه الأكمل (والتّنفّل فيه) أي في مصلاه بل في جميع مسجده أفضل (للغرباء) دون أهل المدينة لحديث ورد بذلك (أحبّ إليّ) وكذا إلى غيره (من التّنفّل في البيوت) ولعل وجهه أن لا مضاعفة في الصلاة في غير المسجد من مواضع المدينة بخلاف ذلك في مكة فإن الحرم كله تضاعف فيه الحسنة بمائة ألف فالنون في البيوت أفضل لهم ولو كانوا من الغرباء. فصل (فِيمَا يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم من الأدب) وفي نسخة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 الآداب (سوى ما قدّمناه) أي من أنواع الاستحباب (وفضله) أي فضل مسجده (وفضل الصّلاة فيه) أي وما يتعلق به (وفي مسجد مكّة) طردا للباب وما يتعلق به من بعض الأبواب (وذكر قبره ومنبره) أي وشرف ما بينهما وقدره (وفضل سكنى المدينة ومكّة) أي سكانهما ومجاوري مكانهما وقدم المدينة بناء على معتقد مالك ومن وافقه على ذلك (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة: 108] واختلف المفسرون في المراد به (روي أنّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ مَسْجِدٍ هُوَ قَالَ مسجدي هذا) رواه مسلم والترمذي وصححه والنسائي عن أبي سعيد وأحمد عن أبي بن كعب وسهل بن سعد وفي رواية لمسلم هو مسجدكم هذا مسجد المدينة فكان الأولى للمصنف أن يقول فقد ورد أو ثبت إذ روى بصيغة المجهول موضوعة للتمريض غالبا (وهو قول ابن المسيّب) بفتح الياء وكسرها وهو من أكابر التابعين فكان الأولى أن يؤخره عن قوله (وزيد بن ثابت وابن عمر) ثم يقول بعده (ومالك بن أنس وغيرهم) وأما ما ذكره الحلبي من أن اللائق تقديم ابن عمر على زيد بن ثابت فغير ثابت لأن زيدا من أكابر الصحابة وممن أخذ عنه ابن عباس وغيره وهو أجل كتبة الوحي وقد ورد في حقه أفرضكم زيد أي أعلمكم بالفرائض وهو إمام في علم القراءة والكتابة وغيرهما وابن عمر من صغار الصحابة والطبقة الثانية منهم رضي الله تعالى عنهم (وعن ابن عباس أنّه مسجد قباء) أي لأنه اسسه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصلى فيه أيام إقامته بها من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة وهو أوفق للقصة في سبب نزول الآية فقد روي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء سألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف فبنوا مسجدا فقالوا قد بنينا مسجدا لذي الحاجة والعلة فصل فيه حتى تتخذه مصلى فقال أنا على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه فلما رجع كرروا عليه فنزلت ويؤيده أنه روى البخاري في تاريخه وجماعة عن محمد بن عبد الله بن سلام أنه قاله لما أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المسجد الذي أسس على التقوى مسجد قباء قال إن الله تعالى قد أثنى عليكم في الطهور خيرا أفلا تخبروني فقالوا يا رسول الله إنا لنجد مكتوبا علينا في التوراة الاستنجاء بالماء ونحن نفعله اليوم كذا ذكره شيخ مشايخنا الحافظ السيوطي في الدر المنثور في التفسير المأثور ويقويه ما رواه الترمذي وأبو داود أن هذه الآية نزلت في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا وكذا ما رواه ابن ماجه أن هذه الآية لما نزلت فيه رجال قال عليه الصلاة والسلام واقفا على باب مسجد قباء يا معشر الأنصاري أن الله تعالى قد أثنى عليكم في الطهور فما طهوركم الحديث وعندي أن الجمع ممكن بأن يراد به جنس المسجد الذي أسس على التقوى وأن ما ذكر من الطهور لأهل قباء لا ينافي الحمل على أهل مسجده من الأنصار والله أعلم بحقائق الأخبار ودقائق الأسرار (حدّثنا هشام) وفي نسخة هاشم (بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا الحسين) بالتصغير والأصح كما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 نسخة الحسن (بن محمد الحافظ) أي حافظ عصره ومحدث دهره وهو الغساني (ثنا) أي قال حدثنا (أبو عمر النّمريّ) بفتح النون وكسر الميم وهو ابن عبد البر حافظ الغرب (حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا أبو بكر بن داسة حدثنا أبو داود) أي صاحب السنن (حدّثنا مسدّد) بفتح الدال الأولى مشددة (حدّثنا سفيان) أي ابن عيينة (عن الزّهريّ) وهو الإمام ابن شهاب (عن سعيد بن المسيّب) من قيل فيه أنه أفضل التابعين (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال لا تشدّ الرّحال) جمع راحلة وهي الصالحة لأن ترحل أو يشد الرحل عليها والرحل للبعير كالسراج للفرس والمعنيان يحتملان هنا وفي النهاية الراحلة من الرحيل البعير القوي على الاسفار والاحمال للذكر والأنثى والهاء للمبالغة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة والمعنى لا ينبغي أن تركب دابة لزيارة مسجد من المساجد (إلّا إلى ثلاثة مساجد) لفضلها على غيرها في كونها مشاهد (مسجد الحرام) بالجر يدل من الثلاثة وفي نسخة المسجد الحرام والمراد به المسجد الذي في بلد الله الحرام المحترم عند سائر الأنام وهو أفضلها كما يشير إليه تقديمه في هذا الحديث ومزيد المضاعفة فيها كما في أخبار كثيرة وآثار شهيرة (ومسجدي هذا) يعني مسجد المدينة احترازا من نحو مسجد قباء فلا يدل على حصر فضل مسجده على ما كان مشارا إليه في مشهده (والمسجد الأقصى) وهو الأبعد من المساجد بالنسبة إلى العرب وهو الذي بيت المقدس وهو مسجد كثير من الأنبياء وقد دخله عليه الصلاة والسلام وصلى فيه في ليلة الإسراء وقد أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وفيه تنبيه نبيه على أنه ينبغي للعاقل أن لا يشتغل إلا بما فيه صلاح دنيوي وفلاح أخروي ولما كان ما عدا المساجد الثلاثة متساوي المرتبة في الشرف والفضيلة وكان التنقل والارتحال لأجله عبثا من غير المنفعة نهى الشارع عنه لأن لا تشد خبر وقع نفيا وأراد به نهيا (وقد تقدّمت الآثار في الصلاة والسلام) ويروى التسليم (على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عند دخول المسجد) أي مطلق المساجد فبالأولى مراعاتها في أفضل المساجد (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما) الصواب ترك الياء في آخره كما بينا وجهه أولا (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا دخل المسجد) أي جنسه (قال أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم) أي ذاته (وسلطانه القديم من الشّيطان الرّجيم) رواه أبو داود (وقال مالك) أي فيما رواه البخاري والنسائي (سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه صوتا) أي عظيما (في المسجد) أي مسجد المدينة (فدعا بصاحبه) أي طلب صاحب الصوت (فقال ممّن أنت) يروى من أنت (قال رجل من ثقيف) أي من أهل الطائف (قال لو كنت من هاتين القريتين) أي مكة والمدينة أي لفعلت نكالا أو لعذبتك أو لعزرتك وفي نسخة صحيحة لأدبتك (إنّ مسجدنا) أي أهل المدينة خصوصا (لا يرفع فيه الصّوت) أي لما ورد من قوله تعالى لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وهو حي حاضر بعد مماته كما كان في حال حياته فيكون موجبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 لمراعاته وقد قال بعض علمائنا إن رفع الصوت في المساجد ولو بالذكر حرام لما يشوش على أهلها العبادة ويشغل خاطرهم عما تتعلق به الإرادة قال الدلجي وقد اتفق العلماء عليه بشهادة الحصر في حديث إنما بنيت المساجد للذكر والعبادة هذا وفي صحيح البخاري بسنده إلى السائب بن يزيد هو الكندي وله صحبة كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال اذهب فأتني بهذين فجئته بهما فقال ممن أنتما أو من أين أنتما قالا من أهل الطائف قال لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولعله سامحهما لكونهما قريبي العهد من الإيمان والإسلام وآدابهما أو لكونهما من الغرباء فأوجب مراعاة حالهما (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أن يعتمد) وفي نسخة صحيحة أن يتعمد أي يقصد (المسجد) أي فيه (برفع الصّوت ولا بشيء من الأذى) أي من دخوله فيه أو رميه من بصاق ونحوه (وأن ينزّه عمّا يكره) أي من بيعه وشرائه وحلاقة رأسه وقص ظفره وقتل قملة ونحوها فإن المساجد لم تبن لذلك وإنما بنيت لذكر الله ولما يناسب هنالك (قال القاضي) يعني المصنف (حَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ فِي مَبْسُوطِهِ) وهو الإمام شيخ الإسلام إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي مولاهم البصري ثم البغدادي المالكي الحافظ صاحب التصانيف ولد سنة ستع وتسعين ومائة وقرأ على قالون وتفقه وأخذ علم الحديث وقاله عن ابن المديني روى عنه جماعة وتفقه عليه طائفة قال الخطيب كان عالما متقنا فقيها شرح مذهب مالك واحتج له وصنف المسند وصنف في علوم القرآن وله كتاب أحكام القرآن لم يسبق إلى مثله وكتاب معاني القرآن وكتاب القراآت واستوطن بغداد وولى قضاءها إلى أن توفي وقال غيره صنف موطأ وصنف كتابا كبيرا نحو مائة جزء في الرد على محمد بن الحسن لم يتمه توفي إسماعيل فجأة في ذي الحجة سنة اثنين وثمانين ومائتين وروى النسائي في الكنى عن إبراهيم بن موسى عن إسماعيل القاضي عن ابن المديني والحاصل أنه ذكر فيه (فِي بَابِ فَضْلِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم والعلماء كلّهم متّفقون أنّ حكم سائر المساجد هذا الحكم) أقول لكن لا شبهة في تفاوت مراتب المساجد في هذا الحكم وغيره من المقاصد (قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ويكره في مسجد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الجهر) أي رفع الصوت (على المصلّين فيما يخلّط) بتشديد اللام المكسورة أي يلبس ويشبه (عليهم صلاتهم) أي من جهة قراآتهم وعدد ركعاتهم (وَلَيْسَ مِمَّا يُخَصُّ بِهِ الْمَسَاجِدُ رَفْعُ الصَّوْتِ) أي بالكلام فرفع الصوت مرفوع على أنه اسم ليس ومما يخص محله النصب على الخبر والمساجد مرفوع على أنه نائب الفاعل (قد كره) بصيغة المفعول أي كره جماعة (رفع الصّوت بالتّلبية) أي مع كونها ذكرا وسنة (في مساجد الجماعات إلّا المسجد الحرام ومسجد منى) أقول هذا الاستثناء إنما هو على مقتضى مذهبه ومختار مشربه وإلا الصحيح من مذهبنا أنه يكره رفع الصوت مطلقا في جميع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 المساجد لأنه لا فرق في العلة المانعة منه في كل المساجد وفي نسخة ومسجدنا قال الانطاكي كذا وقع في النسخ التي وقفت عليها والظاهر أنه تصحيف إنه لا معنى لإضافة المسجد إلى القائل هنا ولعل الصواب ومسجد منى فقد قال السروجي في شرح الهداية وقال مالك لا يرفع المحرم صوته بالتلبية في مساجد الجماعات لأنها لم تبن لها إلا في المسجد الحرام ومسجد منى قال وخالف الجماعة فيه وقد لبى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في مسجد ذي الحليفة دبر صلاته ورووا تلبيته صلى الله تعالى عليه وسلم ولو لم يرفع بها صوته لما حفظوها منه هذا لفظه بحروفه انتهى كلام الانطاكي وفيه أن تلبيته في مسجد ذي الحليفة ليس كسائر المساجد إذ هو ليس من مساجد الجماعات بل مسجد موضوع للاحرام وما يتعلق به من الصلاة والتلبية والحاصل أن مذهب الحنفية يستحب التلبية في المسجد الحرام ومنى وسائر المساجد التي في بقاع الحرم لأنها موضع النسك ولا يستحب إظهارها في مساجد الأمصار والحل لما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلا يلبي فقال إن هذا المجنون إنما التلبية إذا برزت كذا في الكافي أحكام المساجد للشافعية يستحب التلبية في المسجد الحرام وفي مسجد منى وإبراهيم بعرفات وفي استحبابه في سائر المساجد قولان الجديد الأصح أنه يستحب والقديم لا لئلا يشوش انتهى وقد علم بما ذكرنا أن الخلاف في رفع الصوت المشوش وأما أمر الإضافة فسهل إذا كان القائل مثلا في مسجد نمرة أن مسجد الخيف والله تعالى أعلم (وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه) أي فيما رواه الشيخان (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا) أي مسجد المدينة وقال النووي المضاعفة فيه مختصة بما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام وتحت نظره أصحابه الكرام (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا المسجد الحرام قال القاضي) يعني المصنف (اختلف النّاس) أي العلماء فإنهم هم الناس (في معنى هذا الاستثناء) يعني إلا المسجد الحرام هل يفيد الزيادة أو النقصان أو الأستواء (على اختلافهم) قال الدلجي أي مع احتلافهم والأظهر أن علي على بابها والمعنى اختلافا مبنيا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ (فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) أي كون أيتهما أفضل في حق المجاورة (فذهب مالك في رواية أشهب) أي ابن عبد العزيز (عنه) أي عن مالك (وقاله ابن نافع صاحبه) أي صاحب أشهب أو صاحب مالك (وجماعة أصحابه) كذا بالإضافة وفي نسخة وجماعة من أصحابه أي من أصحاب مالك عنه (إلى أنّ معنى الحديث) أي مراده ومقتضاه بحسب مبناه ومفهوم معناه (أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِدُونِ الألف) يعني فالاستثناء لبيان النقص في الجملة وسيأتي ما يرد هذه المقولة (واحتجوا بما روي) أي في مسند الحميدي (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صلاة فيما سواه) وفيه أنه يدل على أن صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 من مائة صلاة في مسجد المدينة لأنه داخل فيما سواه من غير ذكر استثناء في مبناه فلا يتم قوله تبعا لهم (فتأتي فضيلة مسجد الرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم بتسعمائة وعلى غيره بألف) وسيأتي ما يناقضه ويعارضه بما هو أصح في هذا الباب مما روي عن عمر بن الخطاب والله أعلم بالصواب (وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ) أقول بل تفضيل المدينة على مكة مبني على هذا إذ سبب تفضيل المكانين بموجب تشريف المسجدين وإلا فلا شك أن مكة لكونها من الحرم المحترم إجماعا أفضل من نفس المدينة ما عدا التربة السكينة فإنها أفضل من الكعبة بل من العرش على ما قاله جماعة على أنه لا فضيلة في العبادة بالمدينة خارج مسجدها لعدم تعلق المضاعفة في الحسنة بها بخلاف مكة وما حولها من الحرام المحترم والله تعالى أعلم والحاصل أنه إن ثبت افضلية مسجد المدينة يدل على أفضلية المجاورة بها لأن المقصود من السكون فيها إتيان العبادة بها (عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الخطّاب رضي الله تعالى عنه) وفيه أن روايته الحديث السابق ليس لها دلالة على مذهبه اللاحق (ومالك وأكثر المدنيّين) أي علماء أهل المدينة وفقهائهم من التابعين (وذهب أهل مكّة والكوفة) ومنهم أبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري وحماد وعلقمة وأصحاب الشافعي وغيرهم (إلى تفضيل مكّة) لحديث النسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه وصححه عن عبد الله بن الحمراء قال رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الحرورة فقال والله إنك لخير أرض الله إلى الله تعالى ولولا أني أخرجت منك ما خرجت (وهو قول عطاء) وهو من أكابر التابعين (وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وحكاه الساجيّ) بالسين المهملة والجيم محدث البصرة وعنه أخذ الأشعري مقالة أهل الحديث وله كتاب جليل في علل الحديث ذكره الشيخ أبو إسحاق في طبقاته فقال أخذ عن الربيع والمزني وصنف كتاب اختلاف الفقهاء وكتاب علل الحديث وتوفي بالبصرة سنة سبع وثلاثمائة ذكره في الميزان وقال أحد الأثبات ما علمت فيه جرحا أصلا وقال أبو الحسن بن القطان مختلف فيه في الحديث وثقه قوم وضعفه آخرون (عن الشّافعيّ) أي نصا في هذا الباب (وحملوا الاستثناء في الحديث المتقدّم) أي عن أبي هريرة برواية الشيخين (على ظاهره) أي للزيادة (وأنّ الصّلاة في المسجد الحرام أفضل) أي منها في مسجده عليه الصلاة والسلام (واحتجّوا) أي لتفضيل مكة على المدينة (بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام (وفيه) أي وزيد في حديث ابن الزبير (وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ في مسجدي هذا بمائة صلاة) فهذا منطوق وقع صريحا فلا يعارضه مفهوم ولو كان صحيحا والحديث هذا مما ثبت في مسند أحمد بن محمد بن حنبل وغيره من حديث عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 إلا المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا وقال النووي في شرح مسلم هذا حديث حسن رواه أحمد بن حنبل في مسنده والبيهقي وغيرهما بإسناد حسن انتهى وقد رواه ابن حبان في صحيحه هذا وقال الدلجي في قوله بمائة صلاة أسقط منه المضاف إلى صلاة أي بمائة ألف صلاة إذ قد ورد كذلك عند أحمد وابن ماجه عن جابر بإسنادين صحيحين بلفظ صلاة في مسجدي أفضل مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه فحديث ابن الزبير هذا روى أبو هريرة صدره وعمر آخره (وروى قتادة مثله) وفي نسخة وروي عن قتادة مثله أي مثل حديث ابن الزبير (فَيَأْتِي فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى هذا) أي القول المحتج المجتمع له بحديث ابن الزبير (على الصّلاة في سائر المساجد) أي ولو مسجد المدينة (بمائة ألف) قال الحجازي يروى بمائة وألف أقول الظاهر أنه تصحيف في المبنى وتحريف في المعنى ثم اعلم إن العلماء صرحوا بأن هذه المضاعفة فيما يرجع إلى الثواب فثواب صلاة فيه يزيد على ثواب مائة ألف فيما سواه ولا يتعدى ذلك إلى الأجزاء عن الفوائت حتى لو كان عليه صلاتان فصلى في مسجد المدينة أو المسجد الحرام أو المسجد الأقصي صلاة لم تجزئه عنهما وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء خلافا لما يغتر به بعض الجهلاء (ولا خلاف) أي بين علماء الامصار (أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض) أي بشرف قدره وكرامه عند ربه (قال القاضي أبو الوليد الباجيّ) بالموحدة والجيم (لّذي يقتضيه الحديث) أي الوارد في فضل المسجدين (مخالفة حكم مسجد مكّة لسائر المساجد) ومن جملتها مسجده عليه الصلاة والسلام بدليل حمل الاستثناء في حديث أبي هريرة على ظاهره وحديث عمر رضي الله تعالى عَنْهُ صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مائة صلاة فيما سواه (ولا يعلم منه) أي من الحديث المذكور (حكمها) أي حكم مكة (مع المدينة) أي في أيتهما أفضل من الأخرى إلا أنه يدل على أن المجاورة بمكة والمداومة في مسجدها بالجماعة أفضل من المجاورة بالمدينة لما يترتب عليها من مزيد المضاعفة إلا أن حديث حسنات الحرم بمائة ألف إن ثبت صريح في أن نفس مكة أفضل من نفس المدينة ما عدا البقعة السكينة ومما يدل عليه أيضا ما تقدم من حديث ابن الحمراء فإنه حديث صحيح ودلالته على المدعي صريح (وذهب الطّحاويّ) وهو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة العالم المشهور في المذهب الحنفي (إلى أنّ هذا التّفصيل) أي في المسجدين (إنّما هو في صلاة الفرض) أي لأن النافلة في البيوت أفضل (وذهب مطرّف) بضم ميم وكسر راء مشددة وهو اليساري المدني مولى ميمونة يروي عن خاله مالك ونافع القارىء وعنه البخاري وأبو زرعة (من أصحابنا) أي المالكية (إلى أنّ ذلك) أي التفضيل الوارد في الصلاة فيهما (في النّافلة أيضا) أي منضمة إلى الفريضة أخذا بظاهر عموم الحديث وكذا قاله أيضا أصحاب الشافعي على ما نقله الحلبي (قال) أي الطحاوي أو مطرف في تفضيل الصلاة والصوم فيهما (وجمعة خير من جمعة) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 في غيرهما بما سبق في فضلهما (ورمضان خير من رمضان) أي كذلك (وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْضِيلِ رَمَضَانَ بالمدينة وغيرها) أي من البلاد والظاهر على غيرها (حديثا نحوه) أي نحو ما ذكر قبله رواه الطبراني عن بلال بن الحارث خير من رمضان وجمعة بها خير من جمعة بحذف المفضل عليه للعموم كذا ذكره الدلجي وفي الجامع الصغير رمضان بالمدينة رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان رواه الطبراني والضياء عن بلال بن الحارث المزني وورد رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة رواه البزار عن ابن عمر (وقال عليه الصلاة والسلام مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجنّة) رواه أحمد والشيخان والنسائي عن عبد الله بن زيد المازني والترمذي عن أبي هريرة (ومثله) أي مثل هذا اللفظ (عن أبي هريرة وأبي سعيد) أي في الموطأ (وزادا) وفي نسخة صحيحة زاد أي أبو سعيد الخدري (منبري على حوضي) أي حقيقة أو مجازا كما سيأتي (وفي حديث آخر) وقد سبق مخرجه (ومنبري على ترعة من ترع الجنّة) بضم الفوقية وسكون الراء وقد تقدم معناها (قال الطّبريّ) الظاهر أنه محمد بن جرير (فيه) أي في الحديث الأول (مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ بَيْتٌ سُكْنَاهُ) أي مع عائشة في مبيته ومثواه (على الظّاهر) أي المتبادر من المعنى اللغوي للبيت (مع أنّه روي ما يبيّنه) أي هذا المعنى وهو قوله (بين حجرتي ومنبري والثّاني) أي ثانيهما (أنّ البيت هنا القبر) أي باعتبار مآله (وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذَا الحديث كما روي) أي في بعض الروايات (بين قبري ومنبري، قال الطّبريّ) أي جمعا بين الروايات (وإذا كان قبره في بيته) أي في آخر أمره (اتَّفَقَتْ مَعَانِي الرِّوَايَاتِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا خِلَافٌ) في مباني الاعتبارات (لأنّ قبره في حجرته وهو) أي حجرته وذكره لتذكير خبره وهو (بيته، وقوله) أي في الحديث الآخر (ومنبري على حوضي قيل يحتمل أه منبره) أي موضعه (بِعَيْنِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ أَظْهَرُ) أي من غيره من الأقوال وذلك بأن تنقل تلك البقعة بعينها إلى أرض الآخرة فيقع من بقع أرض الحوض فيها (والثّاني أن يكون له هناك منبر) أي عند الكوثر (وَالثَّالِثُ أَنَّ قَصْدَ مِنْبَرِهِ وَالْحُضُورَ عِنْدَهُ لِمُلَازِمَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يُورِدُ الْحَوْضَ وَيُوجِبُ الشُّرْبَ مِنْهُ قَالَهُ الْبَاجِيُّ، وَقَوْلُهُ: رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ يحتمل معنيين أحدهما أنّه) أي أيضا (موجب لذلك) أي لما سبق هنالك كما بينه بقوله (وأنّ الدّعاء والصّلاة فيه) أي فيما بين بيته ومنبره (يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ كَمَا قِيلَ: الْجَنَّةُ تحت ظلال السّيوف) كان حقه أن يقول كما روي فإنه حديث رواه الحاكم في مستدركه عن أبي موسى وفي معناه الجنة تحت أقدام الأمهات رواه القضاعي والخطيب في الجامع عن أنس رضي الله تعالى عنه (وَالثَّانِي أَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ قَدْ يَنْقُلُهَا اللَّهُ فتكون في الجنّة بعينها، قاله الدّاوديّ) قيل هو الذي شرح البخاري (وروى ابن عمر) أي كما رواه مسلم (وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم قال في المدينة) أي في فضلها (لا يصبر على لأوائها) بفتح اللام وسكون الهمزة والمد أي ضيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 المدينة وعنائها (وشدّتها) أي شدة بلائها (أحد إلّا كنت له شهيدا) مبالغة شاهد أي أشهد له بما أعلم من صبره عليها (أو شفيعا) مبالغة شافع أي واشفع له (يوم القيامة) واو ههنا ليست للشك لأنه رواه جابر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيدة وهي تابعية على الصحيح فحديثها مرسل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا اللفظ ويبعد اتفاقهم على الشك وكذا يستحيل اتفاق رواتهم على الشك فأوهنا بمعنى الواو أو للتقسيم كما صرح به النووي فيكون شهيدا لبعض شفيعا لباقيهم أو شهيدا لمطيعهم شفيعا لمذنبهم أو شهيدا لمن مات في حياته شفيعا لمن عاش بعد موته وهذه خصوصية زائدة على شهادته في القيامة على جميع الأمم أو على أصفياء هذه الأمة وزائدة على شفاعته الكبرى للخلق أجمعين والصغرى للمذنبين وقد رود شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم في قتلى أحد أنا شهيد على هؤلاء أي شهادة خاصة توجب مزيد الرفعة والعلاء والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام له شهادات متكاثرة وشفاعات متظاهرة في مواقف الآخرة (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فيمن تحمّل) أي رفع حمله وأمتعته ونقلها (عن المدينة) وتحول عنها إلى غيرها (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) رواه الشيخان عن سفيان بن أبي زهير والمعنى لو علموا خيريتها لما فارقوها أو لو كانوا من أهل العلم لعلموا خيريتها ولصبروا على بليتها (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه الشيخان عن جابر (إنّما المدينة كالكير) بكسر الكاف وهو كير الحداد وهو المبني من الطين أو هو الزق الذي ينفخ به النار والمبنى الكور قاله ابن الأثير (تنفي) أي المدينة (خبثها) بفتحتين أو بضم فسكون وهو منصوب على المفعولية (وينصع) بنون ساكنة فصاد مفتوحة فعين مهملة أي ويخلص وقيل يبقى ويذر (طيبها) بفتح طاء مهملة وتحتية مشددة مكسورة أو بكسر فسكون وهو مرفوع على أنه فاعل ولو روي تنصح بالتأنيث وطيبها بالنصب لكان وجها وجيها قيل هذا القول صدر عنه عليه الصلاة والسلام على وجه التمثيل فجعل المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد والبلاء وقحط والغلاء كمثل الكير يتميز به الخبيث من الطيب فيذهب الوسخ ويبقى نحو الذهب أزكى ما كان وأخلص وقد روي في سبب ورود الحديث أن أعرابيا بايع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأصاب الأعرابي حمى بالمدينة فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال يا محمد أقلني بيعتي فأبى ثم جاء فقال أقلني بيعتي فأبى فخرج الأعرابي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحديث وعن عمر بن عبد العزيز لما خرج من المدينة التفت إليها وبكى ثم قال نخشى أن نكون ممن نفته المدينة (وقال) أي في حديث آخر رواه مسلم عن جابر (لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْهَا) أي للزاهد فيها والإعراض عنها وعدم الميل إليها (إلّا أبدلها الله خيرا منه) أي راغبا في سكناها صابرا على بلواها (وروي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم) كما في سنن البيهقي والدارقطني عن عائشة بسند ضعيف (مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 حاجّا أو معتمرا) أي قاصدا لأحداهما وهو أعم من قول الدلجي حال كونه محرما بهما (بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ ولا عذاب وفي طريق آخر) للبيهقي في الشعب عن عمر والطبراني عن جابر وسلمان (بعث من الآمنين يوم القيامة) وفي الجامع الكبير من مات في أحد الحرمين استوجب شفاعتي وكان يوم القيامة من الآمنين رواه الطبراني والبيهقي وضعفه عن سلمان (وعن ابن عمر) أي مرفوعا رواه الترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان (مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا) تحريض على لزومه لها وإقامته بها ليتأتى له أن يموت فيها إطلاقا للمسبب على سببه كما في قوله تعالى وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (فإنّي أشفع لمن يموت بها) أي قبل أن أشفع لمن مات في غيرها قال التلمساني وروي فإنها تشفع وقد أجمعوا على أن الموت بالمدينة أفضل مما عداها وقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه اللهم ارزقني شهادة في سبيلك وموتا في بلد رسولك وقد استجاب الله تعالى دعاء وجمع له بين ما تمناه وقال الله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي جعله الله تعالى معبدا لهم وقبلة يعبدونه فيها ويستقبلون ويتوجهون في عباداتهم إليها (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) وهي لغة في مكة من بكه إذا دقه لأنها تدق أعناق الجبابرة أو لأن الناس يزاحم بعضهم بعضا في الطواف وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال المسجد الحرام ثم بيت المقدس فقيل كم بينهما فقال أربعون سنة (إلى قوله آمَنَّا) [آل عمران: 96] تمامه مباركا أي كثير النفع خصوصا لمن حجه أو اعتمره وطاف حوله وشاهد حاله وهدى للعالمين أي مرشدا لهم لأنه قبلتهم ومتعبدهم فيه آيات بينات أي علامات واضحات على قدرته سبحانه وتعالى وعزته وعظم شأنه مقام إبراهيم أي منها مكان قيامه وأثر قدم من إقدامه في حجر صلد قام عليه لرفع الحجارة في البناء أو حين أذن بالنداء ومن دخله أي البيت أو حرمه كان آمنا من التعرض في الدنيا ومن العذاب في العقبى وأما ما يتوهمه بعض العوام من إرجاع الضمير إلى المقام فلا يصح في المرام لأنه لا يتصور الدخول في حقيقة المقام والمعنى حوله من حوادث الأيام (قال بعض المفسرين آمنا من النّار) ويدل عليه حديث يبعث الله من هذا الحرم سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر وحديث الحجون والبقيع مقبرتا مكة والمدينة يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وقيل مبناه خبر ومعناه أمر أي آمنوه ولا تتعرضوا له وهذا توجيه قوله (وقيل كان) وفي نسخة بل كان (يأمن من الطلب) أي طلب الثار (من أحدث حدثا) أي جنى جناية من قتل نفس أو قطع جارحة (خارجا عن الحرم ولجأ) بالهمز أي التجأ وعاذ وأما قول التلمساني وروى أو لجأ بالتنويع فلا يصح في مقام التفريع (إليه في الجاهليّة) وكذا في الأحكام الإسلامية على مقتضى قواعد علمائنا الحنفية فإنه لا يتعرض إليه ما دام في الحرم المحترم إلا أنه لا يؤوي ولا يطعم ولا يسقى حتى يضطر إلى الخروج فإذا خرج منه ولعل عادة الجاهلية كانت على الإطلاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وأما في الإسلام فمن أحدث حدثا في الحرم ولو دخل الكعبة يخرج منها ويقتص منه بالاتفاق (وهذا) أي قوله تعالى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً (مثل قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) أي الكعبة وما حولها من أرض الحرم (مَثابَةً لِلنَّاسِ) أي مرجعا لهم أو مكان مثوبة لهم (وَأَمْناً) [البقرة: 125] (على قول بعضهم) أي من العلماء الحنفية على ما قدمنا عنهم أو معناه يأمن من حجه أو اعتمره أو دخله من عذاب الآخرة أو موضع آمن لا يتعرض لأهله كقوله سبحانه وتعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ويتخطف الناس من حولهم (وحكي أنّ قوما أتوا سعدون) بفتح السين وسكون العين وضم الدال والقياس صرف سعدون وحمدون ولكنهما وقعا غير مصروفين في كتب الحديث من الأصول المعتمدة (الخولانيّ) بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو فنون قبل ياء النسبة (بالمنستير) بضم ميم وفتح نون ويكسر وسكون سين مهملة وفوقية مكسورة وتحتية ساكنة فراء مكان بالقيروان (فأعلموه أنّ كتامة) بضم الكاف ففوقية قبيلة من البربر (قتلوا رجلا وأضرموا) بالضاد المعجمة أي اشعلوا وأوقدوا (عليه النّار طول اللّيل فلم تعمل) أي لم تؤثر (فيه) أي شيئا كما في نسخة (وبقي) أي الرجل (أبيض اللون) أي زيادة على ما كان عليه أو تبدل سواده بياضا وهو الأظهر وفي نسخة أبيض البدن (فقال) أي سعدون (لعلّه) أي المقتول (حجّ ثلاث حجج) أي مقبولة وهي بكسر الحاء وفتح الجيم الأولى جمع حجة بفتح الحاء وكسرها (قالوا نعم) أي حج ثلاث حجج (قال حدّثت أنّ من حجّ حجّة) أي واحدة (أدّى فرضه) أي إن أقام بشرائطه وأركانه (ومن حجّ ثانية داين ربّه) أي أقرضه قرضا وفي أصل الدلجي دان ربه أي أطاعه وعبده والظاهر أنه تصحيف لما في نسخة من زيادة فينادي غدا ملك من عند الله من كان له عند الله دين فليقم (وَمَنْ حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ حَرَّمَ اللَّهُ شَعْرَهُ وبشره) أي ظاهر جلده من باهر جسده (على النّار) أي في الدنيا والآخرة (ولمّا نظر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الكعبة) أي يوم الفتح أو وقت هجرته إلى المدينة أو في حجة الوداع (قال مرحبا بك) يحتمل التأنيث والتذكير أي سهلا فضلا (من بيت ما أعظمك وأعظم حرمتك) أي قدرا رواه الطبراني في الأوسط عن جابر (وفي الحديث عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو اللَّهَ تعالى عند الرّكن الأسود) هو حيث فيه الحجر الأسود وفي الترمذي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم قال الترمذي حسن صحيح وقال المحب الطبري وقد اعترض بعض الملاحدة فقال كيف يسود الحجر خطايا أهل الشرك والكفران ولا يبيضه توحيد أهل المعرفة والإيمان وأجيب بأن بقاءه أسود إنما كان للاعتبار ليعلم أن الخطايا إذا أثرت في الحجر فتأثيرها في القلوب أعظم وأكثر وللحجر الأسود آيات بينات منها أنه يطفو على الماء ومنها أنه لا يسخن بالنار ومنها حفظ الله تعالى له من الضياع منذ اهبط إلى الأرض مع ما وقع من الأمور المقتضية لذهابه كالطوفان ومنها أنه يقال هلك تحته ثلاثمائة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 بعير والله تعالى أعلم (إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمِيزَابِ) لا يعرف مخرجه إلا إنا قد روينا في رسالة الحسن البصري إلى أهل مكة أن الدعاء يستجاب في حرمها وعند البيت والركن الأسود والملتزم وتحت الميزاب وهو الذي يقال له ميزاب الرحمة قال الحسن البصري وسمعت أن عثمان بن عفان أقبل ذات يوم فقال لأصحابه ألا تسألونني من أين جئت قالوا من أين جئت يا أمير المؤمنين قال ما زلت قائما على باب الجنة وكان رضي الله تعالى عنه قائما تحت الميزاب يدعو الله تعالى وذكر الأزرقي في تاريخه عن عطاء قال من قام تحت ميزاب الكعبة فدعا استجيب له وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه (وعنه عليه الصلاة والسلام مَنْ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَحُشِرَ يوم القيامة من الآمنين) رواه الديلمي وابن النجار ولفظهما من طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وشرب من ماء زمزم غفر الله ذنوبه كلها بالغة ما بلغت لكن قال السخاوي لا يصح وقد ولع به العامة كثيرا لا سيما بمكة حيث كتب على بعض جدرها الملاصق لزمزم وتعلقوا في ثبوته بمنام وشبهه مما لا يثبت الأحاديث النبوية بمثله وقد ذكره المنوفي في مختصره وقال فيه أنه باطل لا أصل له والله تعالى أعلم ثم على تقدير ضحته فهو محمول على تكفير الصغائر لقوله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ (قال الفقيه القاضي أبو الفضل) يعني المصنف (قرأت على القاضي الحافظ أبي عليّ رحمه الله) هو ابن سكرة (حدّثك) وفي نسخة حدثنا (أبو العباس العذريّ) بضم العين وسكون الذال المعجمة (قال ثنا) أي حَدَّثَنَا (أَبُو أُسَامَةَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ محمد الهرويّ) بفتح الهاء والراء منسوب إلى هراة بكسر أولها مدينة عظيمة بخراسان (حدّثنا الحسن بن رشيق) بفتح الراء وكسر الشين المعجمة هو اليشكري مصري مشهور عالي السند لين الحفظ وثقه جماعة وانكر عليه الدارقطني أنه كان يصلح في أصله ويغيره (سمعت أبا الحسن) وفي نسخة أبا الحسين (محمد بن الحسن بن راشد) أي الأنصاري يروي عن وراق الحميدي (سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ سَمِعْتُ الحميديّ) بالتصغير وهو القرشي المكي الفقيه الإمام أحد الأعلام وهو من أصحاب الشافعي مات بمكة سنة تسع عشرة ومائتين وهو أول رجل أخرج له البخاري في صحيحه (قَالَ سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يقول سمعت رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَا دَعَا أَحَدٌ بِشَيْءٍ في هذا الملتزم) بضم الميم وفتح الزاء وهو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة قال الأزرقي ذرعه أربعة أذاع سمي بذلك لأن الناس يلتزمونه في الدعاء ويقال له المدعي والمتعوذ بفتح الواو (إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَا فما دعوت الله شيء في هذا الملتزم منذ) ويروى مذ هنا وما بعده (سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي، وَقَالَ عَمْرُو بن دينار) أي الراوي عن ابن عباس (وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ فِي هذا الملتزم منذ سمعت هذا من ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي، وَقَالَ سُفْيَانُ) أي ابن عيينة الراوي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 عن عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ (وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا من عمرو) أي ابن دينار (إلّا استجيب لي، قال الحميديّ) وهو الراوي عن ابن عيينة (وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الملتزم منذ سمعت هذا من سفيان) أي ابن عيينة (إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي؛ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ) يعني الراوي عن الْحُمَيْدِيُّ (وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنَ الْحُمَيْدِيِّ إلّا استجيب لي؛ وقال أبو الحسن) وفي نسخة أبو الحسين (محمد بن الحسن) وهو الراوي عن ابن إِدْرِيسَ (وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي؛ قَالَ أَبُو أسامة وما أذكر الحسن بن رشيق) يعني شيخه (قال فيه شيئا) أي مثل ما سبق عن بقية مشايخ السلسلة وعلى هذا فالمسلسل هنا منقطع (وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنَ الْحَسَنِ بْنِ رَشِيقٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا) أي مما طلبته (وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُسْتَجَابَ لِي مِنْ أَمْرِ الآخرة) أي مما دعوته (قال العذريّ) أي الراوي عن أبي أسامة (وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ أَبِي أُسَامَةَ إلّا استجيب لي قال أبو عليّ) وهو تلميذ العذري وشيخ المصنف (وَأَنَا فَقَدَ دَعَوْتُ اللَّهَ فِيهِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ استجيب لي بعضها وأنا أرجو من سعة فضله) بكسر السين وفتحها أي واسع كرمه (أن يستجيب لي بقيّتها) والأحاديث المسلسلة قلّ أن تكون متصلة وندر أن تكون صحيحة هذا وقد ذكر شيخ مشايخنا أبو الخير محمد بن الجزري في الحصن الحصين أنا قد روينا في استجابة الدعاء في الملتزم حديثا مسلسلا من طريق أهل مكة كذا ذكره مجملا من غير أن يبينه مفصلا وقد روى سعيد بن منصور والبيهقي في سننهما من طريق أبي الزبير عن ابن عباس الملتزم بين الركن والباب لا يسئل الله تعالى أحد فيه شيئا إلا أعطاه قال أبو الزبير وقد دعوت الله مرة هناك فاستجاب لي (قال القاضي أبو الفضل) لعله يعني المصنف نفسه (ذكرنا) وفي نسخة وقد ذكرنا (نبذا) بضم النون وفتح الموحدة فذال معجمة أي قدرا يسيرا (من هذه النّكت) بضم ففتح جمع النكتة وهي النقطة والمراد بها الفوائد بها الفوائد اللطيفة والعوائد المنيفة (في هذا الفصل) أي عظيم الفضل (وإن لم تكن) أي النبذ أو النكت (من الباب) أي باعتبار الأصل وإنما ذكرناها في أثناء الوصل (لِتَعَلُّقِهَا بِالْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ حِرْصًا عَلَى تَمَامِ الفائدة) أي وغاية منفعته (والله الموفّق للصّواب برحمته) وكرمه ولطفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 الْقِسْمُ الثَّالِثُ [فِيمَا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وما يستحيل في حقه وما يمتنع] (فيما يجب للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي يثبت له ولا بد له من وقوعه (وَمَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِ وما يمتنع) أي مع إمكان وجوده (أَوْ يَصِحُّ مِنَ الْأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يُضَافَ إليه قال تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ أي من جملة الرسل لا من الملائكة الذين لا يموتون إلا عند النفخة الأولى (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي مضوا وانقرضوا أو بعضهم ماتوا وبعضهم قتلوا واستمر دينهم في أممهم وسيخلو محمد كمن قبله (أَفَإِنْ ماتَ) أي محمد (أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران: 144] وهمزة الإنكار التوبيخي منصبة على الانقلاب وفي الآية الإيماء إلى موت الناس حتى الأنبياء وتمام الآية من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وإنما يضر نفسه حيث يجحد ربه وسيجزي الله الشاكرين أي الثابتين على دينهم والصابرين على يقينهم كأنس بن النضر عم أنس بن مالك فإنه لما قيل له في أحد إلا أن محمدا قد قتل يا قوم إن كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قتل فإن ربه حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعده قاتلوا على ما قاتل عليه ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقولون وأبرأ منه ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل (وقال) أي الله سبحانه (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي لا ألوهية لها ولا نبوة وإنما هي كثيرة الصدق والتصديق بالحق (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة: 75] وهو مما ينافي الربوبية ولذا قيل هو كناية عن يبولان ويغوطان فهما محتاجان إلى الله أولا ومفتقران إلى دفعه ثانيا (وقال (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) أي أحدا (مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ) أي أن شأنهم (لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الْفَرْقَانِ: 20] (وَقَالَ تعالى قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي لا أدعي أني ملك وإنما أتميز عنكم بأني (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فمحمّد صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر الأنبياء) أي وباقيهم عليهم السلام (من البشر) أي من جنس بني آدم وهو أبو البشر وسموا بشرا لظهور جلودهم إذ البشرة ظاهر الجلد (أرسلوا إلى البشر) أي من نوعهم (ولولا ذلك) أي التناسب بأن كان أرسل إليهم الملائكة (لما أطلق النّاس مقاومتهم) أي لما استطاعوا مقابلتهم وملابستهم لضعف البنية البشرية وقوة القدرة الملكية فقد ورد أن جبريل قلع قرى قوم لوط من أصولها على جناحه ثم قلبها أي جعل عاليها سافلها وصاح بثمود صيحة فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ورأى إبليس يكلم عيسى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 على عقبة بالأرض المقدسة فنفخه بجناحه نفخة فألقاه على أقصى جبل بالهند (والقبول) أي ولما أطاقوا قبول الأحكام وأخذ الإسلام (عنهم) أي في تبليغهم ما أرسلوا به إليهم إذ الجنسية علة الضم قال الحجازي ويروى عليهم أقول الظاهر إنه تصحيف (ومخاطبتهم) أي ولما أطاقوا حال مكالمتهم لهم ومخالطتهم معهم (قال الله تعالى) أي في جواب جمع اقترحوا وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي الرسول الذي اقترحوه (مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا) [الأنعام: 9] أي لأرسلناه في صورة رجل وهذا معنى قوله (أَيْ لَمَا كَانَ إِلَّا فِي صُورَةِ الْبَشَرِ الّذي) أفرد نظرا إلى لفظ البشر وفي نسخة الذين نظرا إلى معناه (يمكنكم) يروى يمكنكم (مخالطتهم) كما كان جبرائيل يصور له عليه السلام في صورة دحية وغيره وفي نسخة خالطتهم (إذ لا تطيقون) أي جنس البشر (مُقَاوَمَةَ الْمَلَكِ وَمُخَاطَبَتَهُ وَرُؤْيَتَهُ إِذَا كَانَ عَلَى صورته) أي وهو على حقيقة ذاته إلا نادرا على وجه خرق العادة كما وقع لنبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنه رأى جبريل في صورته الأصلية مرتين وتتمة جواب المقترحين وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ أي ولو جعلناه في صورة رجل لخطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فإنهم إذا رأوه في صورته قالوا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فيكذبونه كما كذبوا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (وقال) أي الله تعالى لنبيه (قالُوا) أي جوابا لقولهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا انكارا منهم أن يرسل الله بشرا وإقرارا بأن يصلح أن يكون الإله حجرا (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي ظاهرين كما يمشي بنو آدم فيها ساكنين (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا أَيْ لَا يُمْكِنُ فِي سُنَّةِ اللَّهِ إِرْسَالُ الملك إلّا لمن هو من جنسه) أي لتمكنه من مخالطته وتلقنه من مخاطبته (أو من خصّه الله تعالى واصطفاه) أي بأن صفى مرآة روحه (وقوّاه على مقاومته) أي مقابلة الملك ومواجهته (كالأنبياء والرّسل) فيقومون بدعوة الخلق إلى طريق الحق وكأن المصنف ذهب في الفرق بين النبي والرسول إلى ما قاله بعضهم إن الرسول صاحب كتاب وشريعة مجددة والنبي بخلافه (فَالْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تعالى) أي بواسطة ملائكته (وبين خلقه) أي المأمورين بطاعته وعبادته (يبلّغونهم أوامره) أي ليمتثلوها (ونواهيه) ليجتنبوها (ووعده) أي على طاعتهم (ووعيده) أي على معصيتهم (ويعرّفونهم بما لم يعلموه من أمره) أي من أمر ذاته وصفاته وأفعاله في مصنوعاته وقضائه من إيجاد وإمداد وإفناء وإبقاء وغفران ذنب وتفريج كرب ورفع قوم ووضع آخرين (وخلقه) أي وما لم يعلموه من أحوال خلقه ابتداء وانتهاء (وجلاله) وأي من بيان عظمته وهيبته وجماله من رأفته ورحمته وكماله من عنايته ورعايته (وسلطانه) أي علو شأنه وظهور برهانه (وجبروته) أي قهره وقدرته (وملكوته) أي عزته وغلبته وحاصل الكل بيان تصرفه في ملكه ومملكته لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه (فظواهرهم) أي الأنبياء (وأجسادهم وبنيتهم) أي أبدانهم المركبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 من أشباحهم وأرواحهم أو الممتزجة من العناصر الأربعة بالوجه المعتبر (متّصفة بأوصاف البشر طارىء عليها) أي هو جار وهو من طرأ مهموز الفاء (ما يطرأ على البشر من الأعراض) أي العوارض في الأجسام (والأسقام) كسائر الأنام (والموت والفناء) أي ولعله عطف تفسير وإلا فالفناء لا يطرأ على مطلق الأرواح وأما الأشباح فقد ورد أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء (ونعوت الإنسانيّة) وفي نسخة الآدمية أي من القوى الشهوية والغضبية (وأرواحهم وبواطنهم متّصفة بأعلى) أي بأوصاف أعلى (من أوصاف البشر متعلّقة بالملاء الأعلى) بل متوجهة بالكلية إلى المولى وهو الأولى (متشبّهة) يروى مشبه (بصفات الملائكة) أي في دوام الذكر والحضور من غير السآمة والفتور وفي القوة على الطاعة والعبادة من غير الملامة ففي البخاري أنه أعطي قوة ثلاثين رجلا (سليمة من التّغيّر) أي تغير العقل المورث لتغير النقل (والآفات) أي المنافية لأرباب النبوات وأصحاب الفتوات (لا يلحقها) أي أرواحهم وأشباحهم (غالبا عجز البشريّة ولا ضعف الإنسانيّة) بفتح الضاد وضمها أي فتورها وقصورها فهم أتم أفعالا وأصدق أقوالا وأكمل أحوالا إلا أنهم قد يغشاهم فترة لطبيعتهم على نعت العلة لكن لا تخرجهم عن كمال القوة وعلو المهمة (إذ لو كانت بواطنهم) أي أسرارهم العلية (خالصة للبشريّة) أي من دواعيها (كظواهرهم) أي من لزوم مراعيها (لما أطاقوا الأخذ) أي أخذ العلم وتلقي الوحي (عن الملائكة ورؤيتهم) بالنصب أي ولا أطاقوا ملاقاتهم (ومخاطبتهم) أي مكالمتهم (ومخالّتهم) بتشديد اللام أي مخالطتهم كما في نسخة مخاللتهم بالفك وهي موادتهم ومصاحبتهم (كما لا يطيقه) أي ما ذكر من الأخذ وما بعده (غيرهم) أي غير من الأنبياء (من البشر) أي ولو كانوا من الأولياء (ولو كانت أجسامهم) أي أجسادهم كما في نسخة (وظواهرهم) أي أبشارهم (متّسمة) أي متصفة (بِنُعُوتِ الْمَلَائِكَةِ وَبِخِلَافِ صِفَاتِ الْبَشَرِ لَمَا أَطَاقَ البشر) أي من غيرهم (ومن أرسلوا) بصيغة المجهول (إليه) أي من أممهم (مخالطتهم) وفي نسخة مخاطبتهم أي الأخذ منهم والانتفاع بأمرهم ونهيهم (كما تقدّم) أي مما يدل على هذا (من قول الله تعالى) أي ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (فجعلوا) بصيغة المجهول أي خلقوا متوسطين بين الأرواح الملكية والأشباح البشرية جامعين بين الأنوار الباطنية والأسرار الظاهرية فجبلوا (من جهة الأجسام والظّواهر مع البشر) أي متشاركين (ومن جهة الأرواح والبواطن مع الملائكة) أي متناسبين (كما قال عليه الصلاة والسلام) أي فيما رواه البخاري وغيره (لو كنت متّخذا من أمّتي خليلا) أي حبيبا تتخلل محبته خلال قلبي (لا تخذت أبا بكر خليلا) إلا أن هذه المحبة الخالصة لقلبي مختصة بمودة ربي كما يشير إليه ما روي عنه عليه الصلاة والسلام لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل والتحقيق أن المراد بالنبي المرسل ذاته الأكمل فإنه في مقام جمع الجمع يفنى عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 ذاته ومقاماته ويستغرق في مشاهدة ذات الله تعالى وصفاته (ولكن أخوّة الإسلام) أي حاصلة بيننا بنعت الدوام ووصف التمام (لكن صاحبكم) يعني نفسه الأنفس (خليل الرّحمن) لتخلل حبه في قلبه بحيث لا يسع فيه غير ربه (وكما قال) أي فيما رواه ابن سعد عن الحسن مرسلا (تنام عيناي ولا ينام قلبي وقال) أي فيما رواه الشيخان عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس وعائشة جوابا لقولهم إنك تواصل فكيف تنهانا (إنّي لست كهيئتكم) أي على صفتكم وماهيتكم (إنّي أظلّ) بفتح الظاء المعجمة وتشديد اللام أي أصير أو أداوم نهارا (يطعمني ربّي ويسقيني) محلهما النصب على الخبرية لأظل إن كانت ناقصة أو على الحالية المتداخلة إن كانت تامة وفي رواية أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني إما بإفاضته سبحانه عليه ما يقوم مقام طعامه وشرابه يدفع عنه مس الجوع وألم العطش الناشىء لديه ويتقوى به على الطاعة وما يجب القيام إليه أي أو بإيصال رزق من الجنة له ليالي صيامه كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام كان يبيت يلتوي من الجوع ثم يصبح شبعان وهذا مبني على أن طعام الجنة لا يفطر على ما قاله ابن الملقن إن كان يظل على ظاهره الموضوع للنهار وقيل إطعام الله تعالى لا يفطر والصحيح الأول وهو أن المراد بالطعام وما يقوم مقامه من القوة لأنه لو أكل حقيقة لم يكن مواصلا ويمكن الجمع بأنه يتقوى في النهار ويأكل من طعام الجنة في الليل كما يشير إليه رواية أبيت فالوصال حاصل في الجملة له بخلاف غيره (فبواطنهم منزّهة عن الآفات) أي المخلة بنعوتهم الملكية (مطهّرة عن النّقائص والاعتلالات) أي المملة على الأجسام الحيوانية (وهذه) أي النبذة (جملة) أي قضية مجملة (لن يكتفي بمضمونها كلّ ذي همّة) أي علية (بل الأكثر) أي من ذوي الهمم الجالية (يحتاج) ويروى محتج (إلى بسط) أي للكلام في أحوالهم (وتفصيل) لما يتعلق بأفعالهم (على ما نأتي به) أي نبينه ونذكره (بعد هذا) أي البيان الإجمالي (في البابين) أي الموضوعين للمقام التفصيلي (بعون الله تعالى) أي بمعونته وتوفيق هدايته (وهو) أي الله ربي (حسبي) كافي أمري الجليل والقليل (ونعم الوكيل) أي هو أفضل من توكل إليه الأمور ويعتمد عليه وتطمئن إليه الصدور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 الْبَابُ الْأَوَّلُ (فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَلَامُ فِي عِصْمَةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَائِرِ الأنبياء صلوات الله عليهم : قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه) يعني المصنف وهذا من ملحقات بعض تلاميذه كما تشير إليه الترضية عنه (اعلم أنّ الطّوارىء) بالهمزة جمع الطارىء وهو ما يطرأ ويحدث (من التّغيّرات) أي الموجبة للفتورات ويروي التغييرات بياءين والأولى هو الأولى كما لا يخفى (والآفات) أي الحاصلة بالعاهات (على آحاد البشر) أي عوامهم ويروى أجساد البشر أي أبدانهم (لا يخلوا أن تطرأ) أي من أن تعرض (على جسمه) أي جسم البشر (أو على حواسّه) أي الخمس وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس (بغير قصد واختيار) أي من البشر بل بخلق الله تعالى لها فيه (كالأمراض والأسقام) أي الأوجاع والآلام (أو بقصد واختيار) أي أو أن تطرأ بهما (وكلّه) أي وكل ما ذكر مما يطرأ بغير اختيار أو باختيار (في الحقيقة عمل وفعل) بل وعقد (ولكن جرى رسم المشايخ) أي دأبهم (بتفصيلة إلى ثلاثة أنواع) أي باعتبار مواردها (عقد) بالجر والرفع (بالقلب) أي جزم وقصد به وعزم (وقول باللّسان) أي يترجم عن الجنان (وعمل بالجوارح) أي الأعضاء والأركان (وجميع البشر) أي أفرادهم من خواصهم وعوامهم (تطرأ عليهم الآفات والتّغيّرات) بضم الياء التحتية المشددة أي الحالات المختلفة بالانتقال من حالة إلى حالة كنعمة ومحنة وملك وهلك ونصر وقهر وكسر وجبر (بِالِاخْتِيَارِ وَبِغَيْرِ الِاخْتِيَارِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جنسه (وإن كان من البشر) أي من جملتهم وعلى طبيعتهم (ويجوز على جبلّته) بكسر جيم فموحدة وبلام مشددة أي خلقته (يجوز على جبلّة البشر) أي سائرهم (فقد قامت البراهين القاطعة) أي الأدلة اليقينية (وتمّت كلمة الإجماع) أي ثبتت (عَلَى خُرُوجِهِ عَنْهُمْ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الآفات الّتي تقع على الاختيار) أي لعصمة الله تعالى لهم منها (وعلى غير الاختيار) أي لكرامتهم على الله سبحانه فيها (كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا نأتي به من التّفاصيل) أي تبيين كل منهما في فصل على حدة. فصل (فِي حُكْمِ عَقْدِ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) وهو أحكامه ولزومه على الشيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وحقيقته (مِنْ وَقْتِ نُبُوَّتِهِ اعْلَمْ مَنَحَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ توفيقه) أي اعطاناه بخلقه فينا جملة دعائية اعتراضية والخطاب عام والمعنى افهم (أنّ ما تعلّق) أي الذي تعلق به قلب النبي (منه) أي بعضه ما هو (بطريق التّوحيد) أي توحيد الذات وتفريد الصفات (والعلم بالله) أي بذاته العلية (وصفاته) الثبوتية والسلبية والفعلية والإضافية (والإيمان به) أي التصديق بوجوده والتحقيق بكرمه وجوده (وبما أوحي إليه) أي من الوحي الجلي أو الخفي ليبلغه أو يعمل به (فعلى غاية المعرفة) أي بجزئياته (ووضوح العلم واليقين) أي بكلياته (والانتفاء) أي وعلى غاية التنزه (عن الجهل شيء من ذلك) أي مما ذكر من العلم المتعلق به سبحانه (أو الشّكّ) أي مطلق التردد (أو الرّيب) أي الشبهة (فيه والعصمة) أي وعلى غاية الحفظ (من كلّ ما يضاد) بتشديد الدال أي ينافي (المعرفة بذلك واليقين) أي بما هناك (هذا) أي الذي ذكرناه إجمالا من نسبته إليه (مَا وَقَعَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ؛ وَلَا يَصِحُّ) وفي نسخة فلا يصح (بالبراهين الواضحة) أي الأدلة البينة (أن يكون في عقود الأنبياء سواه) أي غير ما تقدم (ولا يعترض على هذا) بصيغة المجهول أي وليس لأحد أن يعترض على قولنا هذا ويدفعه (بقول إبراهيم عليه السلام) أي حيث حكى عنه سبحانه إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي أما آمنت فالهمزة للتقرير ومعناه حمل المخاطب على الإقرار بإيجاب ما بعد النفي الموضوع له بلى (قال بلى) آمنت ولا شك في إيماني بإحيائك الناشىء عن قوتك وقدرتك (ولكن) سألت ما سألت (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي؛ إِذْ لَمْ يَشُكَّ إِبْرَاهِيمُ فِي إخبار الله تعالى له بإحياء الموتى) أي في الدنيا والآخرة إذ كان أثبت إيمانا وأتم إيقانا (ولكن أراد طمأنينة القلب) أي بمشاهدة فعل الرب إذ ليس الخبر كالمعاينة على ورد في الأثر (وترك المنازعة) أي بسكون النفس أو منازعة أهل المخاصمة (بمشاهدة الإحياء) وفي نسخة لمشاهدة الاحياء فاللام للعلة والباء للسببية (فحصل له العلم الأوّل) وهو علم اليقين (بوقوعه) أي بوقوع إحيائه تعالى (وأراد العلم الثّاني) وهو عين اليقين (بكيفيّته ومشاهدته) أي ملاحظة هيئته والحاصل أنه في مقام استزادة العلم إذ لا نهاية لمراتب تجليات الله وتعيناته ولذا قال لأعلم الخلق بالحق وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وهذا الوجه الأول في دفع الاعتراض الوارد على الخليل الأكمل (الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أراد اختبار منزلته) أي باعتبار مرتبته ورفعة مكانته (عند ربّه وعلم إجابته) أي وأراد علم إجابة الله له (دعوته) وفي نسخة إجابة دعوته وينسب إلى أصل المصنف (بسؤال ذلك من ربّه) أي بطلبه منه أن يريه كيفية الإحياء بإعادة التركيب والروح في الموتى (ويكون) وفي نسخة فيكون (قوله تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي تصدّق) وفي نسخة صحيحة أي ألم تصدق (بمنزلتك منّي وخلّتك) بضم الخاء وتشديد اللام أي وكونك خليلا عندي (واصطفائك) أي بالرسالة وغيرها لدي (الوجه الثالث أنه سأل زيادة يقين) أي معرفة لقبولها ضعفا (وقوّة طمأنينة) أي لأجل مشاهدة (وإن لم يكن في الأوّل) أي في المقام الأول من علم اليقين (شكّ) أي تردد وشبهة (إذ العلوم الضّروريّة) أي البديهية (والنّظريّة) أي الفكرية (قد تتفاضل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 في قوّتها) أي وتتناقص في ضعفها إلا أنه لا بد من ثبوت أصولها من غير تردد في حصولها (وطريان الشّك) أي حدوثه ووقوعه (على الضّروريّات ممتنع) أي من حيث ذاتها (ومجوّز) بفتح الواو المشددة وفي نسخة ويجوز أي طريانها وجريانها (في النّظريّات) إذ قد يلم بها الوهم ويندفع عنها الفهم (فأراد) أي إبراهيم (الانتقال من النّظر) أي السابق (أو الخبر) أي الصادق (إلى المشاهدة) أي العينية المفيدة للزيادة اليقينية (والتّرقّي) أي الصعود (مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ فَلَيْسَ الخبر كالمعاينة) وهذا اقتباس من قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وابن حبان عن ابن عباس مرفوعا ليس الخبر كالمعاينة إن الله عز وجل أخبر موسى عليه السلام بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقاها فانكسرت ولا يبعد أن قوله إن الله عز وجل يكون مدرجا من قول ابن عباس والله سبحانه وتعالى أعلم (ولهذا قال سهل بن عبد الله) أي التستري (سأل) أي إبراهيم (كَشْفَ غِطَاءِ الْعِيَانِ لِيَزْدَادَ بِنُورِ الْيَقِينِ تَمَكُّنًا في حاله) أي بصيرة في كماله (الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) أي من قومه نمرود وسائر الجنود (بأنّ ربّه يحيي ويميت) كما قال تعالى حكاية عنه إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي لا غيره بشهادة تعريف الجزأين أو بتقدير ضمير الفصل قبل الذي (طلب) جواب لما أي سأل (ذلك) أي إراءة كيفية إحياء الموتى (من ربه ليصحّ احتجاجه) أي عليهم (عيانا) ويلجئهم الحق بيانا وهذا متوقف على صحة كون هذه الواقعة عند نمرود وجنوده وظاهر الآية أنه انتقل من هذا الاستدلال وحصل له الزام لغيره في الحال (الوجه الخامس قول بعضهم) يروى قول بعضهم (هو) أي قوله رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (سؤال) أي طلب من الرب وارد (على طريق الأدب: المراد) أي المقصود به (أقدرني) بفتح الهمزة وكسر الدال أي قدرني وقوني (على إحياء الموتى وقوله ليطمئنّ قلبي) أي حينئذ يكون معناه ليسكن (عن هذه) ويروى من هذه (الأمنيّة) وهي التمني والتشهي (الوجه السادس أنه أرى) أي أظهر إبراهيم لغيره (من نفسه الشّكّ) أي صورة (ما شك) أي حقيقة (لكن) أي أرى ذلك تأدبا لما هنالك (ليجاوب) بفتح الواو وفي نسخة ليجاب أي ليجيبه ربه (فيزداد قربه) بالإضافة أي كمال قربه بمعرفة منزلته عند ربه وفي نسخة قربة أي عظيمة إذ المجاوبة تؤذن بالمقاربة (وقول نبيّنا عليه الصلاة والسلام نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم) ليس اعترافا منه بالشك لهما بل (نفي لأن يكون إبراهيم شكّ وإبعاد) أي زجر وطرد (للخواطر الضّعيفة أن تظنّ هذا بإبراهيم) إذ قد ورد أنه لما نزل وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى سمع قوم ذلك فقالوا شك إبراهيم ولم يشك نبينا (أي نحن) يعني معاشر الأنبياء أو جماعة المؤمنين (موقنون بالبعث وإحياء الله الموتى) أي ولم نشك في قدرته على ذلك وفي ظهور هذه الحالة هنالك (فلو شكّ إبراهيم) أي ولو جاز له (لكنّا أولى بالشّكّ منه) وهذا القول منه صلى الله تعالى عليه وسلم (إمّا على طريق الأدب) أي مع إبراهيم لأنه بمنزلة الأب (أو أن يريد) أي بنحن (أمّته الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 يجوز عليهم الشّكّ) لفقد عصمتهم (أو على طريق التّواضع) أي هضم النفس (والإشفاق) أي الخوف من تزكيتها (أن حملت) بضم الحاء وكسر الميم المخففة (قصّة إبراهيم على اختبار حاله) بالموحدة أي امتحان كماله كما في الوجه الثاني ليعلم منزلة قربه من ربه (أو) أي وان حملت قصته على (زيادة يقينه) أي ليزداد حصول علم يقينه بوصول عين يقينه (فإن قلت فما معنى قوله) أي الله سبحانه وتعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) أي قلق واضطراب (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) أي من كتاب ربك (فَسْئَلِ) قرىء بالتخفيف والنقل (الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) [يونس: 94] فإنهم محيطون علما بصحة ما أنزلنا إليك من ربك (الآيتين) يعني لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ أي فيما أنت عليه من الجزم واليقين ولذا قال عليه الصلاة والسلام ولا أشك ولا أسأل وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ فيه زيادة تنبيه وتهييج له على دوام ما هو عليه من اليقين وانتفاء الشك في أمر الدين (فاحذر) أي كل الحذر (ثبّت الله قلبك) لو قال قلبي وقلبك لكان أولى (أن يخطر ببالك) بضم الطاء أي أن يمر بخيالك (ما ذكره فيه بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ غَيْرِهِ) أي من المتقدمين أو المتأخرين (من إثبات شكّ للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أوحي) أي الله كما في نسخة (إليه وأنّه من البشر) أي وإن الخاطرات ليس بها عبرة (فمثل هذا) أي الخاطر المذموم (لا يجوز عليه جملة) لثبوت عصمته من مثل هذا الأمر (بل قد قال ابن عبّاس وغيره) أي باسانيد صحيحة منها ما رواه ابن حاتم عنه (لم يشكّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يسأل) أي أحدا ممن قرأ الكتاب من قبله (ونحوه عن ابن جبير) وهو سعيد (والحسن) أي البصري (وحكى قتادة) أي فيما رواه ابن جرير (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حين جمع الله له الرسل ليلة أسري به (قال ما أشكّ ولا أسأل) لنزاهته وبراءة ساحته عن الشك لعصمته (وعامّة المفسّرين على هذا؛ واختلفوا) أي المأولون (في معنى الآية) أي آية فإن كنت في شك (فقيل المراد) أي المفاد (بها قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلشَّاكِّ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ الآية) [يونس: 94] أي فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك وفيه تنبيه نبيه لمن خالج قلبه شبهة أن يبادر إلى دفعها ويطلب معرفتها من أهل العلم بها إذ شفاء العي السؤال كما ورد في حديث وقد قال تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (قالوا) أي مؤولوا الآية بما ذكر (وفي السّورة) أي وفي سورة الآية المذكورة (نفسها ما دلّ) يروى ما يدل (على هذا التّأويل: قوله) أي وهو قوله تعالى وفي نسخة في قوله أي وهو في قوله تعالى (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الآية) [يونس: 104] أي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (وقيل المراد بالخطاب) أي بقوله تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ هم (العرب وغير النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ومن عداه من الأمة فالمعنى فإن كنت في شك أيها المخاطب مثل قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 يشكل بقوله مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فان القرآن كما انزل الى النبي انزل الى امته قال تَعَالَى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا (كما قال) أي الله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الآية الخطاب له والمراد غيره) [الزمر: 65] كما في قولهم اسمعي يا جارة أو هو وارد على سبيل الفرض والتقدير كما تفرض المحال في مقام التقرير (ومثله فَلا تَكُ) وفي نسخة في فَلا تَكُ أي ومثل التأويل السابق في قوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ التأويل في قوله تعالى فَلا تَكُ (فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ونظيره) [هود: 109] أي مثل فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ الآية (كثير) أي في القرآن كقوله تعالى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (قال بكر بن العلاء) من القضاة المالكية (ألا تراه) أي الله تعالى (يَقُولُ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الآية) [يونس: 95] أي فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (وهو عليه الصلاة والسلام كان) أي هو (المكذّب) بفتح الذال المعجمة المشددة وهو منصوب على أنه خبر كان (فيما يدعو إليه) أي من التوحيد (فكيف يكون ممّن كذّب به) يروى يكذب يعني فدل على أنه ليس المراد بالخطاب (فهذا) أي ما ذكر (كلّه) أي جميعه (يدلّ على أنّ المراد بالخطاب غيره) أي سواء قلنا الخطاب له أو لغيره أو لكل من يصلح للخطاب (ومثل هذه الآية) أي آية فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ في أن المراد بالخطاب فيها غيره مقصود في هذا الباب (قوله الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً المأمور هنا) [الفرقان: 59] أي وبيانه أن المأمور في فاسئل له خبيرا (غير النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْأَلَ النَّبِيَّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم هو الخبير) أي به تبارك وتعالى (المسؤول) أي الذي ينبغي أن يسأل منه لأنه المخبر عن الله تعالى (لا المستخبر السّائل) فإن هذا شأن آحاد الأمة أو الخبير المسؤول به غيره عليه الصلاة والسلام أي اسئل عنه الله تعالى علما يخبرك بجلال ذاته وكمال صفاته فالباء صلة اسئل بمعنى فتش عنه وعدي بالباء لتضمنه معنى الاعتناء أو اسئل أحدا خبيرا به فالباء صلة خبيرا مبالغة في الفاعل بمعنى مخبر أو خابر (وقيل) وفي نسخة صحيحة وقال أبي بكر بن العلاء في آية فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ (إنّ هذا الشّكّ) وفي نسخة أن هذا الشاك (الّذي أمر) بصيغة المجهول وفي نسخة أمر به (غير النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بسؤال الّذين يقرؤون الكتاب إنّما هو فيما قصّه) أي الله كما في نسخة وفي أخرى بالنون بدل القاف يعني فيما حكاه الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام في كتابه (من أخبار الأمم) أي السابقة (لَا فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشَّرِيعَةِ) وفيه أنه لا فرق في نفي الشك عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في القصتين على السويتين (ومثل هذا) أي مثل ما أريد به غيره عليه الصلاة والسلام من الخطاب وسؤال الذين يقرؤون الكتاب (قوله تعالى وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا الآية) [الزخرف: 45] أي اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (المراد به) أي بالسؤال مجازا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 (المشركون) أي الموجودون من أممهم لاستحالة سؤاله من مضى منهم اسئل من الفيت من أممهم اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون بالاستفهام الإنكاري التكذيبي (والخطاب مواجهة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مرادا به غيره (قاله القتيبي) بقاف مضمومة وفوقية مفتوحة فتحتية ساكنة فموحدة فياء نسبة وفي نسخة بضم القاف وسكون الفوقية وفتحها فموحدة فالمراد بهما أبو عبد الله عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري صاحب المصنفات وقد تقدم والأظهر أنه المراد والله أعلم وفي أخرى بعين مهملة ففوقية ساكنة فموحدة فالمراد به فقيه الأندلس محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي القرطبي مصنف العتبية ويقال لها المستخرجة أيضا من موالي عتبة بن أبي سفيان (وَقِيلَ مَعْنَاهُ سَلْنَا عَمَّنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فحذف الخافض) وهو عن ولم يتعرض لحذف المفعول في سلنا لوضوحه ولزومه (وتمّ الكلام ثمّ ابتدأ) أي الكلام كما في نسخة بقوله (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إلى آخر الآية) [الزخرف: 45] أي آلهة يعبدون كما في نسخة (على طريق الإنكار أي ما جعلنا) أي آلهة فلا عبادة لها (حكاه مكّيّ، وقيل أمر النبي) بصيغة المفعول وفي نسخة بلفظ الفاعل أي أمر الله تعالى (لنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يسأل الأنبياء ليلة لإسراء عن ذلك) أي هذا الإنباء فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام ليلة أسري به بعث الله آدم وولده من الأنبياء والمرسلين فأذن جبريل ثم قال يا محمد صل بهم فلما فرغ قال له وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (فكان) أي النبي عليه الصلاة والصلام (أشدّ يقينا) أي في مراتب الكمال (من أن يحتاج إلى السّؤال) من غيره من الرجال ولو كانوا من الكمل في الأحوال (فروي أنه قال لا أسأل) أي من أحد (قد اكتفيت) أي بما أيقنت وعرفت (قاله ابن زيد) أي عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقد تقدم (وقيل سل أمم من أرسلنا) وفي نسخة سل أمم من أرسلنا يعني أنه على تقدير مضاف (هل جاؤوهم) أي الرسل (بغير التّوحيد) استفهام انكاري أي ما جاؤوا به بل اتفقوا على خلافه (وهو) أي هذا القيل (معنى قول مجاهد والسّدّيّ والضّحّاك وقتادة) وهم من أكابر التابعين وعمدة المفسرين (والمراد بهذا) أي بقوله وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا (والّذي قبله) أي من قوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إلى هنا (إعلامه صلى الله تعالى عليه وسلم بما بعثت) بصيغة المجهول أي أرسلت (به الرّسل) أي من التوحيد إجماعا (وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ لأحد) أي من الأنبياء والأمم (رَدًّا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إنّما نعبدهم) كذا وقع في كثير من النسخ من الأصول لكن التلاوة إنما هي ما نَعْبُدُهُمْ (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى) وكذا في قولهم هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ وكذا دعوى العرب أنهم على دين إسماعيل وأن إبراهيم كان مشركا كما كانت اليهود والنصارى مدعين أن إبراهيم على دينهم قال تعالى ردا عليهم ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (وكذلك) أي ومثل ما ذكر من الآيات (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 أي القرآن (مُنَزَّلٌ) قرىء بالتشديد والتخفيف (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) ووصف جميعهم بأنهم يعلمون حقيقة مشعر بأن جحودهم عن عناد في كفرهم (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [الأنعام: 114] أي الشاكين (أي في علمهم بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ) أي بما ذكر من حقية ما لديك وحقية الكتاب المنزل عليك حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق (وليس المراد به) أي بقوله فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (شكّه فيما ذكر في أوّل الآية) أي آية فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إذ المراد به هنا شكهم في كونه رسول الله وهناك الشك فيما أنزل الله تعالى ولم يقع شك منه صلى الله تعالى عليه وسلم (وقد يكون) أي قوله تعالى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ هنا (أيضا على مثل ما تقدّم) أي من أنه عليه الصلاة والسلام أمر أن يقول للشاك فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ أو على أنه المخاطب والمراد غيره (أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنِ امْتَرَى فِي ذلك) أي شك فيما هنالك هذا حق (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْآيَةِ) وفي نسخة في أول الآية أي التي فيها وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهو قوله (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً) [الأنعام: 114] استفهام انكاري أي أطلب غيره تعالى يحكم بيني وبينكم ليظهر المحق منا والمبطل منكم لا يكون ذلك مني أبدا ولا ابتغي غيره أحدا (الآية) وهي قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ أي القرآن مفصلا مبينا فيه الحق والباطل (وأنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخاطب) بكسر الطاء ويروى خاطب (بذلك غيره) أي غير نفسه (وقيل هو) أي أمره عليه الصلاة والسلام بالسؤال (تقرير) أي لمشركي قريش يحملهم على الإقرار بما يعرفون من أن الله لم يجعل من دونه آلهة تعبد وتوبيخهم على عبادة الأصنام (كقوله) تعالى أي خطابا لعيسى عليه السلام والمراد بالتوبيخ غيره (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي) بفتح الياء وسكونها (إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقد علم [المائدة: 116] أي الله سبحانه (أنّه) أي عيسى (لم يقل) اتخذوني إلخ (وقيل معناه ما كنت في شكّ) أي على أن أن نافية بمعنى ما وأخطأ الدلجي خطأ فاحشا في قوله ما هنا مصدرية أي مدة كونك في شك (فاسأل) أي الذين يقرؤون الكتاب لعلهم بصحة ما أنزل إليك من ربك (تزدد) مجزوم على جواب الأمر الذي هو سل أي تزد (طمأنينة) أي إلى طمأنينتك (وعلما) أي برهانا ويقينا (إلى علمك ويقينك، وقيل) أي في معناه (إن كنت تشكّ فيما شرّفناك) من كرم النبوة التامة وشرف الرسالة العامة (وفضّلناك) ويروى وعظمناك (به) أي على غيرك بدلالة ما في التوراة أن لله تعالى قال لإبراهيم أن هاجر تلد ويكون من ولدها من يده فوق الجميع وأيديهم مبسوطة إليه بالخشوع (فاسألهم عن صفتك في الكتب) أي السالفة (ونشر فضائلك) أي بين الأمم السابقة ففي التوراة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا ونذيرا وحرزا للأميين ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالاسواق ولا يجزي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ الله حتى يقيم به الملة العوجاء أي ملة إبراهيم الغراء) فإن العرب غيروا فيها كثيرا من الأشياء وفي الانجيل على لسان عيسى عليه السلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 أنا أطلب من ربي وربكم حتى يمنحكم فارقليط أي كاشفا للخفيات فيكون معكم إلى الأبد وفيه فارقليط روح القدس الذي يرسله ربي باسمي أي بالنبوة هو يعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء ويذكركم ما قلت لكم وقد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون فإذا كان فآمنوا به (وحكي عن أبي عبيدة) وهو معمر بن المثنى من أكابر أئمة اللغة وله كتب كثيرة في الصفات والغريب وأيام العرب ووقائعها وكان الغالب عليه الشعر والغريب وأخبار العرب توفي سنة عشر ومائتين وقد قارب المائة وله تفسير حديث في الزكاة وكان أبو عبيد القاسم بن سلام يوثقه ويكثر الرواية عنه في كتبه (أنّ المراد) أي المفاد من الآية (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) أي حاصل آنسته (من غيرك) أي من جانب غيرك (فيما أنزلنا) إليك من الحق والصواب فاسأل الذين يقرؤون الكتاب يخبروك بحقيقة هذا الباب (فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) أي يئسوا من إيمان أممهم أو من النصر في الدنيا عليهم (وَظَنُّوا) أي الرسل (أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) [يوسف: 110] بصيغة المجهول (على قراءة التّخفيف) أي كما قرأ به الكوفيون لأن ظاهرها ظنهم أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر مع نزاهتهم من أن يظنون بربهم ذلك الأمر لأنه سبحانه لا يخلف وعده رسله (قُلْنَا الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها معاذ الله) أي حاشاه واستجير بالله (أن تظنّ ذلك) أي الظن المذكور (الرّسل بربّها) كان الأولى بربهم وكأنه أراد جماعة الرسل (وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا اسْتَيْأَسُوا) أي من النصر على مكذبيهم وطالت مدة إمهالهم (ظنّوا أنّ من وعدهم النّصر) أي به (من أتباعهم) بيان لمن (كذبوهم) بتخفيف الذال والضمير الأول للموعودين من أتباع الرسل وهم المؤمنون والضمير الثاني للرسل أي اخلفوهم ما وعدوهم من نصرهم على عدوهم وتوهموا من أن الله تعالى اخلف رسلهم (وعلى هذا) أي مقول عائشة (أكثر المفسّرين) فعلى هذا ضمير ظنوا راجع إلى الرسل (وقيل إن ضمير ظَنُّوا عَائِدٌ عَلَى الْأَتْبَاعِ وَالْأُمَمِ لَا عَلَى الرّسل) الواو بمعنى أو فالمعنى أن أتباعهم ظنوا إذ لم يروا لوعدهم النصر نتيجة وأثرا ظاهرا بسبب تراخيه عنهم انهم قد كذبوا فيها اخبروا به قومهم من انهم ينصرون عليهم أو المعنى أن أممهم المكذبين لهم ظنوا أنهم كذبوا أي كذبتهم رسلهم في قولهم إنهم منتصرون عليهم (وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ) أي من التابعين (وجماعة من العلماء) أي المتقدمين والمتأخرين (وبهذا المعنى قرأ مجاهد) أي شاذة (كذبوا بالفتح) أي بفتح الكاف والذال والتخفيف والمعنى أن الأمم ظنوا أن رسلهم كذبوا في قولهم بالنصر عليهم (فلا تشغل) بفتح التاء والغين وفي نسخة بضم أوله وكسر ثالثه إلا أنه لغة رديئة (بالك) أي قلبك (من شاذّ التّفسير بسواه) أي بغير ما ذكرناه من قول عائشة وابن عباس وأمثالهما ولا يتوهم أن الرسل ظنوا به سبحانه أنه أخلفهم ما وعدهم من نصرهم على عدوهم (ممّا لا يليق بمنصب العلماء) بكسر الصاد أي مقامهم ومرتبتهم (فكيف بالأنبياء) فما سبق من نسخة الظن المذموم بالاتباع إما أن يحمل على مجرد الخواطر التي لا تدخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 تحت التكليف أو على أن بعضهم كفروا بذلك وارتدوا عما هنالك (وكذلك) أي مثل آية حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وارد من الاشكال (ما ورد في حديث السّيرة) أي سيرة النبي عليه الصلاة والسلام في ابتداء النبوة (ومبدإ الوحي) أي بالرسالة (من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على ما أخرجه البخاري وغيره (لخديجة) أي بعد ما أخبرها ما جرى له مع جبريل بحراء (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي لَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّكَّ فيما آتاه الله) أي من النبوة والرسالة والهداية والمعرفة ويروى فيما أتاه من الله تعالى (بعد رؤية الملك) أي وإخباره أنه رسول الله (ولكن لعلّه خشي أن لا تحتمل قوّته) لضعف القوة البشرية (مقاومة الملك) أي مصابرته فإنه في غاية القوة القوية (وأعباء الوحي) بالنصب أي لا يحتمل أثقال تحمل الوحي وتبليغه وهو جمع عبء بكسر العين مهموزا (لينخلع قلبه) كذا في نسخة مصححة فلعل اللام للعاقبة والأظهر ما في نسخة فينخلع بالفاء منصوبا أي فيزول حينئذ قلبه عن مكانه ويحصن له جنون في شأنه (أو تزهق نفسه) أي تخرج روحه (هذا) أي التأويل (على ما ورد في الصّحيح) أي صحيح البخاري وغيره (أنّه قاله) أي القول السابق ويروى أنه قال (بعد لقائه الملك أو يكون ذلك) أي المقول (وقبل لقياه الملك) ويرى قبل لقائه الملك ولعله تكرر منه ذلك (وإعلام الله تعالى له) أي وقبل إخباره له (بالنّبوّة لأوّل ما عرضت) بصيغة المجهول كذا في نسخة مصححة والأظهر أنه بصيغة الفاعل والمعنى في أول ما ظهرت أو لأجل أول ما برزت (عليه من العجائب) أي خوارق العادة من الأمور الغرائب كما بينه بالعطف التفسيري حيث قال (وسلّم عليه الحجر والشّجر) الظاهر أن المراد بهما الجنس فإنه روى الدولابي بسنده عن ابن عباس قال بعث الله محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم على رأس خمس سنين من بنيان الكعبة وفي آخره فلما قضى إليه الذي أمر به انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منقلبا إلى أهله لا يأتي على حجر ولا شجر إلا سلم عليه الحديث ويحتمل أن يراد بالجمر الإفراد ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث الحديث وقد ورد أنه الحجر الأسود على ما رواه السهيلي وقيل إن الحجر المعروف بالتكلم المركوز في جدار زقاق بيت خديجة (وبدأته المنامات) أي ابتدائه المقامات العاليات فكان لا يرى مناما إلا جاء مثل فلق الصبح (والتّباشير) أي المقدمات المؤذنة بالبشارات ومنه تباشير الصبح أي أوائله (كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ) أي حديث مبدأ الوحي (أنّ ذلك) أي ما ذكر من التباشير (كان أوّلا في المنام ثمّ أري) بصيغة المجهول أي أراه الله (في اليقظة مثل ذلك) أي الذي رآه في المنام ويروى مثال ذلك (تأنيسا له عليه السّلام) من الأنس بالضم ضد الوحشة تسكينا لقلبه (لئلّا يفجأه الأمر) بفتح الجيم والهمز أي لئلا يرد عليه أمر النبوة بغتة (مشاهدة) أي معاينة (ومشافهة) أي مخاطبة (فلا يحتمله) أي قلبه (لأوّل حالة) بالتنوين ويروى بالإضافة أي في أول وهلة من أحواله (بنية البشريّة) بكسر الموحدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وسكون النون لضعفها عن القوة الملكية (وفي الصّحيح) أي البخاري ومسلم (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَّلُ مَا بدىء به) بصيغة المجهول أي ابتدىء به (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الوحي) بيان لما وأول مبتدأ خبره (الرّؤيا الصّادقة) وفي رواية الصالحة من النوم وإنما أخبرت بذلك بإخباره عليه الصلاة والسلام أو بعض أصحابه لها بما هنالك وإلا فهي لم تكن ولدت قبل بدئه به فالحديث من مراسيل الصحابة وهي حجة بلا خلاف (قالت ثمّ حبّب إليه الخلاء) بالمد أي الخلوة والعزلة لفراغ القلب بالذكر والفكر وظهور النور وسرور الحضور والغيبة عما سواه ونفي الشعور وإليه أشار الشاعر حيث قال * فصادف قلبا خاليا فتمكنا* (وقالت إلى أن) ورواية الشيخين (جاءه الحقّ) أي الأمر المحقق (وهو في غار حراء) بكسر الحاء وتخفيف الراء جبل على ثلاثة أميال من مكة يمد ويقصر ويذكر باعتبار المكان فيصرف ويؤنث باعتبار البقعة فلا يصرف والغار الكهف والنقب بالجبل وكذا المغارة (وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) فيما روى ابن سعد عنه (مكث النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بضم الكاف وفتحها أي لبث (بمكّة خمس عشرة سنة) بسكون عشرة وبالكسر لغة تميم (يسمع الصّوت) أي صوت الملك (ويرى الضوء) أي نوره (سبع سنين ولا يرى شيئا) أي ظاهرا (وثمان سنين يوحى إليه) وهذا إنما يتمشى على القول بأنه عليه الصلاة والسلام عاش خمسا وستين سنة والصحيح أن عمره ثلاث وستون سنة فبعد البعثة بمكة ثلاث عشرة على الصحيح وبالمدينة عشرا بلا خلاف وقيل المراد بثلاث وستين ما عدا سنة الولادة والوفاة فبهما يتم خمس وستون وفي المسألة قول آخر وهو أنه عليه الصلاة والسلام عاش ستين سنة وهو محمول على إسقاط الكسر (وقد روى ابن إسحاق) أي صاحب المغازي (عن بعضهم) الظاهر أن المراد به بعض الصحابة فإن المطلق ينصرف إلى الأكمل (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال وذكر جواره) بكسر الجيم ويضم أي مجاورته وإقامته متعبدا (بغار حراء) وهو نقب فيه والجملة حالية معترضة بين القول ومقوله وكرر قوله (قال) للتأكيد مع وجود الفصل (فجاءني) يعني جبريل (وأنا نائم) أي حقيقة أو صورة أي مضطجع على هيئة النائم ولا يبعد أن يكون النوم كناية عن الغفلة أو الاستغراق في الفكرة (فقال اقرأ فقلت ما أقرأ) أي شيء أقرأ فما استفهامية ويؤيده رواية وما اقرأ أو ما نافية بدلالة دخول الباء في خبرها في رواية البخاري ما أنا بقارىء (وذكر) أي ابن إسحاق أو من روى عنه (نحو حديث عائشة في غطّه) بفتح معجمة وتشديد مهملة أي في ضم جبريل عليه السلام ضما شديدا وفي نسخة إياه صلى الله تعالى عليه وسلم (وإقرائه له) وفي نسخة إياه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أي صدر هذه السورة قال القاضي في الإكمال حكمة هذا الغط له عليه الصلاة والسلام دفع اشتغاله عن الالتفات إلى شيء من أمر الدنيا ليتفرغ لما أتاه به وفعله به ذلك ثلاثا وفيه دليل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 استحباب التكرار ثلاثا وقد استدل به بعضهم على جواز تأديب المعلم ثلاثا (قال) النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (فانصرف) أي جبريل عليه السلام (عنّي وهببت) بفتح الموحدة الأولى أي استيقظت (من نومي) أي استنبهت من غفلتي أو استفقت من استغراقي (كأنّما صوّرت) أي مثلت ونقشت وشكلت سورة اقرأ (في قلبي ولم يكن) أي الشأن وخبرها (أبغض إليّ من شاعر أو مجنون) أي من قولهم له ذلك والجملة حالية أفادت شدة بغضه نسبة قريش له صلى الله تعالى عليه وسلم بواحد منهما فكيف بهما (قلت) أي في نفسي أكتم حالي (لا تحدّث) بفتح الفوقية على أنه حذف منه إحدى التاءين أي لا تتحدث (عنّي قريش بهذا أبدا) أي بقولهم له شاعر أو مجنون (لأعمدنّ) بفتح اللام والهمزة وكسر الميم ويفتح وتشديد النون أي لأقصدن (إلى حالق) بمهملة وكسر لام أي مكان عال (من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه فلأقتلنّها) أي حذرا من أن يسموه بشاعر أو مجنون ولعل هذا بناء على أنه ظن ما تبين له من جانب الجن ولذا قال (فبينا أنا عامد لذلك) أي قاصدا لطرح النفس ومريد لما هنالك (إِذْ سَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ يَا محمّد أنت رسول الله وأنا جبريل) أي مبلغ عن الله تعالى (فرفعت رأسي فإذا) أي ففاجأني بغتة (جبريل على) ويروى في (صورة رجل) حال من جبريل أي ممثلا في صورة رجل أو التقدير فظهر لي على صورة رجل (وذكر الحديث) أي بتمامه واقتصرنا على محل مرامه (فقد بيّن) أي أظهر عليه الصلاة والسلام ويروى بين لك (في هذا الحديث) أي حديث ابن إسحاق (أنّ قوله) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لما قال) لخديجة رضي الله تعالى عنها لقد خشيت على نفسي (وقصده لما قصد) أي من طرح نفسه من الجبل (إنّما كان قبل لقاء جبريل عليه السّلام) أي في اليقظة أو في عالم الحضرة (وَقَبْلَ إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَإِظْهَارِهِ) أي الله تعالى (واصطفائه) أي اجتبائه وفي نسخة وإظهار اصطفائه أي إظهار شأنه بالرفعة (له بالرّسالة ومثله) أي شبيه حديث ابن إسحاق أن ما قاله لخديجة إنه خشي على نفسه إنما كان قبل لقاء جبريل (حديث عمرو بن شرحبيل) بضم معجمة وفتح راء وسكون مهملة وكسر موحدة فتحتية ساكنة وهو غير منصرف أبو ميسرة الهمداني يروي عن عمر وعلي وعائشة وكان فاضلا عابدا حجة صلى عليه شريح قال الحلبي وهذا الذي ذكره القاضي عياض هنا هو في رواية يونس عن ابن إسحاق بسند إلى أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل (أنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً وَقَدْ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ يكون هذا) أي ما سمعته من نداء الملك (لأمر) أي لم أحط به خبرا يرهقني من أمري عسرا قالت معاذ الله ما كان الله ليفعل ذلك بك إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث وقاله الدلجي الحديث رواه البيهقي عن عمرو بن شرحبيل (ومن رواية حمّاد بن سلمة) فيما رواه الطبراني وابن منيع في مسنده موصولا عن حماد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتًا) أي عظيما (وأرى ضوءا) أي نورا كريما (وأخشى أن يكون بي جنون) ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 يدر أن شأنه فيه فنون (وعلى هذا) أي على قوله لأسمع صوتا الحديث (يتأوّل) بصيغة المجهول (لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ) أي روايتها (إنّ الأبعد شاعر أو مجنون) مقول قوله الذي تنازعه الفعلان قبله واعمل الأول أي يتأول قوله بذلك لخديجة إن صح يحمله على أنه كان قبل لقاء الملك وإعلام الله تعالى له أنه رسول ولم يكن معناه الشك وعبر بالأبعد عن نفسه الأسعد تحاشيا من أن يقال له شاعر أو مجنون (وألفاظا) أي وإن في هذه الأحاديث ألفاظا ويروى وألفاظها (يُفْهَمُ مِنْهَا مَعَانِي الشَّكِّ فِي تَصْحِيحِ مَا رآه) أي من الضوء وسمعه من الصوت (وأنه) أي في قوله ذلك (كَانَ كُلُّهُ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَقَبْلَ لِقَاءِ الملك له وإعلام الله تعالى له أنه رسوله) أي مما ينفي عنه الشك فيما آتاه الله تعالى واختصه به من المنح الإلهية ما لم يؤته سواه (فكيف) أي لا يكون ذلك في ابتداء أمره (وبعض هذه الألفاظ) أي التي نسب صدورها إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (لا تصحّ طرقها) أي أسانيدها لكون بعض من فيها متهما أو مجهولا (وأمّا بعد إعلام الله تعالى له) أي بأنه رسوله (ولقائه الملك) أي وبعد ملاقاته وتحقق مخاطباته (فلا يصحّ) أي بأن يصدر عنه عليه الصلاة والسلام (فيه ريب) أي شبهة ومرية (ولا يجوز عليه شكّ) أي تردد (فيما ألقى إليه) من المعارف الربانية والعوارف السبحانية (وقد روى ابن إسحاق عن شيوخه) أي بأسانيدهم (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يرقى) بصيغة المجهول أي يعوذ بالعوذ التي يرقى بها من ألمت به حمى ونحوها (من العين) أي من جهة إصابة العين (قبل أن ينزل عليه) أي الوحي أو القرآن وهو بصيغة الفاعل أو المفعول مخففا أو مشددا ويؤيد الثاني (فلما نزل عليه القرآن) ومنه قوله تعالى وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ (أصابه نحو ما كان يصيبه) أي قبل ذلك (فقالت له خديجة أوجّه) بتشديد الجيم المكسورة أي أرسل (إليك من يرقيك) بفتح الياء وكسر القاف (قال أمّا الآن) أي بعد نزول القرآن (فلا) أي فلا حاجة لي به اكتفاء بربه وكتابه إذ هو هدى وشفاء لقلبه واعلم أنه قد وردت أحاديث كثيرة بجواز الرقى وكذا في النهي عنها وجمع بينهما بأن الجائز منها ما كان بلسان عربي مما يعرف معناه كأسماء الله تعالى وصفاته وسور كلامه وآياته ومن ثمه قال عليه الصلاة والسلام اعرضوا على رقاكم قال جابر فعرضناها عليه فقال لا بأس بها إنما هي من مواثيق الجن فكأنه عليه الصلاة والسلام خشي أن يكون فيها مما يقال ويعتقد من الشرك في زمن الجاهلية وأن المنهي عنه منها ما لم يكن كذلك أو أن يعتقد أنها نافعة بنفسها كما أشار إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله ما توكل من استرقى أو حق توكله والحاصل أن تركها مع التوكل أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث من يدخل الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون (وحديث خديجة رضي الله تعالى عنها) أي الذي رواه ابن إسحاق والبيهقي عن فاطمة بنت الحسين أي أبو نعيم في الدلائل موصولا من طريق أم سلمة عن خديجة (واختبارها) أي امتحان خديجة (أمر جبريل عليه السلام) أي تحقق أمره (بكشف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 رأسها) أي من شعرها (الحديث) أي بطوله (إنّما ذلك) أي الاختبار والتردد (في حقّ خديجة) أي واقع وحاصل (لتتحقّق صحّة) وفي نسخة صدق (نبوّة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنّ الّذي يأتيه) أي بما يوحى إليه من ربه ويلقيه (ملك ويزول الشّكّ عنها) أي ويرتفع التردد لها الناشىء مما قال لها من نحو لقد خشيت على نفسي وأخشى أن يكون بي جنون (لأنّها) أي خديجة (فعلت ذلك) أي كشف رأسها (للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لأجل أمره (وليختبر) أي هو كما في نسخة أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (حاله بذلك) فيكون على بصيرة من أمره هنالك (بل) لانتقال من حال إلى حال أفاد أن ما فعلته خديجة من الاختبار لم يكن بأمر السيد المختار بل نشأ عن ابن عمها ورقة (إذ قَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محمد بن يحيى بن عروة) قال أبو حيان يروي الموضوعات عن الثقات وقال أبو حاتم الرازي متروك الحديث (عن هشام) وهو أخو عبد الله الراوي وهشام أحد الأعلام يروي عنه شعبة ومالك قال أبو حاتم ثقة أمام (عن أبيه) أي عروة بن الزبير أي ابن العوام بن خويلد يروي عن أبويه وخالته وعلية وطائفة وعنه جماعة قال ابن سعد كان فقيها عالما كثير الحديث ثبتا مأمونا قال هشام صام إلى الدهر ومات وهو صائم (عن عائشة رضي الله تعالى عنها) أم المؤمنين خالته (أنّ ورقة) وهو ابن نوفل بن أسد (أمر خديجة) وهي بنت خويلد بن أسد (أن تخبر الأمر) وفي نسخة تختبر بضم الموحدة أي تمتحن وتجرب (بذلك) أي الذي فعلته من كشف رأسها (وفي حديث إسماعيل بن أبي حكيم) أي فيما رواه ابن إسحاق وهو قرشي مدني يروي عن سعيد بن المسيب وغيره وعنه مالك ونحوه وثقه ابن معين وغيره قال ابن سعد كان كاتبا لعمر بن عبد العزيز في خلافته توفي سنة ثلاثين ومائة (أنها) أي خديجة (قالت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يا ابن عمّ) لاجتماعهما في قصي نسبا لأنه عليه الصلاة والسلام محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي (هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك) أي تعلمني بمأتاه (إذا جاءك؟ قال نعم) أي أستطع وأخبرك به إذا جاءني (فلمّا جاءة جبريل) ويروى جاء جبريل أي بعد سؤالها هذا (أخبرها) بمجيئة إليه (فقالت له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام (اجلس إلى شقّي) بكسر الشين وتشديد القاف تريد أحد جنبيها (وذكر الحديث إلى آخره) وفيه فجلس إليه وكشفت رأسها فلم يدخل جبريل (وفيه فقالت مَا هَذَا بِشَيْطَانٍ هَذَا الْمَلَكُ يَا ابْنَ عمّ فاثبت) أي على ما أنت عليه (وأبشر) أي بكل خير مما لديه (وآمنت به) أي حينئذ أو آمنت قبل لكن اطمأنت به فحصل لها عين اليقين بعد علم اليقين فهي أول من آمن به مطلقا أو من النساء (فهذا) أي الدي قالته (يدلّ أنّها) أي على أنها كما في نسخة (مستثبتة) اسم فاعل من باب الاستفعال من الثبات أي طالبته للوثوق (لما) أي لأجل ما وفي نسخة بما أي بسبب ما (فعلته) أي من الإختبار (لنفسها) أي لإيقانها (ومستظهرة به) أي مستقوية بما فعلته (لإيمانها) أي به عليه الصلاة والسلام (لا للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) تأكيد لقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 لنفسها ولا سقطت من أصل الدلجي فقال عدي باللام لتضمنه معنى الانقياد (وقول معمر) بفتح الميمين بينهما مهملة ساكنة ابن راشد سكن اليمن (في فترة الوحي) بفتح الفاء أي انقطاعه عنه سنتين ونصف كذا ذكره الدلجي وقال الحلبي الحديث في صحيح البخاري في التعبير وقال الدلجي فيما رواه أحمد والبيهقي (فحزن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بكسر الزاء أي صار ذا حزن بسبب فتور الوحي وتأخره عنه (فيما بلغنا عنه) أي وصل إلينا من مشايخنا (حزنا) أي عظيما (غدا) أي ذهب (منه) أي من أجله أو قصد فيه (مرارا) أي مرة بعد أخرى (كي يتردّى) أي يقصد السقوط ويروى كاد يتردى (من) رؤوس (شواهق الجبال) أي أعاليها وإنما جمع باعتبار تكرار ما قصده (لا يقدح) لا يخل أي قول معمر (في هذا الأصل) الذي قدمناه من أن ما قاله لخديجة من الخشية على نفسه لم يكن على الشك فيما منحه الله تعالى: (لقول معمر عنه) أي عن النبي عليه الصلاة والسلام (فيما بلغنا) أي بطريق الإجمال (ولم يسنده) ليعلم حال الرجال من الانقطاع والاتصال (ولا ذكر رواته) ليعرف ثقاته (ولا من حدّث به) أي من المخرجين (ولا أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قاله) أي فيكون الحديث مرفوعا أو قاله صحابي فيكون موقوفا (ولا يعرف مثل هذا) أي والحال أنه لا يعرف حقية هذا المقال ولا حقيقة هذه الحال وهو أنه كاد يلقي نفسه من الجبال (إلّا من جهة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) ولعله عليه الصلاة والسلام حدث عائشة رضي الله تعالى عنها خبر فترة الوحي وقال فيه فحزنت إلى آخره بلفظ التكلم فروته عنه بلفظ الغيبة فحزن إلى آخره فبلغ من لم يسمعه منها فقال حزن فيما بلغنا إلى آخره فلا يقدح فيما ذكر الحلبي ذكر أبو الفتح بن سيد الناس في سيرته ما لفظه ورويناه من طريق الدولابي حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن زيد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها فذكر نحو ما تقدم وفي آخره ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما بلغنا حزنا إلى آخره فهذا لم يكن فيه معمر بالكلية وهذا الذي ذكره هو في البخاري في التعبير من قول معمر كما عزاه القاضي إليه وقد وقفت على أنه ساقه أبو الفتح من غير كلام معمر والذي يظهر أنه من كلام الزهري ويحتمل أن يكون من كلام غيره والله تعالى أعلم (مع أنه) أي ما بلغهم من أنه حزن (قَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْأَمْرِ كما ذكرناه) أي من أنه كان قبل أن يلقاه جبريل وفيه أنه يدفعه أنه وقع في زمن فترة الوحي ولا شك أنه كان بعد لقائه جبريل (أو أنّه فعل ذلك) أي ما ذكر من إرادة التردي (لما أخرجه) بالحاء المهملة أي من أجل ما ضيق عليه البال وأوقعه في حرج ضيق الحال (من تكذيب من بلّغه) أي أوصل ما أرسل به إليهم (كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) أي ذابحها ومهلكها غيظا والمعنى اشفق على نفسك أن تقتلها (عَلى آثارِهِمْ) أي من بعد اختبارهم (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) أي القرآن الجديد الانزال (أَسَفاً [الكهف: 6] أي من أجل الأسف وهو أشد الحزن أو متأسفا عليهم كما قال الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 تعالى في موضع آخر فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ بأن تتلهب على فراقهم جمرات (وَيُصَحِّحُ مَعْنَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثٌ رَوَاهُ شَرِيكٌ) وهو ابن عبد الله النخعي يروي عنه أبو بكر ابن أبي شيبة وعلي بن حجر وثقه ابن معين وقال غيره سيىء الحفظ وقال النسائي لا بأس به (عن عبد الله بن محمد بن عقيل) بفتح وكسر وهو ابن أبي طالب يروي عن ابن عمر وجابر وعدة وعنه جماعة قال أبو حاتم وغيره لين الحديث وقال ابن خزيمة واحتج به قال الواقدي مات بالمدينة قيل خروج محمد بن عبد الله بن حسن سنة خمس وأربعين ومائة (عن جابر بن عبد الله) كما رواه البزار وروى الطبراني نحوه عن ابن عباس (أنّ المشركين لمّا اجتمعوا بدار النّدوة) بفتح النون وسكون الدال المهملة وهو مكان اجتماعهم حيث يتشاورون في مهامهم (للتّشاور في شأن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وهي دار بناها قصي بن كعب وجعل بابها إلى الكعبة ليجتمع فيها العرب للمشاورة وللختان وللنكاح وإذا قدمت غير نزلت فيها وإذا ارتحلت رحلت منها وسميت دار الندوة من الندي بتشديد الياء وهو مجتمع القوم قال الشمني وهي الآن من الحرم والله تعالى اعلم وهي الزيادة التي تلي ناحية سويقة من المسجد وهي مستقبلة الميزاب وسيأتي قصة مشورتهم واتفاقهم على قتله عليه الصلاة والسلام (واتّفق رأيهم على أن يقولوا) أي في حقه (إنّه ساحر) كما مر عن أبي جهل وعن الوليد بن المغيرة (اشتدّ ذلك عليه وتزمّل في ثيابه) أي تلفف (وتدثّر فيها) أي تغطى بها فوق الشعار أعني ما يلي جسده من الثياب ومنه قوله عليه الصلاة والسلام الأنصار شعاري والعرب دثاري (فأتاه جبريل عليه السلام فقال) أي مناديا له (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] ) أي تارة وأخرى (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] ) لما روي عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كنت على حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله فنظرت عن يميني وشمالي فلم أر شيئا فنظرت فوقي فرأيت شيئا وفي رواية عائشة رضي الله تعالى عنها فإذا به على كرسي بين السماء والأرض يعني جبريل فرعبت منه ورجعت إلى خديجة فقلت دثروني دثروني فقال يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (أو خاف) أي أو أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك من أجل أنه خاف (أنّ الفترة) أي للوحي إنما كانت (لأمر) أي لأجل أمر صدر عنه (أو سبب منه فخشي أن تكون) أي فترته (عُقُوبَةً مِنْ رَبِّهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يرد نهي عن ذلك) وفي نسخة شرع بالنهي عن ذلك أي عن التردي من الجبل لأنه كان أول الإسلام ولم تتبين الأحكام (فيعترض به) عليه في هذا المقام (ونحو هذا) أي من ضيق البال وشدة الحال (فرار يونس عليه الصلاة والسلام) وفيه ست لغات ضم النون وفتحها وكسرها مع ترك الهمز وبه حيث ذهب مغاضبا لقومه متبرما من تكذيبهم تخويفا لهم أن يحل العذاب عليهم ظنا منه أن فراره بغير إذن ربه سائغ إذ لم يفعله إلا غضبا لربه وغيظا على مخالفي دينه ومع ذلك لاحظ (خَشْيَةَ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ لِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ من العذاب) ورجاء أن يؤمنوا به بعد فقده فقد روي أنهم لما فقدوه خافوا نزوله عليهم فاستغاثوا بربهم وقالوا يا حي حين لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت وقالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وأنت أعظم منها وأجل وافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (وَقَوْلُ اللَّهِ فِي يُونُسَ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] مَعْنَاهُ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عليه) كما قال تعالى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ وليس مراده أنه سبحانه وتعالى غير قادر عليه لأن هذا لم يخطر ببال كافر فضلا عن مؤمن لا سيما نبيا ورسولا روي أن ابن عباس دخل على معاوية فقال يا ابن عباس لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فما أجد لنفسي خلاصا إلا بك ثم قرأ الآية ثم قال أو يظن نبي الله أن لا يقدر الله عليه فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا من القدر أي بسكون الدال أو فتحها لا من القدرة، (قال مكّيّ طمع في رحمة الله تعالى) أي سعة كرمه (وَأَنْ لَا يُضَيِّقَ عَلَيْهِ مَسْلَكَهُ فِي خُرُوجِهِ) بغير إذنه مغاضبا لقومه ليؤمنوا بعد فقده (وَقِيلَ حَسَّنَ ظَنَّهُ بِمَوْلَاهُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي عليه بالعقوبة) لما ورد في الحديث القدسي أنا عند ظن عبدي بي لكنه غفل عن أن حسنات الأبرار سيئات المقربين (وقيل نقدّر عليه ما أصابه) أي من الابتلاء ببطن الحوت في الماء وهو بضم أوله فسكون ثانيه فكسر ثالثه مخفف نقدر عليه كذا ذكره الدلجي وهو غير صحيح فالصواب أنه مخفف قدر بمعنى قدر مشددا وقد ضبطه الحجازي بضم النون وفتح القاف وتشديد الدال المكسورة، (وقد قرىء) أي في الشواذ (نقدّر بالتّشديد) أي بتشديد الدال المكسورة وكذا قرىء نقدر مبنيا للفاعل وللمفعول مخففا ومثقلا (وقيل نؤاخذه) أي فظن أن لن نؤاخذه بعتابه أو عقابه (بغضبه وذهابه) إذ كان عليه أن يصابرهم ولا يفارقهم إلا بإذن من ربه، (وقال) وفي نسخة بلا واو العطف (ابن زيد) وفي نسخة أبو زيد وفي أخرى أبو يزيد والصواب الأول فقد نقل ذلك البغوي في تفسيره عن ابن زيد والظاهر أنه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (معناه أفظنّ أن لن تقدر عليه على الاستفهام) أي الداخل على صدر الكلام وحذف تخفيفا لدلالة المقام على المرام والمعنى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أفظن أن لن نقدر عليه ويمكن أن يقدر إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ والتأويل لازم على كل تقدير لما علله المصنف بقوله (ولا يليق) أي لا يحسن (أن يظنّ بنبيّ) أي فضلا عن رسول (أن يجهل) وروي أنه جهل (صفة من صفات ربّه) كالقدرة والعلم والإرادة ولذا استدل أهل السنة بطلب موسى عليه السلام الرؤية أنها ممكنة في الجملة ليس فيها استحالة خلافا للمعتزلة والحاصل أنه لا يتصور أن نبينا يظن أنه تعالى لا يقدر عليه كما قدمناه (وكذلك) أي يحتاج إلى تأويل (قوله) أي الله سبحانه وتعالى (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [الأنبياء: 87] ) حيث يتوهم أنه ذهب مغاضبا لربه فالصواب تأويله بوجه من الوجوه (الصّحيح مغاضبا لقومه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 لكفرهم) كما مر وهو المناسب ههنا لأن المغاضبة مراغمة على ما في القاموس (وهو قول ابن عبّاس والضّحّاك وغيرهما) أي من المفسرين (لَا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ مُغَاضِبَةُ اللَّهِ مُعَادَاةٌ لَهُ وَمُعَادَاةُ اللَّهِ كُفْرٌ لَا يَلِيقُ بالمؤمنين فكيف بالأنبياء) لا سيما المرسلين (وقيل مستحييا من قومه أن يسموه) بفتح الياء وكسر السين وتخفيف الميم أي كراهة أن يصفوه (بالكذب) إذ قيل إنه قال لهم أأجلكم أربعين ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا وظاهر هذا القيل إن مستحييا تفسير مغاضبا ولم أر هذا المبنى في كتب اللغة بهذا المعنى فكان الأولى أن يقال استحياء ولا يبعد أن يكون حالا أخرى مقدرة لتصحيح الكلام والله تعالى اعلم بالمرام (أو يقتلوه) أي ذهب مغاضبا لهم كراهة أن يقتلوه (كما ورد في الخبر) لم يعرف له من الأثر إلا أن الأنطاكي قال وهو ما روي أنه كان عندهم من كذب ولم يكن له بينة قتل (وقيل مغاضبا لبعض الملوك) أي لأجله (فيما أمره) أي يونس (بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى أَمْرٍ أَمَرَهُ اللَّهُ تعالى) أي أمر الله الملك (به على لسان نبيّ آخر) أي غير يونس عليهما السلام كان في زمنه (فَقَالَ لَهُ يُونُسُ غَيْرِي أَقْوَى عَلَيْهِ مِنِّي (أي اعتذارا منه أو أراد المحجة السهلة حذرا من غلبة المشقة (فعزم عليه) أي حمله سبحانه وتعالى على الجد والصبر على مقاساة شدائد المر (فخرج لذلك) أي من أجل عزمه عليه ما لا طاقة لديه (مغاضبا) له تاركا ما أمره به لصعوبته لديه ولهذا قال تعالى لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ، (وقد روي عن ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما (أنّ إرسال يونس ونبوّته) أي المقرونة بالرسالة إلى قومه بنينوى أي من الموصل (إنّما كان بعد أن نبذه الحوت) وقد سقط أن المصدرية بعد بعد ف أصل الدلجي فقال الحوت فاعل المصدر قبله المضاف إلى معموله أي قذفه من بطنه (واستدلّ) أي ابن عباس ويحتمل أن يكون بصيغة المجهول عطفا على روي أي وقد استدل لما روي عنه (بقوله) أي بظاهر قوله تعالى (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) أي قذفناه من بطن الحوت بمكان عار عن البناء والشجر ونحوهما (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي اليم من حرارة بطن الحوت (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ) من كمال رأفتنا وجمال رحمتنا (شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به قيل هي الدباء لأن الذباب لا يقع عليها فجعلها الله تعالى فوقه مظلة له كالقبة ويقال إن ريح القرع من ريح يونس بقي فيه منه رائحة إلى القيامة (وَأَرْسَلْناهُ) أي إلى مائة ألف أو يزيدون يعني في رأي العين إذا رآهم الرائي قال هم مائة ألف أو أكثر والمراد وصفهم بالكثرة أو بمعنى بل ويؤيده أنه قرئ ويزيدون بالواو ووجه الاستدلال أن الأصل في إفادة الواو الترتيب كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام نبدأ بما بدأ الله تعالى به أن الصفا والمروة من شعائر الله ولا يعدل عن هذا المعنى إلا إذا عرف دليل خارج عن المبنى وهذا لا ينافي قولهم إن الواو لمطلق الجمع وأنها لا تفيد الترتيب فإن مرادهم أنه ليس نصا في المعنى لاحتمال ارادة غيره من هذا المبنى إذا وجد دليل على هذا المدعي هذا وقيل المراد بأرسلناه إرساله الأول إليهم أو هو إرسال ثان بعد ذلك إليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 أو إلى غيرهم لما قيل لما آمنوا سألوه أن يرجع إليهم فأبى تحاميا من رجوعه للإقامة فيهم بعد هجرته عنهم وقال الله تعالى (بعث إليكم نبيا) (ويستدلّ أيضا) أي لما روي عن ابن عباس من أن ارساله إليهم إنما كان بعد نبذ الحوت له (بقوله) أي الله سبحانه وتعالى خطابا لنبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (وَلا تَكُنْ) أي حال ضجرك وقلة صبرك؛ (كَصاحِبِ الْحُوتِ) أي يونس عليه السلام (الْحُوتِ إِذْ نادى [القلم: 48] وذكر القصّة) وهي قوله تعالى إِذْ نادى أي في بطن الحوت وَهُوَ مَكْظُومٌ أي مملوء غيظا لولا أن تداركه وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس لولا أن تداركته نعمة من ربه بعود رحمته إليه وقبول توبته عليه وقرأ الحسن تداركه بتشديد الدال على أن أصله تتداركه على حكاية الحال الماضية بمعنى لولا أن كان يقال في شأنه تتداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء أي لطرح بالفضاء الخالي عن الماء والبناء وهو مذموم حال اعتمد عليها جواب لولا والمعنى لولا تدارك رحمته وعود نعمته لكان على حال مذمته ومذلته (ثمّ قال: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ أي قربه واصطفاه (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القلم: 50] ) أي الكاملين في الصلاح والديانة وهم أصحاب النبوة والرسالة (فتكون هذه القصّة إذن) أي على هذا (قبل نبوّته) أي وارساله إليهم (فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) فيما رواه عن الأعز المزني (إنّه) أي الشأن (ليغان على قلبي) أي ليغطي ويستر والجار نائب الفاعل وهو بصيغة المجهول من الغين وهو اطباق الغيم في مرأى العين وهو سحاب لطيف كناية عن حجاب ظريف لما يعرض له عليه الصلاة والسلام مما يصرفه عن دوام ملازمة ذكر الملك العلام على وجه التمام وهو الاستغراق في بحر الشهود والفناء عن مطالعة ما سوى الله تعالى في عالم الوجود لما يعرض له مما يصرفه عن ذلك المقام بسبب اشتغاله بأمور أمته ومصالحها من الأحكام المتعلقة بالخاص والعام أو لأجل تصور قصوره في مقام العبادة على الوجه التام (فاستغفر الله كلّ يوم) وفي نسخة في كل يوم وفي نسخة في اليوم (مائة مرّة وفي طريق) أي للبخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فاستغفر الله (في اليوم أكثر من سبعين مرّة) وهي لا تنافي الرواية الأولى على أن حملهما على أرادة الكثرة هو الأولى والحاصل أنه كان يعد ما يشغله عن ربه في الصورة ذنبا بالنسبة إلى مقامه الأعلى المعبر عنه لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل والمحققون على أنه أراد بالنبي المرسل ذاته الأكمل في حاله الأفضل المعبر عنه بالاستغراق في لجة فناء بحر التوحيد وبر التفريد وبهذا تبين لك أن حسنات الأبرار سيئات المقربين وكانت رابعة العدوية في مثل هذه القضية قالت استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير والحاصل أن هذا سحاب غين في الطريقة وحجاب عين في الحقيقة وحجب الأنبياء والاصفياء من الأولياء لم تكن إلا نوارنية لطيفة لا ظلمانية كثيفة (فاحذر) أي كل الحذر لخوف عظيم الخطر (أن يقع ببالك) أي ويخطر في خيالك (أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغَيْنُ وَسْوَسَةً أَوْ رَيْبًا) بالموحدة ان شكا وشبهة وفي نسخة بالنون فيكون من قبيل قوله تعالى كَلَّا بَلْ رانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فالمعنى فاحذر أن تتوهم أن يكون هذا الغين ربنا أي حجابا شينا (وقع في قلبه عليه الصلاة السّلام) أي فينقلب عليك الملام (بل أصل الغين في هذا) أي المكنى به في المقام (ما يتغشّى القلب ويغطّيه) عما يقصده من المرام ولعل الحكمة في ذلك عدم القوة البشرية لدوام ما هنالك؛ (قاله) أي هذا المبنى اللغوي المترتب عليه المعنى الحقيقي (أبو عبيد) وهو معمر بن المثنى كذا ذكره الدلجي وقال الحلبي هو القاسم بن سلام بتشديد اللام انتهى وهو الظاهر في هذا المقام ويروى قال أبو عبيد (وأصله من غين السّماء) وفيه إيماء إلى مقام العلاء (وهو إطباق الغيم عليها) فهو سحاب عارض لا يمنع السماء عن مقام الاعتلاء؛ (وقال غيره) أي غير أبي عبيد (الغين شيء يغشّي القلب) بتشديد الشين وتخفيفها أي يستره ويخفيه (ولا يغطّيه كلّ التّغطية كالغيم الرّقيق) وهو السحاب الأبيض (الّذي يعرض في الهواء) بالمد (فلا يمنع ضوء الشّمس) أي بالكلية (وكذلك) أي مثل ما قدمناه لك فيما حذرناك من أن تفهم بالغين نوع وسوسة في البين (لا يفهم) بصيغة المجهول ليكون أعم ولا يبعد أن يكون بصيغة الخطاب والمراد به الخطاب العام (مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُغَانُ عَلَى قَلْبِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً فِي اليوم إذ ليس يقتضيه) أي هذا المعنى (لفظه الّذي ذكرناه) أي من المبنى (وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ وَإِنَّمَا هَذَا عَدَدٌ لِلِاسْتِغْفَارِ لا للعين) وفيه أن الرواية التي ذكرها المصنف بلفظ فاستغفر الله تقتضي ذلك بل الظاهر أن هذا العدد من الاستغفار يترتب على تحقق كل ما وقع من الغين في عين الأبرار نعم هذا لم يرد على ما ورد بلفظ وأني لأستغفر الله فإن صدر الحديث يشير إلى أنه قد يغان قلبه عن ربه وآخره يشعر بأنه يستغفر الله تعالى كثيرا لأجله أو بسبب غيره وحينئذ يحتمل أن يكون استغفاره لنفسه أو لغيره من المؤمنين أو للجمع بينهما وهو ظاهر قوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ مع ما فيه من تعليم الأمة وتحثيثهم على كثرة الاستغفار والتوبة عن المعصية والغفلة والتقصير في الطاعة والعبادة للاقتداء بسيد الأنبياء على أن في كثرة الاستغفار فتح باب الفناء وانكشاف مقام البقاء (فيكون المراد بهذا الغين) أي والله تعالى أعلم بحقيقته (إشارة إلى غفلات قلبه) أي في مقام المجاهدة (وفترات نفسه) أي في مرام المشاهدة (وسهوها) أي اشتغالها بما هو أهم عليها (عن مداومة الذّكر) أي اللساني إذ لا يمنع مانع عن مواظبة الذكر الجناني ولذا كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال غفرانك تداركا لما فاته من ذكر اللسان في درك الفضاء واشعارا بأنه قاصر عن القيام بشكر تلك النعماء كما أشار إليه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم حينئذ الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأبقى علي ما ينفعني (ومشاهدة الحقّ) أي في مقام الفناء والاستغراق المطلق (بما كان) أي بسبب كونه (صلى الله تعالى عليه وسلم دفع إليه) بصيغة المجهول أي رد إليه وحمل عليه (من مقاساة البشر) أي من مكابدة لوازم البشرية من الأكل والشرب وسائر المقتضيات الطبيعية (وسياسة الأمّة) أي بالأحكام الشرعية (ومعاناة الأهل) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 أي مقاساة أحوال العيال والأولاد والخدم والأحفاد ومكابدة الأقارب القريبة والبعيدة (ومقاومة الوليّ والعدوّ) أي مقابلتهما بما يصلح في معاملتهما (ومصلحة النّفس) أي تربيتها وارتياضها حتى تنقاد بتحمل ما لها وتحمل ما عليها مما لا بد منه معاشا ومعادا (وكلّفه) بصيغة المجهول أي وبما كلفه الله تعالى أي حمله (من أعباء أداء الرّسالة) أي من أثقال تأديتها واشتغال تبليغها (وحمل الأمانة) أي الخاصة والعامة المؤدية إلى كمال الديانة كما أشار إليه قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ أي عليها أنفسها أو على سكانها فَأَبَيْنَ أي امتنعن من قبول حملها بحسب القابلية حيث لم يخلقوا لها وما جعلهم الله من أهله وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ لكمال قابليته وجمال أهليته إِنَّهُ كانَ أي في علمه سبحانه وتعالى باعتبار جنسه ظَلُوماً جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ففي الآية دلالة على أن أن أفراد المؤمنين لا بد لهم من الاستغفار والتوبة ليستحقوا بذلك المغفرة والرحمة كما أشعر به قوله سبحانه وتعالى وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً للمسيئين والمحسنين (وهو) أي النبي عليه الصلاة والسلام (في كلّ هذا) أي ما ذكرناه من اختلاف مقامه ويروى في هذا كله (في طاعة ربّه وعبادة خالقه) فلا يكون الاستغفار على الحقيقة من التوبة عن المعصية وإنما هو من حالة أدنى إلى حالة أعلى فإن السير في الله تعالى لا يبلغ أحد منتهاه (ولكن) أي الاستغفار مع هذا له سبب وهو أنه (لمّا كان صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْفَعَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ مَكَانَةً) أي رتبة (وأعلاهم درجة) أي قربة (وَأَتَمَّهُمْ بِهِ مَعْرِفَةً وَكَانَتْ حَالُهُ عِنْدَ خُلُوصِ قلبه) أي عن ملاحظة غير ربه (وخلوّ همّته وتفرّده بربّه) عن شهود غيره (وإقباله بكلّيّته) أي قلبا وقالبا (عليه) أي بتفويض جميع أموره إليه والقائه نفسه كالميت بين يديه (ومقامه هنالك أرفع حاليه) أي بالنسبة إلى غير ذلك وجواب لما قوله (رأى صلى الله تعالى عليه وسلم حال فترته عنها) أي صورة (وشغله بسواها) أي ضرورة (غضّا) بتشديد المعجمة الثانية أي نقصا وانحطاطا (من عليّ حاله) أي رفع كماله وبديع جماله (وخفضا من رفيع مقامه) ومنيع مرامه (فاستغفر الله من ذلك) وطلب المقام الأعلى فيما هنالك؛ (هذا) أي التأويل الذي حررناه (أولى وجوه الحديث وأشهرها) أي وأظهرها فيما قررناه وفي نسخة وأشهدها أي وأبينها وأدلها فيما ذكرناه (وإلى معنى ما أشرنا به) أي إليه كما في نسخة وفي نسخة وإلى ما أشرنا به فيه من تأويل الحديث (مال كثير من النّاس وحام حوله) أي دار في جوانبه أهل الاستيناس (فقارب) أي أمره (ولم يرد) أي أحد حكمه وقيل لم يصله على أنه من ورد (وقد قرّبنا غامض معناه) أي مشكل معناه مع ما يتعلق بحل مبناه (وكشفنا للمستفيد محيّاه) بضم الميم وتشديد الياء أي نقاب وجهه وحجاب أمره وفي نسخة مخباه بخاء معجمة وتشديد موحدة أي مخفيه وأصله الهمز كما في قوله ألا يا اسجدوا لله الذي يخرج الخبأ فكأنه أبدل للتخفيف مراعاة للسجع (وهو) أي التأويل المذكور (مبنيّ على جواز الفترات) أي التكاسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 في الطاعات والتغافل عن العبادات (والغفلات) أي عما يجب عليهم من الأمور في الأوقات (والسّهو) أي الغلط أو اللهو في بعض الأمور والحالات (في غير طريق البلاغ) أي تبليغ الآيات وما يتعلق بأمور الرسالات (على ما سيأتي) أي في بعض المقامات (وذهب طائفة من أرباب القلوب ومشيخة المتصوّفة) بفتح الميم وكسر الشين وسكونها أي مشايخهم في الطريق المطلوب (ممّن قال بتنزيه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذا) أي عما ذكر من نحو الفترة والغفلة (جملة) أي جميعا بطريق الإجمال من غير تفصيل واستثناء بعض الأحوال (وأجّله) بتشديد اللام أي وعده عليه الصلاة والسلام جليلا وفي مقام الكمال جميلا (أن يجوز عليه) أي من أن يصدر عنه وفي نسخة بصيغة المجهول مشددة الواو أي من أن يصدر تجويز ما سبق عليه (في حال) أي من الحالات ووقت من الأوقات (سهو) أي ذهول في المقامات (أو فترة) أي قصور في الطاعات وكسور في المقامات ومال (إلى أنّ معنى الحديث) أي المذكور بحسب المآل أن المراد بالغين (مليهمّ خاطره) من أهمه الأمر إذا أزعجه وأقلقه (ويغمّ فكره) بفتح الياء وضم الغين المعجمة لا كما توهم الحلبي من أنه بكسرها كما قبله وفي نسخة بضم أوله أي ويشغل سره (من أمر أمّته) أي أهل دعوته وإجابته (عليه الصلاة والسلام لاهتمامه بهم وكثرة شفقته عليهم) أي بوصف الدوام (فيستغفر لهم) أي في ساعات من الأيام فالاستغفار راجع إلى عصاة أمته عليه الصلاة والسلام؛ (قالوا) أي الطائفة المتصوفة (وقد يكون الغين ههنا) أي في هذا الحديث (على قلبه السّكينة) أي الوقار والطمأنينة (التي تتغشّاه) وفي نسخة تغشاه أي تتنزل عليه مما يخشع له قلبه ويسكن روعه (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التَّوْبَةِ: 40] ويكون استغفاره عليه الصلاة والسلام عندها) أي عند نزولها وحال حصولها (إظهارا للعبوديّة) يروى لعبوديته (والافتقار) ألى التجليات الربوبية؛ (قال ابن عطاء استغفاره وفعله) أي تضرعه وخضوعه وإظهار خوفه (هذا تعريف للأمّة) أي تعليم لهم (يحملهم) جملة استئنافية أو حالية أي يبعثهم ويحثهم (على الاستغفار) أقول وهذا المعنى لا ينافي ما سبق عن بعض الأبرار؛ (قال غيره) أي غير ابن عطاء (ويستشعرون) من الشعور أي ويدركون من تعريفه لهم الاستغفار (الحذر) من الوقوع في المعاصي على وجه الإصرار ووقع في أصل الدلجي الحصر أي الحبس لأنفسهم على الطاعة وفي نسخة الحظر أي المنع لها عن المعصية والحاصل أنهم حينئذ يقعون في الحذر والخوف على أنفسهم (ولا يركنون إلى الأمن) أي لا يميلون ولا يسكنون إليه ولا يعتمدون عليه؛ (وقد يحتمل أن تكون هذه الإغانة) في القاموس غين على قلبه غينا تغشته السهوة أو غطي عليه وألبس أي غشي عليه أو أحاط به الرين كأغين فيهما انتهى وبهذا علم أن الإعانة في لغة مبنى الغين والمراد بها أن هذه الغشية (حالة خشية وإعظام) أي ومقام هيبة (تَغْشَى قَلْبَهُ فَيَسْتَغْفِرَ حِينَئِذٍ شُكْرًا لِلَّهِ وَمُلَازَمَةً لعبوديّته) أي ومحافظة على مداومة عبودية مولاه (كما قال في ملازمة العبادة) أي التي هي أخص من العبودية (أفلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 أكون عبدا شكورا) حين قام عليه الصلاة والسلام في صلاة الليل حتى تورمت قدماه فقيل له افتتكلف هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شكورا والحديث روى الترمذي والفاء للعطف على مقدر تقديره ءاترك الصلاة اعتمادا على الغفران فلا أكون عبدا شكورا للرحمن وقد قال في حق نوح عليه السلام إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً وقال عز وجل وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وقيل المعنى أن غفران الله تعالى إياي سبب لأن أصلي شكرا له فكيف أتركه ثم تخصيص العبد بالذكر للإشعار بأن العبودية تقتضي صحة النسبة وليست تتصور إلا بالعبادة وهي عين الشكور فالمعنى ألزم العبادة وإن غفر لي لأكون عبدا شكورا وكأن من سأله ظن أن سبب تحمل مشقة العبادة إما خوف معصية أو رجاء مغفرة فأفاده أن لها سببا آخر أتم وأكمل وهو الشكر على التأهل لها مع اكمال المغفرة واجزال النعمة وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أن قوما عبدوا رغبة فتلك عبادة التجار وأن قوما عبدوا رهبة فتلك عبادة العبيد وأن قوما عبدوا شكرا فتلك عبادة الأحرار كذا نقله عنه صاحب ربيع الأبرار (وعلى هذه الوجوه) أي الأخيرة كما في نسخة وهي من قوله وقالوا وقد يكون الغين إلى آخره (يُحْمَلُ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الحديث عنه عليه الصلاة والسلام إنه) بكسر الهمز أي الشأن (لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سبعين مرّة فأستغفر الله تعالى) ولا يخفى أن هذه الرواية تؤيد أن المراد بالعدد في الحديث السابق هو الغين المرتب عليه الاستغفار لا الاستغفار المجرد عن الغين كما قدمناه (فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صلى الله تعالى عليه وسلم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ أي الخلق بأجمعهم (عَلَى الْهُدى) بتوفيقهم للإيمان وترك العصيان لكن لم تتعلق المشيئة بما هنالك فلم يجمعهم على ذلك وأما تأويل المعتزلة بأن يأتيهم بآية ملجئة تجمعهم عليه لكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة فمردود عليهم لأن المشيئة لا تتعلق بالخارج عن الحكمة والحكم الالهية لا نهاية لها ولا غاية لمعرفتها بل أكثرها مجهول عندنا (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الأنعام: 35] ) أي بصفات الله تعالى المقتضية لذلك فإن منها الجلالية التي توجب هلاك الكفار وانتقامهم بالنار خالدين فيها أبدا ومنها الجمالية التي توجب الرحمة على المؤمنين وإنعامهم بالجنة خالدين فيها أبدا (وقوله تعالى) أي والحال أنه قد قال وفي نسخة وقوله أي وما معنى قوله (لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] ) وحاصل الإشكال نهاهما عن كونهما من الجهال فأجاب عنه بقوله؟ (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ فِي ذَلِكَ إِلَى قول من قال في آية نبيّنا عليه الصلاة والسلام) وهي الآية الأولى (فلا تَكُونُنَّ مِمَّنْ يَجْهَلُ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لجمعهم على الهدى) لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن جاهلا بهذا المقام ولا يجوز جهل الأنبياء بصفاته الكرام لكن لا يلزم من نهيه عن كونه منهم أنه منهم كما قال تعالى في آيات كثيرة فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ فإن المراد به التهييج والتثبيت على تحقيق ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 المرام والتعريض بأن من كان على خلاف ذلك الاعتقاد فهو جاهل بالرشاد وضال عن طريق السداد (وفي آية نوح) وهي الآية الثانية (لَا تَكُونُنَّ مِمَّنْ يَجْهَلُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقّ) أي واخباره صدق (لقوله) أي لتصريح نوح نفسه (وإنّ وعدك الحقّ إذ فيه) أي فيما قاله هذا القائل الجاهل مجترئا بقوله عليهما تفسيرا للآيتين (إثبات الجهل بصفة من صفات الله تعالى) أي تجويزا مكان ذلك لأن النهي غالبا لا يكون إلا هنالك وإلا فقد سبق أنه لا يلزم من قوله فيهما اثبات الجهل لهما بصفة من صفات الله تعالى (وذلك) أي الجهل المذكور (لا يجوز على الأنبياء) بل ولا على العلماء والأولياء (والمقصود) أي من نهي الأنبياء عن هذه الأشياء (وعظهم أن لا يتشبّهوا في أمورهم) أي من أحوالهم وأقوالهم وأعمالهم وفي نسخة أن لا يتسموا بتشديد التاء أي لا يتصفوا (بسمات الجاهلين) بكسر السين المهملة أي بصفاتهم (كما قال) أي الله سبحانه وتعالى إيماء إلى ذلك (إنّي أعظك وليس في آية منها دليل على كونهم على تلك الصّفة) أي صفة الجهل (الّتي نهاهم عن الكون عليها) أي الاتصاف بها (فكيف) أي لا يكون الأمر كذلك (وآية نوح قبلها فلا تسألني) فيه قراآت أي فلا تطلبني (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) من نجاة ابنك (فحمل ما بعدها) أي ما بعد هذه الآية وهو قوله إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ (على ما قبلها) وهو قوله (فلا تسألني ما ليس لك به علم) (أولى) لصراحتهم بعدم علمه بموجب ترك نجاة ابنه (لأنّ مثل هذا) أي سؤال ما ليس له به علم من نجاة ابنه (قد يحتاج إلى إذن) من ربه ليقدم عليه بأمره (وقد تجوز إباحة السّؤال فيه ابتداء) أي من ابتداء الحال قبل النهي عن السؤال (فنهاه الله أن يسأله عمّا طوى) أي زوى الله تعالى (عنه علمه وأكنّه) بتشديد النون أي ستره وكتمه (من غيبه) أي عن ادراكه بالبصر أو البصيرة ومن بيان لما وقوله (من السّبب) بيان للغيب فكأنه قال من الغيب الذي هو السبب (الموجب لهلاك ابنه) وفي نسخة لإهلاك ابنه مع أنه قال تعالى وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ لكن لما كان على وجه الإجمال حمله على هذا السؤال ليتبين له جملة الأحوال وقال الماتريدي ظن أنه على دينه إذ كان يظهر له ذلك ويبطن كفره نفاقا هنالك وإلا لما تأتي له أن يقول إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وقيل إنه غلب عليه الشفقة الوالدية ومقتضى الطباع البشرية والأظهر قول الماتريدي ولذا قال المصنف (ثمّ أكمل الله تعالى نعمته عليه) أي هنالك (بِإِعْلَامِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي الموعودين بالنجاة كما قدمنا الإشارة إليه بأداة المستثناة أو المعنى ليس من أهلك حقيقة وإن كان ابنك صورة حيث خالفك سيرة كما بينه سبحانه وتعالى بقوله (إِنَّهُ عَمَلٌ) أي ذو عمل (غَيْرُ صالِحٍ [هود: 46] ) وفي قراءة الكسائي إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ بصيغة الفعل ونصب غير والمراد بعمل غير صالح الكفر فكل من كان من ذرية الأنبياء ولم يكن من الاتقياء فلم يكن من أهلهم وإن كان من نسلهم ولذا ورد آلى كل تقي (حكى معناه مكّيّ كذلك) أي ومثل أمره سبحانه وتعالى لنوح عليه السلام (أمر نبيّنا) صلى الله تعالى عليه وسلم (في الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 الأخرى بالتزام الصّبر) في آية وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا (على إعراض قومه) أي عن الإيمان به (ولا يحرج) بالحاء المهملة وفتح الراء أي لا يضيق صدرا (عند ذلك) أي الاعراض (فيقارب) أي حالك (حال الجاهل بشدّة التّحسّر) كما يشير إليه صدر الآية وهو قوله تعالى وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي ملجئة إلى الإيمان بالأنبياء والمعنى لا تقدر على ذلك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بما هنالك، (حكاه أبو بكر ابن فورك) بضم الفاء وفتح الراء وجوز فيه الصرف وعدمه (وقيل معنى الخطاب) أي وجهه (لأمّة محمد) على أن الخطاب له والمراد غيره أو الخطاب لغيره ابتداء (أَيْ فَلَا تَكُونُوا مِنَ الْجَاهِلِينَ: حَكَاهُ أَبُو محمّد مكّي؛ وقال) أي مكي (مثله في القرآن كثير) أي من الآيات التي فيها الخطاب له والمراد أمته أو التي لا يصلح فيها الخطاب له حقيقة فالمراد به خطاب غيره من الأمة؛ (فبهذا الفضل) أي الذي أوجب لهم مزيد الفضل (وجب القول) وفي نسخة فهذا الفضل أوجب القول وفي أخرى يوجب القول (بعصمة الأنبياء منه) أي مما ذكر من الجهل بالله تعالى وصفاته ومن السهو واللهو والفترة والغفلة (بعد النّبوّة قطعا) أي جزما من غير تردد وشبهة (فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا قَرَّرْتَ عِصْمَتَهُمْ مِنْ هَذَا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ) أي والشرك من جملة ذلك بل هو أعظم ما هنالك (فما معنى وعيد الله تعالى) وفي أكثر النسخ المصححة فما معنى إذا وعيد الله تعالى بالتنوين بمعنى حينئذ وبجر وعيد وكان الأظهر أن يقال فإذا ما معنى وعيد الله تعالى (لنبيّنا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ إِنْ فَعَلَهُ وَتَحْذِيرِهِ منه) بناء على أن الوعيد والتحذير غالبا إنما يكون فيمن يتصور فيه فعلى ذلك لا فيمن يكون معصوما من وقوعه فيما هنالك وصورة الوعيد والتحذير وقعت كثيرة في حق نبينا عليه الصلاة والسلام (كَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] الْآيَةَ) أي وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وقبله وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ أي من الأنبياء والرسل فتوحيد الخطاب باعتبار كل واحد منهم وإطلاق الاحباط ظاهر على مقتضى مذهبنا والشافعية يحملونه على أنه خاص بهم أو على تقييده بموتهم عليه (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ [يُونُسَ: 106] الْآيَةَ) وهي قوله تعالى فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ [الْإِسْرَاءِ: 75] الآية) يعني قوله تَعَالَى وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا أي لقاربت أن تميل إلى مرادهم فأدركك تثبيتنا وعصمتنا فلم تقارب الركون إليهم فضلا عن أن تركن إليهم إذا أي لو قاربت الركون إليهم فرضا وتقديرا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة مضاعفين والأصل عذابا ضعفا في الحياة وعذابا ضعفا في الممات بمعنى مضاعفا فحذف الموصوف وأقيم صفته مقامه ثم أضيفت والمعنى أن المعصوم لا يتصور منه الركون إلى الكفر الموجب للعذاب (وقوله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة: 45] ) وهو جواب لو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ أي لو افترى علينا ما لا يصح نسبته إلينا لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين أي لأهلكناه وعذبناه وهذا تصوير لقتله صبرا بأفظع ما يفعله الملوك قهرا فيؤخذ بيمينه فيضرب عنقه فينقطع وتينه وهو عرق يقال له حبل الوريد مناط القلب فإذا قطع مات صاحبه والمعنى أن المعصوم لا يفتري على الله تعالى حتى يتفرع عليه ما هدد به (وَقَوْلِهِ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116] ) والمعنى أن المعصوم لا يتصور منه إطاعة أرباب الضلال حتى يضلوه عن طريق الوصال (وقوله: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشورى: 24] ) أي بعد قوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فالمعنى إن يشأ يجعلك ممن يختم على قلبه حتى يجترئ بالكذب على ربه أو المعنى يختم على قلبك فينسيك كلام ربك وقيل المعنى يربط عليه بالصبر فلا يشق عليه مقالة أهل الكفر فلا إشكال حينئذ (وقوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أي ما أمرت به من تبليغ جميع ما أنزل إليك (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة: 67] ) قرئ بالإفراد والجمع أي حق رسالته أو فكأنك ما بلغت شيئا منها (وقوله: اتَّقِ اللَّهَ) كذا في نسخة وقبله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ كما في أخرى أي دم على تقواه (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب: 1] ) أي فيما يؤدي إلى وهن في الدين ومن المعلوم أن المعصوم لا يكون إلا متقيا ولا يتصور فيه أن يطيع كافرا فما معنى أمره بالتقوى ونهيه عن إطاعة غير المولى (فاعلم) أيها المخاطب الأعم (وفقنا الله وإيّاك) للطريق الأقوم (أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يصحّ) أي له (ولا يجوز عليه أن لا يبلّغ) أي شيئا مما أمر به (ولا أن يُخَالِفَ أَمْرَ رَبِّهِ وَلَا أَنْ يُشْرِكَ بِهِ ولا يتقوّل على الله) أي ولا أن يتكلف بالقول عليه (ما لا يحبّ) أي ما لا ينبغي أن يقال ولم يؤذن في ذلك المقال (أو يفتري عليه) أي من تلقاء نفسه (أو يضلّ) بصيغة المجهول وفي نسخة بفتح الياء وكسر الضاد (أو يختم على قلبه) بالبناء للمفعول (أو يطيع الكافرين) أي أعم من المنافقين (لكن) وفي نسخة ولكن الله تعالى (يسّر أمره) أي سهله (بالمكاشفة والبيان في البلاغ) أي في تبليغه (للمخالفين) أي من اليهود والنصارى والمشركين (وَأَنَّ إِبْلَاغَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ السَّبِيلِ) أي الطريق المرضي (فكأنّه ما بلّغ) والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان خائفا من وقوع تقصير له في هذا المقام ولذا عقبه (وطيّب نفسه) أي أراحه من تعبه (وقوّى قلبه) بتوفيق ربه وتحقيق أمره (بقوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ) أي مما بين الناس من أن تقع منك معصية أو تقصير في طاعة وهذا المعنى هو المناسب لهذا المقام كما يشير إليه السابق واللاحق للكلام وهو قوله تعالى وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ وهو لا ينافي ما ذكر بعضهم في معناه أنه سبحانه وتعالى يعصمه من تعرض الكفار له بقتل ونحوه ففيه تنبيه نبيه على أنه لا بد له من إكمال تبليغه وهذه التسلية له عليه الصلاة والسلام (كما قال لموسى وهارون لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما [طه: 45] ) أي حافظكما وناصركما على أعدائكما وهذا كله (لتشتدّ بصائرهم) أي لتتقوى سرائرهم (في الإبلاغ) ويروى في البلاغ أي في باب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 تبليغ الرسالة (وإظهار دين الله تعالى) في كل حالة (ويذهب) بضم الياء وكسر الهاء وفي نسخة بفتحها أي وليزيل أو يزول (عنهم خوف العدو المضعف) بتخفيف العين وتشديدها أي الموهن (للنّفس) وفي نسخة صحيحة لليقين. (وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [الحاقة: 44] الآية) وقد سبقت (وَقَوْلُهُ إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ [الْإِسْرَاءِ: 75] فَمَعْنَاهُ أنّ هذا) يجوز كسر همزه وفتحه والإشارة إلى ما ذكر من الأخذ والإذاقة (جزاء من فعل هذا) أي الافتراء والميل إلى كلام الأعداء (وجزاؤك لو كنت) أي فرضا وتقديرا (ممّن يفعله) أي يتصور له فعله (وهو لا يفعله) أي لا يجيء منه فعله وفي هذا مبالغة للزجر عما ذكر لغيره ممن يتصور منه فعله (وكذلك) أي ومثل ما تقدم من التأويل (قَوْلُهُ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116] ) أي ولو كان الخطاب له بظاهره (فالمراد غيره) مبالغة في زجره عن مخالفة أمره (كما قال) أي الله تعالى مخاطبا للأمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا على سبيل الحقيقة (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا [آلِ عِمْرَانَ: 139] الْآيَةَ) أي يردوكم على أعقابكم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ وقد نزلت حين قال المنافقون للمؤمنين بأحد عند انهزامهم إذا أرجف بقتل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كذبا ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم ولو كان محمد نبيا لما قتل ثم العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (وقوله) أي وكذلك قوله تعالى (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشُّورَى: 24] : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وَمَا أَشْبَهَهُ فالمراد غيره) أي حقيقة ولو كان الخطاب له مجازا فيكون فيه تعريض لاستيقاظ الأمة من نوم الغفلة (وأنّ هذه) أي العقوبة المتفرعة (حال من أشرك) ومآل وبال من كفر ومن لم يوحد الله تعالى به وما أقر (والنبيّ عليه الصلاة والسلام لا يجوز عليه هذا) أي الإشراك لعصمته من ذاك إجماعا (وَقَوْلُهُ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الْأَحْزَابِ: 1] ) مبتدأ وكأن المصنف قدر فيه اما أو توهم فأخبر عنه بقوله (فليس فيه أنّه أطاعهم) إذ لا يلزم من النهي عن الإطاعة مخالفة الطاعة (والله سبحانه ينهاه عمّا يشاء) حيث قال وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ (ويأمره بما يشاء) حيث قال اتَّقِ اللَّهَ (كَمَا قَالَ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الأنعام: 52] الآية) أي بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (وما كان طردهم صلى الله تعالى عليه وسلم ولا كان من الظّالمين) والتحقيق في مقام العصمة أنه لا يأمره بالموافقة ولا ينهاه عن المخالفة لأنه لا يتصور منه هذه الحالة فإما أن يحمل الآيتان على ما سبق من سائر الآيات أو على أنه أريد به التهييج والاثبات أو الامتنان عليه بهذه العصمة والثبات في الحياة إلى الممات. فصل (وأمّا عصمتهم من هذا الفنّ) أي من نوع المعصية مع الإجماع على عصمتهم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 الكفر (قبل النّبوّة فللنّاس فيه خلاف) ففي شرح العقائد للعلامة التفتازاني الأنبياء معصومون من الكذب خصوصا فيما يتعلق بأمر الشرائع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة إما عمدا فبالإجماع وإما سهوا فعند الأكثرين وفي عصمتهم من سائر الذنوب تفصيل وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور خلافا للحشوية وإما سهوا فجوزه الأكثرون وأما الصغائر فتجوز عمدا عند الجمهور خلافا للجبائي واتباعه وتجوز سهوا بالاتفاق إلا ما يدل على الخسة كسرقة لقمة وتطفيف حبة لكن المحققون اشترطوا أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه هذا كله بعد الوحي وأما قبله فلا دليل على امتناع صدور الكبيرة وذهب المعتزلة إلى امتناعها والحق منع ما يوجب النفرة كعهر الأمهات والفجور والصغائر الدالة على الخسة إذا تقرر هذا فما نقل عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مما يشعر بكذب أو معصية فما كان منقولا بطريق الآحاد فمردود وما كان بطريق التواتر فمصروف عن ظاهره إن أمكن وإلا فمحمول على ترك الأولى أو كونه قبل البعثة وتفصيل ذلك في الكتب المبسوطة. (وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْجَهْلِ بالله وصفاته) أي الثبوتية والسلبية والفعلية والإضافية (والتّشكّك) وروي أو التشكك والأول أولى ومعناه التردد (في شيء من ذلك) أي من جميع جهاته المتعلقة بالأمور الدينية والأخروية (وقد تعاضدت الأخبار والآثار) أي وتعاونت وتواترت الأنباء (عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النّقيصة) أي منقصة الجهل في مرتبة المعرفة (منذ ولدوا) فهم معصومون قبل البلوغ أيضا عن الكفر والاصرار على المعصية (ونشأتهم) أي وبخلقتهم وفطرتهم وتربيتهم (على التّوحيد والإيمان) أي في أعلى مراتب الإيقان ومناقب الإحسان (بل على إشراق أنوار المعارف) وإطلاع أسرار العوارف (ونفحات ألطاف السّعادة) ورشحات اشراف الزيادة (كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنَ القسم الأوّل) أي في فصل الخصال المكتسبة (مِنْ كِتَابِنَا هَذَا وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أهل الأخبار) أي لا من الكفار ولا من الأبرار (أنّ أحدا) من الناس (نبّىء) ويروى تنبأ أي جعل نبيا في مقام الاستئناس (واصطفي) أي اختير عليهم (ممّن عرف بكفر وإشراك) عطف خاص على عام (قبل ذلك) أي قبل ظهور النبوة وإظهار الرسالة (ومستند هذا الباب) أي مرجع هذا النوع من الكلام (النّقل) أي الثابت في مقام المرام (وقد استدلّ بعضهم) أي على عصمة الأنبياء من بعض أفراد المعصية على تقدير وقوعها منهم (بأنّ القلوب تنفر عمّن) ويروى عن كل من (كانت هذه سبيله) فيفوت غرض التبليغ وتحصيله (وأنا أقول إنّ قريشا) وهم عمدة قبائل العرب (قد رمت نبيّنا بكلّ ما افترته) أي ذمته بجميع ما قدرت عليه من نسبته إلا المسبة، (وعيّر) بتشديد التحتية أي وعاب (كفّار الأمم أنبياءها بكلّ ما أمكنها) أي من المعايب (واختلفته) بالقاف أي اخترعته من جميع المثالب (ممّا نصّ الله تعالى عليه) أي صرح به من الجنون والسحر والشعر والتعلم والافتراء وطلب الجاه وأمثال ذلك وفي نسخة بالقاف بدل النون (ونقلته إلينا الرّواة) أي عن كفار الأمم من الطعن في الرسل (ولم نجد في شيء من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ذلك) أي من نص الحق ورواية الخلق (تعييرا لواحد منهم) يحتمل أن يكون الواحد معرفا وقع مضافا إليه وأن يكون تعييرا مفعول لم نجد ولو أحد متعلق به (برفضه) أي بترك نبي (آلهته) أي من الأصنام بعد ما كان يلتزم عبادتها (وتقريعه) أي وبتوبيخه (بذمّه) متعلق بتعيير الواحد منهم (بترك ما كان قد جامعهم) أي وافقهم (عليه) أي في أول أمره ولو في حال صغره (ولو كان) أي وجد لأحد منهم (هذا) أي الأمر المخالف للدين المنافي لتوحيد أرباب اليقين (لكانوا) أي الكفار (بذلك) أي بإظهار ما ذكر (مبادرين) أي مسارعين إلى تعييره في تغييره (وبتلوّنه) أي تغيره وانتقاله (في معبوده) أي معبود غيره (محتجّين) أي مستدلين على تقريعه وتوبيخه (ولكان توبيخهم) أي لومهم (له بنهيهم عمّا كان يعبد قبل) أي قبل دعوى النبوة (أفظع) بالفاء والظاء المعجمة أي أشنع في النسبة (وأقطع) أي أمنع (فِي الْحُجَّةِ مِنْ تَوْبِيخِهِ بِنَهْيِهِمْ عَنْ تَرْكِهِمْ آلهتهم) التي يدعون من دون الله (وَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ فَفِي إطباقهم على الإعراض عنه) أي عن توبيخ أحد منهم بعبادة غير الله (دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا إِلَيْهِ) أي إلى نقله (إذ لو كان لنقل) أي عنهم (وما سكتوا عنه) فإنهم كانوا يفترون عليه ما لم يكن فيه موجودا فكيف إذا وجدوا إليه سبيلا محققا مشهودا (كما لم يسكتوا عند تحويل القبلة) أي صرفها عن الكعبة إلى بيت المقدس أو عن بيت المقدس إلى الكعبة ويروى عن تحويل القبلة (وقالوا) أي كفار مكة أو اليهود (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) أولا من الكعبة أو بيت المقدس (كما حكاه الله عنهم) بقوله سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ الآية (وقد استدلّ القاضي القشيريّ) لعله أبو نصر عبد الرحيم ابن الاستاذ أبي القاسم القشيري «1» صاحب الرسالة اجمع على جلالته وإمامته ارتفع على إمام الحرمين وعلى أبيه واعتقل لسانه في آخر عمره وكان دائم الذكر وكان لا يتكلم إلا بآي القرآن توفي سنة أربع عشرة وخمسمائة بنيسابور ولأبي القاسم القشيري ولد آخر اسمه عبد الرحمن كنيته أبو منصور أحد أولاده من فاطمة بنت الاستاذ أبي علي الدقاق وكان مستوعب العمر بالعبادة مستغرق الأوقات بالذكر والتلاوة مات سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة بمكة مجاورا وكان له ولد آخر اسمه عبد الله أكبر أولاده وكان من أكابر الأمة فقها وأصولا وكان والده يحترمه ويعامله معاملة الأقران مولده سنة أربع عشرة وأربعمائة ومات سنة سبع وسبعين وأربعمائة قال الحلبي هذا الذي عرفته من أولاده ولم أر فيهم أحدا قاضيا والله سبحانه وتعالى أعلم والحاصل أنه استدل (على تنزيههم) أي براءة ساحتهم (عن هذا) عن مثل ما ذكر من الشرك والكفر (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أي عهدهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى التوحيد   (1) أقول الصواب عبد الرحيم ابن الإمام عبد الكريم بن هوازن الأستاذ أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري كما قاله الشهاب فليراجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 والديانة وَمِنْكَ [الأحزاب: 6] الآية) أي ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم فخص أولو العزم من الرسل وقدم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إما لتعظيم رتبته وإما لتقديم حقيقة نبوته بتقديم روحه ونوره في عالم ظهوره الأولى في بدء أمره وآخر عصره فهو كالعلة الغائية متقدم الوجود متأخر الشهود وتتمة الآية وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عظيما ولعل هذا الميثاق في عالم الأرواح أو كان لهم ميثاق خاص في ضمن عموم ميثاق أهل الأشباح (وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران: 81] إلى قوله تعالى لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [الأحزاب: 81] أي لما آتيتكم بفتح اللام وقرأ حمزة بكسرها وقرأ نافع لما آتيناكم من كتاب وحكمة أي نبوة ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ فقيل المراد برسول فرد من أفراد هذا الجنس فالتنوين للتنكير وقيل المراد به رسولنا صلى الله تعالى عليه وسلم بخصوصه فيكون التنوين للتعظيم ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام قال لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ثم هذا الميثاق يحتمل فيما قدمناه أن يكون جملة ويحتمل أن كل نبي حين اعطائه سبحانه وتعالى له النبوة أخذ منه هذه البيعة على هذه الموافقة والمتابعة (قال) أي القاضي القشيري (فطهّره الله في الميثاق) بإماطة ما لا يليق بكريم قدره وإحاطة ما يناسب تعظيم أمره (وبعيد أن يأخذ) أي الله تعالى (منه الميثاق قبل خلقه ثمّ يأخذ ميثاق النّبيّين بالإيمان به ونصره) أي وبإعانة دينه وتقوية أمره (قبل مولده بدهور) أي بأزمنة طويلة (ويجوز عليه الشّرك) يروى الشك ويجوز في يجوز تشديد الواو المفتوحة أو المكسورة (أي وغيره من الذّنوب) أي الكبائر وكذا الاصرار على الصغائر فهذا هو المستبعد غاية البعد والواو للحال، (هذا) أي إمكان صدور الكفر والشرك منه (مَا لَا يُجَوِّزُهُ إِلَّا مُلْحِدٌ، هَذَا مَعْنَى كلامه) أي القشيري ولعله اقتصر بعض مرامه؛ (فكيف يكون ذلك) أي مجوزا (وقد أتاه جبريل) كما رواه مسلم عن أنس (وشقّ قلبه) أي صدره كما في نسخة (صغيرا) أي حال صغره وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه (واستخرج منه علقة) أي تكون للشيطان بها علقة (وقال هذا حظّ الشّيطان منك) أي صورة لو تركناها على تلك الحالة بلا طهارة كاملة تكون حائلة (ثمّ غسله) أي جبريل في طست من ذهب بماء زمزم حتى ذهب عنه الحجاب الصوري وانكشف له النقاب النوري (وملأه حكمة) أي إيقانا واتقانا (وإيمانا) أي تصديقا وبرهانا ثم لأمه وأعاده في مكان وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا إن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون قال أنس فكنت أرى أثر المخيط في صدره كذا في المصابيح (كما تظاهرت) أي تواترت وتظافرت (به أخبار المبدأ) أي أحاديث بدء خلقته وظهور آثار نبوته إلى منتهى نعته في أسرار رسالته ولا يخفى أنه عليه الصلاة والسلام شق صدره مرتين مرة في حال صباه عند مرضعته حليمة ومرة ليلة المعراج على ما تقدم والله تعالى أعلم (ولا يشبّه) بتشديد الموحدة المفتوحة أي لا يلتبس (عليك) الأمر في تصويب العصمة عن المعصية قبل النبوة (بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 الكوكب والقمر والشّمس هذا ربّي) فإنه بظاهره ينافي ما قدمناه على إطلاقه وأجمعوا على أنه لم يكن في حال كبره (فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ كَانَ هَذَا فِي سَنِّ الطّفوليّة وابتداء النّظر والاستدلال) أي في قضية الربوبية (وقبل لزوم التّكليف) أي بالأمور الشرعية (وذهب معظم الحذاق) جمع حاذق بالذال المعجمة المهرة المتقنين (من العلماء والمفسّرين إلى أنّه) أي إبراهيم (إنّما قال ذلك) أي هذا ربي (مبكّتا) بتشديد الكاف المكسورة أي حال كونه موبخا (لقومه ومستدلا عليهم) أي ببطلان دينهم وما تخيل إليهم (وقيل) كان الظاهر أن يقال فقيل بفاء التفريع لتبيين وجه التبكيت والتقريع (معناه الاستفهام) أي المقدر في الكلام (الوارد مورد الإنكار) أي لتتميم المرام، (والمراد فهذا ربّي) وفيه أنه يكفي أن يقال هذا رَبِّي (وقال الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ هَذَا رَبِّي [الْأَنْعَامِ: 76] أَيْ عَلَى قولكم) يعني في زعمكم (كما قال) أي الله سبحانه وتعالى حكاية عما يقوله يوم القيامة مخاطبا للكفرة (أَيْنَ شُرَكائِيَ [القصص: 74] أي عندكم) وفي رأيكم، (ويدلّ على أنّه) أي إبراهيم (لم يعبد شيئا من ذلك) أي ما ذكر من الكوكب والقمر والشمس (ولا أشرك بالله تعالى قطّ) أي أبدا (طرفة عين) أي غمضة ولمحة (قول الله تعالى عنه) أي حكاية (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ [الشُّعَرَاءِ: 70] ) إنكارا عليهم (ثم قال) أي بعد جوابهم كما قال له تعالى حكاية عنهم قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (أَفَرَأَيْتُمْ أي أخبروني (ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) أي أسلافكم المتقدمون (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) أي فلا أعبد شيئا منها (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع أي لكنه ودود لي فاعبده وحده لأنه موصوف بنعوت الكمال الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (وقال) أي الله تعالى في حقه ويروى وقوله (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصَّافَّاتِ: 84] أَيْ من الشّرك) وسائر العقائد الدنية والأخلاق الردية؛ (وقوله) أي كما حكاه عنه سبحانه (وَاجْنُبْنِي) أي وبعدني (وَبَنِيَّ) أي من صلبي (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم: 35] ) وثبتنا على دين الإسلام (فإن قلت فما معنى قوله) أي بعد غيبوبة القمر وأفوله (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام: 77] قيل إنّه) أي معناه (إن لم يؤيّدني) أي ربي (بمعونته) أي توفيقه وعصمته (أكن مثلكم في ضلالتكم وعبادتكم) أي لآلهتكم فهو إنما قال ذلك المقال (على معنى الإشفاق والحذر) عن أن يقع في الوبال بحسب المآل (وَإِلَّا فَهُوَ مَعْصُومٌ فِي الْأَزَلِ مِنَ الضَّلَالِ) والأظهر أنه إظهار تلذذ بتلك الحال وتحدث بنعمة الله الملك المتعال هذا والأزل هو القدم وأصله لم يزل فلما نسب إليه اختصر فقيل يزلي بالياء ثم أزلي بالهمز بدلا منه (فإن قلت فما معنى قوله) أي الله سبحانه وتعالى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [إبراهيم: 13] ) أقسموا ليكونن أحد الأمرين إما اخراجهم من قريتهم أو عودهم في ملتهم ولم يكونوا قط على طريقتهم (ثم قال) أي الله تعالى (بعد) أي بعد ذلك (عن الرّسل) هذه البعدية لأن الآية الآتية إنما هي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 شعيب حيث قال له قومه لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (قَدِ افْتَرَيْنا الآية) فهذا جواب عن شعيب ومن تبعه من المؤمنين ويمكن حمل العود على التغليب لا كما قال المصنف عن الرسل اللهم إلا أن يتكلف ويقال التقدير قد افترينا نحن معاشر الأنبياء وطائفة المؤمنين من الأولياء على الله كذبا أي في دعوى التوحيد إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله منها وعصمنا من الركون إليها (فلا يشكل عليك لفظة العود) بناء على توهم أنه بمعنى الرجوع في هذا المقام (وأنّها تقتضي) أي حينئذ (أنّهم) أي الأنبياء (إنّما يعودون) ويروى أنهم يعودون (إلى ما كانوا) ويروى لما كانوا (فيه من ملّتهم) أي فإن هذا المعنى خطأ فاحش وللعوذ معان (فَقَدْ تَأْتِي هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ) أي أحيانا (لغير ما ليس له ابتداء) كذا في بعض النسخ والصواب كما في بعضها لما ليس له ابتداء كما بينه بقوله (بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْجَهَنَّمِيِّينَ) على ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري (عادوا حمما) بضم الحاء المهملة وفتح الميم أي صاروا فحما سودا قد امتحشوا (ولم يكونوا) أي الجهنميون (قبل كذلك) أي كذلك كما في نسخة يعني حمما ويروى قبل بضم اللام وبعده كذلك، (ومثله قول الشّاعر) ولم يعرف قائله وثبت أن عمر بن عبد العزيز أنشده وكأنه تمثل به وقيل إنه لأمية بن أبي الصلت في سيف بن ذي يزن وقيل لأبي الصلت بن ربيعة الثقفي وقيل للنابغة الجعدي وفي نسخة ومثله قوله (فعادا بعد) ببناء الدال على الضم (أبوالا) وهذا عجز بيت صدره: تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بماء فعاد بعد أبوالا وفي بعض النسخ المعتمدة البيت بكماله أي هذه المناقب الجميلة وهي المكارم التي يترتب عليها المراتب الجزيلة ولا قعبان ضبط بكسر النون على أنه تثنية القعب وهو بفتح القاف وسكون العين المهملة فموحدة القدح الضخم ويروى الرجل وفي بعض النسخ بفتح النون على البناء وشيبا بصيغة المجهول أي خلطا فعادا أي القعبان والمراد ما فيهما من اللبن بذكر المحل وارادة الحال كقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ بعد أي بعد شربهما أي صارا أبوالا واستحالا بها مآلا (وما كانا) أي لبن القعبين (قبل) أي قبل شربهما (كذلك) أي أبوالا هنالك وأما ما ذكره الأنطاكي شاهدا على أن عاد بمعنى صار من قوله تعالى حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ومن قول النعمان بن قتادة أنه دخل على عمر بن عبد العزيز فقال له من أنت يا فتى فقال: أنا ابن الذي سألت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد فعادت كما كانت لأحسن حالها ... فيا حسنها عينا ويا حسنها أيد وكان قد اصيبت عين قتادة يوم أحد ووقعت عَلَى وَجْنَتِهِ فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم فقال عمر بن العزيز بمثل هذا فليتوسل إلينا المتوسلون فلا يخفى أن العود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 فيهما بمعنى الرجوع فليس ذكرهما في محله (فإن قلت فما معنى قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى: 7] فليس) أي فنقول ليس (هو من الضّلال الّذي هو الكفر) أي إجماعا لما سبق من الدليل نقلا وعقلا واختلف في المراد به (قيل ضالّا عن النّبوّة) أي غائبا عنها أو غير عارف بها (فهداك إليها) ويروى وهداك ذكره الحجازي وهو الملائم للآية؛ (قاله الطّبريّ) وهو محمد بن جرير، (وَقِيلَ وَجَدَكَ بَيْنَ أَهْلِ الضَّلَالِ فَعَصَمَكَ مِنْ ذلك) أي الحال (وهداك بالإيمان) على وجه الكمال (وإلى إرشادهم) إليه بحسن المقال (وَنَحْوُهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَقِيلَ ضَالًّا عن شريعتك أي لا تعرفها) إلا بإلهام أو وحي (فهداك إليها) أي تارة بالوحي الجلي وأخرى بالخفي، (والضّلال ههنا التّحيّر) أي الناشئ عن عدم المعرفة (ولهذا كان صلى الله تعالى عليه وسلم يخلو بغار حراء) بالصرف وعدمه على ما سبق ضبطه (فِي طَلَبِ مَا يَتَوَجَّهُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ) من قطع العلائق ودفع العوائق (ويتشرّع به) أي ويطلب شرعا يمشي في طبقه ويعمل على وفقه ويروى يسرع من الإسراع بالسين المهملة وعند شارح قائلا إنه بخط المؤلف يشرع بضم الياء وسكون الشين المعجمة وكسر الراء رباعيا من أشرع جعله شريعة (حتّى هداه الله إلى الإسلام) أي إلى شرائعه الأعلام وتفاصيله من الأحكام (قال) وفي نسخة حكي (معناه) أي معنى الكلام الذي قدمناه (القشيريّ) أي الاستاذ أو ولده (وقيل لا تعرف الحقّ) أي إلا مجملا (فهداك إليه) أي مفصلا، (وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء: 113] ) أي من أمور الدين وأحكام اليقين (قاله عليّ بن عيسى) الظاهر أن هذا هو الرماني المتكلم النحوي على ما ذكره الحلبي ويروى قال عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ تكن له ضلالة معصية) بالإضافة وفي نسخة ضلالة في معصية أي لأجلها يقع في وبالها بل ضلالة طاعة لم يدر طريق كمالها (وقيل هدى: أي بيّن أمرك بالبراهين) أي الأدلة القاطعة والبينة الساطعة (وقيل وَوَجَدَكَ ضَالًّا [الضحى: 7] بين مكّة والمدينة) أي ما تدري ما محياك ومماتك (فهداك إلى المدينة) وجعلها محل حياتك ومنزل وفاتك وهدى بك أقواما كانوا عن الحق غافلين وآخرين كانوا له مذعنين وآخرين كانوا له معاندين (وقيل المعنى وجدك) أي هاديا (فهدى بك ضالّا) يعني فقدم وأخر مراعاة للفواصل وهذا بعيد عن القواعد القوابل. (وعن جعفر) أي الصادق (بن محمد) أي الباقر ابن زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) أي حال بدء التجلي الأول (عَنْ مَحَبَّتِي لَكَ فِي الْأَزَلِ أَيْ لَا تعرفها) على الوجه الأكمل (فمننت عليك بمعرفتي) لتعرف بها محبتي؛ (وقرأ الحسن بن عليّ وَوَجَدَكَ ضَالًّا) أي بالرفع على أنه فاعل أي متحير في الحال (فَهَدى أي اهتدى بك) في المآل ونال مقام الوصال، (وقال ابن عطاء: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي محبّا لمعرفتي) فهداك إلى طريق محبتي وسبيل مودتي (والضّالّ المحبّ) أي في بعض اللغات (كما قال) أي سبحانه وتعالى حكاية عن بني يعقوب مخاطبين لأبيهم (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يُوسُفَ: 95] أَيْ مَحَبَّتِكَ القديمة ولم يريدوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 ههنا) ويروى هنا أي الضلال (فِي الدِّينِ إِذْ لَوْ قَالُوا ذَلِكَ فِي نبيّ الله) أي يعقوب (لكفروا) أي بيقين (ومثله) أي في مبناه ومعناه (عند هذا) أي ابن عطاء (قوله) أي الله سبحانه حكاية عنهم (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أَيْ مَحَبَّةٍ بيّنة) أي ليوسف ومودة ظاهرة من كثرة التلهف والتأسف وفسر بعضهم الضلال في هذه الآية بالخطأ حيث اختار محبة الصغيرين على محبة أولاده الكبار العشرة الذين هم عصبة وأرباب قوة وشوكة، (وقال الجنيد) هو أبو القاسم القواريري نسبة لبيع القوارير وهو الزجاج المشهور بسيد الطائفة وشيخ الطريقة أصله من نهاوند ومولده ومنشأه بالعراق كان شيخ وقته وفريد عصره وكلامه في الحقيقة معروف مدون وتفقه على أبي ثور أحد أصحاب الشافعي وكان يفتي في حلقته وعمره عشرون سنة كذا ذكره السبكي وقال بعضهم تفقه على مذهب سفيان الثوري وصحب خاله السري السقطي والحارث بن أسد المحاسبي وأبي حمزة البغدادي توفي سنة سبع وتسعين ومائتين آخر ساعة من يوم الجمعة ببغداد ودفن بالشونيزية عند خاله السري ذكره السبكي في طبقات الشافعية ونقل عنه أنه كان يقول الأفضل للمحتاج أن يأخذ من صدقة التطوع وخالفه غيره وقال الأخذ من الزكاة أفضل لأنها إعانة على واجب انتهى ولعله أراد التورع فإن دائرة التطوع أوسع في باب التبرع وكان يقول ما أخذنا التصوف عن القيل والقال ولكن بالجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات وكان يقول طريقتنا مضبوطة بالكتاب والسنة من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به وقال ذات يوم ما أخرج الله إلى الأرض علما وجعل للخلق إليه سبيلا إلا وجعل لي فيه حظا ونصيبا وكان كل يوم يفتح حانوته ويسبل سترا ويصلي فيه أربعمائة ركعة (وَوَجَدَكَ مُتَحَيِّرًا فِي بَيَانِ مَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ فهداك لبيانه) أي لإظهاره لديك ما خفي عليك (لقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ [النحل: 43] الآية) أي لتبين للناس ما نزل إليهم ويؤيده قوله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ وقوله عز وجل وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (وقيل ووجدك) أي ضالا بينهم (لم يعرفك أحد بالنّبوّة) منهم ومنه قوله عليه الصلاة والسلام الكلمة الحكمة ضالة المؤمن (حتّى أظهرك فهدى بك السّعداء) وأبعد عنك الاشقياء (وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا) أي في هذه الآية (أنه وجدك ضالّا عن الإيمان) أقول ولو فرض أن يقال يحب أن يأول بتفاصيل أحكامه كما في قوله تعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ (وكذلك) أي ومثل وجدك ضالا مما يورث اشكالا ويدفع حالا ومآلا (فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلِهِ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشُّعَرَاءِ: 20] أَيْ مِنَ المخطئين الفاعلين شيئا بغير قصد) أي تعمد قتل. (قاله ابن عرفة) وهو من كبار المفسرين المعتبرين المشهور بالعبدي المؤدب يروي عن ابن المبارك وغيره وعنه الترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم والصفار وثقه ابن معين مات سنة سبع وخمسين ومائتين بسامرا وعاش مائة وسبعا أو عشرا قيل المراد به نفطويه ولا يبعد أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 يكون المعنى من الذاهلين إلى ما يفضي إليه الوكز ويؤيده قراءة ابن مسعود من الجاهلين، (وقال الأزهريّ) هو الإمام اللغوي أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي صاحب تهذيب اللغة وغير ذلك مات سنة سبعين وثلاثمائة (معناه من النّاسين وقد قيل ذلك) أي المعنى الذي ذكر (فِي قَوْلِهِ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى أَيْ نَاسِيًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما [الْبَقَرَةِ: 282] ) بفتح همزة أن وكسرها (فإن قلت فما معنى قوله: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] فالجواب) أي على وجه الصواب (أنّ السّمرقنديّ) وهو الإمام أبو الليث (قَالَ مَعْنَاهُ مَا كُنْتَ تَدْرِي قَبْلَ الْوَحْيِ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَلَا كَيْفَ تَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَقَالَ بَكْرٌ الْقَاضِي نَحْوَهُ؛ قَالَ) أي السمرقندي أو بكر القاضي واقتصر الدلجي على الأول لزيادة البيان (ولا الإيمان) يروى وأراد الإيمان (الّذي هو الفرائض والأحكام) وحاصله نفي تفاصيل شرائع الإيمان والإسلام، (قال وكان قبل) أي قبل الوحي (مؤمنا بتوحيده) أي لربه إجمالا (ثمّ نزلت الفرائض) أي من الصلاة والصيام والزكاة وحج بيت الله الحرام (الّتي لم يكن يدريها) أي أصلها أو تفصيلها (قبل) أي قبل الوحي (فزاد بالتّكليف) أي بتكليف كل فرض (إيمانا) أي إيقانا به وإحسانا لقيامه (وهذا) ويروي وهو (أحسن وجوهه قلت فما معنى قوله تعالى: وَإِنْ) مخففة أي وأنه (كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل وحينا (لَمِنَ الْغافِلِينَ) [يُوسُفَ: 3] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ [يونس: 7] ) فإن الغفلة عن آيات الله بمعنى الاعراض عنها وعدم الالتفات إليها ونفي الإيمان بما يترتب عليها من توحيد الله تعالى وتحقيق قدرته فيها أو تخصيص ارادته بها كفر لا يجوز أن يكون وصف مؤمن من الأولياء فضلا عن أن يكون نعت نبي من الأنبياء (بل) المعنى (كما حكى أبو عبد الله الهرويّ) أي عن المفسرين المعتبرين وتبعهما غيرهما (أَنَّ مَعْنَاهُ لَمِنَ الْغَافِلِينَ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ) أي بقرينة سابقها ولا حقها (إذ لم فعلها إلّا بوحينا) كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ أي هذه السورة وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ عن هذه القصة فيكون إظهارك إياها لك معجزة (وكذلك) أي من المشكلات (الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بسنده) أي حيث قال عن جرير عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل (عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم قد كان يشهد) يروى شهد (مع المشركين مشاهدهم) أي محاضرهم وهي لا تخلو عن أصنامهم فإنها كانت في الكعبة وحولها قريبا من ثلاثمائة صنم وكان من حسن خلقه يعاشرهم لكونه من عشائرهم كما قبل ودارهم ما دمت في دارهم والفرق بين المداراة والمداهنة مما لا يخفى (فسمع) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (مَلَكَيْنِ خَلْفَهُ أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ اذْهَبْ حَتَّى تقوم) أنت أو نحن (خلفه) ونتبرك بظله (فَقَالَ الْآخَرُ كَيْفَ أَقُومُ خَلْفَهُ وَعَهْدُهُ بِاسْتِلَامِ الأصنام) أي قريب ولعل المراد به رؤيتها ومشاهدتها أو مخالطتهم ومصاحبتهم ويؤيده قوله (فلم يشهدهم بعد) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 واعتزلهم بانفراده عنهم في غار حراء إن كان هذا قبل الوحي أو في مسجد دار الخيزران إن كان بعده وهذا كله على تقدير أن يصح نقله وفي أصل الأنطاكي باستلام الاصنام وهو تناولها باليد أو الفم (فَهَذَا حَدِيثٌ أَنْكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ جِدًّا) بكسر الجيم وتشديد الدال المهملة أي إنكارا بليغا (وقال هو موضوع) أي بحسب المراد (أو شبيه) يروى يشبه بتشديد الموحدة المفتوحة (بالموضوع) أي في إيراد الإسناد، (وقال الدّارقطني يقال إنّ عثمان وهم) بكسر الهاء ويفتح أي غلط وأخطأ (في إسناده) أي إسناد هذا الحديث إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال أبو بكر بن أحمد بن حنبل قال أبي أبو بكر أخو عثمان أحب إلي من عثمان فقلت إن يحيى بن معين يقول إن عثمان أحب إلي فقال أبي لا وقال الأزدي رأيت أصحابنا يذكرون أن عثمان روى أحاديث لا يتابع عليها قال وقد يغلط وقد اعتمده الشيخان في صحيحيهما إلى آخر كلامه ثم قال إلا أن عثمان كان لا يحفظ القرآن فيما قيل ثم ذكر له تصانيف في القرآن، (والحديث بالجملة منكر) أنكره الذهبي وغيره من العلماء (غير متّفق على إسناده) إذ ليس هو في شيء من الكتب الستة (فلا يلتفت إليه) وإن كان رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ بن عبد الحميد الضبي عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم الحديث ورواه البيهقي أيضا وفيه الكلام الذي تقدم والله أعلم، (والمعروف عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خلافه) أي خلاف ما يتوهم من الحديث المذكور وهو كونه استسلم الأصنام (عند أهل العلم) أي بالسير (من قوله) بيان لقوله خلافه (بغّضت إليّ الأصنام) بصيغة المجهول أي بغضها الله إلي من حال الصغر إلى الكبر فإنه يخالف أن يقع منه الاستسلام للأصنام ولعل الاستسلام كناية عن القرب منها وعدم التبعد عنها كما أن بعض المريدين تكلم مع سكران في طريقه حال توجهه إلى بعض المشايخ المكاشفين فقال له اشم منك رائحة الخمر وما ذاك إلا لقربه منه وعدم تبعده عنه وبالجملة باب التأويل واسع فهو أولى من الطعن في الحديث مع أنه مشهور شائع (وقوله) أي ومن قوله (فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَتْهُ أُمُّ أَيْمَنَ) كما رواه ابن سعد عن ابن عباس عنها وهي حاضنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومولاته وأم أسامة رضي الله تعالى عنهما (حين كلّمه عمّه) أي أبو طالب (وآله) أي وأقاربه (في حضور بعض أعيادهم) أي بأن يحضرها على وفق مرادهم (وعزموا عليه فيه) أي الحوا وبالغوا (بعد كراهته) يروى كراهيته أي الطبيعية (لذلك) أي المخرج (فخرج معهم) أي كرها (ورجع مرعوبا) أي مخوفا (فقال كلّما دنوت منها) أي من الأصنام واحدا بعد واحد (من صنم تمثّل لي شخص) يروى رجل (أبيض طويل يصيح بي وراءك) أي ألزمه وقيل أرجع وراءك والمعنى تأخر وتباعد (لا تمسّه) من المساس أي لا تمسكه أو لا تقربه (فما شهد) أي فلم يحضر (بعد) أي بعد ذلك (لهم) أي للكفار (عيدا) أي محضر عيد؛ (وقوله) أي ومن قوله (في قصّة بحيرا) بفتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 موحدة وكسر مهملة مقصورا وممدودا وقد رواها ابن سعد عن نفيسة بنت منبه (حين استحلف) أي بحيرا (النبي صلى الله تعالى عليه وسلم باللّات والعزّى إذ لقيه) أي بحيرا (بالشّام) أي في قريب منها (فِي سَفْرَتِهِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ) أي النبي عليه السلام (صبيّ) أي غير بالغ (ورأى) أي بحيرا (فيه علامات النّبوّة فاختبره بذلك) أي فامتحنه بحيرا بذلك الاستحلاف (فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا تسألني بهما) أي باللات والعزى (فو الله ما أبغضت شيئا قطّ بغضهما) أي مثل بغضهما (فقال له بحيرا فبالله) أي فأسألك بالله أن لا أقول شيئا (إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ؛ فَقَالَ سل عمّا بدا) بالألف أي ظهر (لك) الحديث (وكذلك المعروف من سيرته عليه الصلاة والسلام وتوفيق الله تعالى له) أي في تحقيق مراعاة شرائع الأحكام (أنّه كان قبل نبوّته يخالف المشركين) أي من قبيلة قريش (في وقوفهم) أي عشية عرفة (بمزدلفة في الحجّ) أي معللين بأنهم من خواص الحرم المحترم فلا يخرجون بالكلية من الحرم خلافا لغيرهم حيث كانوا يفقون بعرفات وهذا مبنى قوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وقوله فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ (فكان يقف هو) أي النبي عليه الصلاة والسلام مخالفا لقومه (بعرفات) أي مراعاة لسابقة شرائع الأحكام (لأنّه) أي موضع عرفات (كان موقف إبراهيم عليه السلام) بل وموقف سائر الأنبياء من آدم وغيره عليهم الصلاة والسلام وقد بينت هذه المسألة في رسالة مستقلة والله تعالى أعلم. فصل [قال القاضي أبو الفضل قد بان مما قدمناه عقود الأنبياء في التوحيد والإيمان] (قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه) يعني المصنف (قد بان) أي ظهر (بما قدّمناه عقود الأنبياء) أي ما عقد عليه قلوبهم (في التّوحيد والإيمان) أي الإجمالي قبل الوحي والتفصيلي بعده (والوحي) أي الجلي والخفي (وعصمتهم في ذلك) أي عما ينافي ما هنالك (على ما بيّنّاه) أي فيما قررناه وحررناه، (فأمّا ما عدا هذا الباب) بالنصب أو الجر أي غير باب التوحيد وما يتعلق به من التفريد (من عقود قلوبهم) أي ثبوتها ورسوخها (فجماعها) بكسر الجيم أي ما اجمع عليه أو جملتها (أنّها) أي قلوبهم (مملوءة علما ويقينا) أي مقرونين (على الجملة) أي من غير تفصيل في المسألة (وأنّها) أي قلوبهم (قد احتوت) أي اشتملت (من المعرفة) أي في الجزئيات (والعلم) في الكليات (بأمور الدّين) أي جميعها (والدّنيا) مما يحتاج إليه (ما لا شيء فوقه) أي شيئا لا مزيد عليه (ومن طالع الأخبار واعتنى بالحديث) أي اهتم بالآثار (وتأمّل ما قلناه وجده) أي مطابقا لما ذكرناه (وقد قدّمنا منه في حقّ نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم في الباب الرّابع أوّل قسم) أي في أول قسم (من هذا الكتاب) أي في فصل ذكر معجزاته في أواخر القسم الأول (ما ينبّه على ما وراءه) أي من فصل الخطاب (إلّا أنّ) أي لكن (أحوالهم في هذه المعارف تختلف) أي بحسب اختلاف متعلقاتها؛ (فَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ مِنْهَا بِأَمْرِ الدُّنْيَا فَلَا يشترط فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ الْعِصْمَةُ مِنْ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الأنبياء ببعضها) كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 توهمت الشيعة فإنه يرده قول الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ (أو اعتقادها) أي أو من عدم اعتقادهم إياها (على خلاف ما هي عليه) أي على خلاف حقيقتها كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم للأنصار وهم يؤبرون النخل لا عليكم أن لا تفعلوا فتركوا تأبيره فلم يلقح منه ذلك إلا قليل فقال أنتم أعرف بدنياكم وكذا رجوعه إلى رأي الحباب بن المنذر ببدر على ما مر (ولا وصم) بسكون الصاد المهملة أي لا عيب لهم ولا عتب (عليهم إذ همتهم) أي توجههم وعزيمتهم وفي نسخة هممهم (متعلّقة بالآخرة وأنبائها) أي اخبارها من أحوالها وأهوالها (وأمر الشّريعة وقوانينها) أي ضوابطها الكلية المشتملة على المسائل الجزئية (وأمور الدّنيا) أي باعتبار توجه الهمة إليها مبتدأ خبره (تضادّها) كتضاد الضرتين والكفتين وقد ورد من أحب آخرته أضر بدنياه ومن أحب دنياه أضر بآخرته فآثروا ما يبقى على ما يفنى (بخلاف غيرهم) أي غير الأنبياء واتباعهم وهم العلماء والأولياء (من أهل الدّنيا) كالكفار والفجار (الذين) قال الله فيهم (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لا باطنها من أنها تعبر ولا تعمر (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي مع أنهم في أمر دنياهم عاقلون (كَمَا سَنُبَيِّنُ هَذَا فِي الْبَابِ الثَّانِي إِنْ شاء الله ولكنّه) أي الشأن (لا يقال) أي مع هذا (أنّهم) أي الأنبياء (لا يعلمون شيئا من أمر الدّنيا) أي على وجه الإطلاق (فإنّ ذلك يؤدّي إلى الغفلة) أي إلى نسبة الغفلة (والبله) بفتحتين أي البلاهة المنافية لكمال العقل والفطانة فقيل الأبله الذي لا عقل له وقيل الأبله الكثير الغفلة ويقال الأبله أيضا للذي طبع على الخير فهو غافل عن الشر وعليه الحديث أكثر أهل الجنة البله (وهم المنزّهون عنه) أي عن مثل ذلك فإنهم الكاملون المكملون فيما هنالك (بل قد أرسلوا إلى أهل الدّنيا) أي لينبهوهم من غفلتهم ويمنعوهم عن بلاهتهم (وقلّدوا) بصيغة المجهول أي وتقلدوا (سياستهم) أي محافظتهم عما يضرهم (وهدايتهم) أي دلالتهم إلى ما ينفعهم (والنّظر في مصالح دينهم) يروى صلاح دينهم (ودنياهم) أي المرتبطة بأمور أخراهم، (وهذا) أي ما ذكر (لا يكون) أي لا يتصور (مع عدم العلم بأمور الدّنيا بالكلّيّة) نعم قد يكون لهم عدم علم ببعضها لعدم التفاتهم إليها في الأمور الجزئية، (وأحوال الأنبياء وسيرهم) أي عند العلماء (في هذا الباب معلومة) وفي الكتب مسطورة (وَمَعْرِفَتُهُمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ مَشْهُورَةٌ وَأَمَّا إِنْ كَانَ هذا العقد) أي عقد قلوبهم (ممّا يتعلّق) يروى فيما يتعلق (بالدّين) أي بأموره (فلا يصحّ من النبيّ إِلَّا الْعِلْمُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ جَهْلُهُ جملة) أي بأسرها (لأنّه لا يخلو) أي من أحد أمرين (أن يكون) أي النبي عليه الصلاة والسلام (حصل عنده ذلك) أي العلم (عن وحي من الله فهو ما لا يصحّ الشّكّ منه) أي من النبي عليه السلام (فيه على ما قدّمناه) من أنه لا يصح منه إلا العلم بما أوحى (فكيف الجهل) أي فكيف يصح الجهل منه به (بَلْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ الْيَقِينُ أَوْ يَكُونُ) أي أو أن يكون النبي (فعل ذلك) وفي نسخة عقد ذَلِكَ (بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شيء) بصيغة المفعول أو الفاعل (على القول) أي قول بعض العلماء (بتجويز وقوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 الاجتهاد منه) أي من النبي (في ذلك) أي فيما لم ينزل عليه فيه شيء وهو الحق المبني (على قول المحقّقين) أي من علماء الدين وكبراء المجتهدين (وعلى مقتضى حديث أمّ سلمة) أم المؤمنين (إنّي إنّما أقضي بينكم برأيي) أي أحيانا (فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ شَيْءٌ خَرَّجَهُ) أي خرج حديث أم سلمة (الثّقات) أي من الرواة كأبي داود، (وكقصّة أسرى بدر) وهي معروفة وسيأتي بيانها وقد نزل فيها ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (والإذن للمتخلّفين) أي من المنافقين عن غزوة تبوك حيث نزل فيها عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ (على رأي بعضهم) أي بأن ما صدر عنه كان باجتهاد منه وقيل لا يجوز له الاجتهاد بالرأي المبني على الظن لقدرته على علم اليقين بالوحي بانتظاره ورد بأن انزال الوحي ليس في قدرته وتحت اختياره مع أنه قَالَ تَعَالَى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (فَلَا يَكُونُ أَيْضًا مَا يَعْتَقِدُهُ مِمَّا يُثْمِرُهُ اجتهاده إلّا حقّا) أي وصدقا (وصحيحا) أي صريحا (هذا هو الحقّ الّذي لا يلتفت) أي معه (إلى خلاف من خالف فيه) أي ممن أجاز عليه الخطأ في الاجتهاد كما في نسخة فقال بمنع اجتهاده مطلقا أو بمنعه في غير الأسرى والحروب وجوازه فيهما بل اجتهاده حق وصواب فيما لم ينزل عليه فيه شيء (لا على القول بتصويب المجتهدين) فيما لا قاطع فيه من مسائل الفروع (الّذي هو الحقّ والصّواب عندنا) أي على ما ذهب إليه الأشعري والباقلاني ومختار أبي يوسف ومحمد وابن شريح بأن كل مجتهد مصيب (ولا على القول الآخر) وهو مذهب الجمهور (بأنّ الحقّ في طرف واحد) وأن مصيبه من المجتهدين في كل مسألة واحد مكلف بإصابته لقيام إمارة عليه وإشارة إليه فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد ولا إثم عليه بخلاف اجتهاد النبي فإن الصواب عدم خطأه في هذا الباب (لعصمة نبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الشّرعيّات) وأما القول بأنه قد يخطىء وينبه عليه فمما لا يلتفت إليه وأما ما سبق من عتابه في قصة اسرى بدر وإذن المتخلفين عن تبوك فمحمول على أنه كان خلاف الأولى (ولأنّ القول في تخطئة المجتهدين) أي على القول بأن المصيب واحد منهم لا بعينه (إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ وَنَظَرُ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تأمله وتفكره (وَاجْتِهَادُهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فيه شيء ولم يشرع له قبل) مبني على الضم أي قبل نظره واجتهاده وفي نسخة قبل هذا، (هذا) أي ما تقدم (فيما عقد عليه) أي النبيّ كما في نسخة (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قلبه) أي عزم عليه واستقر لديه (فَأَمَّا مَا لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِ قَلْبَهُ مِنْ أمر النّوازل الشّرعيّة) أي مما يحتاج إلى بيان الأمر فيه رعاية للرعية (فقد كان لا يعلم منها أوّلا) أي قبل الوحي والإذن (إلّا ما علّمه الله شيئا شيئا) أي فشيئا على وجه التدريج بحسب ما يقتضيه الحكم والحكمة من الفعل والترك (حتّى استقرّ علم جملتها) أي إجمالها وتفصيلا ويروى علم جميعها (عنده) بعد وصوله إلى مقام يوجب كمالا وتكميلا (إِمَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ إِذْنٍ لَهُ أن يشرع في ذلك) أي فيما أبداه (ويحكم بما أراه الله) كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ أي وحيا جليا أو الهاما خفيا (وَقَدْ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا) أي من النوازل ولم يبادر إلى الاجتهاد فيها ولعله في الأمور الكلية لا في المسائل الفرعية المعلومة من القواعد الشرعية (ولكنّه لم يمت حتّى استفرغ) أي استوفى واستجمع وفي نسخة استقر أي ثبت واستمر (علم جميعها عنده عليه الصلاة والسلام) كما يدل عليه قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (وَتَقَرَّرَتْ مَعَارِفُهَا لَدَيْهِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَرَفْعِ الشَّكِّ) بصيغة المجهول أي ارتفع التردد (والرّيب) أي الشبهة (وانتفاء الجهل) أي بأن ينسب في شيء إليه (وبالجملة فلا يصحّ منه) أي من النبي عليه الصلاة والسلام (الْجَهْلُ بِشَيْءٍ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرْعِ الَّذِي أُمِرَ بالدّعوة إليه إذ لا تصلحّ دعوته إلى ما لا يعلمه) أي إلى ما لا علم به لديه صلى الله تعالى عليه وسلم (وأمّا ما تعلّق بعقده) أي بجزم قلبه في معرفة ربه (من ملكوت السّموات والأرض) أي ظواهرهما وبواطنهما (وخلق الله تعالى) أي وسائر مخلوقاته العلوية والسفلية (وتعيين أسمائه الحسنى) أي المشتملة على نعوت الجمال وصفات الجلال كما يقتضيه ذات الكمال (وآياته الكبرى) أي العظمى من عجائب مخلوقاته وغرائب مصنوعاته (وأمور الآخرة) من نشر وحشر وشدائد أحوالها ومكابد أهوالها (وأشراط السّاعة) أي علاماتها من قطيعة الأرحام وقلة الكرام وكثرة اللئام وكثرة الظلم من الأنام (وأحوال السّعداء) في جنة النعيم (والأشقياء) في محنة الجحيم (وعلم ما كان) في بدء الأمر (وما يكون مما لم يعلمه) ويروى فيما لا يعلمه (إلّا بوحي فعلى ما تقدّم) جواب أما أي فمحمول على ما سبق (مِنْ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِيهِ لَا يَأْخُذُهُ فِيمَا أعلم به) بصيغة المجهول (منه شكّ) أي تردد (ولا ريب) أي شبهة لقوله تعالى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (بل هو فيه على غاية اليقين) في طريق الدين المبين (لكنّه) أي الشأن أو النبي عليه الصلاة والسلام (لَا يَشْتَرِطُ لَهُ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ) بل ربما يقال إنه لا يتصور له الاستقصاء بما هنالك (وإن كان عنده من علم ذلك) أي بعضه مما حكم له في القدر (ما ليس عند جميع البشر) أي افرادا وجمعا (لقوله) أي النبي (عليه الصلاة والسلام) فيما رواه البيهقي (إِنِّي لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي رَبِّي ولقوله) فيما رواه الشيخان عنه عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت (ولا خطر على قلب بشر بله ما اطلعتم عليه اقرؤوا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) بصيغة المفعول وقرأ حمزة بصيغة المتكلم (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] ) أي مما تلذ به وبله اسم فعل بمعنى دع واترك (وَقَوْلِ مُوسَى لِلْخَضِرِ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) وفي قراءة بإثبات الباء (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف: 66] ) وقرأ أبو عمرو بفتحهما أي علما ذا رشد وفيه أن المفضول قد يتميز بشيء لم يكن عند من هو أفضل منه كما يشهد له قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام (وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم) فيما رواه الديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه (أسألك بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم وقوله) فيما رواه أحمد (أسألك بكلّ اسم هو لك) أي خاصة (سمّيت به نفسك أو استأثرت به) أي انفردت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 بعلمه عن غيرك ويروى واستأثرت به (في علم الغيب عندك) قيل اسماء الله أربعة الآف اسم ألف استأثر بها وألف علمها الملائكة وألف أعلمها الأنبياء وألف في الكتب المنزلة منها تسعة وتسعون في القرآن وواحد في صحف إبراهيم وثلاثمائة في التوراة ومثلها في الزبور ومثلها في الأنجيل (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: 76] ) أي من هو اعلم منه (قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ العلم إلى الله تعالى) أو فوق العلماء كلهم من هو أعلم منهم وهو الحكيم العليم (وَهَذَا مَا لَا خَفَاءَ بِهِ إِذْ مَعْلُومَاتُهُ تعالى لا يحاط بها) وقد قال تعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وقال وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ (ولا منتهى لها) أي لمعلوماته سبحانه وتعالى أزلا وأبدا فلا يتصور أن يحيط به علم البشر؛ (هذا) أي ما ذكر (حكم عقد النبيّ) أي جزم قلبه (في التّوحيد) أي في توحيد ربه (والشّرع) أي المكلف به من أمره ونهيه (والمعارف الالهية) أي الأسرار الربانية (والأمور الدّينية) أي والأنوار المنبعثة عن الأحوال الدينية والأفعال الأخروية. فصل [وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ من الشيطان إلى آخره] (واعلم أنّ الأمّة مجمعة) وفي نسخة مجتمعة (على عصمة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حفظه وحمايته (من الشّيطان) لقوله تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ (وكفايته) أي وعلى كفاية الله له وفي نسخة وحراسته (منه) أي من ضرره الظاهري والباطني كما بينه بقوله (لا في جسمه) أي ظاهر جسده (بأنواع الأذى) كالجنون والإغماء (ولا على خاطره بالوساوس) أي على وجه الالقاء وفي نسخة بالوسواس أي بجنسه الذي يوسوس في صدور سائر الناس (وقد أخبرنا القاضي الحافظ أبو عليّ) أي ابن سكرة (رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خيرون) بالمنع والصرف (العدل) أي الثقة (حدّثنا أبو بكر البرقانيّ) بفتح الموحدة هو الحافظ الإمام أحد الأعلام أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي شيخ بغداد (حدّثنا أبو الحسن الدّارقطني) وهو شيخ الإسلام والدارقطني محلة ببغداد (حدّثنا إسماعيل الصّفّار) بتشديد الفاء (حدّثنا عباس) بالموحدة والسين المهملة (التّرقفي) بفتح المثناة الفوقية ثم راء ساكنة ثم قاف مضمومة ثم فاء مكسورة ثم ياء النسبة ثقة متعبد أخرج له ابن ماجة (حدّثنا محمد بن يوسف) هذا هو الغرياني وعاش اثنتين وتسعين سنة (حدّثنا سفيان) أي الثوري على ما هو الظاهر (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن سالم بن أبي الجعد) الأشجعي الكوفي يروي عن عمر وعائشة مرسلا وعن ابن عباس وابن عمر وعنه الأعمش وجماعة ثقة (عن مسروق) أي ابن الأجدع الهمداني أحد الأعلام يروي عن أبي بكر وعمر ومعاذ ومعاوية قال الشعبي وكان أعلم بالفتيا من قريش وقال أبو إسحاق حج مسروق فما نام إلا ساجدا وقالت امرأة مسروق كان يصلي حتى تورم قدماه أخرج له الأئمة الستة (عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 منكم من أحد) من زائدة مؤكدة (إلّا قد وكّل) وفي نسخة إلا وكل وهو بصيغة المجهول وفي نسخة إلا وكل الله (بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ) وفي رواية من الملك (قالوا وإيّاك يا رسول الله) أي وأنت وكل بك قرينك من الجن (قال وإيّاي) أي وقد وكل بي قريني (ولكنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم) بفتح الميم أي انقاد وقيل آمن وفي نسخة بضمها أي أسلم من شره. (زاد غيره) أي سفيان أحد رواته (عن منصور فلا) ويروى ولا (يأمرني إلّا بخير) هذا الحديث أخرجه المصنف كما ترى من حديث مسروق عن ابن مسعود والحديث في مسلم لكن من حديث سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن ابن مسعود وإنما اكثر إخراجه من هذه الطريق دون طريق مسلم لما فيها من العلو مع صحة الإسناد كذا ذكره الحلبي وقال الدلجي هذا الحديث في البخاري ولعله بسند آخر والله تعالى أعلم (وعن عائشة بمعناه) لا يعرف مخرج مبناه وروي في الباب أيضا عن ابن عباس بسند أحمد قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليس منكم أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين قالوا وأنت يا رسول الله قال نعم ولكن الله أعانني عليه فأسلم (روي فأسلم بضمّ الميم) أي وفتح همزة المتكلم من السلامة (أي فأسلم أنّا منه) أي فأخلص (وصحّح بعضهم هذه الرّواية ورجّحها) أي من جهة الدارية وممن صححها سفيان بن عيينة فإنه زعم أن الشيطان لا يسلم كما نقله الغزالي في الاحياء، (وروي فأسلم) أي بصيغة الماضي المعلوم (يعني القرين أنّه انتقل عن حَالِ كُفْرِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَصَارَ لَا يَأْمُرُ) كرواية البخاري (إلّا بخير كالملك، وهو ظاهر الحديث) أي بناء على الفعل الماضي مع أنه يحتمل أن يكون معناه انقاد واستسلم ويؤيده رواية المتكلم، (وروى بعضهم فاستسلم) أي أذعن وانقاد وذكر ابن الأثير رواية فأسلم بفتح الميم ورواية فاسلم بضم الميم ورواية حتى اسلم أي انقاد كذا لفظه ثم قال ويشهد للأول يعني رواية فتح الميم الحديث الآخر كان شيطان آدم كافرا وشيطاني مسلما (قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه) يعني المصنف (فَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ شَيْطَانِهِ وَقَرِينِهِ الْمُسَلَّطِ) أي باعتبار جنسه (على بني آدم) وفي نسخة على كل أحد من بني آدم (فكيف) أي الظن (بمن بعد) أي من شياطين الجن (عنه) أي عن النبي عليه الصلاة والسلام ويروى منه (ولم يلزم صحبته ولا أقدر) بصيغة المجهول أي مكن ولا جعل له قدرة (على الدّنوّ منه) أي القرب من حضوره والمعنى أي يقع في وهم أنه عليه الصلاة والسلام لا يسلم منه لا بل الأولى أن يسلم بدليل أنه لم يكن له عليه كغيره من النبيين سلطان (وقد جاءت الآثار بتصدّي الشّياطين) أي بتعرضه (له في غير موطن) أي من الصلاة وغيرها وفي نسخة في غير موطن أي في مواطن كثيرة (رغبة) أي لأجل الميل والتوجه (في إطفاء نوره) وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ (وإماتة نفسه) أي اهلاك ذاته واعدام صفاته (وإدخال شغل) بضم فسكون وبضمتين وبفتح فسكون أي اشغال بال (عليه إذ يئسوا) أي جنس الشيطان (من إغوائه) أي إضلاله وإفساد أمره (فانقلبوا خاسرين) أي فرجعوا خائبين خاسئين ذليلين صاغرين (كتعرّضه) أي الشيطان (لَهُ فِي صَلَاتِهِ فَأَخَذَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وأسره) أي استولى عليه وقهره ويروى فأسره. (ففي الصّحاح) أي البخاري ومسلم وغيرهما (قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عنه عليه السلام) أي مرفوعا (إنّ الشّيطان عرض لي) أي ظهر (قال عبد الرّزّاق) أي الصغاني على ما في الصحيحين (في صورة هرّ) لما أوتوه من قوة التشكل كالملائكة إلا أن الملك لا يتصور إلا بشكل حسن بخلاف الشيطان (فشدّ) بتشديد الدال أي حمل (عليّ يقطع عليّ الصّلاة) حال أو استئناف وأبعد الدلجي في قوله حذفت لام العلة منه للعلم بها وهو مأول بمصدر (فأمكنني الله منه) أي فأقدرني من أخذه وأسره وقواني على قهره (فذعتّه) بذال معجمة وقيل مهملة قال النووي وأنكر الخطابي المهملة وصححها غير وصوبه وإن كانت المعجمة أوضح وأشهر انتهى وعند ابن الحذاء في حديث ابن أبي شيبة فذغته بذال وغين معجمتين وفتح عين مهملة مخففة وتشديد فوقية أي خنقته خنقا شديدا أو دفعته دفعا عنيفا أو معكته في التراب كالغط في الماء وفي رواية ابن أبي الدنيا عن الشعبي مرسلا أتاني شيطاني فنازعني ثم نازعني فأخذت بحلقه فو الذي بعثني بالحق ما أرسلته حتى وجدت برد لسانه على يدي ولولا دعوة أخي سليمان أصبح طريحا في المسجد (ولقد هممت) أي قصدت (أن أوثقه) أي أربطه (إلى سارية) أي اسطوانة وفي رواية بسارية من سواري المسجد (حتّى تصبحوا) أي تدخلوا في الصباح أو تصيروا (تنظرون) وفي نسخة ناظرين (إليه فذكرت) أي فتذكرت (قول أخي) أي في النبوة (سليمان) أي ابن داود وفي رواية دعوة أخي سليمان أي دعاءه (رَبِّ اغْفِرْ) قدم طلب المغفرة فإنه الأمر الديني على المطلب الدنيوي المشار إليه بقوله (لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً [ص: 35] الآية) أي لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يتسهل أو لا يصح أو لا يكون لأحد غيري لتكون معجزة مختصة بي (فردّه الله خاسئا) أي خائبا خاسرا قال المصنف في شرح مسلم كما نقله عنه النووي أنه مختص بهذا فامتنع نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من ربطه إما لأنه لم يقدر عليه لذلك وإما لأنه مختص بهذا فامتنع نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من ربطه إما لأنه لم يقدر عليه لذلك وإما لأنه لما تذكر ذلك لم يتعاط ذلك لظنه أنه لا يقدر عليه أو تواضعا وتأدبا انتهى أو إيماء لكونه معجزة مختصة به. (وفي حديث أبي الدّرداء) وهو عمير وقيل اسمه عامر ولقبه عويمر واختلف في اسم أبيه على سبعة أقوال وبنته الدرداء روى عنه ابنه بلال وزوجته أم الدرداء توفي بدمشق سنة إحدى وثلاثين وقد اسلم عقيب بدر إلا أنه فرض له عمر والحقه بالبدريين لجلالته (عنه عليه الصلاة والسلام) فيما رواه مسلم (إنّ) بفتح الهمزة ويجوز كسرها (عدوّ الله إبليس جاءني بشهاب) أي بشعلة مضيئة مقتبسة (من نار ليجعله في وجهي) أي ليحرقه، (والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في الصّلاة) جملة حالية معترضة بين ما رواه أبو الدرداء من لفظه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين ما ذكره بمعناه لبيان وقت مجيء عدو الله إلى حبيب الله (وذكر) أي أبو الدرداء (تعوّذه بالله منه ولعنه له) بلفظ أعوذ بالله منك العنك بلعنة الله تعالى وقوله عليه الصلاة والسلام (ثمّ أردت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 آخذه وذكر) أي أبو الدرداء (نحوه) أي نحو حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه من قوله ولقد هممت أن أوثقه (وقال لأصبح موثقا) بفتح المثلثة أي مقيدا (يتلاعب به ولدان أهل المدينة) أي صبيانهم وصغارهم (وكذلك) أي وكما في حديث أبي الدرداء (في حديثه) فيما رواه البيهقي عن عبد الرحمن بن حبيش (في الإسراء) أي إلى بيت المقدس والسماء (وطلب عفريت له) برفع طلب مضافا وفي نسخة يجره أي طلب خبيث متمرد يعفر أقرانه أي يصرعهم ويفزعهم ويمرغهم في التراب ويهلكهم (بشعلة نار فعلّمه جبريل عليه السلام ما يتعوّذ به منه وذكره) أي هذا الحديث (في الموطّأ) بهمزة أو ألف وهو كتاب للإمام مالك وفي حديث البخاري أن عفريتا تفلت على الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فأخذته فذعته ولولا دعوة أخي سليمان لربطته بسارية من سواري المسجد فأصبح يلعب به ولدان المدينة، (ولمّا لم يقدر) أي عدو الله (على أذاه بمباشرته) أي إياه (تسبّب بالتّوسّط إليإ عداه) بكسر العين وهو اسم جمع أي اعدائه من كفار قريش وغيرهم (كقضيّته مع قريش في الائتمار) أي التشاور (بقتل النّبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتصوّره) أي إبليس (في صورة الشّيخ النّجديّ) وإنما انتسب اللعين بذلك لأنهم قالوا لا تدخلوا معكم أحدا من أهل تهامة فإن هواهم مع محمد عليه الصلاة والسلام ومجمل القصة أنه جاءهم وهم بدار الندوة بمكة وقد بلغهم إسلام الأنصار من أهل المدينة في العقبة فجزعوا ولدفعه اجتمعوا فدخل عليهم وقال أنا من نجد سمعت اجتماعكم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا لكم فقال أبو البحتري أرى أن تحبسوه في مكان وتسدوا منافذه غير كوة تلقون إليه طعامه شرابه منها فقال إبليس بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه منكم فقال هشام بن عمرو أرى أن تحملوه على حمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما يصنع فقال بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم فقال أبو جهل أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا فيضربوه ضربة واحدة فيفترق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم فإذا طلبوا عقله أي ديته عقلناه فقال صدق الفتى فتفرقوا على رأيه فأخبره جبريل عليه السلام بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن له بالهجرة إلى المدينة فخرج وأخذ قبضة من تراب وجعل ينثره على رؤوسهم ويقرأ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر إلى آخر القصة فنزل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (ومرّة أخرى) أي وكتصوره (في غزوة يوم بَدْرٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ) وَهُوَ ابن جعشم الكناني على ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الأنفال: 48] الآية) يعني وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وأني جار لكم أي مجيركم من بني كنانة فإنكم لا تغلبون ولا تطاقون لكثرتكم عددا وعددا وأوهمهم أن لهم الغلبة أبدا حتى قالوا اللهم انصر إحدى الفئتين وأفضل الملتين فلما تراءت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 الفئتان نكص على عقبيه أي رجع القهقرى وكانت يده في الحارث بن هشام فقال له إلى أين تريد أن تخذلنا أفرارا من غير قتال فدفع في صدر الحارث وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله وانطلق متبرئا من أفعالهم ويائسا من أحوالهم لما رأى من امداد الله تعالى المؤمنين بالملائكة الدال على أن لهم النصرة والغلبة فانهزم الكفرة فقيل هزم الناس سراقة فقال والله ما شعرت بمسيرتكم حتى بلغني خبر هزيمتكم فلم يعلموا أنه الشيطان حتى اسلم بعضهم، (ومرّة) أي وتصوره كرة أخرى (ينذر بشأنه) أي يخبر بحاله صلى الله تعالى عليه وسلم ليخوف الناس منه ويحذرهم عنه (عند بيعة العقبة) أي عقبة منى السفلى ليلة بايع الأنصار على أنه إن آتاهم آووه ونصروه ودفعوا عنه كما يحمي الرجل عن جريحه قال الإمام أبو الليث في تفسيره وقد هاجر إليهم بعد هذا بحولين؛ (وكلّ هذا) أي وجميع ما ذكر (فقد كفاه الله أمره وعصمه) أي حفظه ومنعه (ضرّه) بفتح أوله وضمه (وشرّه) ويروى من ضره وشره (وقد قال عليه الصلاة والسلام) أي فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (إنّ عيسى عليه السّلام كفي) بصيغة المجهول أي وقي (من لمسه) أي حبسه وحسه (فجاء) الفاء للتفريع فلما قصد (ليطعن) بفتح العين ويضم أي ليضرب (بيده في خاصرته) أي جنبه (حين ولد) أي حين خرج من بطن أمه (فطعن في الحجاب) أي المشيمة وهي الغشاء الذي يكون الجنين في داخله وقيل حجاب بين الشيطان وبين مريم والله تعالى أعلم والظاهر أن عيسى عليه السلام مختص بهذا الإكرام خلافا لما ذكره الدلجي من تعميم الأنبياء في هذا المرام ففي حديث البخاري وغيره ما من مولود يولد إلا ويمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها وذلك لدعاء جدته ربها أن يعيذ أمه وذريتها من الشيطان الرجيم (وقال عليه الصلاة والسلام) فيما رواه الشيخان عن عائشة (حين لد في مرضه) بضم اللام وتشديد الدال أي سقي دواء من أحد شقي فمه بغير اذنه لغشيانه وظن أنه أصابه وجع في جنبه وذلك يوم الأحد وتوفي يوم الاثنين الذي يليه مع الزوال فلما أفاق قال لا يبقى في البيت أحد الألد قال ذلك عقوبة لهم (وَقِيلَ لَهُ خَشِينَا أَنْ يَكُونَ بِكَ ذَاتُ الجنب) وهو علم لدمل كبير وهو قرحة تظهر في باطن الجنب الأيسر وتنفجر إلى داخل قلما يسلم صاحبها (فقال) أعاده لطول الفصل (إِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُسَلِّطَهُ عليّ) وضمير أنها إلى لدهم له وأنثه باعتبار صنعتهم لا كما قال الدلجي باعتبار صدوره مرة واحدة ثم نسبه إلى الشيطان لأنه كان سبب وسوسته لهم بذلك حتى فعلوا ما لم يأذنهم هنالك (فإن قيل) إذا كان الله لم يسلطه عليه (فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) أي نازغ وناخس منه (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200] الآية) أي قوله تعالى إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع لمقالك وعليم بحالك (فقد قال بعض المفسّرين) أي لدفع هذا الإشكال الوارد في السؤال (إنّها) أي الآية (رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الْأَعْرَافِ: 199] ) أي المصدر بقوله خُذِ الْعَفْوَ أي ما سهل من اخلاق الناس من غير كلفة ومشقة حذرا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 النفرة عن الحضرة وأمر بالعرف أي المعروف من الفعل الجميل وهذه الآية أجمع مكارم اخلاق الأنام بشهادة قول جبريل له عليهما السلام وقد سأله عنها فقال لا أدري حتى اسأل ربي ثم رجع فقال يا محمد إن ربك أمرك أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ وتعفو عمن ظلمك (ثمّ قال) أي الله سبحانه وتعالى أو بعضهم في تفسير قوله (وإمّا ينزغنّك أي يستخفنّك) يعني يزعجك ويحملك على الخفة ويزيل حملك (غضب يحملك على ترك الإعراض عنهم) أي مثلا (فاستعذ بالله) ولا تطع من سواه (وقيل النّزغ هنا الفساد كما قال) أي الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام لأبيه ومن معه تحدثا بنعمة ربه وجاء بكم من البدو (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف: 100] وقيل ينزغنّك) أي معناه (يغرينّك) أي من الاغراء بالغين المعجمة والراء وهو الالزام وفي نسخة يغوينك بالواو من الاغواء (ويحرّكنّك) أي بالقيام في طلب ما له من المرام، (والنّزغ أدنى الوسوسة) أي حديث النفس والخطرة التي ليس بها عبرة (فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى تَحَرَّكَ عَلَيْهِ غضب على عدوّه) أي مثلا (أو رام الشّيطان) أي قصد (من إغرائه به) أي تسليطه وفي نسخة من اغوائه أي من اضلاله (وخواطر أدنى وساوسه) أي مقدمات هواجسه (ما لم يجعل) بصيغة المجهول أي لم يقدر الله تعالى (له سبيل إليه) أي بحيث يتسلط عليه (أن يستعيذ منه فيكفى أمره) بصيغة المفعول ونصب أمره ويحتمل أن يكون مبنيا للفاعل أي فيكفي الله أمره ويدفع شره وضره (ويكون) أي استعاذته من وسوسته (سبب تمّام عصمته) وظهور حالته عند أمته مع إفادة تعليمه لأهل ملته (إِذْ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنَ التَّعَرُّضِ له) أي بمجرد وسوسته (ولم يجعل له قدرة عليه) أي لعصمته (وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا) أي من الأقاويل في باب التأويل (وكذلك) أي وكعصمته عليه الصلاة والسلام من إبليس ووسوسته (لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَصَوَّرَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صورة الملك ويلبّس) بفتح الياء وكسر الباء أو بضم أوله وتشديد الموحدة أي يخلط (عليه) ويشكك في أمره إليه (لا في أوّل الرّسالة ولا بعدها) أي بالأولى (والاعتماد في ذلك) أي في عدم صحة تصور الشيطان له في صورة الملك (دليل المعجزة) فإنما هي للتثبيت له بالعصمة والتأييد له بالحكمة وتوضيحه أنه لما كانت المعجزة قائمة مقام قول الله تعالى صدق عبدي لمدعي النبوة فمحال أن يجد الشيطان إليه سبيلا بالغلبة (بل لا يشكّ النّبيّ) أي في الأنبياء (أَنَّ مَا يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ الْمَلَكُ وَرَسُولُهُ) أي أنه هو المرسل إليه بوحيه لديه وفي نسخة على يديه (حقيقة) أي من غير تردد فيه (إمّا بعلم ضروريّ يخلقه الله تعالى له) أي فيعتمد عليه (أو ببرهان يظهره لديه) وفي نسخة على يديه (لتتمّ كلمة ربّك) أي أيها المخاطب بالخطاب العام وفيه إيماء إلى ما في التنزيل من قوله وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ (صِدْقاً) في الاخبار والاعلام (وَعَدْلًا) في الأحكام نصبهما على التمييز أو الحالية لا كما قال الدلجي على المفعولية (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) ولا محول لإرادته. (فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) هذا صريح في الفرق بينهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 والأظهر أن الرسول من أوحى إليه وأمر بالدعوة والنبي أعم والله تعالى أعلم (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي قرأ وتلا (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] ) أي تلاوته وقراءته مما يشغله به عن استغراقه في بحور العوارف واشتغاله بكنوز المعارف (الآية) أي فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي يبطله ويزيله ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ الْآيَةَ (فَاعْلَمْ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الآية أقاويل) أي كثيرة شهيرة (منها) أي من تلك الأقاويل (السّهل) أي الهين المقبول (والوعر) أي الصعب الوصول وفي نسخة صحيحة بدله (والوعث) بسكون العين ويكسر وبالمثلثة الطريق العسير ومنه ما ورد اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر أي شدائد مشقته (والسّمين) أي الكلام المتين القوي (والغثّ) بفتح الغين المعجمة وتشديد المثلثة أي المهزول الضعيف الردي، (وأولى ما يقال فيها) أي في الآية (ما عليه الجمهور من المفسّرين) كما ذكره البغوي أيضا (أن التّمنّي ههنا التّلاوة) يقال تمنيته إذا قرأته وفي مرثية عثمان رضي الله تعالى عنه: تمنى كتاب الله أول ليلة وآخره: لاقى حمام المقادر (وإلقاء الشّيطان فيها) أي في تلاوته (شغله) بفتح أوله وضمه وفي نسخة اشتغاله أي شغل الشيطان إياه (بخواطر) أي ردية (وإذكار من أمور الدّنيا) أي الدنية (للتّالي) أي للقارئ من النبي فضلا عن غيره (حتّى يدخل عليه) من الإدخال أي يوصل إليه الشيطان أو شغله إياه (الوهم) أي السهو والخطاء (والنّسيان فيما تلاه) أي فيما قرأه من جهة مبناه أو طريق معناه (أو يدخل غير ذلك في) وفي نسخة على (أفهام السّامعين من التّحريف) في لفظ التنزيل ومبناه (وسوء التّأويل) أي في معناه (ما يزيله الله وينسخه) أي يدفعه ويرفعه (ويكشف لبسه) بفتح أوله أي ويبين خلطه ويظهر غلطه (ويحكم آياته) أي ويثبت بيناته (وسيأتي الكلام على هذه الآية بعد) أي بعد ذلك في فصل (بأشبع من هذا) أي أبسط وأوسع (إن شاء الله، وقد حكى السّمرقنديّ) أي الإمام أبو الليث الحنفي (إنكار قول من قال بتسلّط الشّيطان) ويروى بِتَسْلِيطِ الشَّيْطَانِ (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَغَلَبَتِهِ عَلَيْهِ وأنّ مثل هذا لا يصحّ) يعني فإذا كان لا يصح تسلط الشيطان على ملك سليمان من الأمور الدنيوية فبالأحرى أن لا يصح له التسلط على الأنبياء فيما يتعلق بالأمر الديني والأخروي (وقد ذكرنا) أي وسنذكر (قِصَّةَ سُلَيْمَانَ مُبَيَّنَةً بَعْدَ هَذَا وَمَنْ قَالَ) أي ونذكر من قال في تأويله (إنّ الجسد) أي في قوله تعالى وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً (هو الولد الّذي ولد له) أي ناقصا جاءت به إحدى نسائه فألقته القابلة على كرسيه وذلك حين قال لأطوفن الليلة على نسائي كلهن الحديث، (وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ وقوله) أي وفي قوله أي الله سبحانه وتعالى حكاية عنه (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 بِنُصْبٍ) بضم وسكون وقرأ يعقوب بفتحها أي بتعب (وَعَذابٍ [ص: 41] ) زيد في نسخة ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (إنّه) أي الشأن (لا يجوز لأحد أن يتأوّل) أي الآية برأيه ويزعم (أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الَّذِي أَمْرَضَهُ وَأَلْقَى الضُّرَّ في بدنه) لعدم قدرته على ذلك ولو قدر عليه لم يدع صالحا إلا نكبه هنالك (ولا يكون ذلك) أي ما أصابه من المرض والضر العرض (إلّا بفعل الله وأمره ليبتليهم) أي ليمتحنهم كما ورد أشد الناس بلاء الأنبياء (ويثبّتهم) من التثبيت أو الاثبات أي يؤيدهم بالعصمة ويقويهم بالحكمة وفي نسخة ويثيبهم من الإثابة أي ويجازيهم على بلائهم ثوابا جزيلا وثناء جميلا وإسناد المس إلى الشيطان مجاز مراعاة للأدب في تعظيم الرب اقتداء بإبراهيم حيث قال وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ حيث لم يقل أمرضني مع أن أيوب عليه السلام ما حكى مجرد ضرر المرض بل شكا ما حصل له من نصب وعذاب كان الشيطان لهما من الأسباب فقد روي أن إبليس اعترض امرأته في هيئة ليس كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس من مراكب الناس كالخيل والبغال فقال لها أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى قالت نعم قال لها هل تعرفينني قالت لا قال أنا إله الأرض وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني فأنت لو سجدت لي سجدة واحدة رددت عليك المال والأولاد وعافيت زوجك فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها قال أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك فعند ذلك قال مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له ودعائه إياها إلى الكفر بالله سبحانه وتعالى، (قال مكّيّ: وقيل إنّ الّذي أصابه الشَّيْطَانُ مَا وَسْوَسَ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنْ قلت فما معنى قوله تعالى) أي حكاية (عن يوشع) غير منصرف للعلمية والعجمة وهو ابن نون (وَما أَنْسانِيهُ بكسر الهاء وضمها لحفص (إِلَّا الشَّيْطانُ [الكهف: 63] ) أي أن أذكره (وقوله) أي وما معنى قوله تعالى (عن يوسف عليه السلام) أي في حقه (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [يوسف: 42] ) بأن وسوس له بخواطر مما يورثه أن يكل أمره إلى غير ربه مستعينا به في خلاصه من السجن وتعبه لحديث رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لما لبث في السجن سبعا بعد الخمس والاستعانة في كشف الشدائد والضراء وإن حمدت في الجملة إلا أنها غير لائقة بالأنبياء والكمل من الأولياء (وقول نبيّنا عليه الصلاة والسلام) أي وما معنى قوله كما في رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (حين نام عن الصّلاة) أي صلاة الفجر (يوم الوادي) أي الذي أمر بلالا أن يكلأ له فيه الفجر فغلبه النوم حتى مسهم حر الشمس (إنّ هذا واد به شيطان) ارتحلوا ثم قضى صلاة الصبح بعد ارتحالهم منه وهو مؤذن بجواز تأخير الفائتة بعذر فهو مخصص لعموم حديث البخاري من فاتته صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك (وقول موسى عليه السّلام) أي وما معناه (في وكزته) أي القطبي وهو ضربه في مصدره بجمع كفه الذي صار سبب قتله (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [القصص: 65] ) أي لصدوره منه قبل أن يؤذن له في ضربه أو قتله وجعله من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 عمل الشيطان وتسميته ظلما واستغفاره منه جار على كريم عادة الأنبياء من استعظام ما تركه أولى من الأشياء (فاعلم أنّ هذا الكلام) أي منهم عليهم الصلاة والسلام (قد يرد في جميع هذا) أي مما حكي عنهم (مورد مستمر) بالنصب وفي نسخة على مورد مستمر (كلام العرب) أي مجرى دأبهم ومطرد عادتهم (في وصفهم كلّ قبح مِنْ شَخْصٍ أَوْ فِعْلٍ بِالشَّيْطَانِ أَوْ فِعْلِهِ) القبح منظره وسوء فعله في طباع الناس لاعتقادهم أنه شر محض لا خير فيه (كما قال تعالى) في مذمة شجرة الزقوم (طَلْعُها) أي ثمرها (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات: 65] ) لتناهي قبحه وهول منظره وهو تشبيه تخييلي كتشبيه الفائق في حسن عظيم بملك كريم قال تعالى إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (وقال) أي وكما قال (صلى الله تعالى عليه وسلم) على ما رواه الشيخان (فيمن يريد أن يمر بين يدي المصلي) وأول الحديث إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى (فليقاتله فإنّما هو شيطان) أي إنسي أو جني شبهه به تقبيحا لمروره بين يديه لمشابهة فعله في قبح أمره لشغل خاطره واذهاب خشوعه وخضوعه به (وايضا) مصدر من آض اذا رجع أي ونرجع ونقول (فإنّ قول يوشع) لموسى وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ (لا يلزمنا الجواب عنه) وفي نسخة عليه، (إِذْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ) أي وقت كونه في خدمة موسى (نبوّة مع موسى) بل يظهر فيه أنه لم يكن نبيا وأنه كان تابعا لملازمته، (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف: 60] والمرويّ أنّه إنّما نبّىء بعد موت موسى، وقيل قبيل موته) ويروى قبل موته أي موت موسى نعم يلزم الجواب عنه لمن قال بعصمة الأنبياء قبل النبوة وبعدها إذ لا سبيل للشيطان عليهم مطلقا وقد يقال للشيطان هضما لنفسه وتأدبا مع ربه؛ (وقول موسى) أي في حال وكز القبطي هذا من عمل الشيطان (كان قبل نبوّته بدليل القرآن) فإنه يدل على أن قتله كان قبل هجرته إلى مدين إذ وقع سببا لها وقد روي أنه لما قضي الأجل مكث بعده عند صهره شعيب عشرا أخرى ثم استأذنه في العود إلى مصر واتفق له ذلك السفر وارساله كان بعد رجوعه من مدين إلى فرعون وفيه أنه لم يحتمل أنه كان نبيا ولم يكن رسولا لقوله تعالى قبل هذه القصة وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ودخل المدينة الآية (وقصّة يوسف) أي وهو في السجن (قد ذكر) ويروى قد ذكرنا (أنّها كانت) أي كلها كما في نسخة (قبل نبوّته) أي على قول بعضهم وإلا فقد قال بعضهم إنه نبئ في الجب بدليل قوله تَعَالَى وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ نعم رسالته كانت متأخرة؛ (وقد قال المفسّرون في قوله: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ [يوسف: 42] ) أي ذكر ربه بعد قول يوسف له اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ (قولين) أي تأويلين (أَحَدُهُمَا أَنَّ الَّذِي أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أحد صاحبي السّجن) وهو الشرابي (وربّه) أي وسيده (الملك) بكسر اللام (أي أنساه) أي الشيطان الشرابي (أن يذكر) من الذكر أو التذكير والأول أوفق بقوله اذْكُرْنِي (للملك) وفي نسخة الملك (شأن يوسف عليه السلام) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 لينجيه من السجن وما فيه من تعب المقام ونصب الملام، (وأيضا فإنّ مثل هذا) أي الإنساء (من فعل الشّيطان ليس فيه تسلّط) أي بالإغواء (على يوسف عليه الصلاة والسلام) أي ولو كان حينئذ من الأنبياء (ويوشع) أي وعليه وهو ولد ولده (بوساوس) ويروى بوسواس (ونزغ) أي خطر من هواجس (وإنّما هو) أي فعل الشيطان (بشغل خواطرهما) أي بسببه وفي نسخة بصيغة المضارع وفي أخرى شغل بصيغة المصدر وفي أخرى اشتغال خَوَاطِرِهِمَا (بِأُمُورٍ أُخَرَ وَتَذْكِيرِهِمَا مِنْ أُمُورِهِمَا مَا ينسيهما ما نسيا؛ وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَسَلُّطِهِ عَلَيْهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ لَهُ بَلْ إن كان بمقتضى ظاهره) أي سببا لغفلته (فقد بيّن أمر ذلك الشّيطان بقوله) في رواية مالك والبيهقي عن زيد بن اسلم (إنّ الشّيطان أتى بلالا) أي حين قال له صلى الله تعالى عليه وسلم اكلأ لنا الفجر أي احفظ وقته لنا (فلم يزل يهدّئه) بضم الياء وكسر الدال بالهمز من الاهداء أو التهدية أي يسكنه عن الحركة (كما يهدّأ الصّبي) بصيغة المجهول بأن يضرب عليه بالكف على وجه اللطف لينام من غير العنف (حتّى نام) أي بلال فلم يستيقظ حتى ضربهم حر الشمس فقال ما هذا يا بلال فقال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك يا رسول الله (فَاعْلَمْ أَنَّ تَسَلُّطَ الشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ الْوَادِي الذي عرس به) بتشديد الراء أي نزل به في الليل أو آخره هو وأصحابه حين قفلوا من غزوهم أي رجعوا (إنّما كان) أي في الجملة (على بلال الموكّل بكلاءة الفجر) بكسر الكاف وفتح اللام ممدودة وفي نسخة بكلاءته الفجر أي حراسته ليخبرهم بطلوع الفجر ووقت صلاته، (هذا) أي التأويل (إِنْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ تَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ النَّوْمِ عَنِ الصَّلَاةِ؛ وأمّا إن جعلناه) أي قوله ذلك (تَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ الرَّحِيلِ عَنِ الْوَادِي وَعِلَّةً لِتَرْكِ الصَّلَاةِ بِهِ وَهُوَ دَلِيلُ مَسَاقِ حَدِيثِ زيد بن أسلم) كما رواه مالك والبيهقي (فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ لِبَيَانِهِ) أي بيان حديثهما (وارتفاع إشكاله) على منهج الصواب. فصل [وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقامت الدلائل إلى آخره] (وأمّا أقواله صلى الله تعالى عليه وسلم فقامت) ويروى فقد قامت (الدّلالة) أي جنس الدلالات (اللائحة) وفي نسخة صحيحة الدلائل الواضحة (بصحّة المعجزة على صدقه) من الآيات الساطعة والبينات القاطعة كانشقاق القمر وغيره من خوارق العادة (وأجمعت الأمّة فيما كان طريقه البلاغ) أي تبليغ الشرائع والأحكام من الله الملك العلام لسائر الأنام (أنّه معصوم فيه من الإخبار) بكسر الهمزة أي الاعلام (عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ) أي من المقصود والمرام والمعنى بخلاف الواقع (لا قصدا) أي بسبب (ولا عمدا) أي لا عن سبب (ولا سهوا) أي خطأ (ولا غلطا) أي نسيانا وفي نسخة لا قصدا أو عمدا ولا سهوا أو غلطا (أمّا تعمّد الخلف) بضم أوله وهو اخلاف الوعد وهو في الآتي كالكذب في الماضي وروي وأما تعمده بالخلف (في ذلك) أي فيما تقدم من أمر البلاغ (فمنتف) أي ممتنع عقلا ونقلا (بدليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 المعجزة القائمة مقام قول الله صدق) أي عبدي كما في نسخة (فيما قال اتّفاقا) بين علماء الأمة، (وبإطباق أهل الملّة إجماعا) أي في الجملة (وأمّا وقوعه) أي الخلف (عَلَى جِهَةِ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ فَبِهَذِهِ السَّبِيلِ) أي فمنتف أيضا بدليل المعجزة المذكورة أو بهذه الطريقة المسطورة بعينها (عند الأستاذ) بالدال المهملة وقيل بالمعجمة (أبي حامد «1» الإسفرايينّي) بكسر الهمزة وفتح الفاء بلدة بخراسان بنواحي نيسابور وهو إمام المتبحرين في علوم الدين كلاما وأصولا وفروعا وأبوابا وفصولا توفي بنيسابور يوم عاشوراء سنة ثماني عشرة وأربعمائة (ومن قال بقوله) أي ممن تابعه وشايعه في أنه منتف لصدوره (من جهة الإجماع فقط) لأنه حجة قاطعة (وورود الشّرع) أي ومنتف أيضا من جهة ورود الكتاب والسنة وفي نسخة وورد الشرع (بانتفاء ذلك الغلط) لقوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (وعصمة النّبيّ) أي ومنتف أيضا من جهة عصمته قطعا (لَا مِنْ مُقْتَضَى الْمُعْجِزَةِ نَفْسِهَا عِنْدَ الْقَاضِي أبي بكر الباقلانيّ) بكسر القاف وتشديد اللام وقد تقدم عليه الكلام وهو الإمام المالكي (ومن وافقه لاختلاف بينهم) أي بين الاستاذ والقاضي ومقلديهما (فِي مُقْتَضَى دَلِيلِ الْمُعْجِزَةِ لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ) في هذا الباب (فنخرج عن غرض الكتاب) ونورث السآمة والملالة من الاطناب (فَلْنَعْتَمِدْ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ أنّه لا يجوز عليه) أي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (خلف في القول إِبْلَاغِ الشَّرِيعَةِ وَالْإِعْلَامِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ ربّه ومّا أوحاه إليه) ويروى وبما أَوْحَاهُ إِلَيْهِ (مِنْ وَحْيِهِ لَا عَلَى وَجْهِ العمد ولا على غير عمد) أعاد حرف النفي سابقا ولا حقا تأكيدا لعدم جواز خلفه فيما ذكره حقا وصدقا (ولا في حال الرّضاء) بكسر الراء وتضم أي المحبة وفي نسخة حال الرضى وفي أخرى حين الرضى (والسّخط) بفتحين وبضم وكسر أي الغضب والكراهة (وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو) أي ابن العاص بن وائل السهمي كما رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه (قلت يا رسول الله اكتب) باستفهام مقدر أو مقرر بإبدال والمعنى أأكتب (كلّ ما أسمع منك قال نعم) اكتب عني كل ما سمعت مني (قُلْتُ فِي الرِّضَى وَالْغَضَبِ قَالَ نَعَمْ فَإِنِّي لا أقول في ذلك كلّه) أي في الذي أقوله (إلّا حقا) لما عصمه ربه من الزلل والخطل في القول والعمل (ولنرد) بفتح النون وكسر الراء من الورود أي ولنذكر (ما أشرنا) أي فيما حررنا (إليه من دليل المعجزة) ويروى في دليل المعجزة (عليه) أي على ما قررنا (بيانا) أي برهانا (فنقول إذا قامت المعجزة على صدقه) أي النبي (وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا وَلَا يُبَلِّغُ) بالتشديد والتخفيف أي ولا يخبر (عن الله إلّا صدقا) بحيازته رعاية الأمانة وحماية الصيانة والديانة (وَأَنَّ الْمُعْجِزَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ صدقت فيما تذكره عني) وروي مقام قول الله تعالى (صدق عبدي فيما يذكره) (وهو يقول   (1) هكذا وقع في نسخة هذا الشرح والصواب أبي إسحاق قاله المصحح ط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 إني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليكم لأبلّغكم) بالتشديد والتخفيف أي لأخبركم (مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ أُبَيِّنُ لَكُمْ مَا نزّل عليكم) بالبناء للفاعل مخففا أو المفعول مثقلا لتفوزوا بكرم السيادة وعظم السعادة (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ) أي ما هو (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى فَاسْتَوى [النجم: 3- 4] قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) كما في آية أخرى، (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ونحو هذا من الآيات من الكتاب؛ (فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِي هَذَا الباب) أي في باب البلاغ عن ربه (خبر بخلاف مخبره) بضم الميم وفتح الموحدة أي ما أخبر به (على أيّ وجه كان) من قصد أو غيره، (فلو جوّزنا عليه الغلط والسّهو) أي نسبتهما إليه (لما تميّز لنا) أي لما امتاز خبره (من غيره) أي من خبر غيره قال الحجازي سياق الكلام يدل على أن الضمير في ذلك عائد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وَلَا اخْتَلَطَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ؛ فَالْمُعْجِزَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تصديقه جملة واحدة من غير خصوص) بتقييد حاله (فتنزيه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما طريقه البلاغ (عن ذلك كلّه) أي عن الاخبار بشيء منه بخلاف ما هو به قصدا وسهوا وغلطا (واجب برهانا) أي دليلا عقليا (وإجماعا) أي اتفاقا نقليا (كما قاله أبو إسحاق) أي الإسفراييني على ما تقدم والله أعلم. فصل [وقد توجهت ههنا لبعض الطاعنين سؤالات] (وقد توجّهت ههنا) أي في هذا المبحث (لبعض الطاعنين) أي في الدين (سؤالات) أي من الملحدين (منها ما روي) أي فيما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وأبو حاتم بسند منقطع عن سعيد بن جبير (من أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لمّا قرأ سورة والنّجم) أي سورته (وقال) أي وقرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ) صنم كان لثقيف بالطائف أو بنخلة من قريش وهي مؤنثة من لوى لأنهم كانوا يلوون على طاعتها ويعكفون على عبادتها أو يلتوون عليها أي يطوفون لديها وقيل مؤنث لفظه الجلالة (وَالْعُزَّى) تأنيث الأعز شجرة كانت لغطفان تعبدها بعث إليها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها (وَمَناةَ) بالقصر ويمد صخرة كانت لهذيل وخزاعة تعبدها وتتقرب بها وتعتكف لديها (الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) صفتان للتأكيد (قال) أي جرى على لسانه أو حكى الشيطان بعد بيانه (تلك الغرانيق العلى) جمع غرنوق بضم المعجمة والنون وبكسرها وفتح النون ويقال غرنيق بضمها وفتح النون وسكون الراء والياء ويقال كقنديل وهي في الأصل الذكور من طير الماء طويل العنق قيل هو الكركي ويقال للشاب الممتلئ شبابا وحسنا وبياضا أريد بها ههنا الأصنام إذ كانوا يزعمون أنها تقربهم إلى الله تعالى وشفعاؤهم عند الله فشبهوها بالطير الذي يعلو في الهواء ويرتفع إلى السماء (وإن شفاعتها) ويروى وأن شفاعتهن (لترتجى) بصيغة المجهول أي تتوقع وتؤمل في التجاوز عن الذنب والزلل (ويروى ترتضى) أي بدل ترتجى أي تقبل، (وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ شَفَاعَتَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 لترتجى، وإنّها لمع الغرانيق العلى) بضم العين أي العالية (وفي أخرى والغرانقة العلى) والغرانقة أيضا جمع غرنيق (تلك الشّفاعة ترتجى، فلمّا ختم) أي النبي عليه الصلاة والسلام (السّورة) أي سورة النجم (سجد) أي لله امتثالا لأمر ربه (وسجد معه) أي جميع من كان حاضرا (المسلمون) أي الأبرار (والكفّار) أي الفجار (لمّا سمعوه) بفتح اللام وتشديد الميم أو بكسر اللام وتخفيف الميم (أثنى على آلهتهم) أي بقوله تلك الغرانيق إلى آخره (وما وقع) أي ومنها ما وَقَعَ (فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَاهَا) أي الكلمات السابقة في مدح الآلهة (على لسانه) أي وجرى على لسانه من غير شعور له على بيانه والأظهر أنه كان على حكاية لسانه ومنوال بيانه (وأنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتمنّى) أي فيما خطر بباله (أن لو نزل) ويروى أنزل (عَلَيْهِ شَيْءٌ يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ينفّرهم عنه) بتشديد الفاء أي يبعدهم عن قربه حتى ينفعهم برسالة ربه (وذكر) أي صاحب تلك الرواية (هذه القصّة) ابتلاء للمحنة المشتملة على الغصة ويروى هذه السورة (وأنّ جبريل عليه السّلام جاءه فعرض عليه السّورة) ويروى هذه السورة أي سورة النجم (فلمّا بلغ الكلمتين) أي وجرى ما سبق من إحدى الحالتين (قَالَ لَهُ مَا جِئْتُكَ بِهَاتَيْنِ، فَحَزِنَ لِذَلِكَ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) خشية الفتنة في حق الأمة (فأنزل الله تعالى) أي عليه (تَسْلِيَةً لَهُ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج: 52] الآية) فقد روى ابن جرير وسعيد بن منصور عن محمد بن كعب ومحمد بن قيس قالا جلس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في ناد لقريش كثير أهله فتمنى أن لا يأتيه من الله تعالى ما يفرقهم عنه فأنزل الله تعالى وَالنَّجْمِ فقرأها فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى القى الشيطان عليه عليه الصلاة والسلام تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى فتكلم بها ثم مضى يقرأ حتى ختمها فسجد وسجدوا معه جميعا ورضوا بما تكلم به فلما أمسى أتاه جبريل فعرضها عليه فلما بلغ تلك الغرانيق العلى قال ما جئتك به قال افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ وَقُلْتُ مَا لَمْ يَقُلْ فما زال مغموما حتى نزل وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ فطابت نفسه وفي هذه الرواية ألفاظ ما تصح بحسب الدراية (وقوله) أي ومنها قوله أو أنزل عليه أيضا قوله (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: 73] ) أي أن الشأن قاربوا أي ليضلونك (الآية) أي عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لا تخذوك خليلا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً وردت فيما أرادته قريش منه عليه الصلاة والسلام أن يبدل الوعد وعيدا أو الوعيد وعدا بقولهم لهم اجعل لنا آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك وكذا ما اقترحه ثقيف عليه من أن يضيف إلى الله تعالى ما لم ينزل عليه بقولهم له لا ندخل في أمرك حتى تعطينا ما نفتخر به على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نتحنى في صلاتنا وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا لغيرنا فهو موضوع عنا وإن تمتعنا باللات سنة ولا نكسرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 بأيدينا عند رأس الحول بل ترسل أنت إليها من يكسرها وأنت تمنع من قصد وادي وج يعضد شجرة فإذا سألتك العرب لم فعلت ذلك فقل أمرني الله تعالى به ثم جاؤوا بكاتب فكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا تعشرون ولا تحشرون فقالوا ولا تنحنون وهو ينظر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقام عمر فسل سيفه وقال أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله تعالى قلوبكم نارا فقالوا لسنا نكلمك إنما نكلم محمدا فنزلت (فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ لَنَا فِي الْكَلَامِ على مشكل هذا الحديث) أي الوارد في قصة سورة النجم (مأخذين) أي طريقين نمنع بهما من يتشبث بهذه الروايات أو يثق بها من الحكايات (أحدهما في توهين أصله) أي تضعيف نقله (والثّاني على تسليمه) أي على تقدير وقوعه، (أمّا المأخذ الأوّل) والمخلص المعول (فيكفيك) في توهينه ورد تبيينه (أنّ هذا حديث) أي منكر من جهة الرواية والدراية حيث (لم يخرّجه أحد من أهل الصّحّة) كأصحاب الكتب الستة (ولا رواه ثقة) أي عن ثقة (بسند سليم) أي سالم من الاضطراب والعلة بل ولا رواه ثقة بسند (متّصل) أي مرفوعا أو موقوفا بل رواه جماعة بأسانيد ضعيفة واهية مقطوعة أو موضوعة أو مرفوعة (وإنّما أولع) بصيغة المجهول أي تولع (به و) تعلق (بمثله المفسّرون) أي المعتمدون على أقاويل ضعيفة (والمؤرّخون) بتشديد الراء المكسورة بعد همزة وتبدل واوا أي أرباب التواريخ (المولعون) بضم الميم وفتح اللام أي الحريصون (بكلّ غريب) أي بنقل كل مروي فيه غرابة (المتلقّفون) أي المبتلعون وفي نسخة الملفقون بتشديد الفاء المكسورة بعدها قاف أي المرقعون الملقطون (من الصّحف) من دون سماع رواية وتصحيح دراية (كلّ صحيح وسقيم) أي ثابت وضعيف ثم اعلم أن أبا الفتح اليعمري قال في سيرته الكبرى ما لفظه بلغني عن الحافظ عبد العظيم المنذري أنه كان يرد هذا الحديث من جهة الرواة بالكلية وكان شيخنا الحافظ عبد المؤمن بن خلف يخالفه في ذلك انتهى وذكر الحلبي أنه قال بعض شيوخي فيما قرأته عليه حين ذكر هذا الكلام أنه باطل لا يصح منه شيء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل (وَصَدَقَ الْقَاضِي بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمَالِكِيُّ حَيْثُ قال لقد بلي) بضم الموحدة وكسر اللام أي ابتلي (النّاس) وامتحنوا (ببعض أهل الأهواء) أي المبتدعة وفي نسخة بتقصي أهل الأهواء أي بتقصصهم على ما ذكره الأنطاكي (والتّفسير) أي أهل التفسير بالآراء المخترعة (وتعلّق بذلك) أي بحديث سورة النجم (الملحدون) أي المائلون عن الحق (مع ضعف نقلته) أي رواته (واضطراب رواياته) أي من جهة اختلاف عباراته وفي نسخة روايته (وانقطاع إسناده) الموجب لعدم اعتماده وفي نسخة أسانيده (واختلاف كلماته) المقتضية لتفاوت دلالاته ويروى كلمته (فقائل) أي منهم (يقول إنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام قرأها (في الصّلاة، وآخر يقول قالها) أي المقالة حين قرأها (في نادي قومه) أي مجلسهم ومتحدثهم (حين أنزلت عليه السّورة) أي سورة النجم؛ (وآخر يقول قالها وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 أصابته سنة) بكسر سين وتخفيف نون أي نعاس، (وآخر يقول بل حدّث نفسه) أي خطر في باله تلك المقالة (فسها) أي فجرى على لسانه ما حصل له به الملالة، (وآخر يقول من الشّيطان قالها على لسانه) أي حاكيا صوته في تقرير بيانه وهذا أقرب الأقوال بالنسبة إلى نزاهة شأنه لكن يشكل قوله (وأنّ النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَرَضَهَا عَلَى جِبْرِيلَ قَالَ مَا هَكَذَا أَقْرَأْتُكَ؛ وَآخَرُ يَقُولُ بَلْ أَعْلَمَهُمُ الشّيطان) أي وسوس لهم (أنّ النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا؛ فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيُّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم ذلك) أي اعلام الشيطان وإغواءه (قال والله ما هكذا نزلت) بصيغة المجهول مشددا أو المعلوم مخففا؛ (إلى غير ذلك) أي مع غير ما ذكر من الحكايات الناشئة عن اضطراب الروايات (من اختلاف الرّواة) أي الذين يقال في حقهم إنهم غير الثقات والحاصل أن الاضطراب وقع من جميع الجهات؛ (وَمَنْ حُكِيَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ) أي المعتبرين كابن جرير وأبي حاتم وابن المنذر (والتّابعين) أي المعتمدين كالزهري وقتادة وأمثالهما (لم يسندها أحد منهم) أي إسناده متصلا يصلح اعتمادا (ولا رفعها إلى صاحب) أي للرواية (وأكثر الطّرق) أي الأسانيد (عنهم فيها ضعيفة واهية) أي منكرة جدا ولو كانت متصلة (والمرفوع فيه) أي قليل ويروى فيها وفي رواية منه (حديث شعبة) وهو إمام جليل (عن أبي بشر) بكسر موحدة وسكون شين معجمة تابعي صدوق ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة (عن سعيد بن جبير) من اجلاء التابعين (عن ابن عباس قال) كذا في نسخة (فيما أحسب) أي أظن (الشّكّ في الحديث) جملة معترضة من كلام المصنف يعني شك الراوي بقوله فيما أحسب في نفسه الحديث لا في كونه مرويا عن ابن عباس والحاصل أن سعيد بن جبير وإن كان معتمدا لكن تردد (أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان بمكّة) في هذه القضية أو بغيرها والسورة مكية بلا خلاف فيها (وذكر القصّة) وكان حق المصنف أن يذكر القصة كما ثبت في الرواية وقد بينها الدلجي بقوله أي قصة نزول سورة النجم وهو في نادي قومه بعد تمنيه أن لا ينزل عليه ما يفرق قومه عنه أو ينزل عليه ما يطيب نفوسهم به عسى أن يؤمنوا فنزلت عليه سورة النجم فقرأها فلما بالغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى قال تلك الغرانيق العلى ففرح المشركون ثم ختمها وسجد وسجد من حضر المسلمون والكفار (قال أبو بكر البزّار) بتشديد الزاء وراء في آخره حافظ مشهور (هذا الحديث لا نعلمه روي) أي لا نعرف أنه روي (عن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بإسناد متّصل يجوز ذكره) أي ويعتمد عليه في الجملة (إلّا هذا) أي الإسناد إلى ابن عباس (ولم يسنده) أي الحديث (عن شعبة إلّا أميّة بن خالد) ثقة توفي سنة إحدى ومائتين أخرج له مسلم (وغيره) أي غير أمية ممن رواه (يرسله عن سعيد بن جبير) أي بحذف رجاله من أصحابه كابن عباس (وإنمّا يعرف) أي اتصال سنده (عن الكلبيّ) وهو محمد بن السائب المفسر الأخباري النسابة والأكثرون على أنه غير ثقة خصوصا إذا روى (عن أبي صالح عن ابن عبّاس) أي موقوفا عليه وأبو صالح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 هذا يروي عن مولاته أم هانئ وعن علي وعنه السدي والثوري وعدة وأخرج له أصحاب السنن الأربعة قال أبو حاتم وغيره لا يحتج به وقد تقدم أنه لم يسمع من ابْنِ عَبَّاسٍ (فَقَدْ بَيَّنَ لَكَ أَبُو بَكْرٍ) أي البزار (رحمه الله تعالى) جملة دعائية (أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ سوى هذا) أي سوى طريق شعبة لقوة إسناده إذ كل رجاله ثقات (وفيه) أي في حديث شعبة (من الضّعف ما نبّه عليه) أي البزار وغيره من اختلاف عباراته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده وإرساله واختلاف مواطن حالاته (مع وقوع الشّكّ فيه) أي مع ما وقع له فيه من الشك (كما ذكرناه) من أنه (الذي لا يوثق به) الذي صفة للشك والضمير في به يعود إليه أي مع وقوع الشك الذي لا يوثق به (ولا حقيقة) لصحة الحديث (مَعَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْكَلْبِيِّ فَمِمَّا لَا تَجُوزُ الرّواية عنه) أي عن الكلبي مطلقا (ولا ذكره) أي لهذا الحديث أصلا (لقوّة ضعفه وكذبه) أي وكثرة كذبه ولذا ضعفه الجمهور (كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَزَّارُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالَّذِي منه) أي من حديث سورة النجم (في الصّحيح) من رواية الشيخين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ والنّجم) أي من غير زيادة (وهو بمكّة) أي قبل الهجرة (فسجد معه المسلمون والمشركون) ولم يبين ما سبب سجدة المشركين (والجنّ والإنس) أي الحاضرون، (هذا) أي الذي ذكرناه (توهينه) أي تضعيفه (مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى) أي الذي يدركه العقل (فقد قامت الحجّة) أي القاطعة (وأجمعت الأمّة على عصمته صلى الله تعالى عليه وسلم ونزاهته) أي براءة ساحته (عن مثل هذه الرّذيلة) أي الخصلة الدنية ويروى النقيصة أي المنقصة (قبل النبوة) ولو قبل البلوغ فكيف يتصور وقوعها بعد تمام النبوة ونظام الرسالة لا سيما وقت التلاوة ودرجها في القراءة والحاصل أن له عليه الصلاة والسلام عصمة ثانية (إِمَّا مِنْ تَمَنِّيهِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِثْلُ هذا من مدح آلهة غير الله تعالى وهو) أي مثل هذا التمني (كفر) فلا يصح نسبته إليه صلى الله تعالى عليه وسلم إلا أن يكون وقعت خطرة لديه (أو أن يتسوّر) أي أو من أن يتسلط (عليه الشّيطان) من تسور تصعد السور وهو الحائط المرتفع ومعناه هنا التسلط مجازا (ويشبّه) بتشديد الموحدة أي يلبس (عليه القرآن) ويخلط عليه الفرقان (حتّى يجعل فيه ما ليس منه) أي ولا يصح أن يكون منه (ويعتقد النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ منه) أي حقيقة (حتّى ينبّهه جبريل عليهما السلام) مع أن ذلك من الواضحات عند كل مؤمن موحد أنه ليس من الآيات البينات (وذلك) أي ما ذكر من التمني والتسور والاعتقاد (كلّه ممتنع في حقّه عليه الصلاة والسلام أو يقول) أي أو من أن يتفوه (ذلك النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم من قبل نفسه عمدا) أي حال كونه ذا عمد (وذلك) أي تعمده (كفر أو سهوا) أي حال كونه ساهيا (وهو معصوم من هذا كلّه) أي مما يكون كفرا سواء حال عمده أو سهوه بخلاف سهوه في غير الكفر أو المعصية فإنه يجوز جريانه عليه (وقد قرّرنا) أي مرارا (بالبراهين) أي الأدلة الواضحة (والإجماع) أي اتفاق جميع الأمة (عصمته عليه الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 والسلام من جريان الكفر على قلبه) أي باعتقاد جنانه (أو لسانه) أي جريانه بموجب عصيانه (لا عمدا ولا سهوا) تأكيدا لما أفاده ما قبله من نفي جريان الكفر عليه مطلقا (أو أن يتشبّه) أي أو من أن يتلبس (عليه ما يلقيه الملك) أي يوحيه إليه من ربه (ممّا يلقي الشّيطان) ويوسوس إليه من نكره ويروى مما يلقيه الشيطان (أو يكون) أي أو من أن يكون (للشّيطان عليه سبيل) أي بالتسلط وقد قال تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (أو أن يتقوّل) أي أو من أن يفتري (على الله تعالى) وهو لا يَتَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ (لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا ما لم ينزل عليه) بصيغة المجهول أو المعروف (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [الحاقة: 44] ) أي افترى علينا مما لم يوح إليه بالفرض والتقدير (الآية) أي لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين وقد سبق ما يتعلق بمعناه وقيل في تحقيق مبناه إن من صلة أي لأخذناه والأولى أن يقال فيه تضمين والتقدير لانتقمنا منه باليمين أي بالقوة القاهرة والقدرة الباهرة؛ (وقال) أي الله سبحانه وتعالى (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) أي قاربت تميل أدنى ميل (إِذاً) أي حينئذ (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء: 75] ) أي عذابا مضاعفا في الدنيا وبعد الوفاة (الآية) أي ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً أي معينا يكون دافعا عنا العقوبة؛ (ووجه ثان) لتوهين هذه القضية (وهو استحالة هذه القصّة نظرا) أي من جهة دلالة العقل لعصمته من مدح الآلهة وإثبات شفاعتها (وعرفا) أي من جهة استبعاد العادة أن يصدر عن الأنبياء مدح الشرك مع ذمهم له وحثهم على التوحيد على وجه التأكيد (وذلك) أي بيانه (أنّ هذا الكلام) أي المنقول في هذا المقام (لو كان) أي بالفرض والتقدير (صحيحا كما روي) أي كما نقلوه صريحا (لكان بعيد الالتئام) بل عديم النظام (لكونه متناقض الأقسام) أي متباين المرام (ممتزج المدح بالذّمّ) في الشرك بأن ذم الكفر في آيات بينات ومدح في هذه الآيات المخترعات مع أنه خلاف إجماع الأنبياء والمرسلين في جميع الحالات (متخاذل التّأليف) بالخاء والذال المعجمتين متفاعل من الخذلان وهو ترك النصرة أي متخالفة في ارتباط المرام (والنّظم) أي ونظم الكلام وقد قال تعالى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً فمعناه أنه من عند الله ولم يجدوا فيه اختلاف كثيرا ولا يسيرا (ولمّا) بفتح لام وتخفيف ميم (كان النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي من أكابر الصحابة (وصناديد المشركين) أي رؤسائهم في مكة من قريش وغيرهم (ممّن يخفى عليه ذلك وهذا) أي ومثله (لا يخفى على أدنى متأمّل) أي من أفراد الموحدين (فكيف ممن) وفي نسخة بمن (رجح) بفتح الجيم المخففة أي غلب (حمله) أي تأنيه وتثبته في أمر الدين أو عقله (واتّسع في باب البيان) أي بيان المرام (ومعرفة فصيح الكلام علمه) بقوة فطرة وقدرة فطنة، (ووجه ثالث) في توهين هذه القصة (أنّه) أي الشأن (قَدْ عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْمُنَافِقِينَ وَمُعَانِدِي الْمُشْرِكِينَ) وفي نسخة ومعاندة وفي أخرى ومعاداة الْمُشْرِكِينَ (وَضَعَفَةِ الْقُلُوبِ وَالْجَهَلَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 نفورهم) بالرفع نائب فاعل علم أي تنفر المذكورين (لأوّل وهلة) أي في أول ساعة في دعوى النبوة (وتخليط العدوّ) أي وعلم انقلابهم (على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لأقلّ فتنة) أي لأدنى ما يؤدي إلى فساد ومحنة (وتعييرهم) أي وعلم تعييبهم (المسلمين) بمتاركة المشركين (والشّماتة بهم) أي وعلم شماتة الكافرين بالمؤمنين (الفينة بعد الفينة) بالفاء والنون المفتوحتين بينهما تحتية ساكنة أي الحين بعد الحين والساعة بعد الساعة ويقال بال وبدونها وضبط الحلبي الشمات بضم الشين المعجمة وتشديد الميم وهو جمع شامت جمع تكسير وأما الشمات بكسر الشين وتخفيف الميم الخائنون بلا واحد قال في القاموس وهو من الشماتة التي هي الفرح ببلية العدو وفي نسخة الشمات بفتح الشين وتخفيف الميم وهو جنس الشماتة (وارتداد من في قلبه مرض) أي وعرف هذا أيضا (ممّن أظهر الإسلام لأدنى شبهة) علة للردة (ولم يحك أحد في هذه القصّة سببا) أي للطعن والمذمة مع العلل المتقدمة (سوى هذه الرّواية الضّعيفة الأصل) المخالفة للنقل والعقل (ولو كان ذلك) أي صحيحا فيما ذكر هنالك (لوجدت قريش) أي كفارهم (بها) أي بهذه القصة (على المسلمين الصّولة) أي الاستطالة والغلبة (ولأقامت بها اليهود عليهم الحجّة) أي في أن هذه غير الطريقة المحجة كيف وقال تعالى ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (كما فعلوا) أي أنكروا كفار قريش (مكابرة) أي معاندة (فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ حَتَّى كَانَتْ فِي ذَلِكَ) أي في إظهار ما ذكر فيها (لبعض الضّعفاء ردة) أي سبب ارتداد وفتنة مع أنه لم يكن فيه ما يوجب كفرا وإنما كان يتوهم منه أن يكون كذبا لوقوعه عجبا وهو مقتضى خوارق العادات مطلقا (وكذلك ما روي) يروى ما ورد (في قصّة القضيّة) أي في أمر قضية الحديبية وذلك أنه عليه الصلاة والسلام رأى رؤيا عام الحديبية أنه دخل مكة هو وأصحابه فصده المشركون فرجع إلى المدينة فكان رجوعه بعدما أخبر أنه يدخلها فتنة لبعضهم قال تَعَالَى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أي امتحانا لشأنهم واختبارا في ضعف إيمانهم حيث قال بعض المنافقين والله ما رأينا المسجد الحرام وقوة إيمان الصحابة برهانهم حيث قال الصديق ما أخبرنا أنا ندخلها هذه السنة وأنا سندخلها إن شاء الله من غير شك وشبهة (وَلَا فِتْنَةَ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ لَوْ وجدت) أي لو صحت هذه القضية (ولا تشغيب) بالشين والغين المعجمتين أي لا تهييج للشر والفتنة والفساد (للمعادي) أي للعدو من أهل العناد (حِينَئِذٍ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ لَوْ أَمْكَنَتْ) أي وقوعها في الجملة (فَمَا رُوِيَ عَنْ مُعَانِدٍ فِيهَا كَلِمَةٌ وَلَا عن مسلم) وروي عن متكلم وهو أولى (بسببها بنت شفة) أي لفظة تخرج من الشفة (فدلّ على بطلها) بضم أوله مصدر أي على بطلان هذه الرواية (واجتثاث أصلها) أي استئصال نقلها لمخالفة الدراية (وَلَا شَكَّ فِي إِدْخَالِ بَعْضِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أَوِ الْجِنِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى بَعْضِ مُغَفَّلِي المحدّثين) بفتح الفاء المشددة أي الغافلين عن الدراية في الرواية (ليلبّسن به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 على ضعفاء المسلمين) أي ما يوجب الفتنة وقد قال تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم أنه قال سيكون في آخر الزمان ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم وعنه عليه الصلاة والسلام يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم. (ووجه رابع) أي في توهين هذه القصة (ذكر الرّواة لهذه القصة) وفي نسخة لهذه القضية أي الواقعة في سورة النجم (أَنَّ فِيهَا نَزَلَتْ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الْإِسْرَاءِ: 73] ) أي ليضونك (الآيتين) أي عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ الْآيَتَيْنِ، (وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ تَرُدَّانِ الْخَبَرَ الَّذِي رَوَوْهُ) أي تنافيانه وتعارضانه (لأنّ الله تعالى ذكر أنّهم كادوا ليفتنونه) أي قاربوا (حتّى يفتري) أي فلم يقع شيء (وأنّه) أي الله سبحانه وتعالى (لولا أن ثبّته لكاد) ويروى لقد كان أن (يركن إليهم) أي وقد ثبته فلم يقرب أن يميل إليهم أدنى ميل فلم يتحقق شيء (فمضمون هذا) أي ما ذكر من الآيتين (وَمَفْهُومُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَهُ مِنْ أَنْ يفتري وثبّته حتّى لم يركن) يروى حتى لم يكن يَرْكَنْ (إِلَيْهِمْ قَلِيلًا فَكَيْفَ كَثِيرًا وَهُمْ يَرْوُونَ) الواو للحال أي وهم راوون (في أخبارهم الواهية) أي الضعيفة المنكرة (أنّه زاد على الرّكون) أي الميل إليهم (والافتراء) أي على الله تعالى بتبديل الوعد والوعيد عليهم (بمدح آلهتهم وأنه) أي ويروون أنه (قال عليه الصلاة والسلام) حين قال له جبريل ما جئتك بهذا (افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ وَقُلْتُ مَا لَمْ يَقُلْ) أي اعترافا بذنبه وتصديقا لكلام ربه (وهذا) الذي ذكروه من الرواية (ضدّ مفهوم الآية) أي من عدم ركونه إليهم بحسب الدراية (وهي) أي الآية بصريح مفهومها (تضعّف الحديث) وتدفعه (لو صحّ) لأن دلالة القرآن قطيعة ورواية الحديث ظنية (فكيف ولا صحة له) أي لأصل هذه القضية (وهذا) أي مفهوم هذه الآية (مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ) أي بالنبوة والعصمة (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ ) أي من المنافقين (أَنْ ) عن القضاء بالحق بين الخلق (يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [النساء: 113] ) ولأن وبال ضلالهم راجع إليهم وضرر شرهم عائد عليهم (وقد روي عن ابن عبّاس) كما رواه ابن أبي حاتم وغيرهم (كلّ ما في القرآن كاد) أي بمعنى قارب (فهو ما لا يكون) يروى ما لم يكن أي إذا كان الكلام موجبا لأن نفس المقاربة تدل على عدم المواقعة ففي القاموس كاد يفعله قارب ولم يفعل مجردة تنبئ عن نفي الفعل ومقرونة بالجحد تنبئ عن وقوعه (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ [النور: 43] ولم يذهب) أي بها ويروى لم يذهبها وكذا قوله تعالى يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ولم يخطفها (وقال) أي الله سبحانه (أكاد أخفيها ولم يفعل) وفيه بحث إذ ما أظهرها الله لأحد كما يدل عليه سائر الآيات نحو إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 عِلْمُ السَّاعَةِ وقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها وقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ نعم قيل في الآية أَكادُ أُخْفِيها عن نفسي فيصح قوله ولم يفعل لأنه لم يتصور وإنما ذكره للمبالغة فتدبر أو يقال أكاد أخفي مجيئها فلا أقول هي آتية للمبالغة في إرادة إخفائها فيصح قوله ولم يفعل حينئذ أيضا وقد يقال أخفيها بمعنى أظهرها لأنه من الأضداد والله سبحانه وتعالى أعلم بما اراد هذا وقال في القاموس وقد يكون كاد بمعنى أراد ومنه قوله أَكادُ أُخْفِيها أي أريد اخفاءها عن غيري، (وقال القشيريّ القاضي) مر ذكره (ولقد طالبته) يروى ولقد طالبه (قريش) أي كفارهم (وثقيف) أي قبيلتهم من أهل الطائف (إذ مرّ بآلهتهم) أي معرضا عنها غير مقبل عليها (أن يقبل بوجهه إليها) ويلتفت ببصره إليها (ووعدوه الإيمان به) أي والحال أنهم وعدوه الإيمان به بسبب إقباله (إن فعل فما فعل) أي الإقبال الصوري في الحال الضروري (وما كان) وفي نسخة ولا كان أي ما صح منه (ليفعل) أي الإقبال المذكور أو ما كان الله بحسب تقديره أن يفعل بنبيه الرفيع هذا الفعل الشنيع نقلا وعقلا في تصويره فكيف يتصور مدحها في صلاة أو غيرها وإدراجها في سورة وآيها، (قال ابن الأنباريّ) وهو الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار النحوي كان من أعلم الناس بالأدب والنحو ولد سنة إحدى وسبعين ومائتين روى عنه الدارقطني وابن حيوة والبزار وغيرهم كان صدوقا دينا من أهل السنة صنف التصانيف الكثيرة وصنف في القرآن والغريب والمشكل والوقف والابتداء روي عنه أنه قال احفظ ثلاثة عشر صندوقا وقيل إنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا بأسانيدها وقيل إنه يحفظ ثلاثمائة ألف شاهد في القرآن وقد أملى كتاب غريب الحديث قيل إنه خمس وأربعون ألف ورقة وكتاب شرح الكافي وهو نحو ألف ورقة وكتاب الأضداد وهو كبير جدا وكتاب الجاهليات في سبعمائه ورقة وكان رأسا في نحو الكوفيين توفي ليلة عيد النحر ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة (ما قارب الرّسول) أي الركون إلى الكفرة (ولا ركن) أي ولا مال إليهم فيما قصدوه لثبوت تثبيت الله تعالى إياه المفهوم من لولا الامتناعية في الآية (وقد ذكرت) بصيغة المجهول (في معنى هذه الآية) أي آية وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ (تفاسير أخر) أي ضعيفة سخيفة (مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ اللَّهِ عَلَى عِصْمَةِ رسوله تردّ سفسافها) أي رديئها وأصله ما يطير من غبار الدقيق إذا نخل والتراب إذا أثير (فلم يبق في الآية) أي في معناها (إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَنَّ عَلَى رَسُولِهِ بعصمته وتثبيته مما) وفي نسخة بما (كاده به الكفّار) أي مكروا (وراموا من فتنته) أي وقصدوا بعض محنته وبليته ليفتري على ربه ما يخالف مقتضى نبوته ورسالته (ومرادنا من ذلك) أي ما ذكرناه كله (تنزيهه) أي براءة ساحته (وعصمته) أي حمايته بما يجب من الرعاية (وهو مفهوم الآية) عند أرباب العناية وأصحاب الهداية؛ (وأمّا المأخذ الثّاني) أي في الكلام على مشكل هذا الحديث (فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسْلِيمِ الْحَدِيثِ لَوْ صَحَّ) أي إسناده (وقد أعاذنا الله تعالى) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 أجارنا (من صحّته) أي تصحيحه (ولكن على كلّ حال) وفي نسخة ولكن على ذلك من حال (فقد أجاب عن ذلك) أي عما نسب إليه من مدح الآلهة ويروى عَلَى ذَلِكَ (أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا الْغَثُّ) بفتح معجمة وتشديد مثلثة أي الضعيف مما لا يجدي نفعا (والسّمين) أي القول الذي يدفع الشبهة دفعا (فمنها) أي من الأجوبة (ما روى قتادة ومقاتل) قال الحلبي مقاتل اثنان مفسران لكل منها تفسير وينقل عنهما فأما الأول فهو مقاتل بن حيان البلخي الخراساني الخراز أحد الأعلام روى عن الضحاك ومجاهد وعكرمة والشعبي وخلق وعنه ابن المبارك وآخرون عابد كبير القدر صاحب سنة وصدوق وثقه ابن معين وأبو داود وغيرهما وقال النسائي ليس به بأس وروى أبو الفتح اليعمري عن وكيع أنه قال ينسب إلى الكذب قال الذهبي وأحسبه التبس عليه مقاتل بن حيان بمقاتل بن سليمان فإن ابن حيان صدوق قوي الحديث والذي كذبه وكيع فابن سليمان مات قبل الخمسين ومائة أخرج له مسلم والأربعة وأما ابن سليمان فروى عن مجاهد والضحاك قال ابن المبارك ما أحسن تفسيره ولو كان ثقة وقال ابن حبان كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم وكان يسبه الرب بالمخلوقات وكان يكذب في الحديث توفي مقاتل بن سليمان سنة خمسين ومائة انتهى ولا يدري من أراد القاضي منهما والحاصل أن قتادة ومقاتل رويا (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أصابته سنة) بكسرة ففتحة أي نوم وغفلة (عند قراءته هذه السّورة) أي النجم (فجرى هذا الكلام) أي مدح الآلهة (على لسانه بحكم النّوم) أي غلبته عليه (وهذا لا يصحّ) أي أصلا لا في النوم ولا في اليقظة (إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم مثله) أي مثل ما نسب إليه (في حالة من أحواله) إذ ثبت أنه تنام عيناه ولا ينام قلبه وأيضا فإن كل إناء يترشح بما فيه فمثل هذا لا يتصور من النبي النبيه (ولا يخلقه الله على لسانه) ما لا يناسب عظمة شأنه (ولا يستولي الشّيطان عليه في نوم) ولذا لم يكن يحتلم (ولا يقظة) بالأولى (لعصمته في هذا الباب) أي باب الكفر والمعصية ولو صورة وقال الأنطاكي يريد فيما كان طريقه البلاغ عن الله تعالى (من جميع العمد والسّهو) إجماعا (وفي قول الكلبيّ) وهو محمد بن السائب مات سنة ست وأربعين ومائة وسبق ذكره قريبا (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم حدّث نفسه) أي خطر في خاطره (فقال ذلك الشّيطان) أي الملقى في نفسه (على لسانه) أي سهوا قال الدلجي وهو باطل إذ لم يجعل الله للشيطان عليه كغيره من الأنبياء سبيلا وأقول لا يبعد أن يكون مراد الكلبي أن الشيطان قال ذلك على لسانه وفق صوته وحكاية بيانه، (وفي رواية ابن شهاب) أي الإمام الزهري (عن أبي بكر بن عبد الرّحمن) أي ابن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي أحد الفقهاء السبعة على قول يروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وعائشة ولد زمن عمر وكف بصره بآخره ويسمى الراهب أخرج له الأئمة الستة توفي سنة أربع وتسعين (قال وسها) أي النبي عليه الصلاة والسلام فيما جرى على لسانه أو سها عن بيان حاله وألقاه الشيطان في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 مقاله ويؤيده ظاهر قوله (فَلَمَّا أُخْبِرَ بِذَلِكَ قَالَ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الشّيطان) أي من القائه وكان المصنف ذهب إلى أن المعنى من وسوسته ولذا قال (وكلّ هذا) أي جميع ما ذكرناه أي بحسب ظاهره (لا يصحّ أن يقوله عليه الصلاة والسلام لَا سَهْوًا وَلَا قَصْدًا وَلَا يَتَقَوَّلَهُ الشَّيْطَانُ على لسانه) أي حقيقة (وقيل لعلّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قاله أثناء تلاوته على تقدير التّقرير) أي التسليم في صحته أو على تقدير استفهام الإنكار المقصود منه حمل المخاطب على الإقرار بأن الذي يضر وينفع إنما هو الإله الواحد القهار (والتّوبيخ للكفّار كقول إبراهيم عليه الصلاة والسّلام هذا رَبِّي [الأنعام: 76] ) أي هذا الحقير أو المخلوق مثل ربي (على أحد التّأويلات) في تلك الحالات (وكقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: 63] ) أي على وجه التورية التي هي من معاريض الكلام ففيها غنية عن الكذب في المرام (بعد السّكت) وهو وقفة لطيفة على فعله كما اختاره بعض أرباب الوقوف (وبيان الفصل بين الكلامين) أي السابق واللاحق وفي رواية بين الكلمتين إشارة إلى أن التقدير بل فعله فاعله مطلقا أو فاعله الذي تعرفونه ثم قال مبتدأ كبيرهم هذا وجعل الدلجي هذا من المتن وقال ما عزى لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بعد السكت أي بينه وبين ما تلاه قبله وبيان الفصل بين الكلامين أي كلام الله تعالى وما عزى إليه ويؤيده قوله (ثمّ رجع إلى تلاوته) أي بقية السورة (وهذا) التأويل (ممكن مع بيان الفصل) بين الكلامين (وقرينة) أي ومع قرينة (تدلّ على المراد) أي من أنه إنما قاله توبيخا وتقبيحا لقولهم وتقريعا وتسفيها لعقولهم (وأنّه ليس من المتلو) أي من القرآن (وهذا) أي التأويل وفي نسخة صحيحة وَهُوَ (أَحَدُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ) أي الباقلاني أو ابن العربي المالكيان (وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ كان في الصلاة) أي والكلام مبطل فيها (فقد كان الكلام قبل) أي قبل النهي عنه (فيها غير ممنوع) منه كما قرر في حديث ذي اليدين حتى نزل قوله تعالى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ أي ساكتين (والّذي يظهر ويترجّح في تأويله) أي في تأويل ما عزى إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (عنده) أي عند القاضي أبي بكر (وعند غيره من المحقّقين) أي من سائر العلماء المجتهدين المدققين (على تسليمه) أي فرض وقوعه (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كان كما أمره ربّه) أي بقوله وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (يرتّل القرآن ترتيلا) أي يقرأه مترسلا (ويفصّل الآي تفصيلا) أي ويبينها تبيينا مبينا (في قراءته) أي من كمال تؤدته (كما رواه الثّقات عنه) يروى كما قال الثقات فعن عائشة وقد سئلت عن قراءته لو أراد سامعها أن يعد حروفها لعدها (فيمكن ترصّد الشّيطان لتلك السّكتات) أي خلال تلاوة الآيات (ودسه) أي إدخاله على وجه الخفاء (فيها) أي في السكتات أو في اثناء القراآت (مَا اخْتَلَقَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ مُحَاكِيًا نَغْمَةَ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي صوته ولهجته (بحيث يسمعه) من السماع أو الاسماع (من دنا إليه) أي قرب (من الكفّار) أي دون الأبرار (فظنّوها من قول النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وأشاعوها) أي أفشوها بينهم (ولم يقدح ذلك عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 المسلمين لحفظ السّورة) باللام والباء أي بسبب حفظهم سورة النجم (قبل ذلك) أي قبل دس الشيطان ما هنالك (عَلَى مَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ وَتَحَقُّقِهِمْ مِنْ حَالِ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في ذمّ الأوثان وعيبها) أي وعيبه إياها (على ما عرف منه) ولا يخفى أن ما بين السكتات لا يتصور فيه جميع تلك الكلمات المختلقة ويبعد كون كل كلمة في حال سكتة فالظاهر أنه بعد قراءته عليه الصلاة والسلام ومذمته الأصنام بقوله تعالى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى وقع له عليه الصلاة والسلام سكتة طويلة لعارض من نحو شغله أو فكره فانتهز الشيطان الفرصة والقى تلك الجملة وسمعها الكفار دون الأبرار وهذا ليس كما توهم الدلجي ورد قول المحققين بأن هذا قول غير مرضي لا يذانه بأن الشيطان كان له عليه سبيل بتمكنه من دسه خلال تلاوته كلام ربه انتهى هذا ولا يخفى أن شيخ الإسلام خاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني في شرحه للبخاري أطال في ثبوت هذه القصة وأن لها طرقا صحيحة وطرقا أخر كثيرة صريحة تدل على أصل القضية فلا بد من تأويلها وهذا أحسن ما قيل في التأويل إن الشيطان ألقى ذلك في سكتة من سكتاته ولم يتفطن له عليه الصلاة والسلام وسمعه غيره فأشاعه بين الأنام وأما ما ذكره البغوي من أن الأكثرين على أنها جرت على لسانه سهوا ونبه عليه وقرره الشيخ أبو الحسن البكري على ما نقله عنه شيخنا عطية السلمي أنه لا يقدح ذلك في العصمة لكونه من غير قصد كحركة المرتعش فقد رده صاحب المدارك من أئمتنا في تفسيره حيث قال إجراء الشيطان ذلك على لسانه صلى الله تعالى عليه وسلم جبرا بحيث لم يقدر على الامتناع عنه ممتنع لأن الشيطان لا يقدر على ذلك في حق غيره ففي حقه أولى والقول بأنه جرى ذلك على لسانه سهوا وغفلة مردود أيضا لأنه لا يجوز مثل هذه الغفلة عليه حال تبليغ الوحي ولو جاز لبطل الاعتماد على قوله ثم اختار ما اختاره العسقلاني قال وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويسمع كلامه فقد روي أنه نادى يوم أحد إلا أن محمدا قد قتل وقال يوم بدر لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم (وقد حكى موسى بن عقبة) أي ابن أبي عياش (في مغازيه نحو هذا) أي نحو ما ذكر عن المحققين قال الحلبي هو مولى آل الزبير ويقال مولى أم خالد زوج الزبير روى عنها وعن علقمة بن وقاص وعروة وخلق وعنه مالك والسفيانان وجماعة ثبت ثقة أخرج له الأئمة الستة ومغازيه أصح المغازي كما قاله الإمام مالك بن أنس وهي مجلدة لطيفة وله أولاد فقهاء محدثون ووقع في بعض النسخ محمد بن عقبة والأول هو الصواب؛ (وَقَالَ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْمَعُوهَا وَإِنَّمَا أَلْقَى الشّيطان ذلك في أسماع المشركين وقلوبهم) أي صدور الشاكين (ويكون ما روي) أي فيما مر (من حزن النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذِهِ الْإِشَاعَةِ وَالشُّبْهَةِ وَسَبَبِ هَذِهِ الفتنة وقد قال الله تعالى) في هذه تسلية (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج: 52] الآية) أي إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي في أثناء قراءته ما ليس من تلاوته (فمعنى تمنّى تلا) أي قرأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 والأمنية معناها التلاوة، (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [البقرة: 78] ) وهي جمع أمنية (أي تلاوة) أي مجرد قراءة خالية عن دراية (وقوله) أي في بقية الآية (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ [الْحَجِّ: 52] أَيْ يذهبه) أي يفنيه ويعدم اعتباره (ويزيل اللّبس به) بفتح اللام أي خلط الحق بالباطل بسببه (ويحكم آياته) في التنزيل ثم يحكم الله آياته أي يثبتها؛ (وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا يَقَعُ لِلنَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم من السّهو) أي الناشىء من النسيان (إذا قرأ فينتبه) من الانتباه أو التنبه أي فيتفطن (لذلك) ويتذكر لما هنالك (ويرجع عنه وهذا) التأويل (نَحْوُ قَوْلِ الْكَلْبِيِّ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ حَدَّثَ نَفْسَهُ وَقَالَ إِذَا تَمَنَّى أَيْ حَدَّثَ نَفْسَهُ) يعني على طريق السهو، (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نحوه) وهذا السهو بطريق النسيان الغالب على الإنسان أجمعوا على جوازه منه عليه الصلاة والسلام وقد قال تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ (وهذا السّهو في القراءة إنّما يصحّ) أي صدوره عنه عليه الصلاة والسلام (فِيمَا لَيْسَ طَرِيقُهُ تَغْيِيرَ الْمَعَانِي وَتَبْدِيلَ الْأَلْفَاظِ) أي المباني (وزيادة ما ليس من القرآن) أي في وجوه السبع المثاني (بَلِ السَّهْوُ عَنْ إِسْقَاطِ آيَةٍ مِنْهُ أَوْ كلمة) أو انتقال من كلمة أو آية إلى أخرى لا يترتب عليه فساد المعنى (ولكنّه) أي مع هذا (لا يقرّ) بصيغة المجهول وتشديد الراء أي لا يترك (على هذا السّهو بل ينبّه عليه) من التنبيه من باب التفعيل بصيغة المجهول وكذا قوله (ويذكّر به) أي بما وقع له لينتهي عنه (للحين) أي في وقته (عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي حُكْمِ مَا يَجُوزُ عليه من السّهو وما لا يجوز) أي عليه من السهو (وَمِمَّا يَظْهَرُ فِي تَأْوِيلِهِ أَيْضًا أَنَّ مُجَاهِدًا روى هذه القصّة والغرانقة العلى) بضم المهملة (فإن سلّمنا القصّة) أي صحتها (قلنا لا يبعد أنّ هذا) أي ما وقع فيها (كان قرآنا) أي ثم نسخ تلاوته (وَالْمُرَادُ بِالْغَرَانِقَةِ الْعُلَى وَأَنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى الْمَلَائِكَةُ على هذه الرّواية) أي رواية مجاهد الغرانقة العلى ولا يظهر وجه تخصيص هذا التأويل بهذه الرواية إذ يصح على ما تقدم من الروايات أيضا كما لا يخفى على أرباب الدراية (وبهذا فسّر الكلبيّ الغرانقة العلى) أي في روايته ولا يلزم منه أنه لا يجوز هذا التفسير لرواية غيره (أنّها الملائكة وذلك) أي الباعث له على تفسيرها بها هنالك (أنّ الكفار) أي من قريش وغيرهم (كانوا يعتقدون الأوثان) وفي نسخة أن الْأَوْثَانَ (وَالْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ كَمَا حَكَى اللَّهُ تعالى عنهم) أي بقوله تعالى وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً الآية وذمهم بقوله أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وبقوله وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً وبقوله أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (وردّ عليهم في هذه السّورة) وهي النجم (بقوله أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى فأنكر الله كل هذا) أي الذي ذكره (مِنْ قَوْلِهِمْ وَرَجَاءُ الشَّفَاعَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ صَحِيحٌ) وهذا التأويل وأمثاله يتعين لئلا يلزم كفر صريح وبه يندفع قول الدلجي وهذا التأويل وإن كان صحيحا في نفسه فمباين للمقام يأبى عن سياق الكلام قلت ويمكن تأويل سائر الروايات على وجه يحصل به الالتئام على أن التأويل من شأنه أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 خلاف ظاهر المرام وإنما يحتاج إليه للتخلص عما يرد في الكلام من الملام (فلمّا تأوّله المشركون على) حسب غرضهم من فساد عقيدتهم (أنّ المراد بهذا) وفي نسخة بذلك (الذّكر آلهتهم) أي مدح آلهتهم ورجاء شفاعتهم (ولبّس) من التلبيس (عليهم الشّيطان) أي إبليس (ذلك) أي ما توهموه (وزيّنه في قلوبهم وألقاه إليهم) أي المراد به ما فهموه مما سمعوه (نسخ الله ما ألقى) ويروى ما يلقى (الشّيطان) أي أزال ما كان موجبا لإلقائه وباعثا لإغوائه (وأحكم آياته) أي أثبت بقية آياته (ورفع تلاوة تلك اللّفظتين) أي إحديهما وفي نسخة صحيحة تينك اللفظتين (اللّتين وجد الشّيطان بهما) أي بسبب ما يتوهم من ظاهرهما (سبيلا) ويروى سببا (للتلبيس) وفي نسخة للإلباس أي للشبهة المفتنة للناس والاشتباه والالتباس (كما نسخ كثير من القرآن) أي دراسته (ورفعت تلاوته) أي مع حكمه أو بدونه منها آية الرجم ومنها على ما ورد لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب (وَكَانَ فِي إِنْزَالِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ حِكْمَةٌ) وفي نسخة حكم أي له سبحانه وتعالى أيضا (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) كما قال الله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي الخارجين عن طريق وفاقه الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ (ولِيَجْعَلَ) أي ليصير الله تعالى (ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي مما يلبس به (فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي داء شك من المنافقين (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) من المشركين المعاندين (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) من الجنسين (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) خلاف بعيد عن طريق سديد وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي من المؤمنين (أَنَّهُ) أي ما نزله ثم نسخه (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي زيادة على إيمانهم (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج: 53- 54] ) أي تطمئن زيادة على إيقانهم (الآية) أي وأن الله لهادي الذين آمنوا بالدين القويم إلى صراط مستقيم (وقيل إنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لمّا قرأ هذه السّورة) أي النجم (وبلغ ذكر اللات) بالنصب على الحكاية وبالجر على الإعراب (وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى خَافَ الْكُفَّارُ أَنْ يأتي) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بشيء من ذمّها) أي زيادة على عيبها (فسبقوا إلى مدحها بتلك الكلمتين) وفيه ما سبق أن الصواب كما في نسخة بتينك الكلمتين (ليخلّطوا) أي ليرموا (به) بالتخليط (في تلاوة النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ويشغبوا) بتشديد الغين المعجمة أي يثيروا الشر ويهيجوا الفتنة وفي نسخة يشنعوا من التشنيع أي ليعيبوا ويعيروا (عليه على عادتهم وقولهم) أي وعلى منهج مقالتهم (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) أي مهما قدرتم (وَالْغَوْا فِيهِ) أي تشاغلوا عند قراءته برفع أصواتكم إذا عجزتم (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] ) عليه في قراءته (ونسب هذا الفعل) يعني الالقاء (إلى الشّيطان) مع أنه فعلهم (لحمله لهم عليه) لأنه السبب الداعي إليه (وأشاعوا ذلك) أي ما سبقوا به إلى مدحها افتراء منهم (وأذاعوه) أي أفشوه فيما بينهم (وأنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قاله) أي هو الذي قاله افتراء منهم في نسبته إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 (فَحَزِنَ لِذَلِكَ مِنْ كَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ فَسَلَّاهُ الله تعالى) عن حزنه (بِقَوْلِهِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ [الْحَجِّ: 52] الْآيَةَ) إيماء إلى أن هذا من سنة الله التي قد خلت في عباده وإشعارا بأن الكفرة من شياطين الإنس وأنهم من اتباع شياطين الجن، (وبيّن) أي ميز الله تعالى (للنّاس الحقّ) المنزل (من ذلك) أي مما ذكره (من الباطل) الملقى (وحفظ القرآن) أي جميع كلماته (وأحكم آياته ودفع ما لبّس) بتشديد الموحدة (به العدوّ) من الإباطيل (كما ضمنه الله تعالى) أي تكلفه وتضمن حفظه المفهوم (من قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ) أي من زيادة ونقص وتحريف وتبديل ولم يكل حفظه إلى غيره بل تولاه بنفسه بخلاف الكتب الإلهية المنزلة قبله فإنه لم يتول حفظها بل استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيها وحرفوها وبدلوها وهذا لا ينافي أن حفظ القرآن بحسب مبناه ومعناه فرض كفاية لأن المعنى أنه تعالى تكفل حفظ القرآن بهم وأنه لم يكلهم في مراعاته إلى أنفسهم بل يكون دائما في عون حماتهم (ومن ذلك) أي من سؤالات بعض الطاعنين في مراتب النبيين (ما روي من قصّة يونس) وفي نسخة في قصة يونس (عليه السلام أنه وعد قومه العذاب عن ربّه) أي وخرج من عند قومه (فلمّا تابوا) أي بعد خروجه وظهور مقدمة وعيده (كشف عنهم العذاب) قيل يوم جمعة في عاشوراء (فقال لا أرجع إليهم كذّابا أبدا) أي ولو بحسب الصورة استحياء من قومه (فذهب مغاضبا) أي على هيئة الغضبان على قومه. أو على قوله وكان عليه أولا أي يصابرهم منتظرا من ربه الإذن له في خروجه وثانيا أن يرجع إليهم حيث تاب الله عليهم (فاعلم أكرمك الله تعالى) بالعقيدة الثابتة (أنه) أي الشأن وفي نسخة أَنْ (لَيْسَ فِي خَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ في هذا الباب) لا في السنة ولا في الكتاب (أن يونس عليه السلام قال لهم إنّه) أي الله سبحانه وتعالى (مهلكهم) وفي نسخة يهلكهم وفي أخرى مهلككم وعلى التسليم فيكون مقيدا بما أن ثبتوا على كفرهم فلا يستقيم أن يقول لا أرجع إليهم كذابا أبدا إلا بظاهره (وإنّما فيه) أي وإنما الوارد في حقه من الأخبار (أنّه دعا عليهم بالهلاك) أي إن أصروا على الإشراك، (والدّعاء) إنما هو إنشاء بطلب (لَيْسَ بِخَبَرٍ يُطْلَبُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ، لَكِنَّهُ) أي يونس (قَالَ لَهُمْ إِنَّ الْعَذَابَ مُصَبِّحُكُمْ وَقْتَ كَذَا وكذا) فيه أن هذا اخبار لا انشاء (فكان ذلك) أي مجيئه لهم فيما هنالك وفي نسخة كذلك أي كما قال فلا يكون كذابا أبدا غايته أنه لما أغامت السماء غيما شديدا اسود بدخان سود سطوح بيوتهم لبسوا المسوح وعجوا في السوح مظهرين الإيمان والتوبة النصوح (ثمّ رفع الله عنهم العذاب وتداركهم) برحمته المخصوصة بهم في هذا الباب؛ (قال الله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) استثناء منقطع من القرى إذ المراد أهلها أي لكن قومه أو متصل من ضمير آمنت والجملة في معنى النفي أي ما آمنت قرية من القرى المحكوم على أهلها بالهلاك إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ (لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ [يونس: 98] الآية) أي في الحياة الدنيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (وروي في الأخبار) أي في بعض الآثار (أنهم رأوا دلائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 العذاب ومخايله) أي مظانه جمع مخيلة أي مظنة أو سحابة فيها عقوبة وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر وفي رواية إذا رأى في السماء اختيالا تغير لونه خشية أن يكون عذابا أرسل كما وقع لقوم هود فإذا أمطرت سرى عنه، (قاله ابن مسعود) كما رواه ابن مردويه عنه مرفوعا وابن أبو حاتم موقوفا، (وقال سعيد بن جبير غشّاهم) أي غطاهم الله تعالى (العذاب كما يغشّي الثّوب القمر) وفي نسخة كما يغشي السحاب القمر. (فإن قلت فما معنى ما روي) عن ابن جرير عن عكرمة مولى ابن عباس مِنْ (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ) بفتح السين المهملة وسكون الراء وفي آخره مهملة اسلم قبل الفتح وهاجر وكتب الوحي ثم ارتد ثم اسلم ومات ساجدا لله (كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ ارتدّ مشركا) ويروى ارتد كافرا (وسار) وفي نسخة وصار أي رجع (إلى قريش) أي بمكة (فقال لهم إني كنت أصرف محمدا) أي أغيره (حيث أريد) أي من تغيير كلامه وتعبير مرامه (كان يملي عليّ عزيز حكيم فأقول) أي استفهاما (أعلي حكيم) وفي نسخة فَأَقُولُ أَوْ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (فَيَقُولُ نَعَمْ كُلٌّ صواب) أي في نفس الأمر إذ نزل عليه بهذا كتاب فيكون من السبعة الأحرف التي نسخ من كل باب؛ (وفي حديث آخر) كما رواه ابن جرير عن السدي (فيقول له النّبي صلى الله تعالى عليه وسلم اكتب كذا) كناية عما كان يأمره بكتابته في املاء نظرته (فيقول) أي ابن أبي سرح (أكتب كذا) بألف استفهام ملفوظة أو محذوفة وأغرب الدلجي في تقدير إنما أكتب كذا (فيقول) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما في نسخة (اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ وَيَقُولُ اكْتُبْ عَلِيمًا حَكِيمًا فَيَقُولُ أَكْتُبُ سَمِيعًا بَصِيرًا؟ فَيَقُولُ لَهُ اكْتُبْ كيف شئت) وهذا على اطلاقه غير صحيح فقد روي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم بدل عزيز حكيم ولم يكن قارئا فأنكره وقال إن كان هذا كلام الله فلا يذكر الغفران عند الزلل لأنه اغراء عليه بالعمل؛ (وفي الصّحيح) أي في البخاري من طريق عبد العزيز وفي مسلم من طريق ثابت كلاهما (عن أنس رضي الله تعالى عَنْهُ أَنَّ نَصْرَانِيًّا كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي ما أوحي إليه (بعدما أسلم) وقرأ البقرة وآل عمران (ثمّ ارتدّ) كافرا فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب فاعجبوا به فما لبث أن قسم الله عنقه فيهم الحديث (وكان يقول ما يدري محمّد ما كتبت) أي له كما في نسخة والمعنى ما يشعر بكتابتي فيما غيرت سهوا أو قصدا وفي نسخة مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ (فاعلم ثبّتنا الله وإيّاك على الحقّ) أي البين دليلا (ولا جعل للشّيطان وتلبيسه الحقّ) أي تخليطه (بِالْبَاطِلِ إِلَيْنَا سَبِيلًا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ) ولو على طريق الرواية (أَوَّلًا لَا تُوقِعُ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ رَيْبًا) أي شكا وشبهة (إِذْ هِيَ حِكَايَةٌ عَمَّنِ ارْتَدَّ وَكَفَرَ بِاللَّهِ) وفي حال كفره رواه (ونحن) أي معاشر المحدثين من علماء المسلمين (لا نقبل خبر المسلم المتّهم) أي في عدالته بالكذب والمعصية (فكيف بكافر) أي مستحق العقوبة (افترى هو ومثله) من الكفرة والفجرة (على الله ورسوله ما هو أعظم من هذا) الافتراء المروي عنهما فلا عبرة بهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 (والعجب لسليم العقل) وفي نسخة لسليم القلب (يشغل بمثل هذه الحكاية سرّه) أي إلا بإرادة أنه يدفع شره (وَقَدْ صَدَرَتْ مِنْ عَدُوٍّ كَافِرٍ مُبْغِضٍ لِلدِّينِ) اسم فاعل من أبغض ضد أحب وروي منغص من التنغيص وهو التكدير وروي بالقاف من النقض (مفتر على الله ورسوله ولم يرد) أي هذه الحكاية (عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا ذَكَرَ أَحَدٌ من الصّحابة أنّه شاهد) لا برؤية ولا بسماع قضية (ما قاله وافتراه على نبيّ الله وإنّما) كان حقه أن يقول وقد قال تعالى إِنَّما (يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) فيه اقتباس من القرآن الكريم اشعارا بأنه نزل ردا لقولهم إنما يعلمه بشر وإنه على الله مفتر، (وَمَا وَقَعَ مِنْ ذِكْرِهَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ) ولو في الصحيح (وظاهر حكايتها) ولو بالتصريح (فليس فيه ما يدلّ على أنّه) أي إنسا (شاهده) أي الحاكي حال إسلامه وفي نسخة شاهدها أي الحكاية القضية (ولعلّه حكى ما سمع) أي من غيره وهكذا بغير انتهاء أمره إلى تحقيق سنده (وقد علّل البزّار حديثه ذلك) أي لذلك أو لعلة خفية فادحة في إسناد ذكر هنالك (وقال) أي البزار (رواه ثابت) وفي نسخة عنه أي عن أنس (عنه ولم يتابع عليه) بصيغة المجهول، (ورواه حميد) أي الطويل لطول كان في يده مات وهو قائم يصلي وثقوه على أنه كان يدلس (عن أنس رضي الله تعالى عنه قال) أي البزار (وأظنّ حميدا إنّما سمعه من ثابت) أي فدلس وروي عن أنس؛ (قال القاضي الإمام) الظاهر أنه المصنف ويؤيده أنه في نسخة قال القاضي أبو الفضل رحمه اللَّهُ (وَلِهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصّحيح) وفي نسخة أهل الصحة (حديث ثابت ولا حميد) فيه بحث إذ سبق أن حديثهما في الصحيحين وكأنه أراد غير هذا الحديث المتنازع فيه (والصّحيح حديث عبد الله بن عزيز بن رفيع) وهو تابعي جليل ثقة روى عن ابن عباس وابن عمر وعنه شعبة وأبو بكر بن عياش توفي سنة ثلاث ومائة وأخرج له الأئمة الستة (عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي خَرَّجَهُ أهل الصّحّة) أي كلهم (وذكرناه) أي سابقا (وَلَيْسَ فِيهِ عَنْ أَنَسٍ قَوْلُ شَيْءٍ مِنْ ذلك) أي مما حكى (مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ إِلَّا مِنْ حِكَايَتِهِ عَنِ المرتدّ النّصرانيّ) على ما تقدم والله تعالى أعلم (ولو) وفي نسخة فلو (كانت) أي تلك الرواية أو الحكاية (صحيحة) أي فرضا وتقديرا (لما كان فيها) أي في مضمونها (قدح) أي طعن له (ولا توهيم) أي نسبة إلى وهم وفي نسخة ولا توهين أي نسبة إلى وهن وضعف في ضبط (للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أوحي إليه) أي من عند ربه (ولا جواز للنّسيان والغلط عليه والتّحريف) أي الزيغ والميل (فيما بلّغه) أو أوصله من الحق إلى الخلق (ولا طعن في نظم القرآن) أي لا من جهة مبانيه ولا من طريق معانيه (وأنّه من عند الله تعالى) أي العزيز الحميد (إذ ليس فيه) أي فيما قاله الكاتب (لو صحّ) أي قوله (أكثر من أنّ الكاتب قال له) أي للنبي عليه الصلاة والسلام (عليم حكيم أو كتبه) أي قبل أن يتم النبي عليه الصلاة والسلام كلامه وفي نسخة إذا كتبه (فقال له النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كذلك هو) أي مثل ما قلته أو كتبته (فسبقه لسانه أو قلبه لِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ مِمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 نَزَلَ عَلَى الرَّسُولِ قَبْلَ إِظْهَارِ الرَّسُولِ لَهَا) أي لتلك الكلمة (إِذْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا أَمْلَاهُ الرَّسُولُ يدلّ عليها) أو يشير إليها (ويقتضي وقوعها) أي في محلها اللائق بها (بقوّة قدرة الكاتب على الكلام) حيث كان من فصحاء الأنام (ومعرفته به) أي بالكلام نظما ونثرا في ترتيب المرام (وجودة حسّه) أي إدراكه ودرايته (وفطنته) أي سرعة فهمه عند سماع روايته ونظير ذلك ما وقع لعمر رضي الله تعالى عنه في موافقته حيث روي أنه لما نزل قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ الآية فلما بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قال عمر رضي الله تعالى عنه فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام كذلك أنزلت (كما يتّفق ذلك للعارف) بأساليب الكلام (إذا سمع البيت) من الشعر (أن يسبق) فهمه لقوته (إلى قافيته) قبل التمام (أو مبتدأ الكلام) أي أو إذا سمع ابتداء الكلام (الحسن) في النثر فإنه يسبق طبعه (إلى ما يتمّ به) أي قبل تمام المرام كما في وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وفي إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها (ولا يتّفق ذلك) التوافق (في جملة الكلام) أي مما لا تدل فاتحته عل خاتمته (كما لا يتّفق ذلك في آية) أي كاملة (ولا سورة) أي شاملة؛ (وكذلك) أي يأول (قوله عليه الصلاة والسلام) لعبد الله بن أبي سرح (كلّ صواب) أي كل ما قلته أو كتبته (إن صح) سنده ويروى إن صحت أي أسانيده (فَقَدْ يَكُونُ هَذَا فِيمَا) كَانَ (فِيهِ مِنْ مقاطع الآي) أي رؤوسها وموافقتها ويروى الآيات (وجهان) أي جائزان في صدر الإسلام (وقراءاتان) أي متواتران (أنزلتا جميعا على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) إلا أن إحديهما صارت شاذة (فأملى إحداهما وتوصّل الكاتب بفطنته) ببركة صحبته وانعكاس مرآته (ومعرفته بمقتضى الكلام) وما يتعلق بفصاحته وبلاغته (إلى الأخرى) أي قبل ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لها كما في نسخة (فذكرها) أي الكاتب (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قبل ذكره لها) كما قدمناه على ما يشير إليه قَوْلِهِ تَعَالَى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ عند ظهور الإيمان يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ كعمر يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ كابن أبي سرح وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ بل له نار في غاية من ظهور والأمور مخبوءة تحت حجب ظلال وستور (فصوّبها) أي القراءة الأخرى (له النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بحسب الموافقة (ثمّ أحكم الله من ذلك) أي مما ذكر من عليم حكيم بدل غفور رحيم ونحوه مما تقدم هنالك (ما أحكم) أي أثبته (ونسخ ما نسخ) أي أزاله لحكمه اقتضت هنالك كقوله تعالى (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) وقوله وبلغوا عنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا نزل فيمن قتل ببئر معونة من القرآن ثم نسخ (كما قد وجد ذلك) الاختلاف الآن أيضا (في بعض مقاطيع الْآيِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي القوي القادر على ثوابهم وعقابهم (الْحَكِيمُ [المائدة: 118] ) في إرادته من تعذيبه وإثابته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 (وهذه قراءة الجمهور) وهم السبعة أو العشرة (وقد قرأ جماعة) أي بطرق شاذة (فإنّك أنت الغفور الرّحيم وليست) أي هذه الجملة (في المصحف) وفي نسخة من المصحف أي فهي متلوة لا مكتوبة ولذا صارت شاذة (وَكَذَلِكَ كَلِمَاتٌ جَاءَتْ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي غَيْرِ المقاطع) بل في أثناء الآي من المواضع (قرأ بهما معا) أي كليهما (الجمهور وثبتتا في المصحف) أي في مصحف الإمام أو جنس المصاحف العثمانية (مثل وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) أي عظام الحمار (كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة: 259] ) بالراء وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو أي نحييها (وننشزها) بالزاء في قراءة الباقين أي نحركها ونرفع بعضها إلى بعض في تركيبها (ويقضي الحقّ) بضاد معجمة مكسورة في قراءة أبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحذف ياؤه في الرسم على خلاف القياس تنزيلا للوقف منزلة الوصل أي يقضي القضاء الحق؛ (ويقصّ الحقّ) بضم صاد مهملة مشددة أي يتبعه ويحكيه ويأمر به (وكلّ هذا) أي ما ذكر من الخلاف في القراءة أو الرواية (لا يوجب ريبا) يورث شبهة (ولا يسبّب) بتشديد الباء الأولى مكسورة أي لا يصير سببا وفي نسخة صحيحة لا ينسب (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم غلطا) أي سهوا (ولا وهما) بفتح الهاء وسكونها أي توهما (وقد قيل إنّ هذا) أي قول ابن أبي سرح لقريش بعد ردته كنت أصرف محمدا كيف أريد (يحتمل أن يكون فيما يكتبه) أي فيما كان يكتبه مكاتيب (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي على لسانه (إلى النّاس) أي من الملوك وغيرهم (غير القرآن فيصف) أي ابن أبي سرح (الله) سبحانه وتعالى بصفات تليق به من سمع بصير وعليم خبير وعليم حكيم وغفور رحيم حسب ما يوافق سجع الكلام ووفق المرام (ويسمّيه في ذلك الكتاب) أي المكتوب (كيف شاء) على نهج المطلوب ويروى بما شاء وكثيرا ما يقع ذلك الاختلاف بين المملي والمملى عليه ثم يحصل الائتلاف. فصل [فصل هذا القول فيما طريقه البلاغ] (هذا القول) أي الذي تقدم (فيما طريقه البلاغ) أي التبليغ في باب الرسالة (وأمّا ما ليس سبيله البلاغ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا إِلَى الأحكام) المتعلقة بالأمور الدنيوية في حسن المعاش وتحسين الزاد (ولا أخبار المعاد) بفتح الميم أي أحاديث الأحوال الأخروية في أبد الآباد (ولا تضاف إلى وحي) أي الهي جلي أو خفي (بل في أمور الدّنيا) أي ليس لها تعلق بالأخرى (وأحوال نفسه) أي من حكاية غده وأمسه (فالّذي يجب) أي اعتقاده كما في نسخة (تنزيه النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تبرئته (عن أن يقع خبره) أي حديثه (في شيء من ذلك) أي مما قدمناه هنالك (بخلاف مخبره) بضم الميم وفتح الموحدة أي بضد ما أخبر به (لا عمدا ولا سهوا) أي نسيانا (ولا غلطا) أي خطأ (وأنّه معصوم من ذلك) أي من جميع ما ذكر (في حال رضاه وفي حال سخطه) بفتحتين وضم فسكون أي كراهته وغضبه (وجدّه) بكسر الجيم وهو ضد الهزل (ومزحه) فإنه كان يمزح ولا يقول إلا حقا ومنه قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 لامرأة لا تدخل الجنة عجوز (وصحّته ومرضه) أي لسلامة قلبه وصحة لسانه (ودليل ذلك) أي ما ذكر (اتّفاق السّلف) أي من الصحابة والتابعين (وإجماعهم عليه) أي على أنه لا يصدر شيء منه بخلاف إخباره عنه (وذلك) أي بيانه (أنّا نعلم من دين الصّحابة) أي ديدنهم (وعادتهم مبادرتهم) أي مسارعتهم (إلى تصديق جميع أحواله) أي أفعاله وأقواله (والثّقة) أي الاعتماد (بجميع أخباره) أي أحاديثه وآثاره (في أيّ باب كانت) من أطواره (وعن أيّ شيء) وفي نسخة وفي أي شيء (وقعت) أي أخباره (وأنّه) أي الشأن وفي نسخة صحيحة وأنهم (لم يكن لهم توقّف) أي تلبث وتمكن (ولا تردّد في شيء منها) أي من صحة أقواله وأفعاله وثبوت أحواله (ولا استثبات) أي ولا طلب ثبات نشأ عن تردد بعد نقل ثقات (عَنْ حَالِهِ عِنْدَ ذَلِكَ هَلْ وَقَعَ فِيهَا سهو أم لا) لكمال متابعتهم في أقواله وموافقتهم لأفعاله حتى ورد أنه عليه الصلاة والسلام لما خلع نعله في الصلاة ورمى بها خلعوا نعالهم ورموا بها وكذلك في طرح الخاتم تبعا له صلى الله تعالى عليه وسلم، (ولمّا احتجّ ابن أبي الحقيق) بضم المهملة وفتح القاف الأولى وسكون التحتية (اليهوديّ) من يهود خيبر (على عمر) فيما رواه البخاري في حديث إجلاء يهود خيبر (حين أجلاهم) أي أخرجهم عمر (من خيبر) وهو وطنهم ويروى عن خيبر (بإقرار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) متعلق باحتج أي استدل اليهودي بتقريره عليه الصلاة والسلام (لهم) في ابقائهم فيها (وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي لابن أبي الحقيق (كيف بك إذا أخرجت من خيبر) بصيغة المجهول المخاطب (فقال اليهوديّ كانت) أي مقالته عليه الصلاة والسلام (هزيلة) تصغير هزلة وهي المرة من الهزل (من أبي القاسم) كنيته عليه الصلاة والسلام بابنه القاسم (قال له عمر كذبت يا عدوّ الله) وإنما كذبه لنسبته له عليه الصلاة والسلام لما لا يليق به من الهزل وللإشارة إلى أن كلامه كله قول فصل وما هو بالهزل فإنه كان إخبارا عما سيقع من عزة الإسلام وقوة الاحكام فيكون معجزة جزيلة لا هزيلة رذيلة (وأيضا فإنّ أخباره وآثاره) أي من أقواله وأفعاله (وسيره) أي سائر أحواله (وشمائله) جمع شمال بالكسر وهو الخلق أي الجبلة من صفات كماله ونعوت جماله (معتنّى) أي مهتم (بها) وهو بصيغة المجهول وكذا (مستقصى) أي مستوفي (تفاصيلها ولم يرد) أي وما ورد (في شيء منها) أي من أقواله وشمائل أحواله (استدراكه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَلَطٍ فِي قَوْلٍ قَالَهُ أَوِ اعترافه بوهم) أي بوقوع سهو (فِي شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ) أي ما ذكر من الغلط والوهم واقعا (لنقل) أي إلينا (كما نقل) على ما رواه مسلم عن طلحة وأنس ورافع بن خديج (من قصّته رجوعه عليه الصلاة والسّلام) وفي نسخة في قصته عليه الصلاة والسلام ورجوعه (عَمَّا أَشَارَ بِهِ عَلَى الْأَنْصَارِ فِي تَلْقِيحِ النّخل) أي تأبيرها وهو جعل شيء من النخل الذكر في الأنثى وذلك أنه مر بهم وهو يلقحونها فسألهم عن ذلك فأخبروه فقال لعلكم لو لم تفعلوا لكان خيرا فتركوا فلم تثمر على العادة فقال لهم أنتم أعلم بدنياكم وقال إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دينكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فإنما أنا بشر (وكان ذلك) أي قوله عليه الصلاة والسلام للأنصار (رأيا) أي من نفسه (لا خبرا) عن وحي من ربه ومن ثمة قال أنتم أعلم بدنياكم وفيه تنبيه نبيه على أنه لا يشترط في حق أرباب النبوة العصمة على الخطأ في الأمور الدنيوية التي لا تعلق لها بالأحكام الدينية والأحوال الأخروية لتعلق هممهم العليا بعلوم العقبى وغيرهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا (وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ هذا الباب) أي باب تنزيهه عليه الصلاة والسلام عن أن يقع خبره خلاف مخبره في فصل الخطاب (كقوله) فيما رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اسأله الحملان إلى غزوة تبوك فقال والله وفي نسخة زيادة أني لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه ثم أتى صلى الله تعالى عليه وسلم بذود غر الذري فأعطاه إياها فقال تغفلنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يمينه فرجع إليه فأخبره فقال ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم (والله لا أحلف على يمين) أي على عقد وعزم ونية قال الأنطاكي أي على شيء مما يحلف عليه وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين (فأرى غيرها) أي فعل غير المحلوف عليه يعني فاعلم أن تركها (خيرا منها) أي من بقائها (إلّا فعلت الّذي حلفت عليه) كترك حملانهم (وكفّرت عن يميني؛ وقوله) فيما رواه الشيخان عن أم سلمة (إنّكم تختصمون إليّ الحديث) تمامه ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئا فكأنما اقتطع له قطعة من النار (وقوله عليه الصلاة والسلام) فيما رواه الأئمة الستة عن الزبير من أمره عليه الصلاة والسلام للزبير بن العوام أن يسقى نخله ولا يستوعب ثم يرسل الماء إلى جاره من الأنصار فقال الأنصاري إن كان ابن عمتك فقال صلى الله تعالى عليه وسلم (اسق) بفتح الهمزة (يا زبير) أي نخلتك أو حديقتك (حتّى يبلغ الماء الجدر) بفتح الجيم وكسرها وسكون الدال المهملة وبالراء لغة في الجدار والمراد ههنا أصل الحائط كما ذكر النووي وقيل أصول الشجر وقيل جدر المشارب التي يجتمع فيها الماء في أصول الشجرة وفي نسخة الجدر بضمتين وهو جمع الجدار فاستوعب له عليه الصلاة والسلام بعد أن أمره أن يسقي بدون استيعاب رعاية لجاره (كما سنبيّن كلّ ما في هذا) أي الذي ذكرناه (مِنْ مُشْكِلِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ وَالَّذِي بعده إن شاء الله مع أشباهها) أي نظائرها مما وقع في هذا الكتاب ويروى مَعَ أَشْبَاهِهِمَا (وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَذِبَ مَتَى عُرِفَ) أي صدوره (من أحد في شيء من الأخبار) ولو جزئيا وهو بفتح الهمزة ويروى في شيء والإخبار فهو بكسر الهمزة (بخلاف ما هو) متعلق بعرف حال من ضميره (على أيّ وجه كان) من المزاح ونحوه (استريب بخبره) بصيغة المجهول وكذا قوله (واتّهم في حديثه) وهو تفسير لما قبله قال أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما عليك بالرائب من الأمور وإياك والرائب منها أي الزم الصافي الخالص منها واترك المشتبه منها فالأول من راب اللبن يروب والثاني من رابه يريبه أي أوقعه في الشك ومنه قوله عليه الصلاة والسلام دع ما يريبك إلى ما لا يريبك بضم الياء وفتحها (ولم يقع قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 في النّفوس موقعا) أي لم يؤثر فيها تأثيرا تقبله وتطمئن به (ولهذا) أي ولكون الكذب يورث الريبة في الخبر والتهمة في الأثر (ترك المحدّثون) وفي نسخة ما ترك المحدثون على أن ما موصولة وقال الدلجي ما مزيدة لتأكيد معنى الترك وهو غريب (والعلماء) أي المجتهدون فهو أعم مما قبله (الحديث) أي نقله (عمّن عرف) أي شهر (بالوهم) بفتح الحاء أي الغلط وبسكونها أي السهو (والغفلة) أي الذهول وعدم اليقظة (وسوء الحفظ) بقلة الضبط (وكثرة الغلط) في المتن والسند (مع ثقته) أي اعتماده في ديانته وأمانته في روايته وقد حكي أن البخاري امتنع عن الرواية ممن أخذ بذيله تحديبا لدابته أن في حجره شعيرا ونحوه (وَأَيْضًا فَإِنَّ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا معصية) ويروى منقصة أي خصلة تورث المذمة عاجلا والعقوبة آجلا إذ هي الخروج عن الطاعة (والإكثار منه) أي من تعمد الكذب (كبيرة بإجماع) أي من العلماء الأعلام كأبي حنيفة ومالك وغيرهما من غير نزاع (مسقط للمروءة) ومخل بالعدالة (وكلّ هذا) أي ما ذكر (ممّا ينزّه عنه منصب النّبوّة) بفتح الميم وكسر الصاد أي ساحة الرسالة (والمرّة الواحدة) مبتدأ وصفة مؤكدة له (منه) أي من الكذب (فيما) ويروى عما (يستشنع) بصيغة المجهول من مادة الشناعة وهي القباحة وكذا قوله (ويستبشع) من البشاعة وهي الكراهة وفي نسخة ويشاع من الإشاعة وفي أخرى ويشيع بالياء أو النون من التشييع أو التشنيع أي فيما يستقبح ويستكره (ممّا يخلّ بصاحبها) أي المرة (ويزري بقائلها) أي يعيبه وينقصه ويحقره (لاحقة بذلك) خبر المبتدأ أي متصلة بما ينزه عنه منصب النبوة (وأمّا فيما لا يقع هذا الموقع) أي من الأمر المستبشع كالكذبة الواحدة في حقيرة من الدنيا (فإن عددناها) أي هذه المعصية (من الصّغائر فهل تجري على حكمها) أي حكم المرة الواحدة من الكذب (في الخلاف فيها) أي قبل البعثة هل يصدر من الأنبياء صغيرة أو لا (مختلف فيه) وقد سبق بيان الخلاف (والصّواب تنزيه النّبوّة) أي صاحبها أو ذاتها مبالغة (عن قليله) أي الكذب (وكثيره) أي بالأولى (وسهوه وعمده) بخلاف غيرها من الصغائر إذ فيها القولان المشهوران للسلف والخلف (إذ عمدة النّبوّة) أي مدار أمورها المقرونة بالرسالة (البلاغ) أي تبليغ الأحكام (والإعلام) أي بما يتعلق به حق الأنام (والتّبيين) أي تبيين ما أنزل إليهم من الابهام (وتصديق ما جاء به النبي) أي فيما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام (وتجويز شيء من هذا) أي الذي يخل بمنصب النبوة سواء كان صغيرة أو كبيرة قليلة أو كثيرة (قادح في ذلك) أي في العمدة التي هي إبلاغ النبوة (ومشكّك فيه) أي وموقع في الريبة (مناقض للمعجزة) أي التي هي عبارة عن قول الرب صدق عبدي (فلنقطع عن يقين) أي لا عن ظن وتخمين وفي نسخة على يقين (بأنّه) أي الشأن (لا يجوز على الأنبياء خلف) أي تخلف كما في نسخة أي مخالفة وقوع (في القول) من أقوالهم (في وجه من الوجوه) أي في حال من أحوالهم (لا بقصد ولا بغير قصد ولا نتسامح) أي نحن وفي نسخة وبصيغة المجهول أي ولا ينبغي أن يتسامح ويتساهل وفي أخرى ولا يتسامح بباء الجر والتنوين (مع من تسامح) بصيغة الماضي وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 نسخة بصيغة المضارع الغائب كلاهما من باب التفاعل وفي نسخة سامح من باب المفاعلة وفي أخرى ولا يتسامح بتسامح على لفظ المصدر (في تجويز ذلك) أي الخلف في القول (عليهم) ولو كان (حال السّهو مما) وفي نسخة فيما (ليس طريقه البلاغ، نعم) كذا في بعض النسخ المصححة ولم يتعرض له أحد من المحشيين ولم يظهر لنا وجهه المستبين (وبأنّه) أي وكذا نقطع بأنه (لا يجوز عليهم الكذب قبل النّبوّة) أي إظهارها (ولا الاتّسام) بتشديد التاء افتعال من الوسم وهو العلامة أي ولا يجوز الاتصاف (به في أمورهم) المتعلقة بآخرتهم (وأحوال دنياهم لأنّ ذلك) أي الكذب لو صدر عنهم (كان يزري) أي يحقرهم (ويريب بهم) أي يوقع أممهم في التهمة فيما جاؤوا به عن ربهم (وينفر القلوب عن تصديقهم بعد) أي بعد إرسالهم بما أمروا بتبليغ أحوالهم (وانظر أحوال عصر النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ) أي من العرب والعجم (وسؤالهم) بالنصب أو الجر (عن حاله) أي تحول شأنه (في صدق لسانه وما عرفوا به) بتشديد الراء مبنيا للمفعول أو الفاعل مشددا أو مخففا أي والذي عرف قريش (من ذلك) أي صدق لسانه (واعترفوا به) حين سألوا عنه (ممّا عرف) بصيغة المفعول ويروى واعترفوا بما عرف به أي علم من تحقق شأنه (واتّفق النّقل) ويروى واتفق أهل النقل (على عصمة نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم منه) أي من الكذب ونحوه (قبل وبعد) أي قبل البعثة وبعدها (وقد ذكرنا من الآثار فيه) أي فيما يتعلق به (فِي الْبَابِ الثَّانِي أَوَّلَ الْكِتَابِ مَا يُبَيِّنُ لك صحّة ما أشرنا إليه) من تنزيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الكذب ونحوه مما يشين لديه ومن جملته قَوْلُهُ تَعَالَى قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتشديد والتخفيف أي لا ينسبونك إلى الكذب قبل النبوة ولا بعدها. فصل (فإن قلت فما معنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث السّهو) أي الحديث الدال على السهو على ما رواه الشيخان (الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ الْفَقِيهُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بن جعفر حدّثنا القاضي أبو الأصبغ) بفتح الهمزة والموحدة بعدها غين معجمة (ابن سهل) هو القاضي عيسى ابن سهل (قال حدّثنا حاتم بن محمد) تقدم، (حدّثنا أبو عبد الله بن الفخّار) بفتح الفاء وتشديد الخاء المعجمة، (حدّثنا أبو عيسى) أي الترمذي على ما صرح به الدلجي وقال الحلبي تقدم أنه يحيى بن عبد الله بن يحيى بن يحيى بن كثير الليثي، (حدّثنا عبيد الله) قال الحلبي تقدم مرارا أنه أبو مروان عبد الله بن يحيى بن يحيى الليثي، (حدّثنا يحيى) تقدم أنه يحيى بن يحيى الليثي (عن مالك) أي ابن أنس الإمام، (عن داود بن الحصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وثقه جماعة توفي سنة خمس وثلاثين ومائة أخرج له الأئمة الستة، (عن أبي سفيان) تابعي ثقة مولى ابن أبي أحمد أخرج له الأئمة الستة (أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 هريرة رضي الله عنه) قال الحلبي الحديث أخرجه من الموطأ كما ترى وهو في مسلم والنسائي من رواية أبي سفيان عن أبي هريرة وأخرجاه جميعا عن عقبة عن مالك فإن قلت لم لم يخرجه القاضي من مسلم فالجواب أن بينه وبين مالك في الموطأ سبعة أشخاص ولو رواه عن مسلم كان كذلك ولكن الموطأ عندهم مقدم على غيره أيضا الموطأ يقع له من بعض الطرق أعلى مما ذكره بدرجة فيعلو له على مسلم ولكن لو أخرجه من عند النسائي كان يقع له أعلى من الموطأ عن أبي هريرة (يقول صلّى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلاة العصر) وقيل الظهر (فسلّم في ركعتين) أي بعد فراغه منهما ومن تشهدهما (فقام ذو اليدين) وسمي به لأن في يديه أو أحدهما طولا وقيل لأنه كان يعمل بكلتا يديه ووهم هنا الزهري مع سعة علمه فقال ذو الشمالين ولا يصح لأن ذا الشمالين استشهد ببدر وذو اليدين شهد قصة أبي هريرة وإسلام أبي هريرة بعد خيبر تأخر موته حتى روى عنه متأخرو التابعين كمطير وقيل إنهما واحد هذا لا يصح لأن ذا الشمالين خزاعي وذا اليدين سلمي (فقال يا رسول الله أقصرت الصّلاة) على بناء المفعول من القصر ضد الإتمام أو بفتح فضم صاد وتاء تأنيث على صيغة الفاعل بمعنى النقص قاله ابن الأثير وقال النووي كلاهما صحيح والأول أشهر وأصح وقال المزي الصحيح بناء قصرت لما لم يسم فاعله من قبل الرواية ومن قبل الدراية لأن غيرها قصرها ولموافقة لفظ القرآن أن تقصروا من الصلاة انتهى ولا يخفى أن هذا يشير إلى احتمال وجه آخر وهو أن يكون قصرت بفتحتين وتاء الخطاب وحينئذ يطابق قوله (أم نسيت) بفتح فكسر ثم تاء خطاب (فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جوابا له (كلّ ذلك لم يكن) روي بالرفع والنصب فعلى الأول مبتدأ خبره لم يكن وعلى الثاني خبر كان مقدم عليها والمعنى كل ذلك لم يقع من قبلي بل إنما كان من عند ربي ليس الحكم في أمتي من جهتي (وفي الرّواية الأخرى ما قصرت) بصيغة الغائبة للفاعل أي الصلاة كما في نسخة (وما نسيت) بصيغة المتكلم وما يحتمل نافية واستفهامية ويؤيد الأول أنه في رواية أخرى لم أنس ولم تقصر وفي نسخة ولا نسيت (الحديث بقصّته) أي مشهور في روايته (فأخبر بنفي الحالتين) أي معا بناء على ما اختاره المصنف من أن ما ناقيه (وأنّها لم تكن) أي حالة منهما أي مطلقا أو القضية أصلا وفي رواية أنهما لم يكونا أي النقص والنسيان (وقد كان أحد ذلك) أي أحد ما ذكر من الحالتين في الواقع (كما قال له) وفي نسخة كَمَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ (قَدْ كَانَ بَعْضُ ذلك يا رسول الله) فهذا يرجح كون ما نافية (فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذلك أجوبة بعضها بصدد الإنصاف) أي متمسك بطريق الانصاف في الرجوع إلى الحق (ومنها) أي وبعضها (ما هو بنيّة التّعسّف والاعتساف) التعسف هو الخروج عن الجادة وركوب الأمر بالمشقة وفي معناه الاعتساف وإنما جمع بينهما للمبالغة ورعاية الفاصلة والمراد بالنية القصد والتوجه بالطوية وفي نسخة بتيه بكسر الفوقية فياء ساكنة فهاء وفسره الحلبي بالكبر والأظهر أنه بمعنى التحير في تيه الضلالة وبيداء الجهالة ولذا فسره التلمساني بعدم الاهتداء (وها أنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 أقول) مبتدأ وخبر قرنا بتنبيه في حق نبي نبيه (أمّا على القول) أي قول بعضهم (بتجويز الوهم) بفتح الهاء وسكونها أي السهو (والغلط ممّا ليس طريقه من القول البلاغ) بالنصب أي الإبلاغ وفي نسخة من البلاغ أي من جهة التبليغ (وهو) أي هذا القول هو (الّذي زيّفناه) أي ضعفناه (من القولين) أعني الجواز وعدمه (فلا اعتراض بهذا الحديث وشبهه) ولا إشكال في تجويز نحوه (وأمّا على مذهب من يمنع السّهو والنّسيان في أفعاله) أي الشاملة لأقواله عليه الصلاة والسلام (جملة) أي جميعها مجملة (ويرى أنه) أي ويعتقد أنه عليه الصلاة والسلام (في مثل هذا عامد لصورة النّسيان) أي كالعامد في هذه الصورة (ليسنّه فَهُوَ صَادِقٌ فِي خَبَرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسَ وَلَا قَصُرَتْ وَلَكِنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَعَمَّدَ هذا الفعل في هذه الصّورة) ليسنه (لمن اعتراه مثله) أي أصابه نحوه من الأمة فيقتدى به في تدارك الحالة (وهو قول مرغوب عنه) أي مردود لنسبته إلى التعمد في القضية (نذكره) وفي نسخة ونذكره (في موضعه) أي مع بيان ضعفه (وأمّا على إحالة السّهو) أي على كون السهو محالا (عَلَيْهِ فِي الْأَقْوَالِ وَتَجْوِيزِ السَّهْوِ عَلَيْهِ فِيمَا ليس طريقه القول) أي التبليغ (كما سنذكره) أي على القول الأصح (ففيه أجوبة) أي مرضية (منها أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخبر عن اعتقاده وضميره) أي بحسب ظنه في قوله كل ذلك لم يكن (أَمَّا إِنْكَارُ الْقَصْرِ فَحَقٌّ وَصِدْقٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا) فلا شبهة فيه (وأمّا النّسيان فأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم عن اعتقاده) أي وفق اجتهاده (وَأَنَّهُ لَمْ يَنْسَ فِي ظَنِّهِ فَكَأَنَّهُ قَصَدَ الخبر بهذا) أي بعدم نسيانه (عن ظنّه وإن لم ينطق به) أي وإن لم يصرح به وإن لم يقل لم أنس فيما ظن به (وهذا) ويروى وهو (صدق أيضا) لا ريبة فيه ولا شبهة (وَوَجْهٌ ثَانٍ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَمْ أَنْسَ رَاجِعٌ) أي مفعوله (إِلَى السَّلَامِ أَيْ إِنِّي سَلَّمْتُ قَصْدًا وَسَهَوْتُ عَنِ الْعَدَدِ أَيْ لَمْ أَسْهُ فِي نَفْسِ السّلام وهذا محتمل) أي من جهة العربية (وفيه بعد) أي عن صحة حمل القضية (ووجه ثالث وهو أبعدها) ويروى أبعدها أي من النقل والعقل في تحقيق المعنى (مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَإِنِ احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ) أي المبنى (مِنْ قَوْلِهِ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَيْ لَمْ يَجْتَمِعِ الْقَصْرُ وَالنِّسْيَانُ بَلْ كَانَ أَحَدُهُمَا) وهذا بحسب مفهوم المعنى وهو غير معتبر عند الجمهور (ومفهوم اللّفظ) أي المعتبر (خلافه) أي مخالف له لا سيما (مَعَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ مَا قصرت الصّلاة وما نسيت) وفي نسخة ولا نسيت فإنه دال على نفي وجودهما كليهما سواء تكون نافية أو استفهامية وأيضا لو كان مفهومه ما تقدم لم يقل ذُو الْيَدَيْنِ قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رسول الله؛ (هذا) أي الوجه الثالث (ما رأيت فيه لأئمّتنا) أي المالكية أو الأعم فيشير إلى أنه مما ظهر له والله تعالى أعلم (فكلّ من هذه الوجوه) أي الثلاثة (محتمل اللّفظ) وفي نسخة محتمل للفظ أي للمبنى وإن كان الأخيران بعيدين في المعنى (على بعد بعضها) وهو الوجه الثاني (وتعسّف الآخر منها) وهو الوجه الثالث؛ (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) يعني المصنف (والّذي أقول) أي واختاره (وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَقْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كلّها أن قوله لَمْ أَنْسَ إِنْكَارٌ لِلَّفْظِ الَّذِي نَفَاهُ عَنْ نفسه) لأن أصل النسيان الترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 فكره عليه الصلاة والسلام أن يقول تركت باختياري (وأنكره على غيره) جملة حالية أي وقد أنكره عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (بقوله بِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وكذا ولكنّه نسّي) بضم النون وتشديد السين المكسورة أي أنساه الله إياها ولأبي عبيد بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت ليس هو نسي ولكنه نسي وهو أبين من الأول لكن فيه أن ظاهر الحديث يخص النسيان بآي القرآن فلا يعم سائر الأقوال والأفعال من الشأن ولعله مقتبس من قوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي ما أراد الله تعالى انساءك إياه فينسيكه ربما يعم الحكم كما نبه عليه المصنف وقال (وبقوله في بعض روايات الحديث الأخر) وفي نسخة في بعض رواية الحديث الأخر (لست أنسى) بفتح الهمزة والسين (ولكن) وفي نسخة ولكن (أنسّى) بصيغة المجهول مشددا ويجوز مخففا (فلمّا قال له السّائل) وهو ذو اليدين (أَقْصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ أَنْكَرَ قَصْرَهَا كَمَا كان) أي في نفس الأمر (ونسيانه) أي وأنكر نسيانه هو (هو من قبل نفسه) أي باختياره وتقصير من جانبه (وأنه) أي الشأن (إِنْ كَانَ جَرَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ نسّي) بصيغة المجهول مشددا (حتّى سأل غيره) أي الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما بقوله أحق ما يقول ذو اليدين قالوا نعم (فتحقّق أنّه نسّي) بصيغة المجهول مشددا أي أنساه الله (وأجري عليه ذلك) بالبناء للمفعول وكذا قوله (ليسنّ) أي ليقتدي وفي نسخة بالبناء للفاعل أي ليجعله سنة تقتدي بها الأمة (فَقَوْلُهُ عَلَى هَذَا لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ) للبناء للفاعل أو المفعول (وكلّ ذلك) أي وقوله كل ذلك وفي نسخة إذ كل ذلك (لم يكن صدق) خبر لقوله فقوله (وحقّ) تأكيد (لم تقصر) أي كما في نفس الأمر (ولم ينس حقيقة) أي من قبل نفسه (ولكنّه نسّي) أي أنساه الله تعالى إياه فكراهته عليه الصلاة والسلام نسبة النسيان إلى النفس إنما هي لاستناد الحوادث كلها إلى الله تعالى إذ هو المقدر لها وللإشعار بأنه لم يقصد إلى نسيانه ولم يكن باختياره فلم ينسب إلى تقصيره. (ووجه آخر) يؤذن بالفرق بين السهو والنسيان (استثرته) أي استخرجته من استثار بالمثلثة من باب الافتعال وأصله استثورته ومنه قوله تعالى فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً والمعنى استنبطته (من كلام بعض المشايخ) أي مأخوذ من متفرقات كلامه في تحقيق مرامه (وذلك أنّه) أي بعض المشايخ (قال إنّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْهُو وَلَا يَنْسَى وَلِذَلِكَ نفى عن نفسه النّسيان قال) أي بعض المشايخ (لأنّ النّسيان غفلة وآفة) أي بلية ناقصة ولذا قال تعالى فَلا تَنْسى أي باختيارك إلا ما شاء الله بأن ينسيك من غير تقصير منك (والسّهو إنّما هو شغل) بضم وسكون وبضمتين وفي نسخة بالإضافة إلى بال أي اشتغال حال وهو لا ينافي صاحب كمال لأنه يتنبه منه بأدنى تنبيه فيه. (قال) أي ذلك البعض (فكان النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْهُو فِي صِلَاتِهِ وَلَا يَغْفَلُ) بضم الفاء أي ولا يذهل (عنها) بالكلية (وكان يشغله عن حركات الصّلاة) أي وسكناتها من قراءتها وركوعها وسجداتها (ما في الصّلاة شغلا بها) أي بتحصيلها وتكميلها من حضور ومرور وخضوع وخشوع وتدبر قراءة في مبانيها أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 معانيها (لا غفلة عنها) بصرف الخاطر إلى غيرها من الأمور الدنيوية والأحوال الدنية بل لاستغراق وقع له فيها مما لا ينافيها (فهذا) أي القول بهذا المبنى (إن تحقّق) بصيغة المفعول أو الفاعل أي ثبت (عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ ما قصرت) أي هي (وما نسيت) أي أنا (خلف) بضم أي اخلاف (في قول) لعصمته عليه الصلاة والسلام من الخلف في الكلام والله تعالى أعلم بحقيقة المرام (وعندي أنّ قوله صلى الله تعالى عليه وسلم مَا قَصُرَتِ الصَّلَاةُ وَمَا نَسِيتُ بِمَعْنَى التَّرْكِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ وَجْهَيِ النِّسْيَانِ أَرَادَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُسَلِّمْ مِنْ رَكْعَتَيْنِ تَارِكًا لِإِكْمَالِ الصَّلَاةِ وَلَكِنِّي نَسِيتُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله تعالى عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ إِنِّي لَأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لأسنّ) وهذا واضح وأثر التكرار عليه لائح. (وأمّا قصّة كلمات إبراهيم المذكورة) أي في الحديث كما في نسخة (أنّها كذباته) جمع كذبة بفتح فكسر في المفرد والجمع خلافا للتلمساني حيث قال بفتح الذال جمع كذبة بسكونها (الثّلاث المنصوصة) أي الصريحة (في القرآن) ففيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات (منها اثنتان قوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] ) في الصافات فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: 63] ) في سورة الأنبياء قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (وقوله للملك عن زوجته) أي سارة حين أخذها وسأله عنها فقال (إنّها أختي) أي في الإسلام خشية أن يقتلها لو قال إنها زوجتي ولقد نجاها الله منه بما اعتراه من الخوف وأخدمها هاجر أم إسماعيل أبي العرب جد نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أحد الذبيحين على ما ورد قال الحلبي فإن قيل ما الحكمة في عدوله عن قوله هذه زوجتي إلى هذه أختي وظاهر الحال أنه لو قال هذه زوجتي ربما كان الملك لا يتطرق إلى امرأة زوجها معها إن كان يعمل بالشرع ولكنه صار كما وصف في الحديث فما يبالي أكانت زوجة أم أختا بخلاف ما إذا قال هذه اختي ربما كان يقول الملك زوجنيها ويكون عدوله عن امرأتي إلى أختي أدعى لأخذ الملك لها فالجواب ما قاله بعض مشايخي فيما قرأته عليه عن ابن الجوزي أنه وقع له أن القوم كانوا على دين المجوس وفي دينهم أن الأخت إذا كانت مزوجة كان أخوها الذي هو زوجها أحق بها من غيره وكان إبراهيم عليه السلام أراد أن يستعصم من الجبار بذكر الشرع الذي يستعمله فإذا الجبار يراعي دينه وقد اعترض على هذا الجواب بأن الذي جاء بمذهب المجوس زرادشت وهو متأخر عن إبراهيم عليه السلام وأجيب بأن لمذهبهم أصلا قديما ادعاه زرادشت وزاد عليه خرافات أخر انتهى وقيل كان من عادة ذلك الجبار أن لا يتعرض إلا لذات الأزواج ولذلك قال الخليل لها أن يعلم أنك أمرأتي يغلبني عليك وحكى أن الملك كان بمصر وأراد إبراهيم أن يجتاز منها هو ومن معه من المؤمنين وكانوا ثلاثمائة وعشرين رجلا وجمع بينهما حناطه الذي يبيع طعامه وهو الذي وشى بسارة وحملها إلى الملك فأهوى إليها بيده مرارا فلم يستطع وإبراهيم ينظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 إليهما من خارج القصر بعد أن أمر الملك بإخراجه ومثل الله تعالى لإبراهيم القصر كالقارورة حتى أنه ينظر من خارجه كل ما كان في داخله (فاعلم أكرمك الله أنّ هذه) أي كلمات إبراهيم عليه الصلاة والسلام (كلّها خارجة عن الكذب) بفتح فكسر ويجوز كسر أوله وسكون ثانيه (لا في القصد ولا في غيره) أي من السهو والخطأ والنسيان (وهي) أي الكلمات الثلاث (دَاخِلَةٌ فِي بَابِ الْمَعَارِيضِ الَّتِي فِيهَا مَنْدُوحَةٌ عن الكذب) أي سعة وفسحة عنه ومنه قول أم سلمة لعائشة قد جمع ذيلك فلا تندحيه أي لا توسعيه وتنشريه أرادت قوله تعالى وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وهذا مأخوذ من حديث أبي عبيد وغيره عن عمران بن حصين يرفعه أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب وهو جمع معراض من التعريض ضد التصريح من القول فهي في الحقيقة صدق عرض بها ليتوصل إلى غرضه من مكايدة قومه والزامهم الحجة في ذات الله تعالى ومرضاة ربه فمعاريض الكلام أن يتكلم الرجل بكلمة يظهر من نفسه شيئا ومرداه شيء آخر وقد كان السلف يورون عند الحاجة والضرورة فقد روي عن إبراهيم النخعي أنه كان إذا طلبه في الدار من يكرهه قال للجارية قولي له اطلبه في المسجد وكان الشعبي إذا طلبه أحد يكرهه يخط دائرة ويقول للجارية ضعي الأصبع فيها وقولي ليس ههنا (أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ [الصَّافَّاتِ: 89] فَقَالَ الْحَسَنُ) أي البصري (وغيره معناه سأسقم) من باب فرح وكرم والأول أفصح (أي أنّ كلّ مخلوق معرّض لذلك) بتشديد الراء المفتوحة أي معرض للسقم ومقابل له (فاعتذر لقومه من الخروج) أي تفاديا منه (معهم إلى عيدهم) أي محل اجتماعهم (بهذا) التعريض روي أنه أرسل إليه ملكهم أن غدا عيدنا فاخرج معنا وقد أراد التخلف عنهم فنظر إلى نجم فقال إن هذا النجم ما طلع قط إلا اسقم أي مشارف للسقم وهو الطاعون لأنه كان أغلب اسقامهم وكانوا يرهبون العدوى فنفروا عنه وتخلصوا منه (وَقِيلَ بَلْ سَقِيمٌ بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنَ الموت) أي عرض لهم بأن من كان هدفا للمنايا وغرضا للبلايا فهو سقيم بما قدر عليه من الموت كما روي أن رجلا مات فجأة فقيل مات وهو صحيح فقال أعرابي أصحيح وفي عنقه الموت (وقيل سقيم القلب بما أشاهده) ويروى بما شاهدته (من كفركم) بالرب الأحد (وعنادكم) بالميل عن طريق الحق والأدب (وقيل بل) قال سقيم لأنه (كَانَتِ الْحُمَّى تَأْخُذُهُ عِنْدَ طُلُوعِ نَجْمٍ مَعْلُومٍ) له أولهم (فلمّا رآه اعتذر بعادته) التي تعتريه عند طلوعه وتغيره في حالته (وكلّ هذا) أي ما ذكر من الأجوبة (ليس فيه كذب) أي صريح (بل خبر صحيح صدق) أي هو قول حق (وقيل بل عرّض) بتشديد الراء وروي في قوله (بسقم حجّته عليهم) أي بعدم نفع موعظته لديهم (وَضَعْفِ مَا أَرَادَ بَيَانَهُ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ النّجوم التي كانوا يشتغلون بها) أي تعظيما لها إذ عمدة الناظر فيها التخمين وهو لا يجدي نفعا في مقام اليقين قيل كان القوم نجامين أي متعاطين لعلوم النجوم فأوهمهم أنه استدل بإمارة في علم النجوم على أنه سقيم وعرض بسقم حجته وضعف ما أراد من بيان بينته (وأنّه) أي إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان (أثناء نظره في ذلك) إليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 (وَقَبْلَ اسْتِقَامَةِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ سَقَمٍ) بفتحتين وبضم فسكون أي تغير باله (ومرض) حاله لديهم فجعل سقم حجته وضعف موعظته سقما مجازا عن تعب القلب (مع أنّه) أي إبراهيم عليه الصلاة والسلام (لم يشكّ هو) بل تيقن إيقانه (ولا ضعف إيمانه) بل قوي كل ساعة برهانه (ولكنّه ضعف) أي بيانه (في استدلاله عليهم وسقم نظره) أي فكره فيما يتوجه إليهم (كما يقال حجّة سقيمة ونظر معلول) اللغة الفصحى معل أو معلل فقد قال ابن الصلاح قول الفقهاء والمحدثين معلول مردود عند أهل العربية وقال النووي إنه لحن وقال صاحب المحكم والمتكلمون يستعملون لفظة المعلول كثيرا ولست منها على ثقة لأن المعروف إنما هو أعله فهم معل اللهم إلا أن يكون على ما ذهب إليه سيبويه في قولهم مجنون ومسلول من أنهما جاءا على جننته وسللته وإن لم يستعملا في الكلام استغناء عنهما بأفعلت وإذا أرادوا جن وسل فإنما يقولون حصل فيه الجنون والسل (حتّى ألهمه الله باستدلاله) أي الواضح لديهم (وَصِحَّةِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ بِالْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَا نصّه الله تعالى) أي ما صرحه وفي نسخة ما قصه أي حكاه حيث ذكر تبيانه (وقدّمنا) وفي نسخة وقد قدمنا (بيانه) أي ما يوضح حجته وبرهانه (وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الْأَنْبِيَاءِ: 63] الآية) أي فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (فإنّه علّق خبره) أي بفعل كبيرهم (بشرط نطقه) مع غيره (كأنّه قال إن كان ينطق) أي كبيرهم (فهو فعله) مع علمه بأنه لا ينطق فهو (على طريق التّبكيت) أي التوبيخ والتقريع (لقومه) في اعتقادهم الفاسد وزعمهم الكاسد في ألوهية كواكب وحجارة لا تضر ولا تنفع وتعظيمهم لها وعبادتهم إياها (وهذا) القول بهذا المعنى (صدق) أي وحق (أيضا ولا خلف فيه) أصلا؛ (وَأَمَّا قَوْلُهُ أُخْتِي فَقَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ) أي الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لم يكذب إبراهيم فذكره (وقال إنّك) وفي نسخة فَإِنَّكِ (أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ صِدْقٌ وَاللَّهُ تعالى يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] ) وقد روي أنها كانت بنت عمه ومثل هذه قد يقال لها الأخت في النسب أيضا (فإن قلت هذا) وفي نسخة فهذا (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قد سمّاها) أي الكلمات الثلاث (كِذْبَاتٍ وَقَالَ لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ وَقَالَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ وَيَذْكُرُ كِذْبَاتِهِ) على ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (فمعناه) أي معنى وصفها بكونها كذبات (أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلَامٍ صُورَتُهُ صُورَةُ الْكَذِبِ وإن كان حقّا في الباطن) أي في نفس الأمر (إلّا هذه الكلمات) أي الثلاث وهي إني سقيم وفعله كبيرهم وهذه أختي (وَلَمَّا كَانَ مَفْهُومُ ظَاهِرِهَا خِلَافَ بَاطِنِهَا أَشْفَقَ إبراهيم عليه الصلاة السّلام) أي خاف (من مؤاخذته) وفي نسخة بمؤاخذته (بها) لعلو شأن الأنبياء عن الكناية بالحق في باب الانباء فيقع ذلك منهم موقع الكذب من غيرهم فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين الأحرار (وأمّا الحديث) أي الذي رواه الشيخان عن كعب بن مالك (كان النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أراد غزوة) أي ويريد سترها (ورّى بغيرها) بتشديد الراء من التورية وهي الإخفاء وكأنه جعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 الشيء وراءه وجعل غيره نصب عينه وقيل روى ستر مقصده وأظهر غيره بأن سئل عن طريق لا يريده فإنه كان عليه الصلاة والسلام يسأل عن ناحية وطريقها ويخرج إلى غيرها لئلا يأخذ العدو حذره (فَلَيْسَ فِيهِ خُلْفٌ فِي الْقَوْلِ إِنَّمَا هُوَ ستر لمقصده) وفي نسخة ستر مقصده بالإضافة وفي أخرى ستر بصيغة الماضي ونصب مقصده أي أخفى جهة قصده خوفا من اشتهاره (لئلّا يأخذ عدوّه حذره) بكسر أوله أي احتراسه واحترازه (وكتم وجه ذهابه) بالإضافة وفي نسخة بصيغة الماضي وفي أخرى كتم لوجه ذهابه أي جهة مقصده وطريق مطلبه (بِذِكْرِ السُّؤَالِ عَنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَالْبَحْثِ عَنْ أخباره) أي أحوال الموضع الآخر (والتّعريض بذكره) أي التلويح به وعدم التصريح بمقصده وقد ورد استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان وفي الصحيح الحرب خدعة (لَا أَنَّهُ يَقُولُ تَجَهَّزُوا إِلَى غَزْوَةِ كَذَا أو وجهتنا) بكسر الواو أي جهة قصدنا (إلى موضع كذا خلاف مقصده) ليكون خلفا (فهذا لم يكن) ولا يتصور أن يكون منه عليه الصلاة والسلام (والأوّل) وهو التعريض (ليس فيه خبر يدخله الخلف) بضم الخاء أي الإخلاف فيترتب عليه الكذب في القول. (فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ سُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أنا أعلم) بناء على ظنه (فعتب الله عليه ذلك) حيث لم ينتظر الوحي هنالك أو لم يفوض (إذ لم يردّ العلم إليه تعالى) بأن يقول الله تعالى أعلم أو يقول أنا والله اعلم ومن هنا تأدب العلماء في أجوبتهم بقول والله تعالى اعلم (الحديث) رواه الشيخان عن أبي بن كعب مطولا (وفيه قال) أي الله تعالى (بل) وفي رواية بلى (عبد لنا بمجمع البحرين) وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق وقال السهيلي هو بحر الأردن وبحر القلزم وقيل غيره (أعلم منك) أي في بعض العلوم لما في الحديث يا موسى إني على علم علمنيه الله تعالى لا تعلمه وأنت على علم علمك الله لا اعلمه وذكر السهيلي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن حكمة لله تعالى في جمع موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام عند مجمع البحرين أنهما بحران أحدهما اعلم بالظاهر أعني علم الشرعيات وما يتعلق بالذات والصفات وهو موسى عليه السلام والآخر اعلم بالباطن وأسرار الملكوت من الكائنات وهو الخضر عليه السلام فكأن اجتماع البحرين بمجمع البحرين هذا وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن موسى عليه الصلاة والسلام ذكر الناس يوما حتى فاضت العيون ورقّت القلوب فأدركه رجل فقال أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك قال لا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إلى الله تعالى (وهذا) أي قول موسى أنا أعلم (خبر قد أنبأنا الله تعالى أنّه ليس كذلك فاعلم أنّه) أي الشأن (وقع) وفي نسخة قَدْ وَقَعَ (فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَلْ تَعْلَمُ أحدا) أي من الناس (أعلم منك) ينصب اعلم على أنه مفعول ثان وفي نسخة برفعه فتقديره هو أَعْلَمَ مِنْكَ (فَإِذَا كَانَ جَوَابُهُ عَلَى عِلْمِهِ) أي مبنيا على ما غلب عنده من علمه (فهو) أي قوله أنا اعلم بهذا الوجه (خَبَرُ حَقٍّ وَصِدْقٍ لَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 خلف فيه ولا شبهة) مؤكدات لكونه خبرا حقا؛ (وعلى الطّريق الآخر) أي المروي عن أبي ابن كعب كما مر (فمحمله على ظنّه) أي الغالب (ومعتقده) أنه اعلم بحسب علمه (كما لو صرّح به) أي بظنه ومعتقده كان يقول أنا اعلم فيما أظن واعتقد وإنما ظن ذلك واعتقد بما ذكر هنالك (لأنّ حاله) أي مرتبته (في النّبوّة) المؤيدة بالرسالة (والاصطفاء يقتضي ذلك) أي كونه اعلم الناس في زمانه (فَيَكُونُ إِخْبَارُهُ بِذَلِكَ أَيْضًا عَنِ اعْتِقَادِهِ وَحُسْبَانِهِ) بكسر أوله لا بضم أوله كما وهم الدلجي أي ظنه (صدقا لا خلف فيه) فلا إشكال فيه أصلا (وقد يريد بقوله أنا أعلم) متعلقا خاصا وهو ما بينه بقوله (بما يقتضيه وظائف النّبوّة من علوم التّوحيد) المتعلقة بالذات والصفات (وأمور الشّريعة) أي وظائف العبادات (وسياسة الأمّة) أي بحدودها الزواجر والمنهيات وهو لا ينافي أن يكون غيره أعلم منه في غيرها كما ورد أنتم اعلم بأمور دنياكم وكما عرف في قضية الهدهد قوله أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وكما وقع لعمر في موافقاته فإنه قد يكون في المفضول ما لا يكون في الفاضل مما لا ينقص في فضله ومن هنا ورد في معرفة الأنساب علم لا ينفع وجهل لا يضر بل وقد يكون بعض العلوم مضرته أكثر من منفعته فلا محذور حينئذ أن يكون بعض أفراد الأمة اعلم بوجه من صاحب النبوة (ويكون الخضر أعلم منه) أي من موسى ولو كان من أمته على القول بولايته أو نبوته (بأمور أخر) اختص بها (مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تعالى) له إياها (من علوم غيبه) الخاص به وفي نسخة من علوم غيبية (كالقصص المذكورة في خبرهما) من قضية السفينة والغلام والجدار (فكان موسى أعلم) الناس مطلقا (على الجملة) أي عموما (بما تقدّم) من علوم النبوة والرسالة وأمور الشريعة وأحكام السياسية (وهذا) أي الخضر عليه الصلاة والسلام (أعلم على الخصوص بما أعلم) بصيغة المجهول أي بما اعلمه سبحانه وتعالى (ويدلّ عليه) أي على أن ما اعلمه خاص (قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا) أي مما يختص علمه بنا (عِلْماً [الكهف: 65] ) بطريق الوحي الجلي والخفي (وعتب الله) بسكون التاء أي ويدل عليه عتابه سبحانه وتعالى (ذلك) أي قوله أنا اعلم (عليه فيما قاله العلماء) أي المحدثون (إنكار هذا القول عليه لأنّه) كما في حديثه (لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا أَوْ لأنّه) أي الله سبحانه وتعالى (لم يرض قوله) أي لم يستحسن قول موسى عليه الصلاة والسلام أنا اعلم (شرعا) أي من جهته رعاية لأمته والمعنى لم يرض أن يكون قوله شرعا يقتدي به (وذلك) أي وسببه (وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ فِيهِ مَنْ لم يبلغ كماله) أي كمال موسى من جهة مرتبته (في تزكية نفسه) أي طهارة حالته (وعلوّ درجته من أمّته) متعلق بيقتدي (فيهلك) بالنصب أي يضيع من يقتدي به من أمته في قوله أنا اعلم من غير تفويض واستثناء (لما تضمّنه) أي قوله أنا اعلم (من مدح الإنسان نفسه) أي عند اطلاقه وقد قال الله تعالى فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (ويورثه ذلك) القول وهو أنا اعلم (من الكبر والعجب) إلا أن يكون تحدثا بنعمة ربه ظاهرا وباطنا (والتّعاطي) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 الاجتراء على الاعطاء وأخذ الأشياء (والدّعوى) الخارجة عن المعنى (وإن نزّه عن هذه الرّذائل) أي المذكورة (الأنبياء) بشرف مقاماتهم ورفع درجاتهم وإن تفاوتت في الفضائل والفواضل وحسن الشمائل (فغيرهم بمدرجة سبيلها) بفتح الميم والراء أي مسلك طريقها وفي نسخة سيلها أي ممرها (ودرك ليلها) بفتح الراء بأن يدركه ظلامها وفي أصل التلمساني نيلها بالنون أي يدركه فيصيبه ضررها ويحصل له خطرها (إلّا من عصمه الله تعالى) من الاتصاف بها أو التخلص عنها (فالتّحفّظ منها أولى لنفسه) قبل وقوعه فيها (وليقتدى به) بصيغة المجهول أي ليقتدي غيره به، (ولهذا) أي التحفظ أو الاقتداء (قال صلى الله تعالى عليه وسلم تحفّظا من مثل هذا) أي مدح النفس وما يترتب عليه له ولغيره (ممّا قد علم به) بصيغة المجهول وفي نسخة أعلم به (أنا سيّد ولد آدم) أي يوم القيامة على ما رواه مسلم وغيره (ولا فخر) أي لا أقوله افتخارا لنفسي بل تحدثا بنعمة ربي (وهذا الحديث) يعني سئل أي الناس أعلم (إحدى حجج القائلين بنبوّة الخضر لقوله) وفي نسخة بقوله أي الخضر (فيه) أي في حديثه (أنه) وفي نسخة أنا (أعلم من موسى) وهكذا وقع في كثير من الأصول وهو غير الصواب لأن الضمير المضاف إليه القول عائد حينئذ على الخضر والضمير المجرور بفي عائد على الحديث السابق وليس فيه أن الخضر قال أنا اعلم من موسى فالصواب ما في بعض النسخ وهو لقوله فيه أنا اعلم من موسى ويكون الضمير المضاف إليه القول عائدا إلى الله والضمير المنصوب بان عائدا على الخضر وقد سبق أن في الحديث بَلْ عَبْدٌ لَنَا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ أَعْلَمُ مِنْكَ (ولا يكون الوليّ أعلم من النّبيّ) أي جنس الأنبياء وفي نسخة من نبي وفيه أنه لا يجوز أن يكون الولي اعلم من النبي مطلقا لا كما بينه الخضر مقيدا (وأمّا الأنبياء فيتفاضلون في المعارف) كما قال تَعَالَى وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وكذا في الدرجات كما قال وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ (وبقوله وما فعلته عن أمري) أي من رأيي بل فعلته بأمر ربي؛ (فدلّ) (أنه بوحي) إما بواسطة ملك أو بدونها وأيضا ليس لولي يقدم على قتل صبي بمجرد ما ينكشف له بإعلام أو الهام أنه كافر في علم الله سبحانه وتعالى، (وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ قَالَ يُحْتَمَلُ أن يكون فعله) للأمور الثلاثة أو قتل الصبي فإن غيره لا يحتاج أن يكون (بأمر نبيّ آخر) كان في زمانه، (وهذا) القول (يضعف) أي ضعفا ظاهرا (لِأَنَّهُ مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى نَبِيٌّ غَيْرُهُ إِلَّا أَخَاهُ هَارُونَ وَمَا نقل أحد من أهل الأخبار) أي الأحاديث (في ذلك) أي في كون نبي غيرهما حينئذ (شيئا يعوّل عليه) أي يعتمد ويستند إليه ويستعان به لديه؛ (وإذا جعلنا) أي قول السائل لموسى هل تعلم أحدا (أعلم منك ليس على العموم) أي على إطلاقه (وإنّما هو) أي قول اعلم محمول (عَلَى الْخُصُوصِ وَفِي قَضَايَا مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَحْتَجْ إلى إثبات نبوّة خضر) وفيه أنه يشكل قتله الصبي على ما قدمنا فلا بد من القول بنبوته أو بوجود نبي غير موسى وهارون في مدته، (وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ كَانَ مُوسَى أَعْلَمَ مِنَ الْخَضِرِ فِيمَا أَخَذَ عَنِ اللَّهِ وَالْخَضِرُ أعلم) بالرفع أو النصب (فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 دفع إليه) بصيغة المجهول (من موسى) متعلق بأعلم وهذا بعينه في نفس الحديث تقدم، (وقال آخر) أي من الشيوخ (إنّما ألجىء) أي اضطر (موسى إلى الخضر للتّأديب) أي التهذيب (لا للتّعليم) ويرده قوله هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً الآيات. فصل (وأمّا ما يتعلّق بالجوارح) أي بالأركان (من الأعمال ولا يخرج) بالواو لا بالفاء كما في نسخة لأن جواب لما سيجيء والجملة فيما بينهما معترضة والتقدير والحال أنه لا يخرج (من جملتها) ويروى عن جملتها أي الأعمال (الْقَوْلُ بِاللِّسَانِ فِيمَا عَدَا الْخَبَرَ الَّذِي وَقَعَ فيه الكلام) من قسميه الذي سبيله البلاغ والذي ليس سبيله البلاغ من المرام (ولا الاعتقاد) أي ولا يخرج من جملتها أيضا الاعتقاد (بالقلب) لأن محله الجنان ويروى في القلب (فيما عدا التّوحيد) وما يتبعه من الإيمان والإسلام والإحسان ومراتب الإيقان والاتقان ما عقدت عليه قلوب الأنبياء (وما قدّمناه من معارفه المختصة به) أي بالقلب وأحواله فإنها لا تخرج من جملتها لأنها من أعماله (فأجمع المسلمون) أي السلف المعتمدون (على عصمة الأنبياء من الفواحش) أي قولا وفعلا وعقدا وهي الذنوب التي فحش قبحها وحرم على هذه الأمة ومن قبلها (والكبائر الموبقات) بكسر الموحدة أي المهلكات وهو عطف تفسير ويروى والموبقات والأولى مختصة بارتكاب السيئات والأخرى باجتناب العبادات (ومستند الجمهور) أي أكثر العلماء (في ذلك) أي في القول بعصمتهم (الإجماع الّذي ذكرناه) من المسلمين المتقدمين (وهو مذهب القاضي أبي بكر) أي ابن الطيب الباقلاني المالكي (ومنعها) أي عصمتهم (غيره) أي غير القاضي (بدليل العقل) لعدم احالته منع عصمتهم لإمكانه في نفسه (مع الإجماع) أي مع تكاثر قيامه عليها (وهو) أي الإجماع (قول الكافّة) أي عامة المتأخرين، (واختاره الأستاذ) بالدال المهملة والمعجمة (أبو إسحاق) الإسفراييني الشافعي ولعل هذا الخلاف لفظي والجواز وعدمه عقلي وإلا فلا خلاف في عصمة الأنبياء عن الكفر قبل النبوة وبعدها وإنما الخلاف فيما عداه من الكبائر والصغائر والجمهور على عصمتهم من الكبائر بخلاف ما سيأتي من الخلاف في الصغائر (وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ كِتْمَانِ الرّسالة) لقوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (والتّقصير في التّبليغ) أي ومن التقصير فيه لقوله فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ، (لأنّ ذلك) وفي نسخة لأن كل ذلك أي كل واحد من الكتمان والتقصير (يقتضي العصمة) بالنصب (منه المعجزة) بالرفع ويروى مقتضى الْعِصْمَةَ مِنْهُ الْمُعْجِزَةُ (مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ) أي على ما ذكر من أن عصمتهم من قبل الله تعالى باختيارهم وكسبهم واقتدارهم بمعنى أنه تعالى لم يخلق فيه كفرا ولا ذنبا كبيرا (من الكافّة) أي من جهة عامة العلماء، (والجمهور قائل) يروى وَالْجُمْهُورُ قَائِلُونَ (بِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ مُعْتَصِمُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَكَسْبِهِمْ إِلَّا حُسَيْنًا النّجّار) وفي نسخة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 خلافا للنجار من المعتزلة (فإنّه قال لا قدرة لهم) ويروى لا قوة لهم (على المعاصي أصلا) وهو بنون وجيم مشددة حسين بن محمد وإليه ينسب النجارية وهم اتباعه وهم يوافقون القدرية في بعض أصولهم من نفي الرؤية ونفي الحياة والقدرة ويقولون بحدوث الكلام والقدرية يكفرونهم بسبب مخالفتهم إياهم في بعض المسائل وهم أكثر من عشر فرق فيما بينهم كالبرغوثية والزعفرانية والمستدركية وغيرهم وهم فرقة من ثلاث وسبعين فرقة، (وأمّا الصّغائر فجوّزها) أي وجودها ووقوعها (جماعة من السّلف وغيرهم) من الخلف كإمام الحرمين منا وأبي هاشم من المعتزلة حيث جوزوا الصغائر غير المنفرة (عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وغيره من الفقهاء) أي المجتهدين (والمحدّثين والمتكلّمين) أي في أصول الدين والمراد بعض من كل منهم، (وسنورد بعد هذا) أي في فصل الرد على من أجاز الصغائر على الأنبياء (ما احتجّوا به) أي ما استدلوا به من الأدلة، (وذهبت طائفة أخرى إلى الوقف) أي التوقف في أمرهم (وقالوا العقل لا يحيل وقوعها) أي الصغائر ولا الكبائر (منهم ولم يأت في الشّرع) أي من الكتاب والسنة (قاطع بأحد الوجهين) أي بجواز صدورها عنهم، (وذهبت طائفة أخرى من المحقّقين من الفقهاء والمتكلّمين إلى عصمتهم من الصّغائر) المختلف في وقوعها منهم (كعصمتهم من الكبائر) أي المتفق على عدم صدورها عنهم، (قالوا لاختلاف النّاس في الصّغائر) أي في تعريفها وتبيينها (وتعيينها) أي وعدم تمييزها (من الكبائر وإشكال ذلك) أي ولاشتباه تعينها من بين الكبائر فقال بعضهم هي كل ما يجب فيه حد وقيل ما ورد فيه وعيد وقيل هي أمر وتوقف بعضهم عن الفرق (وقول ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) أي ولقوله (وَغَيْرِهِ إِنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فهو كبيرة) كما رواه ابن جرير عنه (وأنّه) بفتح الهمز أي وأن الشأن (إِنَّمَا سُمِّيَ مِنْهَا الصَّغِيرُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هو أكبر منه) كالمس والقبلة والمعانقة والمعالجة بالنسبة إلى المجامعة فكل باعتبار ما فوقه صغير وما تحته كبير وكلها معصية حتى الخلوة بالأجنبية (ومخالفة الباري في أيّ أمر كان يجب كونه كبيرة) أي من حيث إنها مخالفة لصاحب الكبرياء والعظمة وإلا فلا شبهة في تفاوت مراتب المخالفة ولذا قال تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وقال عز وجل الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ أي الصغائر وقد أنشد صلى الله تعالى عليه وسلم: إن تغفر اللهم فاغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما وعن أبي العالية اللمم ما بين حد الدنيا وحد الآخرة أي بين ما يجب به الحد في الدنيا كشرب الخمر والزنا وبين ما أوعد الله عليه العقاب في العقبى كعقوق الوالدين وأكل الربا وأموال اليتامى ظلما؛ (قال القاضي أبو محمد عبد الوهّاب) أي البغدادي المالكي صاحب الرحبة كان فقيها دينا له تصانيف جيدة العبارة منها كتاب المعونة في شرح الرسالة توفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 بمصر سنة اثنتين وأربعمائة ودفن بالقرافة الصغرى فيما بين قبة الإمام الشافعي وباب القرافة بالقرب من ابن القاسم وأشهب (لا يمكن أن يقال في) وفي نسخة إن في (إنّ في معاصي الله صغيرة) لما يلزم منه احتقار المعصية (إلّا على معنى أنّها تغتفر) وفي نسخة تغفر (باجتناب الكبائر) أي معها لا بعين اجتنابها فإنه مذهب المعتزلة بل بشرط اجتنابها لكن بسبب أعمال حسنة بينها الشارع وعينها (ولا يكون لها) في المؤاخذة بها (حكم مع ذلك) أي مع غفران الله تعالى لها (بخلاف الكبائر إذا لم يتب منها) بصيغة المفعول أو الفاعل (فلا يحبطها) أي لا يذهبها ولا يرفعها أو لا يهدمها ولا يبطلها (شيء) أي من الطاعات وإن كان ظاهر قوله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يشمل الصغائر والكبائر إلا أن علماء أهل السنة أجمعوا على أن المكفرات مخصوصة بالصغائر ويجوز أن الله تعالى يعذب عليها ويغفر ما فوقها (والمشيئة في العفو) أي فيما عدا الكفر (إلى الله تعالى) كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وفي نسخة في العفو عنها أي عن الصغائر والكبائر لا عن الصغائر كما هو المتبادر (وهو) أي ما ذهبوا إليه من عصمة الأنبياء من الكبائر والصغائر (قول القاضي أبي بكر) أي الباقلاني من المالكية رحمه الله تعالى (وجماعة أئمّة الأشعريّة) من باب عطف العام على الخاص إذ هو من أكابرهم (وكثير من أئمّة الفقهاء) كاتباع الماتريدية، (وقال بعض أئمّتنا) أي من أهل السنة أو المالكية (ولا يجب) أي ولا يثبت (على القولين) وهما قول العصمة وعدمها عقلا (أن يختلف) وكان الأظهر أن يقول ويجب على القولين أن لا يختلف (أنّهم) أي من أن الأنبياء (مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذلك) التكرار (بالكبائر) المختلف في عصمتهم منها فإن من جملة الكبائر الإصرار على الصغائر فقد ورد لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار (ولا في صغيرة) أي ولا يجب أيضا أن يختلف في صغيرة (أدّت إلى إزالة الحشمة) أي المهابة (وأسقطت المروءة) بالهمزة ويجوز ابدالها وادغامها وهي الفتوة وكمال الرجولية (وأوجبت الإزراء) بتقديم الزاء على الراء أي الحقارة (والخساسة) أي الدناءة، (فهذا) أي النوع من الصغائر (أيضا ممّا يعصم منه) ويروى عَنْهُ (الْأَنْبِيَاءُ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَحُطُّ منصبه) أي يضع منصب النبي ويروى منصب المتسم أي الموصوف به (ويزري) بفتح أوله على أن الباء للتعدية في قوله (بصاحبه) أي يحقره وينقصه (وينفّر) بتشديد الفاء أي يطرد (القلوب عنه) أي عن قبول كلامه وحصول مرامه (وَالْأَنْبِيَاءُ مُنَزَّهُونَ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ يَلْحَقُ بِهَذَا) أي في التنزه (ما كان من قبيل المباح) الذي لا تبعة على فاعله ولا مذمة (فأدّى إلى مثله) أي إلى شبه ما ينزهون عنه (لِخُرُوجِهِ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ عَنِ اسْمِ الْمُبَاحِ إلى الحظر) بفتح الحاء المهملة وسكون الظاء المعجمة أي المنع، (وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عِصْمَتِهِمْ مِنْ مُوَاقَعَةِ المكروه) أي فعله أو قوله (قَصْدًا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ من الصّغائر بالمصير) متعلق باستدل أي بمرجع الأمم (إلى امتثال أفعالهم) أي افعال الأنبياء (واتّباع آثارهم وسيرهم) ويروى سيرتهم أي أحوالهم وأقوالهم (مطلقا) أي من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 غير قيد أن تقع أفعالهم وأقوالهم قصدا كما قال تَعَالَى أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وقال قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي، (وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ والشّافعيّ وأبي حنيفة) رحمهم الله تعالى لم ينصف المصنف في ترتيب ذكر الأئمة لا سيما في تأخير أبي حنيفة عن الشافعي مع أنه مقدم على الكل مدة ورتبة (من غير التزام قرينة) دالة على وقوع قصد وتعمد في أفعالهم (بَلْ مُطْلَقًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حكم ذلك) أي في حكم اتباعهم من وجوب أو ندب هنالك، (وحكى ابن خويز منداذ) بضم الخاء المعجمة وفتح الواو المخففة وسكون التحتية وفتح زاء أو كسرها وكسر ميم وسكون نون فدال مهملة فألف فذال معجمة أو فذالين معجمتين بينهما الف تفقه على الأبهري وهو ضعيف في الرواية مات في حدود الأربعمائة (وأبو الفرج) هو المالكي صاحب كتاب الحاوي مات سنة ثلاثين وثلاثمائة (عن مالك التزام ذلك) أي ما صدر عنهم (وجوبا وهو قول الأبهريّ) بفتح الهمزة والهاء بلد عظيم بين قزوين وزنجان وجبل بالحجاز قال التلمساني هم جماعة أكبرهم التميمي مات سنة خمس وسبعين وثلاث مائة (وابن القصّار) بتشديد الصاد (وأكثر أصحابنا) أي المالكية (وقول أكثر أهل العراق) أي الثوري وأصحاب أبي حنيفة (وابن سريج) بسين مهملة مضمومة وفي آخره جيم وهو أبو العباس البغدادي أخذ عن الأنماطي بلغت مصنفاته أربعمائة توفي سنة ست وثلاثمائة وعمره سبع وخمسون سنة قال الشيخ أبو إسحاق تفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى على المزني (والإصطخريّ) بكسر الهمزة وتفتح وبفتح الطاء وسكون الخاء المعجمة وهو شيخ ابن سريج صنف كتبا كثيرة منها أدب القضاء استحسنه الأئمة وكان زاهدا متقللا من الدنيا كان من أخلاقه حدة ولاه المقتدر بالله قضاء سجستان ثم حسبة بغداد ولد سنة أربعين ومائتين وتوفي ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ودفن بباب حرب (وابن خيران) الخاء المعجمة وسكون التحتية فراء فألف فنون البغدادي مات سنة عشرين وثلاثمائة كان إماما جليلا وربما كان يعتب على أن سريج في ولايته للقضاء ويقول هذا الأمر لم يكن في أصحابنا إنما كان في أصحاب أبي حنيفة وطلبه الوزير ابن الفرات بأمر الخليفة للقضاء فامتنع فوكل ببابه وختم عليه بضعة عشر يوما حتى احتاج إلى الماء فلم يقدر عليه إلا بمناولة بعض الجيران فبلغ الخبر إلى الوزير فأمر بالإفراج عنه وقال ما أردنا بالشيخ أبي علي الأخيرا أردنا أن نعلم أن في مملكتنا رجلا يعرض عليه قضاء القضاة شرقا وغربا وفعل به مثل هذا وهو لا يقبل (من الشّافعيّة) أي المذكورون هو ومن قبله من علماء الشافعية ذهبوا إلى وجوب اتباع افعال الانبياء (وأكثر الشّافعيّة على أنّ ذلك ندب، وذهبت طائفة) أي منهم أو غيرهم (إلى الإباحة) إلا إذا قام دليل على الوجوب أو الندب. (وقيّد بعضهم الاتّباع) أي وجوبا أو ندبا (فِيمَا كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَعُلِمَ بِهِ مقصد القربة) أي التقرب في الأحوال الأخروية (ومن قال بالإباحة في أفعاله) أي في اتباع أفعال النبي عليه الصلاة والسلام (لم يقيّد) أي اتباعهم بما تقدم (قال) أي ذلك البعض (ولو جوّزنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 عليهم الصّغائر) أي فضلا عن الكبائر (لم يمكن الاقتداء بهم في أفعالهم) لعدم علمنا بمقاصدهم وأحوالهم، (إذ ليس كلّ فعل من أفعاله) أي كغيره منهم ويروى من أفعالهم (يتميّز مقصده) بكسر الصاد أي مطلبه أو قصده كما في نسخة أي نيته ومستور طويته (به) أي بعمله الذي قصده أهو (من القربة) واجبا أو ندبا (أو الإباحة) مما لا يترتب على فعله مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب (أو) من (الحظر) أي المنع حراما أو مكروها أو خلاف الأولى (أو المعصية) أي المخالفة في الجملة ويروى والمعصية، (وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْمَرَ الْمَرْءُ بِامْتِثَالِ أَمْرٍ لعلّه معصية لا سيّما) أي خصوصا (عند من يرى من الأصوليّين) أي في الفقه (تقديم الفعل) من الأدلة (على القول إذا تعارضا) وجهل المتأخر منهما وهم أصحاب الشافعي فأما عندنا فيرجح القول على الفعل لأنه أدل على كونه للقربة لاحتمال أن الفعل وقع وفق العادة أو بحسب ما يناسب تلك الحالة ولذا قال اصحابنا إن الاعتمار من التنعيم أفضل منه من الجعرانة خلافا للشافعية مع أن عمرة عائشة كانت متأخرة حيث وقعت عام حجة الوداع وعمرة الجعرانة كانت سنة الفتح، (ونزيد) أي نحن (هذا) المبحث (حجّة) أي تزيل شبهة من زعم عدم إمكان الاقتداء بالأنبياء لإبهام أفعالهم من بين ما سبق من الأشياء (بِأَنْ نَقُولَ مَنْ جَوَّزَ الصَّغَائِرَ وَمَنْ نَفَاهَا عن نبيّنا عليه الصلاة والسلام) وكذا عن سائر الأنبياء عليهم السلام (مجمعون على أنّه) أي كغيره منهم (لا يقرّ) بضم ياء وفتح قاف وتشديد راء وأخطأ الحلبي في قوله يقر بكسر القاف وتبعه غيره من المحشيين وقال الأنطاكي أي لا يقر غيره على منكر والصواب ما قدمناه وأن المعنى لا يبقى ولا يترك (على منكر من قول أو فعل) بل ينبه ويذكر لينتهي عنه ولم يتكرر واختلفوا هل من شرط ذلك الفور أم يصح على التراخي قبل وفاته عليه الصلاة والسلام والصحيح الأول (وأنّه) أي النبي عليه الصلاة والسلام (متى رأى شيئا) أي علم من أمته قولا أو فعلا (فسكت عنه صلى الله تعالى عليه وسلم عنه) أي لم ينكر على فاعله (دلّ) سكوته (على جوازه) ويسمى مثل هذا تقريرا (فكيف يكون هذا) التقرير (حاله في حقّ غيره ثمّ يجوّز) مضارع جاز وفي نسخة بصيغة المفعول من التجويز وفي أخرى بصيغة المتكلم منه والمعنى كيف يتصور (وُقُوعُهُ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ وَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ) أي المذكور سابقا (تجب عصمته مِنْ مُوَاقَعَةِ الْمَكْرُوهِ كَمَا قِيلَ وَإِذِ الْحَظْرُ) أي المنع عن ترك الاقتداء على وجه الحرمة وكان الأظهر أن يقول إذ الوجوب (أَوِ النَّدْبُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِفِعْلِهِ يُنَافِي الزَّجْرَ والنّهي عن فعل المكروه) أي لغيره؛ (وأيضا فقد علم من دين دين الصّحابة) أي دأبهم وعادتهم (قطعا الاقتداء بأفعال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كيف توجّهت وفي كلّ فنّ) وفي نسخة وفي كل فن أي ومن دينهم الاقتداء بأفعاله في كل فن أي نوع من أفعاله قصدا أو سهوا من غير تفرقة بين فعل من أفعاله (كالاقتداء بأقواله) أي اتفاقا (فقد نبذوا خواتيمهم) أي طرحوها (حين نبذ خاتمه) بكسر التاء وفتحها على ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة والسلام اتخذ له خاتما من ذهب ثم نبذه فاقتدوا به وروي أنه عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 الصلاة والسلام اتخذ خاتما من ذهب ثم نبذه ثم اتخذ خاتما من ورق (وخلعوا نعالهم) كما رواه أحمد وأبو داود (حين خلع صلى الله تعالى عليه وسلم) ويروى خلع نعله ولفظ الحاكم عن أبي سعيد صلى الله تعالى عليه وسلم في نعليه ثم نزع فنزع الناس نعالهم وعن ابن سعيد الخدري قال بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم فلما قضى صلاته قال ما حملكم على القائكم نعالكم قالوا رأيناك القيت نعليك فقال إن جبريل اخبرني أن فيهما قذرا الحديث ويناسب الباب حديث الصلاة إلى القبلتين ومتابعة الصحابة له في الجهتين (واحتجاجهم) بالرفع أي ومن دين الصحابة استدلالهم بجواز محاذاة القبلة حال قضاء الحاجة استقبالا واستدبارا (برؤية ابن عمر إيّاه) كما في حديث الشيخين عنه قال رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (جالسا لقضاء حاجته مستقبلا بيت المقدس) ورواية المصابيح مستدبر القبلة مستقبل الشام مع نهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن الاستقبال والاستدبار في تلك الحال كما في حديث الشيخين عن أبي أيوب إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا فجمع الشافعي بينهما بحمل رواية ابن عمر على البناء ورواية أي أيوب على الفضاء وهو عندنا محمول على الضرورة أو على ما قبل النهي (واحتجّ غير واحد) من الصحابة أو الأئمة أي كثير (منهم في غير شيء) أي واحد بل في اشياء كثيرة ويروى في رؤية شَيْءٍ (مِمَّا بَابُهُ الْعِبَادَةُ أَوِ الْعَادَةُ بِقَوْلِهِ) أي الصحابة كأنس رضي الله تعالى عنه فيما رواه الشيخان أنه قدم من سفر فرؤي على حمار يصلي لغير القبلة يومي فقيل له فقال (رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفعله) ولعله عليه الصلاة والسلام كان فعله خارج البلد فأخذ أنس بجوازه مطلقا وكذا ابن عمر سئل عن أشياء فعلها فقال رأيته صلى الله تعالى عليه وسلم يفعله (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الموطأ عن عطاء بن يسار أن رجلا قبل أمرأته وهو صائم فوجد من ذلك وجدا شديدا أي حزن حزنا كبيرا فأرسل امراته تسأل عن ذلك فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقبل وهو صائم فأخبرت زوجها فقال لسنا مثل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحل الله لرسوله ما يشاء فرجعت امرأته إلى أم سلمة فوجدت عندها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ما بال هذه المرأة فأخبرته أم سلمة فقال (هلّا خبّرتيها) بتشديد الموحدة وإشباع كسرة التاء ياء وفي نسخة هلا أخبرتيها أي المرأة التي سألتك (أنّي أقبّل وأنا صائم) فقالت قد أخبرتها وذهبت إلى زوجها فأخبرته فقال لسنا مثل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحل الله لرسوله ما يشاء فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال إني اتقاكم لله وأعلمكم بحدوده (وقالت عائشة محتجّة) أي مستدلة بجواز تقبيل الرجل وهو صائم (كُنْتُ أَفْعَلُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) لا يعرف مخرجه على ما ذكره الدلجي وإنما المعروف غسلها مع رسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 الله صلى الله تعالى عليه وسلم في إناء واحد على ما رواه الترمذي وكذا في الترمذي عن عائشة إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل فعلته أنا ورسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) كما مر في حديث الموطأ (على الذي أخبر) بصيغة المجهول (بمثل هذا) أي تقبيله وهو صائم (عنه) أي عن النبي عليه الصلاة والسلام (فقال يُحِلُّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَا يَشَاءُ وَقَالَ إِنِّي لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده) وروي أن رجلا جاء يستفتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال تدركني الصلاة يعني صلاة الفجر وأنا جنب فأصوم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال الرجل يحل الله لرسوله ما يشاء فغضب عليه الصلاة والسلام وقال لأني لأخشاكم لله وأعملكم بحدوده أي محارمه حيث قال تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها مبالغة في الزجر عنها وأما قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها فالمراد منها سهام المواريث المعينة وتزوج الزائدة على الأربع وزيادة الحد على جلد المائة في الزاني والزانية ونحوها من الأحكام المبينة (والآثار) أي الأحاديث والأخبار (في هذا) الباب (أعظم) وفي نسخة أكثر (من أن نحيط) أي نحن (بها) وفي نسخة من أن يحاط عَلَيْهَا (لَكِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا عَلَى الْقَطْعِ) في مدلولها (اتّباعهم) أي الصحابة (أَفْعَالَهُ وَاقْتِدَاؤُهُمْ بِهَا وَلَوْ جَوَّزُوا عَلَيْهِ الْمُخَالَفَةَ في شيء منها) أي من أفعاله (لمّا اتّسق) أي لما استوى وما انتظم ولا تحقق (هذا) الذي سبق (ولنقل عنهم) أي خلاف ما هناك (وَظَهَرَ بَحْثُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلَمَا أَنْكَرَ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْآخَرِ قَوْلَهُ وَاعْتِذَارُهُ بِمَا ذكرناه) بأن الله يحل لرسوله ما يشاء، (وأمّا المباحات) ولو على سبيل المشتهيات (فجائز وقوعها منهم) بل متحقق صدورها عنهم (إذ ليس فيها قدح) أي منع (بَلْ هِيَ مَأْذُونٌ فِيهَا وَأَيْدِيهِمْ كَأَيْدِي غَيْرِهِمْ من الأمم مسلّطة عليها) بجواز الامتداد إليها فقد ورد في الحديث أن الله سبحانه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وقال عز وجل يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً (إلّا أنّهم) أي الأنبياء وكذا اتباعهم الكمل من الأصفياء (بما خصّوا به من رفيع المنزلة) ومنيع الحالة (وشرحت) أي وبما اتسعت (لهم صدورهم من أنوار المعرفة) أي وأسرار الحكمة (واصطفوا) بصيغة المجهول مخففة الفاء من الاصطفاء أي واختيروا (به) في علو حالهم (من تعلّق بالهم) أي قبلهم وتعلق حالهم ويروى من تعلق بالتنوين وبالهم بتشديد الميم (بالله والّدار الآخرة) في مآلهم (لا يأخذون) أي لا يتناولون شيئا (من المباحات إلّا الضّرورات) لزهدهم في الدنيا وتوجههم إلى العقبى وطلبهم رضى المولى فيكتفون بها (ممّا يتقوّون) أي استعانة (به على سلوك طريقهم) في تقوية أبدانهم وتهيئة زادهم لمعادهم (وصلاح دينهم) المتوقف على إصلاح شأنهم (وضرورة دنياهم) المعينة على أمور أخراهم مما لا بد منه ولا محيص عنه (وما أخذ على هذه السّبيل) أي وفق الشريعة والطريقة (التحق) ضبط بصيغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 المجهول والمعلوم أي انقلب (طاعة وصار قربة) لأن استعمال المباحات وأفعال العادات إذا اقترنت بتزيين النيات وتحسين الطويات طاعات انقلبت وعبادات كما قد تنقلب بفساد النيات مكروهات بل محرمات وهذا معنى قول سيد السادات ومنبع السعادات إنما الأعمال بالنيات (كما بيّنا منه) أي من بعض تحقيق هذا الكلام وتدقيق هذا المرام (أوّل الكتاب) أي في أوله (طرفا) أي نبذا طرفا (في خصال نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم؛ فبان لك) أي تبين (عظيم فضل الله على نبيّنا) أي خصوصا كما قال تعالى وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (وعلى سائر أنبيائه) يروى الأنبياء (عليهم الصلاة والسّلام) كما قال تَعَالَى وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ (بأن جعل أفعالهم قربات وطاعات) أي عبادات وإن كانت في صورة عادات فإن عادات السادات سادات العادات (بعيدة عن وجه المخالفة ورسم المعصية) بخلاف المحرومين من هذه المرتبة فإن عباداتهم رسوم وعادات وطاعاتهم عين المخالفة في الحالات كما قال بعض أرباب الحال من لم يكن للوصال أهلا فكل طاعاته ذنوب. فصل [وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَبْلَ النبوة] (وقد اختلف في عصمتهم) أي الأنبياء (من المعاصي) أي جملة المناهي (قبل النّبوّة) وإظهار الرسالة (فمنعها قوم) بناء على عموم العصمة الشاملة للأحوال المتقدمة والمتأخرة (وجوّزها آخرون) حيث خصوا العصمة بحال النبوة (وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَنْزِيهُهُمْ مَنْ كُلِّ عيب) أي سابق ولا حق (وعصمتهم من كلّ ما يوجب الرّيب) أي شبهة مخالفة علام الغيب (فكيف) لا يكون الأمر كذلك والعجب من ذكر الخلاف هنالك (والمسألة) أي والحال أنها مع ثبوت المخالفة (تصوّرها كالممتنع) أي المستحيل في الذهن حصولها (فإنّ المعاصي) كالكبائر (والنّواهي) كالصغائر (إنّما تكون) أي في حيز المنع (بعد تقرّر الشّرع) أي ثبوته من الأصل والفرع (وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَالِ نَبِيِّنَا صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ هَلْ كان متّبعا للشّرع) وفي نسخة لِشَرْعٍ (قَبْلَهُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ لَمْ يكن متّبعا لشيء) أي من التكاليف أو لشرع كما في نسخة (وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ فَالْمَعَاصِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ) ويروى هذا الوجه (غَيْرُ مَوْجُودَةٍ وَلَا مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّهِ حِينَئِذٍ إذ الأحكام الشّرعيّة) من الوجوب والمندوب والحرام والمكروه (إنّما تتعلّق بالأوامر والنّواهي وتقرّر الشّريعة) أي بأصولها وفروعها كما هي وهذا بالنسبة إلى نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهر لكن يشكل بالنسبة إلى أولاد إبراهيم عليه السلام مثلا كإسماعيل وإسحاق وأولاد يعقوب على القول بنبوتهم فإنه لا شك أنهم كانوا متبعين شريعة أبيهم أو جدهم وكذا بالنسبة إلى سليمان عليه السلام فإنه كان على دين أبيه داود بل وكذا داود وسائر أنبياء بني إسرائيل حيث كانوا على شريعة إبراهيم عليه السلام وإنما نسخ في التوراة والإنجيل بعض الأمور وأيضا بنو إسماعيل وهم العرب كانوا يتدينون بدين إبراهيم عليه السلام ويفتخرون به وإنما حدث كفرهم عبادتهم الأصنام وإحداث بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 الأحكام من نحو السائبة والحام وتجويز أكل الميتة ونحوها من الحرام وكان في جبلتهم وطريقتهم تحريم الزنى وقتل النفس بغير حق وتقبيح أكل مال اليتيم والسرقة ومذمة الكذب وأمثالها مما اتفق الأنبياء القدماء على قبح أفعالها وأقوالها فينبغي أن يرجع الخلاف إلى كيفية عبادته لأنه عليه السلام كان قبل النبوة في مرتبة إباحته (ثُمَّ اخْتَلَفَتْ حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَيْهَا) أي على صحة تلك الحالة أو المقالة (فذهب سيف السّنّة) أي القاطع في الحجة المبينة (ومقتدى فرق الأمّة) أي في علم الكلام والمسائل المهمة (القاضي أبو بكر) أي ابن الطيب الباقلاني المالكي (إلى أن طريق العلم بذلك) أي بكونه عليه الصلاة والسلام متبعا للشرع في عبادة ربه هنالك (النّقل) أي إلينا ووصل لدينا أي فوائد الأثر (وموارد الخبر من طريق السّمع) أي الوارد على ألسنة نقلة يكونون في مرتبة الجمع (وحجّته) أي القاضي أبي بكر (أنّه) أي الشأن (لو كان ذلك) أي وقع هنالك (لنقل) أي إلينا ووصل لدينا (ولما أمكن كتمه وستره في العادة) أي في جري العادة الغالبة علينا (إذ كان) أي نقل خبره (مِنْ مُهِمِّ أَمْرِهِ وَأَوْلَى مَا اهْتُبِلَ بِهِ) بضم الفوقية وكسر الموحدة أي اغتنم به في انتهاز فرصة لكونه تعبده (من سيرته ولفخر) بفتح الخاء أي لافتخر (به أهل تلك الشّريعة) على أمته (ولا احتجّوا به عليه) أي باتباع شريعة قلبه بعد ادعاء نبوته (ولم يؤثر) أي لم يرو (شيء من ذلك جملة) في سيرته من سريرته وعلانيته وفيه أن الظاهر المتبادر من حاله عليه الصلاة والسلام أنه كان قبل النبوة على دين جده الخليل عليه السلام في أمر التوحيد وحج البيت السعيد وما كان معروفا من ملته وما الهمه الله سبحانه من معرفته مع أنه لا احتجاج لأحد من أربا الملل إذ كان بعضهم يدعي النبوة بعد متابعة بعض الأنبياء السابقة كما وقع لأنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام، (وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا) حيث لم يجدوا بتصريح القضية نقلا (قالوا لأنّه) أي الشأن (يبعد أن يكون متبوعا من عرف) ويروى من كان (تابعا، وبنوا هذا على التّحسين والتّقبيح) العقليين (وهي طريقة غير سديدة) أي غير مستقيمة (وَاسْتِنَادُ ذَلِكَ إِلَى النَّقْلِ كَمَا تَقَدَّمَ لِلْقَاضِي أبي بكر أولى وأظهر) وقد قدمنا من بيان النقل ما يبطل ما بنوا عليه اساس العقل ومما يقويه أن موسى عليه السلام لما قتل القبطي قبل النبوة استغفر ربه وعد قتله معصية ولا شك أنه كان على دين من قبله من انبياء بني إسرائيل وتابعا ثم صار بعد ذلك متبوعا وإنما العقل يمنع في الجملة امتناع كون واحد تابعا ومتبوعا من جهة واحدة لا من جهة مختلفة ألا ترى إلى قوله تعالى فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ فإنه كان تابعا لإبراهيم عليه السلام في عموم ملته ومتبوعا في خصوص أمته ونظير ذلك كون عيسى عليه السلام متبوعا في أول أمره ويكون تابعا لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم في آخر عصره، (وقد قالت فرقة أخرى بالوقف في أمره عليه السلام) أي في شأنه قبل بعثته للعجز عن معرفته (وترك قطع الحكم عليه) أي على حاله هنالك (بشيء في ذلك إذ لم يحل) من الإحالة وفي نسخة إذ لا يحيل أي لم يمنع (الوجهين منها العقل ولا استبان عندها) أي تلك الطائفة أو المسألة (في أحدهما) أي أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 الوجهين (طريق النّقل وهو مذهب أبي المعالي) أي ابن أبي محمد الجويني المعروف بإمام الحرمين من اتباع الشافعي وقد وافقه في ذلك الغزالي ولا أدري نصف العلم والعجز عن درك الإدراك إدراك، (وقالت فرقة ثالثة إنّه) ويروى ومالت فرقة ثالثة إلى أنه (كان عاملا بشرع من قبله) أي في الجملة لاستحالة أن يكون عليه الصلاة والسلام مباحيا قبل البعثة، (ثمّ اختلفوا) أي الفرقة الثالثة (هَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الشَّرْعُ أَمْ لَا فَوَقَفَ بعضهم عن تعيينه) لعدم ما يدل على تبيينه (وأحجم) بتقديم الحاء على الجيم أي تأخر وبعكسه أي تقدم أو تأخر فهو من الاضداد (وجسر بعضهم) أي اجترأ واقتحم ومنه قول الشاعر: من راقب الناس مات غما ... وفاز باللذة الجسور والمعنى أقدم (على التّعيين وصمّم) أي عزم عليه وجزم، (ثمّ اختلفت هذه المعيّنة) بكسر التحتية صفة الفرقة (فيمن كان يتّبع) من أرباب النبوة قبل البعثة (فقيل نوح) وهو بعيد بحسب الزمان وكذا باعتبار معرفة أحكام هذا الشأن مع أن دينه منسوخ لظهور نبوة خليل الرحمن (وقيل إبراهيم) وهو الظاهر المتبادر والأظهر أنه تابع لإسماعيل فإنه كان رسولا بعد الخليل وهو على ملته ولم يعرف تبديل في شريعته (وقيل موسى) وهذا لا يصح إذ ملته نسخت بعيسى (وقيل عيسى) وفيه أن موسى وعيسى إنما كانا مبعوثين إلى بني إسرائيل ولم يكن نبينا منهم (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْمَذَاهِبِ فِي هذه المسألة) حكى القاضي المؤلف هذه الأقوال الأربعة وبقي قولان أحدهما آدم وهذا حكى عن ابن برهان بفتح الموحدة وثانيهما أن جميع الشرائع شرع له حكاه بعض شراح المحصول عن المالكية وأظن أن هذا هو الأوجه من الأوجه السابقة واللاحقة وهو المناسب لمقامه عليه الصلاة والسلام من مرتبة الجمع في المرام ولأنه كان مظهرا لاسم الذات المستجمع لجميع الصفات غايته أنه كان قبل البعثة على تلك الحالة الجامعة بطريق الإجمال وبعدها على وجه التفصيل في مراتب الكمال فلا ينافي قوله تعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وهذا هو غاية الإيقان ونهاية الاتقان والله المستعان (والأظهر فيها) أي في المسألة (ما ذهب إليه القاضي أبو بكر) الباقلاني (وأبعدها مذاهب المعيّنين) بكسر الياء المشددة (إِذْ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ) إلينا (كما قدّمناه ولم يخف) أي عن أحد (جملة) أي جميعا هنالك (وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي أَنَّ عِيسَى آخِرُ الأنبياء) أي أنبياء بني إسرائيل (فلزمت شريعته من جاء بعدها) وفي نسخة بعده (إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى عليه السلام) كما يدل عليه قوله تعالى وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ (بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ دَعْوَةٌ عامّة إلّا لنبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) فإن دعوته عامة للجن والإنس بل إلى الخلق كافة كما بينته في الصلاة العلية بخلاف دعوة نوح فإنه كان مختصا للإنس دون الجن وسليمان كان مبعوثا إليهما إلا أنه مخصوص ببني إسرائيل والله تعالى اعلم بحقيقة الأقاويل، (ولا حجّة أيضا للآخر) يروى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 للآخرين (فِي قَوْلِهِ: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل: 123] ) لأن أمره باتباعها إنما كان بعد الوحي إليه والكلام قبله (للآخر) أي وَلَا لِلْآخَرِينَ (فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشُّورَى: 13] ) فإذا أيضا بعد الوحي ومع هذا (فمحمل هذه الآية) وفي نسخة فمحتمل وفي أخرى فتحمل هذه الآية كما قبلها (على اتّباعهم في التّوحيد) أي توحيد الذات وتفريد الصفات وما يتعلق به من أمور النبوات والفروع الكليات المجمع عليها في جميع الحالات لاختلاف كل نبي فيما جاء كما قال الله تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وهذا (كقوله تعالى: أُولئِكَ) أي المذكورون من الأنبياء والاصفياء (الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أي هداهم واجتباهم واصطفاهم ومن متابعة الهوى زكاهم ونجاهم وعن المعاصي عصمهم ونحاهم (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] ) بسكون الهاء للسكت وفي قراءة بكسر الهاء وفي رواية بإشباعها والضمير إلى المصدر فتدبر (وقد سمّى الله تعالى فيهم) أي في الذين هدى الله (من لم يبعث) أي بالنبوة (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ شَرِيعَةٌ تَخُصُّهُ كَيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ لَيْسَ برسول) وهذا مردود بقوله تعالى وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ الآية نعم لم يعرف له شريعة تخصه وهو ليس من لوازم الرسالة (وقد سمّى الله تعالى جماعة منهم) أي من الأنبياء (في هذه الآية شرائعهم) وفي نسخة وشرائعهم (مختلفة لا يمكن الجمع بينها) أي من الأحوال المؤتلفة، (فدلّ) أي اختلافهم (أنّ المراد) يهديهم (مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ تعالى) بنعت التفريد ولا يبعد أن يكون بعض الشرائع المجمع عليها داخلا في الأمر بالاقتداء بجميع أفراد الأنبياء (وبعد هذا) الذي تقرر وتحرر (فَهَلْ يَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِمَنْعِ الِاتِّبَاعِ هَذَا القول) بالرفع (في سائر الأنبياء غير نبيّنا) عليه وعليهم الصلاة والسلام (أو يخالفون بينهم) أي ويفرقون بينه وبينهم ففيه تفصيل مبني على أصولهم (أمّا من منع الاتّباع عقلا فيطّرد) بتشديد الطاء أي فيستمر (أصله) ولم يختلف نقله من منعه (في كلّ رسول) من غير تفرقة (بلا مرية) بكسر الميم ويضم أي بغير شك وشبهة (وَأَمَّا مَنْ مَالَ إِلَى النَّقْلِ فَأَيْنَمَا تُصُوِّرَ له) بصيغة الفاعل وقيل بالمفعول (وتقرّر اتّبعه) وعمل كما يقتضي أمره، (ومن قال) ويروى من يقول (بالوقف فعلى أصله) من غير مفارقة لفصله، (ومن قال بوجوب الاتّباع) أي قبل الوحي (لمن قبله) من الأنبياء (فيلتزمه) أي القول بموجبه (بمساق حجّته في كلّ شيء) وفي نسخة في كل نبيّ. فصل [هَذَا حُكْمُ مَا تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَنْ قَصْدٍ وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً ويدخل تحت التكليف] (هذا) الذي قدمناه من فصل العصمة (حُكْمُ مَا تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ) المنكرات الصادرة (عن قصد) أي تعمد (وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً وَيَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ) أي ويؤاخذ به فاعله؛ (وأمّا ما يكون) أي المخالفة فيه من الأعمال (بغير قصد وتعمّد كالسّهو) وهو الذهول بالغفلة في الجملة (والنّسيان) وهو الذهول بالمرة والكلية (في الوظائف الشّرعيّة) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 سواء يكون من ارتكاب المنهيات أو اجتناب المأمورات (مِمَّا تَقَرَّرَ الشَّرْعُ بِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ وترك المؤاخذة عليه) كالسهو في الصلاة والكلام والنسيان في الصيام وجواب أما قوله (فَأَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ وَكَوْنِهِ ليس بمعصية لهم مع أممهم سواء) كما يشير إليه قوله تعالى رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا وحديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وأما استكرهوا عليه كما رواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا بسند صحيح (ثمّ ذلك) أي عدم المؤاخذة بالسهو والنسيان (على نوعين) أحدهما (ما طريقه البلاغ وتقرير الشّرع) فيما يعمل به من الأصل والفرع (وتعلّق الأحكام) أمرا ونهيا وحدا وسائر شرائع الإسلام (وتعليم الأمّة بالفعل) أي جنسه (وأخذهم باتّباعه) ويروى باتباعهم (فيه) أي في ذلك الفعل ونحوه (وما هو) أي وثانيهما ما هو (خارج عن هذا) الذي طريقه البلاغ (ممّا يختصّ بنفسه) من واجبات ومندوبات ومباحات ومكروهات ومحرمات، (أمّا الأوّل) أي من النوعين وهو ما طريقه البلاغ من الأحكام عملا وقولا (فحكمه) أي في إلمام السهو به (عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ حُكْمُ السَّهْوِ فِي القول في هذا الباب) أي باب ما طريقه البلاغ، (وقد ذكرنا الاتّفاق) من العلماء (على امتناع ذلك) أي امتناع المخالفة في القول (في حقّ النبيّ عليه الصلاة والسلام) أي من الأنبياء (وَعِصْمَتَهُ مِنْ جَوَازِهِ عَلَيْهِ قَصْدًا أَوْ سَهْوًا) بالأولى؛ (فكذلك) أي فمثل ما قالوا في باب القول بعصمة النبي من امتناع جواز ذلك (قَالُوا الْأَفْعَالُ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يَجُوزُ طروّ المخالفة) بضم الطاء والراء فواو ساكنة فهمزة وقد تبدل مشددة أي طريانها وجريانها وحدوثها وعروضها (فيها) أي في الأفعال (لا عمدا ولا سهوا لأنّها) أي الأفعال منهم (بمعنى القول) الصادر عنهم (من جهة التّبليغ والأداء) إذ الأمم مأمورون بمتابعات الأنبياء قولا وفعلا ولا محيص لهم عن الموافقة أصلا (وطروّ هذه العوارض) أي من السهو والخطأ والنسيان (عليها) أي على أفعال الأنبياء (يوجب التّشكيك) للأمم الموافقة (ويسبّب المطاعن) من الطوائف المخالفة والمطاعن جمع مطعن محل الطعن وفي نسخة ويسبب الطاعن اسم فاعل من طعن فيه وعليه إذا عاب وقدح، (واعتذروا) أي هؤلاء العلماء (عن أحاديث السّهو) أي في بعض صلواته عليه الصلاة والسلام (بتوجيهات نذكرها بعد هذا) في فصل على حدة (وإلى هذا) أي منع طرو المخالفة (مال أبو إسحاق) أي الإسفراييني، (وذهب الأكثر من الفقهاء) أي من أرباب الفروع والأصول (والمتكلمين) أي من أصحاب الأصول (إِلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الْأَفْعَالِ الْبَلَاغِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشّرعيّة) أي من الأمور العلمية والعملية (سهوا) تمييز أو منصوب بنزع الخافض أي عن سهو (وعن غير قصد) عطف بيان (منه) أي من النبي (جائز عليه) أي وقوعه منه (كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَحَادِيثِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ) أي الثابتة في الصحيحين وغيرهما من الكتب الستة قال النووي وهذا هو الحق (وفرقوا) أي المجوزون له (بين ذلك) الفعل من الأفعال الشرعية (وَبَيْنَ الْأَقْوَالِ الْبَلَاغِيَّةِ لِقِيَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ في القول) أي من حيث شهد الله بأن صدق عبدي (ومخالفة ذلك) الصدق ولو سهوا (تناقضها) أي تعارض المعجزة (وأمّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 السّهو في الأفعال فغير مناقض لها) أي المعجزة لأنه ليس من جنسها (ولا قادح) أي وغير طاعن (في النّبوّة) لثبوتها مع وقوعه منها لعدم منافاته لها (بَلْ غَلَطَاتُ الْفِعْلِ وَغَفَلَاتُ الْقَلْبِ مِنْ سِمَاتِ البشر) بكسر السين أي علاماته وذلك لأن الإنسان مشتق من النسيان وأول الناس فقد قال الله تعالى في حق آدم عليه الصلاة والسلام فَنَسِيَ (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم إنّما أنا بشر أنسى) بفتح أوله (كما تنسون فإذا نسيت فذكّروني) رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (نعم) ليس نسيانه كنسيان غيره من كل وجه (بل حالة النّسيان والسّهو) أي نسيانه وسهوه (هنا) أي في هذا المحل بخصوصه (في حقّه عليه الصلاة والسلام سبب إفادة علم) لأمته (وتقرير شرع) لملته (كما قال عليه الصلاة والسلام) في حديث الموطأ بلاغا لم يعرف وصله (إنّي لأنسى) بفتح الهمزة والسين أي بإنسائه سبحانه كما قال تعالى فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ انساءك إياه (أو أنسّى) بصيغة المفعول مشددا ويجوز مخففا أي ينسيني الله تعالى (لأسنّ) يفتح الهمزة وضم السين وتشديد النون أي لأبين لكم ما يفعله أحد منكم نسيانا لتأنسوا بي وتقتدوا بفعلي (بل قد روي لست أنسى) أي حقيقة (ولكن أنسّى) بصيغة المجهول كما مر (لأسنّ) وهذا نظير قوله تعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى إيماء إلى مقام الجمع (وهذه الحالة) أي من نسيانه ليسن (زيادة له في التّبليغ) أي تبليغ الرسالة (وتمام عليه في النّعمة) حيث أمر الأمة بأن يقتدوا به فيما صدر عنه على جهة السهو والغفلة ولعل فيه إيماء إلى قوله تعالى وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ (بعيدة عن سمات النّقض) بالضاد المعجمة أي عن ورود النقض من جواز وجود السهو والخطأ ووجوب الاقتداء (واعتراض الطّعن) أي به وبغيره على ألسنة السفهاء وفي نسخة صحيحة بعيدة عن سمات النقص بالصاد المهملة أي النقصان وأغراض الطعن أي على مجرد وقوع السهو والنسيان حيث تبين الحكمة الإلهية في ذلك الشأن (فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ يَشْتَرِطُونَ أَنَّ الرُّسُلَ لا تقرّ) بضم التاء وفتح القاف وتشديد الراء أي لا تبقى ولا تترك (على السّهو والغلط بل ينبّهون عليه) لينتبهوا ويتداركوا ما وقع لهم من السهو (ويعرفون) بصيغة المجهول مشدد الراء (حكمه) أي حكم السهو وما يترتب عليه (بالفور) في الحال أي من غير تراخ (عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ) أو قبل موته (عَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ وَأَمَّا مَا لَيْسَ طَرِيقُهُ البلاغ) أي تبليغ شرائع الإسلام (وَلَا بَيَانَ الْأَحْكَامِ مِنْ أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ أُمُورِ دينه) أي أسرار ربه (وأذكار قلبه) أي أنوار لبه (ممّا لم يفعله ليتّبع فيه) بل لينتفع به في زيادة قربه عند ربه (فالأكثر من طبقات علماء الأمّة) وكذا من طوائف مشايخ الملة (على جواز السّهو) أي الذهول والغفلة (والغلط عليه) لغلبة الاستغراق لديه (فيها) أي في أفعاله حين نزول الواردات إليه ولا يلحقه بذلك معرة ولا منقصة (ولحوق الفترات) أي الزلات بالنسبة إلى علو الحالات (والغفلات) لعوارض الحادثات (بقلبه) المستغرق في بحر حب ربه (وذلك) أي الحال الذي يعتبر به هنالك (بما كلفه) بصيغة المجهول أي بما طوقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 الحق ويروى بما تكلفه (من مقاساة الخلق) أي مكابدتهم (وسياسة الأمّة) أي محافظتهم ويروى وسياسات الأمة (ومعاناة الأهل) من عانه قاساه أي ملاحظة أحوالهم ومراعاة أفعالهم رفقا بهم وعونا لهم (وملاحظة الأعداء) أي مراقبتهم ومحاذرتهم وهذا كله من حيث هو مما يشغل القلب عن تجرده للرب ويوجب فتورا يقتضي في الجملة قصورا (ولكن ليس) صدور ذلك وظهور ما هنالك (على سبيل التّكرار) أي المفضي إلى حال الاكثار (ولا الاتصال) أي ولا على سبيل الاتصال في مقام الانفصال (بل على سبيل النّدور) أي القلة في الانتقال عن مشاهدة جمال ذي الجلال على وجه الكمال (كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم إنّه) أي الشأن (ليغان على قلبي) بصيغة المفعول والمعنى قد يحجب قلبي عن مشاهدة ربي بالاشتغال بأمره والانتقال إلى إمضاء حكمه (فأستغفر الله) أي في اليوم سبعين مرة أو مائة مرة وهذا من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين الأحرار بل كان في كل وقت وحالة مترقبا إلى مقام ومرتبة بعد الحال الأولى بالنسبة إلى المرتبة الثانية العليا والمنزلة الأولى سيئة ومنقصة يحتاج فيها إلى الأوبة وطلب المغفرة مما فيه صورة الحوبة كما يشير إليه قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (وليس في هذا) أي فيما ذكر (شيء يحطّ) أي يصنع (من رتبته ويناقض معجزته) أي يعارض من كرامته (وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى مَنْعِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ وَالْغَفَلَاتِ والفترات في حقّه عليه الصلاة والسلام جملة) أي من غير استثناء حالة (وهو مذهب جماعة المتصوّفة) أي متكلفي طريق التصوف ومنتحلي سبيل التعرف (وأصحاب علم القلوب) بالحالات السنية الجليلة (والمقامات) البهية العلية ويمكن الجمع بين كلام المثبتين للسهو والنافين للغلط واللهو أن ما وقع من أفعاله عليه الصلاة والسلام في صورة الغفلات وهيئة الفترات ليست على حقيقتها المترتب عليها نقصان مرتبة من الحالات أو قصور في رتبة علو المقامات فإن سيئات أرباب السعادة حسنات وحسنات أرباب الشقاوة سيئات كما أشار إليه بعضهم بقوله: من لم يكن للوصال أهلا ... فكل طاعاته ذنوب والحاصل أن ضعف بنية البشرية لا يقوى على مداومة تجليات الإلهية فتارة يكون في حالة الصحو وأخرى في حالة المحو وكذا تختلف المقامات بتفاوت غلبة الفناء ورجعة البقاء حتى يترتب عليه السكر والشكر والفكر والذكر والترقي والتدلي مع أن مقام جمع الجمع يقتضي أن لا تمنع الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة فلا يتصور في حق الكمل منهم صدور الغفلة بالمرة فإن اتباعهم ببركة اتباعهم وصلوا إلى حد لو أرادوا أن يتركوا طاعة أو يغفلوا ساعة لم يقدروا على ذلك عكس حال أرباب الدنيا واصحاب الحجاب عن المولى فسبحان من أقام العباد فيما أراد وقد علم كل اناس مشربهم وعرف كل حزب مذهبهم (ولهم في هذه الأحاديث) أي الواردة في باب السهو (مذاهب نذكرها) وفي نسخة سنذكرها (بعد هذا) أي من غير تراخ في الفصل الذي يليه (إن شاء الله تعالى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 فصل (فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورِ فِيهَا السَّهْوُ منه صلى الله تعالى عليه وسلم وقد قدّمنا في الفصول) السابقة ويروى في الفصل أي الذي تقدم (قبل هذا) الفصل (ما يجوز فيه عليه الصلاة والسلام عليه السّهو) من الأفعال والأحوال السنية (وما يمتنع) فيه عليه السهو من الأفعال البلاغية والأحكام الشرعية (وأحلناه) أي وجعلنا وقوع السهو محالا (في الأخبار) بفتح الهمزة أو كسرها (جملة) أي من غير تفرقة بين كونها دينية أو دنيوية، (أو أجزنا وقوعه) أي وجوزنا وقوع السهو (في الأفعال الدّينيّة) لعدم مناقضته حكم المعجزة وعدم مباينته وجه النبوة (قطعا؛ في الأفعال الذي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَتَّبْنَاهُ وَأَشَرْنَا إِلَى مَا ورد في ذلك) كما بيناه من حكمة أن كونه مع قلته إنما يقع سببا لإفادة علم لأمته وتقرير حكم لملته (ونحن نبسط القول فيه) أي في هذا الفصل (وَنَقُولُ الصَّحِيحُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي سَهْوِهِ عليه الصلاة والسلام فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: أَوَّلُهَا حَدِيثُ ذِي اليدين) كما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (في السّلام) أي سلامه عليه الصلاة والسلام (من اثنتين) أي ركعتين في إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر فقال ذو اليدين يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة قال لم أنس ولم تقصر فقال أكما يقول ذو اليدين قالوا نعم فأتم ثم سلم ثم كبر وسجد ثم رفع قال ابن سيرين نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم؛ (الثّاني حديث ابن بحينة) بضم موحدة وفتح مهملة وسكون تحتية فنون فتاء وهي أم عبد الله زوج مالك مطلبية قرشية ابن القشب بكسر القاف وإسكان الشين المعجمة فموحدة الأزدي ويقال الأسدي قال النووي الأزد والأسد بإسكان الزاء والسين قبيلة واحدة وهما اسمان مترادفان لها وهما أزد شنوءة وعبد الله هذا كان حليفا لبني المطلب بن عبد مناف قال بعض الحفاظ اسلم عبد الله بن مالك هو وأبوه وصحبا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنكر الدمياطي في حاشيته على صحيح البخاري أن يكون لمالك والد عبد الله هذا صحبة أو رواية أو إسلام وإنما ذلك لعبد الله قال الذهبي في تجريده ما لفظه مالك بن بحينة والد عبد الله ورد عنه حديث وصوابه لعبد الله وقال المزي في أطرافه ومن مسند مالك بن بحينة إن كان محفوظا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حديث أصلي الصبح أربعا وحديث السهو في الصلاة في مسند عبد الله بن مالك ابن بحينة انتهى وفي الكاشف مالك بن بحينة الصحابي له في السهو وعنه ابن حبان قال النسائي هذا خطأ والصواب عبد الله بن مالك كذا ذكره الحلبي وبهذا تبين خطأ الدلجي حيث جزم بقوله الثاني حديث الشيخين عن مالك بن عبد الله بن بحينة (في القيام) أي قيامه عليه الصلاة والسلام (من اثنتين) أي ركعتين سهوا قال الأنطاكي وحديثه في السهو هو ما روي عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس وفي رواية قام في الشفع الذي يريد يجلس فلما أتم صلاته سجد سجدتين الحديث؛ (الثالث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 حديث ابن مسعود رضي الله عنه) في الصحيحين (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم صلّى الظّهر خمسا) قال القاضي المصنف في الاكمال قال الإمام أحاديث السهو كثيرة الصحيح منها خمسة أحاديث حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه سجد سجدتين وحديث أبي سعيد سجد قبل السلام وحديث ابن مسعود في القيام إلى خامسة وحديث ذي اليدين في السلام من اثنتين وحديث ابن بحينة في القيام من اثنتين، (وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السَّهْوِ فِي الْفِعْلِ الذي قرّرناه) أي لا في الأخبار الذي حررناه؛ (وحكمة الله فيه) أي في سهوه في فعله (ليستنّ به) على بناء المفعول أي ليقتدى به في أمره (إذ البلاغ بالفعل أجلى) بالجيم أي أظهر وأرفع وفي نسخة بالحاء أي أحسن وأوقع (منه بالقول وأرفع للاحتمال) أي ادفع له عند بعضهم خلافا لغيرهم كما قدمناه ولعل الأظهر في حكمته أن يكون تسلية لأمته في مشاركتهم معه في سيرته وطريقته وأحوال بشريته كما أشار إليه بقوله إنما أنا بشر أنسى كما تنسون (وشرطه) أي السهو في حقه بخصوصه للأمر بالاقتداء في فعله كقوله (أنّه لا يقرّ) وفي نسخة لا يقرر بصيغة المجهول فيهما أي لا يبقى ولا يترك (على السّهو) أي زمانا يمكن أن يقتدى به في ذلك الأمر (بل يشعر به) بصيغة المفعول أي بل يعرف وبينه (ليرتفع الالتباس وتظهر فائدة الحكمة فيه) للناس (كما قدّمناه) في مقام الإيناس (وأن النّسيان) أي بأصله (والسّهو) أي المترتب عليه بفرعه (في الفعل في حقّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُضَادٍّ لِلْمُعْجِزَةِ وَلَا قَادِحٍ في التّصديق) بالرسالة وقد مر بيان تحقيق هذه المقالة، (وقد قال عليه الصلاة والسلام) فيما رواه الشيخان (إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون) كما يشير إليه قوله تعالى فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وقوله عز وجل وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ (فإذا نسيت) أي آية (فذكّروني) أو المعنى إذا نسيت وفعلت شيئا غير ما تعرفون من شريعتي فأعلموني (وقال) كما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا (رحم الله فلانا) كناية عن رجل (لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُسْقِطُهُنَّ) أي تركتهن نسيانا (ويروى أنسيتهنّ) بصيغة المجهول وذكر التلمساني عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية الحديث انتهى وقال النووي عن الخطيب البغدادي أن فلانا الهم هنا هو عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري انتهى ووقع بعد هذا الحديث في البخاري وزاد عباد بن عبد الله عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت تهجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بيتي فسمعت صوت عباد فأعلمته وهو عباد بن بشر كما نقله ابن الملقن في شرح البخاري عن ابن التين قال الحلبي ورأيت في نسخة صحيحة من شرح البخاري في الشهادات فسمع صوت عباد بن تميم المنسوب إلى العلامة الفربري (وقد قال عليه الصلاة والسلام) كما في الموطأ بلاغا (إنّي لأنسى) بفتح اللام والهمزة والسين (أو أنسّى) بصيغة المجهول مشددا ويجوز مخففا (لأسنّ) بضم سين وتشديد نون أي لأبين ما يترتب على السهو من الحكم (قيل هذا اللّفظ شكّ من الرّاوي) فأو للترديد ولا يبعد أن تكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 للتنويع فإن النسيان قد يكون لغفلة من جانب الإنسان وقد يكون لحكمة من جانب الرحمن (وقد روي إنّي لا أنسى) أي غالبا أو على وجه التقصير (ولكن أنسّى) بحسب التقدير (لأسنّ) في مقام التقرير (وذهب ابن نافع) بنون في أوله قال التلمساني هو عبد الله بن صانع وفي نسخة ابن رافع وفي أخرى ابن قانع (وعيسى بن دينار) هو الطيطلي تفقه بابن القاسم جمع بين الفقه والزهد قال أبو إسحاق في طبقات الفقهاء صلى أربعين سنة الصبح بوضوء العشاء الآخرة وشيعه ابن القاسم فراسخ عند انصرافه عنه فعوتب في ذلك فقال أتلومونني إن شيعت رجلا لم يخلف بعده أفقه منه مات سنة اثني عشرة ومائتين (أنّه) أي حديث لأنسى أو أنسى (ليس بشكّ وأن معناه التّقسيم) يعني التنويع (أي أنسى أنا أو ينسيني الله) لورود نسبته عليه الصلاة والسلام النسيان إلى نفسه تارة نظرا إلى مقام الفرق وإلى ربه أخرى إشارة إلى مقام الجمع إيماء إلى قوله تعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وردا على القدرية والجبرية وإثباتا للقدرة الجزئية كما هو مذهب أهل السنة السنية؛ (قال القاضي أبو الوليد الباجي) بالموحدة والجيم (يحتمل ما قالاه) أي ابن نافع وابن دينار (أن يريد) أي النبي عليه الصلاة والسلام (أنّي أنسى) بالبناء للفاعل (في اليقظة) لتأتي السهو فيها اختيارا (وأنسّى) بالبناء للمفعول (في النّوم) لتأتيه فيه اضطرارا وفيه أن قلبه عليه الصلاة والسلام كان لا ينام فحاله نوما أو يقظة سواء في مراتب الأحكام للأحكام (أو أنسى) بصيغة الفاعل (عَلَى سَبِيلِ عَادَةِ الْبَشَرِ مِنَ الذُّهُولِ عَنِ الشّيء والسّهو) أي الغفلة الناشئة عن شغل البال وتشتت الحال (وأنسّى) بصيغة المفعول (مع إقبالي عليه وتفرّغي له) أي فراغ خاطري إليه (فَأَضَافَ أَحَدَ النِّسْيَانَيْنِ إِلَى نَفْسِهِ إِذْ كَانَ له بعض السّبب فيه) وهو تسبب اختيار بمباشرته في تحصيل معالجته (ونفى الآخر عن نفسه) وفي نسخة من نفسه (إذ هو فيه) باعتبار مباديه البعيدة ومجاريه (كالمضطرّ) إليه لأنه قدر في الأزل عليه أن يصدر منه بكسبه لديه فهو مضطر في صورة مختار وربك يخلق ما يشاء ويختار وفي السنة أهل الحكمة قال الجدار للوتد مالك تشقني فقال سل من يدقني؛ (وذهبت طائفة من أصحاب المعاني) وهم بعض الصوفية من أرباب المعالي (والكلام على الحديث) أي وذوي التكلم على حديث سهوه وما يتعلق به من تحقيق المباني (إلى أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يسهو في الصّلاة) فيترك منها ما ليس عنعلم به (ولا ينسى) فيها (لأنّ النّسيان ذهول وغفلة وآفة) أي عاهة مؤدية إلى زوال المدرك من القوة المدركة والحافظة بما يستولي على القلب ويغشاه مما يحجبه عن عبادة الرب (قال) أي ذلك البعض (والنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم منزّه عنها) أي مبعد عن الغفلة مما يؤدي إلى المنقصة (والسّهو شغل) بذهول لا ينتهي إلى زواله من الحافظة في أحواله (فكان صلى الله تعالى عليه وسلم يسهو في صلاته) أي لا عنها (وَيُشْغِلُهُ عَنْ حَرَكَاتِ الصَّلَاةِ مَا فِي الصَّلَاةِ شغلا بها لا غفلة عنها) فلا يتركها عن علم فيها مبال بها ولا يخرجها عن وقتها بشهادة فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي غافلون (واحتجّ) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 ذلك البعض (بِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِنِّي لَا أَنْسَى) بصيغة النفي وفي نسخة زيادة ولكن أنسى وحاصله أن النسيان المذموم المنتسب إلى تقصير الإنسان منفي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بخلاف ما خلقه تعالى فيه اضطرارا لحكمة الهية كما تقدم والله تعالى اعلم (وذهبت طائفة أخرى) وهم بعض الصوفية (إلى منع هذا) أي ما ذكر من السهو والنسيان (كلّه) أي عنه كما في نسخة (وقالوا: إنّ سهوه عليه الصلاة السّلام كان عمدا وقصدا ليسنّ) بصيغة الفاعل أو المفعول (وهذا قول مرغوب عنه) أي مردود في الموارد (متناقض المقاصد) لمناقضة السهو للعمد (لا يحلى) بالحاء المهملة على صيغة المفعول أي لا يظفر (منه بطائل) أي بنفع حاصل يقال هذا الامر لم يحل منه بطائل إذا لم يكن فيه فائدة وقد صرح الجوهري بأنه لا يتكلم به إلا في الجحد وقد أتى به المؤلف في صورة النفي ولعله يسوغ أيضا أو وقع سهوا في القلم والله سبحانه وتعالى اعلم (لِأَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ مُتَعَمِّدًا سَاهِيًا فِي حَالٍ) أي واحد وزمان متحد (وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُ أُمِرَ) أي أمره الله تعالى (بتعمّد صورة النّسيان) وهو بصيغة المصدر بعد باء التعدية وروي أنه يتعمد بصيغة المضارع (ليسنّ لقوله: «إنّي لأنسى أو أنسّى) وفي نسخة زيادة لأسن وهو بالوجهين على ما سبق (وقد أثبت) أي النبي عليه الصلاة والسلام ويروى فقد أثبت (أحد الوصفين) وهو النسيان من قبل نفسه أو الإنساء من قبل ربه (ونفى مناقضة) بالإضافة إلى الضمير (العمد والقصد) فلا يصح إثبات العمد والقصد له عليه الصلاة والسلام ويروى مُنَاقَضَةَ التَّعَمُّدِ وَالْقَصْدِ (وَقَالَ «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مثلكم أنسى كما تنسون» ) وفي رواية فإذا نسيت فذكروني (وقد مال إلى هذا) أي القول بأنه أمر يتعمد النسيان (عظيم من المحقّقين من أئمّتنا) يعني المالكية (وهو أبو المظفّر) ويروى أبو المطهر (الاسفراييني ولم يرتضه) بالضمير أو بهاء السكت أي ولم يختره (غيره منهم) أي من المالكية وغيرهم (ولا أرتضيه) يعني أنا (أيضا) لظهور تناقضه ووضوح تعارضه وقال النووي بعد ما حكى هذا القول عن بعض الصوفية وهذا لم يقل به أحد ممن يقتدى به إلا الاستاد أبو المظفر الإسفراييني فإنه مال إليه ورجحه وهو ضعيف متناقض (ولا حجّة لهاتين الطّائفتين) أي القائلة بأنه عليه الصلاة والسلام كان يسهو في صلاته ولا ينسى والقائلة بأن سهوه كان عمدا أو قصدا (في قوله إنّي لا أنسى) بصيغة النفي على بناء الفاعل (ولكن أنسّى) بصيغة المفعول (إذ ليس فيه نفي حكم النّسيان) بالإضافة البيانية (بالجملة) أي بالكلية (وإنّما فيه نفي لفظه) أي مبناه المشعر بعدم التفاته إليه (وكراهة لقبه) أي وصفه الذي يحمل عليه (كقوله) صلى الله تعالى عليه وسلم (بِئْسَمَا لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا) لاعترافه بدخوله تحت وعيد ظاهر قوله سبحانه كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (ولكن نسّي) مشددا أي أنساه الله من غير تقصير إياه لعارض أو مرض ورواه أبو عبيد بلفظ بئسما لأحدكم أن يقول نسبت آية كيت وكيت ليس هو نسي ولكنه نسي وهو أبين من الأول وقد رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا بلفظ بئسما لأحدكم أن يقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي ويمكن أنه كره نسبة النسيان إلى النفس لأنه تعالى هو الذي انساه لاستناد الحوادث كلها إليه أو لأن النسيان مبناه الترك فكره له أن يقول تركت القرآن أو قصدت إلى نسيانه ولم يكن باختياره إياه يقال انساه الله ونساه والحاصل أن اختلاف النفي والاثبات باعتبار لفظه ومبناه لتفاوت فحوى الكلام ومقتضاه باعتبار معناه (أو نفي الغفلة) عن ربه (وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ عَنْ قَلْبِهِ لَكِنْ شغل بها عنها) أي بالصلاة عن الصلاة يعني بفعل بعضها عن فعل بعضها (ونسي بعضها ببعضها) أي بعض الصلاة ببعض الغفلة عنها ليبين للساهي فيها ما يجبرها بتركه شيئا منها (كما ترك الصّلاة) على ما رواه الشيخان (يوم الخندق) أي زمان حفر الخندق وهي غزوة الأحزاب وكانت في السنة الخامسة بعد الهجرة في شهر شوال منها (حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا وَشُغِلَ بِالتَّحَرُّزِ مِنَ الْعَدُوِّ عنها) أي عن الصلاة (فشغل بطاعة) أي العليا وهي حراسة المدينة (عن طاعة) وهي أداء الصلاة الوسطى لما ورد شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وقبورهم نارا (وَقِيلَ إِنَّ الَّذِي تُرِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَرْبَعُ صلوات) بالرفع على أنه خبر ان ثم أبدل منه بقوله (الظّهر، والعصر، والمغرب، والعشاء) وهذا على قول الكوفيين وأما على ما قاله سيبويه فيكون أعمال ترك وهو الثاني فيكون أربع منصوبا ذكره الحلبي ولعل الواقعة تعددت في الغزوة؛ (وَبِهِ احْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الصّلاة) أي إلى أن يخرج وقتها (فِي الْخَوْفِ إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهَا إِلَى وَقْتِ الْأَمْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّامِيِّينَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ حُكْمَ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَانَ بَعْدَ هَذَا فهو ناسخ له) ولا يبعد أن يقال إنما كان ناسخا إذا كان قادرا على التمكن من ادائها بصلاة الخوف بخلاف ما إذا لم يتمكن من أدائها كما إذا كان العدو من كل جانب محاصرا على ما وقع في الاحزاب والله تعالى اعلم بالصواب. (فَإِنْ قُلْتَ فَمَا تَقُولُ فِي نَوْمِهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم عن الصّلاة يوم الوادي) كما رواه البخاري وقد قيل هو وادي ضحيان وهو موضع بجوار مكة وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين قفل من خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى عرس ونام هو وأصحابه فلم يستيقظ أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أولهم استيقاظا فقال اقتادوا يعني سوقوا رواحلكم فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بهم الصبح (وقد قال) عليه الصلاة والسلام (إنّ عينيّ تنامان ولا ينام قلبي) قال النووي هذا من خصائص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام انتهى والجملة اعتراض بين السؤال وجوابه ورد حالا افاد أن قلبه لا يعروه نوم فكيف نام عن الصلاة حتى خرج وقتها (فاعلم أنّ للعلماء في ذلك) أي في دفعه وفي نسخة عن ذلك أي عن نومه فيه بالوصف المذكور هنالك (أجوبة) بالنصب على أنه اسم أن (منها أنّ المراد بأنّ هذا) الذي ذكر من اليقظة بربه (حكم قلبه عند نومه) أي نوم قلبه (وعينيه) أي وعند نوم عينيه أو المعنى هذا حكم قلبه وعينيه حال اجتماعهما (في غالب الأوقات وقد يندر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 منه) بضم الدال أي يقع نادرا (غير ذلك) من غفلة قلبه حالة نوم عينيه (كما يندر من غيره خلاف عادته) والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام على ما قيل كان له حالان في المنام أحدهما أنه كان تنام عينه ولا ينام قلبه وذلك في غالب أوقاته وثانيهما وهو أن ينام قلبه أيضا وهو نادر فصادف هذا الموضع حاله الثاني ثم اعلم أن في بعض النسخ ضبط غيبته بدل عينيه واختاره الحلبي وقال الغيبة ضد الحضور وهو ظاهر وإنما ذكرته لاحتمال أن يشتبه على من لا يعرف فيصحفه وقال الغيبة بعينيه تثنية عين وهي الجارحة الباصرة قالت هذا لا يصح لا من جهة الأعراب في المبنى ولا من طريق الصواب في المعنى لأن غيبته إذا كان عطفا على قلبه لا يستقيم الكلام إذ التقدير هذا حكم قلبه عند نومه وحكم عدم حضوره ولا خفاء في قصوره وإذا كان عطفا على نومه فيكون التقدير هذا حكم قلبه عند نومه وعند عدم حضوره ولا يخفى ما في هذه أيضا من بعد تصوره (وتصحّح هذا التّأويل) الذي أفاد أن قلبه لا ينام غالبا وقد ينام نادرا (قوله عليه الصلاة والسلام في) هذا (الحديث نفسه) أي نفس هذا الحديث المذكور وهو حديث الصلاة في الوادي لا كما توهم الدلجي من أنه حديث عيناي تنامان ولا ينام قلبي وقال التلمساني صوابه ما عند ابن مليح في أصله وقول بلال في الحديث نفسه وهو معروف من قول بلال والمحفوظ من قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (إنّ الله قبض أرواحنا) قلت هذا هو المراد وهو الصواب ولا يظهر لقول التلمساني وجه في هذا الباب مع أن رواية البخاري أن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء (وقول بلال فيه) أي في حديث صلاة الوادي فما أيقظهم إلا حر الشمس فقال صلى الله تعالى عليه وسلم هذا واد به شيطان اقتادوا فاقتدوا رواحلهم حتى خرجوا منه وقضوا صلاة الصبح لا كما توهم الدلجي ايضا وقال أي في حديث أن عيني تنامان جوابا لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أمره أن يكلأ لهم الفجر فقال عليه الصلاة والسلام أين ما قلت يا بلال فقال والله يا رسول الله (ما ألقيت عليّ نومة مثلها قطّ) لشدة تعب السيرة وقوة نصب السهر ولعل وجه كون قول بلال يصحح التأويل السابق أنه وقع له عليه الصلاة والسلام من شدة الحال كما وقع لبلال فنام قلبه عليه الصلاة والسلام من كثرة الكلال (ولكن مثل هذا) أي النادر الوقوع (إنّما يكون منه) أي من النبي عليه الصلاة والسلام (لأمر يريده الله عز وجل) وفي نسخة يريده من الله (من إثبات حكم) تحته حكم (وتأسيس سنّة) أي تأصيل قضية منيعة يبني عليها فروع شريعة (وإظهار شرع) من فرض أو سنة لم يكن مبينا، (وكما قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَيْقَظَنَا» ) أي منامنا ظاهرا وباطنا (ولكن أراد) أي بغلبة النوم علينا (أن يكون) أي سنة (لمن بعدكم) يقتدون بها، (الثّاني) من الأجوبة (أَنَّ قَلْبَهُ لَا يَسْتَغْرِقُهُ النَّوْمُ حَتَّى يَكُونَ منه الحدث فيه) أي ناقض الوضوء في نومه (لما روي) في صحيح البخاري وغيه (أنّه كان محروسا) أي محفوظا عن أن يقع منه حدث في حال نومه (وأنّه كان ينام حتّى ينفخ) بضم الفاء (وحتّى يسمع) بصيغة المجهول (غطيطه) أي ترديد صوته الخارج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 مع نفسه (ثمّ يصلّي ولا يتوضّأ) لعدم نقض وضوئه مع يقظة قلبه أو بناء على حراسة ربه أو لاختصاصه به (وحديث ابن عبّاس) في الصحيحين (المذكور فيه) أي في حديثه (وضوءه) أي وضوء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (عند قيامه من النّوم) مبتدأ خبره (فيه نومه مع أهله) أي ميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس (فلا يمكن الاحتجاج به على وضوئه) أي على كون وضوئه (بمجرّد النّوم) مع أهله (إذ لعلّ ذلك) أي وضوءه هنالك (لملامسة الأهل) أي مساسه ويروى لملامسة أهله (أو لحدث آخر) أي وهذا أظهر إذ لم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام توضأ من لمس امرأة قط فتدبر أو للتجديد المفيد للتنشيط (فكيف) لا يكون وضوؤه بواحد مما ذكر (وفي آخر الحديث نفسه) أي المروي عن ابن عباس بعينه (ثمّ نام) أي ثانيا (حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى ولم يتوضّأ) أي اكتفاء بالوضوء الذي تقدم (وَقِيلَ لَا يَنَامُ قَلْبُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يوحى إليه في النّوم) كغيره من الأنبياء فإنهم يوحى إليهم فيه قال تعالى إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ومن هنا أخطأ محيي الدين بن عربي حيث تأول على سيدنا إبراهيم الخليل وقال إنه أخطأ في التعبير والتأويل وإنه كان تأويل منامه أنه يذبح كبشا فحمل المنام على ظاهره وقصد ذبح ابنه كما بسطت هذا في محله (وليس في قصّة الوادي إلّا نوم عينيه عن رؤية الشّمس) أي وأثر طلوعها من الفجر في افق السماء (وليس هذا من فعل القلب) إذ قد يكون الشخص مستيقظا ولم يكن مطالعا لمطلع الشمس لا سيما إذا كان مغمضا عينيه خصوصا في بقاء القمر إلى آخر الليل وبعده وهذا إنما هو على الفرض والتقدير وإلا فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام كان حينئذ في استغراق المنام (وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم إنّ الله قبض أرواحنا) أي المدركة للأمور الظاهرة (وَلَوْ شَاءَ لَرَدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِينٍ غَيْرِ هذا) وهو قبل هذا الوقت لإدراك الوقت ولكن أراد أن نعرف حكم فوت الوقت والحديث مقتبس من قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (فَإِنْ قِيلَ فَلَوْلَا عَادَتُهُ مِنَ اسْتِغْرَاقِ النَّوْمِ لما قال لبلال اكلأ) بكسر همزة وصل في أوله وهمزة ساكنة في آخره أي احفظ (لَنَا الصُّبْحَ؛ فَقِيلَ فِي الْجَوَابِ إِنَّهُ كَانَ من شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم التّغليس بالصّبح) لعله في الأسفار (ومراعاة أوّل الفجر) أي المختار وهو الاسفار وفي نسخة لمراعاة أول الفجر (فلا تصحّ ممّن نامت عينه) وكذا ممن استغرق في شهود ربه وعدم التفاته لغيره (إذ هو) أي الصبح (ظاهر) من الأمور (يدرك بالجوارح الظّاهرة) بل بالجارحة الباصرة وكأنه جمع لجميع العيون الحاضرة (فوكّل بلالا بمراعاة أوّله) حقيقة أو حكما (لِيُعْلِمَهُ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ شُغِلَ بِشُغْلٍ غَيْرِ النّوم) من أي عمل كان (عن مراعاته) أي محافظة أوقاته وقد اغرب التلمساني في عبارته والمعنى عليه الصلاة والسلام كان يؤخر الصلاة إلى وقت التغليس في الصبح. (فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم عن القول نسيت) أي في حديث لا يقولن أحدكم نسيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 آية كيت وكيت بل هو نسي بضم النون وتشديد المهملة (وقد قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نسيت) وفي رواية أنسيت (فذكّروني) رواه أبو حنيفة رحمه الله في مسنده (وقال) أي في رواية أخرى (لقد أذكرني) أي فلان (كذا وكذا آية كنت أنسيتها) كذا في النسخ والمناسب للسؤال الوارد نسيتها ليرد الإشكال بين النهي عن نسبة النسيان إلى نفسه وبين إتيانه في لفظة فإنه تعارض بحسب ظاهره (فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فِي هذه الألفاظ) أي عند المحققين من الحفاظ لما سبق من التنبيه على شيء من التوجيه وهو نسبة الفعل إلى الله تعالى حقيقة وإلى العبد مجازا فالأولى صرف القلب إلى فعل الرب وأيضا فعل النسيان من حيث إنه ظاهر في التقصير والنقصان مذموم بخلاف ما إذا أراد الله أمضاه وقدر عليه بأن أنساه إياه ولا يبعد أن يكون قوله انسيت بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم معناه أنسانيه الله لقوله تعالى فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وأما بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام فمعناه أنسانيه الشيطان كما قال يوشع وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ وكما قال عز وجل فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ونتيجة الفرق أن ما يكون مذموما ينسب إلى الشيطان وما يكون محمودا ينسب إلى الرحمن ومجمله أن كل نسيان صدر عن تقصير وتوان فيكون بسبب إغواء الشيطان وكل ما يكون يعارض مرض أو كبر ونحوهما فهو بسبب اختيار الرحمن وأيضا من معاني النسيان الترك فلا ينبغي لمؤمن أن يقول تركت آية حيث يتوهم منه أن يكون قصدا ولا يراعي رعاية ومن جملة الأجوبة قوله؛ (أَمَّا نَهْيُهُ عَنْ أَنْ يُقَالَ نَسِيتُ آيَةَ كذا فمحمول على ما نسخ نقله) الظاهر كونه وفي نسخة حِفْظُهُ (مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ إِنَّ الْغَفْلَةَ فِي هَذَا لَمْ تَكُنْ مِنْهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اضطرّه إليها) أي إلى نسيانها (ليمحو ما يشاء ويثبت) بالتشديد والتخفيف وهذا أحد معاني قوله تعالى فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي أراد نسخة كما قضاه وأمضاه لكن هذا إنما يكون جوابا عن قوله عليه الصلاة والسلام إني لا أنسى فلا يصلح أن يكون تأويلا لنهيه عليه الصلاة والسلام للأمة أن يقال نسيت آية كذا فلا رابطة بين السؤال والجواب والله اعلم بالصواب (وَمَا كَانَ مِنْ سَهْوٍ أَوْ غَفْلَةٍ مِنْ قبله) أي من جانب العبد (تذكّرها) وكذا إذا لم يتذكرها (صلح) بضم اللام وفتحها أي صح (أن يقال فيه أنسى) بفتح الهمزة لا بضمها كما توهم الدلجي فبهذا الاعتبار ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أني أنسى كما تنسون فلا تعارض أصلا وقطعا (وقد قيل) وفي الجواب عن إيراد السؤال المتضمن للإشكال وهو التعارض الظاهر في المقال (إنّ هذا) أي نسبة الإنساء إلى الله تعالى (منه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ أَنْ يُضِيفَ الفعل إلى خالقه) وهو الله تعالى إذ لا خالق له سواه (والآخر) وهو نسبة النسيان إلى نفسه (على طريق الجواز لاكتساب العبد فيه) أي بنوع تسبب وتقصير منه (وإسقاطه عليه الصلاة والسلام) مبتدأ (لما أسقط من هذه الآيات) حق العبارة لبعض الآيات وهي التي أذكره إياها بعض الأمة (جائز عليه) وليس من باب التقصير والسهو في التبليغ (بعد بلاغ ما أمر ببلاغه) أولا (وتوصيله إلى عباده) كاملا (ثمّ يستذكرها) يروى يستدركها (من أمّته) ثانيا (أو من قبل نفسه) استحضارا (إلّا ما قضى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 الله نسخه) أي رفعه (ومحوه من القلوب) أي من قلبه عليه الصلاة والسلام وقلب سائر الأنام (وترك استذكاره) في بقية الأيام فإنه من أنواع نسخ الكلام؛ (وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) بصيغة المفعول أو الفاعل (ما هذا سبيله) أي المحو بعد البلاغ (كرّة) أي بالمرة (وَيَجُوزُ أَنْ يُنَسِّيَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْبَلَاغِ مَا لَا يُغَيِّرُ نَظْمًا وَلَا يُخَلِّطُ حُكْمًا مِمَّا لا يدخل خللا في الخبر) أي في مبناه أو معناه (ثمّ يذكّره إيّاه) كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ وحاصله بيان عصمته عن أن يقع له خطأ في قراءته عند تبليغ أمته (وَيَسْتَحِيلُ دَوَامُ نِسْيَانِهِ لَهُ لَحِفْظِ اللَّهِ كِتَابَهُ) بقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (وتكليفه) ويروى وتكفيله (بلاغه) بقوله يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. فصل (فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ وَالْكَلَامِ عَلَى مَا احْتَجُّوا بِهِ فِي ذَلِكَ) أي ما استدلوا به من الظواهر هنالك (اعْلَمْ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِلصَّغَائِرِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الفقهاء والمحدّثين ومن شايعهم) أي تابعهم كما في نسخة (على ذلك من المتكلّمين) كأبي جعفر الطبري وغيره (احتجّوا على ذلك) أي على تجويزها عليهم (بظواهر كثيرة من القرآن) أي القديم (والحديث) أي السنة (إن التزموا ظواهرها) من غير أن يأولوا أكثرها واتخذوها مذهبا وطريقة (أفضت بهم) أوصلتهم (إلى تجويز الكبائر) عليهم (وخرق الإجماع) أي وإلى مخالفتهم (وما لا يقول به مسلم) أي من تجويز الكبائر بعد البعثة عمدا فإنه لا يقول به إلا الحشوية (فكيف) يجوزون الصغائر عليهم (وَكُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِمَّا اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ في معناه) أي في تأويل مبناه (وتقابلت الاحتمالات) أو الاحتمالان (في مقتضاه) أي موجبه ومؤداه ومع وجود الاحتمال لا يصح الاستدلال (وجاءت أقاويل) جمع أقوال جمع قول أي أقوال كثيرة (في هذا المبحث) وفي نسخة فيها أي في هذه القضية (للسّلف) الصالحين من الصحابة والتابعين (بخلاف ما التزموه) أي بعض الخلف (من ذلك) أي من تجويز ما هنالك وفي نسخة في ذلك (فإذا لم يكن مذهبهم إجماعا) أي بجمع المسلمين (وكان الخلاف فيما احتجّوا به قديما) من أيام المتقدمين (وقامت الدّلالة) أي العقلية (على خطأ قولهم وصحّة غيره) أي غير مقالهم (وجب تركه) جواب إذا (والمصير إلى ما صحّ) دليله عقلا ونقلا على أن متابعة السلف أولى من موافقة الخلف (وها) تنبيه (نحن نأخذ) أي نشرع (في النّظر فيها) أي في التأويل والتفكر في الأدلة وما يترتب عليها من حكم المسألة (إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لنبيّنا صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ) أي ما صدر منه جائزا وكان تركه أولى فغفر له بترك عتابه في مقام خطابه؛ (وقوله) تعالى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] ) كتقصير في العبادة أو رؤية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 الطاعة أو غفلة الساعة أو ملاحظة ما سواه في مقام أن تعبد الله كأنك تراه (وقوله) تعالى (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) أي ثقل أعباء الرسالة ومرارة وعثاء الكلفة (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح: 2- 3] ) أي كسره لولا أنه سبحانه وتعالى هون عليه وسهل أمره لديه صلى الله تعالى عليه وسلم (وقوله) تعالى (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) أي لو صدر ذنب منك (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ) أي للمنافقين المتخلفين إعلاما بأن اذنه لهم كان من باب ترك الأولى كما بينه بقوله حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ودليل ذلك أنه سبحانه وتعالى فوض الإذن إليه في مقامه هنالك حيث قال فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لبعض شأنهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ (وقوله) تعالى (لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ) أي حكم أزلي ظهر منه وهو (سَبَقَ) من أن الغنائم تحل لهذه الأمة (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68] ) فهذه قضية فرضية لا يتفرع عليها نهي مسألة فرعية يترتب على تركها خصلة غير مرضية نعم ربما يقال كان الأولى انتظار الوحي الأعلى (وقوله) (عَبَسَ وَتَوَلَّى) أي كلح وجهه وتغير لونه (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عبس: 1- 2] ) أي كراهة مجيئه في غير محله اللائق به ثم عدم التفاته عليه الصلاة والسلام إليه لسؤاله منه قبل تمام الكلام من حضار مجلسه من الأنام (الآية) أي الآيات بعدها مما وقع فيه المعاتبة على اقباله عليه الصلاة والسلام على عبادة الأصنام طمعا أن يدخلوا في الإسلام على اعراضه عمن جاءه ليستفيد منه بعض الأحكام لقوله وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى والأعمى هو عبد الله ابن أم مكتوم العامري شهد القادسية ومعه اللواء فقتل وقد هاجر إلى المدينة وكان مؤذنه عليه الصلاة والسلام واستخلفه على المدينة ثلاث عشرة مرة وقيل مات بالمدينة (وما قصّ الله تعالى) أي حكى وفي نسخة ما نص أي ما صرح سبحانه (من قصص غيره) بفتح القاف أي حاية غيره وفي نسخة بكسرها أي حكايات غيره صلى الله تعالى عليه وسلم (من الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام (كقوله وَعَصى آدَمُ أي خالف (رَبَّهُ) بأكل الشجرة نسيانا أو خطأ (فَغَوى [طه: 121] ) فضل عن المطلوب وزل عن المحبوب أو عن المنهي عنه أو عن طريق الرحمن حيث اغتر بقول الشيطان أو خاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة من حيث لم يوجد له الثمرة (وقوله) تعالى (فَلَمَّا آتاهُما) أي الله تعالى اعطاهما (صالِحاً) أي ولدا سويا (جَعَلا) أي آدم وحواء (لَهُ) أي له سبحانه وتعالى (شُرَكاءَ) وفي قراءة شريكا حيث سمياه عبد الحارث ولم يدريا ما الحارث وهو اسم للشيطان وقد وسوس لحواء حين حملت بأنه ما يدريك لعله بهيمة أو كلب وأني من الله بمنزلة فأن دعوت الله أن يجعله خلفا مثلك فسميه عبد الحارث وكان اسمه حارثا في الملكية (الآية) أي فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وهذا ليس بشرك حقيقي لأنهما ما اعتقدا أن الحارث ربه بل قصدا أنه سبب صلاحه فسماه الله شركا للتغليظ فإن الذنب من العارفين المقربين أشد وأعظم والله اعلم ويكون لفظ شركاء من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 اطلاق الجمع على الواحد ويقال إنهما لما فعلا ذلك اقتدى بهما بعض الناس فيما هنالك فسموا أولادهم عبد شمس ونحوه كما في الجاهلية وكعبد النبي في الإسلامية (وقوله) تعالى (عنه) أي حكاية عن آدم وحواء عليهما السلام (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] ) بوضع الشيء في غيره موضعه الأولى (الآية) أي وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ أي الخائبين الضائعين في الدنيا والآخرة إذ لا يستغني أحد عن مغفرة ربه لنوع تقصير في حقه قال تعالى كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (وقوله) تعالى (عن يونس) أي حكاية (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] ) أي ولو في غفلة ساعة أو تقصير طاعة (وما ذكره من قصّة) أي يونس كما سبق (وقصة داود) كما سيأتي، (وقوله) تعالى (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي ابتليناه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 25] ) أي سقط حال كونه راكعا إلى السجدة شكرا للمغفرة أو عذرا للتقصير في الغفلة (وأناب) أي رجع من الغفلة إلى الحضرة فإن الانابة أخص من التوبة فإنها من المعصية (إلى قوله مَآبٍ) حيث جبر خاطره بقوله فَغَفَرْنا لَهُ ذلك ما كان في صورة الذنب هنالك وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربة في الباب وَحُسْنَ مَآبٍ مرجع إلى الجناب (وقوله) تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أي هم الشهوة (وَهَمَّ بِها [يوسف: 24] ) أي هم الخطرة (وما قصّ من قصّته مع إخوته) فيوسف ثابت نسبة نبوته ومنزه ساحته ببراءته وأما ما سبق من أمور إخوته فسيأتي بعض أجوبته، (وقوله) تعالى (عن موسى: فَوَكَزَهُ مُوسى) أي ضربه بجمعه دفعا له عن ظلمه من غير قصد لقتله (فَقَضى عَلَيْهِ) أي مات لديه (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) نسب إليه لأنه لم يكن أمر بضربه نزل عليه على أن الصحيح أنه كان قبل النبوة (وقول النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ما قدّمت) أي من التقصير في العبودية (وما أخّرت) أي الطاعة عن الأوقات الأولوية (وما أسررت) من الخواطر النفسانية (وما أعلنت) أي من العوارض الإنسانية (ونحوه من أدعيته عليه الصلاة والسلام) من إظهار التواضع والخضوع والخشوع والمسكنة وبيان المهابة والخشية تعليما للأمة وتكميلا للمرتبة ورفعة الدرجة (وذكر الأنبياء) بالرفع أي وذكر الله تعالى الأنبياء أو بالجر أي ومن ذكر الأنبياء (في الموقف) أي القيامة (ذنوبهم) خوفا من ربهم (في حديث الشّفاعة) لمشاهدة الأهوال ومطالعة الأحوال الدالة على كمال غضب ذي الجمال والكبرياء فعدوا تقصيراتهم سيئات وخافوا عليها من التبعات، (وقوله إنّه) أي الشأن (ليغان على قلبي) أي فيحجب عن ربي (فأستغفر الله) من ذنبي على ما تقدم (وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) أي لأطلب مغفرة الذنوب وستر العيوب (وأتوب إليه) أي ارجع عن ملاحظة اسرار الخلق إلى مطالعة أنوار الحق (في اليوم) الواحد (أكثر من سبعين مرّة) لأنه عليه الصلاة والسلام كان بوصف الكائن البائن القريب الغريب العرشي الفرشي (وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي [هود: 47] الآية) أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ ومن الذي يستغني عن مغفرة الله تعالى ورحمته ولو كان في أعلى مراتب نبوته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 ومناقب رسالته، (وقد كان) أي نوح قبل ذلك (قَالَ اللَّهُ لَهُ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي كفروا (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود: 37] ) وقد خاطبه نوح في ابنه فعاتبه ربه في أمره (وَقَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) أي خطاي أو ما كان من عمد في صورة ذنب لي (يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 82] ) أي الجزاء وفصل القضاء (وقوله عن موسى تُبْتُ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] ) أي رجعت عن سؤالي بعد ما أظهرت لك حالي وطلبت منك مآلي من منالي (وقوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ [ص: 34] ) أي ابتليناه بالجهاد الدنيوي أولا وألقينا على كرسيه جسدا خاويا ثانيا (إلى ما أشبه هذه الظّواهر) مع أمثاله من الآيات والروايات؛ (قال القاضي رحمه الله تعالى) يعني المصنف (فأمّا احتجاجهم) أي استدلال المجوزين للصغائر على الأنبياء (بِقَوْلِهِ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1] فهذا) الكلام المكنون (قد اختلف فيه المفسّرون) أي في تدقيق مبناه وتحقيق معناه؛ (فَقِيلَ الْمُرَادُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا) من الحالة المجملة المحتملة فلا يكون فيه دليل على المسألة، (وَقِيلَ الْمُرَادُ مَا وَقَعَ لَكَ مِنْ ذَنْبٍ) سابقا (وما لم يقع) لا حقا (أعلمه أنّه مغفور له) حقا، (وَقِيلَ الْمُتَقَدِّمُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَالْمُتَأَخِّرُ عصمتك بعدها) والمعنى ليغفر لك الله ما تقدم بمحو السيئة وما تأخر ببركة حراسة العصمة؛ (حَكَاهُ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ) أي بخطابه لك ومن ذنبك (أمّته عليه الصلاة والسلام) على حذف مضاف (وَقِيلَ الْمُرَادُ مَا كَانَ عَنْ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ وتأويل) وقع فيه زلة وهذا أحسن ما قيل في هذه المسألة؛ (حكاه الطّبريّ) وهو محمد بن جرير (واختاره القشيريّ) وهو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك إمام الشريعة والحقيقة وصاحب الرسالة في الطريقة؛ (وَقِيلَ مَا تَقَدَّمَ لِأَبِيكَ آدَمَ وَمَا تَأَخَّرَ من ذنوب أمّتك) على أن الإضافة لأدنى الملابسة ولك معناه لأجلك، (حكاه السّمرقنديّ) وهو الفقيه الإمام أبو الليث من أكابر الحنفية (والسّلميّ) بضم السين وفتح اللام هو أبو عبد الرحمن الصوفي صاحب طبقات الصوفية ومؤلف التفسير في التصوف (عن ابن عطاء وبمثله والّذي قبله) أي وبمثل وهذا التأويل والتأويل الذي تقدم قَبْلَهُ (يُتَأَوَّلُ قَوْلُهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [مُحَمَّدٍ: 19] قَالَ مَكِّيٌّ مُخَاطَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ههنا هي مخاطبة لأمّته) لأدنى الملابسة في إضافة أو بحذف مضاف عن مرتبته، (وقيل إنّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُمِرَ أَنْ يَقُولَ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الْأَحْقَافِ: 9] ) أي تفصيلا لحالي وحالكم (سرّ) بضم السين وتشديد الراء أي فرح (بِذَلِكَ الْكُفَّارُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1] الآية) أي ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا (وبما للمؤمنين) وفي نسخة وبمآل المؤمنين بهمزة ممدودة قبل اللام أي بما يؤولون إليه (في الآية الأخرى بعدها) أي بعد الآية الأولى، (قاله ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما) فالآية الأولى قَوْلِهِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ والآية الأخرى التي أشار إليها هي قوله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إلى آخرها وهما على هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 التأويل جواب لقوله وما أدري ما يفعل بنا ولا بكم وذلك لما نزلت وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ أدري ما فرح المشركون وقالوا واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد وما له علينا مزية زائدة ولولا أنه ابتدع ما يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ الآية فقالت الصحابة هنيئا لك يا رسول الله قد علمنا ما يفعل الله بك فماذا يفعل فأنزل الله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ الآيات، (فمقصد الآية) بكسر الصاد أي مرادها (إِنَّكَ مَغْفُورٌ لَكَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِذَنْبٍ أَنْ لو كان) أي حقيقة أو حكما، (قال بعضهم المغفرة ههنا) أي في هذه الآية (تبرئة من العيوب) وتنزيه من الذنوب لأن أصلها الستر فهو كالعصمة في معنى الستر من الحجاب والمنع عن الوزر (وأمّا قوله: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ رددنه الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشَّرْحِ: 2- 3] فَقِيلَ مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زيد) أي ابن اسلم (والحسن) أي البصري (ومعنى قول قتادة) أي ابن دعامة؛ (وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ حُفِظَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ مِنْهَا) أي من الذنوب (وعصم) بصيغة المجهول فيهما؛ (ولولا ذلك) أي ما ذكر من الحفظ والعصمة (لأثقلت ظهرك) وفي نسخة ظهره، (حكى معناه السّمرقنديّ) أي أبو الليث، (وقيل المراد بذلك ما) أي الذي (أثقل ظهره من أعباء الرّسالة) بفتح الهمزة أي أثقالها وتحمل أحمالها وتصبر أحوالها (حتّى بلّغها) إلى أهلها، (حكاه الماورديّ والسّلميّ؛ وقيل) أراد (حططنا) أي وضعنا أو رفعنا (عنك ثقل أيّام الجاهليّة) أي اثقال آثامهم ومشاهدة أعلامهم المنكرة في الشرائع الإسلامية، (حكاه مكّيّ، وقيل ثقل شغل سرّك) أي خاطرك (وحيرتك) أي تحيرك في باطنك وظاهرك (وطلب شريعتك) وفق طريقتك (حتّى شرعنا ذلك لك) بحسب حقيقة ما هنالك، (حكى معناه القشيريّ) أي في تفسيره، (وقيل معناه) وفي نسخة المعنى (خفّفنا) بالتشديد (عليك) وفي نسخة عنك (ما حمّلت) بضم مهملة فتشديد ميم مكسورة أي كلفت حمله (بحفظنا) أي لك (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم أو بالفتح والتشديد (استحفظت) بصيغة المجهول أي استرعيت (وحفظ عليك) أي أمرك لديك، (معنى أنقض ظهرك أي كاد ينقضه) أي قارب ولم ينقض فهو من باب مجاز المشارفة (فيكون المعنى) أي معنى الانقاض (على من جعل ذلك) أي عند من جعل ذلك الوزر (لِمَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ اهْتِمَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم بأمور فعلها قبل النّبوّة وحرّمت عليه بعد النّبوّة فعدّها) أي تلك الأمور (أوزارا وثقلت عليه) ويروى وثقلت واثقلت (وأشفق منها) أي خاف من غاية خشيته من الله وتصور عظمته، (أَوْ يَكُونُ الْوَضْعُ عِصْمَةَ اللَّهِ لَهُ وَكِفَايَتَهُ) أي حمايته (من ذنوب لو كانت) أي فرضا وتقديرا (لأنقضت ظهره) وشغلت فكره وشتتت أمره، (أو يكون) أي الوضع (من ثقل الرّسالة) أي بأدائها إلى الأمة وخلاصه عن الكفالة (أو ما ثقل عليه) أي أمره (وَشَغَلَ قَلْبَهُ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِحِفْظِ مَا اسْتَحْفَظَهُ مِنْ وَحْيِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَةِ: 43] فَأَمْرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وَسَلَّمَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَهْيٌ فَيُعَدُّ) بالنصب أي حتى يعد مخالفته (سيئة ولا عدّه الله تعالى عليه معصية) حيث أذن له بقوله فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ (بل لم يعدّه) بفتح الدال المشددة وضمها (أهل العلم معاتبة) على أنه فعل خلاف الأولى كما هو ظاهر قوله تعالى حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (وغلّطوا) بتشديد اللام وبالطاء المهملة أي ونسبوا إلى الغلط في معنى الآية (من ذهب إلى ذلك) أي على خلاف ما هنالك؛ (قال نفطويه) بكسر نون وسكون فاء وفتح مهملة وواو مفتوحة وتحتية ساكنة وهاء مكسورة (وقد حاشاه الله تعالى) أي نزهه (من ذلك) العتاب (بل كان مخيّرا في أمرين) كما في الكتاب (قَالُوا وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا شاء فيما لم ينزل عليه) بالبناء للفاعل أو المفعول (فيه وحيّ) مشتمل على نهي (فكيف وقد قال الله تعالى) أي له كما في نسخة (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النُّورِ: 62] فَلَمَّا أَذِنَ لهم) أي لبعضهم وهم المنافقون بناء على ظنه أنهم مؤمنون وكان الإذن مختصا بالمؤمنين لقوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ لأن الله تعالى لم يأمره بالاستغفار للمنافقين (أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مِنْ سرّهم) أي باطنهم يقينا (أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا وَأَنَّهُ لا حرج) أي لا أثم ولا تبعة (عليه فيما فعل) أي من الأذن لهم (وليس عَفَا [التوبة: 43] ههنا بِمَعْنَى غَفَرَ بَلْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخيل والرّقيق ولم تجب عليهم قطّ) جملة حالية (أي لم يلزمكم ذلك) من الإلزام الشرعي هنالك، (ونحوه للقشيريّ) في تفسيره، (قال) أي القشيري (وَإِنَّمَا يَقُولُ الْعَفْوُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذنب) بطريق الحصر (من لم يعرف كلام العرب) أي مستوفيا، (قال ومعنى) ويروى معناه (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ أَيْ لَمْ يُلْزِمْكَ ذَنْبًا) أي وضع عنك شيئا لو لم يضعه لكان ذنبا (قال الدّاوديّ روي أنها تكرمة) أي في أول الكلام كالتقدمة ويوروى أنها كانت تكرمة؛ (قال مكّيّ هو استفتاح كلام) لمن يكون من أهل اكرام (مثل أصلحك الله وأعزّك الله) خطابا للملوك أو الأمراء أو سائر العظماء، (وحكى السّمرقنديّ أنّ معناه عافاك الله) من المعافاة وفيه نكتة خفية صوفية أي عافاك عنك وخلصك منك حتى تكون بكليتك لنا وبنا وآخذا عنا وآمنا منا ممتعا بما تتمنى من غير أن تتعنى؛ (وأمّا قوله في أسارى بدر ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الأنفال: 67] الآيتين) يعنى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ روي أنه لما كان يوم بدر جيء بالأسارى فقال عليه الصلاة والسلام ما تقولون في هؤلاء فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فداء يكون لنا قوة على الكفار وقال عمر يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم لضرب اعناقهم فسكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال إن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال تعالى فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومثلك يا عمر مثل نوح قالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً قال عمر فهوى رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة أشار لشجرة قريبة منه وأنزل الله تعالى ما كانَ لِنَبِيٍّ الآية وقوله أَسْرى جمع أسير مثل قتلى وقتيل وقوله حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي يبالغ في قتل المشركين ذكره البغوي وحاصل القضية أن الصديق كان مظهر الجمال كإبراهيم وعيسى عليهما السلام في قوله إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والفاروق كان مظهر الجلال كنوح وموسى عليهما السلام في قوله رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وكان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام مظهر الكمال إلا أنه يغلب عليه الجمال فلهذا مال إلى قول الصديق وعلى طبقه أيضا نزل القرآن على التحقيق وفي قوله سبحانه وتعالى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ إيماء إلى قوله في الحديث القدسي والكلام الأنسي سبقت رحمتي غضبي وفي رواية غلبت والله ولي التوفيق فإذا عرفت ما تقدم (فليس فيه إلزام) ويروى فليس دليل الزام (ذنب للنبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ فِيهِ بَيَانُ مَا خُصَّ به) من كريم الشيم (وفضّل من بين سائر الأنبياء) وأمته من بين سائر الأمم (فكأنّه قال) تعظيما له وامتنانا وتكريما (ما كان هذا لنبيّ غيرك) لكمال فضلك أو رفعة قدرك وطولك (كما قال عليه الصلاة والسلام أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلِي) روي لم تحل بضم التاء وفتح الحاء على بناء المجهول وبفتح التاء وكسر الحاء على بناء الفاعل والأولى لمناسبة أحلت هي الأولى (فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا [الأنفال: 67] ) أي تختارونه (الآية) أي وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي يختارها لكم والله عزيز غالب على أمره حكيم في قضائه وقدره وحكمه (قيل المعنى) بكسر النون وتشديد الياء أي المقصود (بالخطاب) والمراد بالعتاب (من أراد) ويروى المعنى بفتح النون بالخطاب لمن أراد (ذلك منهم) أي من الأصحاب لا لعزة قوة أهل الإسلام في هذا الباب (وتجرّد غرضه لغرض الدّنيا) الذي في صدد الزوال (وحده) أي لا يريد غيره (والاستكثار منها) لنفسه وهم بعض ضعفاء المؤمنين ومع هذا إنما كانوا أرادوا الدنيا ليستعينوا بها على العقبى لكنه مقام أدنى بالإضافة إلى تارك الدنيا كما قال عيسى عليه السلام يا طالب الدنيا لتبر بها وتركك الدنيا أبر (وليس المراد بهذا) الخطاب المشتمل على العتاب (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ولا علية أصحابه) بكسر العين المهملة وسكون اللام وفتح التحتية جمع على مثل صبي وصبية أي اشرافهم ورؤساءهم ومن هنا قال ابن مسعود ولم أكن أظن أحدا من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحب الدنيا حتى نزل قوله تعالى مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ولما سمع الشبلي رحمه الله تعالى قال آه فأين من يريد الله وأجيب عنه بلسان العبارة أن من يريد الآخرة هو من يريد الله لقوله تعالى وَاللَّهُ يُرِيدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 الْآخِرَةَ وببيان الإشارة فكأنه سبحانه وتعالى يقول إن من يريد الله فهو ليس منكم بل منا في دنياه وعقباه ومستغرق فينافي مقام الإحسان المعبر عنه بأن تعبد الله تعالى كأنك تراه مشتغلا بمولاه عز وجل معرضا عما سواه فانيا عن غيرنا باقيا بنا لا ينظر إلى دنيا ولا إلى آخرة وهذا معنى قول بعضهم الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على اهل الدنيا وهما حرامان على أهل الله وهذا محمل قوله عليه الصلاة والسلام أكثر أهل الجنة البله وعليون لأولي الألباب والله تعالى أعلم بالصواب، (بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بالسّلب) بفتحتين وهو ما على القتيل من السلاح والثوب (وجمع الغنائم عن القتال) أي معرضين عنه في ذلك الحال مخالفين لما كان عليه أرباب الكمال من عدم التفاتهم إلى جمع المال (حتّى خشي عمر أن يعطف) بكسر الطاء أي يكر (عليهم العدوّ) ويغلبهم (ثمّ قال تعالى: لَوْلا كِتابٌ) أي مكتوب في اللوح المحفوظ أو حكم في القضاء الملحوظ (مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال: 68] ) أي في القدر وتحقق الأمر بالأثر (واختلف) وفي نسخة فَاخْتَلَفَ (الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَقِيلَ: مَعْنَاهَا لولا أنّه سبق منّي) أي في الأزل (أني) وفي نسخة أَنْ (لَا أُعِذِّبَ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ النَّهْيِ لعذّبتكم؛ فهذا) تعليق بالفرض والتقدير (ينفي) وفي نسخة فهذا كله ينفي (أن يكون أمر الأسرى معصية) أي في مقام التحقيق والتقرير؛ (وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَوْلَا إِيمَانُكُمْ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الْكِتَابُ السّابق) أي القديم أو المقدم رتبة على غيره من الكتاب اللاحق (فاستوجبتم به الصّفح) أي الاعراض والعفو عن اختياركم الاعراض (لعوقبتم على الغنائم) أي أخذها في جميع الأحوال أو قبل الفراغ من تكميل القتال فيكون تقدير الآية بحسب الإعراب لولا إيمان كتاب عظيم الشأن سبق لكم فيما مضى من الزمان لمسكم في المستقبل لأجل ما أخذتم من الغنائم الدنيوية عذاب عظيم مشتمل على الأهوال الأخروية؛ (ويزاد هذا القول تفسيرا وبيانا) أي تعبيرا وبرهانا (بأن يقال لولا) وفي نسخة لوما وفي أخرى لَوْلَا مَا (كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ وَكُنْتُمْ مِمَّنْ أحلّت لهم الغنائم) في مستقبل الزمان (لعوقبتم كما عوقب من تعدّى) أي تجاوز عن الحد في العصيان؛ (وقيل) أي معنى الآية (لَوْلَا أَنَّهُ سَبَقَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهَا) أي الغنائم (حَلَالٌ لَكُمْ لَعُوقِبْتُمْ؛ فَهَذَا كُلُّهُ يَنْفِي الذَّنْبَ والمعصية) من غير شك وشبهة (لأنّ من فعل ما أحلّ لم يعص) فيما فعله، (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الأنفال: 69] ) أي خالصا (وقيل بل كان عليه الصلاة والسلام قد خيّر في ذلك) أي بين القتل وأخذ الفداء وأنه عليه الصلاة والسلام كان من عادته أن يختار أيسر الأمرين ويستشير أصحابه في اختيار أحد الحكمين فشاور الشيخين ومال إلى رأي أفضلهما في الحال وأجملهما في المقال وكان أمر الله قدرا مقدورا في الآزال فحسن الأحوال وزان الآمال في المآل، (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ خَيِّرْ أَصْحَابَكَ في الأسارى إن شاؤوا القتل) أي قتل الكفار فيها (وإن شاؤوا الفداء) فيكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 (عَلَى أَنْ يُقْتُلَ مِنْهُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ) أي في السنة الآتية من غزوة أحد (مثلهم) أي في عددهم؛ (فقالوا) أي جمهورهم ومنهم الصديق (الفداء) بالرفع أي مختارنا أو بالنصب أي نختار الفداء (ويقتل منّا) عدتهم ونكون شهداء فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر قال بعض الفضلاء هذا الحديث مشكل جدا لمخالفته ما يدل عليه ظاهر التنزيل ولما صح من الأحاديث في أمر أسارى بدر أن أخذ الفداء كان رأيا رأوه فعوتبوا ولو كان هنالك تخيير بوحي سماوي لم تتوجه المعاتبة عليهم وقد أنزل الله تعالى إليهم ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى إلى قوله عَذابٌ عَظِيمٌ وأجيب بأنه لا منافاة بين الحديث والآية وذلك أن التخيير في الحديث وارد على سبيل الاختبار والامتحان ولله أن يمتحن عباده بما شاء ولعله سبحانه امتحن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بين أمرين القتل والفداء وأنزل جبريل عليه الصلاة والسلام بذلك هل هم يختارون ما فيه رضى الله تعالى من قتل الأعداء أو يؤثرون الأعراض العاجلة من قبول الداء فلما اختاروا الثانية عوتبوا على ذلك والله سبحانه وتعالى اعلم بما هنالك والأظهر في الجواب والله اعلم بالصواب أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام شاور أولا بعض أصحابه الكرام فاختاروا الفداء ووافقهم أيضا في ذلك المرام فعوتبوا في ذلك المقام ثم خيروا بين أحد الأمرين من البلاء وهو قتل الاعتداء من الاحياء أو اختيار الفداء وكون سبعين منهم يصيرون شهداء فاختاروا ما جرى به القلم ومضى به القضاء، (وهذا دليل على صحّة ما قلنا) أي وقوة ما قدمناه (وَأَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا مَا أُذِنَ لَهُمْ فيه لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين) أي في نفس الأمر وإن كان هو أقواهما في رأيه (ممّا كان الأصلح غيره) أي عند غيره (من الإثخان) وهو تكثير القتل في العدو (والقتل) كالتفسير لما قبله (فعوتبوا على ذلك) أي اختيار الأضعف فيما هنالك حيث أخطأوا في الاجتهاد وأصاب بعضهم في هذا الباب حين وافق رأيه فصل الخطاب كعمر بن الخطاب (وبيّن لهم) بصيغة المفعول (ضعف اختيارهم) أي الأولين (وتصويب اختيار غيرهم) أي الآخرين (وكلّهم غير عصاة ولا مذنبين) لكونهم مجتهدين في أمر الدين (وإلى نحو هذا) التأويل (أشار الطّبريّ، وقوله عليه الصلاة والسلام) مبتدأ في الكلام (في هذه القضيّة) وفي نسخة في هذه القصة (لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا منه إلّا عمر) أي ومن تبعه في هذا الأمر المقرر (إشارة إلى هذا) هذا هو الخبر وفي نسخة أشار إلى هذا (من تصويب رأيه) أي رأي عمر (وَرَأْيِ مَنْ أَخَذَ بِمَأْخَذِهِ فِي إِعْزَازِ الدِّينِ وإظهار كلمته وإبادة عدوّه) أي افنائهم واهلاكهم من أصله وذلك لما ورد في حقه من دعاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم أعز الإسلام بعمر كما ورد في بعض الخبر (وأنّ هذه القضيّة لو استوجبت عذابا) أي بالفرض والتقدير (نجا منه عمر ومثله) أي ومن قال بمثل قوله (وعيّن عمر) في الخبر (لأنّه أوّل من أشار بقتلهم) وتبعه بعض الصحابة في الأثر (وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ عذابا) أي نازلا يتحقق (لِحِلِّهِ لَهُمْ فِيمَا سَبَقَ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ وَالْخَبَرُ بهذا) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 التخيير (لا يثبت) الأولى لم يثبت، (ولو ثبت) أي فرضا (لما جاز أن يظنّ) بصيغة المجهول أي يظن أحد (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا دَلِيلَ مِنْ نَصٍّ وَلَا جُعِلَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَيْهِ وَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذلك) وكأنه خالف جمهور العلماء الأعلام فيما قرروا أن له عليه الصلاة والسلام أن يجتهد في الأحكام بل وقد فوض إليه كثير من أحكام الإسلام أو المعنى أنه عليه الصلاة والسلام ما جعل له فعل ذلك من تلقاء نفسه مستبدا برأيه من غير تأويل في أمره؛ (وقال القاضي بكر بن العلاء) أي المالكي (أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أنّ تأويله) أي ما اختاره من الأشياء (وَافَقَ مَا كَتَبَهُ لَهُ مِنْ إِحْلَالِ الْغَنَائِمِ والفداء وقد كان) أي وقع (قبل هذا فادوا) فعل ماض من المفاداة أي فدا بعض أصحابه (فِي سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الَّتِي قتل فيها ابن الحضرميّ) أخوه العلاء من أكابر الصحابة (بالحكم بن كيسان) بفتح الكاف وسكون التحتية فمهملة مولى هشام بن المغيرة المخزومي (وصاحبه) وهو عثمان بن عبد الله أسر ومات كافرا (فما عتب الله ذلك عليهم) اعلم أن عبد الله بن جحش بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة فشين معجمة هو ابن عمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثه عليه الصلاة والسلام في جمادى الآخرة في السنة الثانية من الهجرة قبل بدر بشهر ليترصد عير قريش وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد وهم سعد بن أبي وقاص وعكاشة بن محصن وعتبة بن غزوان وأبو حذيفة بن عتبة وسهيل ابن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكير وقيل إن هذه السرية كانت أكثر من ذلك قال ابن سعد بعث عبد الله بن جحش في اثني عشر رجلا من المهاجرين انتهى وفي هذه السرية سمي عبد الله بن جحش أمير المؤمنين فساروا على بركة الله حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف فمرت عير لقريش تحمل تجارة من الطائف فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله ونوفل بن عبد الله فرمى واقد بن عبد الله عمر بن الحضرمي فقتله فكان أول قتيل من المشركين واستأسروا الحكم وعثمان وكانا أول أسيرين في الإسلام وأفلت نوفل فأعجزهم فاستاقوا العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم الحكم بن كيسان وأقام بالمدينة وحسن إسلامه فقتل يوم بئر معونة وصاحبه عثمان بن عبد الله رجع إلى مكة ومات بها كافرا كذا ذكره التلمساني وليس فيه ما يدل على فداء على أنه لو ثبت فهذا فداء كافر بمسلم وما نحن فيه فداء كافر بمال فلا يستويان في مآل ثم رأيته ذكر في محل آخر أن الحكم بن كيسان كان ممن أسر في سراية عبد الله بن جحش حين قتل واقد اليميمي عمرا بن الحضرمي أسره المقداد قال فأراد أميرنا ضرب عنقه فقلت له دعه نقدم به على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقدمنا به على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه انتهى وهذا كما ترى ليس فيه ذكر فداء لا بمال ولا بغيره وإنما هو تأخير أمره إلى حكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حقه وقد صرح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 الحجازي بأن الباء في بالحكم تتعلق بفادوا لا بقتل فإن الحكم أسلم وصاحبه لحق بمكة ومات بها كافرا والله سبحانه وتعالى اعلم (وذلك قبل بدر بأزيد من عام) بل كانا في سنة واحدة فإن تلك في رجب في السنة الثانية وبدر في رمضان فيكون قبل بدر بشهر (فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ الْأَسْرَى كَانَ عَلَى تأويل وبصيرة) أي اجتهاد صادر عن فكرة (وعلى ما تقدّم قبل) مبني على الضم وقوله (مثله) مرفوع فاعل تقدم (فَلَمْ يُنْكِرْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ لَكِنَّ اللَّهَ تعالى أراد لعظم أمر بدر) ويروى لعظيم أمر بدر (وكثرة أسراها) أي أسراها) (والله أعلم) جملة معترضة بين الفعل ومفعوله أعني (إظهار نعمته وتأكيد منّته بتعريفهم) ويروى بتعريف (مَا كَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنْ حِلِّ ذلك لهم لا على وجه عتاب) فضلا عن طريق عقاب (وإنكار وتذنيب) أي نسبة إلى ذنب، (هذا معنى كلامه) أي كلام بكر بن العلاء وتمام مرامه؛ (وأمّا قوله عَبَسَ) أي بوجهه (وَتَوَلَّى [عبس: 1] ) أعرض بخده (الآيات) كما قدمناها (فليس فيه إثبات ذنب له عليه الصلاة والسلام) أي يستحق به الملام (بل إعلام الله تعالى) أي له في ذلك المقام (أنّ ذلك المتصدّي له) بصيغة المجهول أي المتعرض له بالتوجه والإقبال (ممّن لا يتزكّى) أي لا يتطهر من الشرك في الاستقبال وأن الاشتغال به من جملة تضييع الأحوال وهذا معنى قوله وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي الأعمى أو يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أن تتعرض وعليك ألا يزكى أي إن لم يؤمن فما عليك ألا البلاغ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى أي الله تعالى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تتلهى وتتشاغل عنه وتعرض عن التوجه إليه والإقبال عليه (وأن الصّواب) في هذا الباب (والأولى) بالنسبة إلى حاله الأعلى (كان لو كشف) وفي نسخة ما لو كشف أي بين وظهر (لك) وفي نسخة له (حال الرّجلين) من الأعمى في الظواهر والبصير في السرائر ومن عكسه وهو البصير صورة والأعمى سيرة بل هو الأعمى حقيقة فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ومنه قوله تعالى وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وقوله وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (لاختار الإقبال على الأعمى) والاعراض عن الآخر من أهل الدنيا إلا أنه عليه الصلاة والسلام لحرصه على إيمان الأنام أدى اجتهاده إلى أن التفاته إليه يكون سببا لإيمانه بما أنزل عليه (وفعل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لما فعل) أي هنالك (وتصدّيه) أي تعرضه وإقباله (لذاك الكافر) لكونه من الأكابر وإيمانه باعث لقومه من الأصاغر (كان طاعة لله وتبليغا عنه) في مقام رضاه (واستئلافا له) أي طلب ألفة حين آواه (كما شرعه الله له) فيما قضاه (لا معصية ومخالفة له) في مؤداه (وما قصّه الله عليه) أي حكاه (من ذلك إعلام بحال الرّجلين) أي المؤمن والكافر أو الصالح والفاجر أو الفقير الصابر والغني المكابر مثلا (وتوهين أمر الكافر عنده) أي جنسه وفي نسخة أمر الكافر (والإشارة) الأولى وإشارة (إلى الإعراض عنه بقوله وَما عَلَيْكَ) أي ضرر (أَلَّا يَزَّكَّى) بعد ما بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وبلغت النصيحة بقدر الطاقة (وقيل أراد) ويروى المراد (بعبس وتولّى) أي بضميره (الْكَافِرَ الَّذِي كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم قاله أبو تمّام) بتشديد الميم الأولى هو علي ابن محمد بن أحمد البصري من أصحاب الأبهري وكان حسن الكلام قيل إن أباه كان نصرانيا له كتاب الحماسة ومجموع سماه فحول الشعراء نشأ بمصر وقيل كان يسقي الماء بالجرة في جامع مصر توفي بالموصل سنة إحدى وثلاثين ومائتين وهذا التأويل مخالف لظاهر التنزيل بل كان في مقام النزاع أن يكون مخالفا للإجماع قال أبو محمد بن عبد السلام في تفسيره الصغير الأعمى عبد الله ابن أم مكتوم وكان ضريرا أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يستقرئه ويقول علمني مما علمك الله فجعل يناديه ويكرر النداء وهو لا يعلم تشاغله عنه فكره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطعه لكلامه فعبس وأقبل على العباس وأمية وجاآ ليسلما وفي تفسير البغوي أن ابن أم مكتوم أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبي بن خلف وأخاه أمية فعلى هذا يكون ال في الكافر للجنس روي أنه عليه الصلاة والسلام كان بعده يكرمه ويقول إذا رآه مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول هل لك من حاجة. (وأمّا قصّة آدم عليه الصلاة والسلام) في متفرقات الكلام (وقوله تعالى: فَأَكَلا) أي آدم وحواء (مِنْها [طه: 121] ) أي الشجرة المنهية (بعد قوله) لهما (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي جنسها أو عينها (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 35] ) أي العاصين فيكون النهي للتحريم أو من الواضعين للأشياء في غير موضعها على أن يكون النهي للتنزيه (وَقَوْلُهُ: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ [الْأَعْرَافِ: 22] ) وهي شجرة الكرم وقيل السنبلة وقيل شجرة العلم عليها معلوم الله من كل لون وطعم وقيل غير ذلك (وتصريحه تعالى عليه) أصالة وعلى حواء تبعية (بِالْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] أي جهل) مقامه وضل مرامه (وقيل أخطأ) في اجتهاده حيث ظن أن الإشارة إلى الشجرة بعينها والحال أن النهي كان متوجها إلى جنسها أو عرف أولا أن المراد جنسها فنسي فحملها على خصوصها وإنما أولنا هذه التأويلات كلها (فإنّ الله تعالى قد أخبر) وفي نسخة قد أخبرنا (بعذره بقوله: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) أي أمرا أو عهدا (مِنْ قَبْلُ) أي قبل خروجه من الجنة أو قبل ظهور الذرية (فَنَسِيَ) أمرنا بالكلية أو محل نهينا في الجملة (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] ) على المخالفة أو لم نجد له عزيمة جزما على الموافقة فإنه لما اشتبه عليه الحال من أن النهي عن عين تلك الشجرة أو جنسها كانت العزيمة أن يجتنبها بالكلية ولن يعمل بالرخصة في القضية ولذا قيل إن آدم عليه السلام لم يكن من أولي العزم فقد قال تعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وكذا يونس عليه السلام فقد قال عز وجل فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (قال ابن زيد) أي ابن اسلم وقد تقدم (نسي عداوة إبليس له) هنالك (وَمَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 [طه: 117] الآية) أي فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى أي فتعب أنت بالإصالة وزوجك بالتبعية؛ (وقيل نسي ذلك بما أظهر لهما) من النصيحة أي الشيطان على وجه الخديعة وحلفه في القضية (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا لأنه عهد إليه) بصيغة المجهول (فنسي) وفيه إشكال لأن الظاهر أن حروف أصول الإنسان كما يدل عليه قوله تعالى امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وقال في القاموس الإنس البشر كالإنسان والواحد إنسي جمعه أناسي وقرأ يحيى بن الحارث وأناسى كثيرا فهو مهموز الفاء وأما النسيان فمادته ناقصة يسمى معتل اللام فاختلفا مادة اللهم الا أن يقال أصل الإنسان انسيان فنقلت حركة الياء إلى ما قبلها بعد سلب حركته فحذفت تخفيفا لكثرة استعماله فصح ما يقال أول الناس أول الناسي والله اعلم (وقيل لم يقصد) أي آدم وحواء (المخالفة استحلالا لها) أي جعلها حلالا فإنه لا يصح عنهما إجماعا (ولكنّهما) باشرا مكرها لا على قصد مخالفتهما أمر ربهما بل بسبب أنهما (اغْتَرَّا بِحَلِفِ إِبْلِيسَ لَهُمَا إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 21] توهّما إنّ أحدا لا يحلف بالله حانثا) أي كاذبا كذبا يوجب الحنث أي الاثم (وقد روي عذر آدم بمثل هذا) الاغترار (في بعض الآثار) ولا شك أن هذا نوع من الاعذار؛ (وقال ابن جبير) وهو سعيد من اجلاء التابعين (حلف بالله لهما) أي متكررا (حتّى غرّهما والمؤمن يخدع) وفي الحديث المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم رواه أبو داود والترمذي والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة (وقد قيل) يروى وقال أي ابن جبير (نسي ولم ينو المخالفة) وهذا ظاهر (فلذلك قال) أي سبحانه وتعالى (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 117] أَيْ قَصْدًا لِلْمُخَالَفَةِ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ العزم هنا الحزم) أي الاحتياط في الأمر (والصّبر) أي عن المخالفة بالتحمل على مرارة الموافقة (وقيل كان) أي آدم (عند أكله سكران) أي من حب المولى كما قيل في آية لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى من حب الدنيا أو من خمر الجنة (وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ خمر الجنّة أنّها لا تسكر) وروي أنه لا يسكر لأن الخمر قد تذكر ويمكن أن يقال لعلها كانت تسكر ثم سلب الله تعالى سكرها ويناسبه أنها كانت حلالا في الدنيا أولا وصارت حراما آخرا والله سبحانه وتعالى وصف خمر الجنة بما يكون نعتها بعد القيامة ويريده أن الجنة لا يكون فيها التكليف آخرا وقد صح تكليفهما فيها أولا (وإذا) وفي نسخة فإذا (كان) أي أكله (نَاسِيًا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ ملبّسا) بتشديد الموحدة المفتوحة أي مخلطا (عليه غالطا) أي مخطئا (إِذِ الِاتِّفَاقُ عَلَى خُرُوجِ النَّاسِي وَالسَّاهِي عَنْ حكم التّكليف) وفيه أن الله سبحانه وتعالى قد صرح بعصيانه فينبغي أن يقال النسيان أو الخطأ لم يكن معفوا حينئذ كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه رواه الطبري عن ثوبان؛ (وقال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُ إِنَّهُ يمكن أن يكون ذلك قبل النّبوّة) بل وهو الظاهر من سياق القضية لقوله تعالى قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الآية (ودليل ذلك قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ [طه: 121] ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 أي بالنبوة (فَتابَ عَلَيْهِ) أي فوفقه للتوبة والثبات على الطاعة أو فرجع عليه بقبول التوبة ونزول الرحمة (وَهُدىً) به الأمة (فذكر) أي الله سبحانه وتعالى (أنّ الاجتباء والهدى) وفي نسخة الهداية (كانا) وفي نسخة كان أي كل واحد منهما (بعد العصيان) بدلالة الفاء التعقيبية (وقيل بل أكلها متأولا) لأن النهي عنه لم يكن مصرحا (وهو لا يعلم أنّها) أي الشجرة التي أكل منها هي (الشّجرة التي نهي عنها لأنّه تأوّل) أي حمل (نهي الله عن شجرة مخصوصة) أي عليها بعينها (لا على الجنس) الشامل لها ولغيرها فأكل مما عداها، (وَلِهَذَا قِيلَ إِنَّمَا كَانَتِ التَّوْبَةُ مِنْ تَرْكِ التّحفّظ) وهو التحرز ورعاية الأحوط في باب الموافقة (لا من المخالفة) أي الصريحة في الواقعة، (وَقِيلَ تَأَوَّلَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْهَهُ عَنْهَا نهي تحريم) ولم يعلم أن الأصل في النهي أن يكون للتحريم والحاصل أنه حمل النهي على التنزيه الذي يوجب للمكلف نوعا من التخيير وإن كان الأول هو الانتهاء لا سيما بالنسبة إلى الأنبياء والأصفياء. (فإن قيل فعلى كلّ حال) أي تقدير وتأويل (فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فأثبت له العصيان والغواية (وقال فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طه: 121] ) والتوبة لم تكن إلا عن المخالفة (وقوله في حديث الشّفاعة ويذكر ذنبه) حين يخاف ربه قائلا (وإنّي نهيت عن أكل الشّجرة فعصيت) اعترافا بذنبه وتواضعا لربه (فسيأتي الجواب عنه وعن أشباهه) مما وقع لغير آدم من إخوانه وأمثاله (مجملا) شاملا له ولغيره (آخر الفصل) يعني في الفصل الذي يلي آخر هذا الْفَصْلِ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَمَّا قِصَّةُ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام) وقد تقدم أنه بضم الياء والنون أشهر لغاته من تثليث النون مع الهمز وعدمه (فقد مضى الكلام على بعضها آنفا) بمد الهمزة وقصرها وقد قرئ بهما في السبعة أي قريبا (وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ يُونُسَ نَصٌّ عَلَى ذَنْبٍ وإنّما فيها أبق) أي من مولاه أو من أمته لشكواه أو من تحمل أعباء النبوة ومقتضاه (وذهب مغاضبا) أي على أمته أو على نفسه وحالته من ضيق قلبه وقلة صبره (وقد تكلّمنا عليه) بحسب ما ظهر لنا من أمره، (وقيل إنّما نقم الله) بفتح القاف وبكسر أي أنكر (عليه) أي عاب أو كره (خروجه عن قومه) من غير إذن ربه (فارّا من نزول العذاب) أي لئلا يشاهد حلول العقاب وحصول الحجاب، (وَقِيلَ بَلْ لَمَّا وَعَدَهُمُ الْعَذَابَ ثُمَّ عَفَا الله عنهم) يرفعه لإسلامهم بعد خروجه ووصول خبرهم إليه (قال والله لا ألقاهم بوجه كذّاب) أي صورة (أبدا) حياء من الخلق بمقتضى العادة البشرية وهو بالوصف أو الإضافة (وَقِيلَ بَلْ كَانُوا يَقْتُلُونَ مَنْ كَذَبَ فَخَافَ ذلك) وفيه إن إخباره بالعذاب كان مبنيا على اصرارهم بالكفر الموجب للعقاب وإذا لم يقتلوه وهو مشركون كيف يتصور أن يقصدوا قتله وهم مؤمنون، (وقيل ضعف عن حمل أعباء الرّسالة) أي أثقالها وشدائد أهوالها ومكابدة أحوالها (وقد تقدّم الكلام أنّه لم يكذبهم) بفتح أوله أي بل صدق لهم وقد شاهدوا صدق كلامه بآثار العذاب ومقدمة العقاب فآمنوا فارتفع الحجاب كما أخبر الله تعالى عنه بقوله فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ؛ (وهذا) أي الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 ذكرنا (كلّه) على وجه قررنا (لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى مَعْصِيَةٍ إِلَّا عَلَى قول مرغوب عنه) لطائفة (وقوله أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الصافات: 140] ) أي المملوء (قال المفسّرون تباعد) أي عن قومه تباعد المملوك عن مالكه حيث أمر الله تعالى بكونه عندهم وفق أمره وبهذا التقرير لا يضر لو قيل أبق من ربه وسيده لتخلفه عن حكمه بتباعده وفي أبق إيماء بقائه على عبوديته وتحت قضائه وربوبيته، (وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 87] فالظّلم وضع الشيء في غير موضعه) حتى قيل لمن وضع حب غير ربه في صدره وقلبه هو ظالم لنفسه ومنه قول العارف بن الفارض: عليك بها صرفا وإن شئت مزجها ... فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم بل عد الصوفية السنية الغفلة عن الله تعالى وارادة ما سواه ظلما بل شركا وقد قال الله تعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وقال العارف أيضا: ولو خطرت لي في سواك ارادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي (فهذا اعتراف منه) أي من يونس عليه الصلاة والسلام (عند بعضهم بذنبه فإمّا أن يكون) فعله ذنبا (لِخُرُوجِهِ عَنْ قَوْمِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ أَوْ لضعفه عمّا حمّله) بصيغة المجهول أي كلفه (أو لدعائه بالعذاب على قومه) بعد يأسه من إيمان قومه، (وقد دعا نوح عليه السلام بهلاك قومه فلم يؤاخذ) بذنبه إذ لا يجب على الله تعالى شيء من عفو أو عقوبة وسائر حكمه ويحتمل أن دعاء نوح عليه السلام كان عن اذن من ربه بخلاف يونس عليه الصلاة والسلام في حق قومه وهو الظاهر لعلمه سبحانه وتعالى بإيمان قومه في آخر أمره، (وقال الواسطيّ) من أكابر الصوفية المتقدمين (في معناه) أي معنى قوله سبحانك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (نزّه ربّه عن الظّلم) إذ لا يتصور منه (وأضاف الظّلم إلى نفسه اعترافا) بقصوره (واستحقاقا) لعفوه (ومثل هذا قول آدم وحوّاء) بالمد فعلاء من الحياة وهي أم بني آدم وسماها آدم حواء حين خلقت من ضلعه فقيل له من هذه فقال امرأة قيل وما اسمها قال حواء قيل ولم ذلك قال لأنها خلقت من حي (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: 23] ) إِذْ كَانَا السَّبَبُ في وضعهما) أي في وضعه سبحانه وتعالى إياهما (فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أُنْزِلَا فِيهِ وَإِخْرَاجِهِمَا) أي وكانا السبب في اخراجهما (من الجنّة وإنزالهما إلى الأرض) وهي مكان المحنة والمشقة ودار الكلفة. (وأمّا قصّة داود عليه الصلاة والسّلام فلا تجب أن يلتفت) الاولى فيجب أن لا يلتفت (إلى ما سطّره) بتشديد الطاء وتخفف أي كتبه (فيها) أي القصة وفي نسخة فيه أي في الأمر (الأخباريّون) بفتح الهمزة أي الناقلون (عن أهل الكتاب) أي اليهود والنصارى (الّذين بدّلوا) أي ألفاظ التورية ومبناها (وغيّروا) معناها ومقتضاها (ونقله) عنهم (بعض المفسّرين) اعتمادا على أخبارهم عن أحبارهم وقد ورد أن من العلم جهلا (وَلَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ولا ورد في حديث صحيح) موافق لما هنالك (والّذي نصّ الله عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 فَتَنَّاهُ [ص: 24] ) أي ابتليناه وامتحناه (فاستغفر ربه) أي طلب غفران مولاه في دنياه وأخراه (إلى قوله وَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 25] ) يعني وَخَرَّ راكِعاً أي وسقط للسجود بالخضوع والخشوع حال انتقاله من الركوع وأناب أي رجع من الغفلة إلى الحضرة فإن الإنابة أخص من التوبة فهي الرجوع من المعصية إلى الطاعة فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي إن كان له ذنب هنالك وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي لقربى وَحُسْنَ مَآبٍ مرجع إلى الجناب (وقوله فيه) أي في حقه وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي صاحب القوة في الطاعة إِنَّهُ أَوَّابٌ كثير الأوبة وهي الرجعة حتى عن الخطرة (فمعنى فتنّاه اختبرناه) أي امتحناه (وأواب قال قتادة مطيع) أي في كل باب (وهذا التّفسير أولى) في حق أولي الألباب؛ (قال ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم) لعل تقديم ابن عباس لكونه من ذوي القربى وإلا فابن مسعود أفقه الصحابة بعد الخلفاء الأربعة بل ابن عباس أخذ عنه التفسير والحديث والقراءة (ما زاد داود) أي إن صح عنه (على أن قال للرّجل) من أمته تلويحا أو تصريحا (انزل لي عن امرأتك) أي طلقها لأني أريد أن أتزوجها وأكد الأمر بقوله (واكفلنيها) أي أعطنيها وحقيقة ضمها إلي واجعل كفالتها لدي ومؤنتها علي وكان أهل زمان داود عليه الصلاة والسلام يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وكان ذلك مباحا لهم غير أن الله تعالى لم يرض له بما هنالك (فعاتبه الله على ذلك ونبّهه عليه) كما في الآية (وأنكر عليه شغله بالدّنيا) وقلة رغبته في الآخرة وازدياد النساء وقد أغناه الله تعالى عنها بما اعطاه من غيرها على أن مثل هذا الاستدعاء ليس محظورا في مذاهب سائر الأنبياء كطلب سائر المماليك وباقي الأشياء غير أنه لا يستحسن عرفا بين الأحياء (وهذا) التأويل (الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ) أي يعتمد عليه لجلالة قدره (وقيل خطبها على خطبته) بكسر أوله أي قبل زواجه وهو مكروه في ملتنا إذا وقع التراضي في قضيته قال التلمساني روي أنه كان خطبها أورياء ثم خطبها داود عليه السلام فآثره أهلها فكان ذنبه أن خطبها على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه أي بالشرط الذي قدمناه وهو غير معلوم مما نقلناه، (وقيل بل أحبّ بقلبه) وهذا مما لا يعرفه غير ربه (أن يستشهد) أي أورياء ليأخذ امرأته بعده ولعله كان خطرة من غير اصرار عليه والحاصل أنه لا ينبغي أن يلتفت إلى ما نقله أهل القصص من أن داود تمنى منزلة أبيه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام فقال يا رب إن آبائي قد ذهبوا بالخير كله فأوحى الله تعالى إليه أنهم ابتلوا بالبلاء فصبروا عليه قد ابتلي إبراهيم بنمرود وإسحاق بذبحه ويعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره فسأل الابتلاء فأوحى الله تعالى إليه إنك لتبتلي في يوم كذا فاحترس فلما كان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور فجاء الشيطان في صورة حمامة من ذهب فمد يده ليأخذها لابن له صغير فطارت فوقفت في كوة فتبعها فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطي بدنها وهي امرأة أورياء وهو من غزاة البلقاء فكتب إلى أيوب بن صوريا وهو صاحب البلقاء أن أبعث أورياء وقدمه على التابوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله تعالى على يديه أو يستشهد لديه فبعثه وقدمه فسلم وأمر برده مرة أخرى وثالثة حتى قتل فتزوج امرأته وهي أم سليمان فهذا ونحوه مما يقبح أن يتحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من المسلمين فضلا عن بعض أعلام الأنبياء والمرسلين فعن علي كرم الله وجهه من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على النبيين، (وحكى السّمرقنديّ) وهو الفقيه أبو الليث الحنفي رحمه الله تعالى (أَنَّ ذَنْبَهُ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنْهُ قَوْلُهُ لِأَحَدِ الخصمين لَقَدْ ظَلَمَكَ [ص: 24] فظلّمه) بتشديد لامه أي نسبه إلى ظلمه (بقول خصمه) أي من غير أن يقر المدعى عليه بذنبه وهذا غير مستفاد من التنزيل لأنه ليس فيه دليل على اثباته ولا على نفيه مع أنه يحتمل أن لا يكون هذا حكما بأن قاله افتاء على تقدير سؤاله وقبول خصمه لقوله؛ (وقيل بل لما خشي على نفسه) من الغفلة (وظنّ من الفتنة) أي من جملة الابتلاء بالمحنة (بما بسط له) أي وسع عليه (من الملك) وهو كمال الجاه الصوري (والدّنيا) أي كثرة المال المحتاج إليه في الحال الضروري كذا في بعض النسخ قوله وقيل إلى هنا وسيأتي ما في بعض آخر مؤخرا، (وإلى نفي ما أضيف في الأخبار) أي عن الأحبار (إلى داود) أي ما نسب إليه من ذلك (ذهب) قدم عليه الجار والمجرور المتعلق به لا فائدة الحصر فيما ذهب إليه (أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ وَأَبُو تَمَّامٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ المحقّقين) وذلك لأنهم الكفرة الفجرة وقد غيروا أخبار البررة قال عليه الصلاة والسلام لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وهذا إذا لم يكن منافيا لقواعد ملتنا وقوانين شريعتنا وإلا فلا شك أنا نكذبهم في أخبارهم عن رهبانهم وأحبارهم وعن كتبهم وأسرارهم، (قال الدّاوديّ: ليس في قصّة داود وأورياء) بفتح الهمزة وقد يضم بسكون الواو وكسر الراء فتحتية فألف ممدودة (خبر يثبت) أي بشروط المعتبرة عند أرباب الأثر (ولا يظنّ) بصيغة المجهول أي ولا ينبغي أن يظن (بنبيّ محبّة قتل مسلم) لحصول أمر دني ثم الخصمان قيل جبريل وميكائيل عليهما السلام وقال تسوروا بصيغة الجمع إما بناء على إطلاقه على ما فوق الواحد أو تعظيما لهما أو لأجلهما ومن معهما من الملائكة قال التلمساني أو حملا على لفظ الخصم إذ كان كلفظ الجمع ومشابها مثل الركب والصحب وفيه أنه لو كان حملا على لفظه لأفراد ضميره كالفوج والقوم على ما حقق في قوله تعالى كَالَّذِي خاضُوا وقوله هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا أي فوجان وقد جمع اختصموا بناء على أفراد الفوجين (وقيل إنّ الخصمين اللّذين اختصما إليه) أي إلى داود (رجلان) أي لا ملكان وهو مرفوع على خبر ان على ما هو ظاهر وفي حاشية التلمساني قيل صوابه رجلين نصبا ووجه الألف إما على لغة بني الحارث فالألف في الجر والنصب كألف المقصود أو خبر لمحذوف أي هما رجلان وهو بعيد انتهى وخطاؤه لا يخفى (في نعاج) وفي نسخة في نتاج (غنم) متعلق باختصما (على ظاهر الآية) فيكون الاختصام تحقيقا أي لا تمثيليا وتصويريا لكن يستفاد من الحقيقة أيضا بطريق الإشارة ما يراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 به من مجاز الطريقة. (وقيل) أي علة ذنبه الذي استغفر منه (لما خشي على نفسه وظن) في باطنه (من الفتنة) أي البلية والمحنة (بما بسط له) أي وسع له (من الملك والدنيا) وأي فتنة أعظم من الدنيا لولا عصمة المولى مع أنها سبب لنقصان الدرجة في الآخرة (وأمّا قصّة يوسف عليه السلام) وهو بضم الياء والسين أشهر لغاته من تثليث السين مع الهمزة وعدمه (وإخوته فليس على يوسف منها) أي في قصتهم وفي نسخة منها أي من جهتهم (تعقّب) بتشديد القاف أي اعتراض أو تعتب كما في نسخة أي مطالبة عتاب وملامة (وأمّا إخوته فلم تثبت نبوّتهم) أي عند بعض العلماء فلا إشكال في أحوالهم (فيلزم) بالنصب أي حتى يلزمنا (الكلام على أفعالهم) ونأولها على تحسين آمالهم (وَذِكْرُ الْأَسْبَاطِ وَعَدُّهُمْ فِي الْقُرْآنِ عِنْدَ ذِكْرِ الأنبياء) ليس تصريحا في كونهم من أهل الإنباء حيث قال تَعَالَى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهو جمع سبط بالكسر أولاد يعقوب وأحفاد إسماعيل وإسحاق وسموا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة وسبط الرجل حافده ومنه قيل للحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما سبطا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والسبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب والشعوب من العجم ومنه قوله تعالى وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وهم أخوة يوسف كلهم بحسب ظاهره ويشير إليه رؤيا يوسف إياهم على هيئة الكواكب إيماء إلى أن مراتبهم في المناقب دون مرتبة الرسالة التي كانت لأبيهم يعقوب على أنه يحتمل أن يكون تصوير الكواكب اشعارا بنور الإيمان وظهور المناقب، (قال المفسّرون) أي بعضهم (يريد من نبّىء من أبناء الأسباط) قال البغوي وكان في الاسباط انبياء ولذلك قال وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وقيل هم بنو يعقوب من صلبه فصاروا كلهم انبياء والله سبحانه وتعالى اعلم (وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا حِينَ فَعَلُوا بِيُوسُفَ مَا فَعَلُوهُ صِغَارَ الْأَسْنَانِ وَلِهَذَا لَمْ يُمَيِّزُوا يوسف) أي لم يعرفوه في مصر (حين اجتمعوا عليه) وفي نسخة به (ولهذا) أي ولكونهم صغارا أيضا (قالوا أرسله معنا غدا نرتع ونلعب) على قراءة النون والظاهر أنها محمولة على التغليب لقراءة يرتع ويلغب بصيغة الغيبة والرتع الأكل رغدا ثم كون كلهم صغارا في غاية البعد عقلا ونقلا على أن لعب الكبار لا يستبعد شرعا وعرفا (وإن ثبتت) يروى فإن ثَبَتَتْ (لَهُمْ نُبُوَّةٌ فَبَعْدَ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ) الأمر والقصة وهذا مما لا شك فيه أنه قبل البعثة وإنما الإشكال فيما وقع لهم من العقوق وقطع الرحم والكذب وبيع الحر وهذه الأمور كلها كبائر لا يستقيم إلا عند من يجوز ارتكابها على الأنبياء قبل البعثة والمحققون على خلاف هذه القصة، (وأمّا قول الله تعالى فيه) أي في حق يوسف عليه السلام (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أي هم شهوة ومراودة (وَهَمَّ بِها) أي هم مصيبة ومكايدة والباء للسببية فيهما أو هم فكرة وخطرة شفقة عليها وحسرة على قبيح همها لديها وارادتها عدم حفظ الغيب المفوض إليها ويكون بين همت وهم صنعة المجانسة أو طريقة المشاكلة (لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف: 24] ) أي لولا النبوة ولوازمها من العصمة لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 هم الشهوة لكن النبوة موجودة فلم يهم هم المعصية وحذف هم في جواب لولا لدلالة همت عليه من قبلها (فعلى مذهب كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ أَنَّ هَمَّ النَّفْسِ) أي خاطرها (لا يؤاخذ به) أي وإن صمم عليه (وليست سيّئة) إلا صورة (لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ربّه) أي حاكيا عنه في الحديث القدسي والكلام الأنسي (إذا همّ عبدي بسيئة فلم يعملها) أي وتركها خوفا مني فلم يثبت عليها ظاهرا وباطنا من أجلي (كتبت له حسنة) بصيغة المجهول ويجوز أن يكون بصيغة الفاعل والمعنى أمرت بأن يكتب لَهُ حَسَنَةٌ (فَلَا مَعْصِيَةَ فِي هَمِّهِ إِذًا) أي حينئذ (وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فإنّ الهمّ إذا وطّنت) بضم الواو وتشديد الطاء المكسورة أي إذا استقرت (عَلَيْهِ النَّفْسُ سَيِّئَةٌ وَأَمَّا مَا لَمْ تُوَطَّنْ عَلَيْهِ النَّفْسُ مِنْ هُمُومِهَا وَخَوَاطِرهَا فَهُوَ الْمَعْفُوُّ عنه وهذا) القول الثاني (هو الحقّ) أي الصواب جملة معترضة بين أما وجوابها (فيكون إن شاء الله هم يوسف عليه السلام) أي إن كان هم الشهوة (من هذا القبيل) كما هو اللائق بالأنبياء من حسن الظن في أحوالهم (ويكون قوله: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف: 53] ) أي من التقصير والزلة ولا أزكيها بكمال النظافة والظهارة (الآية) أي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أي لكثيرة الأمر بما يسوء الإنسان في جميع الأزمان إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي من رحمة أو وقت رحمة ربي فإنه يعصم من خطراتها ووساوسها وتكدراتها وهواجسها أي ربي لغفور لمن فرط في خدمته من عباده رحيم بمن أحسن في طاعته من عباده (أي ما أبرّئها من هذا الهمّ) المورث للغم (أو) وفي نسخة (ويكون ذلك) القول (منه على طريق التّواضع) في ساحة الربوبية (والاعتراف بمخالفة النّفس) في زاوية العبودية (لما) وفي نسخة بما (زكّي قبل وبرّىء) بصيغة المجهول فيهما أي لما زكته النسوة وبرأته قبل ذلك وشهدن له بالعصمة هنالك (فكيف) أي لا يأول على طريق يعول (وقد حكى أبو حاتم) أي الرازي السختياني الحنظلي وهو الإمام الحافظ الكبير أحد الاعلام ولد سنة تسع وخمسين ومائة ومات بالبصرة وسمع محمد بن عبد الله الأنصاري والاصمعي وأبا نعيم وغيرهم وحدث عنه يونس بن عبد الاعلى وابو داود والنسائي وجماعة قال الدارقطي ثقة وأما ابنة عبد الرحمن فله تفسير جليل وله حال جميل (عن أبي عبيدة رحمه الله) وهو معمر بن المثنى (أنّ يوسف لم يهمّ) أي أصلا وهو بضم الهاء والميم ويفتح ويكسر (وَأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ أَيْ وَلَقَدْ همّت به) أي وتم الكلام بِهِ (وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بها) وإنما قال بالتقديم والتأخير لأن جواب لولا لم يتقدم عليها في الأصح (وقد قال الله تبارك وتعالى عن المرأة) وهي زليخا أو راعيل (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) أي طالبته أن يجامعني وقصدت منه أنه يواقعني (فَاسْتَعْصَمَ [يوسف: 132] ) أي امتنع وتصمم ولم يقع منه ميل ولا هم (وقال تعالى كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) أي الصغيرة وهي نحوا لهم (وَالْفَحْشاءَ [يوسف: 24] ) أي الكبيرة وهي الزنى (وقال تعالى: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) اهتماما للأسباب ومبالغة في الستر والحجاب (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) فيه قراءات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 مشهورة ومعاني مذكورة في كتب مسطورة وحاصلها هلم إلى ما أدعوك إليه (قالَ مَعاذَ اللَّهِ) أي أعوذ بالله معاذا (إِنَّهُ) أي الله (رَبِّي) أو العزيز مربي وسيدي (أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف: 23] الآية) أي منزلي ومأواي (قيل ربّي) وفي نسخة في ربي أي في معناه (الله) أي وهو المراد به (وقيل الملك) صوابه العزيز أو وزير الملك (وقيل همّ بها أي بزجرها) أي طردها أو ضربها (ووعظها) أي نصحها ومن جملة نصيحتها أنها في اثناء مراودتها قامت وسترت على وجه صنم لها فقال لها إذا كنت تستحيين مما لا حياة له ولا بصر ولا نفع ولا ضر فكيف لا استحيي من ربي المطلع على جميع أمري (وقيل همّ بها) باؤه للتعدية أو مزيدة وفاعله محذوف (أَيْ غَمَّهَا امْتِنَاعُهُ عَنْهَا وَقِيلَ هَمَّ بِهَا نظر إليها) نظر غضب أو أدب (وقيل همّ بضربها ودفعها) عن نفسه وكفى شرها وهذا كالتكرار لما تقدم والله تعالى اعلم (وقيل هذا كلّه كان قبل نبوّته) أي قبل رسالته إذ المشهور أنه نبئ وهو في الجب كما يشير إليه قوله تعالى فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ولا يبعد أن الوحي هنا يكون بمعنى الإلهام (قد ذكر بعضهم ما زال النّساء يملن) بفتح الياء وكسر الميم (إِلَى يُوسُفَ مَيْلَ شَهْوَةٍ حَتَّى نَبَّأَهُ اللَّهُ فَأَلْقَى عَلَيْهِ هَيْبَةَ النُّبُوَّةِ فَشَغَلَتْ هَيْبَتُهُ كُلَّ من رآه عن حسنه) أي صورته. (وأمّا خبر موسى عليه الصلاة والسلام مع قتيله الّذي وكزه) أي ضربه بجمعه فقتله (فقد نصّ الله تعالى أنّه) وفي نسخة على أنه (من عدوّه قال) أي أراد ويروى قيل وهي رواية حسنة (كان من القبط) بكسر القاف أمة من أهل مصر (الّذين) وفي نسخة الذي أي القوم الذي (كانوا على دين فرعون) وهو الوليد بن مصعب وفرعون لقب لكل ملك مصر كقيصر للروم وكسرى للفرس والنجاشي للحبشة وتبع لليمن وخاقان للترك قيل وكان طباخا لفرعون وقد أراد أن يحمل السبطي الحطب إلى مطبخه (ودليل السّورة) أي دلالتها (فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ قَبْلَ نُبُوَّةِ مُوسَى) لأنه خرج بعد قتله واجتمع بشعيب وتزوج ببنته وكان عنده عشر سنين أو أكثر ثم نبئ وأرسل إلى فرعون بدعوة الرسالة، (وقال قتادة وكزه بالعصا) أي لا بآلة من السلاح (ولم يتعمّد قتله) بل أراد دفعه عن الظلم ورده إلى الصلاح فكان قتله على وجه الخطأ (فعلى هذا لا معصية في ذلك) مع أن القتيل كان كافرا هنالك إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بقتل من لم يكن من أهل الإسلام ولهذا ندم على فعله؛ (وقوله هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [القصص: 15] ) محمول عليه أي أنه من عمل يحبه الشيطان ولا يبعد أن تكون الإشارة لما جرى بين السبطي والقبطي وما أدى إلى معاونته عليه الصلاة والسلام لمحبه على عدوه (وقوله ظَلَمْتُ نَفْسِي) حيث ضربته من غير أن أكون مأمورا به (فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16] ) ما صدر عني ففي الحديث اللهم اغفر لي ذنبي وخطاي وعمدي وكل ذلك عندي (قال ابن جريج) بجيمين مصغرا القرشي مولاهم المكي الفقيه أحد الأعلام يروي عن مجاهد وابن أبي مليكة وعطاء وعنه القطان وغيره قال ابن عيينة سمعته يقول ما دون العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 تدويني أحد أخرج له الأئمة الستة (قال) أي موسى (ذلك) الكلام (مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يقتل) أحدا (حتّى يؤمر) بقتله ولما أدى ضربه إلى قتله استغفر ربه في تقصير أمره؛ (وقال النّقّاش) أي الموصلي (لَمْ يَقْتُلْهُ عَنْ عَمْدٍ مُرِيدًا لِلْقَتْلِ وَإِنَّمَا وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه) عن أهل وده (قال) النقاش (وقد قيل إنّ هذا) أي القتل مع أنه كان خطأ (كان قبل النّبوّة وهو مقتضى التّلاوة) لقوله تعالى فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة إلى آخر القصة فإن النبوة كانت له بعدها بمدة طويلة (وقوله تعالى في قضيته) وفي نسخة في قصته أي حال رفع غصته (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طَهَ: 40] أَيِ ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً بَعْدَ ابتلاء) أي امتحناك فتونا (قيل) أريد ابتلاؤه (فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فرعون) حيث ائتمر قومه في قتله (وقيل إلقاؤه في التّابوت) أولا (واليمّ) أي البحر ثانيا ووقوعه في يد فرعون ثالثا (وغير ذلك) مما ابتلي هنالك (وقيل معناه أخلصناك إخلاصا) لأن ابتلاءه إنما هو للتهذيب لا للتعذيب (قاله ابن جبير) وهو سعيد (ومجاهد) وهو ابن جبير تابعيان جليلان وهو مأخوذ (من قولهم) أي العرب (فتنت الفضّة في النّار إذا خلّصتها) أي أذبتها وأصفيتها من غيرها مما اختلط بها (وأصل الفتنة معنى) بالتنوين أي في اصطلاح الخاصة (الاختبار) أي الامتحان وهو مرفوع (وإظهار ما بطن) أي مطلقا ومنه قول بعضهم عند الامتحان يكرم المرء أو يهان (إِلَّا أَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فِي اختبار أدّى) ويروى يؤدي (إلى ما يكره) بصيغة المجهول أي إلى أمر مكروه في الطبع (وكذلك ما روي في الخبر الصّحيح) أي في صحيح البخاري في كتاب الأنبياء (من أنّ ملك الموت جاءه) أي موسى مصورا بصورة إنسان (فلطم عينه) أي ضربها بباطن راحته (ففقأها) أي أخرجها (الحديث) أي إلى آخره (ليس فيه) أي في الحديث من الدليل (ما يحكم على موسى عليه السلام بالتّعدّي) أي بشيء يقضي عليه بالتجاوز عن الجد على ملك الموت حيث لم يعرفه (وفعل ما لم) وفي نسخة ما لا (يجب له) أي وبفعل شيء لا يجوز له ولم يثبت شرعا ويروى ما يحكم التعدي وفعل ما لم يجب بالنصب فيهما أي ما يمنعهما (إِذْ هُوَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ بَيِّنُ الْوَجْهِ جَائِزُ الفعل) بالعقل والنقل (لِأَنَّ مُوسَى دَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ أَتَاهُ لِإِتْلَافِهَا وَقَدْ تُصُوِّرَ لَهُ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ) أراد هلاكها (ولا يمكن) أي لا يتصور في حق موسى عليه الصلاة والسلام ولا غيره من سائر الأنام (أنه علم حينئذ أنه ملك الموت) وأنه من عند ربه وعن اذنه وأمره (فَدَافَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ مُدَافَعَةً أَدَّتْ إِلَى ذَهَابِ عَيْنِ تِلْكَ الصُّورَةِ الَّتِي تُصُوِّرَ لَهُ فِيهَا الملك امتحانا من الله تعالى) أي اختبارا لموسى عليه السلام وفي نسخة لهما ولا يظهر وجهه (فلمّا جاءه) أي الملك (بعد) أي بعد ذهابه إلى الله تعالى ورجوعه من عند مولاه (وأعلمه الله تعالى) أي موسى عليه السّلام (أنه) الملك المصور (رسوله إليه) ليقبض روحه (استسلم) أي انقاد؛ (وللمتقدّمين والمتأخّرين) من علماء المحدثين والمتكلمين (على هذا) ويروى عن هذا الحديث (أجوبة) أي متعددة (هذا) الجواب المتقدم (أسدّها عندي) بسين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 مهملة وتشديد ثانية أي أقواها وأقومها ومنه قول الشاعر: اعلمه الرماية كل يوم ... فلما استد ساعده رماني وقيل في البيت إنها بالمعجمة (وَهُوَ تَأْوِيلُ شَيْخِنَا الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ المازريّ) بفتح الزاء وهو الأكثر وقد تكسر وهو منسوب لمازر بلدة بجزيرة صقلية وقيل قبيلة تسمى بمازر افتى وهو ابن عشرين سنة وهو مشهور بالإمام سماه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك في المنام مات بالمهدية سنة ست وثلاثين وخمسمائة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة واحتمل في البحر إلى المنستير فدفن بها وهو أحد الأعلام المالكية وقد شرح مسلما شرحا جيدا سماه المعلم لفوائد كتاب مسلم وعليه بنى القاضي عياض المصنف كتاب الإكمال وهو تكملة لهذا الكتاب وله كتاب إيضاح المحصول في برهان الأصول وله في الأدب كتب متعددة مفيدة (وقد تأوّله قديما ابن عائشة) وهو عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي القرشي المعروف بالعيشي لأنه من ولد عائشة بنت طلحة كان أحد العلماء والأشراف والمحدثين روى عن حماد بن سلمة وغيره وعنه أبو داود والبغوي وخلق وثقه أبو حاتم وأخرج له أبو داود والترمذي والنسائي ومات سنة ثمان وعشرين ومائتين (وغيره) أي من العلماء المتقدمين (على صكّه) المعنوي (وَلَطْمِهِ بِالْحُجَّةِ وَفَقْءِ عَيْنِ حُجَّتِهِ وَهُوَ كَلَامٌ مستعمل في هذا الباب في اللّغة ومعروف) عند أهلها فإنه يقال صكه ضربه مطلقا وضربه بشيء عريض وصكه غلبه بالحجة وكذا يقال لطمه ضربه على الوجه بباطن الراحة ولطمه غلبه بالحجة والظاهر أن المعنى الأول حقيقي والآخر مجازي. (وَأَمَّا قِصَّةُ سُلَيْمَانَ وَمَا حَكَى فِيهَا أَهْلُ التَّفَاسِيرِ مِنْ ذَنْبِهِ وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ [ص: 34] فمعناه ابتليناه) أي امتحناه واختبرناه (وابتلاؤه بما) وفي نسخة ما (حكي) الأولى روي (عن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال) أي سليمان عليه الصلاة والسلام في بعض الأيام (لأطوفنّ) وفي رواية لأطيفن بضم الهمزة أي أدورن والمراد أقعن (اللّيلة) أي المقبلة (على مائة امرأة أو تسع وتسعين) أي امرأة والشك من الراوي (كلّهنّ يأتين) أي كل واحدة منهن تأتي (بفارس) أي بمولود يكبر ويصير راكب فرس (يجاهد في سبيل الله تعالى) ولا شك أن هذا نية صالحة يترتب عليها مثوبة كاملة وقد روي عن أبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كَانَ فِي ظَهْرِ سُلَيْمَانَ مَاءُ مِائَةِ رَجُلٍ (فقال له صاحبه) أي مخاطبه وهو الملك وقيل آدمي وقيل القرين وأبعد من قال خاطره (قل إن شاء الله فلم تقل) حيث شغله عنه شيء وانساه لما قدره الله وقضاه. (فلم تحمل) بكسر الميم أي فلم تحبل (منهنّ) أي النساء كلهن (إلّا واحدة جاءت بشقّ رجل) بكسر الشين وتشديد القاف أي بنصفه وفي صحيح مسلم فولدت له بنصف إنسان قال النووي في شرح مسلم عقيب قوله فقال له صاحبه أو الملك قل إن شاء الله تعالى قيل المراد بصاحبه الملك وهو الظاهر من لفظه ثم حكى القولين الآخرين (قال النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 شاء الله لجاهدوا) أي لجاءت كل واحدة بولد وكبروا (وقاتلوا فوق الفرسان في سبيل الله تعالى قال أصحاب المعاني) أي المؤولون للمباني (وَالشِّقُّ هُوَ الْجَسَدُ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ) أي سرير سليمان عليه الصلاة والسلام (حين عرض عليه) أي ولده وذكر عصمة الأنبياء أن الجسد عبارة عن ولد لسليمان ولد له بفرد رجل وهو ميت فوضع في سريره (وهي) أي هذه الحالة (عقوبته) أي بليته (ومحنته) المعبر عنها بفتنته (وقيل بل مات) الولد (فألقي على كرسيّه ميّتا) وهو الظاهر من إطلاق الجسد والعدول عن الولد وهذا يحتمل أن يكون من أصله نزل ميتا أو كان حيا ثم صار ميتا وروي أنه ولد له ابن فقال الشياطين إن عاش لم تنفك من السخرة فسبيلنا أن نقتله فعلم ذلك وكان ينفذه في السحابة فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فنبه على خطئه في أنه لم يتوكل فيه على ربه فاستغفر ربه وأناب ثم يحتمل أن هذا الابتلاء لأجل ترك الاستثناء على ما هو ظاهر الحديث، (وقيل ذنبه حرصه على ذلك) أي جنس الولد (وتمنّيه) أي كثرتهم في البلد ولا ينبغي للكامل أن يطلب من الله سواه، (وقيل لأنّه لم يستثن) أي لم يقل إن شاء الله تعالى (لِمَا اسْتَغْرَقَهُ مِنَ الْحِرْصِ وَغَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ التّمنّي) أي فكان سبب نسيان الاستثناء في ذلك المتمني (وقيل عقوبته) المعبر عنها بفتنته (أن سلب ملكه) أي حكمه في رعيته وفي هذا امتحان من الله تعالى لأرباب الجاه (وذنبه) أي الذي كان سبب سلب ملكه (أَنْ أَحَبَّ بِقَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِأَخْتَانِهِ) بفتح الهمزة جمع الختن أي اصهاره أو كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ (على خصمهم) ولعل هذا كان على خطرة من لوازم البشرية فلا يعد من المعصية إلا للكمل في القضية وقال الأنطاكي فقد ورد عن السدي أنه قال كان سبب فتنة سليمان هو أنه كانت في نسائه امرأة يقال لها جرادة وهي آثر نسائه عنده فقالت له يوما إن أخي بينه وبين فلان خصومة وأنا أحب أن يقضى له إذا جاء فقال نعم ولم يفعل فابتلي بقوله (وقيل ووخذ) مجهول وأخذ كووري مجهول وارى وفي نسخة أو خذ أي عوقب (بذنب قارفه بعض نسائه) أي كسبته من غير إطلاعه وفيه أنه تعالى لا يؤاخذ أحدا بفعل غيره ولعله عوقب لتقصيره في أمره ومقارفتهن إنما تكون من تأخير صلاة أو صوم أو زكاة أو لبس حلية محرمة أو نياحة مكروهة وأمثالها ولا يجوز أن يتوهم فعل فاحشة منهن فقد قال المفسرون في قوله سبحانه وتعالى فَخانَتاهُما أي في الطاعة لهما والإيمان بهما إذ ما بغت امرأة نبي قط أي ما زنت ويشير إليه قوله تعالى الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ الآيات وأما ما نقله التلمساني عن السهيلي في قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية أن من قذف أزواج النبي عليه الصلاة والسلام فقد سبه فمن اعظم الأذية أن يقول عن الرجل قرنان وإذا سب نبي بمثل هذا فهو كفر صريح انتهى فهو معلول إذ لا يلزم هذا إلا إذا كان عالما بالفاحشة وراضيا بها عليه تقدير وجودها نعم الآن قذف عائشة كفر بلا شبهة بناء على أنه إنكار للقرآن بخلاف من سبق له قذفها قبل نزول آيات البراءة فإن كان مرتكب كبير ولذا حدهم النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 صلى الله تعالى عليه وسلم حد القذف ولم يقتلهم لارتدادهم ولا أمرهم تحديد الإسلام وسائر ما يترتب عليه من الأحكام وقال الأنطاكي حكي أن سليمان عليه الصلاة والسلام بلغه أن في بعض الجزائر مدينة عظيمة وبها ملك عظيم الشأن فخرج إليها يحمله الريح حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وأصاب بنتا له من أحسن النساء وجها فاصطفاها لنفسه وأسلمت فأحبها وكان لا يرقأ بدمعها حزنا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدون لتلك الصورة فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش الرماد فجلس عليه تائبا إلى الله تعالى متضرعا إلى مولاه (وَلَا يَصِحُّ مَا نَقَلَهُ الْأَخْبَارِيُّونَ مِنْ تَشَبُّهِ الشّيطان به) أي بصورته وفي نسخة ما قاله الاخباريون من خرافاتهم عما فعله ومن تشبه الشيطان به (وتسلّطه على ملكه) أي سرير دولته (وتصرّفه في أمّته) وسائر رعيته (بِالْجَوْرِ فِي حُكْمِهِ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يُسَلَّطُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا؛ وَقَدْ عُصِمَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ مثله) قلت ومما يؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام إن الشيطان لا يتمثل بي ولا يتصور بصورتي فهذا إذا كان ممنوعا عنه في حال المنام فبالأولى أن لا يقدر على التمثل في حال اليقظة بشكله عليه الصلاة والسلام والظاهر أن سائر الأنبياء عليهم السلام يكون أمرهم على هذا النظام فإن الأنام مأمورون باتباع أوامرهم ونواهيهم والاقتداء بأقواله وأفعالهم فلو صور الشيطان بصور الأنبياء لوقع التشكيك في حقيقة أحوالهم ومن جملة ما نقله الأخباريون في تشبه الشيطان به وتسلطه على ملكه أن سليمان عليه السلام كانت له أم ولد يقال لها أمينة وكان إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما فأتاها الشيطان صاحب البحر واسمه الصخر على صورة سليمان فقال يا أمينة خاتمي فناولته إياه فتختم به وجلس على كرسي سليمان فعكفت عليه الطير والجن والإنس وغير سليمان من هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فكان عليه السلام يدور على البيوت يتكفف وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ثم عمد إلى السماكين ينقل لهم السمك ويعطونه كل يوم سمكتين فمكث على ذلك أربعين صباحا عدد ما عبد الوثن في بيته فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان فقلن ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به فوقع ساجدا لله تعالى ورجع إليه ملكه هذه فرية عظيمة بلا مرية ولقد أبى العلماء المحققون قبول هذا النقل تنزيها لنساء الأنبياء عما نسب إليهن من الانباء، (وإن سلم لِمَ لَمْ يَقُلْ سُلَيْمَانُ فِي الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ إن شاء الله فعنه أجوبة) متعددة (أحدها) وفي نسخة فعنه جوابان أي مرضيان أحدهما (مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ نَسِيَ أن يقولها وذلك) أي وقوع النسيان (لينفذ مراد الله تعالى) وفق ما قدره وقضاه فهذا كقوله تعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 يَشاءَ اللَّهُ (والثّاني أنّه لم يسمع صاحبه) أي كلامه (وشغل عنه) بشيء خالف مرامه (وَقَوْلُهُ وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] لَمْ يَفْعَلْ هَذَا سُلَيْمَانُ) أي لم يصدر عنه هذا القول (غيرة) بفتح الغين ويكسر أي حرصا ونهمة (على الدّنيا) من مالها وجاهها (ولا نفاسة بها) بفتح النون أي لا رغبة فيها إذ جل رغبتهم في حضرة المولى ونعمة الأخرى قال تعالى وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ لأن النفاسة رغبة في الشيء النفيس دون الخسيس وقد ورد لو كانت الدنيا تعدل جناح بعوضة لما سقي كافرا منها شربة ماء وإنما ابتلي سليمان عليه السلام بهذا الملك الوسيع والجاه الرفيع ليكون حجة على الملوك في القيام بحق العبودية والعمل بأحكام الربوبية ومع هذا فقد ورد أنه يدخل الجنة بعد سائر الأنبياء بخمسمائة عام لتعرف أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر ولهذا ورد أن عبد الرحمن ابن عوف يدخل الجنة بعد فقراء المهاجرين بخمسمائة عام فكل هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في العقبى والحكم فيهما للمولى رزقنا الله العمل بالأولى وبلغنا المقام الأعلى والمرام الأعلى (ولكن مقصده) بكسر الصاد أي مراده بهذا الدعاء (في ذلك) النداء (على ما ذكره المفسّرون) أي بعضهم (أَنْ لَا يُسَلَّطَ عَلَيْهِ أَحَدٌ كَمَا سُلِّطَ عليه الشّيطان الّذي سلمه إِيَّاهُ مُدَّةَ امْتِحَانِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ) ويروى على من قال (ذلك) وقد عرفت ضعف ما هنالك. (وَقِيلَ بَلْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الله فضيلة) زائدة (وخاصّة) أي مزية خالصة (يَخْتَصُّ بِهَا كَاخْتِصَاصِ غَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ورسله بخواصّ منه) كالخلة لإبراهيم وكالتكليم لموسى ونحوهما فإن قيامه على وجه العدالة والاستقامة مع كثرة الرعية من الجن والإنس والطير والذرة وتفقدهم بالرعاية والحماية لعله من خواصه لم يكن لغيره أن يقوم مقامه فسبحان من أقام العباد فيما أراد وقد قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً فمن عباده من يصلح للفقر والعناء ومنهم من يصلح للجاه والغنى وليس أحد يطلع على حقيقة القدر والقضاء، (وقيل ليكون ذلك) أي بقاء ملكه حقيقة وحكما (دَلِيلًا وَحُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ كَإِلَانَةِ الْحَدِيدِ لِأَبِيهِ) أي دواد كما في نسخة (وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِعِيسَى وَاخْتِصَاصِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم بالشّفاعة) أي الكبرى وهي المقام المحمود (ونحو هذا) من اختصاص موسى بنعت الكليم ووصف إبراهيم بالخلة. (وأمّا قصّة نوح عليه السّلام) وهو منصرف وجوز منع صرفه قيل اسمه عبد الغفار وسمي نوحا لكثرة بكائه وتضرعه في دعائه (فظاهرة العذر) فيما وقع له من الأمر (وأنّه أخذ فيها بالتّأويل) وفي نسخة بالتأويل (وظاهر اللّفظ لقوله تعالى وأهلك) أي عمومه في الخلاص من هلاكه وكأنه صرف الاستثناء إلى غير أهله، (فطلب مقتضى هذا اللّفظ) من عمومه (وأراد علم ما طوي عنه) بصيغة المجهول أي ستر وخفي (من ذلك) خصوصه بإخراجه من جملة أهله (لا أنّه) أي نوحا (شكّ في وعد الله تعالى) بنجاة أهله (فبيّن الله عليه) أي أظهر لديه وفي نسخة علته أي سببه (أنّه ليس من أهله الّذين وعدهم) وفي نسخة وَعَدَهُ (بِنَجَاتِهِمْ لِكُفْرِهِ وَعَمَلِهِ الَّذِي هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 غير صالح وقد أعلمه) أي الله تعالى (أنّه مغرق الّذين ظلموا) بالإضافة ودونها (ونهاه عن مخاطبته) إياه (فيهم فأوخذ) بصيغة المجهول من المؤاخذة بالهمزة والواو لغتان وقراءتان وفي نسخة فووخذ بواوين بناء على اللغة الأخيرة فهو كقوله تعالى ما وُورِيَ والمعنى فعوقب (بهذا التّأويل) حيث خالف حقيقة التنزيل (وعتب عليه) عطف تفسير وكان الأظهر وعوتب عليه وفي نسخة وعيب بكسر فسكون تحتية والظاهر أنه تصحيف (وأشفق) أي خاف (هو) أي نوح (من إقدامه على ربّه) أي جراءته (لسؤاله) أي لأجله وفي نسخة بسؤاله أي بسببه (ما لم يؤذن له) وفي نسخة ما لم يأذن (في السّؤال فيه) أي في حقه (وَكَانَ نُوحٌ فِيمَا حَكَاهُ النَّقَّاشُ لَا يَعْلَمُ بكفر ابنه) لأنه كان منافقا في أمره وتابعا لأمه في كفره (وقيل في الآية غير هذا) لبعض العلماء في تفسيره (وكلّ هذا لا يقضي) أي لا يحكم (على نوح بمعصية) أي كبيرة (سوى ما ذكرناه من تأويله) للمقال (وإقدامه بالسّؤال فيمن لم) وفي نسخة فِيمَا لَمْ (يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ وَلَا نُهِيَ عنه؛ وما روي في الصّحيح) أي صحيح الأحاديث مما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة (من أنّ نبيّا قرصته نملة) أي عضته (فحرّق) بتشديد الراء أي فأحرق (قرية النّمل) أي بيتها وجحرها (فأوحى الله تعالى إليه أن) بفتح الهمزة وسكون النون أي لأن (قرصتك نملة) أي واحدة كما في نسخة (أحرقت أمّة من الأمم تسبّح) وذلك لقوله تعالى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ وقوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وقال الزكي المنذري إن هذا النبي جاء من غير وجه أنه عزير انتهى ولا شك أن المبهمين في الأحاديث لا يعرفون إلا من حديث آخر مصرح بتسمية الشخص منهم ويشكل هذا بما في أبي داود مرفوعا لا أدري أعزير نبي أم لا وصححه الحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه والجواب لعل الله أطلعه على أنه نبي بعد ذلك فأخبره وفي كلام الطبري أن هذا النبي هو موسى عليه الصلاة والسلام ونقله عن الحكيم الترمذي وعن ابن عباس قال نهى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والصرد بضم الصاد المهملة وفتح الراء طائر معروف ضخم الرأس والمنقار له ريش عظيم نصفه أسود ونصفه أبيض قال الخطابي أما نهيه عن قتل النحلة فلما فيها من المنفعة وأما الهدهد والصرد فإنما نهى عن قتلهما لتحريم لحمهما وذلك أن الحيوان إذا نهي عن قتله ولم يكن ذلك لحرمة ولا لمضرة كان ذلك لتحريم لحمه انتهى ولعل النهي عن قتل النمل محمول على حال عدم الأذية أو المضرة فالمعاتبة على النبي من حيث قتله سائر النمل من غير حصول العلة والله تعالى اعلم بالحقيقة ثم النمل جنس منفرده النملة ويستوي مذكرها ومؤنثها كالحمامة ونحوها وإنما استدل إمامنا الأعظم على أن نملة سليمان عليه الصلاة والسلام كانت أنثى بدليل قوله تعالى قالت لأنها لو كانت ذكرا لقيل قال لا سيما والفعل مقدم والتأنيث غير حقيقي وقد وهم التلمساني ولم يتحقق كلام الإمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 الرباني وإذا عرفت حقيقة القضية (فليس في هذا الحديث) أي السابق ما يقتضي (أنّ هذا الّذي أتى معصية) ووقع في أصل التلمساني أن هذا الذي أتى معصية فتكلف له بأن الذي موصول وأتى صلته وعائده محذوف لأنه منصوب أي أتاه معصية برفعها على خبر أن أو خبر محذوف (بل فعل ما رآه مصلحة وصوابا) أي صورة (بقتل من) وفي نسخة صحيحة ما (يؤذي جنسه) ولعل وجه من أن جنس المؤذي مختلط بين من يعقل وما لا يعقل و (يمنع المنفعة بما أباح الله تعالى) أي من الراحة بالنوم ونحوه، (أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ كَانَ نَازِلًا تحت الشّجرة) وفي نسخة تحت شجرة ولعلها كانت بعيدة عن العمارة (فلمّا آذته النّملة) أي الواحدة بأن عضته (تحوّل برحله) أي متاعه (عنها مخافة تكرار الأذى عليه) منها (وليس فيما أوحى الله تعالى إليه) من الملامة (ما يوجب عليه معصية بل ندبه) أي دعاه (إلى احتمال الصّبر) على الأذية (وترك التّشفيّ) أي الانتقام في القضية (كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126] ) وفيه أن الصبر على أذى الحيوان ليس كالصبر على مضرة أفراد الإنسان كما بينه العلماء الأعيان (إذ ظاهر فعله) من الإحراق (إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهَا آذَتْهُ هُوَ فِي خاصّته) أي خاصة نفسه (فكان انتقاما لنفسه) أي انتصارا لروحه (وقطع مضرّة يتوقّعها) أي يخشاها أي يمكن حصولها (من بقيّة النّمل هناك) ولنا توقف في ذلك (ولم يأت) أي لم يفعل النبي (في كلّ هذا أمرا نهي عنه فيعصّى به) بضم الياء وفتح الصاد المشددة أي حتى ينسب إلى المعصية (وَلَا نَصَّ فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ ولا بالتّوبة والاستغفار منه) أي تصريحا وإلا فيستفاد منه تلويحا فإنه وإن كان لم يوح إليه نهي أولا فكأنه نسب إلى خطأ في اجتهاده ثانيا وهو يستدعي في الجملة رجوعه إلى الاستغفار والتوبة كما هو طريق أرباب النبوة وأصحاب الفتوة هذا وفي حديث رواه الطبراني عن ابن عمر مرفوعا وما من دابة ولا طائر ولا غير تقتل بغير حق إلا تخاصم يوم القيامة (فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ما من أحد إلّا ألّم بذنب) أي نزل به وتنزل بارتكابه (أو كاد) أي قارب أن يلم به (إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا أَوْ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام) ما هذا معناه وإنما الشك في مبناه وإنما قال هذا لأن الحديث روي بألفاظ مختلفة منها ما رواه القاضي ومنها ما من نبي إلا وقد هم أو الم ليس يحيى بن زكريا ومنها غير ذلك (فَالْجَوَابُ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي وَقَعَتْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَعَنْ سَهْوٍ وغفلة) ويدل عليه أن اللمم إنما يطلق على الصغيرة من الزلة كما قال تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ واللمم هو أن يلم الرجل بالذنب مرة ثم يتوب ولا يعود إليه كما قال ابن عباس والمشهور أنه الصغير من الذنوب وقد قال عليه الصلاة والسلام إن تغفر اللهم فاغفر جما ... وأي عبد لك لا الما فهذا الاستثناء الدال على العموم ينافي الحديث المذكور من استثناء يحيى إلا أن يحمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 على الأغلب ثم الأنسب أن يقال هذا النعت من خصائص يحيى عليه السلام وأنه من صغره إلى كبره ما هم بمعصية قط ولا خطر بباله سيئة قبل البعثة فضلا عما بعد النبوة ولذا قيل في قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا أي نبئ في أوله أمره ونشأة عمره ولذا امتنع من اللعب مع أقرانه في حال صغره وقد اعطي عيسى عليه الصلاة والسلام أيضا النبوة من أول الوهلة ما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وهو يوم القيامة لم يذكر له ذنبا كسائر أولي العزم من الرسل إلا أنه يتعلل بأنه عبد من دون الله وهو بلا شبهة ما كان يريده ويرضاه لكنه يحتمل أنه هم ببعض الذنوب وتركه خشية من الله فحصر الحكم في يحيى يستقيم بهذا التأويل القويم والله تعالى اعلم ثم إن الحديث الذي أورده المصنف ضعيف فلا يجوز الاحتجاج به على ما أجاب عنه النووي والمصنف إنما أجاب عنه على تقدير صحته ثم اعلم أن هذا الحديث رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن زهير عن عفان عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال ما من أحد من ولد آدم إلا وقد اخطأ أو همّ بخطيئة ليس يحيى بن زكريا أي إلا يحيى ولعل هذا لدعاء زكريا وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي مرضيا وهذا إسناد ضعيف لأجل علي بن زيد بن جدعان وإن كان حافظا لكنه ليس بالثبت وقد أخرج له مسلم والأربعة ويوسف بن مهران انفرد عنه علي بن زيد بن جدعان وقد وثقه أبو زرعة وقال أبو حاتم يكتب حديثه ويذاكر به أخرج له البخاري في تاريخه وظاهر هذا الإسناد أنه حسن لا ضعيف ولا صحيح والله سبحانه وتعالى اعلم. فصل (فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا نَفَيْتَ عَنْهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم الذّنوب) أي الكبائر (والمعاصي) أي الصغائر (بِمَا ذَكَرْتَهُ مِنَ اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ وَتَأْوِيلِ الْمُحَقِّقِينَ) في الفصل السابق وحاصله أن حسنات الأبرار سيئات المقربين (فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] ) أي جهل حكمه (وَمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنَ اعتراف الأنبياء بذنوبهم) في الدنيا أو يوم القيامة (وتوبتهم) أي عن تقصيرهم في طاعتهم (واستغفارهم) أي طلب مغفرتهم عن سهوهم وغفلتهم (وبكائهم على ما سلف منهم) في حالتهم كداود إذ قد ورد أنه بكى حتى بلت دموعه الأرض (وإشفاقهم) أي من عقوبتهم في عاقبتهم (وهل يشفق) بصيغة المجهول أي يخاف (ويتاب ويستغفر من لا شيء) أي من غير شيء هو باعث وفي نسخة من لا يسيء أي لا يذنب على أن الأفعال الثلاثة فيما قبله مبنية للفاعل (فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ في الرّفعة والعلوّ) أي علو الرتبة (والمعرفة بالله) واتصافه بنعوت جلاله وعظمته وكبريائه (وسنّته) أي عادته الجارية (في عباده وعظم سلطانه) وكريم برهانه وعلو شأنه وفي نسخة وعظم سلطانه (وقوّة بطشه) أي أخذه بالقهر والغلبة (مِمَّا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 الخوف منه جلّ جلاله) وعظم كماله (والإشفاق) أي وعلى الحذر (مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُهُمْ) كما يشير إليه قوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وحديث أنا اعلمكم بالله وأخشاكم له (وأنّهم في تصرّفهم بأمور) أي مباحة (لَمْ يُنْهَوْا عَنْهَا وَلَا أُمِرُوا بِهَا ثُمَّ أوخذوا) وفي نسخة وخذوا أي عوقبوا (عليها وعوتبوا بسببها وحذّروا) أي احترسوا وفي نسخة حذروا بتشديد الذال على بناء المجهول أي خوفوا (من المؤاخذة بها وأتوها) أي فعلوها (على وجه التّأويل أو السّهو) أي الخطأ والغفلة (أو تزيّد) بفتح التاء والزاء وتشديد الياء أي على وجه طلب زيادة (من أمور الدّنيا المباحة خائفون) أي وهم مشفقون (وجلون) أي حذرون مضطربون (وهي ذنوب بالإضافة إلى عليّ منصبهم) بفتح العين وكسر اللام وتشديد الياء أي علوه (ومعاص بالنّسبة إلى كمال طاعتهم) وجمال عبادتهم (لا أنّها كذنوب غيرهم ومعاصيهم) أي معاصي غيرهم كما أن طاعات الأنبياء وإيمانهم ليست كطاعات الأمم وإيمانهم في مراتب ايقانهم واتقانهم فلا يقاس الملوك بالحداد والصعلوك (فإنّ الذّنب مأخوذ من الشّيء الدّني) أي الحقير الخسيس (الرّذل) بفتح الراء وسكون الذال المعجمة أي المذموم الردي (ومنه ذنب كلّ شيء) بفتحتين (أي آخره وأذناب النّاس رذّالهم) بضم أوله وتخفيف ثانيه جمع رذل أي خسيستهم وفي نسخة أراذلهم جمع ارذل (فكأن) بتشديد النون وفي نسخة فكان وفي أخرى فكانت (هذه) أي الأمور التي تصرفوا فيها (أدنى أفعالهم) أي أردأها (وأسوأ ما يجري من أحوالهم) بالإضافة إلى أعلى مراتب أفعالهم (لتطهيرهم وتنزيههم) عما لا يليق بهم (وعمارة بواطنهم وظواهرهم بالعمل الصّالح) مما أمروا به واجبا أو مندوبا (والكلم الطّيّب) من تهليل وتسبيح وتكبير واذكار ودعاء واستغفار وفيه إشارة إلى قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وفي الحديث أن الكلم الطيب سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك فحيى بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم تقبل (والذّكر الظّاهر) أي الجلي (والخفيّ) أي الباطن وفي الحديث خير الذكر الخفي (والخشية لله) لما تقدم من الآية والحديث (وإعظامه في السّرّ والعلانية) بتحسين النية وتزيين الطوية (وغيرهم) من عوام الأمة (يتلوّث) أي يتلطخ بقاذورات الذنوب (من الكبائر والقبائح) أي الشاملة اللصغائر (والفواحش) أي اعظم الكبائر وهو ما يتعلق بحقوق العباد (ما) وكان حقه أن يقول كما في نسخة بما أي يتلوث غيرهم بأشياء (تكون هذه الهنات) بفتح الهاء والنون أي العثرات والزلات وفي نسخة الهيئات بفتح الهاء وسكون الياء وهمزة ممدودة أي الحالات وفي نسخة بالإضافة إلى هذه الهنات ويروى بالإضافة إليه هذه الهنات فالهنات بالرفع فاعل تكون والمعنى تكون الهنات التي صدرت عن أصحاب النبوات بالإضافة إليه على أن الضمير في إليه يعود إلى ما أي بالنسبة إلى ما يتلوث به ذلك الغير من السيئات (في حقّه) أي في حق غيرهم (كالحسنات) بل حسنات إذ ليست في الحقيقة سيئات بل طاعات (كما قيل حسنات الأبرار) أي من المؤمنين (سيّئات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 المقرّبين) من الأنبياء والمرسلين (أي يرونها) أي يظنون تلك الحسنات (بالإضافة إلى عليّ أحوالهم كالسّيّئات) وهذا كما قيل كان المقربون أشد استعظاما للزلة الصغيرة من الإبرار للمعصية الكبيرة وكانوا فيما أحل لهم أزهد من الإبرار فيما حرم عليهم وكان الذي لا بأس به عند الإبرار كالموبقات عند أولئك الأخبار فبين المقامين بون بين (وكذلك العصيان) أي معناه (التّرك) أي ترك الموافقة (والمخالفة) في الطاعة إلا أنه إن كان عن عمد فذنب ومعصية وإلا فزلة وعثرة (فعلى مقتضى اللّفظة) أي إطلاقها (كيف ما كَانَتْ مِنْ سَهْوٍ أَوْ تَأْوِيلٍ فَهِيَ مُخَالَفَةٌ وترك) أي وترك طاعة إما حقيقة وإما صورة (وقوله غوى أي جهل) وكان الأحسن في العبارة أن يقول لم يعرف (أنّ تلك الشّجرة) المأكول منها (هي التي نهي عنها) أي بعينها أو غيرها من جنسها فأكل منها غير عالم أنها هي بخصوصها وهذا معنى قوله تعالى فَنَسِيَ (والغيّ الجهل) وأصل معنى غوى ضل وقد يأتي متعديا فيكون المعنى أنه أغوته حواء بأن تبعها في الهوى (وقيل) أي في معنى غوى (أَخْطَأَ مَا طَلَبَ مِنَ الْخُلُودِ إِذْ أَكَلَهَا) إذ تعليلية والمعنى لأنه أكلها (وخابت أمنيّته) بضم الهمزة وكسر النون وتشديد التحتية وهي ما يتمنى والجمع أماني مشددا ويخفف (وهذا يوسف عليه السّلام قد ووخذ) بواوين وفي نسخة أوخذ أي عوتب (بقوله لأحد صاحبي السّجن) أي ساكنه معه وهو الشرابي للملك (اذْكُرْنِي) أي حالي عِنْدَ رَبِّكَ) أي سيدك ليخلصني من سجني (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) مصدر مضاف إلى مفعوله أي أنساه ذكر يوسف لسيده (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ) أي مكث في الحبس (بِضْعَ سِنِينَ [يوسف: 42] ) وأكثر ما قيل إنه عليه السلام لبث فيه سبع سنين وقيل لبثها سبعا أي بعد قوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ (قيل أنسي يوسف) بصيغة المجهول أي أنساه السيطان (ذكر الله تعالى) حتى استعان بما سواه؛ (وَقِيلَ أُنْسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِسَيِّدِهِ الْمَلِكِ) كما قدمناه وفي الجملة، (قال النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لولا كلمة يوسف) أي هذه (ما لبث في السّجن ما لبث) أي مدة لبثه وفي رواية رحم الله أخي يوسف لم يقل اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لما لبث في السجن سبعا بعد الخمس على ما بيناه والاستعانة في كشف شدائد البلاء وإن كانت محمودة في الجملة لكن لا تليق بمنصب الأنبياء والكمل من الأولياء والاصفياء ونظيره ما حكي عن الجنيد أنه كان في جنازة فرأى سائلا يسأل فخطر بباله لو اكتسب هذا لكان خيرا له من أن يسأل فرأه في منامه ميتا ويقال له كل منه فقال كيف آكل منه وهو آدمي فقيل له إنك اغتبته فقال معاذ الله وإنما خطر ببالي ذلك فقيل له إنا لا نرضى من مثلك بهذا (قال ابن دينار) من اجلاء التابعين واسمه مالك مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وهو من أجل علماء البصرة وزهادهم يروي عن أنس وسعيد بن جبير وثقه النسائي وغيره وقد ذكره ابن حبان في الثقات أخرج له الأربعة وعلق له البخاري وقد رواه ابن أبي حاتم أيضاف عن أنس موقوفا (لمّا قال ذلك يوسف) أي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ (قيل له) أي بالوحي الجلي أو الخفي وهو الإلهام الغيبي (أتّخذت من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 دوني وكيلا) بهمزة الاستفهام الانكاري مقررا أو مقدرا (لأطيلنّ حبسك) أي عن غيري لتطمئن إلى أمري وتسلم لي في قضائي وقد روي وتعرف حقيقة قدري فحبسه كان تهذيبا لا تعذيبا كالأربعين للمريدين تأديبا وتدريبا، (فقال) أي يوسف اعتذارا (يا ربّي أنسى قلبي كثرة البلوى) النازلة على قلبي من حين ألقيت في جبي وفورق بيني وبين أبي وحبي؛ (وقال بعضهم يؤاخذ) بصيغة المفعول وفي نسخة بالفاعل وفي أخرى أخذ (الأنبياء بمثاقيل الذّرّ) أي من محقرات الأمر (لمكانتهم عنده) أي لرفعة مرتبتهم لديه في القدر (ويجاوز) بالوجهين وفي نسخة ويتجاوز وفي أخرى وتجاوزه (عن سائر الخلق لقلّة مبالاته بهم) أي لعدم عنايته ورعايته وحمايته فيهم وإلا لكانوا كلهم اصفياء من انبياء أو أولياء (في أضعاف ما أتوا به) بقصر الهمزة أي ما فعلوه (من سوء الأدب) أي كالجبال في مخالفة أمر الرب (وقد قال المحتجّ للفرقة الأولى) أي اعترض المستدلي الموافق للطائفة السابقة القائلة بإثبات المعصية للأنبياء بعد البعثة وأورد (على سياق ما قلناه) ولحاق ما أولناه بطريق السؤال لما ظهر له من الإشكال حيث قال (إذا كان الأنبياء يؤاخذون بهذا) الحال والمنوال (مِمَّا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ السَّهْوِ والنّسيان) في الأقوال والأفعال (وما ذكرته) من حالهم بأنهم يؤاخذون بمثاقيل الذر مما لا يؤاخذ به غيرهم في مقادير الجبال (وحالهم أرفع) جملة حالية أي والحال أنهم أرفع درجة في نفس الأمر (فحالهم إذن) أي حينئذ (في هذا) أي في حق المؤاخذة (أسوأ حالا من غيرهم) حيث يعاملون بالمسامحة والمساهلة وهذا من خسافة العلم ورثاثة الفهم إذ لم يهتد إلى أن الأرفع درجة والأقرب منزلة من ربه لا يسامح بما يسامح البعيد عن مقام قربه كالوزراء والأمراء بالنسبة إلى الملوك إذا كانوا على بساط الانبساط يخالف عليهم أقوى من الرعايا في المفازات البعيدة المشتغلين بأنواع النشاط ومن هنا يعلم معنى قوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وحديث أنا أخشاكم له واتقاكم إذا عرفت ذلك مجملا، (فاعلم) ما سنلقي إليك مفصلا (أكرمك الله أنّا لا نثبت) بالتشديد والتخفيف (لك) أي مخاطبا لك ومبينا لأجلك (المؤاخذة) أي مؤاخذتهم (في هذا) الباب (على حدّ مؤاخذة غيرهم) من حلول العقاب وحصول الحجاب الدنيوي أو الأخروي؛ (بل نقول إنّهم) أي الأنبياء ونحوهم من العلماء (يؤاخذون بذلك في الدّنيا ليكون ذلك) مع كونه كفارة لما صدر عنهم هنالك (زيادة) أي لهم كما في نسخة (في درجاتهم) في العقبى (ويبتلون) بضم الياء وفتح اللام على صيغة المجهول أي ويمتحنون (بذلك) أي بمؤاخذة ربهم (ليكون استغفارهم له) وفي أصل الأنطاكي ليكون استشعارهم له أي ليكون وقوع ذلك في قلوبهم (سببا لمنماة رتبهم) بفتح الميم الأولى أي لزيادة مراتبهم ومزية مناقبهم (كما قال) عز من قائل في حق آدم عليه الصلاة والسلام (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى [طَهَ: 122] ) وقال في حق يونس عليه الصلاة والسلام فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي الكاملين في الصلاح القائمين بحقوق الله تعالى وحقوق العباد على وجه الفلاح (وقال تعالى لداود) أي في حقه ولأجله (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ [ص: 35] الآية) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (وَقَالَ بَعْدَ قَوْلِ مُوسَى تُبْتُ إِلَيْكَ. إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف: 144] ) أي برسالاتي وبكلامي (وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ فِتْنَةِ سُلَيْمَانَ وَإِنَابَتِهِ فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ [ص: 36] إِلَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص: 25] ) أي إلى قوله وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ وأمثال ذلك مما ورد في هذا الباب (وقال بعض المتكلّمين) من أرباب الإشارات (زلّات الأنبياء في الظّاهر زلّات) أي عثرات تستوجب ملامات (وفي الحقيقة كرامات وزلف) بضم الزاء وفتح اللام أي قربات ومكرمات (وأشار إلى نحو ممّا قدّمناه) من مستحسنات عبارات (وأيضا فلينبّه) من التنبيه بصيغة المجهول أو من الانتباه بصيغة المعلوم (غيرهم من البشر) وهم خواص أمتهم وأولياء ملتهم وعلماء شريعتهم (منهم) أي من جهة أحوالهم (أو ممّن ليس في درجتهم) من أهل النبوة لتفاوت مرتبتهم (بمؤاخذتهم بذلك) أي بمعاتبتهم بما فعلوا هنالك (فيستشعروا الحذر ويعتقدوا المحاسبة) فيما قل وكثر (ليلتزموا الشّكر على النّعم) بأن سلموا من موجب النقم (ويعدّوا) بضم الياء وكسر العين وتشديد الدال أي ويهيئوا (الصّبر على المحن) عند ابتلائهم بالفتن (بملاحظة ما وقع) أي حل (بأهل هذا النّصاب) أي القدر الكامل من النصب ويروى هذا النمط أي الطريق (الرّفيع) في الرتبة (المعصوم) أي المحفوظ من الفتنة والمحنة (فكيف بمن سواهم) ممن يدعي المحبة والمتابعة في طريق المودة، (ولهذا قال صالح المرّيّ) بضم الميم وتشديد الراء نسبة إلى قبيلة بني مرة وهو الواعظ الزاهد يروي عن الحسن البصري وعنه يونس المؤدب ويحيى بن يحيى ضعفوه وقال أبو داود لا يكتب حديثه وقال الترمذي له غرائب ينفرد بها ولا يتابع عليها وهو رجل صالح وقد أخرج له الترمذي (ذكر داود) مبتدأ أي ذكر الله تعالى قصة داود خبره (بسطة للتّوّابين) أي تسلية ونشاط وسبب انبساط للمذنبين ليتهيأوا للتوبة ولا ييأسوا من الرحمة (قال ابن عطاء) وهو من العلماء الأجلاء (لم يكن ما نصّ الله تعالى من قصّة صاحب الحوت) وهو يونس عليه السلام (نقصا له) في المرتبة (ولكن) كان نصه (استزادة من نبيّنا عليه الصلاة والسلام) في علو الدرجة (وأيضا فيقال لهم) أي للقائلين بجواز صدور المعصية عن ارباب النبوة بعد البعثة بطريق الالزام في القضية (فإنّكم ومن وافقكم) في هذه العقيدة (تقولون) أي اتقولون (بغفران الصّغائر باجتناب الكبائر) أي بمجرد اجتنابها فيلزم منه غفران الكبائر (ولا خلاف) أي بيننا وبينكم (فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ فَمَا جَوَّزْتُمْ من وقوع الصّغائر عليهم) أي بالفرض والتقدير (هي مغفورة على هذا) التقرير (فما معنى المؤاخذة بها إذا) أي حينئذ (عندكم) مع قولكم إنهم منزهون عن الكبائر (وخوف الأنبياء) أي وما معنى خوف الأنبياء من الصغائر (وتوبتهم منها وهي مغفورة لهم) أي لاجتنابهم الكبائر (لو كانت) أي الصغائر موجودة (فما أجابوا به) لنا (فهو جوابنا عن المؤاخذة بأفعال السّهو والتّأويل) وفيه أن مذهب أهل السنة والجماعة أنه يجوز العقوبة على الصغائر لو اجتنب مرتكبها الكبائر لدخولها تحت قوله تعالى وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ نعم ذهب بعض المعتزلة إلى أنه إذا اجتنب الكبائر لم يجز تعذيبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 بالصغائر لا بمعنى أنه يمتنع عقلا بل بمعنى أنه لا يجوز أن يقع لقيام الأدلة السمعية على أنه لا يقع مستدلا بظاهر قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وأجيب بأن الكبيرة المطلقة هي الكفر لأنه الكامل في المعصية وجمع الاسم بالنظر إلى أنواع الكفر الصادر من اليهود والنصارى والمشركين وإن كان الكل ملة واحدة في حكم الكفر أو إلى أفراده القائمة بأفراد المخاطبين فيكون من قبيل مقابلة الجمع بالجمع فيكون التقدير أن تجتنبوا أنواع الكفر نكفر عنكم سيئاتكم السابقة وأما اللاحقة فهي تحت المشيئة للآية المتقدمة فالخطاب على هذا للكفرة أو المعنى إن تجتنبوا الكبائر نكفر عنكم الصغائر بالحسنات من الطاعات كالصلاة والزكاة وسائر العبادات والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحالات، (وَقَدْ قِيلَ إِنَّ كَثْرَةَ اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وتوبته) أي بوصف كثرته (وغيره من الأنبياء) إنما كان (على وجه ملازمة الخضوع والعبوديّة) ولوازمها من المسكنة والخشوع (والاعتراف بالتّقصير) في القيام بحق العبودية كما يقتضيه كمال الربوبية وجمال الألوهية (شكرا لله على نعمه) أي من إحسانه وكرمه (كما قال عليه الصلاة والسلام وقد أمن) بفتح فكسر وفي نسخة بضم فتشديد ميم مكسور مجهول من باب التفعيل وليس كما قال الأنطاكي الظاهر إنه غلط إذ البناء المجهول من هذا الباب أو من بالميم المخففة وأصله أو من قلبت الهمزة الثانية واوا لسكونها وانضمام ما قبلها هذا مقتضى القواعد التصريفية انتهى نعم هذا مقتضاها لو اريد مجهول أمن من باب الأفعال والله اعلم بالأحوال أي والحال أنه قد اعطى الأمن (من المؤاخذة بما تقدّم وما تأخّر) من ذنبه ومع هذا قام في التهجد لربه حتى تورمت قدماه من طول قيامه مع علو مقامه وقلة منامه مغاتبه بعض أصحابه اتفعل هذا وقد غفر الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فقال في جوابه (أفلا أكون عبدا شكورا) أي كثير الشكر لربي على مغفرة ذنبي وشرح صدري وقلبي (وقال) في حديث آخر في جواب من قال يبيح الله لنبيه ما شاء من الأشياء (إنّي أخشاكم لله) وفي نسخة لأخشاكم الله أي أكثركم خشية (وأعلمكم بما أتّقى) أي احذره فأتركه من المعصية والمخالفة ورواه البخاري بلفظ إني لأتقاكم وأخشاكم له وفي رواية أن أخشاكم واتقاكم لله أنا (قال الحارث بن أسد) وفي نسخة سويد والأول هو المعول وهو المحاسبي العارف الزاهد المعروف البصري الأصل صاحب التأليف منها كتاب الرعاية ومنها النصائح ومن جملة كلامه أنه لا يعمل بما فيه خلاف الأولى والمحاسبي بضم الميم نسبة إلى محاسبة نفسه كما في النووي روى عن زيد بن هارون وغيره وعنه ابن مسروق ونحوه وهو ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن والشريعة والطريقة والحقيقة ورث من أبيه سبعين ألف درهم فلم يأخذ منها شيئا لأقل ولأجل لأن أباه كان يقول بالقدر فرأى من الورع أن لا يأخذ من ميراثه ومات وهو محتاج إلى درهم واحد وكان إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك على أصبعه عرق فكان يمنع منه وفي هذا من مناقبه توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين (خَوْفُ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ خَوْفُ إِعْظَامٍ وَتَعَبُّدٍ لِلَّهِ) على وجه إجلال واكرام (لأنّهم آمنون) من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وقوع إيلام. (وقيل فعلوا) أي الأنبياء (ذلك) أي إظهار التوبة والاستغفار هنالك (ليقتدى بهم) غيرهم (وتستنّ بهم) أي يتابعهم (أممهم كما قال عليه الصلاة والسلام لو تعلمون ما أعلم) أي من الأهوال وشدائد الأحوال (لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس ورواه الحاكم في مستدركه عن أبي ذر وزاد ولما ساغ لكم الطعام والشراب ورواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن أبي الدرداء وزاد ولخرجتم إلى الصعدات بضمتين أي الطرقات تجأرون إلى الله تعالى لا تدرون تنجون أو لا تنجون (وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مَعْنًى آخَرَ لطيفا) ومبنى شريفا (أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ مَحَبَّةِ الله) باستقصاء الغيبة عما سواه (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) أي الذين يرجعون إلى الله بتوبتهم عن رؤية حولهم وقوتهم أي عن ملاحظة طاعاتهم وعباداتهم (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] ) عن وجودهم وشهودهم وعن جودهم (فإحداث الرّسل والأنبياء) أي إيجادهم وإظهارهم (الاستغفار) وفي نسخة الاستغفار أي طلب المغفرة عل وجه الافتقار وطريق الانكسار (والتّوبّة) عن الغفلة (والإنابة) أي الرجوع من المباح إلى الطاعة (والأوبة) أي الانتقال من حال إلى حال لطلب الكمال (في كلّ حين) من زمان الاستقبال (استدعاء) أي استجلاب (لمحبّة الله) بالرجوع إلى ما يحبه ويرضاه (والاستغفار فيه معنى التّوبة) كما أن فيها معنى الاستغفار فهما متلازمان في مقام الاعتبار والحاصل أنه لا يلزم من الاستغفار والتوبة مباشرة الذنب والمعصية، (وقد قال الله لنبّيه) النبيه (بَعْدَ أَنْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنبه وما تأخّر) إن كان هنالك ذنب حقيقي يتصور (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: 117] الآية) أي الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا الآية والمعنى أنه سبحانه وفقهم للتوبة أو قبل توبتهم أو ثبتهم على التوبة وذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تحسين للتوبة وتزيين للقضية وكذا ذكر المهاجرين والأنصار جبر لخواطر أرباب الانكسار من الثلاثة الذين خلفوا وأظهروا التوبة والاستغفار (وقال) أي لله سبحانه وتعالى (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) أي اجمع في دعائه بين التسبيح والحمد في ثنائه المشعر بنفي الصفات السلبية وبإثبات النعوت الثبوتية (وَاسْتَغْفِرْهُ) أي اطلب منه المغفرة في المجاوزة عما يصدر منك من الغفلة أو التقصير والفترة (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر: 3] ) أي كثير الرجوع عليك بالرحمة صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا يقول سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وبحمده استغفر الله وأتوب إليه وكان نزول هذه الآية الشريفة بعد فتح مكة المنيفة وفيه إيماء إلى الارتحال بعد تحصيل الكمال والانتقال إلى ما كان له من الحال فالعود أحمد والنهاية هي الرجوع إلى البداية فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان قبل موته يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك وكان آخر كلامه اللهم الرفيق الأعلى وقد بلغه الله تعالى المقام الأعلى والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 فصل [قد استبان لك أيها الناظر بما قررناه ما هو الحق من عصمته عليه السلام] (قد استبان) أي ظهر وتبين (لك أيّها النّاظر) أي المتأمل (بما قرّرناه) من الكلام وحررناه من المرام (ما هو الحقّ من عصمته عليه الصلاة والسلام) وكذا عصمة سائر الأنبياء عليهم السلام وكان الأطهر أن يقول من عصمتهم عليهم السلام (عن الجهل بالله تعالى) أي بذاته (وصفاته) وأفعاله ومصنوعاته (وكونه) وفي نسخة أو كونه أي كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بخصوصه أي بجنسه (عَلَى حَالَةِ تُنَافِي الْعِلْمَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) أي مما ذكر من الذات والصفات (كلّه) جميعه (جملة) أي إجمالا لا تفصيلا إذ يحيط به أحد علما وهذه العصمة ثابتة له (بعد النّبوة عقلا وإجماعا وقبلها سماعا ونقلا) كان الأولى بحسب السجع نقلا وسماعا ومؤداهما واحد والمراد بالسماع ما ثبت بالسنة وبالنقل ما نقل عن الأئمة وذلك كحديث الصحيحين ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جدعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه اقرؤوا إن شئتم فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وحديث كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم فأمروهم أن يشركوا بي غيري ومن المعلوم استثناء الأنبياء إذ لم يجعل للشيطان عليهم سبيلا في الاغواء قال تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وقوله (فاجتالتهم) بالجيم أي استخفتهم فجالوا معه في ميدان الضلالة يهيمون وروي بالحاء أي نقلتهم من حال إلى حال فهم في طغيانهم يعمهون (ولا بشيء) أي ولا على حالة تنافي العلم بشيء (ممّا قرّرناه) أي النبي (من أمور الشّرع وأدّاه عن ربّه عز وجل من الوحي) أي الجلي أو الخفي من الكتاب والسنة (قطعا) أي بلا شبهة (وعقلا وشرعا) أي من الجهتين (وعصمته) أي ومن عصمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (عن الكذب) في القول مطلقا (وخلف القول) في الإخبار (منذ نبّأه الله تعالى) أي من ابتداء ما أظهر نبوته خصوصا (وأرسله) إلى أمته (قصدا أو غير قصد) أي لا عن عمد ولا عن خطأ (واستحالة ذلك) أي ومن استحالة ما ذكر من الكذب والخلف (عليه شرعا) أي سمعا (وإجماعا ونظرا) أي عقلا (وبرهانا) أي بيانا ظاهرا (وتنزيهه عنه) أي عن الكذب (قبل النّبوّة قطعا) لئلا تقع الأمة في الشبهة بعدها أصلا (وتنزيهه عنه الكبائر إجماعا) من غير التفات لمن خالف فيه سمعا أو عقلا (وعن الصّغائر تحقيقا) لحملها على خلاف الأولى تدقيقا (وعن استدامة السّهو والغفلة) توفيقا وقد قيل: يا سائلي عن رسول الله كيف سها ... والسهو من كل قلب غافل لاه قد غاب عن كل شيء سره فسها ... عما سوى الله في التعظيم لله (وَاسْتِمْرَارِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ عَلَيْهِ فِيمَا شَرَعَهُ لِلْأُمَّةِ) من الأحكام واجبا ومندوبا وحراما ومكروها وخلاف الأولى ومباحا (وعصمته) أي ومن عصمته (فِي كُلِّ حَالَاتِهِ مِنْ رِضًى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وغضب وجدّ) بكسر الجيم ضد الهزل والمراد به هنا العزم والحزم (ومزح) فإنه كما قال أمزح ولا أقول إلا حقا فإذا كان مزحه حقا فكيف لا يكون جده صدقا (فيجب عليك) يروى مما يجب لك (أن تتلقّاه) أي تأخذ وتنول وتقبل ما صدر من مشكاة صدره في أي حالة كانت من أمره (باليمين) أي بالقوة أو بالبركة وقيل باليد اليمين لأن اليمين تمد إلى كل حسن مرغوب ويتناول بها كل عزيز مطلوب (وتشدّ عليه يد الضّنين) بالضاد المعجمة أي البخيل الممسك للشيء الثمين وهذا نظير ما يقال عضوا عليه بالنواجذ (وتقدر) بكسر الدال وضمها أي تعرف (هذه الفصول حقّ قدرها) أي حق معرفتها أو تعظمها حق عظمتها كما قيل بالمعنيين في قوله تعالى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (وتعلم عظيم فائدتها وخطرها) بفتحتين وحكي سكون ثانيهما أي منزلتها وقدرها وعائدتها (فَإِنَّ مَنْ يَجْهَلُ مَا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم أو يجوز أو يستحيل عليه) أي يمتنع عقلا أو نقلا (ولا يعرف صور أحكامه) أي فرضا ونفلا (لا يأمن) ويروى لا يؤمن أي عليه من (أن يعتقد في بعضها) أي المذكورات (خلاف ما هي عليه) من الصواب في القضيات المشهورات (ولا ينزّهه) أي النبي (عمّا لا يجب) ويروى عما لا يجوز أي لا ينبغي (أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ فَيَهْلِكَ مِنْ حَيْثُ لَا يدري) ما يترتب عليه (ويسقط في هوّة الدّرك) بضم الهاء وتشديد الواو الوهدة العميقة والدرك بفتح الراء وسكونها ضد الدرج (الأسفل من النّار) أي منازلها وفيه إشعار إلى أن من لم يكن في زيادة فهو في نقصان ومن لم يكن في اعتلاء فهو في ارتداء إذ لا توقف للإنسان في مرتبة استواء ومنه قول أبي الفضل التورزي: ونزولهموا وطلوعهموا فإلى درك وعلى درج فالأبرار لهم درجات والفجار لهم دركات (إذ ظنّ الباطل به) أي بالنبي عليه الصلاة والسلام (واعتقاد ما لا يجوز عليه يحلّ) بفتح الياء وضم الحاء ويكسر وبتشديد اللام أي ينزل (بصاحبه) فيدخل (دار البوار) أي الهلاك والخسار (ولهذا) المعنى (ما) أي الأمر الذي وقيل ما زائدة (احتاط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي اخذ بالحزم والثقة من جهة الشفقة (على الرّجلين) أي من الأنصار كما في البخاري وغيره قيل هما أسيد بن حضير وعباد بن بشر (اللَّذَيْنِ رَأَيَاهُ لَيْلًا وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ) جملة معترضة (مع صفيّة) متعلق برأياه (فقال لهما إنّها صفيّة) أي إحدى أمهات المؤمنين وقد جاءت تزوره في اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت معه ساعة ثم قام معها لينقلها إلى بيتها حتى إذا بلغت باب المسجد فمرا به فأبصراه فسلما على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأسرعا في المشي إما لحيائهما من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإما لئلا يستحيي النبي عليه الصلاة والسلام منهما فقال لهما على رسلكما أي اثبتا على مشيكما ولا تسرعا في سيركما أنها صفية فقالا سبحان الله تعجبا من قوله ذلك لهما إذا لا يظن مسلم به عليه الصلاة والسلام ما لا يليق به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 من قبح المقام، (ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابن آدم مجرى الدّم) بنفوذه في المنافذ الضيقة للوساوس الخفية وفي النهاية المراد من قوله يجري مجرى الدم أنه يتسلط عليه وتسري وساوسه في العروق مجرى الدم لا أن يدخل جوفه (وإنّي خشيت أن يقذف) أي يلقي ويرمي (في قلوبكما شيئا) وفي رواية شرا (فتهلكا) قال الخطابي خشي صلى الله تعالى عليه وسلم عليهما الكفر لو ظنا تهمة برؤيته معه امرأة أجنبية فبادر إلى اعلامهما بمكانها نصيحة لهما في حق الدين قبل أن يقعا في امر يهلكان به انتهى وفي هذا إيماء إلى عصمة الأنبياء عليهم السلام من مقارفة السوء والفخشاء. (هذه) أي الفائدة الجلية وهي ما ذكر من احتياطه عليه الصلاة والسلام للرجلين في هذه القضية (أكرمك الله) تعالى جملة معترضة بين المبتدأ والخبر وهو (إِحْدَى فَوَائِدِ مَا تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الفصول) السالفة من تعظيم ارباب النبوة وأصحاب الرسالة تحذيرا من أن يعتقد بهم ما لا يليق بكريم مناقبهم لأجل جهالته بعصمتهم وغفلته عما يجب لهم ويجوز ويمتنع من حالتهم (ولعلّ جاهلا) أي عن مراتب العلم غافلا (لا يعلم بجهله) أي يجهل كونه جاهلا ويسمى جهلا مركبا (إذا سمع شيئا منها) أي من تنزيهات الأنبياء عليهم السلام ويروى من هذا أي مما ذكر (يرى) أي يظن (أنّ الكلام فيها) ويروى فيه (جملة) أي بجملتها أو مجملة (من فضول العلم) أي زوائده وهو خبر أن (وأنّ) ويروى أو أن (السّكوت أولى) من التعرض لذكره (وقد استبان لك أنّه) أي الكلام في عصمتهم عليهم السلام (متعيّن) أي واجب معرفته على أهل الإسلام (للفائدة الّتي ذكرناها) مع فوائد أخر في هذا المقام كما بينه بقوله (وفائدة ثانية يضطرّ) بصيغة المجهول أي يحتاج (إِلَيْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَيُبْتَنَى عَلَيْهَا مَسَائِلُ) متفرعة عنها (لا تنعدّ) لكثرتها وهي لغة رديئة في لا تعد ذكرها الدلجي وفي حاشية التلمساني لا تبعد من البعد ومعناه قريبة تبنى عليها المسائل (من الفقه) وروى لا تتعدد تفعل من العدد ومعناه مسائل كثيرة لا يحصرها العد ومن الفقه على الاول معمول لا تنعد وهو الأظهر أو مسائل ولا تنعد صفة وعلى الثاني عامله هو المسائل فقط ولا يصح تتعدد لفساد المعنى (ويتخلّص) بصيغة المجهول أي ويحصل الخلاص (بها من تشغيب مختلفي الفقهاء) أي تهييجهم الشر والفتنة والخصوصة (في عدّة منها) أي من المسائل (وهي) أي الفائدة المضطر إليها في أصول الفقه وغيره (الحكم في أقوال النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي جنسه أو خصوصه (وَأَفْعَالِهِ وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ وَأَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أصول الفقه) لابتناء كثير من أحكام الشريعة عليها وتفرعها عنها (ولا بدّ من بنائه) أي الأصل الكبير (على صدق النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في أخباره) بكسر الهمزة أو فتحها (وبلاغه) أي تبليغه وهذا تخصيص بعد تعميم (وأنّه لا يجوز عليه السّهو فيه) أي في إبلاغ ما أمر تبليغه (وعصمته من المخالفة في أفعاله عمدا) احتراز من وقوعها سهوا (وبحسب اختلافهم) بفتح السين وأبعد الحلبي فقال هنا بإسكانها (في وقوع الصّغائر) من جواز صدورها وعدمه من الأنبياء (وقع خلاف) وفي نسخة اختلاف (في امتثال الفعل) أي بمجرد صدوره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 منهم والحق المصير إلى امتثال أفعالهم واتباع سيرهم وآثارهم مطلقا بلا قرينة على ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك وأكثر أصحاب الشافعي (بسط بيانه) بصيغة المصدر وفي نسخة وبسط وهو يحتمل أن يكون مصدرا وأن يكون فعلا مجهولا أي وشرح بيان امتثال الفعل (في كتب ذلك العلم) أي علم الأصول في الدين المذكور فيه اختلافهم في وقوع الصغائر منهم أو علم أصول الفقه المذكور فيه اختلافهم في امتثال أفعالهم المقصودة دون أفعالهم بمقتضى العادة (فلا نطوّل) أي الكلام (فيه) وفي نسخة أي لا نطول الكتاب بذكره اكتفاء بما هنالك من استيفاء ذلك (وفائدة ثالثة يحتاج إليها الحاكم) قاضيا كان أو غيره (والمفتي) أي مجيب السائل عن مسألته الحادثة (فيمن أضاف) أي نسب (إلى النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَوَصَفَهُ بها) أي مما يجب له أو يجوز أو يمتنع مما سيأتي تفصيلها (فمن لم يعرف ما يجوز) أي له فعله (وما يمتنع عليه) أي وقوعه منه (وما وقع الإجماع فيه والخلاف) أي ولم يعرف موضع الاتفاق ومحل الاختلاف (كيف) أي على أي حال (يصمّم) أي يتمادى عليه ويجزم به ويعزم (في الفتيا) بضم الفاء وأما الفتوى فبفتحها وقد يضم وكلاهما اسم للافتاء (في ذلك) أي الذي يجب له أو يجوز أو يمتنع عليه إذا رفع السؤال إليه (ومن أين يدري هل ما قاله) أي الحاكم أو المفتي (فيه) أي في حقه عليه الصلاة والسلام (نقص) أي طعن (أو مدح) حتى يقدم على حكمه ليعمل به وإذا لم يعلم وأقدم (فإمّا أنّ يجترىء) أي يهجم (على سفك دم مسلم حرام) أي اراقته من غير استحقاقه (أو يسقط حقّا) أي أمرا ثابتا (ويضيّع حرمة للنّبيّ) وفي نسخة حرمة النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) فيهلك من حيث لا يعلم والثاني أقبح من الأول لأنه موجب كفر له ولغيره فتأمل (ولسبيل هذا) أي ما ذكر من الكلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام (ما) ظائدة أو موصولة (قد اختلف أرباب الأصول) أي أصول الدين (وأئمة العلماء) من المجتهدين (والمحقّقين) من المفسرين والمحدثين (في عصمة الملائكة) المقربين والمعتمد أنهم كالأنبياء والمرسلين في تنزيههم عن المخالفة في أمر الدين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فصل (في القول في عصمة الملائكة) جمع ملك أصله ملأك حذفت همزته بعد نقل حركتها لكثرة الاستعمال وقيل أصله مألك من الألوكة وهي الرسالة فأخرت ثم جمع وقد تحذف الهاء فيقال ملائك (أجمع المسلمون على أنّ الملائكة مؤمنون) كاملون (فضلاء) بضم ففتح أي فاضلون في قدرهم عند ربهم (واتّفق أئمّة المسلمين) من علماء الأمة وعظماء الملة (على أن حكم المرسلين منهم) أي من الملائكة المقربين إلى الأنبياء والمرسلين (حكم النّبيّين سواء) أي مستوين (في العصمة) وتعظيم الحرمة (ممّا ذكرنا عصمتهم) أي النبيين (منه) أي من السهو في القول والتبليغ في الفعل (وأنّهم) أي رسل الملائكة (في حقوق الأنبياء والتّبليغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 إليهم) ما أمرهم الله تعالى به من الأنباء (كالأنبياء مع الأمم) في هذه الأشياء (واختلفوا) أي العلماء (في غير المرسلين منهم) أمعصومون هم كمرسليهم أم لا (فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى عِصْمَةِ جَمِيعِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي واحتجّوا) أي استدلوا وهم الأئمة وفي نسخة واحتجت أي الطائفة والفرقة في عصمتهم من جميع المعصية (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) أي فيما أمرهم به فيما مضى (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] ) فيما يستقبل أو لا يمتنعون عن قبول الأوامر والتزامها ويؤدون ما يؤمرون ولا يتثاقلون عن القيام به (وبقوله وَما مِنَّا) أي معشر الملائكة أحد (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) لعبادته لا يتجاوز إلى غير حالته (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أقدامنا في الصلاة أو الحافون حول العرش وافقون (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [الصافات: 164- 166] ) أي المنزهون لله عما يشركون وبقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ) أي عندية مكانة ومنزلة وهو مبتدأ خبره (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) تعظما (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يعيون ولا يتعبون ولا ينقطعون تفاقما (الآية) أي يسبحون الليل والنهار لا يفترون كما في نسخة أي لا ينقطعون ولا يملون (وبقوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي مقربون (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأعراف: 206] ) بل يفتخرون بطاعته (الآية) أي ويسبحونه وله يسجدون حقيقة أو ينقادون لحكمه ويتذللون بالخضوع والخشوع لأمره، (وبقوله) تبارك وتعالى في وصفهم (كِرامٍ) أي مكرمين على الله (بَرَرَةٍ [عبس: 16] ) أي اتقياء مطيعين في مقام رضاه (لا يَمَسُّهُ) أي اللوح المحفوظ أو القرآن المحفوظ (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] ) أي الملائكة المتطهرون من أدناس الذنوب وأجناس العيوب (ونحوه) أي وبأمثال ما ذكر (من السّمعيّات) من الكتاب والسنة، (وذهبت طائفة) من العلماء (إلى أنّ هذا) أي ما ذكر من قضية العصمة وعدم المخالفة (خصوص للمرسلين والمقرّبين منهم) أي من الملائكة، (واحتجّوا بأشياء ذكرها أهل الأخبار والتّفاسير) المعتمدة على ما نقله فيها عن الرهبان والأحبار (نحن نذكرها إن شاء الله بعد) أي بعد ذلك (ونبيّن الوجه) أي إلا وجه (فيها) هنالك (إن شاء الله تعالى) أي أراده وقضاه وما أحسن ما قاله الشافعي رحمه الله تعالى: فما شئت كان وإن لم أشأ ... وما لم تشأ أن اشأ لم يكن وهو مضمون كلام اتفق عليه السلف والخلف مما ثبت في الحديث ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (والصّواب عصمة جميعهم) أي الملائكة من جنس المعصية (وتنزيه نصابهم) أي تبرئة ساحة منصبهم وقدرهم (الرّفيع) عند ربهم (عن جميع ما يحطّ من رتبتهم) ويروى من رتبهم (ومنزلتهم عن جليل مقدارهم) وجميل درجتهم (ورأيت بعض شيوخنا أشار بأن) وفي نسخة مال إلى أن أي أنه يعني الشأن (لا حاجة بالفقيه) أي له (إلى الكلام في عصمتهم) بل يجوز له السكوت عن تفصيل حالتهم ومرتبتهم، (وأنا أقول إنّ للكلام في ذلك) المرام من كثرة الفوائد (ما للكلام) وفي نسخة كالكلام (فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا) فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 تقدم من الفصول المشتملة على أنواع من الفوائد (سوى فائدة الكلام في الأقوال والأفعال) لعدم اطلاعنا على ما يصدر عنهم من قول وقيل مفصلا وإنما نعرف أحوالهم مجملا مع أنا لسنا مكلفين باتباعهم فيها فلا داعي إلى إثبات عصمتهم فيها من طرق ما لا يليق بهم فيها حمدا أو سهوا (فهي) أي فائدة الكلام في أقوالهم وأفعالهم (ساقطة ههنا) أي غير مذكورة في بيان عصمتهم لعدم احتياجنا إليها فإذا عرفت هذا، (فَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يُوجِبْ عِصْمَةَ جميعهم) أي جميع أفراد الملائكة بل يوجب عصمة جنسهم الصادق على بعضهم (قصّة هاروت وماروت) وهما ملكان نزلا ببابل قرية بالعراق اسمان اعجميان بدلالة منع صرفهما للعلمية والعجمة (وما ذكر) عطف على قصة أي وما ذكره (فيها) أي في قصتهما (أهل الأخبار ونقلة المفسّرين) عن الأحبار من أن الملائكة عيرت بني آدم بعصيانهم الله تعالى كما رواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر يا رب هؤلاء ما أقل معرفتهم بعظمتك فقال لو كنتم في مسلاخهم لعصيتموني قالوا كيف يكون هذا ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال فاختاروا منكم ملكين فاختاروهما فأهبطا إلى الأرض وركبت فيهما شهوات بني آدم ومثلت لهما امرأة فما عصما حتى واقعا المعصية فقال الله تعالى لهما اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا (وما روي) أي عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد وغيرهما (عن عليّ) كرم الله تعالى وجهه (وابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما (في خبرهما) أي هاروت وماروت فعن علي رضي الله تعالى أن هذه الزهرة يسميها العجم ناهيذ وكان الملكان يحكمان بين الناس فأتتهما امرأة فأرادها كل منهما مخفيا من الآخر فقال أحدهما يا أخي أريد أن أذكر لك ما في نفسي فقال اذكره لعله ما في نفسي فاتفقا فقالت لا أمكنكما أو تخبراني أي حتى تعلماني بما تصعدان به إلى السماء وتهبطان به فقالا باسم الله الاعظم قالت علمانية فعلماها إياه فتكلمت به فطارت إلى السماء فمسخها الله تعالى كوكبا وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن ملائكة سماء الدنيا قالوا يا ربنا أهل الأرض يعصونك فقيل لهم اختاروا منكم ثلاثة يحكمون في الأرض وجعل فيهم شهوة بني آدم وأمروا أن لا يقترفوا ذنبا فاستقال منهم واحد فأقبل فهبط اثنان فأتتهما امرأة من أحسن النساء فهوياها فأتيا منزلها وأراداها فأبت حتى يشربا خمرها ويقتلا ابن جارها ويسجدا لوثنها فأبيا إلا أن يشربا فشربا ثم قتلا ثم سجدا وقالت أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما إلى السماء فأخبراها فطارت فمسخت حمرة وهي الزهرة فأرسل إليهما سليمان بن داود وقيل ادريس فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فهما مناطان بين السماء والأرض قيل معلقان بشعورهما وقيل جعل في جب ملئت نارا منكوسان يضربان بسياط الحديد (وابتلائهما) أي ما روي من اختبارهما بما ذكر وبالسحر فتنة للناس أي امتحانا لهم فمن تعلمه وعمل به معتقدا حله كفر ومن تجنبه أو تعلمه ليتوقي شره لم يكفر، (فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ لَمْ يُرْوَ مِنْهَا شَيْءٌ لَا سَقِيمٌ وَلَا صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلم) أي وإنما رويت عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 علماء اليهود والنصارى ممن لا يصدق ولا يكذب في اخبارهم ولا يعتمد على آثارهم لكن يشكل هذا بما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده فقال حدثنا يحيى بن أبي بكير وقال عبد ابن حميد في مسنده حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني ابن أبي بكير حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر أنه سمع نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله تبارك وتعالى إلى الأرض قالت الملائكة أي رب أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال تعالى للملائكة هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبط بهما إلى الأرض لينظره كيف يعملان قالوا ربنا هاروت وماروت فاهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاآها فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تكلما بهذه الكلمة من الاشراك فقالا لا والله لا نشرك به أبدا فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تقتلا هذا الصبي فقالا لا والله لا نقتله أبدا فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تشربا هذه الخمر فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي وتكلما بكلمة الإشراك فلما افاقا قالت المرأة والله ما تركتما شيئا مما ابيتماه علي إلا وقد فعلتماه حتى سكرتما فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا انتهى ويحيى بن أبي بكير شيخ أحمد ثقة أخرج له الأئمة الستة وزهير بن أحمد أخرج له أيضا أصحاب الكتب الستة ووثقه أحمد وروى الميموني عن أحمد مقارب الحديث وروى المروزي عن أحمد ما به بأس وروى البخاري عن أحمد قال كان زهير الذي روى عنه أهل الشام زهيرا آخر وروى الأشرم عن أحمد قال للشاميين عن زهير مناكير وقال الترمذي في العلل سألت البخاري عن حديث زهير هذا فقال أنا أتقي هذا الشيخ كان حديثه موضوع وليس هذا عندي بزهير بن محمد قال وكان أحمد بن حنبل يضعف هذا الشيخ ويقول هذا الشيخ ينبغي أن يكونوا قلبوا اسمه قال الحلبي وله ترجمة في الميزان وقد ذكر فيها مناكير ولم يذكر هذا منها وأما موسى بن جبير فقد أخرج له أبو داود وابن ماجه وذكره أبو حيان في الثقات وأما نافع فلا يسأل عنه فيحتاج هذا الحديث إلى جواب على وجه صواب قال الحلبي وقد رأيت الحديث في مستدرك الحاكم في تفسير سورة الشورى من طريق ابن عباس وقال في آخره صحيح ولم يتعقبه الذهبي في تلخيصه للمستدرك هذا وذكر في الميزان في ترجمة سنيد بن داود اسمه الحسين أنه حافظ له تفسير وله ما ينكر ثم ساق بسند إلى سنيد حدثنا فرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع قال سرت مع ابن عمر فقال طلعت الحمراء قلت لاثم قال قد طلعت قلت لا قال لأمر حبابها ولا أهلا قلت سبحان الله نجم ساطع مطيع قال ما قلت إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الملائكة قالت يا رب كيف صبرك على بني آدم قال اني قد ابتليتهم وعافيتهم قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك قال فاختاروا ملكين منكم فاختاروا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 هاروت وماروت فنزلا فألقى عليهما الشهوة فجاءت امرأة يقال لها الزهرة الحديث بطوله ثم قال روى عنه أبو زرعة والأشرم وجماعة وضعفه أبو حاتم وقال أبو داود لم يكن بذلك وقال النسائي الحسين سنيد بن داود ليس بثقة ثم أخرج الذهبي وفاته انتهى ولا يخفى أن الحديث كما تراه مرفوعا وموقوفا له أصل ثابت في الجملة لتعدد طرقه واختلاف سنده في مسند أحمد وصحيح ابن حبان وتفسير ابن جرير وشعب البيهقي ومسند عبد بن حميد والعقوبات لابن أبي الدنيا وغيرهم مطولا ومن رواية أبي الدرداء في ذم الدنيا لابن أبي الدنيا وموقوفا عن علي وابن عباس كما مر وعن ابن عمر وابن مسعود بأسانيد صحيحة وقد قيل لهذه القصة طرق تفيد العلم لصحتها فالجواب الصواب إن الكلام في عصمة الملائكة الكرام وهذان قد خرجا عن صفة الملائكة بإلقاء نعت البشرية من الشهوة النفسية عليهما ابتلاء لهما في القضية والتحقيق والله ولي التوفيق أن الملائكة خلقوا للطاعة كما أن الشياطين خلقوا للمعصية وكل من الطائفتين جبلوا بما لهم من القابلية وأما الأفراد الإنسانية فمعجون مركب من الصفات الملكية والنعوت الشيطانية مرتب بين المراتب العلوية والمناقب السفلية فمن مال إلى أطوار الملائكة ترقى عنهم ومن مال إلى انشاز الشياطين تنزل عنهم فالإنسان كالبرزخ بين البحرين شارب من النهرين جامع بين نعوت الجلال وصفات الجمال وقابل لقبول ما لله من صفات الكمال فقد ورد لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم إيماء إلى نعت الغفور والغفار والحليم والستار ومن هنا يتبين أن الأنبياء يتصور منهم المعصية في الجملة بخلاف الملائكة مع أن المعتمد في المعتقدان رسل البشر أفضل من رسل الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولعل العلة أنهم مع كون الشهوة فيهم مركبة وقعت أحوالهم مرتبة في رفعة منزلة وعلو مرتبة (وليس هو) أي ما نقل من الأخبار (شيئا يؤخذ بقياس) أي من الآثار في مقام الاعتبار (والّذي منه) أي من خبر قصتهما (في القرآن) أي في سورة البقرة (اختلف المفسّرون في معناه) فكل ذهب إلى ما اطلع عليه نقلا من جهة مبناه، (وأنكر ما قال بعضهم فيه) أي في معناه (كثير من السّلف كما سنذكره) فيما سيأتي فلا نطول هنا بذكره، (وهذه الأخبار) التي أوردها المفسرون فيه (من كتب اليهود وافترائهم) على انبياء الله وملائكته من أرباب الشهود (كما نصّه الله تعالى) أي صرحه (أوّل الآيات) أي في أولها (من افترائهم) أي كذب اليهود (بذلك على سليمان وتكفيرهم إيّاه) في قوله واتبعوا أي اليهود ما تتلوا الشياطين أي كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها على ملك سليمان أي في زمن ملكه وعهده وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يخلطون بما سمعوا أكاذيب كثيرة ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها في الكتب يقرؤونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمنه حتى قالوا إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم له ملكه إلا به وما سخر له الجن والإنس والطير والريح إلا به وما كفر سليمان شهادة من الله وتكذيبا لليهود ودفعا لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به ولكن الشياطين كفروا باستعمالهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 السحر وتدوينهم يعلمون الناس السحر يقصدون به إغواءهم وإضلالهم؛ (وقد انطوت القصّة) أي احتوت واشتملت قصة هاروت وماروت (على شنع) بضم المعجمة وفتح النون أي قبائح (عظيمة وها) للتنبيه (نحن نخبّر) بضم نون وفتح مهملة وكسر موحدة مشددة أي نحسن (في ذلك) القول من العبارات (ما يكشف غطاء هذه الإشكالات) أي ما يرفع حجابها ويزيل نقابها (إن شاء الله فاختلف) أي فاختلفوا (أوّلا في هاروت وماروت هل هما ملكا) بفتح اللام وهو الصحيح (أو إنسيّان) أي منسوبان إلى الإنس أي آدميان ويمكن الجمع بأنهما كانا ملكين وتشكلا بصورة رجلين، (وهل هما) أي هاروت وماروت (المراد بالملكين) في آية وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وهو الصحيح (أم لا) وهذا مما لا يلتفت إليه أصلا، (وهل القراءة ملكين) بفتح لامها كما في القراءة المتواترة التي اتفق عليها القراء السبعة والعشرة (أو ملكين) بكسرها كما في قراءة شاذة وهما كانا ببابل أنزل عليهما السحر ولا معنى للاختلاف فيهما إذ الرواية الشاذة الغير المعتبرة لا تقاوم القراءة المتواترة على أنه يمكن الجمع بينهما بأنهما ملكان في أصلهما نزل على صورة ملكين حاكمين في عهدهما، (وهل ما في قوله تعالى وَما أُنْزِلَ [البقرة: 102] ) أي على الملكين (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ [البقرة: 102] نافية) فيهما فيكون عطفا على ما كفر أي وما كفر سليمان ولا أنزل على الملكين أي جبريل وميكائيل فإن سحرة اليهود زعموا أن السحر أنزل على لسانهما إلى سليمان فردهم الله به (أو موجبة) أي ثابتة موصولة معطوفة على السحر على الصحيح والمراد بهما واحد والعطف لتغاير الاعتبار أو يراد به نوع أقوى منه أي ويعلمونهم ما الهما أو معطوفة على ما تتلوا قال البيضاوي وهما ملكان انزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله تعالى للناس وتمييزا بينه وبين المعجزة وإذا عرفت هذا الاختلاف إجماعا فاعلم ما يبين لك المصنف تفصيلا (فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَحَنَ النَّاسَ بالملكين) بفتح اللام (لتعليم السّحر وتبيينه) في مقام تعيينه (وأن علمه) أي تعلمه وفي نسخة عَمَلَهُ (كُفْرٌ، فَمَنْ تَعَلَّمَهُ كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَهُ آمن) بمد الهمزة أي دام على إيمانه ولم يكفر ولا يبعد أن يكون بفتح الهمزة وكسر الميم أي أمن من الوقوع في الكفر واعلم أن استعمال السحر كفر عند أبي حنيفة ومالك وأحمد وعند الشافعي استعماله من الكبائر إذا لم يعتقد جوازه ولم يكن في السحر ما يوجب الكفر وظاهر الآية يؤيد إطلاق قول الأئمة الثلاثة حيث؛ (قال الله تعالى خبرا عنهما وما يعلمان من أحد حتى يقولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [الْبَقَرَةِ: 102] وَتَعْلِيمُهُمَا النّاس له) مبتدأ خبره (تعليم إنذار) أي تخويف وانكار (أي يقولان لمن جاء يطلب تعلّمه منهما لا تفعلوا) وفي نسخة لا تفعل (كذا) أي لا تتعلمه (فإنّه يفرّق بين المرء وزوجه) أي هو سبب للتفريق بينهما بإيجاد الله عنده البغض والنشوز في قلوبهما فالسحر له بنفسه أثر يحدثه الله عند تعاطيه وقد لا يحدثه بدليل قوله تعالى وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ (ولا تتخيّلوا) بخاء معجمة من التخيل وفي نسخة لا تخيلوا من التخييل من باب التفعيل وهو ظن الشيء على خلاف ما هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 عليه ومنه قوله تعالى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى وفي نسخة لا تتحيلوا بالحاء المهملة (بكذا) أي وكذا (فإنّه سحر فلا تكفروا فعلى هذا) التفسير (فعل الملكين طاعة) بلا شبهة (وتصرّفهما فيما أمرا به) بما أنزل عليهما (ليس بمعصية) وفي نسخة معصية أي مخالفة (وهي) أي هذه الحالة (لغيرهما فتنة) أي ابتلاء ومحنة، (وروى ابن وهب) وهو عبد الله بن وهب المصري المعلم وقد تقدم (عن خالد بن أبي عمران) التجيبي التونسي قاضي إفريقية يروي عن عروة وجماعة وعنه الليث بن سعد وعدة صدوق فقيه عابد ثقة (أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ وَأَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ) أي الناس كما في نسخة (السّحر فقال نحن ننزّههما عن هذا) أي عن تعليم السحر لأنه كفر أو كبيرة ويروى عن هذه النقيصة (فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [الْبَقَرَةِ: 102] ) بناء على أن ما موصولة وهاروت وماروت بدل منهما فيكون حجة على إثباته لهما (فقال خالد) دفعا لما ورد عليه بقوله وَما أُنْزِلَ معناه أنه (لم ينزل عليهما) بناء على كون ما نافية (فهذا خالد على جلالته) أي عظيم رتبته (وعلمه) أي وكثرة معرفته (نَزَّهَهُمَا عَنْ تَعْلِيمِ السِّحْرِ الَّذِي قَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُمَا مَأْذُونٌ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِهِ بِشَرِيطَةِ أن يبيّنا أنه كفر وأنّه) أي أمرهما (امتحان من الله تعالى وابتلاء) أي اختبار لخلقه وليس فيه محظور ولا يترتب عليه محذور ويمكن الجمع بأن المثبت يحمل أمرهما على أنهما مأموران والنافي على ضد ذلك فيرتفع الخلاف هنالك، (فكيف لا ينزّههما عن كبائر المعاصي) من قتل النفس والزنا وشرب الخمر (والكفر) من السجدة للصنم (المذكورة في تلك الأخبار) المسطورة المشهورة وقد قدمنا دفع الإشكال حيث حملنا حالهما حينئذ على سلب ماهية الملكية عنهما وتركيب الشهوة البشرية فيهما والكلام في حق الملائكة الثابتة على جبلتهم الأصلية بخلاف الأحوال العارضية، (وَقَوْلُ خَالِدٍ لَمْ يُنْزَلْ يُرِيدُ أَنَّ مَا نافية) كما قدمناه (وهو قول ابن عباس) أي رواية عنه، (قال مكّيّ وتقدير الكلام) على قول خالد تبعا لابن عباس أن ما نافية عطفا على قوله تعالى (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ يريد) أي الله سبحانه وتعالى أن سليمان ما كفر (بالسّحر الّذي افتعلته عليه) أي افترته عليه (الشّياطين واتّبعهم في ذلك اليهود) فإن الشياطين كتبوا السحر ودفنوه تحت كرسيه ثم لما مات سليمان عليه السلام أو نزع منه ملكه استخرجوه وقالوا تسلطه في الأرض بهذا السحر فتعملوه وبعضهم نفوا نبوته وقالوا ما هو إلا ساحر فبرأه الله مما قالوا فقال وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، قَالَ مَكِّيٌّ هُمَا) يعني الملكين اللذين لم ينزل عليهما (جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ادَّعَى الْيَهُودُ عَلَيْهِمَا الْمَجِيءَ بِهِ كَمَا ادَّعَوْا عَلَى سُلَيْمَانَ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي ذلك) فإن سحرة اليهود زعموا أن السحر أنزل على لسانهما إلى سليمان فردهم الله تعالى وعلى هذا فقوله ببابل متعلق بيعلمون وهاروت وماروت اسمان لرجلين صالحين سيما ملكين باعتبار صلاحهما ويؤيده قراءة الملكين بالكسر ابتلاهما الله بالسحر وقعا بدل بعض من الشياطين هذا وعن مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما أن سليمان أخذ ما في أيدي الشياطين من السحر ودفنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 تحت كرسيه ثم لما مات أخرجه الإنس بتعليم الجن وعملوا به وعن الحسن ثلث ما أخرجوا من تحت كرسيه شعر وثلثه سحر وثلثه كهانة (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) قرئ في السبعة بتشديد لكن وتخفيفها (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة: 102] ببابل) قرية بالعراق ومنع صرفه للعلمية والتأنيث أو العجمة وعن ابن مسعود لأهل الكوفة أنتم بين الحرة وبابل وقيل بابل موضع بالمغرب وهو بعيد ولعله اسم مشترك وإنما الكلام في المراد والله تعالى اعلم (هاروت وماروت) سبق أنهما ملكان في أصلهما وقع منهما ما وقع ثم ابتليا بتعليم السحر للخلق ابتلاء من الحق (قيل هما رجلان تعلّماه) ويؤيده أنه، (قال الحسن) أي البصري رحمه الله تعالى (هاروت وماروت علجان) تثنية علج بكسر أوله وقد يفتح وهو الشديد القوي الغليظ الجافي والمعنى أنهما كافران من العجم (من أهل بابل، وقرأ) أي الحسن (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [الْبَقَرَةِ: 102] بِكَسْرِ اللَّامِ) بناء على أنهما كانا من بابل أنزل عليهما السحر ابتلاء من الله تعالى لهما ولغيرهما (وتكون ما) في الآية حينئذ (إيجابا) أي موصولة لا نافية (على هذا ومثله) أي ومثل قراءة الحسن، (قراءة عبد الرّحمن بن أبزى) بموحدة ساكنة وزاء مقصورا (بكسر الّلام) قال صليت خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان لا يتم التكبيرات انتهى ونقل الذهبي عن البخاري أن له صحبة عن ابن أبي حاتم أنه صلى خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال الكلابادي له صحبة وحدث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا في الإكمال قال إنه صحابي وقال ابن أبي داود أنه تابعي وقال ابن قرقول في مطالعه إنه لم يدرك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي التجريد للذهبي عده في الصحابة وكذا النووي في التهذيب وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، (ولكنّه) أي ابن أبزى (قال الملكان هنا) أي في آية وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ (داود وسليمان وتكون ما) على قراءته (نفيا على ما تقدّم) عن اليهود أنهم كانوا ينسبون إنزال السحر تارة إلى جبريل وميكائيل وأخرى إلى داود وسليمان؛ (وقيل كانا ملكين) أي آخرين (من بني إسرائيل) ساحرين (فمسخهما الله، حكاه السّمرقنديّ) وهو الفقيه أبو الليث (والقراءة بكسر اللام شاذّة) أي ليست متواترة (فمحمل الآية) وروي فحمل الآية أي آية وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ (على تقدير أبي محمد مكيّ) بجعل ما نافية عطفا على ما كَفَرَ سُلَيْمانُ (حسن) لو قيل إنهما لم يؤمرا بتعليم السحر للناس ابتلاء وامتحانا لهم إما على القول بأنهما مأموران بما ذكر فلا حاجة إلى ارتكاب القول بجعل ما نافية لمخالفته ظاهر الآية ولأن فعلهما ذلك حينئذ طاعة (ينزّه الملائكة) عن الخروج عن الطاعة بارتكاب المعصية (ويذهب الرّجس عنهم) أي جنس الذنب (ويطهّرهم تطهيرا) بالعصمة عن العيب (وقد وصفهم الله تعالى) أي الملائكة (بأنّهم مطهّرون) من الأدناس (وكِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 16] ) عند الله تعالى وعند الناس (ولا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ [التحريم: 6] ) في جميع الأنفاس ومجمل الكلام في هذا المقام أن الأصح عند العلماء الكرام في هذه القصة أن الملكين بفتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 اللام يراد بهما هاروت وماروت وما موصولة وبكسر اللام يراد بهما داود وسليمان عليهما اللام وما نافية وكذا إذا فسر الملكين بفتح اللام بجبريل وميكائيل يكون ما نافية فارتفع الخلاف في المرام واجتمع نظام الالتئام (وممّا يذكرونه) أي الطائفة القائلة بعدم عصمة جميعهم ويستدلون به (قصّة إبليس) ويروى من قصة إبليس (وإنه كان من الملائكة) على زعمهم (ورئيسا فيهم) وفيه أنه لا يلزم من كونه رئيسا فيهم أنه في أصله منهم (ومن خزّان الجنّة) بضم الخاء وتشديد الزاء أي خزنتها (إلى آخر ما حكوه) وليس فيه دلالة على ما ادعوه (وأنه) أي الله سبحانه وتعالى (اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِ: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة: 34] ) والأصل في الاستثناء أن يكون متصلا إلا أنه قيل بانقطاعه لقوله تعالى كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وبأن الملائكة ليس لهم ذرية وقال تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ والملائكة ليس هم اعداء لنا (وهذا) وروي وهو أي القول بأنه من الملائكة (أيضا) قول طائفة قليلة (لم يتّفق عليه) بين العلماء (بل الأكثر منهم ينفون ذلك) القول بأنه منهم (وأنه أبو الجنّ) عندهم على الصحيح (كما آدم أو الإنس وهو) أي القول بأنه أبو الجن (قول الحسن وقتادة وابن زيد) وإنما استثنى منهم لأنه كان مغمورا بين الوف منهم فأمر بالسجود لآدم معهم ثم استثنى استثناء واحد منهم بقوله فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ والحاصل أنه استثناء متصل مجازا أو منقطع حقيقة ولا يبعد أن يقال جمعا بين الأقوال أنه كهاروت وماروت كان من جنس الملائكة لكن الله سبحانه وتعالى خلق في جبلته المعصية فتغير عن حالته الأصلية فخالف أمر الالهي في السجدة الصورية فانتقل إلى الخلقة الجنية وحصلت منه الذرية، (وقال شهر بن حوشب) بفتح الحاء المهملة فواو ساكنة فشين معجمة مفتوحة فموحدة يروي عن مولاته اسماء بنت يزيد وعن ابن عباس وأبي هريرة وعنه مطر الوراق وثابت وثقه ابن معين وأحمد وضعفه شعبة وقال النسائي ليس بالقوي توفي سنة مائة أخرج له الأربعة (كان) أي إبليس (مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ طَرَدَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي الْأَرْضِ حين أفسدوا) يعني، (والاستثناء) بقوله إِلَّا إِبْلِيسَ منقطع لأنه من غير الجنس المستثنى هو منه وهو أي الاستثناء (مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ) نظما ونثرا (سائغ) بسين مهملة وغين معجمة أي جائز من ساغ الشراب في الحلق إذا جاوزه بسهولة وفي نسخة زيادة وشائع بشين معجمة وعين مهملة أي فاش ذائع من شاع الخبر إذا ذاع ومنه كل سر جاوز الاثنين شاع (وقد قال الله تعالى) تكذيبا لمن زعم قتل عيسى (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء: 157] ) لأن اتباعه ليس من جنس العلم فهو استثناء منقطع أي ولكنهم اتبعوا فيه ظنهم (وممّا رووه) أي الطائفة القائلة بعدم عصمة جنس الملائكة (في الأخبار) كابن جرير عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن يحيى بن كثير (أن خلقا من الملائكة عصوا الله تعالى فحرّقوا) أي أحرقوا (وَأُمِرُوا أَنْ يَسْجُدُوا لِآدَمَ فَأَبَوْا فَحُرِّقُوا ثُمَّ آخرون كذلك حتّى سجد له) أي لآدم (من ذكر الله) أي جميع الملائكة (إِلَّا إِبْلِيسَ فِي أَخْبَارٍ لَا أَصْلَ لَهَا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 مما يعتمد عليها (تردّها صحاح الأخبار فلا يشتغل) أي فينبغي أن لا يشتغل (بها) ويروى بهذا وفي نسخة بصيغة المتكلم ثم على تقدير صحتها يحمل على أن الله تعالى غير ماهيتهم عن أصل جبلتهم وعصمتهم فوقع فيهم ما أراد الله من معصيتهم وهذا كقضية بلعم بن باعوراء حيث تغير عن جبلته إلى صورة كلب وماهيته وعكسه كلب أصحاب الكهف وقد ورد أن بلعم يدخل النار بصورة ذلك الكلب وذلك الكلب يدخل الجنة بصورة بلعم ثم رأيت في حاشية الأنطاكي روي أن الله تعالى لما خلق الأرض خلق لها سكانها من بني الجن من نار فركبت فيهم الشهوة وأمرهم ونهاهم فلما سكنوا فيها أفسدوا وعصوا أمر ربهم وسفكوا الدماء فأنزل الله تعالى نارا من السماء فأحرقتهم إلا إبليس سأله من الله ملك من الملائكة فوهب له ثم خلق الله ثانيا وثالثا مثلهم ففعلوا ذلك فأهلكهم الله عز وجل (والله أعلم) وفي نسخة والله سبحانه وتعالى الموفق وزيد في نسخة للصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 الْبَابُ الثَّانِي [فِيمَا يَخُصُّهُمْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ] (فيما يخصّهم) أي الأنبياء (في الأمور الدّنيويّة وما يطرأ عليهم من العوارض البشريّة) أي ما يعرض للإنسان ويحدث له من الأمور الكونية (قد قدّمنا أنه عليه الصلاة والسلام وسائر الأنبياء والرّسل) الكرام (من البشر وأنّ جسمه) أي جسده (وظاهره) أي بدنه (خالص للبشر) أي لعوارضه كغيره (يجوز عليه من الآفات) أي العاهات (والتّغييرات) من قبض وبسط وفرح وغم وسائر الحالات (والآلام والأسقام وتجرّع كأس الحمام) بكسر الحاء الموت وكل منها لا يخلو عن كلفة والتجرع شرب بمهلة وقيل ابتلاعه بعجلة أو القضاء والقدر والكأس مهموز وقد تبدل (ما يجوز) أي كل ما يجوز وقوعه من الآفات والحالات (على البشر) أي جنس بني آدم (وهذا كلّه) ويروى وذلك كله (ليس بنقيصة فيه) ولا في غيره من الأنبياء (لِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يُسَمَّى نَاقِصًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى ما هو أتمّ منه) أي من جنسه ويروى إلى غير مما هو أتم (وأكمل من نوعه) كإفراد الإنسان في تفاوت مراتب الإحسان (وقد كتب الله تعالى) أي قدر وقضى (على أهل هذه الدّار) أي دار الهموم والاكدار أو أثبت في كتابه (فيها يحيون) أي تعيشون (وفيها تموتون) أي وتقبرون (ومنها يخرجون) بصيغة المجهول في قراءة وبصيغة الفاعل في أخرى (وخلق جميع البشر بمدرجة الغير) بكسر الغين المعجمة وفتح التحتية الاسم من قولك غيرت الشيء فتغير والمدرجة بفتح الميم وسكون الدال وبالراء والجيم أي في مسلك التغير من حوادث الدهر (فقد مرض صلى الله تعالى عليه وسلم واشتكى) الضر تكثيرا للأجر وقد ورد أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل وفي حديث قالوا له إنك توعك وعكا شديدا قال أجل كما يوعك رجلان منكم (وأصابه الحرّ والقرّ) بضم أوله ويفتح البرد مطلقا وقيل برد الشتاء وحر الصيف إذا لم يخص بهما أحد دون أحد وقد يطلقان مجازا على المحنة والنعمة قال عمر لابن مسعود بلغني أنك تفتي ول حارها من تولى قارها كني بالحر عن الشدة وبالبرد عن الهينة أي ول شرها من تولى خيرها (وأدركه الجوع والعطش) كغيره من البشر حتى ربط ببطنه الحجر (ولحقه الغضب) لله إذا رأى خلاف ما يرضاه (والضّجر) بفتحتين أي القلق والملل (وناله الإعياء) أي العجز والكلل (والتّعب) أي المشقة والنصب (ومسّه الضّعف) أي ضعف البدن (والكبر) أي أثره بأنواع الغير (وسقط) أي عن دابة وفي رواية عن فرس كما رواه الشيخان (فجحش) بضم الجيم وكسر الحاء المهملة فشين معجمة أي خدش (شقّه) وقشر جلد بعض اعضائه وفي رواية جانبه الايمن وفي رواية شقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 الأيسر وفي رواية ساقه أو كتفه فلم يخرج أياما (وشجّه الكفّار) في وجهه فأدموه والشج في الأصل ضرب الرأس وكسره وشقه ثم استعمل في غيره من الأعضاء والمعنى جرح وجهه الكريم ابن قمئة اللئيم يوم أحد (وكسروا رباعيته) بتخفيف التحتية على زنة الثمانية وهي التي بين الثنية والناب وكانت السفلى اليمنى على ما ذكره الحلبي وأما قول الدلجي أي إحدى ثنايا أسنانه فغير صحيح (وسقي) بصيغة المجهول (السّمّ) بتثليث السين والفتح أفصح ثم الضم وقد تقدم أن زينب بنت الحارث اليهودية سمته في عضده الشاة بخيبر وسبق ما فعل بها وأخبرته العضد بأنها مسمومة (وسحر) وقد تقدم أن لبيد بن الأعصم سحره أو بناته (وتداوى) لبعض أوجاعه تشريعا لاتباعه (واحتجم) كما رواه الشيخان وغيرهما من طرق (وتنشّر) بتشديد الشين المعجمة وهو من النشر مثل التعويذ والرقية وفي الصحيح من حديث عائشة هلا تنشرت قال أما الله فقد عافاني قال الحلبي والظاهر أن مرادها بالنشرة المعروفة عندهم وهي أغسال مخصوصة وليس المراد الرقية بالقرآن أو بغيره من الأذكار وذكر الدلجي أن النشرة هي الرقية من سحر ونحوه وقد ورد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم اشتكى فرقاه جبريل بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك الله يشفيك وقالت له عائشة ألا تنشر فقال أما الله فقد شفاني (وتعوّذ) كما رواه الترمذي والنسائي عن أبي سعيد بلفظ كان يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنس فلما نزل المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا اشتكى يقرؤ على نفسه بالمعوذات وذكر التلمساني أن النشرة هي علاج ورقية من مرض أو جنون واختلف في النشرة فقيل يجوز وقيل لا وقال الخطابي ما يؤخذ على كتبها جائز حلال إذا كان باسم الله تعالى وبما يفهم من الكلام وأما بغير ذلك فحرام (ثمّ قضى نحبه) أي نذره أو سيره أو أجله والتحقيق أنه كناية عن الموت إذا أصله النذر وكل حي لا بد أن يموت فكأنه نذر لازم له فإذا مات فقد قضاه (فتوفّي صلى الله تعالى عليه وسلم) بصيغة المفعول أي توفاه الله تعالى (ولحق بالرّفيق الأعلى) كما تمناه من المولى على ما رواه البخاري وغيره عن عائشة اللهم الرفيق الأعلى وفي رواية الحقني بالرفيق الأعلى أي من النبيين والملائكة وقيل هو مرتفق الجنة وقيل الرفيق اسم لكل سماء وأراد الأعلى لأن الجنة فوق ذلك وقيل المراد أعلى الجنة وقيل هو الله تعالى وقيل لا يصح أنه اسم الله ويرد بأنه يقال الله رفيق بعباده وقيل معناه رفق الرفيق وقبل لا يعرف أهل اللغة الرفيق ولعله تصحيف الرفيع وما قدمناه هو الصحيح لقوله تَعَالَى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً وهو يقع على الواحد والجمع وقيل الرفيق الأعلى جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين (وتخلّص من دار الامتحان والبلوى) أي المحنة والبلية (وهذه سمات البشر) بكسر السين المهملة جمع سمة أي علامات كون البشر يبتلى بها (الّتي لا محيص عنها) بكسر الحاء المهملة أي لا معدل ولا محيد ولا مخلص (وَأَصَابَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 هو أعظم منها) أي بحسب الصورة فيها (فقتّلوا) بالتشديد للتكثير (تقتيلا) وفي نسخة فقتلوا قتلا بغير حق كيحيى بن زكريا يجز عنقه وفي حاشية التلمساني وإنما أكد بالمصدر تحقيقا للوقوع وقال ابن سيدي الحسن وجدت بخط شيخنا الإمام أبي عبد الله بن مرزوق وقال وجدت في بعض كتب أهل التاريخ عن أبي هريرة قال اشتريت غلاما بربريا فرآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال من هذا فقلت غلام بربري اشتريته فقال بعه ولا تمسكه عندك فإن قومه قتلوا أربعين نبيا فأكلوا لحومهم ورموا عظامهم على المذابل فسلط الله عليهم ريحا بددتهم وألقتهم بالمغرب قال الشيخ ولا يخفى ما في أحاديث المؤرخين من الضعف (ورموا في النّار) كإبراهيم عليه الصلاة والسلام فكانت عليه بردا وسلاما وقد أحرق جرجيس وطبخ ثم قام سالما (ونشروا بالمناشير) وفي نسخة وأشروا بالمآشير جمع مئشار بهمز لغة في المنشار بنون وفيه لغة أخرى وهي المواشير بالواو وقيل المياشير بالياء من وشر والمعنى واحد أي شقق وقطع بالمنشار ونحت به كزكريا عليه الصلاة والسلام نشر بالمنشار جزلتين أي قطعتين (ومنهم من وقاه الله ذلك) أي حفظه هنالك من الآفات والبليات (في بعض الأوقات ومنهم من عصمه) أي الله كما في نسخة أي حفظه ووقاه من القتل كعيسى عليه السلام إذ تمالأت اليهود على قتله فأخبره الله بأنه يرفعه إليه ويطهره من صحبتهم ويقربه لديه فقال لبعض أصحابه أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة فقال رجل منهم أنا فألقى عليه شبهه فقتل وصلى وعصم عيسى برفع الله إياه (كما عصم بعد نبيّنا من النّاس) أي من شرهم جميعا وفي أصل الدلجي كما عصم بعد مبنيا على الضم أي بعد عيسى نبينا من الناس لقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أي من قتلهم إياك وقيل نزلت هذه الآية بعد ما وقعت له الجراحة ففي الجملة حصلت له الرعاية والكفاية والصيانة والحماية (فلئن لم يكف نبيّنا) أي محمدا كما في نسخة (ربّه) بالرفع على أنه فاعل أي فلئن لم يمنع عنه (يد ابن قمئة) فعلة بكسر القاف وسكون الميم فهمزة وقيل بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة ياء فيه على وزن سفينة وهو الأكثر وهو من قمأ صغر وذل وهو عبد الله بن قمئة الذي جرح وجنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته (يوم أحد) وكسر رباعيته وهو الذي قتله مصعب بن عمير كما حكاه الطبري وقد نطحه تيس فتردى من شاهق جبل كافرا وضبطه الدلجي بكسر أوله وثانيه مشددا بعده همزة (ولا حجبه) أي ولئن لم يحجبه ولم يستره (عن عيون عداه) بكسر أوله ويضم اسم جنس للعدو أي عن أعين أعدائه (عند دعوته أهل الطّائف) ويروى عن عيون عداه أهل الطائف عند دعوته ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم هلى أتى عليك يوم أشد من يوم أحد قال لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب الحديث وكان عبد ياليل من أكابر أهل الطائف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما انتهى إلى الطائف حيث التمس من ثقيف النصرة فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ويرمون رجليه بالحجارة فدميتا وطفق يقيهما بثيابه حتى اجتمع عليه الناس والجأه إلى حائط لابني ربيعة وهما فيه ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف فتحركت له رحمهما فبعثا له قطف عنب الحديث وروى الطبراني في كتاب الدعاء عن عبد الله بن جعفر قال لما توفي أبو طالب خرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الطائف فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين إلى من تكلني إلى عدو بعيد يتجهمني أي يلقاني بوجه كريه أم إلى صديق قريب كلفته أمري إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك (فلقد أخذ) أي الله سبحانه وتعالى (على عيون قريش) بإخفائه عنها حين أرادوا قتله فخرج عليهم وقرأ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ونثر على رأس كل واحد منهم ترابا وذلك (عند خروجه) ويروى في يوم خروجه (إلى ثور) أي إلى غار في جبل ثور عن يمين مكة وهو المراد بقوله تعالى ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا ووقع في أصل التلمساني جبل أبي ثور ثم قال وروي إلى أبي ثور وصوابه إلى جبل ثور أو إلى يوم ثور ولفظ أبي وهم إذ لا يعرف جبل أبي ثور (وأمسك) أي الله تعالى (عنه) أي عن نبيه (سيف) ابن (غورث) بالغين المعجمة وهو ابن الحارث الغطفاني وقد تقدم أنه اسلم وصحبه صلى الله تعالى عليه وسلم والذي في البخاري أنه عليه الصلاة والسلام نزل بمكان كثير العضاة فعلق سيفه بشجرة ونام في ظلها فجاء غورث فاخترطه وقال للنبي عليه الصلاة والسلام مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي فَقَالَ اللَّهُ فَسَقَطَ السَّيْفُ من يده الحديث (وحجر أبي جهل) فرعون هذه الأمة أي أمسكه عنه حين أراد أن يرميه به وكان حمل صخرة والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ساجد ليطرحها عليه فلزقت بيده وتقدمت القصة (وفرس سراقة) بضم أوله بإساخة رجليها بالأرض فوقاه الله شره وقد اسلم كما أفاده حديث الهجرة (ولئن لم يقه) أي لم يحفظه ولم يمنعه (سحر ابن الأعصم) وفي نسخة من سحر ابن الاعصم وهو لبيد اليهودي هلك على كفره وقد سحره في مشط ومشاطة وجف طلعه ذكر كما في رواية البخاري (فلقد وقاه ما هو أعظم) خطر وأكثر ضررا من سحره (من سمّ اليهوديّة) بيان لما وقد سمته بشاة محنوذة بخيبر فأخبره كتفها به فأكل منها وبعض أصحابه فلم يضره فعفا عنها ومات به بشر بن البراء فقتلها به كذا روي وفيه خلاف تقدم والله تعالى اعلم والحاصل أنه سبحانه وتعالى ربى نبيه الذي عظم شأنه تارة بصفة الجلال وأخرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 بنعت الجمال ليكون في مقام الكمال حيث مقتضيات اسماء الذات والصفات (وهكذا سائر أنبيائه) منهم (مبتلّى) كأيوب عليه الصلاة والسلام (و) منهم (معافى) من كثرة الاسقام وشدة الآلام وهم قليل من الأنام (وذلك) أي ابتلاؤهم (من تمام حكمته ليظهر) من الإظهار أو الظهور (شرفهم) بصبرهم على البليات (في هذه المقامات) المتفاوتة فيها الحالات (ويبيّن) وفي نسخة ويتبين (أمرهم) أي رفعة قدرهم لغيرهم (ويتمّ) من الإتمام أو التمام (كلمته فيهم) بإظهار محنته عليهم وآثار بليته لديهم (وليحقّق) أي ليثبت لهم ولغيرهم (بامتحانهم) بأنواع ابتلائهم (بشريّتهم) أي عجز عنصريتهم (ويرفع الالتباس) وفي نسخة ويرتفع الالتباس بعد معرفة أنها من عوارض أجسام البشر أي الاشتباه (عن أهل الضّعف) بالضم والفتح في مقام اليقين من الناس إزالة لما يتوهمونه (فيهم) من أنهم لا يصيبهم محنة وبلاء ولا يغشاهم شدة وعناء استعظاما لمرتبتهم واستبعادا لمحنتهم (لئلّا يضلّوا بما يظهر من العجائب) أي الخوارق للعادات من الغرائب (على أيديهم) كبرد النار لإبراهيم الخليل وقلب العصاحية لموسى الكليم وخلق الطير من الطين وإحياء الموتى لعيسى وانشقاق القمر لنبينا الأكبر (ضلال النّصارى) كضلالتهم (بعيسى) أي ابن مريم كما في نسخة إذا بالغوا في تعظيمه حتى قالوا إن فيه لاهوتية وناسوتية (وليكون في محنتهم) وفي نسخة ومحنهم أن محن الله إياهم (تسلية لأممهم) لمشاركتهم بهم إذا أصابهم شيء من الآفات والبلايا ونالهم بعض المعصيبات والرزايا (ووفور) أي وسبب كثرة (لأجورهم) ويروى في أجورهم (عند ربّهم تماما) للكرامة الحاصلة لديهم (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ؛ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وهذه الطّوارىء) بالهمز وقد لا يهمز أي العوارض من الآفات (والتّغييرات المذكورة) من الحالات المسطورة (إنّما تختصّ بأجسامهم البشريّة المقصود بها) أي التي قصد بأجسامهم (مقاومة البشر) أي مداخلتهم (ومعاناة بني آدم) أي مقاساتهم في مخالطتهم (لمشاكلة الجنس) أي لمشابهتهم (وأمّا بواطنهم فمنزّهة غالبا عن ذلك) أي عما ذكر (معصومة منه) أي مبرأة ومبعدة عنه مما لا يجوز طروه عليهم كالجنون ولو متقطعا وقيد الغالبية مشعر بجواز وقوع ما لا يشين عليهم كالإغماء لحظة أو لحظتين كما في حديث البخاري أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن فوضع في مخضب وصب عليه منها ثم ذهب ليتوضأ فأغمي عليه وبهذا اندفع ما قال الحلبي من أن المصنف لو حذف لفظة غالبا لكان أحسن إذ حذفها واجب (متعلّقة بالملأ الأعلى) من أرواح الأنبياء والملائكة المقربين وقيل نوع من الملائكة أعظمهم عند الله مرتبة وأعلاهم درجة (والملائكة) أجمعين (لأخذها) أي لاستفاضة بواطنهم أخبار السماء وغيرها (عنهم وتلقّيها الوحي منهم قال) أي بعض المحققين (وقد قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قلبي) أي غالبا لما سبق في نوم الوادي (وقال إنّي لست كهيئتكم) أي كصفتكم من جميع الوجوه (إنّي أبيت يطعمني ربّي ويسقيني) بفتح أوله وضمه يقال سقاه واسقاه قال تعالى وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 طَهُوراً وقال تعالى وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً ولما كان الطعام قوت الأبدان والأشباح والمعارف قوت الجنان والأرواح جعلت كأنها مطعومة لأنه يتقوى بها قلب الأنام كما تتقوى الأجسام بأنواع الطعام ولما كان الماء يشفي ظمأ الغليل والمعرفة تطفئ ظمأ العليل جعلت كأنها مشروبة لأنها تذهب ظمأ الجهل كما يذهب الماء ظمأ العطش وهذا بناء على أن معناه مجاز للمعارف في حق العارف وقيل هو حقيقة وأنه يأكل ويشرب من طعام الجنة وشرابها وقيل المراد منهما النشاط والقوة في الطاعة والعبادة (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (لست أنسى) كسائر الأنام (ولكن أنسى ليستنّ بي) أي ليقتدى بفعلي في الأحكام (فأخبر) عليه الصلاة والسلام (أَنَّ سِرَّهُ وَبَاطِنَهُ وَرُوحَهُ بِخِلَافِ جِسْمِهِ وَظَاهِرِهِ وأنّ الآفات الّتي تحلّ) بضم الحاء وكسرها أي تنزل (ظاهره) أي بظاهره عليه الصلاة والسلام فقط (من ضعف) أي ضعف بدن (وجوع وسهر ونوم لا يحلّ منها) أي من هذه المذكورات (شيء باطنه) أي بباطنه ولا يؤثر في خاطره (بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ) مع مشاركتهم له في حكم الظاهر (لِأَنَّ غَيْرَهُ إِذَا نَامَ اسْتَغْرَقَ النَّوْمُ جِسْمَهُ وقلبه) أي غمرهما وعطاهما (وهو صلى الله تعالى عليه وسلم في نومه) وإن استغرق جميع اعضائه فهو (حاضر القلب كما هو في يقظته) حاضر مع الرب (حَتَّى قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ كَانَ مَحْرُوسًا مِنَ الْحَدَثِ فِي نَوْمِهِ لِكَوْنِ قلبه يقظان) بربه (كما ذكرناه) من قبله من أن عينيه كانتا تنامان ولا ينام قلبه ولعل المراد ببعض الآثار في كلام المصنف ما رواه سعيد بن منصور عن عكرمة عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في حديث مبيته عند خالته ميمونة زوجته صلى الله تعالى عليه وسلم وصلاته بالليل معه عليه الصلاة والسلام وفيه ثم وضع رأسه حتى اغفى وسمعت بخبخة وأصله في البخاري ثم جاء بلال فاستيقظ فقام فصلى بأصحابه زاد البخاري ولم يتوضأ أي بعد انتباهه من اغفائه أي نومه قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس ما أحسن هذه فقال إنها ليست لك ولأصحابك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يحفظ من الحدث في نومه لكون قلبه الشريف يقظان (وكذلك) أي لا يشابهه (غيره) فإن غيره (إذا جاع ضعف لذلك) الجوع (جسمه) وانحل جسده (وخارت) بالخاء المعجمة أي فترت (قوّته) وذهبت همته (فبطلت بالكلّيّة جملته) أي جميع محاسن حالاته (وهو صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخبر) عن نفسه (أنّه لا يعتريه ذلك) أي لا يغشاه ضعف هنالك (وأنّه بخلافهم) فإنه يلحقهم ويرهقهم (لقوله) أي في حديث البخاري في حال الوصال (إنّي لست كهيئتكم) أي من ضعف بنيتكم وفتور حالتكم (إنّي أبيت يطعمني ربّي ويسقيني) على ما تقدم (قال القاضي رحمه الله تعالى) يعني المصنف (وكذلك) أي مثل مقول بعض المحققين من أن الطوارئ والتغيرات إنما تختص بأجسام الأنبياء (أَقُولُ إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مِنْ وصب) بفتحتين أي الم وتعب (ومرض وسحر وغضب) للرب (لم يجر على باطنه ما يخلّ به) بفتح الياء وكسر الخاء المعجمة أي يضعف بباطنه مما كان يخل به ظاهره (ولا فاض) أي ولا سال ولا حدث وخرج (منه) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 مما كان يخل ظاهر (عَلَى لِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ) من هذيانات المرضى وخرافاتهم واختلاف حالاتهم (كما يعتري غيره من البشر) ممن نزل به شيء منها من شدة الألم وقوة الضرر (ممّا نأخذ بعد) أي نشرع بعد هذا (في بيانه) أي في بيان شأنه وتبيين برهانه. فصل [فَإِنْ قُلْتَ فَقَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سحر] (فإن قلت فقد) ويروى قد (جاءت الأخبار الصّحيحة) والآثار الصريحة (أنّه صلى الله تعالى عليه وسلم سحر) أي أثر عليه السحر (كما حدثنا الشّيخ أبو محمّد العتّابي) بفتح العين وتشديد المثناة فوق وبعد الألف موحدة فياء نسبة (بقراءتي عليه قال حدثنا حاتم بن محمد) وهو الطرابلسي (حدثنا أبو الحسن عليّ بن خلف) وهو الحافظ القابسي المعافري القروي (حدثنا محمّد بن أحمد) وهو أبو يزيد المروزي (حدثنا محمّد بن يوسف) وهو الفربري (حدثنا البخاريّ) وهو الإمام محمد بن إسماعيل صاحب الصحيح (حدثنا عبيد بن إسماعيل) أي الهباري يروي عن ابن عيينة وطبقته (قال حدثنا أبو أسامة) هو الحافظ حماد الكوفي يروي عن الأعمش وغيره وعنه أحمد وإسحاق وابن معين وكان حجة عالما أخباريا عنده ستمائة حديث عن هشام بن عروة عاش ثمانين سنة وتوفي سنة إحدى ومائتين أخرج له الأئمة الستة (عن هشام بن عروة عن أبيه) سبق الكلام عليهما (عن عائشة رضي الله عنه قالت سحر رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فعل الشّيء) وفي رواية الفعل أي من الجماع وغيره (وما فعله) جملة حالية وهذا الحديث ساقه القاضي كما ترى من عند البخاري وقد أخرجه مسلم أيضا فهو حديث متفق عليه كما سيأتي قريبا في كلام المصنف (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أنّه كان يأتي النساء ولا يأتيهنّ) أي يظن أنه واقعهن والحال أنه لم يجامعهن (الحديث) قال الحكيم الترمذي ولما سحر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى عجز عن نسائه وأخذ بقلبه لبث في ذلك ستة أشهر فيما روي في الخبر ثم نزلت المعوذتان انتهى كذا في تفسير البغوي وسيأتي عن عائشة أنه لبث سنة قال عبد الرزاق حبس عنها خاصة حتى أنكر بصره قال ابن الملقن في شرح البخاري في تفسير قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ورواية ثلاثة أيام أو أربعة أيام هو أصوب وسنة بعيد أقول ولعله عليه الصلاة والسلام كان سحره شديدا عليه في تلك الأيام ثم خف عنه إلى نصف سنة ولم يتعارف منه إلا بعد كمال سنة (وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنَ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ عَلَى المسحور فكيف حال النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك) الوقت المذكور (وكيف جاز عليه) أي السحر وأن يكون في مقام موهوم (وَهُوَ مَعْصُومٌ فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ هذا الحديث) الذي أسندناه إلى عائشة (صحيح متّفق عليه) لا شبهة لديه (وقد طعنت فيه الملحدة) أي الطائفة الملاحدة الزائغة بالعقيدة الفاسدة (وتذرّعت) بذال معجمة من الذريعة توسلت (به) إلى التشكيكات الكاسدة وفي نسخة بدال مهملة أي تسلحت به لإظهار الحجج الداحضة الشاردة (لسخف عقولها) بضم السين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 المهملة وسكون الخاء أي رقتها وضعفها (وتلبيسها) أي تخليطها (على أمثالها) أي اشباهها من ضعفاء اليقين في أمر الدين (إلى التّشكيك) أي إيقاع الشك ويروى التشكك أي قبول الشك (في الشّرع) أي في أمور الشرع المبين (وقد نزّه الله الشّرع) أي الشريف المكرم (والنبيّ) المعظم صلى الله تعالى عليه وسلم (عمّا يدخل) أي عن شيء يدخل (في أمره لبسا) بفتح أوله أي خلطا واشتباها (وَإِنَّمَا السِّحْرُ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَعَارِضٌ مِنَ العلل) أي من جملة الأعراض (يجوز) وقوعه (عليه كأنواع الأمراض ممّا لا ينكر) بالإجماع (ولا يقدح في نبوّته) من غير النزاع. (وَأَمَّا مَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) أي يقع في خيال باله (أنه فعل الشّيء) من أفعاله (ولا يفعله) في حاله ويروى وما فعله (فليس في هذا) التخيل (ما يدخل عليه داخلة) أي ريبة وتهمة (في شيء من تبليغه) أي لأمته (أو شريعته) أي بيان أحكام ملته (أو يقدح في صدقه) وفي نسخة في شيء من صدقه (لقيام الدّليل) من أنواع المعجزة (والإجماع) من علماء الأمة (على عصمته من هذا) أي من إدخال فساد في الحال (وإنّما هذا) ويروى وإنما هو أي التخيل (فيما يجوز طروّه عليه في) وفي نسخة من (أَمْرِ دُنْيَاهُ الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِسَبَبِهَا وَلَا فضّل) على غيره (من أجلها) ما يشير إليه قوله أنتم اعلم بأمر دنياكم وإنما فضل بالوحي الإلهي وما يتعلق بالأمر الديني والأخروي كما يومي إليه قوله تَعَالَى قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ (وهو) صلى الله تعالى عليه وسلم (فيها) أي في أمور دنياه (عرضة للآفات) أي هدف للعاهات (كسائر البشر) في جميع الحالات وإذا كان الأمر كذلك (فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِهَا ما لا حقيقة له) في صدورها (ثمّ ينجلي عنه) أي ينكشف الأمر (كما كان) على وجه ظهورها كسحابة عارضة مانعة عن شعاع الشمس ونورها (وأيضا فقد فسّر هذا الفصل) أي الكلام المجمل (الحديث الآخر) المفصل (مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أهله) من النساء (ولا يأتيهنّ) فإن اتيانهن من جملة أمور دنياه ولا ضرر من هذه الأحوال في دينه وأخراه (وقد قال سفيان) أي الثوري وقال الدلجي الظاهر أنه ابن عيينة إذ هو المراد بالإطلاق عند أئمة الحديث وجزم الحلبي وقال هو ابن عيينة لأنه المذكور في السند في الصحيح (وهذا) النوع (أشدّ ما يكون من السّحر) وإلا لم يعرض له هذا التخيل ويشير إلى كلامه قوله تعالى فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (ولم يأت في خبر منها) أي من أحاديث سحره عليه الصلاة والسلام أو من الأخبار الصحيحة (أَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ بِخِلَافِ مَا كَانَ أَخْبَرَ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ) والمعنى أنه لم ينقل عنه أنه قال حال سحره فعلت كذا والحال أنه لم يفعله لعصمته من الخلف في الأخبار لأمته (وإنّما كانت) هذه السوانح واللوائح (خواطر) أي خطرات (وتخييلات) في صورة تسويلات ويروى بموحدة وتحتية. (وقد قيل إنّ المراد بالحديث) أي حديث حتى يخيل إليه (أنه كان يتخيّل الشّيء) ويروى يتخيل إليه الشَّيْءَ (أَنَّهُ فَعَلَهُ وَمَا فَعَلَهُ لَكِنَّهُ تَخْيِيلٌ لا يعتقد) هو بنفسه (صحّته) وفي نسخة بصيغة المجهول أي كل أحد يدرك عدم حقيقته كما يستفاد من نفس التخيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 وصيغته واشتقاق بنيته (فتكون اعتقاداته كلّها) أي سواء تعلقت بأمور دنياه أو بأحوال أخراه (على السّداد) أي الصواب ومنهج الرشاد (وأقواله على الصّحّة) التي تصلح للاعتماد، (هذا ما وقفت عليه لأئمّتنا) أي الأشعرية أو المالكية أو أئمة أهل السنة والجماعة (من الأجوبة على) وفي نسخة عن (هذا الحديث) أي حديث سحره عليه الصلاة والسلام (مع ما أوضحنا من معنى كلامهم) وبيناه على مبنى مرامهم (وزدناه بيانا من تلويحاتهم) أي من إشاراتهم من غير تصريح عباراتهم (وكلّ وجه منها) أي من الوجوه المذكورة (مقنع) بضم الميم وكسر النون ويجوز فتحهما على أنه مصدر للمبالغة أو اسم مكان وهو من قنع بالكسر قناعة إذا رضي ويقال فلان مقنع في العلم وغيره على وزن جعفر أي مرضي فيه وليس المراد به أنه دليل اقناعي وإن كان يشير إليه قوله (لكنّه قد ظهر لي في الحديث) هذا (تأويل أجلى) بالجيم أي أظهر وأوضح من التأويلات السالفة (وأبعد من) وفي نسخة عن (مطاعن ذوي الأضاليل) جمع ضليل مبالغة في الضلال ومنه قول علي رضي الله تعالى عنه وقد سئل عن أشعر الشعراء فقال الملك الضليل يعني امرأ القيس وكان يلقب به وقيل هو جمع أضلولة وهو ما يضل من ركبه (يستفاد) أي ذلك التأويل الأجلى (من نفس الحديث) ويروى من تفسير الحديث (وهو أنّ عبد الرّزّاق) وهو الحافظ الصغاني (قد روى هذا الحديث) في مصنفه عن معمر عن الزهري (عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ وَقَالَ) أي عبد الرزاق (فيه) أي في حديثه (عنهما) أي ابن المسيب وعروة (سحر يهود بني زريق) بضم الزاء وفتح الراء (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجعلوه) أي ما سحروه به (في بئر) وهي بئر ذروان (حتّى كاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي قارب (أن ينكر بصره) لضعف حدته أو لأمر تخيله (ثمّ دلّه الله على ما صنعوا) أي اليهود (فاستخرجه) بنفسه أو بمأموره (من البئر، وروي نحوه) بصيغة المجهول (عن الواقديّ) قاضي العراق وقد سبق ذكره (وعن عبد الرّحمن بن كعب) أي ابن مالك السلمي يروي عن أبيه وعائشة وعنه الزهري وهشام بن عروة ثقة مكثر أخرج له أصحاب الكتب الستة (وعمر بن الحكم) بفتحتين تابعي جليل (وذكر) بصيغة المجهول (عن عطاء الخراسانيّ) من أكابر التابعين روى عنه الأوزاعي ومالك وشعبة قال ابن جابر كنا نغزو معه وكان يحيي الليل صلاة إلى نومة السحر أخرج له الأئمة الستة (عن يحيى بن يعمر) بفتح الياء والميم وقد يضم وحكي عن البخاري وهو غير مصروف للعلمية ووزن الفعل قاضي مرو يروي عن عائشة وابن عباس مقرئ ثقة أخرج له الأئمة الستة قال هارون بن موسى أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر قال الذهبي يقال توفي سنة تسعين وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن عطاء (حبس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن عائشة) بصيغة المجهول أي منع من قربانها (سنة فبيننا هو نائم أتاه ملكان) وهما جبريل وميكائيل كما في سيرة الدمياطي (فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ الحديث) أي فقال أحدهما ما له فقال الآخر مطبوب قال من طبه قال لبيد بن الأعصم في جف طلعة ذكر نخل في بئر ذروان وروى عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 ابن عباس وعائشة أن غلاما من اليهود كان يخدم النبي عليه الصلاة والسلام فدنت إليه اليهود فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها فنزلت السورتان فيه وعن عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم طب أي سحر حتى أنه ليخيل إليه أنه قد صنع شيئا وما صنعه وأنه دعا ربه ثم قال اشعرت أن الله قد افتاني فيما استفتيته فيه قالت عائشة وما أدراك يا رسول الله قال جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال الآخر مطبوب قال من طبه قال لبيد بن الاعصم قال فيماذا قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر قال وأين هو قال في ذروان وذروان بئر في بني زريق قالت عائشة فأتاها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم رجع إلى عائشة فقال والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤوس الشياطين قالت فقلت له هلا أخرجته قال أما أنا فقد شفاني وكرهت أن أثير على الناس من شرا وروي أنه كان تحت صخرة في البئر فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة وإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان مشطه وعن زيد بن أرقم قال سحر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رجل من اليهود قال فاشتكى لذلك أياما قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال رجل من اليهود سحرك وعقد لك عقدا فأرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا فاستخرجها فجاء بها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كأنما انشط من عقال فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه قط قال مقاتل والكلبي كان في وتر عقد إحدى عشرة عقدة وقيل وكانت مغروزة بالإبر فأنزل الله عز وجل هاتين السورتين وهي إحدى عشرة آية سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها فقام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كأنما انشط من عقال قال البغوي وروي أنه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاث ليال فنزلت المعوذتان؛ (قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) بعد أن سحر (عن عائشة خاصّة) دون غيرها من نسائه (سنة) وطالعت المدة (حتّى أنكر بصره) أي من ضعف بصره أو من تخيل بعض أمره؛ (وروى محمد بن سعد) بفتح وسكون وهو كاتب الواقدي وصاحب الطبقات وكذا رواه البيهقي بسند ضعيف (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فحبس عن النّساء) أي منع عنهن وحيل بينه وبينهن (والطّعام والشّراب) أي وعن تكثيره منهما كما هو عادته فيهما (فهبط) بفتح الموحدة أي نزل (عليه ملكان) أي بصورة رجلين فعقد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه (وذكر القصّة) أي إلى آخرها على ما قدمناه ويروي القضية؛ (فَقَدِ اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ مَضْمُونِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَجَوَارِحِهِ) أي من جهة منع جماعة ونقصان أكله وشربه (لا على قلبه واعتقاده وعقله) وكذا سلم منه آلة لسانه الذي هو عمدة بيانه وزبدة برهانه (وأنّه إنّما أثّر) أي السحر بعض اثره (في بصره) من ضعف نظره أو تخيل أثره (وحبسه) أي منعه (عن وطء نسائه وطعامه) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 بعض المنع (وَأَضْعَفَ جِسْمَهُ وَأَمْرَضَهُ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ يُخَيَّلُ إليه أنّه يأتي أهله) أي بعض نسائه (ولا يأتيهنّ) في نفس الأمر، (أي يظهر له من نشاطه) أي كمال رغبته (ومتقدّم عادته) أي سابقتها في حالته (القدرة على النّساء) بالمجامعة (فإذا دنا منهنّ) أي على قصد مواقعتهن (أصابته) أدركته (أخذة السّحر) بضم الهمزة وخاء ساكنة فذال معجمة فتاء تأنيث وهي رقية كالسحر أو خرزة تؤخذ أي تحبس بها النساء أزواجهن عن النساء دونهن (فلم يقدر على إتيانهنّ كما يعتري) أي يصيب ويغشى (من أخذ) بضم همز وتشديد خاء أي حبس عن وطء امرأة لا يصل لجماعها يقال أخذت المرأة زوجها تأخيذا إذا فعلت به ما تقدم من السحر وفي نسخة وأخذ وهو في مبناه ومعناه ونظيرهما قوله تعالى وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ووقتت كما قرىء بهما في السبعة واختير التفعيل في التأخيذ للمبالغة في أخذه وحبسه (واعترض) بصيغة المجهول أيضا من العرض بالتحريك وهو ما يعرض للإنسان من حوادث الدوران، (ولعلّ) أي الشأن ويروى ولعله (لمثل هذا) السحر (أشار سفيان) أي ابن عيينة أو الثوري (بقوله وهذا) النوع (أشدّ ما يكون من السّحر) لأنه غالبا يكون سببا للتفريق بين المرء وزوجه (ويكون قول عائشة رضي الله تعالى عنها في الرّوايات الأخرى إنّه ليخيّل) وفي نسخة يخيل أي يشبه (إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ مِنْ باب ما اختلّ من بصره) أي لأنه كناية عن جماعه مع أهله كما تقدم (فَيَظُنُّ أَنَّهُ رَأَى شَخْصًا مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ أو شاهد) أي أو يظن أنه رأى (فعلا من غيره ولم يكن) ما ذكر من الشخص والفعل (على ما يخيّل إليه) أي موافقا لتخيله (لما أصابه) أي من ضعف (في بصره) وفي نسخة أي لما أصابه وهن من جهة بصره (وضعف نظره لا لشيء طرأ) بالهمز أي عرض وحدث (عليه في ميزه) بفتح الميم وسكون التحتية وبالزاء أي تمييزه وتفرقته بين الأشياء قال التلمساني وروي في غيره اقول الظاهر إنه تصحيف (وإذا كان) أي أمره عليه الصلاة والسلام (هذا) الذي ذكرناه في هذا المقام (لم يكن في إصابة السّحر) وفي نسخة لم يكن ما ذكر في إصابة السحر (له وتأثيره فيه) أي في ظاهر أمره (ما يدخل عليه لبسا) أي خلطا في باطنه (ولا يجد به الملحد) المائل عن الحق في مقاله (المعترض) بعقله التابع لباطله (أنسا) بضم فسكون أي تبصرا فيما لا يجدي بطائله. فصل [هذا حاله عليه الصلاة والسلام في جسمه] (هذا) الذي ذكرنا في الفصل الذي قدمنا على ما حررنا (حاله) من جهة أمراض وأعراض نازلة أو حاصلة له (في جسمه) من ظاهر جسده وباطنه، (فأمّا أحواله) أي الواردة (في أمور الدّنيا) أي الخارجة عن جسمه (فنحن نسبرها) بنون مفتوحة وسين ساكنة وبموحدة مضمومة فراء من سبرها أو بضم نون فكسر موحدة من أسبرها أي نقيد أحواله ونوزن أفعاله ونوردها (على أسلوبها) ويروى على أسلوبنا (المتقدّم) أي طريقها السابق (بالعقد) بمعنى الاعتقاد (وَالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ؛ أَمَّا الْعَقْدُ مِنْهَا فَقَدْ يَعْتَقِدُ) أي يظن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 (في أمور الدّنيا الشّيء على وجه) من جواز فعله وتركه في بادئ رأيه (وَيَظْهَرُ خِلَافُهُ أَوْ يَكُونُ مِنْهُ عَلَى شَكٍّ) أي تردد لا يترجح أحد طرفيه (أو ظنّ) يترجح عنده أحد شقيه ويتبين بعده وهذا كله في أمر الدنيا وما يتعلق به من الفرع (بخلاف أمور الشّرع كما) يدل عليه ما (حدّثنا أبو بحر) بفتح موحدة وسكون مهملة (سفيان بن العاص) بغير الياء في آخره (وغير واحد) من المشايخ (سماعا) من بعض (وقراءة) على بعض وهما منصوبان على التمييز أو حالان (قالوا) كلهم (حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ؛ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ بن عمرويه) بفتح وسكون فضم وفتح فسكون هاء وفي نسخة ففتح تاء وفي نسخة الراء والواو وسكون الياء وكسر الهاء (حدّثنا ابن سفيان) هذا أبو إسحاق محمد بن سفيان راوي الصحيح عن مسلم (حدّثنا مسلم) أي ابن الحجاج الحافظ صاحب الصحيح (حدّثنا عبد الله) ويقال عبيد الله (ابن الرّوميّ) يروي عن ابن عيينة انفرد مسلم بالإخراج له (وعبّاس العنبريّ) منسوب إلى بني العنبر ابن عمرو بن تميم من حفاظ البصرة روى عن القطان وعبد الرزاق وعنه مسلم والأربعة والبخاري تعليقا قال النسائي ثقة مأمون توفي سنة ست وأربعين ومائتين (وأحمد المعقريّ) بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف وفي نسخة بكسر الميم وفتح القاف وفي أخرى بضم الميم وفتح العين وكسر القاف المشددة نسبة إلى ناحية من اليمن توفي بعد خمس وخمسين ومائتين كان بزازا بمكة روى عنه مسلم (قالوا) أي كلهم (حدّثنا النّضر بن محمّد) هو الجرشي اليماني يروي عن شبعة وغيره وعنه أحمد العجلي أخرج له الستة إلا النسائي (قال حدثني عكرمة) أي ابن عمار (حدّثنا أبو النّجاشيّ) هو عطاء ابن صهيب روى عنه عكرمة والأوزاعي وجماعة أخرج له الشيخان والنسائي وابن ماجه (قال حدّثنا رافع بن خديج) انصاري أوسي حارثي شهد أحدا عاش ستا وثمانين سنة توفي بالمدينة سنة ثلاث وسبعين أخرج له الأئمة الستة (قال قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وهم يأبرون) بضم الموحدة وفي نسخة يؤبرون بضم أوله وكسر بائه مشددة وهو رواية الطبراني يلقحون (النّخل) بوضع طلع ذكورها فيها (فقال ما تصنعون قالوا: كنّا نصنعه) أي شيئا على عادتنا ليكثر فيما يثمر؛ (قال لعلّكم لو لم تفعلوا) أي لو تركتم تأبيرها (كان خيرا) من تأبيرها بناء على هدم المعالجة في تدبير تأثيرها (فتركوه فنفضت) بفتح النون والفاء والضاد المعجمة أي أسقطت حملها من ثمرها وروي فنقصت بالقاف والصاد المهملة وقيل هو تصحيف وعلى تقدير صحته أما بمعنى اسقطت وإما قالت في الحمل وإما قلت في نفسها مع كثرتها أي صارت حشفا وروي نصبت بصاد مهملة بعدها موحدة وبغين معجمة وصاد مهملة قال القاضي ولا معنى لهما وقيل في معناهما أن نصبت من النصب وهو التعب ومعناه أن ثمرها لم يخرج إلا بنكد فصار كأنه تعب وإن نغصت من قولهم نغص لم يتم مراده قال ابن قرقول وفي هذه اللفظة روايات كلها تصحيف إلا الأول، (فذكروا ذلك له) أي من نقصان الثمر (فَقَالَ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ من دينكم) أي ولو برأيي (فخذوا به) لأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 عليه الصلاة والسلام مبين لأحكام الإسلام (وإذا أمرتكم بشيء من رأيي) وفي رواية من رأي أي في أمر دنياكم مما ليس له تعلق بأمر دينكم وآخرتكم (فإنّما أنا بشر) مثلكم فقد أصيب وقد اخطئ فالأمر فيه مخير لكم (وفي رواية أنس) وفي نسخة رواية أنس أي لمسلم عنه (أنتم أعلم بأمر دنياكم) إن اردتم تبعتموني وإن أردتم اخترتم رأيكم (وفي حديث آخر) رواه مسلم عن طلحة (إنّما ظننت ظنّا فلا تؤاخذوني بالظّنّ) إن لم يكن مطابقا لظنكم وموافقا لرأيكم هذا وعندي أنه عليه الصلاة والسلام أصاب في ذلك الظن ولو ثبتوا على كلامه لفاقوا في الفن ولارتفع عنهم كلفة المعالجة فإنما وقع التغير بحسب جريان العادة ألا ترى أن من تعود بأكل شيء أو شربه يتفقده في وقته وإذا لم يجده يتغير عن حالته فلو صبروا على نقصان سنة أو سنتين لرجع النخيل إلى حاله الأول وربما أنه كان يزيد على قدره المعول وفي القضية إشارة إلى التوكل وعدم المبالغة في الأسباب وقد غفل عنها أرباب المعالجة من الأصحاب والله تعالى اعلم بالصواب (وفي حديث ابن عبّاس) رضي الله تعالى عنهما كما رواه البزار بسند حسن (في قصّة الخرص) بفتح الخاء المعجمة فراء ساكنة فصاد مهملة هو الحرز والتقدير لما على الشجر من الرطب تمرا ومن العنب زبيبا أي تخمينه ظنا والقصة ما روي عن أبي حميد قال خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة تبوك فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخرصوها فخرصناها وخرص رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عشرة أوسق وقال لها احصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله تعالى إلى قوله ثم اقبلنا حتى قدمنا وادي القرى فسأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المرأة عن حديقتها كم بلغ تمرها قالت عشرة أوسق (فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنّما أنا بشر) وفي كلام جنسهم خطر (فما حدّثتكم عن الله تعالى) أي وحيه جليا أو خفيا (فهو حقّ) أي صوابه دائما (وما قلت فيه) أي من أمور الدنيا (من قبل نفسي) أي مما خطر لي (فإنّما أنا بشر أخطىء وأصيب وهذا) وارد (على ما قرّرناه) آنفا من أنه عليه الصلاة والسلام قد يعتقد الشيء من أمور الدنيا على وجه ويظهر خلافه كذا قرره الدلجي على طبق ما حرره القاضي ولكن فيه أنه لم يعتقده بل ظنه كما يدل عليه قوله (فِيمَا قَالَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فِي أُمُورِ الدّنيا وظنّه من أحوالها) الجارية على منوال أفعال أهلها في منالها (لا ما قاله من قبل نفسه) جزما مع أنه جاء مطابقا لما قاله حزما (واجتهاده في شرع شرعه) أي أظهره وبينه عزما (وسنّة) وفي نسخة أو سنة (سنّها) أي طريقة اخترعها لحديث أبي داود عن المقدام بن معدي كرب قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم مثل ما حرم الله تعالى إلا لا يحل الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه (وكما حكى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 ابن إسحاق) وقد رواه البيهقي عن عروة والزهري أيضا (أنّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِأَدْنَى مِيَاهِ بَدْرٍ) أي في أبعدها منه (قال له الحباب بن المنذر) بضم الحاء المهملة وبموحدتين الخزرجي وكان يقال له ذو الرأي توفي في خلافة عمر كهلا ولم يرو نقلا (أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نتقدّمه) لا بأن نتأخر عنه ولا أن نتقدم عليه (أم هو الرّأي والحرب والمكيدة) وهي مفعلة من الكيد بمعنى المكر يعني فلنا المخالفة فإن الحرب خدعة والمكيدة بمعنى الخديعة واقعة (قَالَ: «لَا بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ) أي لم ينزلني الله تعالى فيه ولم يأمرني به وإنما وقع نزولي فيه اتفاقا من غير تأمل في أمره وقد أمرني الله تعالى بقوله قولكم في مصلحة أمركم حيث قال وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (قال فإنّه ليس بمنزل) مرضي بحسب العقل، (انهض) بفتح الهاء والضاد المعجمة وهو القيام إلى الشيء بالسرعة والعجلة أي قم لنا وانتقل بنا (حتّى نأتي أدنى ماء) أي أقربه (من القوم) يعني قريشا (فننزله ثمّ نعوّر ما وراءه من القلب) بضمتين جمع قليب وهو البئر ونعور بتشديد الواو المكسورة بعد عين مهملة وقيل معجمة فعلى الأول أي نفسدها عليهم وعلى الثاني نذهبها في الأرض وندفنها لئلا يقروا على الانتفاع بها وفي رواية السهيلي بضم العين المهملة وسكون الواو وهي لغة فيها (فنشرب ولا يشربون) أي منها، (فقال أشرت بالرّأي) أي الصحيح (وفعل ما قاله) أي الحباب في هذا الباب وقد روى ابن سعد أنه نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال الرأي اشار به الحباب، (وقد قال الله تعالى) أي وأمره عليه الصلاة والسلام بقوله (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] ) ومدحهم في مواضع أخر فقال وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما تشاور قوم إلا هدوا لا رشد أمرهم وقد ورد ما خاب من استخار ولا ندم من استشار (وأراد) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة الأحزاب (مصالحة بعض عدوّه على ثلث تمر المدينة) من التمر وغيره وفي نسخة بالتاء الفوقية (فاستشار الأنصار) كما رواه البزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بلفظ جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا محمد ناصفنا ثمر المدينة وإلا ملأناها عليك خيلا ورجلا فقال حتى استأمر السعود يعني سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فشاورهما فقالا لا والله ما اعطينا الدنيئة من أنفسنا بالجاهلية وقد جاء الله تعالى بالإسلام وفي رواية ابن إسحاق أنه عليه الصلاة والسلام أراد في غزوة الخندق أن يقاضي أي يصالح بذلك عيينة بن حصين الفزاري والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان واستشار صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقال سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله تعالى وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قري أو بيعا فحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله تعالى بيننا وبينهم فقال عليه الصلاة والسلام فأنت وذاك القصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وهذا معنى قوله (فلمّا أخبروه برأيهم رجع عنه) أي عن رأيه، (فمثل هذا) أي ما ذكر عن الحباب ببدر وعن الأنصار في الأحزاب (وأشباهه من أمور الدّنيا) ما لم يكن به الاعتناء (وهي الَّتِي لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِعِلْمِ دِيَانَةٍ وَلَا اعتقادها ولا تعليمها) أي مما لم يؤمر به بيانا وتعليما وتبيانا (يجوز عليه فيها ما ذكرناه) وفي نسخة ما ذكروا أي من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد يظن شيئا على وجه ويظهر خلافه، (إذ ليس في هذا كلّه نقيصة) أي منقصة (ولا محطّة) له عن رفعة مرتبة وعلو منزلة (وإنّما هي أمور اعتياديّة) اعتادها الناس وألفوها (يعرفها من جرّبها) مرة بعد أخرى (وجعلها همّه) أي غاية همه فيها (وشغل نفسه بها) وعالجها وعاناها (والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) يقول في دعائه ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا وهو (مشحون القلب) أي مملوءة (بمعرفة الرّبوبيّة) وما يتعلق بها من آداب العبودية (ملآن الجوانح) أي الاضلاع وفي نسخة الجوارح (بعلوم الشّريعة مقيّد البال) أي مربوط القلب في جميع الحال (بمصالح الأمّة الدّينيّة والدّنيويّة) أي التي لها تعلق بالأمور الأخروية (ولكن هذا) أي ما يظنه على وجه ويظهر خلافه (إنّما يكون في بعض الأمور) الدنيوية أي التي ليس لها تعلق أصلا بالأحوال الدينية (ويجوز) أي وقوع مثله عنه (في النادر وفيما سبيله التّدقيق) أي تدقيق النظر وتحرير الفكر (في حراسة الدّنيا) بكسر أوله أي محافظتها ومراعاتها (واستثمارها) أي تحصيل ثمرتها ونتيجتها المترتبة عليها (لا في الكثير) من أمورها (المؤذن بالبله) بفتحتين أي المشير إلى البلاهة (والغفلة) المؤذنة بقلة شعورها والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام واتباعه الكرام كانوا على ضد حال الكفار وأرباب الكفر اللئام كما قال الله تعالى يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (وقد تواتر بالنّقل) من جمع يمتنع من تكذيبهم العقل (عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من المعرفة بأمور الدّنيا) وأحوالها (وَدَقَائِقِ مَصَالِحِهَا وَسِيَاسَةِ فِرَقِ أَهْلِهَا مَا هُوَ معجز في البشر) حيث لم يقدر أحد أن يأتي بنظام أمور هذا الباب (مِمَّا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي بَابِ مُعْجِزَاتِهِ من هذا الكتاب) . فصل [وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُهُ فِي أُمُورِ أَحْكَامِ الْبَشَرِ إلى آخره] (وأما ما يعتقده) وفي حاشية الحجازي ويروى بضم أوله وفتح ثالثه والقاف (فِي أُمُورِ أَحْكَامِ الْبَشَرِ الْجَارِيَةِ عَلَى يَدَيْهِ) صلى الله تعالى عليه وسلم (وقضاياهم) المرفوعة منهم إليه (ومعرفة المحق من المبطل) وأغرب التلمساني في ضبطهما بصيغة المفعول وتفسيرهما بالحق والباطل وغرابته من جهة المبنى والمعنى في هذا المقام مما لا يخفى (وعلم المصلح من المفسد) من يداخل بإصلاح أو إفساد من العباد في أمور البلاد (فبهذا السّبيل) أي ما ذكر هنا من معتقده ومعرفته على الوجه الجميل (لقوله عليه الصلاة والسلام) فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أم سلمة (إنّما أنا بشر) وإنما يوحى إلي أحيانا (وإنّكم تختصمون) بينكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وترفعون الأمر (إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن) أي أعرف وأفطن (بحجّته) أي خصومته وتبيين بينته وطريق تمشيته ومنه قول عمر بن عبد العزيز عجبت لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم أي فاطنهم (من بعض) لبلاهته أو لصفاء حالته (فأقضي له) أي فاحكم (على نحو) بالتنوين (ممّا أسمع) أي منه كما في نسخة يعني من كلامه حيث لم أعرف حقيقة مرامه وفي نسخة على نحو ما اسمع بالإضافة، (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ) فيما ظهر لي على وجه يكون الأمر في الواقع بخلافه (فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قطعة من النّار) لبناء أحكام شريعته على الظاهر وغلبة الظن في قضيته وقد ورد نحن نحكم بالظواهر والله اعلم بالسرائر وإنما صدر الحديث بقوله إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إيذانا بأن السهو والنسيان غير مستبعد من الإنسان وأن الوضع البشري يقتضي أن لا يدرك من الأمور الشرعية إلا ظواهرها تمهيدا للمعذرة فيما عسى يصدر عنه عليه الصلاة والسلام من أمثال تلك الأحكام ولو كان نادرا في الأيام وليس هذا من قبيل الخطأ في الحكم فإن الحاكم مأمور مكلف بأن يحكم بما يسمع من كلام الخصمين وبما تقتضيه البينة لا بما في نفس الأمر في القضية حتى لو حكم المبطل في دعواه بشاهدي زور وفق مدعاه وظن القاضي عدالتهما فهو محق في الحكم وإن لم يكن المحكوم به ثابتا في نفس الأمر. (حدّثنا الفقيه أبو الوليد رحمه الله تعالى) أي الباجي وهو هشام بن أحمد وهو ابن العواد (حدّثنا الحسين بن محمد الحافظ) هو أبو علي الغساني (حدّثنا أبو عمر) أي ابن عبد البر حافظ الغرب (حدّثنا أبو محمد) هو عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن القرطبي من قدماء شيوخ ابن عبد البر كان تاجرا صدوقا (حدّثنا أبو بكر) وهو ابن داسة راوي السنن عن أبي داود (حدّثنا أبو داود) وهو حافظ العصر صاحب السنن (حدّثنا محمد بن كثير) بفتح الكاف وكسر المثلثة العبدي البصري يروي عن شعبة والثوري عاش تسعين سنة أخرج له الأئمة الستة (أخبرنا سفيان) قال الحلبي الظاهر أنه الثوري ومستندي في هذا أن الحافظ عبد الغني ذكر الثوري فيمن روى عنه محمد بن كثير ولم يذكر ابن عيينة وفي التذهيب قال روي عن سفيان وأطلق فحملت المطلق على المقيد قلت وكلاهما إمامان جليلان في مقامهما فلا إشكال في ابهامهما (عن هشام بن عروة عن أبيه) سبق الكلام عليهما (عن زينب بنت أمّ سلمة) ربيبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صحابية أخرج لها الأئمة الستة لها الرواية عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا وكان اسمها برة بفتح الموحدة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم وسلم فلا تزكوا أنفسكم الله اعلم بأهل البر منكم فسماها زينب (عن أمّ سلمة) إحدى أمهات المؤمنين (قالت قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحديث) كما تقدم وسبق أنه رواه الشيخان وغيرهما (وفي رواية الزّهريّ) وهو الإمام العالم (عن عروة) وقد تقدم، (فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ) أي أفصح أو أكثر بلاغا يقال بالغ يبالغ مبالغة وبلاغا إذا اجتهد في الأمر أي أجهد نفسه في إيصال كلامه إلى ذهن سامعه واقتصر الدلجي عليه وفيه أنه لا يبنى أفعل من غير الثلاثي المجرد إلا بتقوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 أشد ونحوه فلو أريد هذا المعنى لقيل أكثر تبليغا أو أشد بلاغا ونحوهما (فأحسب أنّه صادق) أي أظن أنه في قوله لما في نفس الأمر موافق (فأقضي له) بما أظنه أنه يستحقه، (ويجري) من الإجراء أي ويمضي (أحكامه عليه الصلاة والسلام) وفي نسخة يجري من الجريان أي وتقع أحكامه عليه الصلاة والسلام ويروى أحكامهم (على الظّاهر) من الأمور وأحوال الأنام (وموجب) بفتح الجيم أي ومقتضى (غلبات الظّنّ) جمع باعتبار جمع القضايا (بشهادة الشّاهد) أي جنسه تارة (ويمين الحالف) أخرى عند انكاره وعدم البينة على خلافه (ومراعاة الأشبه) مما يظنه حقا وقال التلمساني يعني في الحكم بالقائف أقول وهذه مسألة مختلف فيها (ومعرفة العفاص) بكسر العين والصاد المهملتين بينهما فاء بعدها ألف الوعاء الذي يكون فيه الشيء (والوكاء) بكسر أوله ممدودا خيط الوعاء والمراد كل ما يربط من صرة وغيرها والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام بنى أمره في الأحكام على الأمور الظاهرة من الشهادة واليمين والشبه ومعرفة الوعاء والوكاء في اللقطة من الأشياء وقد أغرب الدلجي حيث قال كني بالعفاص والوعاء عما يظهر له من فحوى كلام الخصمين مما يظن به حقيقة ما ادعى به (مع مقتضى حكمة الله تعالى فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَأَطْلَعَهُ) أي نبيه (على سرائر عباده) من أهل ملته (ومخبّآت) أي مخفيات (ضَمَائِرِ أُمَّتِهِ فَتَوَلَّى الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ بِمُجَرَّدِ يَقِينِهِ وعلمه) حينئذ (دون حاجة) أي من غير افتقار له (إلى اعتراف) من أحد المتخاصمين بالحق (أو بينة أو يمين أو شبهة) أي مشابهة ومناسبة ترجح الحكم لأحد وكل ذلك على تقدير مشيئة الله تعالى إطلاعه عليه الصلاة والسلام في القضايا (ولكن لمّا أمر الله أمّته باتّباعه) في قواعد شريعته (وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَقَضَايَاهُ وَسَيَرِهِ) أي طريقته (وكان هذا) أي ما أمر الله تعالى أمته باتباعه في جميع سيرته (لو كان ممّا يختصّ) أي النبي عليه الصلاة والسلام (بعلمه ويؤثره الله به) أي بانفراده واختصاصه (لَمْ يَكُنْ لِلْأُمَّةِ سَبِيلٌ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ في شيء من ذلك) لعدم إطلاعهم على حقيقة وقوع ما هنالك (ولا قامت) بعده (حجّة) على من خالف أمرا من أمور دينه (بقضيّة من قضاياه لأحد) من حكام ملته (في شريعته) على أحد من أمته (لأنّا لا نعلم ما أطلع عليه) من الإطلاع أو الإطلاع أي مما أوثر به (هو في تلك القضيّة) المرفوعة إليه (بحكمه هو إذن) أي حينئذ (في ذلك) أي في وقت ورودها هنالك (بالمكنون) أي المستور (مِنْ إِعْلَامِ اللَّهِ لَهُ بِمَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ من سرائرهم) أي ضمائرهم (وهذا) الأمر المكنون والسر المصون (ممّا لا تعلمه الأمّة) إذ لا يطلع عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رسول وأما الأولياء وإن كان قد ينكشف لهم بعض الأشياء لكن علمهم لا يكون لهم يقينا وإلهامهم لا يفيد إلا أمرا ظنيا وبهذا المقال يندفع ما يرد على الحصر في الآية من نوع الإشكال والله تعالى اعلم بالأحوال ثم الأولياء من أرباب الكشوف لا يوجدون في كل زمان ومكان أيضا وربما يدعي كل أحد أنه في مرتبة الولاية العلية (فأجرى الله تعالى أحكامه على ظواهرهم) في القضية (الّتي يستوي في ذلك هو) أي النبي عليه الصلاة والسلام (وغيره من البشر) في زمنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وبعده من الأيام (ليتّم) من الإتمام أو التمام أي ليعم (اقتداء أمّته به في تعيين قضاياه) أي أحكام ملته (وتنزيل أحكامه) على أمته وفق قواعد شريعته (ويأتون ما أتوا من ذلك) أي يفعلون ما فعلوا من الحكم بطريقته (عَلَى عِلْمٍ وَيَقِينٍ مِنْ سُنَّتِهِ، إِذِ الْبَيَانُ بالفعل أوقع منه بالقول) أي وحده على خلاف فيه (وأرفع) أي أدفع كما روي (لاحتمال اللّفظ وتأويل المتأوّل) وفيه أن الأحكام منه عليه الصلاة والسلام كانت جامعة بين الفعل والقول وإلا ففي قضية الحال كلام لأهل المقال (وكان حكمه على الظّاهر أجلى) أي أظهر لكل أحد (في البيان) أي في ميدان العيان (وأوضح) أي أبين (في وجوه الأحكام) لظهور المرام (وأكثر فائدة لموجبات التّشاجر) أي التخالف والتنازع (والخصام) أي التخاصم في الأحكام (وليقتدي بذلك كلّه) أي بقضاياه وفق شريعته (حكام أمّته) وعلماء أمته (ويستوثق) عطف على ليقتدى أي يستمسك وليس بتصحيف كما ظنه الأنطاكي وفي نسخة يستوسق بالسين بدل المثلثة أي يجتمع وينتظم (بما يؤثر عنه) أي يروى من بيان قواعد طريقته (وينضبط قانون شريعته) المشتملة على كليات أصولية تبنى عليها جزئيات فرعية (وطيّ ذلك) أي عدم الأطلاع ما هنالك (عنه) عليه الصلاة والسلام فيما تتعلق به القضايا والأحكام (من علم الغيب الّذي استأثر) أي انفرد (به عالم الغيب) أي ما غاب عن غيره (فلا يظهر على غيبه أحدا) من خلقه (إلّا من ارتضى من رسول) أي من ملك أو بشر (فيعلمه منه) أي بعضه لا كله (بما شاء) أي بشيء يشاء أو بقدر يشاء (ويستأثر) أي وينفرد (بما يشاء) وفي نسخة في الموضعين بما شاء (ولا يقدح هذا) أي عدم إطلاعه ببعض قضية (في نبوّته) من رفعة مرتبته (ولا يفصم) بفتح الياء فسكون الفاء وكسر الصاد أي لا يكسر أو لا يحل (عروة) أي عقدة (من عصمته) أي نزاهته من طهارته. فصل [وَأَمَّا أَقْوَالُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ أَخْبَارِهِ عَنْ أَحْوَالِهِ] (وأمّا أقواله الدّنيويّة) أي الصادرة منه في غير الأمور الأخروية (من أخباره) بكسر أوله أي أعلامه (عَنْ أَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِ غَيْرِهِ وَمَا يَفْعَلُهُ أَوْ فعله) مستقبلا أو ماضيا (فقد قدّمنا أنّ الخلف) أي التخلف أو صدور الخلاف أو الاختلاف وفسر بالكذب (فيها) أي في تلك الأقوال وفي نسخة في هذا أي هذا النوع (ممتنع عليه) ولا يجوز أن ينسب شيء منه إليه لعصمته في أخباره (في كلّ حال) يكون علينا (وعلى أيّ وجه) يتصور فيها (مِنْ عَمْدٍ أَوْ سَهْوٍ أَوْ صِحَّةٍ أَوْ مرض أو رضى أو غضب) أي فرح أو حزن (وأنّه) وفي نسخة فإنه (عليه الصلاة والسلام معصوم منه) أي من الحلف في إخباره في جميع أحواله وأسراره (هذا) أي ما ذكر (فيما طريقه الخبر المحض) الذي ليس فيه تورية لمصلحة (ممّا يدخله الصّدق والكذب) أي بالنسبة إلى غيره (فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها) صفة كاشفة (فجائز ورودها منه) أي من النبي عليه الصلاة والسلام (في الأمور الدّنيويّة لا سيّما) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 خصوصا (لقصد المصلحة) المعلقة بالأحوال الأخروية (كتوريته عن وجه مغازيه) حيث كان إذا أراد غزاة ورى بغيرها أي سترها وأوهم أنه يريد غيرها وأصله من الوراء أي ألقى البيان وراء ظهره (لئلّا يأخذ العدوّ حذره) أي احترازه واحتراسه بعد بلوغ خبره وفي الحديث أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب (وكما) عطف على كتوريته وقال الدلجي أي ومثل توريته ما (روي من ممازحته ودعابته) بضم داله المهملة أي ملاعبته ومنه قوله لجابر هلا بكرا تداعبها وفيه إشارة إلى ملاعبة صغارهم فعن أنس أنه عليه الصلاة والسلام دخل على أم سليم فرأى أبا عمير حزينا فقال يا أم سليم ما بال أبي عمير حزينا قالت يا رسول الله مات بغيره الذي كان يلعب به فقال عليه الصلاة والسلام أبا عمير ما فعل النغير رواه الترمذي أو المراد بها ممازحته ومطايبته ومنه قول عمر وقد ذكر عنده علي للخلافة ولا دعابة فيه فتحصل أن الدعابة أعم من الممازحة (لبسط أمّته معه) أي لانبساطهم معه أو لانبساطه معهم وانشراح صدر وطيب خاطر فيما بينهم تأنيسا لهم ببشاشة ملاقاة وطلاقة وجه وحلاوة مكالمة (وتطييب قلوب المؤمنين من صحابته) قال الدلجي من بيانية لا تبعيضية وأقول الأظهر الثاني لأن مزاحه عليه الصلاة والسلام لم يكن مع جميع أصحابه الكرام (وتأكيدا في تجيبهم) ويروى في تحببهم أي في محبتهم فيه وميلهم إليه (ومسرّة نفوسهم) أي فرحها حال حضورهم لديه صلى الله تعالى عليه وسلم (كقوله) لبعض أصحابه على ما رواه أبو داود والترمذي وصححه عن أنس رضي الله عنه (لأحملنّك على ابن النّاقة) ولفظ الترمذي أن رجلا استحمل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال إني حاملك على ولد الناقة وروى ابن سعيد بإسناده أن أم أيمن جاءت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت احملني فقال احملك على ولد الناقة فقالت إنه لا يطيقني فقال لا احملك إلا على ولد الناقة والإبل كلها ولد النوق فدل على تعدد الواقعة فقال يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة فقال عليه الصلاة والسلام وهل تلد الإبل إلا النوق (وقوله) فيما رواه ابن أبي حاتم وغيره من حديث عبد الله بن سهم الفهري (لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ عَنْ زَوْجِهَا أَهُوَ الَّذِي بعينه بياض وهذا) أي ما قاله عليه الصلاة والسلام مداعبة (كلّه صدق لأنّ كلّ جمل) صغيرا كان أو كبيرا هو (ابن ناقة وكلّ إنسان بعينه بياض) أي قليل غالبا (وقد قال عليه الصلاة والسلام) أي حين قالوا يا رسول الله أنك تداعبنا (إنّي لأمزح ولا أقول إلّا حقّا) رواه الترمذي وقال العلماء المباح من المزاح هو الذي يفعله على الندرة لمصلحة تطييب نفس المخاطب وهذا القدر هو المستحب وهو الذي كان يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأما الذي فيه إفراط مما يورث الضحك وقسوة القلب والشغل عن ذكر الله تعالى وأمور الدين ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء ويورث الأحقاد فهو منهي عنه (هذا) أي مزاحه (كلّه فيما بابه الخبر) بمعنى الأخبار. (فَأَمَّا مَا بَابُهُ غَيْرُ الْخَبَرِ مِمَّا صُورَتُهُ صورة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 الأمر) باللام أو بالصبغة (والنّهي) أي صورة النهي للغالب أو الحاضر ولو (في الأمور الدّنيويّة فلا يصحّ) القول بصدوره (مِنْهُ أَيْضًا وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ أحدا بشيء أو ينهاه عنه وهو يبطن) أي يضمر (خلافه) جملة حالية (وقد قال عليه الصلاة والسلام ما كان) أي ما صح وما استقام (لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين) أي ايماؤه بها على وجه الخيانة وقد قال تعالى يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي ما يسترق من النظر إلى ما لا يحل وقيل هو النظر لريبة وما تخفي الصدور من خبث النية وفساد الطوية والخائنة اسم فاعل أو مصدر بمعنى الخيانة أي ما يخان به كالعافية بمعنى المعافاة وعن الشيخ أبي الحسن الشاذلي خائنة الأعين النظر لمحاسن المرأة وما تخفى الصدور حب مواقعتها وفي بعض الكتب المنزلة من قول الله عز وجل (أنا مرصد لهم) أنا العالم بحال الفكر وكسر الجفون أي من البصر وسبب ورود الحديث أنه عليه الصلاة والسلام لما كان يوم فتح مكة آمن الناس إلا جماعة منهم عبد الله بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان رضي الله تعالى عنه وكان أخاه لامه فلما دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ذلك ثم أقبل على أصحابه فقال أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن مبايعته فيقتله فقالوا ما ندري يا رسول الله ما في نفسك إلا أومأت إلينا بعينك قال إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين رواه أبو داود والنسائي من حديث سعد ابن أبي وقاص واختلف في المراد بخائنة الأعين ما قاله ابن الصلاح في مشكله فقيل هي الإيماء بالعين وقيل مسارقة النظر وعبارة الرافعي هو الإيماء إلى غير مباح من ضرب أو قتل على خلاف ما يظهر ويشعر به الحال وإنما قيل لها خائنة الأعين تشبيها بالخيانة من حيث إنه يخفي خلاف ما يظهر واختاره النووي وقال كان يحرم ذلك عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يحرم على غيره إلا في محظور وقال صاحب التلخيص من الشافعية لم يكن له عليه الصلاة والسلام أن يخدع في الحرب مستدلا بهذا الحديث وخالفه الجمهور وعلله الرافعي بأنه اشتهر أنه عليه الصلاة والسلام أن يخدع في الحرب مستدلا بهذا الحديث وخالفه الجمهور وعلله الرافعي بأنه اشتهر أنه عليه السلام قال الحرب خدعة وهو بفتح الخاء لغة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيها لغات أخر والفرق لهم أن الرمز يزري بالرامز بخلاف الإبهام في الأمور العظام وعبد الله هذا كان كاتبه عليه الصلاة والسلام فارتد ثم أسلم وحسن إسلامه ومات ساجدا والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام إذا لم يكن له خيانة الأعين في الأمر الظاهر (فكيف أن تكون له خائنة القلب) وهو بيت الرب الطيب الطاهر ويروى خائنة القلب (فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قصّة زيد) أي ابن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يسم في القرآن أحد من الصحابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 باسمه إلا زيد هذا قيل وسر ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان تبناه وكان يدعى زيد بن محمد فلما نزل ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعدل وأقوم قيل زيد بن حارثة فلما فاته شرافة عظيمة ونسبة وسيمة أبدله الله من ذلك أن سماه في كتابه هنالك اشعارا بأنه سماه في أزله فيصير رفعة لمحله حيث جعل اسمه في كتابه المسطور المحفوظ في الصدور وقد قتل في غزوة مؤتة شهيدا بعد أن عاش مدة مديدة في خدمته عليه الصلاة والسلام سعيدا وكان عليه الصلاة والسلام خطب زينب بنت جحش الأسدية بنت عمة النبي عليه الصلاة والسلام لمولاه زيد بن حارثة وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اشتراه في الجاهلية فأعتقه وتبناه فلما خطب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقالت أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي وكانت بيضاء جميلة فيها حدة وكذلك كره أخوها عبد الله بن جحش فنزل قوله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً فلما سمعا ذلك رضيا بما هنالك وجعلت أمرها بيد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكذلك أخوها فأنكحها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زيدا فدخل بها وساق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليها عشرة دنانير وستين درهما وخمارا ودرعا وأزارا وملحفة وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر وكان مرة معها فرآها عليه الصلاة والسلام مرة فوقعت في نفسه عليه الصلاة والسلام فقال سبحان الله مقلب القلوب فسمعت تسبيحة فذكرته لزيد ففطن له ثم كره صحبتها ورغب عنها لأجله عليه الصلاة والسلام فقال أريد أن أفارقها أرابك منها شيء قال لا والله ولكنها تتعاظم علي بشرفها وتؤذيني بلسانها ثم طلقها فلما انقضت عدتها قال له عليه الصلاة والسلام ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك أخطب لي زينب قال فانطلقت إليها فإذا هي تخمر عجينها قال فلما رأيتها عظمت في نفسي فلم أستطع النظر إليها لرغبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في نكاحها فوليتها ظهري وقلت يا زينب أبشري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخطبك ففرحت وقالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) بالإسلام الذي هو أجل أنواع الأنعام (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق والتبني المنبئ عن كمال الإكرام (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: 37] ) أي اصبر عليها (الآية) أي وَاتَّقِ اللَّهَ أي لا تطلقها فإن الطلاق أبغض الحلال إلى الله الملك المتعال وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي شيئا الله تعالى مظهره وَتَخْشَى النَّاسَ في مقالتهم بإطلاق السنتهم وقال ابن عباس والحسن أن تستحيي منهم وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وأن لا تلتفت إلى ما سواه (فاعلم أكرمك الله ولا تسترب) أي لا تكسب ريبه ولا تشك (في تنزيه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي تبرئته (عن هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 الظّاهر) كما بينه بقوله (وأن يأمر زيدا بإمساكها وهو) أي والحال أنه (يُحِبُّ تَطْلِيقَهُ إِيَّاهَا كَمَا ذُكِرَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصَحُّ مَا فِي هَذَا مَا حكاه أهل التّفسير) كالبغوي وغيره (عن عليّ بن الحسين) أي ابن علي بن أبي طالب وهو الإمام زين العابدين (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ فَلَمَّا شَكَاهَا إِلَيْهِ زَيْدٌ قَالَ لَهُ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وأخفى منه) وفي نسخة عنه (في نفسه) أي في باطنه استحياء منه مع كونه مباحا (مَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا ممّا الله مبديه) أي مبينه (ومظهره بتمام التّزويج وطلاق زيد لها) مصلحة لعباده وحكمة في مراده المبين بقوله لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ وتوضيح هذا الكلام وتصحيح هذا المرام ما ذكره البغوي في تفسيره أنه روى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول أبو الحسن في قوله تعالى وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قلت لما أن جاء زيد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا نبي الله أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك قال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ فقال علي بن الحسين ليس كذلك فإن الله قد اعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها فلما جاء زيد قال إني أريد أن أطلقها قال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ فعاتبه الله تعالى فقال لم قلت أمسك عليك زوجك وقد اعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلمه أنه يبدي ويظهر ما اخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال زوجناكها فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم محبتها أو طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره فدل على أنه إنما عوتب على اخفاء ما اعلمه الله تعالى أنها ستكون زوجة له وإنما اخفاه استحياء أن يقول لزيد أن التي تحتك في نكاحك ستكون امرأتي قال البغوي وهذا قول حسن مرضي وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المآثم لأن الود وميل النفس من طبع البشر وقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ أمر بالمعروف وهو حسنة لا أثم فيه وقوله وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه الصلاة والسلام قال أنا أخشاكم الله واتقاكم له ولكنه تعالى لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء هذا وزين العابدين أحد النظاء السبعة وهم كلهم مدنيون هو وعلي بن عبد الله بن العباس وأبان بن عثمان بن عفان وسلام بن عبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم وعبد الله بن هرمز الأعرج، (وروى) وفي نسخة وذكر (نحوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 عمرو بن فائد) بالفاء في أوله ودال مهملة في آخره وهو أبو علي الأسواري قال الدارقطني متروك وقال ابن عدي منكر الحديث وقال العقيلي كان يذهب إلى القدر والاعتزال ولا يقيم الحديث (عن الزّهريّ) هو ابن شهاب تابعي جليل (قال نزل جبريل عليه الصلاة والسلام على النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلِمُهُ أَنَّ اللَّهَ يُزَوِّجُهُ زَيْنَبَ بنت جحش فذلك) أي تزوجها (الّذي أخفى في نفسه) واعلم أن في أزواجه عليه الصلاة والسلام زينب أخرى هي بنت خزيمة بن الحارث تسمى أم المساكين تزوجها عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة ومكثت عنده ثمانية أشهر وتوفيت على رأس تسعة وثلاثين شهرا من الهجرة وصلى عليها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودفنها بالبقيع ولذا قيد زينب في الأصل بقوله بنت جحش فإن الآية نزلت فيها، (ويصحّح هذا) المروي عن الزهري (قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الْأَحْزَابِ: 37] أَيْ لَا بدّ لك أن تتزوّجها، ويوضح هذا) أي ما يصحح (أنّ الله لم يبد من أمره) أي لم يظهر من شأنه (مَعَهَا غَيْرَ زَوَاجِهِ لَهَا؛ فَدَلَّ أَنَّهُ الَّذِي أخفاه عليه الصلاة والسلام ممّا كان أعلمه به تعالى) أي لا غيره (وقوله) أي ويوضح هذا أيضا قوله (تعالى في القصّة) هذه (مَا كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ) أي قدره (اللَّهُ) وقضاه وأوجبه وأمضاه (سُنَّةَ اللَّهِ [الأحزاب: 38] ) أي سن سنة مؤكدة وقضية مؤيدة (الآية) أي فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي مضوا من قبله من أرباب النبوة وأصحاب الرسالة حيث أباح لهم كثرة النساء فكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية ولسليمان ثلاثمائة امرأة وتسعمائة سرية وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي قضاء مقضا وأمرا مقطوعا، (فدلّ) أي قوله ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ (أنه) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لم يكن عليه حرج) أي ضيق وإثم (في الأمر) أي المفروض له مما لا إثم بتركه؛ (قال الطّبريّ) وهو الإمام محمد بن جرير (ما كان الله ليؤثّم) بتشديد المثلثة أي نسب إلى الإثم (نبيّه فيما أحلّ له مثال فعله) أي مثل فعل الله (لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سُنَّةَ اللَّهِ) أي شرع طريقته وأظهر شريعته (فِي الَّذِينَ خَلَوْا) أي مضوا (مِنْ قَبْلُ [الأحزاب: 38] ) أي من قبلك (أي من النّبيّين فيما أحلّ لهم) من نكاح وغيره (ولو كان) أي ما أخفاه (على ما روي في حديث قتادة) كما رواه عبد ابن حميد عنه (من وقوعها) أي من وقوع محبة زينب (من قلب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي في خاطره (عند ما أعجبته) أي رؤيتها (ومحبّته) أي ومن محبته (طَلَاقَ زَيْدٍ لَهَا لَكَانَ فِيهِ أَعْظَمُ الْحَرَجِ) وهذا يندفع بما سبق وبما سيأتي بعد أيضا (وما لا يليق) أي ولكان فيه ما لا ينبغي (به من مدّ عينيه) أي طمحها وفي نسخة من مد عينه (لما نهي عنه) وفي رواية إلى ما نهى عنه (من زهرة الحياة الدّنيا) وفيه بحث إذ المراد بها زينتها المذمومة وبهجتها الملومة (وَلَكَانَ هَذَا نَفْسَ الْحَسَدِ الْمَذْمُومِ الَّذِي لَا يرضاه ولا يتّسم) أي لا يتصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 (به الأتقياء، فكيف سيّد الأنبياء) أقول هذا ليس بحسد أصلا لأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي اختارها له أولا ثم لما قدره الله وقضاه وقلب قلب نبيه بما كتب عليه وأمضاه حين رآها وأعجبته أدار عنها وجهه وقال سبحان مقلب القلوب تعجبا مما وقع له في صورة ما يعد صدوره عن غيره من الذنوب وخطر بباله أن زيدا لو طلقها لأدخلها في حباله ومع هذا جاهد نفسه ولم يظهر باطن حاله وأمره بإمساك امرأته في استقباله رعاية لحسن مآله ولكنه سبحانه وتعالى كما أنه قلب قلب حبيبه إلى محبتها قلب قلب صاحبه إلى كراهتها ليقضي الله أمرا كان مفعولا (قال القشيري) وهو الإمام المفسر صاحب الرسالة وغيرها (وهذا) أي القول بوقوعها من قلبه ومحبة طلاق زيد لها (إقدام عظيم) أي جراءة كبيرة (مِنْ قَائِلِهِ وَقِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وبفضله فكيف يقال رآها فأعجبته وهي بنت عمّته) أي أميمة بنت عبد المطلب (ولم يزل) أي دائما (يراها منذ ولدت) أي من ابتداء ما ولدت إلى انتهاء ما كبرت (وَلَا كَانَ النِّسَاءُ يَحْتَجِبْنَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي قبل زواجها فقد روي أن آية الحجاب نزلت حين تزوج زينب وأولم فلما طعموا جلس ثلاثة منهم متحدثين فخرج عليه الصلاة والسلام من منزلة ثم رجع ليدخل وهم جلوس وكان عليه الصلاة والسلام شديد الحياء والحديث مروي في الصحيحين (وهو زوّجها لزيد) وفيه بحث إذ لا مانع من أنه كان يراها وما تعجبه ثم رآها فأعجبته ليقضي الله أمرا كان مفعولا وهذا لا ينافي قوله (وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ طَلَاقَ زَيْدٍ لَهَا وَتَزْوِيجَ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إيّاها لإزالة حرمة التّبني) بفوقية فموحدة مفتوحة فنون مكسورة مشددة (وإبطال سببه) بموحدتين وفي نسخة سنته بنون ففوقية أي طريقته حسب عادته (كَمَا قَالَ: مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: 40] ) أي حقيقة (وقال) أي وقع ما وقع (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) أي شك وشبهة وضيق وتهمة (فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب: 37] ) جمع دعى وهو المدعو بالابن وفي معناه المدعو بالأب والأخ والجد والأم والأخت والبنت فإنه لا يحرم شيئا، (وَنَحْوُهُ لِابْنِ فُورَكٍ، وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم لزيد بإمساكها فهو) أي فجوابه وفي نسخة فهي أي فائدة أمره بالإمساك (أنّ الله أعلم نبيّه أنّها زوجته) أي في آخر الأمر (فنهاه النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ طَلَاقِهَا إِذْ لَمْ تَكُنْ بينهما) أي بين زيد وزوجته (ألفة) الظاهر أن إذ تعليلية وحينئذ لم يتبين وجهه وكذا إذا كانت ظرفية فالأولى أن يحمل نهيه عن طلاقها لكونه عليه الصلاة والسلام شارعا وقد قال أبغض الحلال إلى الله الطلاق فلا يناسبه أن يأمره بالفراق ولا يبعد أن يقدر أمسك عليك زوجك بمعروف أو سرحها بمعروف كما قال الله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولعله كان يرجو أن الله تعالى يصلح بينهما وأن يقلب قلبه عليه الصلاة والسلام عن محبتها وأرادة تزوجها فلا ينافي ما قررنا قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 (وَأَخْفَى فِي نَفْسِهِ مَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ) من أنها ستصير زوجته إن شاء الله وأيضا لو أمره بطلاقها لصارت سنة لمن بعده فيمن تبناه بالنسبة إلى زوجته أو مطلقا لكل خليفة أو قاض ونحوهما ولا يخفى ما يتفرع عليه من الفساد ويفوت طريق السداد (فلمّا طلّقها زيد خشي قول النّاس) أي استحيى منه أو خاف تزلزل أمر الامة على الإطلاق أو كلام أهل النفاق (يتزوّج امرأة ابنه فأمره الله بزواجها) ويروى تزويجها بل زوجها الله تعالى كما قال فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي حاجة بحيث ملها ولم يبق له حاجة فيها وطلقها وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها (لِيُبَاحَ مِثْلُ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً [الأحزاب: 37] ) أي دخلوا عليهن يعني لئلا يظن أن حكم الأدعياء حكم الأبناء فإنه جاز أن يتزوج موطوءة دعيه بخلاف موطوءة ابنه والظاهر أنه لمسها لكن روي عن زينب أنها قالت ما كنت امتنع عنه غير أن الله تعالى منعني منه (وَقَدْ قِيلَ كَانَ أَمْرُهُ لِزَيْدٍ بِإِمْسَاكِهَا قَمْعًا للشّهوة) أي متمناها (وردّا للنّفس عن هواها) وانتظارا لرفع هذا الخاطر عنها (وهذا) القيل إنما يعتبر (إذا جوّزنا عليه) أي حملنا أمره على (أنّه رآها فجأة) بفتح فسكون فهمزة وبضم ففتح فألف بعدها همزة لغتان وقيل الأول مصدر للمرة والثاني مصدر فجأة إذا جاءه بغتة (واستحسنها) أي وأحبها (ومثل هذا) أي ما ذكر من رؤيته إياها فجأة واستحسانها بغتة (لا نكرة فيه) بضم نون فسكون كاف كذا في النسخ وقال الدلجي بالتحريك اسم من الانكار كالنفقة من الانفاق وهو كذلك في القاموس وفيه أيضا أن النكر بالضم وبالضمتين المنكر انتهى وقد قرئ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً بهما في السبعة (لما طبع عليه ابن آدم) أي خلق وجبل (من استحسانه الحسن) بفتحتين أو بضم فسكون أي ميل طبعه إلى الأمر المستحسن (ونظرة الفجأة معفوّ عنها) جملة حالية (ثمّ قمع نفسه عنها) أي عن رؤيتها قصدا (وأمر زيدا بإمساكها) لزيادة قمعها أو لانتظار رفعها (وإنّما تنكر تلك الزّيادات الّتي) ذكرها بعض المفسرين (في القصّة) من أنه عليه الصلاة والسلام أخفى عنه تعلق قلبه بها وأرادة مفارقته لها (والتّعويل) أي المعول عليه (والأولى) مما ينسب إليه (ما ذكرناه) وفي نسخة والتعويل على ما ذكرناه (عن عليّ بن الحسين) على ما حررناه (وحكاه) أي وما رواه (السّمرقنديّ) كما سبق عنه (وهو قول ابن عطاء وصححه) وفي نسخة واستحسنه (القاضي القشيريّ) سبق أنه غير الإمام القشيري (وعليه عوّل) أي وعلى ما ذكر اعتمد (أبو بكر بن فورك وقال إنه) أي ما عول عليه ابن فورك (مَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ؛ قال) أي ابن فورك (والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم منزّه) أي مبرأ (عن استعمال النّفاق في ذلك) بإخفائه خلاف ما يعلن (وإظهار خلاف ما في نفسه) هنالك (وَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ) أي بأس بل له سعة (فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ [الأحزاب: 37] ) أي قدره وقضاه أو أوجب عليه فعله وأمضاه (قال) أي ابن فورك (ومن ظنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 ذلك) أي إرادة مفارقتها (بالنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أخطأ خطأ بينا) وفيه بحث لأنه عليه الصلاة والسلام إذا اعلمه الله تعالى بالوحي أو الإلهام أنها ستصير زوجته في بقية الأيام فلا مانع من أن يريد مفارقتها وفق إرادة الملك العلام (قال وليس معنى الخشية هنا) أي في قوله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ (الخوف) أي من ملامتهم لعدم مبالاته بهم (وإنّما معناه) أي اللفظ أو ما ذكر وروي معناها أي اللفظة أو الخشية (الاستحياء أي أن يَسْتَحْيِي مِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا تَزَوَّجَ زَوْجَةَ ابْنِهِ) بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء جهلا منهم أن المراد بالأبناء ابناء الأصلاب كما بينه تعالى بقوله وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ (وأنّ) أي وإنما معناه أيضا أن (خشيته عليه الصلاة والسلام من النّاس كانت) أي حذرا (من إرجاف المنافقين واليهود) أي إخبار سوء وتزلزل (وتشغيبهم) أي بإيقاع شر وفتنة (عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِمْ تَزَوَّجَ زَوْجَةَ ابْنِهِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ كَمَا كَانَ فعتبه الله تعالى على هذا) أي على استحيائه منهم (ونزّهه عن الالتفات إليهم فيما أحلّه له) في نكاح زوجة دعيه (كَمَا عَتَبَهُ عَلَى مُرَاعَاةِ رِضَى أَزْوَاجِهِ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ: لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: 1] الآية) أي تبتغي مرضاة أزواجك وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام شرب عسلا عند زينب فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له إنا نشم منك رائحة مغافير فقال إنما شربت عند زينب عسلا فقالتا جرست نحله العرفط فحرم شربه فلاطفه ربه بقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ الآية؛ (وكذلك قوله: له ههنا وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الْأَحْزَابِ: 37] ) ملاطفة له على منعه من مراعاة الناس والتفاته إليهم (وقد روي) كما في جامع الترمذي وقد رواه ابن جرير وغيره أيضا (عن الحسن) أي البصري رحمه الله تعالى فإنه المراد عند المحدثين حال إطلاقه (وعائشة) كان المستحسن تقديم عائشة على الحسن (لو كتم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا من الوحي) أي مما يوحى إليه (لكتم هذه الآية) أي قوله تعالى وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ (لما فيها من عتبه) أي عتابه عليه (وإبداء ما أخفاه) أي وإظهار ما كتمه إليه. فصل (فَإِنْ قُلْتَ قَدْ تَقَرَّرَتْ عِصْمَتُهُ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ) المشتملة على أفعاله (وأنّه لا يصحّ منه فيها خلف) لقوله من كذب (ولا اضطراب) أي تردد من ريب (في عمد) أي قصد (ولا سهو) أي خطأ ونسيان نشأ عن ذهول وغفلة (ولا صحّة) أي في حال عافية (ولا مرض) أي علة (ولا جدّ) بكسر الجيم ضد الهزل (ولا مزح ولا رضى) أي حال شرح وفرح (ولا غضب) أي حال ضيق خلق وكراهية نفس وكرر لا تأكيدا لنفي ما ذكر من انفراد كل من ذلك كما يقتضيه عصمته هنالك (ولكن ما معنى الحديث) الذي رواه الشيخان والنسائي أيضا (في وصيّته عليه الصلاة والسلام الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاضِي الشَّهِيدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 أبو عليّ رحمه الله تعالى) وهو ابن سكرة (قال حدّثنا القاضي أبو الوليد) أي الباجي (حدّثنا أبو ذرّ) أي الهروي (حدّثنا أبو محمّد) أي ابن حمويه السرخسي (وأبو الهيثم) أي الكشميهني (وأبو إسحاق) أي المستملي (قالوا) ثلاثتهم (حدّثنا محمّد بن يوسف) أي الفربري (حدّثنا محمّد بن إسماعيل) أي الإمام البخاري (حدّثنا عليّ بن عبد الله) أي ابن جعفر بن نجيح بن المديني الحافظ قال شيخه ابن مهدي علي بن المديني اعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وخاصة بحديث ابن عيينة وقال ابن عيينة تلومونني على حب علي بن المديني والله لا تعلم منه أكثر مما تعلم مني وكذا قال يحيى بن القطان فيه وقال إمام هذه الصناعة البخاري ما استصغرت نفسي إلا بين يدي علي قال النسائي كأن الله خلقه لهذا الشأن مات بسامرا سنة أربع وثلاثين ومائتين وله ثلاث وسبعون سنة والمديني نسبة إلى مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال ابن الأثير في كتابه والأكثر فيمن ينسب إلى المدينة مدني والأقل مديني وأما المديني فنسبة إلى أماكن وساق سبعة أماكن وفي الصحاح المدني نسبة إلى مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأما المديني فنسبة إلى المدينة التي بناها المنصور وعن ابن الصلاح أن المديني نسبة إلى مدينة أصبهان (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) قال الحلبي هكذا في كثير من النسخ والصواب ما في بعضها وهو عبد الرزاق ابن همام أو عبد الرزاق عن معمر لأن عبد الرزاق لا يروي عن همام واسم أبيه همام ويروي عن معمر وهو بفتح الميمين وسكون العين المهملة ابن راشد (عن الزّهريّ) أي ابن شهاب (عن عبيد الله بن عبد الله) أي ابن عتبة الفقيه الأعمى يروي عن عائشة وأبي هريرة وجماعة وهو معلم عمر بن عبد العزيز وكان من بحور العلم مات سنة ثمان وتسعين وعبيد الله هذا أحد الفقهاء السبعة (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا احْتُضِرَ رَسُولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم) بصيغة المفعول أي احتضر والمعنى قرب أجله (وفي البيت رجال) أي من قرابته وصحابته جملة حالية (قال هلمّوا) أي تعالوا وهو لغة أهل نجد وتميم فإنهم يثنون ويجمعون ويؤنثون وأما أهل الحجاز فيستوي الكل عندهم ومنه قوله تعالى وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا (اكتب) بصيغة المتكلم مجزوما على جواب الأمر وفي نسخة بالرفع أي أنا أكتب (لكم كتابا) يعني آمر أن يكتب أحد لكم مكتوبا فيه بيان مهمات الدين للأمة أو محل الخلافة دفعا للمنازعة وفيه أن هذا غير محتاج إلى الكتابة (لن تضلّوا بعده) أي بعد العمل به ويروى بعدي (فقال بعضهم) وهو عمر رضي الله تعالى عنه (إنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد غلبه الوجع الحديث) أي وعندنا كتاب الله تعالى حسبنا كتاب ربنا وهو بسكون السين أي كافينا (وفي رواية آتوني) أي أحضروني (أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعدي) وفي نسخة بعده (أبدا فتنازعوا فقالوا) أي بعضه كما في البخاري (ما له أهجر) ويروى فقالوا أهجر وهو بفتحات على أن الهمزة للاستفهام الإنكاري من الهجر بضم الهاء بمعنى الهذيان في حال المرض والغشيان على من توقف في امتثال أمره عليه الصلاة والسلام بالكتابة والمعنى لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 يخلف كلامه ولم يتغير من الوجع مرامه كما يقع للمرضى ممن لا يرتبط نظامه (استفهموا) بكسر الهاء أي استخبروا القائل بمنعه أو النبي عليه الصلاة والسلام عما أراده أفعله أولى أم تركه، (فقال) النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (دعوني) أي اتركوني في حالي وترك مقالي (فإنّ الّذي أنا فيه) من مراقبة ربي ومحاسبة قلبي (خير) مما أنتم فيه من تنازع وضير ولعله عليه الصلاة والسلام ظهر له في رأيه أو أوحي إليه أولا أن الخير في كتابته فهم بها ثم تبين له أو أوحي إليه أن الخير في تركها فتركها (وفي بعض طرقه) كما في مستخرج الإسماعيلي من طريق ابن خلاد عن سفيان (فقال) أي قائل (إنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يهجر) بكسر الجيم مع فتح أوله بتقدير استفهام إنكار. (وفي رواية) كما في البخاري (هجر) أي أهجر قال ابن الأثير أي هل تغير كلامه واختلط لأجل ما به من المرض مرامه وهذا أحسن ما قيل ولا يصحح أن يجعل أخبارا فيكون من الفحش والهذيان والقائل كان عمر رضي الله تعالى عنه ولا يظن به ذلك انتهى (ويروى أهجر) بهمزة الاستفهام وضبط في نسخة بضم الهاء وكسر الجيم أي اترك أمر كتابته وفي أخرى بفتح الهمزة وسكون الهاء وفتح الجيم يقال اهجر في منطقه إذا فحش وأكثر في كلامه فالاستفهام مقدر في الكلام، (ويروى أهجرا) بهمزة الاستفهام وضم هاء وسكون جيم منصوبا والتقدير أيهجر هجرا يعني لا وقد افراد ابن دحية تأليفا في اختلاف الرواة في هذه اللفظة؛ (وفيه) أي وفي الحديث من بعض طرقه (فقال عمر إنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كتاب الله حسبنا وكثر اللّغط) بفتحتين وهو اختلاف الأصوات والكلام بحيث لم يتميز فيه الصواب والغلط (فَقَالَ قُومُوا عَنِّي وَفِي رِوَايَةٍ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ البيت) أي حاضروه من أهل البيت وغيرهم (واختصموا) أي تنازعوا واختلفوا (فمنهم من يقول قرّبوا) أي كاتبا (يكتب لكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) أي يملي لأجلكم (كتابا) فيه ذكركم (ومنهم من يقول ما قال عمر) أي عندنا كتاب الله حسبنا مقتبسا من قوله تعالى أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ وهذا من عمر مؤذن بحسن نظره وصحة فكره ولذا وافقه عليه الصلاة والسلام وأعرض عن كلام غيره من الأنام ولا يعارضه قول ابن عباس أن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبين أن يكتب لأن عمر كان أفقه من ابن عباس لعلمه بأن الله تعالى قد أكمل دينه ورسوله قد بلغ أمره ثم الخير فيما اختاره الله وقدره، (قال أئمّتنا) أي المالكية أو الأشعرية أو أهل السنة والجماعة (في هذا الحديث) أي حديث ابن عباس (إنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم غير معصوم من الأمراض) أي العارضة على ظاهره دون باطنه كغيره من الأنبياء (وَمَا يَكُونُ مِنْ عَوَارِضِهَا مِنْ شِدَّةِ وَجَعٍ وغشي) بفتح وسكون أي إغماء (ونحوه) أي ما ذكر (ممّا يطرأ) أي يقع ويحدث (على جسمه) أي ظاهر جسده (معصوم أن يكون منه) أي يصدر عنه (من القول) مما لا ينبغي (أثناء ذلك) أي في خلال ذلك المرض العارض هنالك (ما) موصولة أو موصوفة (يَطْعَنُ فِي مُعْجِزَتِهِ وَيُؤَدِّي إِلَى فَسَادٍ فِي شريعته من هذيان) بفتحتين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 أي كلام مهجور في حال منام (أو اختلال) بنقصان أو اختلاف (في كلام. وعلى هذا) القول بعصمته مما ذكر في حال نبوته (لَا يَصِحُّ ظَاهِرُ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى فِي الحديث هجر) بصيغة الإخبار إلا إذا قدر له استفهام الانكار (إذ معناه هذى) أي أكثر كلامه بلا جدوى (يقال هجر هجرا) بفتح فسكون (إذا هذى، وأهجر) بفتح فسكون (هجرا) بضم فسكون (إذا أفحش) أي أتى بكلام يقبح ذكره، (وأهجر) بفتح الهمزة وسكون الهاء (تعدية هجر) وهذا وهم من المصنف والصواب أنهما لغتان وفي معناهما متقاربان وأنهما لازمان لا يتعديان وقد قرئ بهما في السبعة قوله تعالى سامِراً تَهْجُرُونَ فالجمهور بفتح أوله وضم جيمه على أنه بمعنى الهذيان ومنه الهجر بالضم الفحش وقرا نافع بضم أوله وكسر جيمه من أهجر إذا أفحش للمبالغة فزيادة المبنى لزيادة المعنى، (وإنّما الأصحّ والأولى) أي في هذا المقام الأعلى (أهجر على طريق الإنكار) بزيادة الاستفهام إخراجا له من صيغة الاخبار ومحط الإنكار (على من قال لا يكتب) أي لا يحتاج إلى الكتابة لتمام على الأمة بأمر الديانة حتى قضية الإمارة بأمارة نصب الإمامة؛ (وهكذا) أي لفظ اهجر مع الاستفهام (روايتنا فيه) أي في الحديث المروي (فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ جَمِيعِ الرُّوَاةِ) أي رواة هذا الحديث من الطرق الواقعة (في حديث الزّهريّ المتقدّم) أي المروي في صحيح البخاري؛ (وفي حديث محمّد بن سلّام) بتخفيف اللام وقد تشدد وهو البيكندي الحافظ شيخ البخاري (عن ابن عيينة) وهو سفيان وإلا فابن عيينة عشرة منهم خمسة لهم رواية وأجلهم في العلم سفيان فهو المراد به عند الإطلاق لأنه الفرد الأكمل فتأمل (وكذا) أي اهجر بفتحات مع همزة انكار (ضبطه الأصيليّ) وهو بفتح الهمز وكسر الصاد (بخطّه في كتابه) أي لا بهمز وسكون هاء كما ضبطه غيره وأن أراد أن الاستفهام مقدر لكن الأول هو الأظهر فتدبر (وغيره) أي وكذا ضبطه غير الأصيلي من الرواة (من هذه الطّرق) ويروى من هذا الطريق أي من أهل هذا الإسناد المنتهي إلى الزهري المروي في صحيح البخاري (وكذا) أي بفتحات وهمزة إنكار (رويناه) وفي نسخة بصيغة المجهول مخففا وفي أخرى مشددا وفي أخرى روايتنا (عن مسلم في حديث سفيان) أي ابن عيينة (وعن غيره) أي وكذا روينا عن غير مسلم فهو اصح من رواية هجر الأخبار وكذا أصح من رواية أهجر بفتح الهمزة وسكون الهاء لأن كلا منهما يحتاج إلى تقدير همزة الإنكار على من قال لا يكتب أي كيف يترك أمره في مرامه ويجعل كمن هجر على ظاهر في كلامه وهو محفوظ في أعلى مقامه وأما قول عمر عندنا كتاب الله تعالى حسبنا فهو إنما كان ردا على من نازعه لا رادا لأمره صلى الله تعالى عليه وسلم والحاصل أنه رضي الله تعالى عنه كان في حزب يقولون لا احتياج إلى الكتابة والله اعلم (وقد تحمل عليه) أي على لفظ اهجر إنكارا (رواية من رواه هجر) اخبارا (على حذف ألف الاستفهام) جميعا بين الروايتين في مقام المرام (والتّقدير أهجر) بفتحات وكذا أَهَجَرَ (أَوْ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الْقَائِلِ هَجَرَ) بفتحات (أو أهجر) بفتح فسكون على ظاهره من الخبر إلا أنه وقع ذلك (دهشة) أي وحشة أو غفلة (من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 قائل ذلك وحيرة) توجبها هيبة (لِعَظِيمِ مَا شَاهَدَ مِنْ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) في مرضه (وشدّة وجعه) وحصول غشيانه الموهم لوقوع هذيانه (وهول المقام الّذي اختلف فيه عليه) بامتثاله وامتناعه تهوينا له به مع تسليم الحكم إليه (والأمر) أي وهول الأمر (الّذي همّ) أي اهتم (بِالْكِتَابِ فِيهِ حَتَّى لَمْ يَضْبِطْ هَذَا الْقَائِلُ لفظه) أي في كلام نفسه (وأجرى الهجر) بالضم الفحش وبالفتح الهذيان (مجرى) بضم الميم ويفتح أي موضع (شدة الوجع) في مرضه (لا أنّه) أي القائل (اعتقد أنّه يجوز عليه الهجر) بالضم والفتح (كما حملهم الإشفاق على حراسته) أي محافظته ورعايته (والله تعالى) أي والحال أنه سبحانه وتعالى (يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ) أي ولو لم يحفظك الناس فإنهم كانوا يعدون تلك الحراسة عبادة وطاعة ويغتنمون الحضور بين يديه ولو ساعة (ونحو هذا) من إشفاقهم عليه حين وقع غضب وإعراض لديه تمنيهم أنه لو سكت مع كمال ميلهم إليه. (وأمّا على رواية أهجرا) ويروى وأما على رواية اهجرا وهو بفتح الهمزة وضم الهاء وهو بالنصب منونا على أن يكون مصدرا لهجر يهجر أو اسما من الأهجار (وهي رواية أبي إسحاق المستملي) بميم مضمومة فسين مهملة ساكنة أحد رواة البخاري (في الصّحيح في حديث ابن جبير) وهو سعيد (عن ابن عبّاس من رواية قتيبة) أي ابن سعيد أحد شيوخ البخاري (فقد يكون هذا) أي قوله أهجرا (راجعا إلى المختلفين) ويروى على المختلفين (عنده صلى الله تعالى عليه وسلم ومخاطبة لهم من بعضهم) إنكارا عليهم (أَيْ جِئْتُمْ بِاخْتِلَافِكُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وبين يديه) أي والحال أنكم بين يديه (هجرا) أي ما يجب عليكم أن تهجروه (ومنكرا من القول) أي ما ينبغي لكم أن تتركوه؛ (والهجر بضمّ الهاء: الفحش في المنطق) ولا يتصور أن أحدا من الصحابة يخاطبه عليه الصلاة والسلام بمثل هذا الكلام في مقام الملام وهذا ما يتعلق بألفاظ هذا الحديث ومبناه ومجمل ما يتعلق بفحواه ومقتضاه، (وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ) أي حديث هلموا أكتب لكم (وكيف اختلفوا بعد أمره صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأتوه بالكتاب) الموصوف بأنهم لن يضلوا بعده في هذا الباب؛ (فقال بعضهم) أي بعض العلماء (أوامر النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يفهم إيجابها من ندبها) تارة و (من إباحتها) أخرى (بقرائن) قالية أو حالية يدركها أربابها، (فلعلّ) أي الشأن (قد ظهر من قرائن قوله عليه الصلاة والسلام لبعضهم) أي من الصحابة الحاضرين (ما فهموا أنّه لم تكن منه) أي من جانبه (عزمة) أي أمر عزيمة (بل أمر) أي على وجه خبر (ردّه إلى اختيارهم) ولا يبعد أنه كان لظهور أمرهم في مقام امتحانهم واختبارهم (وبعضهم لم يفهم ذلك) لقصور فهمه وإدراك حقيقة ما هنالك (فقال) أي ذلك البعض لبعض منهم (استفهموه) أي استخبروه حتى يتبين لكم ما تستبهمونه، (فلمّا اختلفوا) أي كلهم ولم يستقر على شيء رأيهم (كفّ عنه) أي أعرض عن أمره (إذ لم يكن عزمة) في حكمه إذ لو كان عزيمة لما تركها (ولما) أي ولأجل ما (رأوه) أي كلهم أو أكثرهم ومنهم النبي صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 تعالى عليه وسلم (من صواب رأي عمر ثمّ هؤلاء) أي العلماء (قالوا ويكون امتناع عمر) على وجه حكمه يظهر (إمّا إشفاقا على النّبي صلى الله تعالى عليه وسلم) أي خوفا عليه (من تكليفه) أي تحمله (في تلك الحال إملاء الكتاب) أي كلفته ومحنته (وأن تدخل) بصيغة الفاعل أو المفعول مذكرا أو مؤنثا أي يحمل (عليه مشقّة من ذلك) الإملاء للكتابة (كما قال) أي عمر (إنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم اشتدّ به الوجع) فلا ينبغي أن يكلف املاء كتاب لنا كتاب الله حسبنا؛ (وقيل خشي عمر أن يكتب أمورا) أي أحكاما (يعجزون عنها) أي عن القيام بها (فيحصلون في الحرج بالمخالفة) أي فيقعون في الإثم بترك الموافقة (ورأى) أي عمر (أنّ الأوفق) وفي نسخة الأرفق (بالأمّة في تلك الأمور) أي المجملة المقدرة (سعة الاجتهاد وحكم النّظر) أي التأمل في ظهور المراد (وطلب الصّواب فيكون المصيب) للحكم الشرعي (والمخطىء) بعد مراعاة شرعه المرعي (مأجورا) فللمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد، (وقد علم عمر تقرّر الشّرع) أي شرع هذه الأمة ويروى الشريعة (وتأسيس الملّة) برسوخ قواعده وثبوت دعائه (وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] ) وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وهذا معنى قوله حسبنا كتاب ربنا (وقوله) أي وعلم أيضا قوله عليه الصلاة والسلام (أوصيكم بكتاب الله تعالى) أي بما فيه مما يتعلق باعتقاده وبأوامره ونواهيه ومعرفة حلاله وحرامه وما يترتب على اجتهاده (وعترتي) أي أهل بيتي كما في رواية والمراد به أقاربه من عشيرته وأهل من أزواجه وذريته وقيل المراد بعترته من يتتبع أخباره وآثاره من سيره وسيرته فكأنه قال أوصيكم بالكتاب والسنة ولعل تخصيص العترة لأنهم أقرب إلى مشاهدة أفعاله في الجلوة والخلوة وأما على التفسير الأول فالعمل بالسنة يؤخذ من الكتاب أيضا لقوله تعالى وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وقوله تَعَالَى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي وقوله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ (وقول عمر) مبتدأ مقوله (حسبنا كتاب الله) أي كافينا خبره (ردّ على من نازعه) أي خالفه في أمر الكتاب على ما رآه عمر أن تركه هو الصواب في مقام فصل الخطاب (لا ردا منه) أي من ابن الخطاب (على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) لأنه لا يتصور منه مثله في هذا الباب؛ (وقد قيل خشي عمر تطرّق المنافقين) أي توصلهم (ومن في قلبه مرض) أي شك وتردد أو حقد وحسد (لما كتب) أي حين كتب أو لأجل ما كتب (ذلك) وفي نسخة في ذلك (الكتاب) أي المكتوب (في الخلوة) أي في الحجرة الشريفة (وأن يتقوّلوا) أي يتكلفوا (في ذلك) أي في جملة ذلك الكتاب (الأقاويل) الباطلة افتراء من عند أنفسهم المنهمكة في الضلالة (كادّعاء الرّافضة الوصيّة) بالخلافة لعلي كرم الله وجهه قدحا في أكابر الصحابة بل في علي نفسه إذ لم يقم بالأمر الموصى به (وغير ذلك) مما لا إطلاع لنا على ما هنالك، (وقيل إنّه) أي قوله لهم (كان من النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لهم على طريق المشورة) بفتح فسكون ففتح وفي نسخة بضم ثانيه وسكون واوه وقيل لا يصح هذا أي المشاورة (والاختبار) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 أي الامتحان ليظهر منهم حسن الاختيار (هل يتّفقون على ذلك) فيكتب لهم (أم يختلفون) فيتركه، (فلمّا اختلفوا تركه) ويروى تركهم ولا يبعد أن يكون الامتحان ليعلم أنهم إلى الآن محتاجون إلى الكتاب والبيان أو هم متيقنون في أحكام الأديان ولا يفتقرون إلى زيادة التبيان فلما تبين من كلام عمر ومن تبعه أنهم في مقام العيان وفي غاية من كمال الإيمان وجمال الإيقان والاتقان من منازل الإحسان ترك ما أراد كتابته مجملا لظهور أمرهم مفصلا (وقالت طائفة أخرى: إنّ معنى الحديث) المذكور (أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان مجيبا في هذا الكتاب) أي في قصده أو أمره (لما طلب منه) ببيان القال أو بلسان الحال (لا أنه ابتدأ بالأمر به) من غير السؤال (بل اقتضاه) أي طلبه واستدعاه (منه بعض أصحابه) أي المخصوصين من أقاربه وأحبابه (وأجاب رغبتهم) وأطاب طلبتهم (وكره ذلك غيرهم للعلل الّتي ذكرناها) عن عمر وغيره مما اقتضت حكمتهم فلما تعارضا تساقطا؛ (واستدلّ) بصيغة المجهول وفي نسخة بصيغة الفاعل أي استدل القائل (في مثل هذه القصّة) المشتملة على الغصة (بقول العباس لعليّ رضي الله تعالى عنهما انطلق بنا) أهل البيت أو معشر بني هاشم الذين هم أفضل من سائر قريش وقد ورد أن الخلافة في قريش (إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإن كان الأمر) أي أمر الخلافة بعده (فينا) خصوصا (علمناه) ولا ينازعنا فيه أحد، (وكراهة عليّ هذا) القول من عمه العباس (وقوله) لعمه (والله لا أفعل- الحديث) كما في البخاري (واستدلّ) كما تقدم وأغرب الدلجي حيث قال واستدل علي (بقوله دعوني) أي اتركوني (فَإِنَّ الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ) أَيِ الَّذِي أنا فيه من الإعراض عن الدنيا والإقبال على العقبى والتوجه إلى المولى خير وأبقى مما تدعونني إليه (من إرسال الأمر) بلا كتابة (وترككم) أي وخير من تركي إياكم (وكتاب الله) أي معه إذ ربما اختلفتم فيه كما اختلف في قبلكم (وأن تدعوني) بفتح الدال قال الدلجي عطف على دعوني والظاهر أنه عطف على ترككم أي وإن ترككم لي (ممّا طلبتم) ويروى من الذي طلبتم مني من كتابتي لكم كتابا خير أيضا هذا، (وذكر) أي روي (أنّ الّذي طلب) أي المطلوب (كتابته) خبر أن قوله (أمر الخلافة) منصوب على المفعولية (بعده) وكذا قوله (وتعيين ذلك) أي أمر الخلافة وفي نسخة كتابة أمر الخلافة بالإضافة وفي نسخة كفاية بدل كتابة فهي مرفوعة على أنها اسم أن وكذا تعيين بالعطف عليها. فصل (فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ حَدِيثِهِ أَيْضًا الَّذِي حدّثناه الفقيه أبو محمد الخشنيّ) بضم الخاء وفتح الشين المعجمة (بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ حَدَّثَنَا عبد الغافر الفارسيّ) بكسر الراء (حدّثنا أبو أحمد الجلوديّ) بضم الجيم واللام (قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بن الحجّاج) صاحب الصحيح (حدّثنا قتيبة) أي ابن سعيد (حدّثنا ليث) وهو ابن سعد (عن سعيد بن أبي سعيد) هو المقبري (عن سالم مولى النّصريين) بالنون والصاد المهملة أي ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 عبد الله النصري (قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول اللهمّ إنّما محمد) وفي نسخة أن محمدا (بشر يغضب كما يغضب البشر) وإن كان غضبه لله بخلاف من سواه (وإنّي قد اتّخذت عندك عهدا) يحتمل أن يكون إخبارا وأن يكون ابتداء انشاء (لن تخلفنيه) أي أبدا فأسألك الوفاء بعهدك (فأيّما مؤمن آذيته) بنوع من الأذى (أو سببته) بلساني (أو جلدته) أي ضربته بيدي أو بأمري (فاجعلها) أي تلك الأذية أو الأمور المذكورة (له كفّارة) لذنبه كيلا يقع في الندامة (وقربة تقرّبه بها إليك يوم القيامة) أي قربة رتبه ومكانة. (وفي رواية) أي عن أنس كما صرح به الحلبي فكان ينبغي من جهة الصناعة أن يقول وفي رواة لأنس (فأيّما أحد دعوت عليه دعوة) أي إلى آخره، (وفي رواية ليس) أي المدعو عليه (لها بأهل) أي مستحق، (وَفِي رِوَايَةٍ «فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ) أي شتمته (أو لعنته) لساني أو طردته عن مكاني (أو جلدته) أي ضربته بالجلد وغيره (فاجعلها له زكاة) أي طهارة من سيئته أو بركة في معيشته (وصلاة) أي ووصلة لقربه (ورحمة) ينشأ منها نعمة (وكيف) أي على أي حال (يصحّ أن يلعن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم من لا يستحقّ اللّعن) أي عمدا وقصدا (ويسبّ من لا يستحقّ اللّعن وَيَجْلِدُ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَلْدَ أَوْ يَفْعَلُ مثل ذلك عند الغضب وهو معصوم) بعناية الرب (من هذا) الذي ذكر (كُلِّهِ فَاعْلَمْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَكَ أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام أَوَّلًا لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أَيْ عِنْدَكَ يَا ربّ في باطن أمره فإن حكمه عليه الصلاة والسلام على الظّاهر) من حاله (كما قال) فيما ورد عنه عليه الصلاة والسلام نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر (وللحكمة الّتي ذكرناها) من أن أحكامه إنما كانت جارية على موجبات غلبات ظنه لتقتدي به أمته في حكمه (فحكم عليه الصلاة والسلام) فيما ظهر له من قرائن المقام (بجلده أو أدّبه بسبّه) أي بشتمه (أو لعنه) بصيغة المصدر أو الخبر (بما اقتضاه) من جواز ذلك (عنده حال ظاهره) بالرفع على أنه فاعل لاقتضاه أو بالنصب على الظرفية وفي نسخة عند حال ظاهره (ثمّ دعا له عليه الصلاة والسلام) على وجه الإبهام (لشفقته على أمّته ورأفته ورحمته للمؤمنين) أي شدة رأفته لخاصتهم وإرادة نعمته لعامتهم (الّتي وصفه الله بها) أي في قوله سبحانه وتعالى بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (وحذره) أي ولاحترازه (أن يتقبّل الله فيمن دعا عليه دعوته) أي في دعوته عليه وفي نسخة فيمن دعا عليه دعوته على أنها مفعول يتقبل وقوله (أن يجعل) متعلق بقوله فيما سبق ثم دعا له أي بدل ما دعا عليه أن يجعل (دعاءه) أي عليه (ولعنه له رحمة) نازلة عليه وواصلة إليه وحاصلة لديه (فهو معنى قوله) عليه الصلاة والسلام (ليس) أي المدعو عليه (لها بأهل) ولذا ورد في دعائه اللهم ما لعنت من لعن فعلى من لعنت وما صليت من صلاة فعلى من صليت أنت ولي في الدنيا والآخرة، (لا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يحمله الغضب) أي يبعثه (ويستفزّه) بتشديد الزاء أي ويستخفه (الضّجر) بفتحتين ضيق الصدر وعدم الصبر (لأن يفعل مثل هذا) الذي ذكر من اللعن والضرب والشتم (بمن) وفي نسخة لمن أي لأجل من (لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 يستحقّه من مسلم، وهذا معنى صحيح) وفي المدعي صريح لا ينبغي أن يفهم منه غيره؛ (وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ البشر أنّ الغضب) الذي يعتري ابن آدم من ثوران الدم وهو من خصال تذم (حمله على ما لا يجب) أي لا ينبغي أن يفعله (بل يجوز أن يكون المراد بهذا) الذي ذكر مِنْ قَوْلِهِ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ (أَنَّ الغضب لله تعالى) هو الذي (حمله على معاقبته بلعنه أو سبّه) أو ضربه إذ ورد كما مر أنه ما انتقم رسول الله لنفسه قط إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْتَقِمُ له وقد قال له صحابي أوصني يا رسول الله فقال لا تغضب وكلما أعاد السؤال أجاب له بهذا الجواب فلا يتصور أنه ينهى آحاد أمته عن الغضب وهو على منوالهم يغضب (وأنّه) أي غضبه عليه الصلاة والسلام (ممّا كان يحتمل) تحمله من الخلق تواضعا مع الحق واختيارا لصفة الحلم الناشىء عن كمال العلم (ويجوز عفوه) عليه الصلاة والسلام (عنه) أي عن من عاقبه بلعن أو غيره من الإيلام (أو كان) ذنب المغضوب عليه (مِمَّا خُيِّرَ بَيْنَ الْمُعَاقَبَةِ فِيهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ) وفي نسخة أو العفو عنه ولكنه كان قد اختار المعاقبة لما رأى فيها من الحكمة والمصلحة، (وقد يحمل) أي دعاؤه عليه الصلاة والسلام لمن عاقبه (أنّه خرج مخرج الإشفاق) أي إظهار الشفقة أو الخوف على من عاقبه بلعن أو غيره (وَتَعْلِيمِ أُمَّتِهِ الْخَوْفَ وَالْحَذَرَ مِنْ تَعَدِّي حُدُودِ الله تعالى) شفقة منه عليهم أن يعاقب أحدا منهم واحتراسا لهم مما يصدر عنهم (وَقَدْ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ دُعَائِهِ هُنَا) أي في مواضع المعاقبة ومقام الغضب طلبا لرضى الرب (ومن دعواته على غير واحد) أي على كثيرين (في غير موطن) أي في مواضع كثيرة (على غير العقد) أي عقد القلب بالعزم (والقصد) أي قصد المعاقبة بالجزم (بل) كانت صادرة منه من غير الغضب (بما جرت) أي على وفق ما جرت (به عادة العرب) حيث لا يريدون وقوع الأمر وإنما يقصدون به الأدب أو الملاطفة في مقام الطلب إذ قد يشنعون اللفظ وكله ود وينفونه وما من فعله بد يقولون للشيء إذا مدحوه قاتله الله ولا اب له ولا أم له ولا يريدون به الذم وفي الحديث ويل أمه مسعر حرب فلك أن تنظر إلى القول وقائله والقرينة الدالة على حاله ومآله بحسب اختلاف شمائله فإن كان وليا فهو الولاء وإن خشن وإن كان عدوا فهو البلاء وإن حسن فضرب الحبيب حلو كالزبيب بخلاف دعاء الرقيب (وليس المراد بها) أي بدعواته عليه الصلاة والسلام غلى غير واحد من الصحابة الكرام (الإجابة كقوله عليه الصلاة والسلام) فيما رواه الشيخان لعائشة وفي رواية لأم سلمة (تربت يمينك) بكسر الراء أي خشرت وقيل امتلأت ترابا وقيل استغنت والظاهر أن أتربت بمعنى استعنت على أن الهمزة للسلب وروي يدك ويداك، (ولا أشبع الله بطنك) قاله لمعاوية لكن بلفظ لا أشبع الله بطنه كما في نسخة هنا وهو في مسلم في كتاب الأدب من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتواريت خلف باب فجاء فخطاني خطوة وقال اذهب فادع لي معاوية قال فجئت فقلت هو يأكل قال ثم قال لي اذهب فادع لي معاوية قال فجئت فقلت هو يأكل فقال لا أشبع الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 تعالى بطنه زاد البيهقي في الدلائل فما شبع بطنه أبدا وهذا يشير إلى أنه كان دعاء عليه وقد استجاب الله تعالى لديه، (وعقرى حلقى) قاله لصفية بنت حيي بن أخطب في حجة الوداع كما رواه الشيخان أي عقرها الله تعالى وحلقها أي عقر الله تعالى جسدها وأصابها بوجع في حلقها قيل وقد جعلها الله كذلك كذا رواه المحدثون غير منون لجريانه على مؤنث كغضبي والمعروف في اللغة التنوين لأنه من مصادر حذفت أفعالها لفظا أي عقرها وحلقها حلقا ويقال للأمر المتعجب منه عقرا حلقا وكذا للمرأة المؤذية المشؤمة وقيل يقال لطويلة اللسان وقيل عقرى عاقر لا تلد وقيل عقرا حلقا مصدران أو الألف للتأنيث وقد روت عائشة أن صفية حاضت ليلة النفر فقالت ما أراني إلا حابستكم قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عقرى حلقى أطاقت يوم النحر قيل نعم قال فانفري (وغيرها من دعواته) مما لا يريد هو وغيره إجاباته كقول بعضهم أنعم صباحا تربت يداك فإنه دعاء له بقرينة ما قبله، (وقد ورد في صفته) أي نعته (في غير حديث) أي في أحاديث كثيرة من شمائله (أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن فحّاشا) أي منسوبا إلى قوله الفحش وفعله بل كان أقواله وأفعاله كلها مستحسنة، (وقال أنس) كما رواه البخاري (لم يكن سبّابا) أي كثير السب والشتم (ولا فحاشا) وفي نسخة صحيحة ولا فاحشا وهو أولى صيانة لساحة رفيع جنابه أن يوجد نوع من الفحش في بابه (ولا لعّانا) أي كثير اللعن (وكان يقول لأحدنا عند المعتبة) بفتح الفوقية ويكسر أي عند العتب في مقام الأدب (ما له) وفي نسخة ما باله (ترب جبينه) وفي العدول عن الخطاب التفات حسن في الآداب وقد قيل أراد به دعاء له بكثرة السجود وبتواضعه للرب المعبود وقيل يسقط في الأرض فيترب جبينه وأما قوله لبعض أصحابه ترب نحرك فقتل شهيدا فدعاء له لا عليه كما وهم الدلجي وقال فهو محمول على ظاهره وأغرب منه قوله (فيكون حمل الحديث) أي حديث ترب جبينه (على هذا المعنى) من أن يقتل والصواب أن قوله فيكون حمل الحديث أعم حديث تربت يمينك على هذا المعنى أي على معنى ترب جبينه إذ قوله ترب نحرك ليس مذكورا في كلام المصنف فكيف يحمل عليه المعنى من غير ذكر المبنى ولا يبعد أن يراد بتربت يمينه وترب جبينه اختيار غاية الفقر ونهاية المسكنة لصاحبه كما يشير إليه قوله تعالى أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ فيكون في الحقيقة دعاء له لا عليه؛ (ثمّ) أي مع هذا كله (أشفق عليه الصلاة والسلام) أي خاف على من جرى في شأنه هذا الكلام (من موافقة أمثالها) وفي نسخة مواقعة أمثالها أي الدعوات التي لم يرد بها وقوعها (إجابة) مفعول أشفق أي أن يجيبها الله في الدنيا والآخرة فتداركه (فعاهد ربّه كما قال في الحديث) السابق (أن يجعل ذلك) الدعاء (للمقول له زكاة) أي طهارة (ورحمة) عليه (وقربة) تقربه إليه، (وقد يكون ذلك) الدعاء (إشفاقا على المدعوّ عليه وتأنيسا له) أي تلطفا بحاله وتداركا لمقاله (لئلا يلحقه) أي المدعو عليه (من استشعار الخوف) أي إدراكه من الله تعالى (والحذر من لعن النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) له (وتقبّل دعائه) في حقه (ما يحمله على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 اليأس) من رحمة الله تعالى في الدنيا (والقنوط) في العقبى وهو بضم القاف أشد اليأس؛ (وقد يكون ذلك) الدعاء (سؤالا منه) أي من النبي عليه الصلاة والسلام (لربّه) جل جلاله وعز كماله (لمن جلده) أي ضربه (أو سبّه) أي شتمه أو لعنه (على حقّ) أي أمر يستحقه (وبوجه صحيح) وفق شرعه (أن يجعل ذلك) الجلد ونحوه (له كفّارة لما أصابه) من الذنوب (وتمحية) مصدر محى مشددا للمبالغة أي وكثرة محو (لما اجترم) أي اكتسبه من العيوب وفيه أنه يأباه ظاهر رواية ليس لها بأهل اللهم إلا أن يقال ليس للعقوبة بأهل على جهة الدوام بأن يكون من أهل الإسلام (وَأَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ لَهُ فِي الدُّنْيَا سَبَبَ العفو) عن تقصيراته (والغفران) لسيئاته في العقبى (كما جاء في الحديث الآخر) مما رواه الشيخان عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ليلة العقبة بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين ايديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفي منكم بذلك فأجره على الله (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ) أي فجوزي به (في الدّنيا فهو كفّارة له) وفي نسخة فهو له كفارة أي في العقبى وتمام الحديث ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه (فإن قلت فما معنى حديث الزّبير) أي ابن العوام أحد العشرة المبشرة (وقول النّبيّ) أي وما معنى قوله (صلى الله تعالى عليه وسلم له) أي للزبير (حين تخاصمه) بصيغة المصدر أي وقت تنازعه واختلافه (مع الأنصاريّ) أي المنسوب إلى الأنصار فإنه قيل إنه كان منافقا فهو من نسبهم لا من حسبهم وقيل غير ذلك واختلف في تعيين قائله هنالك (في شراج الحرّة) بكسر الشين المعجمة جمع شرجة وهي مسيل الماء إلى السهل من الحرة وهي موضع من المدينة فيه حجارة سود (اسق) أي حديقتك وهو بكسر همزة الوصل أو بفتح همزة القطع (يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ فَقَالَ لَهُ الأنصاريّ أن) وفي نسخة أنه (كان يا رسول الله ابن عمّتك يا رسول الله) وهو علة لقوله اسق أي حكمت للزبير لأجل أن كان ابن عمتك وهي صفية بنت عبد المطلب وقيل الرواية بمد الهمزة بناء على أنه بهمزتين والثانية ومنهما مبدلة ممدودة وهو وجه من الوجوه في اجتماع الهمزتين للقراء السبعة ورواتهم (فتلوّن) أي فتغير حيث احمر واصفر (وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) غضبا لله وتنزيها لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مما نسب إليه (ثمّ قال اسق يا زبير) أي حديقتك كما ذكر (ثمّ احبس) الماء وامنعه عن غيرها أو اصبر على جريانه (حتّى يبلغ الجدر) أي جدر الحديقة أو أصول الكرم وهو بفتح الجيم وسكون الدال المهملة وروي بضم أوله جمع جدار وبذال معجمة من جذر الحساب بالفتح أو الكسر أراد به مبلغ تمام التقي استيفاء لحق الزبير رضي الله تعالى عنه (الحديث) بطوله والمقصود حل مشكله (فالجواب أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم منزّه أن) وفي نسخة عن أن (يقع بنفس مسلم) أي في خاطره (منه) أي من جهة أمره عليه الصلاة والسلام (في هذه القصّة) وفي نسخة القصة (أمر يريب) بضم أوله وفتحه أي شيء يوقع في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 الريبة والشك والتهمة (ولكنّه صلى الله تعالى عليه وسلم ندب) أي الزبير كما في نسخة أي أمره أمر ندب وإحسان ودعاء (أوّلا) أي في أول أمره حيث أشار (إلى الاقتصار) للزبير (على بعض حقّه على طريق التّوسّط) أي مراعاة الجانبين (والصّلح) الذي هو موجب صلاح العباد وفلاح البلاد (فلمّا لم يرض بذلك الآخر ولجّ) بتشديد الجيم أي وبالغ في طلب الحكم المقرر (وقال ما لا يجب) أي لا ينبغي في ذلك المقر (استوفى) جواب لما أي أخذ (النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم للزّبير حقّه) وافيا ثانيا (ولهذا ترجم البخاريّ) أي عنون في صحيحه (على هذا الحديث باب إذا) بالإضافة منصوبا على أنه مفعول ترجم وضبط باب بالرفع منونا فيكون محكيا والنصب محليا أو التقدير هذا باب فيما إذا (أشار الإمام بالصّلح فأبى) أي الخصم به (حكم عليه) بالبناء للمفعول أو الفاعل (بالحكم) أي البين كما في البخاري وتركه المصنف لوضوحه (وذكر) أي البخاري (في آخر الحديث فاستوّعى) أي استوفى كما في نسخة أي استوعب (رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حينئذ للزّبير حقّه) ووقع في أصل الحلبي والتلمساني حقه للزبير فقالا فيه تقديم وتأخير أو التقدير استوعى حق الزبير للزبير يعني وقد سبق في الحديث ذكر الزبير فالمرجع موجود وقال الحلبي وكذا في نسخة صحيحة عندي بالبخاري. (وقد جعل المسلمون هذا الحديث) أي حديث الزبير مع الأنصاري (أصلا في قضيّته) أي في مثل حكم الزبير؛ (وفيه) أي وفي الحديث (الاقتداء) أي أخذ الاقتداء والاهتداء (به صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا فَعَلَهُ فِي حال غضبه ورضاه وأنّه) عليه الصلاة والسلام (وإن نهى) فيما رواه الشيخان عن أبي بكرة (أن يقضي القاضي وهو غضبان) جملة حالية أفادت أن غيره من القضاة غير معصوم فلا يقضي حال غضبه بخلافه عليه الصلاة والسلام (فَإِنَّهُ فِي حُكْمِهِ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَالرِّضَى سواء لكونه فيها) أي في الغضب والرضى وفي نسخة فيها أي في حالهما (معصوما) من الخطأ في القضاء، (وغضب النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا) أي في أمر الزبير مع خصمه (إِنَّمَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِنَفْسِهِ كَمَا جاء في الحديث الصحيح) من أنه لم يكن يغضب لنفسه وإنما كان يغضب لربه هذا ولو صدر مثل هذا الكلام الذي خاطبه عليه الصلاة والسلام به من إنسان اليوم من نسبته عليه الصلاة والسلام إلى هوى وغرض في الأحكام كان ارتدادا عن الإسلام فيجب قتله بشرطه المعتبر عند الإعلام وقد قال العلماء إنما تكره عليه الصلاة والسلام لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس في الكلام ويدفع بالتي هي أحسن في ذلك المقام ويصبر على أذى المنافقين في تلك الأيام وهذا كقول الآخر هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى فإنه نسب الغرض في العطية إليه عليه الصلاة والسلام ولم يأمر بقتله فأقرب أمره أن يكون منافقا أو حديث عهد بجاهلية أو بدويا في غلظة طبعهم وجهالة شأنهم وجفاؤه لسانهم، (وكذلك الحديث) الذي ورد في الحلية لأبي نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (في إقادته) بالقاف من القود أي في قصاصه (عكاشة) يضم العين وتشديد الكاف وتخفف وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 ابن محصن الأسدي صحابي جليل رضي الله تعالى عنه والمعنى أن يقتص لنفسه (من نفسه) عليه الصلاة والسلام (لم يكن) أي ضربه عليه الصلاة والسلام له (لتعدّ) بتشديد الدال أي لتجاوز حد وفي نسخة صحيحة لتعمد أي لقصد (حمله الغضب عليه) أي على ضربه (بل وقع في الحديث) أي في حديث قود عكاشة (نفسه أن عكاشة قال له) عليه الصلاة والسلام (وضربتني بالقضيب) أي العصا، (فلا أدري أعمدا) كان ضربك لي (أم أردت ضرب النّاقة) فوقع علي (فقال النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أعيذك بالله) أي أجعلك في حفظه (يا عكاشة أن يتعمّدك رسول الله) وفي نسخة أن يتعمدك نبيك (صلى الله تعالى عليه وسلم) وحاصل الجواب أنه وقع منه خطأ وهو جواب حسن صواب يصلح أن يكون جوابا عن الإشكال الأول في الحديث الآخر أيضا وهو أيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته بمعنى ضربته أو شتمته سهوا أو خطأ والله تعالى اعلم هذا وفي حاشية الحلبي أن حديث عكاشة في قادة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنه عليه الصلاة والسلام دفع القضيب إلى عكاشة ليقتص منه ذكره ابن الجوزي في موضوعاته مطولا وقال في آخره هذا حديث موضوع لا محالة كافأ الله تعالى من وضعه وقبح من شين الشريعة بمثل هذا التخليط البارد والكلام الذي لا يليق بالرسول ولا بالصحابة والمتهم عبد المنعم بن إدريس قال أحمد بن حنبل كان يكذب على وهب وقال يحيى كذاب خبيث وقال ابن المديني وأبو داود ليس بثقة وقال ابن حبان لا يحل الاحتجاج به وقال الدارقطني في ميزانه فيه مشهور قصاص ليس يعتمد عليه تركه غير واحد ثم ذكر كلام أحمد فيه وقال قال البخاري ذاهب الحديث ثم قال وله عن ابيه عن وهب عن جابر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما خبر إقادة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم طويل وأنه دفع القضيب إلى عكاشة ليقتص منه وقال قال ابن حبان كان يضع الحديث على أبيه وعلى غيره (وكذلك) الكلام (في حديثه الآخر) قال الدلجي لا أعرف من رواه (مع الأعرابيّ) قال الحلبي هذا الأعرابي لا أعرفه (حين طلب عليه الصلاة والسلام الاقتصاص منه) أي من نفسه الشريف للأعرابي؛ (فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم قد ضربه) أي الأعرابي (بالسّوط لتعلّقه بزمام ناقته) بكسر الزاء أي يخطامها (مرّة بعد أخرى) علة لضربه (والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ينهاه) كل مرة عن تعلقه بزمامها (ويقول له تدرك حاجتك وهو يأبى) قبول قوله ذلك (فضربه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ثلاث مرّات) من نهيه وابائه عن قبوله ووقع في أصل الدلجي فضربه ثلاث مرات بعد وقال ظرف غائي قطع عما أضيف هو إليه منويا أي بعد نهيه له وهذا خطأ فاحش لأن الضرب لم يقع ثلاث مرات بل مرة واحدة بعد نهيه ثلاث مرات ثم لا يتوهم أن ضربه له كان انتقاما لنفسه بل كان تأديبا وتشريعا له ولغيره للاجتناب عن مثل ذلك لقبحه، (وهذا) أي ضربه الذي وقع عليه (منه عليه الصلاة والسلام لمن لم يقف عند نهيه) ولم ينزجر بردعه (صواب وموضع أدب) وهما خبران لقوله وهذا وقد وهم الدلجي حيث قال ويروى أنه صواب وموضع أدب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 يقتبس منه ويستضاء به، (لكنّه عليه السّلام أشفق) أي خاف مقام ربه (إذ كان حظ نفسه) وفي نسخة حق نفسه والجملة تعليلية اعتراضية بين اشفق ومتعلقه أعني (من الأمر) أي لأجل أمر ضربه (حتّى عفا عنه) الأعرابي غاية لطلبه الاقتصاص منه والحاصل أن اقتصاصه إنما كان لكمال خوفه من ربه حيث كان ظاهر ضربه على صورة حظ نفسه مع ما يتضمنه من تعليم أمته عدم المسامحة والمساهلة في حقوق العباد قبل يوم المعاد (وأما حديث سواد) بفتح السين المهملة وتخفيف الواو (ابن عمرو) أي ابن عطية الأنصاري رواه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة وابن سعد وعبد الرزاق في جامعه عن الحسن (أتيت النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وقال ابن عبد البر سوادة بزيادة تاء ابن عمرو الأنصاري ويقال سواد بن عمرو وحديثه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أقاده من نفسه روى عنه الحسن ومحمد بن سيرين أنه قال اتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وأنا متخلّق) أي متلطخ بالخلوق من الطيب يقال خلقه تخليقا طيبه فتخلق كما في القاموس (فقال عليه الصلاة والسلام ورس ورس) وهو نبت أصفر يصبغ به ومعناه التهديد في النهي عن لبسه أو تطيبه وكرر للتأكيد كقوله (حطّ حطّ) بضم الحاء وتشديد الطاء المهملتين أي ضع عنك هذا بلبس غيره أو بغسله ويجوز في طائه الحركات الثلاث لأنه أمر مضاعف كمد فيجوز الفتح للخفة والضم للاتباع والكسر للأصل في تحريك الساكن أما قول الحلبي الظاهر إن هذا أمر بالحط وكذا رأيته مضبوطا بحط بإسكان الطاء فسهو قلم منه فإنه إذا كان الأمر بالحط فالإسكان خطأ في الخط هذا وقال التلمساني وروي بسكون سين ورس وفتح طاء حط ساكنين وروي بتنوين السين وسكون الطاء انتهى وخلله مما لا يخفى نعم وجه السكون هو الوقوف ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي أهذا ورس أو بفعل محذوف أي أيفعل ورس يعني يصبغ به ويلبس وأما على التنوين فظاهر إعرابهما قال التلمساني ولعله كان محرما فنهاه عنه لانه لا يلبسه المحرم أقول لبس الأصفر والأحمر مكروه عندنا مطلقا وكذا التطيب بطيب فيه لون لأنه تشبه بالنساء وقال الدلجي الخلوق طيب مركب من زعفران وغيره وقد ورد الخبر بإباحته وبالنهي عنه وهو أكثر والظاهر أنه ناسخ لاباحته لأنه من طيب النساء وهن أكثر استعمالا له (وغشيني) وفي نسخة فغشيني أي فلحقني (بقضيب في يده) أي موقعا ضربه (في بطني فأوجعني) ولعله كان بعد امتناعه عن امتثال الأمر واجتناب النهي ثم رأيت في حاشية الشمني أنه روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه نهى عن الخلوق مرتين أو ثلاثا وأنه رآه متخلقا فطعنه في بطنه بجريدة في يده، (قلت القصاص) بالنصب مفعول لمحذوف نحو اسألك أو أطلب منك (يا رسول الله) ولعله ظن أنه عليه الصلاة والسلام ضربه بغير ما يستحقه من الآثام؛ (فكشف لي عن بطنه) تواضعا لربه وتنزلا مع قومه (إنّما) جواب أما فحقه أن يقول فإنما (كان ضربه إياه) وفي نسخة إنما ضربه النبي عليه الصلاة والسلام (لمنكر رآه به) وفي نسخة رآه عليه وقد نهاه عنه وهو على حاله (وَلَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ بِضَرْبِهِ بِالْقَضِيبِ إِلَّا تَنْبِيهَهُ) بضرب لطيف في مقام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 التأديب، (فلمّا كان منه إيجاع) أي حقيقة أو إظهار وجع حيلة (لم يقصده) بضربه (طلب التّحلّل منه) أي في قدر الزائد على ما يستحقه (على ما قدّمناه) من نظير ما وقع له مع غيره قال ابن عبد البر وهذه القصة لسواد بن عمرو لا لسواد بن غزية وقد رويت لسواد بن غزية انتهى ويقال سواد بن غزية مشدد الواو وسواد في الأنصار غيره مخففة وقال ابن إسحاق حدثني حبان بن واسع عن أشياخ من قومه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر ومعه قدح يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية حليف بن عدي بن النجار وهو مستنتل من الصف قال ابن هشام ويقال متنصل من الصف فطعن في بطنه بالقدح وقال استو يا سواد قال يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله تعالى بالحق والعدل فاقدني قال فكشف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن بطنه وقال استقد قال فاعتنقه وقبل بطنه قال ما حملك على هذا يا سواد قال يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك الشريف فدعا له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بخير انتهى وقال الحلبي وأما ما وقع في بعض النسخ أنه عمرو بن سواد فغلط وعلى الخطأ نقله شيخنا ابن الملقن في شرح البخاري ثم تعقبه لكنه لم ينبه على أنه مقلوب. فصل (وأمّا أفعاله عليه الصلاة والسلام الدّنيويّة) أي المجردة عن الأحكام الأخروية (فحكمه) مبتدأ (فيها) أي في أفعاله الدنيوية (من ترقّي المعاصي والمكروهات) بيان لحكمه أي من تحفظه عنهما (ما قدّمناه) وفي نسخة ما قد قدمناه وهو خبر المبتدأ وأما ما صدر عنه من فعل بعض المكروهات كشربه وبوله قائما بعد نهيه فإنه كان لعذر لديه أو لبيان الجواز مما كان واجبا عليه (ومن) أي وحكمه من (جواز السّهو والغلط في بعضها) أي أفعاله كتسليمه من ركعتي إحدى صلاتي العشى سهوا (ما ذكرناه) في حديث ذي اليدين (وكلّه غير قادح في النّبوّة) المبنية على صفة العصمة (بل) وفي نسخة بلى (إنّ هذا) أي صدور السهو (فيها على النّدور إذ عامّة أفعاله) أي غالبا بل كلها (على السّداد) أي الاستقامة والاقتصاد (والصّواب) في الاجتهاد (بل أكثرها أو كلّها) أي أفعاله الصادرة على وفق العادات (جارية مجرى العبادات والقرب) بضم ففتح أي القربات (على ما بيّناه) من أن الأعمال بالنيات وأن المباحات بها تنقلب طاعات (إذ كان عليه الصلاة والسلام لا يأخذ منها) أي من أفعاله الدنيوية (لنفسه إلّا ضرورته) أي حاجته المعينة على أحواله الأخروية من القيام بالعبودية وفق مقتضى الربوبية وفي نسخة إلا ضروريته أي إلا أموره الضرورية التي لا يستغني عنها الأفراد البشرية (وما يقيم رمق جسمه) أي مادة قوته وقوته من أكله وشربه ونومه التي بها قيام بنيته ونظام صحته قدر فريضته (وفيه مصلحة ذاته) وما يتبعه من صفاته (الّتي بها يعبد ربّه ويقيم شريعته) ببيان أحكامها (ويسوس أمّته) أي يراعيهم ويؤديهم بما فيه نظامها وهذا كله فيما بينه وبين ربه (وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 كَانَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ) أي مما ذكر من أفعاله الدنيوية (فبين معروف يصنعه) بين ظرف ومعروف مجرور منون مضاف إليه أي فأمره دائر بين فعل معروف يصنعه إليهم (أو بر) أي أنعام (يوسّعه) عليهم (أو كلام حسن يقوله) ويلقيه لديهم (أو يسمعه) بضم الياء وكسر الميم أي يرويه لهم وفي نسخة بفتحهما أي يسمعه منهم فيما صدر عنهم (أو تألّف شارد) أي نافر بطبعه ما رد فيداريه بالأحكام ليثبت قلبه على الإسلام (أو قهر معاند) أي منكر جاحد، (أو مداراة حاسد) أي مدافعته وهو من الدرء بالهمز وهو الدفع وقد يخفف همزه ومنه قولهم ودارهم ما دمت في دارهم (وكلّ هذا لاحق بصالح أعماله) وفي نسخة بمصالح أعماله (منتظم في زاكي وظائف عباداته) أي ظاهرها أو زائدها في مقام فوائدها (وَقَدْ كَانَ يُخَالِفُ فِي أَفْعَالِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِحَسَبِ اختلاف الأحوال) العارضة من الأمور الأخروية (وبعد) بضم الياء وكسر العين وتشديد الدال أي ويهيئ (للأمور أشباهها) المناسبة لأفعالها (فيركب في تصرّفه) وتوجهه (لما) أي لسير (قرب) من البلد (الحمار) إذ لا كلفة في ركوبه مع الإيذان بعدم التكبر مع جلالة مقامه (وفي أسفاره) أي البعيدة (الرّاحلة) لصبرها على شدة السير ومشقة الزاملة (وَيَرْكَبُ الْبَغْلَةَ فِي مَعَارِكَ الْحَرْبِ دَلِيلًا عَلَى الثّبات) إلى الوفاة وإشعارا بقوة شجاعته وشدة قلبه مع كونها لا تصلح للكر والفر وقال علي كرم الله تعالى وجهه إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي جعلناه وقاية من الناس (ويركب الخيل ويعدّها) من أعد أي يهيئها (ليوم الفزع) أي وقت الإغاثة والإعانة (وإجابة الصّارخ) أي الصائح للإعلام بالحادثة الواقعة (وكذلك) كان يفعل (في لباسه وسائر أحواله) وفي نسخة أفعاله أي في أكله وشربه وفراشه ومنامه وقيامه وإفطاره وصيامه وسكوته وكلامه (بحسب اعتبار مصالحه) أي مهمات ذاته (ومصالح أمّته) أي مراعاة أهل ملته ليقدر كل أحد في الجملة على متابعته على ما بيناه في جميع الوسائل لشرح الشمائل (وكذلك يفعل الفعل من أمور الدّنيا مساعدة لأمّته) على أحوال العقبى (وسياسة) لبعضهم (وَكَرَاهِيَةً لِخِلَافِهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ يَرَى غَيْرَهُ خيرا منه) أي من حيثية أخرى (كما) يترك (الفعل) أي فعل الخير (لهذا) أي لحكمة نفسه أو لمصلحة أمته (وقد يرى فعله خيرا منه) أي من تركه في نفسه الأمر إشعارا بجوازه (وقد يفعل هذا) أي ما يرى تركه خيرا من فعله (في الأمور الدّينيّة ممّا له الخيرة) بكسر الخاء وفتح الياء ويسكن اسم من خار بمعنى اختار أي ما هو مخير (في أحد وجهيه) أي في فعلهما (كخروجه) بأصحابه (من المدينة لأحد) حين محاربة أبي سفيان وقومه (وكان مذهبه) أي عادته (التّحصّن بها) وعدم الخروج منها (وتركه) أي وكتركه عليه الصلاة والسلام (قَتْلَ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ) غير شاك في كفرهم وفي نسخة من أمورهم وإنما تركهم (مؤالفة لغيرهم ورعاية) أي ومراعاة (للمؤمنين) المخلصين (من قرابتهم وكراهة) وفي نسخة وكراهية (لِأَنْ يَقُولَ النَّاسُ إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ كما جاء في الحديث) المناسب لبابه وهو ما رواه البخاري وغيره في قصة رئيس أهل النفاق عبد الله بن أبي وقوله في غزوة بني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 المصطلق لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأذل وأراد بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسمعه زيد بن أرقم وهو حدث فقال له أنت والله الأذل المبغض في قومه ومحمد هو الأعز بربه وقومه ثم أخبر رسول الله بقوله فقال عمر دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله فقال إذن ترعد ألف كبيرة يثرب قال فإن كرهت أن يقتله مهاجري فمر أنصاريا فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه (وتركه) أي وكتركه عليه الصلاة والسلام (بِنَاءَ الْكَعْبَةِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ مُرَاعَاةً لِقُلُوبِ قريش) حيث كانوا قريب عهد بالإسلام ولم يتمكنوا في قبول الأحكام (وتعظيمهم لتغيّرها) وفي نسخة لتغييرها أي الكعبة بيت الله الحرام عمالها من ظاهر النظام (وحذرا من نفار قلوبهم) بكسر النون أي تنافرها (لذلك) أي لتغيرها (وتحريك متقدّم عداوتهم للدّين وأهله) بالارتداد ونحوه (فقال لعائشة) كما رواه الشيخان (لولا حدثان قومك) بكسر الحاء أي قرب عهدهم (بالكفر) ويروى حداثة قومك (لأتممت البيت على قواعد إبراهيم) أي أسست أو بنيت أو أعليت أو أتممته بإدخال الحجر وقد بناه ابن الزبير كما تمناه وغير الحجاج بعض ما بناه وعلى ذلك البناء بقي إلى وقتنا (ويفعل الفعل) أي أحيانا (ثمّ يتركه) بعده (لكون غيره خيرا منه) حينئذ (كانتقاله من أدنى مياه بدر) أي من أدناها إلى بدر (إلى أقربها للعدوّ من قريش) برأي الحباب بن المنذر كما سبق (وكقوله) في حجة الوداع على ما رواه الشيخان (لو استقبلت من أمري ما استدبرت) أي الأمر الذي استدبرته (ما) وفي نسخة لما (سقت الهدي) إذ بفعله ذلك لزمه أن لا يحل حتى ينحر ولا يجوز نحره إلا يوم النحر فلا يجوز له فسخ الحج بعمرة كما أمر بذلك أصحابه ليخرج عن خاطرهم ما اشتهر في الجاهلية من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وإنما أمر بذلك من لم يكن معه هدي إذ يكون له فسخه هنالك وإنما قال ذلك على وجه الاعتذار تطييبا لقلوب أصحابه وحذرا من ان يشق عليهم أن يحلوا وهو محرم وليعلموا أن قبول ما دعاهم إليه من فسخه بها أفضل وأنه لولا الهدي لفعله ثم هذا الفسخ منسوخ عند الأئمة إلا أحمد بن حنبل (ويبسط وجهه للكافر والعدوّ) من المنافق (رجاء استئلافه) طمعا في الفته وحذرا من نفرته (ويصبر للجاهل) فيما يصدر عنه حال فترته (ويقول) كما رواه الشيخان عن عائشة (إنّ من شرار النّاس) وفي نسخة من شر الناس (من اتّقاه النّاس) أي خافوه وحذروه واحترسوا منه (لشرّه ويبذل له) بضم الذال المعجمة أي يعطي من ذكر وأمثاله (الرّغائب) أي النفائس من ماله (ليحبّب إليه شريعته) أي أحكام ملته (ودين ربّه) أي من طاعته وعادته (ويتولّى في منزله ما يتولّى به) أي يقوم فيه بما يقوم وفي نسخة ما يتولاه (الخادم من مهنته) بفتح الميم هو الرواية وقد يكسر وقيل خطأ أي خدمة منزله، (ويتسمّت) بتشديد الميم من السمت وهو الهيئة الحسنة أي يظهر السمت الحسن ويقصد الطريق المستحسن (في ملاآته) بضم الميم ممدودا وقيل مقصور مهموز وغلط أي في إزاره كذا قالوا والظاهر في ملابسه إذ الملاآت جمع ملاءة وهي الملحفة ويقال لها الريطة إذا كانت قطعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 واحدة ولم تكن لفقين يشتمل بها وروي في ملائه بفتحتين مقصورا أي جماعته وقومه (حتّى لا يبدو) أي لا يظهر (منه شيء من أطرافه) أي أعضائه من ساق وقدم وساعد ونحوها من كمال أدبه ووقاره وجمال حيائه وانكساره وتواضعه لربه وافتقاره وليتأدب أصحابه بشعاره ودثاره (حتّى كأنّ) بتشديد النون (على رؤوس جلسائه الطّير) من كمال سكوتهم وسكونهم ووقارهم في قرارهم لأن الطير لا يقع إلا على ساكن (ويتحدّث مع جلسائه بحديث أوّلهم) أي بحكاية أوائلهم وما جرى لهم تأنسا بمقالهم وتلطفا بحالهم أو بحديث أوله متكلم منهم فيبني عليه كلامه إلى أن ينتهي مرامه أو يتحدث مع آخرهم بحديث أولهم من جهة النشاط وطريق الانبساط من غير انقياض عن بعضهم وملالة وكلالة في آخر أمرهم ولفظ الترمذي حديثهم عنده كحديث أولهم (ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه) استجلابا لخواطرهم (ويضحك ممّا يضحكون منه) في عجائب أخبارهم وغرائب آثارهم (وقد وسع النّاس) أي جميعهم (بشره) بكسر فسكون أي طلاقة وجهه وبشاشة حديثه (وعدله) أي وكذا وسعهم عدله في حكمهم أو اعتداله في أمرهم (لا يستفزّه الغضب) أي لا يستخفه ولا يزعجه ولا يخرجه عن مقام الأدب مع أن غضبه كان للرب (ولا يقصّر عن الحقّ) بل يقوم به غاية القيام (ولا يبطن) بضم الياء وكسر الطاء أي لا يضمر (على جلسائه) خلاف ما يظهره (يقول) شاهدا لأمره (ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين) وقد تقدم ما يتغلق به مبنى ومعنى وتفصيل هذه الفضائل ذكرته في شرح الشمائل (فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِعَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها) كما رواه الشيخان (في الدّاخل عليه) وهو عتبة بن حصين الفزاري قبل أن يسلم أو مخرمة بن نوفل القرشي ولا يبعد تعدد القضية (بئس ابن العشيرة) وفي نسخة هو وفي رواية أو أخو العشيرة كما في رواية الترمذي على الشك وأما رواية البخاري بئس ابن العشيرة وأخو العشيرة أي إنما قاله حين استأذن في الدخول عليه (فلمّا دخل ألان له القول) أي لين له الكلام (وضحك معه) في المقام وفي رواية البخاري تطلق في وجهه وانبسط إليه، (فلمّا خرج سألته) أي عائشة (عن ذلك) ولفظ الترمذي فلما خرج قلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول (فقال) يا عائشة متى عهدتني فحاشا (إنّ من شرّ النّاس) وفي رواية أن شر الناس عند الله تعالى منزلة يوم القيامة (من اتّقاه النّاس لشرّه) وفي رواية من تركه الناس اتقاء فحشه وفي رواية اتقاء شره (وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ خِلَافَ مَا يبطن) أي يضمر (ويقول في ظهره) أي في غيبته قبل أن يدخل في حضرته (ما قال) في مواجهته (فالجواب أنّ فعله عليه الصلاة والسلام) أي ضحكه والإنة قوله له (كان استئلافا) أي مداراة له وتألفا (لمثله) من اجلاف العرب وعتاتهم في مقام الأدب (وتطييبا لنفسه ليتمكّن إيمانه) في باطن قلبه (ويدخل في الإسلام بسببه) أي بسبب اتباعه (أتباعه) أي قومه وأشياعه (ويراه مثله) في الجفاوة والقساوة (فينجذب) أي ينقاد (بذلك إلى الإسلام) وقبول الأحكام، (ومثل هذا) الاتقاء (على هذا الوجه) أي وجه الاستئلاف (قد خرج من حدّ مداراة الدّنيا) أي مدارة الأمور الدنيوية (إلى السّياسة الدّينيّة) أي انتقل منها إليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 بالمقاصد الأخروية (وقد كان يتألفهم) وفي نسخة يستألفهم (بأموال الله العريضة) أي بإعطاء الأموال الكثيرة (فكيف) لا يتألفهم (بالكلمة اللّيّنة) فأنها أولى أن تقع فأنها في المرتبة الهينة (قال صفوان) أي ابن أمية بن وهب الجمحي اسلم بعد حنين وكان أحد الأشراف والفصحاء وفي الصحابة ممن يقال له صفوان ستة عشر غير ما تقدم والله تعالى أعلم (لقد أعطاني) أي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تعالى كما في نسخة (وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ فَمَا زَالَ يُعْطِينِي) أي الأموال عفوا من غير السؤال (حتّى صار أحبّ الخلق إليّ) فإن الإنسان عبد الإحسان؛ (وقوله) عليه الصلاة والسلام (فيه) أي في حق الرجل المذكور (بئس ابن العشيرة هو غير غيبة) بكسر الغين وهي أن تذكر أخاك المسلم بما يكرهه (بل هو تعريف) أي اعلام (بما علمه منه) وفي نسخة تَعْرِيفُ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ (لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ) بحاله (ليحذر حاله ويحترز منه ولا يوثق) أي لا يعتمد وفي نسخة لا يثق (بجانبه كل الثّقة لا) وفي نسخة ولا (سيّما وكان مطاعا) بضم الميم يفسره (متبوعا) أي لقومه لا يخرجون عن رأيه، (وَمِثْلُ هَذَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ) وكذا حصول منفعة وظهور مصلحة (لم يكن بغيبة بل كان جائزا) بلا شبهة (بل) قد يكون (واجبا في بعض الأحيان كعادة) بعض (المحدّثين في تجريح الرّواة) بكذب أو سوء حفظ أو قلة ديانة ونحوها (والمزكّين) بكسر الكاف عطف على المحدثين وفي نسخة بفتحها على أنه عطف على الرواة (في الشّهود) قال التلمساني بسكون الياء جمع مزكى هذا قول البصريين وأجراه الكوفيون كالصحيح؛ (فإن قيل فما معنى المعضل) بكسر الضاد المعجمة أي الداء العضال المشكل الذي أعيى الفضلاء والحكماء في باب الدواء وفي نسخة الفصل واحد الفصول بدل المعضل (الوارد في حديث بريرة) براءين على زنة فعيلة وهي بنت صفوان مولاة عائشة وهي حبشية أو قبطية (من قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة) كما في الصحيحين (وقد أخبرته) أي عائشة (أنّ موالي بريرة أبوا بيعها) أي امتنعوا عنه (إلّا أن يكون لهم الولاء) بفتح الواو أي ولاء عتقها فإنهم كاتبوها فعجزت فأتت عائشة تستعين بها فقالت إن أراد أهلك دفعت له ثمنك واعتقتك ويكون ولاؤك لي فأبوا (فقال لها عليه الصلاة والسلام اشتريها واشترطي لهم الولاء) هذا هو المعضل من الداء الذي تحير في معالجته العلماء (ففعلت) أي اشترتها وشرطت لهم الولاء وأعتقتها، (ثمّ قام خطيبا) أي واعظا (فقال ما بال أقوام) أي ما حالهم وشأنهم (يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى) أي مما لم يرد بشرعيتها أحكام ليعمل بها (كلّ شرط ليس في كتاب الله) أي ولا في سنة رسول الله (فهو باطل) ليس تحته طائل وفي بعض النسخ زيادة قوله شرط الله تعالى أوثق وقضاؤه أحق (والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قد أمرها بالشّرط لهم) وهذا مشكل (وعليه باعوا) وهذا معضل (ولولاه) أي ولولا شرط عائشة لولائها لهم (والله تعالى أعلم) جملة معترضة (لما باعوها) أي بريرة (من عائشة كما لم يبيعونها قبل) أي قبل قبول عائشة شرطهم (حتّى شرطوا ذلك عليها) أي على عائشة (ثمّ أبطله عليه الصلاة والسلام وهو قد حرّم الغشّ) بقوله من غشنا فليس منا كما رواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 الترمذي (والخديعة) أي وكذا حرم المكر والمكيدة بقوله تعالى وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فهذا مشكل من وجوه فيحتاج إلى جواب شاف كاف (فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم مبرأ) أي منزه (عمّا يقع في بال الجاهل) أي قلب الغافل (من هذا) المقام الكامل (ولتنزيه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك) وعدم ظهور تأويل ذلك لهم فيما هنالك (ما) زائدة أو موصولة (قد أنكر قوم) من المحدثين منهم يحيى ابن أكثم (هذه الزّيادة) أعني (قوله) أي وهي قوله (اشترطي لهم الولاء إذ ليست) هذه الزيادة (في أكثر طرق الحديث) أي حديث بريرة فلا إشكال في بقية الإفادة وقد اعتل بتفرد مالك به عن هشام بن عروة وأنه لم يتابع عليه لكن الصحيح أنه تابعه عليه أبو أسامة وجرير في طريق متعددة (ومع ثباتها) أي ومع صحة هذه الزيادة وهو المعتمد لأن زيادة الثقة مقبولة بلا شبهة (فَلَا اعْتِرَاضَ بِهَا إِذْ يَقَعُ لَهُمْ بِمَعْنَى عليهم) فإن حروف الجر يستعار بعضها لبعض كما هو مقرر في محله من المغني ونحوه (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ [الرَّعْدِ: 25] ) أي عليهم والأظهر أن اللام فيه للاختصاص أي اللغة حاصلة لهم دون غيرهم (وقال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] ) أي فعليها وعدل عنها للمشاكلة أو الاختصاص كما قدمناه (فعلى هذا) القول بأن اللام بمعنى على فالمراد (اشترطي عليهم الولاء لك) فإنما هو لمن اعتق وهذا بعيد جدا من جهة المبنى والمعنى أما الأول فلأنه لا يصلح كون لهم هنا بمعنى عليهم وإن صح من غيره لأن اللام لا تكون كعلي إلا حيث لا لبس فإنه يقال اشترط له واشترط عليه كما يقال دعا له ودعا عليه وشهد له وشهد عليه وقضى له وعليه فلا ينوب أحدهما مناب الآخر فتدبر وأما الثاني فلما قدمه المصنف من أن موالي بربرة لم يرضوا إلا أن يكون ولاؤها لهم فلو رضوا لما وقع العتب في الخطبة عليهم وأن تكلف المصنف في دفعه بقوله (ويكون قيام النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ووعظه لما سلف لهم من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك) فعلى هذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة اشترطي أظهري شرط الولاء لك وقيل معناه الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي قاله محمد بن شجاع ومنه قوله تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ومعناه التهديد على عمله أن عملوه لأن صعوده على المنبر ونهيه دليل على ذلك فتدبر. (ووجه ثان) من وجوه الأجوبة (أنّ قوله عليه الصلاة والسلام اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ) المجزوم به للتأكيد ولا للتهديد (لَكِنْ عَلَى مَعْنَى التَّسْوِيَةِ وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ شَرْطَهُ لَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ بَعْدَ بَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم لهم قبل) أي قبل ذلك والمعنى قبل قوله لها اشترطيه لهم (أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ فَكَأَنَّهُ قَالَ اشْتَرِطِي أو لا تشترطي) فحذفه يكون من باب الاكتفاء والمعنى وأن تَشْتَرِطِي (فَإِنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ نَافِعٍ، وَإِلَى هَذَا ذهب الدّاوديّ وغيره) من العلماء قاله الدلجي ويؤيده أنه قد ورد في بعض طرقه اشترطي أو لا تشترطي فإنما الولاء لمن أعتق وفيه بحث إذ المراد به أن الولاء لمن اعتق سواء اشترط عند شرائه الولاء لنفسه أو لم يشترط بأن اطلق الشراء وإنما الكلام فيما إذا لم يمرض البائع إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 بشرط الولاء لنفسه نعم يرد عليه إذا علم أن هذا الشرط باطل في الشريعة فأراد صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله لها اشترطي أن شرطك لا يضرك هنالك بل يضرهم ذلك (وتوبيخ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لهم وتقريعهم على ذلك) أي تصميمهم على شرطهم وامتناعهم من بيعها إلا أن يكون لهم الولاء (يدلّ على علمهم به) بأن شرطه لهم غير نافع (قبل هذا) التوبيخ والتقريع. (الوجه الثّالث) كأنه تفنن في العبارة (أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ أَيْ أظهري لهم حكمه) أي شريعته (وبيّني عندهم سنّته) أي طريقته وهو (أنّ الولاء إنّما هو لمن أعتق) وأن شرط لغيره فشرط الله تعالى أوثق وقضاؤه أحق؛ (ثمّ بعد هذا قام) أي هو كما في نسخة (صلى الله تعالى عليه وسلم) أي خطيبا واعظا (مبيّنا ذلك) لتعم الفائدة هنالك (وموبّخا) لهم (على مخالفة ما تقدّم منه فيه) وفي نسخة وموبخا على مخالفه بالإضافة هذا ومن قصة بريرة أنها لما أعتقت وهي منكوحة مغيث اختارت نفسها ولم تقبل شفاعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في زوجها فقد قيل إنما فعلت ذلك إيثارا لخدمة النبي عليه الصلاة والسلام على خدمة زوجها وهو حسن مستحسن وذكر الغزالي في الإحياء وجها آخر وهو أنه عليه الصلاة والسلام لبس يوما واحدا ثوبا من سندس ثم نزعه وحرم لبس الحرير وكأنه إنما لبسه أولا لتأكيد التحريم كما لبس خاتما من ذهب يوما ثم نزعه فحرم لبسه على الرجال وكما قال لعائشة رضي الله تعالى عنها في شأن بريرة اشترطي لأهلها الولاء فلما اشترطته صعد المنبر فحرمه وكما أباح المتعة ثلاثة أيام ثم حرمها لتأكيد أمر النكاح انتهى وفيه بحث لا يخفى إذ يقتضي هذا أن الاشتراط أولا كان حلالا ثم صار حراما فينبغي أن يكون العقد الأول بشرطه صحيحا وليس كذلك بل العقد صحيح والشرط باطل فرجع الإشكال بأن فيه غررا بظاهر الحال؛ (فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى فِعْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السّلام بأخيه) أي شقيقه بنيامين (إذ جعل السّقاية) أي الصاع الذي كان يسقي فيه ويكال به أيضا لعزة الغلة في وقته وقد قيل كانت من زبرجد أو من ذهب أو فضة مرصعة (في رحله) أي وسط متاع أخيه (وأخذه) أي وأخذ يوسف أخاه وحبسه عنده (باسم سرقتها) أي بعنوان سرقته السقاية (وما جرى على إخوته في ذلك) بعمومهم (وقوله تعالى) حكاية عن المنادي ومن معه خطابا لإخوة يوسف (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ [يوسف: 70] ولم يسرقوا) جملة حالية (فَاعْلَمْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أنّ فعل يوسف كان) صادرا (عن أمر الله لقوله تعالى كذلك) أي مثل ذلك الكيد (كِدْنا لِيُوسُفَ) أي بينا الكيد له بأن أوحينا إليه ليأخذ أخاه في دين أبيه لأنه أولى من حكم غيره وقيل الكيد هنا جزاء الكيد يعني كما فعلوا بيوسف في الابتداء فعلنا بهم حال الانتهاء حتى ضم يوسف أخاه إلى نفسه وحال بينه وبين إخوته (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ) فيضمه إلى نفسه في مثواه (فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي حكمه إذ كان من دينه ضرب السارق وتغريمه مثلي ما سرقه دون الاسترقاق (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [يوسف: 76] ) بأن يجعل ذلك الحكم حكم ملك مصر فالاستثناء من أعم الأحوال ويجوز أن يكون منقطعا أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه (الآية) أي نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ والحاصل أن يوسف لم يكن ليتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك وهو ما أجري على ألسنة الأخوة أن جزاء السراق الاسترقاق فحصل مراد يوسف بمشيئة الخلاق (فإذا كان) الأمر (كذلك فلا اعتراض به) أي فيه هنالك (كان فيه ما فيه) بدل من قوله فلا اعتراض به جواب لا ذا أي والذي فيه هو أنه كيف يجوز أن يأمر الله تعالى به ولا يبعد أن يكون التقدير فإذا كان ذلك بإذن الله تعالى وتعليمه هنالك فلا اعتراض به على أي وجه كان فيه مما وقع فيه ثم رأيت الأنطاكي قال يعني أي شيء كان بعد أن يكون ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى لأن الملك ملكه وما فيه عبيده وإماؤه وللمالك أن يتصرف في ملكه ما يشاء، (وأيضا) يمكن أن يقال في دفع الإشكال (فَإِنَّ يُوسُفَ كَانَ أَعْلَمَ أَخَاهُ بِأَنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ) أي لا تحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا بخير وتفضل علينا ونعم ما قيل: كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي وروي أنه قال ليوسف بعد ما اعلمه أنا أخوك فأنا لا أفارقك فقال لقد علمت اغتمام والدي بي فإذا حبستك ازداد غمه ثم لا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل في حقك فقال لا أبالي فافعل ما بدا لك فإني أدس صاعي في رحلك ثم يقال إنك سرقته ليتأتى لي ردك إلي بعد تسريحك معهم قال فأفعل ولله در القائل: فليس لي في سواك حظ ... فكيف ما شئت فاختبرني (فَكَانَ مَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا مِنْ وفقه) أي وفق مرافقته وفي نسخة وفقته (ورغبته) أي ميله في إقامته (وعلى) أي وكان على (يقين من عقبى الخير له به) أي لبنيامين بسبب يوسف (وإزاحة السّوء) بضم السين وفتحها والإزاحة بالزاء أي إزالة الشر (والمضّرة عنه بذلك) التوفيق؛ (وأمّا قوله سبحانه وتعالى) حكاية (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي أصحاب الإبل ذات الاحمال من الطعام والأثقال (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ [يوسف: 70] ) أي في ظننا (فليس من قول يوسف) بل من مناديه (فيلزم) أي فلا يلزم (عليه جواب يحلّ شبهه) أي يزيلها وفي نسخة لحل شبهه أي لفك عقده (ولعلّ قائله إن حسّن له التّأويل) بصيغة المجهول مشدد السين أي أن صحح (كائنا من كان) أي بأمر يوسف أو غيره (ظنّ على صورة الحال ذلك) كما يقتضي المقال هنالك (وقد قيل قال ذلك) بأمر يوسف هنالك (لفعلهم قبل) أي قبل ذلك (بيوسف) فإنه كان سرقه في المعنى من أبيه ومكيدة في حق ابنه (وبيعهم له) حيث قال تعالى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ أي باعه إخوته أو اشتراه السيارة من إخوته قولان للمفسرين وقد أغرب الدلجي حيث قال بعد قوله وبيعهم له وفيه ما فيه لأنهم لم يسرقوا بل ذهبوا به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 بإذن أبيهم ولم يبيعوه بل ألقوه في غيابة الجب ورجعوا (وقيل غير هذا) من الأجوبة وفيما ذكرنا الكفاية (ولا يلزم أن نقوّل الأنبياء) بتشديد الواو المكسورة أي ننسب إليهم (مَا لَمْ يَأْتِ أَنَّهُمْ قَالُوهُ حَتَّى يُطْلَبَ الخلاص منه) وإنما يطلب الخلاص مما ثبت أنه قولهم أو فعلهم وفي أصل الأنطاكي ضبط يقول بالبناء للمجهول (ولا يلزم الاعتذار عن زلّات غيرهم) ولو كانوا من أقاربهم وكان الشيخ المصنف ذهب إلى أن إخوة يوسف ما وصلوا إلى مرتبة النبوة وقد تقدم ذكر الخلاف في هذه القضية فلا ينبغي الجزم لا بالإثبات ولا بالنفي كما هو طريق الحزم والله تعالى أعلم. فصل [فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي إِجْرَاءِ الْأَمْرَاضِ وشدتها عليه عليه الصلاة والسلام] (فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي إِجْرَاءِ الْأَمْرَاضِ) أي أنواع العلة (وشدّتها عليه) أي على نبينا (وعلى غيره من الأنبياء) الشامل للرسل وغيرهم (على جميعهم السّلام) والتحية والإكرام (وما الوجه) أي التوجيه الوجيه (فِيمَا ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَامْتِحَانِهِمْ) بأنواع العناء (فيما) وفي نسخة بما (امتحنوا به) من الضراء فصبروا كما شكروا على السراء (كأيّوب) وكانت تحته رحمة من نسل يعقوب وقضيته معروفة مشهورة وفي كتب التفسير وغيره مسطورة (ويعقوب) ابتلاء بفقد ولده وذهاب بصره (ودانيال) بكسر النون وكان عالما بتعبير الرؤيا حكي أنه دخل بلاد الغرب وقيل قبره بالسوس ويقال إنه نبي غير مرسل وكان في أيام بخت نصر وهو أكرم الناس عنده فحسدته المجوس فوشوا إليه وقالوا إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ولا يأكلون ذبيحتك فسألهم فقالوا أجل فأمر بخد فخدلهم قالوا فيه وهم ستة وألقى معهم سبع ضاري ليأكلهم ثم راحوا من الغد فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه لم يضرهم فآمن بخت نصر وقيل لم يؤمن والله سبحانه وتعالى أعلم (ويحيى) ابتلاه الله تعالى بذبحه (وزكريّا) ابتلاه الله تعالى بنشره (وعيسى) ابتلاه الله باليهود وكيدهم (وإبراهيم) ابتلاه الله تعالى بإلقائه في النار (ويوسف) ابتلاه الله تعالى بفراق أبيه وغيره (وغيرهم) من الأنبياء (صلوات الله عليهم) وفي نسخة على جميعهم (وهم) أي والحال أنهم (خيرته) بكسر الخاء وسكون الياء وتفتح أي مختاره (من خلقه وأحبّاؤه وأصفياؤه) اجتباهم من بينهم لشرف ما بهم وكرم مآبهم (فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تعالى كلّها عدل) كما ورد يا الله المحمود في كل فعاله (وكلماته) أي أحكامه (جميعها صدق) لا خلف في وعده ووعيده قال تعالى وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لأحكامه (يبتلي عباده) أي يمتحنهم بما أراده تارة بمنحهم وأخرى بمحنهم لقوله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (كما قال لهم) أي في ضمن غيرهم ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) من الشر والخير فتجازون وفق أعمالكم واختلاف أحوالكم والابتلاء من الله تعالى أن يظهر من العبد ما كان يعلم منه في الغيب (لِيَبْلُوَكُمْ) أي وقال خطابا عاما الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أي ليعاملكم معاملة الممتحن (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] ) أي أصوبه وأخلصه وقد ورد مرفوعا أحسن عقلا وأسرع إلى طاعة الله تعالى وأورع عن محارمه وقيل أكثركم ذكرا للموت واستعدادا لم بعده قبل الفوت وقيل أزهدكم في الدنيا وأجهدكم في العقبى وقال الله تعالى أيضا (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: 140] منكم) عطف على علة مقدرة أي نداول الأيام بين الأنام لتتعظوا وليعلم الله إيذانا بأن الحكمة فيه كثيرة وأن ما يصيب المؤمن من المصالح مما لا يعلمه غيره أو التقدير فعلنا ذلك ليتميز الثابتون على الإيمان من المنحرفين عنه وهم المنافقون أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ؛ (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أي لم يتعلق علمه سبحانه وتعالى بجهادكم (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142] ) بالنصب على إضمار ان والواو للجمع أي ولم يتعلق علمه بصبركم على اجتهادكم والقصد في أمثاله ليس إلى إثبات علمه ونفيه بل إلى إثبات المعلوم ونفيه على طريق البرهان في أمره فإن علمه تعالى إذا تعلق بشيء لزم وجوده كما أن عدم تعلقه به ينافي شهوده وقال أيضا (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد: 31] ) قرئ في السبعة بالنون والياء في الأفعال الثلاثة (فامتحانه) أي الله سبحانه وتعالى (إيّاهم) أي الأنبياء واتباعهم من الأولياء (بضروب المحن) وفنون البلاء والفتن (زيادة في مكانتهم) أي منزلتهم (ورفعة في درجاتهم) أي مراتبهم العالية حسا ورتبة (وأسباب لاستخراج حالات الصّبر) على البلاء والجهاد مع الأعداء (والرّضى) منهم بما قضى عليهم من السراء أو الضراء (والشّكر) على النعماء والآلاء (والتّسليم) في الأمور (والتّوكّل) في الصدور (والتّفويض) أي الاعتماد على رب العباد فيما أراد (والدّعاء) في البلاء والرخاء (والتّضرّع منهم) حال الاستدعاء والاستكفاء (وتأكيد) بالرفع وهو الظاهر وفي نسخة وتأكيدا (لبصائرهم في رحمة الممتحنين) بفتح الحاء (والشّفقة على المبتلين) بفتح اللام وهو كالتفسير لما قبله (وتذكرة) أي تنبيه وتبصرة (لغيرهم) من أممهم (وموعظة لسواهم ليتأسّوا) بتشديد السين أي ليقتدوا (فِي الْبَلَاءِ بِهِمْ وَيَتَسَلَّوْا فِي الْمِحَنِ بِمَا جرى عليهم ويقتدوا بهم في الصّبر) على الأحوال كلها فإنه كما قيل: هو المهرب المنجي لمن أحدقت به ... مكاره دهر ليس عنهن مذهب (ومحو) بالرفع وفي نسخة ومحوا أي سبب عفو (لهنات) بفتح هاء وتخفيف نون أي زلات (فرطت منهم) أي صدرت عنهم وقد قال الشراح أن نسبة الهنات وهي الخصال السوء لا تليق إلى الأنبياء وإن ذكره المصنف فلكل عالم هفوة (أو غفلات سلفت لهم) أي سبقت منهم (ليلقوا الله طيّبين مهذّبين) ظاهرا وباطنا مؤدبين (وليكون أجرهم أكمل) أي أكثر وأجمل (وثوابهم أوقر وأجزل) أي أتم وأعظم والله اعلم. (حدّثنا القاضي أبو عليّ الحافظ) أي ابن سكرة (حدّثنا أبو الحسين) بالتصغير هو الصحيح (الصّيرفيّ وأبو الفضل بن خيرون) بفتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 فسكون فضم يصرف ولا يصرف (قالا) أي كلاهما (حدّثنا أبو يعلى البغداديّ) بدال المهملة ثم معجمة هو الرواية المعتمدة من الوجوه الأربعة المحتملة (قال حدّثنا أبو عليّ السّنجيّ) بكسر أوله (حدّثنا محمّد بن محبوب) وهو راوي جامع الترمذي عنه (حدّثنا أبو عيسى التّرمذيّ) صاحب الجامع (حدّثنا قتيبة) أي ابن سعيد (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بهدلة) بسكون بين فتحتين أوله موحدة قيل هي أمه واسم أبيه عبد وهو أبو بكر بن عاصم بن أبي النجم وبهدلة مولى بني أسد أحد القراء السبعة قرأ على السلمي وذر وحدث عنهما وعن جماعة وعنه شعبة والحمادان والسفيانان ثبت إمام في القراآت قال الذهبي هو حسن الحديث قال وقال أبو زرعة وأحمد ثقة أخرج له البخاري ومسلم مقرونا لا أصلا وأخرج له الأئمة الأربعة فلا يلتفت إلى ما قال يحيى القطان ما وجدت رجلا اسمه عاصم إلا وجدته رديء الحفظ فإنه منقوض بالإمام عاصم هذا فإنه حافظ الكتاب والسنة مات بالكوفة سنة ثمان أو سبع وعشرين ومائة (عن مصعب بن سعد) كنيته أبو زرارة روى عن علي وطلحة ثقة نزل الكوفة وأخرج له الأئمة الستة (عن أبيه) وهو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة (قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ) أي الأشبه فالأشبه من العلماء والأصفياء والأفضل فالأفضل من الصلحاء والأولياء (يبتلى الرّجل على حسب دينه) بفتح السين أي على قدر يقينه (فما يبرح) أي فما يزال (البلاء) متعلقا (بالعبد) يطهره من الذنوب (حتّى يتركه يمشي على الأرض) أي ماشيا عليها (وما عليه خطيئة) ينسب إليها ويؤاخذ لديها والحديث رواه الترمذي وقال حسن صحيح وروى النسائي وابن ماجه والحاكم نحوه؛ (وكما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ) وفي قراءة وكأين أي وكم (مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ) وفي قراءة قاتل (مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران: 146] ) واحدها ربي أي جماعات كثيرة ويقال هم سادات كبيرة والربى منسوب إلى الربة أي الجماعة وجمع للمبالغة وقيل منسوب إلى الرب والكسر من تغييرات النسب أي علماء أو عابدون لربهم اتقياء (الآيات الثلاث) وهي وقوله فَما وَهَنُوا أي ما جنبوا وما فتروا وما انكسروا لما أصابهم في سبيل الله من قتل نبيهم أو بعض أكابرهم وَما ضَعُفُوا عن دينهم وما تغيروا عن يقينهم وَمَا اسْتَكانُوا ما خضعوا لأعدائهم وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ على بلائهم وأمر ربهم وطاعة نبيهم وما كان قولهم إلا أن قالوا أي إلا قولهم رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي سيئاتنا واسرافنا في أمرنا من التقصير في طاعتنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ في مجاهداتنا فآتاهم الله ثواب الدنيا من عزة ونصرة وغنيمة وحسن ثواب الآخرة من زيادة مثوبة رفعة ودرجة وعلو رتبة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ في كل حالة (وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) أي مرفوعا كما رواه الترمذي وصححه (مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وماله) يكفر عنه ذنوبه (حتّى يلقى الله تعالى) أي يموت (وما عليه خطيئة) يؤاخذ بها؛ (وعن أنس) كما رواه الترمذي أيضا وحسنه (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ) أي الكامل في العقبى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 (عجّل له العقوبة) أي بما يكون كفارة له (فِي الدُّنْيَا؛ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ) أي السوء الكامل في العقبى (أمسك عنه بذنبه) أي من غير أن يكفر بشيء يكون بسببه (حتّى يوافي) بكسر الفاء وفتحها أي حتى يأتي أو يؤتى (به) أي بذنبه وافيا والمعنى يجازى به (يوم القيامة) وسبب وروده أن رجلا اصاب ذنبا من قبله أو غيره فاتبع بصره الشخص فأصابه حائط في وجهه فأقبل وهو ينضح دما فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أراد الله تعالى الحديث (وفي حديث آخر) رواه الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا ابْتَلَاهُ لِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ) أي تذلله في أنينه وشكواه وخضوعه وبكاه (وحكى السّمرقنديّ) أي أبو الليث (أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تعالى كان بلاؤه أشدّ) من بلاء غيره (كي يتبيّن) أي ليظهر (فضله) على غيره (ويستوجب الثّواب) بقدره (كما روي عن لقمان) واختلف في نبوته (أنّه قال) لابنه واختلف في اسمه (يا بنيّ) بفتح الياء وكسرها لغتان وقراءتان (الذّهب والفضّة يختبران) بصيغة المجهول أن يمتحنان (بالنّار) فينظفان من وسخهما (والمؤمن يختبر بالبلاء) فيظهر من دنسه وخبثه، (وقد حكي أن ابتلاء يعقوب بيوسف) أي بفقده (كان سببه التفاته في صلاته إليه وهو) أي يوسف كما في نسخة (نائم) لديه (محبّة له) أي غيرة الهية عليه وأغرب الدلجي في قوله ولا أقول بأن هذا سببه لنزاهته عليه الصلاة والسلام عن قطعه به كمال إقباله على ربه فيها انتهى وغرابته لا تخفى وروي في سبب ابتلائه عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى أوحى إليه اتدري لم فرقت بينك وبين ولدك يوسف قال لا قال لقولك لإخوته أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لم خفت عليه الذئب ولم ترجني ولم نظرت إلى غفلة إخوته ولم تنظر إلى حفظي، (وقيل بل اجتمع) أي يعقوب (يوما هو وابنه يوسف) وأغرب الدلجي بقوله يوسف مفعول معه (على أكل حمل) بفتح المهملة والميم وهو الجزع من الضأن له سنة أو أقل (مشويّ وهما يضحكان) جملة حالية أي والحال أنهما منشرحان منبسطان (وَكَانَ لَهُمْ جَارٌ يَتِيمٌ فَشَمَّ رِيحَهُ وَاشْتَهَاهُ وَبَكَى وَبَكَتْ لَهُ جَدَّةٌ لَهُ عَجُوزٌ لِبُكَائِهِ) شفقة منها عليه (وَبَيْنَهُمَا جِدَارٌ وَلَا عِلْمَ عِنْدَ يَعْقُوبَ وَابْنِهِ) بجارهما ولعله وقع لتقصير يعقوب في تفحص حالهما في جميع أوقاته فاندفع اعتراض الدلجي على المصنف بأن الإنسان لا يؤاخذ بما لم يعلم سيما إذا لم يجب عليه (فعوقب) أي يعقوب كما في نسخة (بالبكاء أسفا) بفتحتين أي للحزن والتأسف (على يوسف) في جميع أوقاته (إِلَى أَنْ سَالَتْ حَدَقَتَاهُ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحزن) اعترض الدلجي بأن قوله وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ يدفع قوله سألت حدقتاه وهو وهم فاحش إذ الحدقة محركة سواد العين كما في القاموس (فلمّا علم بذلك) أي ببكائهما (كَانَ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي عَلَى سطحه) أي فوق بيته (ألا) للتنبيه (من كان مفطرا) فقيرا أو غنيا (فليتغدّ) بالدال المهملة المشددة من الغداء وهو طعام أول النهار ويؤيده قوله مفطرا قال الحلبي وفي النسخة المعتمدة بالذال المعجمة وهو أبلغ منه بالمهملة انتهى وفيه ما تقدم (عند آل يعقوب) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 أي بنيه وأهل بيته أو عنده نفسه وآل مقحم تفخيما لشأنه وهذا كقوله تعالى مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ (وعوقب يوسف بالمحنة) بنون بعد الحاء المهملة كذا ضبطوه احترازا عن تصحيفه بالمحبة بالموحدة (الّتي نصّ الله عليها) فيه إشكال إذ هو كان صغيرا دون البلوغ حينئذ لكن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ولعل هذا من الحكم المجهولة عندنا كإيلام الأطفال والله تعالى أعلم بالأحوال، (وروي عن اللّيث) أي ابن سعد (أَنَّ سَبَبَ بَلَاءِ أَيُّوبَ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ أَهْلِ قَرْيَتِهِ عَلَى مَلِكِهِمْ فَكَلَّمُوهُ فِي ظُلْمِهِ وَأَغْلَظُوا لَهُ إِلَّا أَيُّوبَ فَإِنَّهُ رَفَقَ بِهِ) بفتح الفاء من الرفق أي الطف معه في كلامه رجاء أن يرتدع عن ظلمه ولا مانع من أن يكون رفقه بِهِ (مَخَافَةً عَلَى زَرْعِهِ فَعَاقَبَهُ اللَّهُ بِبَلَائِهِ) وجملة الكلام في هذا المقام على تقدير صحة نقل هؤلاء الأعلام أن الله تعالى أن يبتلي من شاء بما شاء من العمل إذ لا يسأل عما يفعل؛ (ومحنة سليمان) أي وسبب بلائه (لما ذكرناه) فيما سبق (من نيّته) أي خطور طويته (في كون الحقّ في جنبة أصهاره) بفتح الجيم والنون أي جهة أصهاره كما في نسخة (أَوْ لِلْعَمَلِ بِالْمَعْصِيَةِ فِي دَارِهِ وَلَا عِلْمَ عنده) كما تقدم بيانه في أخباره (وهذه) أي الأمور المترتبة على المحنة والبلية من الكفارة في بعض القضية أو رفع الدرجة العلية وفي نسخة وهذا (فائدة شدّة المرض) من الحمى وغيرها (والوجع) من الصداع ونحوه (بالنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها) كما في الصحيحين (مَا رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدَّ مِنْهُ) أي من الوجع (على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ وعن عبد الله) كما رواه الشيخان وهو ابن مسعود فإنه المراد إذا أطلق عند المحدثين فلا وجه لقول الدلجي لعله ابن مسعود أو ابن عمر مع أنه لا وجه فيما حصره إذ يحتمل ابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن الزبير وغيرهم إذ في الصحابة من يقال له عبد الله كثير قال الحلبي عبد الله هذا هو ابن مسعود إنما نبهت عليه لأن في الصحابة من يقال له عبد الله فوق الأربعمائة وقال ابن الصلاح أنهم نحو مائتين وعشرين قيل وثلاثين وقيل هم ثلاثمائة وأربعة وستون وهذا الاختلاف في عددهم إنما وقع لأن منهم من كرر لاختلاف في اسم أبيه أو في اسمه هو ومنهم من لم يصحح له صحبة عند هذا وصحح له عند غيره والله تعالى اعلم أقول والأظهر أن يحمل على زيادة تتبع بعضهم (رأيت النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في مرضه يوعك) بصيغة المجهول (وعكا شديدا) بسكون العين المهملة وتحرك أي شدة الحمى وحدتها في وجعها (فقلت إنّك لتوعك وعكا شديدا؛ قال أجل) أي نعم (إنّي لأوعك) وفي نسخة أُوعَكُ (كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ، قُلْتُ ذَلِكَ أنّ لك) وفي نسخة أن ذلك (الأجر مرّتين قال أجل ذلك) الأمر (كذلك) والأظهر لذلك باللام أي أجل ذلك (وفي حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه) رواه ابن ماجه والحاكم (أنّ رجلا) يحتمل الراوي وغيره والأول أولى لرواية ابن ماجه أن أبا سعيد هو الذي وضع يده لكن لا يبعد أن يكون غيره أيضا (وضع يده على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) ليختبر حماه أشديدة هي أم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 خفيفة (فقال والله ما أطيق أضع) وفي نسخة أن أَضَعُ (يَدِي عَلَيْكَ مِنْ شِدَّةِ حُمَّاكَ فَقَالَ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إنّا معشر الأنبياء) بالنصب على الاختصاص أو المدح أي جماعتهم (يضاعف لنا البلاء) على مقدار ما لنا من الولاء (إن) مخففة من الثقيلة أي أنه أي الشأن (كان النبيّ) أي فرد من أفراد هذا الجنس (ليبتلى بالقمل حتّى يقتله) لكثرته وما ذاك إلا لرفعة النبي وعلو درجته (وإن كان النبيّ ليبتلى بالفقر) أي الجوع حتى يقتله (وإن كانوا) أي الأنبياء (ليفرحون بالبلاء كما يفرحون) أي أنتم (بالرّخاء) المتضمن للنعماء لقوة يقينهم في أمر دينهم وتسليم أمرهم عند حكم ربهم وفي العدول عن الغيبة إلى الخطاب إيماء إلى أنهم لا يفرحون بالرخاء وقد أورد المصنف في الباب الثاني من القسم الأول حديثا يقرب من معنى هذا الحديث وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال لَقَدْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي يُبْتَلَى أَحَدُهُمْ بِالْفَقْرِ والقمل وكان ذلك أحبه إليهم من العطاء إليكم (وعن أنس) كما رواه الترمذي وحسنه (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البلاء) بكسر العين وفتح الظاء ويجوز ضمها مع سكون الظاء أي فمن كان بلاؤه أكثر أو أكبر فجزاؤه أتم وأوفر (وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رضي) بالقضاء (فله الرّضى) من الله تعالى وجزيل الثواب وجميل المآب (ومن سخط) بكسر الخاء أي كره (فله السّخط) بفتحتين أي الغضب واليم العذاب ودوام الحجاب (وقال) وفي نسخة وَقَدْ قَالَ (الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النِّسَاءِ: 123] إِنَّ الْمُسْلِمَ يجزى بمصائب الدّنيا فتكون له كفّارة) حتى لا يعذب في العقبى، (وروي هذا) أي قول المفسرين وفي نسخة وروي مثل هذا (عن عائشة وأبيّ) أي ابن كعب (ومجاهد) كما رواه أحمد والحاكم عنهم ومثل هذا ما يقال بالرأي فهذا الموقوف في حكم المرفوع وقد ذكر البغوي في تفسيره بإسناده عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال كنت عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزلت عليه هذه الآية مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فقال عليه الصلاة والسلام يا أبا بكر ألا اقرئك آية انزلت علي قال قلت بلى يا رسول الله فاقرأنيها قال ولا اعلم أني وجدت انفصاما في ظهري حتى تمطيت لها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مالك يا أبا بكر فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوء وأنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فيجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله تعالى وليست لكم ذنوب وأما الآخرون فيجتمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين وقالوا يا رسول الله وأينا لم يعمل سوء غيرك فكيف الجزاء قال منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ومن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشره وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلب آحاده عشراته وأما ما كان جزآء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته فتلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة فيؤتى كل ذي فضل فضله وفي رواية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 عن أبي بكر حين نزلت الآية فمن ينجو مع هذا يا رسول الله قال لا تحزن أما تمرض وأما تصيبك اللأواء قال بلى يا رسول الله قال هو ذاك؛ (وقال أبو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام) كما في صحيح البخاري (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ) بضم أوله وكسر صاده ويفتح أي ينزل به مكروها ليثاب عليه (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم (فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المسلم) أي من الأمور المكروه (إلّا يكفّر) وفي نسخة إلا يكفر (الله تعالى بها عنه) أي ذنوبه (حتّى الشّوكة) بالحركات الثلاث والأظهر الجر على أن حتى عاطفة أو بمعنى إلى أو الرفع على أن الشوكة مبتدأ والخبر قوله (يشاكها) بضم الياء والضمير القائم مقام الفاعل عائد إلى المؤمن والتقدير يشاك المؤمن تلك الشوكة والمراد شوكة العضاة وأبعد التلمساني في تجويزه أن الشوكة ذات الجنب أي تصيبه فيمرض منها قال فعلى الأول غاية في الضعف وعلى الثاني غاية في القوة انتهى والأولى أولى كما لا يخفى (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في الصحيحين (في رواية أبي سعيد) أي الخدري (ما يصيب المؤمن من نصب) بفتحتين أي تعب (ولا وصب) بفتحتين أي وجع (ولا همّ) أي غم يذيب الإنسان (ولا حزن) بضم فسكون وبفتحتين أي غم فوت شيء (ولا أذّى ولا غمّ) يغم فؤاد صاحبه وقيل الهم من الأمر السابق والغم من اللاحق (حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا من خطاياه) أي بعض ذنوبه وقيل من زائدة (وفي حديث ابن مسعود) كما رواه الشيخان (ما من مسلم يصيبه أذّى) أي ما يتأذى به ولو قطع شراك نعل أو انطفاء سراج (إلّا حاتّ) بتشديد الفوقية من باب المغالبة أي أسقط (الله عنه خطاياه) وفي نسخة خطاياه (كما يحتّ) أي الله تعالى (ورق الشّجر) وفي نسخة بصيغة المجهول وفي نسخة تحات بصيغة الماضي من باب التفاعل وفي أخرى بصيغة المضارع على أنه حذف منه أحد التاءين وفي رواية تحاتت عنه ذنوبه أي تساقطت وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حمى يوم كفارة ثلاثين سنة (وحكمة أخرى) في إجراء الأمراض والبلاء على الأنبياء والأصفياء (أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الْأَمْرَاضِ لِأَجْسَامِهِمْ وَتَعَاقُبِ الْأَوْجَاعِ عليها) أي على أعضائها (وشدّتها) كمية وكيفية (عند مماتهم لتضعف قوى نفوسهم) في تعلقاتهم وفي نسخة قوى أنفسهم (فيسهل خروجها) أي انتقال أرواحهم (عند قبضهم) أي وفاتهم (فتخفّ عليهم مونة النّزع) أي ثقل نزع أرواحهم ومشقة إخراجها من أشباحهم (وشدّة السّكرات) وغلبة الغمرات (بتقدّم المرض وضعف الجسم والنّفس لذلك) أي لما تقدم من الحكمة هنالك وهذا (خلاف موت الفجأة) بفتح فسكون مقصورا ويضم ممدودا أي موت البغتة (وأخذه) بالغفلة وأن ورد في الحديث موت الفجأة للمؤمن وأخذة أسف للفاجر على ما رواه أحمد والبيهقي عن عائشة (كما يشاهد) بصيغة المجهول (من اختلاف أحوال الموتى) أي الذين على شرف الموت وقربه (في الشّدّة واللّين) أي الهينة (والصّعوبة وقد قال عليه الصلاة والسلام) كما في الصحيحين عن كعب بن مالك وجابر (مثل المؤمن مثل خامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 الزّرع) بالخاء المعجمة وتخفيف الميم أي طاقته للينة عطفها أو ضعفها (تفيّؤها) بضم أوله ففاء مفتوحة وتحتية مشددة مكسورة فهمزة مضمومة وأما قول التلمساني ووري تفئها بدون ياء فخطأ فاحش أي تحركها وتميلها (الرّيح) أي جنس الرياح (هكذا) مرة عن يمينها (وهكذا) مرة عن يسارها والمعنى تميلها من جانب إلى جانب (وفي رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) وفي نسخة لأبي هريرة كما في صحيح مسلم (من حيث أتتها الرّيح تكفؤها) بفتح الفاء وتكسر أي تقلبها (فإذا سكنت) أي الريح (اعتدلت) أي قامت الخامة على ساقها معتدلة غير مائلة، (وكذلك المؤمن يكفأ) بصيغة المجهول أي بقلب ويغير حاله (بالبلاء) عما كان عليه في النعماء؛ (ومثل الكافر) وفي معناه الفاجر (كمثل الأرزة) بسكون الراء وفتحها شجرة الأرز وهو خشب معروف وقيل الصنوبر وقال بعضهم الآرزة بوزن فاعلة ومعناها الثابتة في الأرض وأنكرها أبو عبيد كذا في النهاية (صمّاء) أي صلبة يابسة (معتدلة) أي مستوية ثابتة (حتّى يقصمه الله تعالى) بكسر الصاد بعد سكون القاف أي يكسره (ويهلكه) ويأخذه بغتة من غير تقدم بلية في غالب قضية وعن أنس رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى خلق عباده منهم صحيح وسقيم وغني وفقير فمنهم من لو أسقمه لأفسده ذلك ومنهم من لو أصحه لأفسده ذلك ومنهم من لو أغناه لأفسده ذلك ومنهم من لو أفقره لأفسده ذلك والله تعالى أعلم بمصالح عباده وفق مراده أقول وقد يستفاد هذا المعنى من قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً وفي الجملة كما ورد المؤمن مكفر على ما رواه الحاكم عن سعد (معناه) أي الحديث السابق (أنّ المؤمن مرزّء) بتشديد الزاء المفتوحة وفي نسخة بتخفيفها أي مبتلي بالرزايا (مصاب بالبلاء) أي بأنواع البلايا كموت أعزته وفوت أحبته (والأمراض) وفي معناها فقد الأغراض (راض بتصريفه) أي بتغيير أحواله وتغير آماله في حاله ومآله وجاهه وماله (بين أقدار الله تعالى) أي أنواع قضائه من بلائه ونعمائه (مطاع) وفي نسخة منطاع أي منقاد (لذلك) الذي أصيب به هنالك (ليّن الجانب) أي متواضع لربه متلبس (برضاه) وفق ما قدر له وقضاه (وقلّة سخطه) أي وعدم كراهته لبلواه (كطاعة خامة الزّرع وانقيادها للرّياح) حال تقبلها يمنة ويسرة في الصباح والرواح (وتمايلها لهبوبها) المختلفة في الشدة واللينة (وترنّحها) بنون مشددة مضمومة بعد راء مفتوحة أي دورانها في تغيير شأنها وعن يزيد الرقاشي المريض يرنح والعرق من جبينه يرشح (من حيث ما أتتها) أي جاءتها رياح البلايا والرزايا (فإذا أزاح الله تعالى) بالزاء أي أزال (عن المؤمن رياح البلايا) وأبدل منها رياح النعماء (واعتدل صحيحا) واستقام صريحا (كَمَا اعْتَدَلَتْ خَامَةُ الزَّرْعِ عِنْدَ سُكُونِ رِيَاحِ الجوّ) بفتح الجيم وتشديد الواو أي هواء جو السماء (رجع) المؤمن من مقام صبره (إِلَى شُكْرِ رَبِّهِ وَمَعْرِفَةِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ بِرَفْعِ بلائه) أي بدفع محنته (منتظرا رحمته وثوابه) أي مثوبته (عليه) أي على شكر ربه في حاليه، (فإذا كان) أي المؤمن (بهذه السّبيل) أي بهذه المثابة من تحمل توارد الرزايا وترادف البلايا (لم يصعب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 عليه مرض الموت ولا نزوله) أي حلوله وحصوله في وقت من أوقات الفوت (ولا اشتدّت) أي ولخفت (عليه سكراته ونزعه) حين صعبت غمراته (لعادته) أي تعوده (لما) وفي نسخة بما (تقدّم) وفي نسخة تقدمه (من الآلام) أي تحملها في ضمن الاسقام (ومعرفة ما له فيها من الأجر) أي الثواب التام يوم القيام (وتوطينه) أي ولتثبيته وتمكينه (نفسه على المصائب) أي إصابتها (ورقّتها وضعفها بتوالي المرض) ولو مع خفته (أو شدّته) وإن لم يتوال في مدته (والكافر) أي شأنه وحاله (بخلاف هذا) المؤمن في حاله ومآله (فهو) وكذا الفاجر (مُعَافًى فِي غَالِبِ حَالِهِ مُمَتَّعٌ بِصِحَّةِ جِسْمِهِ) وكثرة ماله وسعة مناله (كالأرزة الصّماء) أي الشجرة القوية (حتّى إذا أراد الله هلاكه قصمه) أي كسره وأهلكه (لحينه) بكسر الحاء أي في وقته فورا (على غرّة) بكسر غين وتشديد راء أي على حين غرور وغفلة (وأخذه) أي أماته (بغتة) أي فجأة (من غير لطف ولا رفق) بل بعنف وشدة تضرب الملائكة وجهه ودبره بسياط من نار (فكان موته أشدّ عليه حسرة) أي تأسفا وكآبة (ومقاساة نزعه) أي معاناة خروج روحه (مَعَ قُوَّةِ نَفْسِهِ وَصِحَّةِ جِسْمِهِ أَشَدَّ أَلَمًا وعذابا) عند قبضه (ولعذاب الآخرة أشدّ) أي أقوى (وأبقى) وفي نسخة زيد لو كانوا يعلمون أي لآمنوا (كانجعاف الأرزة) بالنون والجيم أي انقلاعها من أصلها وقال التلمساني وروي انخعاف بخاء معجمة أي ضعف واسترخاء (وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [الأعراف: 95] ) قبل ذلك أمارة وعلامة وقد ورد الحمى رائد الموت أي بريده ونذيره (وكذلك عادة الله تعالى في أعدائه) أي معهم خلاف عادته مع أحبائه (كما قال الله تعالى فَكُلًّا) من اعدائنا ممن كذب بأصفيائنا (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) بغتة فإذا هم مبلسون أي متحيرون آيسون (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي ريحا عاصفة تحصيهم كقوم لوط (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ [العنكبوت: 40] ) كثمود فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (الآية) أي وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كفرعون وقوم نوح وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، (ففجأ) أي ففاجأ الله (جميعهم) حيث أخذهم كلهم (بالموت على حال عتو) أي فرط تكبر وتجبر (وغفلة) عما خلقوا له من الموت والبعث في العاقبة (وصبّحهم به) بتشديد الموحدة أي جاءهم بالموت (على غير استعداد) حال كونه (بغتة ولهذا ما) كذا في نسخة فقيل هي زائده أو موصولة (كره عن السّلف موت الفجأة ومنه حديث إبراهيم) أي النخعي كما صرح به ابن الأثير في نهايته فلا وجه لقول الدلجي النخعي أو التيمي وكذا لقول غيره إنه ابن أدهم ولا يبعد التعدد والله اعلم (كانوا) أي الصحابة والتابعون (يكرهون أخذه كأخذة الأسف) رواه سعيد بن منصور في سننه وابن أبي الدنيا في ذكر الموت والأسف بفتحتين (أي الغضب) الموجب لكثرة التأسف وشدة التلهف وفي نسخة بكسر السين أي الغضبان المتأسف (يريد) أي إبراهيم وفي نسخة يريدون أي السلف بهذه الأخذة (موت الفجأة وحكمة ثالثة) في اعتراء أنواع البلاء على الأنبياء والأصفياء (أنّ الأمراض) أي كلها (نذير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 الممات) وفي نسخة نذير الموت أي منذر الموت ومخوف الوفاة كما ورد الحمى رائد الموت لأنها تنبئ عن قرب الفوت (وبقدر شدّتها) أي قوة الأمراض وقلتها (شدّة الخوف) أي خوف الفوت (من نزول الموت فيستعدّ) للموت (من أصابته) تلك الأمراض قبل الفوت (وعلم) أي المؤمن (تعاهدها له) أي تفقد الأمراض وتعاودها له استعداد تاما (لِلِقَاءِ رَبِّهِ وَيُعْرِضُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا الْكَثِيرَةِ الأنكاد) أي الكدورات وما أحسن قول ابن عطاء في حكمه ما دمت في هذه الدار لا تستغرب وقوع الأكدار (ويكون قلبه معلّقا بالمعاد) ويكون متهيئا لتحصيل الزاد ليوم التناد (فيتنصّل) من باب التفعل وفي نسخة فينتصل من باب الانفعال أي يتخلص وينفصل (من كلّ ما يخشى تباعته) بكسر أوله لا بفتحه كما وهم الحلبي بمعنى تبعته ومؤاخذته (من قبل الله تعالى) وهو أهون (وقبل العباد) وهو أقوى (ويؤدّي الحقوق) المتعلقة به جميعا (إلى أهلها) بقدر إمكان أدائها (وينظر) أي يتأمل (فيما يحتاج إليه من وصيّة) بما تركه إلى من يثق به (فيمن يخلّفه) بتشديد اللام المكسورة أي فيمن يعقبه إليه من ولد وعبد (أو أمر يعهده) إلى من يريده (وهذا نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم المغفور له) أي ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما في نسخة (قد طلب التّنصّل) أي التخلص (فِي مَرَضِهِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ) دينا أو قرضا (أو حقّ في بدن) يورث قصاصا أو أرشا (وأقاد من نفسه وما له) أي اعطى القود منهما مستحقه (وأمكن من القصاص منه) أي من نفسه (على ما ورد في حديث الفضل) أي ابن عمه العباس كما مر وفيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ضرب أعرابيا بعود كان بيده فقال يا رسول الله القصاص غير مريد له فكشف له عن بطنه فالتزمه تبركا به (وحديث الوفاة) كما تقدم والله تعالى اعلم (وأوصى بالثّقلين بعده: كتاب الله تعالى) بالجر بدل مما قبله ويجوز رفعه ونصبه (وعترته) بكسر أوله أي أقاربه وأهل بيته وسميا بالثقلين إما لثقلهما على نفوس كارهيهما أو لكثرة حقوقهما فهما شاقان أو لعظم قدرهما أو لشدة الأخذ بهما أو لثقلهما في الميزان من قبل ما أمر به فيهما أو لأن عمارة الدين بهما كما عمرت الدنيا بالإنس والجن المسميين بالثقلين في قوله تعالى سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ، (وبالأنصار عيبته) بفتح العين المهملة وسكون التحتية فباء موحدة أي لأنهم موضع سره وأمانته ومحل رعايته وعنايته وحراسته ووقايته كعيبة الثياب التي يضع الشخص فيها متاعه النفيس، (ودعا) أي أصحابه في مرض موته (إلى كتب كتاب) أي كتابة مكتوب (لئلّا تضلّ أمّته بعده) إذا عملوا بكتابته فاختلفوا في ذلك وتنازعوا هنالك فقال دعوني فإنه لا ينبغي التنازع عند نبي وذلك الكتاب (إمّا في النّصّ على الخلافة) وفيه أن الوصية بالخلافة لا تحتاج إلى أمر الكتابة مع أنه قد أشار إليه بنصب الإمامة (والله أعلم بمراده) مما خطر بباله نصيحة لخلق الله تعالى وعباده (ثمّ رأى الإمساك عنه أفضل وخيرا) من الكتابة وأجمل (وهكذا سيرة عباد الله تعالى المؤمنين وأوليائه المتّقين) من الابتلاء بأنواع البلاء المذكورة لحال الفناء المهيئة للاستعداد ليوم اللقاء في دار البقاء (وهكذا كله) أي ما ذكر من حال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 أنبيائه وأوليائه الأبرار (يحرمه) بصيغة المجهول أي يحرم منه (غالبا الكفّار) وكذا الفجار (لإملاء الله لهم) أي إمهالهم إلى انصرام آجالهم (ليزدادوا إثما) ويستزيدوا ظلما ليكون لهم عذاب مهين فيما اكتسبوا جرما (وليستدرجهم) أي ليستدينهم الله درجة درجة في مراتبهم إلى ما يهلكهم بأشد عقبهم (من حيث لا يعلمون) ما يراد بهم بتواتر نعمه سبحانه وتعالى عليهم منهمكين في غيهم وضلالتهم كلما جدد لهم نعمة زادوا في طغيانهم وعصيانهم ظنا منهم أن تواتر النعماء عليهم تقريب وإسعاد وإنما هو تطريد وإبعاد، (قال الله تعالى: ما يَنْظُرُونَ) أي ما ينتظرون (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) وهي النفخة الأولى (تَأْخُذُهُمْ) بغتة وتهلكهم فجأة غافلين عنها لا يخطر ببالهم أمرها (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) بفتح الخاء وكسرها واختلاسها أي والحال أنهم يختصمون في معاملاتهم وفي قراءة بسكون الخاء وكسر الصاد من خصم إذا اختصم وفي الحديث لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما يتبايعانه فلا يطويانه فلتقومن الساعة وقد رفع الرجل اكلته إلى فيه فلا يطعمها (فَلا يَسْتَطِيعُونَ أي حينئذ (تَوْصِيَةً) في أمرهم (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ مُحْضَرُونَ [يس: 49- 50] ) أي ولا يقدرون أن يرجعوا إلى قومهم بل يموتون فجأة كلهم (ولذلك) أي لكون موت الفجأة مذموما في الجملة (قال عليه الصلاة والسلام) كما رواه أبو يعلى وابن أبي الدنيا عن أنس (في رجل مات فجأة) أي في حقه (سبحان الله) تعجبا من شأنه (كأنّه على غضب) أي وقع على سبب غضب يقتضي موته كذلك (المحروم من حرم وصيّته) تلويح بالحث على الوصية لئلا يموت الواحد فجأة لحديث ما حق أمرئ يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده وكأنه عليه الصلاة والسلام كشف له أن الرجل كان واجبا عليه الوصية في شيء من الأحكام فلا ينافي ما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم خلافه كما بينه المصنف بقوله (وقال) أي النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث أحمد عن عائشة بسند صحيح (موت الفجّأة راحة للمؤمن وأخذة أسف) أي غضب (للكافر أو الفاجر) قال الدلجي شك من أحد رواته وأقول الأظهر إنه للتنويع والمراد بالفاجر المنافق أو الفاسق (وذلك) أي كون موت الفجأة مختلفا هنالك (أن الموت) وفي نسخة لأن الموت (يأتي المؤمن غالبا مستعدّ له) أي لوصوله (منتظر لحلوله) متهيئ لنزوله (فهان أمره) أي سهل (عليه كيفما جاء) حال حصوله (وأفضى) أي أوصله (إلى راحته من نصب الدّنيا وأذاها) أي تعبها وأذيتها (كما قال عليه الصلاة والسلام) فيما رواه الشيخان عن أبي قتادة حين مر بجنازة (مستريح) أي الميت مستريح (ومستراح منه) أي أو مستراح منه وفي نسخة يستريح ويستراح منه قيل من هما يا رسول الله قال أما المستريح فالمؤمن يموت فيستريح من تعب الدنيا وأما المستراح منه فالظالم يموت فيستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب قال النووي أما استراحة العباد منه فاندفاع اذاه عنهم واستراحة الدواب منه فكذلك لأنه يؤذيها بالضرب والإيجاع وتحميل ما لا تطيقه واستراحة البلاد والشجر لأنها تمنع القطر بمعصيته (وتأتي الكافر والفاجر) بالواو أي الفاسق أو الظالم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 (منيّته) بتشديد تحتية أي موته (على غير استعداد) لمعاد (ولا أهبة) بضم فسكون أي تهيئة زاد (ولا مقدّمات) بكسر الدال وتفتح أي مؤذنات سابقة ومخوفات لاحقة (منذرة) أي مخوفة (مزعجة) أي مقلقة محركة (بَلْ تَأْتِيهِمْ) المنية (بَغْتَةً) فجأة (فَتَبْهَتُهُمْ) أي تحيرهم وتدهشهم (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) أي صرفها (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون حينئذ وإن كانوا من قبله ليهملون (فَكَانَ الْمَوْتُ أَشَدَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَفِرَاقُ الدُّنْيَا أفظع) بالفاء والظاء المعجمة أي أهيب وأصعب وأشنع وأمر (أمر) لديه من حال (صدمه) أي أصابه مما هجمه (وأكره شيء له) أي أصعب شيء أرهقه وأصابه. (وإلى هذا المعنى أشار عليه الصلاة والسلام بقوله) كما في الصحيحين عن عبادة بن الصامت (من أحبّ لقاء الله) أي برؤية الله تعالى له عند موته ما أعده له في الجنة (أحبّ الله لقاءه) أي أراد مصيره إليه ومنحه ما لديه، (ومن كره لقاء الله تعالى) برؤيته له عند موته ما أعد له من سخطه وكما ورد في الحديث تفسيره بذلك (كره الله لقاءه) فلم يظفر بمطلوب ولم يظهر بمرغوب وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن اهل البيت ليتنافسون في الخير والمعروف فيدخلون الجنة كلهم حتى ما يفقدوا خادمهم وأن أهل البيت ليتنافسون في الشر فيدخلون النار كلهم حتى ما يفقدوا خادمهم وقد يقتبس هذا المعنى منطوقا ومفهوما من قوله تعالى جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وروى الترمذي عن سالم بن عمر قال لقيت عليا رضي الله تعالى عنه وهو منصرف من مسجد القبلتين فقال يا ابن عمر أني كنت آنفا عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرني بكلمات أخبر بهن جبريل عن الله عز وجل وأنا نخبرك بهن وأنت لذلك أهل أخبرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال قال جبريل عليه السلام ما من قوم يكونون في حبرة إلا ستتبعهم عبرة وكل نعيم زائل إلا نعيم الجنة وكل هم منقطع إلا هم أهل النار وإذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها سريعا وأكثر من صنائع المعروف توق مصارع السوء وما من عمل بعد الفرائض أحب إلى الله من إدخال السرور على المؤمن ثم قال دونكهن يا ابن عمر قال فشرح الله بهن صدري مرتين كذا ذكره التلمساني والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 الْقِسْمُ الرَّابِعُ (فِي تَصَرُّفِ وُجُوهِ الْأَحْكَامِ فِيمَنْ تنقّصه أو سبّه عليه الصلاة والسلام قال القاضي أبو الفضل رضي الله تعالى عنه) يعني المصنف (قَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَا يَجِبُ مِنَ الْحُقُوقِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي مجملا (وما يتعيّن له من بر) أي طاعة أو إحسان (وتوقير) أي تبجيل (وتعظيم وإكرام) وأمثال ذلك مفصلا (وبحسب هذا) بفتح السين أي على قدر ما يجب له ويتعين في حقه (حرّم الله تعالى أذاه في كتابه) وبين حرمته في فصل خطابه (وأجمعت الأمّة على قتل متنقّصه) بنوع من تحقيره خلاف ما يجب من توقيره (من المسلمين) بخلاف الكافرين (وسابّه) أي شاتمه بطريق الأولى في حقه ففي قاضيخان لو عاب الرجل النبي في شيء كان كافرا وكذا قال بعض العلماء لو قال لشعر النبي شعير فقد كفر وعن أبي حفص الكبير من عاب النبي بشعرة من شعراته الكريمة فقد كفر وذكر في الأصل أن شتم النبي كفر ولو قال جن النبي ذكر في نوادر الصلاة أنه كفر ويجوز أن يقال أغمي على النبي وهذا حكم المؤمن به وأما الكافر إذا تنقصه أو سبه قال بعضهم يقتل وقال بعضهم ينتقض عهده ويخرج من بلده فيبلغ مأمنه، (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) أي أبعدهم عن الرحمة (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً [الأحزاب: 57] ) وحجابا مبينا قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون فأما اليهود فقالوا عزير ابن الله ويد الله مغلولة وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وأما النصارى فقالوا المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وأما المشركون فقالوا الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه قال البغوي وروينا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال يقول الله يؤذيني ابن آدم بسبب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار وأما ايذاء الرسول فقال ابن عباس هو أنه شجّ في وجهه وكسرت رباعيته وقيل ساحر شاعر معلم مجنون (وقال وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 61] ) أي مؤلم بفتح اللام وكسرها وصدر الآية وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقالوا ما لا ينبغي فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا فقال الجلاس ابن سويد منهم بل نقول ما شئنا ثم نأتيه وننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا فإنما محمد أذن أي أذن سامعة فقال تعالى قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الآية (وقال تَعَالَى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) بنوع من الأذى لا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 حياته ولا بعد مماته (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) أي لا بعد وفاته ولا بعد فراقه لها دخل بها أم لا تعظيما لقدره وتفخيما لأمره (إِنَّ ذلِكُمْ) أي الأذى من قبلكم (كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] ) أي ذنبا جسيما في رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لئن قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأنكحن عائشة قال مقاتل بن سليمان هو طلحة بن عبيد الله فأخبر الله تعالى عز وجل أن ذلك محرك وروى معمر عن الزهري أن عالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تزوجت رجلا وولدت له وذلك قبل تحريم نكاح أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي تفسير البغوي أنه نزل فيمن اضمر نكاح عائشة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (وقال تعالى في تحريم التّعريض له) أي التلويح بما يسوؤه من غير التصريح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) فإنه أمر بالمراعاة في مقام التصريح لكنه متضمن لمعنى الرعونة في مقام التلويح (وَقُولُوا) أي بدله (انْظُرْنا) أي انظر إلينا وراقبنا أو انتظرنا وتأن بنا حتى نفهم كلامك ونعلم مرامك (وَاسْمَعُوا [البقرة: 104] ) أي سماع قبول (الآية) أي وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ وفيه وعيد شديد وتهديد أكيد؛ (وذلك) أي سبب نزول الآية هنالك (أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ رَاعِنَا يَا مُحَمَّدُ أي أرعنا سمعك) بفتح الهمزة وكسر العين والمعنى راعنا بسمعك وألقه إلينا (واسمع منّا) ولا تغفل عنا؛ (ويعرّضون) بتشديد الراء المسكورة أي ويلوحون (بالكلمة) التي هي سبة عندهم (يريدون الرّعونة) وهي بضم الراء الحماقة ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها فقال لليهود ولئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأضربن عنقه فقالوا أو لستم تقولونها (فنهى الله المؤمنين عن التّشبّه بهم) ولو في الصورة (وقطع الذّريعة) أي الوسيلة وسد باب الفساد (بنهي المؤمنين عنها) أي عن كلمة راعنا (لِئَلَّا يَتَوَصَّلَ بِهَا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ إِلَى سَبِّهِ) أي طعنه (والاستهزاء به وقيل بل لما فيها) أي في كلمة راعنا (من مشاركة اللّفظ) أي المبنى ومشابهة المعنى (لِأَنَّهَا عِنْدَ الْيَهُودِ بِمَعْنَى اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ) دعاء عليه كما قال أخبارا عنهم من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين لو أنه قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبهذا تبين أنه ما يصح كون كلمة راعنا بمعنى اسمع بل يينهما مغايرة، (وقيل بل لما فيها) أي في كلمة راعنا (مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ وَعَدَمِ تَوْقِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم) أي تبجيله (وتعظيمه لأنّها في لغة الأنصار) وفي نسخة لغة النصارى ولا وجه للتقييد بأحدهما إذ هي على وفق اللغة الجادة فإن المراعاة مفاعلة من باب المغالبة فيكون (بمعنى ارعنا) بوصل همزة وفتح عين أمر من الرعاية (نرعك) أي حتى نرعاك فحذف الألف للجزم في جواب الأمر وحيث كان يؤذن بأن رعايتهم له مشروطة برعياته لهم (فنهوا عن ذلك إذ مضمنه) بفتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 الميم الثانية المشددة أي مضمونه (أَنَّهُمْ لَا يَرْعَوْنَهُ إِلَّا بِرِعَايَتِهِ لَهُمْ وَهُوَ عليه الصلاة والسلام واجب الرّعاية بكلّ حال) سواء راعاهم أو لم يراعهم (وهذا هو عليه الصلاة والسلام قد نهى) الحاضرين من أمته (عن التّكنّي بكنيته) وهي أبو القاسم إما بابنه القاسم وهو الظاهر أو كناه الله تعالى بذلك لقوله أنا قاسم بينكم وله كنية أخرى وهي أبو إبراهيم لابنه الآخر (فقال سمّوا) وفي نسخة تسموا (باسمي) أي محمد أو أحمد (ولا تكنّوا) من كنى مخففا أو مشددا وروي ولا تكتنوا (بكنيتي) بضم الكاف وبكسر وفيه إيماء إلى ان محط النهي هو الجمع بين الاسم والكنية لأنهما موجبان للشبهة (صيانة لنفسه) أي الكريمة كما في نسخة (وحماية عن أذاه) إذا أحد به غيره ناداه ولعل وجه النهي عن الكنية دون الاسم كونهم متأدبين معه حيث لا ينادونه باسمه لا سيما بعد نهيهم عنه بقوله تَعَالَى لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي لا تقولوا له يا محمد يا أحمد قولوا يا نبي الله يا رسول الله وأما ما ثبت من حديث أنس أن رجلا من أهل البادية قال يا محمد الحديث فلعله كان قبل النهي أو قبل بلوغه ونقل عن عز الدين بن عبد السلام أنه يجوز ذلك في الأدعية وكانوا ينادونه بالكنية لما فيه من نوع التعظيم في الجملة بحسب العرف والعادة ولما كان فيه شبهة المشاركة نهاهم عن ذلك ليكونوا متأدبين هنالك (إذ كان صلى الله تعالى عليه وسلم) كما رواه الشيخان عن أنس (استجاب) أي أجاب (لرجل نادى) غيره (يا أبا القاسم، فقال لم أعنك) بفتح فسكون فكسر أي لم أردك بهذا النداء، (إنّما دعوت هذا) واشار إلى رجل آخر وهو ابن القاسم الأنصاري مذكور في الصحابة، (فَنَهَى حِينَئِذٍ عَنِ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بإجابة دعوة غيره) وفي نسخة بإجابة دعوته غيره الصادرة (لِمَنْ لَمْ يَدْعُهُ وَيَجِدُ بِذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُسْتَهْزِئُونَ ذريعة) أي وسيلة (إلى أذاه) أي أذيته (والإزراء به) أي الاستحقار بدعوته والانتقاص في حالته (فينادونه) قصدا له (فإذا التفت قالوا: إنّما أردنا هذا) الواقف ونحوه (لسواه) أي لغيره عليه الصلاة والسلام. (تعنيتا له) تفعيل من العنت بفتحتين وهو المشقة إدخالا للتعب عليه في أمره وتنقيصا لقدره (واستخفافا بحقّه على عادة المجّان) بضم الميم وفتح الجيم المشددة جمع الماجن وهو الذي لا يبالي بما صنع (والمستهزئين فحمى عليه الصلاة والسلام حمى أذاه) بفتح الحاء في الأول وكسره في الثاني أي صان حريم ساحته عن أذى يلحقه في حالته (بكلّ وجه) في شريعته وطريقته؛ (فحمل محقّقو العلماء نهيه عن هذا) أي التكني بكنيته (عَلَى مُدَّةِ حَيَّاتِهِ وَأَجَازُوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِارْتِفَاعِ العلّة) وهي ايذاؤه في تلك الحالة ولما سيأتي أيضا من الأدلة وقد أغرب الدلجي بقوله حملوا بلا دليل شرعي مع ترجيح ولا مرجح له وليس ارتفاع العلة بكاف في تجويزه بعدها مع صراحة عموم النهي المطلق عنه الشامل لما قبلها وما بعدها كيف وقد غير عمر في خلافته اسماء كثيرة من أولاد الصحابة ممن كان اسمه محمدا بغيره كاسم ابن أخيه غيره بعبد الرحمن مع أذنه صلى الله تعالى عليه وسلم في التسمية به فلأن يمنع من التكنية بكنيته مع النهي عنها أولى وممن منعه بها مطلقا الشافعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 انتهى وسيأتي الجواب عن تغيير عمر مع أنه بظاهره حجة عليه لأنه غير موافق لمذهبه وأما قول الشافعي ليس لأحد أن يكنى بأبي القاسم سواء كان اسمه محمدا أو لا لظاهر النهي فيرد عليه بأن الناس ما زالوا يكتنون به في سائر الأعصار من غير إنكار وذلك منهم بمنزلة الإجماع ولا تجتمع الأمة على الضلالة على ما قاله الأنطاكي وتبعه التلمساني، (وللنّاس في هذا الحديث مذاهب) أي كثيرة (ليس هذا موضعها) وسيأتي بعضها (وما) وفي نسخة والذي (ذكرناه) من تقييد النهي بحياته (هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى) عارضه الدلجي بقوله بل الصواب المنع مطلقا وقد سمعت الجواب محققا (أَنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ تَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَعَلَى سبيل النّدب والاستحباب لا على التّحريم) وتعقبه الدلجي بأن هذا دعوى مجردة عن البينة لصدوره على خلاف الأصل من أن نهيه إنما كان للإيذاء المؤذن بوجوب الكف عن التكني بها إذ الاصل حمل لفظ النهي على حقيقته من التحريم حتى يقوم ما يصرفه عنها انتهى واعلم إن أقول الذي هو فصل الخطاب في هذا الباب أن حديث تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي أخرجه البخاري ومسلم من رواية جماعة من الصحابة منهم جابر وأبو هريرة وغيرهما فقال الشافعي ليس لأحد أن يكتنى بأبي القاسم سواء كان اسمه محمدا أم لا قال الرافعي ومنهم من حمله على كراهية الجمع بين الاسم والكنية وجوز الإفراد قال ويشبه أن يكون هو الأظهر لأن الناس ما زالوا يكتنون به في سائر الأعصار من غير انكار قال النووي في الروضة وهذا التأويل والاستدلال ضعيف والأقرب مذهب مالك وهو جواز الكنى بأبي القاسم مطلقا لمن اسمه محمد ولغيره والنهي مختص بحياته عليه الصلاة والسلام لأن سبب النهي أن اليهود تكنوا به وكانوا ينادون يا أبا القاسم فإذا التفت الني صلى الله تعالى عليه وسلم قالوا لم نعنك إظهارا للإيذاء وقد زال ذلك المعنى وهذا نقله العزالي في الإحياء عن العلماء (ولذلك لم ينه عن اسمه لأنّه) أي الشأن (قَدْ كَانَ اللَّهُ مَنَعَ مِنْ نِدَائِهِ بِهِ) أي باسمه (بقوله: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ) أي نداءه باسمه (كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] ) بأسمائكم (وإنّما كان المسلمون يدعونه) أي ينادونه (يا رسول الله يا نبيّ الله وقد يدعونه) هو بصيغة الجمع على الصواب وروي يدعوه بالإفراد قيل ووجهه يدعوه الداعي (بكنيته) يعني (أبا القاسم) أو فيقولون أبا القاسم أي يا أبا القاسم وفي نسخة أبي القاسم فلا اشكال (بعضهم) بدل من ضمير يدعونه أو هو فاعل يدعوه على حقيقة الإفراد وليس بعضهم في نسخة (في بعض الأحوال) لما استقر عندهم من أن الدعاء بالكنية إشعار بالتعظيم والإجلال وذكر الحلبي عن بعض مشايخه أن قول النووي في الروضة ما ذكره الرافعي أنه ضعيف وكذا قوله في الاذكار أن فيه مخالفة لأصل الحديث فيه نظر لأن فيه موافقة لحديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الزبير عن جابر رفعه من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي ومن تكنى بكنيتي فلا يسمي باسمي قال الترمذي حسن غريب وقال البيهقي في شعب الإيمان بعد أن أخرجه هذا حديث صحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 وصححه ابن حبان وابن السكن وهو مذهب أبي حاتم وشذ آخرون فمنعوا التسمية باسم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جملة كيف ما كان حكاه المنذري قال وذهب آخرون إلى أن النهي في ذلك منسوخ انتهى وما ذكره المنذري من المنع عن التسمية باسمه عليه الصلاة والسلام حكاه النووي في شرح مسلم فقال التسمية بمحمد ممنوعة مطلقا سواء كان له كنية أم لا قال وجاء في حديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسمون أولادهم ثم يلعنونهم وهذا معنى قوله؛ (وقد روى أنس رضي الله عنه) كما رواه الحاكم والبزار وأبو يعلى بسند حسن (عنه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّسَمِّي باسمه وتنزيهه) أي تبعيد اسمه (عن ذلك) أي عن أن يتسمى به غيره (إذا لم يوقّر) أي لم يعظم حق تعظيمه، (فقال تسمّون أولادكم محمّدا ثمّ تلعنونهم) بتقدير الاستفهام الإنكاري أي التوبيخي ومحط الإنكار الجملة الثانية كقوله تعالى تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلى أهل الكوفة لا يسمّى أحد) بصيغة المجهول ويجوز كونه للفاعل (باسم النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) والمراد به محمد لأنه أشهر اسمائه أو الجنس ليشمل أحمد أيضا ويؤيده أنه في نسخة صحيحة باسمي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (حكاه أبو جعفر الطّبريّ) وهو محمد بن جرير؛ (وحكى محمّد بن سعد) كاتب الواقدي وصاحب الطبقات عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (أنّه) أي عمر رضي الله تعالى عنه (نظر إلى رجل) قيل هو ابن أخيه أو عبد الحميد بن زيد بن الخطاب (اسمه محمّد ورجل يسبّه) أي يشتمه (ويقول) أي له كما في نسخة (فعل الله بك يا محمّد وصنع) الله تعالى، (فقال عمر رضي الله تعالى عنه) عند ذلك (لِابْنِ أَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ لا أرى) لا نافية لا ألا منبهة كما تصحف على الدلجي أي لا أرضى (محمّدا عليه الصلاة والسلام يسبّ بك) أي في ضمن سبك أو بسبب سبك تصريحا (والله لا تدعى محمّدا ما دمت) أنا أو أنت (حيّا وسمّاه عبد الرحمن) ثم أرسل إلى نبي طلحة بن عبيد الله وهم سبعة أكبرهم وسيدهم اسمه محمد فأراد أن يغير اسمه فقال محمد بن طلحة فو الله يا أمير المؤمنين أن من سماني محمدا لمحمد عليه السلام فقال قوموا فلا سبيل إلى تغيير شيء سماه رسول الله وروي أن من الصحابة من اسمه محمد بضعة وثمانون أنسانا (وأراد أن يمنع لهذا) السبب وهو تنزيه الاسم عن السب (أَنْ يُسَمَّى أَحَدٌ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِكْرَامًا لَهُمْ بذلك) أي بتغيير اسمائهم هنالك (وغيّر أسماءهم) أي أسماء بعض من تسمى بأسماء الأنبياء وفي نسخة وغير اسماء جماعة تسموا بأسماء الأنبياء فقد روى ابن سعد قال دخل عبد الرحمن بن سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي على عمر وكان اسمه موسى فسماه عبد الرحمن وروي أن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان اسمه إبراهيم فسماه عبد الرحمن (وقال لا تسمّوا) أي أولادكم ويجوز أن يكون بفتح التاء والميم أي لا تتسموا (بأسماء الأنبياء ثمّ أمسك) أي عمر عن منعهم وفي شرح مسلم أن المذاهب في هذه المسألة ستة الأول النهي عن التكني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 بأبي القاسم مطلقا الثاني أنه خاص بحياته الثالث أنه محمول على الأدب الرابع إنما يحرم الجمع الخامس التسمي بقاسم السادس المنع من التسمي بمحمد، (والصّواب جواز هذا كلّه بعده عليه الصلاة والسلام بِدَلِيلِ إِطْبَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ سَمَّى جماعة منهم) أي من الصحابة (ابنه محمّدا) لقوله عليه الصلاة والسلام تسموا باسمي (وكنّاه بأبي القاسم) كما يشير إليه قوله (وروي أنّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أذن في ذلك) أي في تسمية ولده محمدا وتكنينه بأبي القاسم (لعليّ رضي الله عنه) أذنا خاصا أو عاما فقد رواه أبو داود والترمذي من حديث محمد ابن الحنفية عن علي بلفظ قال أي علي يا رسول الله أرأيت أن ولد لي بعدك اسميه محمدا وأكنيه بكنيتك قال نعم ويروى أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي سيولد لك بعدي غلام وقد نحلته اسمي وكنيتي ولا يحل لأحد من أمتي بعده (وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنّ ذلك) أي مجموع محمد وأبي القاسم (اسم المهديّ) من أهل بيته في آخر الزمان (وكنيته) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن ابن مسعود بلفظ المهدي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه واسم أبي ولم يعرف من زاد الكنية في روايته (وقد سمّى به) أي باسمه محمد (النبيّ عليه الصلاة والسلام محمد بن طلحة) بن عبيد الله التميمي على ما تقدم قيل وكناه بكنيته وقد مسح رأسه وهو المعروف بالسجاد أمه حمنة بنت جحش أخت زينب قتل يوم الجمل مع أبيه سنة ست وثلاثين وكان هواه فيما ذكر مع علي بن أبي طالب وكان علي قد نهى عن قتله في ذلك اليوم وقال إياكم وصاحب البرنس ويروى أن عليا مر به وهو قتيل يوم الجمل فقال هذا السجاد ورب الكعبة هذا الذي قتله بره بأبيه يعني أن أباه أكرهه على الخروج في ذلك اليوم (ومحمد بن عمرو بن حزم) الأنصاري النجاري ولد سنة ست عشر بنجران وقيل بالحرة وكان فقيها قتل يوم الحرة سنة ثلاث وستين من الهجرة (ومحمد بن ثابت بن قيس) بن شماس الأنصاري الخزرجي المدني أتى به أبوه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تعالى فسماه محمدا وحنكه بريقه قتل يوم الحرة (وغير واحد) أي وكثيرا منهم سماه عليه الصلاة والسلام محمدا كمحمد بن خليفة قال الذهبي وكان اسمه عبد مناف ومحمد بن نبيط بن جابر ولد في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم هلال بن العلاء (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا ضَرَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ في بيته محمّد ومحمّدان) وفي نسخة صحيحة وثلاثة (وقد فصّلت الكلام) أي فيما بينت فيه المرام (في هذا القسم) أي الرابع من الكتاب (عَلَى بَابَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 الْبَابُ الْأَوَّلُ (فِي بَيَانِ مَا هُوَ فِي حقّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبٌّ أَوْ نَقْصٌ مِنْ تَعْرِيضٍ أو نصّ) أي تلويح أو تصريح من شتم أو ذم (اعلم) وفي نسخة فاعلم (وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ سَبَّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي شتمه (أو عابه) أي ذمه (أو ألحق به نقصا في نفسه) أي ذاته أو صفاته (أو نسبه) بفتحتين (أو دينه) أي شريعته وسيرته وحكوماته (أو خصلة من خصاله) أي حالة من حالاته أو كلمة من مقالاته سواء صرح به (أو عرض به) بتشديد الراء أي لوح فيه (أَوْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ لَهُ أو الإزراء عليه) أي احتقارا به واستخفافا بحقه (أو التّصغير لشأنه) أي الاحتقار لعظيم قدره (أو الغضّ منه) أي الخفض والنقص من أمره (والعيب له) في حكمه (فهو) بكل واحد مما ذكر (سَابٌّ لَهُ وَالْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ السَّابِّ يُقْتَلُ) أي إجمالا (كما نبيّنه) تفصيلا (وَلَا نَسْتَثْنِي فَصْلًا مِنْ فُصُولِ هَذَا الْبَابِ) أي نوعا من أنواع كلام الساب (على هذا المقصد) بكسر الصاد أي الذي قصدناه من صوب الصواب (ولا نمتري فيه) أي ولا نشك في قتل هذا الساب (تصريحا كان أو تلويحا) في هذا الباب إذ يستويان في الحكم عند أولي الألباب (وكذلك) بالطريق الأولى (من لعنه أو دعا عليه عليه السلام أو تمنّى مضرّة له) كانت تحصل لديه (أَوْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ) بكسر الصاد أي بمقامه الشريف ومكانه المنيف (على طريق الذّمّ) لعله احتراز من الخطأ أو السهو (أو عبث) بفتح العين المهملة وكسر الموحدة أي لعب ومزح أي خلط (في جهته العزيزة) أي جانبه الكريم وهو بزايين وفي نسخة بغين معجمة وراء ثم زاء الطبيعة (بسخف) بضم السين وسكون المعجمة أي برقة قبيحة (من الكلام وهجر) بضم فسكون أي فحش في المنطق (ومنكر من القول) أي تنكره الشريعة (وزور) أي كذب وافتراء أمر منحرف عن الحق (أو عيّره) بعين مهملة وتحتية مشددة أي عابه (بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ) كالفقر والكسر وغيرهما (أو غمصه) بغين معجمة وصاد مهملة أي حقره (ببعض العوارض البشريّة الجائزة) جريانها (عليه المعهودة لديه) كالجوع والإغماء ونحوهما (وهذا) الذي ذكرناه (كلّه إجماع من العلماء) من المفسرين والمحدثين (وأئمّة الفتوى) من المجتهدين (من لدن الصّحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين إلى هلمّ جرّا) أي إلى يومنا وهلم جرا كما في نسخة وهو من الجر بمعنى السحب والمعنى استمر الإجماع واتصل من عصرهم إلى الآن وكذا إلى ما بعده من الزمان وانتصب جرا على المصدر والحال أو التمييز، (قال) القاضي (أبو بكر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 المنذر) محمد بن إبراهيم النيسابوري (أجمع عوّام أهل العلم) أي كلهم (عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم يقتل) صونا لقدره وتعظيما لأمره ونعم ما قيل من المبنى في هذه المعنى: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم (وممّن قال ذلك) أي القتل بسبه (مالك بن أنس) إمام المذهب (واللّيث) أي ابن سعد (وأحمد) أي ابن حنبل (وإسحاق) أي ابن راهويه (وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ رحمه الله) تعالى يعني المنصف (وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ المذكورين) من العلماء، (وبمثله) أي بمثل قول من ذكر بقتل من سبه لا بعدم قبول توبته كما وهم الدلجي إذ يرده قول المنصف لكنهم قالوا هي ردة (قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى) أي نصا منه (وأصحابه) وافقوا معه فيه (والثّوريّ) أي سفيان بن سعد (وأهل الكوفة) أي جميعهم (والأوزاعي) وهو إمام جليل أخذ عنه مالك والثوري (في المسلمين) وفي نسخة في المسلم احترازا ممن وقع له سب وهو من المعاهدين لاختلاف فيه على ما تقدم (لكنّهم قالوا) أي العلماء المتأخرون من أبي حنيفة ومن بعده في الذكر وإن كانوا هم المتقدمين في الرتبة والعمر (هي) أي سبه وأنثه باعتبار خبره وهي (ردّة) أي ارتداد وسيجيء بيان حكم المرتد من أنه يستتاب فإن أبى يقتل على الجواب الصواب (وروى مثله) أي مثل قول هؤلاء أنه ردة (الوليد بن مسلم) أحد الأعلام من أهل الشام مات سنة خمس وتسعين وروى ابن أبي مسلم والأول أصح (عن مالك) الإمام فيكون عنه روايتان (وحكى الطّبريّ مثله) أي مثل القول بأنه ردة (عن أبي حنيفة وأصحابه فيمن تنقّصه) بشيء ينقصه (صلى الله تعالى عليه وسلم أو برىء منه) أي تبرأ منه بأن قطع مودته ومحبته عليه الصلاة والسلام (أو كذّبه) في قول من أقواله (وَقَالَ سُحْنُونٌ فِيمَنْ سَبَّهُ ذَلِكَ رِدَّةٌ كَالزَّنْدَقَةِ) من الثنوية القائلين بتناسخ الأرواح ودوام الدهر والأشباح ذكره الدلجي تبعا للجوهري في صحاحه أن الزنديق من الثنوية وهو معرب والجمع الزنادقة وقد تزندق والاسم الزندقة انتهى وقال ابن قرقول الزنادقة من لا تعتقد ملة من الملل المعروفة ثم استعمل في كل من عطل الأديان وأنكر الشرائع وفيمن أظهر الإسلام وأسر غيره وقال الرافعي هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر والأصح عند الشافعية أنه الذي لا ينتحل دينا وقيل هو المباحي الذي لا يتدين بدين ولا ينتمي إلى شريعة ولا يؤمن بالبعث والنشور والزندقة بالفتح عقيدته (وعلى هذا) أي القول بكونه ردة مطلقة كالزندقة (وقع الخلاف في استتابته وتكفيره) أي خروجه من الإسلام إلى كفره لأنه لم يعرف له دين في أمره فلا يستتاب لعدم الاعتماد على تغيره (وهل قتله) أي بعد توبته (حدّ) أي سياسة (أو كفر) حقيقة (كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ الله تعالى) والحاصل أن الخلاف محصور فيما ذكرنا، (وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي اسْتِبَاحَةِ دَمِهِ بَيْنَ علماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 الأمصار وسلف الأئمة) من صلحاء الكبار (وقد ذكر غير واحد) أي كثير من الأخيار (الْإِجْمَاعَ عَلَى قَتْلِهِ وَتَكْفِيرِهِ وَأَشَارَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ وهو أبو محمد عليّ بن أحمد) أي ابن سعيد بن حزم اليزيدي القرطبي الظاهري (الفارسيّ) الأصل مات سنة سبع وخمسين وأربعمائة صاحب التصانيف وله كتاب نوادر الأخبار ويسمى بنقط العروس وكان شافعيا ثم صار مجتهدا ظاهريا وصنف كتبا كثيرة (إلى الخلاف في تكفير المستخف به) ولعله محمول على عدم تعمده (والمعروف ما قدّمناه) من تكفيره وقتله (قال محمد بن سحنون أجمع العلماء) أي علماء الأعصار في جميع الأمصار (على أنّ شاتم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم المتنقّص له) صفة كاشفة وكان الأولى أن يؤتى بعاطفة (كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله تعالى له) في الدارين (وحكمه) في الدنيا (عند الأمّة) أي جميع الأئمة (القتل ومن شك في كفره) في الدنيا (وعذابه) في العقبى (كفر) ولحق به وفي نسخة فقد كَفَرَ؛ (وَاحْتَجَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ الفقيه) بالرفع نعت لإبراهيم والمعنى استدل (في مثل هذا) أي تنقصه عليه الصلاة والسلام (بقتل خالد بن الوليد) أي ابن المغيرة (مالك) بالنصب على أنه مفعول قتل (ابن نويرة) بضم النون وفتح الواو وسكون التحتية وفتح الراء على أنه تصغير نار أو نورة وهو التميمي اليربوعي كان فارسا شاعرا مطاعا في قومه قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأسلم واستعمله عليه الصلاة والسلام على صدقات قومه بني يربوع (لقوله) أي لأجل قول ابن نويرة وفي نسخة بقوله أي بسبب نقله (عن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم صاحبكم) وسبب ذلك أنه منع الزكاة زمن أبي بكر رضي الله تعالى عنه فأرسل إليه خالد بن الوليد في منع الزكاة فقال مالك أنا آتي بالصلاة دون الزكاة فقال خالد أما علمت أن الصلاة والزكاة لا تقبل واحدة دون الأخرة فقال مالك قد كان صاحبكم يقول ذلك فقال خالد وما تراه لك صاحبا والله لقد هممت أن أضرب عنقك ثم تجادلا في الكلام فقال خالد إني قاتلك قال أو بذلك أمرك صاحبك قال وهذه بعد تلك وكان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري حاضرين فكلما خالدا في أمره فكره كلامهما فقال مالك يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا فقال خالد لا أقالني الله إن أقلتك فأمر ضرار بن الأزور بضرب عنقه فالتفت مالك إلى زوجته وكانت في غاية من الجمال فقال لخالد هذه هي التي قتلتني فقال خالد بل الله قتلك برجوعك عن الاسلام فقال مالك انا على الاسلام فقال خالد يا ضرار اضرب عنقه فضرب عنقه وجعل رأسه أثفية لقدره وقبض خالد امرأته قيل إنه اشتراها من الفيء وتزوجها وقيل إنها اعتدت بثلاث حيض وتزوج بها وقال ابن عمر وأبي قتادة احضر النكاح فأبيا وقال له ابن عمر نكتب إلى أبي بكر ونعلمه بأمرها وتتزوج بها فأبى وتزوجها ولما بلغ ذلك أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما قال عمر لأبي بكر أن خالدا قد زنى فارجمه قال ما كنت ارجمه أنه تأول فأخطأ قال فإنه قد قتل مسلما فاقتله قال ما كنت اقتله أنه تأول قال فأعز له قال ما كنت أعمد سيفا سله الله تعالى على المشركين وفي رواية لا أعزل واليا ولاه رسول الله صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 تعالى عليه وسلم وقد رثاه أخوه متمم بن نويرة بمراثي كثيرة وكان أعور ويبكي عليه حتى تبكي عينه العوراء وقد يكون قتله خالد بن الوليد مع أهل الردة حين قتل مسيلمة وغيره وقد اختلف في مالك هذا فقيل إنه قتل مسلما بسبب كلام سمعه خالد منه ويظن ظنه به وأنكر عليه أبو قتادة قتله وخالفه في ذلك وأقسم أنه لا يقاتل تحت رايته أبدا وقيل بل قتل كافرا وفي الروض للسهيلي أن مالك بن نويرة ارتد ثم رجع إلى الإسلام ولم يظهر ذلك لخالد في مقام الأحكام وشهد عنده رجلان من الصحابة برجوعه إلى الإسلام فلم يقبلهما انتهى ما ذكره التلمساني عن الحلبي والقضية غير صافية عما يرد عليه من بعض الإشكال والله تعالى أعلم بالأحوال فلا يصح احتجاج الفقيه بهذا مع وجود الاحتمال، (قال أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ إِذَا كَانَ مسلما) أي بخلاف ما إذا كان كافرا؛ (وقال ابن القاسم) المصري صاحب مالك (عن مالك في كتاب ابن سحنون) بالانصراف وعدمه (والمبسوط) أي وفيه وهو كتاب للمالكية (وفي العتبيّة) بضم فسكون فكسر فتشديد وهو كتاب آخر لهم (وحكاه) أي ما قاله ابن القاسم عن مالك (مطرّف عن) خاله (مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ مَنْ سَبَّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم من المسلمين قتل) أي حدا قولا واحدا (ولم يستتب) وهذا عندهم في قواعد المذهب؛ (وقال ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ مَنْ سَبَّهُ أَوْ شتمه أو عابه أو تنقصّه) أي احتقره (فإنّه يقتل) أي ولم يستتب (وحكمه عند الأئمّة) أي الجماعة الأئمة من المالكية (القتل كالزّنديق) عندهم من غير الاستتابة (وقد فرض الله تعالى له) علينا (توقيره وبرّه) أي طاعته لدينا كما قال تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ (وفي المبسوط عن عثمان بن كنانة) بكسر الكاف مات سنة ست وثمانين ومائة بعد وفات مالك بسنتين (من شتم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم من المسلمين قتل) أي ذبحا (أو صلب حيّا) أي وطعن أو ترك إلى أن يصير ميتا (ولم يستتب) أي ولم تقبل توبته على ما هو عندهم من المذهب، (وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي صَلْبِهِ حَيًّا أَوْ قَتْلِهِ) أي لا مرتب في حكمه، (ومن رواية أبي المصعب) بضم الميم وفتح العين وهو الزهري العوفي قاضي المدينة وعالمها سمع مالكا وغيره وعنه أصحاب الكتب الستة إلا النسائي فإنه بالواسطة (وابن أبي أويس) بفتح فسكون وهو ابن أخت مالك قالا (سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ شَتَمَهُ أَوْ عَابَهُ أَوْ تَنَقَّصَهُ قُتِلَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا وَلَا يستتاب) لأن حده القتل وإن تاب فهذه الرواية مطلقة بخلاف ما سبق من الروايات حيث كانت بالمسلمين مقيدة، (وفي كتاب محمد) أي ابن إبراهيم بن المواز (أنا) أي أخبرنا كما في نسخة (أصحاب مالك أنه) أي مالكا (قال: من سبّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ مسلم أو كافر قتل ولم يستتب) قال الدلجي بشهادة حديث من وقعة كعب بن الأشرف فإنه قد آذىّ الله ورسوله فقتله جماعة بإذنه عليه الصلاة والسلام فيحتاج من قال لا يقتل الكافر بسبه إلى الجواب عن هذا الحديث انتهى ولعل الجواب أن الكلام في الذمي لا الحربي والله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 اعلم بالصواب على أنه ليس فيه دلالة على أنه لم تقبل توبته إذا تاب؛ (وقال أصبغ) بفتح الهمزة والموحدة وآخره معجمة وهو ابن الفرج الفقيه المصري (يقتل) أي من سب نبينا (على كلّ حال أسرّ ذلك) أي أخفاه وثبت عليه بالبينة (أو أظهره) بإقراره (ولا يستتاب) أي لا تعرض عليه التوبة إذ لا تقبل توبته في الدنيا (لأنّ توبته لا تعرف) أي صحتها باطنا وفيه أنا نحكم بالظاهر والله تعالى اعلم بالضمائر كما في حق الكافر والفاجر، (وقال عبد الله بن عبد الحكم) فقيه المالكية بمصر يروي عن مالك والليث وثقه أبو زرعة (من سبّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من مسلم أو كافر) أي ولو ذميا وفيه خلاف (قتل ولم يستتب) أي كالزنديق عندهم (وحكى الطّبريّ مثله عن أشهب) أي ابن عبد العزيز المصري (عن مالك) صاحب المذهب؛ (وروى ابن وهب) وهو عبد الله المصري (عن مالك) وهو الإمام (مَنْ قَالَ إِنَّ رِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) أي مثلا وكذا حكم ازاره وسائر دثاره وشعاره وأعضائه وأبشاره (ويروى) أي بدل أن رداء (أن زرّ النبيّ) صلى الله تعالى عليه وسلم وهو وبكسر الزاء وتشديد الراء ما يشد به أطراف الحبيب (وسخّ) أي كان وسخا بفتح فكسر أي دنسا (أراد به عيبه قتل) أي نقصه وطعنه لا بيان الواقع في نفس أمره إذ ثبت في الشمائل أنه عليه الصلاة والسلام كان يكثر القناع حتى كان ثوبه ثوب زيات وأنه خطب الناس وعليه عصابة دسماء أي ملطخة بدسمومة شعره أو عرقه والدسماء في الأصل الوسخة وهي ضد النظيفة، (وقال بعض علمائنا) أي المالكية (أجمع العلماء) لعل المراد علماء المالكية فكان حقه أن يقول اتفق الْعُلَمَاءُ (عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَا عَلَى نَبِيٍّ من الأنبياء بالويل) أي الهلاك أو العذاب ونحوه (أو بشيء من المكروه) في حقه (أنّه يقتل بلا استتابة) أي من غير مطالبة بتوبة ولا التفات إلى قبولها (وأفتى أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة وهو المعافري القروي الحافظ (فيمن قال في النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الجمّال) أي أنه الجمال بفتح الجيم وتشديد الميم وفي نسخة بالحاء المهملمة (يتيم أبي طالب بالقتل لظهور استهانته) واستحقاره، (بذلك) أي بكونه يتيما بقرينة الجمال هنالك وإلا فهو في نفس الأمر كذلك وقد قال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى أي قد وجدك ولعل الجمع بين الوصفين مطابق للواقع في السؤال وإلا فكل واحد منهما يكفي في تكفير صاحب المقال (وأفتى أبو محمد بن أبي زيد) أي القيرواني (بقتل رجل سمع قوما) أي جمعا (يتذاكرون صفة النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّ بِهِمْ رَجُلٌ قَبِيحُ الوجه واللّحية فقال لهم) أي الذي أفتى ابن أبي زيد بقتله (تريدون تعرفون صفته) أي أتريدون أن تعرفوا صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (هي) أي صفته (صفة هذا المارّ) وفي نسخة هِيَ فِي صِفَةِ هَذَا الْمَارِّ (فِي خَلْقِهِ) أي خلقته في طلعته (ولجبته قال) أي ابن أبي زيد (ولا تقبل توبته) أي وإن تاب (وقد كذب لعنه الله) فإن شمائله معروفة بالحسن والجمال ونهاية الكمال وغاية الاعتدال في الأحوال (وليس يخرج) أي ولا يظهر ما قاله هذا القائل بالبهتان (مِنْ قَلْبٍ سَلِيمِ الْإِيمَانِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ صَاحِبُ سُحْنُونٍ مَنْ قَالَ إِنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كان أسود، يقتل) لأنه عليه الصلاة والسلام كان أبيض كأنما صيغ من فضة على ما رواه الترمذي في الشمائل عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وفي رواية مسلم والترمذي عن أبي الطفيل كان ابيض مليحا مقصدا وفي رواية البيهقي عن علي كان بياضه مشربا بحمرة وفي رواية الشيخين عن البراء كان أحسن الناس وجها وفي رواية مسلم عن أنس كان أزهر اللون هذا ولم يكن تكفير هذا القائل بكذبه إذا كان جاهلا بأمره وإنما يكفر بقصده استحقاره، (وقال) أي ابن أبي سليمان (في رجل قيل له) أي ردا لما قاله (لَا وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ؛ فَقَالَ فَعَلَ اللَّهُ بِرَسُولِ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا وَذَكَرَ كَلَامًا قَبِيحًا) أي لا ينبغي أن يذكر صريحا (فقيل له) إنكارا عليه (ما تقول يا عدوّ الله في حق رسول الله فقال أشدّ) أي كلاما أقبح (مِنْ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَرَدْتُ برسول الله العقرب) فإنه أرسل من عند الحق وسلط على الخلق تأويلا للرسالة العرفية بالإرادة اللغوية وهو مردود عند القواعد الشرعية (فقال ابن أبي سليمان للّذي سأله) أي استفتاه (اشهد عليه) أي اثبت الأمر لديه (وأنا شريكك) أي في الأجر المنسوب إليه؛ (يريد) أي ابن أبي سليمان مشاركته (في قتله وثواب ذلك) وأجر ما يترتب على ما هنالك. (قال حبيب بن الرّبيع) أي ابن يحيى بن حبيب القروي (لأنّ ادّعاء التّأويل في لفظ صراح) بضم أوله ويكسر مبالغة صريح كعجاب وعجيب ومعناه خالص لا لبس فيه ولا قرينة تنافيه فيكون دعوى مجردة خالية عن علامة (لا يقبل) أي ادعاؤه (لأنّه امتهان) أي احتقار له صلى الله تعالى عليه وسلم (وهو) أي والحال أن صاحب هذا القال (غير معزّر) بكسر الزاء قبل الراء أي غير مبجل (لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا موقّر له) أي ولا معظم لشأنه حيث غير وصفه الخاص به وأراد به حيوانا استحق مهانة (فوجب إباحة دمه) لتقصيره في توقيره وقد قال تعالى لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ؛ (وأفتى أبو عبد الله بن عتّاب) بتشديد الفوقية (في عشّار) أي مكاس في ظلم الناس (قال لرجل أدّ) بفتح همزة وتشديد دال مهملة مكسورة أمر من التأدية أي أعط (المكس واشك) بضم الكاف ويكسر أي وأظهر الشكوى (إلى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بأني أخذت منك والمعنى أني ما أبالي بإطلاعه على ذلك وكان العشار جار على ذلك الرجل في أخذ المكس فتضرر الرجل وقال اشكوك إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له ما قال (وقال) أي العشار أيضا بعد ذلك (إن سألت) أي طلبت المال (أو جهلت) بعض الحال (فقد جهل) أي النبي أيضا (وسأل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي من الله ما لم يعلم (بالقتل) متعلق بأفتى أي بقتله للكلام الذي صدر عنه من كمال جهله ويؤيده أنه روي عن مالك بن عتاهية قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إذا لقيتم عشارا فاقتلوه لأن الغالب عليهم أن يستحلوه ويقدموا أمر ملكهم على حكم نبيهم (وأفتى فقهاء الأندلس) بفتح الهمزة وضمها وفتح الدال وضم اللام (بقتل ابن حاتم المتفقّة الطّليطليّ) بضم الطاءين المهملتين وفتح اللام الأولى وسكون التحتية وكسر اللام الثانية بعدها ياء النسبة (وصلبه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 بفتح الصاد أي بجعله على جذع مع مد باعه (بما شهد عليه) بصيغة المجهول (بِهِ مِنَ اسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) ولعل تفسير قوله (وتسميته إيّاه أثناء مناظرته) أي في خلال مجادلته في علم الكلام ومباحثته (باليتيم) احتقارا له (وختن حيدرة) بفتحتين أي أبي فاطمة زوج علي فإن حيدرة بدال مهملة لقب علي كرم الله تعالى وجهه وهو اسم الاسد في أصله وكان اسم علي قبل ذلك أسدا سمته أمه فاطمة بنت أسد باسم أبيها في أول ولادته وأبوه غائب فلما قدم من غيبته سماه عليا إيماء إلى رفعته وقيل حيدرة لقب له لحدارته وشدة حرارته وفي صحيح مسلم من إنشاد علي حين بارز مرحبا يوم خيبر أنا الذي سمتني أمي حيدره (وزعمه) أي ظن ابن حاتم ووهمه (أنّ زهده لم يكن قصدا) أي اختيارا بل كان عجزا واضطرارا (ولو قدر) بفتح الدال ويكسر أي لو تمكن (على الطّيّبات أكلها) وهذا جهل منه بحاله عليه الصلاة والسلام وبكماله في هذا المقام حيث خير بين أن يكون نبيا ملكا وبين أن يكون نبيا عبدا فاختار الفقر وقال أجوع يوما فأصبر وأشبع يوما فأشكر ليكون مظهرا لنعت الجلال ووصف الجمال على أن اختيار الله لعبده خير من اختيار العبد لنفسه وقد أكل الطيبات بلا شبهة كما يشير إليه قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وإنما أراد الملعون الطعن في زهده والقدح في فقره مع أنه محل فخره تواضعا لربه وانكسارا في أمره (إلى أشباه لهذا) الاستخفاف والاستحقار في حقه مما يكفي أمر واحد منها في تكفيره وقتله، (وأفتى فقهاء القيروان) بفتح القاف والراء بلد معروف ومنهم أبو زيد (وأصحاب سحنون) بفتح السين وتضم ويصرف ولا يصرف (بقتل إبراهيم الفزاريّ) بفتح الفاء والزاء (وكان شاعرا متفنّنا) أي ماهرا (في كثير من العلوم) أدبية وعقلية لا شرعية ونقلية ولذا وقع في بلية جلية (وَكَانَ مِمَّنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْقَاضِي أَبِي الْعَبَّاسِ بن طالب للمناظرة) في العلوم والمباحثة (فرفعت) أي أثبتت (عليه أمور منكرة من هذا الباب) أي باب الاستخفاف بعلي الجناب (في الاستهزاء بالله) أي بكتابه وانبائه (وأنبيائه) في مقام إيحائه (ونبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) من عظمائه (فأحضر له) أي لأجل إبراهيم الفزاري (القاضي) وهو أبو العباس المذكور (يحيى ابن عمر وغيره) بالنصب على المفعولية (من الفقهاء وأمر) أي أبو العباس (بقتله وصلبه فطعن) بصيغة المجهول أي فضرب في بطنه (بالسّكّين) حتى هلك (وصلب منكّسا) رأسه لأسفل مدة (ثمّ أنزل) من صلبه (وأحرق بالنّار) في الدنيا قبل عذاب العقبى لزيادة السياسة، (وحكى بعض المؤرّخين أنه) أي إبراهيم الفزاري المصلوب بعد قتله (لمّا رفعت خشبته) التي صلب عليها (وزالت عنها الأيدي) الممدودة إليها (استدارت) أي الخشبة (وحوّله عن القبلة) أي عن جهة الكعبة إلى غيرها (فكان) تحويلها له عنها (آية للجميع) من الحاضرين (وكبّر النّاس) عليه من الأولين والآخرين؛ (وجاء كلب) في عقبة (فولغ) بفتح اللام وتكسر (في دمه) أي شرب بلسانه منه لعظم جرمه (فقال) أي القاضي (يَحْيَى بْنُ عُمَرَ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم وذكر حديثا عنه عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ لَا يَلِغُ الْكَلْبُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 دم مسلم) قال الحلبي يقال ولغ الكلب والسبع بفتح اللام في الماضي وبكسرها والظاهر أن اللام في المضارع مفتوحة في اللغتين انتهى وفي القاموس ولغ الكلب في الإناء وفي الشراب ومنه وبه يلغ كيهب وولغ كورث ووجل شرب ما فيه بأطراف لسانه انتهى ولا يخفى أنه إذا كان من باب ورث يقع مضارعه بكسر اللام كيرث فيجوز الوجهان والله تعالى أعلم هذا وقال الدلجي الحديث لا أعلم من رواه والظاهر أنه لا أصل له مع ما فيه من ركاكة التركيب انتهى ولا يخفى أنه لا ركاكة فيه من جهة المبنى لأن الولوغ يتعدى بفي ومن والباء على ما تقدم وأما من جهة المعنى فلعله استدل بثبوته على وقوعه في قضيته كما حكي عن العارف بالله محيي الدين بن عربي رحمه الله أنه قال بلغني عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه من قال لا إله إلا الله سبعين ألف مرة غفر له وكنت ذكرت هذا العدد وما عينته لأحد حتى اجتمعت في ضيافة مع شاب مشتهر بالمكاشفة فبكا أثناء أكله فسألته عن حاله فقال أرى أمي وأبي يعذبان فقلت في نفسي وهبت ثواب التهليل الجليل ليمت هذا الرجل الجميل فضحك فسألته فقال ارتفع عنهما العذاب فعرفت صحة الحديث بكشفه وصحة كشفه بثبوت الحديث وأصله (وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُرَابِطِ) بصيغة الفاعل وهو محمد بن خلف بن سعيد ابن وهب مات بعد الثمانين وأربعمائة (من قال إنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم هزم) بصيغة المجهول (يستتاب) يطلب منه رجعته (فإن تاب قبلت توبته وإلّا) أي وإن لم يتب (قتل) لما اقتضته ردته (لأنّه) أي قوله هزم (تنقّص) في مرتبته (إذ لا يجوز ذلك) أي وقوع هزيمته (عليه في خاصّته) أي خاصة نفسه كما في نسخة (عليه الصلاة والسلام) لبراءة ساحته من الهزيمة عن مقام طاعته (إِذْ هُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ وَيَقِينٍ من عصمته) ففي حديث مسلم عن أبي إسحاق قال رجل للبراء بن عازب يا أبا عمارة فررتم يوم حنين قال لا والله ما ولي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه وأحفادهم وهم حسر ليس عليهم سلاح أو سلاح كثير فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على بغلته البيضاء الحديث وكذا رواه البخاري وزاد عن أبي إسحاق قال البراء كنا إذا أحمر البأس نتقي به وأن الشجاع منا للذي يحاذيه أن يقابله عليه الصلاة والسلام وكذا روي عن علي كرم الله تعالى وجهه وأما خروجه عليه الصلاة والسلام من البلد الحرام فإنما كان بأمر الله سبحانه بالهجرة إلى دار السلام بل قيل أنه فرض عليه الجهاد ولو لم يوافقه أحد من العباد في البلاد كما يشير إليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ والله سبحانه وتعالى اعلم بالاسرار قال الحلبي وإذا كان قوله هزم تنقصا فينبغي أن يقتل حدا عندهم وإن تاب لأن هذا هو المعروف من مذهبهم ولعل هذا اختيار لابن المرابط، (وقال حبيب بن ربيع القرويّ) بفتح القاف والراء نسبة إلى القرية أو إلى القيروان على غير قياس (مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ مَنْ قَالَ فِيهِ أي في حقه عليه الصلاة والسلام ما فيه نقص) أي قدح وطعن (قُتِلَ دُونَ اسْتِتَابَةٍ؛ وَقَالَ ابْنُ عَتَّابٍ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُوجِبَانِ أَنَّ مَنْ قَصَدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأذى أو نقص معرضا) أي ملوحا (أو مصرحا وإن قلّ) الأذى وإن كثر بالأولى (فقتله واجب، فهذا الباب) أي باب ما يؤذي ذلك الجناب (كلّه ممّا عدّه العلماء سبّا) أي شتما وطعنا (ونقصا) أي قدحا وفي نسخة أو تنقصا أي إظهار نقص في كماله (يَجِبُ قَتْلُ قَائِلِهِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ متقدّمهم ولا متأخّرهم) أي من المالكية (وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ قَتْلِهِ عَلَى مَا أشرنا إليه) أنه هل يستفاد أو لا وهل إذا تاب يترك أو يقتل حدا أو لا يستتاب ويقتل كالزندق والله تعالى ولي التوفيق (ونبيّنه بعد) أي ننظر تفصيله بعد ذلك على وجه التحقيق ثم اعلم أن فصل الخطاب في هذا الباب أن هذا كله إذا صدر عنه تعمدا ولو هزلا بخلاف ما إذا جرى على لسانه سهوا أو خطأ أو إكراها لقوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وقد صرح قاضيخان من ائمتنا في فتاواه بأن الخاطئ إذا جرى على لسانه كلمة الكفر خطأ لم يكن ذلك كفرا عند الكل بخلاف الهازل لأنه يقول قصدا انتهى ثم إنه لا يعذر بالجهل عند عامة أهل العلم خلافا لبعضهم ثم اعلم أن المرتد يعرض عليه الإسلام عند علمائنا الإعلام على سبيل الندب دون الوجوب لأن الدعوة بلغته وهو قول مالك والشافعي وأحمد ويكشف عن شبهته فإن طلب أن يمهل في مدته حبس ثلاثة أيام لأنها مدة ضربت لأجل الأعذار فإن تاب قبل وإلا قتل وفي النوادر عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يستحب أي يمهل ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب وفي أصح قولي الشافعي أنه يستتاب في الحال وإلا قتل وهو اختيار ابن المنذر وقال الثوري يستتاب ما يرجى عوده وفي المبسوط من كتب مذهبنا أنه إن ارتد ثانيا وثالثا فكذلك يستتاب وهو قول أكثر أهل العلم ويشير إليه قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إلى أن قال وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا ويدل عليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة فإن الحكم في المعصية الصغرى والكبرى واحد فقد قال عليه الصلاة والسلام التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقال مالك وأحمد لا يستتاب من تكرر منه كالزنديق ولعلهم تعلقوا بظاهر قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأوله المحققون بكونهم لا يتوبون أو بكون توبتهم لا تكون إلا نفاقا لا لارتدادهم وزيادة كفرهم ولذلك لم يدخل الفاء في لن تقبل توبتهم فإن المبتدأ لا يكون سببا للخبر بل النفاق سبب له وقيل لن تقبل توبتهم إذا أشرفوا على الموت ففيه الحث على التوبة قبل الفوت وقيل نزل فيمن مات منهم كافرا كما بينه بعده بقوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية أو الآية السابقة مختصة بالزنديق والله ولي التوفيق ثم لنا في الزنديق روايتان رواية لا تقبل توبته كقول مالك وفي رواية تقبل وهو قول الشافعي وهذا في حق أحكام الدنيا وأما فيما بينه وبين الله تعالى فتقبل بلا خلاف وعن أبي يوسف إذا تكرر منه الارتداد يقتل من غير عرض الإسلام عليه لاستخفافه بالدين الواجب إكرامه إليه (وكذلك أقول حكم من غمصه) أي عابه (أو عيّره) بتشديد الياء أي احتقره (برعاية الغنم) أي برعيها بالأجرة وسيأتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 تفصيل هذه القصة (أو السّهو أو النّسيان) مع أنهما ثابتان عنه إلا أنه إنما يكفر لأجل التعيير وسبب التحقير (أو السّحر) أي بالسحر وهو ظاهر في الكفر أو (ما أصابه) أي وبما نابه (من جرح) بضم الجيم ويفتح أي جراحة مع أنه عليه الصلاة والسلام كسرت رباعيته وشج وجهه فكفر القائل إنما هو لتعييره به وتنقيصه بسببه وكذا قوله (أو هزيمة لبعض جيوشه) فإنه هزم بعض أصحابه في أحد وحنين (أَوْ أَذًى مِنْ عَدُوِّهِ أَوْ شِدَّةٍ مِنْ زمنه) أي على وجه التعيير به (أو بالميل إلى نسائه) ففي العالم في قوله تعالى أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس والحسن ومجاهد جماعة المراد بالناس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحده حسدوه على ما أحل الله له من النساء وقالوا ما له هم إلا النكاح قاله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً كداود وسليمان فإنه كان لسليمان ألف امرأة ثلاثمائة مهرية وسبعمائة سرية وكان لداود عليه السلام مائة امرأة ولم يكن يومئذ لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا تسع نسوة انتهى وقد صرح بعض علمائنا أن من تزوج أربعا وتسرى ألفا وعيره أحد وذمه به يكفر لأنه بمنزلة تحريم ما أحل الله سبحانه وتعالى (فَحُكْمُ هَذَا كُلِّهِ لِمَنْ قَصَدَ بِهِ نَقْصَهُ الْقَتْلُ وَقَدْ مَضَى مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذلك) أي من اختلافهم هنالك هل يستتاب أم لا (ويأتي ما يدلّ عليه) من الجواب على وجه الصواب. فصل (فِي الْحُجَّةِ فِي إِيجَابِ قَتْلِ مَنْ سَبَّهُ أو عابه صلى الله تعالى عليه وسلم) من الكتاب والسنة وإجماع الأمة (فمن القرآن لعنه تعالى) أي لعن الله كما في نسخة (لمؤذيه) أي لمؤذي نبيه (في الدّنيا والآخرة) ظرف لعنه (وقرانه تعالى) أي وجمعه سبحانه (أذاه) أي أذى رسول (بأذاه) أي بأذى نفسه (وَلَا خِلَافَ فِي قَتْلِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ) أي عمدا من غير خطأ واكراه وإنما الخلاف في أنه هل يستتاب أم لا (وأنّ اللّعن) أي الطرد الكلي من رحمة الله تعالى (إنّما يستوجبه من هو كافر) وأما ما ورد من لعن أصحاب الكبائر وأرباب الصغائر كقوله عليه الصلاة والسلام لعن الله آكل الربا ونحوه ولعن الله المحلل والمحلل له وأمثاله فهو لعن دون لعن والحاصل أن اللعن المطلق ينصرف إلى الفرد الاكمل وأغرب الدلجي في هذا المحل حيث قال بخلاف المؤمن فإن لعنه كقتله كما ورد وفي رواية لعنه فسوف إذ ليس الكلام فيمن لعن مؤمنا بل الكلام فيما إذا وقع لعن الله على أحد فإنه إن لم يكن مؤمنا فهو كافر وأما إذا وقع على مؤمن فالمراد زجره (وحكم الكافر القتل) إذ لم يكن معصوم الدم (فقال) أي اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] ) وقد سبق بيان أذاهما وقيل ذكر الله تعالى تعظيم وتمهيد لذكره عليه الصلاة والسلام (الآية) أي لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي أبعدهم من رحمته الخاصة فيهما وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً وحجابا مبينا (وقال) أي الله تعالى (في قاتل المؤمن مثل ذلك) أي نظير ما هنالك حيث قال تعالى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً لكن اللعن الموجب للكفر إنما يكون إذا استحل قتل المؤمن أو قتل لكونه مؤمنا وإلا فهو محمول على الزجر كما أن خالدا مأول بمدة مديدة (فمن لعنته في الدّنيا القتل) إما قصاصا وإما حدا (قال الله تَعَالَى) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك وشبهة والمرجفون في المدينة بالأخبار السيئة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لنسلطنك عليهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا أي زمانا قليلا فهددهم بالبعد عن حضرة حبيبه وعدم المجاورة في مكان قربه الموجب للبعد عن رحمته والطرد من جنته وهذا معنى قوله (مَلْعُونِينَ) بالنصب على الحال (أَيْنَما ثُقِفُوا) أي وجدوا وأدركوا (أُخِذُوا) أي أمسكوا (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب: 61] ) أي أشد أنواع القتل ليعتبر غيرهم ويقوموا بحق النبي كما يجب له توقيرا وتبجيلا (وقال) أي الله (في المحاربين) أي قطاع الطريق على سيارة المسلمين (وذكر عقوبتهم) بقوله إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أن اقتصروا على القتل أو يصلبوا أن جمعوا بين أخذ المال وقتل النفس أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أن اقتصروا على أخذ المال أو ينفقوا من الأرض بالإخراج أو الحبس إن اقتصروا على الإخافة (ذلِكَ) أي ما ذكر من قتل وغيره (لَهُمْ خِزْيٌ) أي ذل وفضيحة (فِي الدُّنْيا [المائدة: 33] ) وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وحاصله أن اللعن قد يجيء بمعنى القتل على أن صاحب اللعن يستحق القتل (وقد يقع القتل بمعنى اللّعن قال: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: 10] ) أي لعن الكذابون المقدرون المفترون (وقاتَلَهُمُ اللَّهُ) أي اليهود والنصارى وأمثالهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4] ) أي كيف يصرفون عن الحق مع ظهور أمره وعلو نوره (أي لعنهم الله تعالى) أي أبعدهم عن مقام حضوره (ولأنّه) أي الله تعالى (فرق بين أذاهما) والتقدير لأن الله سبحانه وتعالى فرق بين إذاهما أي أذى الله ورسوله بأن في اذاهما الكفر والقتل وفي أذى المؤمنين القتل والضرب بحسب اختلاف الأذى حيث قال تعالى وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (وفي أذى المؤمنين ما دون القتل) أي أن لم يكن الأذى بالقتل ونحوه مما يستحق القتل (من الضّرب والنّكال) أي العقوبة التي هي العبرة لغيره في الاستقبال (فكان حكم مؤذي الله ونبيّه) بخصوصه أو عموم جنسه (أشدّ من ذلك) أي من أذى المؤمنين (وهو) أي حكمه الأشد (القتل) لمؤذيهما والكفر في متنقصيهما (وقال لله تعالى فَلا أي فليس الأمر كما يزعمون (وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أي يجعلوك حكما (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65] ) أي فيما اختلفوا فيما بَيْنَهُمْ (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً الآية) أي ضيقا وشكا مما قضيت أي حكمت بينهم سواء لهم أو عليهم ويسلموا تسليما أي ينقادوا انقيادا تاما لحكمك ظاهرا وباطنا دائما (فسلب) أي نفي الله (اسْمَ الْإِيمَانِ عَمَّنْ وُجِدَ فِي صَدْرِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 حرجا من قضائه) بعدم انقياده (ولم يسلم له) أمره بإذعانه وفق مراده (ومن تنقّصه فقد ناقض هذا) أي عارض ما يجب عليه من أنه لم يجد من نفسه حرجا من قضائه كيف ما جاء واسعا أو ضيقا (وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) تعظيما لقدره وتكريما لأمره وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ (إلى قوله أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] ) ومن المعلوم أن مجرد رفع الصوت فوق صوته لا يبطل العمل فإن المعاصي سواء الكبائر والصغائر لا تبطل الحسنات عند أهل السنة والجماعة وإنما يبطلها الكفر وهو لا يكون إلا إذا تضمن وفع الصوت خفض حرمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واستخفاف منصبه وهذا معنى قوله (ولا يحبط العمل إلّا الكفر) بمجرد تحققه ولو رجع إلى الإسلام عند أكثر علماء الأعلام (والكافر يقتل) بالارتداد بعد استتابته أو بدونها على خلاف لأرباب الاجتهاد (وقال الله تعالى وَإِذا جاؤُكَ) أي اليهود والمنافقون (حَيَّوْكَ) أي سلموا عليك (بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [المجادلة: 8] ) أي بلفظ لم يأمر الله تعالى به فيقولون السام عليك والسام الموت ويقولون في أنفسهم أي في صدروهم أو فيما بينهم من حجورهم لولا يعذبنا الله بما نقول وأقول قد عذبهم الله تعالى بعين المقول وأن لم يدركوه بالعقول (ثمّ قال حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) أي كافيهم عذابها في العقبى ولو أمهلناهم لحكمة في الدنيا (يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها ويحرقون بها ويخلدون فيها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة: 8] ) أي المرجع هي لهم ولأمثالهم في مآلهم (وقال تعالى وَمِنْهُمُ) أي من المنافقين (الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التَّوْبَةِ: 61] ) بضمتين وبسكون ثانيه الجارحة المعروفة والمراد به هنا المستمع القائل لما يقول له كل أحد قال تعالى ردا عليهم قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي نعم هم اذن ولكن نعم الأذن هم يؤمن بالله أي بجوده ووجوده يؤمن للمؤمنين أي يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ورحمة للذين آمنوا خاصة وللخلق عامة (ثمّ قال: يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التَّوْبَةِ: 61] ) وعقاب مقيم (وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي المنافقين وهم سائرون معه في غزوة تبوك عن قولهم في حقه انظروا هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه بالتمام هيهات هيهات من هذا المرام (لَيَقُولُنَّ) في مقام الإنكار على وجه الاعتذار (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة: 65] ) فيما يخوض فيه الركب ليقصر السفر ويخف التعب قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا باعتذاراتكم الكاذبة (إلى قوله: قَدْ كَفَرْتُمْ سرا (بَعْدَ إِيمانِكُمْ [التوبة: 66] ) ظاهرا (قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ كَفَرْتُمْ بِقَوْلِكُمْ فِي رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم) ما لا يليق بجنابه المكرم (وأمّا الإجماع فقد ذكرناه) وهو أقوى الحجج في مقام النزاع (وأمّا الآثار) أي الأحاديث والأخبار (فَحَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ محمد بن غلبون) بفتح معجمة وسكون لام وهو منصرف وقد يمنع على مذهب أبي علي الفارسي كما قدمناه (عن الشّيخ أبي ذرّ الهرويّ) بفتح الهاء ويكسر (إِجَازَةً قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 الدّارقطنيّ وأبو عمر بن حيّويه) بمهملة مفتوحة وتشديد تحتية مضمومة فواو ساكنة فتحتية وفي نسخة حيوة بفتحتين بينهما ساكن وهو أبو عمر محمد بن زكريا الخزاز بزايين لعمله الخز (قالا) كلاهما (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بن محمّد بن الحسن بن زبالة) بفتح الزاء وتخفيف الموحدة المدني من أئمة الحديث ومصنفيهم قال ابن حبان يأتي عن المدنيين بالأشياء المعضلات فبطل الاحتجاج به ذكره الذهبي في الميزان على ما قاله الحلبي (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ) قال الحلبي يحتمل أن يكون هذا عبد الله بن موسى الهاشمي فإن كان هو يروي عن الحسن بن الطيب والبغوي وطبقتهما وعنه أبو محمد الخلال والتنوخي قال ابن أبي الفوارس فيه تساهل شديد وقال البرقاني أبو العباس الهاشمي ضعيف وله أصول رديئة وقال أبو الحسن بن الفرات ثقة مات سنة أربع وسبعين وثلاثمائة كذا ذكره الذهبي في الميزان فإن كان هذا هو فهو لم يدرك علي بن موسى يعرف ذلك بالنظر في تاريخ موتهما فيكون الحديث منقطعا قال وإن لم يكن هو فلا أعرفه والله أعلم (عن عليّ بن موسى) هو الرضى العلوي يروي عن أبيه وعمه وعنه أبو عثمان المازني وعبد السلام بن صالح وعدة مات بطرطوس سنة ثلاث ومائتين وله خمسون سنة أخرج له ابن ماجه فقط تكلموا فيه قال ابن طاهر يأتي عن أبيه بعجائب قال الذهبي إنما الشأن في ثبوت السند وإلا فالرجل قد كذب عليه ووضع عليه نسخة سائرة كما كذب على جده جعفر الصادق (عن أبيه) أبوه هو موسى بن جعفر بن محمد العلوي الكاظم روى عن أبيه وعبد الله بن دينار ولم يدركه وعنه ابنه علي الرضى وأخواه علي ومحمد وبنوه إبراهيم وإسماعيل وحسين وصالح قال أبو حاتم ثقة إمام توفي في حبس الرشيد ولد سنة ثمان وعشرين ومائة سنة ثالث وثمانين ومائة أخرج له الترمذي وابن ماجة وكان من الأجواد الحكماء ومن العباد الاتقاء وله مشهد معروف ببغداد وحديثه قليل جدا (عن جدّه) وهو جعفر بن محمد الصادق (عن محمّد بن عليّ بن الحسين) هو أبو جعفر البقر (عن أبيه) أي علي بن الحسين زين العابدين (عن الحسين بن عليّ) أي ابن طالب (عن أبيه) أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه ورضي عنه (أنّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا فَاقْتُلُوهُ ومن سبّ أصحابي فاضربوه) قال الحلبي الحديث هذا ليس في الكتب الستة قلت الحديث قد ساقه القاضي بسنده من طريق الدراقطني وهو إمام جليل من أهل السنة وقد رواه الطبراني في الكبير أيضا لكنه بسند ضعيف عن علي رضي الله تعالى عنه من سب الأنبياء قتل ومن سب أصحاب جلد ورواه أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ والناس أجمعين وروى أحمد والحاكم في مستدركه من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله تعالى وفي حاشية التلمساني عن علي رضي الله تعالى عنه قال لا أوتى بمن فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري. (وفي الحديث الصّحيح) الذي رواه البخاري وغيره (أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بقتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 كعب بن الأشرف) من يهود خيبر (وقوله) بالرفع عطف على أن النبي أي وفي الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام في أصل الدلجي وفي الحديث الصحيح أمر النبي بصيغة المصدر فقال وقوله عطف على أمر النبي (من لكعب بن الأشرف) أي من يتصدى لقتله (فإنّه) كما رواه الشيخان عن جابر (يؤذي) وفي رواية لهما آذى (الله ورسوله ووجّه) بتشديد الجيم أي أرسل (إليه من قتله) وهو محمد بن مسلمة وقد خرج معه سلمان بن سلامة وعباد ابن بشر والحارث بن أوس وأبو عيسى بن جبير وهؤلاء الخمسة كلهم من الأوس وكان خروجهم إليه لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا من مهاجرة عليه الصلاة والسلام (وكان قتله غيلة) بكسر المعجمة أي خفية ومخادعة وحيلة والقضية مشهورة وفي كتب السير مسطورة (دون دعوة) واستتابة لسبق الدعوة وعدم المنفعة (بخلاف غيره) أي غير كعب (من المشركين) فإن قتله كان بعد دعوته له إلى الإسلام رجاء أن يرجع إلى طريق دار السلام (وعلّل) أي النبي عليه الصلاة والسلام في قتله (بأذاه له) كما تقدم (فَدَلَّ أَنَّ قَتْلَهُ إِيَّاهُ لِغَيْرِ الْإِشْرَاكِ بَلْ للأذى) وفيه أن ذلك الأذى كان نوعا من الإشراك إذ لم يثبت له إيمان سابق وأذى لا حق ليكون دليلا على ما نحن فيه فإنه لعنه الله قد جمع بين الكفر بالله والقدح في أمر رسول الله فتقدير كلام المصنف لغير الإشراك وحده بل للأذى معه (وكذلك) أي ومثل ما قتل كعبا في الجملة (قتل أبا رافع) أي الأعور سلام بتخفيف اللام وقيل يتشديدها وهو ابن أبي الحقيق وكان يهوديا بخيبر قاله البخاري في صحيحه وزاد وقيل هو حصن بأرض الحجاز، (قال البراء) أي ابن عازب (وكان) أي أبو رافع (يؤذي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويعين) أي اعداءه (عليه) روي أنه استأذن نفر من الخزرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قتل أبي رافع فأذن فخرج خمسة نفر عبد الله بن عتيك ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة بن ربعي وخزاعي بن أسود وحليف لهم من اسلم وأمر عليهم ابن عتيك وذلك في شهر رمضان سنة ست (وكذلك أمره يوم الفتح) أي فتح مكة (بقتل ابن خطل) بفتح المعجمة والمهملة واختلف في اسمه رواه ابن أبي إسحاق والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عمرو بن حزم مرسلا ورواه الشيخان عن أنس بلفظ أمر بقتل ابن خطل وفي الترمذي وهو متعلق بأستار الكعبة واختلف في قاتله والظاهر اشتراكهم في قتله (وجاريتيه اللّتين كانتا تغنّيان بسبّه عليه الصلاة والسلام) وهما سارة وفرتنا بالفاء والتاء والنون وأسلمت فرتنا وأمنت سارة وعاشت إلى زمن عمر رضي الله تعالى عنه ثم وطئها فرس فقتلها ذكره السهيلي وقال أبو الفتح اليعمري وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحديهما واستأمنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الأخرى فأمنها فعاشت مدة ثم ماتت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام ذكره الحلبي فحيث ما صح قتلهما ولا قتل إحداهما لاختلاف وقع فيهما فلا يرد على أبي حنيفة أنه لم يحكم بقتل المرتدة مع أنهما لا يعرف إسلام سابق لهما وروى أبو داود والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص لما كان يوم فتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 مكة أمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس إلا أربعة وامرأتين ذكره الدلجي ولم يبين أنهما قتلا أم لا ولعلهما الجاريتان والله تعالى تعالى اعلم. (وفي حديث آخر) قال الدلجي لا أدري من رواه (أنّ رجلا كان يسبّه عليه الصلاة والسلام) قال الحلبي هذا الرجل لا أعرف اسمه وقال التلمساني هو الحويرث بن نغير وهو الذي نخس جمل زينب ابنته عليه الصلاة والسلام حين أدركها فسقطت من دابتها وألقت جنينها (فقال من يكفيني عدوّي) أي شره وفي أصل التلمساني يكفني على أن من شرطية قال وروي يكفيني بالرفع أي بإثبات الياء وهو إما على لغة الم يأتيك والأنبياء تنمي وقيل أشباع وقيل من موصولة فيها معنى الشرط (فَقَالَ خَالِدٌ أَنَا فَبَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِقَتْلِ جَمَاعَةٍ) وقد تصحف على الحلبي بقوله وكذلك لم يقل بضم المثناه تحت أوله ثم قاف مكسورة وهذا ظاهر انتهى وهو خطأ باهر كما لا يخفى وقد تبعه الأنطاكي والدلجي ضبطه بضم أوله وكسر ثانيه من أقال عثرته أي هلكته وتبعهما التلمساني في ضبط مبناه وقال معناه أنه لم يترك جماعة انتهى ولا يخفى أنه لم يثبت عن أحد من الجماعة أنه رجع ولم يقبل عليه الصلاة والسلام رجعته حتى يصح نفي الإقالة فتأمل ولا يغرك كثرة القائلين الغافلين بل أمر بقتل جماعة غير تائبة (مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَسُبُّهُ كَالنَّضْرِ بن الحارث) وهو القائل من كمال تعصبه في مذهبه وحماقته في مشربه اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وهو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري أخذ أسيرا ببدر وبالصفراء أمر عليه الصلاة والسلام عليا فقتله وهذا هو الصواب وأما ابن منده وأبو نعيم فغلطا فيه غلطين أحدهما أنهما قالا في نسبته كلدة بن علقمة وإنما هو بالعكس ذكره الزبير بن بكار وابن الكلبي وخلائق وثانيهما أنهما قالا إن النضر بن الحارث شهد حنينا معه عليه الصلاة والسلام وأعطاه مائة من الإبل وكان مسلما من المؤلفة وعزوا ذلك إلى ابن إسحاق وهذا غلط بإجماع أهل المغازي والسير وقد أطنب ابن الأثير في تعليقهما والرد عليهما انتهى وقد ذكر ذلك الشيخ محيي الدين عنه وكذا الذهبي في التجريد على ما قاله الحلبي والله سبحانه وتعالى أعلم (وعقبة بن أبي معيط) بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون التحتية وطاء مهملة وهو أبان بن ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي أسره عبد الله بن سلمة بكسر اللام ببدر فلما انصرف عليه الصلاة والسلام من بدر وكان بعرق الظبية أمر بقتله عاصم بن ثابت الأنصاري وقيل عليا فقال حين قتله من للصبية يا محمد قال النار أو قال إلى من الصبية يا محمد قال إلى النار (وعهد) أي وصى (بقتل جماعة منهم) أي ممن كان يؤذيه (قبل الفتح وبعده فقتلوا) أي من عهد بقتله (إِلَّا مَنْ بَادَرَ بِإِسْلَامِهِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ) مثل كعب بن زهير بن أبي سلمى بضم السين صاحب قصيدة بانت سعاد وقصته معروفة (وقد روى البزّار) بسند ضعيف (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي معيط نادى) بأعلى صوته (يا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 معاشر قريش) وروي يا معشر قريش وهم ولد النضر بن كنانة سموا قريشا باسم دابة في البحر تأكل حيوانه وقد قيل فيها: وقريش هي التي تسكن البح ... ر سميت قريش قريشا تأكل الغث والسمين ولا تتر ... ك يوما لذي جناحين ريشا (ما لي أقتل) بصيغة المجهول (من بينكم صبرا) أي محبوسا ومأخوذا من غير محاربة في المعركة (فقال له النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بكفرك) أي أولا (وافترائك على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) ثانيا إهانة له واحتقارا و (ذكر عبد الرزاق) في جامعه عن عكرمة مولى ابن عباس مرسلا (أنّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ رَجُلٌ فَقَالَ مَنْ يَكْفِينِي عدوّي) بدفع شره عني (فقال الزّبير: أنا، فبارزه) أي الزبير أو هو (فقتله الزّبير وروي أيضا) في جامعه عن عروة عن رجل من اليمن (أنّ امرأة كانت تسبّه عليه الصلاة والسلام فَقَالَ مَنْ يَكْفِينِي عَدُوَّتِي فَخَرَجَ إِلَيْهَا خَالِدُ بن الوليد فقتلها) وروى ابن أبي شيبة عن الشعبي أن رجلا من المسلمين كان يأوي إلى امرأة يهودية تطعمه وتسقيه وتحسن إليه ولا تزال تؤذيه في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقتلها في ليلة من الليالي خنقا فرفع ذلك له عليه الصلاة والسلام فأخبره الرجل بأنها كانت تؤذيه فيه وتسبه وتقع فيه فقتلتها لذلك فأهدر صلى الله تعالى عليه وسلم دمها؛ (وروي) كما في جامع عبد الرزاق (أَنَّ رَجُلًا كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ إِلَيْهِ لِيَقْتُلَاهُ) كذا روي مختصرا وروى البيهقي عن سعيد بن جبير قال جاء رجل إلى قرية من قرى الأنصار فقال إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمرني أن تزوجوني فلانة فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأرسل عليا والزبير فقال إذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه ولا اراكما تدركانه فذهبا فوجداه قد لدغته حية فقتلته ثم رواه من وجه آخر موصولا عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن الحارث وسمي الرجل الذي كذب جد جد الجندي كذا ذكره الدلجي وقال الحلبي هذا الرجل لا أعرف اسمه أقول من حفظ حجة على من لم يحفظ، (وروى ابن قانع) بقاف ونون وهو عبد الباقي بن قانع بن مرزوق بن واثق أبو الحسين الأموي (أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِيكَ قَوْلًا قَبِيحًا فَقَتَلْتُهُ فَلَمْ يشقّ ذلك) أي لم يصعب أمره (على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) قال الحلبي هذا الرجل وأبوه لا أعرفهما، (وبلغ المهاجر) بالنصب (ابن أبي أميّة أمير اليمن) نيابة (لأبي بكر رضي الله عنه) والمعنى وصله (أنّ امرأة) وفي نسخة بتشديد لام بلغ ورفع المهاجر أي أوصل لأبي بكر أن امرأة (هناك) أي في اليمن (في الرّدّة) أي في حالها أو لأجلها (غنّت) بتشديد النون أي تغنت وتنغمت (بسبّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فقطع) أي المهاجر (يدها) وفي نسخة يديها وفي نسخة ثدييها (ونزع ثنيّتها) وكان الأنسب قطع لسانها أو قمع وجودها وشأنها (فبلغ ذلك أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ لَوْلَا مَا فَعَلْتَ لَأَمَرْتُكَ بِقَتْلِهَا لِأَنَّ حدّ الأنبياء) أي تعزير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 تنقصهم (ليس يشبه الحدود) المترتبة على أسبابها بالنسبة إلى غيرهم فإن القتل متعين إلا في المرأة لاختلاف فيها والحديث رواه ابن سعد وابن عساكر والمهاجر هو ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي كان اسمه الوليد فكرهه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وسماه المهاجر وهو أخو أم سلمة أم المؤمنين أرسله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى اليمن إلى الحارث بن عبد كلال الحميري باليمن ثم استعمله على صدقات كندة فتوفي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يسر إليها فبعثه أبو بكر إلى قتال من باليمن من المرتدين فإذا فرغ سار إلى عمله فسار إلى ما أمره به أبو بكر وهو الذي فتح حصن النجير بحضرموت زمن أبي بكر مع زياد بن لبيد الأنصاري وله في قتال المرتدين باليمن آثار كثيرة رضي الله تعالى عنه (وعن ابن عباس) قال الدلجي لا أعرف من رواه (هجت امرأة من خطمة) بفتح معجمة وسكون مهملة قبيلة والمرأة عصماء بنت مروان بن أبي أمية بن زيد (النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فقال من لي بها) أي من يقوم لأجلي بقتلها (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهَا أَنَا يَا رَسُولَ الله فنهض) أي فقام (فقتلها) وهو عمير بن عدي بن خرشة الخطمي (فأخبر النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بصيغة المجهول (فقال عليه الصلاة والسلام لا ينتطح فيها عنزان) بفتح مهملة فسكون نون فزاء وهو تثنية عنز أي لا يجري فيها خلاف ولا نزاع كنطاح التيوس والكباش وهذا من الكلام الذي لم يسبق إليه أحد من الأنام وصار هذا مثلا في تحقير الأمر وأنه لا يكون فيه مكروه وإن قل أو معناه أن أمرها هين لا يتكلم فيها ولا يطلب دمها لفعلها القبيح الدال على كفرها الصريح أو معناه أنه لا يحصل في قتلها ما يثير فتنة من قبلها وإن أيسر الأشياء أن ينطح عنزان وهو في قتلها غير موجود وقيل العنزان لا ينتطحان وإنما ينتطح التيسان والمعنى لا توجد فيها فتنة البتة وروي أن قاتلها صلى الفجر بالمدينة بعد قتلها فقال عليه الصلاة والسلام قتلت ابنة مروان قال نعم فهل علي في ذلك شيء فقال عليه الصلاة والسلام لا ينتطح فيها عنزان وأرسلته العرب مثلا يضرب في أمر هين لا يكون له تعيير ولا نكير قال الحافظ وأول من تكلم به النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قاله حين قتل عمير بن عدي عصماء (وعن ابن عباس) كما رواه أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عنه (أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَسُبُّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فيزجرها) أي ينهاها الأعمى (فلا تنزجر) بقوله لها (فلمّا كانت ذات ليلة) أي ساعة من ساعاتها (جعلت) أي أخذت وشرعت (تقع في النبيّ) أي في عرضه (صلى الله تعالى عليه وسلم وتشتمه) بكسر العين وضمها أي تسبه كما في نسخة (فقتلها وأعلم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأهدر دمها) قال الحلبي وهذه المرأة وزوجها الأعمى لا أعرفهما الآن وفي الصحابة جماعة عميان غير أن الإمام السهيلي ذكر في أواخر روضه في مقتل عصماء بنت مروان قال وكانت تسب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقتلها بعلها على ذلك إلى أن قال ووقع في مصنف حماد ابن سلمة أنها كانت يهودية وكانت تطرح المخاط في مسجد بني خطمة فأهدر رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 صلى الله تعالى عليه وسلم دمها قال ولم ينتطح فيها عنزان انتهى وقد ذكر ابن سعد في سيرته أن عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد كانت عند يزيد بن فريد بن حصن الخطمي وكانت تعيب الإسلام وتؤذي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتحرض عليه الأنام وتقول الشعر فيه من نظم الكلام فجاءها عمير بن عدي في جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام ومنهم من ترضعه في صدرها فجسها بيده ونحى الصبي عنها ووضع سيفه على صدرها حتى انفذه من ظهرها وكان ضرير البصر إلى آخر القصة فعمير ليس بزوجها وزوجها يزيد بن فريد بن حصن صحابي ولا اعلمه في العميان؛ (وفي حديث أبي برزة) بفتح الموحدة فسكون راء فزاء (الأسلميّ) على ما رواه أبو داود وصححه الحاكم ورواه البيهقي في سننه (قال كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) رضي الله تعالى عنه (فغضب على رجل من المسلمين) أي ممن اغضبه عليه بسب أو بسبب آخر (وحكى القاضي إسماعيل) أي ابن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد المالكي البغدادي الحافظ (وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ) أي في سبب ورود حديث أبي برزة (أنه) أي الرجل (سبّ أبا بكر ورواه النّسائيّ) وهو أحد الأئمة الستة (أتيت أبا بكر وقد أغلظ لرجل) أي في القول (فردّ) أي الرجل (عليه) أي على أبي بكر (قال) أي قال أبو برزة (فقلت يا خليفة رسول الله دعني) أي اتركني (أضرب) بالجزم وقيل بالرفع (عنقه) أي بسبه لك كما في نسخة وكأنه مهتما بأمره (فقال اجلس فليس ذلك) أي قتل مثله (لأحد إلّا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) كإخوته من الأنبياء لاشتراكهم في بعث النبوة وصفة الرسالة بخلاف غيرهم من آحاد الأمة ولو كانوا من أكابر الأئمة هذا والحديث رواه النسائي من طرق بألفاظ متعددة منها ما تقدم ومنها تغيظ أبو بكر على رجل ومنها مررت على أبي بكر وهو متغيظ على رجل من الصحابة ومنها غضب أبو بكر على رجل غضبا شديدا حتى تغي لونه ومنها كنا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَغَضِبَ عَلَى رَجُلٍ من المسلمين فاشتد غضبه عليه جدا ورواه أبو داود أيضا ولفظه عن أبي برزة كنت عند أبي بكر فتغيظ على رجل فاشتد عليه، (قال القاضي أبو محمد بن نصر) ومن كلامه في أيامه حال ضيق مرامه: يا لهف قلبي على شيئين لو جمعا ... عندي لكنت إذن من أسعد البشر كفاف عيش يقيني ذل مسألة ... وخدمة العلم حتى ينقضي عمري (ولم يخالف عليه أحد) يعني فصار إجماعا أنه لا يقتل مسلم بسبب صحابي وينبغي أن لا يكون فيه خلاف إذ لو قتل أحد أبا بكر لم يكفر اتفاقا فكيف إذا سبه أحد ومن المعلوم أن جناية السب دون جناية القتل وإنما جوز بعض أصحابنا الحنفية قتل من سب أكابر الصحابة على وجه الزجر والسياسة وأما ما نقلوه فيه من حديث سب الشيخين كفر فلا أصل له وعلى تقدير صحة ثبوته فيجب تأويله كحديث من ترك صلاة متعمدا فقد كفر أي قارب الكفر أو يخشى عليه الكفر أو كفر النعمة أو محمول على استحلال المعصية أو عد سبهم عبادة وأمثال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 ذلك والله تعالى اعلم بحقيقة ما هنالك، (واستدلّ) وفي نسخة فاستدل (الأئمة) أي علماء الأمة (بهذا الحديث) المروي عن أبي برزة المنتهي إلى أبي بكر الصديق (عَلَى قَتْلِ مَنْ أَغْضَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ مَا أَغْضَبَهُ أَوْ أَذَاهُ أَوْ سَبَّهُ وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عبد العزيز إلى عامله بالكوفة) قال الحلبي هذا الرجل لا أعرفه وقال التلمساني هو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (وقد استشاره) أي ذلك العامل عمر بن عبد العزيز (فِي قَتْلِ رَجُلٍ سَبَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه) الظاهر أن المراد به ابن الخطاب لأنه الفرد الأكمل في هذا الباب ولا يبعد أن يراد به عمر بن عبد العزيز (فكتب إليه عمر) أي ابن عبد العزيز (إنّه لا يحلّ قتل امرىء مسلم بسبّ أحد من النّاس) ولو بلا موجب وسبب (إِلَّا رَجُلًا سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ سَبَّهُ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ) أي إجماعا وذلك لخروجه عن دينه قطعا، (وسأل الرّشيد) وهو هارون بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وقد بويع له سنة سبعين ومائة في الليلة التي مات فيها أخوه الهادي لاثنتي عشرة ليلة بقيت من الربيع الأول وهو ابن احدى وعشرين سنة وشهرين وحج بالناس ست حجات ولم يزل واليا إلى أن مات بطوس من خراسان وهنالك قبره وذلك ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة وهو ابن سبع وأربعين سنة وكانت ولايته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين وسبعة عشر يوما وكان يحج عاما ويغزو عاما وهو آخر خليفة حج في خلافته حج بعده كثير من قبل ولايتهم والحاصل أنه سأل (مالكا) إمام المذهب ما تقول (في رجل شتم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بخصوصه أو أحدا من جنسه (وذكر له) أي الرشيد (أنّ فقهاء العراق) أي الكوفة والبصرة أو فقهاء العجم (أفتوه) إذا سألهم عنه أجابوه (بجلده) أي بضربه حدا لشتمه (فغضب مالك) لفتواهم بذلك (وَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا بَقَاءُ الْأُمَّةِ) على الجادة (بعد شتم نبيّها) بهذه المثابة من عدم التفرقة بينه وبين غيره في تفاوت الرتبة (مَنْ شَتَمَ الْأَنْبِيَاءَ قُتِلَ وَمَنْ شَتَمَ أَصْحَابَ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أحدا منهم (جلد) أي ضرب جلد الفرية. (قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى) أي المصنف (كذا وقع في هذه الحكاية) أي أن فقهاء العراق افتوا الرشيد بجلده (رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ مَنَاقِبِ مَالِكٍ) ممن اعتنى بجمعها وفي نسخة ممن ذكر مناقب مالك (ومؤلّفي أخباره وغيرهم) من رواة سيره وآثاره (وَلَا أَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ بِالْعِرَاقِ الَّذِينَ أفتوا الرّشيد بما ذكر) من أنه يجلد ولا يقتل (وقد ذكرنا مذهب العراقيّين) وفي نسخة مذاهب العراقيين (بقتله ولعلّهم) أي من افتاه بجلده دون قتله (ممن لم يشتهر) وفي نسخة ممن لم شهر (بعلم) وهذا بعيد جدا وكذا قوله (أو ممن) وفي نسخة أَوْ مَنْ (لَا يُوثَقُ بِفَتْوَاهُ أَوْ يَمِيلُ به هواه) فأن مثل هؤلاء لا ينقل الرشيد عنهم فيتعين قوله (أو يكون ما قاله) أي نقله الرشيد (يحمل على غير السّبّ) الموجب لقتله (فيكون الخلاف) جاريا فيه (هل هو سبّ) فيقتل (أو غير سبّ) فيجلد (ويكون) أي الساب (رجع وتاب عن سبّه) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 وفي نسخة من سبه وهذا هو الأظهر لأنه الموافق لمذهب الكوفيين على ما تقرر (فلم يقله) أي لم ينقله الرشيد (لمالك) فلم يقله مالك (على أصله) أي حقيقة وقوعه (وإلّا فالإجماع على قتل من سبّه) أي في الجملة (كما قدّمناه) وإن كان منهم من قال فإن تاب قبلت توبته بل يجب أو يستحب أن يستتاب والله تعالى اعلم بالصواب (ويدلّ على قتله من جهة النّظر) أي نظر العقل (والاعتبار) أي طريق القياس (أنّ من سبّه أو تنقّصه عليه الصلاة والسلام) كغيره من الأنبياء الكرام (فقد ظهرت علامة مرض قلبه) أي من سوء اعتقاده بربه (وبرهان سرّ طويّته) أي ودليل خبث باطنه وفي نسخة وبرهان لسوء طويته أي فساد نيته (وَكُفْرِهِ، وَلِهَذَا مَا حَكَمَ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ العلماء بالرّدّة) الصواب ما قاله التلمساني أن ما زائدة أو موصولة بخلاف قول الدلجي حيث جعلها ناقية وقال لعدم قطعهم بكفره وأن حكم به ظاهرا انتهى وهو خلاف مذهبهم لأنهم قالوا بكفره قطعا إلا أنهم يقبلون التوبة منه خلافا لمالك على ما تقدم ويدل عليه قوله (وهي) أي الردة (رِوَايَةُ الشَّامِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَقَوْلُ الثَّوْرِيِّ وأبي حنيفة والكوفيّين) أي وسائرهم (والقول الآخر) أي الرواية الأخرى عن مالك (أنه) أي سبه (دليل على الكفر) أي بحسب ظاهر الأمر (فَيُقْتَلُ حَدًّا وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْكُفْرِ) قطعا وقال التلمساني ومعناه أنه مسلم انتهى فيتفرع عليه أنه يغسل ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين ونحو ذلك (إلّا أن يكون متماديا) أي مصرا مستمرا (على قوله غير منكر له) أي لمضمونه (ولا مقلع عنه) بتركه (فهذا كافر) وفي نسخة كفر أي بلا خلاف فقتله يكون كفرا كالزنديق لأحدا كالمرتد عنده، (وقوله) أي الذي تمادى منه (إمّا صريح كفر كالتّكذيب به) عليه الصلاة والسلام أو بما جاء به عن ربه (ونحوه) كنسبة إبليس ربه تعالى إلى الجور والظلم إذ أمره بالسجود لآدم عليه السلام زاعما أنه خير من آدم (أو من كلمات الاستهزاء والذّمّ) مما هو غير صريح كفر في مقام الفهم (فَاعْتِرَافُهُ بِهَا وَتَرْكُ تَوْبَتِهِ عَنْهَا دَلِيلُ اسْتِحْلَالِهِ لذلك وهو) أي استحلال المعصية (كفر أيضا فهذا) المستحل (كافر بلا خلاف) أي إذا لم يتب وفيه دليل على أنه ممن يستتاب في مذهب مالك أيضا فعنه روايات والله تعالى اعلم بالصواب وقال الأئمة إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف فلا يجوز للمفتي أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمر بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين والحاكم كالمفتي سواء وكذلك لا يأخذ في أمر نفسه بالتخفيف ويشدد على الناس بل الأولى له العكس وروي أن العبد يسأل عن فتواه هل أفتى بعلم أو جهل وهل فتواه نصيحة أو خذلان وهل أراد وجه الله تعالى أو الرياسة كذا ذكره التلمساني وقال بعض علمائنا إذا وجدت رواية واحدة بعدم تكفير مسلم وتسع وتسعون رواية بتكفيره فينبغي للمفتي أن يختار تلك الرواية لأن إبقاء ألف كافر في الدنيا أهون من أفناء مسلم من أمر العقبى (قال الله تعالى في مثله) أي مثل هذا المعترف بكلمات الاستهزاء والذم (يَحْلِفُونَ) أي المنافقون (بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 [التوبة: 74] ) أي أظهروا كفرهم بعد إظهار إسلامهم (قال أهل التّفسير هي) أي كلمة الكفر (إن كان ما يقول محمد) من أنه سيفتح قصور الشام (حقّا) أي صدقا (لنحن) أي وأشرافنا المتخلفون (شرّ من الحمير) والقائل الجلاس بن سويد فسمعه عامر بن قيس الأنصاري فقال أجل والله أن محمدا صادق وأنت شر من الحمار فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فحلف بالله ما قال فصدقه النبي عليه الصلاة والسلام فجعل عامر يدعو ويقول اللهم انزل على نبيك من الصادق منا فنزلت فتاب وحسنت توبته (وقيل بل) هي (قول بعضهم) وهو عمل النفاق ورأس أهل الشقاق عبد الله بن أبي ابن سلول إذ لقي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بني المصطلق بالمريسيع ماء لهم فهزمهم منهم وأزدحم جهجاه بن سعد أجير عمر بن الخطاب وسنان حليف بن أبي واقتتلا فصاح جهجاه يا للمهاجرين وسنان يا للأنصار فأعان جهجاها جعال من فقراء المهاجرين ولطم سنانا فقال ابن أبي لجعال وأنت هناك أي أنت في تلك المنزلة بحيث تلطم حليفي ثم قال ما صحبنا محمدا إلا لتلطم (مَا مِثْلُنَا وَمِثْلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ) في المثل السائر يضرب لمن يحسن إلى أحد فيسيء إليه (سمّن كلبك يأكلك) وقال لأصحابه لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا فرده الله تعالى بقوله وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (و) قال أيضا (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ) يريد نفسه الخبيثة (مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8] ) يريد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرد الله تعالى عليه بقوله وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ روي أنه قال لقومه ماذا فعلتم بأنفسكم انزلتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل طعامكم لم يركبوا رقابكم ولا وشكوا أن يتحولوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فسمع ذلك زيد بن أرقم فقال والله انت الذليل المبغض في قومه ومحمد في عز من الرحمن وقوة من أصحابه فقال له ابن أبي إنما كنت ألعب فأخبر زيد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال اذن ترعد أنف كثيرة بيثرب قال فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر أنصاريا قال فكيف أذن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ثم قال عليه الصلاة والسلام لابن أبي أنت صاحب الكلام الذي بلغني قال والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك الباب وأن زيدا لكاذب فقال من حضر شيخنا وكبيرنا لا نصدق عليه قول غلام عسى أن يكون قدوهم فلما نزلت تكذيبا لابن أبي لحق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زيدا فعرك أذنه وقال له وفت أذنك يا غلام أن الله قد صدقك وكذب المنافق ولما أراد أن يدخل المدينة قال له ابنه وكان مؤمنا مخلصا وراءك يا منافق والله لا تدخلها حتى تقول رسول الله هو الأعز وأنا الأذل فلم يزل به حتى قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خله يدخل وقيل قال له ابنه لئن لم تقر لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك فقال ويحك أفاعل أنت قال نعم فلما رأى منه الجد قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لابنه جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا (وقد قيل إن قائل مثل هذا) القول مما يشبه قول ابن أبي واضرابه وفي نسخة ويدل عليه أيضا أن قائل هذا (إن كان مستترا به) من الاستتار وفي نسخة متسترا من التستر فهما مأخوذان من الستر ومعناهما مختفيا قال التلمساني وروي مستسرا من السر وهو خلاف العلانية (أنّ حكمه حكم الزّنديق يقتل) أي كفرا لأحدا ولا يستتاب أصلا قال التلمساني وقد استدل من قال بقبول توبة المستسر بكفره بما جاء في الصحيح من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله قال الخطابي قوله وحسابهم على الله يعني فيما يستسرون به قال وفيه دليل على أن الكافر المستسر بكفره لا يتعرض له إذا كان ظاهر حاله الإسلام وأن توبته مقبولة وإذا أظهر الإنابة من كفر علم بإقراره أنه كان يعتقده قبل قال وهم مقول أكثر العلماء وقال مالك لا تقبل توبة المستسر بكفره (ولأنّه غيّر دينه) فصار مرتدا (وقد قال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ) رواه أحمد والبخاري والأربعة لفظ من بدل دينه فاقتلوه فلعله نقل بالمعنى أو رواية بالمبنى (ولأنّ) الشأن (لحكم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في الحرمة) أي الاحترام والعظمة (مزيّة) أي زيادة رتبة (على أمّته وسابّ الحرّ) أي من يسب حرا (من أمّته) ذكرا أو أنثى (يحدّ) أي يغرر على ما هو المقرر إلا أن يكون قذفا فيحد (فكانت العقوبة لمن سبّه عليه الصلاة والسلام القتل) وهذا أمر مجمع عليه في عقوبته وإنما الخلاف في قبول توبته وذلك (لعظيم قدره) أي علو مرتبته عن أمته (وشفوف منزلته) أي زيادتها (على غيره) من خلق الله سبحانه وتعالى والشفوف بضم الشين المعجمة والفاء الأولى من الشف بالكسر وهو الزيادة. فصل (فَإِنْ قُلْتَ فَلِمَ لَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم اليهوديّ الّذي قال له) أي للنبي وحده أوله لمن معه (السّام عليكم) أي الموت أو الملل والمعنى متم أو مللتم (وهذا دعاء عليه) أي بالموت أو الملل وهو السامة من الطاعة أو الملالة من الحياة والراحة والحديث رواه البخاري وغيره ولقد فطنت عائشة إذ كانت اليهود يمرون فيقولون السام عليك يا أبا القاسم فقالت عليكم السام والذام واللعنة ومن ثمة قال صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم يعني الذي يقولونه لكم ردوه عليهم قال الخطابي عامة المحدثين يروون وعليكم بواو العطف وكان ابن عيينة يرويه بغير واو وهو الصواب لإيذانه برد ما قالوه عليهم خاصة وإثباتها يؤذن بالاشتراك معهم فيه لأنها لمطلق الجمع انتهى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 ولا يخفى أن ترجيح الرواية الشاذة وتخطئة الجمهور من الرواية ليس على الصواب وإنما يتعين تأويل روايتهم بأن المراد بالعاطفة هي المشاركة في الموت لأنه مشترك بين العباد في جميع البلاد إذ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ فكأنه قيل وعليكم ما قلتم أيضا فهو جواب دعاء عليهم معاقبة لديهم ما احتمال أنهم قالوا السلام باللام ولذا لم يصرح لهم بقول عليكم السام بالواو العاطفة أو بدونها وفي إيماء إلى قوله تعالى وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها هذا والذي دخل عليه عليه الصلاة والسلام وقال السام عليكم جاء في رواية أنه يهودي وفي أخرى أنه رهط من اليهود وفي رواية اناس وفي أخرى ناس ولعلها قضيتان وقد يجمع بأن دخل عليه رهط من اليهود وسلم واحد منهم والله اعلم (ولا قتل الآخر) جملة حالية أو عطف بالمعنى على ما قبله أي ولم ما قتل الكافر الآخر (الّذي قال له) كما رواه البخاري وفي قسمة قسمها (إنّ هذا لقسمة) وفي نسخة قسمة (ما أريد بها وجه الله تعالى) قال الدلجي هو ذو الخويصرة وهو وهم منه فقد قال الحلبي هذا الآخر لا أعرفه غير أنه وقع في صحيح البخاري أنه من الأنصار وقد قال بعض الفضلاء إنه مغيث بن قشير وأما الذي قال له أعدل فذاك ذو الخويصرة يعني بالتصغير كذا صرح به في صحيح مسلم من رواية أبي سعيد الخدري وهو تميمي قتل في الخوارج يوم النهروان وهو رأس الخوارج ولهم ذو الخويصرة رجل آخر يماني يروي في حديث مرسل أنه هو الذي بال في المسجد ولا ثالث لهما في الصحابة ووقع في صحيح البخاري في باب من ترك قتال الخوارج للتألف في كتاب استتابة المرتدين ما لفظه جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال أعدل انتهى قال الحلبي والصحيح أنه ذو الخويصرة ويحتمل أنه مرة نسب القول إلى أبيه ونسبه تارة إليه لأنهما قالاه والله تعالى اعلم أقول ولا يبعد أن عبد الله هو ذو الخويصرة وأنه لقبه ولقب أبيه أيضا والله تعالى اعلم وكان قول هذا القائل يوم حنين لما آثر عليه الصلاة والسلام أناسا في القسمة لمصلحة رآها فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصين مثل ذلك على ما قدمناه (وقد تأذّى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك) ولكنه من كمال حلمه أو لتألفه في جمال علمه تحمل منه هنالك (وَقَالَ قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فصبر) على ما آذاه به بنو إسرائيل كحمل قارون المومسة بالرشوة على قذفه بنفسها واتهامهم له بقتل أخيه هارون إذ ذهب معه إلى الطور فمات هنالك فحملته الملائكة فمرت بهم فعوفوا أنه لم يقتله ورميهم بعيب في جسده من برص وأدرة به قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (وَلَا قَتَلَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَهُ فِي أكثر الأحيان) ويعظمونه في قليل من الزمان وفي نسخة في كل الأحيان أي غالب الأزمان (فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم كان أوّل الإسلام) أي في أول ظهوره عليه الصلاة والسلام (يستألف عليه النّاس) أي يطلب ائتلافهم ويقصد تألفهم قال المزي المستعمل يتألف (ويميل) بالتشديد أو التخفيف من الإمالة أي يحول (قلوبهم ويميّل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 إليه ويحبّب إليهم الإيمان ويزيّنه في قلوبهم) باللطف والإحسان (ويدارئهم) أي ويسامحهم ويدافعهم فهو من الدرء مهموز وقد يخفف فقول الحلبي غير مهموز وقد يهمز ليس في محله ومن المخفف قولهم: فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم (ويقول لأصحابه إنّما بعثتم) تغليبا لهم لكثرتهم على نفسه الشريفة تواضعا معهم أو بعثتم بمعنى ارسلتم بعدي إلى من بعدكم (ميسّرين) بكسر السين أي مسهلين (ولم تبعثوا منفّرين) بتشديد الفاء المسكورة أي مشددين رواه الترمذي عن أبي هريرة ولفظه إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ولعل المصنف وجد في رواية قوله منفرين أو نقله بالمعنى وقد أغرب التلمساني حيث اعترض على المصنف وصوابه معسرين من العسر لمطابقة الظاهر ولكنه راعى الطباق الخفي لأن التيسير لازم السكون كما أن التنفير لازم العسر (ويقول يسّروا ولا تعسّروا) أي هونوا ولا تشددوا (وسكّنوا) أي قرروا (ولا تنفّروا) رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا (ويقول) أي في الاعتذار عن عدم قتل المنافقين (لا يتحدّث النّاس) أي لا يقول بعضهم لبعض (أنّ محمّدا يقتل أصحابه) فيكون تنفيرا لمن أراد أن يأتي إلي بأنه (وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يدارىء) بالهمز وإبداله أي يدافع (الكفّار والمنافقين) ويلاطفهم وقد ورد رأس العقل بعد الإيمان بالله التجب إلى الناس رواه الطبراني في الأوسط عن علي كرم الله وجهه ورواه البزار والبيهقي عن أبي هريرة بلفظ التودد بدل التحبب ورواه البيهقي عن علي أيضا رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس واصطناع الخير إلى كل بر وفاجر وزاد البيهقي عن أبي هريرة في رواية وأهل التودد في الدنيا لهم درجة في الجنة وفي رواية له عنه رأس العقل والمداراة (ويجمل صحبتهم) من أجمل بالجيم أي يحسن أو من أجمل جمع بعد تفرقة وفي نسخة بالحاء المهملة من حمل أي يتحمل كلفة صحبتهم (ويغضي عنهم) من الاغضاء بالغين والضاد المعجمتين أي يغمض عينه عن عيبهم وفي نسخة عليهم أي يخفي عليهم ذنبهم (ويحتمل من أذاهم) من تبعيضية أو زائدة ويدل عليه أنه وفي نسخة صحيحة ويحتمل إذا هم أي يتحمل على أذاهم (ويصبر على جفائهم) وهذا كله لقوله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي دع مكافأة أذيتهم إياك فإنا كفيناك والحاصل أنه كان يجوز له (مَا لَا يَجُوزُ لَنَا الْيَوْمَ الصَّبْرُ لَهُمْ) أي للمنافقين ونحوهم (عليه) أي على ما صدر من فعلهم وقولهم لأنا مأمورون بزجرهم على كفرهم وبعدم اكرامهم في مرامهم (وكان يرفقهم) بفتح الياء وكسر الفاء من الرفق ضد العنف وهو لين الجانب وبضم الياء من الأرفاق يقال رفق به وحكى أبو زيد أرفقت به وأرفقته بمعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 يلطف بهم (وبالعطاء) لهم (والإحسان) إليهم تفاديا من نفرتهم عن حضرته وامتناعهم عن قبول ملته (وَبِذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ تَعَالَى وَلا تَزالُ) أي دائما (تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) أي خيانة تبدر وجناية تصدر عنهم كما هو دأبهم وديدنهم اقتداء بمن قبلهم (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) وهو من آمن منهم أو كان مقتصدا فيهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) أي وأعرض عنهم (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13] ) معهم ومع غيرهم تخلقا بأخلاق الله فيهم حيث يرزقهم ويعافيهم فقيل هذا قبل أمره بقتالهم وقيل اعف عن مؤمنيهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم (وقال الله تعالى: (ادفع) أي السيئة التي وردت عليك منهم بالحسد والعداوة (بِالَّتِي ) أي بالحسنة التي (هِيَ أَحْسَنُ ) من أختها وهي العقوبة والمكافأة بمثلها والمجازاة بنحوها أو بأن تحسن إليه بإساءته إليك (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) أي بسبب مدافعة السيئة بالحسنة (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ) نصير لك مائل إليك (حَمِيمٌ [فصلت: 34] ) قريب مشفق عليك (وذلك) أي ما أمره الله به من المداراة وعدم المجازاة (لحاجة النّاس) أي همومهم (للتّألّف) وفي نسخة من التألف أي طلب الألفة وعدم النفرة (أوّل الإسلام) في أوائل الهجرة إلى مدينة السلام (وجمع الكلمة عليه) أي ولاجتماع كلمة الأمة لديه (فلمّا استقرّ) أمره وثبت حكمه وعلا قدره وأعلى نوره (وأظهره الله على الدّين) أي أنواعه (كلّه) أي جميعه حسب ما وعده له بقوله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (قَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ) ممن عاداه (واشتهر أمره) فيمن باداه (كفعله) عليه الصلاة والسلام (بابن خطل) وهو متعلق بأستار بيت الله الحرام (ومن عهد بقتله) أي كفعله بقتل من أوصى بقتله (يوم الفتح) من بعض الرجال والنساء فمنهم من قتل وذهب إلى جهنم ومنهم من تاب وأسلم (ومن) أي وقتل من (أمكنه قتله غيلة) بكسر المعجمة أي خفية أو غفلة (من يهود) كابن أبي الحقيق وابن الأشرف (وغيرهم) أي وغير يهود على ما مر ذكرهم (أو غلبة) بفتحتين أي أو قتله شهرة وعلانية كَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ (ممّن لم ينظمه) بكسر الظاء المعجمة أي لم يشمله (قبل) أي قبل قتله (سلك صحبته) أي خيط محبته وحياطة مودته وحيازة معرفته (والانخراط) أي ولم ينظمه الدخول والاختلاط (فِي جُمْلَةِ مُظْهِرِي الْإِيمَانِ بِهِ مِمَّنْ كَانَ يؤذيه) بلسانه ويطعن في شأنه (كابن الأشرف) المحروم عن الشرف (وأبي رافع) الذي نسبه له غير نافع (والنّضر بن الحارث) بالضاد المعجمة وهو الذي لم يحصل له النصر (وعقبة بن أبي معيط) بضم العين وسكون القاف الذي دخل في عقبة النار وعقبى الفجار في دار البوار (وكذلك هدر) بفتح الهاء والدال المهملة والراء أي أبطل (دم جماعة) وفي أصل الدلجي ندر بالدال وقال أي أسقط وأهدر انتهى وفي القاموس الهدر محركة ما يبطل من دم وغيره هدر يهدر ويهدر هدرا وهدرا وهدرته لازم ومتعد وأهدرته فعل وأفعل بمعنى وندر الشيء ندورا سقط من جوف شيء أو من بين اشياء انتهى فظهر أنه لم يأت بمعنى اسقط وأهدر نعم فيه أن أندر الشيء أسقط وهو كذا في أصل الأنطاكي ولكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 ليس فيه تصريح بأنه بمعنى أهدره وقال التلمساني نذر بفتح الذال المعجمة أي التزم وقتلهم ويجوز أن يكون معناه اباح لأنه لما التزم قتله كان كأنه أباح للقاتل ويجوز أن يكون نذر بالكسر أي اعلم والمعنى اعلم بإباحة دمائهم والرواية بالفتح ويجوز ندر بالمهملة أي أهدر دمه واسقط وقد روي فأهدر دماءهم (سواهم) أي ما عدا المذكورين (ككعب بن زهير) بالتصغير المزني كان قد خرج هو وأخوه بجير بضم الموحدة وفتح الجيم فتحتية ساكنة فراء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتقدم بجير ليكشف أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويأتي كعبا ويخبره فلما جاءه بجير عرض عليه الإسلام فأسلم فبلغ ذلك كعبا فأنشد أبياتا ينكر فيها على أخيه إسلامه ويتعرض لغيره من أبي بكر الصديق ونحوه بقوله: ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... على أي شيء ويب غيرك دلكا على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولم تدرك عليه أخا لكا فقال عليه الصلاة والسلام نعم لم يلف عليه أمه ولا أباه فأهدر عليه الصلاة والسلام دمه وقال من لقيه فليقتله فبعث إليه أخوه يعلمه بذلك وأنه عليه الصلاة والسلام لا يأتيه أحد فيسلم إلا قبل منه الإسلام وأسقط ما كان قبله من الآثام فإذا أتاك كتابي هذا فأقبل واسلم فجاء كعب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنشد القصيدة المشهورة أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول فلما بلغ: أن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول انبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول أشار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى من معه استمعوا وأجازه عليه الصلاة والسلام على هذه القصيدة وأعطاه بردة قيل إن معاوية بن أبي سفيان طلب البردة منه بعشرة آلاف درهم فقال ما كنت لأوتر يثوب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحدا فلما مات كعب بعث معاوية إلى أولاده بعشرين ألف درهم وأخذ البردة ولم تزل في خزائن بني أمية تنتقل من واحد إلى واحد قيل اشتراها منه معاوية بثلاثين ألفا ويقال إنها البرد الذي توارثه خلفاء بني العباس وكان قدومه وإسلامه بعد انصرافه عليه الصلاة والسلام من الطائف وكعب ابن زهير من فحول الشعراء وأبوه وجده وكذلك ابنه عقبة وابن عقبة أيضا وأشعرهم زهير ثم كعب وقد هلك زهير قبل المبعث (وابن الزّبعرى) بكسر الزاء والموحدة فعين ساكنة مهملة فراء مقصورا القرشي السهمي الشاعر المشهور كان من أشد الناس على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بلسانه ويده قبل إسلامه ثم اسلم بعد الفتح وحسن إسلامه واعتذر عن زلاته حين أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد انقرض ولده ومن مدحه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 مضت العداوة فانقضت اسبابها ... ودعت أوامر بيننا وحكوم فاغفر فدى لك والد أي كلاهما ... زللي فإنك راحم مرحوم وعليك من علم المليك علامة ... يوم أغر وخاتم مختوم (وغيرهما ممّن آذاه) بألسنتهم (حتّى ألقوا) أنفسهم بأيديهم (بين يديه) وهو كناية عن إسلامهم واستسلامهم لديه (ولقوه مسلمين) أي منقادين مخلصين متوجهين إليه صلى الله تعالى عليه وسلم (وبواطن المنافقين مستترة وحكمه عليه الصلاة والسلام على الظّاهر) أي وأحكامه على ظواهرهم مستقرة مستمرة في العلانية (وأكثر تلك الكلمات) المؤذية (إنّما كان يقولها القائل منهم خفية) بضم أوله وكسره (ومع أمثاله) أي من يهودي أو منافق كما قال تعالى وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (ويحلفون عليها) إنكارا لها (إذا نميت) بصيغة المجهول مخففا أي رفعت إليه (وينكرونها) إذا وصلت لديه (ويحلفون بالله ما قالوا) كما أخبر الله تعالى عنهم وأكذبهم بقوله (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وهموا بما لم ينالوا في مرامهم من قتل الرسول وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل أي علاها فيه فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال إليكم إليكم يا اعداء الله فهربوا (وكان) عليه الصلاة والسلام لكونه رحمة للعالمين (مع هذا) أي ما فعلوه وقالوه (يطمع في فيئتهم) بفتح الفاء ويكسر وسكون التحتية تفسيره قوله (ورجوعهم إلى الإسلام وتوبتهم) من الآثام (فيصبر عليه الصلاة والسلام على هناتهم) أي زلاتهم في مقالاتهم (وهفوتهم) أي وسقطاتهم وفي نسخة وجفوتهم أي وغلظتهم في حالاتهم (كما صبر أولو العزم) أي أصحاب الجد والحزم (من الرّسل) قيل من بيانية والأصح أنها تبعيضة وأنهم محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وقيل غير ذلك وقال البغوي الذين ذكرهم الله تعالى على التخصيص في قوله وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وفي قوله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا انتهى وقدم النبي عليه الصلاة والسلام في الآية والأولى للإيماء إلى أنه في المرتبة الأعلى وأنه أول في عالم الموجود وإن كان آخرا في مقام الشهود (حتّى فاء) أي رجع إلى الإسلام (كثير منهم باطنا) في الآخر (كما فاء ظاهرا) في الأول (وأخلص سرّا) في الاستقبال (كما أظهر جهرا) في أول الحال (ونفع الله بعد) أي بعد ذلك من اخلاصهم هنالك (بكثير منهم) في أمر الجهاد وغيره (وقام منهم للدّين وزراء وأعوان) أي أمراء (وحماة) بضم الحاء وتخفيف ألميم أي قضاة (وأنصار) للدين ولو ينقل علوم اليقين (كما جاءت به الأخبار) التي ذكرها أرباب السير من المحدثين (وبهذا) الجواب (أجاب بعض أئمتنا) أي المالكية وغيرهم (رحمهم الله عن هذا السّؤال) المشتمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 على ما سبق من الإشكال (وقال) ايضاحا لهذا المقال (ولعلّه) أي الشأن (لم يثبت عنده عليه الصلاة والسلام من أقوالهم ما رفع إليه) وحكي لديه ويشكل هذا بقول بعضهم أعدل واتق الله (وإنّما نقله الواحد) القائل إذ قوله دفع ورد عليه (ومن لم يصل) أي لم يبلغ قوله أو قائله (رتبة الشّهادة) أي الكاملة من العدد المعتبر في الشرع المقرر (في هذا الباب) بخصوصه المقدر فيما يوجب قتل من سب نبينا كما تحرر (من صبيّ) كزيد بن أرقم (أو عبد أو امرأة) كعائشة أو جارية مملوكة أو بنت صغيرة أو كافر (والدّماء لا تستباح) اراقتها (إلّا بعدلين) لكن يشكل هذا بتكذيب الله تعالى لهم في قوله وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وكذا في شهادة ابن أرقم والله تعالى أعلم (وعلى هذا) الاحتمال (يحمل أمر اليهوديّ) أي كلامهم (في السّلام) وفي نسخة في السام (وأنّهم) على دأبهم وعادتهم (لوّوا به ألسنتهم) بتشديد الواو الأولى وتخفيفها أي عطفوها وأمالوها والمعنى أنهم حرفوه (ولم يبيّنوه ألا ترى كيف نبّهت) النبي عليه الصلاة والسلام (عائشة رضي الله تعالى عنها) أي على ظن أنه عليه الصلاة والسلام ما تفطن لقولهم السام (ولو كان) أي المنافق أو اليهودي (صرّح بذلك لم تنفرد) عائشة من بين الصحابة (بعلمه) روي أنها قالت لهم عليكم السام والذام وفي رواية واللعنة فقال مهلا يا عائشة الم تسمعي ما أقول لهم فإن الله يستجيب لهم فيهم ولا يستجيب لهم في (ولهذا) أي لتنبيه عائشة (نبّه النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه على فعلهم) وكذا على كذبهم في قولهم (وقلّة صدقهم) المتين المبين (في سلامهم) لعدم إسلامهم (وخيانتهم في ذلك) أي في مقام كلامهم (ليّا بألسنتهم) أي تحريفا بها (وَطَعْنًا فِي الدِّينِ فَقَالَ إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سلّم أحدهم) أي على المسلمين (فإنّما يقول السّام عليكم) أي الموت (فقولوا عليكم) أو وعليكم كما تقدم والله تعالى اعلم وفيه أن الله سبحانه أخبر عنهم بقوله وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ فهذا ثبت بشهادة الله تعالى في حقهم فليس الحكم السابق مبنيا على إخبار عائشة فقط (وكذلك) أي مثل هذا المقول المرضي عند المنصف (قال بعض أصحابنا) أي من المالكية (البغداديون) بالرفع على أنه نعت بعض والبغداديين بالجر على أنه نعت أصحاب كالقاضي عبد الوهاب وابن خويز منداد وابن الجلاب (إنّ النّبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلِ الْمُنَافِقِينَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ) أي بمجرد علمه في حقهم (ولم يأت) أي في حديث من الأخبار ورواية من الآثار (أنه قامت بيّنة) أي ثبتت حجة (على نفاقهم) أي بخصوصهم وما ورد في الكتاب إنما هو مذكور لعمومهم سترا من الله في اسرارهم وكتما في أخبارهم وآثارهم (فلذلك تركهم) احياء على أحوالهم في ديارهم فاندفع ما اعترض الدلجي على المصنف بقوله وكفاك بينة عليه ما وردت به سورة المنافقين وبراءة من البحث عن اسرارهم وإظهار نفاقهم وأخبارهم (وأيضا) يقال في دفع الإشكال (فإنّ الأمر كان سرّا وباطنا) أي بالإخفاء والكتمان (وظاهرهم الإسلام والإيمان وإن كان) أحدهم (من أهل الذّمة بالعهد والجوار) بكسر الجيم وتضم أي الإمان فهو من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 الجار بمعنى المجاور أو الذي أجرته من أن يظلم (والنّاس قريب عهدهم بالإسلام لم يتميّز بعد) أي بعد مضي تلك الأيام (الخبيث من الطّيب) أي المرائي من المخلص في مقام الكلام (وقد شاع) أي فشا وذاع (عن المذكورين في العرب) بحيث ملأ الاسماع (كَوْنُ مَنْ يُتَّهَمُ بِالنِّفَاقِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ وصحابة سيّد المرسلين) المفاد من عموم حديث البخاري أنا سيد الأولين والآخرين (وأنصار الدّين بحكم ظاهرهم) أنهم من المسلمين (فلو قتلهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لنفاقهم وما يبدر) بضم الدال المهملة بعد الموحدة أي يسرع للناس (منهم) وفي أصل الدلجي يبدر بالواو أي يظهر منهم (وعلمه) أي لمجرد علمه (بما أسرّوا في أنفسهم) من النفاق والشقاق وجواب لو (لوجد المنفّر) بتشديد الفاء المسكورة (ما يقول) في تنفيره (ولا ارتاب الشّارد) في تغييره (وأرجف المعاند) بصيغة المفعول أو الفاعل والمعاند بكسر النون هو المنكر الحاجد الحائد ومنه قَوْلِهِ تَعَالَى لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ الآية والمرجف هو الذي يرجف قلوب الناس بالأخبار المتزلزلة التي لا أصل لها من الرجفة وهي الزلزلة والمعنى خاص في أمر الفتنة والأخبار السيئة (وارتاع) أي وخاف (من صحبة النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرُ وَاحِدٍ) أي كثير من الأنام ممن ضعف دينه وسقم يقينه وجهل أن الداخلين في الإسلام وهم مخلصون أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (ولزعم الزّاعم وظنّ العدوّ الظّالم) وفي نسخة الفذ بفتح الفاء وتشديد الذال المعجمة المنفرد الواهم (أن القتل) للمنافقين (إنّما كان للعداوة) الباطنية المتعلقة بالأمور الدنيوية (وطلب أخذ التّرة) بكسر التاء الفوقية أي النقص والتبعة الكامنة في الطباع البشرية من مطالبة دماء القتيل الواقع في الجاهلية (وَقَدْ رَأَيْتُ مَعْنَى مَا حَرَّرْتُهُ مَنْسُوبًا إِلَى مالك بن أنس رحمه الله تعالى) أي الإمام وفق ما قررته (ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) وقد مر عليه الكلام، (وقال) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لكن لا يعرف من رواه من المخرجين الكرام (أولئك الّذين نهاني الله عن قتلهم) وعلى تقدير صحته يحمل على أول أمره وحالته من قوله فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ بخلاف آخره لقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (وهذا) أي عدم اجراء أحكامه عليهم من حيث بواطنهم المستورة لديهم (بِخِلَافِ إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ عَلَيْهِمْ مِنْ حُدُودِ الزّنا) أي جلدا ورجما وهو بالقصر وقد يمد (والقتل) قودا وحدا (وشبهه) كحد السرقة والقذف وشرب الخمر (لظهورها) أي لوضوح أمرها (واستواء النّاس في علمها) أي واشتراك الناس في حكمها (وقد قال محمّد بن المواز) بفتح الميم وتشديد الواو ثم زاء (لو أظهر المنافقون نفاقهم) أي كفرهم وشقاقهم (لقتلهم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بخصوصهم فلا ينافي ما أظهر الله من حالهم بعمومهم كما توهمه الدلجي واعترض به على القاضي وذلك لأن المنافق إذا آظهر النفاق خرج عن كونه منافقا، (وقال) يعني وقال به أيضا (القاضي أبو الحسن بن القصّار) بفتح القاف وتشديد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 الصاد وتصحف في أصل الدلجي بالصفار، (وَقَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) أي عن نفاقهم (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك عن ترددهم وشقاقهم (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) عن إرجافهم بأخبار سوء من عند أنفسهم عن سراياه عليه الصلاة والسلام بقولهم هزموا قتلوا جرى عليهم كذا وكذا يؤذن المؤمنين ويغمونهم (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) لنسلطنك عليهم بأن تفعل بهم ما يكون عبرة لغيرهم (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) بأن نضطرهم إلى الجلاء عن المدينة السكينة فلا يساكنونك فيها (إِلَّا قَلِيلًا) من الزمان ريثما يخرجون بعيالهم ثم يرتحلون أو إلا قليلا منهم وهو الذي ينتهي عما ذكر من المنهي (مَلْعُونِينَ) نصب على الحال أي حال كونهم مبعودين عن رحمة الله العظيم ورحمة رسوله الكريم (أَيْنَما ثُقِفُوا) أي وجدوا بعد ذلك (أُخِذُوا) أي امسكوا (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) أي وبولغ في قتلهم تنكيلا (سُنَّةَ اللَّهِ [الأحزاب: 60- 62] ) أي سن الله سنته وأجرى عادته (الآية) أي في الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي مضوا قبلكم من الأنبياء وأممهم وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي تغييرا وتحويلا، (قال) أي قتادة (معناه) أي معنى قوله لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ (إذا أظهروا النّفاق) الذي في باطنهم من الشقاق، (وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فِي الْمَبْسُوطِ عَنْ زيد بن أسلم) وهو من فقهاء التابعين بالمدينة (أنّ قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) أي بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) أي بالحجة (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73] ) جميعا في محاربتهم ومحاججتهم فعن الحسن وقتادة ومجاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وعن مجاهد بالوعيد وقيل بإفشاء اسرارهم وإظهار أخبارهم والأظهر أن المعنى جاهد الكفار والمنافقين إذا آظهروا كفرهم واعلنوا سرهم وبهذا التقدير (نسخت) هذه الآية (ما كان قبلها) من المسالمة والمسامحة وفي كثير من النسخ نسخها ما كان قبلها أي نسخ هذا الحكم ما كان قبله من العفو والصفح عنهم (وقال بعض مشايخنا) من المالكية أو الأشعرية أو علماء أهل السنة (لعلّ القائل) وهو واحد من الأنصار كما في صحيح البخاري أو مغيث بن قشير كما قاله بعضهم لا ذو الخويصرة كما توهم الدلجي (هذه قسمة ما أريد بها وجه الله وقوله اعدل) أي قبل ذلك أو بعده هنالك كذا حرره الدلجي وقال الحلبي قائل أعدل هو ذو الخويصرة وكلام القاضي في عطفه بقوله وقوله أعدل ظاهر في أن الكلامين قالهما واحد وفيه نظر فإنما هما اثنان ولو قال وقول الآخر أعدل لكان حسنا (لم يفهم النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي منه كما في نسخة أي من قوله (الطّعن عليه) أي على فعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (والتّهمة له) أي لديه ونسبة التقصير إليه (وإنّما رآها) أي القسمة أو تلك الحالة (من وجه الغلط في الرّأي) أي بناء على رأي ناقصة (وأمور الدّنيا) أي في أمورها (والاجتهاد في مصالح أهلها) ظنا منه أن هذا من قبيل أنتم أعلم بأمور دنياكم (فلم ير) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (ذلك) الكلام (سبّا) بتشديد الموحدة أي طعنا ومذمة وفي نسخة شيئا أي من الملامة مما يستحق عليه العقوبة (ورأى أنّه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 الأذى الّذي) يجوز (لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ) لَمْ يعاقبه والصواب أنه عليه الصلاة والسلام فهم من الخطاب ما يستحق عليه العقاب لكنه كان مأمورا بالإعراض عنهم في مقام العتاب وإلا فكيف لا يفهم الطعن من قوله هذه قسمة ما أريد بها وجه الله نعم قوله أعدل قد يقال إنه أراد به التسوية اللغوية والعدالة العرفية ولكنه عليه الصلاة والسلام فهم أنه أراد العدالة الشرعية فقال له ويلك من يعدل إن لم أعدل وقال في آخر الحديث يخرج من ضئضىء هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين الحديث فكان كما أخبره عليه الصلاة والسلام وقتل على يد علي رضي الله تعالى عنه في النهروان وهو رئيس الخوارج وأهل الخذلان (وكذلك) أي وكما قيل فيمن تقدم من الاعتذار (يقال في اليهود إذ قالوا) بدل السلام (السّام) أي عليكم كما في نسخة (ليس فيه صريح) وفي نسخة تصريح (سبّ) أي شتم (ولا دعاء) أي عليه بذم (إلّا) أي لكن دعاء عليه (بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي لا بدّ) أي لا محالة ولا مفارقة (من لحاقه جميع البشر) بل كل ذي روح من الخلق كما صح في الخبر وفيه أن مثل هذا يسمى من باب الدعاء على المقول فيه بحسب العرف والعادة لأنه يراد به الإنشاء لا الإخبار بما سيقع من الحالة وهذا المعنى الذي فهمته عائشة رضي الله تعالى عنها وهي من الفصحاء والبلغاء ومن أهل بيت الفهم والحذاقة والعلم والفطانة (وقيل بل المراد تسأمون دينكم) أي تملونه وتتركونه (والسّأم) بهمزة ساكنة (والسّامة) بهمزة ممدودة (الملال والملالة) قال الدلجي والرواية بل همز لاختلاف صيغتيهما واوا وهمزا انتهى وأراد أنه لا يصح هذا المعنى من ذلك المبنى والصواب أنه لا مخالفة بين الرواية والدراية لأن الهمزة الساكنة كثيرا تبدل ألفا (وهذا دعاء على سآمة الدّين) أي في قلوب المؤمنين (ليس بصريح سبّ) أي شتم لكنه متضمن لعيب وذم (ولهذا) أي ولكونه ليس بصريح سب (ترجم البخاري على هذا الحديث باب) بالرفع منونا (إذا عرّض) بتشديد الراء أي لوح (الذّميّ أو غيره) وفي نسخة وغيره أي المستأمن (بسببّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ولم يصرح به قال ابن المنير كأن البخاري كان على مذهب الكوفيين في هذه المسألة وهو أن الذمي إذا سب يعزر ولا يقتل (قال بعض علمائنا وليس هذا) أي قول اليهود السام عليكم (بتعريض بالسّبّ) أي الشتم (وإنّما هو تعريض بالأذى) ولكنه موصوف بالذم (قال القاضي أبو الفضل) يعني المنصف (وقد قدّمنا أنّ الأذى) بعمومه (والسّبّ) بخصوصه (في حقّه صلى الله تعالى عليه وسلم سواء) لاستوائهما في تنقصه والخروج عن دينه الموجب لتكفيره بخلاف غيره فإنه يفرق بينهما باختلاف تعزيره حسب تقريره وفيه إن جميع مراتب الايذاء لا تكون مع السب في حالة السواء فإنه عليه الصلاة والسلام كان يتأذى من أصحابه الكرام إذا صدر عنهم ما يوجب شيئا من الآثام (وقال القاضي أبو محمّد بن نصر) بصاد مهملة (مجيبا عن هذا الحديث) أي حديث السام (ببعض ما تقدّم) من الكلام (ثُمَّ قَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ هَلْ كان هذا اليهوديّ من أهل العهد) أي الجزية (والذّمّة) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 الامان فينتقض عهده ويبلغ مأمنه (أو الحرب) أي أهل الحرب فيهدر دمه (ولا يترك موجب الأدلة) بفتح الجيم أي مقتضاها من القتل بشتم أو ذم (لأمر المحتمل) لواحد منهما وفيه أن ذلك اليهودي إما كان منافقا وإما مستأمنا ولا فما كان عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام يتحملون من الحربي نوعا من الكلام ولا كانوا يتركونه في ذلك المقام بعد الأمر بقتال من لم يذعن للإسلام نعم كما قال هو وغيره (والأولى في ذلك) وفي نسخة في هذا (كلّه والأظهر من هذه الوجوه) في حكمه (مقصد الاستئلاف) بفتح الصاد وكسرها أي لمحض طلب الألفة ورفع الكلفة عن الأمة (والمداراة على الدّين لعلّهم يؤمنون) على وجه اليقين (وَلِذَلِكَ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى حَدِيثِ الْقِسْمَةِ وَالْخَوَارِجِ باب) بالتنوين وفي نسخة بالإضافة إلى قوله (من ترك قتال الخوارج) أي مقاتلتهم وفي نسخة قتل الخوارج وهم طائفة مشهورة من أهل البدعة يبغضون أهل بيت النبوة (للتّألّف) أي طلب الالفة ليثبتوا على الملة (ولئلّا ينفر النّاس عنه) بكسر الفاء من النفر وفي نسخة من التنفير عن أي ولدفع النفرة عن قبول الدعوة (وَلِمَا ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَقَرَّرْنَاهُ قَبْلُ) أي قبل ذلك (وقد صبر لهم صلى الله تعالى عليه وسلم على سحره) بكسر السين أي ما سحر به وفي نسخة بفتحها وهو المصدر (وسمّه) أي وعلى تسميمه (وهو أعظم من سبّه) وفيه أن من سمه علله بأنه اختبره على أنه إن كان نبيا فلا يضره وإلا فيندفع به شره ولذا لم يقتلها أولا ثم قتلها قصاصا بعد ما مات بشر بن البراء من أصحابه (إلى أن نصره الله عليهم) وأظهر أمره لديهم (وَأَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِ مَنْ حَيَّنَهُ مِنْهُمْ) فتحتية مشددة فنون مفتوحات أي أهلكه من الحين وهو الهلاك وقيل من حينه أي انتظر وقته وروي بالخاء المعجمة من الخيانة ويحتمل خيبه بالباء الموحدة أي نسبه إلى الخيبة وفي نسخة أخرى عيبه بالموحدة أو النون وهذا كله في بني قريظة وإضرابهم (وإنزالهم) وفي نسخة وانزلهم (من صياصيهم) بفتح أوله أي حصونهم (وقذف) أي والحال أنه سبحانه وتعالى ألقى (في قلوبهم الرّعب) بسكون العين وضمها أي الخوف الشديد (وكتب على من يشاء منهم) كبني النضير وأحزابهم (الجلاء) بفتح الجيم ويكسر والمد اي الإخراج عن وطنهم ومألوف بدنهم وكربة الغربة وسائر محنهم (وأخرجهم من ديارهم) ومدار آثارهم (وخرّب بيوتهم) من دارهم (بأيديهم) أي أنفسهم (وأيدي المؤمنين) بالنقض والهدم حتى لا يبق منهم في المدينة آثار دار ولا ديار (وكاشفهم) أي ظاهرهم وشافههم (بالسّبّ) أي الطعن والتعيير (فقال يا إخوة القردة والخنازير) خطابا لشبانهم ومشايخهم وفيه إيماء إلى قوله تعالى وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ فهم أخوتهم من حيث وقوع المسخ في طائفتهم وقيل القردة في أصحاب السبت من اليهود والخنازير في أصحاب المائدة من النصارى وهم من قوم واحد يجمعهم بنو إسرائيل (وحكّم فيهم سيوف المسلمين) بتشديد الكاف إشارة إلى قتل بني قريظة ونزولهم من حصونهم بحكم سعد بن معاذ (وأجلاهم) أي أخرجهم (من جوارهم) بكسر الجيم ويضم أي مجاورتهم ومحاورتهم (وأورثهم) أي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 سبحانه وتعالى (أرضهم وديارهم) أي مساكنهم (وأموالهم) كبني النضير وهذا كله (لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كفروا السّفلى) في الدنيا والأخرى قال ابن إسحاق كان إجلاء بني النضير عند مرجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أخذ وفتح بني قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان ومجمل قصتهما أن بني النضير كانوا صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ولما غزا أحدا وهزم المسلمون نقضوا العهد فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا وعاقدوهم بأن تكون كلمتهم واحدة على محمد ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه السلام فأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأمر رسول بقتل كعب بن الأشرف وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير وكانوا بقرية فدس المنافقون إليهم أن لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولنضرنكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فحاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة وقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة ولهم ما أقلت الإبل أي حملت من أموالهم ولنبي الله ما بقي ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام وذلك قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم قبل ذلك هذا الذل والتعب أو في أول حشرهم من إجلائه عليه الصلاة والسلام إلى الشام وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى ذلك المقام وقيل آخر حشرهم يوم القيامة فأنهم كغيرهم يحشرون إليه عند قيام الساعة وأما قضية بني قريظة فروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما رجع من منصرف الأحزاب إلى المدينة أتاه جبريل عليه السلام فقال وضعت السلاح يا رسول الله قال نعم قال إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وكانوا قد عاونوا الأحزاب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأمر النبي عليه الصلاة والسلام مناديا أذن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة وقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه برايته إليهم فسار علي حتى إذا دنا من الحصون سمع مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرجع حتى أتاه فقال يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابيث قال لم أظنك سمعت في منهم اذى قال نعم يا رسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من حصونهم قال يا أخوة القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمة قالوا يا أبا القاسم ما كنت جهولا قال فحاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فنزلوا على حكم سعد بن معاذ قال سعد فإني أحكم فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة بأن يقتل مقاتلهم ويسبى ذرايهم فحبسهم رسول الله صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 الله تعالى عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ثم خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خندقا ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق وكانوا على ما قيل ستمائة أو سبعمائة وقسم الأموال والنساء والذراري وذلك قول تعالى وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي عاونوا الأحزاب على حرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (فَإِنْ قُلْتَ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ) من رواية البخاري وغيره (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يؤتى إليه) أي لم يعاقب أحدا على مكروه يقع عليه (قطّ) أي أبدا في حال من أحواله (إلّا أن تنتهك) بصيغة المجهول أو الفاعل أي تنتقص أو تنتقض (حرمة الله تعالى) أي احترامه وعزته (فينتقم لله) أي حينئذ مع انتقامه لنفسه انتقاما لحرمة ربه (فاعلم أنّ هذا) الحديث (لا يقتضي) مضمونه (أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِمْ مِمَّنْ سَبَّهُ أَوْ آذَاهُ) أي بقوله أو فعله (أو كذّبه فإنّ هذه) المذكورات (من حرمات الله التي انتقم لها) وفي نسخة منها أي من أجلها ابتغاء لوجه الله تعالى كما تقدم من قتل أبي رافع وكعب بن الأشرف وغيرهما (وإنّما يكون ما لا ينتقم) أي منه كما في نسخة (له) أي لأجل نفسه (فيما تعلّق بسوء أدب) من اجلاف العرب (أو معاملة) مع أحد منهم (من القول والفعل في النّفس) وفي نسخة بِالنَّفْسِ (وَالْمَالِ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْ فَاعِلُهُ بِهِ أذاه) أي أذى النبي عليه الصلاة والسلام (لكن) أي إلا أنه صدر (ممّا) وروي بما أي بسبب ما (جبلت عليه الأعراب) أي من الأخلاق أو من الطباع التي خلقت وطبعت وتعودت عليها (من الجفاء) بفتح الجيم ومد الفاء وهو غلظ الطبع (والجهل) بآداب الشرع كما قال تعالى الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ (أو جبل عليه البشر) أي جنس بني آدم كلهم (من الغفلة) أي الغيبة عن مقام الحضرة وروي من السفه وهو الخفة وقلة المبالاة بالعمل (كجبذ الأعرابيّ) بجيم فباء موحدة فذال معجمة أي جذبه بعنف وشدة (رداءه) وفي نسخة بردائه فالباء للتقوية أو لتأكيد التعدية وفي بعض النسخ بازاره وهو خطأ فاحش كما يدل عليه (حتّى أثّر) أي أثر جبذه (في عنقه) اللهم إلا أن يحمل الإزار على الملحفة وهو كل ما سترك وقد قال الأعرابي كما في البخاري مر لي من مال الله الذي عندك (وكرفع صوت الآخر) أي الأعرابي أو غيره (عنده) قال الحلبي يحتمل أنه يريد ثابت بن قيس بن شماس فقد روى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل يا رسول الله أنا اعلم لك الحديث في خوفه من رفع صوته عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند نزول قوله تعالى لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية ويحتمل أن يريد غيره قلت المتعين أن يكون غيره لأن قصته من محامد مناقبه لا في مذامه من مراتبه وأما قول الدلجي أن الذي قال هذه قسمى ما اريد بها وجه الله فموقوف على ثبوت كون مقوله هذا واقعا برفع صوته وقد عينه التلمساني بالأعرابي الذي طالبه عليه الصلاة والسلام في دينه وأراد اصحابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 الكرام منعه فقال عليه الصلاة والسلام دعوه فإن لصاحب الحق مقالا (وكجحد الأعرابيّ) أي له كما في نسخة يعني وكإنكاره للنبي عليه الصلاة والسلام (شراءه منه) أي الأعرابي وهو سواد بن قيس المحاربي وقيل سواد بن الحارث (فرسه) المسمى بالمرتجز وكان أبيض وقيل النجيب (التي شهد فيها خزيمة) أنه اشتراها منه فجعل صلى الله تعالى عليه وسلم شهادته بشهادتين والحديث وراه البخاري (وما) وفي نسخة وكما (كان من تظاهر زوجيه) وفي نسخة زوجتيه وهي لغة والأول أفصح أي تعاونهما (عليه) فيما يسوؤه من فرط الغيرة بالنسبة إليه وهما عائشة وحفصة (وأشباه هذا) الذي ذكر هنا (ممّا يحسن الصّفح عنه) أي يستحسن الاعراض عنه وعدم الالتفات نحوه وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا إِنَّ أَذَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ ولا غيره وأما غيره من الناس فَيَجُوزُ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ مَا لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ فعله وإن تأذى غَيْرُهُ وَاحْتَجَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث فاطمة رضي الله تعالى عنها أنها بضعة مني يؤذيني ما آذاها أَلَا وَإِنِّي لَا أُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَكِنْ لَا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ وَابْنَةُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَبَدًا (أَوْ يَكُونُ هذا) الحديث المتقدم ذكره (ممّا أذاه به كافر) صريح (رجا بعد ذلك إسلامه) كذا في النسخ المصححة وجاء بالواو وقال الحلبي رأيت في بعض النسخ بالراء من الرجاء وهذه ينبغي أن تكون الصواب وتلك التي تقدمت تصحيف قلت إذا كان المبنى صحيحا رواية ودراية فلا يقال فيه إنه تحريف فلا يلزم ما ادعاه على ما سيأتي دعواه (كَعَفْوِهِ عَنِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَهُ وَعَنِ الْأَعْرَابِيِّ الّذي أراد قتله) وهو غورث بن الحارث (وَعَنِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ وَقَدْ قِيلَ قَتَلَهَا) أي آخرا قصاصا ببشر بن البراء بعد ما عفا عنها أولا لإسلامها أو اعتذارها في كلامها هذا وقال الحلبي المفهوم من عبارة القاضي المؤلف هنا أن هؤلاء الثلاثة قد اسلموا لكن الذي سحره وهو لبيد بن الأعصم لم يسلم بلا خلاف فيما أعرفه وأما الأعرابي الذي أراد قتله وهو غورث أو دعثور على ما تقدم فقد اسلم بلا خلاف وأما اليهودية التي سمته فأنها زينب بنت الحارث فقيل إنها لم تسلم وقتلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن الزهري كما رواه معمر بن راشد في جامعه أنها اسلمت فتركها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبيان وجه الخلاف والجمع قد تقدم والله تعالى أعلم (ومثل هذا ممّا يبلغه) أي بعض ما يصل إليه (من أذى أهل الكتاب والمنافقين) من أرباب الحجاب (وصفح عنهم) جملة حالية وفي نسخة فصفح عنهم أي أعرض عن اذاهم وتركهم على هواهم (رجاء استئلافهم) أي تألف أنفسهم (واستئلاف غيرهم كما قرّرناه قبل) أي قبل ذلك على وجه التحقيق (وبالله التوفيق) . فصل (قَالَ الْقَاضِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَتْلِ الْقَاصِدِ لسبّه) أي المتعمد في شتمه (والإزراء به) وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 نسخة والازدراء وهو بمعنى الاحتقار (وغمصه) بمعجمه ومهملة بينهما ميم ساكنة أي عيبه (بأيّ وجه كان من ممكن) وجوده (أو محال) بضم الميم أي ممتنع شهودة (فهذا وجه بيّن) أي ظاهر مكشوف (لا إشكال فيه) ولا توقف في قتل متعاطيه. (الوجه الثاني لا حق به) أي ملحق بالوجه الأول (في البيان والجلاء) أي في الظهور وعدم الخفاء (وهو أن يكون القائل لما قال) من الكلام (في جهته صلى الله تعالى عليه وسلم غير قاصد للسّبّ) أي للشتم على وجه الجفاء (والإزراء) وفي نسخة الازدارء أي الاستحقار بالاستخفاف والاستهزاء (ولا معتقد) بالجر وفي نسخة ولا معتقدا (له) أي لمضمون كلامه (ولكنّه تكلّم في جهته صلى الله تعالى عليه وسلم بكلمة الكفر) وفي نسخة بكلمة من الكفر أي من ألفاظه كما بينه بقوله (مِنْ لَعْنِهِ أَوْ سَبِّهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ أَوْ إضافة ما لا يجوز عليه) أي نسبته إليه (أو نفي ما يجب) أي ثبوته (لَهُ مِمَّا هُوَ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم نقيصة) أي منقصة ومذمة (مثل) بالرفع ويجوز نصبه أي نحو (أن ينسب إليه إتيان كبيرة) بصيغة المجهول والأظهر أن يكون بصيغة الفاعل أي ينسب القائل إليه اتيان كبيرة أي صدورها من قول أو فعل بخلاف صغيرة للاختلاف في جواز صدورها عنه (أو مداهنة) بالجر أو النصب أي مصانعة (في تبليغ الرّسالة) كما نفاها الله عنه بقوله فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ (أو) مسامحة أو مساهلة (في حكم بين النّاس) كما نفاها عنه في قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ (أو يغضّ) الله بضم الغين وتشديد الضاد المعجمتين أي يخفض وينقص (من مرتبته) العلية (أو شرف نسبه) إلى آبائه وأجداده الجلية من العيوب العرفية لا من الذنوب الشرعية فأن عبد المطلب من أجداده مات في زمن الجهالة بالإجماع وكذا جزم أبو حنيفة بأن والدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ماتا في زمن الجهالة وكذا أبو إبراهيم عليه السلام من أهل الكفر إجماعا خلافا للشيعة وشرذمة قليلة من أهل السنة وقد كتبت في هذه المسألة رسالة مستقلة (أو وفور علمه) أي كثرته (أو زهده) من غير ضرورته (أَوْ يُكَذِّبَ بِمَا اشْتَهَرَ مِنْ أُمُورٍ أَخْبَرَ بها عليه الصلاة والسلام وَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِهَا) عَنْهُ (عَنْ قَصْدٍ لِرَدِّ خبره) إذا لو أنكر خبرا متواترا كفر بخلاف ما أنكر حديث آحاد فإن أنكره فسق ففي المحيط من أنكر الأخبار المتواترة في الشريعة كفر مثل حرمة لبس الحرير على الرجال ومن أنكر أصل الوتر وأصل الأضحية كفر وفي الخلاصة من رد حديثا قال بعض مشايخنا يكفر وقال المتأخرون إن كان متواترا كفر أقول وهذا هو الصحيح إلا إذا كان رد حديث الآحاد من الأخبار على وجه الاستخفاف والاستحقار وأما انكار الحديث المشهور فالجمهور من أصحابنا على أنه يكفر إلا عيسى بن أبان فإن عنده يضلل ولا يكفر وهو الصحيح (أو يأتي بسفه من القول) أي بسفاهة في عبارة (أو قبيح من الكلام) ولو بإشارة (ونوع من السّبّ) وما فيه من قلة الأدب (في جهته) عليه الصلاة والسلام (وإن ظهر بدليل حاله) أي حال قائله (أنّه لم يعتمد) أي لم يرد (ذمّه) عليه الصلاة والسلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 في مقاله (ولم يقصد سبّه) لاعتقاده كماله لكن صدر عنه مقاله (إمّا لجهالة) بنعوت جماله (حملته على ما قاله أو لضجر) بفتحتين أي قلق من أثر غم ناله (أو منكر) محرم أو غيره (أو قلّة مراقبة) في شأنه (وضبط) أي وقلة ضبط (للسانه وعجرفة) أي محازفة وقلة مبالاة في بيانه (وتهوّر في كلامه) أي سرعة في خلقه وجراءة في نطقه (فحكم هذا الوجه) الثاني (حكم الوجه الأوّل) وهو (القتل) أي قولا واحدا (دون تلعثم) أي توقف في بابه (إِذْ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي الْكُفْرِ بِالْجَهَالَةِ) إذا معرفة ذات الله تعالى وصفاته وما يتعلق بأنبيائه فرض عين مجملا في مقام الإجمال ومفصلا في مقام الاكمال نعم إذا تكلم بكلمة عالما بمبناها ولا يعتقد معناها يمكن أن صدرت عنه من غير إكراه بل مع طواعيته في تأديته فإنه يحكم عليه بالكفر بناء على القول المختار عند بعضهم من أن الإيمان هو مجموع التصديق والإقرار فياجراءها يتبدل الإقرار بالإنكار أما إذا تكلم بكلمة ولم يدر أنها كلمة ففي فتاوى قاضيخان حكاية خلاف من غير ترجيح حيث قال قيل لا يكفر لعذره بالجهل وقيل يكفر ولا يعذر بالجهل أقول والأظهر الأول إلا إذا كان من قبيل ما يعلم من الدين بالضرورة حينئذ فإنه حينئذ يكفر ولا يعذر بالجهل أقول وفي الخلاصة من قال أنا ملحد كفر وفي المحيط والحاوي لأن الملحد كافر ولو قال ما علمت أنه كفر لا يعذر بهذا أي في القضاء الظاهر والله اعلم بالسرائر (ولا بدعوى زلل اللّسان) فيه أن الخطأ والنسيان وما استكره عليه الإنسان أن عذر في معرض البيان (ولا بشيء ممّا ذكرناه) مما يظن أنه يكون عذرا (إذا) وفي نسخة إذا (كان عقله في فطرته) أي خلقته وجبلته (سليما) بأن لا يكون مجنونا ولا خرفا سقيما (إلّا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) كما هو مبين في القرآن (وبهذا) الوجه الثاني (أفتى الأندلسيّون) بفتح الهمزة وضم الدال واللام بفتحهما أي المالكيون من علماء الأندلس وهو اقليم معروف من المغرب (على ابن حاتم) أي الطليطلي (في نفيه الزّهد) أي الاختياري (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وآله وسلّم الّذي قدّمناه) أي ذكره وأمره (وقال محمد بن سحنون) بفتح أوله ويضم ويصرف ولا يصرف (في المأمور) بأيدي الكفار (يسبّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) جملة حالية (في أيدي العدوّ) أي في تصرفهم أو فيما بينهم (يقتل إلّا أن يعلم تبصّره) أي حدوث دخوله في مذهب النصارى (أو إكراهه) أما الثاني فظاهر ويدل عليه قوله تعالى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ روي أن بني المغيرة أخذوا عمارا وغطوه في بئر ميمون وقالوا له اكفر بمحمد فتابعهم على ذلك وقلبه كاره فأتى عمار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يبكي فقال عليه الصلاة والسلام ما ورائك قال شر يا رسول الله نلت منك وذكره قال كيف وجدت قلبك قال مطمئنا بالإيمان فجعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يمسح عينيه ويقول إن عادوا لك فعد لهم بما قلت وأما الأول فقد قال الحلبي هذا الكلام ينبغي أن يسأل عنه مالكية وقال الأنطاكي أي إلا أن يكون معروفا بالبصارة تمنعه بصارته ومعرفته عن الحوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 حول الحمى المنيع بالأمر الشنيع انتهى وفيه أن السب هنالك من غير أن يكره عليه في ذلك مناف للتبصر سواء يكون معروفا به أم لا وقال التلمساني وكأن النسخة عندهما بالباء الموحدة وإنما هي والله اعلم بالنون أي إلا أن يعلم تنصره ولا شك أن المالكية يقولون إذا تنصر طوعا ثم وقع منه سب أو لعن أو كلام يعيب به النبي أو قذفه أو استخف بحقه أو غير صفته أو الحق به نقصا ثم رجع إلى الإسلام أقول هنا بياض في الأصل ولم يعلم أن الحكم يقتل أو لا يقتل وعلى كل تقدير فيه إشكال أما على الأول فلأنه ينافي الاستثناء وسيأتي صريحا في كلام القاضي أنه يجب قتله وأما على الثاني فلأنه قد تقدم أن من سب النبي يقتل مسلما كان أو كافرا والذي يظهر لي أن المعنى إلا أن يعلم تنصره قبل ذلك وأنه ما صح إيمانه هنالك بأن كان منافقا أو مزورا أو مرائيا أو جاسوسا ثم لما أسر أظهر سبه عليه الصلاة والسلام ثم رجع إلى الإسلام فإنه حينئذ لا يقتل ففي مختصر العلامة خليل المالكي إلا أن يسلم الكافر قال شارحه المشهور بحلو لو اختلف في الذمي إذ سب أحدا من الأنبياء ثم اسلم هل يدرأ عنه القتل بإسلامه فقال مالك في الواضحة وَالْمَبْسُوطِ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ عَبْدِ الحكم وأصبغ أن اسلم ترك قال أصبغ وسحنون لا يقال له اسلم ولكن إن اسلم فذلك له توبة وحكى القاضي أبو محمد في ذلك روايتن انتهى وأما على نسخة تبصره بالموحدة فلا يبعد أن يراد به الفرق بين المتبصر بالدين من العلماء المتقين وبين وبين الفسقة والجهلة بمراتب اليقين فإن الثاني يحتاج إلى العلم بإكراهه ببينة أو قرينة بخلاف الأول فإن الظن به في مقام يقينه أن لا يقع له سب إلا بعد تحقق إكراهه فيقبل قوله ويتفرع عليه إبانة امرأته منه وعدمها والله سبحانه وتعالى اعلم ومن فروع هذه المسألة عندنا لو قالت زوجة أسير تخلص أنه ارتد عن الإسلام وبنت منه فقال الأسير أكرهني ملكهم بالقتل على الكفر بالله تعالى ففعلت مكرها فالقول لها ولا يصدق الأسير إلا بالبينة (وَعَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ لَا يُعْذُرُ بِدَعْوَى زَلَلِ اللِّسَانِ فِي مِثْلِ هَذَا) الشأن ولعل وجهه سد الذريعة لفساد أهل الزمان (وأفتى أبو الحسن القابسيّ) بكسر الموحدة (فيمن شتم النّبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فِي سُكْرِهِ يُقْتَلُ لِأَنَّهُ يُظَنُّ بِهِ أنّه يعتقد هذا ويفعله) أي ويقول مثله (في صحوه) فإن كل إناء يترشح بما فيه وهذا بناء على سوء الظن به مع أنه لا يلزمه إذ السكران قد يقصد أمه وبنته ونحوهما في حال سكره مع أنه لا يظن به أنه يفعله حال صَحْوِهِ (وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حَدٌّ لَا يُسْقِطُهُ السُّكْرُ كالقذف والقتل وسائر الحدود) الفارقة بين الحلال والحرام المانعة من قربان الحرام كالزنى والمترتب عليه كالرجم (لأنّه أدخله على نفسه) باجترائه على نبيه ما لا يليق به (لأنّ من شرب الخمر على علم) أي مع علمه بما يترتب عليها (مِنْ زَوَالِ عَقْلِهِ بِهَا وَإِتْيَانِ مَا يُنْكَرُ) صدوره (منه) بسببها (فهو كالعامد لما يكون بسببه) القتل (وعلى هذا ألزمناه الطّلاق) على خلاف فيه بين علماءنا والصحيح وقوعه تأكيدا لزجره (والعتاق والقصاص والحدود) كالقطع بالسرقة (ولا يعترض على هذا) الذي ذكره من أن السكران يؤخذ بما صدر عنه حال سكره (بحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 حمزة) أي ابن عبد المطلب الذي رواه الشيخان عن علي رضي الله تعالى عنه أن حمزة قبل أن تحرم الخمر كان في شرب وبفناء الدار شارفان لعلي أراد أن يأتي عليهما بأذخر يبيعه ليستعين بثمنه على تزوج فاطمة رضي الله تعالى عنهم وعند حمزة وأصحابه جارية تغنيهم فقالت: ألا يا حمز بالشرف النواء فخرج إليهما فبقر خواصرهما وجب اسنمتهما فأخبر علي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فجاءه فلما رآه حمزة صعد نظره إليه وخاطبه بما لا يليق لديه كما بين المصنف بعضه بقوله (وقوله) أي وبقول حمزة (للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ومن معه كعلي (وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي قَالَ فَعَرَفَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه) وفي نسخة إنما هو (ثمل) بفتح المثلثة وكسر الميم أي سكران (فانصرف) عنه ولم يؤاخذه بما صدر منه (لأنّ الخمر كانت حينئذ غير محرّمة) بل كان هذا سببا لتحريمها (فَلَمْ يَكُنْ فِي جِنَايَاتِهَا إِثْمٌ وَكَانَ حُكْمُ ما يحدث منها) من سكر من شرب منها (مَعْفُوًّا عَنْهُ كَمَا يَحْدُثُ مِنَ النَّوْمِ وَشُرْبِ الدّواء المأمون) العاقبة ولهذا لما أم علي رضي الله تعالى عنه في حال سكره وقد قرأ أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ سومح في أمره. فصل [أن يقصد إلى تكذيبه فيما قاله إلى آخره] (الوجه الثّالث أن يقصد) أي أحد من الأنام (إلى تكذيبه عليه الصلاة والسلام فيما قاله) أي فيما تواتر عنه من الكلام (أو أتى به) أي من أحكام الإسلام التي أجمع عليها الاعلام (أو ينفي نبوته) مطلقا (أو رسالته) إلى غير العرب مثلا (أو وجوده) في عالم شهوده (أو يكفر به) أي يتبرأ منه سواء (انتقل بقوله ذلك) وخروجه عن الإسلام هنالك (إلى دين آخر) من التهود أو التنصر أو التمجس (غير ملّته) استثناء لمجرد تأكيد في قضيته (أم لا) أي أم لم ينتقل إلى دين بأن صار ملحدا زنديقا أو دهريا أو تناسخيا مما لا يسمى دينا عرفيا وإن كان ما ذكر دينا لغويا (فهذا كافر بإجماع يجب قتله) من غير النزاع (ثمّ ينظر) أي في أمره هنالك (فإن كان مصرّحا بذلك) أي معلنا غير مستتر (كَانَ حُكْمُهُ أَشْبَهَ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّ وَقَوِيَ الْخِلَافُ) أي خلاف أصحاب مالك (في استتابته) أي قبول توبته (وعلى القول الآخر) بكسر الخاء أي المعتبر الناسخ للقول الأول (لا تسقط القتل عنه توبته) فيقتل حدا (لحقّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إن كان) الملعون (ذكره) عليه الصلاة والسلام (بنقيصة فيما قاله) هذا المتنقص (من كذب) في حقه (أو غيره) بتغير في نعته وأمره (وإن كان متستّرا) من التستر تفعل مأخوذ من الستر ضد الإخفاء وفي نسخة مستسرا بتشديد الراء من الاستسرار استفعال من السر ضد الكتم لا من ألسرور كما وهم الدلجي (فحكمه حكم الزّنديق) أي الأصلي (لا تسقط قتله التّوبة عندنا) أي معشر المالكية قولا واحدا (كما سنبيّنه) أي قريبا (قال أبو حنيفة وأصحابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 من برىء من محمّد) أي تبرأ منه وأعرض عنه (أو كذبه) أي في نبوته وفي نسخة أو كذب به أي بوجوده أو بكرمه وجوده وظهور نور شهوده (فهو مرتدّ حلال الدّم) أي قبل توبته (إلّا أن يرجع) عن براءته ولو بعد استتابته (وقال ابن القاسم) أي المصري صاحب مالك (فِي الْمُسْلِمِ إِذَا قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بنبيّ أو لم يرسل) إلى الثقلين كافة (أَوْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قُرْآنٌ وَإِنَّمَا هُوَ شيء تقوّله) أي افتراه واختلقه (يقتل) وهذا مجمع عليه (قال) أي ابن القاسم (ومن كفر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنكره) الواو بمعنى أو (من المسلمين) أي أحد منهم ولا يبعد أن يكون المعنى وأنكر كونه من المسلمين (فهو بمنزلة المرتدّ) أي يقتل إن لم يتب وكان الأولى أن يقول فهو مرتد أو فيجري عليه حكم المرتد وهذا إذا كان معلنا لا مخفيا (وكذلك من أعلن بتكذيبه) أي أظهره جهرا (أنه كالمرتدّ يستتاب) فإن تاب وإلا قتل وهذا مما لا خلاف فيه إلا عند بعض المالكية (وكذلك قال) أي ابن القاسم (فيمن تنبّأ) أي ادعى أنه نبي (وزعم أنه يوحى إليه) أنه كالمرتد يستتاب (وقاله) أي مثل مقال ابن القاسم (سحنون) وهو بفتح السين وضمها وأغرب الدلجي بقوله وقد يكسر ثم هو فعلون ولذا صرف وقد يمنع بناء على مذهب الفارسي في جعل مطلق المزيدتين علة (وقال ابن القاسم دعا إلى ذلك) أي إلى أنه نبي (سرا أو جهرا) فإنه يكون كالمرتد وكان مقتضى ما سبق أنه دعا سرا يكون كالزنديق فتحتاج إلى فرق في مقام جمع التحقيق والله ولي التوفيق (وقال أصبغ) أي ابن الفرج (وهو) أي من زعم أنه نبي (كالمرتدّ لأنّه قد كفر بكتاب الله تعالى) حيث قال تعالى في حق نبينا عليه الصلاة والسلام أنه خاتَمَ النَّبِيِّينَ (مع الفرية) بكسر الفاء أي الافتراء (على الله تعالى) قال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أو قال أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ (وقال أشهب) أي ابن عبد العزيز المصري (في يهوديّ) أي مثلا (تنبأ) أي ادعى أنه نبي في حق نفسه (أو زعم أنّه أرسل إلى النّاس) في أمره ونهيه (أو قال بعد نبيّكم نبيّ) أي يوجد بأن يولد أو نبي ناسخ لدين محمد لئلا يشكل بعيسى عليه الصلاة والسلام ولكن اليهودي لم يقصد ذلك وإنما يتصور من النصراني هنالك (أنّه يستتاب إن كان معلنا بذلك) بخلاف ما إذا كان مخفيا فإنه معتقده هنالك (فإن تاب) من اعلان مثل هذا المقال (وإلّا قتل) في الحال (وذلك) أي قتله (لأنّه مكذّب للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله) كما رواه الثقات (لا نبيّ بعدي) الأولى أن يستدل بقوله تعالى ولكن رسول الله وخاتم النبيين لأن الحديث ما ثبت متواترا ليفيد اليقين ولا مشهورا عند المحدثين وإن كان مشتهرا على السنة المؤمنين (مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ فِي دَعْوَاهُ عَلَيْهِ الرِّسَالَةَ والنّبوة) أي إحديهما؛ (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ مَنْ شَكَّ فِي حرف) أي من تردد في صحة حرف في القرآن (ممّا جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عن الله) أي وثبت مجيئه به متواترا (فهو كافر جاحد) أي معاند ملحد وكان الأظهر أن يقول من أنكر لأن من توقف في بعض الحروف المختلفة بين القراء السبعة وإن كانت كلها متواترة ولم يدر جزما بأنه مما جاء به عن الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 تعالى أم لا لا يحكم بكفره فإن كثيرا من الناس إذا ترددوا في كلمة يراجعون القراء العارفين بالقراءة لا يقال مراده بالحرف هو المجمع عليه فإن الإشكال باق على حاله إذ لا يخلو قارئ عن تردد في حرف من حروفه نعم من شك في حرف مع علمه بأنه من القرآن فلا شك أنه كافر، (وقال) أي ابن سحنون (من كذّب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي مطلقا (كان حكمه عند الأمّة) أي جميعهم (القتل) وإنما الخلاف في أنه هل يستتاب ولو بالاستمهال أم لا بل يقتل في الحال، (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ صَاحِبُ سُحْنُونٍ من قال إنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام أَسْوَدُ قُتِلَ. لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم بأسود) بل كان أبيض كأنما صيغ من فضة رواه الترمذي في الشمائل عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وفي رواية مسلم والترمذي عن أبي الطفيل كان أبيض مليحا وفي رواية البيهقي في الدلائل عن علي رضي الله تعالى عنه كان أبيض مشربا بالحمرة يعني لأنه أبيض أمهق وهو البياض المشبه بالجص المكروه عند أكثر الطبائع السليمة والحاصل أن بياض لونه ثابت في الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة مختلفة في المبنى متواترة في المعنى فمن قال في حقه إنه كان أسود يكفر حيث وصفه بغير نعته الموجب لنفيه وتكذيبه لكن قد يعذر قائله إذا كان جاهلا بوصفه عليه الصلاة والسلام لا سيما إذا كان من العوام إلا إذا أراد به تنقصه واستهانته عليه الصلاة والسلام وهذا يختلف باختلاف العرف بين الأنام إذ السواد مرغوب بين الحبشة والهنود كما أن البياض مطلوب عند العرب والاعجام وإلا روام (وقال نحوه) أي مثل مقال ابن أبي سليمان (أبو عثمان الحدّاد قال) أي أبو عثمان وأبعد الدلجي حيث قال أي ابن أبي سليمان (لو قال) أي أحد من المسلمين (إنّه مات قبل أن يلتحي) أي قبل أن تنبت لحيته (أو أنّه كان بتاهرت) وفي نسخة بتهرت وهو بمثناة فوقية في أوله وآخره وبفتح الهاء وسكون الراء مكان بأقصى المغرب قيل هو آخر العمارة (ولم يكن بتهامة) بكسر أوله أي مكة أو أرض الحجاز (قتل لأن هذا نفي) متضمن لوجوده وظهور كرمه وجوده ثم القولان كلاهما مخالف للكتاب والسنة المشهورة أما بطلان القول الأول فيستفاد من قوله تعالى قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وأما بطلان القول الثاني فيستفاد من قوله تعالى لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها والمراد بأم القرى مكة بالإجماع وأما بطلانهما من الحديث فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام بعث على رأس اربعين سنة فأقام بمكة ثلاثة عشر وبمدينة عشرا وتوفي وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء (قال حبيب بن ربيع تبديل صفته) أي المشهورة (ومواضعه) أي المأثورة بغيرهما (كفر) به ونفي لوجوده (والمظهر له) أي لتبديلها (كافر) أي ابتداء أو مرتد أي انتهاء (وفيه الاستتابة) أي طلب التوبة (والمسرّ له) أي المخفي لهذا الاعتقاد الفاسد والكاتم لهذا القول الكاسد (زنديق يقتل دون استتابة) أي في مذهب مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 فصل (الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْكَلَامِ بِمُجْمَلٍ) مشتمل على تعدد معنى محتمل (أو يلفظ) بكسر الفاء أي أو ينطق (من القول بمشكل) باللام في آخره أي بمعضل وتصحف على الدلجي بكافين فقال أي بما يوقع متأمله في الشك (يمكن حمله) أي يجوز إطلاق ما ذكر من المجمل (على النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ يَتَرَدَّدُ فِي المراد به) أي بالمشكل (من سلامته من المكروه أو شرّه) أي من ملامته فهو عطف على سلامته لا على المكروه كما توهم الدلجي وقال أي سلامته من شره (فههنا) من المقامين (متردّد النّظر) بفتح الدال الأولى مشددة أي محل تردد للمتأمل في المقالين (وحيرة العبر) توهم الأنطاكي فقال العبر بكسر العين وفتح الموحدة جمع عبرة بفتح وسكون الموحدة وهي الدمعة وحيرتها اجتماعها من قولهم تحير الماء أي اجتمع انتهى والصواب في هذا المقام أنه جمع عبرة بكسر فسكون وهي اسم من الاعتبار ومنه قوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ واستدل به النظار في صحة القياس أي وتحير في الأقيسة المتعارضة المنافية للقول اليقين (ومظنّة اختلاف المجتهدين) بكسر الظاء أي موضع الشيء ومآله الذي يظن كونه فيه (ووقفة استبراء المقلّدين) أي وتوقف لطلب براءة العلماء العالمين من القضاة والمفتين وهو بكسر اللام لأنه في مقابلة المجتهدين وضبطه التلمساني بفتح لأمه (ليهلك من هلك عن بيّنة) أي ليضل من ضل عن حجة واضحة (ويحيى من حيّ) وفي قراءة من حيى أي يهتدي من اهتدى (عن بيّنة) أي دلالة لائحة (فمنهم من غلّب) بتشديد اللام أي قدم (حرمة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وحمى حمى) بفتح الحاء الأولى وكسر الثانية أي وصان ساحة (عرضه) عن تنقصه في طوله وعرضه (فجسر على القتل) أي أقدم واجترأ على قتل قائله من غير استتابة (ومنهم من عظّم حرمة الدّم) المعصوم في أصله (ودرأ الحدّ) أي ودفع القتل (بالشّبهة) على الناظر فيه (لاحتمال القول) أي قوله إن يراد به الذم أو خلافه وهذا هو الأولى لقوله عليه الصلاة والسلام ادرؤوا الحدود بالشبهات كما رواه جماعة من الثقات وزاد ابن عدي واقيلوا الكرام عثراتهم إلا في حد من حدود الله تعالى وروى ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه ادفعوا الحدود عن عباد الله تعالى ما وجدتم لها مدفعا هذا وفيما نحن فيه يمكن الجمع بين حمى العرض وبين الدرء بعرض التوبة عليه فإن تاب وإلا قتل فيرتفع حينئذ الإشكال ويزول الاحتمال بالجواب والسؤال والله تعالى اعلم بالحال (وقد اختلف أئمّتنا) أي المالكية (في رجل أغضبه غريمه) أي طالب دينه (فقال له) غريمه (صلّ على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له الطّالب) أي غريمه (لَا صَلَّى اللَّهُ عَلَى مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 صَلَّى عَلَيْهِ فَقِيلَ لِسُحْنُونٍ هَلْ هُوَ كَمَنْ شتم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي منتقصا له (أو شتم الملائكة الّذين يصلّون عليه) صفة كاشفة وظاهره أنه شتم لله وملائكته منطوقا ولرسوله ضمنا مفهوما فإن الله تعالى قَالَ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ وكأن المصنف اقتصر على ذكر الملائكة لقوله لا صلى الله فإن الظاهر منه المغايرة (قال) سحنون (لا) أي لا شتم هنا مطلقا (إذا كان) أي حال قائله (على ما وصفت) أنت (من الغضب) أي من غضبه على مديونه (لأنّه لم يكن) حينئذ (مضمرا للشّتم) أي لا للنبي ولا لغيره من الملائكة وغيرهم بل المراد به امتناعه حينئذ من الصلاة المشعر ذكرها بالمساهلة في المعاملة كما في العرف والعادة حال المجاملة، (وقال أبو إسحاق البرقيّ) بفتح الموحدة (وأصبغ بن الفرج) بالجيم (لا يقتل لأنّه إنّما شتم النّاس) أي بظاهره لا أراد غيرهم بل أراد منهم بحسب لفظة الناس الموجودين لا الآتين والماضين لئلا يكون شتما للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه الكرام والعلماء العظام والمشايخ الكرام والتعبير بالشتم فيه مسامحة لغوية إذ كلامه جملة دعائية وهذا قريب من اللغو في العبارات العرفية (وهذا) الذي ذكر عنهما (نحو قول سحنون) لا أنه يغايرهما ويعارضهما (لأنّه) أي سحنون (لم يعذره) بكسر الذال أي لم يسامحه (بالغضب في شتم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ضمنا ولا في شتم الملائكة ظاهرا (ولكنّه) أي الشأن (لمّا احتمل الكلام عنده) أي احتمالين فاحتاج إلى قرينة مرجحة لأحد الحالين (ولم تكن معه) أي مع كلامه (قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى شَتْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ شَتْمِ الْمَلَائِكَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم ولا مقدّمة) أي سابقة من قرائن المقال أو الحال (يحمل عليها كلامه بل القرينة) الحالية (تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ النَّاسُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ) أي النبي والملائكة ففيه نوع تغليب وقد تصحف علي الدلجي وتحرف في أصله غيرها أي غير الملائكة (ولأجل) أي ولا مقدمة لأجل (قول الآخر) والصواب أن التقدير وهذه القرينة الحالية لأجل قول الآخر وهو غريمة (لَهُ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ فَحُمِلَ قَوْلُهُ وَسَبُّهُ) أي دعاؤه عليه (لِمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ الْآنَ لِأَجْلِ أَمْرِ الْآخَرِ له بهذا عند غضبه) وهذا نظير ما قال علماؤنا في يمين الفور من أنها محمولة على وقت اليمين دون ما بعده على أن هنا احتمالا آخر وهو أن يكون تقدير كلامه لا أصلي عليه أنا في هذه الحال صلى الله تعالى عليه وسلم في الماضي والاستقبال (هَذَا مَعْنَى قَوْلِ سُحْنُونٍ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِعِلَّةِ صاحبيه) أي الدليل البرقي وأصبغ على ما تقدم (وذهب الحارث بن مسكين القاضي) قال الحلبي هذا ففيه مشهور أموي مولى مروان مصري أخذ عن ابن عيينة وابن وهب وابن القاسم وسأل الليث وعنه أبو داود والنسائي وجماعة ثقة حجة عاش نيفا وتسعين سنة قال الخطيب كان ثبتا في الحديث ففيها على مذهب مالك حمله المأمون إلى بغداد أيام المحنة لأنه لم يجب إلى القول بخلق القرآن فلم يزل محبوسا إلى أن ولي المتوكل فأطلقه فحدث ببغداد ورجع إلى مصر وكتب إليه المتوكل بعهده على قضاء مصر (وغيره) أي من العلماء المالكية (في مثل هذا) القول وهو لا صلى الله (إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 القتل) لشموله ظاهرا شتم كل من صلى عليه من ملائكة وغيرهم (وَتَوَقَّفَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ فِي قَتْلِ رَجُلٍ قال كلّ صاحب فندق) وهو بضم الفاء وسكون النون وداله المهملة تضم وتفتح الخان في عرف أهل مصر وهو موضع يأوي إليه الغرباء كالتجار من المسافرين ومن ليس له قريب من المجاورين (قرنان) بفتح القاف فعلان وهو نعت سوء في الرجل وهو الذي يتغافل عن فجور امرأته وابنته وأخته وقرابته وهو المسمى بالديوث وقيل المراد به القواد (ولو كان نبيّا مرسلا) ولعل وجه توقفه أنه حمل كلامه على قصد المبالغة العرفية الشاملة للأمور المحالية (فأمر) أي القابسي (بشدّة) أي ربطه (بالقيود) أي الوثيقة (والتّضييق عليه) بالإنكال الثقيلة (حتّى يستفهم البيّنة) أي يستخبر ما يبين أمره ويعين حاله الصادرة (عن جملة ألفاظه) أي كلماته في محاروته (وما يدلّ على مقصده) أي ارادته (هل أراد أصحاب الفنادق الآن) أي في ذلك الزمان (فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ فَيَكُونُ أمره أخف) إذ يمكن حمله على المبالغة وإرادة اعتقاده أنه من المحال فتعزيره أخف في مقام التنكيل ويمكن حمله على أن يجوز كون نبي مرسل يظهر بعد نبينا عليه الصلاة والسلام فيكون أمره اشد ولهذا قال بعض علمائنا أن من ادعى النبوة فقال له قائل اظهر المعجزة كفر (قال) أي القابسي (وَلَكِنْ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْعُمُومُ لِكُلِّ صَاحِبِ فُنْدُقٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَقَدْ كَانَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ من الأنبياء والرّسل من اكتسب المال) وفيه أن بعض الأنبياء والرسل وإن كانوا من أصحاب الأموال لكنهم لم يعرف مساكنهم في الخانات وعلى تقدير التنزل فالكلام إنما هو في تجويز صدور مثل هذا الفعل الشنيع والعمل الفظيع من النبي المرسل فتأمل فإنه من مواضع الزلل ولقد زل قلم الدلجي في قوله هنا فلعل أحدا منهم بنى فندقا لله تنزله المارة انتهى وفيه أن الكلام ليس فيمن بنى المقام وإنما المراد بصاحب الخان خادم أهله وحافظ جمعه وحاشا مقام الرسل والأنبياء عن مثل هذه الأشياء (قال) القابسي (ودم المسلم لا يقدم عليه) أي على سفكه (إلّا بأمر بيّن) كما قال عليه الصلاة والسلام لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة رواه الشيخان وفي الجواهر من كتب أصحابنا من قال قتل فلان حلال أو مباح قبل أن يعلم منه ردة أو قتل نفس بآلة جارحة عمدا على غير حق أو يعلم منه زنا بعد احصان كفر (وما تردّ إليه التّأويلات) أي وما يتصور فيه الاحتمالات (لا بدّ من إمعان) وروي انعام (النّظر) أي أعماق التأمل والتفكر (فيه) أي في أمره ليظهر الوجه المرجح في حقه (هذا معنى كلامه) أي كلام القابسي لا لفظه ومبناه وقال التلمساني ما ذكره القاضي من أن الأنبياء كانوا ذوي أموال قلنا وإن أراد به صاحب المال فبين وإن أراد به الحافظ والأمين فلا يوجد نبي فعل ذلك لأنه من أعظم النقائص فيكون معنى ذلك أنه مثل كذا فهو كالاول لأنه عيب ووصم في سائر الناس فما بالك بالأنبياء فيقتل قائل ذلك لأنه شبه الكامل بالناقص وفي تشبيهه الكامل بالناقص نقص ولم يبق إلا سائر الناس فعليه في ذلك الأدب الشديد لأن فيهم عالما ووليا وأذية سائر المسلمين توجب العقوبة والتعزير على قدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 القائل والقول والمقول فيه (وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رحمه الله تعالى) وفي نسخة عن ابن أبي زيد وهو أبو محمد القيرواني (فِيمَنْ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْعَرَبَ وَلَعَنَ اللَّهُ بني إسرائيل ولعن الله بني آدم) أي قال أحد هذه الأقوال (وذكر أنه لم يرد الأنبياء) لا من العرب ولا من بني إسرائيل ولا من غيرهم بل ولا العلماء والأتقياء (وإنّما أردت الظّالمين منهم) والفاسقين فيهم (أنّ عليه الأدب) أي التعزير (بقدر اجتهاد السّلطان) أي الوالي والقاضي قال الدلجي ظاهره وإن أدى إلى التلف وفيه أنه ينافي الأدب وهذا ما حكي عن ابن أبي زيد (وكذلك أفتى) أي ابن أبي زيد ولا يبعد أن يكون مندرجا تحت قوله وحكي (فِيمَنْ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ حَرَّمَ الْمُسْكِرَ وقال) أي وفيمن قال أو والحال أنه قال (لا أعلم من حرّمه) أن عليه الأدب بقدر اجتهاد السلطان وسيأتي الكلام عليه (وفي) أي وأفتى أيضا في (من لعن حديث لا يبع حاضر لباد) أي سوقي لبدوي (ولعن) أي وفيمن لعن (ما جاء به) من النهي عن بيعه له وفي نسخة صحيحة ولعن من جاء به وهذا مشكل جدا (أنه) أي وافتى بأنه (كان) وفي نسخة صحيحة وهي ظاهرة إِنْ كَانَ (يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ مَعْرِفَةِ السُّنَنِ) أي المأثورة (فعليه الأدب الوجيع وذلك) يحتمل أن يكون من كلام القاضي المؤلف أو من كلام ابن أبي زيد في توجيه افتائه (أنّ هذا) أي لأن قائله أو وسبب ذلك أنه (لم يقصد بظاهر حمله) من إسلامه (سَبَّ اللَّهِ وَلَا سَبَّ رَسُولِهِ وَإِنَّمَا لَعَنَ من حرّمه من النّاس) وفيه أن الذي حرمه من الناس هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو سب على تقدير جهله وظنه أن المحرم إنما هو بعض الناس من العلماء فمقتضى مذهبنا أنه يكفر ففي الجواهر لو قال من يقدر على أن يعمل بما أمر العلماء به كفر وذلك لأنه يلزم منه تكذيب العلماء على الأنبياء إلا أن يحمل من حرمه على من تسبب بتحريمه (عَلَى نَحْوِ فَتْوَى سُحْنُونٍ وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ المتقدّمة) وهي من قال لا صلى الله الخ ولكن بينهما فرق بين يمنع صحة المقايسة (ومثل هذا) الأولى ونظير هذا الذي تقدم (ما) زائدة أو موصولة وفي أصل الدلجي كثيرا ما (يجري في كلام سفهاء النّاس من قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ يَا ابْنَ أَلْفِ خِنْزِيرٍ، وَيَا ابْنَ مِائَةِ كَلْبٍ وَشِبْهِهِ مِنْ هُجْرِ القول) بضم الهاء وسكون الجيم أي فحشه وأغرب الدلجي بأن ادخل فيه قول بعضهم لبعض الأطفال يا ولد الزنا مع أنه قذف صريح (وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا العدد) وفي نسخة في هذين العددين (من آبائه وأجداده جماعة من الأنبياء) وفيه أن الظاهر من مقاله وقرينة حاله أنه أراد به الكثرة لا حقيقة العدد وعلى سبيل التنزل فلا يدخل فيه جماعة من الأنبياء لأن الناس في زماننا كلهم من نسل نوح عليه السلام ويتصور في غير بني إبراهيم عليه السلام أنه لا يدخل أحد من الأنبياء في آبائه وأجداده وفي بني إسرائيل أيضا يجيء هذا البحث من المائة بل من الألف وإنما التوقف في السادة الأشراف مع أنه قد يقال إنه يريد خلقته من نطفة جمع فساق اجتمعوا على وطئ أمه فحينئذ يكون قذفا إلا أنه لأجل حصول الاحتمال يدرأ عنه الحد في الحال (ولعلّ بعض هذا العدد منقطع) أي منفصل وفي نسخة سنقطع عند نسبه (إلى آدم عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 السلام) بل إلى نوح بل إلى إبراهيم عليهم السلام وأولاده فلا محذور حينئذ في كلامه وقد أغرب الدلجي بقوله أي متصل به من انقطع إليه ولم يركن إلى غيره ومن ثم عداه بإلى وليس بمعنى منفصل إذ لو كان بمعناه لعداه بعن وأنت خبير بأنه تعلق بتصحيح مبناه وغفل عن تصريح معناه فالوجه ما بيناه على ما قدمناه (فينبغي) أي فيجب مع هذا (الزّجر عنه وتبيين ما جهل قائله منه) وفي نسخة بتبيين جهل قائله (وشدّة الأدب) أي التأديب (فيه ولو علم) بالبناء للمفعول أي ولو عرف (أَنَّهُ قَصَدَ سَبَّ مَنْ فِي آبَائِهِ مِنَ الأنبياء) بالعدد الذي ذكره (على علم) منه به (لقتل) به وهذا واضح (وقد يضيّق القول في نحو هذا) المقول (لو قال) أحد (لرجل هاشميّ) أي من بني هاشم بن عبد مناف بن قصي جد عبد الله أبي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لَعَنَ اللَّهُ بَنِي هَاشِمٍ وَقَالَ أَرَدْتُ الظَّالِمِينَ منهم) وهذا إذا كان لم يتصور وجود مائة أب وألف قبل وصولهم إلى إسماعيل عليه السلام وإلا فلا يعرف هاشمي قبل الإسلام إلا ظالم ثم لا يظهر قيدا لهاشمي لأن القرشي بل وغيرهم من العرب كلهم من نسل إسماعيل عليه السلام وحاصل كلام المنصف أنه يؤدب وحمل الدلجي على أنه من قبيل قول ابن أبي زيد فيمن قال لعن الله العرب أو لعن بني إسرائيل وقال أردت الظالمين منهم دون الأنبياء لأن نبينا عليه الصلاة والسلام من المنسوبين إلى هاشم وكذا علي والحسن والحسين وحمزة وجعفر والعباس وغيرهم اللهم إلا أن أرادوا أولاد هاشم من صلبه (أو قال) أي ويضيق الأمر إذا قال أحد (لرجل) معروف النسب (من ذرّيّة النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا قَبِيحًا فِي آبَائِهِ أَوْ من) موصولة أي فيمن (نسله أو ولده) بتخفيف السين واللام وقد يشددان والمعنى فيمن بدره أو ولده ومن بمعنى الذي وفي نسخة من بكسر الميم على أنه حرف جر دخل على نسله بسكون السين وولده بفتحتين أو بضم فسكون (على علم منه) حال من ضمير قال والمعنى أنه غير جاهل (أنه من ذريّة النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ) المتعلقتين بالقول القبيح في آبائه ونسله وفي نسخة في المسألة أي المتقدمة (تقتضي تخصيص بعض آبائه) أي دون بغض (وإخراج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ممّن سبّه منهم) والمعنى أنه لا يوجد هنا قرينة دالة على قصد عمومهم ومن اللطائف أن بعض الإشراف قال لمن يخاصمه كيف ويعاديه تخالفنا وقد أمرت بالصلاة علينا فقال له خرج منها أمثالكم بقولي وعلى آله الطيبين الطاهرين (وقد رأيت لأبي موسى بْنِ مَنَاسَ فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ لَعَنَكَ اللَّهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ عليه ذلك قتل قال القاضي وفّقه الله وقد كان) أي في سابق الزمان (اختلف شيوخنا) أي المالكية (فيمن قال لشاهد شهد عليه بشيء) جملة حالية ولا يبعد أن يكون نعتا لما قبله (ثمّ قال) أي الشاهد (له تتّهمني) أي اتتهمني في شهادتي أو غيرها (فقال له الآخر) أي المشهود عليه (الأنبياء يتّهمون) إن أراد بالكذب فهذا كفر صريح وإن أراد ببعض المعاصي فلا لكن السياق قرينة للأول فتأمل (فكيف أنت) أي أنت أولى بأن تتهم (فَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ جَعْفَرٍ يَرَى قتله لبشاعة ظاهر اللّفظ) أي لكراهته وفي نسخة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 لشناعة بشين وعين أي لقبحه وإن كان يمكن صرفه عن ظاهره بأنهم متهمون ببعض المعاصي (وكان القاضي أبو محمد بن منصور) اللخمي ولد سنة ثمان وخمسين وأربعمائة (يتوقّف عن القتل) أي احتياطا (لاحتمال اللّفظ عنده) أي احتمالا بعيدا (أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَمَّنِ اتَّهَمَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي بالكذب في الأخبار (وأفتى فيها) أي في المسألة هذه (قاضي قرطبة) بضم القاف والطاء المهملة (أبو عبد الله بن الحاج) أي التجيبي قتل بجامع قرطبة يوم الجمعة ظلما وهو ساجد وقتله رجل معتوه وقتلته العامة في الموضع الذي قتله فيه وقد ضرب رحمه الله تعالى بسكين في خاصرته وقيل قتل يوم الجمعة سادس عشر شهر رمضان سنة تسع وعشرين وخمسمائة ودفن بعد صلاة العصر قال الدلجي هو غير ابن الحاج صاحب المدخل (بنحو من هذا) أي توقف ابن منصور وفي نسخة بنحو هذا (وشدّد القاضي أبو محمد) أي ابن منصور (تصفيده) أي توثيقه وتقييده (وأطال سجنه ثمّ استحلفه بعد) أي حلفه بعد أن فعل به ذلك (على تكذيب ما شهد به عليه) من الحق (إِنْ دَخَلَ فِي شَهَادَةِ بَعْضِ مِنْ شَهِدَ عليه وهن) أي نوع طعن يوجب ضعف اعتماد وقلة اعتقاد (ثمّ أطلقه) أي من التقليد وتركه وفيه أن هذه التحليف ليس له دخل في أصل المقصود من المسألة في تهمة بعض الشهود وإنما الكلام في نسبة التهمة إلى أرباب النبوة اللهم إلا أن يقال إنه كان منكرا لهذه المقالة وثبت عليه بالبينة في تلك الحالة إلا أن بعض الشهود لم يكونوا مزكين (وشاهدت شيخنا القاضي أبا عبد الله) اسمه محمد (ابن عيسى) أي ابن حسين التيمي ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائه وقد تفقه المنصف به (أَيَّامَ قَضَائِهِ أُتِيَ بِرَجُلٍ هَاتَرَ رَجُلًا اسْمُهُ محمّد) أي قال له سفها من القول يقال هتر العرض أي مزقه وقال ابن الأثير ومن قبله الهروي في الغربيين واللفظ للثاني المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان أي يتقاولان ويتفالجان في القول (ثمّ قصد إلى كلب) هنالك زيادة على ذلك (فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ لَهُ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ وَشَهِدَ عليه لفيف) أي جمع كثير (من النّاس) أي من قبائل شتى ومنه قوله تعالى جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي مجتمعين مختلطين (فأمر به إلى السّجن) بكسر السين أي إلى إدخاله فيه وفي نسخة بفتحها أي إلى حبسه (وتقصّى) بقاف وصاد مهملة مشددة أي استقصى وبالغ في التفحص والبحث (عن حاله) ليظهر منه حقيقة مقاله (وهل يصحب من يستراب بدينه) أي يشك في إسلامه من ذمي ونحوه (فلمّا لم يجد) أي ابن عيسى (عليه ما يقوّي الرّيبة) أي التهمة والشبهة (باعتقاده ضربه بالسّوط) وفي نسخة بالسياط تعزيرا له حيث خاطب الكلب بالاسم الشريف ولم يظهر منه ما يدل على أنه أراد الإهانة بالنبي المنيف (وأطلقه) ولم يقتله. فصل [أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا وَلَا يَذْكُرَ عَيْبًا ولا سبا لكنه ينزع إلى آخره] (الوجه الخامس أن لا يقصد) أي في مجمل قوله (نقصا) لنبيه (ولا يذكر عيبا) في أمره (ولا سبّا) أي شتما أو ذما في حقه (لكنّه) في محتمل كلامه (ينزع) أي يميل وينجذب (بذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 بعض أوصافه) عليه الصلاة والسلام إلى ما يصرفه عن أن يفهم منه نقص أو ذم في اثناء الكلام (أو يستشهد) في بعض ما قاله (ببعض أحواله عليه الصلاة والسلام الجائزة عليه في الدّنيا) مما سبق بيانه وتقدم برهانه (على طريق ضرب المثل) متعلق بيستشهد (وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عَلَى التَّشَبُّهِ به) أي قوله عليه الصلاة والسلام أو فعله (أو عند هضيمة) أي نقيصة عظيمة (نالته) أي أصابته (أو غضاضة) بالغين والضاد المعجمتين أي مذلة وحقارة (لحقته) حصلت له عليه الصلاة والسلام (ليس على طريق التّأسّي) أي الاقتداء به (وطريق التّحقيق) أي الاهتداء به (بل على مقصد التّرفيع) بالفاء أي على جهة اعلائه (لنفسه) في ابتلائه (أو لغيره) من نحو آبائه أو ابنائه (أو على سبيل التّمثيل) أي التشبيه لنفسه أو لغيره به عليه الصلاة والسلام (وعدم التّوقير) أي التبجيل والتعظيم في تمثيله (لنبيّه عليه الصلاة والسلام أو قصد الهزل) بصيغة الماضي أو المصدر المضاف (والتّنذير) مصدر ندر بدال مهملة مشددة ومعناه الإسقاط أي أو قصد الساقط من القول أو الفعل (بقوله) ويجوز أن يكون من مادة الندور وهو الشذوذ فالمراد الإتيان بنادر من قول أو فعل بشيء غريب والحاصل أنه خلاف التشهير مما يقتضي التعظيم والتوقير وقع في أصل الدلجي بالموحدة والذال المعجمة والظاهر أنه تصحيف في المبنى وتحريف في المعنى حيث قال أي الإعلام بقوله وقال التلمساني وعند الشارح التنديد بالدال أي في آخره قال وهو كالغيبة يقال ندد بفلان إذا قال فيه كلمة سوء قال الجوهري يقال ندد به أي شهره وسمع به ومعناهما متقاربان انتهى ولا يخفى أنه تصحيف أيضا لأن هذا وقع سجعا في مقابلة قوله التوقير فيتعين أن يكون براء في آخره والله تعالى أعلم بباطنه وظاهره (كقول القائل إن قيل فيّ) بتشديد الياء أي أن ذكر في حقي (السّوء) بفتح السين وضمها كما قرئ بهما في السبعة قوله تعالى عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وروي هنا بال وبدونها (فقد قيل في النبيّ) أي السوء بمثل ما يسوءه ويحزنه (أو إن كذّبت) بتشديد الذال مجهولا (فقد كذّب الأنبياء) وهذا وما قبله له محل حسن إذ ظاهره أنه أراد به التسلية بهم في مقام الاقتداء ومرام الاهتداء بالصبر على أقوال الأعداء ورميهم للناس بالأشياء من الأسواء وأما قوله (أو إن أذنبت فقد أذنبوا) ففيه خطر عظيم لعصمة الأنبياء لاسيما وقد غفر لهم ما كان في صورة المعصية وظهر منهم الأوبة في مقام التوبة فلا يذكر الذنب المعفو بلا شبهة في مقابلة الذي هو حقيقة المعصية وإن تاب صاحبه عنه فهو تحت المشيئة لعدم صحة شرائط التوبة فلا يقاس الصعلوك بالملوك (أو أنا) أي وأنا (أسلم من ألسنة النّاس) أي من أن ينسبوا إلى ما لم أفعله (ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله) كما قال قائل: ولا أحد من ألسن الناس سالم ... ولو أنه ذاك النبي المطهر (أَوْ قَدْ صَبَرْتُ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ) وهذا خطأ فاحش عند أولي الحزم بل يوهم أنه فضل نفسه على بعض الأنبياء الذين قيل في حقهم أنهم ليسوا من أولي العزم كآدم عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 الصلاة والسلام لقوله تعالى فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وكيونس عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (أو كصبر أيّوب) وهذا كذب ومجازفة في القول (أَوْ قَدْ صَبَرَ نَبِيُّ اللَّهِ عَنْ عِدَاهُ) بكسر العين اسم جمع لعدو أي عن أعدائه ويروى على عداه (وحلم) بضم اللام أي تحمل (على أكثر ممّا صبرت) أي تحملت عليه (وكقول المتنبّي) وهو أبو الطيب الجعفي الكوفي الشاعر الأديب المجيد الأريب صاحب الديوان المعروف وله من بدائع الشعر وحكمه أشياء عجيبة مشتملة على آداب وغيرها من أمور غريبة ولد بالكوفة سنة ثلاث وثلاثمائة ونشأ بالشام والبادية وقال الشعر في صغره واعتنى الفضلاء بشرح ديوان شعره قال السماني في أنسابه إنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه كثيرة من بني كلب وغيرهم فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص بالأخشيدية فأسره وفرق اصحابه وسجنه طويلا ثم أشهد عليه أنه تاب وكذب نفسه فيما ادعاه فأطلقه ثم طلب الشعر وقاله فأجاد وفاق أهل عصره في حسن شعره واتصل بسيف الدولة بن حمدان فأكثر مدحه ثم سار إلى عضد الدولة بفارس ومدحه وعاد إلى بغداد فقتل في طريقه بالقرب من النعمانية في شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وقيل إنما قيل له المتنبي لأنه قال: (أَنَا فِي أُمَّةٍ تَدَارَكَهَا اللَّهُ ... غَرِيبٌ كَصَالِحٍ في ثمود) وفيه أنه لا يلزم من هذا التشبيه دعوة النبوة والرسالة في مقام التنبيه وجملة تداركها الله دعائية معترضة وقبله: ما مقامي بأرض نحلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود (ونحوه) بالرفع أي ومثل شعره ويجوز جره أي وكقول نحوه (من أشعار المتعجرفين) أي المتجازفين المفرطين في المدح بحيث لم يبالوا في كلامهم ولم يهموا في أديانهم وعقائدهم (فِي الْقَوْلِ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِ الْمَعَرِّيِّ) بفتح الميم والعين المهملة وتشديد الراء وهو أبو العلاء اللغوي الشاعر المشهور كان متضلعا من فنون الأدب وله من النظم لزوم ما لا يلزم في خمس مجلدات وذكر أن له كتابا سماه الإيك والغصون يقارب مائة جزء في الأدب أيضا ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تدينا لأنه كان يرى رأي الحكماء توفى ليلة الجمعة ثالث شهر الربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة بالمعرة وكان مرضه في ثلاثة أيام وقبره في ساحة من دور أهله ذكره ابن خلكان وذكره الذهبي في الميزان فقال روى جزءا عن يحيى بن مسعر عن أبي عروبة الحراني وله شعر يدل على الزندقة سقت أخباره في تاريخي الكبير انتهى وفي حاشية التلمساني قال القراوي في كتاب اقتراح السميري في شرح مقامات الحريري يزعمون أنه منتحل لمذهب البراهمة مدمن على اعتقاده وفي أشعاره وأسماعه ما يدخل القلب منه ريبا منها قوله (كنت) بالخطاب (موسى وافته) أي من الموافاة أي أتته (بنت شعيب) واختلف في اسمها (غير أن ليس فيكما من فقير) فإنه شبه فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 ممدوحه وزوجته بموسى عليه السلام وامرأته وهي بنت نبي جهلا منه برفيع شأنهم وبديع مكانهم (على أنّ آخر البيت) أي مع أن عجزه (شديد) في القبح عند تدبره لأن مضمونه التعيير لموسى بفقره (وداخل في الإزراء) أي الاحتقار والانتقاص (والتّحقير بالنبيّ) أي الكليم (عليه الصلاة والسلام وتفضيل حال غيره) من الأمراء الأغنياء (عليه) وسبب هذا كله التوصل للأغراض الدنية والأعراض الفانية والاعراض عن الدار الباقية بما يخفض الأنبياء ويرفع السخفاء (وكذلك) أي ومثل هذا الإزراء في حق الأنبياء (قوله) أي شعر أبي العلاء المعري عن مقام الثناء: (لَوْلَا انْقِطَاعُ الْوَحْيِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... قُلْنَا مُحَمَّدُ) بالضم (عن أبيه بديل) لغة في بدل كمثل ومثيل وشبه وشبيه: (هُوَ مِثْلُهُ فِي الْفَضْلِ إِلَّا أَنَّهُ ... لَمْ يأته برسالة جبريل) قال التلمساني اجترأ على الله ورسوله في قوله من أبيه فأثبت له أبوة والله تعالى يقول مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ فكذب كتاب الله وجعل الفضل متساويا وهو كما قال الغزالي شبه الملائكة بالحدادين من شبه من ليس بشيء برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بل جعله مساويا له وهو محمد بن الرشيد العباسي (فصدر البيت الثّاني من هذا الفصل) بالصاد المهملة أي النوع من الكلام (شديد) أي في مقام قبح المرام وشدة الملام (لتشبيهه غير النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في فضله بالنّبي والعجز) أي وآخر البيت الثاني (محتمل لوجهين) وفي نسخة محتمل لوجهين وفي أخرى يحتمل الوجهين أي أحدهما أقبح من الآخر (أحدهما أنّ هذه الفضيلة نقّصت الممدوح) بتشديد القاف أي خفصته عن رفيع مقام النبي (والآخر استغناؤه عنها) أي عن رسالة جبريل عليه الصلاة والسلام (وهذه) الإرادة (أشد) كفرا من الاحتمال الأول فتأمل وإن كان الاحتمال الأول هو الأظهر فتدبر (ونحو منه قول الآخر) قال الحلبي لا أعرفه وقال التلمساني وهو للمعرى انتهى والأول أظهر وإلا قال قوله الْآخَرِ: (وَإِذَا مَا رُفِعَتْ رَايَاتُهُ ... صَفَّقَتْ بَيْنَ جناحي جبريل) وفي نسخة جبرئين بالنون وهو لغة كما يقال في إسرائيل وإسماعيل ونحوهما وما زائدة ورفعت مبنى للمجهول والرايات جمع راية وهي العلم وصفقت بتشديد الفاء من التصفيق بمعنى التصويب والتضعيف للتكثير وفي نسخة خفقت والمعنى اضطربت برياح النصر وهذا اجتراء على هذا الملك العظيم (وقول الآخر من أهل العصر) أي زمن المصنف قال الحلبي لا أعرفه: (فَرَّ مِنَ الْخُلْدِ وَاسْتَجَارَ بِنَا ... فَصَبَّرَ اللَّهُ قلب رضوان) بكسر الراء وضمها أي خازن الجنة قال الدلجي أي على فراقه إذ لم يجاوره فيه وهذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 عجرفة كاذبة وقال التلمساني استجار من الجوار أي لجأ إليه وسأله الاستنقاذ انتهى ومع هذا كله يتبين خلاصة المعنى من هذا المبنى حتى يتفرع عليه مذمة من كفر أو فسق على ما لا يخفى (وكقول حسّان) يصرف ولا يصرف (المصيصي) نسبة إلى مصيصة كسفينة بلد بالشام ولا يشدد كذا في القاموس وقال التلمساني بكسر الميم يخفف ويشدد وقيل لا يصح التشديد وقيل إن كسر شدد وإن فتح خفف وقيل بكسر الميم ويخفف ويفتح ويخفف وهو موضع من ثغور الشام (من شعراء الأندلس) بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الدال ويضم وضم اللام وفي نسخة شعار الأندلس على أنه مبالغة شاعر (في محمد بن عبّاد) بتشديد الموحدة وكنيته أبو القاسم من ملوك الأندلس (المعروف بالمعتمد) بكسر الميم الثانية أي المعتمد بالله تعالى توفي في السجن سنة ثمان وثمانين وأربعمائة له قصة عجيبة مذكورة في تاريخ ابن خلكان (ووزيره) أي وفي وزيره ومشيره (أبي بكر بن زيدون) يصرف ويمنع: (كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَبُو بَكْرِ الرِّضَا ... وَحَسَّانَ حسّان وأنت محمّد) أي كان وزيرك أيها الممدوح أبا بكر بن زيدون أبو بكر الصديق وشاعرك حسان المصيصي حسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنك أنت الممدوح محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أطال الشراح تبعا للمصنف على هذا المقال لكن لا يخلو عن نوع من الإشكال فإنه لا يلزم من التشبيه التسوية في الكمال بل من القاعدة المقررة أن المشبه به أقوى في جميع الأحوال كما هو مقرر في زيد الأسد الذي هو أبلغ من زيد كالأسد ومنه قولهم أبو يوسف أبو حنيفة ويقال وجه فلان كالبدر أو الشمس أو القمر وأمثال ذلك فتدبر وكان المصنف رحمه الله تعالى أراد سد باب الذريعة ليحذر الناس عن المقالات الشنيعة (إلى أمثال هذا) أي الذي ذكرناه من المتعجرفين (وإنّما أكثرنا) بتشديد المثلثة وفي نسخة أكثرنا (بشاهدها مع استثقالنا حكايتها) أي روايتها عل أن ثقل الكفر ليس بكفر لكن صيانة الألسنة عنه أولى إلا لضرورة داعية (لتعريف أمثالها) وفي أصل التلمساني لتعرف بها أمثلتها وروي لتعرف أمثلتها وروي لتعريف أمثلتها (ولتساهل كثير من النّاس) أي من الشعراء وغيرهم (في ولوج هذا الباب الضّنك) بفتح الضاد المعجمة وسكون النون أي دخول هذا الطريق الضيق في المعيشة وغيرها ومنه قوله تعالى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وقيل الطريق المظلم ويلائمه قوله تعالى وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (واستخفافهم فادح هذا العبء) بكسر العين المهملة وسكون الموحدة بعدها همزة الحمل والفادح بالفاء وكسر الدال والحاء المهملتين الثقل أي وعد الناس ثقل هذا الحمل خفيفا (وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِعَظِيمِ مَا فِيهِ مِنَ الْوِزْرِ) أي الإثم الثقيل (وكلامهم منه بما) وفي نسخة وكلامهم فيه مما (ليس لهم به علم وتحسبونه هيّنا وهو عند الله عظيم) وهذا مقتبس من قوله تعالى إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أي صغيرة وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 عَظِيمٌ أي كبيرة وقد جزع بعض الأكابر عند موته فقيل له لم جزعت فقال أخاف ذنبا لم يكن مني على بال قلت ونعم ما قيل وجودك ذنب لا يقاس به ذنب (لا سيّما الشّعراء) الذين ورد في حقهم وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وقليل ما هم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قال التلمساني لا سيما يشدد ويلزمه الواو وقيل لا ويخفف ولا واو وقيل بالواو وبدونها يخفف ويشدد ويقال لا سواها وما بعد لا سيما معرفة فيجر ويرفع وينصب وقيل النصب فيه لا يصح ونكرة فالثلاثة والمختار أن ما زائدة وسي مضاف لما بعده والرفع خبر لمحذوف وما موصولة أو نكرة موصوفة وهو ضعيف في المعرفة قيل وينصب المعرفة وجهه أن ما كافة ولا سيما كذلك في الاستثناء وهو ضعيف لأن الاستثناء إخراج وهذا فيه إدخال هذا وقد قيل الشعراء أمراء الكلام يصرفونه حيث شاؤه وجاز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومد مقصوره وقصر ممدوده والجمع بين لغاته والتألق في صفاته وقيل الاقتصاد محمود إلا منهم والكذب مذموم إلا منهم وقيل إياكم والشاعر فإنه يطلب على الكذب مثوبة ويقرع جليسه بأدنى زلة ولذا قيل فيهم: الكلب والشاعر في رتبة ... يا ليت أني لم أكن شاعرا وأقول بل الكلب أحسن منه ما أشار إليه الشاطبي بقوله: وقد قيل كن كالكلب يقصيه أهله ... وما يأتلي في نصحهم متبذلا والمشهور أن فيه عشر خصال من خصال الرجال الإبدال ما أظن أن واحدة منها توجد في شاعر الحال (وأشدّهم فيه تصريحا وللسانه تسريحا) أي إرسالا وإطلاقا من غير أن يكون تلويحا (ابن هانىء) بكسر النون فهمز وقد يسهل (الأندلسيّ) قال الحلبي هو أبو القاسم محمد الأزدي وكان أبوه هانئ من قرية من قرى المهدية ولد بمدينة اشبيلية ونشأ بها واشتغل وحصل له حظ وافر من الأدب وعمل الشعر فهمر فيه وكان حافظا لأشعار العرب وأخبارهم وكان متهما بمذهب الفلاسفة توجه إلى مصر ثم عاد إلى المغرب فلما كان ببرقة إضافة شخص فأقام عنده أياما فعربدوا عليه فقتلوه وقيل بل وجد مخنوقا وقيل بل نام فوجد ميتا وذلك سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وهو في المغرب كالمتنبي في المشرق وكانا متعاصرين ذكره ابن خلكان (وابن سليمان) وفي نسخة وأبو سُلَيْمَانَ (الْمَعَرِّيُّ بَلْ قَدْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ كلامهما إلى حدّ الاستخفاف والنّقص) بالنبي (وصريح الكفر) بالله (وقد أجبنا عنه) أي عن كلامهما وما يترتب على مقامهما فيما مضى وفي هذا تنبيه نبيه على أنه يحرم سماع شعرهما وأمثالهما كما يحرم مطالعة كتب ابن عربي بل ومطالعة الكشاف ونحوهما حذرا من دسهما في كلامهما ما يعد من سمهما في دسمهما (وغرضنا الآن) هو (الكلام في هذا الفصل الذي سقنا أمثلته) نظما ونثرا (فإنّ هذه) الأمثلة (كلّها وإن لم تتضمّن سبّا) أي ذما صريحا (ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 أضافت إلى الملائكة والأنبياء نقصا) أي عيبا قبيحا (ولست أعني) أي أريد بهذا النفي (عجزي بيتي المعرّي) فإنه كفر واضح وإلحاد لائح وأما قول الدلجي ولست أعني عجزي بيتي المعري بل جميع ما ذكرناه من الأمثلة فخطأ فاحش من جهة لزوم التسوية ثم الجملة حالية معترضة بين المتعاطفين مما قبلها وما بعدها وهو قوله (ولا قصد قائلها إزراء) أي احتقارا (وغضا) أي انتقاصا كالمعرى لكن مع ذلك ما قام بحق الكلام فيما هنالك (فما وقّر النّبوّة) أي ما بجلها ولا صاحبها (ولا عظّم الرّسالة) ولا مرسلها (ولا عزّر) بتشديد الزاء وفي آخره راء أي ولا قوى (حرمة الاصطفاء ولا عزّز) بتشديد الزاء الأولى (حظوة الكرامة) بضم الحاء المهملة ويكسر وسكون الظاء المعجمة أي المترتبة المكرمة والمنزلة المعظمة (حتّى شبّه) من الممدوحين من الأمراء والوزراء (من شبّه) بما ذكر من الأنبياء والأصفياء (في كرامة نالها) أي لأجل جائزة أصابها من ممدوحه (أو معرّة) أي مصيبة أو منقصة أو مشقة (قصد الانتفاء منها) والتبري عنها (أو ضرب مثل) لكشف المراد (لتطييب مجلسه) أي لتطبيب مجلس القائل والمقول له ترغيبا في مجالسته ومخالطته ومصاحبته ومكالمته (أو إعلاء) بعين مهملة أي رفع ومبالغة وبغين معجمة أي مغالاة ومجاوزة في مقالات (في وصف لتحسين كلامه) وتزيين مرامه (بمن عظّم الله خطره) بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة أي منزلته (وشرّف قدره) أي مرتبته من انبيائه وأصغيائه (وألزم) كل أحد (توقيره) أي تعظيمه (وبرّه) بطاعته له وانقياده اكتسابا واجتنابا بقوله أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (ونهى عن جهر القول له) بقوله سبحانه وتعالى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (ورفع الصّوت عنده) أي حيا وميتا بقوله عز وجل لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قال الدلجي أي نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو موهم أن هذا مختص به وليس كذلك فإنه يشمله وغيره فمن أدرك عيسى عليه الصلاة والسلام فيجب عليه أن يكون معه كذلك في مقام الإكرام بل ويؤخذ منه التأدب مع العلماء الأعلام والمشايخ الكرام والقضاة الفخام بل مع الوالدين وسائر صلحاء الأنام (فحقّ هذا) القائل الذي لم يقصد بقوله نقصا ولم يذكر عيبا ولا سبا لكن كلامه بذكر بعض أوصافه ينزع إلى ما يصرفه عن أن تفهم من سبا أو نقصا (إن درىء) أي دفع (عنه القتل) أي احتياطا (الأدب) بضرب وجيع وتوبيخ فظيع (والسّجن) أي في مكان شنيع بحسب حاله (وقوّة تعزيره) أي شدة تأديبه وتشهيره (بحسب شنعة مقاله) بضم فسكون نون أي نكارته (وَمُقْتَضَى قُبْحِ مَا نَطَقَ بِهِ وَمَأْلُوفِ عَادَتِهِ) أي دأبه (لمثله) أي لمثل ما نطق به (أو ندوره) بضمتين أي مخلوف عادته (وقرينة كلامه) حالية أو مقالية (أو ندمه) أي أو بحسب ظهور ندامته (على ما سبق منه) وصدر عنه (ولم يزل المتقدّمون) من العلماء والأمراء (ينكرون مثل هذا) المدح الموهم للقدح (ممّن جاء به) من الشعراء (وقد أنكر الرّشيد) وهو هارون من أحفاد العباس (على أبي نواس) بضم النون فهمزة ويبدل كان والده مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان ولد بالبصرة ونشأ بها ثم خرج إلى الكوفة ثم صار إلى بغداد ديوانه معروف توفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 سنة خمس وتسعين ومائة ببغداد ودفن في مقابر الشونيزية ومن جيد شعره قوله في نعت النرجس: تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين جاريات ... على أطرافها الذهب السبيك على قضب الزمرد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك وقال إسحاق التمار رأيت أبا نواس فيما يرى النائم فقلت له ما فعل الله بك قال غفر لي فأنكرت ذلك فقلت ألست أبا نواس قال نعم غفر لي ربي بأبيات قلتها وهي في البيت تحت رأسي فقال فبكرت إلى ابنه فسألته عن الرقعة فأدخلني الدار فرفعت الحصير فإذا رقعة مكتوب فيها بخطه: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو ويرجو المجرم ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل ظني ثم إني مسلم أدعوك رب كما أمرت تضرعا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم هذا وإنما أنكر الرشيد (قَوْلَهُ: فَإِنُ يَكُ بَاقِي سِحْرِ فِرْعَوْنَ فِيكُمُ ... فإنّ عصا موسى بكفّ خصيب) بخاء معجمة وصاد مهملة أي رحيب الجانب كريم على الأقارب والأجانب قال التلمساني وعند الشارح أن المراد بخصيب عامل لبعض الملوك العباسيين وهو المأمون بن الرشيد وروي خضيب بالخاء والضاد المعجمتين يقال كف خضيب مختضب بالحناء أي إن يكن في مملكتكم أرض مصر بقية من سحر فرعون فلا هي تجدي نفعا مع وجود عصا موسى بكف أميرها خصيب تلقف ما يأفكون ولا شبهة أنه ما أراد به إثبات النبوة لممدوحه إلا أن في كلامه نوع من الاستعارة الموهمة في ظاهر العبارة لسوء الأدب هنالك فوبخه بذلك (وقال له يا بن اللّخناء) بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة فنون فألف ممدودة من اللخن وهو النتن أي يا ابن المنتنة (أنت المستهزىء) أي المستحقر (بعصا موسى) بجعلك إياها بكف خصيب (وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته) وفي نسخة من ليلته (وذكر القتيبيّ) بضم القاف وفتح الفوقية قال الحلبي أنه عبد الله بن مسلم بن قتيبة وفي نسخة بضم العين المهملة وسكون الفوقية (أنّ ممّا أخذ عليه) أي أنكر على أبي نواس (وكفّر فيه) وفي نسخة بتشديد الفاء مجهولا وفي نسخة به أي بسببه (أو قارب) أي قرب أن يكفر أو يكفر (قوله في محمد الأمين) أي ابن هارون الرشيد بن المهدي وتوفي الرشيد سنة ثلاث وتسعين ومائة فبويع للأمين بالخلافة في عسكر الرشيد صبيحة الليلة التي توفي فيها الرشيد وكان المأمون حينئذ بمرو وكتب صالح بن الرشيد إلى أخيه الأمين بوفاة الرشيد مع رجاء الخادم فأرسل معه خاتم الخليفة والبردة والقضيب ولما وصل إلى الأمين ببغداد أجيزت له البيعة ببغداد وتحول إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 قصر الخلافة ثم قدمت عليه زبيدة أمه من الرقة ومعها خزائن الرشيد فتلقاها ابنها الأمين بالإقبال ومعه جميع وجوه بغداد وقضاياه مشهورة قتل سنة ثمان وتسعين ومائة وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وكسرا (وتشبيهه) أي أبي نواس (إيّاه) أي محمد الأمين (بالنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال) وفي نسخة في الشعر (تنازع الأحمدان الشّبه فاشتبها) ... أي تشابها (خلقا وخلقا كما قدّ الشّراكان) الشبه بكسر الشين وسكون الموحدة لغة في شبه بفتحتين والخلق بفتح أوله ظاهر الخلقة وبضمه باطنها وأراد بها الصورة والسيرة يقال هذا شبه وشبهه أي شبيهة وقد يضم القاف وتشديد الدال المهملة أي قطع وقدر والشراك بكسر الشين سير النعل وأراد المبالغة في استوائهما في الفضل وهذا كفر صريح ليس له تأويل صحيح إلا أن يدعى أنه أراد بالأحمد غير محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنه عدل عن المحمدين إلى الأحمدين ليستقيم الوزن ولعله أراد بالسيرة صفة الأمانة ولكن بين الأمينين بون بين وإنما حمله على مقاله صورة موافقة الاسمين والوصفين (وقد أنكروا) أي العلماء أو الأمراء أو هما جميعا (أيضا عليه قوله) أي على أبي نواس وفي نسخة على الآخر وهو أصل التلمساني وقال هكذا روي وصوابه عليه لأنه قوله وقال الحلبي وفي نسخة على الآخر وفي نسخة عليه وهو الصحيح إذ قد صرح السهيلي في روضه بأنه من قول أبي نواس (كيف لا يدنيك من أمل) أي كيف لا يقربك من رجائك (من رسول الله من نفره) بفتح الميم الأولى وكسر الثانية أي رهطه وعشيرته وقرابته وأما إطلاق النفر على الخادم فحادث وإنما انكروا عليه (لأن حقّ الرسول) أي رسول الله (وموجب تعظيمه) بفتح الجيم أي مقتضى تكريمه وأبعد الدلجي فقال بكسر الجيم أي ما يوجب ترغيبا في تعظيمه (وإنافة منزلته) أي رفعة مرتبته (أن يضاف) أي ينسب غيره (إليه) أي إلى شرف نسبه وكريم حسبه (ولا يضاف) أي هو إلى أحد وفي نسخة إلى غيره وإلا فالإضافة النسبية وغيرها كلها تشبيه وقد يعذر قائله بصيغة القلب كما في قولهم عرضت الناقة على الحوض لا سيما في ضرورة الشعر إلا أنه في حقه عليه الصلاة والسلام لا يعذر بمثل هذا الكلام وحكي عن علي بن الأصفر وكان من رواة أبي نواس قال لما عمل أبو نواس قصيدة: أيها المنساب عن عفره ... أنشدنيها فلما بلغ قوله كيف لا يدنيك من أملي ... من رسول الله من نفره وقع لي أنه كلام مستهجن في غير موضعه إذ كان حق رسول الله أن يضاف إليه ولا يضاف هو إلى أحد فقلت له أعرفت عيب هذا البيت قال ما يعيبه إلا جاهل بكلام العرب إنما أردت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من القبيل الذي هو المدوح أما سمعت قول حسان بن ثابت شاعر دين الإسلام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وما زال في الإسلام من دين هاشم ... دعائم عز لا ترام ومفخر بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير قال الحلبي نقلا عن السهيلي أن البهاليل جمع بهلول وهو الوضيء الوجه مع طول وقوله ومنهم أحمد المتخير فدعا به بعض الناس لما أضاف أحمد المتخير إليهم وليس بعيب لأنها ليست بإضافة تعريف وإنما هو تشريف لهم حيث كان منهم وإنما ظهر العيب في قول أبي نواس كيف لا يدنيك البيت لأنه ذكر واحدا وأضاف إليه قال التلمساني وإنما أراد التخلص بحجة ما في رواية أقول لما قيل الغريق يتعلق بكل حشيش وأما قول الأنطاكي ويستند أيضا بقول حسان هذا على جواز التقديم والتأخير في الواو فإنه بدأ في اللفظ بجعفر ثم جاء بعده بعلي ثم بالنبي عليه الصلاة والسلام وهو المقدم في الحقيقة ففيه أن هذا من قبيل الترقي لا التدلي (فالحكم في أمثال هذا) الذي أوردناه وفي نسخة في مثل هذا قال التلمساني هو أنسب (ما بسطناه) أي ما فصلناه وبيناه (من) وفي نسخة في (طريق الفتيا) بضم الفاء لغة في الفتوى بفتحها وهما مشهورتان ما ذكره النووي يعني أن كلا يقضى عليه بحسب ما ظهر منه وصدر عنه (على هذا المنهج) الذي سلكناه والمعنى على طبقه ووفقه (جَاءَتْ فُتْيَا إِمَامِ مَذْهَبِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رحمه الله وأصحابه) أي اتباعه ممن أدركه وغيره (فَفِي النَّوَادِرِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ) أي الجمحي البصري أبو محمد الحافظ يروي عن الليث وطائفة وعنه ابن معين وأبو حاتم وجماعة ثقة أخرج له الأئمة الستة (عنه) أي عن مالك (فِي رَجُلٍ عَيَّرَ رَجُلًا بِالْفَقْرِ فَقَالَ: تُعَيِّرُونِي) أي بالفقر كما في نسخة أي اتعيرني به (وقد رعى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الغنم) قال الدلجي على قراريط لقريش والمحققون أنه عليه الصلاة والسلام لم يرع لأحد بالأجرة وإنما رعى غنم نفسه وهذا لم يكن عيبا في قومه كما يعرف من رعى بنات شعيب ورعى موسى عليهما السلام بل قيل كل نبي رعى الغنم والله تعالى اعلم ليتدرب على رعاية الأمة بوجه الترحم كما أشار إليه بقوله كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر وسيأتي زيادة الكلام على هذا المرام وقد حكي أن موسى عليه الصلاة والسلام رأى شاة شاردة فتبعهما ليردها فزادت في شرادها وتنفرها حتى بعدت عن قطيعها فلحقها فحملها على كتفه رحمة لها فنودي في الملكوت بين المقربين أيصلح هذا العبد أن يكون من الأنبياء والمرسلين فقالوا نعم يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين هذا وأما رواية رعى بقراريط فقالوا إنه اسم موضع (فقال مالك قد عرّض) بتشديد الراء أي لوح (بذكر النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم في غير موضعه) اللائق به (أرى أن يؤدّب) قال الأنطاكي روي أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم حنين لذلك المنافق الذي قال ألا ترون صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 أنه يعدل ويلك أما كان موسى راعيا أما كان داود راعيا والحديث في الكشاف وفيه دليل على جواز إطلاق اسم الراعي على الأنبياء وأن ذلك لا يستوجب التأديب إذا لم يقصد القائل به منقصة ولعل هذا الحديث لم يبلغ مالكا أو لم يصح عنده انتهى ولا يخفى أن الحديث إذا لم يصح عنده كيف يخفى عليه أن موسى عليه السلام رعى الغنم (قال) أي مالك (ولا ينبغي لأهل الذّنوب إذا عوتبوا) فيما صدر عنهم من خطأ في قول أو فعل (أن يقولوا) في جواب العتاب (قد أخطأت الأنبياء قبلنا) فإن هذا خطأ من وجوه إذ لا يقاس الحدادون بالملائكة فإن خطأ الأنبياء ما كانت إلا زلات نادرة في بعض أوقات تسمى صغائر بلا خلاف الأولى بل حسنات بالنسبة إلى سيئات غيرهم وهي مع هذا ممحوة بتوبة عقيبها وتحقيق قبولها كما أخبر الله تعالى بها بخلاف ذنوب الأمم فإنها شاملة للكبائر وغيرها عمدا وخطأ واستمرارا وعلى تقدير توبتهم لا يعرف تحقق شروط صحتها وقبولها بل ولا يدري خاتمة أمر صاحبها بخلاف الأنبياء فإنهم معصومون من الإصرار على المعصية ومأمونون من سوء الخاتمة فلا تصح هذه المقايسة، (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِرَجُلٍ انْظُرْ لَنَا كَاتِبًا يَكُونُ أَبُوهُ عَرَبِيًّا فَقَالَ كَاتِبٌ لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو النَّبِيِّ كَافِرًا. فَقَالَ جَعَلْتَ هَذَا مَثَلًا فَعَزَلَهُ وَقَالَ لَا تَكْتُبْ لي أبدا) وهذا يوافق ما قال إمامنا في الفقه الأكبر أن والدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ماتا على الكفر وقد كتبت في هذه المسألة رسالة مستقلة ودفعت فيها ما ذكره السيوطي من الأدلة على خلاف ذلك في رسائله الثلاث لكي لا يجوز أن يذكر مثل هذا في مقام المعيرة (وَقَدْ كَرِهَ سُحْنُونٌ أَنْ يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الثّواب) أي قصده (والاحتساب) أي طلب الأجر (توقيرا له وتعظيما كما أمرنا الله) بقوله صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (وَسُئِلَ الْقَابِسِيُّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ قَبِيحٍ) أي صورته (كأنّه وجه نكير) هو أحد ملكي سؤال القبر والآخر منكر وإنما سميا بذلك لأنهما يأتيان العبد بهيئة منكرة وصورة مغيرة امتحانا من الله لعبده في المقبرة، (ولرجل) أي أو قال رجل لرجل (عبوس) أي وجهه وجبينه (كأنّه) أي وجهه (وجه مالك الغضبان) على أهل العصيان وهو خازن النار قال تعالى وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ وروي ملك بدون الألف وصوابهما أن يكونا بالتنوين وغضبان نعتهما (فقال) أي القابسي (أيّ شيء) بالرفع ويجوز نصبه أي ما الذي (أراد بهذا) الكلام (ونكير أحد فتّاني القبر) بتشديد الفوقية أي أحد الممتحنين في القبر والجملة معترضة حالية وكذا قوله (وهما) أي نكير ومنكر أو نكير ومالك (ملكان) من جملة الملائكة المقربين ولما طال الفصل بالجملتين أعاد الكلام بقوله (فما الّذي أراد أروع) بفتح الراء أي أخوف وأفزع (دخل عليه) أي على القائل (حين رآه) أي المقول له وفي نسخة إذ رآه (من وجهه) متعلق بدل أي من جهة هيبه وجهه (أم عاف النّظر إليه) أي كره رؤيته لديه ووقوع بصره عليه وفي نسخة عاب بدل عاف (لدمامة خلقه) بالدال المهملة وقيل بالمعجمة أي حقارة صورته (فإن كان) مراد (هذا) أي القصد الثاني (فهو شديد) في التنكير (لأنّه جرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 مجرى التّحقير والتّهوين) الذي يوجب التكفير وفي نسخة التوهين (فهو) أي هذا القائل بهذا المعنى وفي نسخة فهذا (أشدّ عقوبة) أي يستحق أن يعاقب أشد عقوبة من القائل بالمعنى الأول (وليس تصريح بالسّبّ للملك) وإلافكان موجبه القتل (وإنّما السّبّ واقع على المخاطب) إلا أنه يستحق التأديب لما في تشبيهه من قلة الأدب (وفي الأدب بالسّوط) أي بالضرب به (والسّجن) أي حبسه (نكال) أي عبرة (للسّفهاء) وعقوبة تمنعهم عن مثل هذه الاشياء فإن السجن قبر الأحياء ومن أحسن ما قيل في باب السجن قول بعضهم: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... فرحنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ونفرح بالدنيا فجل حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا ثم من ألفاظ الكفر رجل قال لغيره رؤيتك عندي كرؤية ملك الموت وقد اختلف علماؤنا فيه فقال أكثرهم يكون كفرا وقال بعضهم أن قال ذلك لعداوة ملك الموت يصير كافرا ون قال ذلك لكراهة الموت لا يصير كافرا كذا في فتاوى قاضيخان وهذا الأخير هو الصحيح ودليله قوله تعالى مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (قال) أي القابسي (وَأَمَّا ذَاكِرُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ فَقَدْ جَفَا الّذي ذكره) أي غلظ طبعه وقل أدبه حيث تفوه بقوله وجه مالك الغضبان وضبطه الدلجي بالهجرة وفسره برمي (عند ما أنكر حاله) وفي نسخة عند ما رأي (من عبوس الآخر) وهو المقول له (إلّا أن يكون المعبّس) بتشديد الموحدة المسكورة (ممن له يد) أي تصرف سلطنة وقدرة عقوبة (فيرهب) بصيغة المجهول مخففا ومشددا أي فيخاف وقال الحلبي يرهب رباعي مبنى للفاعل أي يخيف والأظهر أنه ثلاثي بصيغة الفاعل أي فيخاف ويفزع (بعبسته) بفتحتين وفي نسخة بضم فسكون وفي نسخة بعبوسه (فيشبّهه) وفي نسخة فشبهه (القائل على طريق الذم) أو المدح أو الخوف أو المزح (لهذا) الذي له يد (في فعله) أي من إظهار سوء خلقه (ولزومه في ظلمه صفة مالك) أي خازن النار (الملك) المعظم المطاع (المطيع لربّه في فعله) إذ هو ممن قال فيهم عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (فيقول كأنّه لله يغضب غضب مالك) خازن النار فيه حينئذ لا يظهر وجه الذم (فيكون) قوله ذلك حينئذ (أخفّ) مما قبله (وما كان ينبغي) مع ذلك (له التّعرّيض) وفي نسخة التعرض (بمثل هذا) التشبيه وهو قوله كأنه وجه مالك الغضبان (ولو كان) هذا القائل (أَثْنَى عَلَى الْعَبُوسِ بِعُبْسَتِهِ وَاحْتَجَّ بِصِفَةِ مَالِكٍ) خازن النار (كان) قوله ذلك (أشدّ) من ذلك الأخف (ويعاقب) عليه (المعاقبة الشّديدة) وفيه بحث حيث جعل مقام الثناء والمدح أشد من مقال الذم والقدح (وليس في هذا) الذي ذكرناه من تأويل قررناه (ذمّ للملك) أي أصلا (ولو قصد ذمّه لقتل) لأنه كفر به وأخطأ الدلجي في قوله قتل حدا لا كفرا لأن كفرة وقتله مجمع عليه وإنما يكون قتله حدا عند المالكية إذا تاب والله تعالى اعلم بالصواب (وقال أبو الحسن) أي القابسي (أيضا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 شابّ معروف بالخير) أي الصلاح (قال لرجل شيئا) من الكلام (فقال الرّجل) أي له (اسكت) زجرا له عما قال (فإنّك أمّيّ) أي مغفل لا تفرق بين الخير والشر أو عامي ما قرأت شيئا من العلم وعند الفقهاء هو من لا يحسن الفاتحة ومن معانيه منسوب إلى الأم أي على أصل ولادته من غير اكتساب في قراءته وكتابته أو منسوب إلى أم القرى وهي مكة وما حولها أو منسوب إلى الأمة بمعنى الجماعة (فَقَالَ الشَّابُّ أَلَيْسَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم أمّيّا فشنّع عليه) بصيغة المجهول مشددا أي قبح وذم (مقاله وكفّره النّاس) أي عامتهم فتغير له الحال (وأشفق الشّابّ) أي خاف على نفسه ودينه (ممّا قال وأظهر النّدم) أي الندامة والتوبة (عليه) من ذلك لسوء المقال (فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ أَمَّا إِطْلَاقُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ فخطأ لكنّه مخطىء في استشهاده) أي استدلاله بكونه أميا (بصفة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) حيث لم يفرق بين الأميين كما بينه المصنف بقوله (وكون النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أمّيّا آية له) أي معجزة وكرامة كما قال تعالى وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (وكون هذا) الشاب وغيره (أمّيّا نقيصة فيه وجهالة) أي في حقه وقال الدلجي وجهالة برفيع محله عليه الصلاة والسلام (وَمِنْ جَهَالَتِهِ احْتِجَاجُهُ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) دفع جهالته عن نفسه (لكنّه إذا استغفر وتاب واعترف) بأنه مخطئ في هذا الباب (ولجأ إلى الله تعالى) على طريق الاضطراب (فيترك) عن العقاب وفي نسخة ترك (لأنّ قوله) أليس كان النبي أميا (لا ينتهي إلى حدّ القتل) أي إلى حد يوجب القتل وإنما يوجب التعزير والتأديب (وما طريقه) أي موجبه (الأدب فطوع فاعله) أي فانقاد فاعله الأعم من قائله (بالذّم عليه يوجب الكفّ عنه) أي بعدم التعرض له بسوء وفي الخلاصة روي عن أبي يوسف أنه قيل بحضرة الخليفة إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يحب القرع فقال رجل أنا لا أحبه فأمر أبو يوسف بإحضار النطع والسيف فقال الرجل استغفر الله مما ذكرته ومن جميع ما يوجب الكفر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتركه ولم يقتله وتأويل هذا أنه قال بطريق الاستخفاف وإلا فالكراهة الطبيعية ليست داخلة تحت الأعمال الاختيارية ولا يكلف بها أحد في القواعد الشرعية (ونزلت أيضا مسألة) أي وردت (استفتى فيها) أي طلب الجواب عنها (بعض قضاة الأندلس) وفي نسخة بعد أي بعد هذه القضية فيرفع قضاة الأندلس لأنه فاعل والمفعول على كل تقدير (شَيْخَنَا الْقَاضِيَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مَنْصُورٍ رَحِمَهُ الله في رجل تنقّصه آخر بشيء) من الكلام وفي أصل الدلجي بشيء من القول (فقال له إنّما تريد نقضي بقولك) لي ذلك (وأنا بشر وجميع البشر يلحقهم النّقص) أي البشري (حتّى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) بالرفع ويجوز نصبه وجره (فأفتاه بإطالة سجنه) أي حبسه مدة طويلة (وإيجاع أدبه) حال ضربه (إذ لم يقصد السّبّ) وإلا فيحكم بقتله لكفره (وكان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله) أخذا له بظاهر قوله زجرا له ولغيره ولعل هذا كله مبني على السياسة وسد باب الذريعة وإلا فالمخلوق من حيث هو مخلوق خرج من العدم إلى الوجود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وفي صدد الزوال عن عالم الشهود ناقص الحال بالإضافة إلى كمال الملك المتعلل لا سيما ولا يخلو أحد عن تقصير في مقام العبودية عما يجب عليه من قضاء حقوق الربوبية كما أوما إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وكما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ قال البيضاوي لم يقض الإنسان من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى هذا الغاية ما أمر الله تعالى بأسره إذ لا يخلو أحد من تقصير ما ولو كان عظيما في قدره. فصل [أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ ذَلِكَ حَاكِيًا عَنْ غَيْرِهِ وآثرا عن سواه] (الوجه السّادس أن يقول القائل ذلك) القول الذي فيه نقص من قدره (حاكيا عن غيره وآثرا له) بهمزة ممدودة وكسر مثلثة راويا وناقلا (عن سواه) وفي نسخة وأثرا بفتحتين أي رواية والأظهر أنه مصدر بمعنى فاعل ليلائم المعطوف عليه (فهذا) الناقل (ينظر) من جهة قرائن روايته (في صورة حكايته وقرينة مقالته) ودلالة حالته المؤذنة بغرضه الباعث له على روايته (ويختلف الحكم) المقضى عليه به فيه (باختلاف ذلك) مما يظهر من صورة حكايته وقرينة حالته هنالك (على أربعة وجوه) من الأحكام (الوجوب) بالجر ويجوز أختاه، (والنّدب، والكراهة، والتّحريم) بدل بعض من كل أو كل من كل بأن يكون الربط بعد العطف وهذا ذكره إجمالا وأما بيانه تفصيلا (فإن كان) أي ناقله (أخبر به على وجه الشّهادة) لأحد أو عليه نفيا أو اثباتا (والتّعريف بقائله) حالا وصفة (والإنكار) أي عليه كما في نسخة (والإعلام بقوله) ليعلم ما يترتب عليه من قتل وتعزير وتوبيخ ونحو ذلك (والتّنفير منه) أي بالاحتراس والاحتراز عنه (والتّجريح له) بتقديم الجيم على الحاء المهملة يقال جرحه بالتخفيف والتشديد أي ذكر عيبه ونقصه وهو في الشهادة والخبر ويروى بتقديم الحاء ومعناه التأثيم والتضييق يقال حرجه نسبه للحرج وهو الاثم والضيق (فهذا) القول على هذا المنوال (ممّا ينبغي امتثاله) ويقبل مقاله (ويحمد فاعله) أي ناقله (وكذلك) الحكم (إن حكاه في كتاب) أي تصنيف (أو في مجلس) لوعظ أو تدريس (على طريق الرّدّ) أي دفعه وفي نسخة على جهة الرد (له والنّقض) أي إبطاله (على قائله والفتيا بما يلزمه) أي الافتاء بما يوجبه من قتل ونحوه (وهذا) الرد (منه) أي بعضه (ما يجب) بيان حكمه (وَمِنْهُ مَا يُسْتَحَبُّ بِحَسَبِ حَالَاتِ الْحَاكِي لِذَلِكَ) الذي حكاه ردا (والمحكي عنه) أي وكذا بحسب حالاته في مقالاته (فإن كان القائل لذلك) الذي حكاه (ممّن تصدّى) أي تعرض وتصدر (لأن يؤخذ عنه العلم) الشريف (أو رواية الحديث) المنيف (أو يقطع بحكمه) أي لأن يجزم ويلزم بحكمه لكونه أميرا أو قاضيا (أو شهادته) لعدالته (أو فتياه في الحقوق) لعلمه وحلمه (وجب على سامعه) أي سامع قوله حكما أو فتيا (الإشادة) أي الإفشاء والإشاعة (بما سمع منه والتّنفير للنّاس عنه) تحذيرا منه (والشّهادة عليه بما قاله) ليجتنب عنه (ووجب على من بلغه ذلك) الذي صدر عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 ولو لم يحضر هنالك (من أئمّة المسلمين إنكاره وبيان كفره) إن صدر ما يوجبه (وفساد قوله) على تقدير خطائه في تقريره (لِقَطْعِ ضَرَرِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَقِيَامًا بِحَقِّ سَيِّدِ المرسلين) ومراعاة لحماية الدين على مقتضى قواعد المجتهدين (وكذلك إن كان) هذا القائل (ممّن يعظ العامّة) ويزجرهم عن الأمور المحرمة ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في الأخرى ويبين لهم مراتب درجات العقبى ويفتح لهم أبواب العوارف ويذكر لهم أصحاب المعارف لا سيما إذا كان يتكلم في علم التوحيد ومقام التفريد ويدعي الشهود ويتفوه بمسألة الوجود فإنه مقام خطر من الوقوع في الحلول والاتحاد والاتصال والالحاد في مجمع من العباد المجتمعين من أطراف البلاد وقد وضعت رسالة مستقلة في الفرق بين الوجودية من الموحدين والوجودية من الملحدين خذلهم الله (أو يؤدّب الصّبيان) بتعليم القرآن أو العلوم الأدبية من النحو والصرف واللغة والقواعد العربية كما ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار في باب اللطافة والأسرار أن ولدا قرأ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي قال الفقيه إلى يوم الدين وقال بعض الفضلاء سمعت معربا يعرب لتلميذه قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً صفة لعوج فقلت له يا هذا كيف يكون العوج قيما (فإنّ من هذه) الاخلاق (سَرِيرَتُهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى إِلْقَاءِ ذَلِكَ فِي قلوبهم) وتأثيره في صدورهم (فيتأكّد في هؤلاء) أي في حقهم (الإيجاب) بالإنكار (لحقّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) إن كان أمرا متعلقا به (ولحقّ شريعته) أن تعلق بطعن في قربته (ولحق الله) أن تعلق بمسألة ذاته وصفاته ومصنوعاته هذا وفي مجمع الفتاوى لو تكلم بكلمة الكفر مذكر وقبل قوم ذلك منه كفروا حيث لم يعذروا بالجهل وزاد في المحيط وقيل إذا سكت القوم عن المذكر وجلسوا عنده بعد تلكمه بكلمة الكفر كفروا يعنى إذا علموا أنه كفر به أو اعتقدوا كلامه (وإن لم يكن القائل بهذه السّبيل) الذي يؤخذ عنه العلم (فالقيام بحقّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم واجب وحماية عرضه) أي وصيانته عن طعن ونقص فيه (متعيّن) لا يجوز التهاون به والعرض بكسر أوله النسب والحسب (ونصرته على الأذى) أي مما يتأذى به وروي على الأذى (حيّا وميّتا) كما يدل عليه قوله تَعَالَى وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (مستحقّ) بفتح الحاء أي فرض عين (على كلّ مؤمن) ليصح إيمانه (لكنّه) أي القيام بحقه فرض كفاية وفي نسخة لكن (إذا قام بهذا من ظهر) أي علي (به الحقّ وفصلت به) بضم الفاء وكسر الصاد المهملة أي انفصلت به (القضيّة) بالحكومة والشرعية (وبان به الأمر) أي ظهر الحق وتبين الصدق (سقط عن الباقي الفرض) المتعلق بذمة كل أحد فلو سكتوا كلهم أثموا جميعهم (وبقي الاستحباب) بالنسبة إلى غير من قام بالحق من الدعوى والشهادة والحكم والقتل ونحوه (في تكثير الشّهادة عليه) للتقوية والتشهير للقضية (وعضد التّحذير منه) بفتح العين المهملة وسكون الضاد المعجمة أي نصرته ومساعدته في الاحتراز عنه (وَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى بَيَانِ حَالِ الْمُتَّهَمِ في الحديث) أي في روايته بذكر جرحه وطعنه وعدالته وديانته حتى روي أن يحيى بن معين مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 جلالته رؤي طائفا بالبيت المكرم يقول فلان كذاب فلان وضاع في روايته (فكيف بمثل هذا) المقام الذي يجب فيه القيام وقد قال الجويني في قوله عليه الصلاة والسلام من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار أن الكذب عليه عمدا كفر وهو حديث مشهور بل قيل إنه متواتر (وَقَدْ سُئِلَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عن الشّاهد) الواحد (يسمع مثل هذا) الكلام المرتب عليه الملام (في حقّ الله تعالى) أو حق نبيه عليه الصلاة والسلام (أيسعه أن لا يؤدّي شهادته) عند حاكم ليؤدبه بحسب ما تقتضي حالته ومقالته (قال) أي ابن أبي زيد (إن رجا) أي السامع بمعنى أنه ترجح عنده أن (نفاذ الحكم) بفتح النون والفاء وبالذال المعجمة أي تنفيذه وروي انفاذ الحكم أي اجراؤه وامضاؤه (بشهادته فليشهد) أي وجوابا (وَكَذَلِكَ إِنْ عَلِمَ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَرَى القتل ما شهد به) هذا السامع (ويرى الاستتابة) أي طلب توبته (والأدب) أي مع ذلك كما في مذهب مالك (فليشهد) هنالك (ويلزمه) على سبيل الوجوب (ذلك وأمّا الإباحة لحكاية قوله) المشتمل على كفره (لغير هذين المقصدين) المتقدمين (فلا أرى لها) أي للحكاية (مدخلا في هذا الباب) على سبيل الإباحة (فليس التّفكّه) أي التفوه من غير غرض شرعي (بعرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والتّمضمض) بالضادين المعجمتين أي التحرك والكثر (بسوء ذكره لأحد) وأما قول التلمساني ومن معاني التمضمض الاكثار وهو بعيد لأن الإكثار والإقلال في هذا سواه فمدفوع لأن الإقلال لما يترتب عليه الحكم من القتل والتعزير والجرح والتحذير متعين كما تقدم وإنما الاكثار لا يترتب عليه فائدة هو الممنوع (لا ذاكرا) أي لفظه مطلقا (ولا آثرا) أي حاكيا ونافلا اتفاقا (لغير غرض شرعيّ بمباح) خبر ليس بل أنه حرام أو مكروه (وأمّا للأغراض المتقدّمة) كالشهادة والرد والنقض (فمتردّد) بفتح الدال الأولى مشددة أي فموضع تردد (بين الإيجاب والاستحباب) والأول أولى والله تعالى اعلم بالصواب (وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى مَقَالَاتِ الْمُفْتَرِينَ عَلَيْهِ) أي الكذابين على الله (وعلى رسوله في كتابه) بالإكثار (على وجه الإنكار لقولهم) أي لمقول الكفار (والتّحذير) أي ولتحذير غيرهم (من كفرهم والوعيد عليه) أي على أمرهم (وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِمَا تَلَاهُ اللَّهُ عَلَيْنَا) فِي لسان رسوله المعظم (في محكم كتابه) المكرم (وكذلك وقع من أمثاله) أي أمثال ما تلي علينا بالعبارة الصريحة (في أحاديث النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الصّحيحة على الوجوه المتقدّمة) من الإنكار والتحذير والوعيد وغيرها (وأجمع السّلف) المتقدمون (والخلف) المتأخرون (من أئمّة الهدى) وهم العلماء العاملون (على حكايات مقالات الكفرة والملحدين) أي على ذكرها (في كتبهم ومجالسهم) حال التدريس والوعظ (ليبيّنوها للنّاس) مما خفي لديهم (وينقضوا شبهها عليهم) جمع شبهة بمعنى شك وريبة (وَإِنْ كَانَ وَرَدَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِنْكَارٌ لبعض هذا) الذي ذكر (على الحارث بن أسد) المحاسبي بما حكاه في كتاب الرعاية (فَقَدْ صَنَعَ أَحْمَدُ مِثْلَهُ فِي رَدِّهِ عَلَى الجهميّة) طائفة من أصحاب جهم بن صفوان من المبتدعة بل من الكفرة المخترعة وأصله من سمرقند ومن مذهبه القول بأن الجنة والنار يفنيان وأن الإيمان هو المعرفة فقط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 دون الإقرار وسائر الطاعات وأنه لا فعل لأحد غير الله وأن العباد فيما ينسب إليهم من الأفعال كالشجرة تحركها الرياح باختلاف الأحوال فالإنسان عنده لا يقدر على كسب شيء من أعماله وإنما هو مجبر في أفعاله لا قدرة له ولا ارادة ولا اختيار في الحسنات والسيئات وإنما يخلق الله تعالى فيه الأفعال على حسب ما يخلق في الجمادات أدرك صغار التابعين قال الذهبي ما علمته روي شيئا لكنه زرع شرا عظيما انتهى وأخذ ذلك عن السمنية وهم دهرية ولما شككوه في أمره ترك الصلاة أربعين يوما وقال لا اعبد من لا أعرف (والقائلين) أي وعلى القائلين (بالمخلوق) أي بالقرآن المخلوق وهو قول المعتزلة أو بالعمل المخلوق للإنسان أي هو يخلقه وهو قول المعتزلة والقدرية أو بالمخلوق القديم على أن المخلوق بمعنى الخلق ومعناه أنه قديم وهو قول الفلاسفة والدهرية والأقوال الثلاثة كلها باطلة أما قدم العالم فهو بين اعدام الموجد وبين الشركة وكلاهما كفر بالإجماع وأما خلق الأفعال فهو كقول المجوس في أن خالق الضوء غير خالق الظلمة لكنه يغاير قولهم بأنهم من الثنوية وهؤلاء من أرباب التوحيد في الألوهية وأما خلق القرآن فإنهم لما أنكروا الكلام النفسي قالوا ذلك ففي التحقيق لا خلاف هنالك وإنما ابتدعوا من حيث إنكار الكلام النفسي وإلا فالقرآن من حيث إنه مكتوب بأيدينا ومقروء بألسنتنا ومحفوظ بصدورنا فلا شك أنه مخلوق بحسب اللفظ والمبنى إلا أنه يجب أيضا صيانته عن أن يقال إنه مخلوق بهذا المعنى وأما ما ذكره العلامة التفتازاني في شرح العقائد من حديث القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قاله إنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم قال الصغاني هو موضوع وقال السخاوي وهذا الحديث من جميع طرقه باطل هذا ولا يبعد أن يجمع بين صنيع أحمد وإنكاره على المحاسبي بأن المحاسبي ذكر أدلة المبتدعة ثم ردهم بأدلة أهل السنة بخلاف أحمد حيث لم يلتفت إلى شبهاتهم بل رد عليهم بالأدلة العقلية والنقلية بطلان عقيداتهم (وهذه الوجوه) المتقدمة (السّائغة) بالسين المهملة والغين المعجمة أي الجائزة وهي مرفوعة (الحكاية) بالجر والرفع أي الرواية (عنها) من مقالات الكفرة والفجرة ومن نحا نحوها (فأمّا ذكرها على غير هذا) النمط (من حكاية سبّه والإزراء) وروي الإزدراء (بمنصبه على وجه الحكايات) في المحاورات أو الاسفار (والأسمار) جمع سمر بفتحتين ويسكن وهو حديث الليل وأصله في ظل القمر ويجوز كسر همزة على أنه مصدر اسمر إذا تحدث بالليل مطلقا فهو تخصيص بعد تعميم (والطّرف) بضم المهملة وفتح الراء وفي آخره الفاء جمع طرفة وهو ما يستظرف ويستجاد من المقال والمال (وأحاديث النّاس) أي كلماتهم المتحدث بها للاستئناس (ومقالاتهم) بحسب اختلاف حالاتهم (في الغثّ) بفتح المعجمة وتشديد المثلثة أي الهزيل (والسّمين) وهما كنايتان عن الضعيف والقوي أو الباطل والصحيح ومنه قول ابن عباس لابنه على الحق بابن عمك يعني عبد الملك بن مروان فغثه خير من سمين غيره (ومضاحك المجّان) بضم الميم وتشديد الجيم جمع ماجن وهو من لا يبالي بكلامه في اللهو والسخرية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 (ونوادر السّخفاء) جمع سخيف وهو رقيق العقل وروي السفهاء جمع سفيه وهو الجاهل أو خفيف العقل (والخوض) أي الشروع بالمبالغة من غير الملاحظة (في قيل وقال) بفتح لامهما على أنهما فعلان محكيان وبجرهما منونين على أنهما اسمان معربان لأنهما مصدران وفي النهاية في حديث نهى عن قبل وقال أي نهى عن فضول ما يتحدث به المتجالسون من قولهم قيل كذا وقال كذا وبناؤهما على كونهما فعلين ماضيين متضمنين للضمير والإعراب على اجرائهما مجرى الاسماء خاليين من الضمير قال فيكون النهي عن القول بما لا يصح ولا يعلم حقيقته فأما من حكى ما يصح روايته ويعرف حقيقته وأسنده إلى ثقة صادق فلا وجه للنهي عنه ولاذم منه وقيل أراد به حكاية أقوال الناس والبحث على ما لا يجدي عليه ضرا ولا نفعا ولا يعنيه أمره انتهى ولذا عطف عليه المصنف عطف تفسير بقوله (وما لا يعني) أي ما لا ينفعهم في دينهم ودنياهم فقد ورد من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه وفي أصل الدلجي بالغين المعجمة فيكون بضم أوله أي ما لا يغني الخائض فيه شيئا ولا يجديه نفعا (فَكُلُّ هَذَا مَمْنُوعٌ وَبَعْضُهُ أَشَدُّ فِي الْمَنْعِ والعقوبة) للدفع (مِنْ بَعْضٍ فَمَا كَانَ مِنْ قَائِلِهِ الْحَاكِي له على غير قصد) به شيئا (أو معرفة) أي أو على غير معرفة (بمقدار ما حكاه) من الشدة والأشدية وفي نسخة بقدره (أو لم تكن) تلك المقالة أو الحكاية (عادته) فبعد عثرته وزلته (أو لم يكن الكلام) والمحكي (من البشاعة) بتقديم الموحدة أي الفضاحة وفي اصل التلمساني بسبق الشين بعدها النون وفسر بالقباحة (حيث هو) أي إلى الغاية في أنه بشيع أو شنيع أي كريه وفظيع (ولم يظهر على حاكيه) وفي نسخة على حكايته (استحسانه) أي جعله حسنا عند (واستصوابه) أي عده صوابا لديه والمعنى أنه لم يظهر منه اعتقاد كونه حسنا ولا صوابا بل ظنه مباحا (زجر عن ذلك) بصيغة المجهول وكذا قوله (ونهي عن العودة) وفي نسخة عن العود أي الرجوع (إليه) أي إلى مقاله هنالك (وإن قوّم) بضم القاف وكسر الواو المشددة أي إن قوبل ناقله على سبيل الحكاية من غير منفعة مترتبة على الرواية روي وأن قيم (ببعض الأدب فهو مستوجب له) أي مستحق (وإن كان لفظه) أي لفظ الحاكي والمحكي (من البشاعة) أو الشناعة (حيث هو) أي بلغ غايته (كان الأدب أشدّ) ممن لم يكن محكيه حيث هو، (وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ مَالِكًا عَمَّنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَقَالَ) مَالِكٌ (كَافِرٌ فَاقْتُلُوهُ) أي السائل أو القائل على طريق الحكاية (فقال) أي السائل (إنّما حكيته عن غيري) أي لا أنا الذي أقوله (فقال مالك إنّما سمعناه منك) قال الدلجي وأمر مالك بقتل السائل بمجرد اتهامه أنه القائل بمخلوقيته بدون إثبات اعتقاد مخلوقيته عجب مع أنه ممن يقول لا نكفر أحدا من أهل القبلة قال المصنف (وهذا من مالك رحمه الله على طريق الزّجر) أي الردع للكف عن السؤال عنه قال الدلجي وهذا أيضا عجيب بل أعجب لأن القتل زجرا عن السؤال لم يقل به أحد (والتّغليظ) للزجر (بدليل أنّه) أي مالكا (لم ينفّذ قتله) أي لم يبالغ في الأمر بقتله وهو بتشديد الفاء المسكورة وبالذال المعجمة أي لم يمض الأمر في قتله أو لم يمض فيه حكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 القتل ذكره التلمساني قال الدلجي وهذا العذر عنه بعيد يرده تكفير مالك له وأمره إنما كان بعد تكفيره إياه أقول ليس في كلام مالك تكفيره وإنما أراد بهذا القول تعزيره أي اضربوه ضربا شديدا ولو قتل تحت ضربه تأكيدا لزجره عن مثل هذا السؤال لظهور أمره ولعله فهم من السائل أنه متردد في حكمه ولذا لما سئل مالك عن الاستواء قال الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ولا شك أن المبتدع يزجر فتدبر والقائل به لعله كان غائبا أو ميتا فلذا لم يتعرض الإمام لتعزيره في ذلك المقام وأما القول بأنا لا نكفر أحدا من أهل القبلة فليس على اطلاقه بل فيه تفصيل مقرر كما بينه في شرح الفقه الأكبر (فإن) وفي نسخة وَإِنِ (اتُّهِمَ هَذَا الْحَاكِي فِيمَا حَكَاهُ أَنَّهُ) أي بأنه (اختلقه) أي اخترعه من عنده وافتراه من نفسه (ونسبه إلى غيره أو كانت تلك) المسألة (عادة له) يسألها دائما ويظهرها دائبا (أو ظهر استحسانه) وفي نسخة أظهر استحسانه (لذلك) السؤال أو المقال (أو كان مولعا) بفتح اللام أي مكثرا (بمثله والاستخفاف له) أي الاستهجان بذكره وعدم المبالاة بنقله وأغرب الدلجي حيث فسر الاستخفاف بسرعة التوجه (أو التّحفّظ لمثله) أي طلب حفظ أمثاله مما يتحير العامة في إشكاله (وطلبه) أي وطلب مثله ليضمه إلى نقله (ورواية أشعار هجوه عليه الصلاة والسلام وسبّه) في نثر الكلام (فحكم هذا حكم السّابّ نفسه) أي بعينه (يُؤَاخَذُ بِقَوْلِهِ وَلَا تَنْفَعُهُ نِسْبَتُهُ إِلَى غَيْرِهِ) وإن حكاه عن غيره فإن الإمارات المتقدمة قرائن حالية أو مقالية على كفره فإن الإناء يترشح بما فيه وقد قال تعالى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وقال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي المتفرسين وقد ورد اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل رواه البخاري في تاريخه والترمذي في جامعه عن أبي سعيد الخدري (فيبادر بقتله ويعجّل) بتشديد الجيم أي ويسارع به (إلى الهاوية أمّه) بالجر بدلا أي مأواه ومصيره كما أن الأم مأوى الولد ومفزعه إيماء إلى قوله تعالى فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ (وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبِيدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ) بتشديد اللام (فيمن حفظ شطر بيت) أي نصفه أو بعضه فاندفع به قول التلمساني كان أحسن منه لو قال كلمة أو شطر كلمة (ممّا هجي به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو كفر) أي إذا قصد حفظه أو أراد نشره (وقد ذكر بعض من ألّف) بلام مشددة من التأليف بمعنى التصنيف قال التلمساني وفي بعض النسخ بلامين ولا أدري ما وجهه وكذلك في أصل المؤلف قلت ووجهه أنه اتصل الألف باللام فانتقل من التأليف إلى التصحيف والتحريف قال الأنطاكي ولعل بعض من ألف هذا هو ابن حزم والله تعالى اعلم هذا وقيل الإنسان في فسحة من عقله وفي سلامة من أفواه الناس في فعله ما لم يضع كتابا أو لم يقل شعرا من قوله وقيل من وضع كتابا فقد استشرف للمدح والذم لأبناء آدم فإن أحسن فقد استهدف للحسد والغيبة وإن اساء فقد تعرض للشتم والمذمة وهو معنى قولهم من صنف قد استهدف وقيل من صنف فقد جعل عقله على طبق يعرض على الناس نقله ومنه قول الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تبالغ بعد في تهذيبها فإذا عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه مثل وساوس تهذى بها هذا وأبى الله إلا أن يصح كتابه كما أشاره إليه بقوله وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وأما هذا الكتاب فلكونه من عند الله ما وجدوا فيه اختلافا يسيرا وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن كل أحد يقبل قوله ويرد إلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه معصوم على الوجه الأتم (إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِ رِوَايَةِ مَا هُجِيَ به النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) من نظمة ونثره (وكتابه) أي وكتابته كما في نسخة (وقراءته) أي ولو من غير روايته (وتركه متى وجد دون محو) ونحوه ولو من كتاب غيره وحصول ضرره فإنه ينفعه من جهة دينه (ورحم الله أسلافنا المتّقين المتحرّزين) أي المحترسين (لدينهم) المحتاطين في أمر يقينهم وتصحف المتحرزين بالمتجردين في أصل الدلجي (فقد أسقطوا) ولذلك تركوا (من أحاديث المغازي والسّير) كثيرا من الخبر والأثر (ما كان هذا سبيله) من هجوه في شعر أو غيره (وتركوا روايته) ولو جوز حكايته (إلّا أشياء ذكروها يسيرة) أي قليلة (وغير مستبشعة) بفتح الشين أي غير مكروهة وفي نسخة وغير مستشنعة أي غير مستقبحة (على نحو الوجوه الأول) بضم الهمزة وتخفيف الواو جمع الأولى أي الوجوه السابقة من الوجوب والندب والتحريم والكراهة (ليروا) أي الناس ويعتبروا ويجوز أن يكون بضم الياء والراء أي ليظهروا (نقمة الله) أي عقوبته (من قائلها وأخذه المفتري عليه) أي بطشته (بذنبه) ولو من ناقلها وفي أصل الدلجي وأخذه بالضمير أي ليروا أخذه سبحانه وتعالى (وهذا أبو عبيد القاسم بن سلّام) بتشديد اللام (قد تحرّى) أي اجتهد واحتاط (فيما اضطرّ) أي الجىء واحتيج (إلى الاستشهاد به) من الدلائل في اثبات بعض المسائل توضيحا لوسائل في معرفة كل طالب وسائل (من أهاجي أشعار العرب) على شعار أرباب الأدب (في كتبه) متعلق بتحري (فكنّى عن اسم المهجوّ بوزن اسمه) ولم يصرح به تفاديا عن ذكر ذمه (استبراء لدينه) أي استباء لأمر يقينه (وتحفّظا من المشاركة في ذمّ أحد) من المسلمين (بروايته أو نشره) بحكايته (فكيف بما يتطرّق) أي يتوصل به الحاكي له (إلى عرض سيّد البشر) أي بني آدم بل سيد العالم (صلى الله تعالى عليه وسلم) قال التلمساني اعلم أن هذا التحري إنما يظهر في الهاجي المسلم لمثله وأما إن كانا كافرين أو المهجور كافرا فذكر مساويه أعظم نكاية فيستحب رواية وحكاية ولو كان الهاجي كافرا أو مسلما والمهجو مسلما فالأولى أن لا يذكره أو يغيره كما فعل ابن هشام في سيرته مما يدل على حسن سريرته ومن هذا قول أبي الأسود الدؤلي: جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل أبدله بعض الأئمة بقوله جزاء الرجال الصالحين وقد فعل وذلك لأن عدي بن حاتم الطائي من أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 فصل [أن يذكر ما يجوز على النبي أو يختلف في جوازه عليه] (الوجع السّابع أن يذكر ما يجوز) أي إطلاقه (على النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أو يختلف) بصيغة المجهول (في جوازه عليه وما يطرأ) أي يحدث ويعرض عليه (من الأمور البشريّة) والأحوال الطبيعة (به) أي فيه (ويمكن إضافتها إليه أو يذكر) أي أحد (ما امتحن به) أي ابتلى عليه الصلاة والسلام (وصبر في ذات الله على شدّته) أي قوة بلائه (مِنْ مُقَاسَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَذَاهُمْ لَهُ وَمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ حاله وسيرته) أي في أفعاله وأقواله (وما لقيه من بؤس زمنه) بضم موحدة فهمز ساكن ويبدل أي شدة في وقته (ومرّ عليه من معاناة عيشته) أي مقاساة في أمر معيشته (كلّ ذلك على طريق الرّواية) وسبيل الحكاية (ومذاكرة العلم) لتحصيل الدراية (ومعرفة ما صحّت منه العصمة للأنبياء) أي عموما (وما يجوز عليهم) من بين سائر البشر خصوصا (فهذا) أي فما ذكر هنا (فنّ) أي نوع (خارج عن هذه الفنون السّتّة) المذكورة في الفصول السابقة (إذ ليس فيه) أي في هذا الفن (غمض) بفتح معجمة وسكون ميم فمهملة أي عيب (ولا نقض ولا إزراء) أي استحقار (ولا استخفاف) أي استهزاء (لا في ظاهر اللّفظ) من جهة مبناه (ولا في مقصد اللفظ) من جهة معناه (لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أهل العلم) اليقين (وفهماء طلبة الدّين) بضم الفاء وفتح الهاء جمع فهيم أو فهم وهو الفطن الذكي (ممّن يفهم مقاصده ويحقّقون فوائده) أفرد وجمع باعتبار لفظ من ومعناه (ويجنّب) بتشديد النون المفتوحة أي يصان عن (ذلك) الكلام (من عساه لا يفقه) وروي لا يتفقه وروي لا يفهمه (أو يخشى به) وروي فيه أي يخاف عليه (فتنته) أي وقوعه في محنته (فقد كره بعض السّلف تعليم النّساء سورة يُوسُفَ لِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقَصَصِ) كيد النساء بسبب الابتلاء (لضعف معرفتهنّ ونقص عقولهنّ وإدراكهنّ) في اصل فطرتهن (فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم مخبرا عن نفسه) ما وقع له في سابق الأيام (باستيجاره) قال الدلجي لقريش وأقول لعله لبعض أهله أن صح الاستيجار في فعله كما وقع عليه الصلاة والسلام (لرعاية الغنم في ابتداء حاله وقال) كما رواه الشيخان عن جابر والبخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ وَأَخْبَرْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ الصلاة والسلام) وقد ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أن موسى قضى أقصى الأجلين وهو العشر هذا وقال الحلبي اعلم أن في الحديث الصحيح كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة وفي سنن ابن ماجه هذا الحديث وفي آخره قال سويد بن سعيد وهو راوي الحديث كل شاة بقيراط انتهى والقيراط جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشره في أكثر البلاد وأهل الشام يجعلونه جزءا من أربعة وعشرين جزءا والياء فيه بدل من الراء فإن أصله قراط هذا لفظ النهاية وفي الصحاح القيراط نصف دانق وهو سدس درهم وقد رأيت في حاشية على سنن ابن ماجه أصلنا وهو أصل صحيح معتمد قال محمد بن ناصر أخطأ سويد في تفسيره القيراط بالذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 والفضة إذ لم يرع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد بأجرة قط وإنما كان يرعى غنم أهله والصحيح ما فسره به إبراهيم بن إسحاق الحربي الإمام في الحديث واللغة وغيرهما أن قراريط اسم مكان في نواحي مكة وكان ذلك منه وسنه نحو العشرين فيما استقرئ من كلام ابن إسحاق والواقدي وغيرهما انتهى وهذا يرد ما قاله القاضي وكذا ما بوب عليه البخاري في صحيحه في كتاب الإجارة باب رعي الغنم على قراريط انتهى وفي القاموس القيراط يختلف وزنه بحسب البلاد فبمكة ربع سدس دينار وبالعراق نصف عشره (فهذا) أي رعى الغنم ولو بأجرة (لا غضاضة فيه) أي لا منقصة (جملة واحدة) أي من حيث هو لأنه من جملة كسب المال على وجه الحلال (بخلاف من قصد به الغضاضة) أي النقص (والتّحقير بل كانت) أي الرعاية بالأجرة وغيرها (عادة جميع العرب) أي طوائفهم وقبائلهم ومثل هذا يختلف باختلاف العرف في الزمان والمكان بل كان عادة غير العرب أيضا كما يستفاد من قصة موسى وشعيب عليهما السلام فإنهما من بني إسرائيل وهم الاعجام فإن قيل فهل لرعي الأنبياء للغنم من فائدة فيقال، (نعم في ذلك) أي رعي الغنم (للأنبياء حكمة بالغة) لا يدركها إلا الأصفياء (وتدريج) وفي نسخة وتدريج الله تعالى (لهم إلى كرامته وتدريب) أي تعويد (بِرِعَايَتِهَا لِسِيَاسَةِ أُمَمِهِمْ مِنْ خَلِيقَتِهِ بِمَا سَبَقَ لهم من الكرامة) بالنبوة والرسالة والإمامة والإمارة (في الأزل ومتقدّم العلم) بكسر الدال أي سابقه الذي ظهر في القلم الأول (وكذلك قد ذكر الله يتمه) لموت أبيه جنينا قد أتت عليه ستة أشهر فكفله جده عبد المطلب ثم عمه أبو طالب إذ كان شقيق أبيه فأحسن التربية فيه قال تعالى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي جاهلا بتفصيل الإيمان وَوَجَدَكَ عائِلًا فقيرا فَأَغْنى وهذا معنى قول المصنف (وعيلته) أي وذكر الله فقره وحاجته (على طريق المنّة عليه) بإيوائه واغنائه (والتّعريف بكرامته له) أي بهدايته وهداية غيره بنور رسالته (فذكر الذّاكر) أي المخبر (لها) أي لحالته من يتمه وعيلته (على وجه تعريف حاله) المتضمن لكرامته (والخبر عن مبتدئه) أي ابتداء أمره وظهور قدره (والتّعجّب من منح الله) بكسر الميم وفتح النون جمع منحة أي نعمه (قبله) بقاف مكسورة فموحدة مفتوحة أي في جهته (وعظيم منّته) وفي نسخة بنونين وفي نسخة منن الله (عنده ليس فيه) على ما ذكر به (غضاضة) أي ما يؤدي إلى منقصته (بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِحَّةِ دَعْوَتِهِ) لجميع أمته (إذ أظهره الله تعالى بعد هذا) أي أطلعه وغلبه وعلاه (على صناديد العرب) أي أكابرهم (ومن ناوأه) مفاعلة من النوء وهو النهوض فأصله الهمز وابدل أي عاداه (من أشرافهم شيئا فشيئا) أي سنة فسنة ساعة فساعة وفي أصل التلمساني فيما فشا من الفشو وهو الكثرة والظهور والنمو وما موصولة واقعة على الخبر وفي بمعنى على أي على ما فشا وشاع وذاع من الخبر أي أن أمره في ذلك ليس بخفي بل هو ظاهر جلي أو فى على أصلها أي في فاشي الخبر وظاهر الأثر (ونمى) بتشديد الميم أي زكى (أمره) وعلا قدره وفي نسخة بتخفيف الميم (حتّى قهرهم) أي غلبهم فنهاهم وأمرهم كما روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال يوم فتح مكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن وقال للأسراء منهم ما كنتم تقولون في أني فاعل بكم فقالوا أخ كريم وابن أخ كريم فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء (وتمكّن من ملك مقاليدهم) جمع مقلاد بمعنى المفتاح أي مما ملكوه من البلاد واستولوا عليه بالانقياد أو بمعنى الخزانة أي مما خزنوه وجعلوه ذخيرة للنوائب وأعدوه عدة للمصائب فقد ملكه النبي عليه الصلاة والسلام وحواه (واستباحة ممالك كثير من الأمم) أي محال ملكهم ومواضع ملكهم وفي أصل التلمساني مماليك بالياء فهو جمع مملوك (غيرهم) أي غير صناديد العرب ونحوهم (بإظهار الله تعالى له) أي باعلاء كلمته في الدين (وتأييده) أي تقويته (بنصره) أي بإعانته من عنده (وبالمؤمنين) أي وبجعلهم أسبابا لنصره (وألّف بين قلوبهم) حتى صاروا اخوانا مسلمين وهذا كله مقتبس من قوله سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ومن قوله عز وعلا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً (وإمداده بالملائكة المسوّمين) بكسر الواو وفتحها كما قرىء بهما في السبعة قوله تعالى بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ أي معلمين بسيما خاصة أي علامة مختصة وهي إما بالملائكة وهي عمائم صفر وقيل كانت عمائم الملائكة يومئذ بيضاء وعمامة جبريل صفراء وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه الكرام يوم بدر تسوموا فإن الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في فلانسهم ومغافرهم وأما بخيولهم فأنهم كانوا على خيل بلق مجزوزة الآذان والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن والمعنى اعلموا خيلهم واعلموا أنفسهم (ولو كان) أي محمد (ابن ملك) بكسر اللام (أو ذا أشياع) أي صاحب اتباع (متقدّمين) عليه في الزمان (لحسب كثير من الجهّال أنّ ذلك) أي ما ذكر (مُوجِبُ ظُهُورِهِ وَمُقْتَضَى عُلُوِّهِ وَلِهَذَا قَالَ هِرَقْلُ) بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف ويجوز إسكان ثانيه وكسر ثالثه وهو منصرف والمراد به عظيم الروم (حين سأل أبا سفيان) أي ابن حرب وهو بإيليا (عنه) أي عن أحوال النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه البخاري (هل في آبائه من ملك) بكسر الميم على أنها جارة إلا أنها زائدة لا بيانية ولا تبعيضية كما ذكره التلمساني أي من سلطان وروي من ملك بالفتح فيهما فمن موصولة لا شرطية كما وهم التلمساني (فقال) أي أبو سفيان (لاثم قال) أي هرقل (ولو كان في آبائه ملك) أي أحد من الملوك (لقلنا) في حقه هذا (رجل يطلب ملك أبيه وإذا) الظاهر أنها ظرفية والأولى أن تكون تعليلية أي ولأن (اليتم) وفي نسخة وأن اليتم وهو بضم أوله وأصله الانفراد ومنه الدر اليتيم لما لا نظير له في مقام التقويم ثم استعمل في فقد الأب قبل بلوغ ولده (مِنْ صِفَتِهِ وَإِحْدَى عَلَامَاتِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ) كالتوراة والانجيل (وأخبار الأمم السّالفة) باللام والفاء أي السابقة الماضية (وكذا) أي نعت اليتم (وقع ذكره في كتاب أرمياء) بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 الميم فتحتية فألف مقصورة وروي ممدودة قال التلمساني وهو ابن حلقيا وقال الدلجي كأنه من انبياء بني إسرائيل وفي القاموس أرميا بالكسر نبي (وبهذا) أي نعت اليتم (وصفه ابن ذي يزن) بفتح الياء والزاء غير منصرف واسمه سيف وهو مالك اليمن (لعبد المطلّب) على ما تقدم من أنه يموت أبوه وأمه ويكلفه جده وعمه (وبحيرا) بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة وسكون التحتية فراء بعدها الف مقصورة أو ممدودة وهو الراهب الذي أبصره بأرض الشام وقد عد من الصحابة عند بعض الاعلام والمقصد أنه أيضا كذا ذكره (لأبي طالب) في ذلك المقام فروي نزل من صومعته وأخذ بيده عليه الصلاة والسلام وذلك حين خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام فقال لعمه ما هذا الغلام منك فقال ابني فقال بحيرا ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا قال فإنه ابن أخي قال فما فعل أبوه قال مات وأمه حبلى به قال صدقت وتقدمت هذه القصة في فصل دلائل النبوة (وَكَذَلِكَ إِذَا وُصِفَ بِأَنَّهُ أُمِّيٌّ كَمَا وَصَفَهُ الله به) بقوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وقوله الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ (فهي) أي صفة الأمية (مدحة له) بكسر الميم أي منقبة له وإن كانت منقصة لغيره (وفضيلة ثابتة فيه) أي في حقه بخصوصه (وقاعدة معجزته) أي أساس كرامته في خرق عادته الدالة على تحقق رسالته (إذ معجزته العظمى) بضم العين أي العظيمة في الغاية (من الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِطَرِيقِ الْمَعَارِفِ) أي العلوم الجزئية (والعلوم) الكلية من الأخبار السابقة والآثار اللاحقة والأصول الدينية والفروع الشرعية والأحكام والحدود في السياسات العرفية مع قطع النظر عن جمال بلاغته وكمال فصاحته (مع ما منح) أي أعطي (صلى الله تعالى عليه وسلم) من الفضائل وحسن الشمائل هنالك (وفضّل) بصيغة المفعول مشددا أو مخففا أي وميز (به) عن غيره (من ذلك) أي من أجل كمالات ذاته وكمالات صفاته (كما قدّمناه في القسم الأوّل) وفي نسخة في القسم الأول أي من الباب الرابع (ووجود مثل ذلك) الكتاب الجامع للأبواب كما قال في مدحه بعض أولي الباب: جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال والمعنى أن ظهوره (مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يدارس) الممارس (ولا لقّن) في المدارس (مقتضى العجب) في عالم الفكر (ومنتهى العبر ومعجزة البشر وليس) أي فيه كما في نسخة (ذلك) الوصف بالأمي (نقيصة إذ المطلوب) بالذات (من الكتابة والقراءة المعرفة وإنّما هي) أي القراءة ونحوها (آلة لها) أي للمعرفة (وَوَاسِطَةٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَيْهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ فِي نَفْسِهَا فإذا حصلت الثّمرة والمطلوب) كان الأنسب أن يقال المطلب ليكون مسجعا مع قوله (استغني عن الواسطة) كالشجرة (وَالسَّبَبِ، وَالْأُمِّيَّةُ فِي غَيْرِهِ نَقِيصَةٌ لِأَنَّهَا سَبَبُ الجهالة وعنوان الغباوة) أي ومقدمة الضلالة والعنوان بضم أوله ويكسر ما يكتب على ظاهر الكتب ليعلم مجمل ما في باطنها وبهذا يعرف أن كشف العوارف وظهور المعارف في بعض الأميين من هذه الأمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 يكون من جملة الكرامة كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً فإن العلم اللدني في العرف اللغوي ما يحصل للأمي من غير كسب ظاهر في الآدمي (فسبحان من باين أمره) أي غاير أمر النبي (مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِ وَجَعَلَ شَرَفَهُ فِيمَا فِيهِ محطّة سواه) أي محل خفض قدر غيره (وَجَعَلَ حَيَاتَهُ فِيمَا فِيهِ هَلَاكُ مَنْ عَدَاهُ) أي من سواه من أرباب الأرواح وأصحاب الأشباح (وهذا شقّ قلبه) أي صدره مرة بعد مرة في حقه (وإخراج حشوته) بضم الحاء المهملة وتكسر وسكون الشين المعجمة وأصله ما في جوف الشيء مما هو محشو به كالإمعاء والكرش وسائر الأشياء والمراد بها هنا علقة سوداء كما رواه البخاري كانت حظا للشيطان وتعلقا له بها في مقام وسوسة الإنسان فإن شقه وإخراجها (كان تمام حياته) ونظام صفاته (وغاية قوّة نفسه) ونهاية قوة أنسه (وثبات روعه) بضم الراء أي قلبه حال خوفه وروعه ولله در من قال: اقتلوني يا ثقاتي ... إن في موتي حياتي ولبعض أرباب الحال موتوا قبل أن تموتوا (وهو) على ما في نسخة أي شقه وإخراجها (فيمن سواه منتهى هلاكه) أي غاية أسباب هلاكه (وحتم موته) بالحاء المهملة أي وجوب وقوعه (وفنائه) والمعنى أنه نهاية علة موته وأفنائه (وهلمّ جرّا) أي وهكذا الأمر مستمرا (إِلَى سَائِرِ مَا رُوِيَ مِنْ أَخْبَارِهِ وَسِيَرِهِ) المؤذنة بآثاره وأسراره (ومآثره) أي مفاخرة ومكارمه التي تؤثر عنه (وتقلّله) أي طلب قلته ووري تبلغه أي طلب بلاغه وزاده إلى معاده (من الدّنيا) زاهدا فيها لا اضطرارا عنها (ومن الملبس) الناعم (والمطعم) اللذيذ (والمركب) المزين (وتواضعه) مع الخلق مع كمال ترفعه عند الحق عملا بقوله من تواضع لله رفعه الله رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (ومهنته) بفتح الميم وتكسر على ما ذكره التلمساني وأبو زيد فلا يلتفت إلى نفي الأصمعي والزمخشري فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ أي خدمته (نفسه في أموره) المحتاج إليها (وخدمة بيته) تهوينا على أهله وخدمه (زهدا) في الملك والملك والجاه المعد للهلك وقد سئل الزهري عن الزهد فقال هو أن لا يغلب الحلال شكره ولا الحرام صبره (ورغبة عن الدّنيا) أي اعراضا عنها لسرعة فنائها وقلة بقائها وكثرة عنائها وخسة شركائها وقد ورد لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقي كافرا منها شربة ماء رواه الترمذي عن سهل بن سعد (وتسوية بين حقيرها وخطيرها) أي عظيمها من قليلها وكثيرها (لسرعة فناء أمورها) وبقاء شرورها (وتقلّب أحوالها) وتغير أرباب أموالها ونعم المقول: فلا تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول (كلّ هذا) الذي ذكرناه (من فضائله) أي بعض شمائله (ومآثره) أي مكارمه التي تؤثر وتروى من مفاخره (وشرفه) أي طرفه وتحفه (كما ذكرناه) فيما سبق من محله ومجمل الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (فمن أورد شيئا منها مورده) أي ذكره في محله اللائق به (وقصد به مقصده) من تعظيم قدره وتبجيل أمره (كان حسنا) أي مستحسنا عند الله وخلقه (ومن أورد ذلك على غير وجهه) بتساهل في حقه (وقد علم منه) أي من إيراده ذلك (سوء قصده) من تنقص به (لحق بالفصول) الستة (التي قدّمناها) فيقتل أو يعزل أو يحبس كما قدرناها (وكذلك ما ورد من أخباره) من أفعاله وأقواله وأثاره (وأخبار سائر الأنبياء عليهم السّلام في أحاديث) وفي نسخة في الأحاديث (ممّا في ظاهره إشكال) كحديث لم يكذب إبراهيم إلا إلى ثلاث كذبات (يقتضي أمورا لا تليق بهم بحال) من أحوالهم (وتحتاج إلى تأويل) يصرفها إلى تحسين مقالهم (وتردّد احتمال) من نقصان في جمال كمالهم (فلا يجب) أي فلا ينبغي (أن يتحدّث منها) بل يجب أن يسكت عنها ولا يؤتى بشيء منها (إلّا بالصّحيح) الثابت فيها (ولا يروى منها إلّا المعلوم) في الرواية (الثّابت) في الدراية (وَرَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا فَلَقَدْ كَرِهَ التَّحَدُّثَ بِمِثْلِ ذلك من الأحاديث الموهمة للتّشبيه) المحتاجة إلى التأويل المقتضي للتنزيه (والمشكلة المعنى) المبنية على استعارة في المبنى كحديث البخاري وغيره ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول هل من داع فاستجيب له هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فاغفر له فإن نزوله سبحانه وتعالى كناية عن تنزيلات رحمته وموجبات إجابة دعوته وأسباب مغفرته أو يقال إنه سبحانه وتعالى له نزول يليق بشأنه مع اعتقاد التنزيه له عن انتقال وتغير ووجود مكان وزمان في ذاته وكذا الحكم في الآيات المتشابهات وسائر الأحاديث المشكلات فللسلف والخلف مذهبان فالمتقدمون على التسليم والتوكيل ومنهم أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل والمتأخرون على التأويل والكل قائلون بالتنزيه ومانعون عن التشبيه وبالغ الإمام مالك حتى منع السؤال عن ذلك كما صرح به في قوله المجيب عن سؤاله الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة (وقال) أي مالك (ما يدعو النّاس) أي أي شيء يلجئ العامة ويسوقهم (إلى التّحدّث بمثل هذا) كحديث خلق الله آدم على صورته وكحديث إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله بينه وبين القبلة (فقيل له إنّ ابن عجلان) بفتح أوله (يحدّث بها فقال لم يكن) ابن عجلان (من الفقهاء) مع أنه كان شيخ مالك ومن أعلام التابعين بالمدينة وروي عن أبيه وأنس بن مالك وغيرهما وعنه شعبة ويحيى بن سعيد القطان ونحوهما وثقه أحمد وابن معين وقال غيرهما سيىء الحفظ روي أنه حملت به أمه ثلاثة أعوام فشق بطنها لما ماتت فأخرج وقد نبتت أسنانه وفي الميزان للذهبي قال عبد الرحمن بن القاسم قيل لمالك إن ناسا من أهل العلم يحدثون قال من هم فقيل له ابن عجلان فقال لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالما قال الذهبي قلت قال مالك هذا لما بلغه أن ابن عجلان حدث بحديث خلق الله آدم على صورته ولابن عجلان فيه متابعون وخرج في الصحيح انتهى فمعناه لم يكن يفقه ما ينشأ عن هذا من الفساد للعباد والخوض في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 الباطل لأهل الفساد أو لم يكن من الفقهاء الذين يقدرون على تأويل الأخبار بل ممن يبقى على ظاهر ما ورد من الآثار والحاصل أنه كره التحديث مالك بأمثال ذلك في مجالس العامة لا التحديث المطلق المترتب عليه كتم العلم بالخاصة كما بسطنا هذه القضية في الخطبة قال القاضي المؤلف (وليت النّاس وافقوه) أي مالكا (عَلَى تَرْكِ الْحَدِيثِ بِهَا وَسَاعَدُوهُ عَلَى طَيِّهَا) أي عاونوه على طيء ذكرها في مجلس العامة (فأكثرها ليس تحته عمل) يحتاج إليه جمهور الخلق وحمله الدلجي على كراهة مطلق التحديث بها رواية وكتابة فقال هذه دعوى بلا بينة ومن ثمة لم يوافقه أحد كراهة التحديث بها إذ لم يقله عليه الصلاة والسلام لأصحابه عبثا ولا أخبر به عن ربه ليترك سدى مع أنه يلزم من كراهة التحديث بها كراهة تعليم الناس متشابه القرآن والتلاوة مع أمره عليه الصلاة والسلام بقوله (بلغوا ولو آية) وإنما ورد في الكتاب والسنة بعض المتشابهات ابتلاء للراسخين في العلم على قدم الثبات قلت اختار مالك سد باب الذريعة للمهالك العامة في ذلك كما وقع لسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي هريرة حيث أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يروي عنه عليه الصلاة والسلام أن من يشهد ان لا إله إلا الله حرمه الله على النار ومنعه عمر لئلا يتكل الناس ويتركوا عمل الأبرار بسماع هذه الأخبار ووافقه سيد الأخيار وقال دعهم يعلموا هذا ولم يرد عن أحد من الأئمة جواز رواية مثل هذه الأحاديث في مجالس الجهلاء والسفهاء فلم يخالف مالك في هذه المسألة أحدا من العلماء بل ثبت عنهم منع العامي عن علم الكلام ودقائق الصوفية الكرام خوفا عليهم من تزلزل عقائدهم وعدم الانتقاع بفوائدهم (وقد حكي) بصيغة المجهول أي روي مثل ذلك (عن جماعة من السّلف بل عنه) أي عن السلف (على الجملة) أي من حيث مجموعهم لا جميعهم (أنّهم كانوا يكرهون الكلام) أي مع العوام (فيما ليس تحته عمل) من الاحكام مما يؤخذ منه حكم شرعي ينتفع به الأنام (والنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أوردها) أي أحاديثه (على قوم عرب) في كمال أدب (يفهمون كلام العرب على وجهه) بدون صرفه عن ظاهر عبارته إلا لموجب يدعو إليه من حمله على إشارته (وتصرّفاتهم في حقيقته) باستعمال اللفظ فيما وضع له بحسب أصله (ومجازه) باستعماله في غير ما وضع له بقرينة عقلية أو حالية (واستعارته) باستعارة حرف كما في قوله تعالى وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها أو فعل كما في ولما سكت عن موسى الغضب أي سكن وذهب (وبليغه) أي وبلاغته مما يطابق مقتضى الحال من فصاحته (وإيجازه) الجامع لقلة مبانيه وكثرة معانيه (فلم تكن في حقّهم مشكلة) أي لم توجد في الأحاديث بالنسبة إليهم كلمة مشكلة وجملة معضلة أو لم تكن هذه الأشياء المتقدمة في حقهم مشكلة موهمة لمعرفتهم بأساليب كلامهم وقوة إدراكهم وسرعة أفهامهم وفق مرامهم وهذا كله ببركة مجالسة نبي الأمة وكاشف الغمة (ثمّ جاء من غلبت عليه العجمة) بضم أوله أي اللكنة العجمية (وداخلته الأمّيّة) أي النسبة الجهولية والحالة الطفولية (فلا يكاد يفهم من مقاصد العرب) في مراصد الأدب (إلّا نصّها) أي ظاهرها لا تلويحها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 (وصريحها) وفي نسخة تصريحها (ولا يتحقّق بإشاراتها) وفي نسخة إشاراتها (إلى غرض الإيجاز) أي الاقتصار والاختصار ميلا إلى الإطناب في عباراتها (ووحيها) أي خفي كلامها (وتبليغها) وفي نسخة صحيحة وبليغها وهو الأبلغ أي الأقوال المتضمنة لبلاغتها (وتلويحها) أي إشارتها إلى تحسين عبارتها بحسب فصاحتها (فتفرّقوا) أي من غلبت عليه العجمة حقيقة أو طبيعة (في تأويلها) أي الأحاديث الموهمة للشبهات المشكلة (أو حملها على ظاهرها) من غير تنزيه في باطنها (شذر مذر) بفتح أولهما وكسره فمعجمتين اسمان جعلا اسما واحدا للتأكيد فبنيا على الفتح كخمسة عشر ومحلهما نصب على الحال تفرقوا في كل وجه بحيث لا يرجى اجتماعهم بوجه ولا يقال في الإقبال وهذا في الأمثال مثل قولهم تفرقوا أيدي سبا وتمزقوا كل ممزق (فمنهم من آمن به) حق إيمانه من التنزيه (ومنهم من كفر) بحمله على التشبيه وهذا كله في الأحاديث الصحيحة والروايات الصريحة كحديث إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب رجل واحد يصرفه كيف يشاء رواه أحمد ومسلم عن عمرو (فَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ) التي اشتهرت على ألسنة العوام أو ذكرت في كتب بعض العلماء الأعلام (فواجب أن لا يذكر منها شيء) لا سيما الوارد منها (فِي حَقِّ اللَّهِ وَلَا فِي حَقِّ أَنْبِيَائِهِ ولا يتحدّث بها) أي بألفاظها ومعانيها (وَلَا يُتَكَلَّفُ الْكَلَامُ عَلَى مَعَانِيهَا، وَالصَّوَابُ طَرْحُهَا) أي حذفها وعدم ذكرها (وترك الشّغل) وروي الاشتغال (بِهَا إِلَّا أَنْ تُذْكَرَ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيفِ بأنّها ضعيفة المقاد) بفتح الميم والقاف أي ضعيفة الرجال (واهية الإسناد) في المقال (وقد أنكر الأشياخ) جمع الشيوخ من العلماء (على أبي بكر بن فورك) بضم الفاء وفتح الراء غير منصرف للعجمة والعلمية وقد يصرف لعدم ثبوت العجمة (تكلّفه في مشكله) كأنه اسم كتابه (الكلام) بالنصب على أنه مفعول تكلفه وفي أصل الدلجي في مشكل الكلام (على أحاديث ضعيفة) إسنادا أو متنا (موضوعة لا أصل لها) لا موقوفة ولا مرفوعة وكان الأولى أن يقال ضعيفة أو موضوعة للفرق بينهما عند أرباب الأصول فإن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال اتفاقا (أو منقولة عن أهل الكتاب) من اليهود والنصارى وغيرهم (الّذين يلبّسون الحقّ بالباطل) كما أخبر الله به عنهم (كان) وفي نسخة وكان أي ابن فورك (يكفيه) أي ابن فورك (طرحها) أي نبذها وراء ظهره بعدم التفات إلى ذكرها (ويعنيه عن الكلام عليها) من جهة معانيها (التّنبيه على ضعفها) ووضعها ليجتنب عن التعلق بها إِذِ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ عَلَى مُشْكِلِ مَا فِيهَا إزالة اللّبس) أي الخط الكائن (بها واجتثاثها) مبتدأ أي اقتطاعها (من أصلها وطرحها) وتركها في فصلها (أكشف) أي أبين (للّبس وأشفى للنّفس) وفيه بحث إذ الحكم على الحديث بأنه ضعيف أو موضوع ليس بمقطوع لاختلاف المحدثين في رجال الاسناد بحيث لم يبق الاعتماد إذ قل حديث صحيح لم يقل بضعفه وعلته وقل حديث ضعيف بل موضوع لم يقل بصحته أو ثبوته فكأنه رحمه الله تعالى أتى بالتأويل في معناه على تقدير صحة مبناه ليزول الإشكال على جميع الاحتمال من الأحوال والله تعالى أعلم بمقاصد الرجال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 فصل (وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وما لا يجوز) أي إطلاقه عليه (والذّاكر من حالاته) أي صفاته ومقالاته (ما قدّمناه في الفصل قبل هذا) الفصل (على طريق المذاكرة والتعليم أن يلتزم) أي المتكلم (في كلامه عند ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر تلك الأحوال الواجب) بالنصب على المفعولية من الضمير المستكن في يلتزم وتقدير الكلام ومما يجب على المتكلم في كذا وكذا يلتزم في كلامه الواجب ومن قوله (من توقيره وتعظيمه) للبيان وفي بعض النسخ الواجبة بالتاء إيقاعا لها صفة الأحوال وخطؤه ظاهر إلا أن يتكلف ويأول بالثابتة في الفصول الستة (ويراقب) أي وأن يراعي (حال لسانه) بعظيم شأنه (ولا يهمله) أي يتركه ولا يرسله من غير بيانه (ويظهر عليه) أي على المتكلم (علامات الأدب عند ذكره) خوفا من الرب ونظيره قاله القراء إن الواجب على القارئ إذا قرأ آية فيها فعل الكفر كقوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ أن يخفض صوته عند المقول وأن يخضع في مقام الخوف والنول ويتذكر قوله تعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام في المجمع العام أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فإن مقتضى العقل الباهر والدين الظاهر هو أنه سبحانه وتعالى لولا أنه ذكره في كتابه وقرره في خطابه لكان واجبا أن لا يتحدث أحد عنهم بهذا الكلام تعظيما للملك العلام وتأمل قول ابن دينار لولا أن الله انزل في الفاتحة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وأوجب علينا قراءته لما تلفظت بهذه الجملة لعدم اتصافي بهذه الخصلة (فإذا ذكر) المتكلم (ما قاساه) أي كابده عليه الصلاة والسلام (من الشّدائد) من جهة الخلق (ظهر عليه الإشفاق) أي الشفقة والرحمة (والارتماض) بالضاد المعجمة أي شدة الاحتراق وأصله القلق والشدة وهو من الرمض شدة الحر أو شدة الغيظ ومعناه أنه يتوقد له ويتغيظ به ويود لو كان في ذلك الوقت لا وقع بعامل ذلك ما قدر من آثار المقت وهذا معنى قوله (والغيظ على عدوّه) والغيظ بالظاء المعجمة الغضب أو شدته أو أوله وسورته وأغرب التلمساني بقوله والغيظ بالظاء والضاد وهي لغة (ومودّة الفداء) وهو بكسر الفاء ممدودا ومقصورا وبفتحها مقصورا أي ويجب أن يفدي بروحه وأبيه وأمه (للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) فيما أصابه (لو قدر عليه) أي على الفداء (والنّصرة لو أمكنته) لديه ونظيره في قراءة القرآن إذ قرأ آية الرحمة ينبسط ويطلبها وإذا قرأ آية العقوبة ينقبض ويستعيذ منها (وإذا أخذ في أبواب العصمة) وفي نسخة العظمة والظاهر أنه تصحيف وتحريف والمعنى إذا أشرع المتكلم في أبواب حفظ الله إياه في أحواله (وَتَكَلَّمَ عَلَى مَجَارِي أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم تحرّى) بالحاء المهملة والراء المشددة أي اجتهد في تأديته ويطلب ويقصد (أحسن اللّفظ وأدب العبارة) بهمزة ممدودة أي أولاها (ما أمكنه) أي قدر ما قدر عليه (واجتنب بشيع ذلك) أي كريهه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 (وهجر) أي ترك (من العبارة ما يقبح) ظاهره (كلفظة الجهل والكذب والمعصية) والمعنى لا ينسب شيئا منها وأمثالها إليه وإلى غيره من الأنبياء عليهم السلام ولا يستند إلى ما ورد في حقهم من قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى أي جاهلا بتفاصيل الإيمان كما ينبئ عنه قوله تعالى مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ومن قوله عليه الصلاة والسلام ولم يكذب إبراهيم الا ثلاث كذبات ومفهومه أنه كذب ومن قوله تعالى وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فإن لله ورسوله أن يعبرا بما شاآ في حق من شاآ (فإذا تكلّم) أي المتكلم (فِي الْأَقْوَالِ قَالَ هَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ في القول والإخبار) بكسر الهمزة لا يقول أيجوز عليه الكذب في قول أو خبر (بخلاف ما وقع سهوا) في لسانه (أو غلطا) في بيانه (ونحوه من العبارة) كالنسيان في شأنه فإنه لا لوم عليه ولا اعتراض لديه لحديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان (ويتجنّب لفظة الكذب) أي إطلاقها عليه (جملة واحدة) أي بالكلية (وإذا تكلّم على العلم) أي علمه عليه الصلاة والسلام (قَالَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمَ إِلَّا ما علّم) كما يشير إليه قَوْلِهِ تَعَالَى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ عِلْمٌ من بعض الأشياء حتّى يوحى إليه) لقوله تعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي بذاته وقوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وقوله قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وفي الحديث مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية وفي حديث جبريل ما المسؤول عنها بأعلم من السائل وقد قال تعالى إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها أي عن نفسي لو كان أمكن فضلا عن غيري والحاصل أن الأنبياء لم يعلموا المغيبات من الأشياء إلا بما اعلمهم الله تعالى أحيانا وقد صرح علماؤنا الحنيفة بتكفير من اعتقد أن النبي يعلم الغيب لمعارضة قوله تعالى قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ كذا في المسايرة للإمام ابن الهمام (ولا يقول بجهل) النبي (لقبح اللّفظ وبشاعته) بل يقول لا يدري مثلا وقت مجيء الساعة قال حسن العبارة معتبر عند ارباب الإشارة كما حكي أنه كان معبر ان لبعض الأمراء وجعل وظيفة أحدهما ألفا والآخر نصفه ندماؤه وجلساؤه عن وجه الفرق بينهما لاتحادهما في مراتب العلم والصلاح والأدب فسألوه عن ذلك وعن تمييزهما بما هنالك فقال رأيت في النوم أن أسناني سقطت فصاحب الألف عبر بأنك تعيش بعد أقوامك كلهم وعبر الآخر بأنهم يموتون قدامك جميعهم فانظروا فالفرق بين العبارتين مع أن مؤداهما واحد في الإشارتين (وإذا تكلّم) المتكلم (في الأفعال) الصادرة عنه عليه الصلاة والسلام (قَالَ هَلْ يَجُوزُ مِنْهُ الْمُخَالِفَةُ فِي بَعْضِ الأوامر والنّواهي) ولا يعبر عنها بالكبائر والمعاصي (ومواقعة الصّغائر) بل الأولى أن يعبر عنها بالزلات والمكروهات بل وخلاف الأولى (فهو) أي ما ذكر من العبارات (أولى وآدب) بمد الهمزة أي أكثر تأدبا (مِنْ قَوْلِهِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْصِيَ أَوْ يُذْنِبَ أَوْ يَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَنْوَاعِ المعاصي) المشتملة على الصغائر والكبائر (فهذا) الذي قدمناه (من حقّ توقيره) وفي نسخة زيادة وبره أي طاعته أو إكرامه (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ تعزير) أي تبجيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 (وإعظام وقد رأيت) ويروى ورأيت (بعض العلماء لم يتحفّظ من هذا) الذي ذكرناه ويروى في هذا (فقبّح منه) ما صدر عنه (ولم استصوب عبارته فيه) ولذا اكتفيت بذكر إشارته (ووجدت) وروي رأيت (بعض الجائرين) بالجيم من الجور أي المائلين عن الاقتصاد وفي رواية بالحاء المهملة من الحيرة وهو التردد أي من المتحرين في سبيل الرشاد غير متمكنين على طريق السداد (قوّله) بتشديد الواو أي نسبه إلى الخطأ في قوله الخاص به (لِأَجْلِ تَرْكِ تَحَفُّظِهِ فِي الْعِبَارَةِ مَا لَمْ يقله) والمعنى زعم لأجل ترك تحفظه أنه قال ما لم يقله (وشنّع) ذلك البعض (عليه) أي على من لم يتحفظ (بما يأباه) كلامه (ويكفّر قائله وإذا كان مثل هذا) الاستعمال بالتحفظ في الأقوال (بَيْنَ النَّاسِ مُسْتَعْمَلًا فِي آدَابِهِمْ وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِمْ وخطابهم فاستعماله في حقّه عليه الصلاة والسلام أوجب) أي الزم (والتزامه آكد) بمد الهمزة أي أوثق وأتم قال الدلجي قوله أوجب أي وجوب فرض لا وجوب تأكيد وهما عند امامنا الشافعي مترادفان سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني وفرق أبو حنيفة بأن ما ثبت بقطعي ففرض وما ثبت بظنه فواجب لأن التفاوت بين الكتاب وخبر الآحاد يوجب التفاوت بين مدلوليهما لكنهم خالفوا قاعدتهم من إطلاقهم الفرض على ما ثبت بظني كقولهم الوتر فرض والزكاة واجبة انتهى ولا يخفى أن الفرق بينهما إنما هو بحسب الاعتقاد دون العمل فإن كلاهما فرض بهذا الاعتبار لكن ثواب الفرض أكثر وعقاب ترك الواجب أقل ومما يفيد الفرق أن منكر الفرض كافر بخلاف منكر الواجب وهذا هو بحسب أصل الاصطلاح الشرعي وقد يستعار أحد اللفظين مقام الآخر في الاستعمال اللغوي ومن لم يميز بين الدليل القطعي والظني فلا كلام معه لا من جهة النقل ولا من جهة العقل على أن الشافعية أضطروا إلى الفرق بينهما في أحكام الحج حجة عليهم ثم هذا المبحث لم يكن في محله ولكنه لما أبدي هذا المقال أوجب لنا حل عقال هذا الإشكال على أن قوله وجوب فرض لا وجوب تأكيد لا طائل تحته (فجودة العبارة تقبّح الشّيء) الواحد (أو تحسّنه) كما قدمناه في حكاية المعبرين (وتحريرها وتهذيبها يعظّم الأمر أو يهوّنه ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم إنّ من البيان لسحرا) رواه مالك وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عمر ثم البيان فصاحة اللسان والسحر صرف الشيء عن وجهه والحديث يحتمل المدح والذم أما على الأول فمعناه أنه يستميل النفوس ويأخذ بها لحسنه عندها من بلاغته وفصاحته وحسن تأليفه في عبارته وإشارته وتزيين مبانيه وتحسين معانيه بحيث يرتضي به الساخط ويستذل به الصعب كما يفعل السحر من الأمر العجب ولذلك قالوا فيه السحر الحلال ويؤيده أن في نفس الحديث زيادة رواية وأن من الشعر لحكمة وأما على الثاني فمعناه في المتشدق الذي يمدح من لا يمدح في الفعل ويطنب فيما لا يحل من القول ويحسن القبيح من ذلك ويقبح الحسن هنالك وأن فعل ذلك حرام كالسحر ويكتسب صاحبه من الاثم في قوله ما يكتسبه الساحر بعلمه وقد أورد مالك رحمه الله تعالى الحديث في الموطأ في باب ما يكره من الكلام ولعله اختار القول الثاني في هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 المقام والله تعالى اعلم بالمرام (فأمّا ما أورده) المتكلم (على جهة النّفي عنه والتّنزيه) له عليه الصلاة والسلام منه (فلا حرج في تسريح العبارة) أي إرسالها وإطلاقها (وتصريحها فيه) أي في حقه عليه الصلاة والسلام (كقوله لا يجوز عليه الكذب جملة) أي مجملا ومطلقا أو جميع أنواعه (ولا إتيان الكبائر بوجه) أي لا عمدا ولا سهوا (ولا الجور) أي الميل والظلم (في الحكم) بين الناس (على حال) من الغضب والرضى (وَلَكِنْ مَعَ هَذَا يَجِبُ ظُهُورُ تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ وتعزيره) أي تبجيله (عند ذكره مجرّدا) عن إثبات وصف أو نفيه (فكيف عند ذكر مثل هذا) الكلام المشتمل على نعته على جهة النفي أو ثبوته (وقد كان السّلف) من أئمة الدين كزين العابدين وجعفر الصادق ومحمد بن المنكدر (تظهر عليهم حالات شديدة) من تغير لون وبكاء ورعدة (عِنْدَ مُجَرَّدِ ذِكْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الثّاني وكان بعضهم يلتزم مثل ذلك) من ظهور التوقير (عِنْدَ تِلَاوَةِ آيٍ مِنَ الْقُرْآنِ حَكَى اللَّهُ تعالى فيها مقال عداه) بكسر أوله أي اعدائه من اليهود والنصارى (وَمَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ وَافْتَرَى عَلَيْهِ الْكَذِبَ فَكَانَ يخفض بها صوته) في تلاوته (إعظاما لربّه وإجلالا له) أي لقدره وأمره (وإشفاقا) على نفسه حذرا (من التّشبّه بمن كفر به سبحانه لا إله إلا هو العلي العظيم) فعن إبراهيم النخعي أنه كان إذا قرأ قوله تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ يخفض بها صوته أي بمقولهم وأمثال ذلك من كفرياتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 الْبَابُ الثَّانِي [فِي حُكْمِ سَابِّهِ وَشَانِئِهِ وَمُتَنَقِّصِهِ ومؤذيه] (في حكم سابّه) أي شاتمه (وشانئه) أي مبغضه إذ أظهر عليه أثره (ومتنقّصه) أي الطالب نقصه (ومؤذيه) أي بقوله أو فعله (وعقوبته) أي وفي عقوبة من ذكر (وذكر استتابته) من طلب توبته أو قبول رجعته وفي نسخة والصلاة عليه (ووراثته) في تركته بعد موته (قَدْ قَدَّمْنَا مَا هُوَ سَبٌّ وَأَذًى فِي حقّه صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْنَا إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى قَتْلِ فاعل ذلك وقائله) أي إن لم يرجع إلى الإسلام (وتخيير الإمام) وفي نسخة أو ولا وجه له وفي نسخة ويخير الإمام أي وذكرنا كونه مخيرا (فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ) أي تفصيل صور أمثلته (وقرّرنا الحجج عليه) بإظهار أدلته (وبعد) أي بعد ذلك (فاعلم أنّ مشهور مذهب مالك وأصحابه وأقوال السّلف) أي بعضهم (وجمهور العلماء) أي المالكية لما سيأتي أن الجمهور على خلاف قول مالك المشهور (قتله حدّا لا كفر إن أظهر التّوبة منه) أي من عند نفسه أو من قوله أو فعله (ولهذا) أي ولكونه يقتل حدا لا كفرا (لا تقبل عندهم توبته) أي منه كما في نسخة (ولا تنفعه) أي في دفع قتله (استقالته ولا فيأته) بفتح الفاء وتكسر فتحتية ساكنة فهمزة أي رجوعه عنه (كما قدّمناه قبل) أي قبل ذلك (وحكمه) أي في حتم القتل (حكم الزّنديق) الذي توبته عندهم لا تقبل وهو الذي لا يتدين (ومسرّ الكفر) ومظهر الإيمان (في هذا القول) المشهور من مذهب مالك وقال غيره تقبل توبته ولا يقتل (وسواء كانت توبته على هذا) القول المشهور (بعد القدرة عليه) أي على أخذه (والشّهادة على قوله) المؤدي إلى قتله (أو جاء تائبا من قبل نفسه) أي من عنده بدون استتابته (لأنه) أي قتله (حدّ وجب) عندهم (لا تسقطه التوبة كسائر الحدود) من الزنا وقتل النفس ونحوهما اتفاقا وفيه أنه قياس مع الفارق فإن هذه الحدود عامة ثابتة بالكتاب والسنة وأما من كفر بسبب سب ثم تاب فلا يعرف له حد في هذا الباب إذ كثير ممن ارتد عن الإسلام يهجاه عليه الصلاة والسلام ثم تاب وقبل منه توبته ورفعت عنه ردته هذا وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام إن الإسلام يجب ما قبله وهو يشمل الإسلام السابق واللاحق وفي الحدود تفصيل في مذهبنا هو المحمود (قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذا أقرّ بالسّبّ) أي له أو لغيره من الأنبياء عليهم السلام (وتاب منه وأظهر التّوبة) أي أثرها قبلت منه و (قتل بالسّبّ لأنه هو) أي القتل (حَدُّهُ وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ مثله) أي يقتل لأنه حده وفي نسخة في مثله أي في نظيره (وَأَمَّا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَتَوْبَتُهُ تَنْفَعُهُ) إجماعا، (وقال ابن سحنون) بفتح أوله وبضم ويصرفه ويمنع (من شتم النبيّ صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 تعالى عليه وسلم) وكذا غيره من الأنبياء عليهم السلام (من الموحّدين) أي المسلمين (ثمّ تاب عن ذلك لم تزل) من الإزالة أي لم ترفع (توبته عنه القتل) وهو معنى قول القابسي وابن أبي زيد (وكذلك قد اختلف) أي اختلف المالكية (في الزّنديق إذا جاء تائبا) من قبل نفسه من غير استتابة والجاء إليها (فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ فِي ذلك) أي في مجيئه تائبا (قولين، قال) أي ابن القصار (من شيوخنا من قال أقتله) أي احكم بقتله (بإقراره) بأنه كان زنديقا أو شاتما ثم جاء تائبا (لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى سَتْرِ نَفْسِهِ فَلَمَّا اعترف خفنا) أي ظننا ومنه قوله تعالى إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما (أنّه خشي الظهور) أي الاطلاع (عليه) بأن يجدوا الزندقة لديه (فبادر لذلك) بالتوبة وهذا له وجه في الجملة إذا كان لبعض الناس إطلاع على حاله (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَقْبَلُ تَوْبَتَهُ لِأَنِّي أَسْتَدِلُّ على صحّتها) أي صحة توبته (بمجيئه) تائبا من قبل نفسه (فَكَأَنَّنَا وَقَفْنَا عَلَى بَاطِنِهِ بِخِلَافِ مَنْ أَسَرَّتْهُ البيّنة) أي أخذته وقيدته (قال القاضي أبو الفضل وهذا) القول الأخير (قول أصبغ) أي ابن الفرج فقيه مصر من شيوخ البخاري (ومسألة سابّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أقوى) أي أشد من مسألة الزنديق فإنها من حق الله تعالى وهو مبنى على المسامحة فقيه الخلاف في الجملة بخلاف الساب فأنه (لا يتصوّر فيها الخلاف) في مذهب مالك (على الأصل المتقدّم) على ذلك (لأنّه) أي سبه (حقّ متعلّق للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ولأمّته بسببه لا تسقطه التّوبة كسائر حقوق الآدميّين) وفيه أن حق الله هنا أيضا متعلق للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وجميع أمته (والزّنديق) وهو الثنوي أو القائل ببقاء الدهر أو المسر للكفر وهذا المعروف عند الفقهاء (إِذَا تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَعِنْدَ مَالِكٍ واللّيث) أي ابن سعد (وإسحاق) أي ابن راهويه (وأحمد) أي ابن حنبل (لا تقبل توبته) أي ظاهرا فلا تسقط عنه القتل (وعند الشّافعيّ تقبل) توبته ولا يقتل (واختلف فيه عن أبي حنيفة) وهو الإمام الهمام (وأبي يوسف) أحد اتباعه من الاعلام والمعتمد ما في قاضيخان وأما الزنادقة فأخذ الجزية منهم بناء على قبول التوبة من الزنادقة فإنهم قالوا إن جاء الزنديق قبل أن يؤخذ فأقر انه زنديق فتاب من ذلك قبلت توبته وإن أخذ ثم تاب لا تقبل توبته ويقتل لأنهم باطنية يظهرون شيئا ويعتقدون في الباطن خلاف ذلك فيقتلون ولا تؤخذ منهم الجزية ولا تقبل توبتهم انتهى وأبو حنيفة ترجمته كثيرة ومناقبه شهيرة وأما أبو يوسف فهو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بي سعد بن احبتة بحاء مهملة مفتوحة فموحدة ساكنة ومثناة فوقيه مفتوحة وهي أمه وهو سعد بن بحير بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة وقيل سعد بن بجير بضم الموحدة وفتح الجيم وذكر القولين الأمير في إكماله وقال الذهبي سعد بن بجير البجلي حليف الأنصار روي أنه قاتل يوم الخندق وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مسح رأسه وقال أسعد الله جدك ومن ولده القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وقد روي عن عطاء بن السائب وهشام بن عروة وغيرهما وكان أبو يوسف من أهل الكوفة فقيها عالما روى عنه محمد بن الحسن الشيباني وبشر بن الوليد الكندي وعلي بن الجعد وأحمد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 حنبل وابن معين وغيرهم وقد روي الشافعي عن محمد عن أبي يوسف وكان قد سكن ببغداد وتولى القضاء بها لثلاثة من الخلفاء المهدي وابنه الهادي ثم هارون الرشيد وكان الرشيد يكرمه ويجله قال ابن خلكان هو أو من دعي بقاضي القضاة ويقال إنه أول من غير لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها الآن وكان ملبوس الناس قبل ذلك شيئا واحدا لا يتميز أحد عن أحد بلباس قال ولم يختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني في ثقته في النقل وكان كثير الحديث انتهى ولد سنة ثلاث عشرة ومائة وتوفي يوم الخميس أول وقت الظهر لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين ومائة ببغداد وابنه يوسف الذي يكنى به ولي القضاء في حياة أبيه ومات سنة اثنتين وتسعين ومائة وبلغ من العمر تسعا وستين سنة وأما قول التلمساني قالوا أبو يوسف أبو حنيفة أي سيد مسده ويغني عنه فليس في محله لأن أبا يوسف حسنة من حسنات أبي حنيفة وفضله وإنما هو تشبيه بليغ كما يقال زيد أسد أي كأسد فالمعنى أن أبا يوسف كأبي حنيفة ومن المعلوم أن المشبه به أقوى من المشبه ولا يلزم من التشبيه المساواة من جميع الشبه ثم المعتمد في المذهب أنه تقبل توبته ولا يقتل وأما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً كاليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد الإيمان بموسى والتوراة ثم أزدادوا كفرا بمحمد عليه الصلاة والسلام والقرآن الميجد أو كفرا بمحمد قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والطعن فيه أو لقوم أرتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفرا بقولهم نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لا يتوبون أو لا يتوبون إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكني عن عدم توبتهم بعدم قبولها وذلك لما سبق في قوله تعالى كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ إلى أن قال إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعن ابن عباس أن قوما اسلموا ثم ارتدوا ثم اسلموا ارتدوا فأرسلوا إلى قومهم يسألون فنزلت رواه البزار وقال ابن كثير إسناده جيد (وحكى ابن المنذر) وهو الإمام الحافظ المشهور (عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه يستتاب) أي الزنديق، (قال محمّد بن سحنون ولم يزل) بفتح أوله وضم ثانيه أي لم يرتفع (الْقَتْلُ عَنِ الْمُسْلِمِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ سَبِّهِ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ دِينٍ) هو حق (إلى غيره) وهو دين باطل وهذا غريب من قائله إذ لا شبهة أنه انتقل بسبه عليه الصلاة والسلام من دين الإسلام وما عداه باطل بإجماع الإعلام (وَإِنَّمَا فَعَلَ شَيْئًا حَدُّهُ عِنْدَنَا الْقَتْلُ لَا عَفْوَ فِيهِ لِأَحَدٍ كَالزِّنْدِيقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ من ظاهر إلى ظاهر) أي بل إلى باطن وفساد هذا التعليل أيضا ظاهر؛ (وقال القاضي أبو محمّد) أي عبد الوهاب (بن نصر) أي البغدادي المالكي (محتجّا لسقوط اعتبار توبته) أي توبة من سبه عليه الصلاة والسلام (وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى على مشهور القول باستتابته) أي استتابة من سبه تعالى (أنّ النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ وَالْبَشَرُ جِنْسٌ تَلْحَقُهُ الْمَعَرَّةُ) بتشديد الراء أي الكراهة والمشقة (إلّا من أكرمه الله بنبوّته) هذا استثناء غريب لا يظهر وجه اتصاله ولا انفصاله اللهم إلا أن يراد بالمعرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 المنقصة ويلائمه قوله (والباري تعالى منزّه عن جميع المعايب قطعا) مما لا خلاف فيه إجماعا (وليس) أي الله سبحانه وتعالى (من جنس تلحق المعرّة بجنسه) في هذه العبارة مزلة لنزاهة ساحة عزته عن أن يكون من جنس تلحقه معرة أو لا تلحقه فلا يصح إطلاق النوعية والجنسية عليه كما لا يصح سؤال الماهية والكيفية بالنسبة إليه وفيه أن مقتضى قياس العقل أن من سب الله سبحانه وتعالى يكون أشد كفرا ممن سب النبي عليه الصلاة والسلام لوضوح قبحه عند جميع الإنام (وليس سبّه صلى الله تعالى عليه وسلم كالارتداد) أي المجرد (المقبول فيه التّوبة) ولو كانت ردته بسب الله سبحانه وعز شأنه وفيه بحث سيأتي بيانه (لأنّ الارتداد معنى ينفرد به المرتدّ) وهو كفره فقط (لَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فَقُبِلَتْ توبته) وفيه أن من سب الله تعالى يتعلق به حق خلقه من النبي وغيره ومن غضب بسب نفسه ولم يغضب بسب ربه فهو ليس بآدمي ومما يدلك على ذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام لا يسامح عن المرتد فكيف من يسب الله سبحانه وتعالى وكان يساهل من يسبه عليه الصلاة والسلام ويطعن فيه من المنافقين وغيرهم فيتعين أن سب الله تعالى أقبح من سب غيره والحاصل أن سبه سبحانه وتعالى وسب أنبيائه كفر يستتاب وتقبل توبته عند الجمهور وأما سب سائر الآدميين فليس بكفر فيعزر بشروطه المعتبرة (ومن سبّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم تعلّق به) وفي نسخة فيه (حق لآدميّ) وهو نفسه عليه الصلاة والسلام أو أمته الكرام ولا شك أنه يتعلق به حقه تعالى أيضا بلا كلام وفي نسخة تعلق فيه حق للآدميين قال التلمساني فعلى الأولى معناه أن ما وجب من حق النبي عليه الصلاة والسلام فقد تعلق بالناس كافة فوجب عليهم القيام به وعلى الثاني بأن الأمر وجب له ونحن نأخذ به وليس حقه كحق غيره (فكان كالمرتدّ) بل هو مرتد ما لم يتب وإذا تاب لا معنى له أنه كالمرتد (يقتل) أي مسلما (حين ارتداده أو يقذف) أي محصنة (فإنّ توبته) وإن قبلت من حيث ارتداده (لا تسقط عنه حقّ القتل) وفي نسخة حد القتل (والقذف) وحاصله أنه تقبل توبته عن ارتداده بالنسبة إلى تعلق حق الله به ولا تقبل توبته بالنسبة إلى تعلق حق غيره به (وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ إِذَا قُبِلَتْ لَا تسقط ذنوبه) التي اقترفها زمن ردته (من زنى وسرقة وغيرها) كقتل وشرب خمر (ولم يقتل سابّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لكفره) أي بعد توبته وأما قول الدلجي لأنه لم يسبق له إسلام فلا وجه لعلته (لكن) يقتل (لمعنى يرجع إلى تعظيم حرمته) في مقام نبوته (وزوال المعرّة به) أي بقتله (وذلك) المعنى (لَا تُسْقِطُهُ التَّوْبَةُ؛ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ) أي المصنف (يريد) القائل (وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ سَبَّهُ لَمْ يَكُنْ بِكَلِمَةٍ تقتضي الكفر) أي في نفس الأمر (ولكن بمعنى الإزراء والاستخفاف) وهذا غريب فإن الطعن في نبوته والقدح في نعته مناقض للإقرار برسالته وقبول دعوته وقد سبق أن سبه كفر بالإجماع وإنما قبول توبته في الدنيا محل النزاع (أو لأنّه) أي الشأن (بتوبته وإظهار إنابته) أي رجوعه (ارتفع عنه اسم الكفر ظاهرا) وهو ظاهر (والله أعلم بسريرته) وهذا حكم كل كافر أو مرتد يدخل في دين الإسلام فإنا نحكم عليه بظاهر ونكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 سريرته إلى عالم السرائر كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وحسابهم على الله (وبقي حكم السّبّ عليه) عند المالكية فيقتل حدا لا كفرا وأما عند غيرهم فحكم السب هو الكفر وارتفع بتوبته ورجوعه إلى شريعته، (وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْقَابِسِيُّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ، لِأَنَّ السَّبَّ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الّتي لا تسقط عن المرتدّ) فلا يستتاب لردته كذا قال والأولى على مقتضى مذهبهم أيضا القول باستتابته لتنفعه توبته عند ربه وإن كان يقتل حدا أن تاب عندهم (وكلام شيوخنا هؤلاء) المالكية المذكورين (مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِقَتْلِهِ حَدًّا لَا كُفْرًا وهو يحتاج إلى تفصيل) فإن من سبه بما لا يقتضي كفرا قتل حدا وكذا أن سبه بما يقتضيه وتاب وإلا قتل كفرا كذا ذكره الدلجي وهو خطأ فاحش لأن سبه بما لا يقتضي كفرا لا يتصور أصلا فإن مطلق سبه كفر قطعا. (وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مالك ومن وافقه) أي مالكا أو الوليد (على ذلك ممّن ذكرناه) فيما مر (وقال به من أهل العلم) أي كثيرون (فقد صرّحوا بأنّه) أي سبه عليه الصلاة والسلام (رِدَّةٌ قَالُوا وَيُسْتَتَابُ مِنْهَا فَإِنْ تَابَ نُكِّلَ) بصيغة المجهول أي عوقب عبرة لغيره إذ النكال العقوبة التي تنكل الناس أي تمنعهم عن فعل ما جعلت له جزاء وهذا عندهم أيضا (وإن أبى) أي امتنع عن التوبة (قتل) إجماعا (فحكم له) أي مالك للساب (بحكم المرتدّ مطلقا) بوجوب استتابته وقبولها مطلقا (في هذا الوجه) الذي رواه الوليد عن مالك ووافقه عليه غيره ووقع في أصل الدلجي الزنديق بدل المرتد والظاهر أنه خطأ (والوجه الأوّل أشهر) من رواية الوليد (وأظهر لما قدّمناه) من أنه يقتل حدا لا كفرا إن تاب وأخطأ الدلجي في قوله هنا وإن تاب لأن مفهومه أنه إذا لم يتب يقتل حدا لا كفرا وهو خلاف الإجماع (ونحن نبسط الكلام فيه) أي في سبه عليه الصلاة والسلام (فنقول من لم يره ردّة) أي ارتدادا عن الإسلام وهو بعيد عن مقام النظام (فهو يوجب القتل فيه) أي به (حدّا) أي لا كفرا (وإنّما نقول ذلك) أي كونه ليس بردة (مع فصلين) أي في محلين (إِمَّا مَعَ إِنْكَارِهِ مَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ) بصيغة المجهول (أو إظهاره الإقلاع) أي التحول والارتحال (والتّوبة) أي وإظهارها (عَنْهُ فَنَقْتُلُهُ حَدًّا لِثَبَاتِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ) إما بالبينة أو بالتوبة (في حقّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وتحقيره) أي سابه (مَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ وَأَجْرَيْنَا حُكْمَهُ في ميراثه وغير ذلك) مما له من الحقوق (حكم الزّنديق إذا ظهر عليه وأنكر) زندقته (أو تاب) عنها (فإن قيل وكيف) وفي نسخة صحيحة فكيف (تثبتون عليه الكفر) بإقراره (ويشهد عليه) بالبناء للمفعول (بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَلَا تَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ مِنَ الاستتابة وتوابعها) أي من القبول ورفع القتل عنه كما عليه جمهور السلف والخلف وعامة الأئمة (قلنا نحن) المالكية (وإن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع) بالجزم (عليه بذلك) الكفر (لِإِقْرَارِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَإِنْكَارِهِ مَا شُهِدَ بِهِ عليه أو زعمه) بضم الزاء وفتحها أي أو لدعواه (أنّ ذلك كان منه وهلا) بفتح الهاء وسكونها أي غلطا وسهوا ويروى وهما وهو بسكون الهاء وتحرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 (ومعصية) خطأ (وأنه مقلع) معرض (عن ذلك) الصادر منه هنالك (نادم عليه) أي على ما ينسب إليه (ولا يمتنع إثبات بعض أحكام الكفر) كالقتل (على بعض الأشخاص) من المسلمين (وإن لم تثبت له خصائصه) أي جميع خصائصه الموجبة للحكم عليه به (كقتل تارك الصّلاة) كسلا أو تهاونا حدا لا كفرا عند من قال به وهو خلاف ظواهر الأدلة وقواعد الأئمة بخلاف من تركها جحدا أو استحلالا فإنه كفر إجماعا (وأمّا من علم أنه سبّه معتقدا لاستحلاله فلا شكّ في كفره بذلك) أي باعتقاد استحلاله مع الإجماع على حرمته (وكذلك إن كان سبّه في نفسه) مع قطع النظر عن استخفافه واستحلاله (كفرا كتكذيبه أو تكفيره، ونحوه) كالشك في نبوته أو رسالته (فهذا ممّا لا إشكال فيه) بالحكم عليه بالكفر (ويقتل) حدا (وإن تاب منه لأنّا) معشر المالكية (لا نقبل توبته) لرفع القتل عنه (ونقتله بعد التّوبة حدّا) لا كفرا (لقوله) الذي ظهر منه (ومتقدّم كفره) أي الذي صدر عنه (وأمره بعد) أي بعد توبته وقتله (إِلَى اللَّهِ الْمُطَّلِعِ عَلَى صِحَّةِ إِقْلَاعِهِ الْعَالِمِ بسرّه) أي بباطن حاله (وكذلك) يقتل بل هو أولى هنالك (مَنْ لَمْ يُظْهِرِ التَّوْبَةَ وَاعْتَرَفَ بِمَا شُهِدَ به عليه وصمّم عليه) بأن عزم وجزم على ما لديه (فهذا كافر) بلا خلاف (بِقَوْلِهِ وَبِاسْتِحْلَالِهِ هَتْكَ حُرْمَةِ اللَّهِ وَحُرْمَةِ نَبِيِّهِ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْتَلُ كَافِرًا بِلَا خِلَافٍ فَعَلَى هذه التّفصيلات خذ كلام العلماء) وفي أصل الدلجي أخذ ولكنه لا يلائمه قوله (واترك مختلف عباراتهم) لأن المناسب أن يكون كلاهما بصيغة الأمر وضبط التلمساني بحاء مهملة مضمومة ودال مهملة مشددة أمر من حد الشيء ميزه أو من حده صرفه ورتبه وفي نسخة عباراتهم بصيغة الجمع والمعنى اترك عباراتهم المختلفة التي مآلها واحد (في الاحتجاج) بقتله (عليها) أي على التفصيلات (وأجر) أي أمض (اختلافهم في الموارثة) وروي الوارثة (وغيرها) من اجراء أحكام الإسلام على من تاب وإن حكم بقتله من الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين (عَلَى تَرْتِيبِهَا تَتَّضِحُ لَكَ مَقَاصِدُهُمْ إِنْ شَاءَ الله تعالى) . فصل (إذا قلنا بالاستتابة حيث تصحّ) منه على رواية الوفيد بن مسلم عن مالك (فالاختلاف فيها) أي في الاستتابة (محمول عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ إِذْ لَا فرق بينهما) عند مالك على الرواية السابقة (وقد اختلف السّلف في وجوبها) أي الاستتابة (وصورتها) أي كيفيتها (وَمُدَّتِهَا فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ المرتدّ يستتاب) وجوبا أو ندبا (وحكى ابن القصّار أنه) أي قول الجمهور (إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى تَصْوِيبِ قَوْلِ عُمَرَ في الاستتابة) سواء يكون إيجابا أو استحبابا (ولم ينكره) أي قول عمر (واحد منهم) فيكون إجماعا سكوتيا بالنسبة إلى بعضهم (وهو قول عثمان وعليّ وابن مسعود) أي مختارهم المنصوص عنهم (وبه) أي ويقول من تقدم من الصحابة (قال عطاء بن أبي رباح) بفتح الراء وهو من إجلاء التابعين من أهل مكة (والنّخعيّ) بفتح النون والخاء المعجمة ويسكن تابعي كوفي (والثّوريّ ومالك وأصحابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 والأوزاعيّ) منسوب إلى قبيلة من همدان (والشافعيّ وأحمد وإسحاق) أي ابن راهويه (وأصحاب الرأي) أي الثاقب الذي هو أسنى المناقب قال النووي المراد بأصحاب الرأي الفقهاء الحنفية وهذا عرف أهل خراسان (وذهب طاوس) يكتب بواو واحدة كداود وهو ابن كيسان اليمني وزيد في نسخة ومحمد بن الحسن وهو من أصحاب أبي حنيفة (وعبيد بن عمير) بالتصغير فيهما وهو أبو قتادة الليثي يروي عن أبي وعمر وعائشة وعنه ابنه وابن أبي مليكة وعمرو بن دينار وآخرون قال الذهبي ذكر ثابت البناني أنه قص على عهد عمر وهذا بعيد انتهى وثقه أبو زرعة وجماعة توفي سنة أربع وسبعين وأخرج له الأئمة الستة (والحسن) أي البصري (فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسْتَتَابُ) أي وجوبا إلا أنه لو تاب تقبل توبته ولا يقتل (وقاله) أي وقال به (عبد العزيز بن أبي سلمة) أي الماجشون بكسر الجيم كان إماما معظما ولدته أمه على ما قيل لأربع سنين توفي سنة أربع وستين ومائة اخرج له الأئمة الستة روى عن الزهري وابن المنكدر ولم يدرك نافعا وليس بالمكثر اجازه المهدي بعشرة آلاف دينار قال أبو الوليد كان يصلح للوزارة (وذكره عن معاذ) أي ابن جبل الأنصاري (وأنكره) أي نقله (سُحْنُونٌ عَنْ مُعَاذٍ وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يوسف وهو) أي القول بعدم وجوب الاستتابة (قول أهل الظاهر) وهم داود بن محمد الظاهر واتباعه (قالوا) أي القائلون بعدم وجوب الاستتابة أو علماء المالكية أو العلماء أجمعون (وَتَنْفَعُهُ تَوْبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا نَدْرَأُ القتل) أي لا ندفعه (عنه) نحن معاشر المالكية (لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم) فيما رواه أحمد والبخاري والأربعة عن ابن عباس (من بدّل دينه) أي غيره (فاقتلوه) أي إن لم يتب ولا يصح حمله على إطلاقه لمخالفة الإجماع على أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولم يقتل وأما تخصيص حكم الساب فمذهب حادث من مالك وأصحابه (وحكي عن عطاء أنه إن كان) أي المرتد (ممّن ولد في الإسلام) أي ولد مسلما (لم يستتب) أي لا وجوبا ولا استحبابا وليس في كلامه ما يدل على عدم قبول توبته (ويستتاب الإسلامي) أي المنسوب إلى الإسلام بالدخول عليه ولعل الفرق مبني على زجر الأول وعدم عذره فتأمل (وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ وَالْمُرْتَدَّةَ فِي ذلك) أي في القتل لا في وجوب الاستتابة كما توهم الدلجي (سواء) لعموم الحديث السابق (وروي) كما في مصنف ابن أبي شيبة (عن عليّ رضي الله عنه) موقوفا عليه لكنه في حكم المرفوع (لا تقتل المرتدّة وتسترقّ) كما لو أسرت الكافرة (وقاله عطاء) أي وافقه (وَقَتَادَةُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تُقْتَلُ النّساء في الرّدّة) وأغرب الدلجي بقوله ولعله أراد زمن ردة العرب بعد وفاة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (وبه قال أبو حنيفة) ويؤيده ما ورد من النهي عن قتل النساء ففي الصحيحين عن ابن عمر نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان وأن خصه بعضهم بحال الغزاء واعلم أن المرتدة لا تقتل عندنا ولكنها تحبس ابدا إلى أن تتوب ويجوز استرقاق المرتدة بعد ما لحقت بدار الحرب ولعل قول علي محمول على ذلك (قَالَ مَالِكٌ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالذَّكُرُ وَالْأُنْثَى فِي ذلك) أي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 قتل كل منهم بالردة (سواء) أخذا بظاهر الحديث الذي تقدم والله تعالى اعلم (وأمّا مدّتها) أي مدة الاستتابة وجوبا أو استحبابا (فمذهب الجمهور) من العلماء (وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يحبس فيها) فإن تاب وإلا قتل (وقد اختلف فيه) أي في مذهب الجمهور المروي (عن عمر) أنه يستتاب ثلاثة أيام (وهو) أي ما روي عن عمر (أحد قولي الشافعيّ) قال الدلجي والصحيح من مذهبه أنه يستتاب في الحال فإن تاب وإلا قتل (وقول أحمد وإسحاق واستحسنه) أي ذلك (مالك وقال لا يأتي الاستظهار) أي التثبت والانتظار (إلّا بخير) يرجى (وليس عليه) أي على التأني في الأمور (جماعة الناس) لاستعجالهم فيها (قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ يريد به) يعني مالكا بقوله وليس عليه جماعة الناس (في الاستيناء) أي في الاستمهال (ثلاثا وقال مالك أيضا الّذي آخذ) أي أقول (بِهِ فِي الْمُرْتَدِّ قَوْلُ عُمَرَ يُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أيّام ويعرض عليه) أي الإسلام (كلّ يوم فإن تاب) قبلت توبته (وَإِلَّا قُتِلَ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ في تأخيره) أي المرتد (ثَلَاثًا رِوَايَتَانِ عَنْ مَالِكٍ هَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أو مستحبّ) فظاهر مذهبه كما في شرح المختصر لبهرام الوجوب وروى عنه الاستحباب والله تعالى اعلم بالصواب (واستحسن الاستتابة) أي نفسها (والاستيناء) أي الاستمهال (ثلاثا أصحاب الرّأي) حيث ثبت عن الصحابة ولم يثبت الوجوب في الرواية ولا القتل بعد التوبة (وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ اسْتَتَابَ امرأة) أي مرة أو مرات (فلم تتب فقتلها) ولعله قتلها لكونها رئيسة لقومها أو كانت داعية إلى طريقها من كفر بدعوى النبوة أو غيرها قيل كانت المرأة من فزارة على ما رواه البيهقي وفي رواية أنها أم فرقة وفي فتاوى قاضيخان وإذا دخل أهل الإسلام دار الحرب مغيرين لا ينبغي لهم أن يقتلوا النساء إلا إذا قاتلت المرأة أو كانت ملكة أو كانت ذات رأي في الحرب وإذا قاتلت فأخذها المسلمون لا بأس بقتلها وإن أمكن سبيها، (وقال الشّافعيّ مرّة) أي يستتاب في الحال (وإن لم يتب مكانه قتل واستحسنه المزنيّ) المصري منسوب إلى مزينة قبيلة كان ورعا زاهدا مجاب الدعوة متقللا من الدنيا وكان معظما بين أصحاب الشافعي قال الشافعي في حقه لو ناظر الشيطان لغلبه وصنف المبسوط والمختصر والمنثور والمسائل المعتبرة والترغيب في العلم وكتاب الرقائق والأقارب توفي سنة أربع ومائتين ودفن بالقرافة بالقرب من قبر الشافعي (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أي ولو في يوم واحد (فإن أبى قتل) وأغرب الدلجي فيقوله ولو في ساعة (وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُسْتَتَابُ شَهْرَيْنِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ يُسْتَتَابُ أَبَدًا وَبِهِ أَخَذَ الثّوريّ ما رجيت توبته) وهو قيد لقول النخعي وجملة وبه أخذ الثوري معترضة وأغرب الدلجي في قوله وبه أخذ وزاد ما رجيت توبته ووجه غرابته أنه لم يتصور من الإمام النخعي أن يقول يستتاب أبدا سواء رجيت توبته أو لم ترج، (وحكى ابن القصّار) أي المالكي (عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثِ جُمَعٍ كُلَّ يوم) على الأول مرة (أو جمعة) أي كل جمعة (مرّة) قال الدلجي يحتمل أن يكون تخبيرا من أبي حنيفة أو شكا من ابن القصار أو من المصنف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 قلت والمعتمد في مذهبنا ما ذكره قاضيخان في فتاواه من أن المرتد يعرض عليه الإسلام في الحال فإن اسلم وإلا قتل إلا أن يطلب التأجيل فيؤجل ثلاثة أيام لينظر في أمره ولا يؤجل أكثر من ذلك ويعرض عليه الإسلام في كل يوم من أيام التأجيل فإن اسلم سقط عنه القتل وإن أبي يقتل وجحود الردة يكون عودا إلى الإسلام ثم ردة الرجل تبطل عصمة نفسه حتى لو قتله قاتل بغير أمر القاضي عمدا أو خطأ أو بغير أمر السلطان أو أتلف عضوا من أعضائه لا شيء عليه (وفي كتاب محمد) أي ابن المواز (عن ابن القاسم) أي ابن خالد المصري (يدعى المرتدّ إلى الإسلام ثلاث مرّات) أي في يوم أو أيام كما هو المشهور من مذهب مالك (فَإِنْ أَبَى ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَا) القول باستتابته (هل يهدّد) بقتل وضرب وغيرهما (أو يشدّد عليه أيّام الاستتابة) بجوع أو عطش ونحوهما (ليتوب) أي ولو بكره (أم لا) يهدد ولا يشدد (فَقَالَ مَالِكٌ مَا عَلِمْتُ فِي الِاسْتِتَابَةِ تَجْوِيعًا ولا تعطيشا ويؤتى له) أي يعطى (من الطّعام بما لا يضرّه) رجاء رجوعه (وقال أصبغ يخوّف أيّام الاستتابة بالقتل) والتنكيل الوبيل (وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَفِي كِتَابِ أَبِي الْحَسَنِ) ويقال أبو الحسين (الطّابثي) بطاء مهملة ثم موحدة مكسورة فمثلثة فياء نسبة إلى قرية بالبصرة (يوعظ في تلك الأيّام) أي أيام الاستتابة (ويذكّر بالجنّة) ونعيمها (ويخوّف) أي ينذر (بالنّار) وأليمها (قَالَ أَصْبَغُ وَأَيُّ الْمَوَاضِعِ حُبِسَ فِيهَا مِنَ السّجون مع النّاس) المحبوسين (أو وحده) أي مفردا عنهم (إذا استوثق منه) بصيغة المجهول (سواء) لأن المقصود حفظه كي يرجع إلى الإسلام أو يقتل عبرة للأنام (ويوقف ماله) أي يحفظ (إذا خيف أن يتلفه على المسلمين) فاندفع قول الدلجي لم أدر ما محترزه بالظرف المؤذن بأنه إذا لم يخف تلفه لم يوقف بل هو موقوف بسبب ردته مطلقا فإن لم يتب تبين زوال ملكه عنه وكان فيئا انتهى وسيأتي الكلام عليه وإنما نشأ عدم درايته من حمل الموقوف على حكمه لا على حفظه عن ضياع ملكه (ويطعم منه ويسقى وكذلك يستتاب أبدا كلّما رجع) إلى الإسلام (وارتدّ) بعده من الأيام (وقد استتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نبهان) بنون مفتوحة وسكون موحدة وهو أحد ثلاثة من الصحابة كل منهم كان اسمه نبهان لا يعلم أيهم (الّذي ارتدّ) منهم (أربع مرّات أو خمسا) شك من الراوي وقد رواه البيهقي بسند مرسل وقال استتاب رجلا ارتد أربع مرات اسمه نبهان قال الحلبي في الصحابة نبهان التمار أبو مقبل ونبهان أبو سعد ونبهان الأنصاري انتهى ولم يذكر أبو عمر نبهان في كتابه قيل ولم يذكر ابن الجوزي من اسمه نبهان في الصحابة إلا الأول وبه جزم التلمساني حيث قال ونبهان هو التمار وري أنه أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى البيت فضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له اتق الله فتركها وندم فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فنزل وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية (قال ابن وهب) أي المصري (وعن مالك يستتاب أبدا كلّما رجع) إلى الردة (وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ) المصري الفقيه المالكي (وقال إسحاق) أي ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 راهويه (يقتل في الأربعة) بدون استتابة (وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِنْ لَمْ يَتُبْ فِي الرّابعة) أي من مرات الردة (قُتِلَ دُونَ اسْتِتَابَةٍ وَإِنْ تَابَ ضُرِبَ ضَرْبًا وَجِيعًا وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ السِّجْنِ حَتَّى يَظْهَرَ عليه خشوع التّوبة) أي آثار صحتها وأنوار ندامتها قال الدلجي وهو عجيب لمخالفة قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ انتهى ولا يخفى أن ليس في الآية نص على خلاف ذلك وإنما هي مطلقة قابلة للتقييد إذا وجد دليل مخصص يظهر للمجتهد وكفى بإسحاق إماما مجتهدا وإماما نسب إلى أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى فهو غير مشهور عنهم ففي قاضيخان رجل ارتد مرارا وجدد الإسلام في كل مرة وجدد النكاح فعلى قول أبي حنيفة تحل له امرأته من غير اصابة الزوج الثاني لأن عنده الردة لا تكون طلاقا واباء الزوج عن الإسلام يكون طلاقا وعلى قول أبي يوسف ردته وإباؤه لا يكون طلاقا وعند محمد كلاهما طلاق وردة المرأة واباؤها لا يكون طلاقا وتقع الفرقة عند عامة العلماء بردتها وعند البعض لا تقع وأجمع أصحابنا أن الردة تبطل عصمة النكاح فتقع الفرقة بينهما بنفس الردة وعند الشافعي لا تقع الفرقة إلا بقضاء القاضي (قال ابن المنذر ولا نعلم أحدا) من العلماء (أوجب على المرتدّ في المرّة الأولى) من ردته (أدبا إذا رجع) بنفسه عنها إلى الإسلام (وهو) أي عدم وجوب الأدب على المرتد إذا رجع مبنى (على مذهب مالك والشّافعيّ والكوفيّ) يعني به أبا حنيفة لأنه الفرد الأكمل لا سيما من علماء الكوفة. فصل (هذا حكم من ثبت عليه ذلك) الكفر (بما يجب ثبوته) أي يعتبر وجوده (من إقرار) ممن صدر عنه (أو عدول) أي شهادة عدلين أو أكثر (لم يدفع فيهم) أي لم يطعن في حقهم (وأمّا) وفي نسخة فأما (من لم تتمّ الشّهادة عليه) لنقص كمية أو صفة (بما شهد عليه الواحد) ولو عدلا (أو اللّفيف) أي الطائفة الملتفة أو الجماعة المختلفة (من النّاس) المتهمين في العدالة (أو ثبت قوله) بإقراره أو بشهادة مقبولة (لكن احتمل) قوله تأويلا (ولم يكن صريحا) في كونه كفرا (وكذلك) الحكم أي مطلقا لا حكم من لم تتم الشهادة عليه كما توهم الدلجي لأنه يدفعه قوله (إن تاب على القول) المنقول عن مالك برواية الوليد بن مسلم (بقبول توبته) كما عليه الجمهور (فهذا) أي ما ذكر من الشيخين (يدرأ عنه القتل) يحتمل كونه مبنيا للفاعل أو المفعول أي يدفع عنه (ويتسلّط عليه اجتهاد الإمام) في تعزيره وتشهيره (بقدر شهرة حاله وقوّة الشّهادة عليه) أي على مقاله (وضعفها وكثرة السّماع عنه) لما صدر منه (وصورة حاله من التّهمة في الدّين والنّبز) بفتح النون وسكون الموحدة فزاء أي ومن دعائه وندائه بلقب السوء (بالسّفه) أي خفة العقل (والمجون) بضمتين أي وبعدم المبالاة في أمور الديانات وفي نسخة الفجور فإن المعاصي تزيد الكفر (فمن قوي أمره) أي وضعف قدره (أذاقه) الإمام (من شديد) وروي من شر (النّكال) بفتح النون أي العقوبة والوبال (من التّضييق في السّجن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 والشّدّ) أي التشديد (في القيود) ويروي في القيد (إلى الغاية التي هي منتهى طاقته ممّا لا يمنعه القيام لضرورته) من قضاء حاجته (ولا يقعده) أي لا يمنعه (عن صلاته) من شروطها واركانها في طاعته (وهو) أي إذاقة شديد العقوبة (حُكْمُ كُلِّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ لَكِنْ وقف) بصيغة المجهول أي توقف (عن قتله لمعنى أوجبه وتربّص به) على بناء المفعول أي انتظر (لإشكال وعائق) أي مانع شرعي أو عرفي (اقتضاه أمره وحالات الشّدّة) أي عليه كما في نسخة (في نكاله تختلف) قوة وضعفا (بحسب اختلاف حاله وقد روى الوليد) أي ابن مسلم (عن مالك والأوزاعيّ أنّها) أي مقالته الغير الصريحة (ردّة فإذا تاب نكّل) أي تنكيلا شديدا (ولمالك في العتبيّة) اسم كتاب (وكتاب محمد) أي ابن المواز (مِنْ رِوَايَةِ أَشْهَبَ إِذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ فَلَا عقوبة عليه) وهو الموافق لقول السلف والخلف لقوله تَعَالَى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ (وأفتى أبو عبد الله بن عتّاب) بتشديد الفوقية (فيمن سبّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ عُدِّلَ أَحَدُهُمَا) بضم العين وتشديد الدال أي زكى أحدهما دون الآخر (بالأدب الموجع) متعلق بأفتى (والتّنكيل) الرادع (والسّجن) الهالع (الطّويل) زمانا الضيق مكانا (حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَقَالَ الْقَابِسِيُّ فِي مِثْلِ هذا) الذي ذكر (وَمَنْ كَانَ أَقْصَى أَمْرِهِ الْقَتْلَ فَعَاقَ عَائِقٌ) أي صرفه صارف (أشكله) أي جعله مشكلا (في القتل) أي في امضائه (لم ينبغ أن يطلق من السّجن ولكن يستطال سجنه ولو كان فيه) أي في السجن (من المدّة) بيان مقدم لقوله (ما عسى أن يقيم) أي يطول فيه (وَيُحْمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَيْدِ مَا يُطِيقُ وَقَالَ) أي القابسي (فِي مِثْلِهِ مِمَّنْ أَشْكَلَ أَمْرُهُ يُشَدُّ فِي القيود شدّا ويضيّق عليه في السّجن) أمدا (حتّى ينظر فيما يجب عليه) آخرا؛ (وقال في مسألة أخرى مثلها) لعلها ما سبق في فصل الوجه الخامس من أن القابسي سئل عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ قَبِيحٍ كَأَنَّهُ وَجْهُ نكير إلى آخره فإنه أفتى هنالك بنظير ما أفتى به هنا (ولا تهراق) بضم أوله وسكون ثانيه ويفتح أي ولا تصب (الدّماء إلّا بالأمر الواضح) لحديث لا يحل دم امرئ مسلم إلا لثلاث ردة أو قتل نفس أو زنا محصن (وفي الأدب بالسّوط) أي الضرب له (والسّجن نكال) أي زجر وردع (للسّفهاء ويعاقب عقوبة شديدة) أي مدة مديدة (فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ سِوَى شَاهِدَيْنِ فأثبت) للدفع عن نفسه (من عداوتهما) في أمر الدنيا (أو جرحتهما) بضم الجيم أي طعنهما من جهة الدين (ما أسقطهما) أي دفع شهادتهما عنه وروي ما اسقطها (ولم يسمع ذلك) الأمر (من غيرهما) بأن انحصرت الشهادة فيهما (فأمره أخفّ) ممن قبله (لسقوط الحكم) من قتل ونكال (عنه وكأنّه لم يشهد عليه) بصيغة المجهول (إلّا أن يكون ممّن يليق به ذلك) النكال حيث يظن منه صدور ذلك المقال (ويكون الشاهدان من أهل التّبريز) من البروز وهو الظهور أي بأن أمرهما في عدالتهما (فَأَسْقَطَهُمَا بِعَدَاوَةٍ فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَنْفُذِ الْحُكْمُ) المترتب (عليه بشهادتهما) المجروحة (فلا يدفع الظّنّ صدقهما) فيما برز منهما وظهر عنهما (وللحاكم في تنكيله هنا) موضع (اجتهاد والله وليّ الإرشاد) أي الهداية وروي الرشاد وهو الصواب والسداد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 فصل [هذا حكم المسلم] (هذا) الذي قدمناه (حكم المسلم) الذي ارتد (فأمّا الذّمّيّ إذا صرّح بسبّه) أي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم (أو عرّض) أي لوح (أَوِ اسْتَخَفَّ بِقَدْرِهِ أَوْ وَصَفَهُ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الّذي كفر به) أي الذمي وكان يتعين التصريح بذكره وهو في نسخة بصيغة المجهول مشددا وليس على ما ينبغي ثم الوجه اعتقاد عدم نبوته أو رسالته وغير وجهه كقوله ليس بذي تقوى (فلا خلاف عندنا) أئمة المالكية (فِي قَتْلِهِ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ لِأَنَّا لَمْ نعطه الذّمة) أي بالجزية (أو العهد) بالمصالحة والأمان (على هذا) الذي صدر عنه من السب ونحوه (وهو) أي قتله بشرطه (قول عامّة العلماء) أي جميعهم (إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيَّ وَأَتْبَاعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الكوفة) أي فقهائهم (فإنّهم قالوا) أي جميعهم (لا يقتل) الذمي بذلك وعللوه بقولهم (لأنّ ما هو عليه من الشّرك أعظم) مما صدر من سبه صلى الله تعالى عليه وسلم (ولكن يؤدّب ويعزّر) بقدر مقاله وقوة حاله (واستدلّ بعض شيوخنا) المالكية (على قتله) أي الذمي المذكور (بقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) أي نقضوا ما بايعوا عليه من الإيمان (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) المؤكد بها (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ [التوبة: 12] ) أي عابوه (الآية) أي فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا إيمان لهم بفتح الهمزة جمع يمين اثبتها لهم ثم نفاها عنهم لأنها في الحقيقة كلا إيمان وبه أخذ أبو حنيفة أن يمين الكافر كلا يمين وعن الشافعي هي يمين ومعنى لا إيمان لهم لا يوفونها وفي قراءة ابن عامر بكسر الهمزة وقوله لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ متعلق بقاتلوا قال التلمساني وفي بعض الأصول فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ الآية والتلاوة فقاتلوا أئمة الكفر ولا دليل على القتل بهذا النص لأن المقاتلة غير القتل ولو استدل بقوله قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ الآية لكان أقرب انتهى ولا يخفى أن الآيتين في المصالحة مع الحربي والكلام في الذمي وقد قال تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ فظاهر الآية أن بعد اعطاء الجزية يرتفع عنهم القتل، (ويستدلّ أيضا عليه) أي على قتل الذمي الذام (بقتل النبيّ عليه الصلاة والسلام لابن الأشراف وأشباهه) قال الدلجي كأبي رافع من اليهود وأبي وأمية ابني خلف من قريش انتهى ولا يخفى أن ابن الأشرف واليهودي الآخر لم يكونا من أهل الذمة وأما ابنا خلف فهم من أهل الحرب (وَلِأَنَّا لَمْ نُعَاهِدْهُمْ وَلَمْ نُعْطِهِمُ الذِّمَّةَ عَلَى هَذَا وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ معهم) فينبغي أن يشترك عليهم ذلك حال معاهدتهم (فَإِذَا أَتَوْا مَا لَمْ يُعْطَوْا عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَلَا الذِّمَّةَ فَقَدْ نَقَضُوا ذِمَّتَهُمْ وَصَارُوا كُفَّارًا) أي حربيين وفي نسخة وصاروا أهل حرب وجمع بينهما الدلجي في أصله (يقتلون بكفرهم) وفي نسخة لكفرهم على أن الباء سببية واللام تعليلية (وَأَيْضًا فَإِنَّ ذِمَّتَهُمْ لَا تُسْقِطُ حُدُودَ الْإِسْلَامِ عنهم) وروي عليهم (من القطع في سرقة أموالهم) أي أموال المسلمين (والقتل لمن قتلوه منهم) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 من المؤمنين (وإن كان ذلك) الذي ذكر من السرقة والقتل (حلالا عندهم) وأما تمثيل الدلجي بحد الزنا جلدا أو رجما فليس في محله فإنه لم يختلف أحد منا ومنهم في تحريمه (فكذلك سبّهم للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم يقتلون به) وفيه أنه نوع كفر مندرج في جنس كفرهم لا أنه فرع من جملة الأحكام المختصة بهم أو الشاملة لهم ولغيرهم (ووردت لأصحابنا) المالكية (ظواهر تقتضي الخلاف) في قتل الذمي وعدمه (إذا ذكره) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (الذّمّيّ بالوجه الّذي كفر به) الذمي كتكذيبه النبوة أو الرسالة العامة (ستقف عليها) أي على تلك الظواهر (مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ سُحْنُونٍ بَعْدُ) أي بعد ذلك (وحكى أبو المصعب) بصيغة المعلوم (الخلاف فيها) أي في الظواهر قاله الدلجي والصواب في المسألة (عن أصحابه المدنيّين) قال الحلبي هو أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف أبو مصعب الزهري المدني الفقيه قاضي المدينة يروي عن مالك (واختلفوا) أي المالكية (إذا سبّه) أي الذمي (ثُمَّ أَسْلَمَ فَقِيلَ؛ يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ قَتْلَهُ لِأَنَّ الإسلام يجبّ ما قبله) كما في حديث صحيح أي يقطع ويمحو ما كان قبله من كفر ومعصية وفي رواية الإسلام يهدم ما قبله قالوا معناه يهدم الإسلام ما كان قبله على الإطلاق مظلمة كانت أو غيرها كذا ذكره الانطاكي (بخلاف المسلم إذا سبّه ثمّ تاب) فإنا نقتله حدا لا كفرا (لأنّا نعلم باطنة الكافر) أي معتقده قال الحجازي وروي الكفر أقول ولا وجه له (في بعضه له وتنقّصه بقلبه لكنّا منعناه) أي الذمي (من إظهاره فلم يزدنا ما أظهره) من السب وغيره (إِلَّا مُخَالَفَةً لِلْأَمْرِ وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ فَإِذَا رَجَعَ عَنْ دِينِهِ الْأَوَّلِ إِلَى الْإِسْلَامِ سَقَطَ مَا قبله) مما كان يلام؛ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: 38] وَالْمُسْلِمُ بِخِلَافِهِ إِذْ كَانَ ظَنُّنَا بِبَاطِنِهِ حُكْمَ ظاهره وخلاف ما بدا) بالألف أي ظهر (عنه الآن فلم نقبل بعد) أي بعد ذلك (رجوعه) بالتوبة وفيه أن كفره ساعة كيف يكون أشد من كفر سنين مع أنه لا عبرة بظننا إذ يحتمل أنه كان كافرا ويتستر وما صح له الإيمان المعتبر ولهذا قال بعض العارفين الإيمان إذا دخل القلب أمن السلب وقال بعضهم الذي رجع ما رجع إلا من الطريق ويشير إليه قوله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها أي لا انقطاع (ولا استأمنا) أي لم يظهر لنا الأمن (إلى باطنه) وفي بعض النسخ ولا استنمنا أي ما اطمأننا إلى باطنه يقال استنام إليه أي سكن واستأنس فاندفع قول الأنطاكي إنه لا معنى له ولعله تصحيف وقال الدلجي أي ولا ارتفعنا إلى ذروة سنام باطنه ولا اطلعنا عليه قلت وكذلك الحال بالنسبة إلى الكافر الأصلي إذا اسلم إذ يحتمل أن يكون منافقا أو لم يوجد فيه شرط من شروط صحة الإيمان والله المستعان (إذ قد بدت سرائره) أي ظهرت ضمائره بخلاف ظننا به (ما ثبت عليه) أي على المسلم (من الأحكام باقية عليه لم يسقطها شيء) قلت فينبغي أن يكون أقرب إلى القبول من الكافر الأصلي (وَقِيلَ لَا يُسْقِطُ إِسْلَامُ الذِّمِّيِّ السَّابِّ قَتْلَهُ لأنّه حقّ للنبيّ صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 تعالى عليه وسلم وجب عليه) أي على الذمي (لانتهاكه حرمته) أي تناولها بما لا يحل له (وقصده إلحاق النّقيصة) وفي نسخة الحاقه النقيصة أي المنقصة (والمعرّة به) أي المشقة بالمذمة (فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي) أي بالوجه الذي (يسقطه) وفيه أن كل الصيد في جوف الفرا وجنس الكفر يشمل أنواعه كما ترى ولا يظهر قياسه بقوله (كما وجب عليه) أي الذمي (مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ إِسْلَامِهِ مِنْ قَتْلٍ وَقَذْفٍ وَإِذَا كُنَّا لَا نَقْبَلُ تَوْبَةَ المسلم) أي الساب لدفع قتله (فإن لا نقبل توبة الكافر) أي الذمي (أولى) بل الأولى كما تقبل توبة الحربي أن تقبل توبة الذمي والمسلم لأنهما أقرب إلى الدين وقد قبل النبي عليه الصلاة والسلام توبة المرتدين واليهود بعد شتمهم للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والله سبحانه وتعالى أعلم. (قال مالك في كتاب ابن حبيب) وهو صاحب الواضحة (والمبسوط) أي وفيه (وابن القاسم) أي وفي كتابه (وابن الماجشون) بكسر الجيم فى صورة الجمع وآل لا تفارقه وقال النووي الماجشون لفظ أعجمي وهو من أصحاب مالك (وابن عبد الحكم) قال التلمساني هو إذا أطلق عند الفقهاء فهو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن عبد الله بن عثمان (وَأَصْبَغَ فِيمَنْ شَتَمَ نَبِيَّنَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قُتِلَ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي العتبيّة) بضم أوله (وعند محمد) أي ابن المواز (وَابْنِ سُحْنُونٍ وَقَالَ سُحْنُونٌ وَأَصْبَغُ لَا يُقَالُ له أسلم) أقول وما المانع من ذلك (ولا تسلم) وهذا أغرب من الأول إذ كيف يجوز لمسلم أن يقول لكافر لا تسلم وكأن مراده أنه لا يعتبر قول أحد له اسلم أو لا تسلم والمعنى أنه لا يجب أن يعرض عليه الإسلام (ولكن إن أسلم وحده) أي باختياره (فذلك له توبة وفي كتاب محمد) أي ابن المواز (أَخْبَرَنَا أَصْحَابُ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ سَبَّ رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ مسلم أو كافر) أي ذمي إذ يبعد إطلاقه (قتل ولم يستتب) أي لم تقبل توبته (وروي) بصيغة المجهول (لنا عن مالك) كما في كتاب ابن حبيب وغيره زيادة بعد قوله قاقتلوه (إلّا أن يسلم الكافر) ذميا أو غيره (وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنّ راهبا تناول النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فَهَلَّا قَتَلْتُمُوهُ) ليس فيه أنه اسلم وأمر بقتله (وروى عيسى) أي ابن معين (عن ابن القاسم) الفقيه المصري (فِي ذَمِّيٍّ قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُرْسَلْ إلينا) معشر بني إسرائيل (إنّما أرسل إليكم) أيها العرب (وإنّما نبيّنا موسى أو عيسى) عن وجه التنويع (ونحو هذا لا شيء عليهم) ويروى عليه أي من القتل أو الضرب (لأنّ الله تعالى أقرّهم على مثله) إذا قبلوا الجزية (وأمّا إن سبّه) ذمي (فقال ليس بنبيّ) أي مطلقا (أو لم يرسل) إلى أحد (أَوْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قُرْآنٌ وَإِنَّمَا هُوَ) أي القرآن (شيء تقوّله) افتراه (أو نحو هذا فيقتل) أي إن لم يسلم (قال ابن القاسم وإذا قال النّصرانيّ) وكذا اليهودي (ديننا خير من دينكم) هذا ليس عليه شيء (إنّما دِينُكُمْ دِينُ الْحَمِيرِ وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْقَبِيحِ) أي قبيح الكلام مما هو طعن في دين الإسلام (أَوْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله فقال كذلك يعطيكم الله) يعني الرسالة أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 يجعلكم مثله رسلا (ففي هذا الأدب الموجع) الرادع (والسّجن الطّويل) الوازع إذا ليس فيه تلويح إلى نفي رسالته ولا تصريح (قال) أي ابن القاسم (وأمّا إن) وفي نسخة من (شتم النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم شتما يعرف) تصريحا لا يكون تلويحا (فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ قَالَهُ مَالِكٌ غير مرّة) أي كثيرا (ولم يقل يستتاب) أي يعرض عليه الإسلام (قال ابن القاسم ومحمل قوله) أي قول مالك إلا أن يسلم (عندي إن أسلم طائعا) أي من غير أن يقال له اسلم وإلا تقتل، (وَقَالَ ابْنُ سُحْنُونٍ فِي سُؤَالَاتِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَالِمٍ فِي الْيَهُودِيِّ يَقُولُ لِلْمُؤَذِّنِ إِذَا تَشَهَّدَ) أي بالرسالة (كَذَبْتَ يُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ مَعَ السِّجْنِ الطَّوِيلِ) وفيه أنه مخالف لما سبق من أن الذمي لو نفى النبوة أو الرسالة يقتل اللهم إلا أن يقال هذا تلويح لا تصريح إذ الخطاب مع المؤذن فيحتمل أن يراد تكذيبه وإنما قيدنا الشهادة بالرسالة لأنه لو كذب التوحيد يصير حربيا فيقتل إلا أن يسلم (وفي النّوادر) لابن أبي زيد (من رواية سحنون عنه) أي عن مالك (مَنْ شَتَمَ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِغَيْرِ الوجه الّذي به كفروا) أي به فاندفع قول الحلبي لو قال كفر لكان أولى ثم لا يخفى أن من مفرد مبنى وجمع معنى فليس أحد من الاستعمالين أولى قال الله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (ضربت عنقه) بصيغة المجهول (إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ فإن قيل لم قتلته) أي أمرت بقتل الذمي (في سبّ النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ومن دينه سبّه وتكذيبه) جملة حالية (قيل) أي في جوابه (لأنّا لم نعطهم العهد) أي الذمة والأمان (على ذلك) أي على إظهاره (ولا على قتلنا وأخذ أموالنا) بل على الكف عن ذلك وبذل الجزية مع المذلة هنالك (فإذا قتل) ذمي (واحدا) أي منا كما في نسخة (قتلناه) أو أخذ مالا منا أخذناه منه (وإن كان من دينه استحلاله) أي عده حلالا (فكذلك إظهاره لسبّ نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم) موجب لقتله وإن كان معتقدا لحله (قَالَ سُحْنُونٌ كَمَا لَوْ بَذَلَ لَنَا أَهْلُ الحرب) أي ولو من أهل الكتاب (الْجِزْيَةَ عَلَى إِقْرَارِهِمْ عَلَى سَبِّهِ لَمْ يَجُزْ لنا ذلك في قول قائل) من العلماء (كَذَلِكَ يَنْتَقِضُ عَهْدُ مَنْ سَبَّ مِنْهُمْ وَيَحِلُّ لنا دمه) الظاهر أنه إذا أخذ عليه العهد بعدم سبه حتى يصح قوله ينتقض (وكما لَمْ يُحْصِنِ الْإِسْلَامُ مَنْ سَبَّهُ مِنَ الْقَتْلِ كذلك لا تحصّنه الذّمّة) وهذا قياس مع الفارق ولذا لم يقل به جمهور الأمة وأغرب الدلجي بقوله بل أولى هذا (قال القاضي أبو الفضل) أي المنصف (ما ذكره ابن سحنون عن نفسه) أي أولا (وعن أبيه) ثانيا (مخالف لقول ابن القاسم فيما خفّف) وفي نسخة يخفف (عقوبتهم فيه ممّا به كفروا فتأمّله) ليظهر لك ترجيح أحد الوجهين (ويدلّ على أنه) أي ما قاله ابن سحنون عنه وعن أبيه (خلاف ما روي عن المدنيّين) من أصحاب مالك (في ذلك فحكى) قال التلمساني صوابه كما في نسخة ما حكى (أبو المصعب الزّهريّ قال أتيت) بضم الهمزة وتاء المتكلم (بِنَصْرَانِيٍّ قَالَ وَالَّذِي اصْطَفَى عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ فاختلف) أي الرأي (عليّ) أي عندي (فيه) أي في أمره (فضربته) أي ضربا وجيعا (حتّى قتلته أو عاش) بعد ضربه (يوما وليلة وأمرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 من جر برجله) بعد موته (فطرح على مزبلة) بفتح الميم والموحدة وقد يضم الثاني ويكسر وهو المحل الذي يكون فيه الزبل أي السرجين يلقي فيه وأماما في بعض النسخ من كسر الميم وفتح الباء فغير معروف إلا في الآلة (فأكلته الكلاب) وفي قتله محل بحث إذ قوله مشتمل على إقراره باصطفائهما بالنبوة والرسالة غايته أنه فضل نبيه على نبينا وهو مقتضى دينه بل أنه ليس مما كفر به إذ أصل التفضيل قطعي لقوله تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وأما تفضيل خصوص بعض الانبياء فظني وعلى التنزل فليس مما علم من الدين بالضرورة لا سيما وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تخيروني على موسى مع أن سبب وروده أن يهوديا قال والذي اصطفى موسى على محمد فلطمه مسلم (وَسُئِلَ أَبُو الْمُصْعَبِ عَنْ نَصْرَانِيٍّ قَالَ عِيسَى خلق محمدا فقال يقتل) وهذا ظاهر لأنه كفر صريح بل يخرج عن كونه كتابيا ويصير حربيا بل ولا يقول أحد مثل هذا القول في جميع الأديان قال تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بإجماع الأولين والآخرين وأما قوله تعالى وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فخلق مجازي متوقف على وجود تراب وماء وتصوير من مخلوق آخر وأن الله صانع كل شيء وصنعته كما في حديث (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سَأَلْنَا مَالِكًا عَنْ نَصْرَانِيٍّ بمصر) أي القاهرة (شهد عليه) بصيغة المجهول (أنه قال مسكين) بالرفع منونا وفي نسخة بالسكون قال التلمساني وقد يفتح ميمه (محمد يخبركم أنه في الجنّة) أي الآن وفي نسخة فهو الآن في الجنة قاله استهزاء (فما لَهُ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسَهُ إِذْ كَانَتِ الْكِلَابُ تأكل ساقيه) وهذا افتراء عليه (لو قتلوه) أي الناس (اسْتَرَاحَ مِنْهُ النَّاسُ قَالَ مَالِكٌ أَرَى أَنْ تضرب عنقه) ويغري على جيفته الكلاب (قال) أي مالك (ولقد كدت) أي قاربت (أن لا أتكلّم فيها) أي في مسألة ابن القاسم عن هذا الكلب النصراني يعني بشيء كما في نسخة (ثمّ رأيت أنّه لا يسعني) أي لا يجوز لي (الصّمت) أي السكوت وفي نسخة لا يسيغني الصمت أي لا ينفعني (قال ابن كنانة) بكسر الكاف (في المبسوطة) وفي نسخة فِي الْمَبْسُوطَةِ (مَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرَى لِلْإِمَامِ أن يحرقه) من الإحراق أو التحريق (بالنّار) أي ابتداء (وإن شاء) أي الإمام (قتله ثمّ حرق جثّته) بضم الجيم وتشديد المثلثة أي جيفته (وَإِنْ شَاءَ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ حَيًّا إِذَا تَهَافَتُوا في سبّه) أي تساقطوا وتكرر منهم وتبالغوا ولعل التحريق حيا من باب السياسة وإلا فقد ورد لا يعذب بالنار إلا الله مثل تهافت الفراش في النار وفي رواية لا تعذبوه بعذاب الله تعالى رواه أبو داود والترمذي والحاكم في مستدركه وصححه عن ابن عباس مرفوعا قال ابن كنانة (ولقد كتب) بصيغة المجهول (إلى مالك من مصر وذكر) أي ابن كنانة (مسألة ابن القاسم المتقدّمة) في النصراني بمصر (قال) ابن القاسم (فأمرني مالك) أن أكتب الجواب (فكتبت بأن يقتل وتضرب عنقه) تفسير لما قبله فيفيد أنه لا يصلب حيا ولا يقطع اربا اربا وغير ذلك من أنواع القتل لقوله عليه الصلاة والسلام إذا قتلتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 فأحسنوا القتلة بالكسر أي النوع منه (فكتبت) أي فرغت من كتابته (ثمّ قلت) أي لمالك (يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَكْتُبُ ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ فَقَالَ إِنَّهُ لَحَقِيقٌ بِذَلِكَ وَمَا أَوَّلَاهُ به) أي ما أحقه بأن يحرق بعد ضرب عنقه (فكتبته بيدي) احتراس بديعي يدفع به ما يتوهم من المجاز كقولهم رأيت بعيني وسمعت بأذني ونحو ذلك ومنه قوله تعالى وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ (بين يديه) أي قدام مالك وقد رأه (فما أنكره ولا عابه) وفيه إيماء إلى أن التحرير في باب الفتوى أقوى من التقرير (ونفذت الصّحيفة) بالنون والفاء والذال المعجمة المفتوحات أي ذهبت وفي نسخة بضم النون وتشديد الفاء المكسورة وفي أخرى بصيغة الفاعل أي وأرسلتها الى مصر (بذلك) أي بما أمر به مالك (فقتل) النصراني (وحرق) أي بعد قتله؛ (وأفتى عبد الله بن يحيى) الليثي صاحب رواية الموطأ عن أبيه عن مالك (وابن لبابة) بضم اللام وبموحدتين وهو محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة القرطبي (وجماعة سلف أصحابنا) بالإضافتين وفي نسخة فِي جَمَاعَةِ سَلَفِ أَصْحَابِنَا (الْأَنْدَلُسِيِّينَ بِقَتْلِ نَصْرَانِيَّةٍ استهلّت) أي رفعت صوتها يعني أظهرت (بنفي الرّبوبيّة ونبوّة عيسى) أي لله كما في نسخة أي وأعلنت بكونه اينا له وبينهما تناقض كما لا يخفى وفي نسخة يتقديم النون على الباء والظاهر أنه تصحيف (وتكذيب محمّد في النّبوّة) أي في أصلها لا في عموم الرسالة لأنه مقتضى مذهبهم وكذا القول بالأبنية ما أخبر الله عنهم بقوله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وإنما أمر بقتلها لإنكار الربوبية فإنها به صارت حربية وخرجت عن كونها ذمية كتابية إذ ليس هذا من مقتضى دينهم بل ولا دين غيرهم لقوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (وبقبول إسلامها ودرء القتل عنها) وهذا مخالف لما سبق من أن الذمي إذا طعن في نبوة نبينا بقتل ولم يقبل إسلامه (به) وفي نسخة وبه أي وبهذا الإفتاء (قال غير واحد من المتأخّرين) أي من المالكية (منهم القابسيّ وابن الكاتب) وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن علي بن محمد؛ (وقال أبو القاسم بن الجلّاب) بفتح الجيم وتشديد اللام بصري مات سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة (فِي كِتَابِهِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ مسلم أو كافر) أي ذمي (قتل ولا يستتاب) أي لا تقبل توبته وهذا مخالف للجمهور وأغرب الدلجي حيث قال تمسكا بالآية والحديث والحال أنه لا دلالة آية ولا إشارة رواية على ذلك بل تقبل توبة المرتد والكافر بشروط هنالك. (وحكى القاضي أبو محمّد) عبد الوهاب المالكي (في الذّميّ يسبّ ثمّ يسلم روايتين) عن مالك (في درء القتل عنه) أي وعدمه (بإسلامه، وقال ابن سحنون وحدّ القذف) والمشهور أنه مختص برمي الزنا (وشبهه) وهو السب ونحوه (مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يُسْقِطُهُ عَنِ الذِّمِّيِّ إسلامه) لابتنائها على المشاحة (وإنّما يسقط عنه بإسلامه حدود الله) لأنها مبنية على المسامحة (وأمّا حَدُّ الْقَذْفِ فَحَقٌّ لِلْعِبَادِ كَانَ ذَلِكَ لِنَبِيٍّ أو غيره) من العباد المحترمين (فأوجب) أي الله ورسوله قال الدلجي وفيه بحث سيجيء (عَلَى الذِّمِّيِّ إِذَا قَذَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم ثمّ أسلم حدّ القذف) وفيه أنه لم يعرف من كتاب ولا سنة حد القذف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 بالقتل على كافر اسلم (وَلَكِنِ انْظُرْ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ هَلْ حَدُّ القذف في حقّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقَتْلُ لِزِيَادَةِ حُرْمَةِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) بالعصمة ونحوها (عَلَى غَيْرِهِ أَمْ هَلْ يَسْقُطُ الْقَتْلُ بِإِسْلَامِهِ ويحدّ ثمانين فتأمّله) إلى حين يتبين لك علم اليقين في مسألة الدين قال التلمساني الظاهر القتل لأنه آذاه ومن آذاه يقتل قلت إسلامه يأباه وكم من مؤذ له عليه الصلاة والسلام اسلم وقبل منه الإسلام ولم يقتل لما صدر له قبل ذلك من الكلام. فصل (فِي مِيرَاثِ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِّ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم وغسله والصلاة عليه) اعلم أن المرتد عندنا لا يرث من مسلم ولا من كافر يوافقه في الملة ولا من مرتد آخر ويرث المسلم من المرتد ما اكتسبه في حالة الإسلام وعند الشافعي يوضع ذلك في بيت مال المسلمين وأما ما اكتسبه في حال الردة فعند أبي حنيفة هو بمنزلة الفيء ويوضع ذلك في بيت المال وقال صاحباه يكون ذلك ميراثا لورثته المسلمين (اختلف العلماء) أي المالكية (فِي مِيرَاثِ مَنْ قُتِلَ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فذهب سحنون إلى أنّه) أي ميراثه (لجماعة المسلمين) كالفيء فيوضع في بيت المال (من قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهة (أنّ شتم النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كفر يشبه كفر الزّنديق) والظاهر أن بينهما التفرقة، (وَقَالَ أَصْبَغُ مِيرَاثُهُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ كان مستسرا) وفي نسخة مستسرا أي مسرا يعني مخفيا (بذلك) السب (وإن كان مظهرا له مستهلّا) أي معلنا (به) أي بشتمه (فميراثه للمسلمين) أي فيئنا (ويقتل على كلّ حال) سواء كان مسرا أو مجاهرا (ولا يستتاب) أي لا تقبل تبوته، (قال أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: إِنْ قُتِلَ وَهُوَ مُنْكِرٌ للشّهادة عليه) بأنه شتمه (فالحكم في ميراثه على ما أظهر من إقراره يعني) أي القابسي أي ميراثه (لورثته والقتل حدّ ثبت عليه) لا يدرأ عنه بتوبته (ليس) أي القتل (من الميراث في شيء وكذلك) أي مثل ما قاله القابسي (لَوْ أَقَرَّ بِالسَّبِّ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ لَقُتِلَ إِذْ هو) أي القتل (حدّه وحكمه) أي هذا المقتول بسبه (في ميراثه وسائر أحكامه حكم الإسلام) من صلاة خلفه حيا وعليه ميتا وغسله وتكفينه ودفنه في قبورنا وكذا ما وقع له معاملة ومناكحة وانفاقا (ولو أقرّ بالسّبّ وتمادى) أي استمر مدة أصر (عَلَيْهِ وَأَبَى التَّوْبَةَ مِنْهُ فَقُتِلَ عَلَى ذَلِكَ كان كافرا) بالإجماع (وميراثه للمسلمين) وفيه ما قد قدمناه من النزاع (وَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُكَفَّنُ وتستر عورته ويوارى) جيفته (كما يفعل بالكفّار) من دفنهم في حفرة (وقول الشّيخ أبي الحسن) القابسي (في المجاهر المتمادي بيّن) أي ظاهر (لَا يُمْكِنُ الْخِلَافُ فِيهِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ غير تائب) مما وقع فيه (ولا مقلع) عن تماديه (وهو) أي قول القابسي (مثل قول أصبغ وكذلك) أي مثل قول أصبغ (فِي كِتَابِ ابْنِ سُحْنُونٍ فِي الزِّنْدِيقِ يَتَمَادَى على قوله) من غير رجوعه وفيه أن الزنديق إذا تمادى على كفره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 خرج عن كونه زنديقا لأنه خلاف مشربه، (وَمِثْلُهُ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَلِجَمَاعَةٍ مِنْ أصحاب مالك في كتاب ابن حبيب) واسمه عبد الملك (فِيمَنْ أَعْلَنَ كُفْرَهُ مِثْلُهُ؛ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وحكمه) أي حكم الساب (حكم المرتدّ) أي إذا لم يسلما (لا ترثه مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي ارتدّ إليه ولا يجوز وصاياه ولا عتقه) حينئذ لخروج ماله بردته عن ملكه موقوفا؛ (وقاله أصبغ) أي ما قاله ابن القاسم (قُتِلَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ مَاتَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَإِنَّمَا يُخْتَلَفُ في ميراث الزّنديق الّذي يستهلّ بالتّوبة) أي يظهرها مع أنه يضمر عقائد باطلة (فلا تقبل منه) توبته ظاهرا وأن نفعته عند الله تعالى لو كان صادقا وهذا موافق لمذهبنا ونقل الدلجي عن الشافعي أنها تقبل وتدفع عنه لحديث هلا شققت عن قبله انتهى وفيه أن الحديث لم يرد في حق الزنديق والله ولي التوفيق (وأمّا الْمُتَمَادِي فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُورَثُ؛ وَقَالَ أبو محمد) أي ابن أبي زيد (فيمن سبّ الله تعالى) أي مثلا (ثمّ مات ولم تعدّل) بتشديد الدال المفتوحة أي لم تقم (عليه بيّنة أو لم تقبل) لعدم عدالة أو وجود غداوة وضبطه الحجازي بالفوقية بعد القاف أي أو عدلت فمات ولم يحكم بقتله (إنه يصلّى عليه) يعني احتياطا، (وَرَوَى أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابن حبيب فيمن كذّب برسول الله) بتشديد الذال أي كذب برسالته (صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بعد الإيمان كما يدل عليه السياق من السباق واللحاق (أو أعلن دِينًا مِمَّا يُفَارِقُ بِهِ الْإِسْلَامَ أَنَّ مِيرَاثَهُ للمسلمين) أي فيئا، (وَقَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ إِنَّ مِيرَاثَ الْمُرْتَدِّ لِلْمُسْلِمِينَ ولا ترثه ورثته ربيعة) فقيه المدينة المشهور بربيعة الرأي روى عن السائب بن زيد وأنس وابن المسيب وجماعة وعنه مالك والليث وطائفة وثقه أحمد وغيره قال مالك رحمه الله تعالى ذهبت حلاوة الفقه مذ مات ربيعة كان له حلقة في مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وابنه محمد يجلسان في حلقته استقدمه أبو العباس السفاح إلى الأنبار لتولية القضاء فلم يفعل توفي سنة ست وثلاثين ومائة (والشافعيّ وأبو ثور) البغدادي أحد المجتهدين روى عن ابن عيينة وغيره وعنه أبو داود وابن ماجه (وابن أبي ليلى) وهو القاضي الأنصاري أحد الأعلام روى عن الشعبي وعنه شعبة قال أحمد سيىء الحفظ وقال أبو حاتم محل الصدق (واختلف) أي القول (فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ المسيّب والحسن) أي البصري وكلاهما من أفاضل التابعين (والشعبي وعمر بن عبد العزيز والحكم) بفتحتين وهو ابن عتيبة بضم عين مهملة وبمثناة فوق مفتوحة فياء تصغير فموحدة مفتوحة فقيه الكوفة أخذ عنه شعبة وغيره كان عابدا قانتا لله قال الحلبي ويتفق مع هذا في اسمه واسم أبيه الحكم بن عتيبة بن نهاس ويفترقان في الجد كان قاضيا بالكوفة وليس من رواة الحديث قال وقد جعل البخاري هذا والإمام المتقدم ذكره واحدا فعد هذا من أوهامه (والأوزاعيّ واللّيث) أي ابن سعد (وإسحاق) أي ابن راهويه (وأبو حنيفة يرثه ورثته من المسلمين) أي على تفصيل تقدم عنه (وَقِيلَ ذَلِكَ فِيمَا كَسَبَهُ قَبْلَ ارْتِدَادِهِ وَمَا كسبه في الارتداد) أي في أيامه (فللمسلمين) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 على ما قدمناه (قال القاضي وتفصيل أبي الحسن) القابسي (في باقي جوابه حسن بين) أي ظاهر (وَهُوَ عَلَى رَأْيِ أَصْبَغَ وَخِلَافُ قَوْلِ سُحْنُونٍ واختلافهما) أي أصبغ وسحنون (عَلَى قَوْلَيْ مَالِكٍ فِي مِيرَاثِ الزِّنْدِيقِ فَمَرَّةً ورثّه) بتشديد الراء أي جعل وارثه (ورثته من المسلمين قامت) أي سواء ثبتت (عليه بذلك) أي بكونه زنديقا (بيّنة) أي شهود عدل (فَأَنْكَرَهَا أَوِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ، وَقَالَهُ) أي به (أَصْبَغُ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أصحابه) أي أصحاب مالك (لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ بِإِنْكَارِهِ أَوْ تَوْبَتِهِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم) حيث كانوا يظهرون الإسلام ويضمرون الكفر وكان يرثهم ورثتهم من المسلمين كعبد الله بن أبي ابن سلول وغيره (وروي ابن نافع) الصائغ المدني قال البخاري في حفظه سيئ وقال ابن معين ثقة وكان يلازم مالكا لزوما شديدا وكان لا يقدم عليه أحدا قال ابن عدي روي عن مالك غرائب وهو مستقيم الحديث (عنه) أي عن مالك (في العتبيّة وكتاب محمد) أي ابن المواز (أنّ ميراثه لجماعة المسلمين) أي فيئا (لأنّ ماله تبع لدمه) وبه يغاير كونه كالمنافقين لأنه ما قتل أحد منهم لمجرد نفاقه لا بإقراره ولا بإثبات بينة عليه، (وقال به أيضا جماعة من أصحابه) أي أصحاب مالك، (وقاله أشهب والمغيرة) بضم الميم ويكسر للاتباع (وعبد الملك) أي ابن الماجشون أو ابن حبيب (ومحمد) أي ابن المواز؛ (وَسُحْنُونٌ وَذَهَبَ ابْنُ قَاسِمٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ إِلَى أنه) أي الزنديق لا المرتد ما قاله الدلجي (إِنِ اعْتَرَفَ بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ وَتَابَ فقتل فلا يورث) قال الدلجي وهذا عجيب كيف لا يورث وقد تاب قلت لأن توبة الزنديق لا تقبل على الوجه الصواب (وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ حَتَّى قُتِلَ أَوْ مَاتَ ورّث) لأن الأصل بقاؤه على الإيمان؛ (قال) أي ابن القاسم (وكذلك) الحكم (كلّ من أسرّ كفرا) ولم يظهره حتى قتل أو مات (فإنّهم يتوارثون بوراثة الإسلام) كما كان المنافقون في زمنه عليه الضلاة والسلام (وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْكَاتِبِ عَنِ النَّصْرَانِيِّ يسبّ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقْتَلُ هَلْ يَرِثُهُ أَهْلُ دِينِهِ أم المسلمون فأجاب أنه) أي ماله (للمسلمين) فيئا (ليس) أي ماله لهم (عَلَى جِهَةِ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ لَا تَوَارُثَ بَيْنَ أهل ملّتين) كما ورد به الحديث (ولكن) ماله لهم (لأنه من فيئهم لنقضه العهد هذا) أي الذي ذكر (معنى قوله) أي ابن الكاتب (واختصاره) بالرفع أي واختصار قوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 الْبَابُ الثَّالِثُ (فِي حُكْمِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تعالى وملائكته وأنبياءه وكتبه وآل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وأزواجه وصحبه لا خلاف أنّ سابّ الله تعالى) بنسبة الكذب أو العجز إليه ونحو ذلك (من المسلمين كافر) قلت ومن الذميين أيضا كافر حربي (حلال الدّم) بل واجب السفك (واختلف في استتابته) أي قبول توبته (فقال ابن القاسم في المبسوط) وفي نسخة المبسوطة (وفي كتاب ابن سحنون ومحمد) أي ابن المواز (وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ إِلَّا أَنْ يكون) أي هو (افترى) وفي نسخة إلا أن يكون أي سبه افتراء (على الله بارتداده) أي مصحوبا به (إلى دين) غير دين الإسلام (دان به) أي اتخذه دينا وفيه أنه لا يتصور دين يجوز سبه سبحانه وتعالى فيه (وأظهره) أي دينه (فيستتاب وإن لم يظهره لم يستتب) أي وقتل لأنه لو استتيب لأظهر التوبة وأخفى الكفر كالزنديق، (وقال في المبسوطة مطرّف) أي ابن عبد الله وهو ابن أخت مالك (وعبد الملك) أي ابن حبيب أو الماجشون (مثله) ما مر من التفصيل وفي نسخة قال مطرف وعبد الملك في المبسوطة مثله وهو أولى كما لا يخفى؛ (وقال المخزوميّ ومحمد بن مسلمة وابن أبي حازم) مات يوم الجمعة وهو ساجد في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام سنة أربع وثمانين ومائة (لا يقتل المسلم بالسّبّ) أي مطلقا أظهر أو لم يظهر (حتّى يستتاب) أي على طريق الوجوب أو الاستحباب كما عليه الجمهور في هذا الباب (وَكَذَلِكَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ مِنْهُمْ) توبتهم (وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُتِلُوا وَلَا بُدَّ مِنَ الاستتابة) فيه إيماء إلى وجوبها (وذلك كلّه كالرّدّة وهو) أي هذا التفصيل هو (الَّذِي حَكَاهُ الْقَاضِي ابْنُ نَصْرٍ عَنِ الْمَذْهَبِ) أي مذهب مالك (وَأَفْتَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِيمَا حكي عنه) بصيغة المجهول (في رجل لعن رجلا ولعن الله عز وجل فقال) أي اللاعن (إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَلْعَنَ الشَّيْطَانَ فَزَلَّ لِسَانِي) أي زلق (فقال) أي ابن أبي زيد (يقتل بظاهر كفره ولا يقبل عذره) لاحتمال كذبه مع ظهور كفره (وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَمَعْذُورٌ) استصحابا لإيمانه مع جزمه به وأقول الصواب إنه إن استغفر وتاب لا يقتل لقوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان (واختلف فقهاء قرطبة) بضم القاف والطاء بينهما راء ساكنة فموحدة بلد بالمغرب (فِي مَسْأَلَةِ هَارُونَ بْنِ حَبِيبٍ أَخِي عَبْدِ الملك الفقيه وكان) أي هارون (ضيّق الصّدر) أي سيئ الخلق (كثير التّبرّم) أي الضجر وقلة الصبر (وكان قد شهد عليه بشهادات) متعددة في حقه (منها) ولعلها اعظمها (أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 قال عند استلاله) أي قيامه (من مرض) عرض له (لَقِيتُ فِي مَرَضِي هَذَا مَا لَوْ قَتَلْتُ أبا بكر وعمر لم أستوجب هذا) أي المرض الشديد (كلّه فأفتى إبراهيم بن حسين) وفي نسخة حسن (بن خالد) مات سنة سبع ومائتين في رمضان (بقتله لأنه) وفي نسخة وأن (مضمّن قوله) بتشديد الميم الثانية المفتوحة أي مضمونه (تجوير لله تعالى) أي نسبته إلى الجور وهو ضد العدل (وتظلّم) أي وإظهار ظلم (منه) سبحانه وتعالى (والتّعريض فيه) أي في وصفه تعالى (كَالتَّصْرِيحِ وَأَفْتَى أَخُوهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ وإبراهيم بن حسين) وفي نسخة حسين (ابن عاصم) مات سنة ثمان وخمسين ومائتين (ومنصور) وفي نسخة سعيد (بن سليمان) القاضي (بطرح القتل) أي بتركه ووضعه (عنه) بمعنى أنه لا يتحتم قتله (إلّا أنّ القاضي) وهو سعيد بن سليمان (رأى عليه التّثقيل) أي التضييق والتنكيل (في الحبس) كمية وكيفية (والشّدّة في الأدب) بكثرة الضرب (لاحتمال كلامه الكفر) الموجب لقتله (وصرفه) أي واحتمال صرفه (إلى التّشكّي) وهو إظهار الشكاية من الخالق إلى المخلوق وهو احتمال بعيد كما لا يخفى ولعل المراد به المبالغة في بيان شدة مرضه وله تأويل آخر كما سيأتي وهو أظهر فكان الأصوب أنه يستتاب هذا وقد حكى النووي في الروضة ما افتوا به ولم يرجح منه رأيا لكن قوله وقد حكى القاضي عياض جملة من الألفاظ المكفرة يقتضي ترجيح رأي من أفتى بقتله (فَوَجَّهَ مَنْ قَالَ فِي سَابِّ اللَّهِ بِالِاسْتِتَابَةِ) كالمخزومي وغيره هو (أنه) أي سبه تعالى (كُفْرٌ وَرِدَّةٌ مَحْضَةٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ لغير الله تعالى) أي من عباده وفيه بحث إذ عباده مماليكه وحق المولى حق للموالي فيجب أن يقوموا بحقهم كما يجب على الأمة أن يقوموا بحق رسولهم والصواب في المسألتين أن يستتاب لقوله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ (فَأَشْبَهَ قَصْدَ الْكُفْرِ بِغَيْرِ سَبِّ اللَّهِ وَإِظْهَارَ) أي وأشبه إظهار (الِانْتِقَالِ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنَ الْأَدْيَانِ الْمُخَالِفَةِ للإسلام) وفيه أنه لا يعرف دين جوز فيه سب الله سبحانه وتعالى حتى عبدة الأصنام يقولون ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فهو لا شك أنه أعظم من سب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والله سبحانه وتعالى اعلم (ووجه ترك استتابته) كما قاله ابن القاسم وغيره (أنه) أي الساب (لمّا) وفي نسخة إذا (ظهر منه ذلك) أي سب مولاه سبحانه وتعالى (بعد إظهار الإسلام) وقبول الأحكام (قبل) أي قبل إظهاره السب (اتّهمناه) بتشديد التاء أي أوقعناه في التهمة بالكفر (وَظَنَنَّا أَنَّ لِسَانَهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ إِلَّا وَهُوَ مُعْتَقِدٌ لَهُ إِذْ لَا يَتَسَاهَلُ فِي هذا) السب (أحد) بأن ينطق به بدون اعتقاده (فحكم له) أي لقائله (بحكم الزّنديق ولم تقبل توبته) إذ قد يتمادى على إخفاء كفره وإظهار إيمانه وهذا كالمنافق لكن فيه أن الزنديق من تحقق كفره باطنا وإيمانا ظاهرا وهذا ليس كذلك وأيضا الزنديق في التحقيق من لا ينتحل دينا وبهذا يفارق المنافق لثبوته على عقيدة واحدة فاسدة (وإذا انتقل من دين إلى دين آخر وأظهر السّبّ بمعنى الارتداد) وفيه أنه لا يوجد دين يجوز فيه سبه سبحانه كما قدمناه (فهذا) المنتقل (قد أعلم) بصيغة المجهول أي من حاله وفي نسخة قد علم (أنه خلع ربقة الإسلام) بكسر الراء فموحدة ساكنة فقاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 مفتوحة أي قيده وتعلقه (من عنقه) فيستتاب فإن تاب وإلا قتل وفي الحديث من فارق الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ من عنقه (بخلاف الأوّل المتمسك) وفي نسخة المستمسك (به) أي بالإسلام فإنه بمجرد سبه تعالى لم يعلم أنه خلع ربقته من عنقه لتمسكه ظاهرا كذا ذكره الدلجي فساده ظاهر لا يخفى (وحكم هذا) المنتقل (حكم المرتد يستتاب على مشهور مذهب) وفي نسخة مذاهب (العلماء) ونسخة مذاهب أكثر أهل العلم كأبي حنيفة والشافعي وأحمد (وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ قبل) أي قبل ذلك في أوائل الباب (وذكرنا الخلاف في فضوله) بسبب الاختلاف في بعض أصوله وأغرب الدلجي في قوله أي في فصوله الآتية بعد. فصل (وَأَمَّا مَنْ أَضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ) حال من الضمير قبله (ولا الرّدّة) وفي نسخ ولا على الردة (وقصد الكفر ولكن ذلك) المضاف (على طريق التّأويل) الفاسد (والاجتهاد) الكاسد (والخطأ المفضي) وفي نسخة واجتهاد الخطأ المفضي أي الموصل (إلى الهوى) أي هوى النفس (والبدعة) من بدع الضلالة الناشئة عن الجهالة بتحقيق الكتاب والسنة (من تشبيه) بيان لما لا يليق به سبحانه كتشبيه المجسمة له سبحانه وتعالى من أنه على صورة ثياب في جهة العلو مماسا للعرش أو محاذيا له (أو نعت بجارحة كالوجه والعين) واليد واليمين والقبضة والجنب والاستواء والنزول ونحوها من حملها على ظاهرها من غير تنزيه ولا تأويل (أو نفي صفة كمال) كنفي المعتزلة صفاته القديمة الذاتية حذرا من تعدد القدماء وأما ما ذهب إليه بعض الحكماء من أنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات فليس في كفر قائله خلاف للعلماء (فهذا) الذي أضيف إليه تعالى عليه التأويل في التنزيل (مِمَّا اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي تَكْفِيرِ قَائِلِهِ ومعتقده) والحق عند الأشعري وأكثر أصحابه وأكثر الفقهاء كأبي حنيفة لا يكفر وبعدم تكفيره يشعر قول الشافعي لا أرد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لاستحلالهم الكذب في الشهادة بناء على غلبة الظن وقد أوضحت المبحث في شرح الفقه الأكبر (واختلف قول مالك وأصحابه في ذلك) أي هل يكفر معتقده أم لا وسيأتي قريبا (ولم يختلفوا) أي أصحاب مالك أو سائر العلماء لذلك (في قتالهم إذا تحيّزوا) أي انفردوا (فئة) أي جماعة مجتمعة بمكان معين منعزلين عن أهل الحق لإشعار ذلك بمخالفتهم ومناواتهم وإظهار معاداتهم كالخوارج في زمن علي كرم الله وجهه والروافض في زماننا خذلهم الله سبحانه وتعالى (وَأَنَّهُمْ يُسْتَتَابُونَ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا وَإِنَّمَا اختلفوا) أي أصحاب مالك (في المنفرد منهم فأكثر قول مالك) أي المنقول عنه (وأصحابه ترك القول بتكفيرهم وترك قتلهم) بالرفع (والمبالغة) بالرفع (فِي عُقُوبَتِهِمْ وَإِطَالَةُ سِجْنِهِمْ حَتَّى يَظْهَرَ إِقْلَاعُهُمْ) أي إعراضهم عنه ورجوعهم منه (وتستبين توبتهم) إلا أن الرافضة القائلين بالتقية لا يتحقق منهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 التوبة الباطنية (كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِصَبِيغٍ) بفتح مهملة وكسر موحدة فتحتية ساكنة فغير معجمية تميمي بصري خارجي الرأي وكان يتبع مشكل القرآن ويسأل الناس عنه وكان كما أخبر الله به في كتابه فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ فقدم على عمر رضي الله تعالى عنه وكان أعدله جرائد ليضربه بهن فلما جلس بين يدي عمر قال له من أنت قال له أنا عبد الله صبيغ فقال له عمر وأنا عبد الله عمر فضربه عمر حتى شجه بتلك العراجين فجعل الدم يسيل على وجهه فقال حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجده في رأسي وفي رواية ضربه عمر حتى صار ظهره كالبردعة ثم سجنه حتى قارب البرء ثم ضربه كذلك ثم سجنه فقال لهأن أردت قلتى فاقتلني وإلا فقد شفيتني شفاك الله فأرسله عمر ونهى أن يجالس فكان بالبصرة لا يكلمه أحد ولا يجالسه ولا يرد على خلقة إلا قاموا وتركوه وكان مع ذلك وافر الشعر لا يحلق رأسه (وهذا) أي القول بالمبالغة في عقوبتهم (قول محمد بن الموّاز في الخوارج) وهم فرق شتى متفقون على أن من أذنب صغيرة أو كبيرة فقد كفر وهم يكفرون عثمان وعلياء وطلحة والزبير وعائشة ويعظمون أبا بكر وعمر ذكره فخر الدين الرازي (وعبد الملك بن الماجشون) بالجر أي وقوله (وقول سحنون) بالرفع أي وكذا قوله (في جميع أهل الأهواء) كالرافضة وغيرهم من المبتدعة كالقدرية والمرجئة ممن خالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهم اثنتان وسبعون والناجية منها أهل السنة وبها ثلاث وسبعون وقد تكلم عليها بالتعيين في جميعها أبو إسحاق الشاطبي في الحوادث والبدع مما يؤدي ذكره إلى طوله والله الموفق للحق بفضله وقد قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وفي الحديث ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة قالوا وما هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي، (وبه) أي بالقول بالمبالغة في عقوبتهم (فسّر قول مالك) بصيغة المجهول (في الموطّإ وما رواه عن عمر) عطف تفسير لما قبله وفي نسخة عن عمر وفي أصل الدلجي ما رواه على أنه بدل من قول مالك أي فسر بعض أصحابه ما قاله رواية عن عمر (بن عبد العزيز وجدّه) أي مروان بن الحكم (وعمّه) عبد الملك بن مروان (من قولهم في القدريّة) بفتح الدال ويسكن (يستتابون فإن تابوا وإلّا قتلوا) وهم طائفة ينكرون أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم سبحانه وتعالى في الأزل انها ستقع في أوقات معلومة وعلى صفة مخصوصة بحسب ما قدره سبحانه وتعالى وعظم شأنه وسموا بذلك لإنكارهم القدر وإسنادهم افعال العباد إلى قدرتهم قال النووي وقد انقرضوا بأجمعهم ولم يبق أحد من أهل القبلة على ذلك ولله الحمد انتهى وصارت القدرية في هذا الزمان الذي يعتقدون الخير من الله والشر من غيره كالمعتزلة ومن تبعهم كما سيأتي؛ (وقال عيسى) قال الحلبي لعله ابن إبراهيم بن مثرود وقال الدلجي لعله أبو موسى الغافقي (عن ابن القاسم في أهل الأهواء) أي البدع المختلفة الآراء (من الإباضيّة) بكسر الهمزة فموحدة مخففة بعدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 ألف فضاد معجمة فياء نسبة طائفة من الخوارج اصحاب عبد الله بن أباض التميمي ظهر في زمان مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية وقتل آخر الأمر كانوا يزعمون أن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين ومناكحتهم جائزة وغنيمة سلاحهم وكراعهم عند الحرب دون غيرهم ودارهم دار الإسلام إلا معكسر سلطانهم وتقبل شهادة مخالفيهم عليهم (والقدريّة) وهم اتباع واصل بن عطاء سموا قدرية لإنكارهم القدر وأن العبد يخلق فعله الشر دون الخير ومنهم المعتزلة والزيدية والرافضة وقد قال عليه الصلاة والسلام القدرية مجوس هذه الأمة لمشاركتهم المجوس في إثبات خالق للخير وخالق للشر (تنبيه) قالت القدرية لسنا بقدرية بل أنتم يعنون أهل الحق القدرية لاعتقادكم إثبات القدر وأجيب بأن هذا تمويه منهم فإن أهل الحق يفوضون أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى ويضيفون خلق الأفعال السيئة إلى قدرته سبحانه وتعالى وهؤلاء يضيفونها إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليه أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه هذا وقد ورد في الأحاديث أوصاف القدرية بحيث ترتفع هذه الشبهة بالكلية (وشبههم) بفتحتين وبكسر فسكون أي وأمثالهم (ممّن خالف الجماعة) الذين هم أهل السنة (من أهل البدع) أي المخترعين عقائد الضلالة التي لم يخرج بها عن الإسلام وأما قول الدلجي كالنصيرية فخطأ فاحش فإنهم طائفة يعبدون عليا فهم كفرة ومشركون إجماعا (والتّحريف لتأويل كتاب الله تعالى) بتأويل باطل ظاهرا على مقتضى آرائهم الفاسدة وأهوائهم الكاسدة (يستتابون) أي مطلقا سواء (أظهروا بذلك) أي معتقدهم (أو أسرّوه فإن تابوا قبلت) توبتهم (وإلّا قتلوا وميراثهم لورثتهم) إجماعا لأن قتلهم إنما هو لارتكابهم البدعة زجرا لهم عنها على طريق السياسة؛ (وقال مثله) أي مثل قول عيسى (أيضا ابن القاسم في كتاب محمد) أي ابن المواز (في أهل القدر وغيرهم) من المبتدعة مخالفي أهل السنة (قال) أي ابن القاسم أو محمد عنه (وَاسْتِتَابَتُهُمْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ اتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عليه) من الاعتقاد الفاسد والعمل الكاسد فإن تابوا فيها وإن تمادوا قتلوا حدا وميراثهم لورثتهم وفيه أن المبتدعة لا توبة لهم إلا إذا أظهروها من عند أنفسهم (ومثله) أي مثل ما قال ابن القاسم في كتاب محمد (فِي الْمَبْسُوطِ فِي الْإِبَاضِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَسَائِرِ أَهْلِ البدع) من أنهم يستتابون (قال) أي ابن القاسم (وهم مسلمون) أي داخلون في فرق أهل الإسلام والتوارث قائم بينهم (وإنّما قتلوا لرأيهم السّوء) أي حدا للسياسة زجرا عن البدعة (وبهذا) أي وبقول ابن القاسم (عَمِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا اسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ) لكفرهم إجماعا بإنكاره تكليمه مع وروده في القرآن وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً قال الانطاكي ونحو قول ابن القاسم هذا عن أحمد بن حنبل فإنه روي عنه أنه قال من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر أقول ولا يتصور أن يكون فيه خلاف وتحقيق بحث الكلام محله علم الكلام (وابن حبيب) مبتدأ (وغيره من أصحابنا) المالكية (يرى تكفيرهم) أي أهل البدع (وتكفير أمثالهم) أي من التابعين لأقوالهم (من الخوارج والقدريّة والمرجئة) بالهمزة والياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 اسم فاعل وهم فرقة يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة وأن الله تعالى لا يعذب الفسقة من هذه الأمة سموا بذلك لاعتقادهم أنه أرجا تعذيبهم من المعاصي أي أخره عنهم يقال أرجأت الأمر وأرجيته أي أخرته ومنه قوله تعالى حكاية أَرْجِهْ وَأَخاهُ ففيه ست قراآت في السبعة هذا وفي المنتقى من كتب أصحابنا عن أبي حنيفة لا نكفر أحدا من أهل القبلة وعليه أكثر الفقهاء ومن أصحابنا من قال بكفر المخالفين وقالت قدماء المعتزلة بكفر القائل بالصفات القديمة وبخلق الأفعال وقال الأستاذ أبو إسحاق نكفر من يكفرنا ومن لا فلا ولعل من كفر لاحظ التغليظ والزجر والسياسة ومن امتنع راعى الاحتياط في حرمة أهل القبلة وهذا اسلم والله تعالى اعلم؛ (وقد روي أيضا عن سحنون مثله) أي مثل قول ابن حبيب وغيره بتكفير من ذكر (فيمن قال ليس لله كلام) أي لا نفي ولا غيره (أنه كافر) وهذا لا خلاف فيه لإنكاره ما نص الله به في كتابه (واختلفت الرّوايات عن مالك) أي في تكفير المبتدعة من أهل القبلة (فأطلق في رواية الشاميّين أبي مسهر) الغساني وفي نسخة أبو مسهر بتعزيرهم (ومروان بن محمد الطاطريّ) بفتح الطاء الثانية من المهملتين كان يبيع ثيابا بيضا يقال لها الطاطرية روى عن مالك وعنه الدارمي وغيره إمام قانت لله (الكفر عليهم) مفعول اطلق ولعله أراد التغليظ للزجر فيهم (وقد شوور) أي مالك وهو مجهول شاور (في زواج القدريّ فقال لا تزوّجه) يحتمل أن يكون على وجه الكراهة أو الحرمة وهذا مجمع عليه خوفا على المرأة لقلة عقلها أن تميل إلى مذهب زوجها ويحتمل أن يكون لنفي الصحة بناء على تكفيره وقوله في الاستشهاد (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [البقرة: 221] ) يحتمل احتمالين في الاعتضاد لاتساع باب الاجتهاد (وروي عنه) أي عن مالك (أيضا أهل الأهواء) أي البدع في الآراء (كلّهم كفّار) أي حقيقة أو كفرا دون كفر أي مجازا (وَقَالَ مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ تعالى وأشار) في وصفه (إِلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَدٍ أَوْ سَمْعٍ أو بصر) أي ونحوها من أذن أو لسان أو رحل وغيرها (قطع ذلك) العضو (منه) أي سياسة جزاء وفاقا (لأنه شبّه الله بنفسه) وهو سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (وَقَالَ فِيمَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ كَافِرٌ فَاقْتُلُوهُ) روى التفتازاني هنا حديثا وتقدم أنه موضوع والمحققون على أنه لم يكفر لقوله تعالى قُرْآناً عَرَبِيًّا ولكونه مقروءا بألسنتنا ومكتوبا بأيدينا وإنما الكلام في الكلام النفسي ولهذا قال بعضهم من قال كلام الله مخلوق فهو كافر وهو ظاهر (وقال) أي مالك (أَيْضًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ يُجْلَدُ وَيُوجَعُ ضَرْبًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بن بكر التّنّيسيّ) بكسر الفوقية والنون المشددة فتحتية ساكنة وسين مهملة فياء نسبة إلى موضع قرب دمياط أكله البحر الماح وصار بحيرة ماء روى عن الأوزاعي وغيره وعنه الشافعي ونحوه (عنه) أي عن مالك (يقتل ولا تقبل توبته) وهذا غريب جدا (وقال القاضي أبو عبد الله البرنكانيّ) بموحدة مفتوحة فراء ساكنة فنون مفتوحة نسبة إلى ضرب من الاكسية (والقاضي أبو عبد الله التّستريّ) بضم أوله وبفتح ثانيه ويضم وقيل بفتح أوله وبضم ثانيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 (من أئمّة العراقيّين) أي من المالكية وفي نسخة بزيادة من أصحابنا (جوابه) أي جواب مالك فيمن قال القرآن مخلوق (مختلف يقتل) وفي نسخة فقال يقتل وهو مضارع مجهول وقال التلمساني مصدر دخل عليه حرف جر (المستبصر) أي الذي له خبرة بأمور شريعته وهو معجب بضلالته وجهالته (الدّاعية) أي الذي يدعو غيره إلى بدعته والتاء للمبالغة أو بتأويل الفرقة أو الطائفة بنا على أن المراد بالمستبصر جنسه (وعلى هذا الخلاف) الذي ذكره القاضيان (اختلف قوله في إعادة الصّلاة) أي التي صليت (خلفهم) فقال مرة تعاد ومرة لا تعاد ويمكن الجمع بينهما أيضا بأن يقال تعاد احتياطا ولا تعاد وجوبا والأظهر على مقتضى مذهبه أنه لا تجوز الصلاة خلف الفاسق أنه تجب الإعادة ولعل الخلاف محمول على أنه لم يعلم بحاله أولا اثم تبين بدعته ثانيا وقد نقل الشيخ أبو حامد الإسفراييني والماوردي عن نص الشافعي أن من صلى خلف من ظنه مسلما فبان مرتدا أو زنديقا وجوب الإعادة وعدمه ورجحه عامة أصحابه (وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ لَا يُسْتَتَابُ القدريّ) وفي نسخة القدرية وهو مناف لما سبق عنه أنه لا نكفر أحدا من أهل القبلة (وأكثر أقوال السّلف) أي العلماء المتقدمين (تكفيرهم) لإثباتهم خالقين على ما مر (وممّن قال به) أي بتكفيرهم (اللّيث) بن سعد (وابن عيينة وابن لهيعة) بفتح اللام وكسر الهاء والعين المهملة وهو ضعيف (وروي عنهم) أي عن السلف ومن تبعهم من المذكورين (ذلك) أي تكفيرهم (فيمن قال بخلق القرآن وقاله) أي وقال بتكفير من قال بخلق القرآن (ابن المبارك) وهو عبد الله المروزي من أصحاب أبي حنيفة ممن جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع والاجتهاد والجهاد (والأوديّ) بفتح الهمزة وسكون الواو منسوب إلى قبيلة أود وهو عثمان بن حكيم (ووكيع) أي ابن الجراح أبو سفيان الرواسي (وحفص بن غياث) بكسر معجمة فتحتية مخففة فألف فمثلثة وهو أبو عمرو النخعي قاضي الكوفة روى عن الأعمش وغيره وعنه أحمد وغيره (وأبو إسحاق الفزاريّ) بفتح الفاء والزاء وثقه غير واحد (وهشيم) بفتح الهاء وكسر السين المعجمة وضبطه التلمساني مصغرا وهو ابن بشر يكنى أبا معاوية السلمي الواسطي حافظ بغداد روى عن عمرو بن دينار وغيره وعنه أحمد وابن معين ثقة مدلس (وعليّ بن عاصم) أي الواسطي يروي عن يحيى البكاء وعطاء ابن السائب وعنه ابن حنبل وغيره ضعفوه وكان عنده مائة ألف حديث مات وله بضع وتسعون سنة (في آخرين) أي من المجتهدين والمعنى مندرجين فيهم أي متوافقين معهم (وهو) أي ما قاله هؤلاء الأئمة (من قول أكثر المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين) أي من علماء أصول الدين (فيهم) أي فيمن ذكر من المبتدعة (وفي الخوارج والقدريّة وأهل الأهواء المضلّة) كالرافضة وهو اسم فاعل أو مفعول أي الجامعين بين الضلال والإضلال (وَأَصْحَابِ الْبِدَعِ الْمُتَأَوِّلِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حنبل وكذلك قالوا) أي هؤلاء الأئمة (في الواقفة) أي ليسوا متأولين ذكره الدلجي والأظهر ما قاله التلمساني من أنهم قوم توقفوا إذ ليس عندهم جواب إما لجهلهم أو لتعارض الأدلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 عندهم وتوفقهم بوجب لهم ما يوجب لأصحابهم من المبتدعة والخوارج وغيرهم انتهى وفيه أن التوقف لتعارض الأدلة لا يوجب التكفير كما لا يخفى لأن الإيمان الإجمالي معتبر إجماعا (والشّاكّة) أي المترددة (في هذه الأصول) إثباته هي أم ضعيفة أو أحقه هي أم باطلة قال التلمساني هم قوم وقع لهم الشك في القرآن هل هو مخلوق أم لا (وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ مَعْنَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِتَرْكِ تكفيرهم) أي الفرق المذكورة وفي نسخة بتكفيرهم وهو خطأ إذ لم يقل بتكفيرهم (عليّ بن أبي طالب) كرم الله وجهه (وابن عمر) رضي الله تعالى عنهما (وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَهُوَ رَأْيُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ النّظّار) بضم النون وتشديد الظاء جمع الناظر من النظر بمعنى التأمل والفكر ومنه الناظرة كأبي حنيفة والشافعي واتباعهما (والمتكلّمين) أي علماء الكلام وسموا به لأن جل مباحثهم معرفة الكلام (واحتجّوا) أي هؤلاء الأئمة (بتوريث الصّحابة والتّابعين ورثة أهل حروراء) بحاء مهملة مفتوحة وضم الراء الأولى يمد ويقصر موضع بالعراق على ميلين من الكوفة اجتمع بها الخوارج وتعاقدوا بها على رأيهم فنسبوا إليها وهم الذين ثاروا على علي كرم الله وجهه بعد وقعة الجمل وكان زعيمهم ابن الكواء تعاقدوا واجتمعوا على قتال علي ثم مضوا إلى النهروان فقاتلهم علي كرم الله وجهه وهم ثلاثون ألفا فتفلت منهم عشرة فذهب رجلان إلى عمان ورجلان إلى سجستان ورجلان إلى اليمن ورجلان إلى الجزيرة ورجلان إلى تل مروان وظهرت مذاهب الخوارج بهذه المواضع قال التلمساني ومذهبهم أن الإمام لا يختص بآل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بل كل من اجتمع فيه زهد وعلم وشجاعة فهو إمام إذا بويع وخرج وإن كان من العبيد والموالي وتفاصيل اعتقاداتهم في الصحابة ومرتكبي الكبيرة مذكورة في كتب الكلام انتهى ولا يخفى أن مذهب أهل السنة أيضا أن الإمام لا يختص بآله عليه الصلاة والسلام بل يختص بقريش لقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش وبه ثبت خلافة الشيخين وإنما الشيعة يقولون باختصاص الإمامة لأهل بيت النبوة (ومن عرف بالقدر) بصيغة المجهول وهو معطوف على أهل حرواء (ممّن مات منهم) أي جميعهم (وَدَفْنِهِمْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَجَرْيِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ) من اعتاقهم وتنفيذ وصاياهم وسائر الأحكام (عَلَيْهِمْ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْقَدَرِيَّةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ يُسْتَتَابُونَ فَإِنْ تابوا وإلّا قتلوا لأنّه) أي لأن ابتداعهم نوع (من الفساد في الأرض كما قال) أي مالك أو الله تعالى (في المحارب) أي قاطع الطريق حيث قال تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أي أن قتلوا أَوْ يُصَلَّبُوا أن قتلوا ونهبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أن نهبوا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ بالإخراج أو الحبس إن خافوا فقط فأو في الآية للتنويع والحكم مرتب عليهم عند الجمهور وعند مالك أو للتخيير كما يشير إليه قوله (إن رأى الإمام قتله) أي حدا (وإن لم يقتل) أي أحدا وإن وصلية (قتله) أي الإمام لكونه مخيرا في قتله وهذا من باب قياس الأولى كما بينه بقوله (وفساد المحارب إنّما هو في الأموال) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 في حقها وبسببها يحصل سفك الدماء (ومصالح الدّنيا) أي في جهتها من حفظ الأموال والدماء (وإن كان) أي الفساد (أيضا قد يدخل في أمور الدنيا) بالتبعية (مِنْ سَبِيلِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَفَسَادُ أَهْلِ الْبِدَعِ معظمه) أي أكثره واقع (على الدّين) وإن كان يتفرع عليه أيضا فساد في الدنيا كما بينه بقوله (وقد يدخل) أي الفساد (في أمر الدّنيا بما يلقون) بضم الياء والقاف أي يغرون (بين المسلمين من العداوة) والبغضاء وقد حرم الله الخمر والميسر لهذه العلة كما قال تعالى إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فالعلة مركبة مفيدة لقتل أهل البدعة ولكن المرتبة المعتدلة ما صدر عن علي إمام الأئمة وتبعه جمهور علماء الأمة أنهم يقتلون حال المحاربة أو وقت خروجهم للدعوة وأما إذا أخذوا أو كانوا منفردين غير مجتمعين على الفساد فلا يقتل أحد منهم وهذا جمع حسن وهو اسلم والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل [فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي إِكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ قَدْ ذكرنا مذاهب السلف وإكفار أصحاب البدع والأهواء] (في تحقيق القول في إكفار المتأوّلين) أي في تكفيرهم (قد ذكرنا مذاهب السّلف) أي اختلاف مقالهم (في إكفار أصحاب البدع) الفاسدة (والأهواء) الكاسدة (المتأوّلين) للكتاب والسنة (ممّن قال) أي بعض المبتدعة (قولا يؤدّيه) بهمز ويبدل أي يوصله (مساقه) أي مرجعه ومآله (إلى كفر هو) أي المبتدع (إذا وقف عليه) بصيغة المجهول أي إذا اطلع على حقيقة أمره (لا يقول بما يؤدّيه قوله إليه) وذلك لأنه بحسب اجتهاده وقع عليه وذلك كما إذا قال المعتزلي إن الله عالم ولكن لا علم له فقيل له قولك هذا يؤدي إلى نفي أن يكون الله عالما إِذْ لَا يُوصَفُ بِعَالِمٍ إِلَّا مَنْ لَهُ علم يقول هو نحن لا نقول أنه ليس بعالم فإنه كفر وقولنا لا يؤدي إلى ذلك على ما هو أصلنا وكقول من قال منهم إن الله لا يريد الفحشاء مأولا له بأن إرادة القبائح ويجاب بأنه سبحانه منزه على أن يقع في ملكه إلا ما شاء (وعلى اختلافهم) أي على اختلاف مراتب المبتدعة وتفاوت المسألة المخترعة وقال الدلجي أي على اختلاف السلف (اختلف الفقهاء والمتكلّمون في ذلك) أي في تكفيرهم (فَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّبَ التَّكْفِيرَ الَّذِي قَالَ بِهِ الجمهور من السّلف ومنهم من أباه) أي التكفير (ولم ير إخراجهم من سواد المسلمين) أي عمومهم (وهو قول أكثر الفقهاء) كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما (والمتكلّمين) أي أكثرهم من الأشعرية والماتريدية (وقالوا) أي الجمهور من الطائفتين وفي نسخة وقال أي من أباه وما بينهما معترضة (هم) أي المبتدعة (فسّاق) بعلمهم وهو بضم الفاء وتشديد السين جمع فاسق (عصاة) باعتقادهم وهو جمع عاص (ضلّال) في اجتهادهم وهو بضم فتشديد جمع ضال (ونوارثهم) بالنون وفي نسخة بالياء (من المسلمين) قال التلمساني وروي توارثهم مصدرا أقول والظاهر أنه تحريف وتصحيف (ونحكم لهم) بالوجهين وفي نسخة بصيغة المجهول الغائب (بأحكامهم) أي بأحكام سائر المؤمنين مما لهم وعليهم في أمور الدنيا والدين وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 قوله نوارثهم ونحكم لهم إيماء إلى صحة القول الأخير وهو عدم التكفير (وَلِهَذَا قَالَ سُحْنُونٌ لَا إِعَادَةَ عَلَى مَنْ) وفي نسخة لمن (صلّى خلفهم قال) أي سحنون (وهو) أي هذا القول بعدم الإعادة (قول جميع أصحاب مالك) كلهم (المغيرة وابن كنانة وأشهب قال) أي مالك أو كل واحد من أصحابه (لأنّه) أي المبتدع (مسلم) أي من أصله المنسحب عليه في حاله (وذنبه) أي بابتداعه (لم يخرجه من الإسلام) وإن كان بدعته كبيرة (واضطرب آخرون) أي من أصحاب مالك (في ذلك) التكفير (ووقفوا) أي توقفوا (عن القول بالتّكفير أو ضدّه) وهو عدم التكفير (واختلاف قولي مالك) وفي نسخة قول مالك (في ذلك) أي فيما ذكر من التكفير وعدمه (وتوقّفه) أي وفي توقفه والأظهر أنه مرفوع أي وتوقف مالك (عن إعادة الصّلاة خلفهم) أي عقب المبتدعين (منه) أي من قبيل ما اضطرب فيه الآخرون (وإلى نحو من هذا) الاختلاف في ذلك والتوقف من مالك (ذهب القاضي أبو بكر) أي الباقلاني (إمام أهل التّحقيق) أي في مقام التقدقيق (والحقّ) أي وإمام أهل الحق المزيل للباطل (وقال) أي الباقلاني (إنّها) أي مسألة القول بالتكفير (من المعوصات) بضم الميم وكسر الواو المخففة أي المشكلات (إذ القوم) أي المبتدعة (لم يصرّحوا باسم الكفر وإنّما قالوا قولا يؤدّي إليه) ولا بد من الفرق بينهما في مقام التحقيق والله ولي التوفيق والحاصل أن مقتضى الإشكال وهو أن المعتزلي إنما قال مثلا إن الله عالم ولكن لا علم له فهل يقول إن نفيه للعلم له سبحانه وتعالى نفي أن يكون الله عالما وذلك كفر بالإجماع أو يقول قد اعترف بأنه تعالى عالم وإنكاره العلم لا يكفره وإن كان يؤدي إلى أنه ليس بعالم والله سبحانه وتعالى اعلم (واضطرب قوله) أي قول القاضي أبي بكر (في المسألة) أي هذه أيضا (عَلَى نَحْوِ اضْطِرَابِ قَوْلِ إِمَامِهِ مَالِكِ بْنِ أنس) كان الأولى حذف امامه (حتّى قال) أي الباقلاني (في بعض كلامه إنّهم) أي أهل البدع (عَلَى رَأْيِ مَنْ كَفَّرَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ لَا تَحِلُّ) أي لأحد منا أهل السنة (مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَلَا الصَّلَاةُ عَلَى ميّتهم) لموته في اعتقاد من يكفرهم على الكفر (ويختلف في موارثتهم) بصيغة المجهول (على الخلاف في ميراث المرتد) على ما مر عن ابن القاسم وغيره (وقال) الباقلاني (أيضا نورّث) بتشديد الراء المكسورة (ميّتهم) وفي نسخة منهم (ورثتهم من المسلمين ولا نورّثهم) أي المبتدعة (من المسلمين وأكثر ميله) أي الباقلاني (إِلَى تَرْكِ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ وَكَذَلِكَ اضْطَرَبَ فِيهِ) أي في القول بتكفيرهم (قول شيخه) أي في الطريقة (أبي الحسن الأشعريّ وأكثر قوله) المنقول عنه (تَرْكُ التَّكْفِيرِ وَأَنَّ الْكُفْرَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ الجهل بوجود الباري) وما يتعلق به من التوحيد والنبوة (وقال) أي الأشعري (مرّة من اعتقد أنّ الله جسم) أي له جسم كالأجسام (أو المسيح) أي أنه عيسى (أو بعض من يلقاه في الطّرق) كما تصور إبليس فوق عرش بين السماء والأرض وصور في خاطر بعض المريدين أنه الاله فوق عرشه واعتقده حتى بلغه الحديث المشهور في ذلك فتاب إلى الله وقضى صلواته المتقدمة هنالك ولا يبعد أن يكون مراده أن القول بأن اللَّهَ جِسْمٌ أَوِ الْمَسِيحُ أَوْ بَعْضُ مَنْ يلقى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 في الطريق مستوى في حد كفره (فليس بعارف به) أي بوجوده سبحانه وتعالى (وهو كافر) حيث لم يفرق بين وجود واجب الوجود وبين وجود الحادث في مقام الشهود ومن هنا أكثر من سائر أهل الكفر والعناد (ولمثل هذا) المقال المروي عن الأشعري من عدم تكفير المبتدعة من أهل القبلة (ذهب أبو المعالي) وهو إمام الحرمين رحمه الله تعالى وهو من أكابر الشافعية (في أجوبته لأبي محمّد عبد الحقّ) أي الاشبيلي ذكره الدلجي وقال الحلبي هذا ليس الإشبيلي الحافظ صاحب الأحكام بل آخر غيره ولد سنة عشر وخمسمائة ومات سنة إحدى وثمانين وخمسائة وولد إمام الحرمين سنة تسع عشرة وأربعمائة ومات بنيسابور سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فالإمام توفي قبل مولد عبد الحق الحافظ صاحب الأحكام بما ترى قال ورأيت في نسخة ما لفظه ولمثل هذا ذهب أبو الوليد سليمان رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَجْوِبَتِهِ لِأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الحق وهذا أيضا لا يصح أن يكون عبد الحق الحافظ الإشبيلي وذلك لأن أبا الوليد سليمان بن خالد الباجي توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة وعبد الحق ولد سنة عشر وخمسمائة وقيل سنة أربع عشرة فلا يصح ذلك والله تعالى اعلم وعبد الحق الذي جاوبه أبو المعالي لم أعرفه إلى الآن انتهى وقال التلمساني هو عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي مات سنة ست وستين وأربعمائة (وكان) أي والحال أن أبا محمد (سأله عن المسألة) التي ميل الأشعري فيها إلى عدم التكفير أكثر (فاعتذر له بأن الغلط فيها) أي في المسألة بالقول بالتكفير وعدمه (يصعب) أي يعسر جدا (لأنّ إدخال كافر في الملّة) الإسلامية (وإخراج مسلم عنها عظيم في الدّين) والثاني أصعب من الأول فتأمل ولعله عليه الصلاة والسلام من أجل هذا قال أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار (وقال غيرهما) أي الأشعري وأبي المعالي (من المحقّقين الّذي) مبتدأ أي القول الذي (يجب) أي يقال (هو الاحتراز من التّكفير في أهل التّأويل) وإن كان تأويلهم خطأ في فهم التنزيل (فإنّ استباحة دماء) المصلين (الموحّدين) الصائمين المزكين القارئين للكتاب التابعين للسنة في جميع الأبواب (خطر) بفتحتين أي ذو خطر ويجوز أن يكون بفتح فكسر (وَالْخَطَأُ فِي تَرْكِ أَلْفِ كَافِرٍ أَهْوَنُ مِنَ الخطأ في سفك محجمة) بكسر الميم الأولى وهي آلة الحجامة (من مسلم) وفي نسخة من دم مسلم (واحد) وقد قال علماؤنا إذا وجد تسعة وتسعون وجها تشير إلى تكفير مسلم ووجه واحد إلى ابقائه على إسلامه فينبغي للمفتي والقاضي أن يعملا بذلك الوجه وهو مستفاد من قوله عليه السلام ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة رواه الترمذي وغيره والحاكم وصححه (وقد قال عليه الصلاة والسلام) كما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك وفي رواية (فإذا قالوها يعني الشّهادة) أي جنسها (عصموا) بفتح الصاد أي حفظوا (مني دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 أي بحق الشهادة مما يتعلق بها وفي رواية إلا بحق الإسلام (وحسابهم على الله) أي نحن نحكم بالظواهر والله تعالى اعلم بالسرائر وورد ما أمرت أن أشق عن قلوب الناس وصح أنه قال لأسامة هلا شققت عن قلبه وظاهر هذه الأحاديث على أنه تقبل توبة المرتد والزنديق وجامع مجمع عليه وجوبا كالصلاة ونحوها والله ولي التوفيق (فالعصمة) للدماء والأموال (مقطوع بها مع الشّهادة) بالوحدانية والرسالة (ولا ترتفع) أي العصمة (ويستباح خلافها) أي من دم أو مال (إلّا بقاطع) من الأدلة (ولا قاطع من شرع) إلا قوله عليه الصلاة والسلام لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث وهي الردة وقتل مسلم وزنى محصن (ولا قياس عليه) صحيح حتى يمال إليه (وألفاظ الأحاديث الواردة في هذا الباب) أي في باب مذمة المبتدعة (معرّضة) بتشديد الراء المفتوحة وروي عرضة أي قابلة (لِلتَّأْوِيلِ فَمَا جَاءَ مِنْهَا فِي التَّصْرِيحِ بِكُفْرِ القدريّة) كقوله عليه الصلاة والسلام القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا لا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم كما رواه أبو داود والحاكم وصححه عن ابن عمر وقوله عليه الصلاة والسلام من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فأنا منه بري رواه أبو يعلى في مسنده (وقوله) بالرفع عطفا على ما أي وقول النبي عليه الصلاة والسلام (لا سهم لهم في الإسلام) أي لا نصيب للقدرية مطلقا أو كاملا في سهام الإسلام (وتسميته) عليه الصلاة والسلام (الرّافضة بالشّرك) هذه رواية غير معروفة ولعل المراد بهم غلاتهم القائلون بإلهية علي ويسمون النصيرية ولا شبهة في كفرهم إجماعا (وإطلاق اللّعنة) وفي نسخة وإطلاق اللعنة (عليهم) أي على القدرية والرافضة (وَكَذَلِكَ فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ) فروى الدارقطني في العلل عن علي كرم الله وجهه لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا وروى الطبراني عن ابن عمر لعن الله من سب أصحابي وروى الطبراني أيضا عن ابن عباس مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ والناس أجمعين وروى أحمد والحاكم عن أم سلمة من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله (فقد يحتجّ بها) أي بظاهرها (من يقول بالتّكفير وقد يجيب الآخر) وهو القائل بعدم التكفير (بأنّه) أي الشأن (قد ورد مثل هذه الألفاظ في الحديث) النبوي (في غير الكفرة على طريق التّغليظ) كقوله عليه الصلاة والسلام من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد رواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة وفي رواية من أتى كاهنا فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضا أو امرأة في دبرها فقد برئ ما انزل على محمد وفي رواية ملعون من أتى امرأة في دبرها (وكفر) أي وبأنه كفر أي كفران (دون كفر) أي صريح (وإشراك) أي خفي (دون إشراك) أي جلي كقوله عليه الصلاة والسلام من حلف بغير الله فقد اشرك رواه أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر (وقد ورد مثله) أي في أنه شرك دون شرك (في الرّياء) كقوله عليه الصلاة والسلام الشرك الخفي أن يعمل الرجل لمكان الرجل رواه الحاكم عن أبي سعيد وقد قال تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي بأن يرائيه أو يطلب منه أجرا وعنه عليه الصلاة والسلام اتقوا الشرك الأصغر قيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 وما الشرك الأصغر قال الرياء وفي نسخة الزنا بالزاء والنون كحديث لا يزني زان حين يزني وهو مؤمن ولا يبعد أي يكون الربا بالراء والموحدة لقوله عليه السلام لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهده وهم يعلمون رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (وعقوق الوالدين) كحديث من أدركه أبواه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة يرح رائحة الجنة (والزّور) أي شهادة الزور وهي المعادلة للشرك في قوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ وروي بدله والزوج كقوله عليه الصلاة والسلام لعن الله المسوفات التي يدعوها زوجها إلى فراشه فتقول سوف حتى تغلبه عيناه رواه الطبراني عن ابن عمر (وغير معصية) أي وفي غير معصية أي متفق عليها كقوله عليه الصلاة والسلام ملعون من لعب بالشطرنج رواه ابن حزم وغيره وكقوله عليه الصلاة والسلام لعن الله المحلل والمحلل له رواه أحمد والأربعة عن علي كرم الله وجهه (وإذا كان) الحديث الوارد في الآحاد (محتملا للأمرين) في كفر وغيره (فلا يقطع) أي الحكم بالجزم (على أحدهما إلّا بدليل قاطع) وأغرب الدلجي بقوله أو غير قاطع وكأنه قاس على مسائل الفروع حيث لا فرق عند إمامهم بين القطعي والظني في أحكامها وغفل عن أنه لا بد في مسائل الأصول من الأدلة القطعية؛ (وقوله) أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما رواه مسلم عن أبي ذر وروي لأنه قال (في الخوارج هم من شرّ البريّة) بالهمز والتشديد أي الخليفة (وهذه صفة الكفّار) كما في سورة البينة، (وقال عليه الصلاة والسلام) كما رواه البيهقي في حقهم (هم شرّ قبيل) فعيل يستوي فيه الواحد والجمع وفي رواية شر قتلي جمع قتيل وروي شر قبيل بالموحدة أي جمع قبيلة (تحت أديم السّماء) أي ما ظهر منها (طوبى) فعلى من الطيب وأصلها طيبي وقد يقال به قلبت ياؤه واوا لسكونها وانضمام ما قبلها وهي الحالة الطيبة أو الجنة أو شجرة عظيمة فيها (لمن قتلهم) وقد قتلهم علي كرم الله وجهه يوم النهروان (أو قتلوه) لفوزه بالسعادة المترتبة على الشهادة، (وقال) فيما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري (فإذا وجدتموهم) أي مجتمعين (فاقتلوهم قتل عاد) أي كقتل عاد في الشدة أو المعنى أهلكوهم اهلاكا مستأصلا والأفهم أهلكوا بريح صرصر عاتية (وروي ثمود) وهو ابن عم عاد (وظاهر هذا) القول (الكفر) أي كفرهم بناء على صدر الحديث (لا سيّما مع التشبيه) أي لهم وفي نسخة مع تشبيههم (بعاد) قوم هود (فَيَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى تَكْفِيرَهُمْ فَيَقُولُ لَهُ الآخر) ممن لا يرى تكفيرهم (إنّما ذلك) التغليظ (من قتلهم) أي جهة قتلهم لا من جهة كفرهم (لخروجهم على المسلمين وبغيهم) أي ظلمهم وتعديهم (عليهم) أي على المؤمنين (بدليله) أي دليل خروجهم وبغيهم عليهم المستفاد (من الحديث نفسه) وروي بدليل من الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام (يقتلون أهل الإسلام فقتلهم ههنا حدّ) أي قصاص للعباد أو دفع للفساد (لا كفر) على وجه العناد (وذكر عاد) وروي وقتل عاد (تشبيه للقتل) في الشدة والاستئصال (وحلّه) أي وكونه الحلال (لا) تشبيه (للمقتول) من الخوارج بالمقتول من عاد حتى يلزم الكفر مع أنه الكفر مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 أنه لا يلزم من التشبيه تسوية المشبه والمشبه به من جميع الوجوه (وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ حُكِمَ بِقَتْلِهِ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ) كما يعرف في باب القصاص والرجم (ويعارضه) الآخر (بقول خالد) بن الوليد سيف الله (في الحديث) كما رواه الشيخان عن أبي سعيد (دعني) أي اتركني (أضرب) بالجزم أو الرفع (عنقه) أي ذي الخويصرة (يا رسول الله فقال لعلّه يصلّي) يعني وهو مؤمن وقد روى الطبراني عن أنس مرفوعا نهيت عن المصلين أي عن قتلهم هذا وفي صحيح البخاري أيضا أنه سأل قتله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا منع من الجمع (فإن احتجّوا) أي من يرى تكفيرهم (بقوله عليه الصلاة والسلام يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة وهي الحلقوم (فأخبر) أي بهذا (أنّ الإيمان) المستفاد من القرآن (لا يدخل قلوبهم) والأظهر أن المعنى لا تقبل قراءتهم ولا تصعد إلى السماء تلاوتهم وأما نفي الإيمان فلا يستفاد من حالتهم (وكذلك قوله) أي في حقهم (يمرقون) بضم الراء أي يخرجون بسرعة (من الدّين مروق السّهم) أي نفوذه (من الرّميّة) فعلية بمعنى مفعولة أي مرمية ما يرمى فيمرق منه السهم من صيد أو غيره (ثمّ لا يعودون إليه) أي إلى الدين (حتّى يعود السّهم على فوقه) بضم الفاء وهو موضع الوتر من الهم وهذا تعليق بالحال كقوله تعالى لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ فما في بعض النسخ حتى لا يعود خطأ فاحش (وبقوله) وفي نسخة وقوله أي في الصحيحين عن أبي سعيد وروي وكذلك قوله (سبق) أي السهم بمروقه سريعا (الفرث) وهو ما في الكرش (والدّم) والمعنى مر سريعا في الرمية وخرج منها لم يعلق منها بشيء من فرثها ودمها لسرعته شبه به خروجهم من الدين بسرعة (يدلّ على أنه) أي الخارجي (لم يتعلّق من الإسلام بشيء) من سهام الأحكام (أجابه الآخرون) الذين لا يكفرونهم (إِنَّ مَعْنَى لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ) وروي لا يفقهون (مَعَانِيَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَلَا تَنْشَرِحُ لَهُ صُدُورُهُمْ وَلَا تعمل به جوارحهم) أي لا يمتثلون أوامره ولا يجتنبون زواجره (وعارضوهم) الأولون (بقوله) عليه السلام (ويتمارى) بصيغة المجهول أي يشكك أو يجادل (في الفوق) أي في السهم هل فيه أثر علق به شيء من الفرث والدم أم لا وفي نسخة الفاعل للخطاب وفي أخرى بالغيبة أي يجادل ظنه ونفسه فيما يشك فيه (وهذا يقتضي التّشكك) ويروى الشك أي التردد (في حاله) يحكم بكفره أم لا (وإن احتجّوا) أي من يرى تكفيرهم (بِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. أسمعت رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ) قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم (ولم يقل من هذا) أي الأمة كما في نسخة (وتحرير أبي سعيد الرّواية) أي وبتحريره (وإتقانه اللّفظ) الدال على تحقيقه في الدراية إذ قال في دون من وهذا مؤذن بأنهم كفرة ليسوا من أمة الإجابة وهذا في غاية من البعد كيف وهم يقرؤون القرآن ويصلون ويصومون ويبالغون في الزجر عن المعاصي حيث يكفرون مرتكبي الكبيرة وأما تعبيره بفي دون من فقد (أجابهم الآخرون) ممن لا يرى تكفيرهم (بِأَنَّ الْعِبَارَةَ بِفِي لَا تَقْتَضِي تَصْرِيحًا بِكَوْنِهِمْ) وروي صريحا كونهم (من غير الأمّة) أي أمة الإجابة بل هم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 أمة الدعوة (بِخِلَافِ لَفْظَةِ مِنَ الَّتِي هِيَ لِلتَّبْعِيضِ وَكَوْنِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أبي ذرّ) أي الغفاري (وعليّ) أي ابن أبي طالب (وأبي أمامة) سهل بن حنيف كذا قاله الدلجي وقال الحلبي تقدم أنه صدي بن عجلان الباهلي (وغيرهم في هذا الحديث) أي حديث الخوارج (يخرج من أمتي، وسيكون من أمتي) ونحوهما مما هو ظاهر في كونهم منهم، (وحروف المعاني مشتركة) في معانيها ينوب بعضها عن بعض في مبانيها فإذا كانت مشتركة (فلا تعويل) أي لا اعتماد (على إخراجهم من الأمّة بفي ولا على إدخالهم فيها بمن) أي بمجردهما لاحتمال كل منهما أنها وقعت في موضع أختها فقوله تعالى إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي فيه ويقال هذا ذراع في أرض كذا أي منها (لَكِنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَادَ ما شاء) أي فيما أفاد (في التّنبيه الّذي نبّه عليه) أي على إخراجهم من الأمة بظاهر في دون من لأنهم ليسوا منهم (وهذا) التعبير بفي دون من من أبي سعيد (مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ فِقْهِ الصَّحَابَةِ وَتَحْقِيقِهِمْ للمعاني) بإيراد ألفاظها الدالة عليها بدون احتمال إلى غيرها (واستنباطها) أي اخراجها من القوة إلى الفعل (من الألفاظ) الموضوعة لها الدالة عليها (وتحريرهم لها وتوقّيهم في الرّواية) وفيه أن هذا يوهم أن الصحابي له التصرف في الفاظ النبوة من الرواية فيعبر بها كما يظهر له من الدراية وقد اختلف أرباب الأصول في نقل الحديث بالمعنى والتصرف في المبنى والمحتاطون منعوه بالكلية والمحققون جوزوه عند الضرورة بالنسيان في أصل الرواية على أن أبا سعيد وقع شاذا في هذه الرواية بالنسبة إلى بقية الصحابة الذين هم أقوى منه في باب الدراية لا سيما عليا كرم الله وجهه المبتلى بمقاتلتهم ومحاربتهم ومباغضتهم (هَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْمَعْرُوفَةُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الفرق) المختلفة كالمعتزلة والشيعة (فيها) وفي نسخة عليها (مقالات كثيرة مضطربة) أي مختلة مختلفة (سخيفة) أي خفيفة ضعيفة (أقربها قول جهم) بن صفوان من المعتزلة (ومحمد بن شبيب) بفتح الشين المعجمة وكسر الموحدة الأولى وهو منهم أيضا على ما ذكره الدلجي قال التلمساني وهو الخارجي من المرجئة من جمع بين الأرجاء في الإيمان وبين القول في القدر (إنّ الكفر بالله) هو (الْجَهْلُ بِهِ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ) أي بغير الجهل به وجودا ذكره الدلجي وفيه أنه يلزم منه أن لا يوجد في الكون كافر إلا الدهرية فقد قال تعالى في حق عبدة الأصنام وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وما جاء الأنبياء إلا للتوحيد لا لمجرد إثبات وجوده تعالى ولهذا أمروا الخلق بأن يقولوا لا إله إلا الله لا بمجرد أن الله موجود ومع هذا من أتى بالوحيد ولم يقر بالأنبياء أو اقر ببعض الأنبياء ولم يقر صلى الله تعالى عليه وسلم ورسالته كأهل الكتاب فلا شك أنه كافر بالإجماع فكيف قائلة يكون من المبتدعة وإن هذا أقرب أقوالهم (قال أبو الهذيل) بالتصغير وهو العلاف البصري شيخ المعتزلة توفي سنة ست وعشرين ومائتين وقد نيف على المائة (إِنَّ كُلَّ مُتَأَوِّلٍ كَانَ تَأْوِيلُهُ تَشْبِيهًا لِلَّهِ بخلقه) كبعض المجسمة (وتجويرا) أي ظلما له (في فعله) على خلقه (أو تكذيبا لِخَبَرِهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 قديما) كالأرواح وعنصر الأشياء وقدم العالم كقول الحكماء (لا يقال له الله) ولعله احترز به عن صفات الذات فإنه يطلق عليه أنه الله قال تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، (فهو كافر) فاندفع قول الدلجي بأن هذا مؤذن بكفر من قال بقدم صفاته كالعلم والقدرة كما هو مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة (وقال) وروي وقول (بعض المتكلّمين إن كان) المتأول (ممّن عرّف الأصل) أي من الكتاب والسنة (وبنى عليه) قوله (وكان) أي تأويله (فِيمَا هُوَ مِنْ أَوْصَافِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ) لأن الجهل بذاته وصفاته كفر ولا عذر له في تأويله (وإن لم يكن) تأويله (من هذا الباب) أي باب ما يؤدي إلى كفره (ففاسق) في فعله وقوله بتأويله ومبتدع في اعتقاده (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَعْرِفِ الْأَصْلَ) وبنى تأويله على غير أساس منه فيما لم يعرفه من صفاته سبحانه وتعالى (فهو مخطىء) في تأويله لعدم اصابته الحق يحكم عليه بالاثم والفسق (غير كافر) لقيام عذره بجهله (وذهب عبيد الله بن الحسن) أي ابن الحصين بن مالك بن الخشخاش (العنبريّ) منسوب لبني العنبر ومالك والخشخاش صحابيان وكان قاضي البصرة بعد سواد بن عبد الله روى عن عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن عبد الله الأنصاري قال ابن سعد كان محمودا ثقة عاقلا وقال النسائي فقيه ثقة أخرج له مسلم توفي سنة ثمان وستين ومائة ومن غرائبه ما نقلوه عنه أنه يجوز التقليد في العقائد والعقليات وخالف في ذلك العلماء كافة ذكر الحلبي وتبعه الأنطاكي وسكت عنه التلمساني وفيه أن إيمان المقلد مقبول عند جمهور العلماء وقال الدلجي إنه من المعتزلة وقد ذهب (إلى تصويب أقوال المجتهدين) أجمعين (في أصول الدّين) ولو كانوا من المبتدعين (فيما كان عرضة للتّأويل) أي قابلا له مما لا يرد فيه نص صريح كتأويل المعتزلة أنه تعالى متكلم بخلقه الكلام في جسم متمسكين بشجرة موسى عليه الصلاة والسلام (وفارق) العنبري (في ذلك) القول (فرق الأمّة) أي طوائفها من الناجية وغيرها (إِذْ أَجْمَعُوا سِوَاهُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أُصُولِ الدِّينِ فِي وَاحِدٍ وَالْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمٌ عاص فاسق وإنّما الخلاف في تكفيره) على ما سبق بعض تحريره وأما فروع الدين فالمخطئ فيها معذور بل مأجور واحد والمصيب له أجران كما في حديث ورد بذلك (وقد حكى القاضي أبو بكر الباقلانيّ) بن الطيب المالكي (مثل قول عبيد الله) أي العنبري (عن داود) أي ابن خلف (الأصبهانيّ) وفي نسخة الأصفهاني وهو إمام أهل الظاهر وكان زاهدا ورعا متقللا ناسكا أخذ العلم عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور انتهت إليه رياسة العلم ببغداد قيل كان يحضر مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان أخضر سمع من سليمان بن حرب والقعنبي ومسدد وطبقتهم وفي كتبه حديث كثير لكن الرواية عنه عزيزة وقد اختلف العلماء في نفاة القياس مثل داود وشبهه هل يعتبر قوله في الإجماع أم لا فعن طائفة من الشافعية أنه لا اعتبار لخلاف نفاة القياس في الفروع ويعتبر خلافهم في الأصول وقال إمام الحرمين والذي ذهب إليه أهل التحقيق أن منكري القياس لا يعدون من علماء الأمة وحملة الشريعة وقال الشيخ أبو عمر وابن الصلاح والذي اختاره الاستاذ أبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 منصور البغدادي من الشافعية أن الصحيح من المذهب أنه يعتبر خلاف داود قال الشيخ وهو الذي استقر عليه الأمر آخرا فإن الأئمة المتأخرين أوردوا مذهب داود في مصنفاتهم قال والذي أجيب به أن داود يعتبر قوله ويعتد في الإجماع إلا فيما خالف فيه القياس الجلي وما أجمع عليه القياسيون وبناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها فاتفاق من سواه على خلافه إجماع منعقد وقول المخالف حينئذ خارج من الإجماع وذكر الذهبي في الميزان أن داود اراد الدخول على الإمام أحمد فمنعه وقال كتب إلى محمد بن يحيى في أمره أنه زعم أن القرآن محدث فلا يقربني فقيل يا أبا عبد الله أنه يتقي من هذا وينكره فقال محمد بن يحيى أصدق منه (وقال) أي الباقلاني (وحكى قوم عنهما) أي عن داود والعنبري (أنّهما قالا ذلك) أي تصويب المجتهدين في أصول الدين (فِي كُلِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حاله استفراغ الوسع) أي بذل طاقته واجتهاده (في طلب الحقّ) وإن أخطأ (من أهل ملّتنا أو من غيرهم) هذا باطل قطعا لأن غير أهل ملتنا كل منهم يدعي من حاله استفراغ التوسع في طلب الحق وكماله لا سيما أهل الكتاب وقد أخبر الله أنهم وغيرهم اجمعون كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (وقال نحو هذا القول) المنسوب إليهما (الجاحظ وثمامة) بضم المثلثة وكلاهما من المعتزلة قال الحلبي أما الجاحظ فهو الكناني الليثي البصري العالم المشهور صاحب التصانيف المشهورة في كل فن قال المسعودي ولا نعلم أحدا من الرواة وأهل العلم وأكثر كتبا منه وله مقالة في أصول الدين وإليه تنسب الفرقة الجاحظية من المعتزلة وكان تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن يسار البلخي المتكلم المشهور ومن أحسن تصانيفه كتاب حياة الحيوان الكبير فقد جمع فيه كل غريبة وكتاب البيان والتبيين وهو كبير جدا وكتاب في اللصوصية يعلم فيه الشخص كيف يسرق وينقب ويتسلق ويدخل البيوت في مجلد وكتاب في مدح البخل بحيث الناظر فيه يجلس اليوم واليومين لا يأكل شيئا ويبقى أياما لا تطيب نفسه باخراج شيء وكان الجاحظ مع فضله مشوه الخلق قيل له الجاحظ لأن عينيه كانتا جاحظتين والجحوظ النتوء وأصابه في آخر عمره فالج فكان يطلي شقه الأيمن بالصندل والكافور من شدة الحرارة وشقه الآخر لو قرض بالمقاريض لما احس به وأصابه الحصى وعسر البول توفي سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة وقد نيف على التسعين وأما ثمامة فهو ابن أشرس النميري قال الذهبي في الميزان من كبار المعتزلة ومن رؤوس الضلالة كان له اتصال بالرشيد ثم بالمأمون وكان ذا نوادر وملح قال ابن حزم كان ثمامة يقول إن العالم فضله الله بطباعه لأن المقلدين من أهل الكتاب وعباد الأصنام لا يدخلوا النار بل يصيرون ترابا وأن من مات مصر على كبيرة خلد في النار وأن أطفال المؤمنين يصيرون ترابا انتهى ولا يخفى أنه بقوله صاحب الكبيرة مخلد في النار مبتدع موافق للخوارج والمعتزلة وبقوله المقلد للكفار لا يدخل النار دخل في جملة الكفرة (في أنّ كثيرا من العامّة) أي الجهلة (والنّساء والبله) بضم الباء جمع أبله أي المغفلون عن الشر المطبوعون على الخير وكأنه أراد بهم من لم يكن لهم عقل الآخرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 بخلاف حديث أكثر أهل الجنة البله فإن المراد بهم من ليس لهم عقل الدنيا ولهم إقبال كلي على العقبى (وَمُقَلِّدَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ عليهم إذا) وفي نسخة إِذْ (لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طِبَاعٌ يُمْكِنُ مَعَهَا الاستدلال) وهذا كلام باطل لاقتدارهم في الجملة على معرفة أوائل الأدلة ولقوله تعالى قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ففيه إيماء إلى أن المدار على المشيئة الإلهية لا بالإدلة العقلية ولا النقلية (وقد نحا) أي مال (الغزاليّ) بتشديد الزاء وتخفيفها نسبة إلى غزالة قرية من قرى طوس أو إلى بنت كعب الأحبار فإنها جدته وقيل كان والده غزالا يغزل الصوف ويبيعه (قريبا) وروي إلى قريب (من هذا المنحى) أي المسلك (في كتاب التّفرقة) وهو صاحب المؤلفات الفائقة وهو الإمام حجة الإسلام ولد بطوس بلد بخراسان لا بالعراق كما قاله التلمساني سنة خمسين وأربعمائة وتفقه ببلده على أحمد بن محمد الرادكاني ثم سافر إلى جرجان إلى أبي نصر الإسماعيلي فكتب عنه العقلية ثم خرج إلى طوس ثم ارتحل إلى إمام الحرمين بنيسابور فاشتغل عليه ولزمه وصار إماما في مذهب الشافعي فلما انقضت أيام الإمام خرج من نيسابور فجال في أقطار خراسان مدة وقدم بغداد سنة أربع وثمانين فولي تدريس النظامية بها ثم حج واستناب أخاه في التدريس ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بجامعها بالمنارة الغربية منه واجتمع بالشيخ نصر المقدسي في زوايته التي تعرف اليوم بالغزالية وأخذ في العبادة والتنصيف ويقال إنه صنف الأحياء وعدة من الكتب هنالك ثم انتقل إلى القدس ثم سار إلى مصر والإسكندرية ثم رجع إلى بغداد وعقد بها مجلس الوعظ وترجمته كثيرة ومرتبته شهيرة توفي سنة خمس وخمسمائة عن خمس وخمسين سنة بطوس لا ببغداد كما ذكره الحلبي وغيره وعن الشيخ تقي الدين بن تيمية أنه ذكر في شرح العقيدة الأصفهانية كان أبو حامد مزجي البضاعة في الحديث ولهذا يوجد في كتبه من الأحاديث الموضوعة ما لا يعتمد عليه من له علم بالآثار ويوجد فيها من مقالات المتفلسفة ما نقده عليه علماء الإسلام حتى قال صاحبه أبو بكر بن العربي مع شدة تعظيمه له شيخان أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منها فما قدر انتهى وقال أبو بكر ابن العربي لقيت أبا حامد وهو يطوف عليه مرقعة فقلت يا شيخ العلم والتدريس أولى لك من هذا إذ بك يقتدي ويحكمك إلى معالم المعارف يهتدي فقال هيهات لما طلع قمر السعادة في فلك الإرادة أشرقت شموس الأفول على مصابيح الأصول فتبين الخالق لأرباب الألباب وذوي البصائر إذ كل لما طبع عليه راجع وصائر وأنشد: تركت هوى ليلى وأني بمعزل ... وصرت إلى مصحوب أول منزل ونادتني الأكوان حتى أجبتها ... ألا أيها الساري رويدك فأنزل فعرست في دار الندا بعزيمة ... قلوب ذوي التعريف عنها بمعزل غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد ... لغزلي نساجا فكسرت مغزلي وهي أبيات لرومية (وقائل هذا كلّه) كالجاحظ وثمامة (كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 يكفّر أحدا من النّصارى واليهود) يعني المقلدين منهم وكذا المجوس على ما يلوح كلام بعضهم. وأن نار بالتنزيل محراب مسجد ... فما نار بالإنجيل هيكل بيعه وأن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار عن ألف حجه فما عبدوا غيري وما كان قصدهم ... سواي وإن لم يظهروا عقدنيه نعم لا شك أن الكل يزعمون أنهم يعبدون الله ويطلبون رضاه كما أخبر الله عن بعضهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ لكنهم اضلهم الله وأبعدهم عن طريق الحق الموصل إلى الله كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وأكثرهم في طغيانهم يعمهون صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (وكلّ) أي وبالإجماع على كفر كل (من فارق دين المسلمين) بردة قولا وفعلا (أو وقف) أي توقف (في تكفيرهم) أو في الدين (أو شكّ) أي تردد فيه (قال القاضي أبو بكر) أي الباقلاني (لأن التّوقيف) أي بالسماع من الله ورسوله (والإجماع اتّفقا عَلَى كُفْرِهِمْ فَمَنْ وَقَفَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ كذّب النّصّ) أي نص الكتاب (والتّوقيف) به من السنة على الصواب (أَوْ شَكَّ فِيهِ وَالتَّكْذِيبُ أَوِ الشَّكُّ فِيهِ) أي في كفرهم (لا يقع) كل منهما (إلّا من كافر) . فصل (فِي بَيَانِ مَا هُوَ مِنَ الْمَقَالَاتِ كُفْرٌ وَمَا يُتَوَقَّفُ أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ وَمَا لَيْسَ بكفر) وهذا فصل مهم يتعين معرفته على كل من له فضل ليكون اعتقاده على اساس أصل يوصله إلى كمال وصل (اعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ هَذَا الْفَصْلِ وَكَشْفَ اللَّبْسِ) أي إزالة الخلط والشبهة (فيه مورده الشّرع) أي النقل من الكتاب والسنة (ولا مجال) أي لا مدخل (للعقل) والطبع (فيه) من الأدلة الكاسدة والأقيسة الفاسدة (والفصل البيّن) أي الفرق الواضح (في هذا) الفصل (أنّ كلّ مقالة صرّحت بنفي الرّبوبيّة) كالمعطلة (أو الوحدانيّة) كالوثنية (أو عبادة أحد غير الله) كالاتحادية (أو مع الله) كالحلولية (فهي كفر) أي مقالة كفر (كمقالة الدّهريّة) بنفي الألوهية كما أشار إليه قوله تعالى وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وهو الزمان الطويل ولم يعلموا أن المتصرف في الأمر هو الله لا الدهر ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله وفي رواية فإن الله هو الدهر ردا لاعتقادهم نسبة الخير والشر إلى الدهر (وسائر فرق أصحاب الاثنين) أي القائلين بأن خالق الخير غير خالق الشر وقد قال تعالى لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وقد بينهم المصنف بقوله (من الدّيصانيّة) بكسر الدال المهملة وتفتح وهم يقولون النور حي والظلمة ميت (والمانويّة) بفتح الميم وسكون الهمزة ويبدل وفتح النون وفي أصل الحجازي المنائية بفتح الميم وتشديد النون وفي نسخة المانية منسوب إلى ماني زنديق مشهور ظهر في زمان شابور بن أردشير وادعى النبوة وقال إن للعالم أصلين قديمين نور هو مبدأ الخير وظلمة هو مبدأ الشر فصدقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 فلما تولى بهرام سلخه وحشا جلدة تبنا وقتل أصحابه إلا من هرب إلى الصين ودعا إلى دينه وأهل الصين إلى زماننا هذا على مذهبه كذا ذكره بعضهم فأجيب وقد كذبهم المتنبي في شعره فقال: وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر أن المانوية تكذب قال وللمانية مذهبان منهم من يقول إن النور والخير والروح خلقه إله والشر والظلمة والجسد خلقه إله وهم ثنوية ومنهم من يقول الخير كله في النور والشر كله في الظلمة والفرق بينهم وبين الديصانية أنهم يقولون النور والظلمة حيان وفي أصل التلمساني المانية بفتح الميم والنون المشددة والظاهر أنه تصحيف (وأشباههم) أي ممن عبد غير الله تعالى (من الصّابئين) بالهمز ودونه من صبأ إذا خرج من دين إلى دين آخر وهم فرقة عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة لا عتقادهم تأثيرها في عالم العناصر مدبرة لأمور قديمة شفعاء للعباد عند الله مقربة لهم إليه زلفى ويزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام (والنّصارى) وهم طوائف ثلاث مشهورة يقولون تدرع الناسوت باللاهوت بطريق الامتزاج كالخمر بالماء عند الملكائية وبطريق الإشراق كالشمس في كوة بلور عند النسطورية وبطريق الانقلاب لحما ودما بحيث صار الإله هو المسيح عند اليعقوبية (والمجوس) القائلين بخالقين يزدان وهو مبدأ الخير وأهرمن وهو الشيطان مبدأ الشر وهم يعبدون النار لمحبتهم في النور وفي الحديث القدرية مجوس هذه الأمة قيل لمشابهتهم في قولهم بأصلين نور وظلمة فالخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة وكذا القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى الإنسان أو الشيطان (والّذين أشركوا بعبادة الأوثان) أي الأصنام (أو الملائكة أو الشّياطين) أي الجن فإن إبليس لم يعبد قط وأما قوله تعالى لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ فمعناه لا تطيعوه فيما يأمركم بالعصيان (أو الشّمس) وكذا القمر (أو النّجوم) أي جنسها أو نجم خاص منها كالشعري (أو النّار) فيه نوع من التكرار (أَوْ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وأهل الهند) وهم الهنود (والصّين) مملكة بالمشرق فيها الترك من الكفرة (والسّودان) بضم أوله جمع أسود وهم كثيرون قيل معمور الأرض مسافة مائة سنة منها ليأجوج ومأجوج ثمانون سنة ومنها للسودان ست عشرة سنة وقيل ثماني عشرة ومنها لأولاد سام ما بقي (وغيرهم ممّن لا يرجع إلى كتاب) أو يرجع إليه لكن لا على طريق صواب (وكذلك القرامطة) وهم الإسماعيلية لإثباتهم الإمامة لإسماعيل بن جعفر الصادق وأصل دعوتهم إلى بطلان الشرائع لأن طائفة من المجوس عند استيلاء الإسلام وغلبة أهله الكرام راموا تأويلها على وجوه تعود إلى قواعد اسلافهم يستدرجون بها ضعفاء المسلمين وأهل غفلتهم استدراجا يورثهم اختلافا واضطرابا في شريعتهم ورئيسهم حمدان من قرمط قرية من قرى واسط فلقبوا بالقرامطة ورتبوا في الدعوة إلى ذلك مهملات باطلة ابتدعوها وخرافات عاطلة اخترعوها منها إباحة المحرمات والترغيب في اللذات كقولهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 الوضوء موالاة الإمام الذي هو الحجة والتيمم الأخذ عما دونه في غيبته والصلاة الوصول والزكاة تزكية بمعرفة ما هو عليه من الدين والاحتلام إفشاء شيء من اسرارهم إلى من ليس من أهله بلا قصد والغسل تجديد العهد والجنة راحة الأبدان من التكاليف والنار مشقتها بمزاولة التكاليف وأمثال ذلك مما يقتضي تكفيرهم هنالك ولهم ألقاب سبعة (وأصحاب الحلول) من النصارى والباطنية والوجودية والنصيرية يزعمون أن الله حل في علي وأولاده (والتّناسخ) القائلين بانتقال الأرواح من أبدانها إلى أبدان أخر في الدنيا (من الباطنّية) وهم الإسماعيلية وهذا من ألقابهم السبعة ولقبوا به لقولهم بباطن القرآن دون ظاهر المفهوم منه لغة ويدعون أنه هو المراد منه وأن نسبته إليه كنسبة اللب إلى القشر فظاهره عذاب بمشقة التكاليف وباطنه مؤدي إلى تركها وتمسكوا فيه بقوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ وهذا مذهب النصيرية أيضا فإن قيل المبتدعة وهذه الطائفة المخترعة يتمسكون بالقرآن وكذلك أهل السنة والجماعة فالجواب أنه تعالى قال يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً فإن القرآن كالنيل ماء للمحبوبين ودماء للمحجوبين كما أشار إليه قوله تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً وبهذا يعلم أن الفرقة الناجية هم الذين على ما عليه النبي وأصحابه الكرام وأن معالم القرآن لا تنكشف حقيقة إلا ببيان النبي عليه الصلاة والسلام ما فيه من الأحكام النازلة على طريق الإبهام كما يدل عليه قوله عز وجل لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فما ضل قلم من ضل ولا زل قدم من زل إلا من ترك علم الحديث من صريح النقل وتبع أهواءه وآراء الناشئة من أثر الجهل والخيالات الفاسدة والتصورات الكاسدة الكائنة من مجردة العقل فالجمع بين النقل والعقل نور على نور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم هنا دقيقة يترتب عليها حقيقة وهي أن الواجب على السالك أن يجعل العقل تابعا للنقل لا بالعكس لئلا يقع في المهالك هذا ومن التناسخية طائفة الخطابية وهم اتباع أبي الخطاب محمد بن أبي وهب كان يزعم أن عليا الاله الأكبر وجعفر بن محمد الصادق إلاله الاصغر يقولون بالتناسخ يزعمون أن الله حل في علي ثم في الحسن ثم في الحسين ثم في زين العابدين ثم الباقر ثم في الصادق حكى ذلك عنهم فخر الدين الرازي في مختصره في الملل والنحل كما زعمت في عيسى النصارى حيث قالوا كما أخبر الله تعالى بقوله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إنما كفروا لحصرهم الألوهية في ابن مريم بناء على أصلهم الفاسد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا قال التلمساني ومن الباطنية ينسبون إلى التصوف يتظاهرون بالإسلام وإن لم يكونوا مسلمين في الأحكام والفساد اللازم من هؤلاء على الدين الحنيفي أكبر من الفساد اللازم عليه من جميع الكفار فإنهم يصرفون ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الإفهام شيء كقول بعضهم في تأويل قوله تعالى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى إشارة إلى قلبه وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان وفي قوله تعالى أَلْقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 عَصاكَ أي كل ما يعتمد عليه مما سوى الله وفي قوله عليه الصلاة والسلام تسحروا فإن في السحور بركة أراد به الاستغفار في الإسحار انتهى والحق إنهم إن أرادوا بذلك إبطال ظواهر الكتاب والسنة فهم كفرة وإن أرادوا بذلك أن للكتاب والسنة عبارات واضحات وإشارات لائحات فهذا نور على نور وسرور على سرور ويشير إليه قول مالك من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن جمع بينهما فقد تحقق وأنا بحمد الله وحسن توفيقه وبركة متابعة سيد الأنبياء جمعت تفسيرا جامعا بين عبارات الأصفياء وإشارات الأوفياء (والطّيّارة من الرّوافض) ويسمون الجناحية وهم أصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين قالوا الأرواح تتناسخ وروح الله كانت في آدم ثم في شيث ثم في الأنبياء والأئمة حتى انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة ثم إلى عبد الله بن معاوية المذكور وهو في جبل بأصبهان وسيخرج وأنكروا القيامة وأحلوا المحرمات (وكذلك من اعترف بالإلهيّة اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَلَكِنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ حَيٍّ أو غير قديم وأنّه محدث) أي موجود بعد عدم (أو مصوّر) بصورة كالهشامية أصحاب هشام بن الحكم وهشام بن سلام فإنهم اتفقوا على أنه سبحانه وتعالى جسد وهو كسبيكة بيضاء صافية يتلألأ من جانب وله لون وطعم ورائحة وليست هذه الصفات غيره ويقوم ويقعد وله مشابهة بالأجسام ويعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل منه إليه وهو سبعة أشبار بأشبار نفسه مماس للعرش بلا تفاوت بينهما وارادته حركته لا عينه ولا غيره والأئمة معصومون دون الأنبياء لأنهم يوحى إليهم ويتقربون إليه بخلافهم لا يوحى إليهم فوجب أن يكون الإمام معصوما وقال ابن سلام هو على صورة إنسان له يد ورجل وحواس خمس وأنف وأذن وعين وفم ووفرة سوداء نصفه الأعلى مجوف والأسفل مصمت ليس بلحم ولا دم انتهى وابطله كله قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ولعل الحكمة في عدم تجويز رؤيته تعالى في الدنيا أن لا يدعي كل مبطل أني رأيته على هذه الصورة سبحانه وتعالى (أو ادّعى له ولدا) أي ابنا كاليهود والنصارى أو بنات كبعض العرب (أو صاحبة) أي زوجة كالنصارى (أو والدا) أي بأن يكون له أصل أو عنصر أو منبع أو معدن أو مصدر بحسب ذاته وجميل صفاته (أو متولد من شيء) هو كالتفسير لما قبله وكذا قوله (أو كائن) أي حادث (عنه) أي عن شيء قديم أو حادث والحاصل أنه ليس بحادث ولا بمحل للحوادث كما أشار إلى ذلك كله قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (أَوْ أَنَّ مَعَهُ فِي الْأَزَلِ شَيْئًا قَدِيمًا) أي فضلا عن حادث إذ لا يتصور (غيره) أي غير ذاته وصفاته وأما ما ذكره بعض شراح الفصوص من قدم الأرواح مطلقا أو قدم أرواح الكمل فباطل قطعا وكفر إجماعا (أو أنّ ثمّ صانعا للعالم سواه) أي سوى الله كالدهرية وأما قول الدلجي كمشركي العرب فليس في محله لقوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (أو مدبّرا غيره) كما يقول المنجمون من أن النجوم مدبرات والله سبحانه وتعالى يقول إنها مسخرات (فذلك كلّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَقَوْلِ الْإِلَهِيِّينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ) القائلين بالوجود المطلق وقال التلمساني هم قوم من حكماء النهد يدعون قدم الطينة ويزعمون أن العالم قديم وينكرون حشر الأجساد (والمنجّمين) الباحثين عن النجوم وأحوالها قيل للإسكندر الرومي كنا عند منجم في بستانه فأرانا النجم نهارا واحدا واحدا ببرهانه فوقع في بئر فيه وهو لا يدري فقال من تعاطى علم ما فوقه جهل علم ما تحته وقال التلمساني من نسب التدبير إلى النجوم واعتقد أنها فعالة فهو كافر لأنه جعل مع الله شركاء ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي أصبح من عبادي مؤمن وكافر الحديث فقائله تجرى عليه أحكام المرتد وإن كان يقول عادة الله بأن يخلق عندها فقيل كافر وقيل فاسق الأول سدا للذريعة وقال بعضهم الإفلاكية يقولون بإلهية الكواكب وما يقوله المنجم من كسوف وغيره هو بالحساب ولكن فيه فتنة ضعفاء العقول فيؤدب على ذلك وأما من يحكم بالكواكب في مولد أو وفاة أو غلاء أو رخص أو دولة أو زوالها فهو من أصل الكفر وروي أن النجوم إنما خلقها الله زينة للسماء الدنيا ورجوما للشياطين وهداية في البر والبحر (والطّبائعيّين) القائلين بتأثير الطبيعة في الإيجاد والتدبير في أمر البدن على ما عليه الأطباء التابعين للحكماء المعتقدين الهية الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وقيل هم الذين يقولون إن النار بطبعها محرقة وأن الماء بطبعه مغرق وأن الطعام والشراب بنفسهما مشبع ومزيل للعطش وقد أبطلها الله سبحانه وتعالى بقوله يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وبتنجية موسى وقومة وإغراق فرعون وجنده وبعلة جوع البقر ومرض الاستسقاء ونحن نقول يقع ذلك الإحراق والإغراق ونحوهما عند وجود أسبابها بخلق الله عز وجل فيها لا بمجرد وجودها لاحتمال انقلابها (وَكَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى مُجَالَسَةَ اللَّهِ وَالْعُرُوجَ إِلَيْهِ ومكالمته) وكذا من ادعى رؤيته سبحانه وتعالى في الدنيا بعينه كما بينته في شرح الفقه الأكبر (أو حلوله في أحد الأشخاص) كعلي ونحوه مما سبق بيانه أو في جميع الأشخاص والأشياء (كقول بعض المتصوّفة) أي المتشبهة بالصوفية من الحلولية والوجودية والاتحادية كابن سبعين والعفيف التلمساني التبريزي زعموا أن السالك إذا أمعن في سلوكه وخاض في لجة وصوله واستغرق في بحر حضوره فربما حل فيه سبحانه وتعالى كالنار في الفحم فيرتفع الأمر والنهي ويظهر من العجائب والغرائب ما لا يتصور من البشر وعن متصوفة أهل مصر أنه كان يقول لاصحابه طوفوا ببيت الرب يعني قلبه فيدورون حوله (والباطنيّة والنّصارى والقرامطة) وقد سبق الكلام عليهم (وكذلك نقطع) أي القول (على كفر من قال بقدم العالم) أي جميعه أو بعضه (أو بقائه) أي بذاته سواء يبقى أو يفنى كما يشير إليه قوله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ أي قابل للهلاك والفناء إلا الله سبحانه وتعالى فإنه بذاته دائم البقاء (أو شكّ في ذلك) أي في كونه قديما (على مذهب بعض الفلاسفة والدّهريّة) القائلين باستناد الحوادث إلى الدهر (أو قال بتناسخ الأرواح وانتقالها) من الأشباح (أبد الآباد) جمع بينهما للتأكيد أي دائما في الدنيا (في الأشخاص) من بدن إلى بدن آخر (وتعذيبها أو تنعّمها فيها) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 أي في الأشخاص (بحسب زكائها) بالهمزة أي طيب عنصرها (وخبثها) بضم أوله أي خبث أصلها (وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَكِنَّهُ جَحَدَ النّبوّة من أصلها عموما) كأن يقول ما نبأ الله أحدا من خلقه (أو) جحد (نبوّة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم خصوصا) وكذا إذا أقر بنبوته ونفى رسالته عموما (أو أحد) أي جحد نبوة أحد (من الأنبياء الّذين نصّ الله عليهم) بأنه نبي (بعد علمه بذلك) أي بأنه نبي (فهو كافر بلا ريب) أي من غير شك وشبهة (كالبراهمة) وهم قوم بأرض الهند لا يجيزون على الله بعثة الرسل (ومعظم اليهود) ينكرون نبوة عيسى مطلقا وعموم رسالة نبينا عليهما الصلاة والسلام (والأروسيّة) بضمتين أو بفتح أوله وفي آخره ياء نسبة ويقال أرسية (من النّصارى) قيل هو فرقة من رهط هرقل وقيل هم اتباع عبد الله بن ادريس كان في الزمن الأول قتلوا نبيا بعث إليهم (وَالْغُرَابِيَّةِ مِنَ الرَّوَافِضِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ) أي هو (المبعوث إليه جبريل) وسموا بذلك لقولهم على أشبه بمحمد من الغراب بالغراب فغلط جبريل حين بعث إلى علي لشبه النبي به وهذا كذب وبهتان لأن عليا ما كان شبيها بالنبي عليه الصلاة والسلام كما يعلم من شمائلهما الكرام وقد سبق في أول الكتاب بيان شمائله عليه الصلاة والسلام وأما شمائل علي كرم الله وجهه فإنه كان آدم شديد الأدمة عظيم العينين أقرب إلى القصر من الطول ذا بطن كثير الشعر عريض اللحية أضلع أبيض الرأس والحية كذا في اسماء رجال المشكاة لمصنفه بل أقول ولم يوجد أحد يشبهه من جميع الوجود نعم كان الحسن يشبهه بالنصف الأعلى والحسين بالنصف الأسفل لكن لا شباهة تورث الشبهة إنما هي شباهة في الجملة وقد قال الصديق الأكبر حين حمل أحدهما أنت شبيه بالنبي دون أبيك ولا يخفى وجوه كفرهم من إنكار النبوة لمحمد وإثباتها لعلي وتخطئة جبريل وتجهيل الرب الجليل ونقل أنهم يلعنون صاحب الريش ويعنون جبريل عليه الصلاة والسلام (وكالمعطّلة) أي للموجود ينفي صانعه كالدهرية أو النافية لحقيقة الأشياء القائلة بأن الأشياء كلها خيالات وتمويهات كالمنامات وهم السوفسطائية (والقرامطة) وهم الملاحدة الذين قتلوا أهل مكة حتى دفنوا ببئر زمزم موتاهم وصعد واحد منهم فوق باب الكعبة وقال الم تقولوا إن الله قال وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً فأي أمن لكم مع هذا القتل فيكم فأجابه بأن معناه ومن دخله أمنوه ولا تتعرضوا له وحاصله أنه ليس بخير حتى يلزم الخلف في قوله وإنما هو حكم ولا يلزم من تخلف الحكم نقصان في الحاكم وهم الذين أخذوا الحجر الأسود معهم قيل ومات تحته سبعون جملا وقد أعطاهم أمراء المسلمين مالا كثيرا لتخليص الحجر الأسود فمارضوا حتى وقع فيهم الوباء والغلاء وأنواع البلاء فارسلوه قيل جاء به جمل واحد بعون الله سبحانه وتعالى وفيه إيماء إلى استثقاله الخروج من مكة واستخفافه اشتياقا إلى الكعبة (والإسماعيليّة) وهم هم وإنما اختلف ألقابهم كذا قاله الدلجي وقال التلمساني الإسماعيلية من الباطنية وهم قوم اثبتوا إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق وقيل لأن رئيسهم ينسب لمحمد بن إسماعيل بن جعفر وهو الصادق وقيل فرقة من الامامية من الرافضة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 ينسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق حيث يزعمون أن الإمام بعد جعفر الصادق إسماعيل ابن جعفر ولكن لما مات إسماعيل في حال حياة أخيه عادت الامامة إلى أخيه قال تقي الدين أبو العباس بن تيمية أن الإسماعيلية في القرامطة الباطنية اتباع الحاكم الذي كان بمصر وكان دينهم دين أصحاب رسائل إخوان الصفا من أئمة منافقي الأمم الذين ليسوا مسلمين ولا يهودا ولا نصارى انتهى والله سبحانه وتعالى اعلم (والعنبريّة من الرّافضة) وهم المنسوبون إلى عبيد الله بن الحسن العنبر قاضي البصرة الذي جوز التقليد في العقائد والعقليات وقد تقدم في الفصل قبله كذا ذكره التلمساني وقد سبق أن إيماء المقلد صحيح عند عامة العلماء وفي نسخة صحيحة والعبيدية وهم من بني عبيد ابن بنت القداح اليهودي اسملت أمة فتزوجها شريف فزعم عبيد انه ابنه ودعا الناس إلى أن يبايعوه بالخلافة فطلب فلحق بالمغرب وبويع له بها وتولى من بنيه بمصر أربعة عشر خليفة ثم أخذها منهم نور الدين الشهيد (وإن كان بعض هؤلاء) الطوائف المذكورين (قد أشركوا) بصيغة الفاعل أو المفعول ويروى اشتركوا (في كفر آخر مع من قبلهم) ككفر بعض الرافضة بتكفيرهم الصحابة وقذف عائشة مع مشاركتهم من قال بالهين في كفره باعتقادهم الهية علي أولاده أو حلوله سبحانه فيهم (وكذلك من دان بالوحدانيّة وصحّة النّبوّة) أي نبوة الأنبياء جميعهم (ونبوّة نبيّنا عليه الصلاة والسلام) أي ورسالته عامة (وَلَكِنْ جَوَّزَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْكَذِبَ فِيمَا أَتَوْا به ادّعى في ذلك) الكذب (الْمَصْلَحَةَ بِزَعْمِهِ أَوْ لَمْ يَدَّعِهَا فَهُوَ كَافِرٌ بإجماع) بلا نزاع (كالمتفلسفين) من الحكماء (وبعض الباطنيّة) كالوجودية (والرّوافض) أي وبعضهم (وغلاة المتصوّفة) أي من الجهلة (وأصحاب الإباحة) وهم الملاحدة وفي نسخة الإباحية وهم فرقة من غلاة المتصوفة وجهلتهم ويقال لهم المباحية يدعون محبة الله وليس لهم من المحبة حبة يخالفون الشريعة ويزعمون أن العبد إذا بلغ في الحب غاية المحبة يسقط عنه التكليف ويكون عبادته بعد ذلك التفكر وهؤلاء شر الطوائف وكأنهم استندوا في معتقدهم إلى قوله تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ وقد اجمع المفسرون على أن المراد باليقين الموت هنا لأن عين اليقين متوقف على ذلك الحين فالمعنى اعبد ربك بالعلم اليقين حتى يأتيك عين اليقين وقد يقال إن العبادة حال اليقين أولى وأعلى كما يشير إليه قوله عليه السلام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وقد قيل له عليه الصلاة والسلام حين تورمت قدماه في القيام بعد المنام اتتكلف هذا وقد غفر الله لك ذنبك فقال أفلا أكون عبدا شكورا (فَإِنَّ هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ ظَوَاهِرَ الشَّرْعِ وَأَكْثَرَ ما جاءت به الرّسل من الأخبار) بكسر أوله أي الأنباء (عمّا كان ويكون من أمور الآخرة) كعذاب القبر (والحشر) أي الجمع وكذا النشر؛ (والقيامة) أي مواقفها من الميزان والحوض والصراط؛ (وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى مُقْتَضَى لفظها) الظاهر (ومفهوم خطابها) الباهر (وإنّما خاطبوا بها) أي الرسل (بها) أي بالأشياء المذكورة (الخلق) أي الأمة (عَلَى جِهَةِ الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ إِذْ لَمْ يُمْكِنْهُمُ التّصريح) لتحقيق مرامهم (لقصور أفهامهم فمضمّن مقالاتهم) بضم الميم الأولى وفتح الثانية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 المشددة أي مضمونها (إبطال الشّرائع) بهذه الذرائع (وتعطيل الأوامر والنّواهي) بهذه الهذيانات الداعية إلى الملاهي (وتكذيب الرّسل) تلويحا (والارتياب) أي الإيقاع في الشك (فيما أتوا به) أي الأنبياء تصريحا (وَكَذَلِكَ مَنْ أَضَافَ إِلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم تعمّد الكذب فيما بلّغه) بتشديد اللام أي أوصله عن ربه (وأخبر به) أحدا من أمته (أو شكّ في صدقه) تهمة منه في حقه (أو سبّه) أي شتمه أو تنقصه (أو قال إنّه لم يبلّغ) جميع ما أنزل عليه وقد قال تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وقال فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وأراد نفيه عنه (أو استخفّ) أي احتقر واستهزأ (بِهِ أَوْ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ أَزْرَى) أي عاب (عليهم) أي جميعهم أو بعضهم (أَوْ آذَاهُمْ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ حَارَبَهُ فهو كافر بإجماع) من علماء المسلمين (وكذلك نكفّر من ذهب مذهب بعض القدماء) من الحكماء (أَنَّ فِي كُلِّ جِنْسٍ مِنَ الْحَيَوَانِ نَذِيرًا) أي رسولا منذرا (ونبيّا) غير مأمور بالتبليغ (من القردة؛ والخنازير والدّوابّ والدود وغير ذلك) كالحيوانات المائية والطيور الهوائية؛ (وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر: 24] أي مضى ويجعل الأمة أعم لقوله تعالى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ (إذ ذلك) الذي زعمه غير ثابت بالنقل الصريح ويدل على بطلانه العقل الصحيح لأنه (يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُوصَفَ أَنْبِيَاءُ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ بصفاتهم المذمومة وفيه) أي وفي كل جنس من صور بشيعة وسير شنيعة (من الإزراء) أي العيب والمنقصة (على أهل هذا المنصب) بكسر الصاد أي منصب النبوة (المنيف) بضم الميم أي الرفيع الشريف (ما فيه) مما لا يليق بعلو شأنهم وسطوع برهانهم (مع إجماع المسلمين على خلافه و) على (تكذيب قائليه) ولعل سند الإجماع قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا أي لا نساء ولا جنا وإنما الخلاف في أنه هل كان في الجن رسول من جنسهم أم لا فالجمهور على أن الرسل من الانس خاصة وتعلق قوم بظاهر قوله تعالى امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ وأجيب بأن الآية من قبيل قوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وهما يخرجان من الملح دون العذب وقيل المراد رسل من الجن أرسلهم الرسل من البشر لينذروهم ويدعوهم إلى الإيمان فيصدق عليهم أنه أتى الجن رسل لكن لا من الله بل من الأنبياء ويؤيده قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ الآيتين (وَكَذَلِكَ نُكَفِّرُ مَنِ اعْتَرَفَ مِنَ الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ بما تقدّم) من الألوهية والوحدانية والنبوة مطلقا (ونبوّة نبيّنا عليه الصلاة والسلام) أي ورسالته إلى عامة الأنام (ولكن قال كان أسود) وينبغي أن يفيد هذا بما إذا أراد احتقاره به وأما إذا قال عن جهل بشمائله فتكفيره ليس في محله لأن العلم بكونه عليه الصلاة والسلام أبيض ليس قطيعا ولا أنه مما علم من الدين بالضرورة والسواد لا ينافي النبوة فقد قال جمع بنبوة لقمان عليه السلام (أو مات قبل أن يلتحي) فإنه كذب في نفس الأمر لكن إنما يكفر إذا كان استخفافا أو استهزاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 أو تكذيبا لنبوته (أو ليس الذي كان بمكة والحجاز) الشامل لها وللمدينة يحتمل أن يكون جهلا وأن يكون تكذيبا (أو ليس بقرشي) وفيه أن العلم بكونه قريشا ليس ضروريا فغايته أن يكون كاذبا به جاهلا بوصفه ولا يلزم منه كونه مكذبا به وأغرب الدلجي حيث قال لأنه كذبه عليه الصلاة والسلام في قوله أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش فإن الحفاظ أجمعوا على أنه حديث موضوع والحاصل أنه يكفر بهذا كله إذا أراد نفي نبوته عليه الصلاة والسلام كما يشير إليه قوله (لأنّ وصفه بغير صفاته المعلومة) عند كل واحد (نفي له) أي لوجوده (وتكذيب به) أي بشهوده وسيأتي أن الجهل ببعض صفات الباري سبحانه وتعالى لا يخرجه عن الإيمان كما عليه أكثر علماء الأعيان فكيف الجهل ببعض صفاته عليه الصلاة والسلام لا سيما ولم يتعلق به حكم من شرائع الإسلام (وَكَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى نُبُوَّةَ أَحَدٍ مَعَ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام) كأصحاب مسيلمة والأسود العبسي (أو بعده كالعيسويّة) أصحاب عيسى ابن إسحاق بن يعقوب الأصبهاني كان موجودا في خلافة المنصور وهو (من اليهود) إلا أنه خالفهم في أشياء منها أنه حرم الذبائح (القائلين بتخصيص رسالته) أي نبينا (إلى العرب) خاصة (وكالخرّميّة) بضم الخاء المعجمة وتشديد الراء المفتوحة لأنهم تبعوا بابك الخرمي فنسبوا إليه قال الجوهري هم أصحاب التناسخ والإباحة وفي نسخة بجيم مفتوحة فراء ساكنة قال التلمساني ويجوز كسر الحاء المهملة وسكون الراء لقولهم ما حرم حلال لأنهم أباحوا المحرمات (القائلين بتواتر الرّسل) أي لا ينقطعون ما دامت الدنيا (وَكَأَكْثَرِ الرَّافِضَةِ الْقَائِلِينَ بِمُشَارَكَةِ عَلِيٍّ فِي الرِّسَالَةِ للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي حال وجوده (وبعده) أي وبعد فقد شهوده (فكذلك كلّ إمام) أي من الأئمة الاثني عشر (عند هؤلاء) الرافضة (يقوم مقامه في النّبوّة والحجّة) يعني إن أرادوا بها الحقيقة وإلا فالمنزلة المجازية لا توجب الكفر ولا البدعة (وكالبزيغيّة) بموحدة مفتوحة وزاء مكسورة فتحتية ساكنة فمعجمة أو مهملة (والبيانيّة) بفتح موحدة فتحتية بعدها ألف فنون وقيل الصواب بموحدة مضمومة ونونين بينهما ألف (منهم) أي من الرافضة لا من البزيغية كما توهم الدلجي (القائلين بنبوّة بزيغ) رجل غير معروف (وبيان) أي ابن إسماعيل الهندي من غلاة الروافض وقد تقدم أن اعتقادهم أن الله تعالى حل في علي وأولاده كذا ذكره الحلبي وقال التلمساني بنان بن سمعان التميمي (وَأَشْبَاهِ هَؤُلَاءِ أَوْ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ) كالمختار بن أبي عبيد الثقفي (أو جوّز اكتسابها) أي تحصيل النبوة بالمجاهدة والرياضة (والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها) أي منزلة النبوة بأخذ الفيض من جهة القلب عن الرب عز وجل (كالفلاسفة) أي الحكماء ومنهم أبو علي بن سينا صاحب الشفاء الذي يورث مرض الشقاء (وغلاة المتصوّفة) أي الجهلاء (وكذلك من ادّعى منهم) وكذا من غيرهم (أنه يوحى إليه) أي وحيا جليا لا إلهاما يسمى وحيا خفيا كما يحصل لبعض أرباب المكاشفة وأصحاب الفراسة كما يشير إليه قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي المتفرسين وقوله عليه الصلاة والسلام اتقوا فراسة المؤمن وقوله في أمتي محدثون أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 ملهمون (وإن لم يدّع النّبوّة) كعبد الله بن أبي سرح من قريش كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما نزل وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ عجب من تفصيل خلق الإنسان فقال فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال عليه الصلاة والسلام أكتبها كذلك نزلت فشك وقال لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلي كما أوحى إليه أو كاذبا لقد قلت كما قال والتحق مكة مرتدا فأهدر النبي عليه الصلاة والسلام دمه فأخذ له عثمان عام الفتح أمانا فأسلم وحسن إسلامه وكان أخاه لأمه وولاه زمن خلافته مصر (أو أنه) أي أو يدعي أنه حال اليقظة (يصعد إلى السّماء ويدخل الْجَنَّةِ وَيَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَيُعَانِقُ الْحُورَ الْعِينَ) أي البيض الواسعة الأعين وفيه أن هذا كله يقتضي الكذب لا الكفر كما لا يخفى (فهؤلاء) الطوائف (كلّهم كفّار) أي فإنهم (مكذّبون للنّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم لأنّه أخبر) عن نفسه (أنه خاتم النّبييّن لا نبيّ بعده) أي ينبأ فلا يرد عيسى لأنه نبي قبله وينزل بعده ويحكم بشريعته ويصلي إلى قبلته ويكون من جملة أمته (وَأَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) وهذا أقوى دليلا ما قبله فتأمل (وأنه أرسل كافّة) أي رسالة جامعة (للنّاس) لقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي أصالة وللجن تبعا (وأجمعت الأمّة على حمل هذا الكلام) الذي صدر عنه عليه الصلاة والسلام (على ظاهره) لعدم صارف عنه (وأنّ مفهومه المراد به) هو المقصود منه (دون تأويل) في ظاهره (ولا تخصيص) في عمومه (فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ. كُلِّهَا) أي لتكذيبهم الله ورسوله (قطعا) أي بلا شبهة (إجماعا) بلا مخالفة (وسمعا) أي وسماعا من الكتاب والسنة ما يدل على كفرهم بلا مرية (وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ كُلِّ مَنْ دافع نصّ الكتاب) القديم وحمله على خلاف ما ورد به من المعنى القويم كحمل بعض المتصوفة قوله تعالى في قوم نوح مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً على ما حاصله أغرقوا في بحر المحبة فأدخلوا نارها ووجد الله دون غيره أنصارهم وكذلك قوله في قوله تعالى وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أن الكلام تم في أوتي وأن رسل الله مبتدأ وخبره الله واعلم خبر مبتدأ محذوف وأمثال ذلك مما صدر عنهم هنالك (أو خصّ حديثا) أي أو دافع صريح حديث (مجمعا على نقله مقطوعا به) أي بصحته (مجمع على حمله على ظاهره) من غير تأويله وفي نسخة أو خص حديثا مجمعا على نقله من جهة مبناه وحمله على ظاهره من جهة معناه (كتكفير الخوارج بإبطال الرّجم) بالجيم للمحصن الثيب ولم يشرط الشافعي الإسلام في الرجم لظاهر حديث الموطأ وغيره أن اليهود أتوا رسول الله تعالى عليه وسلم برجل وامرأة من اليهود قد زنيا فرجمهما وشرطه أبو حنيفة ومالك لحديث من أشرك بالله فليس بمحصن ثم اعلم أن العلماء اجمعوا على وجوب جلد الزاني البكر مائة وهو الثابت بالآية ورجم المحصن الثيب المأخوذ من الآية المنسوخة تلاوة لا حكما وهو قوله تعالى (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) وقد عمل بها صلى الله تعالى عليه وسلم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 حال حياته وكذا الصحابة بعد وفاته ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة إلى ما حكوه عن الخوارج وبعض المعتزلة كالنظام وأصحابه فإنهم لم يقولوا بالرجم ومن مذهبهم أن الإجماع ليس يحجة ويرده قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وقوله عليه الصلاة والسلام إن الله لا يجمع أمتي على الضلالة وبالإجماع على أن الإجماع حجة بل أقوى الحجة وأنه كان سندهم من الكتاب والسنة (ولهذا) أي ولقولنا بتكفير الخوارج بما ذكر كذا ذكره الدلجي وكان الأولى للمصنف رحمه الله تعالى أن يقول وكذا (نكفّر من دان) أي تدين (بغير ملّة المسلمين من الملل) أي الخارجة عن ملتهم (أو وافق فيهم) أي ولو في بعض الأحكام أي مع بقائه على ملة الإسلام وفي أصل الدلجي أو وقف فيهم أي توقف في تكفير من ذكر (أوشكّ) أي تردد (أو صحّح مذهبهم) بدليل عقلي أو نقلي (وإن أظهر مع ذلك) التوقف أو الشك أو التصحيح (الإسلام) أي الإيمان وانقياد ما فيه من الأحكام (واعتقده) أي الإسلام (واعتقد إبطال كلّ مذهب سواه) أي في باطنه وفيه أن توقفه أو شكه ينافيه (فَهُوَ كَافِرٌ بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ مِنْ خِلَافِ ذلك) ففي الفتاوى الصغرى من شبه نفسه باليهود أو النصارى على طريق المزح والهزل كفر (وكذلك نقطع بتكفير كلّ قائل) وروي كل من (قَالَ قَوْلًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى تَضْلِيلِ الْأُمَّةِ) المرحومة (وتكفير جميع الصّحابة) وهذا للإجماع ولقوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ كذلك تكفير بعض الصحابة عند أهل السنة والجماعة بخلاف الخوارج والروافض (كقول الكميليّة من الرافضة) قيل والصواب كما قال الإمام الرازي من غلاة الروافض الكاملية اتباع أبي كامل وقيل ولعل الكميل تصغير الكامل «1» إيماء إلى تحقير شأنه واتباعه القائلين (بتكفير جميع الصحابة بعد النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لم تقدّم) أي الصحابة (عليا) للخلافة بل قدمت أبا بكر كما قدمه عليه الصلاة والسلام للإمامة (وكفرت عليا إذا لم يتقدم ويطلب) أي ولم يطلب (حقّه) من الخلافة (في التّقديم) الموجب لزيادة التكريم (فهؤلاء) الكميلية (قَدْ كَفَرُوا مِنْ وُجُوهٍ لِأَنَّهُمْ أَبْطَلُوا الشَّرِيعَةَ) أي أمرها (بأسرها) أي جميعها (إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن معها) أي عندهم (إِذْ نَاقِلُوهُ كَفَرَةٌ عَلَى زَعْمِهِمْ وَإِلَى هَذَا) الوجه (والله أعلم) جملة معترضة للاحتياط (أَشَارَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ بِقَتْلِ مَنْ كفّر الصّحابة) أي جميعهم أو بعضهم فليس كما قال الدلجي بناء على كفر من قال لمسلم يا كافر وفيه أن هذا شتم ليس بكفر إلا أن اعتقد كفره حقيقة وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما أي أن كان كما قالوا والأرجح عليه ما قال وقوله الآخر لا يقتل لأنه كبيرة لم يخرج عن أصل الإيمان وأقول والأظهر إن هذين القولين له فيمن كفر بعض الصحابة وأما من كفر جميعهم فلا ينبغي أن   (1) أقول فيه نظر لأن الكميل تصغير الكمال فلعل تصغير الكامل كويل كما لا يخفى على التأمل لمصححه ط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 يشك في كفره لمخالفة نص القرآن من قوله سبحانه وتعالى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ قوله لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وبيانه أن هذه الآيات نص قطعي فلا يبطله قول مموه لا أصل له من جهة النقل ولا من طريق العقل على أن أمر الخلافة ليس من أركان الإيمان ثم هو لا يتعلق إلا ببعض من أهل الحال والعقد فلا وجه أصلا لتكفير الكل قطعا (ثمّ كفروا) أي الكميلية (من وجه) وفي نسخة من وجه أخر (بسبّهم النبيّ) أي لطعنهم فيه (صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُ عهد إلى عليّ) بالخلافة بعده (وهو) أي النبي عليه الصلاة والسلام (يعلم أنه) أي عليا (يكفر بعده) أي بعد النبي عليه الصلاة والسلام (على قولهم) أي بزعمهم والجملة حالية (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وآله) الشامل لأصحابه وأحبابه (وَكَذَلِكَ نُكَفِّرُ بِكُلِّ فِعْلٍ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُصَرِّحًا بِالْإِسْلَامِ مَعَ فِعْلِهِ ذَلِكَ الْفِعْلَ) الذي لا يصدر إلا عن كافر (كالسّجود للصّنم وللشّمس والقمر والصّليب) الذي للنصارى (والنّار) بخلاف السجود للسلطان ونحوه بدون قصد العبادة بل بإرادة التعظيم في التحية فإنه حرام لا كفر وقيل كفر (والسّعي إلى الكنائس) جمع الكنيسة معبد اليهود (والبيع) بكسر ففتح جمع بيعة معبد النصارى (مع أهلها) احترازا من سعيه إليهما منفردا عنهم لقصد التفرج دون العبادة (والتّزيّي بزيّهم) أي بكسوتهم وهيئتهم بخلاف من سعى إليهما معهم لكن بخلاف صورتهم وإنما كفروا بزيهم لأن الظاهر عنوان الباطن ولا يتجانن إلا مجنون (من شدّ الزّنانير) جمع زنار بكسر أوله ما يشد به النصارى أوساطهم (وفحص الرّؤوس) بفتح الفاء وسكون الحاء وبالصاد المهملتين قال الجوهري وفي الحديث فحصوا عن رؤوسهم كأنهم حلقوا وسطها وتركوها مثل أفاحيص القطا انتهى وفي المجمل لابن فارس نحوه وقال الهروي في غريبه في حديث أبي بكر أنه قال لعامله أنك ستجد أقواما يعني بالشام قد فحصوا رؤوسهم فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه أي حلقوا مواضع منها كافحوص القطاوهم الشمامسة انتهى وفي حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال لأمراء جيش مؤتة ستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فافلقوها بالسيوف والمعنى أن الشيطان استوطن في رؤوسهم كما تستوطن القطا مفاحصها ومنه الحديث من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة (فقد أجمع المسلمون أنّ هذا) الذي ذكر من الأفعال (لَا يُوجَدُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ عَلَامَةٌ عَلَى الْكُفْرِ وَإِنْ صَرَّحَ فَاعِلُهَا) وروى صاحبها (بالإسلام) ولعل فحص الرأس كان شعارا للكفرة قبل ذلك وأما الآن فقد كثر في المسلمين فلا يعد كفرا (وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ كُلِّ مَنِ استحلّ القتل لمسلم) أي ظلما (أو شرب الخمر) أي طوعا (أو الزّنا) بالزاء والنون وفي معناه الربا والرياء أو أشياء أخر (ممّا حرّم الله بعد علمه بتحريمه) وفيه إيماء إلى أن جهله عذر ولعل هذا بالنسبة إلى حديث عهد بالإسلام أو البلوغ فإن إنكار ما علم من الدين بالضرورة كفر إجماعا (كأصحاب الإباحة من القرامطة) يحتمل أن تكون من بيانية أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 تبعيضية (وبعض غلاة المتصوّفة) الزاعمين أنهم وصلوا إلى الله فرفع عنهم التكليف قال الدلجي وقد أدركت بعضا منهم يقول اسقط الله عني التكليف فاستباح فطر رمضان والخلوة بالأجنبيات من النساء ونحو ذلك من الفحشاء (وكذلك نقطع بتكفير كلّ من كذّب) أي بأصل من أصول الذين (وأنكر قاعدة من قواعد الشّرع) المبين مما بنى عليه كما بينه عليه الصلاة والسلام بني الإسلام على خمس شهادة أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان والحج (وَمَا عُرِفَ يَقِينًا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ فِعْلِ الرّسول ووقع الإجماع المتّصل) الذي لم يتخلله عدم إجماع (عليه) مما علم من الدين بالضرورة عند الخاص والعام (كمن أنكر وجوب الصّلوات الخمس) أي جميعها أو أحديها (وعدد ركعاتها) المختصة بها (وسجداتها) المكررة فيها (ويقول) أي مدعيا (إِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ الصَّلَاةَ على الجملة) أي إجمالا من غير بيان نحو كونها خمسا وتعيين عدد ركعاتها وسجداتها (وكونها) أي ويقول كونها (خمسا وعلى هذه الصّفات) أي من الأركان المقررة (والشّروط) المعتبرة من طهارة وستر عورة ودخول وقت واستقبال قبلة ونية (لا أعلمه) يقينا (إذ لم يرد فيه) في كل منها (في القرآن نصّ جليّ) على وجوبها وإن اشتملت على بعضها إجمالا كآية أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ وآية أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ وقوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي فرضا موقتا وقوله وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ونحو ذلك من الآيات المجملة التي وقع بيانها بالأحاديث الموصولة (والخبر) أي ويقول الحديث الوارد (به عن الرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خبر واحد) لا يفيد القطع إذ لم يكن متواترا عنه قلنا نعم لكن يجب اعلم به إجماعا لقوله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أو لأنه عليه الصلاة والسلام مبين لمجمل الكتاب بفصل الخطاب كَمَا قَالَ تَعَالَى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وأيضا قد أخبر به أصحابه وعمل به وتبعه اتباعه وهلم جرا إلينا في بيان الشروط والأركان الثابتة لدينا ووقع الإجماع عليه فيكفر جاحده (وكذلك أجمع) بصيغة المجهول وفي نسخة أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ (عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ مِنَ الخوارج إن الصّلاة طرفي النّهار) أي بكرة وعشية فقط كما كان في صدر الإسلام ويسمون الأطرافية (وَعَلَى تَكْفِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْفَرَائِضَ أسماء رجال أمروا بولايتهم) من الأئمة (والخبائث والمحارم أسماء رجال أمروا بالبراءة منهم وقول بعض المتصوّفة) أي وفي قولهم (إنّ العبادة) المورثة للمشاهدة (وطول المجاهدة) المفضي إلى المراقبة (إذا صفت نفوسهم) عن الكدورات (أفضت بهم) أي أوصلتهم (إلى إسقاطها) أي المكلفات (وإباحة كلّ شيء) من المحرمات (ورفع عهد الشّرائع عنهم) بضم العين وفتح الهاء جمع عهدة وهي في نسخة بدل جمعها (وكذلك إن أنكر منكر مكّة) أي وجودها (أو البيت أو المسجد الحرام) لأن إنكارها إنكار المنصوص عليها في الكتاب والسنة وإجماع الأمة (أَوْ صِفَةَ الْحَجِّ أَوْ قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 الحجّ واجب في القرآن) لقوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (واستقبال القبلة كذلك) واجب في القرآن لقوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (ولكن كونه) أي كل من الحج والاستقبال (على هذه الهيئة المتعارفة) عند الناس (وأنّ تلك البقعة) أي المأمور بالحج إليها (هي مكّة والبيت والمسجد الحرام) الوارد بها إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس (لا أدري هل هي) أي مكة والبيت والمسجد الحرام (تلك) الأمكنة المتعارفة (أَوْ غَيْرُهَا وَلَعَلَّ النَّاقِلِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فسّرها بهذه التّفاسير غلطوا) بكسر اللام أي أخطأوا (ووهموا) بكسر الهاء أن توهموا أنها هي تلك الأمكنة (فهذا) المنكر لما ذكر (ومثله) في غير (لا مرية) بكسر الميم وتضم أي لا شك ولا شبهة (فِي تَكْفِيرِهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ علم ذلك) الذي ذكر من اسماء الأمكنة ومع ذلك ينكرها أو يتردد فيها عنادا (وممّن خالط المسلمين) أي ليس من أهل البادية لقوله تعالى الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ (وامتدّت صحبته لهم) واشتدت مخالطته بهم لأن الغالب أنهم ذكروها له (إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ فَيُقَالُ له سبيلك) الذي يوردك معرفتها (أَنْ تُسْأَلَ عَنْ هَذَا الَّذِي لَمْ تَعْلَمْهُ بعد) أي بعد إسلامك إلى الآن (كافّة المسلمين) بالنصب على أنه معمول تسأل (فلا تجد فيهم) أي فيما بينهم (خلافا) أصلا (كافّة عن كافّة) أي حال كونهم جماعة رواية عن جماعة من كل طائفة في كل قرن وأمة (إلى معاصر الرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم أنّ هذه الأمور) المذكورة هي هي (كما قيل لك وأنّ تلك البقعة) المشهورة (هي مكّة) المعمورة (والبيت الّذي) هو (فيها هو) وفي نسخة هي (الكعبة) المسماة بها لعلوها حسا ومعنى كما قيل: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول والمعنى أن بيت العز والشرف هُوَ الْكَعْبَةُ (وَالْقِبْلَةُ الَّتِي صَلَّى لَهَا الرَّسُولُ صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون) من أهل مكة وغيرهم (وحجّوا إليها) من كل فج عميق (وطافوا بها) وهي البيت العتيق (وأنّ تلك الأفعال) المعلقة بالحج من الإحرام والطواف والسعي والوقوف والحلق والرمي (هي صفات عبادة الحجّ والمراد به) في قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وقوله عليه الصلاة والسلام حجوا بيت ربكم (هي) أي الصفات المذكورة والأفعال المسطورة هي (التي فعلها النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون) معه في زمانه روي أنهم مائة وعشرون ألفا وكذا فيما بعده قرنا فقرنا وهلم جرا إلينا (وإنّ صفات الصّلوات) الخمس (المذكورة) في الأحاديث الصحيحة المشهورة من التحريمة والقيام والقراءة والركوع والسجود والقعدة (هي التي فعل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم وشرح) أي فسر وبين (مراد الله بذلك) الإجمال (وأبان حدودها) أي وأظهر أوقاتها وشرائطها وأركانها (فيقع لك العلم) آخرا (كما وقع لهم) أولا فإن العلم بالتعلم وقد قال تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وقال عليه الصلاة والسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة وقد ورد إنما شفاء العي السؤال (ولا ترتاب بذلك) أي لا يقع لك فيها شك وتردد (بعد) بالبناء على الضم أي بعد ما علمته بسؤالك منهم وهذا حال من يعذر يجهله (والمرتاب في ذلك) أي الشاك فيما ذكر (والمنكر بعد البحث) ظرف لهما أي بعد الفحص عنها وحضور المعرفة بها (وصحبة المسلمين) أي وبعد مخالطتهم الدالين عليه والهادين إليه (كافر باتّفاق) للأئمة والأمة (ولا يُعْذَرُ بِقَوْلِهِ لَا أَدْرِي وَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ) أي في قوله المنسوب إلى جهلة (بل ظاهره التّستّر عن التكذيب) على وجه التصريح اكتفاء بالتلويح فإن كل إناء يترشح بما فيه (إذ لا يمكن أنه لا يدري) بعد البحث والسؤال من المؤمنين أو مخالطة المسلمين وهو عاقل ليس من المجانين (وأيضا) يلزم منه فساد آخر (فإنّه إذا جوّز) هذا المنكر (على جميع الأمّة الوهم) أي السهو (والغلط) أي الخطأ ولو بالغوا في الكثرة حد التواتر الذي يحيل العقل تواطئهم على الكذب (فيما نقلوه من ذلك) الذي تقدم (وأجمعوا أنه قول الرّسول) عليه الصلاة والسلام (وَفِعْلُهُ وَتَفْسِيرُ مُرَادِ اللَّهِ بِهِ أَدْخَلَ الِاسْتِرَابَةَ) أي الشك والشبهة (في جميع الشّريعة) قولا وفعلا ولا يخفى فساد هذه الذريعة (إذ هم النّاقلون لها) أي للشريعة المستفادة من السنة (وللقرآن) إلينا بالطرق المواترة (وانحلّت عرى الدّين) أي انفتحت عقده وعهده (كرّة) أي دفعة واحدة ولم يبق منها عروة ويروى كلمة (ومن قال هذا) القول وأمثاله (كافر) في حاله ومآله بسوء مقاله (وكذلك من أنكر القرآن) أي جميعه (أو حرفا منه) أي مما تواتر فيه (أو غيّر شيئا منه) بأن نقص منه شيئا (أو زاد فيه) شيئا من تلقاء نفسه من غير قراءة متواترة أو رواية شاذة (كفعل الباطنيّة) ويروى كقول الباطنية (والإسماعيليّة) أي من التغيير أو الزيادة وهذا غير معروف عنهم اللهم إن كان المراد بالتغيير تغيير المعنى دون المبنى كما قال تعالى في ذم أهل الكتاب يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أي يأولونها على ما يشتهونها ويميلون إليها عما أراد الله سبحانه وتعالى بها (أو زعم أنه) أي القرآن (ليس بحجّة للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) خاصة (أو ليس فيه حجّة) لأحد (ولا) أي هو في نفسه (معجزة) أي لا مبنى ولا معنى (كقول هشام الفوطيّ) بضم الفاء أو الياء وسكون الواو أو فتحها والطاء مهملة (ومعمر) بسكون عين مهملة بين ميمين مفتوحتين (الصّيمريّ) بفتح الصاد المهملة أو المعجمة وسكون التحتية وفتح الميم فراء بعدها ياء نسبة إلى بلدة أو قبيلة قال الدلجي أنهما من المعتزلة أفي الصورة ومن الكفرة في السيرة (إنّه) أي القرآن (لا يدلّ على الله) أي على طريق رضاه (ولا حجّة فيه لرسوله) أي على صحة مقوله (وَلَا يَدُلُّ عَلَى ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ وَلَا حكم) من حلال وحرام وآداب وهذا كله مكابرة وعناد وفتح باب فساد والحاد (ولا محالة) بفتح الميم وتضم أي لا شك وفي نسخة ولا مخالفة (في كفرهما بذلك القول) وفي نسخة بهذا (وكذلك نكفّرهما) وفي نسخة نكفرهما (بِإِنْكَارِهِمَا أَنْ يَكُونَ فِي سَائِرِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي باقيها بأسرها (حجّة له) قاطعة وبينة ساطعة (أو في خلق السّموات والأرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 دليل على الله) أي وجوده سبحانه وتعالى مع أنه قال تعالى لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (لِمُخَالَفَتِهِمُ الْإِجْمَاعَ وَالنَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم باحتجاجه بهذا) الذي ذكر (كلّه وتصريح القرآن به) بقوله وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا نَصَّ فِيهِ القرآن) به كوجود الملائكة ومجيء القيامة (بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي فِي أيدي النّاس) أي من الحفاظ الماهرين (ومصاحف المسلمين ولم يكن جاهلا به) أي بأنه منه (ولا قريب عهد) وفي نسخة ولا حديث عهد أي جديد زمان (بالإسلام واحتجّ) الواو فيه وكذا الواوان فيما قبله للحال أي تعلق (لإنكاره إمّا بأنه لم يصح النّقل) للقرآن (عنده ولا بلغه العلم به) من غيره (أو لتجويز الوهم على ناقلة تكفّره بالطّريقين المتقدّمين) وهما الإجماع والنقل المتواتر (لأنّه مكذّب للقرآن) الثابت تواترا قطعا (ومكذّب للنبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) المحقق إجماعا (لكنّه تستّر بدعواه) الجهل فيما ادعاه (وكذلك من أنكر الجنّة أو النّار) أي وجودهما بالكلية فإن أهل السنة على أنهما موجودتان والمعتزلة على أنهما ستوجدان (أو البعث) في القبور (أو الحساب) الموجب للثواب والعقاب بخلاف إنكار الميزان والصراط فإنه من عقائد المعتزلة (أو القيامة فهو كافر بإجماع) وفي نسخة بالإجماع (للنصّ عليه) في الكتاب (وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى صِحَّةِ نَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا وَكَذَلِكَ) أي أقول كما روي (من اعترف بذلك) في الجملة (وَلَكِنَّهُ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحَشْرِ) أي الجمع في الموقف (والنّشر) أي النشور وهو الخروج من القبور أو التفرق إلى الجنة والنار (والثّواب) على الحسنات (والعقاب) على السيئات (معنى غير ظاهره) وفي نسخة معنى على غير ظاهره (وأنّها لذّات) وعقوبات (روحانيّة) بفتح الراء ويجوز ضمها لا جسمانية (ومعان باطنة كقول النّصارى) لعل هذا قول بعضهم (والفلاسفة) من الحكماء الجاهلية (والباطنيّة وبعض المتصوّفة) كالوجودية القائلة بالعينية (وزعم أنّ معنى القيامة الموت) ولم يدر أن الموت مقدمة القيامة ولذا ورد من مات فقد قامت قيامته (أو فناء محض) أي عدم ليس بعده وجود وبقاء أو زعم أن المراد بالقيامة الفناء عن السوي والثبات على البقاء كما يتوهم جهلة المتصرفة متمسكين بظاهر ما روي موتوا قبل أن تموتوا مع أنه ليس بحديث (وانتقاض هيئة) وروي بنية (الأفلاك) أي انهدامها وتغيرها وانتقالها من أوضاعها بالكلية (وتحليل العالم) أي فساده وخروجه عن نظام هيئة الأولية (كقول بعض الفلاسفة) بذلك ممن ينكر البعث هنالك وإلا فالتغيير والتبديل ثابتان في التنزيل كقوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ بِتَكْفِيرِ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنّ الأئمة) المعصومين (أفضل من الأنبياء) والمرسلين هذا كفر صريح يستفاد من قوله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ وفي هذا المحل مباحث ذكرتها في شرح الفقه الأكبر (وأمّا) وفي نسخة فَأَمَّا (مَنْ أَنْكَرَ مَا عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ مِنَ الأخبار والسّير) أي الآثار المتعلقة بالغزوات والشمائل في الصفات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 كقتل عمار بصفين مما ورد أنه تقتله الفئة الباغية (والبلاد) النائية كالعراق وخراسان (التي لا يرجع) أي انكارها (إلى إبطال شريعة ولا يفضي إِلَى إِنْكَارِ قَاعِدَةٍ مِنَ الدِّينِ كَإِنْكَارِ غَزْوَةِ تبوك) المذكورة في سورة التوبة وهي أرض بين الشام والمدينة (أو مؤتة) بضم الميم وسكون همزة وتبدل مكان بأدنى البلقاء من أرض الشام (أو وجود أبي بكر) وفيه أن بعض العلماء قال من أنكر صحبته للنبي عليه الصلاة والسلام كفر لمخالفة النص وهو قوله تعالى ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا حيث أجمع المفسرون على أنه أبو بكر ولا يبعد أن يفرق بين من أنكر وجوده وبين من أنكر صحبته بناء على أن دلالة الآية على صحبته إجمالية ورواية كونها له خاصة غير قطعية فلا يكفر من أنكر وجوده (وعمر) مع شهرته (أو قتل عثمان أو خلافة عَلِيٍّ مِمَّا عُلِمَ بِالنَّقْلِ ضَرُورَةً وَلَيْسَ فِي إِنْكَارِهِ جَحْدُ شَرِيعَةٍ فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَكْفِيرِهِ بجحد ذلك وإنكار وقوع العلم له) بما هنالك (إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنَ الْمُبَاهَتَةِ) مفاعلة من البهتان أي الكذب والمعاندة يقال باهته إذا قال عليه ما لم يقل (كإنكار هشام) أي الفوطي (وعباد) بفتح مهملة فتشديد موحدة وهو الصيمري (وقعة الجمل) وهي كانت في أول خلافة علي ونقل مغلطاي في سيرته أن ابن حزم أنكرها وفيما قاله نظر إذ قد تواتر نقلها وهي أن جماعة من الصحابة خرجوا مع عائشة في هودج على جمل آخذا بخطامه كعب بن المسر بن مخرمة إلى البصرة للصلح بين علي ومعاوية وتسكين فتنة فنشبت بينهم الحرب فلتة من غير قصد وكانت سنة ست وثلاثين وأما وقعة صفين كسجين وهو موضع قرب الرقة بشاطئ الفرات كانت الواقعة العظيمة بين علي ومعاوية غرة صفر سنة سبع وثلاثين فمن ثمة احترز الناس السفر في صفر ذكره في القاموس (ومحاربة عليّ من خالفه) كمعاوية والخوارج فيما تقدم والله تعالى اعلم (وأمّا إن ضعّف) بتشديد العين أي نسب إلى الضعف (ذلك) النقل المجمع عليه (مِنْ أَجْلِ تُهْمَةِ النَّاقِلِينَ وَوَهَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعَ) بتشديد الهاء أي نسبهم إلى الوهم أجمعين (فنكفّره بذلك) الإتهام (لسريانه) أي افضائه وروي لسرايته (إلى إبطال الشّريعة) فكأنه جعل هذا التوهيم لالحاده نوعا من الذريعة (فأمّا من) وفي نسخة أن (أنكر الإجماع المجرّد) أي المنقول عن بعض الأئمة (الَّذِي لَيْسَ طَرِيقُهُ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ عَنِ الشَّارِعِ) المفيد كونه قطعيا بل طريقه الآحاد المقتضي كونه ظنيا (فأكثر المتكلمين ومن الفقهاء والنّظّار) بضم النون وتشديد الظاء المعجمة جمع ناظر بمعنى المناظر اسم فاعل من المناظرة (فِي هَذَا الْبَابِ قَالُوا بِتَكْفِيرِ كُلِّ مَنْ خالف الإجماع الصّحيح الجامع لشروط الإجماع) كما هو مبين في أصول الفقه (المتّفق عليه عموما) لأنه حجة إجماعا وإن كان طريقه أحادا (وحجّتهم) في تكفيره بمخالفة الإجماع (قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالفه (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى [النِّسَاءِ: 115] ) أي طريق الحق (الآية) أي ويتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم عليه من الدين لإيذانه بأنه حجة لا تجوز مخالفته كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة بدلالة جمعه بين المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين في الشرط وجعل جزاءه الوعيد الشديد المفاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 بقوله تعالى نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نجعله واليا لما تولاه وندعه وما اختاره من متابعة هواه مما لا يرضاه الله وهذا في الدنيا وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ أي ندخله ونحرقه وَساءَتْ مَصِيراً أي مرجعا ومسيرا في العقبى (وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم من خالف الجماعة) أي جماعة المسلمين وفي نسخة كما في رواية من فارق الجماعة أي بترك السنة واتباع البدعة (قيد شبر) بقاف مكسورة فتحتية ساكنة ونصبه على المصدر أي قدر شبر يعني ولو مقدارا يسيرا وأمرا حقيرا (فقد خلع) أي نزع (ربقة الإسلام) بكسر الراء وسكون الموحدة أي عقدته وعهدته (من عنقه) أي رقبته وذمته وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة من شذ شذ في النار (وحكوا) أي الفقهاء ومن معهم (الْإِجْمَاعَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَذَهَبَ آخرون إلى الوقف) أي التوقف (عَنِ الْقَطْعِ بِتَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الَّذِي يختصّ بنقله العلماء) أي مطلقا سواء كان نظريا أم لا وفي نسخة الذي يختص نقله بالعلماء (وذهب آخرون إلى التّوقّف) وفي نسخة التَّوَقُّفِ (فِي تَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الْكَائِنَ عن نظر) أي تأمل وفكر كالقياس لأن الاجتهاد المأخوذ في تعريفه لا بد له من مستند إما من كتاب أو سنة فمنكره منكر لأحدهما (كتكفير النّظام) بفتح النون وتشديد الظاء المعجمة كان أحد فرسان المتكلمين من المعتزلة وكان في دولة المعتصم (بإنكاره الإجماع) وإنما كفروه به (لأنّه بقوله هذا) وهو إنكاره الإجماع (مخالف إجماع السّلف على احتجاجهم به) أي بالإجماع بل جعلوه أقوى الحجة (خارق للإجماع) وفي نسخة خارق للإجماع، (قال القاضي أبو بكر) أي الباقلاني (القول) المعول (عندي) أي في رأيي (أنّ الكفر بالله هو الجهل بوجوده) وشهود كرمه وجوده (والإيمان بالله هو العلم بوجوده) وما يتعلق به من توحيد ذاته وتفريد صفاته وإثبات كلام المشتمل علر سائر المؤمن به من ملائكته ورسوله وإلا فمجرد العلم بوجوده حاصل لعامة خلقه كما قال الله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وإنما أنكر وجوده سبحانه وتعالى طائفة من الدهرية والمعطلة (وأنّه) أي الشأن (لا يكفّر أحد بقول ولا رأي) أي اعتقاد مما يكفر به (إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجَهْلُ بِاللَّهِ فَإِنْ عصى الله) ورسوله (بقول أو فعل نصّ الله ورسوله) صلى الله تعالى عليه وسلم (أَوْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا من كافر أو يقوم دليل آخر) نقلا أو عقلا (على ذلك) أي على أنه لا يوجد الأمن كافر لكونه من شعارهم (فقد كفر) لكن (ليس) الحكم بكفره (لأجل قوله أو فعله) الذي لا يوجد إلا من كافر (بل لما قارنه) أي قوله أو فعله (مِنَ الْكُفْرِ فَالْكُفْرُ بِاللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بأحد ثلاثة أمور أحدها الجهل بالله) أي بوجوده وهو الأصل في باب التكفير (وَالثَّانِي أَنْ يَأْتِيَ فِعْلًا أَوْ يَقُولَ قَوْلًا يخبر الله ورسوله أو يجمع المسلمون على أنّ ذلك) الفعل أو القول (لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ والمشي إلى الكنائس) أي من زيهم (بالتزام الزّنّار) مشددا به وسطه غير مكره فيه وروي الزنانير وهو بفتح الزاي جمع الزنار بضمها (مع أصحابها في أعيادهم) أو غيرها (أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ أَوِ الْفِعْلُ لَا يُمْكِنُ) أي لا يتصور (معه العلم بالله) كإنكار فرض مجمع عليه والفاء مصحف في قاذورة (فهذان الضّربان) أي النوعان من اتيان الفعل أو القول الموصوفين وقول الدلجي فهذان أي الجهل والاتيان مردود بقوله (وَإِنْ لَمْ يَكُونَا جَهْلًا بِاللَّهِ فَهُمَا عِلْمٌ) بفتحتين أي علامة وفي أصل التلمساني علم بكسر أوله وسكون ثانيه أي دليل (أنّ فاعلهما كافر) في الأصل (منسلخ من الإيمان) أي خارج عنه (فَأَمَّا مَنْ نَفَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تعالى الذّاتيّة) من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام (أو جحدها) أي أنكرها بعد ما اعترف بها (مستبصرا) أي متيقنا غير شاك (في ذلك) أي في جحدها (كَقَوْلِهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا مُرِيدٍ ولا متكلّم) كان الأولى أن يأتي بأو بدل ولا (وَشِبْهِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْوَاجِبَةِ لَهُ تعالى) كقوله ليس سميعا أو بصيرا أو حيا (فقد نصّ أئمّتنا) المالكية (عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ نَفَى عَنْهُ تعالى الوصف بها وأعراه عنها) أي أخلاه منها بلا وصفه بها وهذا قول الباقلاني ولا أعرف خلافا في ذلك لأنه سبحانه وتعالى وصف ذاته بهذه الصفات في كلامه القديم الذي يستفاد منه الدين القويم فمن أنكر شيئا من ذلك فقد أنكر القرآن العظيم قال المصنف (وعلى هذا) القول ينفي الوصف (حُمِلَ قَوْلُ سُحْنُونٍ مَنْ قَالَ لَيْسَ لِلَّهِ كلام) أي نفسي (فهو كافر) لأنه نسبه إلى وصم البكم (وهو) أي سحنون (لا يكفّر المتأوّلين) أي من المعتزلة النافين قدمها وزيادتها على ذاته القائلين بأنه تعالى خلق الكلام في الشجرة وكلم موسى ويخلق القرآن وحدوثه وأنه مركب من حروف وأصوات تفاديا من تعدد القدماء (كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَأَمَّا مَنْ جَهِلَ صِفَةً مِنْ هذه الصّفات) أي ونفاها غير مستبصر فيها (فاختلف العلماء ههنا) أي في مقام تكفيره (فكفّره بعضهم وحكي ذلك) أي تكفيره (عن أبي جعفر الطّبريّ) الشافعي (وَغَيْرِهِ وَقَالَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ مَرَّةً) أي هو أحد قوليه (وذهبت طائفة إلى أنّ هذا) الجهل للمؤمن (لا يخرجه عن اسم الإيمان) أي أصله وإن كان يخرجه عن كمال الإيقان (وإليه) أي إلى هذا المذهب (رجع الأشعريّ) فهو المعتمد في المعتقد (قال لأنّه لم يعتقد ذلك) النفي مع الجهل (اعتقادا يقطع بصوابه ويراه دينا) متينا (وشرعا) مبينا بل إنما يظنه ظنا وقع خطأ (وإنّما يكفر مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مَقَالَهُ حَقٌّ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ) المتأخرون (بحديث السّوداء) أي الجارية (وأنّ النّبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم إنّما طلب منها التّوحيد) أي توحيد الذات (لا غير) أي لا غير ذلك من تحقيق الصفات وهو أن أم ابن سويد الشريد الثقفي أوصته أن يعتق عنها رقبة مؤمنة فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال يا رسول الله إن أمي أوصت أن أعتق عنها رقبة مؤمنة وعندي جارية سوداء نوبية وذكر نحوه معاوية بن الحكم السلمي فذكر الحديث إلى أن قال اين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله قال أعتقها فأنها مؤمنة أخرجه أبو داود في الإيمان بفتح الهمزة والنسائي في الوصايا وحديث معاوية بن الحكم السلمي أخرجه مسلم في الصلاة والطب وأخرجه أبو داود في الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 والنسائي في أماكن من مسنده انتهى كلام الحلبي وذكر التلمساني أن حديث السوداء هو أن رجلا ظاهر فلزمه الظهار فأتى بأمة سوداء فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا تجزئك حتى تعرف أنها مؤمنة قال سلها يا رسول الله فسألها فقال لها أين الله فأشارت إلى السماء فقال أعتقها فإنها مؤمنة وهو حديث رواه أبو داود والنسائي ومالك انتهى وكأن إشارتها إلى السماء إيماء بأن الله هو الذي خلقها أو أنه ليس بآلهة الأرض أو هو الموصوف بأنه إله في السماء أي معبود فيها فاكتفى بهذا التوحيد الإجمالي على كونها مؤمنة لكن يشكل بسؤاله عليه الصلاة والسلام حيث قال أين الله ولعله كوشف له عليه الصلاة والسلام بأنها لا تعرف الإله إلا بهذا الوصف ولعل القائلين بجهة العلو لله سبحانه وتعالى تمسكوا بظاهر هذا الحديث وأمثاله والمحققون أنه تعالى منزه عن المكان والزمان وأما قوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ فمعناه أنه هو المستحق لأن يعبد فيهما لا غير كقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ (وبحديث القائل لئن قدر الله عليّ) بتخفيف الدال وجاء في صحيح البخاري أن قائله كان نباشا من كلام عقبة بن عمر الصحابي والحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن قول القائل لبنيه عند موته أحرقوني ثم انظروا يوما راحا أي ذا ريح شديدة فاذروني فيه فوالله لئن قدر الله علي والرواية بتخفيف الدال من القدرة لا كما قال التلمساني قدر بشدد من التقدير ويخفف بمعنى ضيق فإنه لو كان المروي كذلك لما كان إشكال هنالك (وفي رواية عنه) أي عن القائل وفي نسخة فيه أي في الحديث وهو كذا في تفسير ابن أبي حاتم (لعلّي أضلّ الله) بفتح الهمزة والضاد وتكسر ورفع اللام المشددة أي أفوته ويخفى عليه مكاني وقيل لعلي أغيب من عذاب الله تعالى من ضللت الشيء وضللته إذا جعلته في مكان ولم تدر أين هو وضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء ومنه قوله تعالى أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي خفينا وغبنا والمعنى أضل عنه أي أخفي وأغيب منه على أن من باب نزع الخافض وإيصال الفعل فيكون جاهلا بكمال علمه سبحانه وتعالى (ثمّ قال) أي النبي عليه الصلاة والسلام (فغفر الله له) أي مع كون كلامه مشعرا بنفي القدرة في الصورة المقدرة والمعنى فغفر الله له لعذره بجهله على أن قدر جاء بمعنى ضيق كما في قوله تعالى فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ومعنى الرواية الثانية أغيب عن عذاب الله تعالى لكن لا يخفى بعد هذه التأويلات عن قوله أحرقوني وسائر المقالات والله تعالى اعلم بالحالات وتمام الحديث على ما في الصحيح قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه إذا مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال لم فعلت هذا قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له (قالوا) أي هؤلاء العلماء (ولو بوحث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 أكثر النّاس عن الصّفات) أي فتشوا عن معرفتها (وكوشفوا عنها) أي طلب منهم الكشف عن بيانها (لما وجد من يعلمها إلّا الأقلّ) من القليل، (وقد أجاب الآخر) أي من العلماء الأولين (عن هذا الحديث بوجوه) خمسة (منها أنّ قدر) مخففا (بمعنى قدّر) مشددا أي حكم وقضى (ولا) وفي نسخة فلا (يَكُونُ شَكُّهُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى إِحْيَائِهِ بَلْ فِي نَفْسِ الْبَعْثِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ إِلَّا بشرع) دون عقل وطبع (ولعلّه لم يكن وَرَدَ عِنْدَهُمْ بِهِ شَرْعٌ يُقْطَعُ عَلَيْهِ فَيَكُونَ الشّكّ فيه حينئذ كفرا) وفيه أنه لو كان شاكا في بعثه لما أوصى بما يدل على كمال خوفه (فأمّا ما لم يرد به شرع) كالبعث (فهو من مجوّزات العقول) بتشديد الواو المفتوحة فلا كفر بالشك فيه لعدم العلم وبه وهذا لا يخفى بعده لإطباق الأنبياء والرسل على وجوب الإيمان باليوم الآخر ووعد الثواب ووعيد العقاب حتى قال الله تعالى لآدم ومن معه فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ نعم قد يقال إنه آمن إيمانا إجماليا وتقليدا عرفيا وما بلغه تفاصيل المؤمن به فوقع له الشك في وقوعه أو الوهم بدفع العذاب عنه على تقدير تصوره (أَوْ يَكُونُ قَدَرَ بِمَعْنَى ضَيَّقَ وَيَكُونُ مَا فعله بنفسه) من وصية بنيه بإحراقه (إزراء عليها) أي اهانة وتنقصا بها (وغضبا) عليها (لعصيانها) أو ظن أنه يتخلص بعذاب الدنيا من عقاب العقبى (وقيل إنّما قال ما قاله) وهو قوله لئن قدر الله على (وَهُوَ غَيْرُ عَاقِلٍ لِكَلَامِهِ وَلَا ضَابِطٍ لِلَفْظِهِ) أي لمؤدي مرامه (أي ممّا استولى عليه من الجزع) أي غلب عليه من شدة الفزع (والخشية الّتي أذهلت) وفي نسخة أذهبت (لبّه) أي اغفلت قبله وشغلت عقله (فلم يؤاخذ به) فيعد من خطئه في خطابه كقول من قال لربه في غاية من الفرح أنت عبدي وأنا ربك (وقيل كان هذا) القائل (في زمن الفترة) أي انقطاع الرسالة كما بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام فقيل ستمائة سنة وقيل خمسمائة وستون وقيل أربعون (وحيث ينفع مجرّد التّوحيد) كما في زمن الجاهلية وهو ما بين إسماعيل ونبينا عليهما الصلاة والسلام ولا يبعد أن يكون ممن نشأ بعيدا عن الخلق ولم تبلغه دعوة رسول الحق وعرف الله بعقله أو بالنظر في آيات الله من خلقه (وقيل بل هذا) القول (من مجاز كلام العرب) من أهل التدقيق (الّذي صورته الشّكّ ومعناه التّحقيق) ويقال له مزج الشك باليقين وعد منه قوله ولكن ليطمئن قلبي وأشار إلى ذلك العارف بن الفارض بقوله: عليك بها صرفا وإن شئت مزجها ... فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم (وهو يسمّى) بصيغة المجهول مشددا ومخففا أي يدعي (تجاهل العارف وله أمثلة في كلامهم) أي العرب كقول بعضهم: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر (وكقولهم) أو جهك هذا أم بدر مع علمهم بأن الوجه غير البدر للمبالغة في تحسين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 القدر والمعروف أن هذا للدلالة على شدة الشبه بين المتناسبين فإن خلا سؤاله عما يعلمه من الشبه لم يكن تجاهلا كما في وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى بل هو استفهام تقرير أي حمل المخاطب على إقرار وتحرير نعم قد يحمل عليه قوله النسوة ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ أي كالملك في الصورة والعصمة على وجه المبالغة (كقوله تعالى) أي المنزل على وفاقهم اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] ) والمحققون على أن معناه لكي يتذكر أو كونا على رجاء أن يتذكر (وقوله) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ) والمحققون على أن هذا من ارخاء العنان مع الخصم في ميدان البيان ليتأمل ويتفكر حتى يظهر له البرهان في عالم العيان وإلا فكان صلى الله تعالى عليه وسلم يتيقن أنه على هداية والمخاطبون على ضلالة ونظيره قول حسان بن ثابت الأنصاري لأبي سفيان بن حرب قبل إسلامه: أتهجوه ولست له بكفؤ ... فشركما لخيركما فداء فإنه لا شبهة أنه يريد بخيرهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا وفي تمثيله بما أورده من الكتاب مع تسميته له بتجاهل العارف نوع تهاون في الآداب مع رب الأرباب ولو قال كما في المفتاح للسكاكي ويسمى مساق المعلوم مساق غيره لنكتة لكان أقرب إلى صوب الصواب (فأمّا من أثبت الوصف ونفى الصّفة) كالمعتزلة (فَقَالَ أَقُولُ عَالِمٌ وَلَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَمُتَكَلِّمٌ وَلَكِنْ لَا كَلَامَ لَهُ وَهَكَذَا فِي سائر الصّفات) كقادر ولا قدرة له ومريد ولا ارادة له وحي ولا حياة له وسميع ولا سمع له وبصير ولا بصر له (على مذهب المعتزلة) تحرزا عن تعدد القدماء فإنه كفر وهو مردود بأن الكفر إنما هو تعدد ذوات قدماء لا ذات واحدة مع صفات متعددة على أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الصفات لا عين الذات ولا غيرها (فمن قال بالمال) أي بأخذهم بالمرجع (لما يؤدّيه إليه قوله) أي قوله نافيها عالم ولا علم له (ويسوقه إليه مذهبه) من أنه يلزم من نفي العلم نفي الوصف بعالم على وجه برهاني كما سيأتي بيانه (كفّر) بتشديد الفاء أي كفره كما في نسخة وأما ما ضبط في بعض النسخ بفتح الكاف وتخفيف الفاء وكذا بصيغة المصدر فتصحيف وأما ما في بعض النسخ ممن بدل فمن فتحريف والصواب فمن جواب إما لا قوله فقال كما يتوهم والله أعلم (لِأَنَّهُ إِذَا نَفَى الْعِلْمَ انْتَفَى وَصْفُ عَالِمٍ) عن موصوفه ضرورة انتفاء الوصف بالمشتق بانتفاء المشتق منه (إِذْ لَا يُوصَفُ بِعَالِمٍ إِلَّا مَنْ لَهُ علم) إذ لا يعقل مثلا من العالم إلا من له العلم وله معلوم يتعلق به علمه ولا تنّافي بين كون العلم قديما وكون المعلوم حادثا كما قرر في محله اللائق به (فكأنّهم) أي المعتزلة (صرّحوا عنده) أي عند القائل بالمآل (بما أدّى إليه قولهم) من لزوم نفي الوصف بالمشتق لنفي المشتق منه (وهكذا) الحكم (عند هذا) القائل بالمآل (سائر فرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ لم ير أخذهم بمآل قولهم) أي بما يؤول إليه آخر مقولهم (ولا ألزمهم موجب مذهبهم) بفتح الجيم أي مقتضى ما فهم من فحوى كلامهم (لم ير إكفارهم) أي تكفيرهم (قال) أي من لم ير ما سبق (لأنّهم إذا وقّفوا) بصيغة المجهول مشددا أو مخففا أي اطلعوا (على هذا) الذي ذكرنا من أن مآل قولهم عالم ولكن لا علم له نفي علمه تعالى (قالوا لا نقول) على أصلنا (ليس بعالم) سلبا معطلا له تعالى عن العلم بل هو كما قال أبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة عالم بعلم هو ذاته حي بحياة هي ذاته مريد بإرادة هي ذاته لا عالم بعلم ومتكلم بكلام وحي بحياة زائدات على ذاته وهكذا في بقية صفاته (ونحن ننتفي من القول بالمأل الّذي ألزمتموه لنا ونعتقد نحن) معشر المعتزلة (وأنتم) أهل السنة (أنه) أي مآل إليه القول (كفر بل نقول إنّ قولنا) مثلا عالم ولكن لا علم له (لا يؤول إليه) أي انتفاء علمه سبحانه وتعالى أصلا (على ما أصّلناه) بتشديد الصاد أي جعلناه أصلا وقاعدة فالخلاف لفظي في المآل والله تعالى أعلم بحقيقة الحال (فعلى هذين المأخذين) أي ممن رأى أخذهم بالمآل ومن لم ير أخذهم (اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إِكْفَارِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَإِذَا فهمته) أي التأويل على نسق ما مر من الأقاويل (اتّضح لك الموجب) أي الباعث (والسبب لاختلاف الناس في ذلك) التكفير لاختلافهم في مقام التقرير (والصّواب ترك إكفارهم) كما عليه الجمهور من الأئمة (والإعراض عن الحتم) أي حكم الجزم (عليهم بالخسران) المبين (وإجراء حكم الإسلام عليهم) كسائر المسلمين من حرمة إيذاء وعصمة دم ومال إلا بحق الإسلام (في قصاصهم) لهم ومنهم وحدهم شربا وسرقة وجلدا ورجما وتعزيرا لهم ومنهم (ووراثاتهم ومناكحاتهم ودياتهم) في جراحاتهم منهم ولهم (والصّلوات عليهم) إذا ماتوا وخلفهم إذا أموا (ودفنهم في مقابر المسلمين وسائر معاملاتهم) في الدنيا والدين (لكنّهم يغلّظ عليهم) تعزيرا لهم (بوجيع الأدب) ضربا وحبسا (وشديد الزّجر) من الطرد (والهجر حتّى يرجعوا عن بدعتهم) وينزجر غيرهم بعبرتهم (وهذه) الحالات (كانت سيرة الصّدر الأوّل) من صلحاء الأمة (فيهم) أي في حق أهل البدعة (فقد كان نشأ) بالنون أي ظهر وانتشأ وابتدأ وفشا (عَلَى زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَبَعْدَهُمْ فِي التَّابِعِينَ مَنْ قال بهذه الأقوال من القدر) وهو رأي المعتزلة كعبد الله الجهني ومن قال كما في صحيح مسلم به وواصل به عطاء وعمرو بن عبيد (ورأى الخوارج) عن خروجهم على علي وتكفيرهم له وافترائهم عليه لقولهم انزل الله فيه وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وفي ابن ملجم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ حتى قال فيه كلبهم عمر بن حطان إذ قتل عليا: يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا وعارضه بعض أهل السنة بقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 يا ضربة من شقي لم يزل أبدا ... بها عليه إله الحق غضبانا إني لأعلم أن الله جاعله ... أوفى البرية عند الله خسرانا (والاعتزال) لعل المراد به طائفة خاصة من المعتزلة (فما أزاحوا) بالزاء والحاء المهملة أي فما أزال الصدر الأول ما هجرهم (لهم قبرا) متبعدا مفردا متميزا عن مقابر المسلمين وفي نسخة قبورا (ولا قطعوا لأحد منهم ميراثا) أي من مورثه مبتدعا أو غيره (لكنّهم هجروهم) في الكلام والسلام والمقام والطعام (وأدّبوهم بالضّرب والنّفي) أي الاخراج من بلادهم أو الحبس لدفع فسادهم (والقتل) لأرباب عتوهم وعنادهم (على قدر أحوالهم) واختلاف أقوالهم (لأنّهم) باعتقادهم ما يخالف الحق مما لا يكفرون به (فسّاق) لخروجهم عن طاعة الله (ضلّال) عن الحق لعدم قبولهم (عصاة) أي أهل فساد وبغاة (أصحاب كبائر عند المحقّقين) من المجتهدين (وأهل السّنّة) من علماء الدين (ممّن لم يقل بكفرهم) أي بكفر أرباب الآراء الكاسدة واصحاب التأويلات الفاسدة (منهم) أي من العلماء المتقدمين (خلافا لمن رأى غير ذلك) من عدم هجرهم أو لمن رأى اكفارهم وتحتم قتلهم (وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ) الباقلاني (وأمّا مسائل الوعد والوعيد) في قول المعتزلة إنه يجب عليه سبحانه وتعالى إثابة المطيع وتعذيب العاصي مع أنه سبحانه وتعالى يقول فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وقولهم يجوز خلف الوعيد لأنه محض كرم مع أنه تعالى قال إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وقد جعلت في هذه المسألة رسالة مستقلة مسماة بالقول السديد في خلف الوعيد ردا على بعض أهل السنة حيث وافق المعتزلة (والرّؤية) أي رؤية الله سبحانه وتعالى وفي الدار الآخرة أنكرها المعتزلة (والمخلوق) أي الخلق كالمعقول بمعنى العقل أي خلق القرآن ومعناه أن القرآن مخلوق كما قالوه وقال الدلجي أي وأنكر مخلوقيته له تعالى كالمفوضة إذ قالوا إن الله خلق محمدا وفوض إليه خلق الدنيا فهو الخالق لها بما فيها ومثلهم من أنكر مخلوقية الشر له تعالى وأثبتها للشيطان وأو غيره انتهى ولا يخفى أن هذا المعنى لا يلائم لأنه كفر وزندقة والكلام في اعتقادات أهل البدعة (وخلق الأفعال) كالجبائي وأشياعه حيث اثبتوها للعباد (وبقاء الأعراض) بأنواعها وهو جمع عرض بفتحتين وهو في اصطلاح المتكلمين ما لا بقاء له كالألوان والأشكال والحركة والسكون والحق ما عليه الأشعري واتباعه أنه لا يبقى أكثر من زمن واحد لأنها كلها على التقضي والتجدد كالحركات والأزمنة والأصوات وبقاؤها عبارة عن تجدد أمثالها كلما انقضى واحد تجدد مثله بمجرد ارادته تعالى بوقته الذي خلقه فيه وقد قال ابن عربي بنفي بقاء الذوات أيضا وأن بقاءها في نظر الناظر إنما هو بتجدد أمثاله سريعا في ادبارها واقبالها حتى تختفي حقيقة حالها ومآلها (والتّولّد) الذي قالته المعتزلة وهو أن حركة النظر مثلا في الدليل تولد العلم بالنتيجة عقبها كحركة اليد تولد حركة المفتاح للفتح وقيل إن الآثار التي توجد عقيب أفعال العباد بمجرد العادة كالألم عقيب الضرب والانكسار عقيب الكسر تسميها المعتزلة المتولدة بفتح اللام على صيغة المجهول ويزعمون أنها حاصلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 بإيجاد العبد لا صنع لله تعالى فيها وقال أهل الحق إنها حاصلة بإيجاد الله تعالى وأحداثه لا بفعل العبد واكتسابه والمسألة معروفة في أصول الكلام (وشبهها من الدّقائق) التي يتوهمون أنها من الحقائق كالقول بقيام العرض بالعرض وأمثال ذلك مما أخذوها من كلام الفلاسفة والحكماء (فالمنع في إكفار المتأوّلين فيها أوضح) أي أظهر وأصح من القول بإكفارهم (إِذْ لَيْسَ فِي الْجَهْلِ بِشَيْءٍ مِنْهَا جَهْلٌ بالله تعالى) أي بذاته وصفاته وفيه بحث إذ الوعد والوعيد والرؤية والكلام والخلق من جملة العلوم المتعلقة بصفاته ولعله أراد أنه ليس جهلا بوجوده على ما سبق في كلامه أو ليس جهلا عظيما مما لا يسامح ولا يساهل فيه ويشير إليه قوله (وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِكْفَارِ مَنْ جَهِلَ شيئا منها) انتهى ما نقله عن القاضي أبي بكر ثم قال المصنف (وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ وصورة الخلاف في هذا) المرام (ما أغنى عن إعادته) في هذا المقام (بحول الله تعالى) ذي الجلال والإكرام. فصل [هَذَا حُكْمُ الْمُسْلِمِ السَّابِّ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الذمي الخ] (هذا) الذي ذكر سابقا (حكم المسلم السّاب) أي المنتقص (لله تعالى وأمّا الذّمّيّ) وهو الكتابي الذي يعطى الجزية (فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذمّيّ تناول) أي تكلم بما لا يجوز اقدامه عليه (من حرمة الله تعالى) أي مما لا يحل الوقوع فيه (غير ما هو عليه من دينه) أي من الكفر كقولهم عزيز ابن الله والمسيح ابن الله ونحوه (وحاجّ) أي جادل (فِيهِ فَخَرَجَ ابْنُ عُمَرَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَطَلَبَهُ فهرب) وهذا واضح لأنه يتناوله ذلك خرج عن كونه ذميا هنالك (وَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ وَالْمَبْسُوطَةِ) بالتاء (وابن القاسم في المبسوط وكتاب محمد) أي ابن المواز (وَابْنِ سُحْنُونٍ مَنْ شَتَمَ اللَّهَ مِنَ الْيَهُودِ) سموا بذلك لقولهم هدنا إليك فيهود بمعنى يتوب وقيل لأنهم نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب وهو بذال معجمة وعرب بالمهملة (والنّصارى) سموا بذلك لقولهم نحن أنصار الله وقيل لناصرية اسم قرية (بغير الوجه الّذي كفروا) وفي نسخة كفر أي من إثبات الولد والصاحبة والتثليث (قتل ولم يستتب) أي لم تطلب منه التوبة بالإسلام (قال ابن القاسم إلّا أن يسلم) أي بنفسه فلا يقتل على ما سبق في كلامه (قال في المبسوطة طوعا) أي إلا أن يسلم اختيارا لا جبرا (قال أصبغ) إنما يقتل إذا لم يسلم مع أنه ذمي (لِأَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي بِهِ كَفَرُوا هُوَ دِينُهُمْ وعليه عوهدوا) أي أعطوا العهد والذمة (من دعوى الصاحبة والشّريك) للنصارى (والولد) لليهود والنصارى وفي أصل الدلجي وغيرها كشرب الخمر وبيعها وضرب الناقوس انتهى ولا يخفى أنها ليست مما كفروا بها (وأمّا غير هذا) الذي عوهدوا عليه (من الفرية) على الله (والشّتم) أي الانتقاص في حقه سبحانه وتعالى (فلم يعاهدوا عليه فهو) أي صدوره عنهم (نقض للعهد) الذي عاهدوا (قال ابن القاسم في كتاب محمد) أي ابن المواز وقال الدلجي لعله ابن سحنون وقال التلمساني وهو ابن المواز فقال نسبة للموز واختلف هل لقي ابن القاسم وابن وهب أو لا والصحيح أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 روى عنهما بواسطة (ومن شتم من غير أهل الأذيان) الذي أعطى لهم الامان (اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي كتابه قتل إلّا أن يسلم) أي طوعا عند المالكية ومطلقا عند الجمهور وبه قال بعضهم كما تقدم (وَقَالَ الْمَخْزُومِيُّ فِي الْمَبْسُوطَةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ) بفتح الميم الأولى واللام (وابن أبي حازم) وهم من أصحاب مالك ورواة مذهبه (لا يقتل) أي من شتم الله (حَتَّى يُسْتَتَابَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا فَإِنْ تاب وإلّا قتل) وهذا أوفق لقاعدتهم من أن حق الله تعالى مما يسامح بخلاف حق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ (وقال مطرف) أي ابن عبد الله الفقيه (وعبد الملك) وهو ابن الماجشون (مثل قول مالك) أي في كتاب ابن حبيب وغيره مما هنالك من أنه يقتل ولا يستتاب (وقال أبو محمد بن أبي زيد) أي القيرواني (مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي به كفر قتل إلّا أن يسلم) كما قال ابن القاسم (وقد ذكرنا قول ابن الجلّاب) بفتح الجيم وتشديد اللام وفي آخره موحدة وهو البغدادي الضرير (قبل) أي قبل ذلك (وذكرنا قول عبيد الله) أي ابن يحيى (وابن لبابة) بضم أوله (وشيوخ الأندلسيّين) بفتح الهمزة وضم الدال وتفتح وبضمهما (فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَفُتْيَاهُمْ بِقَتْلِهَا لِسَبِّهَا بِالْوَجْهِ الَّذِي كفرت به لله ولرسوله) متعلق بسبها ولعل المراد به اعلانها (وإجماعهم على ذلك) أي على قتلها بفتياهم (وهو) أي إجماعهم المذكور (نحو القول الآخر فيمن سبّ النبيّ عليه الصلاة والسلام) أي اعلانا به (منهم) أي من الكفار (بالوجه الّذي كفر به) فإنه يقتل إلا أن يسلم طوعا (ولا فرق في ذلك) أي في قتله بالوجه الذي كفر به (بَيْنَ سَبِّ اللَّهِ وَسَبِّ نَبِيِّهِ لِأَنَّا عَاهَدْنَاهُمْ على أن لا يظهروا لنا شيئا من كفرهم وأن لا يُسْمِعُونَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَمَتَى فَعَلُوا شَيْئًا منه فهو نقض لعهدهم) وموجب لقتلهم فيظهر أن منشأ الخلاف بين الأقوال هو العهد به وعدمه في الأحوال (واختلف العلماء في الذّمّيّ إذا تزندق) بإظهار دينه مبطنا عقيدة باطلة في كفر اتفاقا (فَقَالَ مَالِكٌ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إِلَى كفر وقال عبد الملك بن الماجشون) صاحب مالك (يقتل لأنّه) أي ما أضمره مما هو كفر اتفاقا (دين لا يقرّ عليه أحد) وينبغي أن يكون هذا هو المعتمد (ولا يؤخذ عليه جزية) كمن انتقل من دين باطل إلى مثله وفي شرح الدلجي قال الشافعي ولا يقر عليه فإن لم يسلم بلغ المأمن وصار حربيا انتهى وهو فرع غريب والصواب أنه حيث تزندق يقتل ولم تقبل توبته كملسلم تزندق بل هو أولى كما لا يخفى (قال ابن حبيب وما أعلم من قاله غيره) من العلماء أن الذمي إذا تزندق يقتل مع أن وجهه ظاهر جدا لأنه يتزندقه خرج عنه كونه ذميا وصار حربيا بل أدون منه لأنه يقبل إسلام الحربي إجماعا ولم يقبل توبة الزنديق عند كثير من العلماء. فصل [هَذَا حُكْمُ مَنْ صَرَّحَ بِسَبِّهِ وَإِضَافَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ فَأَمَّا مُفْتَرِي الْكَذِبِ الخ] (هذا) الذي قدمنا (حُكْمُ مَنْ صَرَّحَ بِسَبِّهِ وَإِضَافَةِ مَا لَا يليق بجلاله وإلهيّته) عظم شأنه. (فَأَمَّا مُفْتَرِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِادِّعَاءِ الإلهيّة) لنفسه أو لغيره (أو الرّسالة) وكذا النبوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 (أَوِ النَّافِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَهُ) أَوْ خالق غيره (أو ربّه) أي مربيه في عالم ظهوره ومدبر جميع أموره (أو قال ليس لي) أو لغيري (رَبٌّ أَوِ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا لَا يُعْقَلُ مِنْ ذلك) الذي ذكرناه كله (في سكره) أي حال ذهاب عقله (أو غمرة جنونه) أي شدته (فَلَا خِلَافَ فِي كُفْرِ قَائِلِ ذَلِكَ وَمُدَّعِيهِ مع سلامة عقله) وهذا يناقض قوله غمرة جنونه إلا أن يحمل على غاية حماقته وسوء خلقه وسيجيء مزيد تحقيق لذلك في كلامه (كما قدّمناه لكنّه تقبل توبته على المشهور) من مذهب مالك الموافق للجمهور (وتنفعه إنابته) أي رجوعه وتوبته (وتنجّيه من القتل فيأته) بفتح الفاء وتكسر أي عودته وزواله عن عادته وسوء حالته (لكنّه لا يسلم من عظيم النّكال) بفتح النون أي العقوبة الشديدة في الدنيا (ولا يرفّه) بفتح الفاء المشددة أي لا يخفف غمه ولا ينفس كربه (من) وفي نسخة عنه (شديد العقاب) في مذهب مالك (لِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لِمِثْلِهِ عَنْ قَوْلِهِ وَلَهُ عن العودة لكفره) مع علمه (أو جهله إِلَّا مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَعُرِفَ اسْتِهَانَتُهُ) أي عدم مبالاته (بما أتى به) في حالاته (فهو دليل على سوء طويّته) أي ضميره وفساد نيته (وكذب توبته وصار كالزّنديق الّذي لا نؤمن باطنه) لانقلابه (ولا يقبل رجوعه) لعدم ثباته (وحكم السّكران) في هذا الباب (حكم الصاحي) زجرا عليه قياسا على صحة طلاقه (وأمّا المجنون) وهو والمسلوب العقل وفي الحديث أنه مر على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رجل فقالوا هذا مجنون فقال عليه الصلاة والسلام لا تقولوا مجنون إنما المجنون المقيم على المعصية ولكن قولوا رجل مصاب قال التلمساني وقيل صوابه لو قال المصاب الذي مس من جنون (والمعتوه) أي المصاب بعقله المخبط في قوله وفعله الناقص في شعوره (فَمَا عُلِمَ أَنَّهُ قَالَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حال غمرته) أي إغمائه (وذهاب ميزه) أي تمييزه (بالكلية فلا نظر فيه) أي بحكم (وَمَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ مَيْزِهِ وإن لم يكن معه عقله) كملا (وسقط تكليفه) بنقصان عقله (أدّب على ذلك لينزجر عنه) أي عن عوده هنالك (كَمَا يُؤَدَّبُ عَلَى قَبَائِحِ الْأَفْعَالِ وَيُوَالَى أَدَبُهُ) أي يتابع مرارا (على ذلك حتّى ينكفّ عنه) أي ينزجر منه (كما تؤدّب البهيمة على سوء الخلق) من جموح وعض ونحوهما (حتّى تراض) بصيغة المجهول أي حتى يستقيم طبعها (وَقَدْ أَحْرَقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنه من ادّعى له الإلهيّة) وهو عبد الله بن سبأ وأتباعه إذ قال له أنت الإله حقا فنفاه إلى المدائن وزعم أن ابن ملجم لم يقتله وإنما قتل شيطانا تصور بصورته وهو في السحاب سوطه البرق وصوته الرعد وإذا سمعوه قالوا السلام عليك يا أمير المؤمنين قالوا وسينزل ويملأ الأرض عدلا انتهى ما ذكره الدلجي ولا يخفى المناقضة بين نقله وكلام المصنف وقال التلمساني من ادعى له الألوهية فرقة من غلاة الروافض وهم من اتباع عبد الله بن سبأ وكان يزعم أن عليا هو الله وقد أحرق علي رضي الله تعالى عنه منهم جماعة زاد الأنطاكي وقال علي رضي الله تعالى عنه أني إذا رأيت أمرا منكرا ... اججت نارا ودعوت القنبرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 (وقد قتل عبد الملك بن مروان) أي ابن الحكم بن أبي العاص بن أبي أمية كان معاوية جعله على ديوان المدينة وهو ابن ست عشرة سنة وولاه أبوه مروان هجر ثم جعله خليفة بعده وكانت خلافته بعد أبيه سنة خمس وستين توفي عبد الملك بدمشق سنة ست وثمانين (الحارث) أي ابن سعيد (المتنبّي) الكذاب (وصلبه وفعل ذلك) أي مثل ذلك (غير واحد من الخلفاء) أي من بني أمية والعباسيين (والملوك) المتغلبين من الأمراء والسلاطين (بأشباههم) من الشياطين (وأجمع علماء وقتهم على تصويب فعلهم والمخالف في ذلك) الفعل (من كفرهم) أي من جهته (كافر) لجحده كفرهم (وأجمع فقهاء بغداد أيّام المقتدر بالله) جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن طلحة الموفق بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد (من المالكيّة) بيان لمن أجمع من فقهاء بغداد (وَقَاضِي قُضَاتِهَا أَبُو عُمَرَ الْمَالِكِيُّ عَلَى قَتْلِ الحلّاج) وهو حسين بن منصور الحلاج المشهور من أهل البيضاء بلدة بفارس ونشأ بواسط والعراق صحب ابا القاسم الجنيد وغيره (وصلبه لدعواه الإلهيّة والقول بالحلول) كغيره من المتصوفة المتصفة بسمة الإسلام من الوجودية وغيرهم قالوا إن السالك إذا وصل فربما حل الله فيه كالماء في العود الأخضر بحيث لا تمايز ولا تغاير ولا اثنينية وصح أن يقول هو أنا وأنا هو مع امتناعه حقيقة لصيرورة أحد شيئين بعينه الآخر والآخر بعينه هو لحكم العقل ضرورة بدون احتياج إلى حجة ولا يمتنع مجازا بأن يكون بطريق واحدة إما اتصالية كجمع مائين في إناء واحد أو اجتماعية كامتزاج ماء وتراب حتى صار طينا وإما بطريق كون وفساد كصيرورة ماء بالغليان هواء واحدا أو استحالة أي تغير كصيرورة جسم بعد كونه سوادا بياضا أو عكسه وهذا كله في حق الله تعالى محال لتنزهه عن الحلول والاتصال والانفصال وما للتراب ورب الأرباب وإنما هو انعكاس نور من أنواره وسر من أسراره يلمح في قلب السالك المتصف بالتخلية والتحلية وكمال التصفية فقد يتوهم أنه حل فيه كما يتوهم الطفل أنه يرى الشمس في الماء (وَقَوْلِهِ أَنَا الْحَقُّ مَعَ تَمَسُّكِهِ فِي الظَّاهِرِ) من حاله (بالشّريعة) في سائر أقواله وأفعاله حتى قيل إنه كعادته كل ليلة يصلي الف ركعة في الحبس (ولم يقبلوا توبته) بمقتضى مذهب المالكية مع أن قوله أنا الحق ليس بظاهر في دعوى الألوهية لأن الحق يأتي بمعنى الثابت وضد الباطل هذا وقد اعتذر الغزالي في مشكاة الأنوار عن الألفاظ الي كانت تصدر منه قيل ضرب الحلاج بأمر المقتدر ألف سوط وقطعت أطرافه وجز رأسه وأحرقت جثته وكان ذلك نهارا لثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة قيل إنه لما صلب جرى دمه في الأرض وينتقش الله الله قال القطب الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني عثر الحلاج فلم يجد من يأخذ بيده ولو أدركته لأخذت بيده ويقال إنه قال يوما للجنيد أنا الحق فقال له الجنيد أنت بالحق أي خشية تفسد فكوشف فيه لما يؤول حاله من الصلب قال بعضهم والدليل على صحة باطنه أنه كان يقطع يداه ورجلاه وهو يقول حسبي الواحد بإفراد الواحد وقد زار قبره بعض أهل الكشف فرأى نورا ساطعا من قبره إلى السماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 فقال يا رب ما الفرق بين قوله وبين قوله فرعون أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فألهم أن فرعون رأى نفسه وغاب عنا وهذا رآنا وغاب عن نفسه واستدل بعضهم على كفره بما حكى عنه أنه كان يقول من هذب نفسه بالطاعة وصبر عن اللذة والشهوة وصفا حتى لا يبقى فيه شائبة من البشرية حل فيه روح الإله كما حل في عيسى عليه الصلاة والسلام قيل ولا يريد بذلك ما يعتقده النصارى في عيسى والله تعالى اعلم وإنما أراد أن تكون أفعاله كلها فعل الله تعالى كما يشير إليه الحديث القدسي والكلام الأنسي لا يزال العبد يتقرب إلى النوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده الحديث هذا وإن صحت توبته فلا شك أنه عاش سعيدا ومات شهيدا وأما ما ذكره التلمساني من أنه وجد له كتاب كتبه إلى اتباعه عنوانه ممن هو رب الأرباب إلى عبده فلان واتباعه كانوا يكتبون إليه يا ذات الذات ومنتهى غاية اللذات نشهد أنك تتصور فيما شئت من الصور وأنك الآن منصور في صورة الحسين بن منصور ونحن نستجير بك ونرجو رحمتك يا علام الغيوب فلو صح هذا النقل لم يبق مجملا وقد أفرد ابن الجوزي ترجمته بالتأليف في كراسين أو أكثر (وكذلك حكموا) أي فقهاء بغداد من المالكية (في ابن أبي العزافير) بمهملة فزاء وبعد الألف قاف فراء وفي نسخة بزيادة تحتية ساكنة بين القاف والراء وفي أصل التلمساني بغين معجمة وراء فألف فقاف فياء فدال مهملة قال وروي العزاقيد بعين مهملة وزاء وآخره دال مهملة (وَكَانَ عَلَى نَحْوِ مَذْهَبِ الْحَلَّاجِ بَعْدَ هَذَا) أي متأخرا عنه وفعل به مثل ما فعل بالحلاج واسمه أبو جعفر محمد بن علي يقال له السمعاني نسبة إلى قرية بنواحي واسط وكان ظهوره سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة أحدث مذهبا في الرفض ببغداد ثم قال بالتناسخ وحلول الإلهية فيه وأضل جماعة فقبض عليه الوزير ابن مقلة (أيّام الرّاضي بالله) أبي العباس أحمد بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر (وقاضي قضاة بغداد يومئذ) وروي إذ ذاك (أبو الحسين بن أبي عمر المالكيّ) وهو محمد بن يوسف المذكور قبل فأحضر الملعون في مجلس الخلافة بحضرة القضاة والعلماء وحكم بإباحة دمه واحراقه (وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي الْمَبْسُوطِ مَنْ تَنَبَّأَ قُتِلَ؛ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ مَنْ جَحَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُهُ أَوْ رَبُّهُ أَوْ قَالَ لَيْسَ لِي رَبٌّ فَهُوَ مُرْتَدٌّ) أي لا زنديق فيستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ ومحمد) أي قال (فِي الْعُتْبِيَّةِ فِيمَنْ تَنَبَّأَ يُسْتَتَابُ أَسَرَّ ذَلِكَ أو أعلنه وهو كالمرتدّ وقاله) أي مثل مقاله (سحنون وغيره وقاله) أي مثل ذلك (أشهب في يهوديّ تنبّأ) ولم يدع الرسالة (وادّعى أنه رسول إلينا) أو إلى غيرنا (إن كان معلما بذلك استتيب فإن تاب وإلّا قتل) ومفهومه أنه إن كان مسرا لا يستتاب ويقتل لكونه زنديقا، (وقال أبو محمد بن أبي زيد فمن لعن بارئه) أي خالقه خلقا بريئا من التفاوت (وادّعى أنّ لسانه زلّ) أي زلق وأخطأ (وَإِنَّمَا أَرَادَ لَعْنَ الشَّيْطَانِ يُقْتَلُ بِكُفْرِهِ وَلَا يقبل عذره) وهذا خلاف ما سبق من القول ولهذا قال (وهذا) الذي ذكرناه مبني (على القول الآخر) بفتح الخاء أو كسرها (مِنْ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَقَالَ أَبُو الحسن القابسيّ في سكران) يصرف ويمنع (قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَنَا اللَّهُ إِنْ تَابَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 أدّب) ولم يقتل (فَإِنْ عَادَ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِ طُولِبَ مُطَالَبَةَ الزّنديق لأنّ هذا كفر المتلاعبين) المستترين للكفر في لباس منكر فيقتل ولا تقبل توبته والله ولي التوفيق. فصل (وأمّا من تكلّم من سقط القول) بفتح السين والقاف أي رديئه (وسخف اللّفظ) بضم أوله أي دنيئه (ممّن لم يضبط كلامه) لجهله (وأهمل لسانه) لخفة عقله (بما يقتضي الاستخفاف) أي التهاون (بعظمة ربّه) أي ذاته (وجلالة مولاه) من جهة صفاته (أو تمثّل في بعض الأشياء) أي جعله مثلا أو شبها (ببعض ما عظّم الله من ملكوته) كقول قائل: لبيت فلان كعبة الجود فائضا ... يطوف به العافون يبغون نائله (أو نزع) بفتح الزاء أي أخذ (من الكلام لمخلوق) وخاطبه (بِمَا لَا يَلِيقُ إِلَّا فِي حَقِّ خَالِقِهِ) كقول قائل لعظيم من الأنام يا ذا الجلال والإكرام وكما لو ناداه رجل باسمه فأجابه بقوله لبيك اللهم لبيك (غير قاصد للكفر والاستخفاف) أي الاستهانة بربه (ولا عامد للإلحاد) من فساد الاعتقاد المقتضي للحلول أو الاتحاد (فإن تكرّر هذا منه وعرف به) بأنه يصدر عنه (دَلَّ عَلَى تَلَاعُبِهِ بِدِينِهِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِحُرْمَةِ رَبِّهِ) وقلة يقينه (وجهله بعظيم عزّته) أي غلبة ربه وبهائه (وكبريائه وهذا) الذي دل على تلاعبه (كفر لا مرية فيه) لتماديه واصراره على مقاله (وكذلك إن كان ما أورده يوجب) وفي نسخة يقتضي (الاستخفاف والتّنقّص) وروي التنقيص (لربّه وقد أفتى ابن حبيب) قال الحلبي الظاهر إنه عبد الملك بن حبيب القرطبي وقد تقدم (وأصبغ) بفتح الهمزة والموحدة وفي آخره معجمة (ابن خليل) يروي عن يحيى بن يحيى الليثي ذكره الذهبي في الميزان فقال متهم بالكذب مات سنة ثلاث وسبعين ومائتين قال وحدثني شيخ المالكية أبو عمرو السعدي أنه بلغه أن أصبغ هذا قال لأن يكون في كتبي رأس خنزير أحب إلي من أن يكون فيها مصنف أبي بكر بن أبي شيبة أو كما قال وروى أصبغ بن خليل هذا عن المغازي ابن قيس عن سلمة بن وردان عن ابن شهاب عن الربيع بن خيثم عن ابن مسعود قال صليت خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر ثنتي عشره سنة وخلف عثمان ثنتي عشرة سنة وخلف علي بالكوفة خمس سنين فلم يرفع أحد منهم يديه إلا في تكبيرة الافتتاح وحدها قال القاضي عياض في المدارك فوقع في خطأ عظيم بين من وجوه منها أن سلمة بن وردان لم يرو عن الزهري ومنها أن الزهري لم يرو عن الربيع ابن خيثم ومنها قوله عن ابن مسعود صليت خلف علي بالكوفة خمس سنين وقد مات ابن مسعود في خلافة عثمان بالإجماع (مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ بِقَتْلِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ أَخِي عجب) وفي نسخة بابن من أخته عجب وعجب لا ينصرف للعلمية والتأنيث المعنوي لأنه اسم عمه المعروف المذكور واسمه يحيى بن زكريا وقد تجبر وعتا (وَكَانَ خَرَجَ يَوْمًا فَأَخَذَهُ الْمَطَرُ فَقَالَ بَدَأَ) بالألف أي ظهر وفي نسخة بالهمز أي ابتدأ (الخرّاز) بخاء معجمة وراء مشددة وفي آخره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 زاء (يرشّ) بضم الراء وتشديد المعجمة (جلوده) وفي نسخة بحرف جر وما بعده بصيغة المصدر المضاف إلى جلوده، (وكان بعض الفقهاء بها) أي بقرطبة (أبو زيد) كان الظاهر أبا زيد ليكون خبر كان وكان بعض الفقهاء في قوة من الفقهاء وهو محمد بن زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن خارجة ولا يبعد أن يكون أبو زيد بدل بعض من بعض الفقهاء وخبر كان قوله (صاحب الثّمانية) بمثلثة مضمومة وياء مشددة ولعلها بلدة أو قرية وكان أميرا عليها أبو زيد خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني ذلك البعض أبو زيد (وعبد الأعلى بن وهب) مات سنة إحدى وستين ومائتين (وأبان بن عيسى) فعال أو أفعل فيصرف أو يمنع والأكثر منعه (قد توقّفوا عن سفك دمه) فلم يقدموا على شيء من قتل وعدمه (وأشاروا إلى أنه) أي مقوله (عبث من القول) أي لعب ومزح في تشبيهه (يكفي فيه الأدب وأفتى بمثله) أي بمثل ما أشاروا به (الْقَاضِي حِينَئِذٍ مُوسَى بْنُ زِيَادٍ فَقَالَ ابْنُ حبيب: دمه في عنقي) أي في قتله متعلق بذمتي وفي عدتي أطالب به يوم القيامة، (أيشتم ربّ) وفي نسخة ربا (عبدناه ثمّ لا ننتصر له) أي لا ننتقم لأجل رضاه (إنّا إذا) بالتنوين أي إن لم ننصره (لعبيد سوء ما نحن له بعابدين) حق عبادته في أمر الدين؛ (وبكى) بكاء الحزين قال الدلجي وإن تعجب فعجب من ابن حبيب إذ أفتى حين شهد على أخيه حين قال كما مر لَقِيتُ فِي مَرَضِي هَذَا مَا لَوْ قَتَلْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ أَسْتَوْجِبْ هَذَا كُلَّهُ بعدم قتله مع ما يتضمنه قوله من نسبة الجور والظلم إليه تعالى فكأنه قال غاية أمري لو قتلتهما قتلت بهما ولم استوجب ما عاقبني الله به في مرضي هذا (ورفع المجلس) المنعقد لهذا القول (إلى الأمير بها) أي بقرطبة (عبد الرّحمن بن الحكم الأمويّ) بفتح الهمزة وتضم نسبة إلى بني أمية (وكانت عجب عمّة هذا المطلوب) للقتل أو التعزير (من حظاياه) بالظاء المعجمة أي من أقرب حلائله منه وأسعدهن به (وأعلم) بصيغة المجهول (بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فَخَرَجَ الْإِذْنُ مِنْ عِنْدِهِ بِالْأَخْذِ لقول ابن حبيب وصاحبه) أصبغ بن خليل (وأمر بقتله فقتل وصلب بحضرة) وفي نسخة بمحضر (الفقيهين) أي ابني حبيب وخليل (وعزل القاضي) موسى بن زياد (لتهمته بالمداهنة) أي المصانعة والملاينة (في هذه القصّة) وفي نسخة القضية (ووبّخ) بتشديد الموحدة فخاء معجمة أي هدد (بقيّة الفقهاء وسبّهم) لتوقفهم عن سفك دمه مع وضوح كفره. (وأمّا من صدرت عنه) وفي نسخة منه (الهنة) بتخفيف النون أي المقالة الفبيحة (الواحدة والفلتة الشّاردة) بفتح الفاء أي الزلة الصادرة النادرة (ما لم يكن تنقّصا وإزراء) أي احتقارا (فَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ مُقْتَضَاهَا وَشُنْعَةِ مَعْنَاهَا) بضم أوله أي شناعة مبناها وبشاعة معناها (وصورة حال قائلها وشرح سببها) الباعث عليها وفي نسخة سبيلها أي طريقها (ومقارنها) الذي جر الكلام إليها؛ (وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ نَادَى رَجُلًا بِاسْمِهِ فَأَجَابَهُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبّيك قال فإن كان جاهلا) بتفصيل معتقده (أو قاله على وجه سفه) أي خطأ لا عن اعتقاد (فلا شيء عليه) أي من القتل ونحوه وفيه بحث فإن ظاهره الكفر ولعله حمل الكلام على أنه قابل أن يكون لبيك الأول جوابا له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 ثم قوله اللهم لبيك قاله التفاتا كما يقول كثير من الجهلة والعامة عند استلام الحجر اللهم صلّ على نبي قبلك وسببه أنه سمع اللهم صل على نبي من قبلك وكذا صلى الله على نبي من قبله وكلاهما صحيح فلفق هذا القائل بين الكلامين من غير فرق لجهله بين المقامين والحاصل أنه لا بد من أن يردع ويزجر هنالك ليكف عن ذلك (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وشرح قوله) أي لا شيء عليه (أنّه لا قتل عليه) لا أنه لا يؤدب ولا يضرب بقدر ما يليق إليه (والجاهل يزجر) عن عود (ويعلّم) ما يجهله (والسّفيه) أي القليل العقل (يؤدّب ولو قالها) أي المجيب كلمة لبيك اللهم لبيك (على اعتقاد إنزاله) أي المجاب (منزلة ربّه) الذي هو رب الأرباب ورب العالمين من جميع الأبواب (لكفر، هذا) الحكم بكفره (مقتضى قوله) بحسب ظاهره وقيل هذا مقتضى قول ابن القاسم وقد بلغني عن بعض الوجودية أنه سمع نباح كلب فقال لبيك اللهم لبيك فهذا كفر صريح ليس له تأويل صحيح فإن المستحب أن يقال لإنسان نادى أحدا في جوابه لبيك كما ورد في السنة بخلاف ما إذا سمع الإنسان صوت كلب فإنه يستحب له أن يتعوذ بالله فإنه إنما ينج إذا رأى شيطانا كما ثبت في الحديث (وقد أسرف) أي تجاوز عن الحد (كثير من سخفاء الشّعراء) أي جهلائهم (ومتّهميهم في هذا الباب) أي باب الديانة لكثرة ما وقع منهم من التهاون في الأمور والخفة (واستخفّوا) أي استهانوا (عظيم هذه الحرمة) أي حرمة الله سبحانه وتعالى (فأتوا) أي سخفاء الشعراء (من ذلك) النوع من الكلام (بما ننزّه كتابنا ولساننا وأقلامنا) وكذا اسماعنا وأفهامنا (عن ذكره) لشناعة مبناه وبشاعة معناه (ولولا أنّا قصدنا) أي أردنا (نصّ مسائل) أي صريحها وفي نسخة قص مسائل أي حكايتها وروايتها (حكيناها) لبيان ما تتعلق به من روايتها (لما ذكرنا شيئا منها) اعراضا عنها (مِمَّا يَثْقُلُ ذِكْرُهُ عَلَيْنَا مِمَّا حَكَيْنَاهُ فِي هذه الفصول) المتقدمة، (وأمّا ما ورد في هذا) الباب (من أهل الجهالة) بمنطق الصواب (وأغاليط اللّسان) في ميدان البيان (كقول بعض الأعراب) مما لا يجوز نسبته إلى رب الأرباب (ربّ العباد) بالنصب على حذف حرف النداء (ما لنا ومالكا) أي لك والألف للإشباع وما فيهما للاستفهام إنكار وهو محل الجهالة في الكلام لأنه من كلام الأكفاء لا سيما وفيه قبح أشنع من الأول هو أن ما استفهام إنكار وهو مقام الأقوياء على الضعفاء (قد كنت تسقينا) بفتح أوله وضمه (فما بدا لكا) أي فما ظهر لك الآن حتى ما تسقينا كدأبك معنا وهذا أيضا موضع الجهالة ومحل الضلالة لأن البداء عيب في الحال وهو على الله من المحال لأنه في أصله أن يفعل الإنسان فعلا ثم يظهر له ما هو أفضل منه وهذا يتصور من البشر لا من خالق القوي والقدر ولم يقل بالبداء إلا اليهود قاتلهم الله أنى يؤفكون (أنزل علينا الغيث لا أبالكا) قال ابن الأثير هو أكثر ما يستعمل في المدح أي لا كافي لك غير نفسك وقد يذكر ذلك في معرض الذم وقد يذكر في معرض التعجب ودفعا للعين انتهى وحاصله أنه ليس بكفر صريح في المبنى قال وسمع سليمان بن عبد الملك رجلا من الأعراب في سنة مجدبة يقول رب العباد فذكره إلى آخره فحمله سليمان على أحسن محمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 وقال أشهد أن لا أباله ولا صاحبة ولا ولد انتهى وفيه إيماء إلى أنه من باب الاكتفاء قال التلمساني ووقع في كثير من كلام خيار المسلمين من الصحابة والتابعين ما هو على أصل لغة الحجاز في استعمال المجاز ومنه قول أبي عامر الأشعري وروى لعبد الله بن رواحة فاغفر فداء لك ما اقتفينا ووجه ذلك أن الفداء إنما يكون فيمن تلحقه المقدرة والله سبحانه وتعالى منزه عنه فيحاشى منه واختلف فقيل على مجاز كلام العرب ومبناه ولا يلتفت إلى حقيقة معناه وقيل أراد بالتفدية التعظيم لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظم فيكون فيه معنى التجريد أو معناه أبذل نفسي ومن يعز علي في رضاك وقيل روي فاغفر لنا فداك ما اقتفينا وهو بين ويحتمل أن قوله فاغفر البيت ليس من الكلام الأول وإنما هو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومعناه أنه سأل النبي عليه السلام أن يغفر له ما قصر في حقه والقيام به والتفدية عليه صحيحة ومنه: فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم فداء (في أشباه لهذا) الشعر (من كلام الجهّال) نثرا ونظما (ومن) أي ومن كلام من (لم يقوّمه) أي يعدله (ثقاف تأديب الشّريعة) بكسر المثلثة وبالقاف أي ما يسوي ويقوم به الرماح ثم استعير للزواجر التي ورد بها الشرع (والعلم في هذا الباب) المتعلق بتعظيم رب الأرباب (فقلّما يصدر) مثل ذلك (إلّا من جاهل يجب تعليمه) على الناس كما يجب عليه تعلمه (وَزَجْرُهُ وَالْإِغْلَاظُ لَهُ عَنِ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِهِ) وهذا التأديب على نسق الترتيب كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَابِيُّ وَهَذَا تَهَوُّرٌ مِنَ القول) أي مبالغة في المجاوزة عن الاستقامة (والله منزّه عن هذه الأمور) لأنه سبحانه وتعالى كما ورد يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها (وقد روينا) بصيغة الفاعل أو المفعول مخففا وقيل مشددا (عن عون بن عبد الله) بن عتبة الهذلي الكوفي الزاهد (أَنَّهُ قَالَ لِيُعَظِّمْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ أَنْ يَذْكُرَ اسمه في كلّ شيء) من طيب وخبيث بل يخصه بالطيب فإن الله طيب يحب الطيب قد قال تعالى الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ (حتّى لا يقول أخزى الله الكلب وفعل) أي الله (به كذا وكذا) من المكروهات (وكان بعض من أدركنا من مشايخنا) المالكية (قلّما يذكر اسم الله تعالى) ما صدرية لا نافية كافة كما اختاره التلمساني (إلّا فيما يتّصل بطاعته وكان) أي لك البعض (يقول للإنسان) إذا دعا له (جزيت خيرا) بصيغة المجهول (وَقَلَّمَا يَقُولُ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا إِعْظَامًا لِاسْمِهِ تعالى أن يمتهن) أي يستعمل بكثرة (في غير قربة) ولا يخفى أن الدعوة للأخ المسلم قربة وقد ورد من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء رواه الترمذي والنسائي وابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 ماجه وابن حبان في صحيحه عن اسامة ونظير هذا ما ذكره التلمساني عن ابن عرفة في تفسيره أن بعضهم كان يكره أن يقال للسائل يفتح الله تنزيها لاسم الله تعالى أن يذكره لمن يكره سماعه وإنما يقول ما حضر لك في الوقت شي أو نحوه أقول السائل لم يكره سماع اسم ربه نعم إنما يكره حرمانه وهو يحصل بأي مقال يقال في جوابه فالدعاء أولى له فإنه ربما يفرح به بدعائه أكثر من عطائه ثم قيل لابن عرفة قال المفسرون في قوله تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً إن القول الميسور أن يقول لهم رزقنا الله وإياكم من فضله فقال ابن عرفة الكراهة لا تنافي الإباحة انتهى وفساده ظاهر لا يخفى لأن الأمر في الآية للاستخفاف والكراهة غير ثابتة في هذا الباب؛ (وحدثنا الثقة) أي بعض من أثق به في الرواية (أنّ الإمام أبا بكر الشّاشيّ) قال الحلبي الظاهر أنه محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير الشافعي والشاش مدينة بما رواء النهر قال العبادي فيه أفصح الأصحاب قلما وأثبتهم في دقائق العلوم قدما واسرعهم بيانا وأثبتهم جنانا وأعلاهم إسنادا وأرفعهم عمادا توفي سنة خمس وستين وثلاثمائة (كان يعيب على أهل الكلام) أي علماء أصول الدين (كثرة خوضهم فيه) أي في ذاته (تَعَالَى وَفِي ذِكْرِ صِفَاتِهِ إِجْلَالًا لِاسْمِهِ تَعَالَى ويقول هؤلاء) أي أهل الكلام (يتمندلون بالله) أي يتداولونه ويتناولونه كالمنديل بكثرة تدول ألسنتهم له في الأقاويل (جلّ) أي جلاله (وعز) كماله وهذا مخالف للكتاب والسنة جيث قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وقال وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ وفي الحديث أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون رواه أحمد في مسنده وأبو يعلى الموصلي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والبيهقي في شعبه عن أبي سعيد وفي رواية لأحمد أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقول المنافقون أنكم مراؤون وقد ورد من أحب شيئا أكثر ذكره رواه الديلمي عن عائشة رضي لله تعالى عنها والأحاديث في هذا أكثر من أن تذكر وقد صح عن رئيس أهل التحقيق أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ليتني كنت أخرس إلا عن ذكر الله ولله در القائل: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع هذا وعن بعض التابعين أنه كانت له بضاعة يتجر فيها فقيل له في ذلك فقال لولاها لتمندل بي بنو العباس أي لابتذلوني بالتردد إليهم لطلب ما لديهم وأغرب منه قوله (وينزّل) أي الشاشي (الكلام) وفي نسخة بصيغة المجهول (في هذا الباب) أي باب كثرة الكلام في اسمه سبحانه وتعالى (تنزيله في باب سابّ) وفي نسخة سب (النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على الوجوه الّتي فصّلناها) من قتله وصلبه وحبسه وضربه وفي أنه لا ملائمة بين من تمندل بالله ومن سب نبيه نعم يلزم على زعم هذا القائل إن المحدثين لكثرة خوضهم في ذكر سيد المرسلين ينزلون في باب سب النبي وحاشاهم من ذلك لعلو مرتبتهم هنالك بل هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 القائل هو الأحق بأن يلحق بمن سب الحق عند المحقق (والله الموفّق) نعم ذم السلف الكرام أهل الكلام من حيث إنهم يتعلقون بذات الله تعالى وصفاته العلية بالأدلة العقلية والقواعد الفلسفية وقد قال الله تعالى وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وورد عنه عليه الصلاة والسلام لا تتفكروا في ذات الله وتفكروا في مصنوعاته وقد بسطت الكلام على هذا المرام في شرح الفقه الأكبر فتأمل وتدبر. فصل (وَحُكْمُ مَنْ سَبَّ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وملائكته) أي جميعهم (وَاسْتَخَفَّ بِهِمْ أَوْ كَذَّبَهُمْ فِيمَا أَتَوْا بِهِ) من وحيهم وفعلهم (أو أنكرهم) أي وجودهم (وجحدهم) أي نزولهم كقول مالك بن الصيف ما انزل الله على بشر من شيء حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام أليس في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين قال نعم قال فأنت الحبر السمين فمن صدر منه شيء من ذلك فحكمه (حكم نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم على مساق ما قدّمناه) أي نهجه وسبيله في وجوب قتله كفرا إن لم يتب وحدا إن تاب كما هو مذهب مالك في هذا الباب (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بشرا وملكا (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ [النِّسَاءِ: 150] ) إيمانا وكفرا (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) كاليهود كفروا بعيسى ومحمد وكالنصارى كفروا بمحمد (الآية) أي ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا متوسطا بين الإيمان والكفر أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (وقال تعالى) بالخطاب العام (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) أي من القرآن (وَما أُنْزِلَ) أي من الصحف (إِلى إِبْراهِيمَ الآية) وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط أي أولادهم وأحفادهم من الأنبياء وما أوتي موسى وعيسى من التورية والإنجيل وما أوتي النبيون من ربهم كالزبور لداود (إِلَى قَوْلِهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة: 136] ) في الإيمان لا في التفصيل (وقال) أي الله تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون (كُلٌّ) أي كلهم أو كل واحد منهم (آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) إيمانا إجماليا قائلين (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَةِ: 285] ) بل نؤمن بكلهم ونعتقد أن بعضهم أفضل من بعض وأن نجهل تفضيل بعضهم (قاله) وفي نسخة قَالَ (مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ وَمُحَمَّدٍ) هو ابن المواز كما جزم به الحلبي وقال الدلجي لعله ابن سحنون (وقاله ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ) وفي نسخة وابن عبد الملك (وأصبغ) أي ابن الفرج (وسحنون فيمن شتم الأنبياء) أي عموما (أو أحدا منهم) أي خصوصا (أو تنقّصه قتل ولم يستتب) أي إذا كان مسلما (وَمَنْ سَبَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قُتِلَ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ وَرَوَى سُحْنُونٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ من سبّ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كفروا به) وفيه أنه ليس سب الأنبياء في وجه من الوجوه التي كفروا بها فلا يحتاج إلى هذا القيد الزائد على ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 قبله (ضرب عنقه إلّا أن يسلم) وفي المبسوطة قيده بقوله طوعا (وقد تقدّم الخلاف في هذا الأصل) أي فيمن سب الله تعالى بغير هذا الوجه فقال ابن القاسم في كتاب محمد إلا أن يسلم كما هنا وقال المخزومي في المبسوط وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ لَا يقتل حتى يستتاب مسلما أو كافرا فإن تاب وإلا قتل وهذا هو الصواب ولكن لا يخفى أن الذمي بسب الله أو أحد من أنبيائه يخرج عن كونه ذميا ويصير حربيا فإن أسلم سلم وإلا قتل فليس قوله تاب على ظاهره من التوبة عن سبه مع بقائه على ذمته (وقال القاضي بقرطبة) بضم القاف والطاء (سعيد بن سليمان) وفي نسخة ابن عبد الرحمن (في بعض أجوبته) لبعض اسئلته (من سبّ الله وملائكته أو انبياءه قتل) أي مطلقا إلا أن يسلم، (قال سحنون من شتم ملكا من الملائكة) معينا أو مبهما (فعليه القتل) واجب، (وفي النّوادر) لابن أبي زيد (عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ قَالَ إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْطَأَ بالوحي) بتأديته إلى محمد (وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ استتيب فإن تاب وإلّا قتل) لكفره بافترائه على أمين الوحي وتجهيله الله سبحانه وتعالى وإنكاره نبوة محمد وإثبات نبوة علي (ونحوه عن سحنون) منقول (وهذا) القول بتخطئة جبريل (قَوْلُ الْغُرَابِيَّةِ مِنَ الرَّوَافِضِ سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ كان النبيّ أشبه بعليّ من الغراب بالغراب) والذباب بالذباب وقد أبطلنا قولهم فيما سبق من باب الكتاب (وقال أبو حنيفة وأصحابه على أصلهم) المعتمد عندهم وجمهور أهل العلم (مَنْ كَذَّبَ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ تَنَقَّصَ أحدا منهم أو برئ منه) أي تبرأ من أحد منهم (فهو مرتدّ) يقتل إن لم يتب (وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ فِي الَّذِي قَالَ لآخر كأنّه) أي وجهه (وجه مالك) أي خازن النار وفي نسخة وجه ملك (الغضبان لو عرف) من قرائن قاله أو حاله (أنه قصد ذمّ الملك قتل) بخلاف ما إذا أراد تشبيهه به من حيث الهيبة والخشية (قال القاضي أبو الفضل) أي المصنف (وهذا كلّه فيمن تكلّم فيهم) أي في الأنبياء والملائكة (بما قلناه على جملة الملائكة والنّبيين) أي عموما أو إجمالا بأن شتم نبينا أو ملكا غير معين (أَوْ عَلَى مُعَيَّنٍ مِمَّنْ حَقَّقْنَا كَوْنَهُ مِنَ الملائكة والنّبيّين ممّن نصّ الله تعالى عليه) أي على كونه نبيا أو ملكا (فِي كِتَابِهِ أَوْ حَقَّقْنَا عِلْمَهُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ والمشتهر) بفتح الهاء وكسرها أي المشهور عند أئمة الحديث (المتفّق عليه) أي على صحته (بالإجماع) الظاهر أو بالإجماع (القاطع) أي مما لا خلاف فيه أنه منهم (كجبريل وميكائيل) قال الله تعالى مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وفيهما قراآت معروفة (ومالك) في قوله تعالى وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ (وخزنة الجنّة وجهنم) في قوله تعالى وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ (والزّبانية) في قوله تعالى فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ من الزبن وهو الدفع (وحملة العرش) في قوله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهم ثمانية فقيل صفوف وقيل ألوف وقيد صنوف وقيل ثمانية أنفس وقيل هم الآن أربعة وتزيد يوم القيامة أربعة وهو ظاهر قوله تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (المذكورين في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 القرآن) كما حررنا مواضعها في البيان (من الملائكة) المسطورين (ومن سمّي فيه من الأنبياء) أي كآدم وإدريس ونوح وهود وصالح ولوط وبإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وشعيب وداود وسليمان وأيوب وزكريا ويحيى وعيسى ويونس وإلياس واليسع وذي الكفل ومحمد عليهم الصلاة والسلام وكذا شيث بن آدم كما هو مشهور (وكعزرائيل) المعبر عنه في القرآن بملك الموت في قوله تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ وهو بفتح أوله ممدودا ويقال عزريل بكسر العين وكسر الراء (وإسرافيل) وهو صاحب الصور المكنى عنه بقوله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ (ورضوان) بكسر الراء وضمها أي خازن الجنة (والحفظة) المعير عنهم بقوله سبحانه وتعالى كِراماً كاتِبِينَ (ومنكر) بفتح الكاف وأما كسره فمنكر (ونكير) الفتانان في القبر (من الملائكة المتّفق) على وجودهم عند العلماء بناء (على قبول الخبر بها) لأجل كثرة طرقه التى كادت أن تكون متواترة وفي نسخة بهما وفي أخرى بهم (فأمّا من) وفي نسخة ما (لم تثبت الأخبار بتعيينه) أنه نبي أو مالك (وَلَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أو الأنبياء كهاروت وماروت) المعدودين (في الملائكة) على خلاف فيهما هل هما ملكان بالفتح أو ملكان بالكسر بناء على القراءتين والأظهر إنهما من الملائكة (والخضر) اختلف في كونه وليا أو نبيا والأظهر الثاني (ولقمان) قيل كان نبيا وقيل حكيما وهو الأظهر وكان عبدا حبشيا وقيل نوبيا وقيل كان ابن أخت داود وقيل ابن خالته (وذي القرنين) فقيل رجل صالح وهو قول علي وقيل نبي وروي عن عمر وقيل ملك بكسر اللام وسمي بذلك لأنه بلغ قرني الدنيا وهما المشرق والمغرب وقيل كان له قرنان صغيران تواريهما عمامته وقيل لأنه دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ثم حيى ثم دعاهم فضربوه على قرنه الآخر فمات وقيل لأنه كريم الطرفين من أبيه وأمه وقيل كان يقاتل بيده وركابه وقيل علم علما باطنا وظاهرا وقيل دخل الظلمة والنور وقيل لأنه عاش مضي قرنين روي أنه عليه السلام سئل عنه أنبي كان أم لا فقال لا أدري رواه الحاكم في مستدركه وكذا قال عليه الصلاة والسلام وفي عزير على ما رواه أبو جاود والحاكم وكذا دانيال مختلف في نبوته (ومريم) ابنة عمران لقوله تعالى إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ونحو ذلك وكذا أم موسى ويشير إلى نبوتها قوله وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى والمحققون على أن المعنى الهمنا لقوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ وفيه بحث على مذهب من فرق بين النبوة والرسالة (وآسية) ابنة مزاحم امرأة فرعون وابنة عمه وقيل هي عمة موسى عليه الصلاة والسلام لكن لا أعرف أحدا قال بنبوتها ولا دليلا على ثبوته نسبتها (وخالد بن سنان) بسين مكسورة وهو العبسي بموحدة منسوب لبني عبس قوم من العرب وكان بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان خالد بن سنان نبي بني عبس مبشرا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال ووردت ابنة له عجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 قد عمرت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتلقاها بخير واكرمها وأسلمت فقال لها مرحبا بابنة نبي ضيعه أهله وسمعته صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقالت كان أبي بقولها (المذكور أنه نبيّ أهل الرّسّ) بتشديد السين المهملة أي البئر غير المطوية قيل كذبوه ورسوه أي دسوه فيها حتى مات وقيل نبيهم حنظلة بن صفوان وكانوا مبتلين بالعنقاء أعظم طير كأنها سيمت عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلا لهم وتخطف صبيانهم إذا أعوذها الصيد فدعا عليها حنظلة فأخذتها صاعقة فقتلوه فأهلكوا والمشهور عند الجمهور أن أصحاب الرس المذكور في القرآن قوم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيبا فكذبوه فبينما هم حول الرس فانهارت فخسف بهم وبديارهم وأما قوم تبع فقال قتادة هو تبع الحميري كان سار بالجيوش حتى حير الحيرة وبنى سمرقند وكان من ملوك اليمن سمي تبعا لكثرة اتباعه وكان هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام فكذبوه وله قصة طويلة ذكرها البغوي في المعالم وهو أول من كسا البيت وقد آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعث بسبعمائة عام وقد ثبت حديث في مسند أحمد عن سهل بن سعد مرفوعا لا تسبوا تبعا فإنه قد كان اسلم وحديث آخر برواية ابن أبي شيبة عن أبي هريرة مرفوعا ما أدري تبع كان نبيا أو غير نبي وفيما ورد من الأحاديث الواردة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في حق بعضهم ما أدري أهو نبي أو غير نبي دليل جليل على صحة الإيمان الإجمالي وإيماء إلى تحقيق ما أورد من أن لا أدري نصف العلم ومتمسك للمجتهدين في توفقهم في بعض مسائل الدين (وزرادشت) بزاء مفتوحة وتضم فراء فألف ودال مهملة مضمومة وقيل معجمة مفتوحة فشين معجمة ساكنة ففوقية ممنوع وهو صاحب كتاب المجوس (الّذي تدّعي المجوس والمؤرّخون نبوّته) وينسبون إليه أصولهم الفاسدة وقواعدهم الكاسدة وقيل إنه كان نبيا وأن اتباعه غيروا شريعته كاليهود والنصارى غيروا شرائعهم وأبدعوا بدائعهم (فليس الحكم في سابّهم والكافر بهم) لكون الخلاف في نبوتهم (كالحكم فيمن قدّمناه) ممن اتفق على نبوتهم أو رسالتهم (إذ لم تثبت لهم تلك الحرمة) قطعا بل ظنا (ولكن يزجر من تنقّصهم) وآذاهم بلسانه (ويؤدّب بقدر حال المقول فيه) وفي نسخة فيهم أي ضعفا وقوة من الأدلة (لا سيّما من عرفت صدّيقيّته) أي ولايته (وفضله) أي صالحه (منهم وإن لم تثبت نبوّته) بدليل قاطع (وأمّا إنكار نبوّتهم) لكون الخلاف في نبوتهم (أو كون الآخر) كهاروت وماروت (من الملائكة) أم لا فاسمع جوابه مفصلا (فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ العلم) أي علم الشريعة من الكتاب والسنة إذ لا عبرة بغيرهم في هذه المسألة (فلا حرج عليه) أي في إنكاره ونفيه عن علم ودليل أو نقل (لاختلاف العلماء في ذلك) لكن لا يخفى أن الأحوط في حقه أن لا ينفيه ولا يثبته لئلا يدخل في الأنبياء من ليس بنبي ولا يخرج نبي منهم فإنه خطر عظيم بنبغي أن ينقل الخلاف ويرجح ما ظهر عنده أو عند غيره (وإن كان) المتكلم في ذلك (مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ زُجِرَ عَنِ الْخَوْضِ فِي مثل هذا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 الكلام (فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ الْكَلَامُ في مثل هذا) الكلام لئلا ينجر إلى ما يرد عليه من الملام (وقد كره السّلف) الكرام (الكلام في مثل هذا) المقام (مِمَّا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فَكَيْفَ للعامّة) وفيه بحث لأن العلماء هم الذين يبينون مراتب الأنبياء وعلمهم كله عمل بل خير عمل كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم فالعلم إما فرض عين أو كفاية فهو أفضل من عبادة نافلة ولكون نفع هذا قاصرا أو نفع الأول متعديا وأما العامة فينبغي لهم السكوت عما لا يدرون. فصل (واعلم أن من استخفّ بالقرآن) أي بمبناه أو معناه أو بأهله الوارد في حقهم أن أهل القرآن أهل الله وخاصته (أو المصحف) بضم الميم وكسرها والأول أشهر وفي القاموس بتثليث الميم من أصحف بالضم إذا جعلت فيه الصحف انتهى ولعل الكسر على أنه آلة والفتح على أنه اسم مكان والضم على أنه مفعول وقد كفر الوليد بسبب إهانة المصحف فإنه روي أنه فتحه يوما وتفأل فوقع بصره على قوله تعالى وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فأمر بالمصحف فنصب غرضا ورماه بالنبل حتى تمزق وأنشد: أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب مزقني الوليد والوليد هذا هو الذي ورد فيه أنه فرعون هذه الأمة ونزلت آيات كثيرة في حقه من المذمة (أو بشيء منه) كورق أو لوح أو درهم مسطور فيه (أو سبّهما أو جحده) أي أنكر القرآن كله (أو حرفا منه) في القراآت السبع (أو آية) ولو كانت حرفا (أو كذّب به) أي بالقرآن جميعه (أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ أَوْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صرّح به) أي بذلك الشيء (فيه) أي في القرآن (من حكم) كأمر ونهي (أو خبر) عن سابق أو لاحق (أَوْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ أَوْ نَفَى مَا أثبته على علم منه بذلك) أي دون نسيان أو خطأ (أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كافر عند أهل العلم) قاطبة (بإجماع) لا خلاف فيه (قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي بديع أو منيع (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) أي الناسخ الذي يبطله أو يدفعه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي من قدامه (وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ) منزل (مِنْ حَكِيمٍ) أي ذي حكمة في أحكامه وأقواله (حَمِيدٍ [فصلت: 41- 42] ) محمود في ذاته وصفاته وأفعاله (حَدَّثَنَا الْفَقِيهُ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ رحمه الله حدّثنا أبو عليّ) الغساني (حدّثنا ابن عبد البرّ) حافظ الغرب (حدّثنا ابن عبد المؤمن) القرطبي (حدّثنا ابن داسة) راوي سنن أبي داود عنه (حدّثنا أبو داود) السجستاني صاحب السنن ومحدث العصر (حدّثنا أحمد بن حنبل) إمام أهل السنة (حدّثنا يزيد بن هارون) هو أبو خالد السلمي الواسطي أحد الاعلام (حدّثنا محمد بن عمرو) أي ابن علقمة بن وقاص الليثي يروي عن أبيه وعن أبي سلمة وطائفة وعنه شعبة ومالك ومحمد بن عبد الله الأنصاري وجماعة (عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 أبي سلمة) أحد الفقهاء السبعة عند أكثر علماء الحجاز (عن أبي هريرة) قال الحلبي وفي كلام بعض متأخري الحنفية المصريين أنه عبد الرحمن بن صخر على الأصح من نحو ثلاثة وأربعين قولا (عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال المراء) بكسر الميم مصدر بمعنى المماراة (في القرآن كفر) ورواه الحاكم أيضا وفي رواية لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر (تؤوّل) بصيغة المجهول أي فسر المراء (بمعنى الشّكّ) ومنه قوله تعالى فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ (وبمعنى الجدال) ومنه قوله تعالى فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وقد قال تعالى ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وقال ابن الأثير تبعا للهروي المماراة المجادلة على مذهب الشك والربية ويقال للمناظرة مماراة لأن كل واحد يستخرج ما عند صاحبه ويمتريه كما يمتري الحالب اللبن من الضرع قال أبو عبيد ليس وجه الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل ولكنه على الاختلاف في اللفظ وهو أن يقرأ الرجل على حرف فيقول الآخر ليس هو كذا ولكنه على خلافه وكلاهما منزل مقروء بهما فإذا جحد كل واحد قراءة صاحبه لم يأمن أن يكون ذلك يخرجه إلى الكفر لأنه نفى حرفا أنزله الله على نبيه ثم النكير في مراء إيذان بأن شيئا منه كفر فضلا عما زاد عليه وقيل إنما جاء هذا في الجدال والمراء في الآيات التي فيها ذكر القدر ونحوه من المعاني على مذهب أهل الكلام وأصحاب الأهواء والآراء دون ما تضمنته من الأحكام وأبواب الحلال والحرام فإن ذلك قد جرى بين الصحابة الكرام فمن بعدهم من العلماء الأعلام وذلك فيما يكون الغرض منه والباعث عليه ظهور الحق ليتبع دون الغلبة والتعجيز؛ (وعن ابن عبّاس) كما رواه ابن ماجه (عن النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جَحَدَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ حَلَّ ضَرْبُ عُنُقِهِ وكذلك إن جحد التّوراة والإنجيل) أي إجمالا لا آية منهما لاحتمال كونها محرفة أو لا تكون فيهما أصلا وذلك لقوله تعالى وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وأنزل الفرقان وكان حقه أن يقول والزبور لقوله تعالى وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وفسر به القرآن أيضا وكذا صحف إبراهيم مذكورة بالخصوص (وكتب الله المنزّلة) أي بعمومها الواجب الإيمان مجملا بتمامها (أو كفر بها) أي كلها أو بعضها (أو لعنها) أي شتمها (أو سبّها) أي عابها (أو استخفّ بها) أي أهانها (فهو كافر) وأما لو جحد آية من التوراة أو الإنجيل ففيه خطر لاحتمال كونها منهما فيكفر أو لا تكون منهما لما وقع من التحريف فيهما فلا يكفر ولذا قال عليه الصلاة والسلام لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقد قال تعالى وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي منقادون للحق تابعون للصدق (وقد أجمع المسلمون أنّ القرآن المتلوّ) على ألسنة أهل الإيمان (في جميع أقطار الأرض) أي أطرافها وأكنافها (المكتوب في المصحف) أي جنسه من المصاحف (بأيدي المسلمين) احتراز عما قد يوجد في أيدي غيرهم من الملحدين فربما يزيدون أو ينقصون في أمر الدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 (ممّا جمعه الدّفتان) بتشديد الفاء وهما ما يضمه من جانبيه (مِنْ أَوَّلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَةِ: 2] ) برفع الحمد على الحكاية ويجر بالكسر على الاعراب (إِلَى آخِرِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [النَّاسِ: 1] أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّهِ محمد صلى الله تعالى عليه وسلم) وفيه إيماء إلى أن تنكيس القرآن ليس سنة بل بدعة ولعله لم يذكر البسملة لأنها ليست من القرآن في مذهب مالك لكنه لا شك أنها مما بين الدفتين للإجماع على أن الصحابة كتبوا البسملة في أوائل كل السور إلا براءة ولهذا ذهب المحققون من ائمتنا الحنفية أنها آية من القرآن أنزلت للفصل ولا بدع أن يراد بالحمد لله رب العالمين سورة الفاتحة فتشمل البسملة الفاتحة ولكن يأباه أن الكلام في التكفير فالقدر المتعلق هو الذي بينه في مقام التقدير والأحاديث في باب البسملة متعارضة مع كونها آحادا فلا تفيد القطع وإنما توجب الظن ولهذا اختلف العلماء في مسألة البسملة والله سبحانه وتعالى اعلم (وأنّ جميع ما فيه حقّ) أي ثابت وصدق (وَأَنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفًا قَاصِدًا لِذَلِكَ) النقص (أو بدّله بحرف آخر مكانه) ولو لم يغير شأنه (أَوْ زَادَ فِيهِ حَرْفًا مِمَّا لَمْ يَشْتَمِلْ عليه المصحف الّذي وقع عليه الإجماع) أي كتابة وقراءة (وأجمع) بصيغة المجهول وفي نسخة بصيغة الفاعل أي وجزم وعزم (على أنّه ليس من القرآن عامدا) أي لا سهوا ولا نسيانا (لكلّ هذا) الذي ذكر من النقصان والزيادة (أنه كافر) إلا القراآت الشاذة التي ثبتت في الجملة بحسب الرواية بشرط أن لا يلحقها بالمصاحف في الكتابة (ولهذا) الذي ذكرنا من أن جميع ما في القرآن حق (رَأَى مَالِكٌ قَتْلَ مَنْ سَبَّ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها بالفرية) أي الإفك (لأنّه خالف القرآن) أي بعضه النازل في براءة ساحة عائشة أن تكون فاحشة (ومن خالف القرآن) أي اعتقادا لا عملا (قتل أي لأنّه كذّب بما فيه) من آيات دالة على براءتها وإنما اكتفى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بحد القذف على قاذفيها لما صدر عنهم قبل براءة ساحتها فحينئذ لا وجه لتخصيص مالك فإن إجماع العلماء على ذلك، (وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تعالى لم يكلّم موسى تكليما يقتل) لتكذيبه قوله تعالى فيه وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً وهذا مجمع عليه وإنما الكلام في معنى الكلام من النفسي وغيره بين أهل السنة والمعتزلة (وقاله) أي قال به ونص عليه أيضا (عبد الرّحمن بن مهديّ) من أصحاب الشافعي قال التلمساني مهدي مفعول وكره مالك التسمية بمهدي قال وما علمه بأنه مهدي وأباح التسمية بالهادي وقال لأن الهادي هو الذي يهدي الطريق انتهى ولا يخفى أن المهدي أيضا هو الذي يهدي إلى الطريق وما علمه بأنه هاد وليس بمهدي ومن أين له حمل المهدي على الهداية الشرعية وحمل الهادي على الدلالة اللغوية أو العرفية على أن الاسماء كلها تسمى على جهة التفاؤل والتبرك وإلا لما كان يصح لأحد أن يسمى محمودا ومحمدا وأحمدا ولا عليا ولا فاطمة ولا عائشة وأمثال ذلك (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ فِيمَنْ قَالَ الْمُعَوِّذَتَانِ) بكسر الواو وتفتح وهما سورة الفلق والناس (لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يُضْرَبُ عُنُقُهُ إِلَّا أن يتوب) لنفيه لهما منه مع ثبوتهما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 المصاحف العثمانية التي وقع عليها إجماع الأمة قال النووي في شرح المهذب أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن وأن من جحد شيئا منها كفر وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه قال ابن حزم في أول كتابه المحلي هذا كذب على ابن مسعود وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود وفيها الفاتحة والمعوذتان انتهى وأما ما روي عن عبد الله بن أحمد في زوائد المسند أن ابن مسعود كان يحك المعوذتين من مصاحفة ويقول إنهما ليستا من كتاب الله فالجواب على وجه الصواب ما قال ابن الباقلاني أنه لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن إنما أنكر إثباتهما في المصحف لأنه كانت السنة عنده أن لا يثبت إلا ما أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإثباته ولم يبلغه أمره به وهذا تأويل منه وليس جحدا لكونهما قرآنا وأجيب أيضا بأنه كان يقول ذلك فلما رأى المصاحف التي كتبت في زمن عثمان وفي إثباتهما رجع عن ذلك ويؤيد هذا ما سبق عن ابن حزم وأما ما أجاب بعضهم عنه بأن عاصم بن بهدلة المذكور في المسند وإن قرنه البخاري بعيدة فهو في الحديث دون الثبت ثقة في القراءة فغير مستقيم لأنه راوي القراءة عن ابن مسعود وهذه الرواية من متعلقات القراءة هذا وفي جواهر الفقه من أنكر المعوذتين من القرآن غير مأول كفر انتهى وقال بعض المتأخرين كفر ولو أول والأول هو المعول (وكذلك) أي كفر (من كذّب بحرف منه) أي من القرآن فيقتل إلا أن يتوب (قال) أي ابن سحنون (وكذلك إن شهد شاهد) أي واحد (عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ موسى تكليما وشهد آخر عليه) أي على من قال ذلك (أنه قال إن الله لم يتّخذ إبراهيم خليلا) فإن مؤداهما واحد وهو تكذيب بعض القرآن وهذا التعليل أولى من قوله (لأنّهما اجتمعا على أنّه كذّب النّبيّ) وفي نسخة تكذيب للنبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) أي فيما نقله عن الله سبحانه وتعالى (وقال أبو عثمان الحدّاد) قال الانطاكي وقد يقع في بعض النسخ أبو عثمان بن الحداد بزيادة ابن والصواب والله تعالى اعلم سقوطه (جميع من ينتحل التّوحيد) أي ينتسب إليه ويدعي اعتقاده (متّفقون) على (أنّ الجحد لحرف من التّنزيل) أي القرآن الكريم والفرقان القديم (كفر وكان أبو العالية) أحد أئمة القراآت (إذا قرأ عنده رجل) أي بقراءة لم يعرفها (لَمْ يَقُلْ لَهُ لَيْسَ كَمَا قَرَأْتَ وَيَقُولُ أمّا أنا فأقرأ كذا) وهذا من كمال احتياطه في تورعه (فبلغ ذلك) القول من أبي العالية (إبراهيم) النخعي أو التيمي (فقال أراه) بضم الهمزة أي أظنه (سمع أنّه) أي الشأن (من كفر) أي جحد (بحرف منه فقد كفر به كلّه) لأن الكفر ببعضه يؤذن بالكفر بكله بخلاف الإيمان ببعضه فإنه لا يقوم مقام الإيمان بكله (وقال عبد الله بن مسعود) كما في مصنف عبد الرزاق (من كفر بآية من القرآن فقد كفر به كلّه) وهذا كمن كفر برسول فقد كفر بالرسل كلهم (وقال أصبغ بن الفرج) المصري (مَنْ كَذَّبَ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَذَّبَ بِهِ كُلِّهِ وَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ ومن كفر به فقد كفر بالله) أي بكلامه (وَقَدْ سُئِلَ الْقَابِسِيُّ عَمَّنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 خاصم يهوديّا فحلف) اليهودي (لَهُ بِالتَّوْرَاةِ فَقَالَ الْآخَرُ لَعَنَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ فَقَالَ الْآخَرُ لَعَنَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ بذلك شاهد) أي واحد (ثمّ شهد آخر أنه) أي الآخر (سأله) أي من خاصم (عن القضيّة) في الكيفية (فقال) اللاعن الملعون (إنّما لعنت توراة اليهود) التي يتدارسونها بينهم (فقال أبو الحسن) القابسي (الشّاهد الواحد لا يوجب القتل) أي ولو حمل على إطلاقه ولم يقبل قصده (والثّاني علّق الأمر بصفة) أي خاصة ناشئة عن الإضافة (تحتمل التأويل) لهذا القيل (إِذْ لَعَلَّهُ لَا يَرَى الْيَهُودَ مُتَمَسِّكِينَ بِشَيْءٍ من عند الله لتبديلهم وتحريفهم) وفيه أن الظاهر من هذه الإضافة اختصاصهم بها وأما كونهم لا يتمسكون بها فلا دخل له فيما نحن فيه من أنه أهان كتاب الله وقد سمى الله سبحانه كتابهم مع علمه بتحريفهم وتغييرهم كتاب الله في قوله وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ فلو فرض أن بعضهم هذه الأمة المحفوظة الحافظة للكتاب والسنة حرفوا بعض القرآن وغيره فقال أحد الشاهدين لعن القرآن وقال آخر لعن قرآن المسلمين فلا نشك أنه كافر على أن الأحكام مبنية على الأكثر فتأمل وتدبر مع أن اليهود كلهم ما غيروا التوراة ولا بدلوها وإنما كان بعض علمائهم نقلوا عنها ما لم يثبت فيهما أو تصرفوا في معانيها دون مبانيها (وَلَوِ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى لَعْنِ التَّوْرَاةِ مُجَرَّدًا) أي عن التعليق (لضاق التّأويل) الأولى لما احتمل التأويل والله ولي التوفيق (وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ عَلَى اسْتِتَابَةِ ابْنِ شنبوذ) بمعجمة مفتوحة ونون ساكنة كما صرح به الحلبي والتلمساني وقيل بفتحها فموحدة مضمومة وذال معجمة وهو غير منصرف للعجمة والعلمية كما جزم به الحلبي وأغرب التلمساني في قوله يجري ولا يجرى وهو اسم أعجمي وضبطه الدلجي بنون مشددة وفي القاموس محمد بن أحمد بن شنبوذ بفتح الشين المعجمة والنون مجاب الدعوة وعلي بن شنبوذ وكلاهما من القراء انتهى والمراد به هنا ما ذكره الحلبي وتبعه التلمساني من أنه أبو الحسن محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ (المقرىء أحد أئمة المقرئين المتصدّرين بها) أي ببغداد (مع ابن مجاهد) متعلق باتفق وهو إمام جليل في علم القراءة (بقراءته) أي ابن شنبوذ بنفسه (وإقرائه) أي لغيره (بشواذ من الحروف) أي من القراآت التي لم يثبت تواترها ومع هذا (ممّا ليس في المصحف) وهو أحد أركان القراءة والثاني موافقة العربية والثالث وهو الأصل المعتمد المدار عليه وهو نقل المتواتر قال التلمساني كان إماما دينا لا ينكر موضعه من العلم وكان فيه سلامة الصدر وممن يرى جواز القراءة بالاختيار مما يجوز في العربية وإن لم ينقل ذلك عن السلف وكان يقرؤبها في المحراب ويقربها بعض الأصحاب (وعقدوا) أي الفقهاء مع ابن مجاهد مجلسا بالحكم (عليه بالرّجوع عنه) أي عن فعله من القراءة والإقراء بالشواذ (والتّوبة منه) فيما بقي من عمره وهذا لا ينافي جواز رواية الشاذة فإن الفرق بين القراءة والرواية واضح عند أرباب الدراية (سجلّا) أي وسجلوا عليه (أشهد فيه بذلك على نفسه) بالرجوع عنه وبالتوبة منه (فِي مَجْلِسِ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 بضم الميم (سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة) قال ابن خلكان كان ابن شنبوذ من مشاهير القراء وأعيانهم قيل كان كثير اللحن قليل العلم تفرد بقراآت من الشواذ فأنكرت عليه وبلغ أمره الوزير محمد بن مقلة الكاتب فاعتقله بداره واستحضره هو والقاضي أبا الحسين عمر بن محمد وأبا بكر أحمد بن موسى بن مجاهد المقري وجماعة من أهل القراآت فأغلظ القول عليهم فأمر الوزير بضربه فضرب سبع درر فدعا على الوزير أن يقطع الله يده ويشتب شمله وكان الأمر كذلك ثم كتب محضر بما كان يقرؤه واستتيب أن لا يقرأ بمصحف أمير المؤمنين عثمان وكتب خطه في آخره وأطلق فخشي عليه من العامة فأخرج إلى المدائن ثم عاد إلى بغداد سرا ولم يزل بها إلى أن توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة (وكان فيمن أفتى عليه) مع فقهاء بغداد (بذلك) أي بالرجوع (أبو بكر الأبهريّ) المالكي وهو بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الهاء وقيل بفتحتين وسكون الهاء نسبة إلى بلد عظيم بين قزوين وزنجان وبليدة بنواحي أصفهان وجبل بالحجاز (وغيره) من العلماء المالكية أو غيرهم (وأفتى أبو محمّد بن أبي زيد) القيرواني (بالأدب فيمن قال لصبيّ) يتعلم القرآن (لعن الله معلّمك وما علّمك وقال) أي اللاعن (أردت سوء الأدب) أي في الأداء (ولم أرد القرآن) وفي التسامح عنه نظر إذ قوله وما علمك بعيد عن هذا التأويل بل ظاهر في طعن التنزيل فينبغي أن يستتاب إلا أن ثبت لحن فقيه الكتاب والله تعالى اعلم بالصواب (قال أبو محمّد) أي ابن أبي زيد (وأمّا من لعن المصحف) أي صريحا (فإنّه يقتل) أي إجماعا. فصل [من سب آل بيته وأزواجه وأصحابه عليه الصلاة والسلام وتنقصهم حرام ملعون فاعله] (وسبّ آل بيته) وفي نسخ آل النبي وفي نسخة أهل بيته أي أقاربه (وأزواجه وأصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم وتنقّصهم حرام ملعون فاعله) أي مذموم وملام قائله. (حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى) وهو الحافظ ابن سكرة (حدّثنا أبو الحسين الصّيرفيّ وأو الفضل العدل) وهو ابن خيرون (حدّثنا أبو يعلى) المعروف بابن زوج الحرة (حدّثنا أبو عليّ السّنجيّ) بكسر السين المروزي (حدّثنا ابن محبوب) هو أبو العباس المحبوبي راوي الجامع عن الترمذي وشارح القدوري على ما ذكره الأنطاكي (حدّثنا التّرمذيّ) هو الحافظ أبو عيسى صاحب الجامع (حدّثنا محمّد بن يحيى) الظاهر أنه الذهلي أبو عبد الله النيسابوري (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم حدّثنا عبيدة) وفي نسخة بالتصغير (ابن أبي رائطة) بالهمزة قبل الطاء المهملة قال الحلبي هو بفتح العين وكسر الموحدة نص عليه غير واحد من الحافظ منهم ابن ماكولا في إكماله والذهبي وضبط في بعض النسخ بضم وهو خطأ انتهى وقال التلمساني في اصل المؤلف عبيدة بالتصغير وصوابه عبيدة بالفتح وبه ذكره الدارقطني وهو كوفي نزل البصرة يروي عن عاصم بن أبي النجود وغيره (عن عبد الرّحمن بن زياد) قال المزي في الأطراف يقال أنه أخو عبد الله بْنِ زِيَادٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) بضم الميم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 وفتح الغين المعجمة وتشديد الفاء المفتوحة (قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الله الله) بنصبهما وكرر للتأكيد أي اتقوه أو راعوه أو راقبوه أو احفظوا عهده أو احذروا عقابه (في أصحابي) أي من جهتهم (الله الله في اصحابي) وهذا تأكيد بعد تأكيد وضع الظاهر موضع الضمير للمبالغة في التحذير وكان الخطاب لمن بعدهم من القرون أو لبعضهم من المنافقين أو للعامة والمراد باصحابه الخاصة ما يشير إليه ياء الإضافة (لا تتّخذوهم غرضا) أي هدفا للعن أو الطعن (بعدي) أي في غيبتي أو بعد موتي (فمن أحبّهم فبحبّي) أي فبسبب محبته إياي (أحبّهم) وبسبب محبتي إياهم ويؤيد الأول قوله (ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) ولا يخفى أن المرتد تبطل صحبته بردته ولو صحت توبته (ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله) أي خالفه فكأنه آذاه (ومن آذى الله يوشك أن يأخذه) أي يعاقبه في الدنيا أو العقبى (وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا تسبّوا أصحابي) المشتملين على أقاربي وأزواجي وأحبابي (فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أجمعين لا يقبل الله منه صرفا) أي توبة أو نافلة (ولا عدلا) أي فدية أو فريضة وقد روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ والناس أجمعين وروى أحمد والحاكم عن أم سلمة من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله تعالى (وقال صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَإِنَّهُ يَجِيءُ قوم) وروي أقوام (فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَسُبُّونَ أَصْحَابِي فَلَا تُصَلُّوا عليهم) أن ماتوا للعبرة وهذا محمول على ما إذا قام بها البعض (ولا تصلّوا معهم) أن صلوا إماما فإنهم أهل بدعة (ولا تناكحوهم) أي ديانة (ولا تجالسوهم) أي من غير ضرورة (وإن مرضوا فلا تعودوهم) مبالغة في الإهانة والظاهر أن النهي في هذا الحديث للتنزيه (وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم من سبّ أصحابي فاضربوه) روى الطبراني عن علي كرم الله تعالى وجهه من سب الأنبياء قتل ومن سب أصحابي جلد أي ضرب وهذا فرق حسن بين الأنبياء والصحابة وفي معناهم العلماء والأولياء وهو قول الجمهور وأما قتل من سب الصحابة كما قال به بعضهم فإنما يحمل على السياسة في الشريعة وسد باب الذريعة على ما بينته في رسالة مستقلة ولما كان فيها بعض الإطالة اختصرتها وسميتها السلالة (وقد أعلم النّبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سَبَّهُمْ وَأَذَاهُمْ يُؤْذِيهِ وَأَذَى النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم حرام) بل كفر (فقال لا تؤذوني في أصحابي) أي لأجل اذاهم (ومن آذاهم فقد آذاني) أي فكأنه آذاني (وقال لا تؤذوني في عائشة) أي خصوصا فإنها أحب الزوجات وقال الأنطاكي قوله لا تؤذوني في عائشة الخطاب لأم سلمة وتمام الحديث فإن الوحي لم يأتيني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة (وقال في فاطمة) لأنها أحب البنات (بضعة منّي) بفتح الموحدة وتكسر أي قطعة منفصلة مني (يؤذيني ما آذاها) وروى البخاري عن المسور فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني (وقد اختلف العلماء في هذا) أي ساب الصحابة (فمشهور مذهب مالك) رحمه الله الموافق للجمهور (في ذلك الاجتهاد) في إيقاع النكال لدفع الفساد (والأدب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 الموجع) لإصلاح العباد، (قال مالك رحمه الله تعالى من شتم النّبيّ) أي جنس الأنبياء (قتل ومن شتم أصحابه أدّب) أي جلد وضرب وقد تقدم الحديث بذلك (وقال) أي مالك (أَيْضًا مَنْ شَتَمَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ مُعَاوِيَةَ أَوْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ) وسقط أو عليا من أصل الدلجي فقال ولم يذكر المصنف عليا لأن محبيه كثيرون انتهى ولا يخفى أن الكثرة إنما هي بالنسبة إلى معاوية وعمرو بن العاص لا بالإضافة إلى من قبله فقد اختلفت المبتدعة في حب علي كالروافض وبغضه كالخوارج (فإن قال) شاتمهم (كانوا) أي الصحابة كلهم (على ضلال وكفر) عطف تفسير (قتل) لتكذيبه القرآن فيما اثنى الله عليهم لقوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وحديث لو أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مد أحدهم ولا نصيفه أي نصفه (وإن شتمهم) أي كلهم أو بعضهم (بغير هذا) الذي ذكر (من مشاتمة النّاس نكّل) بصيغة المجهول مشددا ومخففا أي ردع وزجر وعوقب (نَكَالًا شَدِيدًا، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مَنْ غَلَا) أي تجاوز عن الحد وتعدى (من الشّيعة) أو الخوارج (إلى بغض عثمان والبراءة منه) أي وإلى التبري من محبته (أدّب أدبا شديدا ومن زاد) أي إلى ذلك ما في نسخة أي ضم إليه (بُغْضِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَالْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ أَشَدُّ) أي كمية وكيفية (ويكرّر ضربه) بقدر زيادة بغض صحبه عليه الصلاة والسلام وحزبه (ويطال سجنه) أي مدة حبسه (حتّى يموت ولا يبلغ به) أي فيه (الْقَتْلُ إِلَّا فِي سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم) وإلا في إنكار صحبة أبي بكر وكذا في صحة خلافته المجمع عليهما ولا عبرة بمخالفة الشيعة فيهما وكذا إذا قيل له قل رضي الله تعالى عنهم فأبى فإنه كالإنكار لما في القرآن (وَقَالَ سُحْنُونٌ مَنْ كَفَّرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النبيّ صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَوْ عُثْمَانَ أَوْ غَيْرَهُمَا) كمعاوية وعمرو بن العاص (يوجع) بصيغة المجهول مخففا أو مشددا (ضربا) بالنصب على التمييز وإنما خص عليا وعثمان بالذكر لأن الخوارج قالوا بتكفيرهما بناء على قواعدهم الفاسدة وأصولهم الكاسدة ولم يختلفوا في تعظيم الشيخين للإجماع على خلافتهما وعدم ما يقتضي هتك حرمتهما فمن كفرهما كفر خلافا للروافض ولا عبرة بقولهم المناقض بل التحقيق أن أصل مذهب الشيعة ليس تكفيرهما بل ينسبونهما إلى المخالفة في أمر الخلافة بناء على أنهم يفضلون عليا عليهما وإنما اللعن والتكفير صدر من غلاتهم ولعل هذا معنى ما روي من أن سب الشيخين كفر المفهوم منه أن سب غيرهما ليس كذلك لتفاوت رتبتهما هنالك وأما معاوية واتباعه فيجوز نسبتهم إلى الخطأ والبغي والخروج والفساد وأما لعنهم فلا يجوز أصلا بخلاف يزيد وابن زياد وأمثالهما فإن بعض العلماء جوزوا لعنهما بل الإمام أحمد بن حنبل قال بكفر يزيد لكن جمهور أهل السنة لا يجوزون لعنه حيث لم يثبت كفره عندهم وعلى التنزل فلعله مات تائبا ولهذا قالوا لا يجوز لعن كافر بعينه إلا إذا ثبت كفره وقوله عليه بدليل قطعي من كتاب أو سنة كفرعون وأبي لهب وأبي جهل وأمثالهم والله تعالى أعلم وبما قررنا اندفع اعتراض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 الدلجي بأن هذا مخالف لما مر عن مالك أنه إذا قال كانوا أي الصحابة على ضلال وكفر قتل فإن المراد بهم إما جميعهم أو كابرهم (وَحَكَى أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ سحنون فيمن قَالَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ إنّهم) أي كلهم (كانوا على ضلال وكفر قتل ومن شتم غيرهم) أي غير الخلفاء الأربعة (من الصّحابة) كمعاوية وغيره (بمثل هذا) القول (نُكِّلَ النَّكَالَ الشَّدِيدَ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ جُلِدَ وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ) أي قذفها (قتل، قيل له) أي لمالك (لم) أي لأي شيء يقتل بسبها وقد قلت في أبيها يجلد من سبه وهو بالإجماع أفضل منها (قال) أي مالك (من رماها) أي قذفها (فقد خالف القرآن) النازل ببراءة ساحتها فعلم بهذا أنه لو شتمها أحد بغير القذف لم يجب قتله وهذا إذا سب أبا بكر مع اقراره بصحبته فإنه لو أنكرها لكفر لإنكاره القرآن على ما سبق به البيان وأما إذا قذف إحدى سائر الأزواج الطيبات فلا يكفر لعدم ورود براءتهن في الآيات (وقال ابن شعبان عنه) أي مالك (لأنّ الله يقول يَعِظُكُمُ اللَّهُ) أي تحذيرا من (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور: 17] فمن عاد لمثله فقد كفر) وفيه إيماء إلى أن من قذفها قبل الوعظ لم يكفر وإنما حد حد القاذف. (وحكى أبو الحسن الصّقلّيّ) بفتح أوله ويكسر وبسكون القاف قال الحلبي نسبة إلى صقلية جزيرة بالمغرب وقال الدلجي بفتح المهملة والقاف وقال التلمساني بكسر الصاد والقاف واللام مشددة وبفتح الصاد والقاف واللام مشددة (أنّ القاضي أبا بكر بن الطّيّب) أي الباقلاني المالكي إمام المتكلمين (قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا ذَكَرَ فِي القرآن ما نسبه إليه المشركون) من الشريك والولد والصاحبة والبنات (سبّح نفسه لنفسه) وفي نسخة بنفسه (كقوله تعالى وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ [الْأَنْبِيَاءِ: 26] فِي آي كثيرة) كقوله تعالى وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وقوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ (وَذَكَرَ تَعَالَى مَا نَسَبَهُ الْمُنَافِقُونَ إِلَى عَائِشَةَ) فيه تغليب إذ الذي تولى كبره هو ابن أبي ابن سلول رئيس المنافقين وقد تبعه بعض المؤمنين كحسان ومسطح وحمنة وغيرهم (فَقَالَ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) المأفوك عليها (سُبْحانَكَ [النُّورِ: 16] سَبَّحَ نَفْسَهُ فِي تَبْرِئَتِهَا مِنَ السّوء) المنسوب إليها (كَمَا سَبَّحَ نَفْسَهُ فِي تَبْرِئَتِهِ مِنَ السُّوءِ) وما ذاك إلا لجلالة مقامها العلي في رفيع صحبة النبي (وهذا) القول من الباقلاني (يشهد لقول مالك) ولا أعرف أحدا يخالفه في ذلك (في قتل من سبّ عائشة) أي قذفها (ومعنى هذا) القول بقتل من قذفها (والله تعالى أعلم) جملة معترضة (أنّ الله لمّا عظّم سبّها) أي بالافتراء عليها المسمى بالإفك (كما عظّم سبّه تعالى) بالافتراء عليه حيث قال أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (وكان سبّها سبّا لنبيّه) فيه بحث لا يخفى على النبي لأن سبها ليس سبا لنبيه في حقيقة الكلام ولا يلزم من قذفها قذفه عليه الصلاة والسلام ولهذا لم يقتل من قذفها قبل نزول براءتها بل جعل قذفها حينئذ كقذف سائر أهل الإسلام في عموم الأحكام فالكفر الموجب للقتل إنما هو لمخالفة القرآن ولهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 اختصت عائشة الصديقة بهذا الإجلال في الطريقة وبهذا علم معنى بقية كلامه من قوله (وأذاه) أي وقرن أذى نبيه (بأذاه تعالى) أي في قوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ (وَكَانَ حُكْمُ مُؤْذِيهِ تَعَالَى الْقَتْلَ كَانَ مُؤْذِي نبيّه كذلك كما قدّمناه) ولا يخفى أن ذلك لو أجري على حقيقته لكان سب كل أحد من أهل بيته كفرا موجبا للقتل هنالك والأمر على خلاف ذلك لانه لم يقصد بذلك اذاه صلى الله تعالى عليه وسلم وفرق بين أن يقع شيء أصالة وقصدا وبين أن يقع تبعية وضمنا في مقام التحقيق والله ولي التوفيق؛ (وشتم رجل عائشة) أي بغير القذف (بالكوفة فقدّم) أي فأحضر الشاتم (إِلَى مُوسَى بْنِ عِيسَى الْعَبَّاسِيِّ فَقَالَ مَنْ حضر هذا) المجلس أو هذا الرجل حين شتم قال التلمساني ويروى من خصم (فقال ابن أبي ليلى أنا) وهو أحد المجتهدين وقد تولى القضاء ولعل هذا هو الموجب للاكتفاء (فجلد) أي الشاتم (ثمانين وحلق رأسه) أي تعزيرا (وأسلمه) أي تركه وفي نسخة وسلمه (للحجّامين) يعذبونه بإخراج دمه لزيادة سياسة في أمره (وروي) كما في تاريخ الخطيب وابن عساكر (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ نَذَرَ قَطْعَ لسان عبيد الله) بالتصغير (ابن عمر إذ شتم المقداد) بكسر الميم (ابن الأسود) تبنيا فإن أباه غيره (فكلّم) بصيغة المجهول أي فشفع عمر (فِي ذَلِكَ فَقَالَ دَعُونِي أَقْطَعْ لِسَانَهُ حَتَّى لا يشتم أحد بعد) أي بعد ذلك (أصحاب النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) وحيث منعوه ولم يقروه حتى يفعل لا يكون إجماعا فلا يجوز قطع لسان من سب صحابيا وإنما أراد عمر تخويفه أو السياسة (وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخطاب أتي بأعرابيّ يهجو الأنصار فقال) أي عمر (لولا أنّ له) أي للأعرابي (صحبة) أي سابقة له عليه الصلاة والسلام (لكفيتكموه) من شره بما يليق بأمره ورواه أيضا محمد بن قدامة المروزي في كتاب الخوارج عن أبي سعيد الخدري بسند رجاله ثقات ذكر الدلجي (وقال مَالِكٌ مَنِ انْتَقَصَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي ذكر بعض معايبهم وغفل عن جملة مناقبهم ولم يعرف أنهم السابقون في الإيمان ولم يعمهم بالاستغفار والرضوان (فليس له في هذا الفيء) الذي يعم المسلمين (حقّ) أي حصة ونصيب لأنه (قَدْ قَسَمَ اللَّهُ الْفَيْءَ فِي ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ فقال لِلْفُقَراءِ) بدلا من لذي القربى وما بعده وأن البدل منه في حكم الطرح أو الشامل لهم ولغيرهم (الْمُهاجِرِينَ) إلى المدينة (الآية) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي في إيمانهم ومعرفتهم أو في تصحيح نية هجرتهم (ثم قال: وَالَّذِينَ) عطفا على الفقراء (تَبَوَّؤُا الدَّارَ) أي سكنوا المدينة واتخذوها دار الوطن والقرار (وَالْإِيمانَ) أي واختاروا واخلصوا (مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر: 8] أي قبل لهجرة أهل الإسلام إليهم (الآية) أي يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ولو كان بهم خصاصة أي ضرورة ومجاعة (وهؤلاء هم الأنصار ثمّ قال وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 من التابعين واتباعهم إلى يوم الدين (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ [الحشر: 10] ) من المهاجرين والأنصار خصوصا (الآية) أي وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا وحسدا لِلَّذِينَ آمَنُوا عموما رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بالمؤمنين في الدنيا والاخرى (فَمَنْ تَنَقَّصَهُمْ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي فَيْءِ المسلمين) بل يخرج عن دائرة المؤمنين لحصرهم في الأصناف المذكورين؛ (وَفِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ مَنْ قَالَ فِي واحد) وفي نسخة أحد (منهم) أي من الصحابة (إنّه ابن زانية وأمّه مسلمة) جملة حالية (حدّ عند بعض أصحابنا) المالكية (حدّين حدّا له وحدّا لأمّه) لعله أراد بالأول التعزير مبالغة في التحذير (ولا أجعله كقاذف الجماعة في كلمة) نحو يا أولاد الزواني ويا أبناء الزانيات لغيرهم حيث تتداخل الحدود جملة وذلك الفرق (لفضل هذا) الصحابي (على غيره ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن سبّ أصحابي فاجلدوه) أي فاضربوه كما في رواية تقدمت (قال) أي ابن شعبان (وَمَنْ قَذَفَ أُمَّ أَحَدِهِمْ وَهِيَ كَافِرَةٌ حُدَّ حدّ الفرية) أي الكذب (لأنّه) أي قذف أم أحدهم ولو كانت كافرة (سبّ له) أي لولدها الكريم فيستحق به التأديب الأليم (فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ هَذَا الصَّحَابِيِّ) أي أولاده وأحفاده (حيّا) وأبوه ميتا (قام) مقامه (بما يجب له) من استيفاء الحد (وإلّا فمن قام من المسلمين) حسبة في أمر أمه (كان على الإمام) أو نائبه (قبول قيامه قال) أي ابن شعبان (وليس هذا) الحكم المذكور (كحقوق غير الصّحابة لحرمة هؤلاء) الصحابة (بنبيّهم صلى الله تعالى عليه وسلم) أحياء وأمواتا (ولو سمعه الإمام) أي السلطان أو نائبه (وأشهد عليه كان) أي الإمام (وليّ القيام به) أي بالحد (قال) أي ابن شعبان (وَمَنْ سَبَّ غَيْرَ عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم) أي بقذف احديهن (ففيها) أي ففي المسألة أو ففي حقها (قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم لسبه حليلته) وفي نسخة بسبب سب حليلته وهي زوجته من الحلول وهو النزول لأنها تحل معه حيث حل أو هو يحل بها حيث حلت وقيل من الحلال وضد الحرام فيشمل السرية (والآخر أنّها) أي حليلته (كسائر الصّحابة) رجالهم ونسائهم (يجلد حدّ الفرية) وفي نسخة حد المفتري (قال) أي ابن شعبان (وبالأوّل) وهو القول بالقتل (أقول) وهذا بعيد عن الأصول فتأمل فإنه يلزم منه عدم الفرق بين عائشة المبرأة بالكتاب وبين غيرها والله تعالى أعلم بالصواب (وروى أبو مصعب عن مالك فيمن سبّ من انتسب إلى بيت النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم) من جهة القرابة والنسب المعروف وفي بعض النسخ عن مالك من انتسب إلى بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي إلى أولاده وظهر أنه ليس منهم (يضرب ضربا وجيعا ويشعر) من الشهرة وهو الظهور ومعناه يطاف به في الأسواق (ويحبس طويلا) من الزمان (حتّى تظهر توبته) أي آثارها عند الأعيان (لأنّه استخفاف بحقّ الرّسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأفني أبو المطرّف الشّعبيّ فقيه مالقة) بفتح اللام والقاف وقال التلمساني فاعلة بلدة بالعدوة أعادها الله تعالى إلى الإسلام (في رجل أنكر تحليف امرأة) وجه عليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 يمين وأريد تحليفها (باللّيل) لكونها مخدرة فامتنع الرجل عن تحليفها بِاللَّيْلِ (وَقَالَ لَوْ كَانَتْ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيق) أي فرضا وتقديرا (ما حلّفت) وفي نسخة بصيغة المجهول (إلّا بالنّهار وصوّب قوله بعض المتّسميين بالفقه) أي المتصفين به نظرا إلى أنه أراد المبالغة في النفي لا الإهانة كما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم فيمن شفع لسارقه حيث قال له لو كانت فاطمة لقطعت يدها وذلك لأنه سبحانه وتعالى عمم الحكم بين الخاص والعام في قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ولا تجوز الشفاعة في الحدود (فقال أبو المطرّف ذكر هذا) الكلام (لابنة أبي بكر في مثل هذا) المقام (يجب عليه) به (الضّرب الشّديد والسّجن الطّويل) أي الحبس المديد (والفقيه الّذي صوّر قوله هو أخصّ باسم الفسق من اسم الفقه فيتقدّم إليه في ذلك ويزجر) وفي نسخة ولا يؤخر (ولا تقبل فتواه ولا شهادته) وهذا من المجازفة في الكلام فإن غايته أنه أخطأ في فتواه والمجتهد قد يخطئ ولا يفسق ولا ترد شهادته بالإجماع (وهي) أي فتواه (جرحة) بضم الجيم أي طعنه (ثابتة فيه ويبغض في الله) أي لأجل رضاه وهذا كله نشأ من حظ نفس أبي المطرف ومتابعته هواه ومن عدم الإطلاع على الحديث الذي قدمناه (وقال أبو عمران) أي القابسي (فِي رَجُلٍ قَالَ لَوْ شَهِدَ عَلَيَّ أَبُو بكر الصّدّيق) حذف سببه وجوابه لظهورهما عنده (أنّه) أي الشأن (إن كان) أي القائل (أراد أنّ شهادته في مثل هذا الحكم) وفي نسخة في مثل ما أي حكم أو الحكم (لَا يَجُوزُ فِيهِ الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ فَلَا شَيْءَ عليه) وهو ظاهر كلامه ومرامه من المبالغة (وإن كان أراد غير هذا) المعنى الذي ذكر مما يقتضي إهانته فرضا (فيضرب ضربا) أي شديدا (يبلغ به) بصيغة المجهول أي يوصل بضربه (حدّ الموت) أو يبلغ هو بالضرب الموت وفي أصل الدلجي وذكروها أي مقالة أبي عمران رواية عن مالك أو غيره من أصحابه وهذا يرد على أبي المطرف في شدة جوابه (قال القاضي أبو الفضل) وهو المؤلف (هنا انتهى القول بنا فيما حرّرناه) أي قدمناه وقررناه (وانتجز) بالنون واليم والزاء أي تم وانقضى (الغرض الّذي انتحيناه) بالحاء المهملة أي قصدناه وملنا نحوه واعتمدناه (واستوفي) بصيغة المجهول أي استكمل (الشّرط الّذي شرطناه) فيما أوردناه من الأقسام الأربعة التي أردناها (ممّا أرجو أنّ يكون) وفي نسخة أن بتشديد النون أي الشأن (في كلّ قسم منه للمريد) أي لمن يريده (مقنع) يقنع به ويرضاه ويكتفي به عما سواه (وفي كلّ باب منهج) أي طريق واسع (إلى بغيته) بكسر أوله ويضم أي طلبته وحاجته (ومنزع) أي حجة لمن يحتج به في قضيته (وقد سفرت) بفتح الفاء للمتكلم أي كشفت وأوضحت (فيه عن نكت) جمع نكتة وهي حكمة دقيقة (تستغرب وتستبدع) أي تعد غريبا وبديعا عجيبا لقلة استعمالها ودقة أحوالها (وكرعت) أي وشربت شربا خاصا حيث تناولت من الحوض شربا بما حصل له من التوفيف (في مشارب من التّحقيق) أي التحرير بالتدقيق (لم يورد لها قبل) أي لم يذكر لها قبل ذلك (في أكثر التّصانيف مشرع) أي مورد به ينتفع (وأودعته) أي ضمنته (غير ما فصل) ما صلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 للمبالغة في الكثرة والمعنى أودعته في فصول كثيرة وأغرب الأنطاكي في قوله أي غير فصل واحد وهذا الفصل هو الذي حكى القاضي المؤلف فيه ما وقع من الزنا دقة وأهل الأهواء الضالة الفصل الألفاظ البشيعة الشنيعة (وددت) بكسر الدال الأول أي أحببت وتمنيت (لَوْ وَجَدْتُ مَنْ بَسَطَ قَبْلِي الْكَلَامَ فِيهِ أو مقتدى) وفي نسخة أو مفيدا (يفيدنيه) أي يفيدني ذلك (عن كتابه أو فيه) أي عن فمه وهو تجنيس تام مع ما قبله أو تلفيق وهو المركب والمتشابه (لأكتفى بما أرويه) من الرواية أي أخبره (عمّا أروّيه) من التروية وهو تجنيس محرف وأغرب الانطاكي في قوله هو من رويت الحبل إذا غلظت قواه وهو كناية عن بسط الكلام فيه (وإلى الله تعالى) لا إلى غيره (جزيل الضّراعة) أي كثير الخضوع والخشوع والاستكانة (في المنّة) أي في طلبها أو قبولها (بقبول ما منه) أي بقبول شيء وقع من عنده لطفا (لوجهه) فضلا (والعفو) بالرفع (عمّا تخلّله) أي تداخل في خلاله مما يخل بكماله (من تزيّن) أي تكلف (وتصنّع لغيره) أي لغير وجهه سبحانه من رياء أو سمعة أو حظ نفس وشهوة (وأن يهب لنا ذلك) أي على تقدير تقصير هنالك (بجميل كرمه وعفوه لما أودعناه) أي لأجل ما أوردناه فيه وبيناه (من شرف مصطفاه وأمين وحيه وما) أي ولأجل ما (وأسهرنا به) أي بسببه (جفوننا) أي عيوننا (لتتبّع فضائله) ونشر شمائله (وأعملنا) أي اتعبنا وعالجنا (فيه خواطرنا) أي عقولنا وسرائرنا (من إبراز خصائصه) أي إظهارها (ووسائله) التي يتوسل بها إلى أغراضنا (و) أن (يحمي أعراضنا) أي أرواحنا وأشباحنا الموجدة (عن ناره الموقدة) التي تطلع على الأفئدة (لحمايتنا كريم عرضه عليه السلام) من الكلام المترتب عليه الملام (ويجعلنا) أي الله سبحانه وتعالى (ممّن لا يذاد) بضم أوله من الذود وهو الطرد أي ممن لا يدفع ولا يمنع (إذا ذيد) مجهول ذاد أي طرد (المبدّل) لدينه بعد موت نبيه (عن حوضه ويجعله) أي وأن يجعل هذا المؤلف وما يتبعه من المصنف (لنا) معشر المسلمين الحاضرين (ولمن تهمّم) أي اعتنى واهتم (باكتتابه واكتسابه) ولو بشرائه (سببا) أي وسيلة (يصلنا بأسبابه) التي لا انفصام لها في بابه (وذخيرة) أي نتيجة مدخرة محفوظة عنده سبحانه وتعالى (نجدها) حاضرة (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خير محضرا) ينفعها في يوم الجمع محضرا (نحوز) أي نظفر ونفوذ (بها رضاه وجزيل ثوابه) الذي هو لقاه (ويخصّنا بخصّيصى) بكسر الحاء وتشديد الصاد المكسورة وفي آخره ألف مقصورة قال التلمساني ويمد وهو خطأ مصدر بمعنى الخصوصية وقيل اسم مبالغة في التخصيص أي بمن هو من خواص (زمرة نبيّنا وجماعته ويحشرنا في) وفي نسخة مع (الرّعيل) أي الجمع (الأوّل) من أهل السعادة في الأزل وهم علماء أهل السنة والجماعة وقيل هم الزمرة الأولى التي تدخل الجنة بغير حساب فيكون قوله (وأهل الباب الأيمن) الذي هو الأحسن والأزين (من أهل شفاعته) من قبيل عطف التفسير فقد ورد في حديث الشفاعة أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ من الباب الأيمن من أبواب الجنة جعلنا الله منهم من كمال الفضل والمنة، (ونحمده تعالى) أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 نثني عليه بما يوافي نعمه ويكافي كرمه (على ما هدى) أي دلنا (إليه من جمعه وألهم) من عزمه (وفتح البصيرة) الباطني (لدرك) بسكون الراء وفتحها أي لادراك (حقائق ما أودعناه وفهّم) دقائق ما بيناه وعيناه مما يتعلق بمصطفاه، (ونستعيذه) أي نعوذ به ونلوذ (جلّ اسمه) كمسماه (من دعاء لا يسمع) أي لا يقبل (وعلم لا ينفع) أي غير نافع صاحبه (وعمل لا يرفع) أي لا يصعد بل يرد على وجه كاسبه وورد زيادة ونفس لا تشبع ومن هؤلاء الأربع إجمالا بعد تفصيل إكمالا (فهو الجواد) بفتح الجيم وتخفيف الواو وقد ورد في الحديث غير أني جواد ماجد أي صاحب الجواد والعظمة في مقام الشهود (الّذي لا يخيّب) بفتح الياء وتضم وكسر الخاء المعجمة وفي نسخة بضم الياء الأولى وتشديد الثانية أي لا يضيع ولا يخسر (من أمّله) بتشديد الميم أي قصده ورجاه (ولا ينتصر) على عدوه (من خذله) أي ترك نصرته ومنع حرمته (ولا يردّ دعوة القاصدين) لقوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ والحديث أن الله ليستحي أن يرد يد عبده صفرا إذا رفعها إليه (ولا يصلح عمل المفسدين) لأمر الدين (وهو حسبنا) أي كافينا في كل قليل وجليل (ونعم الوكيل) أي الموكول إليه والمعتمد عليه وهي كلمة قالها إبراهيم الخليل لما ألقي في النار ومحمد الجليل وصحبه الجميل لما قيل إن الناس قد جمعوا لكم وروي أنه من خشي عدوه فليقل حسبي الله ونعم الوكيل وقيل لما ألقى يوسف عليه السلام في الجب قال حسبي الله ونعم الوكيل فعذب ماؤها بعد ما كان مالحا فهو سبحانه وتعالى حسبنا ونعم الوكيل ربنا ونعم الشفيع نبينا ونسأل الله دوام العافية وتوفيق تمام الطاعة وحسن الخاتمة والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا على جميع ما أنعم من النعم ما علمت منها وما لم أعلم والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ربنا توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين وأدخلنا الجنة آمنين برحمتك يا أرحم الراحمين آمين فرغ مرلفه رحم هو وسلفه أواسط رمضان المبارك عام أحد عشر بعد الألف من الهجرة النبوية إلى المدينة السكينة وذلك بمكة المكرمة الأمينة وأنا الفقير إلى ربه الباري علي ابن سلطان محمد القاري الحنفي عاملهما الله بلطفه الخفي وكرمه الوفي ومن أحسن ما نظم في تحسين هذا الكتاب ما قاله بعض أولي الألباب من الأصحاب. نظم شفى داء النفوس لنا الشفاء ... أضاء النور منه والثناء ونال محبه كل الأماني ... وزال به عن القلب الصداء تلألأ نوره أبدا علينا ... ظلام الليل عاد لنا ضياء جواهر نظمه درر وأبهى ... من الياقوت حقا لأمراء حوى حكما وموعظة وحكما ... فصاحة من له شهدت ظباء فصاحة خير رسل الله فيه ... ومدح الله فيه والثناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 فصاحة منطق وبليغ لفظ ... وحكمة حاكم وله العطاء وأخبار به تتلى علينا ... كلام جامع فيه الهداء فمذ حل الشفاء بنا شفينا ... وزال البؤس عنا والشقاء أثاب الله جامعه عياضا ... جنان الخلد فيه له الجزاء وزاد محبه شرفا وفضلا ... وبلغه المهيمن ما يشاء وصلى الله على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين. يقول العبد الفقير إلى آلاء ربه القوي الحاج أحمد طاهر القنوي مصحح الكتب الدينية بالمطبعة العثمانية الحمد لله الذي نور الخافقين ببعثة سيد المرسلين وأنزل عليه الكتاب هدى ورحمة للمتقين وأيده من عنده بالوحي والروح الأمين والصلاة والسلام على من أقام قوائم الشريعة الغراء فقوى وشيد قواعدها وأسس بنيانها على التقوى وعلى آله وأصحابه الذين حفظوا سنته وسلكوا سبيله ومن بعدهم من إجلاء أمته الذين اتخذوه وسيلة (أما بعد) فلما من الله بلطفه على من شاء من عباده بتحرير مناقب خير خلقه ويسر عليه الطرق لإبراز شريف شمائله وجليل خلقه بادر إلى أداء مواجب حقه تواقيرا له وتعظيما وشمر عن ساق الجد توفية بوجائب ما هو بصدده تشريفا لقدره العلي وتكريما ومن أجل من وفقه الله لخدمة هذه الوظيفة النجيبة فأقامها بلا إعراض الإمام الكبير الأجل المعروف بالقاضي عياض سقاه الله من زلال الحياض وأسكنه في غرف الرياض حيث شرح صدره وشفي لتأليف كتاب كافل لهذه المهمة فسماه شفا وقد اعتنى كثير من العلماء الجهابذة بشرحه مختصرا أو مفصلا مطولا ومجملا فمن شروحه شرح الفاضل علي القاري رحمه الله وهو مع صغر حجمه كثير نفعه يسير ضبطه إلا أن النسخ المتداولة مملوءة بالغلظ المردود فلذلك صرفنا نحن فلله الحمد في تصحيحه ما هو المجهود والتزمنا تصحيحه من نسخ عديدة ليتم المقصود فجاء بحمد الله تعالى مطبوعا مهذبا سالما عن الخطأ المستبين بحيث يعجب الناظر المطالع في كل وقت وحين وهذا أيضا من جملة ما وفقنا الله بلطفه لتصحيح أمثاله من الكتاب كما وفقنا قبل لتصحيح شرح الفاضل أحمد شهاب فنسأله جل اسمه أن يوفقنا لتصحيح أمثاله من الكتب الدينية ويجعل سعينا هذا مقبولا لدى الحضرة النبوية وقد تصادف ختام طبعه بالمطبعة العثمانية الكائنة في دار الخلافة العثمانية في اليوم السابع والعشرين من الربيع الآخر سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 فهرس محتويات الجزء الثاني من شرح الشفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 فهرس المحتويات الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْأَنَامِ مِنْ حقوقه عليه الصلاة والسلام 3 الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي فَرْضِ الْإِيمَانِ بِهِ وَوُجُوبِ طاعته واتّباع سنّته 5 فصل وَأَمَّا وُجُوبُ طَاعَتِهِ فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وتصديقه فيما جاء به 12 فصل وَأَمَّا وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ وَامْتِثَالُ سُنَّتِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ 16 فصل وأما وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ 24 فصل وَمُخَالَفَةُ أَمْرِهِ وَتَبْدِيلُ سُنَّتِهِ ضَلَالٌ وَبِدْعَةٌ مُتَوَعَّدٌ من الله تعالى عليه بالخذلان والعذاب 31 الباب الثاني في لزوم محبته عليه الصلاة والسلام 35 فصل في ثواب محبته صلى الله تعالى عليه وسلم 38 فصل فِيمَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِمْ للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم 40 فصل في علامات محبته صلى الله تعالى عليه وسلم 45 فصل في معنى المحبة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحقيقتها 54 فصل في وجوب مناصحته صلى الله تعالى عليه وسلم 58 الْبَابُ الثَّالِثُ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَوُجُوبِ تَوْقِيرِهِ وبره 63 فصل في عادة الصحابة في تعظيمه عليه الصلاة والسلام وتوقيره وإجلاله 68 فصل واعلم أن حرمة النبي بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم 71 فصل فِي سِيرَةِ السَّلَفِ فِي تَعْظِيمِ رِوَايَةِ حَدِيثِ رسول الله وسنته عليه الصلاة والسلام 75 فصل ومن توقيره صلى الله تعالى عليه وسلم وبره بر آله 81 فصل ومن توقيره وبره توقير أصحابه عليه الصلاة والسلام 89 فصل ومن إعظامه وإكباره إعظام جميع أسبابه 98 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 الباب الرابع في حكم الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم والتسليم 105 فصل اعلم أن الصلاة على النبي فرض في الجملة 107 فصل في المواطن التي تستحب فيها الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويرغب فيها 112 فصل في كيفية الصلاة عليه والتسليم 121 فصل فِي فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ والدعاء له عليه الصلاة والسلام 135 فصل فِي ذَمِّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم وإثمه 140 فصل في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بتبليغ صلاة من صلى عليه صلاة أو سلم من الأنام 142 فصل فِي الِاخْتِلَافِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ وسائر الأنبياء عليهم السلام 145 فصل في حكم زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وَفَضِيلَةِ مَنْ زَارَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَكَيْفَ يُسَلِّمُ ويدعو إلى آخره 149 فصل فِيمَا يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَدَبِ سِوَى مَا قَدَّمْنَاهُ 158 الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِيمَا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم وما يستحيل في حقه وما يمتنع 171 الْبَابُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَلَامُ في عصمة نبينا وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين 175 فصل فِي حُكْمِ عَقْدِ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تعالى عليه وسلم 175 فصل وَأَمَّا عِصْمَتُهُمْ مِنْ هَذَا الْفَنِّ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فللناس فيه خلاف 200 فصل قال القاضي أبو الفضل قد بان مما قدمناه عقود الأنبياء في التوحيد والإيمان 210 فصل وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ من الشيطان إلى آخره 214 فصل وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقامت الدلائل إلى آخره 223 فصل وقد توجهت ههنا لبعض الطاعنين سؤالات 225 فصل هذا القول فيما طريقه البلاغ 243 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 فصل فإن قلت فما معنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث السهو الذي حدثنا أبو إسحق بن جعفر 247 فصل وأما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال 257 فصل وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي قَبْلَ النبوة 264 فصل هَذَا حُكْمُ مَا تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَنْ قَصْدٍ وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً ويدخل تحت التكليف 267 فصل في الكلام على الأحاديث المذكورة فيها السهو إلى آخره 271 فصل فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ الخ 279 فصل فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا نَفَيْتَ عَنْهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم الذنوب والمعاصي 306 فصل قد استبان لك أيها الناظر بما قررناه ما هو الحق من عصمته عليه السلام 313 فصل فِي الْقَوْلِ فِي عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ إلى آخره 316 الْبَابُ الثَّانِي فِيمَا يَخُصُّهُمْ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ 326 فصل فَإِنْ قُلْتَ فَقَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سحر 332 فصل هذا حاله عليه الصلاة والسلام في جسمه 336 فصل وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُهُ فِي أُمُورِ أَحْكَامِ الْبَشَرِ إلى آخره 340 فصل وَأَمَّا أَقْوَالُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ أَخْبَارِهِ عَنْ أَحْوَالِهِ 343 فصل فإن قلت قد تقررت عصمته عليه الصلاة والسلام إلى آخره 351 فصل فإن قيل فما وجه حديثه الذي حدثناه الفقيه أبو محمد الخشني إلى آخره 357 فصل وأما أفعاله الدنيوية صلى الله تعالى عليه وسلم 365 فصل فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي إِجْرَاءِ الْأَمْرَاضِ وشدتها عليه عليه الصلاة والسلام 373 الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِي تَصَرُّفِ وُجُوهِ الْأَحْكَامِ فِيمَنْ تنقصه أو سبه عليه الصلاة والسلام 385 الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ مَا هُوَ فِي حقه عليه الصلاة والسلام سب أو نقص 391 فصل فِي الْحُجَّةِ فِي إِيجَابِ قَتْلِ مَنْ سَبَّهُ أو عابه عليه الصلاة والسلام 400 فصل فإن قلت فلم لم يقتل النبي عليه الصلاة والسلام اليهودي الذي قال له 412 فصل قَالَ الْقَاضِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي قَتْلِ الْقَاصِدِ لسبه إلى آخره 425 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 فصل الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى تَكْذِيبِهِ فِيمَا قاله إلى آخره 429 فصل الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْكَلَامِ بِمُجْمَلٍ 432 فصل الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا وَلَا يذكر عيبا ولا سبا لكنه ينزع إلى آخره 437 فصل الْوَجْهُ السَّادِسُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ ذَلِكَ حَاكِيًا عن غيره وآثرا عن سواه 450 فصل الْوَجْهُ السَّابِعُ أَنْ يَذْكُرَ مَا يَجُوزُ عَلَى النبي أو يختلف في جوازه عليه 457 فصل وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى النبي عليه الصلاة والسلام وما لا يجوز 465 الْبَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ سَابِّهِ وَشَانِئِهِ وَمُتَنَقِّصِهِ ومؤذيه 469 فصل إذا قلنا بالاستتابة حيث تصح منه 474 فصل هذا حكم من ثبت عليه ذلك 478 فصل هذا حكم المسلم 480 فصل في ميراث من قتل بسب النبي عليه الصلاة والسلام وغسله والصلاة عليه 486 الْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تعالى وملائكته إلى آخره 489 فصل وَأَمَّا مَنْ أَضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ 491 فصل فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي إِكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ قَدْ ذكرنا مذاهب السلف وإكفار أصحاب البدع والأهواء 497 فصل فِي بَيَانِ مَا هُوَ مِنَ الْمَقَالَاتِ كُفْرٌ وَمَا يُتَوَقَّفُ أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ وَمَا لَيْسَ بكفر 507 فصل هَذَا حُكْمُ الْمُسْلِمِ السَّابِّ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الذمي الخ 531 فصل هَذَا حُكْمُ مَنْ صَرَّحَ بِسَبِّهِ وَإِضَافَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ فَأَمَّا مُفْتَرِي الْكَذِبِ الخ 532 فصل وأما من تكلم من سقط القول الخ 536 فصل وَحُكْمُ مَنْ سَبَّ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وملائكته واستخف بهم إلى آخره 541 فصل وَاعْلَمْ أَنَّ مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوِ الْمُصْحَفِ إلى آخره 545 فصل من سب آل بيته وأزواجه وأصحابه عليه الصلاة والسلام وتنقصهم حرام ملعون فاعله 550 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566