الكتاب: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي المؤلف: علي أبو الحسن بن عبد الحي بن فخر الدين الندوي (المتوفى: 1420هـ) الناشر: دار ابن كثير - دمشق الطبعة: الثانية عشرة - 1425 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي أبو الحسن الندوي الكتاب: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي المؤلف: علي أبو الحسن بن عبد الحي بن فخر الدين الندوي (المتوفى: 1420هـ) الناشر: دار ابن كثير - دمشق الطبعة: الثانية عشرة - 1425 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بين يديّ الكتاب الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد خير من افتتحت بذكره الدّعوات، واستنجحت بالصّلاة عليه الطّلبات، وعلى آله الذين عظّمهم توقيرا، وطهّرهم تطهيرا. وبعد: فإنّنا نسعد بتقديم هذا الكتاب القيّم النفيس إلى القرّاء الكرام، الذي نال قبولا عظيما، وحفاوة بالغة عند كبار الدارسين والأساتذة الجامعيّين منذ أوّل يوم لصدوره، والذين اهتمّوا به دراسة وتدريسا، فسرعان ما أصبح الكتاب من أهمّ المراجع في السيرة النبوية. ويقدّر بمدى القبول له والإعجاب به لدى الناس أنّه قد نقل حتى الآن إلى أكثر من عشر لغات عالمية، وأدخل كذلك في المقرّرات الدراسية في مختلف البلاد العربية والإسلامية. وكيف لا.. فإنّه قد صدر من قلم رجل استقى عرقه من منبع النّبوّة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وفقست بيضته من سلالة الطهارة، وربّي منذ نعومة أظفاره على التعلّق بالسّيرة، وحبّ صاحبها- عليه ألف ألف سلام- والاهتداء بهديه في الأمور كلّها، فعاش في السيرة، وعاشت فيه السيرة «1» وشكّلت عنصرا أساسيا في ثقافته وحياته. جمع في قراءتها بين ما كتب قديما وحديثا بالعربية والفارسية والأردوية وبالإنكليزية كذلك، بحيث أصبحت (السّيرة) فيما بعد مادّة كتاباته ومحاضراته الأساس بصورة مباشرة أو غير مباشرة «2» ، وأصبح تفكيره متعلّقا بها، ومنطلقا منها في توجّهاته وتوجيهاته،   (1) كما قال العلّامة يوسف القرضاوي في تقديمه لهذا الكتاب (في طبعة دار القلم بدمشق) . (2) يجد القارىء أجزاء كثيرة من السيرة النبوية تنتشر في ثنايا كثير من مؤلّفات العلّامة المؤلّف- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وأصبحت موضوعا محوريا في نتاجه الفكري، تشيع في أرجائه، وتنير مباحثه، وما يثيره من أفكار وقضايا. فلا غرابة إذا بعد هذا ... أن يكون لهذا الكتاب من القبول والتأثير، والذيوع والانتشار ما لا يكون إلا لكتب كبار المخلصين، والعلماء العاملين، والدّعاة المجدّدين إذا كان مؤلّفه متّصفا بما ذكرناه. قد صدر لهذا الكتاب عدّة طبعات، ولكن الطبعة الأخيرة التي صدرت من المجمع الإسلامي العلمي بلكهنؤ (عام 1416 هـ- 1995 م) ، تشتمل على إضافات قيمة للعلّامة المؤلّف، فصدرت بعد هذه الطبعة طبعات لم يتناول فيها الناشرون تلك الإضافات «1» ، فراجت وشاعت دونها بين يدي القرّاء. لذا أردنا في هذه الطبعة أن نعتني أوّلا بإلحاق جميع تلك الإضافات بهذه الطبعة مع العناية بالأمور التالية: 1- مراجعة الكتاب وتصحيحه بشكل دقيق، وذلك بالرجوع إلى جميع تلك المصادر والمراجع التي استفاد منها العلّامة المؤلّف- رحمه الله-. 2- استكمال تخريج الأحاديث، وتخريج ما لم يخرّج منها قبل- وهي كثيرة- بين المعقوفتين ( [] ) . 3- شرح الألفاظ الغريبة في حواشي الكتاب بين المعقوفتين- والذي رأيناه لزاما، خاصة بعد ما أصبح الكتاب اليوم مقرّرا في كثير من المعاهد   - رحمه الله- ومحاضراته ومقالاته المكتوبة أو المذاعة، كما استعرضنا ذلك في محاضراته ومقالاته التي جمعناها بعنوان «محاضرات إسلامية في الفكر والدّعوة» و «مقالات إسلامية في الفكر والدعوة» والتي قد صدرت من دار ابن كثير بدمشق. (1) استثناء منها، طبعة دار القلم بدمشق الصادرة عام 1422 هـ 2001 م، وهي مشتملة على جميع الإضافات الجديدة، ومتميّزة عن الطبقات السابقة علميا وفنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الثانوية الشرعية في البلاد العربية- ليسهل على القارىء فهم واستيعاب الموضوعات دون الرجوع إلى معجم ما. 4- إضافة (41) خريطة ملوّنة إلى الكتاب «1» ، توضّح للقارىء الكريم أحداث السيرة النبوية، وتعينه على تصوّر أحداثها أثناء القراءة. 5- ضبط الأسماء والأعلام قدر الضرورة، والتعليق على ما دعت الحاجة إليه، وهو كثير بين المعقوفتين. 6- إضافة مقدّمة الباحث الإسلامي الكبير: الدكتور عماد الدين خليل إلى الكتاب، التي كتبها للطبعة السابعة الخاصة بدار الشروق في جدّة (عام 1408 هـ- 1987 م) ، ولكنها لم تطبع فيها بسبب ظروف فنية حالت دون ذلك. 7- إضافة ترجمة مستوفاة للعلّامة المؤلّف إلى الكتاب تعرّف بشخصيته العبقرية، ومكانته العلمية ومؤلّفاته النفيسة. 8- إلحاق جداول للغزوات والسّرايا والأحداث التاريخية المتعلّقة بالسيرة، باخر الكتاب، مأخوذة من كتاب «رحمة للعالمين» للقاضي محمد سليمان سلمان المنصور فوري لتكون تسهيلا لمن أراد حفظها. 9- إعداد الفهارس العامّة في آخر الكتاب. إنّ المتمعّن في تحقيقنا لهذا الكتاب- خاصة في تخريج أحاديثه-، والناظر في مجمل التعليقات التي علّقناها عليه يدرك الجهد المضني المبذول، والوقت الثمين المصروف في خدمته، ولا نشكّ أنّ العلّامة المؤلّف رحمه الله تعالى- كان سيسرّ بهذا العمل، والدّقّة التي حقّق بها كتابه النفيس   (1) أعدّها الجغرافيّ البارع الدكتور محمد صبحي النشّاوي ببذل وقته الثمين وجهده الحثيث فيه، جزاه الله عن هذه الخدمة خير الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 المبارك هذا، كما سرّ- قبل أيام من وفاته- ببعض خدماتنا المتواضعة التي قمنا بها في إخراج كتبه ومؤلّفاته منقّحة، ونشرها في طباعة أنيقة بين يدي القرّاء. نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبّل جهدنا المتواضع في خدمة هذا الكتاب خالصا لوجهه، إنّه سميع مجيب، وهو على كلّ شيء قدير. دمشق 18/ جمادى الأولى 1424 هـ 17/ تموز (يوليو) 2003 م كتبه المعتزّ بالله تعالى عبد الماجد الغوريّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الشّيخ ابو الحسن النّدوي و «السّيرة النّبويّة» بقلم الدّكتور عماد الدّين خليل تشكّل المقدّمة التي كتبها الشيخ الندوي للطبعة الأولى من مؤلّفه القيّم عن (السيرة النبوية) مفتاحا، أو مدخلا، لا بدّ من التوقّف عنده قليلا لفهم ما الذي أراد أن يقوله أو يفعله وهو يؤلّف كتابه هذا؟! ومن أجل ذلك فإنّ من الضّروري- كما يقول النّقّاد البنيويّون- «تفكيك النصّ» في محاولة للتأشير على العناصر الأساسية للمقدّمة باعتبارها مرتكزا للعمل، ومبرّرا لإخراجه في الوقت نفسه. إنّ هذه العناصر تمنح القارىء، حتى قبل مطالعة فصول الكتاب، القناعة بمبرّر ظهور بحث جديد عن السيرة، بل بضرورته، فليس الأمر- كما قد يتوهّم البعض- مجرّد رغبة مخلصة لإضافة كتاب جديد إلى قائمة المؤلّفات الحديثة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت هذه الرغبة في حدّ ذاتها تحمل على المستوى الديني، مبرّراتها ودوافعها المقنعة، إنما بالنسبة لباحث متمرّس كالأستاذ الندوي، فإنّ خطوة كهذه ما كان لها أن تكون لو لم يعرف مسبقا أنّها ستقدّم إضافة جديدة إلى مكتبة السّيرة، إن على مستوى المنهج أو الموضوع، ويكفي أن يقع الاختيار على كتاب (الندوي) من بين عشرات وربّما مئات من البحوث في السّيرة، لنقله إلى الإنكليزية، وعدد من اللغات الحيّة، ومخاطبة العقل الغربي، وغير المسلم عموما، بمفردات هذه السّيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ودلالاتها، مهندسة وفق منهج الندوي وأسلوبه، لكي يتبيّن أنّ هذا من بين عوامل عديدة متشابكة كالتي سنؤشّر عليها، ما يجعل الكتاب إضافة جادّة وليس تقليدا أو تكرارا. ومهما يكن من أمر فإنّنا لو قمنا بإعادة ترتيب العناصر الأساسية للمقدّمة، في سياقات رئيسية من أجل وضع اليد على قيمة الكتاب؛ فإنّنا سنجد محاولة (الندوي) هذه تقوم على المحاور التالية: أولا: بيئة ثقافية ذات توجّه إسلاميّ، ينشأ فيها المؤلّف، فيجد نفسه، منذ تفتّح وعيه على الحياة، قبالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة ومعايشة وتعلّما.. وبمرور الوقت فإنه يسعى لتنمية خبراته عن السّيرة بمزيد من القراءة والدراسة في المصادر (القديمة) والمراجع (الحديثة) بالعربية وغيرها من اللغات، هذه المتابعة الفكرية التي لم تنفصل يوما عن بطانتها الوجدانية، بسبب من عقيدة الرجل وانتمائه البيئيّ، وبالتالي فإنّها بصيغتها الشمولية هذه والقائمة على ما يسمّى في العصر الحديث ب (المعايشة التاريخية) ، كانت أقدر على تحقيق المقاربة بين الندوي وبين عالم السيرة الخصب المؤثّر، المتجذّر في الغيب، والذي لن يقدر باحث من الخارج، أو من البعيد، على فهمه وإدراكه. ويجب أن نشير هاهنا أنّ الندوي من أجل استكمال أبعاد تجربة المعايشة هذه، ذهب أكثر من مرّة إلى أرض النّبوّة واجتازها شبرا شبرا، وكان- وهو يعاين المعالم والمواقع ويدقّقها- يعيش في الوقت ذاته، المناخ الذي تخلّقت فيه مفردات السيرة، ونسجت خيوطها، ويكفي أن نرجع إلى كتاب (الطريق إلى المدينة) «1» لكي نتلمّس طبيعة المعاناة الوجدانية التي حملها الرجل بين جنبيه وهو يتقلّب هناك.   (1) طبع في دار ابن كثير بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 إنّ هذه الخطوات كافة منحت الندويّ، كما منحت قلّة محدودة من الباحثين المعاصرين، السلاح الذي مكّنهم من دخول الساحة، والقدرة على التعامل مع السيرة بأكبر قدر ممكن من النفاذ والصدق. ثانيا: لم يقدم الندوي مباشرة على الكتابة في السّيرة، كمشروع شامل، قبل أن يمارس البحث في جوانب منها، كانت أشبه بخطوات على الطريق.. بتمرينات أولية، إذا صحّ التعبير، تمهيدا للعرض الجامع الأخير «1» وكان فضلا عن هذا يمارس التعامل مع السيرة باتجاه مواز آخر: الاستمداد من مادتها الخصبة وتعاليمها الغنية في الكثير من كتاباته ومحاضراته. ثالثا: بمرور الوقت يتبلور لديه إحساس متزايد بضرورة كتابة مولّف شامل عن السيرة، وكانت تغريه بذلك، فضلا عن المؤثّرات الذاتية والثقافية والمنهجية آنفة الذكر، خصائص ومواصفات كان يرى، محقّا، أنّ أيّ دراسة في السيرة لا تستكمل أسبابها بدون حضورها جميعا، فكيف إن غاب عامل أو أكثر عن رؤية الباحثين؟ كما حدث ويحدث لدى العديد من الذين تناولوا الموضوع من المستشرقين، والمنتمين لعالم الإسلام نفسه؟ كيف إن غاب معظمها أحيانا؟ ألا يتحتّم في مقابل هذا أن تتعزّز المحاولات المنهجية التي تسعى جهدها لاستكمال الأسباب، وأن تزيد وتتكاثر، على الأقلّ لمجابهة هذا السّيل من الأعمال الناقصة وموازنتها؟ إذا «فالسّيرة» التي ينادي الندويّ بها، ويسعى إلى تنفيذها في مؤلّفه   (1) انظر بشكل خاص (الطريق إلى المدينة) والفصول الأولى من كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) ورسالة (دراسة للسيرة النبوية من خلال الأدعية المأثورة المروية) وكذلك رسالة (النبيّ الخاتم) واللّتان قد نشرتا في مجموعة مقالات العلّامة المؤلّف في السيرة بعنوان «مقالات في السيرة النبوية» في سلسلة «تراث العلامة الندوي» وصدرت في دار ابن كثير بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الذي بين أيدينا، يتحتّم قيامها على الخصائص وصيغ العمل التالية: 1- أن تبنى بأسلوب عصريّ علميّ، فما من شكّ في أنّ مناهج البحث المعاصرة ومعطيات العلوم الحديثة تقدّم وسائل جيّدة للمؤرّخ ما كان يملكها الباحثون القدماء، وبالتالي فإنها تساعد على الاقتراب أكثر من طبيعة الحدث التاريخي وتركيبه وعرضه بالصّيغ الأكثر دقّة، ويبدو أنّ من فضول القول، أن نشير هاهنا إلى أنّ هذه المناهج، وتلك المعطيات العلمية؛ ترتد في أصولها وبدرجة كبيرة- إلى معطيات الحضارة الإسلامية في هذه المجالات، وهي مسألة أكّدها الباحثون الغربيون أنفسهم في العديد من مؤلّفاتهم. وبمقدور المرء أن يلقي نظرة على السياق المنهجي للكتاب وعلى تهميشاته لكي ما يلبث أن يتبيّن له ما يتميّز به مؤلّف الندوي من تركيز، وتماسك، ومتابعة للحدث التاريخي الأساسي، دون خروج إلى تفاصيل جانبية، وما يلتزم به من توثيق للمعلومات من خلال تثبيت المصادر والمراجع بأجزائها وصفحاتها، وبشرح المفردات وتحديد الأعلام. أمّا اللغة فهي سلسة واضحة تسعى إلى التوصيل بأكبر قدر من الوضوح، وتتجاوز التعقيد والإغماض حتى في تعاملها مع النصوص المستمدّة من المصادر القديمة. وقد يختلف المرء مع المؤلّف في أمر واحد وهو أنّه لم يعتمد منهج التقسيم الموضوعي لأحداث السيرة ومفرداتها، وإنّما التزم خطّ التسلسل الزمني للأحداث رغم تقاطعها النوعي من حين لآخر، وهو منهج اعتمده معظم الباحثين المعاصرين في السّيرة. 2- أن تعتمد على خير ما كتب في القديم والحديث، ذلك أنّ البحث الجادّ هو- بشكل من الأشكال- عمل نقديّ انتقائيّ، لا يستسلم بسهولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 لركام الروايات، ولا يغريه أحيانا التضخّم في المادة التاريخية، ومعروف أنّ السيرة قد عانت الكثير بمرور الزمن، من الإضافات في الخبر التاريخي، بموازاة ما كان يحدث في «الحديث» النبوي مما هو معروف، ومن ثم فإن أيّ محاولة لكتابة السيرة، أو إعادة كتابتها بشكل أدقّ، يتحتمّ أن تمارس اختيارا- مسؤولا بطبيعة الحال، وليس مجرّد هوى عشوائيّ- لخير ما قدمته المصادر القديمة عن السيرة من روايات موثقة أصلية، ولأحسن ما طرحته الدراسات الحديثة من تحاليل ومواقف واستنتاجات؛ قد تعين على إضاءة أشدّ تركيزا لموضوعات السيرة الخصبة المتشابكة، ولكن تبقى «المصادر الأولى الأصلية» الأساس الذي يقوم عليه البناء؛ لأنّ المادة الأولية التي يقام عليها الصرح موجودة هناك، ويكفي أن نلقي نظرة على قوائم المصادر التي اعتمدها المؤلف لكي يتبيّن لنا أنه لم يكد يترك مصدرا أساسيا إلّا ورجع إليه، وإن كان اعتماده المحوري كما هو واضح على «سيرة» ابن هشام و «زاد المعاد» لابن قيّم الجوزية، فضلا عن كتب «الصحاح» «1» . 3- أن تحقّق تطابقا مدروسا بين مفرداتها كافة، وبين ما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة الموثقة، ذلك أنّ المصدرين الأخيرين يحملان الصدق المطلق في تعاملهما مع الواقعة التاريخية، سواء بالنسبة للمنظور الإسلامي، أو حتى بالنسبة للمنظور المنهجي العام الذي أخذ يدرك، أكثر فأكثر، مصداقية المعطى التاريخي للقرآن والسنة، وهذا يعني بالمقابل، رفض   (1) وانظر على سبيل المثال حديثه عن ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تحميله بالمعجزات التي تضخّمت بمرور الوقت دونما توثيق تاريخي كاف. وكذلك نقده وتفنيده لرواية لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم أيام رحلته الأولى إلى الشام بالراهب النصراني بحيرى. لكن هذا لا يعني- بداهة- رفض المؤلف لكل الروايات التي تتجاوز المألوف وتستمد مفرداتها من عالم الغيب (انظر مثلا حادثة شق الصدر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 واستبعاد كل ما يتعارض مع هذين المصدرين من مفردات أقحمت على السيرة عبر الزمن فيما أصابها بالتضخّم، وأضاف إليها الكثير مما لم يكن فيها ابتداء. ولهذا السبب يدعو الندويّ إلى تجاوز ما يسمّيه «الأسلوب الموسوعي الحاشد للمعلومات في غير نقد وتمحيص» ، فإنّ بعض مؤرّخينا القدماء، أسوة ببعض أدبائنا القدماء، كان مغرما في سياق نزعة موسوعية جمّاعة، إلى أن يضيف ويحشد وينوّع، مؤثرا الحصيلة الكمية على حساب التركيز الوعي، مفتقدا- أحيانا- المنهج النقدي، الانتقائي، الممحّص، وهذا المنهج يقتضي أول ما يقتضي الإحالة المنضبطة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فضلا عن اعتماد معطيات المناهج الحديثة لما يمكن اعتباره إعادة للأمور إلى نصابها الحق فيما يتعلّق بنسيج السيرة، ويكفي أن يلقي المرء نظرة على هوامش الكتاب لكي تتبيّن له المساحات الواسعة التي اعتمد فيها المؤلّف على المعطيات التاريخية عن السيرة في كتاب الله وأحاديث رسوله عليه الصلاة والسلام. ومن أجل ألّا يتصوّر أحد، أو يخطر على باله، بأنّ دعوة الندويّ هذه قد تقود العمل باتجاه الانسياق وراء الاتجاهات الغربية المعاصرة في دراسة السيرة، فإنه يدعو إلى رفض تقليد هذه الاتجاهات أو «الخضوع لكتابات المستشرقين وأقوال المشكّكين» ، وهاهنا بصدد النقطة الأخيرة فإنّ منهج البحث الغربي، في حقل السيرة بالذات، قد يتعامل بصيغ نقدية حادة ومبالغ فيها، تقود بالضرورة إلى التشكيك بالكثير من أهمّ وقائع السيرة ومرتكزاتها، خاصة إذا تذكرنا المنظور المادي للرؤية الغربية، أو العلماني على أحسن الأحوال، هذا المنظور الذي يرفض البعد الغيبي في تعامله مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 التاريخ، أو يدفعه إلى الظل، الأمر الذي يلحق بالسيرة أذى كبيرا. أمّا الموقف (الإسلامي) الأصيل من السيرة، «الموقف المتوحّد الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين، والذي يجد في السيرة تعبيرا متكاملا عن العقيدة التي ينتمي إليها، فإنه يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن السيرة، تغرّبا عن مسلّماته، وخروجا صريحا على بداهاته، وما يمكن اعتباره محاولات متعمّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور، وهي- لحسن الحظّ- لن تفعل فعلها في يقينه، إلّا في حالات معيّنة، بينما نجدها تدفعه في أغلب الحالات وأعمها إلى الاشمئزاز والنفور. هذا مع أنّ معالجة واقعة تمتدّ جذورها إلى عالم الغيب، وترتبط أسبابها بالسماء، ويكون فيها (الوحي) همزة وصل مباشرة بين الله سبحانه ورسوله الكريم، ويتربّى في ظلالها المنتمون على عين الله ورسوله ليكونوا تعبيرا حيّا عن إيمانهم، وقدوة حسنة للقادمين من بعدهم.. واقعة كهذه لا يمكن بحال أن تعامل كما تعامل الجزئيات والذرات والعناصر في مختبر للكيمياء، أو كما تعامل الخطوط والزوايا والمنحنيات والمساحات والكتل على تصاميم المهندسين، بل ولا حتى كما تعامل الوقائع التاريخية التي لا ترتبط بأيّ بعد دينيّ أصيل، إنّنا هنا بمواجهة تجربة من نوع خاص، وشبكة من العوامل والمؤثرات تندّ عن حدود مملكة العقل الخالص، وتستعصي على التحليل المنطقي الاعتيادي المألوف، ومن ثمّ فإنّ محاولة قسرها على الخضوع لمقولات العقل الصرف ومعطيات المنطق المتوارثة لا يقود إلى نتائج خاطئة حينا، ولا تستعصي عليه بعض الظواهر حينا آخر فحسب، بل إنّه قد يقوم بما يمكن اعتباره جريمة قتل بشكل من الأشكال، أو محاولة لتفحّص الجسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 البشريّ كما لو كان في حالة سكون مطلق بعيدا عن تأثيرات الروح وتعقيدات الحياة. إنّ الدين، والغيب، والروح، لهي عصب السيرة وسداها ولحمتها، وليس بمقدور الحس أو العقل أن يدلي بكلمته فيها إلّا بمقدار، وتبقى المساحات الأكثر عمقا وامتدادا بعيدة عن حدود عمل الحواس وتحليلات العقل والمنطق، إننا- ونحن نتعامل مع هذا المستشرق أو ذاك في حقل السيرة النبوية- يجب أن ننتبه إلى هذه المسألة مهما كان المستشرق ملتزما بقواعد البحث التاريخي وأصوله، فإنّه من خلال رؤيته الخارجية، وتغرّبه، وعلمانيّته أو ماديته، يمارس نوعا من التكسير والتجريح في كيان السيرة ونسيجها، فيصدم الحس الديني ويرتطم بالبداهات الثابتة، وهو من خلال منظوريه العقلي والوضعي يسعى إلى فصل الروح عن جسد السيرة، على الجدل، وهو في كلتا الحالتين لا يمكن أن يخدم الموقف الإسلامي الجاد من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يحتل موقفا جادّا منها بوجه من الوجوه» «1» . فلم يكن الندويّ مبالغا إذا باعتباره هؤلاء الباحثين «من المشكّكين» الذين يتحتّم أن نحذرهم، ونحن نسعى للإفادة من أعمالهم واستنتاجاتهم في هذا الموضوع أو ذاك من مواضيع السيرة، ونحاول- بدلا من ذلك- أن ننطلق من منهج إسلامي أصيل يضع النبوّة والغيب موضعهما الحق.   (1) المستشرقون والسيرة النبوية: بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتغمري وات، لكاتب السطور، جزء 1 ص 116- 117 من مجلد (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية) الذي أصدرته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومكتب التربية العربي لدول الخليج في إطار الاحتفال بالقرن الخامس عشر الهجري (الرياض 1405 هـ- 1985 م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 4- أن يكون النصّ أو الرواية التاريخية، هو الحكم، هو مادة البناء الأساسية.. أن يحرّر من أيّة محاولة لتقييده بحكم مسبق، أو إغراقه بالتعليل والتحليل على حساب الواقعة نفسها.. أن تترك له حرية التعبير عن ذاته لكي ينطق بما كان فعلا لا بما يراد له أن يكون، وبما أنّ النصوص التاريخية للسيرة على قدر كبير من الاستيعاب للدقائق والتفاصيل، فيما لم يتهيّأ بهذا الخصب والغنى لأيّ سيرة أخرى في تاريخ البشرية، وذلك بفضل الروافد العديدة التي قدمت هذه التفاصيل، وغذّتها، وحمتها من الضياع في الوقت نفسه (وبخاصة القرآن الكريم، ومجاميع الحديث، وكتب السير والشمائل، فضلا عن كتب المغازي والمدوّنات التاريخية) .. فإنّ النشاط المحوري في كتابة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهمّته الأساسية تنصبّ على العرض والترتيب والتركيز، واعتماد منهج سليم في العمل، ولغة مناسبة قديرة على التوصيل بشروطه المعاصرة. وبالتّالي فإنّ التأليف في السيرة لا يجابه بالضرورة- وكما يؤكّد الندويّ- صعوبة وغموضا ولا يقتضي افتراضا ولا قياسا، كما هو الحال في التراجم الآخرى حيث تشحّ المادة، وتتضارب الروايات، وتنتشر الفجوات الزمنية، وتتناقض الشواهد التاريخية، ولعلّ هذا هو الذي يفسّر ما يلحظه القارىء في سياق الكتاب من اعتماد متزايد على النصوص (الحرفية) ، ذلك أنّ هذه النصوص إذ تستكمل شرطيها الأساسيين وهما الوضوح في العرض والغنى في التفاصيل، لا تحتاج في كثير من الأحيان إلى بيان أو إضافة أو تعليل. ورغم ذلك كلّه فإنّ تقديم صورة مطابقة أمر مستحيل، لا سيّما وأنّنا نتعامل هاهنا مع ظاهرة النبوّة ذات الارتباطات الغيبية المتشابكة، فكلّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ما كتب، وما سيكتب لا يعدو أن يكون محاولات للمقاربة في نهاية الأمر. ولعلّ هذه المسألة الأساسية، إلى جانب عوامل ثانوية أخرى، هي التي جعلت المؤلّف يتردّد حينا من الزمن في الكتابة عن الموضوع، لولا أنّ إلحاح المخلصين، وإلحاح الحاجة إلى مؤلّف بالعربية يتعامل مع الأجيال الجديدة على مستوى المنهج واللغة دون وقوع في سلبيّات المحاولات المعاصرة، فضلا عن تمرّس الندوي في كتابة الترجمة التاريخية، هي التي تغلبت في نهاية الأمر وجعلت الرجل يقدم على تنفيذ المشروع. 5- هنالك أيضا محاولة لتحقيق توازنات بين ثنائيات شتى وبخاصة: أ- الموضوعية والوجدان الدينيّ. ب- العلمية والضرورات التربوية. ج- التوجّه بالخطاب إلى المسلم وغير المسلم. فلا يكفي، بالنسبة للمسألة الأولى أن يكون الباحث في السيرة (موضوعيا) ، أي أن يتعامل معها من الخارج، بل لا بدّ أن تكون هناك مساهمة على مستوى الذات.. مشاركة وجدانية تقرّب الباحث أكثر فأكثر من صميم حدث تاريخيّ ليس كالأحداث، وتجعله ينفعل به ويقدّر بالتالي طبيعته التكوينية.. نبضه وإيقاعه.. يلمس، قدر ما يستطيع، الخيوط التي نسجتها فيعرف مكوناتها. وهذا بالنسبة للسيرة بالذات، ليس نقيض الموضوعية، بل هو مع الموضوعية ومن شروطها، فإنّ النبوّة ليست تجربة وضعية الاندماج والتأثّر، والمعايشة الوجدانية، بل هي من ضرورات الإدراك والمقاربة، ومن ثم كان المؤرّخ المسلم، المتسلّح- طبعا- بسلاح المنهج العلمي؛ أقدر من غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المسلم على خوض غمار التجربة وتقديم بحث أكثر أصالة وأعمق تعبيرا عن هذه الواقعة التاريخية المتفردة. «لنحاول أن نقرّب المسألة أكثر، إنّ العمل المعماري الكبير إذا أقيم على أسس خاطئة فإنّه سيفقد شرطين من شروطه الأساسية: التأثير الجمالي الذي يمكنه من أداء وظيفته الوجدانية، والمقوّمات العلمية التي تمكنه من أداء وظيفته العملية» . «إنّ البحث في (السيرة) بوجه خاصّ، ليستلزم أكثر من أيّ مسألة أخرى في التاريخ البشري هذين الشرطين اللذين يمكن أن يوفّرهما منهج متماسك سليم، يقوم على أسس علمية موضوعية لا تخضع لتحزّب أو ميل أو هوى، ويمتلك عناصر جماليته الخاصة التي تليق بمكانة الرّسول المتفرّدة صلى الله عليه وسلم ودوره الخطير في إعادة صياغة العالم بما يردّ إليه الوفاق المفقود مع نواميس الكون والحياة، وقد كانت مناهج البحث الغربي (الاستشراقي) في السيرة تفتقر إلى أحد هذين الشرطين أو كليهما، وكانت النتيجة أبحاثا تحمل اسم السيرة وتتحدّث عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحلّل حقائق الرسالة، ولكنها يقينا- تحمل وجها وملامح وقسمات مستمدّة من عجينة أخرى غير مادة السيرة، وروحا أخرى غير روح النبوّة، ومواصفات أخرى غير مواصفات الرسالة. «إنّ نتائجها تنحرف عن العلم لأنّها تصدر عن الهوى، وتفقد القدرة على مسامتة عصر الرسالة وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل تأثيراتهما الجمالية بالمستوى العالي نفسه من التحقّق التاريخي؛ لأنّها تسعى لأن تخضع حقائق السيرة لمقاييس عصر تنسخ كل ما هو جميل، وتزيّف كلّ ما هو أصيل، وتميل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 بالقيم المشعّة إلى أن تفقد إشعاعها وترتمي في الكلمة، وقد تؤول إلى البشاعة» «1» . وتكاد المسألة الثانية التي يسعى الندويّ إلى تنفيذها، أن تكون امتدادا للأولى، ولكنّ المعنيّ بالتوازن هذه المرّة هو القارىء وليس الموضوع، فإلى جانب ضرورة التزام الجانب العلمي بالبحث في السيرة، فإنّ هناك ضرورة لا تقلّ أهمية هي الضرورة التربوية.. أن تقدم السيرة بصيغة عمل ذي رسالة تربوية تملك قدرتها على التأثير في القارىء وكهربته بتيّار الرسالة القادم من السماء، وهاهنا يمكن أن يكون اعتماد منهج حيوي مؤثّر يجانب الجمود والجفاف، ويتشكّل بالمؤثّرات التي مرّت بنا عبر الفقرات السابقة، مسألة ضرورية لتحقيق الهدف، وها هنا أيضا يرفض الندويّ ما يسمّيه «بالتجميل الخارجي أو التزيين الصناعي» لأنّ هذا في نهاية الأمر نقيض للجمال الباطني ولقوّة التأثير وصدقه. يبقى التوازن الثالث وهو التوجّه بالخطاب إلى المسلم وغير المسلم، وهي مسألة محسومة بمجرّد أن نتذكّر إلحاح الندويّ على اعتماد مناهج البحث الحديث وأدوات التوصيل المعاصرة.. فإنّ هذا بحدّ ذاته يعقد جسرا بين مفردات السيرة وبين القارىء الحديث، مسلما كان أم غير مسلم، ولعلّ اختيار كتابه هذا لكي يترجم إلى الإنكليزية، وعدد آخر من اللغات الحية، إنما كان اقتناعا بقدرته على التواصل مع غير المسلمين «2» .   (1) المستشرقون والسيرة النبوية: لكاتب المقدمة، ج 1، ص 117. (2) وانظر بشكل خاص المحاضرة التي اختتم بها الكتاب بعنوان (فضل البعثة المحمدية على الإنسانية ومنحها العالمية الخالدة) والتي سبق وأن ألقاها في ربيع عام 1975 بمدينة لكهنؤ بالهند، وحضرها جمّ غفير من المسلمين وغير المسلمين، للاطلاع على تنفيذ الندوي لهذه المسألة في كتابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 6- يرى الندويّ ضرورة تسليط الضّوء عى البيئة التي ظهر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وتشكّلت سيرته على أرضيتها.. البيئة ببعديها التاريخي والجغرافي، وبامتداديها المحلّي والعام (ويمكن أن تكون الخرائط الدقيقة التي أرفقت بالكتاب امتدادا لهذه الضرورة) . ويكاد يكون مؤلّف الندويّ، من بين قلّة من المؤلّفات الحديثة، التي تناولت السيرة، من أولى اهتماما ملحوظا بهذه المسألة، وخصّص لها مساحات واسعة في كتابه «1» . ورغم أنّ معطيات السّيرة، في المنظور الإسلامي، تتجاوز في نهاية الأمر حدود الزمن المرحليّ والمكان المحدود، باتّجاه كلّ زمن وكلّ مكان، ورغم أنها- في هذا المنظور نفسه- تشكّلت في جانبها الخاص بظاهرة النبوّة، بعلم الله اللدني الشامل الذي يعلو على نسبيّات الجغرافية ومتغيرات الحركة التاريخية، فإنّها- أي السيرة- وفي المنظور الإسلامي كذلك، ابنة بيئتها، وليدة زمنها وجغرافيتها، إذ لا يمكن بحال فصل نسيجها عن ارتباطه المتشابك بالبيئة.. بل إنّنا لو تابعنا مفردات السيرة واحدة واحدة، لرأيناها لا تكاد تتحوّل إلى «العام» إلّا بعد اجتيازها (الخاص) وتعاملها معه، وسنكون غير علميّين بالمرّة لو أنّنا أغفلنا هذا الارتباط بحجّة عالمية الرسالة وديمومتها، وعدم تقيّدها بالنسبيّ أو المحدود، وسنقع كذلك في المظنّة   (1) انظر مثالا واضحا حيث يفرش المؤلف تحليله للبيئة الجاهلية لدى ظهور الإسلام عبر حلقاتها الثلاث: العالم، الجزيرة العربية، ثم مكة، على هذا المدى الواسع من الكتاب، وذلك للاطلاع على طبيعة تحليله للبيئة المدنية (في يثرب) . ولا ينسى المؤلف أن يعرّف القارىء بالملوك والحكام الذين كتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسائله المعروفة يدعوهم فيها إلى الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 التي أسرت الفكر الغربي، وهذه النظرة أحادية الجانب تلك التي تتشنج على مساحة محدّدة من الظاهرة، وتتشبّث بها دون أن تقلبها على وجوهها لمتابعة الجوانب الآخرى، وهاهنا بصدد السّيرة، فإنّنا يجب أن نولي اهتماما للوجهين معا: العام والخاص، المطلق والبيئي، لأنّ إغفال الجانب الثاني سيجرّنا إلى المثالية بمفهومها التجريدي المنفصل عن الواقع والأرضية. وإنّنا بمجرّد أن نلقي نظرة ولو سريعة على أسباب النزول في القرآن الكريم، فلسوف نرى بأمّ أعيننا كيف أنّ كثيرا من التعاليم والقيم القرآنية، تخلّقت من تفاصيل بيئية صرفة.. من حدث تاريخيّ عابر أو تحدّ جغرافيّ محدود.. من تجربة هذا الرجل أو ذاك، ومن محنة هذه الجماعة أو تلك.. من سؤال أو اقتراح قد يتقدّم به هذا الصحابيّ أو ذاك فيما يعايشونه يوما بيوم وخطوة بخطوة.. لكنّ هذه التعاليم والقيم لم تأسرها مواصفات البيئة ونسبياتها، ولا أريد لها أن تكون كذلك، إذ أنّها سرعان ما تجاوزت ظروف تشكّلها، الخاصة صوب العام.. صوب المطلق، بعيدا عن متغيرات الجغرافية والتاريخ لكي نتعامل مع الإنسان في كلّ زمن ومكان. ولقد شاء علم الله- الذي هو سبحانه أعلم بمن خلق- ألّا يصوغ القيم والتعاليم في كتابه الكريم، وسنّة نبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام، في الفراغ أو من الفراغ، إنما جعلها سبحانه تتشكل في البيئة، في الجغرافية والتاريخ، وبتبادل واقعيّ منظور بين الطّرفين لكي تكون أشدّ حضورا، وأعمق تأثيرا، وذلك مذهب مهمّ من مذاهب التربية العقيدية عبر التاريخ. ونحن نعرف، على سبيل المثال فحسب، لماذا لم تتنزّل المقاطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 القرآنية الخاصة بمعركة أحد.. المقاطع المترعة بالقيم والتعاليم، إلّا بعد هزيمة أحد مباشرة، وليس بعيدا عنها أو بدونها.. وقل مثل ذلك عن حشود كثيفة أخرى من مفردات السيرة. إذا فإنّ سعي الندويّ لإضاءة البيئة التي تشكّلت فيها هذه المفردات، وتأكيده على تأثيراتها المتشابكة في الحدث النبويّ، أمر بالغ الأهمية، وهو يشكلّ في الواقع واحدة من أهمّ الإضافات التي تقدّمها دراسته إلى حقل السيرة، بل واحدة من أهمّ مبرّرات إخراجها إلى الوجود. بقلم الدّكتور عماد الدّين خليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ترجمة العلّامة المؤلّف «رحمة الله تعالى» هو المربّي العظيم، والداعية الحكيم، والمفكّر المجدّد، والأديب البارع، والكاتب القدير، وعلّامة الهند، وربّانيّ الأمّة، ونموذج السّلف، والعالم العامل، والحبر الكامل، والزّاهد المجاهد: الشيخ السيّد أبو الحسن علي الحسني الندوي، صاحب الكتب الفائقة، والرّسائل الرائقة، والمحاضرات النافعة، «والذي أجمع عليه السلفيّون والمتصوّفون، والمذهبيون واللّامذهبيون، والتقليديون والمعاصرون» «1» ، و «الذي أخلص وجهه لله تعالى، وسار في حياته سيرة المسلم المخلص لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدعا إلى الإسلام بالقدوة الحسنة، ودعا إلى الإسلام بكتبه النقية، ودعا إلى الإسلام بسياحته التي حاضر فيها، ووجّه وأرشد» «2» ، و «الذي [كان] ذخرا للإسلام ودعوته، وكتبه ومؤلّفاته تتميّز بالدّقة العلمية، وبالغوص العميق في تفهّم أسرار الشريعة، وبالتحليل الدقيق لمشاكل العالم الإسلامي ووسائل معالجتها» «3» ، و «الذي عرفته في   (1) قاله فقيه الدعاة، وداعية الفقهاء: الدكتور يوسف القرضاوي. (2) قاله شيخ الأزهر الأسبق: الدكتور عبد الحليم محمود- رحمه الله-. (3) قاله الداعية الفقيه، الصابر المجاهد: الدكتور مصطفى السباعي- رحمه الله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 شخصيته وفي قلمه، فعرفت فيه قلب المسلم، والعقل المسلم، وعرفت فيه الرجل الذي يعيش بالإسلام وللإسلام على فقه جيّد للإسلام.. هذه شهادة لله أودعها» «1» ، و «الذي [كان] مدرسة فكرية افتقدها العالم الإسلاميّ برحيله» «2» . اسمه ونسبه وأسرته: هو عليّ أبو الحسن بن عبد الحي بن فخر الدين الحسني، ينتهي نسبه إلى عبد الله الأشتر بن محمّد ذي النّفس الزكية بن عبد الله المحض، بن الحسن (المثنّى) بن الإمام الحسن السبط الأكبر بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. أوّل من استوطن الهند من هذه الأسرة في أوائل القرن السابع الهجري هو الأمير السيّد قطلب الدين المدني (776 هـ) . والده مؤرّخ الهند الكبير العلّامة الطبيب السيّد عبد الحيّ الحسني، الذي استحقّ بجدارة لقب «ابن خلّكان الهند» لمؤلّفه القيم «نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر» في ثماني مجلّدات عن أعلام المسلمين في الهند وعمالقتهم، طبع أخيرا باسم «الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام» «3» . أمّا والدته- رحمها الله- فكانت من السيّدات الفاضلات، المربيات النادرات، المؤلّفات المعدودات، والحافظات للقرآن الكريم، تقرض الشعر، وقد نظمت مجموعة من الأبيات في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) قاله الأديب الكبير، الداعية الشهيد: سيد قطب. (2) قاله الدكتور عبد الله المحسن التركي، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة. (3) في ثلاث مجلّدات ضخمة، في دار ابن حزم، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ميلاده ونشأته: أبصر العلّامة أبو الحسن الندوي النور في 6 محرم 1333 هـ (الموافق عام 1914 م) بقرية «تكية كلان» الواقعة قرب مديرية «رائي بريلي» في الولاية الشمالية «أترابرديش» . بدأ دراسته الابتدائية من القرآن الكريم في البيت، ثم دخل في الكتّاب حيث تعلّم مبادىء اللغتين (الأردوية والفارسية) شأن أبناء البيوتات الشريفة في الهند في ذلك العصر، وكان عمره يتراوح بين التاسعة والعاشرة إذ توفّي والده الجليل عام 1341 هـ (1923 م) . فتولّى تربيته أمّه الفاضلة، وأخوه الأكبر الدكتور عبد العلي الحسني «1» وإليه يرجع الفضل في توجيه وتربية العلامة الندوي. بدأ دراسته العربية على الشيخ خليل بن محمّد الأنصاري اليماني «2» في أواخر عام 1924 م، وتخرّج عليه مستفيدا في الأدب العربي، ثمّ توسّع فيه وتخصّص على الأستاذ الدكتور تقي الدين الهلالي المرّاكشي «3» عند مقدمه إلى ندوة العلماء عام 1930 م.   (1) انظر ما كتب عنه العلّامة الندوي في كتابه «شخصيات وكتب» ص (63) ، طبع دار القلم بدمشق. (2) انظر ترجمته في «من أعلام المسلمين ومشاهيرهم» ص (281) طبع دار ابن كثير، بدمشق. (3) هو العلّامة البحّاثة، وأحد كبار علماء اللغة العربية في هذا العصر، ولد بسجلماسة في المغرب، ونشأ نشأة صوفية، ثم تركها واتخذ السلفية معتقدا، سافر إلى الهند وقرأ الحديث على كبار محدّثيها يومئذ، وعيّن أستاذا خلال إقامته فيها في كلية اللغة العربية في دار العلوم- ندوة العلماء، توفي- رحمه الله- بالدار البيضاء عام 1407 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 دراسته الجامعيّة: التحق بجامعة لكهنؤ فرع الأدب العربي عام 1927 م، ولم يتجاوز عمره آنذاك الأربعة عشر عاما، وكان أصغر طلبة الجامعة سنا، ونال منها شهادة الليسانس في اللغة العربية وآدابها، قرأ خلال أيام دراسته في الجامعة كتبا تعتبر في القمّة العربية والأردوية، ممّا أعانه على القيام بواجب الدعوة وشرح الفكرة الإسلامية الصحيحة، وإقناع الطبقة المثقّفة بالثقافة العصرية، وتعلّم الإنجليزية مما مكّنته من قراءة الكتب المؤلّفة بها في التاريخ والأدب والفكر. ثمّ التحق بدار العلوم- ندوة العلماء عام 1929 م وقرأ الحديث الشريف (صحيح البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي) حرفا حرفا مع شيء من تفسير البيضاوي على العلّامة المحدّث الشيخ حيدر حسن خان الطّونكي «1» ، ودرس التفسير لكامل القرآن الكريم على العلّامة المفسّر المشهور أحمد علي اللّاهوري في لاهور عام 1351 هـ/ 1932 م، وحضر دروس العلّامة المجاهد حسين أحمد المدني «2» في صحيح البخاري وسنن الترمذي خلال إقامته في دار العلوم ديوبند، واستفاد منه في التفسير وعلوم القرآن أيضا. في سلك التدريس: انخرط في سلك التدريس عام 1934 م، وعيّن أستاذا في دار العلوم ندوة العلماء لمادّتي التفسير والأدب.   (1) انظر ترجمته في «الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام» للعلّامة عبد الحي الحسني، ج: 3، ص: 1218، طبع دار ابن حزم، بيروت. (2) انظر ترجمته في كتاب «من أعلام المسلمين ومشاهيرهم» ص (239) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 واستفاد خلال تدريسه في دار العلوم من الصّحف والمجلّات العربية الصادرة في البلاد العربية، ممّا عرفه على البلاد العربية وأحوالها، وعلمائها وأدبائها ومفكّريها عن كثب، واستفاد أيضا من كتب المعاصرين من الدعاة والمفكّرين العرب وفضلاء الغرب والزعماء السياسيّين. نشاطاته الدعويّة والإصلاحية: قام برحلة استطلاعية للمراكز الدينية في الهند عام 1939 م، تعرّف فيها على الشيخ المربّي العارف بالله عبد القادر الرّأي فوري «1» ، والداعية إلى الله الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي «2» ، وكان هذا التعرّف نقطة تحوّل في حياته، وبقي على الصلة بهما حتى وافاهما الأجل المحتوم، وتلقّى التربية الروحية من الشيخ الرأي فوري واستفاد من صحبته ومجالسته، وتأسّى بالشيخ الكاندهلوي في القيام بواجب الدّعوة وإصلاح المجتمع، وقضى زمنا طويلا في رحلات وجولات دعوية متتابعة للتربية والإصلاح والتوجيه الديني في الهند وخارجها. أسّس مركزا للتعليمات الإسلامية لتنظيم حلقات درس القرآن الكريم والسنّة النبوية عام 1943 م، وأسّس حركة رسالة الإنسانية بين المسلمين والهندوس عام 1951 م، والمجمع الإسلامي العلمي بدار العلوم- ندوة العلماء في لكهنؤ عام 1959 م. شارك في تأسيس هيئة التعليم الديني للولاية الشمالية (أترابرديش) عام 1960 م، وفي تأسيس المجلس الاستشاري الإسلامي لعموم الهند   (1) انظر ترجمته في «من أعلام المسلمين ومشاهيرهم» ص (259) . (2) انظر ترجمته في «من أعلام المسلمين ومشاهيرهم» ص (233) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 عام 1964 م، وفي تأسيس هيئة الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند عام 1972 م. رحلته مع الكتابة والتأليف: كتب أوّل مقال بالعربية في مجلّة «المنار» للعلّامة السيّد رشيد رضا المصري عام 1931 م حول شخصية الإمام السيّد أحمد بن عرفان الشهيد، وكان عمره- آنذاك- أربعة عشر عاما، ثم نشره العلّامة رشيد رضا ككتاب مستقل لمّا رأى إعجاب كبار كتّاب العرب به. ظهر له أوّل كتاب بالأردوية عام 1937 م يحمل اسمه «سيرة أحمد شهيد» ونال قبولا عاما في الأوساط الدينية والعلمية في الهند وباكستان، وصدر له طبعات عديدة فيما بعد. بدأ سلسلة تأليف الكتب المدرسية بالعربية، وظهر أوّل كتاب فيها بعنوان «مختارات من أدب العرب» عام 1940 م، و «قصص النبيّين» للأطفال و «القراءة الراشدة» عام 1944 م، وقرّر جميع هذه الكتب في مقرّرات المعاهد والجامعات الإسلامية في بلاد العرب وشبه القارة الهندية. ألّف كتابه المشهور «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» عام 1944 م، الذي عدّ من أفضل الكتب التي صدرت في هذا القرن «1» . دعي أستاذا زائرا في كلية الشريعة بجامعة دمشق عام 1956 م، وألقى محاضرات بعنوان «التجديد والمجدّدون في تاريخ الفكر الإسلامي» نشرت بعد ذلك في شكل كتاب مستقلّ في أربع مجلّدات باسم «رجال الفكر والدعوة في الإسلام» .   (1) كما قاله المربّي المفكّر، الداعية الناقد البصير: الأستاذ محمد المبارك- رحمه الله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ألّف كتابه حول القاديانية بعنوان «القادياني والقاديانية» عام 1958 م، وكتابه «الصراع بين الفكرة الإسلامية والغربية في الأقطار الإسلامية» عام 1965 م وكتابه «الأركان الأربعة» عام 1967 م، و «السيرة النبوية» عام 1976 م، و «العقيدة والعبادة والسلوك» عام 1980 م و «المرتضى» في سيرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- عام 1988 م. رئاسته لتحرير المجلّات والجرائد الإسلامية والإشراف عليها: شارك في تحرير مجلّة «الضياء» العربية الصادرة من دار العلوم- ندوة العلماء عام 1932 م ومجلّة «الندوة» الأردوية الصادرة منها أيضا عام 1940 م، وأصدر مجلّة باسم «تعمير حيات» بالأردوية عام 1948 م، وكتب مقالات في الأدب والدعوة والفكر في أمّهات المجلّات العربية الصادرة من مصر ودمشق ك: «الرّسالة» للأستاذ أحمد حسن الزيّات و «الفتح» للأستاذ محب الدين الخطيب و «حضارة الإسلام» للدكتور مصطفى السّباعي و «المسلمون» للدكتور سعيد رمضان المصري. أشرف على إصدار جريدة «نداي ملّت» بالأردوية عام 1962 م، وأشرف كذلك على إصدار مجلّة «البعث الإسلامي» العربية الصادرة منذ عام 1955 م، وجريدة «الرائد» العربية الصادرة منذ عام 1959 م، ومجلة «تعمير حيات» الأردوية الصادرة منذ عام 1963 م، وكلّها تصدر من دار العلوم- ندوة العلماء في لكهنؤ، (الهند) . رحلاته: سافر إلى الشرق والغرب داعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، عاملا على إعلاء كلمة الإسلام بالكلمة المسموعة والمقروءة، وبالعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الإيجابيّ البنّاء في كلّ مجال، جوّابا للآفاق في سبيل الله، محاضرا، ومحدّثا، ومحاورا، واعظا وهاديا، ومشاركا بالرأي والفكر في المجالس العلمية، والمجامع الجامعية والمؤسّسات الإسلامية، والمؤتمرات والندوات فيها «1» . تقدير وتكريم: انتخبه مجمع اللغة العربية بدمشق والقاهرة والأردن عضوا مراسلا لما اتّصف به من العلم الجمّ، والبحث الدقيق في ميادين الثقافة العربية والإسلامية، ولمساعيه المكثّفة المشكورة في الأدب العربي الإسلامي. اختير عضوا في المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة منذ تأسيسها عام 1962 م. اختير عضوا في رابطة الجامعات الإسلامية منذ تأسيسها عام 1971 م. اختير لاستلام جائزة الملك فيصل العالمية عام 1980 م، لمؤلّفه القيّم «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» . منح شهادة الدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة كشمير عام 1981 م. اختير رئيسا لمركز أو كسفورد للدراسات الإسلامية بلندن عام 1983 م. اختير عضوا في المجمع الملكيّ لبحوث الحضارة الإسلامية وللبحث والتأليف والتحقيق في عمّان (الأردن) . اختير رئيسا عاما لرابطة الأدب الإسلامي العالمية (الرياض) عام 1984 م.   (1) اقرأ للاطلاع على رحلاته الدعويّة في الخافقين كتاب «رحلات العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي مشاهداته- محاضراته- انطباعاته- لقاءاته» إعداد المحقّق، طبع دار ابن كثير بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أقيمت ندوة أدبية كبيرة حول حياته، وجهوده الحثيثة ومساعيه المشكورة، ومفاخره العظيمة في مجال الدعوة والأدب في إستانبول «تركيا» عام 1999 م، حضرت فيها كبرى الشخصيات الدينية، والأدبية من أنحاء العالم العربي والإسلامي. اختير لاستلام جائزة الشخصية الإسلامية لعام 1419 هـ لخدماته الجليلة وماثره العظيمة في مجال الدعوة الإسلامية، وقدّم إليه الجائزة وليّ العهد لحكومة الإمارات العربية المتحدة سموّ الشيخ محمد بن راشد المكتوم. منح له سلطان برونائي جائزة لخدماته الإسلامية، عام 1998 م، وذلك اعترافا بمكانته العلمية والفكرية الإسلامية العظيمة، وتقديرا لخدماته المتميزة التي أنجزها في مجال الدعوة الإسلامية العظيمة، والفكر الإسلامي. رئاسته وعضويته للجامعات والمجامع: تولّى العلامة الندوي الرئاسة والعضوية لعدّة جامعات إسلامية، ومجامع عربية، ومنظّمات دعوية، ومراكز دينية في العالم الإسلامي وخارجه، ومنها على سبيل المثال: الأمين العام لدار العلوم- ندوة العلماء (الّتي أخذت صفة العالمية منذ ترأس أمانتها، وتفوّقت على معظم جامعات العالم الّتي تهتمّ بشؤون الدراسات الإسلامية والعربية) . رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية (الرياض) . رئيس المجمع الإسلامي العلمي في لكهنؤ (الهند) . رئيس مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية (إنجلترا) . رئيس هيئة الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 رئيس هيئة التعليم الدّيني للولاية الشمالية (أترابرديش) . عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة. عضو المجلس التأسيسي الأعلى العالمي للدعوة الإسلامية بالقاهرة. عضو مجمع اللغة العربية بدمشق. عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة. عضو مجمع اللغة العربية الأردني. عضو المجمع الملكيّ لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسّسة آل البيت) بالأردن. عضو رابطة الجامعات الإسلامية بالرّباط (المغرب) . عضو المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة. عضو المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد (باكستان) . عضو المجلس الاستشاري بدار العلوم ديوبند الإسلامية (الهند) . وعدا ذلك تولّى العلامة الرئاسة والعضوية لكثير من الجامعات الإسلامية، والمراكز الدينية والمنظّمات الدعوية، ولجان التعليم والتربية في العالم الإسلامي وخارجه. وفاته: توفّي- رحمه الله- عقب نوبة قلبية مفاجئة عن السادسة والثمانين من عمره الحافل بالأعمال القيامة والماثر العظيمة، والخدمات الجليلة في مجال الفكر والدّعوة والأدب يوم الجمعة في 23 من شهر رمضان المبارك عام 1420 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 (وكان آخر يوم من شهر ديسمبر عام 1999 م) في مسقط رأسه «رائي بريلي» . صلّي عليه في أنحاء العالم الإسلامي صلاة الغائب، وصلّى كذلك حوالي خمسة ملايين من المسلمين الوافدين من مختلف أصقاع العالم في الحرمين الشريفين في 27 رمضان بعد صلاة العشاء، رحمه الله رحمة واسعة، وتغمّده بها وأسكنه فسيح جنانه. خلقه وخلقه: كان- رحمه الله- نحيف البدن، ونحيل العود، نقيّ اللون، وقورا مهيبا في غير عبوس أو فظاظة، طلق الوجه دائم البشر، نظراته عميقة نفاذة، ونبراته دقيقة أخّاذة، فيها بحة. كان جمّ التواضع، هادئا، محبا للخير، ودودا محبوبا من كافة الطبقات. كان خير مثل للعالم، الورع الخلوق، الذي يضمر الخير للجميع، كان مثالا في النزاهة، والتواضع والجرأة النادرة في الدعوة إلى الإصلاح، وفي الاستقامة، والحرص على الحقّ. كان عدوّا للمظاهر الكاذبة، يتخفّف في ثيابه وطعامه وفراشه، ويكره التكلّف والمجاملة الزائدة، ولا يقيم للمال وزنا في حياته، كانت ثقته بربّه فوق كلّ شيء، وكانت مثابرته على النضال في سبيل ما يؤمن به مضرب الأمثال، وإخلاصه العميق كان سرّ نجاحه، بينما يفشل الآخرون. كان دائم المطالعة، حريصا على صحبة الكتاب في خلواته وأوقات فراغه، وكان شديد الاهتمام والعناية بكتب السيرة- على صاحبها ألف ألف سلام- وبكتب السلف والتاريخ والأدب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 كان فصيح اللسان، بليغ الكلام، وكان يمتاز بتمكّن عجيب من اللغة العربية، وتذوّق رفيع للأدب، وكانت تراكيبه اللفظية تلفت السامع، وتستهوي القلب، وكان يغلب على أسلوبه العنصر العاطفي الملتهب، ومع ذلك إذا طرق باب البحث أجاد وأفاد وأمتع. كان شديد العبادة والاجتهاد في رمضان، وكان يؤمّه مئات من الناس من أنحاء الهند ويصومون معه ويقومون، ويتحوّل المكان الذي يقضي فيه رمضان إلى زاوية عامرة بالذكر والتلاوة، والسهر والعبادة. كان من أعظم آماله- رحمه الله- أن يرى الإسلام سائدا على الأرض، وأن يرى الدول الباغية مقهورة حتى يسلّي نفسه ويستبشر، ويرى انتقام الله من الذين حاربوا الإسلام وأذلّوا المسلمين. مؤلّفاته: للعلّامة الندوي- رحمه الله- مؤلّفات قيمة، ورسائل ممتعة في السيرة، والفكر، والدّعوة، والأدب، والتراجم، نذكر هنا ما هو الأشهر منها بالعربيّة: 1- السيرة النبوية. 2- الطريق إلى المدينة. 3- سيرة خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم (للمبتدئين) . 4- المرتضى (في سيرة سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه) . 5- رجال الفكر والدّعوة في الإسلام (أربع مجلّدات) . 6- الداعية الكبير الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي ودعوته إلى الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 7- شخصيات وكتب. 8- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟! 9- الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية. 10- الإسلام وأثره في الحضارة وفضله على الإنسانية. 11- إلى الإسلام من جديد. 12- المسلمون وقضية فلسطين. 13- روائع من أدب الدعوة في القرآن والسيرة. 14- الأركان الأربعة في ضوء القرآن والسنة. 15- العقيدة والعبادة والسّلوك. 16- التربية الإسلامية الحرّة. 17- المدخل إلى الدراسات القرآنية. 18- المدخل إلى دراسات الحديث. 19- ربّانية لا رهبانيّة. 20- القاديانية والقادياني دراسة وتحليل. 21- في مسيرة الحياة (ثلاثة أجزاء في سيرته الذاتية) . 22- مختارات من أدب العرب (مجلّدان) . 23- روائع إقبال. 24- إذا هبّت ريح الإيمان. 25- المسلمون في الهند. 26- مذكّرات سائح في الشرق العربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 27- قصص النبيّين (للأطفال) . 28- قصص من التاريخ الإسلامي (للأطفال) . وللعلّامة غير هذه المؤلّفات والكتب- مئات المقالات والمحاضرات والبحوث في السيرة النبوية، والفكر، والدّعوة، والأدب، والتراجم وفي موضوعات مختلفة، وقد جمعناها ونشرناها مصحّحة ومنقّحة في سلسلة «تراث العلّامة الندوي» فقد صدر منها حتى الآن: 1- محاضرات إسلامية في الفكر والدّعوة (ثلاث مجلّدات) . 2- مقالات إسلامية في الفكر والدّعوة (مجلّدان) . 3- دراسات قرآنية. 4- مقالات في السيرة النبوية. 5- من أعلام المسلمين ومشاهيرهم. 6- أبحاث في التعليم والتربية الإسلامية. 7- أبحاث في الحضارة الإسلامية والتربية. 8- بحوث في الاستشراق والمستشرقين. 9- رحلات العلّامة أبي الحسن علي الحسني الندوي. 10- مكانة المرأة في الإسلام. 11- خطابات صريحة إلى الأمراء والرّؤساء. 12- اسمعيّات «1» .   (1) من يريد الاستزادة من الاطلاع على حياته وشخصيته داعية، ومفكّرا، ومربّيا وأديبا يرجع إلى كتابنا «أبو الحسن علي الحسني الندوي الإمام المفكّر الداعية الأديب» (الطبعة الثالثة) طبع في دار ابن كثير بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 السّيرة النّبويّة للدّاعية الحكيم، المفكّر الإسلاميّ الكبير للعلّامة السيد أبي الحسن علي الحسني النّدوي (1333- 1420 هـ) (1914- 1999 م) تحقيق وتعليق سيّد عبد الماجد الغوريّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدّمة الطّبعة الحادية عشرة الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وخاتم النبيين، محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد! فإنّ أكبر مجموع من كلمات الشّكر، وإبداء السرور، لا يكفي للتعبير عما يجده مؤلّف الكتاب- الذي يعرف قدره- من السرور، والشكر والامتنان، على صدور الطبعة الحادية عشرة لكتابه المفضّل المحبوب «السيرة النبوية» في سنة 1415 هـ- 1995 م، ولا يجد إلى ذلك سبيلا إلّا أن يستعين بالقول المأثور في الشكر والامتنان، والاعتراف بالفضل والإحسان، «الحمد لله الذي بعزّته وجلاله تتمّ الصالحات» . وينتهز المؤلّف- ككلّ مؤلّف فاحص يواصل سيره في طلب المزيد الجديد، والمنير المفيد، في رحلته العلمية التأليفية- هذه الفرصة لضمّ زيادات، ليست كبيرة القامة، ولكنها كبيرة القيامة، وتعديلات يسيرة، إلى هذه الطبعة الحادية عشرة، وآثر- في ضوء تجاربه كمؤلّف- أن يكون ذلك تحت إشرافه وعلى كثب منه. وإلى القراء الكرام، والمؤسّسات العلمية، والمراكز التعليمية والتربوية؛ التي عنيت بهذا الكتاب وأثرته دراسة وتدريسا، وفحصا وتدقيقا، هذه الطبعة الجديدة المزيدة، والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا. 1 سلخ رجب 1416 هـ 21/ 12/ 1995 م 2 المؤلف أبو الحسن علي الحسني النّدوي دار العلوم لندوة العلماء- لكهنؤ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 تقديم الطّبعة السّابعة الحمد لله ربّ العالمين، والسلام على سيّد المرسلين وخاتم النبيين محمد وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد؛ فقلب المؤلّف وقلمه يسجدان لله شكرا ويلهجان بحمده نطقا وكتابة، على تقديم الطبعة السابعة «للسيرة النبوية» فقد صدرت الطبعة الأولى سنة 1397 هـ (1977 م) والطبعة السادسة في 1405 هـ (1984 م) ، من دار الشروق بجدّة، ولقي الكتاب من القرّاء والمعنيّين بالموضوع، ورجال التربية والمؤسّسات العلمية، عناية يحمد الله عليها المؤلّف، ونقلت إلى عدّة لغات غير العربية مثل الأردوية والهندية (اللغة الرسمية في الهند القريبة إلى السّنسكريتية) والإنجليزية والتركية والأندونيسية، وعني بها الدارسون في إطار هذه اللغات المنتشرة في نطاق واسع. وقد سنحت للمؤلّف فرصة الاطّلاع على ما كتب في السيرة النبوية وما يتصل بها تاريخيا، وجغرافيا، وحضاريا، واجتماعيا، ودراسات مقارنة، خصوصا في اللغات الثلاث: العربية، والأردوية، والإنجليزية، في هذه الفترة، فالتقط منها بعض ما يزيد في المواد الموضوعية، وشرح خلفيات الحوادث والدراسة المقارنة، ويلفت نظر المؤلّف إلى إيضاح بعض الجوانب التاريخية والعلمية، والدعوية في السيرة النبوية فاستفاد من ذلك، وقام بضمّ زيادات ذات قيمة يبلغ عددها إلى عشرين زيادة، بين موجزة ومستفيضة، يجدها القارىء في مكانها. ولم يقتصر المؤلّف- من أوّل عهده بتأليف هذا الكتاب، إلى استئناف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 النظر فيه والزيادة والتنقيح- على عرض الوقائع والأخبار ومجرّد التاريخ والتوقيت كقائمة معلومات رتيبة خشبية، بل عني كذلك باستنتاج نتائج عميقة المعنى بعيدة المدى، ذات قيمة في دراسة سير الأنبياء ودعواتهم، لا سيّما سيرة سيّدهم وخاتمهم صلّى الله عليه وسلّم ودعودته، وفي النفسيات البشرية، وعلم الاجتماع والأخلاق، وهي من وحي السيرة ومن حقوقها وواجباتها على الدارس المؤمن والمعنيّ بتربية الأجيال المسلمة، وتوجيه المربّين والدعاة، والمؤلّفين والباحثين في موضوع السيرة. وقد جاءت هذه الطبعة- بتوفيق الله تعالى ويسره- جامعة بين مواد السيرة الأصيلة الموثوق بها، وبين أحدث ما كتب وتوصّل إليه الباحثون في هذا الموضوع، وبين الأمانة التاريخية والتحقيق العلمي، وبين تغذية الإيمان والعاطفة بما لا سبيل إليه إلّا في السيرة، وهي غاية أكبر عدد من قرّائها، وحاجة الجميع من أفراد البشر، وذلك من غير تفخيم أو تلوين، فالسيرة غنيّة عن كلّ هذا، فائقة في روعتها وجمالها، قائمة بذاتها في التأثير على النفوس والعقول. وأخيرا المؤلّف يحمد الله على أنه فسح في أجله، وهيّأ له الأسباب، حتّى يتمكّن من النظر في كتابه وتناوله بالتنقيح والزيادة، ويشكر «دار الشروق» العزيزة وصاحبها الحبيب الفاضل سعادة الأستاذ محسن أحمد باروم على عنايتها بنشر هذا الكتاب وإصداره طبعة بعد طبعة، والعناية بحسن إخراجه، ويسأل الله لهما التوفيق الدائم وحسن القبول. 1 بومباي الهند 17/ من ربيع الثاني 1407 هـ 20/ 12/ 1986 م 2 أبو الحسن عليّ الحسني النّدوي أمين عام ندوة العلماء لكهنؤ (الهند) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدّمة الكتاب في طبعة الأولى «1» الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وخاتم النبيين، محمّد وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أمّا بعد؛ فقد كانت السيرة النبوّية- على صاحبها الصلاة والسّلام- المدرسة الأولى التي تعلّم فيها مؤلف هذا الكتاب، وقد دخلها في سنّ مبكّرة، لا يدخل فيها الأطفال في عامة الأحوال، والفضل في ذلك يرجع إلى الجوّ الذي كان يسود بيته وأسرته، فقد كانت السيرة تكوّن عنصرا أساسيا في الثقافة التي يتلقّاها أبناء الأسرة وأطفال البيت، وإلى المكتبة الصغيرة البسيطة المؤلّفة من منظوم ومنثور، التي كانت تنتقل من يد إلى يد، ثم إلى تربية أخيه الأكبر الدكتور السيد عبد العلي الحسني، وتوجيهه الحكيم، فقرأ في صباه أفضل ما كتب في السيرة النبوية في «أردو» - لغة مسلمي الهند-، وهي أغنى لغات العالم الإسلامي بعد اللغة العربية في موضوع السيرة، وهي تحتوي على أقوى وأجمل ما كتب فيها في العصر الأخير «1» . ثم لمّا صار يشدو باللغة العربية عكف على كتب السيرة، التي ألّفت   (1) اقرأ قصة صلة المؤلف بكتب السيرة، وتأثيرها في ثقافته وعقليته وسيرته في كتاب «الطريق إلى المدينة» المقال الأول بعنوان «الكتاب الذي لا أنسى فضله» ص (15) من طبعة دار ابن كثير بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فيها، وكانت في مقدّمتها «السيرة النبوية» لابن هشام، و «زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن قيّم الجوزية، ولم يدرسهما دراسة علمية فحسب، بل عاش فيهما زمنا طويلا، يذوق بهما حلاوة الإيمان، ويغذّي بما جاء فيهما من القصص والأخبار عاطفة الحبّ والحنان، ومن المقرّر أن السيرة أقوى العناصر التربوية وأكثرها تأثيرا في النفس والعقل بعد القرآن، ثم قرأ ما وصلت إليه يداه من كتب السيرة المؤلّفة قديما وحديثا، وفي لغات مختلفة. وكانت السّيرة هي المادّة الأولى التي يعتمد عليها في كتاباته ومحاضراته، يستمد منها القوّة في البيان، والتأثير في العقول والقلوب، والدلائل القوية، والأمثلة البليغة، لإثبات ما يريد إثباته، وهي التي كانت ولا تزال تفتّق قريحته، وتشعل مواهبه، وما من كتابة ذات قيمة من كتاباته إلا وعليها مسحة من جمال السيرة، وفضل لدراستها والتأمل فيها. وقد جمع ما كتب في جوانب السيرة المختلفة، وعظمة البعثة المحمّدية وما ألقاه من محاضرات وأحاديث، في كتاب أسماه «الطريق إلى المدينة» «1» . وقد عاش المؤلّف هذه المدّة الطويلة، وقد ألّف عشرات من الكتب لا يفكّر في إفراد كتاب في السيرة النبوية، رغم أنه كان يشعر بمسيس الحاجة إلى كتاب كتب في أسلوب عصريّ علميّ، استفيد فيه من خير ما كتب في القديم والحديث، مؤسّسا على مصادر السيرة الأولى الأصيلة، مطابقا لما جاء في القرآن والسنة الصحيحة، لم يكتب في الأسلوب الموسوعي) Encyclopaedic (الحاشد للمعلومات في غير نقد وتمحيص، الأسلوب الذي   (1) ظهرت لهذا الكتاب ثلاث طبعات في المدينة المنورة، ولكهنؤ، وآخرها طبعة دار ابن كثير ودار القلم بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 اعتاده أكثر المؤلّفين المتوسّطين والمتأخّرين وقليل من المؤلّفين المتقدّمين، والذي كان مثار كثير من التساؤلات التي برّأ الله السيرة الكريمة منها، وأغنى المسلمين عنها، قد نالته يد التنقيح والتحقيق من غير تقليد للاتجاهات العصرية، وخضوع لكتابات المستشرقين وأقوال المشكّكين، متمشيا مع المقرّرات الدينية التي تفهم في ضوئها الكتب السّماوية وسير الأنبياء، والمعجزات، والأخبار الغيبية، قائما على مبدأ أنه سيرة نبيّ من الأنبياء، مبعوث من الله، مؤيّد منه، لا سيرة عظيم من العظماء، أو زعيم من الزعماء، يسوغ أن يقدّم إلى كل مثقف منصف من المسلمين وغير المسلمين من غير تحفّظ أو استثناء، أو حاجة إلى تأويل، يعتمد فيه المؤلّف على الحوادث والوقائع، ومادة السيرة، ويدعها تنطق بلسانها، وتشقّ الطريق بنفسها إلى القلوب والعقول، أكثر مما يعتمد على فلسفته للحوادث وتعليله للأخبار، ومقدماته الطويلة العريضة، فالسيرة النبوية غنية بجمالها وروعتها وسحرها على النفوس والعقول، ووقعها منها موقع القبول، من شفاعة شافع وتدليل حكيم، وبراعة أديب، وجلّ ما يحتاج إليه المؤلّف، هو جمال العرض، وحسن الترتيب، وجودة التلخيص. ثم يتجلّى فيه العقل والعاطفة جوارا بجوار، فلا يكون فيه البحث العلمي والنقد التحليلي على حساب العاطفة والحب والإيمان، اللذان لا بدّ منهما في تذوّق السيرة والاستفادة منها وفهم قضاياها وأحكامها وحوادثها، فإنه إذا تجرّد الكتاب من العاطفة والحب والإيمان، كان خشبيا مصنوعا لا حياة فيه، وكذلك يجب ألا يكون العنصر العاطفي العقيدي على حساب المتطلبات العقلية السليمة التي نماها هذا العصر بصورة خاصة، وعلى حساب المنطق السليم الذي لم يتجرد منه عصر من العصور، فيكون كتاب عقيدة وتقليد فحسب، لا يطيق قراءته ولا يسيغ ما جاء فيه إلا الأقوياء في الإيمان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 والراسخون في الإسلام، من الذين نشؤوا في بيئة دينية خالصة لا شأن لها بالعالم الخارجي، وبالثقافة العصرية، وذلك وإن كانت موهبة من الله، فإن سيرة نبيّ أرسل إلى الناس كافة، وأرسل رحمة للعالمين، لا يجوز أن تجعل مقصورة على هذه الطبقة السعيدة المؤمنة، محجورة على من لم تسمح ظروفهم بالنشوء في هذه البيئة المسلمة المؤمنة، وأرادت حكمة الله أن يولدوا في بيئات غير إسلامية، ثم يدركهم اللطف الإلهي، وتهبّ عليهم نفحة من نفحات هذه السيرة العطرة، فينتقلون بقوتها وجاذبيتها إلى حظيرة الإيمان ومعسكر الإسلام، وليس حق غير المسلمين على هذه السيرة وحظهم فيها أقلّ من حق المسلمين الذين نشؤوا في ظلال الإيمان والإسلام، والدواء حاجة المريض أكثر من حاجة السليم، والقنطرة يحتاج إليها من يعيش وراء النهر أكثر مما يحتاج إليها من يعيش دونه. ثم لا يسع المؤلّف في السيرة صرف النظر عن البيئة التي كان فيها وجودها وقيامها، وعن العصر الذي كان فيه طلوعها وبزوغها، فلا بد من وصف الجاهلية العالمية الضاربة أطنابها على الأرض كلها في القرن السادس المسيحي، ومدى ما وصل إليه هذا العصر من الفساد والانحطاط، والقلق والاضطراب، ووصف حالته الخلقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية وما تضافر عليه من عوامل الإفساد والإضلال والتدمير والإبادة، من حكومات جائرة، وأديان محرّفة، وفلسفات متطرفة، وحركات هدّامة. وحين أراد المؤلّف أن يكتب فصلا في تفصيل وتوسّع على العصر الجاهلي يقدم به كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» وجد في ذلك صعوبة لا ينساها حتى اليوم، واضطرّ إلى أن يجمع المعلومات من المراجع الأجنبية والكتب التي ألّفت في تاريخ البلاد والأمم، والدّول المعاصرة لنشوء الإسلام، في اللغات الأوربية، فالتقطها من ثنايا هذه الكتب كما تلتقط حبّات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 السّكّر الدقيقة من أفواه النّمل (حسب المثل الأردي) ، فجاء هذا الفصل الموسّع «1» ، الذي ينير الطريق لمن يقرأ كتب السيرة، ويحاول أن يدرك عظمة البعثة المحمدية وضخامة المهمة التي اضطلعت بها والنتائج العظيمة الجسيمة التي أسفرت عنها. وكان كلّ كتاب يؤلّف في السيرة النبوية في العصر الحديث جديرا بهذا النوع من البحث والنمط في التحقيق، وإلقاء الأضواء القوية العلمية على العصر الجاهلي والتصوير الدقيق الأمين لما كان يجيش به من فساد واضطراب، وانهيار وانتحار. وذلك شأن البيئة التي كانت فيها البعثة، وظهور الإسلام، والبلد الذي ظهرت فيه هذه الدعوة، وولد فيه صاحب الرسالة- عليه الصلاة والسلام- وقضى فيه ثلاثا وخمسين سنة من عمره، وعاشت فيه الدعوة ثلاث عشرة سنة، فلا بدّ أن يعرف الدارس للسّيرة مدى ما وصل إليه العقل فيه والوعي والمدنيّة، ومكانة هذا البلد الاجتماعية والسياسية وحالته الدينية والعقائدية ووضعه الاقتصادي والسياسي، وقوّته الحربية والعسكرية حتى يعرف طبيعة هذا البلد وعقلية سكانه والعقبات التي كانت تعترض في سبيل انتشار الإسلام وشقه الطريق إلى الأمام. وقل مثل ذلك وأكثر عن مدينة (يثرب) التي انتقل إليها الإسلام، وهاجر إليها الرسول وأصحابه، وأراد الله أن تكون مركز الإسلام الأول، فلا يقدّر مدى قيمة النجاح الذي حقّقه الإسلام وقدرته على التربية والبعث الجديد، وحل المعضلات، والجمع بين العناصر المتناقضة وعظمة المأثرة النبوية،   (1) جاء هذا الفصل في الباب الأول، في كتاب «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» بعنوان: «الإنسانية في احتضار» طبع دار ابن كثير بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وإعجازها في تأليف القلوب وتربية النفوس، إلا إذا عرف الإنسان وضعيّة هذه البيئة الغريبة المعقّدة التي واجهها الرسول والمسلمون. ولا تفهم كثير من الحوادث والأحكام التي يمرّ بها القارىء في كتب السيرة والحديث إلا إذا عرف حالة المدينة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وطبيعة أرضها وجغرافية هذا البلد وما حوله، وما كان يتركب به من عناصر إنسانية وإقليمية، وصلات أجزاء عمرانه بعضها ببعض، والأعراف والمعاملات الشائعة قبل الهجرة وانتشار الإسلام فيه. فإذا جهل القارىء كلّ هذا، وبدأ رحلته في كتب السيرة شعر بأنه يمشي في نفق لا يبصر فيه ما حوله، وكان على غير بينة من الأمر. وكذلك القول عن الحكومات المعاصرة والبلاد المجاورة، فلا يتبيّن القارىء خطورة الإقدام الذي قامت به الدعوة الإسلامية، وقوة مغامرتها، إلا إذا عرف حجم هذه الحكومات التي كانت تقوم حوله، والتي خاطبها الإسلام ودعاها الرسول- عليه الصلاة والسلام- إلى الإيمان برسالته، وقبول حكم الإسلام، وما وصلت إليه من المدنية والثقافة، والقوة الحربية والرفاهية والعمران، وما كان يتمتع به ملوكها من حول وطول، وصولة وشوكة. وقد ألقى العلم الحديث ضوءا على تاريخ هذه الحكومات والبلاد والمجتمعات التي كانت تعيش فيها، ورفع الستار عن كثير مما كان مجهولا أو غامضا أو ملتويا في العصر القديم، فكان من الواجب أن يستعين بكل ذلك المؤلّف العصريّ في السيرة النبوية، ويستعين بالحديث الأحدث ممّا كتب ونشر من كتب التاريخ والجغرافية، والدراسة المقارنة. كان المؤلّف يشعر بكلّ هذا مع اعتراف بجهود المؤلّفين في هذا الموضوع، وبقيمة ما صدر عن أقلامهم في فترات مختلفة ولغات مختلفة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وفضله في الدعوة الإسلامية، وتحبيب السيرة إلى نفوس القراء، وتقريبها إلى أذهان الناشئة. وكان يرى السعادة في تأليف كتاب جديد في السّيرة النبوية لينخرط في سلك المؤلّفين النورانيّ في هذا الموضوع الحبيب الجليل. ولكنّه كان يتهيّب الكتابة في هذا الموضوع في توسّع وتفصيل، لضيق وقته، وضعف بصره، ولأنه جرّب أن كتاب سيرة لعظيم من العظماء فضلا عن نبيّ من الأنبياء، فضلا عن سيّد الأولين والآخرين، وأشرف المرسلين، من أصعب الموضوعات التي يعالجها المؤلّفون وأدقّها، وقد مارس موضوع تأليف السّير والتراجم للشخصيات المشهورة وأعلام المسلمين من القدماء والمحدثين والمعاصرين عمليا، فقد اشتغل بكتابة السّير وحياة العظماء من أئمّة المسلمين وقادتهم، والمصلحين والعلماء الربّانيّين، بعد ما شبّ عن الطوق، وأمسك القلم، وعرف الكتابة، وقد كتب بقلمه آلافا من الصفحات في سيرة هؤلاء العظماء، وعاش بين التراجم والسّير منذ الصغر، فقرأ منها الكثير وكتب منها الكثير «1» . ومن هنا عرف دقّة هذا الموضوع، وضخامة هذه المسؤولية، فمن المؤلّفين من تتغلّب عليه نزعة أو اتجاه خاصّ، فيخضع له من يترجمه من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، فتأتي كتابته صورة لعقليته وعاطفته،   (1) [ومن تلكم الكتب- فضلا عن السيرة النبوية هذه- «المرتضى» في سيرة أمير المؤمنين سيدنا أبي الحسن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم وجهه، طبع في دار القلم بدمشق و «رجال الفكر والدّعوة في الإسلام» في أربعة أجزاء؛ طبع أخيرا في دار ابن كثير بدمشق، وعشرات من المقالات في سيرة الأئمّة المصلحين والعلماء الربانيّين من القدماء والمعاصرين، فقد جمعناها في كتاب مستقلّ، ونشرناها بعنوان «من أعلام المسلمين ومشاهيرهم» في سلسلة «تراث العلامة الندوي» صدر في دار ابن كثير بدمشق] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ممثّلة لاتجاه خاص كان يسيطر على مؤلف الكتاب. ومنهم من يريد أن يصوّر أحد العظماء فيصوّر نفسه، ويريد أن ينظر إليه نظرة مجردة، فيبدأ ينظر إليه من خلال ميوله وتجاربه ووجهة نظره، ويسلّط عليه مقاييسه الخاصة. إنّ من درس علم النفس والأخلاق، وعني بدراسة الشخصيات المعاصرة، وعاش معها طويلا عرف أنّ النزول في أعماق نفس إنسان والإحاطة بافاقها، وتصويرها تصويرا دقيقا شاملا من أصعب أنواع المعرفة وأساليب البيان وأدقّها، وأنه لا يحسن ذلك بعض الإحسان، ولا يقدر عليه بعض القدرة إلا من عرف شيئا كثيرا من خوالج النفس وخواطرها، وآمالها وآلامها، وأحزانها وأشواقها والتهاب الروح، ولوعة القلب، وقد رأى كيف يبيت هذا الإنسان ليله ويقضي نهاره، وكيف يعاشر أهله ويعامل أصحابه، قد رآه في السّلم والحرب، والرّضا والغضب، وفي العسر واليسر، والضّعف والقوّة، ومن أحوال النفس الإنسانية ومشاعرها وأحاسيسها، ومن مظاهر الجمال والكمال ما لم توضع له ألفاظ بعد، ولا تفي به ثروة لغوية مهما اتّسعت ودقّت. والسّيرة النبويّة المحمّدية تتميّز من بين سير أفراد البشر- وفيهم الأنبياء وغير الأنبياء- بدقّتها وشمولها، واستيعابها لدقائق الحياة وتفاصيلها وملامحها وقسماتها، وذلك بفضل علم الحديث، الذي لا يوجد له نظير، لا في تاريخ الأنبياء ولا في تاريخ العظماء، وكتب السّير والشمائل، وما جمع وحفظ من الأدعية «1» والأذكار النبوية، ومناجاته صلى الله عليه وسلم لربّه آناء الليل   (1) ليراجع مقال المؤلّف في صلة الأدعية النبوية بالسيرة؛ وقيمتها وأهميتها في دراستها، وأنها مرآة تجلت فيها خصائص النبوة وأسرارها وصلتها بالله وبالخلق، والمعرفة الدقيقة لحقائق- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 والنهار وما حفظ ونقل من جوامع الكلم، وما أثر عن الوصافين الحاذقين من أصحابه وأهل بيته في صفته التي لم تحفظ كتب الآداب والتاريخ والأنساب، صفة أكثر منها دقة، وأعظم منها استيعابا للملامح البشرية والدقائق الخلقية «1» . ولذلك لم يكن الأمر في تأليف السيرة النبوية من الصعوبة والغموض، والافتراض والقياس، كما هو في سير العظماء الأبطال، وأنّ سيرته صلى الله عليه وسلم أكمل السّير كما كانت أجملها، وهي مؤسّسة على نصوص قرآنية ووثائق تاريخية ودقائق في الخلق والخلق، وتفاصيل في العادات والعبادات، والأخلاق والمعاملات، لا يتصوّر فوق ذلك، وهي أقرب إلى الحقيقة والواقع، قربا لا يتصوّر فوقه، ولا يطمع في أكثر منه، بعد أن مضى على هذه الحياة الطيبة الكريمة مدة طويلة. ولكن رغم وجود هذا الفارق الكبير بين سيرته صلى الله عليه وسلم وبين سير العظماء بل وبين سير الأنبياء، ورغم دقّتها التي لا دقّة فوقها، وشمولها الذي لا شمول فوقه، لا بدّ من الاعتراف بأن تصوير حياته وأخلاقه، واستيعاب المعجزات التي اشتملت عليها سيرته ودعوته وحياته الانفرادية والاجتماعية، ومعاملته   - الحياة الإنسانية، وعلم النفس والأخلاق ودقائقها؛ وقد نشر هذا المقال في رسالة مفردة في الأردية، ونقلها إلى العربية الأستاذ نور عالم الأميني الندوي، ونشرتها «المختار الإسلامي» في القاهرة بعنوان «دراسة للسيرة النبوية من خلال الأدعية المأثورة المروية» [ونشرت أخيرا بعنايتنا في دار البشائر الإسلامية ببيروت، مع مقال للعلّامة المؤلّف بعنوان «نظرات في الأدب النبوي، ودراسة للسيرة النبوية من خلال الأدعية المأثورة المروية» ] . (1) [اقرأ للتفصيل مقال العلّامة المؤلّف «النبي الخاتم، والدين الكامل، ومالها من أهمية في تاريخ الأديان والملل» ضمن مقالاته في السيرة النبوية التي جمعناها في كتاب مستقلّ بعنوان «مقالات حول السيرة النبوية» صفحة (115) ، صدر في سلسلة «تراث العلامة الندوي» عن دار ابن كثير بدمشق عام 1423 هـ- 2002 م] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 مع الله ومع الخلق، وآيات الحسن والإحسان في تكوين خلقه وخلقه، وفي حبّه ورأفته، وفي دعائه وابتهاله، وفي تألّمه للإنسانية ومصيرها، وفي منطقه وحكمته، وفي جامعيته وكماله، يكاد يكون مستحيلا، وأنّ ما جاء في كتب السّير والشمائل- على جماله وروعته- هو بعض ما خصّه الله به من جمال السيرة وكمال الخلق والخلق لا كلّه، وإن جلّ ما هنالك أنها محاولات وجهود يشكر عليها هؤلاء المؤلّفون ويؤجرون عليها، وهي ثروة عامة خالدة، يجد فيها كل إنسان وكل جيل من البشر، وكل طبقة من طبقات الناس حظها من الهداية والنور والتقليد والاقتداء لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21] . لكلّ ذلك كنت أتهيّب الكتابة في السيرة النبوية والتأليف فيها، وأستعظمها وأستصغر نفسي. وقد حثّني عدد من الفضلاء وكرام الأصدقاء «1» على أن أؤلّف كتابا في السيرة النبوية في اللغة العربية أراعي فيه عقلية الجيل الجديد وذوقه ومستوى فهمه ونفسيته، وما جد من طلبات وحاجات وأسلوب كتابي ومنهج علمي، فلكل عصر أسلوبه ولغته، ومقادير وترتيبات في الأدوية والأغذية، وذلك كما قدمنا، من غير إخضاع السيرة النبوية للأهواء والأغراض وللنظريات العلمية التي تتغير صباح مساء، والشبه والاعتراضات التي يدفع إليها التعصّب الدينيّ أو الجهل العلمي أو الغرض السياسيّ. وشرح الله صدري أخيرا لهذا التأليف، فعكفت على هذا الموضوع   (1) في مقدمتهم صديق المؤلف فضيلة الشيخ محمد محمود الصواف عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة [توفّي- رحمه الله- بتركية عام 1413 هـ (1992 م) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وعشت فيه، أقرأ كتب السيرة والحديث، وكل ما أستعين به في هذا الموضوع من القديم والحديث، وبدأت أكتب معتمدا على أصحّ ما كتب وألّف في هذا الموضوع، واستعنت بما كتب في هذا الموضوع في العصر القديم والعصر الحديث، وبالمراجع الأجنبية التي توضح الكثير من السيرة، والتاريخ المعاصر، وتلقي ضوءا على الحكومات والمجتمعات المعاصرة «1» . وحاولت أن يجمع الكتاب بين الجانب العلمي وبين الجانب التربوي البلاغي، لا يطغى أحدهما على الآخر، وأن يشتمل على أكبر مقدار من القطع النابضة الدافقة بالحيوية والتأثير، الآسرة للقلوب والنفوس التي لا يوجد نظيرها في سيرة إنسان ولا في تاريخ فرد أو جيل، أو دعوة أو دين، وذلك كله من غير تنميق أو تلوين، أو تحبير أو تحسين، فجمال الطبيعة والحقيقة لا يحتاج إلى تجميلات خارجية، أو تزيينات صناعية. وكان هذا الكتاب شغلي الشاغل ما بين شوال 1395 هـ وشوال 1396 هـ (أكتوبر 1975 م- أكتوبر 1976 م) لم أشتغل بغير هذا الموضوع إلا اضطرارا، تتخلّل ذلك فترات قليلة من المرض ورحلات طويلة في الشّرق والغرب، حتى يسّر الله إتمامه في غرة شوال سنة 1396 هـ، وها هو الآن بين يدي القراء. وأرى لزاما عليّ أن أشكر صديقين فاضلين لقيت منهما مساعدة كبيرة في تأليف هذا الكتاب، وهما فضيلة الشيخ برهان الدين السّنبهلي- أستاذ الحديث والتفسير في دار العلوم ندوة العلماء- وقد أعانني في تخريج الأحاديث والبحث عنها، والتحقيق في بعض ما جاء في كتب السيرة، جزاه   (1) وفي آخر الكتاب قائمة للمراجع العربية والأجنبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الله خير الجزاء، والأستاذ محيي الدين أحمد «1» فقد ساعدني مساعدة غالية في دراسة المراجع الأجنبية، والتقاط المعلومات المفيدة من كتب تاريخ الأمم والبلاد، والموسوعات الأجنبية، والمؤلّف شاكر لفضله معترف لجهوده وإخلاصه. ولما كان هذا الكتاب كله إملاء لعجز المؤلّف عن الكتابة مباشرة استعان ببعض الإخوان في كتابته، وكان في مقدّمتهم العزيزان: محمد معاذ الإندوري الندوي، وعلي أحمد الكجراتي الندوي، وساهم في ذلك الأستاذ نور عالم الأميني الندوي. وقد كان للأستاذ محمد حسن الأنصاري فضل في وضع الخرائط التاريخية الجغرافية التي زيّن بها الكتاب، وزاد في قيمته العلمية، كما كان للأستاذ الكبير الدكتور محمد شفيع رئيس قسم الجغرافيا في جامعة «عليّ كره» الإسلامية ومساعد نائب رئيس الجامعة، وللقسم الجغرافي في الجامعة فضل في تحسينها وإكمالها، والمؤلّف شاكر للإخوان جميعا. والله أسأل أن ينفع بهذا الكتاب وأن يتقبّله تقبّلا حسنا، وأن يجعله ذخرا للآخرة، ووسيلة لدراسة هذه السيرة الطاهرة والاستزادة منها والانتفاع بها، وكفى للمؤلّف شكرا، وللكتاب قيمة إذا أثار كامن الحبّ والإيمان في نفس مؤمن، وانجذابا في قلب أحد من غير المسلمين إلى هذه السيرة الطاهرة العطرة، وحملته على دراسة الإسلام وتفهمه، إنّه وليّ التوفيق. الجمعة 5/ 11/ 1396 هـ 29/ 10/ 1976 م أبو الحسن عليّ الحسني النّدوي رائي بريلي- الهند   (1) وهو الذي وفّق أخيرا لنقل هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية، وقد صدرت له طبعتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 خريطة الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية رسمنا أسماء الأماكن والبحار والبحيرات والأنهار كما كانت تسمى في القرن السادس المسيحي حسب نطقها اللاتيني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الفصل الأول مدخل إلى السّيرة النّبويّة العصر الجاهليّ: أ- نظرة إجمالية على الوضع الدّيني في القرن السادس المسيحيّ. ب- إطلالة على البلاد والأمم في القرن السادس المسيحيّ: 1- الإمبراطورية الرّومانية الشّرقية. 2- الإمبراطورية الإيرانيّة السّاسانية. 3- الهند. 4- أوربّة. 5- الجزيرة العربية. لماذا بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب؟ جزيرة العرب قبل البعثة. مكّة في زمن البعثة وعند ظهور الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 العصر الجاهلي ّ نظرة إجماليّة على الوضع الدّيني في القرن السّادس المسيحيّ أصبحت الدّيانات العظمى، وصحفها العتيقة، وشرائعها القديمة- الّتي مثّلت في أزمان مختلفة دورها الخاصّ في مجال الدّيانة والأخلاق والعلم- فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرّفين والمنافقين، وعرضة الحوادث الدّامية والخطوب الجسيمة حتّى فقدت روحها وشكلها، فلو بعث أصحابها الأوّلون، وأنبياؤها المرسلون، أنكروها وتجاهلوها «1» . 1- اليهودية: أصبحت اليهوديّة مجموعة من طقوس وتقاليد لا روح فيها ولا حياة، وهي- بصرف النظر عن ذلك- ديانة سلاليّة، لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، ولا للإنسانيّة رحمة.   (1) اقرأ قصة ما تعرضت له صحف الأمم السابقة- صاحبة الديانات الشهيرة- من تحريف وتبديل وضياع وإبادة أحيانا؛ في ضوء الوثائق التاريخية، وشهادات علماء هذه الديانات من أسفار العهد العتيق والعهد الجديد إلى «أوستا» الإيرانية، و «ويدا» صحف الهند العتيقة في كتاب المؤلف «النبوة والأنبياء في ضوء القرآن» المحاضرة السابعة عنوان «الصحف السماوية السابقة؛ والقرآن، في ميزان العلم والتاريخ» ص 198- 206 (طبعة دار القلم، دمشق، بيروت) [وفي «محاضرات إسلامية في الفكر والدّعوة» للعلّامة الندوي، ج: 3، ص: 119، طبع دار ابن كثير دمشق] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقد أصيبت هذه الدّيانة في عقيدة كانت لها شعارا من بين الدّيانات والأمم وكان فيها سرّ شرفها، وتفضيل بني إسرائيل على الأمم المعاصرة في الزّمن القديم وهي عقيدة التّوحيد الّتي وصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب، فقد اقتبس اليهود كثيرا من عقائد الأمم الّتي جاوروها أو وقعوا تحت سيطرتها، وكثيرا من عاداتها وتقاليدها الوثنيّة الجاهليّة، وقد اعترف بذلك مؤرّخو اليهود المنصفون، فقد جاء في «دائرة المعارف اليهودية» ما معناه: «إنّ سخط الأنبياء وغضبهم على عبادة الأوثان تدلّ على أنّ عبادة الأوثان والآلهة، كانت قد تسرّبت إلى نفوس الإسرائيليين ولم تستأصل شأفتها إلى أيام رجوعهم من الجلاء والنّفي في بابل، وقد قبلوا معتقدات خرافية ومشركة، إنّ التّلمود أيضا يشهد بأنّ الوثنية كانت فيها جاذبية خاصّة لليهود» «1» . ويدلّ تلمود «2» بابل الّذي يبالغ اليهود في تقديسه، وقد يفضلونه على التوراة وكان متداولا بين اليهود في القرن السّادس المسيحيّ، وما زخر به من نماذج غريبة من خفّة العقل وسخف القول، والاجتراء على الله، والعبث بالحقائق، والتلاعب بالدّين والعقل، على ما وصل إليه المجتمع اليهوديّ في هذا القرن من الانحطاط العقليّ وفساد الذوق الدينيّ «3» . 2- المسيحية: أمّا المسيحيّة فقد امتحنت بتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، ووثنيّة   .Jewish Encyclopedia ,VOL -XII ,p. 568 -69 (1) (2) كلمة تلمود معناها كتاب تعليم ديانة اليهود وآدابهم؛ وهي مجموعة حواش وشروح لكتاب «المشنا» : «الشريعة» لعلماء اليهود في عصور مختلفة. (3) اقرأ للتفصيل «اليهودي على حسب التلمود» «للدكتور روهلنج» وترجمته العربية في «الكنز المرصود في قواعد التلمود» للدكتور يوسف حنا نصر الله (من الفرنسية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الرّومان المتنصّرين «1» ، منذ عصرها الأول، وأصبح كلّ ذلك ركاما، دفنت تحته تعاليم المسيح البسيطة، واختفى نور التّوحيد وإخلاص العبادة لله وراء هذه السّحب الكثيفة. يتحدّث كاتب مسيحيّ فاضل عن مدى تغلغل عقيدة التثليث في المجتمع المسيحيّ، منذ أواخر القرن الرابع الميلاديّ، فيقول: «تغلغل الاعتقاد بأنّ الإله الواحد مركبّ من ثلاثة أقانيم في أحشاء حياة العالم المسيحيّ وفكره، منذ ربع القرن الرابع الأخير، ودامت كعقيدة رسميّة مسلّمة، عليها الاعتماد في جميع أنحاء العالم المسيحيّ، ولم يرفع الستار عن تطوّر عقيدة التثليث وسرّها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلاديّ» «2» . ويتحدّث مؤرّخ مسيحيّ معاصر عن ظهور الوثنية في المجتمع المسيحيّ في مظاهر مختلفة وألوان شتى، وتفنّن المسيحيون في اقتباس الشعائر والعادات والأعياد والأبطال الوثنية من أمم وديانات عريقة في الشرك بحكم التقليد أو الإعجاب أو الجهل، جاء في «تاريخ المسيحية في ضوء العلم المعاصر» : «لقد انتهت الوثنية، ولكنها لم تلق إبادة كاملة، بل إنها تغلغلت في النفوس واستكنّ كلّ شيء فيها باسم المسيحية وفي ستارها، فالذين تجردوا عن آلهتهم وأبطالهم وتخلوا عنهم أخذوا شهيدا من شهدائهم، ولقبوه   (1) راجع كتاب «الصراع بين الدين والعلم» للمؤلف الأوربي الشهير «درابر «Draper ص 40 41. (2) ملخص ما جاء في دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة، مقال التثليث المقدس، ج 14؛ ص 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 بأوصاف الآلهة، ثمّ صنعوا له تمثالا، وهكذا انتقل هذا الشرك وعبادة الأصنام إلى هؤلاء الشّهداء المحليين. ولم ينته هذا القرن حتى عمّت فيهم عبادة الشهداء والأولياء، وتكونت عقيدة جديدة، وهي أنّ الأولياء يحملون صفات الألوهية، وصار هؤلاء الأولياء والقديسون خلقا وسطا بين الله والإنسان يحمل صفة الألوهية على أساس عقائد الأريسيين، وأصبحوا رمزا لقداسة القرون الوسطى وورعها وطهرها، وغيّرت أسماء الأعياد الوثنية بأسماء جديدة، حتى تحوّل في عام 400 ميلادي عيد الشمس القديم إلى عيد ميلاد المسيح» «1» . وجاء القرن السادس المسيحيّ، والحرب قائمة على قدم وساق، بين نصارى الشام والعراق وبين نصارى مصر، حول حقيقة المسيح وطبيعته، تحولت بها المدارس والكنائس والبيوت إلى معسكرات متنافسة يكفّر بعضها بعضا، ويقتل بعضها بعضا، كأنها حرب بين دينين متنافسين، أو أمتين متحاربتين «2» ، فأصبح العالم المسيحيّ في شغل بنفسه عن محاربة الفساد، وإصلاح الحال، ودعوة الأمم إلى ما فيه صلاح للإنسانية. 3- المجوس: أمّا المجوس فقد عرفوا من قديم الزّمان بعبادة العناصر الطبيعية وأعظمها النار، وقد عكفوا على عبادتها أخيرا، يبنون لها هياكل ومعابد، وانتشرت بيوت النار هذه في طول البلاد وعرضها، وكانت لها آداب وشرائع دقيقة،   (1) راجع Rev.James Houston Bzxter The History of Christianity In The Light of Modern Knowledge,) Glasgow, 9591 (p.704. (2) راجع «فتح العرب لمصر» ل «ألفردبتلر» تعريب محمد فريد أبو حديد، ص 37، 38، 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وانقرضت كلّ عقيدة وديانة غير عبادة النار وتقديس الشمس، وأصبحت الديانة عندهم عبارة عن طقوس وتقاليد يؤدونها في أمكنة خاصّة، أمّا خارج المعابد فكانوا أحرارا، يسيرون على هواهم، وما تملي عليهم نفوسهم، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين من لا دين لهم ولا خلاق، في الأعمال والأخلاق «1» . يصف مؤلّف «إيران في عهد السّاسانيّين» الدّانماركيّ الأستاذ «آرتهر كرستين سين» طبقة رؤساء الدّين ووظائفهم فيقول: «كان واجبا على هؤلاء الموظّفين أن يعبدوا الشمس أربع مرات في اليوم، ويضاف إلى ذلك عبادة القمر والنار والماء، وكانوا مكلّفين بأدعية خاصّة، عند النوم والانتباه والاغتسال ولبس الزنّار والأكل والعطس وحلق الشعر وقلم الأظفار، وقضاء الحاجة وإيقاد السّراج، وكانوا مأمورين بألّا يدعوا النار تنطفىء، وألا تمسّ النار والماء بعضهما بعضا، وألا يدعوا المعدن يصدأ، لأنّ المعادن عندهم مقدّسة» «2» . وكان أهل إيران يستقبلون في صلاتهم النار، وقد حلف «يزدجرد» - آخر الملوك السّاسانيين- بالشمس مرة، وقال: «أحلف بالشّمس التي هي الإله الأكبر» وقد كلّف التائبون عن المسيحيّة عبادة الشمس إظهارا لصدقهم «3» .   (1) اقرأ كتاب «إيران في عهد الساسانيين» للبروفيسور «آرتهر كرتسن سين» أستاذ الألسنة الشرقية في جامعة «كوبنهاجن» بالدانمارك، المتخصص في تاريخ إيران، و «تاريخ إيران» تأليف «شاهين مكاريوس» المجوسي. (2) إيران في عهد الساسانيين: ص 155. (3) المصدر السابق: ص 186- 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وقد دانوا بالثنويّة في كلّ عصر وأصبح ذلك شعارا لهم، وآمنوا بإلهين اثنين أحدهما النور أو إله الخير، ويسمّونه «آهور مزدا» أو «يزدان» والثاني الظلام أو إله الشر، وهو «أهرمن» ولا يزال الصّراع بينهما قائما والحرب دائمة «1» . يذكر المؤرّخون للدّيانة الإيرانية مجموعة أساطير متصلة بالآلهة) Mythology (لا تقلّ في غرابتها وتفاصيلها الدقيقة عن الميثولوجيا الإغريقيّة أو الهنديّة «2» . 4- البوذية: أمّا البوذيّة- الديانة المنتشرة في الهند وآسيا الوسطى- فقد تحوّلت وثنيّة تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل «بوذا» حيث حلّت ونزلت «3» ، ولم يزل العلماء يشكّون في إيمان هذه الديانة ومؤسّسها بالإله الخالق للسّماوات والأرض والإنسان ولا يجدون ما يثبت ذلك، ويحارون في قيام هذه الديانة العظيمة بغير الإيمان بالله «4» فيها. 5- البرهميّة: أمّا البرهميّة- دين الهند الأصيل- فقد امتازت بكثرة المعبودات والآلهة والإلهات، وقد بلغت الوثنيّة أوجها في القرن السّادس فبلغ عدد الآلهة في هذا   (1) نفس المصدر باب الدين الزردشتي ديانة الحكومة: ص 183- 233. (2) إيران في عهد الساسانيين: ص 204- 209. (3) راجع كتاب «الهند القديمة» للأستاذ «إيشورا توبا» أستاذ تاريخ الحضارة الهندية في جامعة «حيدرآباد» الهند، وكتاب «اكتشاف الهند) The Discovery of India ( «لمؤلفه «جواهر لال نهرو» رئيس وزراء الهند الأسبق، ص 201- 202. (4) اقرأ مقالة «بوذا» في دائرة المعارف البريطانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 القرن إلى 330 مليون «1» وقد أصبح كلّ شيء رائع، وكلّ شيء هائل، وكلّ شيء نافع، إلها يعبد، وارتقت صناعة نحت التّماثيل في هذا العهد، وتأنّق فيها المتأنّقون. يقول الأستاذ الهندوكيّ الفاضل «سي، وي، ويد» في كتابه (تاريخ الهند الوسطى) وهو يتحدّث عن عهد الملك هرش (606- 648 م) وهو العهد الذي يلي ظهور الإسلام في الجزيرة العربيّة: «كانت الديانة الهندوكية والديانة البوذية وثنيتين سواء بسواء، بل ربّما كانت الديانة البوذية قد فاقت الديانة الهندوكية في الإغراق في الوثنية، كان ابتداء هذه الديانة- البوذية- بنفي الإله، ولكنّها بالتدريج جعلت «بوذا» الإله الأكبر، ثم أضافت إليه آلهة أخرى مثل Bodhistavas على مرّ الزمن، لا سيّما أرسخت الوثنيّة قدميها في المدرسة البوذية الفكرية التي تسمّى «مهايانا» بالتأكيد، وقد بلغت أوجها في الهند، حتى أصبحت كلمة «بوذا) Buddha ( «مرادفة لكلمة «الوثن» أو «الصنّم» في بعض اللغات الشرقيّة «2» . ممّا لا شكّ فيه أنّ الوثنيّة كانت منتشرة في العالم المعاصر كلّه، لقد كانت الدنيا كلّها من البحر الأطلسيّ إلى المحيط الهادىء غارقة في الوثنيّة، وكأنّما كانت المسيحية والديانات الساميّة والديانة البوذيّة تتسابق في تعظيم   (1) راجع «الهند القديمة» لمؤلفه «آر، سي، دت» ج 3؛ ص 276، و «الهندوكية السائدة» لمؤلفه L.S.S.OMalley ,ص 6- 7. (2) مثل الفارسية واللغات المنشقة عنها كالأردية، فهي تعبر عن الوثن أو الصنم بكلمة «بد» وهذا التعبير منتشر في الشعر والأدب وكلام الناس في إيران والهند، والناس في الهند يطلقون على «بوذا» كلمة «بدها» فيقولون: «جوتم بدها» ، وكلمة (بد) و (بدها) متقاربتان نطقا (المؤلف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الأوثان وتقديسها، وكانت كخيل رهان تجري في حلبة «1» واحدة» «2» . ويقول أستاذ هندوكيّ فاضل آخر في كتابه الذي سمّاه: «الهندوكيّة السائدة» : إنّ عملية «خلق الآلهة» لم تنته على هذا، فلم تزل تنضمّ آلهة صغيرة في فترات تاريخية مختلفة إلى هذا «المجمع الإلهيّ» في عدد كبير، حتّى أصبح منهم حشد يفوق الحدّ والإحصاء، كان كثير منهم آلهة سكّان الهند القدامى، ألحقوا بالهة الديانة الهندوكيّة، يذكر أنّ عدد هؤلاء قد بلغ 330 مليونا «3» . 6- الجاهليّة العربية: أمّا العرب الذين آمنوا في الزمن القديم بدين إبراهيم، وقام في أرضهم بيت الله الحرام، فقد ابتلوا في العصر الأخير لبعد عهدهم من النبوة والأنبياء، والانحصار في شبه جزيرتهم بوثنيّة سخيفة لا يوجد لها نظير إلا في الهند البرهمية الوثنية، وترقّوا في الشرك فاتخذوا من دون الله آلهة، واعتقدوا أنّ لهم مشاركة في تدبير الكون، وقدرة ذاتية على النفع والضرر، والإيجاد والإفناء، وانغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها، فكان لكلّ قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص، بل لكلّ بيت صنم خصوصيّ «4» . وكان في جوف الكعبة- البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة الله   (1) [الحلبة: ميدان سباق الخيل] . (2) C.V.Vaidya:History of Mediaeval Hindu India, Vol, I) Poona, 1291 (p.101. (3) L.S.S.O= Malley, C.I.E.I.I.C.S.:Popular Hinduism, the Religion of the Masses) Cambridge, 5391 (pp.6- 7. . (4) اقرأ كتاب «الأصنام» للكلبي؛ ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وحده- وفي فنائها، ثلاثمئة وستّون صنما «1» ، وتدرّجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الحجر، من أيّ جنس كان، وكانت لهم آلهة من الملائكة والجنّ والكواكب، وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، وأنّ الجنّ شركاء الله، فامنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم «2» .   (1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح برقم (4287) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة، برقم (1781) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، برقم (3138) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ وأخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا برقم (3352) ، وأبو داود في كتاب المناسك، باب الصلاة في الكعبة برقم (2027) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما] . (2) كتاب الأصنام: ص 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 خريطة الوضع السياسي للجزيرة العربية قبل الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 العصر الجاهليّ إطلالة على البلاد والأمم في القرن السّادس المسيحيّ هذا شأن الدّيانات التي ظهرت في زمانها الدعوة إلى الله، أمّا البلاد المتمدّنة التي قامت فيها حكومات عظيمة، وشاعت فيها علوم كثيرة، وكانت مهد الحضارة والصناعات والآداب، فقد كانت بلادا مسخت فيها الديانات، وفقدت أصالتها وقوّتها، وفقد المصلحون، وغاب المعلّمون. 1- الإمبراطوريّة الرّومانيّة الشرقيّة: فالدولة الرّومانية الشرقية «1» ، ازدادت فيها الأتاوات، وتضاعفت الضرائب، حتى أصبح أهل البلاد يفضّلون على حكومتهم كلّ حكومة أجنبيّة، وحدثت اضطرابات إثر اضطرابات، وثورات إثر ثورات، وقد هلك عام 532 م في اضطراب واحد في عهد جيستن الأوّل) Justin ,I (ثلاثون ألف شخص في القسطنطينيّة «2» - عاصمة المملكة- وأصبح الهمّ الوحيد اكتساب   (1) الإمبراطورية الرومانية الشرقية هي المعروفة بالإمبراطورية البيزنطية ويعرفها العرب بالروم، وكانت تحكم في العصر الذي نتحدث عنه، دول يونان وبلقان، وآسيا الصغرى؛ وسورية وفلسطين، وحوض البحر الأبيض المتوسط بأسره؛ ومصر، وكل إفريقية الشمالية، وكانت عاصمتها القسطنطينية، وكان ابتداء الإمبراطورية المذكورة سنة 395؛ وانتهاؤها بغلبة العثمانيين على القسطنطينية سنة 1453 م. (2) تاريخ العالم للمؤرخين) Historian =s History of The World Vol.VII p. 37 ( الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 المال من أيّ وجه، ثمّ إنفاقه في التّرف، وقد أمعنوا في طرق التسلية، حتى وصلوا فيها إلى الوحشيّة «1» . جاء في كتاب «الحضارة ماضيها وحاضرها» تصوير لما كان عليه المجتمع البيزنطيّ من التناقض والاضطراب والهيام بالتمتّع والتسلية، وإنّ وصلت إلى حد القسوة والهمجيّة، فيقول المؤلّفان الفاضلان: «كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعيّة للبيزنطيّين، فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم، وعمّت الرهبانية، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وأصبح الرجل العاديّ في البلاد يتدخّل في الأبحاث الدينية العميقة، والجدل البيزنطيّ، ويتشاغل بها. كما طبعت الحياة العادية العامة بطابع المذهب الباطنيّ، ولكن نرى هؤلاء- في جانب آخر- حريصين أشدّ الحرص على كلّ نوع من أنواع اللهو واللعب، والطّرب والترف، فقد كانت هناك ميادين رياضيّة واسعة تتّسع لجلوس ثمانين ألف شخص، يتفرّجون فيها على مصارعات بين الرّجال والرّجال أحيانا، وبين الرّجال والسّباع أحيانا أخرى. وكانوا يقسّمون الجماهير في لونين: لون أزرق ولون أخضر، لقد كانوا يحبّون الجمال، ويعشقون العنف والهمجيّة، وكانت ألعابهم دمويّة ضارية أكثر الأحيان، وكانت عقوباتهم فظيعة تقشعرّ منها الجلود. وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف، والمؤامرات والمجاملات الزائدة، والقبائح والعادات السيئة» «2» .   (1) اقرأ كتاب «سقوط دولة روما وانحطاطها» لإدوارد جيبون: 3- 5. (2) . T.Walter Wallbank and Alastair M.Taylor:Civilisation, Past and Present,) 4591 (pp.162- 26. - الضرر، والإيجاد والإفناء، وانغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها، فكان لكلّ قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص، بل لكلّ بيت صنم خصوصيّ «4» . وكان في جوف الكعبة- البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام لعبادة الله   (1) [الحلبة: ميدان سباق الخيل] . (2) . 101.p (1921 ,anooP) I ,loV ,aidnI udniH laveaideM fo yrotsiH:aydiaV.V.C (3) . 7 -6.pp (1935 ,egdirbmaC) sessaM eht fo noigileR eht ,msiudniH ralupoP:.S.C.I.I.E.I.C ,yellaM =O.S.S.L . (4) اقرأ كتاب «الأصنام» للكلبي؛ ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وحده- وفي فنائها، ثلاثمئة وستّون صنما «1» ، وتدرّجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة الحجر، من أيّ جنس كان، وكانت لهم آلهة من الملائكة والجنّ والكواكب، وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، وأنّ الجنّ شركاء الله، فامنوا بقدرتهم وتأثيرهم وعبدوهم «2» .   (1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح برقم (4287) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة، برقم (1781) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، برقم (3138) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ وأخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا برقم (3352) ، وأبو داود في كتاب المناسك، باب الصلاة في الكعبة برقم (2027) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما] . (2) كتاب الأصنام: ص 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 خريطة الوضع السياسي للجزيرة العربية قبل الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 العصر الجاهليّ إطلالة على البلاد والأمم في القرن السّادس المسيحيّ هذا شأن الدّيانات التي ظهرت في زمانها الدعوة إلى الله، أمّا البلاد المتمدّنة التي قامت فيها حكومات عظيمة، وشاعت فيها علوم كثيرة، وكانت مهد الحضارة والصناعات والآداب، فقد كانت بلادا مسخت فيها الديانات، وفقدت أصالتها وقوّتها، وفقد المصلحون، وغاب المعلّمون. 1- الإمبراطوريّة الرّومانيّة الشرقيّة: فالدولة الرّومانية الشرقية «1» ، ازدادت فيها الأتاوات، وتضاعفت الضرائب، حتى أصبح أهل البلاد يفضّلون على حكومتهم كلّ حكومة أجنبيّة، وحدثت اضطرابات إثر اضطرابات، وثورات إثر ثورات، وقد هلك عام 532 م في اضطراب واحد في عهد جيستن الأوّل) Justin ,I (ثلاثون ألف شخص في القسطنطينيّة «2» - عاصمة المملكة- وأصبح الهمّ الوحيد اكتساب   (1) الإمبراطورية الرومانية الشرقية هي المعروفة بالإمبراطورية البيزنطية ويعرفها العرب بالروم، وكانت تحكم في العصر الذي نتحدث عنه، دول يونان وبلقان، وآسيا الصغرى؛ وسورية وفلسطين، وحوض البحر الأبيض المتوسط بأسره؛ ومصر، وكل إفريقية الشمالية، وكانت عاصمتها القسطنطينية، وكان ابتداء الإمبراطورية المذكورة سنة 395؛ وانتهاؤها بغلبة العثمانيين على القسطنطينية سنة 1453 م. (2) تاريخ العالم للمؤرخين) Historian =s History of The World Vol.VII p. 37 ( الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 المال من أيّ وجه، ثمّ إنفاقه في التّرف، وقد أمعنوا في طرق التسلية، حتى وصلوا فيها إلى الوحشيّة «1» . جاء في كتاب «الحضارة ماضيها وحاضرها» تصوير لما كان عليه المجتمع البيزنطيّ من التناقض والاضطراب والهيام بالتمتّع والتسلية، وإنّ وصلت إلى حد القسوة والهمجيّة، فيقول المؤلّفان الفاضلان: «كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعيّة للبيزنطيّين، فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم، وعمّت الرهبانية، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وأصبح الرجل العاديّ في البلاد يتدخّل في الأبحاث الدينية العميقة، والجدل البيزنطيّ، ويتشاغل بها. كما طبعت الحياة العادية العامة بطابع المذهب الباطنيّ، ولكن نرى هؤلاء- في جانب آخر- حريصين أشدّ الحرص على كلّ نوع من أنواع اللهو واللعب، والطّرب والترف، فقد كانت هناك ميادين رياضيّة واسعة تتّسع لجلوس ثمانين ألف شخص، يتفرّجون فيها على مصارعات بين الرّجال والرّجال أحيانا، وبين الرّجال والسّباع أحيانا أخرى. وكانوا يقسّمون الجماهير في لونين: لون أزرق ولون أخضر، لقد كانوا يحبّون الجمال، ويعشقون العنف والهمجيّة، وكانت ألعابهم دمويّة ضارية أكثر الأحيان، وكانت عقوباتهم فظيعة تقشعرّ منها الجلود. وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف، والمؤامرات والمجاملات الزائدة، والقبائح والعادات السيئة» «2» .   (1) اقرأ كتاب «سقوط دولة روما وانحطاطها» لإدوارد جيبون: 3- 5. (2) . .62 -261.pp (1954) ,tneserP dna tsaP ,noitasiliviC:rolyaT.M riatsalA dna knabllaW retlaW.T - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 أمّا مصر- إحدى ولايات الدّولة البيزنطية الغنيّة- فكانت عرضة لاضطهاد دينيّ فظيع، واستبداد سياسيّ شنيع، وكان البؤس والشقاء ممّا كانت تعانيه مصر، التي كانت مصدرا كبيرا لرخاء الدولة وغناها، وقد اتخذها الروم شاة حلوبا يحسنون حلبها، ويسيئون علفها «1» . أما سورية- ولاية الإمبراطورية البيزنطيّة الآخرى- فكانت مطيّة المطامع الرومانيّة، وكان الحكم حكم الغرباء الذي لا يعتمد إلّا على القوّة، ولا يشعر بشيء من العطف على الشعب المحكوم، وكثيرا ما كان السّوريّون يبيعون أبناءهم ليوفّوا ما كانت عليهم من ديون، وقد كثرت المظالم والسخرات والرقيق «2» . 2- الإمبراطورية الإيرانية السّاسانية «3» : كانت الزّردشتية- وهي التي خلّفت المزدائية- ديانة إيران القديمة، ومن   (1) فتح العرب لمصر: لمؤلفه «الفردبتلر» ، و «تاريخ العالم للمؤرخين» : ج 7. (2) اقرأ للتفصيل «خطط الشام» للأستاذ كردعلي: ج 1، ص 101. (3) كانت أعظم من الإمبراطورية الرومانية الشرقية- بعد انشقاقها عن الإمبراطورية الرومانية الكبرى- مساحة وأبهة وثروة؛ وقد تأسست على يد «أردشير» في سنة 224 م، وكانت تحكم حين بلغت أوجها: أسبرته، وخوزستان، وميديه، وفارس، وأذربيجان، وطبرستان، وسرخس، وجرجان، وكرمان، ومرو؛ وبلخ، وصغد، وسيستان، وهراة، وخراسان، وخوارزم، والعراق، واليمن من الجزيرة العربية، وقد دخلت بعض ولايات الهند مثل كجه، وكاتتيهاوار، ومالوه، في حكمها في بعض الفترات، وقد اتسعت هذه الإمبراطورية اتساعا كبيرا منذ القرن الرابع المسيحي، وقد أوغلت في الشمال والشرق وبلغت أقصى حدودهما. وقد كانت طيسيفون (المدائن) عاصمة الإمبراطورية، ومقر الإمبراطور الإيراني، وكانت مجموع مدائن كما يبدو من اسمها العربي، وقد بلغت أوجها في الرقي والمدنية والبذخ؛ في القرن الخامس إلى ما بعد (راجع للتفصيل «إيران في عهد الساسانيين» للبروفيسور آرتهر كرستن سين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 المرجّح أنّ «زردتشت» صاحب هذه الديانة ظهر في القرن السابع قبل الميلاد، وكانت مؤسسة منذ أول يومها على الحرب القائمة بين النور والظلام، وبين روح الخير وروح الشرّ، أو بين إله الخير وبين إله الشرّ. وجاء «ماني» في أوائل القرن الثالث المسيحي مجدّدا لهذه الديانة، مضيفا إليها «1» ، وتبعه «شاه بور» - الذي خلف أردشير (241 م) مؤسّس الدولة الساسانية، واحتضن دعوته، ثمّ أصبح معارضا له، فقد كان «ماني» يدعو إلى حياة العزوبة لحسم مادة الفساد والشرّ من العالم، ويعلن أن امتزاج النور بالظلمة شرّ يجب الخلاص منه، فحرّم النكاح استعجالا للفناء، وانتصارا للنور على الظلمة، بقطع النسل. وقضى أعواما في النفي، ثمّ عاد إلى إيران، وقتل في عهد بهرام الأول، ولكنّ تعاليمه لم تمت بموته، بل بقيت تؤثّر في التفكير الإيرانيّ، والمجتمع الإيرانيّ مدة طويلة. وظهر مزدك في أوائل القرن الخامس المسيحيّ، فدعا إلى إباحة الأموال والنساء، وجعل الناس شركاء فيها، وقويت دعوته، وكان الناس يدخلون على الرّجل في داره، فيغلبونه على منزله وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم، وقد جاء في وثيقة إيرانية تاريخية تعرف ب «نامه تنسر» تصوير لذلك العصر الذي انتشرت فيه الدعوة المزدكية، وكانت لها السيطرة والنفوذ: «وانتهكت الأعراض، وعمّ خلع العذار، لقد نشأ جيل لا كرامة فيه ولا عمل، ولم يكن له رصيد ولا ماض مجيد، وليس له اهتمام بمصير الشعب، ولا إشفاق عليه، ولا يتصف بكمال ومهارة، كانت تسيطر عليهم اللامبالاة   (1) اقرأ لمعرفة تعليمات ماني ودعوته وفلسفته، الباب الرابع من كتاب «إيران في عهد الساسانيين» (النبيّ ماني وديانته) ص 233- 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 والبطالة، وكانوا بارعين في النميمة، والخبث، والافتراء، والبهتان، وقد اتخذوا ذلك وسيلة لكسب القوت والوصول إلى الثروة والجاه» «1» . ويقول «آرتهر كرستن سين» : «كانت النتيجة أن انتشرت ثورات الفلاحين، وكان النهّابون يدخلون في قصور الأغنياء وينهبون ما يجدون فيها من أموال وأثاث، ويلقون القبض على النساء، ويستولون على الأملاك والعقارات، فأصبحت الأراضي والمزارع مقفرة خربة، لأنّ هؤلاء الملاك الجدد لم يكن لهم عهد، ولا معرفة بالفلاحة» «2» . ظهر من ذلك أنّه كان في إيران القديمة استعداد عجيب دائما لقبول الدّعوات المتطرّفة المغالية، وكانت دائما تحت تأثير ردود فعل عنيفة، وكانت تتأرجح بين «أبيقورية» «3» جامحة وتنسك مغال حينا، وبين احتكار سلاليّ، أو طبقيّ، أو دينيّ، وشيوعية متطرفة وفوضويّة مطلقة حينا آخر، أفقدها هذا التأرجح الاتزان والاقتصاد والهدوء. وكانت الأحوال سيئة جدّا في هذه الإمبراطورية- الإيرانية السّاسانية- في القرن السادس المسيحيّ، فكانت تحت رحمة الملوك الذين كانوا يحكمون بالوراثة، ويرون أنفسهم فوق الناس وفوق بني آدم، وكانوا يخاطبون بكلمة «الإله» وتضاف إليهم كلمة الألوهية بطريق مكشوف، وكان الإمبراطور   (1) نامه تنسر: طبع مينوي، ص 13. (2) إيران في عهد الساسانيين: ص 477. (3) مذهب «أبيقور» الفيلسوف الإغريقي الذي قال بأن المتعة هي الخير الأسمى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 «الإنسان الأول» وكان لا يسمّى باسمه عند الخطاب، وكان يعتبر من نسل الآلهة «1» . وكانت موارد البلاد كلّها ملكا لهؤلاء الملوك، وقد تطرّفوا في اكتناز الأموال، وادّخار الطرف، والأشياء الغالية، والتأنّق في المعيشة، والتمتّع بالحياة، وقد وصل الولوع بالتلذّذ، وترفيه الحياة، والمسابقة في مظاهر الغنى والعظمة، إلى حدّ الخيال والشعر لا يتصوّره إلّا من توسّع في دراسة تاريخ إيران القديمة، وشعرها وأدبها «2» ، واطّلع على تفاصيل مدينة «طيسيفون» وإيوان كسرى، وبهار كسرى «3» ، (بساط الربيع) ، وتاج كسرى، وما كان يختصّ بملوكهم من خدم وحشم، وزوجات وجوار، وغلمان وطهاة، ومربّين للطيور والسّباع، وأوان وقنص، التفاصيل الأسطورية التي يدهش لها الإنسان «4» ، وقد بلغ ذلك إلى حدّ أن يزدجرد آخر ملوك إيران لمّا خرج من عاصمته- المدائن- هاربا ينجو بنفسه في الفتح الإسلاميّ العربيّ أخذ معه- وهو في حالة الفرار- ألف طاه، وألف مغنّ، وألف قيّم للنّمور، وألف قيّم للبزاة، وحاشية أخرى، وكان يستقلّ هذا العدد، ويعتبر نفسه لاجئا حقيرا، ويتصوّر أنّه في حالة يرثى لها من قلّة الحاشية، وفقدان أسباب الترفيه والتسلية «5» . هذا بجانب ما كان يعانيه الشعب من بؤس وشقاء، وتعب وعناء، وتذمّر وبكاء، فكان أفراد هذا الشعب في جهد من العيش للحصول على ما يسدّ   (1) إيران في عهد الساسانيين: ص 339. (2) اقرأ على سبيل المثال «إيران في عهد الساسانيين» ص 161- 162. (3) راجع تاريخ الطبري: ج 4؛ ص 178. (4) راجع «تاريخ إيران» شاهين مكاريوس، طبع 1898 م، ص 90. (5) راجع للتفصيل «إيران في عهد الساسانيين» ص 681. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 رمقهم، ويستر عورتهم، يرزحون تحت أثقال الضرائب والإتاوات، ويرسفون في القيود والأغلال، ويعيشون عيش البهائم، حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم، أو دخلوا الأديرة فرارا من الضرائب والخدمة العسكرية «1» وكانوا وقودا حقيرا في حروب طاحنة مدمّرة، قامت في فترات من التاريخ، ودامت سنين طوالا بين المملكة الشرقية الساسانية والمملكة الغربية البيزنطية، لا مصلحة للشعب فيها ولا رغبة «2» . 3- الهند: أمّا الهند التي برزت في العصر القديم في العلوم الرياضيّة وعلم الفلك والطبّ والتعمّق في الفلسفة، فقد اتّفقت كلمة المؤرّخين لها على أنّ أحطّ أدوارها ديانة، وخلقا، واجتماعا، ذلك العهد الذي يبتدىء من مستهلّ القرن السادس الميلاديّ «3» ، فانتشرت الخلاعة حتّى في المعابد وأصبحت لا عيب فيها، لأنّ الدين قد أضفى عليها لونا من القدس والتعبّد «4» . وكانت المرأة لا قيمة لها ولا عصمة، وكان الرجل قد يخسر امرأته في القمار «5» ، وإذا مات زوجها صارت كالموءودة لا تتزوج ولا تستحق احتراما، وانتشرت عادة إحراق الأيامى نفوسهن على وفاة أزواجهن، خاصّة في الطبقات الشريفة والأرستقراطيّة إظهارا للوفاء، وفرارا من الشقاء، وتسمّى   (1) إيران في عهد الساسانيين: ص 681. (2) راجع الباب الخامس من كتاب «إيران في عهد الساسانيين» (مملكة الشرق ومملكة الغرب) ص 269- 333. (3) راجع «الهند القديمة» ج 3، لمؤلفه آرسي، دت) R.C.Dutt ( (4) ستيارته بركاش لديانند سرسوتي: ص 344. (5) اقرأ استهلال قصة مهابهارت (الملحمة الهندية الكبرى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 هذه العادة ب «ستّي» ولم تزل زوالا كليا إلا بعد الاحتلال الإنجليزيّ «1» . وامتازت الهند من بين جاراتها وأقطار العالم بالتفاوت الفاحش بين طبقات الشعب، والامتياز بين الإنسان والإنسان، وكان نظاما قاسيا لا هوادة فيه ولا مرونة، مدعما بالدين والعقيدة، خاضعا لمصلحة الآريّين المحتلّين، والبراهمة المحتكرين للديانة والقداسة، قائما على أساس الحرف والصنائع وتوارثها، والعنصرية والسّلالية، وكان ذلك تابعا لقانون مدنيّ سياسيّ دينيّ، وضعه المشرّعون الهنديّون الذين كانت لهم صفة دينية، أصبح القانون العام للمجتمع ودستور الحياة، وهو يقسّم سكان الهند في أربع طبقات: (1) طبقة الكهنة ورجال الدين، وهم «البراهمة» . (2) ورجال الحرب والجندية وهم «شتري» . (3) ورجال الفلاحة والتجارة وهم «ويش» . (4) ورجال الخدمة وهم «شودر» وهم أحطّ الطبقات، فقد خلقهم خالق الكون من أرجله، وليس لهم إلا خدمة هذه الطبقات الثلاث وإراحتها. وقد منح هذا القانون البراهمة مركزا ومكانة لا يشاركهم فيها أحد، والبرهميّ رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله، ولا يجوز فرض جباية عليه، ولا يعاقب بالقتل في حال من الأحوال. أمّا «شودر» فليس لهم أن يقتنوا مالا، أو يدّخروا كنزا، أو يجالسوا برهميّا، أو يمسّوه بيدهم، أو يتعلّموا الكتب المقدّسة «2» .   (1) اقرأ رحلة الرحالة الفرنسي برنير وتاريخ الراجوات والأمراء في القرون الوسطى. (2) راجع للتفصيل القانون المدني الاجتماعي الهندي المسمّى ب «منو شاستر» الأبواب: 1- 2- 8- 9- 10- 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وكانت الهند في حالة فوضى وتمزّق تحكمها إمارات وحكومات تعدّ بالمئات، تضعفها حروب ومنافسات، ويسود الاضطراب وسوء الإدارة واختلال الأمن وإهمال شؤون الرعيّة والاستبداد. وكانت تعيش في عزلة عن العالم، يسيطر عليها الجمود، والتزمّت، والتطرّف، في العادات والتقاليد، والتفاوت الطبقيّ، والتعصّب الدمويّ والسّلاليّ. يتحدّث مؤرّخ هندوكيّ أستاذ التاريخ في إحدى جامعات الهند، عن عصر سابق لدخول الإسلام في الهند، فيقول: «كان أهل الهند منقطعين عن الدنيا، منطوين على أنفسهم، لا خبرة عندهم بالأوضاع العالميّة، وهذا الجهل أضعف موقفهم، فنشأ فيهم الجمود، وعمّت فيهم أمارات الانحطاط والتّدهور، كان الأدب في هذه الفترة بلا روح، وهكذا كان الشأن في الفنّ المعماريّ، والتصوير، والفنون الجميلة الآخرى» . «كان المجتمع الهنديّ راكدا جامدا، كان هناك تفاوت عظيم بين الطبقات، وتمييز معيب بين أسرة وأسرة، وكانوا لا يسمحون بزواج الأيامى ويشدّدون على أنفسهم في أمور الطعام والشراب. أمّا المنبوذون فكانوا يعيشون- مضطرّين- خارج بلدهم ومدينتهم» «1» . 4- أوربّة: أمّا الأمم الأوربيّة- المتوغّلة في الشمال والغرب- فكانت تعيش في ظلام   Vidyadhar Mahahan:Muslim Rule in India ,) New Delhi ,0791 (p. 33. (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الجهل والأميّة، والحروب الدامية، وكانت بعيدة عن جادّة قافلة الحضارة الإنسانية، والعلوم والآداب، لا شأن للعالم بها ولا شأن لها بالعالم. كانت أجسامهم قذرة، ورؤوسهم مملوءة بالأوهام «1» ، وكانوا يزهدون في النظافة واستعمال الماء، ويغالي الرهبان منهم في تعذيب الأجسام، والفرار من الإنسان «2» ، وكانوا يبحثون في أنّ المرأة حيوان أم إنسان، ولها روح خالدة أم ليست لها روح خالدة، وأنّ لها حقّ الملكيّة، والبيع، والشراء، أم ليس لها شيء في ذلك؟ يقول روبرت بريفولت» ) Robert Briffault (: لقد أطبق على أوربة ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر، وكان هذا الليل يزداد ظلاما وسوادا، وقد كانت همجيّة ذلك العهد أشدّ هولا، وأفظع من همجية العهد القديم، لأنّها كانت أشبه بجثّة حضارة كبيرة قد تعفّنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة، وقضي عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي، كإيطاليا، وفرنسا، فريسة الدّمار والفوضى والخراب» «3» . 5- الجزيرة العربية في العصر الجاهلي: أمّا العرب فساءت أخلاقهم، فأولعوا بالخمر والقمار، وبلغت بهم القساوة والحميّة المزعومة إلى وأد البنات، وشاعت فيهم الغارات، وقطع الطّرق على القوافل، وسقطت منزلة المرأة، فكانت تورث كما يورث المتاع   (1) تاريخ الفلسفة: للبروفيسورثيلي.) Thilly ( (2) اقرأ للتفصيل كتاب «تاريخ الأخلاق الأوربية» لمؤلفه الشهير) Lecky (ج 2، باب «من قسطنطين إلى شارلمان» . The Making of Humanity ,p. 461. (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أو الدابّة، ومن المأكولات ما هو خاصّ بالذكور، محرّم على الإناث، وكان يسوغ للرجل أن يتزوّج ما يشاء من النّساء من غير تحديد. وكانت العصبية القبليّة والدمويّة شديدة جامحة، وأغرموا بالحرب، حتى صارت مسلاة لهم وملهى وهواية، ينتهزون للتسلية وقضاء هوى النّفس نشوب حرب لها مسوّغ، أو لا مسوّغ لها، يدلّ على ذلك ما قاله الشاعر الجاهليّ (الرقّاد بن المنذر بن ضرار الضبّي) : إذا المهرة الشّقراء أدرك ظهرها ... فشبّ الإله الحرب بين القبائل وأوقد نارا بينهم بضرامها ... لها وهج للمصطلي غير طائل «1» ويقول (عمير التّغلبيّ) المعروف بالقطامي، وهو يعبّر عن رغبة أهل الجاهلية في القتال، وتحيّن الفرص له: وأحيانا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلّا أخانا «2» وهانت عليهم إراقة الدّماء، فتثيرها حادثة تافهة، وتدوم الحرب أربعين سنة، يقتل فيها ألوف من الناس «3» . أمّا من جهة الأخلاق، فكانت فيهم أدواء وأمراض متأصّلة، وأسبابها فاشية. فكان شرب الخمر واسع الشّيوع، شديد الرّسوخ فيهم، تحدّث عن معاقرتهم والاجتماع على شربها الشعراء، وشغلت جانبا كبيرا من شعرهم وتاريخهم وأدبهم، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم، وكثر فيها التدقيق   (1) ديوان الحماسة: بشرح الأعلم: ص 271. (2) المصدر السابق: ص 377. (3) راجع الشعر الجاهلي والكتب التي ألفت في أيام العرب وأخبارهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 والتفصيل كثرة تدعو إلى العجب «1» ، وكانت حوانيت الخمّارين مفتوحة دائما يرفرف عليها علم يسمّى (غاية) . قال لبيد بن ربيعة العامري «2» : قد بتّ سامرها وغاية تاجر ... وافيت إذ رفعت وعزّ مدامها وكان من شيوع تجارة الخمر أن أصبحت كلمة التّجارة مرادفة لبيع الخمر، كما قال لبيد: و (غاية تاجر) . وقال عمرو بن قميئة «3» : إذا أسحب الرّيط «4» والمروط «5» إلى ... أدنى تجاري وأنفض اللّمما «6» وكان القمار من مفاخر الحياة الجاهليّة، قال الشاعر الجاهليّ «7» : أعيّرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عار يا بن ريطة ظاهر نحابي بها أكفاءنا ونهينها ... ونشرب في أثمانها ونقامر وكان عدم المشاركة في مجالس القمار عارا. يقول الشاعر: وإذا هلكت فلا تريدي عاجزا ... غسّا ولا برما ولا معزالا قال قتادة: كان الرّجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله، فيقعد حزينا   (1) اقرأ كتاب المخصص: لابن سيده: 1/ 82- 101. (2) ديوانه: ص 314. (3) ديوان الحماسة: ص 682. (4) [الرّيط، جمع الرّيطة: وهو كلّ ثوب لم يلفّق (باخر) كالرّداء] . (5) [المروط، جمع المرط: وهو كساء خزّ معلم الطّرفين، أو ملحفة يؤتزر بها] . (6) [اللّمم، جمع اللّمّة: وهي الشعرة التي تلمّ بالمنكب] . (7) ديوان الحماسة: ص 254، وهو لسبرة بن عمرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 سليبا، ينظر إلى ماله في يد غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضا «1» . وكان أهل الحجاز: العرب واليهود، يتعاطون الرّبا، وكان فاشيا فيهم، وكانوا يجحفون فيه، ويبلغون إلى حدّ الغلوّ والقسوة، قال الطّبريّ: «كان الرّبا في الجاهلية في التضعيف وفي السّنين، يكون للرجل فضل دين، فيأتيه إذا حلّ الأجل، فيقول له: تقضيني أو تزيدني؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلّا حوّله إلى السّن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض «2» يجعلها ابنة لبون «3» في السنة الثانية، ثم حقّة «4» ، ثم جذعة «5» ، ثم رباعيا «6» هكذا إلى فوق. وفي العين «7» يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، وإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فتكون مئة، فيجعلها إلى القابل مئتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمئة يضعفها له كلّ سنة أو يقضيه» «8» .   (1) تفسير الطبري، تفسير آية: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ [المائدة: 91] . (2) [ابنة مخاض أو ابن مخاض: ولد النّاقة الذي دخل في السنة الثانية، والأنثى بنت مخاض] . (3) [ابنة لبون أو ابن لبون: ولد الناقة إذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة، سمّي بذلك لأنّ أمّة ولدت غيره فصار لها لبن] . (4) [الحقّ من الإبل: ما دخل في السنة الرابعة، وأمكن ركوبه والحمل عليه، وسمّي بذلك لأنّه استحقّ الركوب والتحميل] . (5) [الجذع: هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية، وقيل: البقر في الثالثة أو من الضّأن ما تمّت له سنة] . (6) [رباعيّا: هو الذي يلغي رباعيته، (والرّباعية: السّنّ بين الثنية والنّاب) : الإبل يربع في السنة السابعة، والبقر والخيل في الخامسة، والغنم في السنة الرابعة] . (7) [العين: الذهب] . (8) تفسير الطبري: 4/ 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وقد رسخ الرّبا فيهم، وجرى منهم مجرى الأمور الطبيعية التي صاروا لا يفرّقون بينه وبين التّجارة الطبيعية، وقالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة: 275] . وقال الطّبري: «إنّ الذين كانوا يأكلون الرّبا من أهل الجاهلية، كان إذا حلّ مال أحدهم على غريمه، يقول الغريم لغريم الحقّ: زدني في الأجل وأزيدك في مالك، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: هذا ربا لا يحلّ، فإذا قيل لهما ذلك، قالا: سواء علينا زدنا في أوّل البيع أو عند محلّ المال» «1» . ولم يكن الزّنى نادرا، وكان غير مستنكر استنكارا شديدا، فكان من العادات أن يتّخذ الرجل خليلات، وتتّخذ النساء أخلّاء بدون عقد، وقد كانوا يكرهون بعض النساء على الزّنى. قال ابن عبّاس: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزّنى يأخذون أجورهم «2» . وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف، تؤكل حقوقها، وتبتزّ أموالها، وتحرم إرثها، وتعضل بعد الطّلاق، أو وفاة الزّوج من أن تنكح زوجا ترضاه «3» ، وتورث كما يورث المتاع أو الدّابة «4» . وقد بلغت كراهة البنات إلى حدّ الوأد، ذكر الهيثم بن عديّ- على ما حكاه عنه الميدانيّ- أنّ الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة، فكان   (1) تفسير الطبري: 4/ 69. (2) المصدر السابق: 18/ 401. (3) قال تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 232] . (4) قال تعالى: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء: 19] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 يستعمله واحد ويتركه عشرة، فجاء الإسلام، وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد، منهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة، ومخافة لحوق العار بهم من أجلهنّ، ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء أو شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤما منهم بهذه الصّفات. وكانوا يقتلون البنات، ويئدونهنّ بقسوة نادرة في بعض الأحيان، فقد يتأخّر وأد الموءودة لسفر الوالد أو شغله، فلا يئدها إلّا وقد كبرت، وصارت تعقل، وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات، وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق «1» . ومنهم من كان يقتل أولاده خشية الإنفاق وخوف الفقر، وهم الفقراء من بعض قبائل العرب، فكان يشتريهم بعض سراة العرب وأشرافهم «2» فصعصعة ابن ناجية يقول: «جاء الإسلام وقد فديت ثلاثمئة موءودة» «3» . ومنهم من كان ينذر- إذا بلغ بنوه عشرة- نحر واحدا منهم، كما فعل عبد المطّلب. ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله- سبحانه عمّا يقولون- فألحقوا البنات به تعالى «4» . ظلام مطبق ويأس قاتل: وقصارى القول: إنّ القرن السادس المسيحيّ- الذي كانت فيه البعثة   (1) بلوغ الأرب في أحوال العرب: للآلوسي. (2) اقرأ «بلوغ الأرب في أحوال العرب» للآلوسي. (3) كتاب الأغاني. (4) بلوغ الأرب [وانظر «المرأة العربية في العصر الجاهلي» للدكتورة ليلى صباغ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 المحمّدية- وما يليه من فترة زمنيّة، كان من أحطّ أدوار التاريخ، ومن أشدّها ظلاما ويأسا من مستقبل الإنسانية وصلاحيتها للبقاء والازدهار. نظرة عامّة على العصر الجاهلي: قد أحسن المؤلّف الإنجليزيّ المعروف هـ- ج- ولز) H.G.Wells (تصوير هذا العصر، فقال- وهو يبحث الظروف السّائدة في عهد الحكومتين؛ السّاسانية والبيزنطية في القرن السادس للميلاد-: «كانت العلوم والفلسفة والسياسة في حالة احتضار في عهد هذين النّظامين المتحاربين والمتّجهين إلى الانحطاط، فقد كان الجيل الأخير من فلاسفة (أثينا) «1» عاضّا على المؤلّفات الأدبية العتيقة بالنواجذ، بكلّ احترام وحبّ، ولو بدون فهم لها. فلمّا انقرض هذا الجيل، لم تبق طبقة ولا أفراد أحرار شجعان، يتزعّمون حرية الفكر وحرية التعبير، ولا الذين يحتفظون- على الأقلّ- بتراث فكر حرّ، وبحث نزيه جديّ، على دأب القدماء والسابقين لهم. وبجانب ما كان للفوضى السياسية والاجتماعية من دور كبير في القضاء على مثل هذه الطبقة، كان من العوامل التي ساعدت على شلل الفكر الإنسانيّ، وتجمّد القرائح البشرية. إنّ هذا العصر كان عصر العصبية وعدم التسامح في ظلال الحكومتين الإيرانيّة والبيزنطيّة، فقد كانت هاتان الحكومتان دينيتين نوعا ما، وقد كانتا فرضتا قيودا على العقل البشريّ» .   (1) أثينا) Athiniai (عاصمة اليونان اليوم، كانت عاصمة العالم الحضارية والديموقراطية في العصور القديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وبعد ما قصّ الكاتب قصة زحف الإمبراطورية الإيرانية على الإمبراطورية البيزنطية، ثم انتصار البيزنطيين على الإيرانيين في شيء من التوسّع، عاد إلى وصف التّدهور الاجتماعيّ والخلقيّ السائد في أواخر القرن السادس المسيحيّ، فقال: «كان يسوغ لمتتبّع- غير محنّك ناضج الفكر- للأوضاع السائدة في أوائل القرن السابع المسيحيّ، أن يتنبّأ بسهولة وبثقة بأنّ أوربة، وآسيا، ستقعان تحت رحمة المغول الوحوش في غضون بضعة قرون قادمة، فلم تكن في أوربة الغربية أمارات للأمن والنظام وحكم القانون، وقد كانت المملكتان: البيزنطيّة والإيرانية مشغولتين في حرب إبادة وتدمير، بينما كانت الهند في حالة توزّع وبؤس» «1» . ظهر الفساد في البرّ والبحر وبالجملة فقد كانت الإنسانية في عصر البعثة في طريق الانتحار، وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وقوة التمييز بين الخير والشرّ، والحسن والقبيح، وكان الناس في شغل شاغل وفكر ذاهل، لا يرفعون إلى الدّين والآخرة رأسا، ولا يفكّرون في الروح والقلب، والسعادة الآخروية وخدمة الإنسانية، وإصلاح الحال لحظة، وربّما كان إقليم واسع ليس فيه أحد يهمّه دينه ويعبد ربّه، لا يشرك به شيئا، ويتألم للإنسانية ومصيرها البائس، وصدق الله العظيم: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] .   (1)) ، 1924 (. 140- 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 لماذا بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في جزيرة العرب قد اقتضت حكمة الله أن تطلع هذه الشمس التي تبدد الظلام، وتملأ الدّنيا نورا وهداية، من أفق جزيرة العرب الذي كان أشدّ ظلاما، وكان أشدّ حاجة إلى هذا النور الساطع. وقد اختار الله العرب، ليتلقّوا هذه الدعوة أولا، ثمّ يبلّغوها إلى أبعد أنحاء العالم، لأنّ ألواح قلوبهم كانت صافية، لم تكتب عليها كتابات دقيقة عميقة يصعب محوها وإزالتها، شأن الروم، والفرس، وأهل الهند، الذين كانوا يتيهون ويزهون بعلومهم وآدابهم الراقية، ومدنيّاتهم الزاهية، وبفلسفاتهم الواسعة، فكانت عندهم عقد نفسية وفكرية، لم يكن من السّهل حلّها. أمّا العرب فلم تكن على ألواح قلوبهم إلا كتابات بسيطة خطّتها يد الجهل والبداوة، ومن السّهل الميسور محوها وغسلها، ورسم نقوش جديدة مكانها، وبالتعبير العلميّ المتأخّر: كانوا أصحاب «الجهل البسيط» «1» الذي تسهل مداواته، بينما كانت الأمم المتمدّنة الراقية في هذا العصر مصابة ب «الجهل المركّب» «2» الذي تصعب مداواته وإزالته. وكانوا على الفطرة، وأصحاب إرادة قوية، إذا التوى عليهم فهم الحقّ   (1) [الجهل البسيط: هو عدم العلم كما من شأنه أن يكون عالما] . (2) [الجهل المركّب: هو عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 حاربوه، وإذا انكشف الغطاء عن عيونهم، أحبّوه واحتضنوه، واستماتوا في سبيله. يعبّر عن هذه النفسية العربية خير تعبير، ما قاله سهيل بن عمرو، حين سمع ما جاء في كتاب الصّلح في الحديبيّة «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله، ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك» «1» ، وما قاله عكرمة بن أبي جهل حين حمي الوطيس في معركة اليرموك، واشتدّ عليه الضغط: «قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلّ موطن وأفرّ منكم اليوم؟!» ثمّ نادى: من يبايع على الموت، فبايعه من بايعه، ثمّ لم يزل يقاتل حتى أثبت جراحا وقتل شهيدا» «2» . وكانوا واقعيّين جادّين، أصحاب صراحة وصرامة، لا يخدعون غيرهم ولا أنفسهم، اعتادوا القول السديد، والعزم الأكيد، يدلّ على ذلك دلالة واضحة ما روي عن قصة بيعة العقبة الثانية، التي تلتها الهجرة إلى المدينة، قال ابن إسحاق: «لمّا اجتمعت الأوس والخزرج في العقبة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العبّاس بن عبادة الخزرجيّ: «يا معشر الخزرج! هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنّكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم   (1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، برقم (4178) و (4179) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في صلح العدو برقم (2765) ، والبيهقي في السنن (5/ 215) والدلائل (4/ 99- 100) ] . (2) راجع «تاريخ الطبري» ج 4، ص 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ترون أنّكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتل، أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة «1» الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدّنيا والآخرة. قالوا: فإنّا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا؟ قال: الجنّة. قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه» «2» . وقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه وبايعوا رسوله، وقد قال سعد بن معاذ «3» على لسانهم يوم بدر: «فو الّذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد «4» لفعلنا» «5» . وقد تجلّى هذا الصّدق في العزم، والجدّ في العمل، وروح الامتثال للحقّ، في الجملة التي تؤثر عن عقبة بن نافع القائد العربيّ المسلم، فقد خاض البحر الأطلسيّ بجيشه وخيله، ثمّ قال: «يا ربّ لولا هذا البحر   (1) نهكة الأموال: أي نقصها. (2) سيرة ابن هشام؛ القسم الأول، ص 446، (طبع مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثانية) . (3) كذا في الأصل، وفي صحيح مسلم (سعد بن عبادة) . (4) [برك الغماد: قال ياقوت: هو أقصى حجر اليمن. والبرك: حجارة مثل حجارة الحرة خشنة، يصعب المسلك عليها] . (5) زاد المعاد: ج: 1، ص: 342- 343. سيرة ابن هشام: ج: 1، ص: 615، والقصة في الصحيحين [أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب غزوة بدر، برقم (1779) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 لمضيت في البلاد مجاهدا في سبيلك» «1» . أمّا اليونان والرّومان، وأهل إيران، فقد اعتادوا مجاراة الأوضاع، ومسايرة الزمان، لا يهيجهم ظلم، ولا يستهويهم حقّ، ولا تملكهم فكرة ودعوة، ولا تستحوذ عليهم استحواذا يتناسون فيه أنفسهم، ويجازفون فيه بحياتهم ولذّاتهم. وكان العرب بمعزل عن أدواء المدنية والترف، التي يصعب علاجها، والتي تحول دون التحمس للعقيدة والتّفاني في سبيلها. وكانوا أصحاب صدق وأمانة وشجاعة، ليس النّفاق والمؤامرة من طبيعتهم، وكانوا مغاوير حرب «2» ، وأحلاس خيل «3» ، وأصحاب جلادة وتقشّف في الحياة، وكانت الفروسية هي الخلق البارز الذي لا بدّ أن تتصف به أمة تضطلع بعمل جليل، لأنّ العصر كان عصر الحروب والمغامرات، والفتوّة والبطولة. وكانت قواهم العملية والفكرية، ومواهبهم الفطرية، مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال عقيم «بيزنطيّ» ومذاهب كلامية دقيقة، وحروب إقليمية سياسية، فكانت أمّة بكرا، دافقة بالحياة والنشاط، والعزم والحماس. وكانوا أمّة نشأت على الهيام بالحريّة والمساواة، وحبّ الطبيعة، والسّذاجة، لم تخضع لحكومة أجنبية، ولم تألف الرقّ والعبودية، واستعباد الإنسان للإنسان، ولم تتمرّس الغطرسة الملوكيّة الإيرانية أو الرّومانية،   (1) الكامل: لابن الأثير، ج 4، ص 46. (2) [أي المقاتلون الكثير والغارات على الأعداء] . (3) [أحلاس الخيل، أي: ملازمون لظهورها أو رياضتها] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 واحتقارها للإنسان والإنسانية، فكان الملوك في إيران- المملكة المجاورة للجزيرة- فوق مستوى الإنسان والإنسانيّة، فكان الملك إذا احتجم، أو فصد له، أو تناول دواء، كان ينادى في النّاس ألا يمارس إنسان من رجال البلاط، أو سكّان العاصمة عملا، ويكفّوا عن كلّ صناعة أو ممارسة لنشاط «1» ، وإذا عطس فلا يسوغ لأحد من رعاياه أن يدعو له، وإذا دعا أن يؤمن عليه، لأنّه فوق مستوى البشر، وإذا زار أحدا من وزرائه أو أمرائه في بيته كان يوما مشهودا خالدا يؤرّخ به في رسائله ويصبح تقويما جديدا، ويعفى من الضريبة إلى مدة معينة، ويتمتع باستثناءات أو مسامحات وتكريمات، لأنّ الملك شرّفه بالزيارة «2» . هذا فضلا عن الآداب الكثيرة التي يتقيّد بها رجال البلاط، وأركان الدولة، وأفراد الشعب، ويحافظون عليها محافظة دقيقة، من الوقوف بحضرته، والتكفير له «3» ، وقيام كقيام العباد أمام الرّبّ في الصّلوات، وهو تصوير حال كانت عليه إيران السّاسانية في عهد أفضل ملوكها بالإطلاق، وهو كسرى الأول المعروف بأنوشيروان العادل (531- 579 م) فكيف في عهد الملوك الذين اشتهروا في التاريخ بالظلم والعسف والجبروت؟ وقد كانت حرّيّة إبداء الرّأي والملاحظة- فضلا عن النقد- مفقودة تقريبا   (1) إيران في عهد الساسانيين: ص 535- 536. (2) المصدر نفسه: ص 543. (3) كفر له: خضع بأن يضع يده على صدره ويطأطىء رأسه ويتطامن تعظيما، وكانت عادة متبعة في إيران. ومن هنا شاع هذا التعبير؛ ودخل في لغة العرب؛ جاء في «لسان العرب» والكفر تعظيم الفارسي لملكه والتكفير لأهل الكتاب أن يطأطىء أحدهم رأسه لصاحبه كالتسليم عندنا، وقال في شرح شطر بيت لجرير: فضعوا السلاح وكفروا التكفيرا؛ كما يكفر العلج للدهقان يضع يده على صدره ويتطامن له ( «لسان» ج 7، ص 466 مادة كفر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 في المملكة الإيرانيّة الواسعة، وقد حكى الطّبريّ حكاية طريفة عن عهد أفضل ملوكها وأعدلهم «كسرى أنوشيروان العادل» تدلّ كلّ الدلالة على مدى ما وصل إليه الحكم الإيرانيّ من الاستبداد والحظر على إبداء الرأي الجريء والتعليق الجريء في البلاط الإيرانيّ، فيقول: «أمر الملك قبّاذ بن فيروز في آخر ملكه بمسح الأرض سهلها وجبلها، ليضع الخراج عليها، فمسحت، غير أنّ قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة، حتّى إذا ملك ابنه كسرى أمر باستتمامها وإحصاء النّخل والزيتون والجماجم «1» ، ثمّ أمر كتّابه فاستخرجوا جعل ذلك، وأذن للناس إذنا عاما، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليه الجمل التي استخرجت من أصناف غلّات الأرض وعدد النّخيل والزيتون والجماجم، فقرأ ذلك عليهم، ثمّ قال لهم كسرى: إنّا قد رأينا أن نضع على ما أحصي من جريان هذه المساحة من النخل والزيتون والجماجم وضائع، ونأمر بإنجامها «2» في السنة في ثلاثة أنجم، ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا من ثغر من ثغورنا أو طرف من أطرافنا فتق أو شيء نكرهه واحتجنا إلى تداركه أو حسمه، ببذلنا فيه مالا كانت الأموال عندنا معدة موجودة، ولم نرد استئناف اجتبائها على تلك الحال، فما ترون فيما رأينا من ذلك، وأجمعنا عليه؟ فلم يشر عليه أحد منهم فيه بمشورة ولم ينبس بكلمة، فكرّر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات. فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى: أتضع أيّها الملك- عمّرك الله- الخالد من هذا الخراج على الفاني من كرم يموت، وزرع يهيج، ونهر   (1) [الجماجم، مفردها جمجم: الآبار، أو الفلّاحون] . (2) [نجّم عليه دينه: أي؛ قسطه أقساطا] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 يغور، وعين أو قناة ينقطع ماؤها؟ فقال له كسرى: يا ذا الكلفة المشؤوم! من أيّ طبقات النّاس أنت؟ قال: أنا رجل من الكتّاب. فقال كسرى: اضربوه بالدّويّ «1» حتّى يموت، فضربه بها الكتّاب خاصة تبرّؤا منهم إلى كسرى من رأيه وما جاء منه، حتى قتلوه، وقال الناس: نحن راضون أيها الملك بما أنت ملزمنا من خراج» «2» . ولم يكن الرّومان يختلفون عن الإيرانيّين كثيرا، وإن لم يبلغوا شأوهم في الوقاحة وامتهان الإنسانية وإهدار كرامتها، فقد روى المؤرّخ الأوربيّ) Victor Chopart (في كتابه «العالم الرومانيّ» ما ترجمته: «كانت القياصرة آلهة، ولم يكن ذلك عن طريق الوراثة، بل كان كلّ من تملّك زمام البلاد كان إلها، وإن لم تكن هناك أمارة تدلّ على وصوله إلى هذه الدّرجة، ولم يكن لقب «أغسطس Augustus «الملوكيّ المفخم ينتقل من إمبراطور إلى إمبراطور بموجب دستور أو قانون، ولكن لم يكن من شغل مجلس الشيوخ الرّومانيّ إلا أن يؤكّد صحة كلّ حكم يصدر بحدّ السيف، ولم تكن هذه الإمبراطورية إلا صورة لدكتاتورية عسكرية» «3» . ولم يكن السّجود للملوك نادرا، فقد حكى أبو سفيان بن حرب في القصّة التي رواها عن هرقل قيصر الرّوم حين بلغه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه فيه إلى الإسلام، وقد جاء في آخر هذه القصّة:   (1) الدواة، جمعها: دوى ودويّ ودويّ (اللسان: دوا) . (2) تاريخ الطبري: ج 2، ص 121- 122، وروى القصة بطولها مؤلّف كتاب «إيران في عهد الساسانيين» نقلا عن الطبري. The Roman World) London ,8291 (p. 814. (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 «فلمّا رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردّوهم عليّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدّتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل» «1» . أمّا الهند فقد بلغ فيها إهدار كرامة الإنسان، وازدراء الطبقات التي اعتبرها الشعب الآريّ المحتلّ للبلاد، والقانون المدنيّ الذي وضعه مشرّعوه، مخلوقا خسيسا لا يتميّز عن الحيوان الدّاجن إلا بأنّه يمشي على اثنين، ويحمل صورة الآدميّ، وإنّ كانوا سكّان البلاد الأصليّين، مبلغا يصعب تصوّره، فقد نصّ هذا القانون على أنّه: «إذا مدّ أحد من المنبوذين إلى برهميّ يدا أو عصا، ليبطش به، قطعت يده، وإذا رفسه في غضب فدعت رجله «2» وإذا ادّعى أنّه يعلمه سقي زيتا فائرا «3» ، وكفّارة قتل الكلب، والقطّة، والضّفدع، والوزغ، والغراب، والبومة، ورجل من الطبقة المنبوذة سواء» «4» . إذا قورن ذلك بما اعتاده العرب من الحريّة، وعزّة النفس، والاقتصاد في التعظيم والأدب قبل ظهور الإسلام، ظهر فرق هائل بين طبيعة الأمّتين، ووضع المجتمعين: العجميّ والعربيّ، فكانوا يخاطبون ملوكهم بقولهم:   (1) [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب كيف كان بدء الوحي ... برقم (7) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسّير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ... برقم (1773) ، والترمذي في أبواب الاستئذان، برقم (2717) ، وأبو داود في كتاب الأدب، باب كيف يكتب إلى الذمي، برقم (5136) ، وأحمد: (1/ 263) ، والبيهقي في السنن: (9/ 177) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . (2) منو شاستر: الباب العاشر. (3) المصدر السابق. .R.C.Dutt ,Ancient India ,p. 423 -343 (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 «أبيت اللّعن» و «عم صباحا» وقد بلغت هذه الحريّة والتماسك والاحتفاظ بالكرامة بالعرب إلى حدّ كانوا يمتنعون في بعض الأحيان عن الخضوع لمطالب بعض ملوك العرب وأمرائهم، ومما يستطرف في ذلك أنّ أحد ملوك العرب طلب من رجل من بني تميم في الجاهلية فرسا له، يقال له «سكاب» فمنعه إياها، وقال أبياتا أوّلها: [من الوافر] أبيت اللّعن إنّ سكاب «1» علق «2» ... نفيس لا تعار ولا تباع مفدّاة مكرّمة علينا ... يجاع لها العيال ولا تجاع سليلة سابقين تناجلاها ... إذ نسبا يضمّهما الكراع «3» فلا تطمع- أبيت اللعن- فيها ... فمنعكها بشيء يستطاع «4» وقد سرت هذه الحريّة، والاعتداد بالنفس، والأنفة من التذلّل، إلى جميع طبقات الشعب، وعمّت الذكور والإناث، يدلّ على ذلك ما ذكره المؤرّخون العرب عن سبب قتل عمرو بن كلثوم الفارس المشهور والشاعر الفحل، لعمرو بن هند ملك الحيرة، فقد ذكروا أن عمرو بن هند ملك الحيرة أرسل إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزير أمّه، فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة من بني تغلب، وأقبلت ليلى بنت مهلهل في ظعن من بني تغلب، وأمر عمرو بن هند برواقه فضرب فيما بين الحيرة والفرات، ودخل عليه عمرو بن كلثوم في رواقه، ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرّواق، وقد كان عمرو بن هند أمر أمّه أن تنحي الخدم إذا دعا   (1) [سكاب: اسم فرس، مأخوذ من سكبت الماء إذا صببته، كأنّها تسكب الجري، فسمّاه من فعلها] . (2) [العلق: هو نفيس المال الذي إذا علقته الكفّ ضنّت به لنفاسته] . (3) [الكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح] . (4) ديوان الحماسة (باب الحماسة) : ص 67- 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 بالظرف، وتستخدم ليلى، فدعا عمرو بمائدة، ثمّ دعا بالظرف فقالت هند: «ناوليني يا ليلى ذلك الطبق!» فقالت ليلى: «لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها» فأعادت عليها وألحّت، فصاحت ليلى: «واذلّاه يا لتغلب» فسمعها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه، ووثب إلى سيف لعمرو بن هند معلّق بالرواق، فضرب به رأس عمرو بن هند، وانتهب بنو تغلب ما في الرواق وساروا نحو الجزيرة «1» ، وقال في ذلك عمرو بن كلثوم قصيدته المشهورة التي عدّت من المعلّقات السبع «2» . ولمّا دخل المغيرة بن شعبة رسول المسلمين على رستم، وهو في أبهته وسلطانه، جلس معه- على عادة العرب- على سريره ووسادته، فوثبوا عليه، وأنزلوه ومغثوه «3» ، فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، إنّا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا، إلا أن يكون محاربا لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأنّ هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم آتكم، ولكن دعوتموني» «4» . وفي جزيرة العرب، وفي مكّة كانت الكعبة، التي بناها إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- ليعبد الله فيها وحده، ولتكون مصدر الدعوة للتوحيد إلى آخر الأبد. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ «5» [آل عمران: 96]   (1) الجزيرة: تسمى جزيرة آقور، وهي تقع بين دجلة والفرات، وفيها ديار بكر وتغلب. (2) مقتبس من كتاب «الشعر والشعراء» لابن قتيبة، ص 36. (3) المغث: الضرب الخفيف (القاموس واللسان: مغث) . (4) الطبري ج 4، ص 108. (5) «بكة» : علم للبلد الحرام، ومكة وبكة لغتان فيه، وكثيرا ما يقع التبادل بين الميم والباء- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وقد بقيت كلمة وادي «بكّة» في التوراة على ما دخل فيها من التحريف والتغيير، إلّا أنّ المترجمين حوّلوها إلى «وادي البكّاء» وجعلوها اسم نكرة بدل علم، وقد جاء في مزامير داود ما نصّه: «طوبى لأناس عزّهم بك، طرق بيتك في قلوبهم، عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعا» (مزامير «1» 84- 5- 6- 7) . وقد انتبه علماء اليهود بعد قرون إلى أنّ هذه الترجمة كانت خاطئة، فقد جاء في دائرة المعارف اليهوديّة اعتراف بأنّه واد مخصوص لا ماء فيه، وأنّ في ذهن من صدرت عنه هذه العبارات صورة لواد له أوضاع طبيعية عبّر عنها بهذه الكلمة «2» . وقد كان ناقلو هذه الصّحف إلى الإنجليزيّة أكثر أمانة ودقة في الترجمة من الذين قاموا بالترجمة العربيّة، فقد تركوا كلمة «بكّة» كما كانت في الأصل، وكتبوها بالحرف الاستهلالي، كما تكتب الأعلام، ففي الترجمة الإنجليزيّة كما يلي «3» : Blessed is the man whose strength is in the Thee; In Whose heart are the ways of them who passing thorough the Valley of) Baca (make it well.) psalms .) 6 -5 -89 وكانت بعثته صلى الله عليه وسلم استجابة لدعاء إبراهيم وإسماعيل عند رفعهما لقواعد الكعبة، وكان دعاؤهما كما نقله القرآن:   - في اللغة العربية، كلازم ولازب؛ ونميط ونبيط. (1) الكتاب المقدس في مطبعتها في ساحة استور من مدينة نيويورك؛ لندن 1804 م. Jewish Encyclopedia ,Y. 11 p. 514. (2) (3) مستفاد من «التفسير الماجدي» [بالأردوية] للأستاذ الكبير عبد الماجد الدريابادي، وكتاب «رحمة للعالمين» ج 1، للقاضي سليمان المنصور فوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] . وقد جرت سنّة الله باستجابة أدعية المخلصين المبتهلين- فضلا عن الأنبياء والمرسلين- والصحف السماوية والأخبار الصادقة مشحونة بأمثلتها، وقد جاء في التوراة نصّ يدل على استجابة هذا الدعاء الذي دعا به إبراهيم، فقد جاء في سفر التكوين ما لفظه: «وعلى إسماعيل استجبت لك هو ذا أباركه وأكبّره وأكثّره جدا، فسيلد اثني عشر رئيسا وأجعله لشعب كبير» . ولذك صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول عن نفسه: «أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى» «1» . وفي التوراة- على ما أصابها من التحريف- شواهد على أنّ هذا الدعاء قد استجيب، فقد جاء في كتاب التثنية (18- 15) على لسان نبيّ الله موسى، ما نصه: «يقيم لك الربّ إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي، له تسمعون» . وقد دلّت كلمة «إخوتك» على أنّ المراد بها هم بنو إسماعيل، الذين هم أبناء عمومة بني إسرائيل، وقد جاء ما يؤيّد هذا بعد آيتين (18- 17) من نفس الصحيفة، وهو كما يلي: «قال لي الربّ: قد أحسنوا فيما تكلّموا، أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلّمهم بكلّ ما أوصيه به» ، (سفر التثنية 17- 18) .   (1) [أخرجه أحمد (5/ 262) ، والطبراني في الكبير برقم (7729) ، والبيهقي في «الدلائل» (1/ 84) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 222) : وإسناد أحمد حسن] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وكلمة «أجعل كلامي في فمه» يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم فهو النبيّ الوحيد الذي بكلام الله نصّا وفصّا، وأعلن الله عن ذلك بقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3- 4] ، وبقوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] . أمّا صحف أنبياء بني إسرائيل، فهي لا تدّعي أنّها من كلام الله لفظا ومعنى، ولا يتحرّج علماء هذه الطوائف من إضافة تأليفها إلى الأنبياء، فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية ما يلي: «إنّ الكتب الخمسة الأولى من الكتاب المقدّس (العهد القديم) كما تقول الأخبار اليهوديّة القديمة، من تأليف النبيّ موسى، باستثناء ثماني آيات أخيرة جاء فيها الحديث عن موت موسى، وما زال الرّبيون يعنون بتناقضات واختلافات وردت في هذه الصّحف، وما زالوا يصلحونها بحكمتهم ولباقتهم» » . وأمّا الأناجيل الأربعة التي تسمّى «العهد الجديد» فهي أبعد من أن تكون كلاما إلهيا لفظا ومعنى، يقتنع بذلك كلّ من أجال النظر فيها وتصفّحها، وفي الحقيقة هي بكتب السيرة والأخبار أشبه منها بالكتب المنزّلة من الله، المبنيّة على الوحي والإلهام «2» . ثمّ إنّ موقع الجزيرة العربيّة الجغرافيّ، يجعلها جديرة بأن تكون مركزا لدعوة تعمّ العالم، وتخاطب الأمم «3» ، فهي مع كونها جزءا من قارّة آسيا تقع   Jewish Encyclopedia Vol. ,9 p. 985. (1) (2) راجع للتفصيل كتاب المؤلف «النبوة والأنبياء في ضوء القرآن» فصل «الصحف السماوية السابقة والقرآن في ميزان العلم والتاريخ» ؛ ص 198- 213 الطبعة الرابعة، و «محاضرات إسلامية في الفكر والدعوة» ج: 3، ص: 119. (3) أعلن الدكتور حسين كمال الدين رئيس قم الهندسة المدنية بكلية الهندسة بجامعة الرياض، - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بمقربة من قارّة إفريقية، ثم قارّة أوربة، وكلّ منها مركز الحضارات، والثقافات، والدّيانات، والحكومات القويّة الواسعة، وتمرّ بها القوافل التجارية، التي تصل بين بلاد مختلفة، وقد تصل بين قارّات تحمل من بلد ما يستطرف وينتج فيه إلى بلد يفتقر إليه. وتقع هذه الجزيرة بين قوّتين متنافستين: قوة المسيحيّة وقوّة المجوسية، وقوّة الغرب وقوّة الشرق، وقد ظلّت رغم ذلك كلّه محتفظة بحريّتها وشخصيّتها، ولم تخضع لإحدى الدّولتين إلا في بعض أطرافها، وفي قليل من قبائلها، وكانت في خير موقف لتكون مركزا لدعوة إنسانيّة عالمية، تقوم على الصعيد العالميّ وتتحدّث من مستوى عال، بعيدة عن كلّ نفوذ سياسيّ، وتأثير أجنبيّ. لذلك كلّه اختار الله الجزيرة العربية، ومكة المكرّمة، لتكون مبعث الرسول ومهبط الوحي، ونقطة انطلاق للإسلام في العالم. اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] فترة حالكة مؤيسة: وبالرّغم من هذه المواهب التي أكرم الله بها العرب، والمزايا التي امتازت   - في حديث صحفي نشر في القاهرة؛ أنه توصل إلى ما يشبه النظرية الجغرافية التي تؤكد أن مكة المكرمة هي مركز اليابسة في الكرة الأرضية، أي مركز الأرض، وقد بدأ بحثه برسم خريطة تحسب أبعاد كل الأماكن على الأرض عن مدينة مكة المكرمة- وذلك لتصميم جهاز عملي رخيص يساعد على تحديد القبلة- وفجأة اكتشف على الخريطة أن مكة المكرمة تقع في وسط العالم. ومن خلال بحثه هذا توصّل إلى معرفة الحكمة الإلهية في اختيار مكة المكرمة لتكون مقرا لبيت الله الحرام، ومنطلقا للرسالة السماوية. ( «الأهرام» 15/ 1/ 1397 هـ الموافق 5/ 1/ 1977 م العدد 32898 السنة 103) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 بها الجزيرة العربيّة، التي تجلّت بها حكمة الله في اختيارها مهدا للبعثة المحمديّة وظهور الإسلام لم تكن في الجزيرة العربية أمارات يقظة، أو آثار قلق ظاهر، وما كان «الحنفاء» «1» والباحثون عن الحقّ، الذين لا يجاوز عددهم رؤوس الأصابع، إلّا كعدد ضئيل من اليراع، يطير في ليلة شاتية، مطيرة، شديدة الظلام، فلا يهدي تائها، ولا يدفىء مقرورا. وكانت هذه الفترة- التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم من أشدّ الفترات التي مرّت بها الجزيرة العربية ظلما وانحطاطا، وأبعد من كلّ أمل في الإصلاح، وأصعب مرحلة واجهها نبيّ من الأنبياء، وأدقّها. وقد أحسن أحد الكتّاب الإنجليز في السيرة النبويّة وليم ميور -) Sir William Muir (وهو معروف بتحامله على الإسلام وصاحب رسالته عليه الصلاة والسلام- تصوير هذه الفترة، والإنكار على ما قاله بعض الكتاب الأوربيّين، أنّ البركان كان متهيّئا للانفجار، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم في أوانه ومكانه، فناوله شرارة من النّار، فانفجر، يقول: «لم تكن الأوضاع الاجتماعية في الجزيرة العربيّة صالحة لقبول أيّ تغير، أو نهضة عندما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم شابا، ولعلّ اليأس عن إصلاح القوم لم يصل ذروته مثل ما وصل في عصره، ولكن حينما تضعف الثقة بسبب واحد لنتيجة خاصة، تفتعل له أسباب أخرى، وتعتبر أسبابا لحدوث هذه النتيجة. من ذلك ما يقوله النّاس: إنّ محمدا صلى الله عليه وسلم حين نهض، نهض معه العرب كلهّم لإيمان جديد، ووقفت الجزيرة العربية وقفة رجل واحد، ثم يستنتجون   (1) الذين نبذوا الوثنية، وتمسكوا بعقيدة التوحيد التي دعا إليها سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 من ذلك أنّ الجزيرة العربية كلّها كانت متهيّئة متحمّسة إذ ذاك لتحوّل مفاجىء عظيم. ولكنّ التاريخ عندما يكذّب هذه النتيجة، إذا تأمّلنا في تاريخ العرب قبل ظهور الإسلام بقلب هادىء، فلم تنجح جهود المسيحيّين المتواصلة، ودعوتهم وموعظتهم المستمرة خلال خمسة قرون إلا في كسب عدد قليل جدّا من بعض القبائل، فتمرّ موجة صغيرة على سطح بحر الحياة العربية الهادىء، نتيجة لتلك الجهود الحقيرة الضعيفة، التي قام بها دعاة المسيحية، تتخلّلها حينا بعد حين موجات أكثر قوة وعمقا، يتجلّى فيها تأثير الدعوة اليهودية، ولكنّ موجات الوثنية العربية والأوهام الإسماعيليّة كانت أعنف وأطغى، كان هذا التيّار الجاهليّ الوثنيّ يضرب جدران الكعبة» . وقال في مكان آخر من هذا الكتاب: «وكانت أوضاع العرب قبل البعثة المحمّدية بعيدة عن كلّ تغيير دينيّ، كما كانت بعيدة كلّ البعد عن وحدة الصفوف واجتماع الشّمل، وكان دينهم يقوم على أساس وثنيّة سخيفة تعمّقت جذورها، واصطدمت بصخرتها محاولات نصارى مصر والشام للإصلاح، فباءت بالفشل» «1» : وبهذه الحقيقة التاريخيّة التي تشبه لغزا علميّا يشيد العالم الغربيّ الشهير) Bosworth Smith (بوسروت إسمث في إيجاز ولكن في قوّة ووضوح: «إنّ مؤرّخا يمتاز من بين زملائه بالاتجاه الفلسفيّ يقرر بأنّه لم تكن من بين الثورات التي تركت ارتسامات خالدة على تاريخ البشرية العمرانيّ؛ ثورة   (1) «حياة محمد» لسير وليم ميور. Sir William Muir:Life Of Mohammad Vol.I,.) London, 5881 (p.CCXXXV- VI. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أبعد من القياس والأمل عند العقل البشريّ من ظهور الإسلام في العرب، فقد كان حادثا لم يكن يتوقّع حدوثه. إنّنا مضطرّون إلى أن نسلّم أنّ علم التاريخ- إذا كان هنالك شيء يستحقّ أن يسمّى علم التاريخ- يبقى حائرا مرتبكا في العثور على حلقات الأسباب والعلل التي يجب عليه البحث عنها (بحكم منصبه ووظيفته) لحدوث هذا الإنقلاب» «1» . الحاجة إلى نبيّ مرسل: كانت الأوضاع الفاسدة، والدرجة التي وصل إليها الإنسان في منتصف القرن المسيحيّ، أكبر من أن يقوم لإصلاحها مصلحون ومعلّمون من أفراد الناس، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد، أو إزالة عادة من العادات، أو قبول عبادة من العبادات، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات، فقد كان يكفي له المصلحون والمعلّمون الذين لم يخل منهم عصر ولا مصر. ولكنّ القضية كانت قضية إزالة أنقاض جاهلية، ووثنية تخريبية، تراكمت عبر القرون والأجيال، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين، وجهود المصلحين والمعلّمين، وإقامة بناء شامخ مشيّد البنيان، واسع الأرجاء، يسع العالم كلّه، ويؤوي الأمم كلّها. قضية إنشاء إنسان جديد، يختلف عن الإنسان القديم في كلّ شيء، كأنّه ولد من جديد، أو عاش من جديد أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام: 122] . قضية اقتلاع جرثومة الفساد، واستئصال شأفة الوثنية، واجتثاثها من   Bosworth Smith:Mohammad and Mohammedanism ,Lodon ,6781. (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 جذورها، بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية ترسيخا، لا يتصور فوقه، وغرس ميل إلى إرضاء الله وعبادته، وخدمة الإنسانية، والانتصار للحق، يتغلب على كلّ رغبة، ويقهر كلّ شهوة، ويجرف بكلّ مقاومة. وبالجملة الأخذ بحجز الإنسانية المنتحرة التي استجمعت قواها للوثوب في جحيم الدنيا والآخرة، والسّلوك بها على طريق أولها سعادة يحظى بها العارفون المؤمنون، وآخرها جنّة الخلد التي وعد المتّقون، ولا تصوير أبلغ وأصدق من قول الله تعالى في معرض المنّ ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران: 103] . إنّه لم يعرف في تاريخ البشريّة كلّه عمل أدقّ وأعقد، ومسؤولية أعظم وأضخم، من مسؤولية محمّد صلى الله عليه وسلم كنبيّ مرسل. كما أنّه لم يعرف غرس أثمر مثل غرسه، وسعي تكلّل بالنجاح مثل سعيه، إنّها أعجوبة العجائب، ومعجزة المعجزات. وقد شهد بذلك أديب وشاعر فرنسيّ في قوّة وبلاغة، ووضوح وصراحة، يقول «لامارتين:) Lamartine ( «1» : « «إنّ إنسانا لم ينهض أبدا- متطوّعا أو غير متطوّع- لمثل هذا الهدف الأسمى، لأنّ هذا الهدف كان فوق طاقة البشر، لقد كان تحطيم تلك الحواجز من الأوهام والأحلام، التي حالت بين الإنسان وخالقه، والأخذ بيد الإنسان إلى عتبة ربّه، وتحقيق عقيدة التوحيد النقية العقلية المعقولة   (1) لامارتين 1869 -1790) Lamartine (م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الساطعة، في ضباب هذه الوثنيّة السائدة والآلهة المادية، هو ذلك الهدف الأسمى والأعلى، إنّه لم يحمل إنسان مثل هذه المسؤولية الضخمة، والمهمّة العظيمة الجليلة، التي تخرج عن طوق البشر، بمثل هذه الوسائل الحقيرة الضئيلة» . إلى أن قال: «وأروع من ذلك أنّه هزّ تلك الأصنام والآلهة، والأديان، والتصوّرات، والعقائد والنفوس الإنسانية هزة عنيفة، إنّه بنى على أساس ذلك الكتاب الذي يعتبر كلّ كلمة منه مصدر التشريع، قومية ربانية، ألّفت بين أفراد كلّ جيل، وسلالة، ولغة. إنّ الميّزة الخالدة لهذه الأمة، التي كوّنها لنا محمد صلى الله عليه وسلم أنّها شديدة المقت والتقزز من الآلهة الباطلة، شديدة الحبّ لله الواحد الذي يتنزّه عن المادة وشوائبها، وهذا هو الحبّ الذي يدفعه إلى الثأر والانتصاف من كلّ إهانة توجّه إلى الذات الإلهيّة، وهذا الحبّ يعتبر أساس سائر الفضائل عند هذه الأمّة. لقد كان إخضاع ثلث العالم لهذه العقيدة الجديدة من مأثرته بلا ريب، لكنّ الأصحّ أنّه كان معجزة العقل لا معجزة فرد واحد، إنّ الإعلان بعقيدة التوحيد في زمن كانت تئنّ فيه الدّنيا تحت وطأة أصنام لا حصر لها، كان معجزة مستقلة بذاتها. وما لبث محمّد صلى الله عليه وسلم أن أعلن هذه العقيدة أمام الملأ، حتى أقفرت المعابد القديمة من عبادها فلا داعي فيها ولا مجيب، وتكهرب ثلث العالم بحرارة الإيمان» «1» .   (1) لا مارتين) Lamartine (في كتابه) Historire de la Turquie (ج 2؛ ص 276- 277- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 إنّما كان يحتاج هذا الانقلاب الشامل، وهذا البعث الجديد للإنسانية إلى رسالة جديدة، من أعظم الرّسالات، وإلى رسول يرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدّين كلّه، وصدق الله العظيم: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة: 1- 3] .   - (باريس 1854) مقتبس من كتاب) Islam in the World (للدكتور «زكي علي» ص 15- 16، (لاهور- 1947 م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 خريطة توزيع القبائل العربية في جزيرة العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 خريطة بعض الأوثان التي عبدها العرب في الجاهلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 جزيرة العرب قبل البعثة «1» تحديد جزيرة العرب: ليس بين أشباه الجزر شبه جزيرة، تنيف على شبه جزيرة العرب في المساحة، فهي أكبر شبه جزيرة في العالم، ويطلق علماء العرب عليها تجوّزا اسم (جزيرة العرب) ، تحيط بها المياه من أطرافها الثّلاثة، وهي إقليم في الجنوب الغربيّ من آسيا، يحدّه من الشّرق الخليج العربيّ المعروف عند اليونان باسم «الخليج الفارسيّ» ، ومن الجنوب المحيط الهنديّ، أمّا حدّه الغربيّ فهو البحر الأحمر، كما يسمّى في الخارطات الحديثة، المعروف باسم «الخليج العربيّ) Sinus prabicus ( «في الخارطات اليونانيّة واللّاتينيّة، وب «بحر القلزم» في الكتب العربيّة القديمة، وحدّه الشّماليّ خطّ وهميّ يمتدّ (في اصطلاح العلماء العرب) من خليج العقبة   (1) اقتصرنا في هذا الفصل على ما يهم القارىء للسيرة النبوية معرفته من طبيعة هذه البلاد، ووضعها الجغرافي، ومكانتها في تاريخ الديانات والأمم، وطبائع أهلها، فلا يشق طريقه- في دراسة السيرة- منعزلا عن البيئة التي أدت فيها رسالتها، جاهلا لها كل الجهل، وهو مقتبس مما كتب عن الجزيرة قديما وحديثا؛ وقد استفدنا من كتاب «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» للدكتور جواد علي (1- 9) كثيرا. وموضع تفصيل أكثر في هذا الموضوع؛ هي الكتب التي ألّفت في جغرافية جزيرة العرب، وصفتها وخططها، وتاريخ الحضارة العربية والأدب العربي، وهي كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 حتّى مصبّ شطّ العرب في الخليج العربيّ. وقد قسّم الإسلاميّون جزيرة العرب على خمسة أقسام: 1- الحجاز، والحجاز يمتدّ من أيلة (العقبة) إلى اليمن، وسمّي حجازا- فيما يقولون- لأنّه سلسلة جبال تفصل تهامة- وهي الأرض المنخفضة على طول شاطىء البحر الأحمر- عن نجد. 2- وتهامة، وقد وصفناها. 3- واليمن. 4- ونجد. وهو الجزء المرتفع الّذي يمتدّ من جبال الحجاز، ويسير شرقا إلى صحراء البحرين، وهو مرتفع فسيح، فيه صحراوات وجبال. 5- والعروض، وهي تتصل بالبحرين شرقا، وبالحجاز غربا، وسمّيت بالعروض لاعتراضها بين اليمن ونجد، وتسمّى باليمامة أيضا «1» . طبيعة الجزيرة، وأهلها: وقد تغلّبت الصّحراويّة على شبه الجزيرة، وظهر الجفاف عليه لعوامل طبيعيّة وحوادث جيولوجية، وبسبب الموقع الجغرافيّ، فكان ذلك كلّه سببا في قلّة نفوس جزيرة العرب في الماضي وفي الحاضر، وفي سبب عدم نشوء مجتمعات حضريّة، وحكومات مركزيّة كبيرة فيها، وفي سبب تفشّي البداوة، وغلبة الطّبيعة الأعرابية على أهلها، وبروز روح الفرديّة عند أهلها، وتقاتل القبائل بعضها مع بعض، لذلك انحصرت الحضارة في الأماكن   (1) يردّ الرواة أقدم رواياتهم في هذا التقسيم إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الممطورة، والأماكن التي خرجت فيها المياه الجوفيّة عيونا وينابيع، أو قاربت المياه فيها سطح الأرض فأمكن حفر الآبار فيها. فالحياة في جزيرة العرب، هي هبة الماء، فكانت القوافل تؤمّه، وإليه كانت الطبيعة تقذف بالأعراب من كلّ مكان، وكانوا لا يرتبطون بالأرض ارتباط المزارع بأرضه، فلا يستقرّون في مكان إلّا إذا وجدوا فيه الكلأ والماء، فإذا جفّ الكلأ، وقلّ الماء ارتحلوا إلى مواضع جديدة. ولذلك صارت حياتهم حياة قاسية، يتمثّل مجتمعهم في القبيلة، فالقبيلة هي الحكومة والقوميّة في نظر البدويّ، وكانت هذه الحياة لا تعرف الرّاحة والاستقرار، ولا تعترف إلا بمنطق القوّة، حياة جلبت المشقّة لأصحابها، والمشقّة لمن يقيم على مقربة منهم من الحضر، فهم في نزاع دائم فيما بينهم، ثمّ هم في نزاع مع الحضر. ولكنّ العربيّ من ناحية أخرى مخلص، مطيع لتقاليد قبيلته، كريم يؤدّي واجبات الضّيافة، والمحالفة في الحروب، كما يؤدّي واجبات الصّداقة، مخلصا في أدائها، بحسب ما رسمه العرف، وقد نطق به شعرهم، وزخر به أدبهم، من حكم وأمثال، ومثل، وقيم. والعربيّ يحبّ المساواة، ويعشق الحرّية، وهو رجل جادّ، صارم، قلّ في مجتمعه الإسفاف، محافظ، متمسّك بحياته، معتزّ بما كتب له، وإن كانت حياة خشونة وصعوبة. والممعن في البداوة منهم ضعيف الإيمان بدين، قلّ أن يؤمن إلّا بتقاليد قبيلته، وما ورثه عن آبائه، مثله الأعلى في الأخلاق تركّز فيما سمّاه المروءة، وتغنّى بها في شعره وأدبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 مراكز عمران وحضارة: وفي تلك المواضع الّتي توفّرت فيها المياه، من مطر، وعيون، وآبار، ظهرت الحضارة على شكل قرى ومستوطنات، وأسواق موسميّة، كان لها أثر خطير في حياة العرب عموما، ونشأت مجتمعات، لها طبيعة خاصّة، وشخصيّة مستقلّة، متأثّرة بطبيعة الأرض، وطبيعة الجوّ، وطبيعة الحرف والصّناعات، وطرق العيش الّتي يمارسها هذا المجتمع، فكان في مكّة مجتمع خاصّ، له طابع متميّز، وكذلك لأهل الحيرة ولأهل يثرب، وكان مجتمع اليمن من أغنى المجتمعات العربيّة وأرقاها، لأوضاعه الخاصّة، وتاريخه الحضاريّ القديم، والسّياسيّ الحديث، فتفوّق في إنتاج الغلّة، وتربية الحيوان، واستخراج المعادن، وأقام له قصورا وحصونا، واستورد آلات تساعده في ممارسة الصّناعات، وتيسير الحياة، من العراق وبلاد الشّام، ومن إفريقية. طبقات العرب: اتّفق الرّواة وأهل الأخبار، أو كادوا يتّفقون على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات: 1- عرب بائدة. 2- وعرب عاربة. 3- وعرب مستعربة. واتّفقوا أو كادوا يتّفقون على تقسيم العرب، من حيث النسب إلى قسمين: قحطانيّة، منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانيّة، منازلهم الأولى في الحجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 كذلك يقسّم النّسّابون عدنان إلى فرعين كبيرين، ربيعة ومضر. وكان بين القحطانيّة والعدنانيّة منافسة قديمة، كما كان بين ربيعة ومضر عداء شديد، ظلّ قرونا طويلة. واتفقوا على أنّ القحطانيّة هم الأصل، والعدنانيّة الفرع «1» منهم أخذوا العربيّة، وبلسانهم تكلّم أبناء إسماعيل بعد هجرتهم إلى الحجاز، وإسماعيل هو الجدّ الأكبر للعرب المستعربة، أي العرب العدنانيين. وللنّسب عند العرب شأن كبير، وقد أقرّ به أهل الخبرة من العجم، فقد قال رستم قائد قوّاد الفرس لأهل مجلسه حين استخفّوا بالمغيرة بن شعبة رسول المسلمين، واحتقروه لرثاثة ثيابه، وتبذّله: «ويلكم.. إنّ العرب يستخفّون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب» «2» . وحدة اللغة: وكان خليقا بهذا القطر الواسع، الّذي يكاد يكون شبه قارّة، أن تتعدّد فيه اللغات وتتنوّع، لبعد المسافة بين مواطن القبائل، وبين جنوبيّ الجزيرة وشماليّها، وقلّة اتصال أهل الجنوب بأهل الشّمال، وأهل الشّرق بأهل الغرب، وبحكم العصبيّة القبليّة والسّلاليّة السائدة عليهم، وتأثّر القبائل المتاخمة للرّوم والفرس بلغاتهم. وقد كثر عدد اللّغات في أوربة الوسطى، وفي شبه القارة الهنديّة، كثرة   (1) يرى بعض المحققين في هذا العصر أن العدنانيين هم أصل العرب، ولبها، والعرب العاربة الأولى، عكس ما يراه ويزعمه أكثر أهل الأخبار: ويقولون: إن كل ما روي من هذا التقسيم لم يرو من النصوص الجاهلية؛ وإنما ورد متواترا من الكتب المدونة في الإسلام، وأكثرها مبنيّ على أقوال الرواة المنتمين إلى الأصول القحطانية اليمنية، والله أعلم. (2) البداية والنهاية: لابن كثير، ج 7، ص 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 هائلة، ولا يزال عدد اللّغات المعترف بها في دستور الهند يبلغ 15 لغة إقليمية، تختلف فيما بينها اختلاف لغات مستقلة، قائمة بذاتها، حتّى يحتاج أبناؤها للتفاهم إلى ترجمان، أو لغة أجنبية كالإنجليزية. ولكن امتازت الجزيرة العربية على سعتها، وترامي أطرافها، وتشتّت قبائلها، بوحدة اللغة، كانت ولا تزال أداة تفاهم والتقاء لجميع أبناء هذه الجزيرة، حضرهم وبدوهم، والقحطانيّ منهم والعدنانيّ، وهي اللغة العربيّة على اختلاف لهجاتها، وفروقها الإقليميّة الّتي تقتضيها طبيعة اللغات وفلسفتها، وطبيعة الأقاليم والأجواء، وطبيعة الانعزال والانطواء. فاللغات تختلف في لهجاتها بمسافات، قد تطول وقد تقصر، وكانت هذه الوحدة اللغويّة التي امتازت بها هذه الجزيرة من أهمّ أسباب تيسير مهمّة الدعوة الإسلاميّة، وسرعة انتشار الإسلام فيها، ومخاطبة الوحدات العربيّة المنتشرة، في لغة واحدة، هي اللغة العربيّة الفصحى، وبكتاب واحد هو القرآن العربيّ المبين. جزيرة العرب في تاريخ الأمم والديانات: قد تبيّن من الآثار العتيقة أنّ بلاد العرب كانت مأهولة بالنّاس، منذ العصور «الباليوليتية) Paleolithic ( «أي العهود الحجرية المتقدّمة، ومن أقدم الآثار الّتي عثر عليها آثار من أيام العصور المعروفة ب) Chellian (أي الأدوار الأولى من أدوار حضارة العصر الحجريّ. وقد جاء ذكر العرب في مواضع من أسفار التّوراة، تشرح علاقات العبرانيّين بالعرب، وما ذكر في التوراة عن العرب يرجع تاريخه إلى ما بين 750، والقرن الثاني قبل المسيح، وقد وردت في التّلمود إشارات إلى العرب كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وفي كتب «يوسفيوس فلافيوس» الذي عاش بين سنة 37 و 100 للمسيح تقريبا معلومات ثمينة عن العرب، وأخبار مفصّلة عن العرب والأنباط، ووردت في الكتب اليونانية واللاتينية المؤلفة قبل الإسلام- على ما فيها من خطأ- أخبار تاريخية جغرافية كبيرة الخطورة، ووردت فيها أسماء قبائل عربية كثيرة، لولاها لم نعرف عنها شيئا، وتعدّ الإسكندرية من أهمّ المراكز التي كانت تعنى عناية خاصة بجمع الأخبار عن بلاد العرب، وعادات سكّانها، وما ينتج فيها لتقديمها إلى من يرغب فيها من تجّار البحر المتوسط. ومن أقدم من ذكر العرب من اليونانيّين «خيلوس» (525- 456 قبل المسيح) و «هيرودوتس» (480- 425 ق. م) . وهناك طائفة من الكتّاب الذين تركوا لنا آثارا وردت فيها إشارات إلى العرب، والبلاد العربيّة، منهم (بطليموس) الذي عاش في الإسكندريّة في القرن الثاني للمسيح، وهو صاحب مؤلّفات في الرّياضيات منها «كتاب المجسطي» المعروف في اللغة العربيّة. وفي الموارد النصرانية مادة غزيرة عن تاريخ العرب في الجاهليّة والإسلام، وإن كانت خاصة بما له صلة بالنصرانيّة وانتشارها، ومراكز نشاطها. والعرب في التوراة، هم الأعراب، أي سكان البوادي، لذلك فإنّ النّعوت الواردة فيها عنهم، هي نعوت لعرب البادية. وكذلك في كتب اليونان، والرّومان، والأناجيل، نعوت قصدت بها الأعراب، وقد كانوا يغيرون على حدود إمبراطوريتي الرومان واليونان، ويسلبون القوافل، ويأخذون الإتاوات من التّجار والمسافرين. وقد وصف ديدوروس الصّقليّ العرب بأنّهم يعشقون الحريّة، فيلتحفون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 السماء، ويعتقدون بالإرادة الحرّة، والحريّة المطلقة. وبذلك يصفهم (هيرودوتس) ، فيقول: إنّهم يقاومون أيّ قوة تحاول استرقاقهم، واستذلالهم، فالحرية عند العرب هي أكبر شعار، وميزة يمتاز بها العرب في نظر الكتبة اليونان، واللاتين. وكذلك الصّلات بين العرب والهند، ومعرفة إحداهما بالآخرى، والتبادل التجاريّ والثقافيّ بين البلدين قديم ووثيق، وسابق على الإسلام والفتح الإسلاميّ بكثير، وكانت الهند من أعرف الأقطار الآسيوية بالعرب، وأقرب إليها، لعوامل جغرافية، واقتصادية، كما تدلّ على ذلك المصادر الهندية والعربية، والاكتشافات الحديثة «1» . صلة الجزيرة بالنبوّات، والأديان السماوية: والجزيرة العربية مهد نبوّات كثيرة، ومبعث عدد من الأنبياء، وقد جاء في القرآن: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأحقاف: 21] . والمراد به نبيّ الله هود الذي أرسل إلى عاد، وعاد من العرب البائدة على قول المؤرّخين، وكان موطنها «الأحقاف» و (الحقف) كثيب مرتفع من الرّمال. وكانت منازل عاد على المرتفعات المتفرّقة في جنوب الجزيرة، وهي الآن تقع في الجنوب الغربيّ من الربع الخالي، قريبا من «حضرموت» ، لا عمران فيها ولا حياة، وكانت جنّات ومتنزّهات معمورة بأقوام جبابرة   (1) اقرأ للتفصيل كتاب «الصلات بين العرب والهند» للعلامة السيد سليمان الندوي، وهو أحسن وأوسع ما كتب في هذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يسمّون قوم عاد، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية جلبت عليهم طوفانا من الرمال «1» . وقد دلّت الآية على أنّ هودا لم يكن هو الأول أو الآخر من الأنبياء الذين بعثوا في هذه البلاد، بل سبقه أنبياء ولحقوا به، فقد قال: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الأحقاف: 21] . وكذلك صالح نبيّ ثمود، كان مبعثه في جزيرة العرب، فإنّ ثمودا كانت تسكن «الحجر» ، الذي بين الحجاز وتبوك. وقد نشأ إسماعيل في مكّة، وعاش فيها ومات. وإذا صحّ أنّ مدين تدخل في جزيرة العرب في إطارها الواسع، فقد كان شعيب الذي أرسل إليها من العرب. فقد كانت «مدين» في أطراف أرض العرب من ناحية الشّام، قال أبو الفداء: «كان أهل مدين قوما عربا، يسكنون مدينتهم «مدين» ، الّتي هي قريبة من أرض معان، من أطراف الشام، مما يلي من ناحية الحجاز، قريبا من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدهم بمدة قريبة» «2» . وكانت أرض العرب مأوى لكثير من أصحاب الرّسالات والدّعوات، الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وتنكّرت لهم أوطانهم، فلم يجدوا مأوى إلّا في هذه الأرض البعيدة عن نفوذ الملوك الجبّارين، والرؤساء الظالمين، كما كان الشأن مع إبراهيم في مكّة، وموسى في مدين، هذا عدا الديانات التي لقيت اضطهادا في مهدها، فأوت إلى مواطن في الجزيرة،   (1) قال تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 6- 7] . (2) قصص الأنبياء: للشيخ عبد الوهاب النجار، ص 275؛ ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فهاجر عدد كبير من اليهود، حين لقوا اضطهادا من الرومان إلى أرض اليمن، ومدينة يثرب. ولجأت النصرانيّة إلى أرض نجران فرارا من حكم القياصرة الذين اضطهدوها «1» . إسماعيل عليه السّلام في مكة: قصد سيدنا إبراهيم مكّة، وهي في واد محصور بين جبال جرداء، ليس فيه ما يعيش عليه الناس، من ماء، وزرع، وميرة، ومعه زوجه هاجر، وولده إسماعيل، فرارا من الوثنيّة المنتشرة في العالم، ورغبة في تأسيس مركز يعبد فيه الله، ويدعو الناس إليه، ويكون منارا للهدى، ومثابة للناس، ونقطة انطلاق لدعوة التوحيد، والحنيفية السمحة والدين الخالص «2» . تقبّل الله هذا العمل الخالص، وبارك في هذا المكان، وأجرى الله الماء لهذه الأسرة المباركة الصغيرة، المؤلّفة من أمّ وابن- وقد تركهما إبراهيم في هذا المكان القاحل المنعزل عن العالم- وكان بئر زمزم، وبارك الله في هذا الماء. وكان إبراهيم لا يزال في جهاد، ودعوة، وانتقال من مكان إلى مكان، يدعو الناس إلى الله، ويعود إلى مكّة، فيقضي فيها أياما، ثمّ يغادرها «3» .   (1) استفدنا في هذا البحث الأخير من كتاب «خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم» للعلامة محمد أبو زهرة؛ ج 1، فصل «أرض النبوة الأولى هي أرض العرب» . (2) القرآن الكريم سورة البقرة [الآية: 126] ، وسورة إبراهيم [الآية: 37] . (3) تؤيّد ذلك الروايات اليهودية وتقول: إنّ إبراهيم كان يتردّد إلى إسماعيل بين آونة وأخرى ويزوره سرا في الصحراء (تعني الجزيرة العربية) راجع: D.Sidersky- des- origines des legends Musalmans) Paris.3391 (pp.15- 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ونشأ إسماعيل، وأراد إبراهيم ذبح ابنه إسماعيل، وهو غلام يسعى، إيثارا لحبّ الله تعالى على حبّه، وتحقيقا لما رآه في المنام. واستسلم إسماعيل لهذا الأمر ورضي به، وفداه الله بذبح عظيم «1» ، وسلّمه ليكون عون أبيه في الدعوة إلى الله، وليكون جدّ آخر نبيّ وأفضل الرسل، وجدّ أمة تضطلع بأعباء الدعوة إلى الله والجهاد في سبيلها. وعاد إبراهيم إلى مكّة، واشترك الأب والابن في بناء بيت الله، وكان دعاؤهما أن يتقبّل الله هذا البيت، ويبارك فيه، وأن يعيشا على الإسلام، ويموتا عليه، ولا ينقطع بموتهما بل ترثه ذريّته، فتحتضنه، وتغار عليه، وتدعو إليه، وتؤثره على كلّ عزيز، فتنتشر هذه الدعوة في العالم، وأن يبعث الله فيها نبيّا من ذريّته، يجدّد دعوة جدّه إبراهيم، ويتمّ ما بدأه. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 127- 129] . ودعا إبراهيم أن يظلّ هذا البيت آمنا دائما، وأن يسلّم الله أولاده من عبادة الأصنام، الّتي لم يكن هو أشدّ كراهة لشيء، ولا أكثر تقزّزا، ولا أخوف لشيء على ذرّيته منها. فقد رأى مصير الأمم ومصير الأسر، بعد الأنبياء الذين بعثوا فيها، وبعد الجهود الجبّارة والدّعوات القويّة التي قاموا بها، وكيف أصبحت بعد   (1) [قال تعالى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ] ، سورة الصافات [الآية: 107] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 مفارقتهم للدنيا فريسة الشياطين المفسدين، والدجّالين المضلّلين من عبّاد الأوثان ودعاة الجاهليّة. وتمنّى أن يكون أولاده وأولاد أولاده على اتصال دائم بدعوته وجهاده، يذكرون قصّة محاربته للوثنيّة، وخلعه للأوثان، وتحطيمه لها، ومصارمته للوالد السّادن لبيت الأصنام، وفراقه للأهل والوطن، وأن يذكروا سرّ اختيار هذا المكان القاحل، الذي لا يصلح للزّرع، وازدهار المدنية، ويعرفوا سرّ إيثاره على المدن الكبيرة، والأمكنة الصالحة للفلاحة والتجارة، وأسباب العيش، وأن يعوّض عن ذلك بأن يعطف عليهم القلوب، ويهوي إليهم الأفئدة، ويسوق إليهم الرزق الكريم، ويجبي إليهم ثمرات كلّ شيء: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم: 35- 37] قبيلة قريش: وتحقّق كلّ ذلك، فبارك الله في ذرّيتهما، وتوسّعت الأسرة الإبراهيمية العربية، فقد صاهر إسماعيل جرهم «1» - وكانوا من العرب العاربة- وبارك الله في ذريّة إسماعيل، حتى كان منه عدنان، وتناقلت العرب العدنانية أنسابها، وهي أكثر الأنساب العربية صحة وحفظا وتداولا.   (1) قيل: إنّ جرهم كانت أولى القبائل العربية التي أقامت بمكة، وقد استهواها المقام هناك لوجود ماء لا ينقطع، وجاء في بعض الروايات أنّها كانت هناك قبل أن يترك إبراهيم زوجه هاجر وابنه إسماعيل في هذا الوادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وكثر أولاد عدنان، اشتهر منهم معدّ بن عدنان، ونبغ في أولاده مضر، ونبغ من أولاده فهر بن مالك. وسمّي أولاد فهر بن مالك بن النّضر «قريشا» وغلب هذا الاسم على جميع الأسماء، فاشتهرت هذه القبيلة ب «قريش» وأقرّ أهل العرب كلّهم لقريش بعلوّ النّسب، والسيادة، وفصاحة اللغة، ونصاعة البيان، وكرم الأخلاق، والشجاعة، والفتوّة، وذهب ذلك مثلا لا يقبل نقاشا ولا جدلا «1» . قضيّ بن كلاب وأولاده: ومن أولاد فهر قصيّ بن كلاب. وظلّ أمر مكة لجرهم، حتى غلبهم على ذلك خزاعة، وكانت سدانة البيت فيهم، إلى أن عظم شأن قصيّ بن كلاب، وظهر فضله فانتقلت إليه، وانضمّت له قريش، وأجلوا خزاعة عن مكّة، وتمّ له أمر مكة، وكان سيّدا مطاعا، كانت إليه حجابة البيت، وعنده مفاتيحه، فلا يدخل أحد إلا بإذنه، وسقاية زمزم، والرّفادة «2» ، والندوة التي يجتمعون فيها للمشورة، والرأي، واللواء في الحرب، فحاز شرف مكة كلّه. وتنبّل في أولاده عبد مناف، وكان هاشم أكبر أبناء والده عبد مناف، وكان كبير قومه، وكانت عنده السّقاية والرّفادة، وهو والد عبد المطلب: جدّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ولي عبد المطّلب السّقاية والرّفادة بعد عمّه المطلب بن   (1) اقرأ للتفصيل «سيرة ابن هشام» ج 1، وكتب السيرة والأنساب. (2) الرّفادة: طعام كانت قريش تجمعه كلّ عام لأهل الموسم؛ ويقولون: هم أضياف الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عبد مناف، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبّه قومه، وعظم خطره فيهم «1» . بنو هاشم: وكان بنو هاشم واسطة العقد في قريش، وإذا قرأنا ما حفظه التاريخ وكتب السيرة من أخبارهم وأقوالهم- وهو قليل من كثير جدا- استدللنا به على ما كان يمتاز به هؤلاء من مشاعر الإنسانية الكريمة، والاعتدال في كلّ شيء، ورجاحة العقل، وقوّة الإيمان بما للبيت من مكانة عند الله، والبعد عن الظلم، ومكابرة الحق، وعلوّ الهمّة، والعطف على الضعيف والمظلوم، والسخاء، والشجاعة. وما تشتمل عليه كلمة «الفروسية» عند العرب، من معان كريمة، وخلال حميدة، تمثّل السيرة التي تليق بأجداد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتتفق مع ما كان يفضّله ويدعو إليه، من مكارم الأخلاق، غير أنّهم عاشوا في زمن الفترة، وسايروا أبناء قومهم، في عقائد الجاهليّة وعباداتها. الوثنية في مكة: تاريخها ومصادرها: وبقيت قريش متمسّكة بدين إبراهيم الخليل وبدين جدّها إسماعيل، متمسّكة بالتوحيد، وبعبادة الله وحده، حتى كان عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي، فكان أوّل من غيّر دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وأحدث في الحيوانات من التعظيم والتسييب والتحريم ما لم يأذن به الله، ولم تعرفه شريعة إبراهيم، وكان قد خرج من مكّة إلى الشام، فرأى أهلها يعبدون   (1) اقرأ للتفصيل «السيرة النبوية» لابن هشام، ج 1 (أولاد عدنان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الأصنام، ففتن بها، وجلب بعضها إلى مكّة، فنصبها، وأمر الناس بعبادتها وتعظيمها «1» . ولا غرابة في أنّه مرّ في طريقه إلى الشّام من «البتراء» التي ضبطها المؤرّخون والجغرافيّون القدامى ب «بطراء» و «بطرة» ، وهي تقع الآن في جنوب المملكة الأردنية الهاشمية، وكانت القصبة العربية الصخريّة المشهورة عند اليونان والرومان، قيل: إنّه أنشأها الأنباط، وهم من أصل عربيّ، قبل آلاف من السّنين، وقد بلغوا في المدنيّة والصناعة شأوا بعيدا، وكان بينهم شعراء وأطباء وتجار كبار، وكانوا يرحلون إلى مصر والشام وبلاد الفرات وروما، ويجوز أنّهم كانوا يمرّون بالحجاز في طريقهم إلى وادي الفرات، وكانوا مع ذلك منغمسين في الوثنيّة السافرة، ينحتون الأصنام ويعبدونها،   (1) سيرة ابن هشام ق 1، ص 76- 77، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيّب السوائب» ؛ [أخرجه البخاري في كتاب التفسير، برقم (4623) ، ومسلم في كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، برقم (901) ، وأحمد في مسنده (2/ 275) ] . وفي حديث رواه محمد بن إسحاق؛ أنه كان أول من غير دين إسماعيل؛ فنصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، (راجع «السيرة النبوية» لابن كثير؛ ج 1 ص 64- 65) . وممّا تحقق من متابعة كتب التاريخ أن جدّ عمرو بن لحي لأمه كان آخر ولاة مكة، وقد آلت هذه التولية إلى عمرو بن لحي، وقد أبدى الأزرقي ما كان يتمتع به من شأن وفخامة (ص 49 133) ، وقد بلغ من المجد شأوا لم يبلغه أحد قبله في الجاهلية، وهو أول من غيّر دين إسماعيل ودعا إلى الوثنية السافرة (جمهرة أنساب العرب، ص 235) ، وهو أول من أحدث تغييرا في مناسك الحج. ويبدو من متابعة المصادر التاريخية أنه سبق ظهور الإسلام بأربعة قرون ونصف. (ملخص البحث الذي جاء في دائرة المعارف الإسلامية، الصادرة من «دانش كاه بنجاب» لاهور، مجلد 14/ 3 ص 263- 265) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قيل: إنّ «اللّات» التي هي في مقدّمة الأصنام التي كان يعبدها أهل شماليّ الحجاز، استوردوها من «البتراء» وجعلوها في أصنامهم الرئيسيّة «1» . ويؤيّد ذلك ما جاء في كتاب «تاريخ سورية» لمؤلّفه فيليب حتّي) P.K.Hitti (حول المناطق النبطية أي شرقيّ الأردن حاليا، يقول: «وكان زعيم هؤلاء الآلهة «ذي الشرا» ، وكان يشبه عمودا مستطيلا أو حجرا أسود مربعا ... وكانت «اللّات» الآلهة الخاصة للعرب متصلة ب «ذي الشرا» ومن الآلهة النبطية الآخرى التي ورد ذكرها في كتابة من الكتابات الأثرية، هي «مناة» و «العزّى» وقد ورد ذكر «هبل» أيضا في تلك الكتابات» «2» . ولا يعزبنّ عن البال أنّ هذا العصر كان عصر انتشار الوثنيات حول الجزيرة العربية، ومنها حوض البحر الأبيض المتوسط، فلم تظهر دعوة المسيح وحواريه بعد، التي عارضت الوثنية، وقللت من حدتها ونشاطها. أمّا اليهودية فقد كانت ديانة سلالية محصورة في بني إسرائيل، لم تؤذن لدعوة غير بني إسرائيل إلى التوحيد. ويؤيّد ذلك ما جاء في كتاب «العرب قبل محمد» لمؤلّفه.LDe Lacy OLeary قال: «ولا يبعد عن الصحة أن يقال: إنّ عبادة التماثيل إنّما كانت من منح   (1) وقد زارها المؤلف، ولا حظ كثرة المعابد الوثنية المحفورة في الجبل في 19/ 8/ 1973 م، أثناء جولته في غرب آسيا؛ عضوا في وفد لرابطة العالم الإسلامي في مكة [اقرأ عن هذه الرحلة في كتاب «رحلات العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي مشاهداته- محاضراته- لقاءاته- انطباعاته» إعداد المحقّق ص (215) ، طبع دار ابن كثير بدمشق] . P.K.Hitti:History of Syria.) London ,1591 (p. 283 -38. (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 سورية وفدت إلى الجزيرة عن طريق التقاليد الشاميّة اليونانيّة المنتشرة في سورية، ولعلّها لم تكن سائدة في سائر أنحاء العرب» «1» . وكذلك كانت الوثنيّة منتشرة في وادي الفرات وشرقيّ الجزيرة العربية، وكان بين الجزيرة وهذه المنطقة اتصالات تجارية وعلاقات وديّة، فلا يستبعد أن يكون لهذه المنطقة نصيب في انتشار الوثنيّة في الجزيرة. وقد صرّح) Georges Roux (في كتابه «العراق القديم» بأنّ الكتابات الأثرية في العراق تدلّ على أنّ الوثنية كانت منتشرة فيها في القرن الثالث المسيحيّ فيما بعد، وهي كانت مسكنا للآلهة، منها أجنبية ومنها محليّة «2» . وقيل: إنّ عبادة الأصنام نشأت في قريش تدريجيّا، فقد توصّلوا من تعظيم حجارة الحرم، التي كانوا يحملونها معهم إذا ظعنوا من مكّة، تعظيما للحرم، ومحافظة على ذكراه، إلى أن صاروا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم حتى خلّفوا خلفا نسوا ما كانوا عليه، وعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم من الضلالات، وفيهم- على ذلك- بقايا من عهد إبراهيم يتمسّكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحجّ والعمرة «3» . وتاريخ الأمم والدّيانات في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، ومن الوسائل إلى الغايات، ومن المقدّمات إلى النتائج، يؤيد ما ذهب إليه هؤلاء من تعليل   .) Arabia Before Mohammad (,) London ,7291 (p. 691 -79 (1) (2) راجع للتفصيل.Ancient Iraq ,) 2791 (p. 382 -48 (3) راجع للتفصيل في أسماء الأصنام وأخبارها ومواطنها وأسباب اتخاذها كتاب «الأصنام» للكلبي، و «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» تأليف العلامة السيد محمود شكري الآلوسي، الجزء الثاني؛ (ذكر شيء من أخبار الأصنام وسبب اتخاذ العرب لها) ص 200 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 بدء الوثنية في العرب بصفة عامة وفي قريش بصفة خاصّة، وتاريخ بعض الشعوب الإسلامية وطوائفها في التدرج إلى عبادة الصّور والضرائح ومغالاتها في التعظيم والتقديس يؤيّد ذلك. لذلك ألحّت الشريعة الإسلامية على سدّ الذرائع المؤدّية إلى الشّرك، والغلوّ في الأشخاص والآثار «1» . حادثة الفيل: ووقع حادث عظيم لم يحدث مثله في تاريخ العرب، وكان دليلا على ظهور حادث أكبر، وعلى أنّ الله يريد بالعرب خيرا، وأن للكعبة شأنا ليس لغيرها من بيوت الدّنيا ومراكز العبادة، وقد نيطت بها رسالة ودور في تاريخ الديانات ومصير الإنسانيّة، لا بدّ أن تؤدّيه وأن تقوم به.   (1) ودلائله في الشريعة والأحاديث الصحيحة أكثر من أن تحصى؛ منها الحديث المشهور «لا تتخذوا قبري عبدا» [أخرجه أبو داود عن أبي هريرة، في كتاب المناسك، باب في زيارة القبور، برقم (4042) ، وأحمد في مسنده (2/ 367) ] وحديث «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» [أخرجه البخاري عن أبي هريرة، في كتاب التطوّع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم (1189) ، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل المساجد الثلاثة، برقم (1397) ] . وحديث «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم» [أخرجه البخاري عن ابن عباس، في كتاب أحاديث الأنبياء، برقم (3445) ، وأحمد في مسنده (1/ 16) ] وغيرها، وهي حكمة النهي عن تصوير ذي روح في الإسلام والتشديد فيه. وقد تدرّجت أمم في القديم من الحب والتعظيم إلى التصوير ونحت التماثيل، ومنها إلى العبادة السافرة، قال ابن كثير في تفسير آية: وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح: 23] عن محمد بن قيس قال: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين يقتدون بهم: «لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم» فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس؛ فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر؛ فعبدوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 خريطة أصحاب الفيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 إيمان قريش بمكانة البيت عند الله: ويتجلّى هذا الإيمان بأنّ لهذا البيت مكانة عند الله، وأنّه حاميه ومانعه، في حديث دار بين عبد المطّلب- جدّ الرسول وسيّد قريش- و «أبرهة» - ملك الحبشة- وقد أصاب له الملك مئتي بعير، فاستأذن له عليه، وقد أعظمه أبرهة، ونزل له عن سريره، فأجلسه معه، وسأله عن حاجته، فقال: حاجتي أن يردّ عليّ الملك مئتي بعير أصابها لي. فلمّا قال له ذلك، زهد فيه الملك، وتفادته عينه، وقال: أتكلّمني في مئتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه، لا تكلّمني فيه؟!. قال له عبد المطّلب: إنّي أنا ربّ الإبل، وإنّ للبيت ربّا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع منّي. قال: أنت وذاك «1» . إذا فلا سلطان عليها لزاحف، ولا سبيل إليها لمهاجم، وإنّ الله بالغ أمره في بيته ودينه. وكان من خبره أنّ أبرهة الأشرم عامل النّجاشيّ (ملك الحبشة) على اليمن بنى ب «صنعاء» كنيسة عظيمة، سمّاها «القلّيس» وأراد أن يصرف إليها حجّ العرب، وغار من الكعبة أن تكون مثابة للناس، يشدّون إليها الرحال، ويأتون من كل فجّ عميق، وأراد أن يكون هذا المكان لكنيسته. وعزّ ذلك على العرب الذين رضعوا لبان حبّ الكعبة وتعظيمها، لا يعدلون بها بيتا، ولا يرون عنها بديلا، وشغلهم ذلك، وتحدثوا به،   (1) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 49- 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فخرج كنانيّ، ودخل الكنيسة، وأحدث فيها، فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه «1» . ثمّ سار وخرج معه بالفيل، وتسامعت به العرب، فنزل عليهم كالصّاعقة، وأعظموه، وفزعوا له، وأرادوا كفّه عن ذلك ومحاربته، فرأوا أن لا طاقة لهم بأبرهة وجنوده، فوكّلوا الأمر إلى الله تعالى، وكانوا على ثقة بأنّ للبيت ربّا سيحميه. وانحازت قريش إلى شعف «2» الجبال والشّعاب، تخوّفا عليهم من معرّة الجيش، ينظرون ماذا سيصنع الله بمن اعتدى على حرمته، وقام عبد المطلب، ومعه نفر من قريش، فأخذوا بحلقة باب الكعبة، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. وأصبح أبرهة متهيّئا لدخول مكّة، وهو مجمع لهدم البيت، وهيّأ فيله، وكان اسم الفيل «محمودا» وبرك الفيل في طريق مكّة، وضربوا الفيل ليقوم، فأبى، ووجّهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول. وهنالك أرسل الله تعالى عليهم طيرا من البحر، مع كلّ طائر منها أحجار   (1) يمكن أن يكون السبب في حملة أبرهة أهمّ وأوسع من حادث أريد به تنجيس معبد، وأن يكون قصد أبرهة فتح مكة لربط اليمن ببلاد الشام، وتوسيع حكم النصرانية، ونفوذها في الجزيرة العربية، وكان ذلك في صالح الروم والحبش؛ وهم نصارى على السواء، وكانت هذه الخطة- مهما كانت الدوافع إليها- تؤدّي إلى خراب البيت الذي قدّر له أن يكون هدى ومثابة للناس، ورمز النبوة الأخيرة؛ وتجريد مكة من سيادتها الروحية، وذلك ما لا يرضاه الله. ويجوز أن يكون الروم هم المحرضين لأبرهة على فتح مكة، لماربهم السياسية، ومنها إضعاف نفوذ الفرس المنافس الوحيد للنفوذ الرومي على بلاد العرب. (2) [الشّعف: جمع الشّعفة، وهي من كل شيء: أعلاه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 يحملها، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك، وخرج أهل الحبشة هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤوا، وخرجوا يتساقطون بكلّ طريق، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم، تسقط أنامله، أنملة أنملة، حتّى قدموا به «صنعاء» فمات شرّ ميتة «1» . وذلك ما حكاه القرآن، يقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) «2» تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) «3» فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 1- 5] . وقع حادثة الفيل ودلالتها: فلمّا ردّ الله الحبشة من مكة، وأصابهم ما أصاب، أعظمت العرب قريشا، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم العدوّ، وازدادوا تعظيما للبيت، وإيمانا مكانته عند الله «4» . وكان ذلك آية من الله، ومقدّمة لبعثة نبيّ يبعث في مكّة، ويطهّر الكعبة من الأوثان، ويعيد إليها ما كان لها من رفعة وشأن، وتكون لدينه صلة عميقة دائمة بهذا البيت، ودلّ هذا الحادث على قرب ظهور هذا النبيّ وبعثته. واستعظم العرب هذا الحادث، وكان جديرا بذلك، فأرّخوا به، وقالوا وقع هذا في عام الفيل، وولد فلان في عام الفيل، ووقع هذا بعد عام الفيل   (1) اقرأ لتفصيل حادثة الفيل، «سيرة ابن هشام» ج 1 ص 43- 57. (2) الأبابيل: الجماعات. (3) السجيل: الشديد الصلب. (4) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 بكذا من السّنين، وعام الفيل يصادف سنة 570 م «1» . وما مضى على وقعة الفيل خمس سنوات حتّى انتقم الله من الأحباش، فما لبث أن أزال حكمهم من بلاد اليمن، فخلت الجزيرة العربية من آثار النفوذ المسيحيّ واستعمار الأحباش في وقت واحد. جاء في «قيام الدولة العربية» ما خلاصته: «قد قامت حركة وطنية في دولة حمير لتخليص اليمن من حكم الأحباش، وقد استنجد سيف بن ذي يزن بكسرى فارس فأمدّه بحملة سنة 575 م بقيادة وهرز، وقد تغلّب هذا القائد على الأحباش في اليمن» «2» .   (1) الرأي الغالب بين الناس أنّ حملة أبرهة على مكة كانت قبل المبعث بزهاء أربعين سنة، وميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم كان في عام هذه الحملة، وهو العام الذي عرف ب (عام الفيل) وهو يوافق سنة (570 م) أو (571 م) . وقد ذهب بعض الرواة إلى غير ذلك، يرجع للتفصيل إلى المجلّد الثالث من كتاب «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» للدكتور جواد علي، ص: 507- 508. (2) قيام الدولة العربية: ص: 28، لمؤلّفه محمد جمال سرور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مكّة زمن البعثة وعند ظهور الإسلام مكّة مدينة لا قرية: يتخيّل كثير من النّاس ممّن لا علم لهم بأحوال العصر الذي كانت فيه البعثة، وليس لهم اطّلاع واسع على أيّام العرب وأخبارهم وشعرهم وعوائدهم، أنّ مكّة كانت قرية صغيرة، وكانت الحياة فيها في طور الطفولة العقلية والاجتماعية والحضارية، وكانت أشبه بمسكن للقبائل، فيه مضارب من الشّعر، تسود فيها حياة الخيام، وبين معاطن الإبل «1» ، ومرابض الغنم ومرابط الخيل، متناثرة في حواشي الوادي وشعاب الجبال، يتبلّغ أهلها ببلغة من العيش، ويتعيّشون على الخبز القفار «2» أو لحم الإبل الذي لم يحسن شواؤه ولم يكمل استواؤه، ويلبسون اللباس الخشن الذي يتخذونه من أصواف الإبل وأوبارها، لا شأن لهم بتوسع في المطاعم والمشارب، أو تأنّق في اللباس، أو لين من العيش، ورقّة في الشّعور، وتوسّع في الخيال. إنّ هذه الصّورة القاتمة لمكّة، لا تتفق مع الواقع التاريخيّ ومع ما تناثر في كتب التاريخ ودواوين الأدب والشعر الجاهليّ، من وصف مكّة وما كان عليه أبناؤها، في منتصف القرن السادس المسيحيّ من آداب وأعراف وعادات   (1) [معاطن الإبل: أي: مبرك الإبل عند الماء] . (2) [الخبز القفر والقفار: أي غير المأدوم (القاموس المحيط) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ومظاهر كثيرة في الحياة، قد انتقلت من طور بدائيّ بدويّ إلى طور بدائيّ مدنيّ، ولا تتّفق مع ما وصفها القرآن بنعوت وأسماء لا تليق بقرية صغيرة، وحياة بدويّة، فقد سمّاها «أمّ القرى» في قوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] . وقوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 1- 3] . وقوله: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ «1» [البلد: 1- 2] . والحقّ أنّ مكّة قد انتقلت في منتصف القرن الخامس الميلاديّ، من طور البداوة إلى طور الحضارة، وإن كانت حضارة بالمعنى المحدود، وخضعت لنظام يقوم على اتفاق تطوّعيّ وتفاهم جماعيّ وتوزّع للمسؤوليات والمهام، وكان ذلك على يد قصيّ بن كلاب الجدّ الخامس للرسول. وكان عمران مكّة بطبيعة الحال محصورا في نطاق ضيّق، وكانت مكّة بين الأخشبين، وهو جبل «أبي قبيس» المشرف على الصّفا، والآخر الجبّل الذي يقال له «الأحمر» ، وكان يسمّى في الجاهليّة ب «الأعرف» ، وهو الجبل المشرف وجهه على قعيقعان. إلّا أنّ وجود البيت في هذا الوادي، وما كان يتمتّع به جيرانه وسدنته بصفة خاصّة، وسكان الوادي بصفة عامّة، من شرف ومكانة وأمن، كان مغريا لكثير من القبائل العربيّة، وخصوصا المجاورة، للانتقال إلى جوار   (1) ولا ينافي ذلك قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ؛ فكثيرا ما يطلق لفظ القرية على البلد؛ قال ابن كثير في تفسيره هذه الآية: «والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أيّ البلدتين كان» ، تفسير ابن كثير: ج 6، ص 225، طبع دار الأندلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 البيت، فازداد العمران، وتوسّع النطاق على مرّ الزمان، وحلّت البيوت المرصوفة بالحجر، أو المبنية بالطين والحجر محلّ الخيام والأخبية، وانطلقت الحركة العمرانية ممّا يلي المسجد الحرام إلى بطحاء مكّة في أعلاها وأسفلها، وكانوا يبنونها أوّل الأمر بحيث لا تستوي على سقوف مربّعة احتراما للبيت، ثمّ هان عليهم ذلك بالتدريج، فلم يروا بذلك بأسا، وتوسّعوا فيه، إلا أنّهم كانوا لا يرفعون بيوتهم عن الكعبة. وزعم بعض أهل الأخبار أنّ أهل مكّة كانوا يبنون بيوتهم مدوّرة تعظيما للكعبة، وأوّل من بنى بيتا مربّعا «حميد بن زهير» ، فاستنكرته قريش. وكانت بيوت أثريائها وساداتها مقامة بالحجر، وبها عدد من الغرف، ولها بابان متقابلان، ليتمكّن النّساء من الخروج من الباب الآخر، عند وجود ضيوف في الدّار. ومن أعلى جبل أبي قبيس الذي يشرف على مكّة من الشرق، يبدو شكلها المستطيل من الشّمال إلى الجنوب في بطن واد ضيق، وعندما ينظر إليها المرء لأول وهلة فإنّه لا يكاد يميّزها عن الأديم الذي تقوم عليه، إنّ الجبال الجرداء الصخرية التي تحيط بها لا تفصلها عنها أية واحة، فليس بينها وبين مكّة أيّ بقعة خضراء، وإنّ سطوح منازلها لتختلط بمنهار الصخور التي تحدّرت على سفوح تلك الجبال. أمّا بعد أن تراض العين شيئا فشيئا، فإنّها تميّز البيوت والدّور، وتكشف المداخل الخفيّة، ويتنبّه الإنسان بغتة لمنظر مفاجىء لمدينة كبيرة، لم يكن يظنّ وجودها في هذا المكان، إنّ العين تراها تكبر دون حدّ؛ حتّى ليكاد الإنسان يعزو اتساعها المفاجىء إلى سحر ساحر، وتبدو الصّخور بدورها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وكأنّها تحوّلت إلى منازل، وتبدو الآكام أشبه بضواح واسعة لا يدرك الطرف لها نهاية «1» . نشأة مكّة الجديدة وصاحبها: كانت نشأة مكّة الجديدة على يد قصيّ بن كلاب، فهو الذي جمع قريشا، وأسكنهم مكّة، وخطّ لهم الرّباع «2» ، فأنزل كلّ قوم من قريش منازلهم، واختطّ بنوه من بعده مكة رباعا، فكانوا يقطنونها، ويبيعونها، وأقامت على ذلك قريش، ليس بينهم اختلاف ولا تنازع. تنظيم حياة وتوزيع مناصب ومسؤوليات: تملّك قصيّ على قومه وأهل مكّة، وكانت إليه الحجابة، والسّقاية «3» ، والرّفادة «4» ، والندوة، واللواء. وهو الذي أسّس دار الندوة لا صقة بالمسجد الحرام، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، وهي دار قصيّ بن كلاب، وهي دار الشّورى لقريش ودار الحكم والمجتمع في مكّة، فما تنكح امرأة، ويتزوّج رجل من قريش، وما يتشاورون في أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلّا في   (1) آتين دينيه، «محمد رسول الله» ، ص 56 (مقتبسا من «أم القرى» لفؤاد علي رضا، ص (197- 198) . (2) الرّباع: المنازل وما حولها، واحد ربع بالفتح، ذكرها أبو الوليد الأزرقي (ت 223 هـ) في كتابه «أخبار مكة» بتفصيل [واف] . (3) معنى سقاية الحاج: أنهم كانوا يملؤون للحجّاج حياضا من الماء يحلونها بشيء من التمر والزبيب، فيشرب الناس منها إذا وردوا مكة. (4) الرّفادة: طعام كان يصنع للحجّاج على طريق الضيافة؛ وكانت قريش تساعد قصيّا على ذلك بما تقدّمه له من الخرج الذي تخرجه كل سنة (الخضري: ص 36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 خريطة مكة المكرمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 هذه الدار، وما تدرّع جارية إذا بلغت إلّا في هذه الدار، يشقّ عليها فيها درعها (خمارها) ثم تتدرّعه، ثمّ ينطلق بها إلى أهلها. وكان أمره في قومه في حياته ومن بعد موته كالدّين المتّبع لا يعمل بغيره، ولم يكن يدخل دار الندوة من غير بني قصيّ إلا ابن أربعين سنة، ويدخلها بنو قصيّ جميعا، وحلفاؤهم كبيرهم وصغيرهم. وكانت دار الندوة خاصّة بهاشم، وأمية، ومخزوم، وجمح، وسهم، وتيم، وعديّ، وأسد، ونوفل، وزهرة، وهؤلاء عشرة رهط من عشرة أبطن. وانقسمت المناصب بعد موته، فكان في «بني هاشم» السّقاية، وفي «بني أمية» العقاب راية قريش، وفي «بني نوفل» الرفادة، وكان في «بني عبد الدار» اللواء والسّدانة مع الحجابة، وكان في «بني أسد» المشورة. فلم يكن رؤساء قريش يتّفقون على أمر حتّى يعرضوه عليه، فإن وافقه ولّاهم عليه، وإلا تخيّر وكانوا له أعوانا. وكانت المسؤوليات موزّعة بين رجال من قريش، أقرّت لهم بالفضل وحصافة الرأي. فكانت إلى أبي بكر الصديق- وهو من بني تيم- الأشنان وهي الديّات والمغرم، فكان إذا احتمل شيئا، فسأل فيه قريشا صدّقوه وأمضوا حمالة من نهض معه، وإن احتمل غيره، خذلوه. وكان إلى خالد بن الوليد- وهو من بني مخزوم- القبّة والأعنّة- أما القبّة فإنّهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهّزون به الجيش، وأمّا الأعنّة فإنه كان على خيل قريش في الحرب. وكان إلى عمر بن الخطّاب- وهو من بني عدي- السفارة، وذلك أنّهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوه سفيرا، وإن نافرهم حيّ بمفاخرة جعلوه نافرا ورضوا به. وكان إلى صفوان بن أمية- وهو من بني جمح- الأيسار، وهي الأزلام فكان لا يسبق بأمر هامّ حتّى يكون هو الذي يسيّره على يديه. وكان إلى الحارث بن قيس الحكومة والأموال المحجّرة التي سموها لآلهتهم، وكانوا يتوارثون هذه المكارم كابرا عن كابر. النشاط التجاري وحركة التصدير والاستيراد: وكانت لقريش رحلتان تجاريّتان، إحداهما إلى الشّام في زمن الصيف، والآخرى إلى اليمن في زمن الشّتاء، وكانت أشهر الحجّ عندهم أشهرا حرما، يعقدون فيها أسواقهم التجارية بجانب البيت وداخل حدود الحرم، والنّاس يهرعون إلى هذه الأسواق ويؤمّونها من جهات الجزيرة البعيدة، ليقضوا منها حاجتهم، ويتزوّدوا لقومهم، وقد ذكرت أسواق كانت في مكّة يستدلّ بها على ما وصلوا إليه من مدنيّة وتطوّر، منها سوق العطّارين، ومنها سوق الفاكهة، وسوق الرطب، وكان مكان للحجّامين والحلاقين، وكانت رحبة واسعة كانت تباع فيها الحنطة، والسمن، والعسل، والحبوب، يحملها العير من الخارج، وكانت اليمامة ريف مكّة «1» ، وكان زقاق للحذّائين، وسوق للبزّازين.   (1) لذلك لما منع ثمامة بن آثال- سيد بني حنيفة- حمل الحنطة إلى مكة بعدما أسلم، جهدت قريش وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يكتب إلى ثمامة يخلّي إليهم حمل الطعام، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم (زاد المعاد: ج 1؛ ص 377) [وأخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، في كتاب الجهاد، باب ربط الأسير ... برقم (1764) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 مكة المكرمة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وكانت لأهل مكّة متنزهات ينتجعها المكّيّون في الأصائل، من شهور القيظ، وكان المتنعّمون فيهم يشتون بمكة ويصطافون بالطائف، وكان كثير من فتيانهم اشتهروا بالأناقة في الحياة والتجمّل في اللباس، وكانت كسوة بعضهم تقوّم بمئات من الدراهم. وقد نشطت الحركة التجارية في مكّة، فكان تجّارها يتجوّلون في بلاد كثيرة من إفريقية وآسيا، ويحملون من كلّ بلد ما يستطرف ويستظرف فيها، وما تشتدّ إليه الحاجة في بلادهم. فكانوا ينقلون من إفريقية الصمغ، والعاج، والتبر، وخشب الآبنوس، ومن اليمن الجلود، والبخور، والثياب، ومن العراق التوابل، ومن حاصلات الهند الذهب، والقصدير، والحجارة الكريمة، والعاج، وخشب الصندل، والتوابل، والزعفران، ومن مصر والشّام الزيوت والغلال والأسلحة والحرير والخمور. وكانوا يرسلون إلى بعض الملوك والأمراء ما يستطرف من بضائع مكّة، وكان من أعجب ما يختار منها الأدم، وهي الجلود، كما فعلت قريش حين بعثت إلى النّجاشيّ- ملك الحبشة- عبد الله بن ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل، ليستردّا من هاجر من المسلمين إلى الحبشة، فأرسلوا معهما من الهدايا ممّا يستطرف من متاع مكّة وكان الأدم. وكانت من النساء تاجرات، لهنّ نشاط في إرسال القوافل التجارية إلى الشام وغيرها، اشتهرت منهن خديجة بنت خويلد، والحنظلية أمّ أبي جهل، يشير إلى ذلك قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء: 32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الحالة الاقتصادية والعملة والمكاييل: وهكذا فاقت مكّة في التجارة، وأثرى كثير من أبنائها، وتضخّمت رؤوس أموالهم، يدلّ على ذلك أن عير قريش التجارية التي كانت عائدة من الشام عند غزوة بدر بلغت ألف بعير، وبلغ المنقول على أثقالهم خمسين ألف دينار. وكانوا يتعاملون بالعملة الرّومانية البيزنطية والعملة الإيرانية السّاسانية «1»   (1) يبدو من الاستقراء الكثير، وتتبّع ما كتب في الموضوع، أنّ العملة في العصر الجاهلي، وفي صدر الإسلام كانت على نوعين: (1) دراهم؛ (2) دنانير. أمّا الدراهم فكانت على نوعين كذلك، نوع عليه نقش فارس؛ وتسمى بغلية؛ وهي سود وافية، والآخر عليه نقش الروم، وتسمى غالبا طبرية وبيزنطية: وكانت كلها من الفضة؛ وكانت مختلفة الأوزان؛ ولهذا كان أهل مكة في الجاهلية يتعاملون بها وزنا لا عدا. ويتلخّص من أقوال العلماء، أن الدرهم- وهو الذي اعتبره الشرع خمسا وخمسين حبة من الشعير الوسط في الوزن، وتزن العشرة من الدراهم سبعة مثاقيل من الذهب، ووزن المثقال من الذهب الخالص اثنتان وسبعون حبة، وعلى ذلك حكى ابن خالدون الإجماع. وكانت النقود الفضية هي الشائعة والكثيرة الاستعمال عند العرب في عصر النبوة، ولهذا قال عطاء: «إنما كان إذ ذاك الورق، ولم يكن الذهب» (مصنف ابن أبي شيبة: ج 3، ص 222) . أمّا الدنانير فكانت من الذهب، وكانت في الجاهلية وأول الإسلام- بالشام، وعند عرب الحجاز- كلها رومية تضرب ببلاد الروم عليها صورة الملك، واسم الذي ضربت في أيامه مكتوبة بالرومية، كما قال ابن عبد البر في التمهيد: وكلمة «الدينار» معربة من Denarius وكانت عملة رومية قديمة، ولا يزال لها رواج في بعض البلاد الأوربية وقد جاء ذكرها في الإنجيل مرارا، وكان الدينار يزن مثقالا، ووزن المثقال من الذهب الخالص كما قدمنا اثنتان وسبعون حبة من الشعير الوسط، والمشهور أنه لم يتغير في جاهلية ولا إسلام. وقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية أن الدينار البيزنطي يزن 55، 4 من الغرامات، وأثبت المستشرق- زمباور- في هذا الكتاب أن المثقال المكي (كذلك) يبلغ وزنه 55، 4 من الجرامات (راجع مادة «دينار» ؛ ج 9 ص 370) -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وكانوا يستعملون الموازين في أسواقهم والمكاييل، منها الصّاع، والمدّ، والرّطل، والأوقيّة، والمثقال، ويعرفون من مفردات أثقالها أنواعا كثيرة، وعندهم علم بالحساب اعتمد عليه القرآن في ذكر السّهام والفرائض. أثرياء قريش ومترفوها: وكانت بيوت وأسر اشتهرت بالثراء وسعة في المال، ورقّة في العيش، يمتاز فيها بنو أميّة وبنو مخزوم. وكان ممّن اشتهر في الثراء وجمع الأموال واقتنائها وتنميتها: الوليد بن المغيرة وعبد العزّى (أبو لهب) ، وأبو أحيحة ابن سعيد بن العاص بن أميّة،   - والنسبة بين الدرهم والدينار، هي نسبة 7: 10 فالدرهم 7/ 10 من المثقال. وقد نزّله الخليفة عبد الملك ابن مروان في عهده بعد الإصلاحات التي نفذها إلى 25، 4 من الغرامات. أمّا المعادلة في الثمن؛ فقد ثبت من كتب السنة، ومذاهب الفقهاء، وتقرر تاريخيا، أن الدينار يصرف في ذلك العصر بعشرة دراهم. وقد جاء في سنن أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ قال: كانت قيمة الدية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم 800 دينار أو 8000 درهم، وبذلك عملت الأمة من الصحابة فمن بعدهم حتى استقر الإجماع على ذلك. ويدلّ على ذلك دلالة صريحة ما جاء في الأحاديث المشهورة من التصريح بنصاب الدراهم، أو بمقدار الواجب فيها، وما ذهب إليه الجمهور الأكبر من الفقهاء؛ أن نصاب الذهب عشرون دينارا، فثبت من ذلك أن الدينار الواحد في العصر الجاهلي وفي صدر الإسلام كان يساوي في الثمن عشرة دراهم ويعادلها؛ وقد قال الإمام مالك في الموطأ: «السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، أنّ الزكاة تجب في عشرين دينارا عينا، كما تجب في مئتي درهم» (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب) للآلوسي، (التراتيب الإدارية) لعبد الحي الكتاني، (فقه الزكاة) للدكتور يوسف القرضاوي، (التفسير الماجدي) [للشيخ عبد الدريابادي، بالأردوية والإنكليزية] ، وأكثره من (فقه الزكاة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وهو الذي أسهم بثلاثين ألف دينار في القافلة التي كان يقودها أبو سفيان، وعبد بن أبي ربيعة المخزوميّ. واشتهر منهم عبد الله بن جدعان التيميّ الذي كان يشرب في كأس من الذهب، وكان يطعم عددا كبيرا من المساكين والجيعان. وكان العبّاس بن عبد المطّلب من أثرياء قريش، ينفق أمواله في الناس، ويتعامل بالرّبا، حتّى جاء الإسلام، وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلغاء الأموال الربويّة، وبدأ ذلك بعمّه العباس بن عبد المطلب، وأعلن في حجّة الوداع «وأول ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب» . وكان منهم مترفون لهم مجالس سمر، ولهم أرائك منصوبة وموائد ممدودة، ونواد للشراب يلهون فيها ويسكرون. وكانت عامّة مجالس أشرافهم أمام البيت، ينشدون فيها الشعر، ويحضرها بعض كبار شعراء الجاهلية، مثل لبيد بن ربيعة صاحب المعلّقة المشهورة. وقد ذكر أن عبد المطّلب بن هاشم كان يوضع له فراش في ظلّ الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه، حتّى يخرج إليهم، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له. الصناعات والثقافة والآداب في مكّة: ولم تكن للصناعات مكانة كبيرة عند أهل مكّة، بل كان عندهم نوع احتقار لها، وتعيّر منها، ولم يباشرها في عامّة الأحوال إلّا الموالي وأبناء العجم، إلا أنّه قد وجدت بعض صناعات كانوا مضطرّين إليها، ومارسها بعض أبناء مكّة العرب، فقد روي أنّ خبّاب بن الأرتّ كان قينا يعمل السّيوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وكانوا يلجؤون في صناعة البناء- وكان لا بدّ منه- إلى عمّال من الرّوم أو الفرس. وكان منهم كتّاب يعرفون الكتابة والقراءة، وإن كانت الأميّة غالبة عليهم، ولذلك سمّاهم القرآن ب «الأمّيّين» فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] . وكانت مكّة وأهلها مثلا في الجزيرة العربيّة في سلامة الذّوق والظّرف والأناقة، شأن العواصم والمدن الرئيسية في كلّ قطر، عريقة في الآداب. أمّا لغتهم فكانت هي الميزان، وهي المرجع، وعليها الاعتماد في سائر أطراف الجزيرة، وكانوا أبلغ العرب وأفصحهم وأصحّهم تعبيرا ونطقا، وأبعدهم عن الهجنة أو الرطانة وتأثير الاختلاط بالعجم. وكان حظّهم من تناسب الأعضاء واعتدال الخلق، والخلق، والهندام وحسن الشارة، أكثر من أهل النواحي الآخرى، حتّى كانوا شامة بين الناس، يجمعون بين الصفات التي يسمّى مجموعها ب «الفتوة» و «المروءة» ، وتغنّى بهما شعراء العرب وخطباؤهم، لذلك كانوا أئمة الناس في الشرّ والخير. وكان أكثر عنايتهم بالأنساب وأخبارها، ثمّ بالشعر، ثم بالنجوم، والأنواء، والعيافة، وشيء يسير من الطّبّ يقوم على التجربة، والتناقل، وشيء كثير من حلية الخيل والمعرفة الدقيقة بأعضائها وصفاتها، والتفرّس بالرجال والخيل، وشاعت فيهم طرق للعلاج، كالكيّ، والبتر، والفصد، والحجامة، وتناول الأدوية. القوّة الحربية: أمّا قوّة مكة الحربية، فكانت قريش تؤثر السّلم والهدوء في عامّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الأحوال، إذا تركت وشأنها، شأن الشعوب والمجتمعات التي أكبر اعتمادها في الكسب والمعاش على التجارة، ومسير القوافل، وتنظيم الأسواق، وتوجّه الرواد من كلّ صوب إلى بلدها، والتقائهم التقاء يفيدها إجلالا دينيا، وفائدة اقتصادية، ويدرّ عليها الأرزاق الكريمة، وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3- 4] . لذلك كانت قريش- ما لم تتحدّ عقيدتها ولم تثر غيرتها الدينية أو القبلية- تؤمن بمبدأ «التعايش السلميّ» ، ولكنّها رغم كلّ ذلك كانت قوة حربية يحسب لها الحساب، وكانت شجاعتها مضرب المثل، وكانت مشهورة بالفروسيّة العربيّة، و «الغضبة المضريّة» معروفة في جزيرة العرب وآدابها وأمثالها. ولم تكتف قريش بقوّتها الذاتية في الحروب، ولكنّها كانت تستخدم قوة الأحابيش، وهم بطون من القبائل العربيّة الضاربة حول مكّة، من كنانة وخزيمة بن مدركة، وخزاعة تحالفوا مع قريش، وكان لقريش عدد كبير من العبيد والموالي، الذين كانوا يقاتلون في صفوفها، فكانت تستطيع أن توجّه إلى القتال بضعة آلاف مقاتل، وقد استطاعت أن تجمع عشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب. وهي أكبر قوّة حربية عرفها تاريخ الجزيرة العربية في العصر الجاهليّ. كبرى مدن الجزيرة وعاصمتها الروحية والاجتماعية: وبهذا المركز الدينيّ، والمكانة الاقتصادية، وقيادة النشاط التجاريّ، والتقدّم في المدنيّة والآداب، أصبحت مكّة كبرى مدن الجزيرة العربية، وبدأت تنافس صنعاء اليمن في زعامة الجزيرة، بل إنّها تفوقت عليها، بعد ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 حدث باليمن من استيلاء الحبشة عليها، وتملك الفرس لها، في منتصف القرن السادس المسيحيّ، وفقدت مملكة الحيرة ومملكة غسان الشيء الكثير من العظمة والأبّهة، فأصبحت مكّة بعد ذلك كلّه هي عاصمة جزيرة العرب الروحيّة والاجتماعيّة من غير منافس ولا مشارك. الناحية الخلقية: وكانت الناحية الخلقية ضعيفة- غير الأعراف والآداب والقيم الجاهليّة التي كانوا يؤمنون بها ويعضّون عليها بالنّواجذ- فقد فشا فيهم القمار، والميسر، وافتخروا به، وفشت فيهم الخمر وانتشرت القيان، ومجالس اللهو، وحفلات العزف، يقدّم فيها الشراب، وفشا فيهم بعض الفواحش، وقد وجد الظلم والقسوة، وغمط الناس، وبطر الحق، وأكل أموال الناس بالباطل. ولا تصوير للحالة الخلقية التي كان يعيشها أهل الجزيرة بصفة عامة وأهل مكة بصفة خاصة، أبلغ وأصدق من تصوير جعفر بن أبي طالب الهاشميّ القرشيّ- وهو ابن مكة الأصيل- للحياة العربية والأخلاق الجاهلية أمام النجاشيّ، وقد جاء فيه: «أيها الملك! كنّا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منّا الضعيف» «1» .   (1) راجع «سيرة ابن هشام» : ج 1، ص 336، يرجع في معرفة المجتمع الجاهلي إلى فصل «المجتمع العربي» من كتاب (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) للدكتور جواد علي: 4/ 271- 414 [أخرجه أحمد في مسنده (1/ 202) و (5/ 290- 292) ؛ وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 115) ؛ وابن هشام في السيرة: (1/ 344) ؛ والبيهقي في- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الناحية الدينية: وكانت الناحية الدينية أضعف- بحكم بعد العهد بالنبوّات، وفشوّ الجهل، وانتشار الوثنية، التي اقتبسوها من الأمم المجاورة فغلوا فيها- من الناحية الأدبية والحضاريّة، فأغرقوا في الوثنيّة، وأولعوا بالأصنام، فكان في جوف الكعبة وفنائها ثلاثمئة وستّون صنما. وكان كبيرها عندهم «هبل» وكان على بئر في جوف الكعبة، وهي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكان بالعقيق الأحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدا من ذهب. وكان أمام البيت صنمان «أساف» و «نائلة» ، وموضعهما عند الكعبة، أحدهما يلصق بالكعبة، والآخر بموضع زمزم، فنقلت قريش الذي يلصق بالكعبة إلى الآخر، فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما، وكان على الصّفا صنم، يقال له «نهيك مجاود الريح» وعلى المروة صنم، يقال له «مطعم الطّير» . وكان في كلّ دار من مكّة صنم يعبدونه. وكانت «العزّى» قريبا من عرفات، وكان عليها بيت، وكانت أعظم الأصنام عند قريش، وكانوا يستقسمون عند أصنامهم بالأزلام. وكانت «ذو الخلصة» بأسفل مكّة، وكانوا يلبسونها القلائد، ويهدون إليها الشعير والحنطة، ويصبّون عليها اللّبن، ويذبحون لها، ويعلقون بيض   - «الدلائل» (2/ 301- 304) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 24- 27) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير ابن إسحاق، وقد صرّح بالسماع] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 النعام بها، وكانت الأصنام يطاف بها في مكّة، فيشتريها أهل البادية ويخرجون بها إلى بيوتهم. وكذا وصلوا- رغم ما طبعوا عليه من الفتوّة وخلال المروءة وكثير من الأخلاق العربيّة الكريمة- إلى درجة سخيفة راعنة من الوثنية وعبادة الأصنام والتمسّك بالخرافات والأوهام، وجهل المفاهيم الدينية الصحيحة، والبعد عن الإبراهيمية الحنيفيّة السّمحة، درجة لم يصل إليها إلا النادر من الشّعوب والأمم «1» . هذه مكّة في منتصف القرن السادس المسيحيّ عند بعثة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وطلوع شمس الإسلام من أفقها المظلم، وصدق الله العظيم: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ «2» [يس: 6]   (1) يرجع في معرفة أديان العرب وعقائدهم إلى فصل «أديان العرب» من كتاب (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) : 6/ 5- 449. (2) اعتمدنا في كتابة هذا الفصل على إشارات عابرة في كتب التفسير والحديث، ومعلومات مبعثرة جاءت في كتاب «الأصنام» للكلبي (ت 146 هـ) و «السيرة النبوية» لابن هشام (ت 213 هـ) ؛ و «أخبار مكة» للإمام أبي الوليد محمد الأزرقي (ت 223 هـ) ، و «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» للسيد محمود شكري الآلوسي (ت 1342 هـ) واستفدنا من كتاب «تاريخ مكة» للأستاذ أحمد السباعي، وكتاب «مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول» للأستاذ أحمد إبراهيم الشريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الفصل الثاني من الولادة الكريمة إلى البعثة العظيمة شجرة النبي صلى الله عليه وسلم ولادته ونسبه الشريف رضاعته، وحادثة شقّ الصدر وفاة أمّه وجدّه، وكفالة عمّه قصة الراهب بحيرى وتفنيدها زواجه من خديجة بنت خويلد قصة بناء الكعبة ودرء الفتنة حلف الفضول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 شجرة النّبي صلى الله عليه وسلم «1» آباؤه الكرام أمّهاته العظام عمومة الأمّهات خؤولة الأمّهات 1- عبد الله آمنة وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب (انظر مسلسل 6 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) برة بنت عبد العزى بن عبد الدار ابن قصي (انظر مسلسل 5 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) . 2- عبد المطّلب فاطمة عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرّة (انظر مسلسل 7 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) صخرة «2» بنت عبد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرّة (انظر مسلسل 7 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) . 3- هاشم سلمى عمرو بن زيد بن لبيد بن خدا بخش بن عامر بن غنم بن عدي ابن النجار (تيم الله) بن ثعلبة الخزرجي. عميرة «3» بنت صخر بن خبيب ابن الحارث بن ثعلبة بن مازن ابن النجار ساكن المدينة. 4- عبد مناف عاتكة مرّة بن هلال بن فالج بن زكوان ابن ثعلبة بن بهنة بن سليم بن مضر (انظر رقم 18 من آباء النبي صلى الله عليه وسلم) ماوية «4» (صفية) بنت حوزة بن عمرو بن صعصعة بن معاوية ابن بكر بن هوازن. (رقم 17 من آباء النبي صلى الله عليه وسلم) . 5- قصيّ حبّى خليل بن جثبية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة (وهو الخزاعي) . هند «5» بنت عامر بن النضّر بن عمرو بن عامر (الخزاعي) .   (1) من إضافات المحقّق إلى الكتاب. (2) أمّ صخرة هي تخمر بنت عبد بن قصي، وجدّتها هي سلمى بنت عامرة بنت عميرة بنت وديعة بنت الحارث بن فهر، وجدّة جدّتها هي عاتكة بنت عبد الله بن وامكة بن ظرب. (3) أمّ عميرة هي سلمى بنت عبد الأشهل والجدّة هي أثيلة بنت رعورا. (4) أمّ ماوية هي رتاش بنت الأسحم وجدّتها هي كبشة بنت الرافقي. (5) أمّ هند هي ليلى بنت مازن (من خزامة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 آباؤه الكرام أمّهاته العظام عمومة الأمّهات خؤولة الأمّهات 6- كلاب فاطمة سعد بن سيل (حير) بن نوف بن عامر الحاؤ، وكان أول من بنى جدار الكعبة فقيل أربع عماما، أزدشنوءة. ظريفية «1» بنت قيس بن أمية ذي الرأسين بن جيثم بن كنانة بن عمرو بن القين بن فهم بن عمرو ابن قيس بن عيلان بن إلياس (انظر مسلسل 17 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) . 7- مرّة هند سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك (مسلسل رقم 12 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) أمامة «2» بنت عبد مناة بن كنانة (انظر مسلسل 14 من آباء النبي صلى الله عليه وسلم) 8- كعب محشية شيبان بن محارب بن فهر (انظر مسلسل 11 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) وحشية «3» بنت وائل بن قاسط ابن هنسب بن أقصى بن صعمى ابن جديلة. 9- لؤيّ ماوية كعب بن القين (هو النعمان) ابن حير بن شيع الله بن أسد ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. عاتكة بنت كاهل بن عذرة 10- غالب عاتكة يخلد بن النضر بن كنانة (انظر مسلسل 14 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) أنيسة «4» بنت شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر ابن وائل. 11- فهر الملقّب بقريش ليلى حارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة (انظر مسلسل 16 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) . سلمى «5» بنت طانجة بن إلياس (انظر مسلسل 17 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) 12- مالك جندلة عامر بن الحارث بن مضاض بن زيد بن مالك الجرهمي هند بنت الطليم بن مالك بن الحارث الجرهمي.   (1) أمّ ظريفية هي صخرة بنت عامر. (2) أمّ أمامة هي هند بنت دودان بن الأسد خزيمة. (3) أمّ وحشية هي ماوية بنت صبيعة بن ربيعة بن نزار. (4) أمّ أنيسة هي تماضر بنت الحارث وجدّتها هي رهم بنت كامل. (5) أمّ سلمى هي عاتكة بنت الأسد وجدّتها هي زينب بنت ربيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 آباؤه الكرام أمّهاته العظام عمومة الأمّهات خؤولة الأمّهات 13- نضر عكرشة عدنان (الحارث) بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر (انظر مسلسل 18 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) . - 14- كنانة برّة مر بن أد بن طانجة (أخت تميم ابن مر) [وطانجة أخو مدركة] . 15- خزيمة عوانة- هند سعد بن قيس بن عيلان بن إلياس (مسلسل 17 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) وعد بنت إلياس (انظر مسلسل 17 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) . 16- مدركة سلمى الحاف بن قضاعة- 17- إلياس ليلى (خندف) حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ضرية بنت ربيعة بن نزار (مسلسل 19 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) . 18- مضر رباب حيدة بن معد (مسلسل 20 آباء النبي صلى الله عليه وسلم) 19- نزار سودة عك بن الريث بن عدنان مسلسل 21 آباء النبي صلى الله عليه وسلم 20- معد معانة جوشم بن جلهمة بن عمر بن برة بن جرهم سلمى بنت الحارث بن مالك بن غنم (من جرهم) 21- عدنان مهدد لهم بن جلحب بن جديس بن جاثم بن أثرم (إرم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 من الولادة الكريمة إلى البعثة العظيمة عبد الله وآمنة: كان لعبد المطّلب- سيّد قريش- عشرة أبناء، كانوا شامة بين الناس، وعبد الله واسطة العقد «1» ، وزوّجه أبوه «آمنة» بنت وهب- سيّد بني زهرة- وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا» . ولم يلبث عبد الله أن مات، وأمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل به، وقد رأت من الآثار والآيات ما يدلّ على أنّ لابنها شأنا «3» . ولادته الكريمة ونسبه الزكيّ: وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، عام الفيل (570 المسيحي) «4» فكان أسعد يوم طلعت فيه الشمس.   (1) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 108. (2) المصدر السابق: ج 1، ص 110. (3) المصدر السابق: ج 1، ص 158. (4) هذه هي الرواية المشهورة: وقد حقّق العالم الفلكي الكبير محمود باشا المصري أن ولادته صلى الله عليه وسلم كانت يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول لأول عام من حادثة الفيل، 20 أبريل «نيسان» سنة 571 م. وجاء في بعض الروايات أنها كانت في 569 هـ. وذكر القاضي محمد سليمان المنصور فوري في كتابه: «رحمة للعالمين» أن الولادة الكريمة كانت في التاسع من ربيع الأول. عام الفيل. الموافق للثاني والعشرين (22) من- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وهو محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان. وينتهي نسب عدنان إلى سيّدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام «1» . فلمّا وضعته أمّه صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى جدّه عبد المطّلب أنّه قد ولد لك غلام فأتاه، فنظر إليه، وحمله، ودخل به الكعبة، قام يدعو الله «2» ، ويحمده وسمّاه «محمّدا» وكان هذا الاسم غريبا، فتعجّب منه العرب «3» . إمارات خارقة للعادة لولادة عالم جديد، وبعث للإنسانية جديد: وقد روى عدد من كبار المؤلّفين في السيرة وأصحاب الاختصاص في الحديث. ما ظهر على الولادة النبويّة المباركة من أمارات خارقة للعادة، خارجة من التأثير البشريّ، لافتة إلى استئناف العالم والحياة البشرية دورا جديدا في الدين والأخلاق، ومسيرة الركب الإنسانيّ، ومصيره، وهي   - أبريل سنة 571 م. (1) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 1- 2، وجميع كتب السيرة والتاريخ والأنساب، واقتصرنا على سياق نسبه صلى الله عليه وسلم إلى عدنان فإنه لا خلاف في ذلك. (2) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 159- 160. (3) سيرة ابن كثير: ج 1، ص 210، وابن هشام: ج 1، ص 158. يستفاد من «الروض الأنف» للسّهيلي و «الفصول» لابن فورك، أنه لم يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم الشريف قبل محمد بن عبد الله بن عبد المطلب- صلوات الله وسلامه عليه- إلا ثلاثة، طمع آباؤهم حين سمعوا من أهل الكتاب ذكر نبي يبعث في جزيرة العرب يسمى بمحمد؛ وعرفوا قرب زمانه؛ وكانت أزواجهم حاملات؛ فنذر كل واحد منهم إذا ولد له ذكر أن يسميه «محمدا» ففعلوا ذلك، وقد ذكر عدد أكثر من هذا، وعندي أن القضية تحتاج إلى تمحيص أكثر، فقد استغرب هذه التسمية كل من سمعها من قريش؛ والرواية تحتاج إلى نقد علميّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 حوادث خارقة للعادة، مسترعية للانتباه- ممن رزق قوة الاستنتاج والاعتبار-. منها ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته، وغاضت بحيرة ساوا، وخمدت نيران فارس، التي كانوا يعبدونها ولم تخمد منذ ألف عام «1» . رضاعته صلى الله عليه وسلم: أرضعته ثويبة جارية عمّه أبي لهب بضعة أيّام «2» ، ثمّ التمس عبد المطّلب   (1) رواه البيهقي «في دلائل النبوة» (ج/ 1، ص/ 126- 120) وابن جرير، وابن عساكر كلّهم من حديث مخزوم بن هاني عن أبيه. وذكره أكثر أصحاب السير، ورواه الحافظ المؤرّخ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 هـ) ، وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري بتوسّع في الرواية، وما كان له من ردّ فعل على كسرى إمبراطور إيران، وما دار حوله من حديث انطباعات في مجلسه، وأورده الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير (ت 747 هـ) في كتابه: «السيرة النبوية» (ج 1، ص 215، والعلامة علي بن برهان الدين الحلبي (ت 1044 هـ) في كتابه: «إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون» الشهير بالسيرة الحلبية، (الجزء الأول) . وقد قرّر ذلك وحكم بصحة الروايات العلامة محمد أبو زهرة في كتابه: «خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم» (ج 1، ص 150) . وقد ذكر هذه الروايات المؤّرخ الإنجليزي) T.P.Hughes (في كتاب:) Dictionary of Islam (نقلا من المصادر الإسلامية، من غير تعليق عليها أو تشكيك فيها (طبع لندن: ص/ 268) . وفي الحقيقة أنّ ما ذكر من بدء أمارات تنبىء باستئناف العالم لدور جديد، وخضوع مظاهر العظمة والشوكة المصطنعة، لفجر من الهداية والسعادة والحق، قد بدت طلائعه على العالم المتمدّن المعمور، إشارة لطيفة للمتبصرين، وإلا فقد كانت الولادة الكريمة- التي تليها البعثة المحمدية- أعظم وأضخم، وأوسع وأعمق، من أن تدلّ عليه هذه الإمارات الحسية وتنبىء باستئناف العالم والبشرية لدور جديد من البعثة الإنسانية، عقائديا وعمليا، وأخلاقا، وجهودا، وهداية وتوجيها، لا تسعها ولا تؤدّي حقها هذه الأمارات المشاهدة الإقليمية المحدودة: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفتح، الآية: 7] . (2) [أخرج البخاريّ حديث إرضاع ثويبة للنبي صلى الله عليه وسلم في كتاب النكاح، باب وَأُمَّهاتُكُمُ- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 لحفيده اليتيم، الذي كان أحبّ أولاده إليه، مرضعا من البادية، على عادة العرب، وكان العرب يؤثرون البادية لرضاعة الأطفال ونشأتهم الأولى، لما في هواء البادية من الصفاء، وفي أخلاق البادية من السلامة والاعتدال، والبعد عن مفاسد المدنية، ولأنّ لغة البادية سليمة أصيلة. وجاءت المراضع من قبيلة بني سعد، وكانت لها شهرة في المراضع وفي الفصاحة، وأدركت حليمة السعديّة «1» هذه السعادة، وكانت خرجت من بلدها تلتمس الرضعاء، وكان العام عام جدب، وهم في ضيق وشدّة، وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع المراضع فزهدن فيه، وذلك لأنهنّ كنّ يرجون المعروف من أبي الصبيّ، فقلن: يتيم! وما عسى أن تصنع أمّه وجدّه؟! وهكذا فعلت حليمة، فانصرفت عنه أوّل مرة، ثمّ انعطف قلبها عليه، وألهمها الله حبّه، وأخذه، ولم تكن وجدت غيره، فرجعت إليه، فأخذته، وذهبت به إلى رحلها، ولمست البركة بيدها، فكان لكلّ شيء في رحلها شأن غير الشأن، ورأت البركة في اللبان والألبان، والشارف والأتان، وكلّ يقول: لقد أخذت يا حليمة! نسمة مباركة، وحسدتها صواحبها «2» .   - اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [الفتح: 23] برقم (5101) ، ومسلم في كتاب النكاح، باب تحريم الربيبة وأخت المرأة، برقم (1449) ، وأبو داود في كتاب النكاح، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، برقم (2056) كلّهم من حديث أم حبيبة رضي الله عنها] . (1) السعدية: نسبة إلى سعد بن بكر بن هوازن، وهي بنت أبي ذؤيب، وزوجها الحارث بن عبد العزى. (2) [أخرج الطبراني في الكبير قصة إرضاع حليمة السعدية للنبي صلى الله عليه وسلم (24/ 212- 215) ، والبيهقي في «الدلائل» (1/ 133- 136) ، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 221) : رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه إلّا أنه قال: حليمة بنت أبي ذؤيب، ورجالها ثقات] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 خريطة ديار بني سعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ولم تزل تتعرّف من الله الزيادة والخير، حتى مضت سنتان في بني سعد، وفصلته، وكان يشبّ شبابا لا يشبه الغلمان، وقدمت به صلى الله عليه وسلم على أمّه، وطلبت أن تتركه عندها بعض الوقت، فردّته إليها «1» . وجاء ملكان وهو في بني سعد، فشقّا بطنه، واستخرجا من قلبه علقة سوداء، فطرحاها ثمّ غسلا قلبه، حتى أنقياه وردّاه كما كان «2» . ورعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنم مع إخوته من الرضاعة، ونشأ على البساطة والفطرة، وحياة البادية السامية، واللغة الفصيحة التي اشتهر بها بنو سعد بن بكر، وكان يقول لأصحابه فيما بعد: «أنا أعربكم، أنا قرشيّ، واسترضعت في بني سعد بن بكر» «3» . وفاة عبد الله وآمنة وعبد المطّلب وكفالة أبي طالب: وقد تحقّق أنّ أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد المطلب توفي قبل ولادته صلى الله عليه وسلم، وكان قافلا من الشام، فمرض في الطريق، ووصل إلى يثرب- مدينة أخواله بني عديّ بن النّجار- ومات هناك في شبابه.   (1) اقرأ حكاية حليمة للرضاعة الطويلة البليغة الحبيبة في سيرة ابن هشام: ج 1، ص 162- 166، وقد روي اختلاف في إسلام مرضعة الرسول صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية، وقد رجّح السيوطيّ والحافظ مغلطائي بن قليج إسلامها. (2) راجع القصة في كتب السيرة وقد رواها مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك في كتاب الإيمان، باب «الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم» [برقم (261) ، وأحمد في المسند: 3/ 121] . قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم المعروف بولي الله الدهلوي (م 1176 هـ) في كتابه الفريد «حجة الله البالغة» : «وظهرت الملائكة، فشقت عن قلبه؛ فملأته إيمانا وحكمة، وذلك بين عالم المثال والشهادة فلذلك لم يكن الشق عن القلب إهلاكا، وقد بقي منه أثر المخيط؛ وكذلك كل ما اختلط فيه عالم المثال والشهادة» (حجة الله البالغة: ج 2 ص 205) . (3) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 واختلف في عمره حينذاك، وقد روى الواقديّ أنّه كان في الخامسة والعشرين (25) من عمره «1» وقد روي أقلّ من ذلك «2» . ولمّا بلغ صلى الله عليه وسلم ستّ سنين، خرجت به أمّه إلى مدينة يثرب، تزيره خؤولة جدّه فيها، وتزور قبر بعلها الحبيب عبد الله بن عبد المطّلب «3» ، وفي عودتها إلى مكّة أدركها الموت بمكان بين مكة والمدينة، اسمه «الأبواء» ، واجتمعت له وحشة فراق الأمّ الحنون ووحشة الغربة، وذلك الشأن معه من يوم ولد، وفيها من أسرار التربية الإلهية ما لا يعلمها إلا الله. وعادت به أمّ أيمن بركة الحبشية إلى مكة، وسلمته إلى جدّه عبد المطلب، فكان مع جدّه، وكان به حفيا، يجلسه على فراشه في ظلّ الكعبة ويلاطفه. فلمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين، مات عبد المطلب «4» ، فذاق مرارة اليتم مرة ثانية كانت أشدّ من الأولى، فإنّه صلى الله عليه وسلم لم ير أباه، ولم ينعم بعطفه وحنوّه، فكان الشّعور بفقده شعورا عقليّا تقليديا، وكان الشعور بفقد عبد المطّلب شعورا حسيا تجريبيا، والفرق بينهما واضح. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عبد المطّلب مع عمّه أبي طالب، وهو أخو عبد الله من أب وأمّ، وكان عبد المطّلب يوصيه به فكان إليه ومعه، وكان أرفق   (1) طبقات ابن سعد؛ «والوفاء» لابن الجوزي. (2) وقد رجح ابن سعد في الطبقات بعد ذكر روايات مختلفة وفاة عبد الله قبل ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي بعض كتب السيرة أن وفاته كانت بعد ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم على اختلاف في المدة. (البلاذري. وأنساب الأشراف للطبري) . (3) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أمورا في زيارته تلك، نظر إلى دار بني النجار بعد الهجرة، فقال: هنا نزلت بي أمي؛ وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار (شرح المواهب اللدنية ج 1، ص 167- 168) . (4) سيرة ابن هشام: ق 1؛ ص 168- 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 به وأكثر حدبا عليه من أبنائه: عليّ، وجعفر، وعقيل «1» . قصّة الراهب بحيرى: يقال: إنّ أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشّام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ابن تسع سنين «2» فتعلّق بعمّه، فرقّ له، واستصحبه في هذه الرّحلة، فلمّا نزل الركب «بصرى» من أرض الشّام وبها راهب يقال له «بحيرى» في صومعة له، اهتمّ بهم، وصنع لهم طعاما، ولم يكن هذا من شأنه، لمّا رأى صنع الله به والخوارق من العادات، فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم احتفى به وتأكّد من آثار النبوّة فيه، ونبّه أبا طالب على علوّ مكانته، وقال: ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فإنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فرجع به أبو طالب إلى مكّة سالما. وقد جاءت هذه القصة مطوّلة في سيرة ابن هشام وغيرها «3» وتكلّم في صحتها كثير من النّقاد والمحدّثين رواية ودراية، قد جاء في «سيرة النبيّ» للعلامة شبلي النّعمانيّ أنّ جميع روايات هذه القصة مرسلة «4» ، فإنّ كلّ من   (1) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 179. (2) على الأصح. (3) [أخرجه الترمذي في أبواب المناقب، باب ما جاء في بدء نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم برقم (3620) وقال: حسن غريب، وابن أبي شيبة في مصنّفه برقم (18390) ، وأبو نعيم في «الدلائل» (51- 54) ، والطبري في تاريخه: (2/ 277- 279) ، والبيهقي في «دلائل النبوّة» (1/ 307- 312) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 615) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرّجاه، وقال الذهبيّ: أظنّه موضوعا بعضه باطل، ونقد ابن كثير لهذا الحديث في «السيرة النبوية» له (1/ 243) وقد تكلّم عليه الذهبيّ في «السيرة النبوية» له (ص: 28) وقال: حديث منكر جدا. (4) لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ مراسيل الصحابة- رضي الله عنهم- حجة عند أكثر المحدّثين والفقهاء [والمرسل في اصطلاح المحدّثين: هو ما سقط من آخر إسناده من بعد التابعيّ، - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 روى هذه القصة من الصحابة، إنّما سمعها من غيره ولم يسمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد قال الترمذيّ بعد ما روى هذا الحديث: «حديث حسن غريب لا نعرفه إلّا من هذا الوجه» ومن رواته عبد الرحمن بن غزوان، وقد تكلّم فيه أكثر أهل الصناعة، فقال العلامة الذهبيّ: كان يروي الأحاديث المنكرة، وأشدّها نكارة الرواية التي جاء فيها قصّة «بحيرى» . وممّا يقدح في هذا الحديث أنّه قد جاء فيه أنّ أبا طالب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بلال، قال العلامة ابن القيّم في «زاد المعاد» (1/ 18) : «ووقع في كتاب الترمذيّ وغيره أنّه بعث معه بلالا، وأنّه من الغلط الواضح، فإنّ بلالا إذ ذاك لعلّه لم يكن موجودا، وإن كان فلم يكن مع عمّه ولا مع أبي بكر» (انتهى كلام العلامة النعماني) «1» . ونختم هذا النقد بما قاله الذهبيّ في قصّة «بحيرى» : «وهو حديث منكر جدّا، وأين كان أبو بكر، كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ونصف، وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث ولم يكن ولد بعد، وأيضا فإذا كان عليه   - وصورته أن يقول التابعيّ- سواء كان صغيرا أو كبيرا-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، أو فعل بحضرته كذا، وهذه صورة المرسل عند المحدّثين، وقد اختلف العلماء في الاحتجاج به اختلافا كثيرا، من أراد التوسّع فيه فليرجع إلى كتاب «منهج النقد في علوم الحديث» لأستاذنا الدكتور نور الدين عتر، ص: 371- 372، طبع دار الفكر بدمشق] . (1) قال ابن سيد الناس المؤلّف المشهور في السيرة، بعد ما عدّل رواة هذا الحديث «ومع ذلك ففي متنه نكارة وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالا، كيف وأبو بكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسنّ من أبي بكر ما يزيد من عامين، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم تسعة أعوام على ما قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وغيره وأيضا فإن بلالا لم ينتقل لأبي بكر إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاما إلخ (عيون الأثر: ج 1، ص 43) » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 غمامة تظلّله كيف يتصوّر أن يميل فيء الشجرة؟ لأنّ ظلّ الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر أبا طالب قطّ بقول الراهب، ولا تذاكرته قريش، ولا حكته أولئك الأشياخ مع توفّر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك «1» . مثال غريب من التعصّب الدينيّ والإمعان في الافتراض والتخمين: وانتهز المستشرقون والمغرضون هذه الفرصة- وهي لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبر من أحبار النصارى، شخصيته ومكانته في العالم مجهولتان- فصنعوا من الحبّة قبة، وأسّسوا عليها بناء شامخا، من تلقّي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعاليم التوحيد النقية من عالم نصرانيّ. وأغرب من هذا أنّ) Carra De vaux (الفرنسي ألّف كتابا مستقلا في هذا الموضوع، أسماه «مؤلف القرآن» حاول أن يثبت فيه أنّ «بحيرى» لقّن محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن كلّه، في هذا اللقاء القصير. هذا- إن صحّت الرواية- لا يقوله عاقل رزق من سلامة العقل والإنصاف ذرّة، فكيف يعقل أنّ غلاما لا يجاوز عمره تسع سنوات- على الأصحّ- واثني عشر عاما- على الأكثر- تلقّى من شيخ لا يعرف لغته، ولم يجلس إليه إلّا ما يستغرقه وقت الجلوس على مائدة، المسائل الدقيقة والتفاصيل العميقة في نقد عقيدة الشرك والمسيحية الممسوخة في القرن السادس المسيحيّ، التي لم يهتد إليها كبار النقّاد، والمصلحين في المذهب البروتستانتي وكبار   (1) السيرة النبوية: للذهبي (طبع دار الكتب العلمية ص 28- 29) . وهي مستقاة من كتاب «تاريخ الإسلام» للحافظ الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 المصلحين في العالم المسيحيّ، والتمييز الدقيق بين عقائد الفرق المسيحية وأقوالها، وتعرض القرآن لحوادث لم تحدث إلا بعد ثلاثين وأربعين سنة، حين أصبحت عظام (بحيرى) نخرة «1» ، كاندحار الرّوم أمام الفرس في الأعوام الأولى من القرن السابع المسيحيّ (603- 616) إلى آخر نقطة من تراجع الجيوش وتقلّص الحكومات، حتى كادت الإمبراطورية البيزنطية تلفظ نفسها الأخير، وتصبح مستعمرة ساسانية حقيرة، وانقطع كلّ أمل في نهوض الدولة البيزنطيّة وعودتها إلى أوجها الأول، ثمّ انتصار الروم البيزنطيين الرائع، النافي لكلّ تقدير وتخمين، على الفرس الظافرين المنتصرين، حتى أوغلت الجيوش الروميّة في قيادة هرقل في إيران، وغرزت أعلام الفتح في قلب البلاد، وأثخنت الشعب الإيرانيّ قتلا وجراحا، وأهانت المعابد والمقدّسات الدينية، وعادت من أسوار العاصمة ظافرة مرفوعة الرأس، وذلك كلّه في ظرف تسع سنين «2» ، وهو ما أعلنه القرآن بقوله: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم: 1- 7 ] . وهي نبوّة لا يقدر عليها إلّا العليم القدير الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ، ولم يكن   (1) [نخرة: أي: بالية] . (2) اقرأ مقال المؤلّف المسهب «نبوة تتحدّى ومعجزة تتحقّق» في كتاب المؤلف «المدخل إلى الدراسات القرآنية» ص 56 طبع دار ابن كثير، دمشق سنة 1423 هـ- 2002 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 شيء أغرب خيالا، وأبعد منالا من هذه النبوّة التي أعلنها القرآن عند فرح قريش والمشركين بانتصار المجوس المشركين على أهل الكتاب المسيحيين، وشماتتهم بهزيمة الروم المنكرة، فقال: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 3- 4] (والبضع ما دون العشر) واستبعدته قريش كلّ الاستبعاد، حتى قامروا على ذلك استبعادا له. يقول المؤرّخ الإنجليزيّ جبون:) Edward Gibbon ( «إنّ محمّدا تنبّأ حين بلغت فتوح الإيرانيين أوجها وقمتها، أنّ الرايات الرومية سترتفع بالفتح والانتصار في بضع سنين، ولم يكن شيء أبعد عن القياس من هذه النبوة التي أعلنها محمد، لأنّ السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكم هرقل كانت تعلن بتمزّق الإمبراطوريّة الروميّة، ونهايتها القريبة» «1» . ولكن تحقّقت هذه النبوّة بشكل غريب خارق للعادة، وذلك في سنة 625 م (العام الثاني من الهجرة النبوية عند غزوة بدر) يقول «جيبون» في أسلوبه الأدبي القويّ المعروف: «كما أنّ ضباب الصبح والأصيل ينقشع ويتبدد بنور الشمس البازغة الوهاج، كذلك تحوّل الأمير الرقيق المترف الذي لم يكن يعرف إلا الشباب والهوى، والذي كان على قدم أركاديوس في عصره «2» ، فارسا منتصرا يقود الجيوش ويفتح البلاد كسيزر «3» ، لقد أنقذت كرامة هرقل وروما بطريقة غريبة رائعة، وعاد إليهما اعتبارهما وقيمتهما» «4» .   (1) تاريخ انحطاط روما وسقوطها: ج 3، ص 302- 303، طبع 1890 م. (2) الملك الرومي الخليع المستهتر الذي أصبح مثلا في تأريخ أوربة للتمتع المسرف والترف الفاحش. (3) الإمبراطور الرومي الذي اشتهر بفتوحه العظيمة وامتداد ملكه. (4) انحطاط روما وسقوطها: ج 4، ص 304، طبع 1890 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 هذا إلى نبوءات أخرى وإعلانات بعيدة عن القياس والقرائن، كالفتح المبين (صلح الحديبية) المهين في نظر كثير من المسلمين وغير المسلمين «1» ، ودخول الناس في الإسلام أفواجا «2» ، وظهوره على الدين كلّه بعد ما كان المسلمون مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطّفهم الناس، وقيام دولتهم وشوكتهم «3» ، وبقاء القرآن محفوظا متلوا، مبينا مفسرا، يتلوه ويحفظه أكبر عدد من البشر «4» إلى غير ذلك من النبوءات الغريبة، والإعلانات المتحدية للعقل والقياس، والأخبار الغيبية التي زخر بها القرآن «5» . ولا يصنع من هذه الحبّة قبّة إلا من أعماه التعصّب الدينيّ، والاسترسال في الخيال، والإمعان في الافتراض والتخمين، والإتيان بالبعيد المضحك للعقلاء، والتطرّف، وإبعاد النجعة في العداء، ولولا ورود هذه القصّة في عامّة كتب السيرة لما أوردناها في هذا الكتاب، ولما تعرّضنا لبحثها ونقدها «6» .   (1) انظر سورة الفتح. (2) انظر سورة النصر. (3) انظر سورة النور. (4) انظر سورة القيامة وسورة الحجر. (5) اقرأ للتفصيل عنوان «الأخبار الغيبية والنبوءات» في المجلد الثالث من «سيرة النبي» [بالأردوية] للعلامة السيد سليمان الندوي. (6) يقول كارليل في كتابه المشهور «الأبطال) Heroes ( «معلقا على ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم تلقّى من الراهب «بحيرى» أساس الدين الإسلامي ومادته، يقول: «إني لست أدري ماذا أقول عن ذلك الراهب سرجياس (بحيرى) الذي يزعم أن أبا طالب ومحمدا سكنا معه في الدار، ولا ماذا عساه أن يتعلّمه غلام في هذه السنّ الصغيرة من أي راهب ما، فإن محمدا لم يكن يتجاوز إذ ذاك الرابعة عشرة ولم يكن يعرف إلا لغته، ولا شك أن كثيرا من أحوال الشام ومشاهدها لم يكن في نظره إلا خليطا مشوّشا من أشياء ينكرها ولا يفهمها (توماس كارليل: الأبطال ص -) Thomas Carlyl ,Heroes And Hero Worship (.. (68 / الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 التربية الإلهية: وشبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظا من الله تعالى، بعيدا عن أقذار الجاهليّة وعاداتها، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأشدّهم حياء، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والبذاءة، حتى ما أسموه في قومه إلّا «الأمين» «1» . يعصمه الله تعالى من أن يتورّط فيما لا يليق بشأنه، من عادات الجاهلية، وما لا يرون به بأسا، ولا يرفعون له رأسا، وكان واصلا للرّحم، حاملا لما يثقل كواهل الناس، مكرما للضيوف، عونا على البرّ والتقوى «2» ، وكان يأكل من نتيجة عمله، ويقنع بالقوت. ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع أو خمس عشرة سنة، هاجت حرب الفجار بين قريش وبين قيس، وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامها، وكان ينبل «3» على أعمامه وبذلك عرف الحرب، وعرف الفروسيّة والفتوّة «4» . ولمّا شبّ عن الطوق اتّجه إلى العمل، فرعى الأغنام، وفيه كسب   - وقد انتهى الباحثون الغربيون أخيرا- وهم مسيحيون عقيدة، وأحرار متنوّرون بحثا وتحقيقا إلى أنّ كلّ ما قيل عن تلقّي محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء في القرآن، وما عرضه على الناس بصفته أنه وحي من الله، إنما كان تلقينا من القسوس والرهبان- قد تحقّق وثبت بطلانه، وأنه افتراض ومحاولة تشكيك فقط، ليس مبنيّا على بينة وثبوت تاريخيّ. ليرجع إلى) Palmer ,The) De.Bunran Intro Px VIII (وكذلك) De Bunsen ,Islam or True Christianity P. 131 ( (1) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 183. (2) اقرأ شهادة خديجة- رضي الله عنها- لرسول الله صلى الله عليه وسلم- حين رجع من «حراء» وخشي على نفسه، في الجامع الصحيح للبخاري في باب «كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» . (3) ينبل: يعني كان يرد عليهم نبل عدوهم إذا ما رماهم. (4) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 شريف، وتربية نفسية، وترويض على العطف على الضعفاء، وسياسة للأوابد، واستنشاق للهواء النقيّ الصّافي، وتقوية للجسم، وفوق ذلك كلّه إنّه اتباع لسنّة الأنبياء، فقد روي عنه أنّه قال بعد النبوّة: «ما من نبيّ إلّا وقد رعى الغنم» قيل: وأنت يا رسول الله؟!، قال: «وأنا» . وقد رعى الغنم في بني سعد مع إخوته من الرضاعة، فلم يكن بعيدا عنه ولا جاهلا له، وقد ثبت في (الصّحاح «1» ) أنّه كان يرعى الغنم في مكة على قراريط «2» يأخذها من أهلها. زواجه- صلى الله عليه وسلم- من خديجة: ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة، تزوج خديجة بنت خويلد، وهي من سيّدات قريش، وفضليات النساء، رجاحة عقل، وكرم أخلاق، وسعة مال، وكانت أرملة، توفّي زوجها أبو هالة، وكانت إذ ذاك في الأربعين من سنّها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الخامسة والعشرين من عمره «3» . وكانت خديجة امرأة تاجرة، تستأجر الرّجال في مالها، وتضاربهم بشيء   (1) [أخرجه البخاري في كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط، برقم (2262) ، وابن ماجه في أبواب التجارات، باب الصناعات برقم (2149) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . (2) قد جاء في (سيرة النبي) - الجزء الأول- للعلامة شبلي النّعماني: «قد اختلف العلماء في معنى كلمة (قراريط) ، فذهب شيخ ابن ماجه سويد بن سعيد إلى أنها جمع قيراط وهو جزء من الدرهم أو الدينار؛ وعلى ذلك فمعنى الحديث عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم على الأجرة، ومن هنالك ساقه البخاري في باب الإجارة. وذهب إبراهيم الحربي إلى أنه اسم مكان بعينه قرب أجياد؛ وقد رجحه ابن الجوزي، وأكد صحة رأيه العلامة العيني بدلائل قوية راجحة، وإليه مال صاحب (نور النبراس) بعد بحث مطول مفصل» . (3) راجع «سيرة ابن هشام» : ج 1، ص 187- 190، و «سيرة ابن كثير» ، ج 1 ص 262- 265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 تجعله لهم، وكانت قريش قوما تجّارا، وقد كانت اختبرت صدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرم أخلاقه، ونصيحته، حين خرج في مال لها إلى الشّام تاجرا، وبلغها من كبر شأنه في هذه الرّحلة، فعرضت عليه نفسها، وكانت قد رفضت طلب كثير من أشراف قريش، وخطبها إليه عمّه حمزة، وخطب أبو طالب الخطبة، فكان الزواج «1» . وكانت أوّل امرأة تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» وولدت له ولده كلّهم إلا إبراهيم «3» . قصة بنيان الكعبة ودرء فتنة عظيمة: ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وقد أرادوا ذلك ليسقفوها، وكانت حجارة بعضها على بعض، من غير طين يركب بعضها على بعض، وكانت فوق القامة، وكان لا بدّ من هدم وبناء جديد «4» . فلمّا بلغ البنيان موضع الركن، اختصموا في الحجر الأسود، كلّ قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الآخرى، وكلّ قبيلة تريد أن يكون لها هذا   (1) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 189- 190. (2) [أخرج أحمد قصّة زواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها في المسند: (1/ 312) ؛ والطبرانيّ في المعجم الكبير، برقم (12838) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الهيثمي في المجمع (9/ 220) : رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد والطبراني رجال الصحيح، وقال أحمد شاكر: إسناده فيه نظر.] . (3) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 190، وكتب السّير الآخرى. (4) قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشا على بنائها أن السيل كان أتى من فوق الردم الذي صنعوه فأخربه فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة فأرادوا أن يشيدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخل إلا من شاؤوا. (اقرأ التفصيل في «عيون الأثر» لابن سيد الناس، ج 1، ص 52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الشرف، حتّى آل الأمر إلى الحرب، وكانت تنشب في أهون من هذا بكثير في الجاهلية. واستعدّوا للقتال، وقرّبت بنو عبد الدّار جفنة مملوءة دما، وتعاقدوا، هم وبنو عديّ، على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدّم في تلك الجفنة. وكانت آية الموت والشرّ. ومكثت قريش على ذلك أياما، ثمّ اتّفقوا على أنّ أول من يدخل من باب المسجد يقضي بينهم، فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب وأخذ الحجر، ووضعه فيه بيده، ثمّ قال: «لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب ثمّ ارفعوه جميعا» ففعلوا، حتّى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده، ثم بنى عليه «1» . وهكذا درأ «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب عن قريش، بحكمة ليست فوقها حكمة، وكانت مقدّمة درئه للحروب والشرور عن الشعوب والأمم بعد النبوّة، بحكمته، وتعاليمه، ورفقه، وتلطّفه في الأمور، والإصلاح بين الناس، فيكون رحمة للعالمين كما كان رحمة للمتخاصمين والمتحاربين في قوم بسطاء أمّيين.   (1) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 192- 197. [انظر هذه القصّة في «المعجم الأوسط» برقم (2442) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال الهيثمي في المجمع (8/ 229) : رجاله رجال الصحيح، غير عمير بن حفص الضرير، وخالد بن عرعرة، وكلاهما ثقة، وروى القصة أيضا عبد الرزاق في مصنفه (5/ 100- 101) والحاكم (1/ 458) والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 56- 57) .] . (2) [درأ: أي دفع] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 حلف الفضول: وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول «1» ، وكان أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب، وكان سببه أنّ رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل أحد أشراف قريش، فحبس عنه حقّه، فاستعدى عليه الزبيديّ أشراف قريش، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل لمكانته، وانتهروه، واستغاث الزّبيديّ أهل مكة، واستعان بكلّ ذي مروءة. وهاجت الغيرة في رجال من ذوي المروءة والفتوّة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما، وتعاقدوا، وتعاهدوا بالله، ليكوننّ يدا واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقّه، فسمّت قريش ذلك الحلف «حلف الفضول» وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيديّ، فدفعوها إليه «2» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مغتبطا بهذا الحلف، متمسّكا به حتّى بعد البعثة يقول: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحبّ أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت» . تحالفوا على أن يردّوا الفضول على أهلها، وألّا يعزّ «3» ظالم مظلوما «4» .   (1) انظر سبب التسمية في الحاشية رقم (4) . (2) سيرة ابن كثير: ج 1 ص 257، - 259. (3) يعز: يغلب. (4) سيرة ابن كثير: ج/ 1، ص/ 258. سمّت قريش هذا الحلف «حلف الفضول» ، قال بعضهم، سمّوه بحلف الفضول؛ لأنّه- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ويرى المتتبّع لأوضاع جزيرة العرب بصفة عامة، ووضع مكّة المكرمة مركز الجزيرة الدينيّ والثقافيّ والسياسيّ وواقعها، أنّ الباعث لأهل الضّمائر الحيّة على إنشاء هذا الحلف لم يكن حادثة تتعلّق بفرد واحد أو لبعض حقوق مهضومة لأفراد معدودين، بل كان الباعث القويّ هو القلق من حالة الفوضى وعدم الثقة التي كانت تسود مكة وما حولها، والشعور بالحاجة إلى الأمن والاستقرار- خصوصا بعد حرب الفجار- واحترام الحقوق والكرامات، وحماية الغرباء والوافدين إلى مكّة من التجار والصنّاع. قلق غامض وعدم ترقّب لنبوّة أو رسالة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد في نفسه قلقا غامضا، لا يعرف مصدره ولا   - دعا إليه ثلاثة من أشرافهم، اسم كلّ واحد منهم «فضل» وهم: الفضل بن الفضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث، فيما قاله ابن قتيبة، وقال غيره: الفضل بن شراعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة، ولذلك سموه بحلف الفضول. وقال بعضهم: إنما سمّته قريش- حلف الفضول- لأنهم قالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر. [وقال ابن الأثير: «حلف الفضول» سمّي به تشبيها بحلف كان قديما بمكّة، أيام (جرهم) على التناصف، والأخذ للضعيف من القويّ، وللغريب من القاطن، قام به رجال من (جرهم) كلّهم يسمّى (الفضل) منهم: الفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة ( «النهاية في غريب الحديث» ج: 3، ص 456) ] . وأمّا ما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيّبين» فلا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيّبين، قال البيهقي: روي هذا التفسير مدرجا في الحديث ولا أدري قائله. قال ابن سيد الناس في كتابه «عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير» : «شهد النبي صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وعمره إذ ذاك عشرون سنة، وهذا الحلف وقع في ذي القعدة بعد حرب الفجار» (ج/ 1، ص/ 46) . [انظر قصة الفضول في «مسند أحمد» (1/ 190) ، وفي «مسند أبي يعلى» برقم (844) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 مصيره، ولا يخطر بباله لحظة ما الله مكرمه به من الوحي والرسالة، ولا يحلم بذلك في يوم من الأيام، يقول الله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] . وقال: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص: 86] . وكان من حكمة الله تعالى وتربيته، أن نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أميّا، لا يقرأ ولا يكتب، فكان أبعد عن تهمة الأعداء، وظنّة المفترين، وإلى ذلك أشار القرآن بقوله: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] . وقد لقّبه القرآن بالأمّيّ فقال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الفصل الثالث العهد المكّيّ من البعثة إلى الهجرة مبعثه صلى الله عليه وسلم تحنّثه في غار حراء إسلام خديجة وعليّ وزيد رضي الله عنهم تعذيب قريش للمسلمين إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه الهجرة إلى الحبشة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقاطعة قريش لبني هاشم الهجرة إلى الطائف الإسراء والمعراج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 العهد المكّيّ من البعثة إلى الهجرة تباشير الصبح وطلائع السعادة: أتمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة من عمره، والدّنيا واقفة على شفا حفرة من النّار، والإنسانيّة تخطو بخطى سريعة إلى الانتحار، هنالك ظهرت تباشير الصبح وطلائع السعادة، وآن أوان البعثة، وتلك سنّة الله إذا اشتدّ الظلام وطالت الشّقوة. وبلغ قلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يراه من جهل وجاهلية، وخرافة ووثنية، وتطلّعه إلى الإرشاد والهداية، من فاطر الكون وخالق السموات والأرض- ذروته، كأنّ حاديا يحدوه، فحبّب إليه الخلاء، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده، وكان يخرج من مكّة ويبعد، حتى تحسر عنه البيوت، ويفضي إلى شعاب مكة وبطونها وأوديتها، فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله! ويلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله وعن يمينه وشماله وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجارة «1» .   (1) سيرة ابن هشام: 1 ج، ص 234- 235. وقد جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لأعرف حجرا بمكة، كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث، إنّي لأعرفه الآن» (كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم) [برقم (2277) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وكان أوّل ما بدىء به، الرّؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصّبح «1» . في غار حراء: وكان يخلو- غالبا- بغار «حراء» ، فيمكث فيه ليالي متواليات، وكان يتزوّد لذلك، وكان يتعبّد ويدعو على الطريقة الإبراهيميّة الحنيفيّة والفطرة السليمة المنيبة إلى الله «2» . مبعثه- صلى الله عليه وسلم-: وكان في إحدى المرّات إذ جاءه اليوم الموعود لبعثته، وكان ذلك في رمضان (17 من رمضان «3» ، في السنة الحادية والأربعين من ميلاده، الموافق 6 أغسطس 610 م) في يقظة ووعي، فجاءه الملك وهو بحراء، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارىء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأخذني فغطني، حتى بلغ منّي الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطّني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطّني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «4» [العلق: 1- 5] .   (1) [أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي ... برقم (3) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (160) ، وأحمد في مسنده: (6/ 333) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (2) اقرأ حديث عائشة- رضي الله عنها- باب (كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) . (3) سيرة ابن كثير: ج 1 ص 392؛ رواية عن أبي جعفر محمد الباقر. (4) المصدر السابق ص 392. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وكان ذلك أوّل يوم من أيام النبوّة، وأول وحي من القرآن «1» . في بيت خديجة- رضي الله عنها-: وفزع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه لم يعهده ولم يسمع به، وقد طالت الفترة، وعهد العرب بالنبوّة والأنبياء بعيد، وخاف على نفسه، ورجع إلى بيته ترتعد فرائصه وقال: زمّلوني، زمّلوني، لقد خشيت على نفسي. وسألت خديجة- رضي الله عنها- عن السّبب، فقصّ عليها القصّة، وكانت عاقلة فاضلة، سمعت بالنبوّة والأنبياء والملائكة، وكانت تزور ابن عمّها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصّر، وقرأ الكتب، وسمع من أهل (التوراة) و (الإنجيل) ، وكانت تنكر من أهل مكّة ما ينكره أهل الفطرة السليمة والأذهان المستقيمة. وكانت من أعرف الناس بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكانها منه، وعشرتها له، واطّلاعها على السرّ والعلانية، وقد رأت من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وشمائله ما يؤكّد أنّه الرّجل الموفّق والمؤيّد من الله، المصطفى من خلقه، المرضيّ في سيرته وسلوكه، وأنّ من كانت هذه أخلاقه وسيرته، لا يخاف   (1) الغريب الذي يسترعي انتباه الفلاسفة والمفكّرين في العالم، والمؤرّخين للديانات والحياة العلمية، هو ذكر «القلم» في هذا الوحي الأول، الذي ينزل على أميّ يبعث في أمّة أميّة في بلد تعذّر فيه وجود القلم، ولم يجاوز عدد «الكتاب» (وهم المتعلّمون) عدد الأنامل، فدلّ ذلك على ربط هذه الديانة والأمة التي تدين بها وتحملها، بالقراءة والكتابة والاستعانة بالقلم، ربطا دائما وثيقا، بخلاف ديانات كثيرة سابقة، وكان ذلك سرّ انبثاق حركة علمية تأليفية عالمية، لا يوجد لها نظير في تاريخ الديانات والأمم. وكذلك كان ورود آية عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5] في هذا الوحي، حافزا على التوسع في آفاق العلم، والاكتشاف للمجهول، والترقّب للمزيد الجديد، وعدم إنكار حقائق علمية ثابتة لم تكتشف في العصور الماضية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 عليه لمّة من الشيطان، أو أن يكون به مسّ من الجنّ، وأنّ ذلك يتنافى مع ما عرفته من حكمة الله ورأفته في خلقه، فقالت في ثقة وإيمان وفي قوّة وتأكيد: «كلّا! والله ما يخزيك الله أبدا، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» «1» . بين يدي ورقة بن نوفل: وقد قالت ذلك خديجة، اعتمادا على العقل السليم، والفطرة الصحيحة، وعلى تجاربها في الحياة، ومعرفتها للنّاس. ولكنّ الأمر كان أعظم من هذا، وكان يحتاج إلى رجل له خبرة بالدّيانات وتاريخها، والنبوّات وسننها، ومعرفة بأهل الكتاب الذين عندهم أخبار الأنبياء وعلمهم. فرأت أن تستعين في ذلك بابن عمّها العالم «ورقة بن نوفل» فانطلقت برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورقة خبر ما رأى، فقال ورقة: «والّذي نفسي بيده إنّك لنبيّ هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، وإنّ قومك سيكذّبونك، ويؤذونك، ويخرجونك، ويقاتلونك» . وتعجّب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال ورقة: إنّهم سيخرجونك، لأنّه كان يعرف منزلته عند قريش، فلا ينادونه ولا يخاطبونه إلا ب «الصّادق» وب «الأمين» فقال متعجّبا: «أو مخرجيّ هم؟!» . قال ورقة: «نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عاداه النّاس   (1) [قد مرّ تخريج هذا الحديث على صفحة (180) الحاشية (1) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وحاربوه، وإن أدركت ذلك اليوم، وطالت بي الحياة، نصرتك نصرا مؤزّرا» «1» . وفتر الوحي زمانا، ثم تتابع، وبدأ القرآن ينزل. إسلام خديجة رضي الله عنها وأخلاقها: وآمنت به خديجة، فكانت أوّل من آمن بالله وبرسوله، وكانت بجواره، تؤازره، وتثبّته، وتخفّف عنه، وتهوّن عليه أمر الناس. إسلام علي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة رضي الله عنهما: ثمّ أسلم عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- وهو يومئذ ابن عشر سنين، وكان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، أخذه من أبي طالب في أيام الضائقة، وضمّه إليه «2» . وأسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد تبنّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . فكان إسلام هؤلاء شهادة أقرب النّاس إليه، وأعرفهم به، وبصدقه، وإخلاصه، وحسن سيرته، وأهل البيت أدرى بما فيه. إسلام أبي بكر بن أبي قحافة وفضله في الدعوة إلى الإسلام: وأسلم أبو بكر بن أبي قحافة، وكانت له منزلة في قريش، لعقله ومروءته واعتداله، وأظهر إسلامه، وقد كان رجلا محبّبا سهلا، عالما بأنساب قريش   (1) مقتبس من حديث عائشة، الجامع الصحيح للبخاري، باب «كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» [برقم (3) ] ، وسيرة ابن هشام: ج 1، ص 238. (2) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 245. (3) المصدر السابق: ج 1، ص 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وبأخبارها، وكان تاجرا، ذا خلق ومعروف، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام، من وثق به من قومه، ممّن يغشاه ويجلس إليه «1» . إسلام أشراف من قريش: وأسلم بدعوته أشراف من قريش، لهم مكانة وسؤدد، منهم عثمان بن عفّان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا «2» . وتلاهم رجال من قريش، لهم شرف ومكانة، منهم أبو عبيدة بن الجرّاح، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث بن المطّلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد، وخبّاب بن الأرتّ، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وصهيب، وغيرهم- رضي الله عنهم- «3» . ودخل الناس في الإسلام أرسالا من الرّجال والنّساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدّث به «4» . الدّعوة جهارا على جبل «الصّفا» : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفي أمره، ومضى على ذلك ثلاث سنوات، ثمّ أمره الله تعالى بإظهار دينه، وقال: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] . وقال: وَأَنْذِرْ   (1) سيرة ابن هشام ج 1: ص 249- 250. (2) المصدر السابق: ج 1 ص 250- 251. (3) المصدر السابق: ج 1، ص 252- 255. (4) المصدر السابق: ج 1، ص 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 214- 215] ، ووَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89] . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصعد على جبل «الصّفا» ونادى بأعلى صوته: «يا صباحاه» ، وكانت صيحة معروفة مألوفة، كلّما أحسّ إنسان بخطر عدوّ، يغير على بلد، أو على قبيلة، على غفلة منهما، نادى: «يا صباحاه» فلم تتأخّر قريش في تلبية هذا النداء، واجتمعوا إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث إليه رسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني كعب! أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، صدّقتموني؟!» . كان العرب واقعيّين عمليّين، إنّهم رأوا رجلا جرّبوا عليه الصّدق والأمانة والنصيحة، قد وقف على جبل يرى ما أمامه، وينظر إلى ما وراءه، وهم لا يرون إلّا ما هو أمامهم، فهداهم ذكاؤهم وإنصافهم إلى تصديق هذا المخبر الأمين الصّادق، فقالوا: نعم. ولمّا تمّت هذه المرحلة الطبيعية البدائية، وتحققت شهادة المستمعين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» «1» . الحكمة البليغة في الدعوة والتعليم: وكان ذلك تعريفا بمقام النبوّة، وما ينفرد به من علم بالحقائق الغيبية   (1) [أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب «وأنذر عشيرتك الأقربين» برقم (4770) و (4771) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ برقم (208) ، وأحمد (1/ 281) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 والعلوم الوهبية، وموعظة وإنذارا، في حكمة وبلاغة لا نظير لهما في تاريخ الديانات والنبوّات، فلم تكن طريق أقصر من هذا الطريق، ولا أسلوب أوضح من هذا الأسلوب. فسكت القوم، ولكنّ أبا لهب قال: «تبا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلّا لهذا؟!» «1» . وقد نبّه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكمة لا حكمة فوقها على أنّ العدوّ اللّدود كامن في نفوسهم، مترصّد في بيوتهم، وهو أولى بأن يخافوه ويأخذوا له عدّته، فالجهل عن خالق هذا الكون وربّ العالمين، وصفاته وأسمائه الحسنى، والوقوع في حبائل الشّرك والوثنية، وعبادة النفس والشهوات، والاسترسال إلى الأوهام والخرافات، وتعدّي الحدود، وانتهاك الحرمات، أكثر نفورا وأعظم خطرا من جيش مترصّد، وكتيبة كمينة «2» يحسبون لها كلّ حساب، ويفزعون لها كلّ فزع. إظهار قومه العداوة وحدب أبي طالب عليه: ولمّا أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة للإسلام، وصدع بالحقّ كما أمره الله تعالى، لم يبعد منه قومه، ولم يردّوا عليه حتى ذكر آلهتهم، وعابها، فلمّا فعل ذلك، أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته. وحدب على «3» رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّه أبو طالب، ومنعه وقام دونه،   (1) [قد سبق تخريجه في ص (185) ] أصل الحكاية في ابن كثير: ج 1؛ ص 455- 456، رواية عن الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس، قال وأخرجاه من حديث الأعمش به نحوه. (2) الكمين: القوم يستخفون في مكمن، ثم ينتهزون غرّة العدوّ فينهضون عليه. (3) [حدب عليه: أي عطف] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته وصدعه بالحق، لا يردّه عنه شيء، ومضى أبو طالب يحدب عليه ويذود عنه. فلمّا طال ذلك، مشى رجال من قريش إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلّل آباءنا، فإمّا أن تكفّه عنّا وإمّا أن تخلي بيننا وبينه، فإنّك على مثل ما نحن عليه، من دين وعقيدة. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردّهم ردّا جميلا، فانصرفوا عنه «1» . بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبي طالب: وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضّ بعضهم بعضا عليه، ومشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب! إنّ لك سنّا وشرفا ومنزلة فينا، وقد رجوناك أن تنهى ابن أخيك فلم تفعل، فإنّا والله لا نصبر أكثر مما صبرنا على شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، فإمّا أن تكفّه عنّا وإمّا أن ننازله وإيّاك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. وعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «يابن أخي! إنّ قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق» . لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري: وظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أبا طالب قد اضطرب في أمره، وضعف عن نصرته والقيام معه، فقال:   (1) سيرة ابن هشام: ج 1: ص 264- 265 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 «يا عمّ! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه، ما تركته» . واستعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، ثمّ قام، فلمّا ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يابن أخي! فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا «1» . تعذيب قريش للمسلمين: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله، ويئست قريش منه ومن أبي طالب، ونزل غضبهم على من كان أسلم من أبناء قبائلهم، وليس لهم من يمنعهم. فوثبت كلّ قبيلة على من فيهم من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب، والجوع، والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتدّ الحرّ. وكان بلال الحبشيّ- وقد أسلم- يخرجه مولاه أميّة بن خلف، إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثمّ يأمر بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ثمّ يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللّات والعزّى، فيقول- وهو في ذلك البلاء-: أحد، أحد «2» . فمرّ به أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فأعطى أمية غلاما أسود أجلد منه، وأقوى، وأخذ منه بلالا وأعتقه «3» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 265- 266 [وأخرج هذه القصة البيهقي في دلائل النبوة (2/ 187) وأبو يعلى في مسنده (12/ 176) ، والحاكم في المستدرك (3/ 577) بسياق آخر عن عقيل بن أبي طالب، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 15) : «رواه أبو يعلى باختصار يسير من أوّله، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح» ] . (2) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 317- 318. (3) [وقد أخرج هذه القصّة أبو نعيم في «الحلية» (1/ 149) ، وابن سعد في «الطبقات» - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأمّه- وكانوا أهل بيت إسلام- إذا حميت الظهيرة، يعذّبونهم برمضاء «1» مكة، فيمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: «صبرا آل ياسر! موعدكم الجنة» فأمّا أمّه فقتلوها، وهي تأبى إلّا الإسلام «2» . وكان مصعب بن عمير فتى مكة، شبابا وجمالا وتيها، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمّه غنية كثيرة المال، تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقّه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرميّ من النعال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكره ويقول: «ما رأيت بمكة أحسن لمّة «3» ولا أرقّ حلّة، ولا أنعم نعمة، من مصعب بن عمير» . وبلغ مصعب بن عمير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في دار أرقم بن أبي الأرقم، فدخل عليه، فأسلم، وصدق به، فخرج، فكتم إسلامه خوفا من أمّه وقومه، فكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّا، فبصر به عثمان بن طلحة يصلّي فأخبر أمّه وقومه، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوسا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثمّ رجع مع المسلمين، حين رجعوا، فرجع متغير الحال- قد حرج- يعني غلظ- فكفّت أمّه عنه من العذل «4» .   - (3/ 166) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما] . (1) [الرّمضاء: شدّة الحرّ، ويقال أيضا للحجارة التي حميت من شدّة وقع الشمس] . (2) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص: 319- 320 [وأخرج هذه القصة الطبراني في الأوسط من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال الهيثمي في المجمع (9/ 293) : رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوّم، وهو ثقة] . (3) [اللّمّة: شعر الرأس المجاوز شحمة الأذن، سمّيت بذلك لأنّها ألمّت بالمنكبين، فإذا زادت فهي الجمّة ( «النهاية في غريب الحديث» ج: 3، ص: 273) ] . (4) طبقات ابن سعد: ج 3، ص 82، والاستيعاب: ج 1، ص 288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وكان بعض المسلمين قد دخل في جوار بعض المشركين، من أشراف قريش ورؤسائهم، وكانوا يمنعونهم ويحمونهم. وكان عثمان بن مظعون قد دخل في جوار الوليد بن المغيرة، ثمّ أبت غيرته ذلك، فردّ عليه جواره، وكان وفيا كريم الجوار، وقال: قد أحببت ألا أستجير بغير الله، ودار بينه وبين أحد المشركين حديث أغضب المشرك، فقام إليه ولطم عينه، فخضرها والوليد بن المغيرة قريب يرى ذلك، فقال: أما والله يا بن أخي! إن كانت عينك عمّا أصابها لغنية، لقد كنت في ذمّة منيعة، قال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإنّي لفي جوار من هو أعزّ منك وأقدر، يا أبا عبد شمس «1» . ولمّا أسلم عثمان بن عفانّ- رضي الله عنه- أخذه عمّه الحكم بن أبي العاص بن أميّة، فأوثقه رباطا وقال: أترغب عن ملّة آبائك إلى دين محدث؟ والله! لا أحلّك أبدا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال عثمان: والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه، فلمّا رأى الحكم صلابته في دينه تركه «2» . ويقول خبّاب بن الأرتّ: لقد رأيتني يوما أخذوني فأوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما اتقيت الأرض- أو قال برد الأرض- إلا بظهري، ثم كشف عن ظهره، فإذا هو قد برص «3» .   (1) سيرة ابن هشام، ج 1؛ ص 370- 371 [وقد أخرج هذه القصة أبو نعيم في «الحلية» (1/ 103- 104) والبيهقي في «الدلائل» (2/ 292) والطبراني في «المعجم الكبير» (9/ 21- 24) برقم (8316) ] . (2) طبقات ابن سعد: ج 3، ص 37. (3) المصدر السابق: ج 3، ص 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 محاربة قريش لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتفنّنهم في الإيذاء: فلمّا لم تلق قريش نجاحا في صرف هؤلاء الفتيان الذين أسلموا، عن دينهم، ولم يلن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحابهم، اشتدّ عليهم ذلك، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءهم، فكذبوه وآذوه، ورموه بالسّحر والشّعر، والكهانة والجنون، وتفنّنوا في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهبوا فيه كلّ مذهب. وكان أشرافهم مجتمعين يوما في الحجر «1» ، إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرّ بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، وعادوا بذلك ثلاث مرّات، فوقف ثمّ قال: أتسمعون يا معشر قريش؟، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذّبح، فأسكت القوم، فلا حراك بهم، وصاروا يلاطفونه بالقول. فلمّا كان من الغد، وهم في مقامهم، طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، وأخذ رجل منهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر- رضي الله عنه- دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول: ربّي الله؟! فانصرفوا عنه، ورجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه، وقد جرّوه بلحيته «2» . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فلم يلقه أحد من الناس، إلا كذّبه وآذاه،   (1) الحجر: بكسر الحاء وسكون الجيم؛ هو الفضاء الواقع بين الحطيم وحائط البيت، ويسمونه ب «حجر إسماعيل» أيضا، والحطيم قوس من البناء طرفاه إلى زاوية البيت الشمالية والغربية، وكان «الحجر» أولا داخلا في الكعبة؛ فلما هدم السيل الكعبة بنتها قريش من جديد، وذلك قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بنحو خمس سنين، فقصرت بهم النفقة؛ فبنوا الكعبة على ما هي عليه الآن. (2) [أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متّخذا خليلا» برقم (3678) ، وأحمد (2/ 218) ، والبيهقي في «الدلائل» (12/ 274) من حديث عروة بن الزبير] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 لا حرّ ولا عبد، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فتدثّر من شدّة ما أصابه، فأنزل الله تعالى عليه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «1» [المدثر: 1] . ما فعل كفّار قريش بأبي بكر: وقام أبو بكر يوما في الناس، يدعو إلى الله وإلى رسوله، وثار المشركون على أبي بكر فوطىء، وضرب ضربا شديدا، وجعل عتبة بن ربيعة يضربه بنعلين مخصوفتين يحرفهما بوجهه حتى ما يعرف وجهه من أنفه. وحملت بنو تيم أبا بكر، وهم لا يشكّون في موته، وتكلّم آخر النهار، فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسّوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا، أو تسقيه إياه، فلمّا خلت به ألحّت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب، فخرجت حتى أتت أمّ جميل، فمضت معها، ودنت منه أمّ جميل وهي ممن أسلم فسألها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: هذه أمّك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: فإنّ لله عليّ ألا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا، حتى إذا هدأت الرّجل، وسكن الناس، خرجتا به يتّكىء عليهما، حتى أدخلتاه، ورقّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة فقال أبو بكر: بأبي وأمّي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال مني الفاسق من وجهي، وهذه أمّي برة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع لها عسى أن يستنقذها بك من النار، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمّه، ودعاها إلى الله، فأسلمت «2» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 289- 291، ورواه البخاري مختصرا في باب «ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة» . (2) سيرة ابن كثير: ج 1، ص 439- 441 [أخرج الحميديّ هذه القصة في مسنده، برقم (324) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 حيرة قريش في وصف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: وحارت قريش في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا يصفونه، وكيف يحولون بينه، وبين من يقصده، أو يستمع إليه، من الوافدين من بعيد، واجتمعوا إلى الوليد ابن المغيرة- وكان ذا سنّ فيهم وقد حضر الموسم- فقال لهم: يا معشر قريش! إنّه قد حضر هذا الموسم، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا، ويردّ قولكم بعضه بعضا، ودار بينهم حديث طويل وأخذ وردّ. ولم يرض الوليد بما عرضوه، ونقضه، فرجعوا إليه وقالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟! قال: إن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بسحر، يفرّق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل النّاس، حين قدموا الموسم، لا يمرّ أحد إلا وحذّروه إياه، وذكروا له أمره «1» . قسوة قريش في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبالغتهم في ذلك: وتفنّنت قريش، وقسوا في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرعوا فيه قرابة، وتخطّوا حدود الإنسانية. فبينا النبيّ صلى الله عليه وسلم ساجد- ذات يوم- في المسجد، وحوله ناس من قريش، إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور «2» ، فقذفه على ظهر النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يرفع   (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 270- 271- باختصار. (2) سلا: هو اللّفافة يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان؛ وهي من الآدمية المشيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 رأسه، فجاءت ابنته «فاطمة» - عليها السلام- فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع هذا، ودعا عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «1» . إسلام حمزة بن عبد المطلب: ومرّ أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم عند «الصّفا» فاذاه وشتمه، فلم يكلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف عنه. ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشّحا «2» قوسه، راجعا من قنص له، وكان أعزّ فتى في قريش، وأشدّ شكيمة، وأخبرته مولاة عبد الله بن جدعان بما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتمل حمزة الغضب، ودخل المسجد، ورأى أبا جهل جالسا في القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس، فضربه بها، فشجّه شجّة منكرة، ثمّ قال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول؟ فسكت أبو جهل، وأسلم حمزة، وعزّ ذلك على قريش لمكانته وشجاعته «3» . ما دار بين عتبة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولمّا رأت قريش أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون استأذن عتبة ابن ربيعة قريشا، أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكلّمه، ويعرض عليه أمورا، لعلّه يقبل بعضها، فيعطونها، ويكفّ عنهم، وأذنت له قريش، واستخلفته.   (1) رواه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] باب «ذكر ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة» [برقم (3854) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين ... برقم (1794) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه] . (2) متوشّحا: متقلّدا. (3) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 291- 292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وجاء عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليه، وقال: يابن أخي! إنّك منّا حيث قد علمت، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلّك تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد! أسمع» . قال: يابن أخي! إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا، جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا، سوّدناك علينا، حتّى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئيّا «1» تراه، لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك أطباء، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرّئك منه. فلمّا فرغ عتبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقد فرغت يا أبا الوليد؟» . قال: نعم. قال: فاسمع منّي. قال: أفعل. فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من سورة فُصِّلَتْ إلى السجدة، فلمّا سمع منه عتبة، أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره، معتمدا عليهما، يسمع منه، فلمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، سجد، ثمّ قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلمّا جلس إليهم، قالوا: ما وراءك   (1) رئيا: ما يتراءى للإنسان من الجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 يا أبا الوليد؟! قال: ورائي أنّي قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش! أطيعوني، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم «1» . هجرة المسلمين إلى الحبشة: ولمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وأنّه لا يقدر على أن يمنعهم، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكا، لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتّى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرجت عند ذلك جماعة من المسلمين إلى أرض الحبشة، فكانت أوّل هجرة في الإسلام، وكانوا عشرة رجال وأربع نسوة فيهم عثمان بن عفّان وزوجه رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّروا عليهم عثمان بن مظعون. ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون، حتّى اجتمعوا بأرض الحبشة، منهم من خرج بأهله، ومنهم من خرج بنفسه، وكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة ثلاثة وثمانين رجلا «2» . ولم تكن الغاية الوحيدة من الهجرة إلى الحبشة الخلاص من أذى قريش، بل كانت مقترنة بالدعوة إلى الإسلام والتخفيف من هموم النبيّ صلى الله عليه وسلم. واستعراض قائمة المهاجرين يدلّ على سعة الدائرة البشرية وتنوّعها   (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 293- 294 [وجاء من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال الهيثمي في المجمع (6/ 19- 20) : رواه أبو يعلى، وفيه الأجلح الكندي، وثّقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات] . (2) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 321- 330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 خريطة الهجرة إلى الحبشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وشمولها للطبقات والمستويات في المجتمع المكيّ، ففيها الغنيّ والفقير، والكهل والشّابّ، والرجال والنساء، وينتمي أغلبهم إلى أسر مكيّة عريقة، فدلّ على شدّة تأثير الدعوة وقوتها وشمولها. تعقّب قريش للمسلمين: ولمّا رأت قريش أنّ هؤلاء قد أمنوا واطمأنّوا بأرض الحبشة، بعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشيّ ولبطارقته «1» ، مما يستطرف من متاع مكّة، وقدما على النجاشيّ، وقد استمالا البطارقة، وأرضياهم بهداياهم، وتكلّما في مجلس الملك، فقالا: إنّه لجأ إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم إليهم، فهم أبصر بهم وأقرب إليهم، وقالت البطارقة حوله: صدقا أيّها الملك، فأسلمهم إليهما. فغضب النّجاشيّ، وأبى أن يقبل كلامهم، ويسلم من لجأ إليه وإلى بلاده، وحلف بالله، وأرسل إلى المسلمين، فدعاهم، ودعا أساقفته «2» ، وقال للمسلمين: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم؟ ولم تدخلوا في ديني ودين أحد من هذه الملل؟. تصوير جعفر بن أبي طالب للجاهلية وتعريفه بالإسلام: وقام جعفر بن أبي طالب- وهو ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:   (1) البطارقة: جمع بطريق، وهو القائد الحاذق بالحرب. (2) الأساقفة: علماء النصارى؛ والواحد: الأسقف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 «أيّها الملك! كنّا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتّى بعث الله إلينا رسولا منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده، ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرّحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدّماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزّور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصّلاة والزّكاة والصّيام- فعدّد عليه أمور الإسلام- فصدّقناه وآمنّا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان، من عبادة الله تعالى، وأن نستحلّ ما كنّا نستحلّ من الخبائث. فلمّا قهرونا، وظلمونا، وضيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيّها الملك!» . وسمع النجاشيّ كلّ ذلك في هدوء ووقار، ثمّ قال: هل معك ممّا جاء به صاحبكم عن الله من شيء؟. قال جعفر: نعم. قال النجاشيّ: فاقرأه عليّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 فقرأ جعفر صدرا من سورة مريم، فبكى النجاشيّ، حتى اخضلّت «1» لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم «2» . إنّ كلام جعفر بن أبي طالب أمام ملك الحبشة، وتصويره للإسلام، كلام حكيم قد جاء في أوانه ومكانه، وقد دلّ على بلاغة صاحبه العقلية، قبل أن يدلّ على بلاغته العربيّة البيانيّة، ولا يعلّل ذلك إلّا بإلهام من الله وتأييد هذا الدين الذي أراد الله أن يتمّ نوره، وأن يظهره على كلّ دين، ويدلّ كذلك على سلامة الفطرة، ورجاحة العقل، اللتين فاق فيهما بنو هاشم قريشا، وفاقت فيهما قريش العرب كلّهم، فقد فضّل جعفر أن يكون جوابه حكاية حال لما كان عليه أهل الجاهلية في الجزيرة العربية، ولما آل إليه أمرهم بعد ما أرسل الله رسوله فيهم، ودعا إلى الله وإلى الدين الحنيفي السمح، ومكارم الأخلاق، وآمنوا به واتّبعوه، وحكاية الحال- خصوصا إذا لم يجانب فيه صاحبها الصواب- أبعد شيء عن المناقشة والمناظرة، وأقدر شيء على غرس المعاني المقصودة، وتحقيق الأهداف المنشودة، والتهيّؤ للتأمّل والإنصاف وحسن الاستماع «3» . خيبة وفد قريش: ثمّ قال النجاشيّ: إنّ هذا والذي جاء به عيسى، يخرج من مشكاة واحدة، ثمّ أقبل على رسولي قريش، فقال: انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكم، ولا يكادون.   (1) اخضلت: ابتلت. (2) [أخرجه أحمد في المسند (1/ 202) و (5/ 290- 292) والبزار (1740) وانظر في مجمع الزوائد (6/ 24- 27) ] . (3) نقلا من «روائع من أدب الدعوة في القرآن والسيرة» للمؤلف، [انظر المحاضرة الثامنة بعنوان «تمثيل جعفر بن أبي طالب للإسلام ... » ] ص 107- 108 [وانظر «محاضرات إسلامية في الفكر والدّعوة» للعلامة المؤلّف، إعداد المحقّق، ج: 1، ص: 493، طبع دار ابن كثير] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وأطلق عمرو بن العاص آخر سهم من سهام جعبته، وهو سهم مسموم، فغدا على النجاشيّ من الغد، وقال له: أيها الملك! إنّهم ليقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأقبل الملك على المسلمين، فقال: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟. قال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه ما جاء به نبيّنا صلى الله عليه وسلم هو عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فضرب النجاشيّ بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثمّ قال: والله ما زاد عيسى ابن مريم على ما قلت مقدار هذا العود. وردّ المسلمين ردّا كريما، وأمّنهم، وأمر بردّ هدايا رسولي قريش، وخرجا من عنده مقبوحين «1» ، فأقام المسلمون بخير دار مع خير جار. وقد هاجم النجاشيّ عدوّ له، فانتصر المهاجرون المسلمون للنجاشيّ اعترافا بحسن موقفه من المهاجرين المضطهدين ومكافأته على حسن صنيعه «2» ، وكان ذلك مطابقا لتعاليم الإسلام الخلقيّة ولائقا بأخلاق المسلمين. وكانت هذه الهجرة إلى الحبشة سنة خمس بعد النبوّة، وقد بقي جعفر بن أبي طالب مع عدد من أصحابه إلى سنة 7 من الهجرة، فقد قدم جعفر بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر فكان بقاؤه في الحبشة خمس عشرة سنة، وهي مدّة طويلة، لا بدّ أنّ جعفرا قد انتفع بها في الدعوة إلى الإسلام، والتعريف به في بلد امتاز عن كثير من البلاد النصرانية بالتسامح وإيواء   (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 334- 338 باختصار. (2) راجع «مسند الإمام أحمد بن حنبل» (1/ 203) [و (5/ 290- 292) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 المضطهدين، وعرف حاكمه بالعدل والإنسانية، ولكنّ العهد لم يكن عهد تسجيل الحوادث، وليست أمامنا وثائق تاريخية تثبت ذلك، ولكنّ القياس يقتضيه. إسلام عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: وأيّد الله الإسلام والمسلمين بإسلام عمر بن الخطّاب العدويّ القرشيّ، وكان رجلا مهيبا، ذا قوّة وشكيمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على إسلامه، يدعو الله لذلك. وكان من خبر إسلامه أنّ أخته «فاطمة» بنت الخطاب أسلمت وأسلم بعلها سعيد بن زيد، وكانا يخفيان إسلامهما من عمر، لهيبته وشدّته على الإسلام والمسلمين، وكان خبّاب بن الأرتّ يختلف إلى فاطمة يقرئها القرآن. فخرج عمر يوما متوشّحا سيفه، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه، قد ذكر له أنّهم اجتمعوا في بيت عند «الصّفا» فلقيه نعيم بن عبد الله- وهو من قومه بني عديّ، وكان قد أسلم- فقال له: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدا هذا الصّابىء، الذي فرق أمر قريش، وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها، فأقتله. فقال له نعيم: لقد غرّتك نفسك يا عمر! أفلا ترجع إلى أهل بيتك، فتقيم أمرهم؟ قال عمر: وأيّ أهل بيتي؟! قال: ختنك وابن عمّك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطّاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ورجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خبّاب بن الأرتّ، ومعه صحيفة، فيها سورة طه يقرئها إيّاها، فلمّا سمعوا حسّ عمر، تغيب خبّاب في مخدع لهم «1» ، وأخذت فاطمة الصحيفة وجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خبّاب، فلمّا دخل، قال: ما هذه الهينمة «2» ؟. قالا له: ما سمعت شيئا. قال: بلى، والله لقد أخبرت أنّكما تابعتما محمّدا على دينه. وبطش عمر بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة، لتكفّه عن زوجها، فضربها فشجّها. فلمّا فعل ذلك، قالت له أخته وختنه: نعم، قد أسلمنا وآمنّا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك! ولمّا رأى عمر ما بأخته من الدم، ندم على ما صنع، وتوقّف وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر قارئا، فلمّا قال ذلك، قالت له أخته: إنّا نخشاك عليها. قال: لا تخافي، وحلف لها بالهته، فلمّا قال ذلك، طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي! إنك نجس على شركك وإنّه لا يمسّها إلا الطاهر. فقام عمر، فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها طه، فلما قرأ منها صدرا، قال: ما أحسن هذا الكلام، وأكرمه!.   (1) المخدع: البيت الصغير الذي يكون في البيت الكبير. (2) الهينمة: صوت كلام لا يفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فلمّا سمع ذلك خبّاب، خرج إليه، وقال له: يا عمر! والله إنّي لأرجو أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه، فإنّي سمعته أمس، وهو يقول: «اللهمّ أيّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام (يعني أبا جهل) أو بعمر بن الخطاب» فالله الله يا عمر «1» . عند ذلك قال له عمر: فدلّني يا خبّاب على محمّد، حتى آتيه فأسلم، قال خبّاب: هو في بيت عند الصفا، معه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه، فتوشّحه، ثمّ عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلمّا سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خلل الباب، فرآه متوشّحا بالسّيف. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع، فقال: يا رسول الله! هذا عمر بن الخطاب، متوشّحا السيف. فقال حمزة بن عبد المطلب: فائذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن جاء يريد شرّا قتلناه بسيفه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائذن له» ، فأذن له الرجل. ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته «2» ، أو بمجمع ردائه، ثم جبذه به جبذة شديدة، وقال: «ما جاء بك يابن الخطّاب؟، فو الله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة» . فقال عمر: يا رسول الله! جئتك لأؤمن بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند الله.   (1) [أخرج هذه القصة ابن سعد في الطبقات (3/ 267- 269) ، والبيهقي في «الدلائل» (2/ 219) ] . (2) الحجزة: موضع شد الإزار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 قال: فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف منها أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ عمر قد أسلم «1» . وعزّ المسلمون في أنفسهم، حينما أسلم عمر، وقد أسلم حمزة من قبل، وعرفوا وقع ذلك في نفوس الكفّار من قريش، وأثره في حياة مكة، ولم يكونوا على خطأ، فلم يستثقل المشركون إسلام أحد ولم يحسبوا له حسابا، مثل ما فعلوا عند إسلام عمر- رضي الله عنه-. وأعلن عمر إسلامه، وشاع ذلك في قريش، وقاتلوه وقاتلهم «2» ، حتى يئسوا منه «3» . مقاطعة قريش لبني هاشم والإضراب عنهم: وجعل الإسلام يفشو في القبائل، فاجتمعت قريش، وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب، على ألّا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعونهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، فلمّا اجتمعوا لذلك، كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا، وتواثقوا على ذلك، وعلّقوا الصحيفة في جوف الكعبة، توكيدا على أنفسهم. في شعب أبي طالب: فلمّا فعلت ذلك قريش، انحازت بنو هاشم وبنو المطّلب إلى أبي   (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 342- 346. (2) [أخرج ابن حبان قصة مقاتلة عمر لقريش، في الإحسان، برقم (6840) ، وقال الهيثمي في المجمع (9/ 65) : «رواه البزّار والطبراني باختصار، ورجاله ثقات، إلّا أنّ ابن إسحاق مدلّس» لكنّه صرّح بالتحديث، فإذا إسناده صحيح] . (3) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 349. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 طالب، فدخلوا معه في شعبه «1» ، وذلك في محرّم سنة سبع من النبوّة. وخرج من بني هاشم أبو لهب بن عبد المطّلب، وكان مع قريش. وأقام بنو هاشم على ذلك حتّى جهدوا من ضيق الحصار، وأكلوا ورق السّمر «2» ، وأطفالهم يتضاغون من الجوع، حتّى يسمع بكاؤهم من بعيد، وقريش تحول بينهم وبين التجار، فيزيدون عليهم في السّلعة أضعافا، حتّى لا يشتروها. ومكثوا على ذلك نحو ثلاث سنوات «3» ، لا يصل إليهم شيء إلا سرّا، ممن أراد صلتهم من قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا، وسرّا وجهارا، وبنو هاشم صابرون محتسبون. نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة: وقام نفر من قريش، من أهل المروءة والضّمائر، في مقدّمتهم هشام بن عمرو بن ربيعة، فكرهوا هذا التعاقد الظالم، وعافته نفوسهم، وكان هشام رجلا واصلا، وكان ذا شرف في قومه، فمشى إلى رجال من قريش، أنس فيهم الرقة والرجولة، فاستثار حميتهم وإنسانيتهم لنقض الصحيفة والخروج من هذا التعاقد الظالم، ولمّا كانوا خمسة اجتمعوا وتعاقدوا على نقض الصحيفة. فلمّا كانت قريش في أنديتها من غد، قام زهير بن أبي أميّة، وكانت أمّه «عاتكة» بنت عبد المطلب، وأقبل على الناس، قال: يا أهل مكّة! أنأكل   (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 350- 351. (2) [السّمر: ضرب من شجر الطّلح] . (3) فتح الباري: 7/ 373- 377. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع لهم ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشقّ هذه الصحيفة الظالمة. وتدخّل أبو جهل في الحديث، فلم يفد، وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقّها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلّا «باسمك اللهم» وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك أبا طالب، ومزقت الصحيفة وبطل ما فيها «1» . وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنهما: ومات أبو طالب وخديجة في عام واحد- العام العاشر من النبوّة- وهما من عرفنا من حسن الصحبة والوفاء والنصر والتأييد، ولم يسلم أبو طالب، وتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب «2» . وقع القرآن في القلوب السليمة: وقدم الطّفيل بن عمرو الدّوسيّ مكة، وكان رجلا شريفا، وشاعرا لبيبا، فحالت قريش بينه وبين رسول الله، وخوّفوه من الدّنوّ إليه، وسماع كلامه، وقالوا: إنّا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنّه ولا تسمعنّ منه شيئا. يقول الطّفيل: والله ما زالوا بي حتى أجمعت ألّا أسمع منه شيئا، ولا أكلّمه، حتى حشوت في أذني قطنا، وغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلّي عند الكعبة، فقمت منه قريبا، فأبى الله إلّا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: واثكل أمي! والله إنّي   (1) على ذلك يكون حصار الشعب قد بدأ في آخر العام السابع من البعثة، وتوفي أبو طالب في آخر السنة العاشرة من المبعث، (فتح الباري 7/ 194) . (2) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 415- 416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنا، قبلته، وإن كان قبيحا تركته. ودخل الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وحكى له القصّة، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وتلا عليه القرآن، فأسلم، ورجع إلى قومه داعيا إلى الإسلام، وأبى أن يساكن أهله حتى يسلموا، فدخلوا في الإسلام جميعا، ودعا دوسا إلى الإسلام، وفشا الإسلام فيهم «1» . وكان أبو بكر- رضي الله عنه- يعبد ربّه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ثمّ بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلّي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف «2» عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدّغنة الذي أجاره، فقدم عليهم، فقالوا: إنّا كنّا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربّه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنّا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فانهه فإن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربّه في داره، فعل، وإن أبى إلّا أن يعلن بذلك، فسله أن يردّ إليك ذمّتك، فإنا كرهنا أن نخفرك «3» ، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان. فلمّا أخبره ابن الدّغنة بما قالت قريش، قال أبو بكر: فإنّي أردّ إليك جوارك وأرضى بجوار الله «4» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 382- 384. ملخصا. (2) أي: يزدحمون حتى يسقط بعضهم على بعض. (3) الإخفار: هو نقض العهد. (4) رواه البخاري في الصحيح عن عائشة [في كتاب الكفالة، باب جوار أبي بكر في عهد- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الخروج إلى الطّائف وما لقي فيها من الأذى: ولمّا مات أبو طالب نال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش من الأذى ما لم تكن تطمع فيه قريش، في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا. ولمّا اشتدّ أذى قريش، وانصرافهم عن الإسلام، وزهدهم فيه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطّائف، يلتمس النصرة من ثقيف وأن يدخلوا في الإسلام، وكان له أمل في أهل الطائف «1» ، ولا غرابة في ذلك فإنّه رضع في بني سعد وهم بمقربة من الطائف وفيهم مراضعه وحواضنه. أضواء على الطائف: ولمّا كانت مدينة الطّائف هي المدينة الثالثة الكبيرة (بعد مكة ويثرب) التي سعدت بقدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم إليها، وقد كانت هذه الرحلة في سبيل الدعوة حدثا كبيرا، ليس في السيرة النبوية وحدها بل في تاريخ النبوات والدعوات وقد قصدها مرّتين، الأولى في شوّال في السنة العاشرة بعد البعثة، والثانية في شوال في السنة الثامنة بعد الهجرة- استحقّت- أكثر من مدينة أخرى في الجزيرة- أن تلقى عليها بعض الأضواء لتعرف مكانتها التاريخيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة، وإلى القارىء بعض المعلومات عنها: تقع مدينة الطائف على مسافة خمسة وسبعين ميلا تقريبا إلى الجنوب   - رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده، برقم (2297) ، وعبد الرزاق في المصنف برقم (9743) ، وأحمد في المسند (6/ 346) ] . (1) من المرجّح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى الطائف في أخريات شوال من السنة العاشرة (خاتم النبيين 1/ 580) للعلامة محمد أبي زهرة رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 خريطة طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الشرقيّ من مكة «1» ، وهي واقعة على ظهر جبل غزوان، ويبلغ ارتفاع هذا الجبل نحو ستة آلاف قدم «2» . واسم الطائف مأخوذ من السّور أو الحائط الذي كان يحيط ويطوف بالمدينة، وكان الاسم القديم لهذه المدينة هو «وجّ» «3» . وكان أثرياء قريش ووجوهها قد ابتنوا قصورا في الطائف، وكانوا يقضون فيها شهور الصيف القائظة. وكان للعبّاس بن عبد المطلب عقارات بالطائف، يقول البلاذريّ «4» : «كانت لعامّة قريش أموال بالطائف يأتونها من مكة فيصلحونها» . وأدّى الثراء الواسع إلى فساد اجتماعيّ، فاشتهر أثرياء الطائف بأنّهم أصحاب ربا وزنى وخمر، وانتشرت فيها صناعة الخمور وصناعة الزبيب، ودبغ الجلود، وصناعة العطور، وتوافرت فيها موارد المياه، وخصوبة الأرض، فكثرت البساتين، وطابت الثمار، وتنوعت الفواكه، وانتشرت الزراعة وغرس الأشجار، وهو الشأن إلى الآن. وكانت مصيفا للمتنعمين، وظلّت كذلك إلى العهد الإسلاميّ فما بعده، يقول الشاعر الأمويّ عمر بن أبي ربيعة: [من مجزوء الكامل] تشتو بمكّة نعمة ... ومصيفها بالطّائف   (1) جواد علي (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) : ج 4 ص 142، وذلك بالنسبة إلى الطريق القديم بين مكة والطائف، أما بعد أن فتح الطريق الجديد المعبّد بين مكة والطائف فلا تزيد المسافة على ثمانين كيلو مترا. (2) الإصطخري (المسالك والممالك، ص 24) أمّا ارتفاع مدينة الطائف فلا يزيد على خمسة آلاف قدم. (3) [وجّ: موضع بناحية الطّائف ( «النهاية في غريب الحديث» (5/ 154) ] . (4) فتوح البلدان: ص 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ولمّا كان أهل الطائف أصحاب أملاك وبساتين، وثراء ورخاء، أورثهم كلّ ذلك الكبر والبطر، وجعلهم مصداقا لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 34- 35] . وانفردت ثقيف بالسيادة في الطائف، وأصبحت من أعظم القبائل العربيّة، التي يضرب بقوّتها وثروتها المثل، وكانت من قبائل العرب المستعربة أي العرب العدنانية. وكانت بين ثقيف وقريش منافسة في مجال الدين، ورئاسة الأوثان وشعبيّتها، وكانت تنظر إلى وثنها (اللات) كمنافس لهبل، بل للكعبة، فأقامت حوله حرما، وأحاطته بنفس مظاهر التقديس وشعائر الدين، التي كانت مختصة بالكعبة. وحين زحف أبرهة بجيشه إلى مكة انفردت ثقيف بموقف التأييد له، وبعثت معه أبا رغال دليلا للجيش على الطريق إلى مكة، وقد مات هذا الدليل في الطريق، وأبغضه العرب ورجموا قبره «1» . وكان الثّقفيون أرغد العرب عيشا كما قال (ياقوت) ، وكان هواهم مع بني أمية، وقد التقوا على حبّ الثراء والجاه، والتوسّع في التجارة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قريش والأنصار حليفان، وبنو أميّة وثقيف حليفان» «2» . وكان عروة بن مسعود- وهو سيّد ثقيف- زوج آمنة بنت أبي سفيان،   (1) الكامل: لابن الأثير، ج 1، ص 260. (2) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: تأليف السيد محمود شكري الآلوسي، ج 3، ص 335 (الطبعة الثالثة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وكان له منها داود بن عروة «1» ، وذهب كثير من المفسّرين أنّه المعنيّ في قوله تعالى حكاية عن أهل مكّة: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «2» [الزخرف: 31] . وقد نبغ في ثقيف الحارث بن كلدة، وقد رحل إلى فارس، وتعلّم الطّبّ، واشتهر طبّه بين العرب، واشتهر بعده ابنه النضر وهو ابن خالة الرسول صلى الله عليه وسلم «3» ، وقد تجوّل في عدّة أقطار وصحب الأحبار والكهنة، وكان له إلمام بعلوم الفلسفة والحكمة، وأخذ الطبّ من أبيه، وكان النضر كثير العداء والحسد للنبيّ صلى الله عليه وسلم «4» . واشتهر فيهم أمية بن أبي الصّلت، وكان من الشّعراء المخضرمين الذين عاصروا الجاهلية والإسلام، اطلع على كتب القدماء وخاصة التوراة، وكان في مقدمة الحنفاء، فلمّا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في يده، وكفر به حسدا، وأخذ يحرّض على الرسول، ويرثي قتلى أعدائه في وقعة بدر، له في التوحيد والحكمة شعر كثير، وفيه يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «آمن شعره وكفر قلبه» «5» . وممّا يذكر لثقيف من الماثر أنّه ارتدّ غالب العرب بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا قريشا وثقيفا، يقول الحافظ ابن كثير: «وقد كانت ثقيف بالطائف ثبتوا على   (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 483. (2) الإصابة في تمييز الصحابة: للعلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني، ج 2، ص 477. (3) بلوغ الأرب: ج 3، ص 335. (4) المصدر السابق: ص 335. (5) بلوغ الأرب: ج 3، ص 121 [وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وكاد أميّة بن أبي الصّلت أن يسلم» أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية برقم (3841) ، ومسلم في كتاب الشعر، باب في إنشاد الأشعار ... برقم (2256) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الإسلام لم يفرّوا، ولا ارتدّوا» «1» ، وكان لهم أثر وبلاء في الحروب الإسلاميّة ومواقف بطولية محمودة. وقد قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف، إمّا لأنّه المركز الثاني للقوّة والسيادة في الحجاز بعد مكة، أو لأن أخواله من بني ثقيف، فرأى أن يخرج إلى الطائف، «يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه» «2» . وما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم- وهو ابن مكّة الواعي- يجهل الصّلات الوطيدة بين مكّة والطائف وتزاور أبنائهما، وإنّ أخبار تكذيب قريش له وتصدّيهم بالأذى قد بلغت الطائف، ولكنّه تجشّم هذه الرحلة حرصا على تبليغ الرسالة وانتشار الدعوة، وذلك يدلّ على علوّ همّته النبويّة وشدة توكّله على الله، وأمله في الفطرة البشريّة السليمة. وقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف في شهر شوال في السنة العاشرة بعد البعثة النبويّة «3» ، ويذكر ابن سعد «4» وابن الأثير «5» ، والمقريزي «6» ، أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد استصحب في رحلته إلى الطائف مولاه زيد بن حارثة «7» .   (1) البداية والنهاية: ج 6، ص 304. (2) الطبري: ج 2، ص 80. (3) إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع: ج 1، ص 27. (4) طبقات ابن سعد: ج 1، ص 95. (5) الكامل: ج 2، ص 63. (6) إمتاع الأسماع: ج 1، ص 27. (7) استفاد المؤلف في هذه الأضواء على الطائف من رسالة الدكتوراه للدكتورة نادية حسني صقر، (الطائف في العصر الجاهلي وصدر الإسلام طبع دار الشروق في جدة الطبعة الأولى 1981 م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 في الطائف: وكانت الطائف تلو مكة في الأهمية، واتساع العمران، ورفاهية السكان، ونقل القرآن مقالة الخصوم من قريش فقال: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] . وكانت مستقرّ عبادة (اللّات) وكان صنما يعبد ويحجّ إليه، وكانت تضارع في ذلك مكة التي كانت مستقرّ عبادة «هبل» صنم قريش الأكبر. فلمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف، عمد إلى نفر من سادة ثقيف وأشرافهم، فجلس إليهم، ودعاهم إلى الله، فكان ردّهم شرّ ردّ، واستهزؤوا به صلى الله عليه وسلم وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبّونه ويصيحون به، ويرجمونه بالحجارة، فعمد إلى ظلّ نخلة، وهو مكروب، فجلس فيه، وكان ما لقي في الطائف أشدّ ما لقيه من المشركين، وقعد له أهل الطائف صفّين على طريقه، فلمّا مرّ جعلوا لا يرفع رجليه إلا رموها بالحجارة، حتى أدموه، وهما تسيل منهما الدّماء، وفاض قلبه ولسانه بدعاء شكا فيه إلى الله ضعف قوته، وقلّة حيلته، وهوانه على الناس، واستعاذ بالله تعالى وبنصره وتأييده، فقال: «اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني «1» ؟ أم إلى عدوّ ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أنّ عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا   (1) [يتجهّمني: أي يستقبلني بوجه كريه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى «1» حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلا بالله» «2» . فأرسل الله إليه ملك الجبال، يستأذنه في أن يطبق الأخشبين «3» ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» «4» . ولمّا رآه عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وما لقي، تحرّكت لهما المروءة، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له «عدّاس» فقالا له: خذ قطفا من العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرّجل، فقل له يأكل منه، ففعل «عداس» ، وأسلم بما سمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى من أخلاقه «5» . وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى مكّة، وقومه أشدّ ما كانوا عليه من خلاف وعداء، وسخرية واستهزاء.   (1) [العتبى: الرّضا. يقال: يعاتب من ترجى عنده العتبى، أي: يرجى عند الرّجوع عن الذّنب والإساءة] . (2) [أخرج الطبرانيّ قصّة ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه، من حديث عبد الله بن جابر رضي الله عنه، كما في مجمع الزوائد (6/ 35) ] . (3) [الأخشبان: الجبلان المطيفان بمكّة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان، والأخشب: كلّ جبل خشن غليظ الحجارة (النهاية في غريب الحديث: 2/ 32) ] . (4) [أخرجه البخاريّ في كتاب بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء ... برقم (3231) ] ، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم من أذى المنافقين والمشركين [برقم (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (5) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 419- 422، وسيرة ابن كثير: ج 2، ص 149- 153، وزاد المعاد: ج 1، ص 302 (مجموعا ملخصا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الإسراء والمعراج ثمّ أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى «1» ، ومنه إلى ما شاء الله من القرب والدنوّ، والسير في السموات، ومشاهدة الآيات، والاجتماع بالأنبياء: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «2» [النجم: 17- 18] . فكانت ضيافة كريمة من الله، وتسلية وجبرا للخاطر، وتعويضا عما لقيه في الطائف من الذلّة والهوان، والجفاء والنكران. فلمّا أصبح غدا على قريش، فأخبرهم الخبر، فأنكروا ذلك، واستعظموه وكذّبوه، واستهزؤوا به، وأمّا أبو بكر فقال: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنّه ليخبرني أنّ الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه، فهذا أبعد ممّا تعجبون منه «3» .   (1) روى البيهقيّ عن ابن شهاب الزهري أنّ الإسراء كان في السنة التي قبل الهجرة، وروى الحاكم أن الإسراء كان قبل الهجرة لستة عشر شهرا، واختلفت الأقوال في الشهر الذي أسري به صلى الله عليه وسلم فيه، فقيل في ذي القعدة، وقيل في ربيع الأول، وقيل غير ذلك، والمشهور أن الإسراء كان في الليلة السابعة والعشرين من شهر رجب، وقد اختاره الحافظ ابن سرور المقدسي، وقد اتفقوا على أنها كانت بعد ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، (ملخّصا من كتاب «خاتم النبيين» للعلامة محمد أبو زهرة، ج 1، ص 596، الطبعة الأولى 1972 م) . وروي عن ابن سعد في المعراج أنه وقع ليلة السبت لسبع عشرة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا. عيون الأثر، ج 1، ص 146. (2) انظر كتب الحديث والسيرة. (3) سيرة ابن كثير: ج 2؛ ص 96، وسيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 399-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 معاني الإسراء والمعراج العميقة ومراميها البعيدة: ولم يكن الإسراء مجرّد حادث فرديّ بسيط رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى، وتجلّت له ملكوت السموات والأرض مشاهدة وعيانا، بل زيادة إلى ذلك اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معان عميقة دقيقة كثيرة، وإشارات حكيمة بعيدة المدى. فقد ضمّت قصة الإسراء وأعلنت السّورتان الكريمتان اللّتان نزلتا في شأنه وتسمّى سورة الإسراء وسورة النجم أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم هو نبيّ القبلتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكّة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى، وصلّى الأنبياء خلفه، فكان هذا إيذانا بعموم رسالته   - ذهب جمهور أهل السنة إلى أن الإسراء كان بالجسد والروح، وأن أقوى القرائن والدلائل على ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عندما أعلن ذلك بين قريش فتن بعض الذين أسلموا- وارتدّ من ارتد- كما رواه ابن كثير؛ ولو كان بالروح أو رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم، لما كان في ذلك غرابة، فالإنسان العادي يرى في المنام ما لا يصدقه الواقع ولا يخطر بخلد أحد، ولقد ألف الناس في كل زمان ومكان الرؤى الغريبة والأحلام العجيبة، ولا يسارعون إلى تكذيبها؛ وقد روي منها كل غريب وشحنت به كتب الديانات وأخبار العظماء والنساك، ولو كان ذلك مجرد عروج روحي؛ أو قصة منام؛ لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى إخبارهم بأن ذلك وحي أوحي به إليه، أو رؤيا رآها في المنام، فضموه إلى ما كانوا يسمعون منه صباح مساء، من وحي يوحى إليه وملك يأتيه فيكلمه، فما أثار تلك الدهشة التي أثارها والتساؤلات الكثيرة التي بعثها، فما هو بشيء جديد بالنسبة إليه. ومن شاء التوسّع في هذا الموضوع وتحقيق ما اشتمل عليه من أسرار وحقائق وحكم إلهية، وإشارات لطيفة؛ وفوائد تشريعية؛ في ضوء الكتاب والسنة والعقل السليم، فعليه بفصل «الإسراء إلى المسجد الأقصى ومنه إلى سدرة المنتهى» في كتاب «حجة الله البالغة» لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي المتوفى سنة 1176 هـ، ج: 2، ص 206- 207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وخلود إمامته وإنسانيّة تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان، وأفادت هذه السورة الكريمة تعيين شخصية النبيّ صلى الله عليه وسلم ووصف إمامته وقيادته وتحديد مكانة الأمة التي بعث فيها وآمنت به، وبيان رسالتها ودورها الذي ستمثله في العالم، ومن بين الشّعوب والأمم. وجاء الإسراء خطا فاصلا بين الناحية الضيّقة المحليّة المؤقّتة وبين الشخصيّة النبويّة الخالدة العالميّة، فإن كان الرسول- عليه الصلاة والسلام- زعيم أمة، أو قائد إقليم، أو منقذ عنصر، أو مؤسّس مجد، لم يكن في حاجة إلى الإسراء والمعراج، ولم يكن في حاجة إلى سياحة في عالم الملكوت، ولم يكن في حاجة إلى أن تتصل بسببه الأرض والسماء اتصالا جديدا، لقد كان له في أرضه التي يعيش فيها وفي محيطه الذي يكافح فيه، وفي مجتمعه الذي يسعى لإسعاده، غنى وسعة، لا يفكر في غيره، ولا يتجاوز إلى رقعة أخرى من الأرض فضلا عن السموات العلا، وسدرة المنتهى، وفضلا عن المسجد الأقصى الذي يبعد عن بلده بعدا كبيرا، والذي كان في ولاية الديانة المسيحيّة وحكومة الأمة الرومية القوية. وجاء الإسراء، وأعلن أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس من طراز القادة والزعماء الذين لا تتجاوز مواهبهم، وجهودهم، ودوائر كفاحهم حدود الشعوب والبلاد، ولا تسعد بهم إلا الشعوب التي يولدون فيها، والبيئات التي ينبعون منها، إنّما هو من جماعة الأنبياء والرّسل الذين يحملون رسالات السماء إلى الأرض، ويحملون رسالات الخالق إلى الخلق، وتسعد بهم الإنسانيّة على اختلاف شعوبها وطبقاتها وعهودها وأجيالها. فرض الصّلوات: وفرض الله عليه وعلى أمّته خمسين صلاة في كلّ يوم، وما زال رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 صلى الله عليه وسلم يسأله التخفيف، حتى جعلها الله خمس صلوات في كلّ يوم وليلة، من أدّاهنّ إيمانا واحتسابا كان له أجر خمسين صلاة «1» . عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل: وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب، يدعوهم إلى الإسلام، وإلى أن يمنعوه من الأعداء، ويقول: يا بني فلان! إنّي رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا به، وتصدّقوا به، وتمنعوني حتّى أبين عن الله ما بعثني به. فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، قام أبو لهب، فقال: يا بني فلان! إنّ هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللّات والعزّى من أعناقكم، وحلفائكم من الجنّ، إلى ما جاء به من البدعة والضّلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه «2» . الطريق إلى الإسلام: وكان الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام مفروشا بالأشواك، محفوفا بالمخاوف والأخطار، لا يهتدي إليه الباحث عن الحقّ إلا إذا خاطر بنفسه، وجازف بحياته، يدلّ على ذلك ما حكاه ابن عباس- رضي الله   (1) حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه؛ كتاب الصلاة؛ باب «كيف فرضت الصلاة» [برقم (3887) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم. برقم (164) ، وأحمد في المسند (4/ 208- 210) من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه] . (2) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 422- 423 [أخرجه أحمد مزيدا من التفصيل في مسنده (3/ 491- 492) ، والحاكم في المستدرك (1/ 15) ، والطبراني في المعجم الكبير (5/ 55) من حديث ربيعة بن عباد الديلي] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 عنهما- من قصّة قدوم أبي ذرّ الغفاريّ إلى مكّة ولقائه للرسول صلى الله عليه وسلم ودخوله في الإسلام: «عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- لمّا بلغ أبا ذر مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثمّ ائتني، فانطلق الأخ، حتى قدمه وسمع من قوله، ثمّ رجع إلى أبي ذرّ- رضي الله عنهما- فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني مما أردت. فتزوّد وحمل شنة «1» له، فيها ماء، حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، فرآه عليّ فعرف أنّه غريب، فلمّا رآه تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى أصبح، ثمّ احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظلّ ذلك اليوم، ولا يراه النبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمرّ به عليّ- رضي الله عنه- فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء. حتّى إذا كان اليوم الثالث، فعاد عليّ على مثل ذلك، فأقام معه، ثمّ قال: ألا تحدّثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنّني، فعلت، ففعل، فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ودخل معه، وسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى قومك، فأخبرهم حتّى يأتيك أمري، قال: والذي نفسي بيده لأصرخنّ بها بين ظهرانيهم، فخرج حتّى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله   (1) [الشّنّة: الأسقية الخلقة، وهي أشدّ تبريدا للماء من الجدد] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 إلا الله وأنّ محمدا رسول الله، ثمّ قام القوم، فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس، فأكبّ عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنّه من «غفار» وأنّ طريق تجّاركم إلى الشام عليهم، فأنقذه منهم، ثمّ عاد من الغد لمثلها فضربوه، وثاروا إليه فأكبّ العباس عليه» «1» .   (1) أخرجه البخاريّ [في كتاب مناقب الأنصار] ، باب إسلام أبي ذر رضي الله عنه، [برقم (3861) ، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه، برقم (2474) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الفصل الرابع الهجرة إلى المدينة إسلام الأنصار بيعة العقبة الأولى خصائص المدينة المنوّرة (يثرب) بيعة العقبة الثانية الإذن بالهجرة إلى المدينة تامر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الهجرة إلى المدينة بدء إسلام الأنصار: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم، فبينما هو عند العقبة، إذ لقي رهطا من الخزرج من الأنصار، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وكانوا جيران اليهود في المدينة، وكانوا يسمعونهم يخبرون بنبيّ قد أظلّ زمانه «1» ، فقال بعضهم لبعض: يا قوم! تعلمون والله أنّه النبيّ الذي توعّدكم به اليهود، فلا يسبقنّكم إليه، فأجابوه، وصدّقوه، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزّ منك «2» . وانصرفوا راجعين إلى بلادهم، وآمنوا، وصدّقوا، فلمّا قدموا المدينة ذكروا لإخوانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام، حتّى فشا فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم «3»   (1) [أظلّ زمانه: أي أقبل عليهم ودنا منهم، كأنّه ألقى عليهم ظلّه] . (2) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 428- 429 [وأخرجه البيهقيّ في «الدلائل» (2/ 433- 435) ، وأبو نعيم في «الدلائل» برقم (323) ] . (3) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 بيعة العقبة الأولى: حتّى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار، اثنا عشر رجلا (عشرة من الخزرج واثنان من الأوس) ، فلقوه بالعقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على التوحيد، والتعفّف من السّرقة والزّنى وقتل الأولاد والطاعة في المعروف «1» . فلمّا همّ القوم بالانصراف بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلّمهم الإسلام، ويفقّههم في الدين، فكان يسمّى «المقرىء» بالمدينة ونزل على أسعد بن زرارة، وكان يصلّي بهم «2» . سبب تهيّؤ الأنصار للإسلام: وكان من صنع الله تعالى لرسوله وللإسلام، أن هيأ الله الأوس والخزرج «3» - وهما قبيلتان عربيّتان عظيمتان في مدينة يثرب- لتقدرا هذه النعمة التي لا نعمة أعظم منها، وتسبقا أهل عصرهما، وأبناء الجزيرة، إلى الترحيب بالإسلام والدخول فيه، حين تنكّرت له قبائل العرب وفي مقدّمتها وعلى رأسها قريش وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213] . وقد ساعدت على ذلك عدّة عوامل، هي من خلق الله تعالى وتيسيره   (1) [انظر حديث عبادة بن الصامت عن «بيعة العقبة الأولى» أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ... برقم (3893) ، ومسلم في كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، برقم (1709) ، وأحمد في المسند (5/ 323) ] . (2) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 431- 434 ملخصا. (3) الأوس والخزرج من الأزد، الذين ينتمون إلى شعب قحطان، وقد عطف ثعلبة بن عمرو جدّهم نحو الحجاز بعد خراب سد مأرب سنة 120 ق، م، ثم سار نحو المدينة، كما سيأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وصنعه، كانت فارقة بين قريش وأهل مكة، وقبائل يثرب العربية، منها ما طبعها الله عليه من الرقّة واللّين وعدم المغالاة في الكبرياء وجحود الحقّ، وذلك يرجع إلى الخصائص الدمويّة والسّلالية التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد وفد من اليمن، بقوله: «أتاكم أهل اليمن أرقّ أفئدة وألين قلوبا» «1» وهما ترجعان في أصلهما إلى اليمن، نزح أجدادهم منها في الزمن القديم، يقول القرآن مادحا لهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] . ومنها أنّهما قد أنهكتهما الحروب الداخلية، وما يوم بعاث ببعيد «2» ، وقد اكتووا بنارها، وذاقوا مرارتها، وعافوها، ونشأت فيهم رغبة في اجتماع الكلمة، وانتظام الشّمل، والتفادي من الحروب، وذلك ما عبّروا عنه بقولهم: «إنّا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم،   (1) [أخرجه البخاريّ في كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، برقم (4388) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ... برقم (52) ، والترمذي في أبواب المناقب، باب في فضل اليمن، برقم (3935) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . (2) «يوم بعاث» : آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج، وبعاث موضع في نواحي المدينة، وكانت هذه الحرب من إيعاز اليهود في المدينة؛ ودخل مع القبيلتين قبائل من اليهود والعرب؛ ومكثوا أربعين يوما يتجهزون للحرب والتقوا في بعاث؛ واقتتلوا قتالا شديدا، وصبروا جميعا، وانهزمت الأوس في أول النهار ثم دارت الدائرة على الخزرج؛ ووضعت الأوس فيهم السلاح، ثم انتهوا عنهم، وأحرقت الأوس دور الخزرج؛ وأكثر الأنصار الأشعار في «يوم بعاث» (عن ابن الأثير ملخصا) وذلك قبل الهجرة، بخمس سنين في أصح الروايات (فتح الباري: ج 7، ص 85) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فعسى أن يجمعهم الله بك، فإن يجمعهم الله بك، فلا رجل أعزّ منك» ، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان يوم بعاث يوما قدمه الله تعالى لرسوله» . ومنها أنّ قريشا، وسائر العرب قد طال عهدهم بالنبوّات والأنبياء، وأصبحوا يجهلون معانيها بطول العهد، وبحكم الأميّة والإمعان في الوثنيّة، والبعد عن الأمم التي تنتسب إلى الأنبياء وتحمل الكتب السماوية- على ما دخل فيها من التحريف والعبث- وذلك ما يشير إليه القرآن بقوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس: 6] . أمّا الأوس والخزرج فكانوا يسمعون اليهود يتحدّثون عن النبوّة والأنبياء، ويتلون صحف التوراة ويفسّرونها، بل كانوا يتوعّدونهم به، ويقولون: إنّه سيبعث نبيّ في آخر الزمان، نقتلكم معه قتل عاد وإرم «1» ، في ذلك يقول الله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة: 89] . وبذلك لم تكن بين أبناء الأوس والخزرج وسكان المدينة من العرب المشركين تلك الفجوة العميقة الواسعة من الجهل والنّفور من المفاهيم الدينية والسّنن الإلهية التي كانت بينها وبين أهل مكة وجيرانهم من العرب، بل قد عرفوها وألفوها عن طريق اليهود، وأهل الكتاب الذين كانوا يختلطون بهم بحكم البلد والجوار والصلح والحرب والمحالفات، فلمّا تعرّفوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حضروا الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، ارتفعت الغشاوة عن   (1) تفسير ابن كثير: ج 1، ص 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 عيونهم، وكأنّهم كانوا من هذه الدّعوة على ميعاد. خصائص المدينة المنوّرة (يثرب) : وكان من حكمة الله تعالى في اختيار المدينة دارا للهجرة، ومركزا للدّعوة، عدا ما أراده الله من إكرام أهلها، وأسرار لا يعلمها إلّا الله، أنّها امتازت بتحصّن طبيعيّ حربيّ، لا تزاحمها في ذلك مدينة قريبة في الجزيرة، فكانت حرة «1» الوبرة مطبقة على المدينة من الناحية الغربية، وحرة واقم مطبقة على المدينة من الناحية الشرقية، وكانت المنطقة الشمالية من المدينة، هي الناحية الوحيدة المكشوفة (وهي التي حصّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سنة خمس في غزوة الأحزاب) وكانت الجهات الآخرى من أطراف المدينة محاطة بأشجار النّخيل والزّروع الكثيفة، لا يمرّ منها الجيش إلا في طرق ضيقة لا يتفق فيها النظام العسكريّ، وترتيب الصّفوف. وكانت خفارات عسكرية صغيرة، كافية بإفساد النظام العسكريّ ومنعه من التقدّم، يقول ابن إسحاق: «كان أحد جانبي المدينة عورة، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل، لا يتمكّن العدوّ منها» . ولعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذه الحكمة الإلهيّة في اختيار المدينة بقوله لأصحابه قبل الهجرة: «إنّي رأيت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين» »   (1) و «الحرة» أو «اللابة» منطقة سوداء من الحجارة النخرة المحترقة أو المؤلفة من السائل البركاني يمتنع فيها المشي بالأقدام، ومشي الإبل والخيل- فضلا عن مرور الجيش- وقد ذكر العلامة مجد الدين الفيروز آبادي (ت 823 هـ) في كتابه «المغانم المطابة في معالم طابة» في حرف الحاء: حرات كثيرة تحيط بالمدينة من عدة جوانب يدنو بعضها، ويبعد بعضها؛ وتحميها من الغزو من الخارج أو تحدث صعوبات وعراقيل في تحرك الجيوش (راجع الكتاب، ص 108- 114) . (2) أخرجه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ... [برقم- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة. وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة شكيمة، ألفوا الحرية، ولم يخضعوا لأحد، ولم يدفعوا إلى قبيلة أو حكومة، إتاوة أو جباية، وقد جاء ذلك صريحا في الكلمة التي قالها سعد بن معاذ- سيّد الأوس- لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا» «1» . يقول ابن خالدون: «ولم يزل هذان الحيّان قد غلبوا اليهود على يثرب، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في ملّتهم من جاورهم من قبائل مضر «2» . وجاء في «العقد الفريد» : «ومن الأزد الأنصار، وهم الأوس والخزرج وهما ابنا حارثة بن عمرو بن عامر، وهم أعزّ الناس أنفسا، وأشرفهم همما، ولم يؤدّوا إتاوة قطّ إلى أحد الملوك» «3» . وكان بنو عديّ بن النّجار أخواله دنيا «4» ، فأمّ عبد المطلب بن هاشم إحدى نسائهم، فقد تزوّج هاشم بسلمى بنت عمرو أحد بني عديّ بن النجّار، وولدت لهاشم عبد المطلب، وتركه هاشم عندها، حتّى صار غلاما دون   - (3905) ، وفي كتاب الكفالة، باب جوار أبي بكر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده، برقم (2297) ، وأحمد: (6/ 198) ، والحاكم: (2/ 3- 4) ووافقه الذهبي، والحديث إسناده صحيح] . (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 223. (2) تاريخ ابن خالدون: ج 2، ص 289. (3) العقد الفريد: ج 3، ص 334 (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة) . (4) هو ابن عمي دنية ودنيا ودنيا، أي لحّا (القاموس: دنا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 المراهقة، فذهب إليه عمّه المطلب، فجاء به إلى مكة، وكانت الأرحام يحسب لها حساب كبير في حياة العرب الاجتماعيّة، ومنهم أبو أيوب الأنصاريّ الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره في المدينة. وكان الأوس والخزرج من قحطان، والمهاجرون، ومن سبق إلى الإسلام في مكة وما حولها من عدنان، ولمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقام الأنصار بنصره، اجتمعت بذلك عدنان وقحطان تحت لواء الإسلام، وكانوا كجسد واحد، وكانت بينهما مفاضلة ومسابقة في الجاهليّة، وبذلك لم يجد الشيطان سبيلا إلى قلوبهم، لإثارة الفتنة والتعزّي بعزاء الجاهلية باسم الحميّة القحطانيّة أو العدنانية. فكانت مدينة (يثرب) - لكلّ ذلك- أصلح مكان لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتخاذهم لها دارا وقرارا، حتى يقوى الإسلام، ويشقّ طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثمّ يفتح العالم المتمدّن. انتشار الإسلام في المدينة: وجعل الإسلام يفشو في منازل الأنصار- الأوس والخزرج- وأسلم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وهما سيّدا قومهما، من بني عبد الأشهل من الأوس، بحكمة من أسلم قبلهما، وتلطفهم، وبحسن دعوة مصعب بن عمير- رضي الله عنه- وأسلم بنو عبد الأشهل عن آخرهم، ولم تبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها رجال ونساء مسلمون «1» . بيعة العقبة الثانية: ورجع مصعب بن عمير إلى مكة في العام القابل، وخرج عدد من   (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 436- 438 مختصرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 المسلمين من الأنصار مع حجّاج قومهم من أهل الشرك، حتّى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، فلمّا فرغوا من الحجّ، ومضى ثلث اللّيل، اجتمعوا في الشعب عند العقبة، وهم ثلاثة وسبعون رجلا، وامرأتان من النساء، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمّه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه. وتكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام ثمّ قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فبايعوه، واستوثقوا منه ألا يدعهم، ويرجع إلى قومه، فوعد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنا منكم وأنتم منّي، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم» . واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس «1» . إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة: ولمّا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحيّ من الأنصار على الإسلام، والنصرة له، ولمن اتبعه، فأوى إليهم عدد من المسلمين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ومن معه بمكة من المسلمين، بالخروج إلى المدينة، والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال: «إنّ الله عزّ وجلّ قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» فخرجوا أرسالا.   (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 441- 443 [انظر تفصيلات بيعة العقبة الثانية في «مسند أحمد» (3/ 322) ، وفي «السّنن الكبرى» للبيهقي (9/ 9) وفي «المستدرك» للحاكم (2/ 924- 925) وغيرهم أخرجوها من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر الإذن من الله في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة. ولم تكن هجرة المسلمين من مكة هيّنة سهلة تسمع بها قريش، وتطيب بها نفسا، بل كانوا يضعون العراقيل في سبيل الانتقال من مكة إلى المدينة، ويمتحنون المهاجرين بأنواع من المحن، وكان المهاجرون لا يعدلون عن هذه الفكرة، ولا يؤثرون البقاء في مكّة، مهما دفعوا من قيمة، فمنهم من كان يضطرّ إلى أن يترك امرأته وابنه في مكّة، ويسافر وحده، كما فعل أبو سلمة، ومنهم من كان يضطرّ إلى أن يتنازل عن كلّ ما كسبه في حياته وجمعه من ماله، كما فعل صهيب رضي الله عنه. قالت أمّ سلمة- رضي الله عنها-: لمّا أزمع أبو سلمة- رضي الله عنه- الخروج إلى المدينة، رحّل لي بعيره، ثم حملني عليه وجعل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثمّ خرج يقود بي بعيره، فلمّا رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده، وأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم. وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، ففرّق بيني وبين ابني وبين زوجي، فكنت أخرج كلّ غداة، فأجلس في الأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبا منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمّي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ فقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، فردّ بنو الأسد إليّ عند ذلك ابني، فارتحلت بعيري، ثمّ أخذت ابني فوضعته في حجري، ثمّ خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله، حتّى إذا كنت ب «التنعيم» لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدّار، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قلت: ما معي أحد إلّا الله وابني هذا. فقال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فو الله ما صحبت رجلا من العرب قطّ أرى أنّه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثمّ استأخر عنّي، حتّى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحطّ عنه، ثمّ قيده في الشجر، ثمّ تنحّى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح، قام إلى بعيري فقدّمه، فرحله، ثمّ استأخر عنيّ وقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري، أتى فأخذ بخطامه، فقادني حتّى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتّى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف ب «قباء» قال: زوجك في هذه القرية- وكان أبو سلمة بها نازلا- فادخليها على بركة الله، ثمّ انصرف راجعا إلى مكة. فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام، أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قطّ كان أكرم من عثمان بن طلحة «1» .   (1) وأسلم عثمان بن طلحة هذا بعد الحديبية، وهاجر، ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح مفاتيح الكعبة (ابن كثير؛ ج 2، ص 215- 217) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ولمّا أراد صهيب الهجرة، قال له كفّار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثمّ تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك! فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلّون سبيلي؟. قالوا: نعم. قال: إنّي قد جعلت لكم مالي. وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» «1» . وهاجر عمر بن الخطاب، وطلحة، وحمزة، وزيد بن حارثة، وعبد الرحمن بن عوف، والزّبير بن العوّام، وأبو حذيفة، وعثمان بن عفان، وآخرون- رضي الله عنهم أجمعين- وتتابعت الهجرة ولم يتخلّف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة غير من حبس وفتن، إلا عليّ بن أبي طالب، وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما- «2» . تامر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم التامر الأخير، وخيبتهم فيما أرادوا: ولمّا رأت قريش أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له أصحاب وأنصار في المدينة ولا سلطان لهم عليها، تخوّفوا من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وعرفوا أنّه إذا كان ذلك، فلا حيلة لهم فيه، ولا سبيل لهم عليه، فاجتمعوا في «دار النّدوة» وهي دار قصيّ بن كلاب، وكانت قريش لا تقضي أمرا إلّا فيها، يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع فيها أشراف قريش.   (1) ابن كثير نقلا عن ابن هشام: ج: 2، ص 223 [وأخرجه البيهقي في «الدلائل» (2/ 522- 523) ، والحاكم في «المستدرك» (3/ 400) وصحّحه ووافقه الذهبي] . (2) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 470- 479. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 واجتمع رأيهم أخيرا على أن يؤخذ من كلّ قبيلة فتى شابّ صاحب جلادة ونسب، فيها جموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضربوه ضربة رجل واحد، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، وتفرق القوم على ذلك، وهم مجمعون له. وأخبر الله رسوله بهذه المؤامرة، فأمر عليّ بن أبي طالب أن ينام على فراشه، متسجّيا ببردته، وقال: لن يخلص إليك شيء تكرهه. واجتمع القوم على بابه، وهم متهيّئون للوثوب، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ حفنة من تراب في يده، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم، وهو يتلو آيات من سورة يس من أوّلها إلى قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 9] . وأتاهم آت، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمدا. قال: خيّبكم الله، قد والله خرج وانطلق لحاجته. وتطلّعوا، فرأوا عليّا نائما على الفراش، فلم يشكّوا في أنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا أصبحوا قام عليّ- رضي الله عنه- عن الفراش، فخجلوا، وانقلبوا خائبين «1» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 480- 483 [وأخرجه أبو نعيم في «الدلائل» ص: (64) ، والطبري في تاريخه: (2/ 373) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 خريطة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 هجرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، فقال له: إنّ الله قد أذن لي في الخروج والهجرة، فقال أبو بكر: الصّحبة يا رسول الله! قال: «الصحبة» وبكى أبو بكر- رضي الله عنه- من الفرح، وقدّم أبو بكر راحلتين، كان قد أعدّهما لهذا السفر، واستأجر عبد الله بن أريقط، ليدلّهما على الطريق «1» . تناقض غريب: وكانت قريش- رغم عدائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورميه عن قوس واحدة- عظيمة الثقة بأمانته، وصدقه، وفتوته، فليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لثقته به، فكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير من هذه الودائع، فأمر عليا- رضي الله عنه- بأن يتخلّف بمكة حتّى يؤدّيها عنه «2» ، وصدق الله العظيم: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . درس من الهجرة: وقد أثبتت الهجرة النبوية أنّ الدعوة والعقيدة يتنازل لهما عن كلّ حبيب   (1) [أخرجه البخاريّ في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة برقم (3905) ، وعبد الرّزاق في مصنّفه برقم (9743) ، وأحمد في مسنده (6/ 346) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (2) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 484- 485. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وعزيز وأليف وأنيس وعن كلّ ما جبلت الطبائع السليمة على حبّه وإيثاره، والتمسّك به والتزامه، ولا يتنازل عنهما لشيء. وقد اقترن تاريخ الدعوات العظيمة والديانات القديمة بالحركة، حركة الأفراد أحيانا وحركة الجماعات أحيانا كثيرة. وقد كانت مكة- فضلا عن كونها مولدا ومنشأ للرسول وأصحابه- مهوى الأفئدة ومغناطيس القلوب، ففيها الكعبة البيت الحرام الذي جرى حبّه منهم مجرى الروح والدم، ولكنّ شيئا من ذلك لم يمنعه وأصحابه من مغادرة الوطن، ومفارقة الأهل والسكن، حين ضاقت الأرض على هذه الدعوة والعقيدة، وتنكّر أهلها لهما. وقد تجلّت هذه العاطفة المزدوجة- عاطفة الحنين الإنسانيّ وعاطفة الحبّ الإيمانيّ- في كلمته التي قالها مخاطبا لمكّة: «ما أطيبك من بلد وأحبّك إليّ، ولولا أنّ قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» «1» . وذلك عملا بقول الله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت: 56] . إلى غار ثور: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من مكة مستخفيين، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يتسمّع لهما ما يقول الناس فيهما بمكة، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهارا ويريحها عليهما ليلا، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام.   (1) أخرجه الترمذي [في أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: في فضل مكة، برقم (3926) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 من روائع الحبّ: ولم يزل الحبّ منذ فطر الله الإنسان ملهما للدقائق العجيبة، باعثا على الإشفاق على من تعلّق به القلب وأحبّته النفس، وهذا كان شأن أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة. وقد روي أنّه لمّا انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار ومعه أبو بكر، كان يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا بكر! ما لك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يديّ؟» فقال: يا رسول الله! أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثمّ أذكر الرّصد فأمشي بين يديك «1» . فلمّا انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله! حتّى أستبرىء لك الغار، فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان، ذكر أنّه لم يستبرىء الحجرة، فقال: مكانك يا رسول الله! حتى أستبرىء فدخل فاستبرأ، ثمّ قال: انزل يا رسول الله! فنزل «2» . ولله جنود السموات والأرض: ودخلا الغار، وبينما هما كذلك إذ بعث الله العنكبوت، فنسجت ما بين الغار والشجرة التي كانت على وجه الغار، وسترت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وأمر الله حمامتين وحشيتين، فأقبلتا تدفّان حتّى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة «3» ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفتح: 4] .   (1) البداية والنهاية: لابن كثير؛ ج 3؛ ص 180، نقلا عن البيهقي برواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (2) المصدر السابق، ج 3، ص 180. (3) رواه الحافظ ابن عساكر بسنده عن جماعة من الصحابة (ابن كثير؛ ج 2؛ ص 240- 241) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أدقّ لحظة مرّت بها الإنسانيّة: واقتفى المشركون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أدقّ لحظة مرّت بها الإنسانيّة في رحلتها الطويلة، وكانت لحظة حاسمة، فإمّا امتداد شقاء لا نهاية له، وإمّا افتتاح سعادة لا آخر لها، وقد حبست الإنسانية أنفاسها، ووقفت خاشعة حين وصل الباحثون إلى فم الغار، ولم يبق بينهم وبين العثور على منشودهم إلا أن ينظر أحدهم إلى تحت قدميه. ولكنّ الله حال بينهم وبين ذلك، فاختلط عليهم الأمر، ورأوا على باب الغار نسج العنكبوت «1» ، وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [التوبة: 40] . لا تحزن إنّ الله معنا: وبينما هما في الغار، إذ رأى أبو بكر آثار المشركين، فقال: يا رسول الله! لو أنّ أحدهم رفع قدمه، رآنا. قال: ما ظنّك باثنين الله ثالثهما «2» ؟ وفي ذلك يقول الله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] .   (1) [أخرجه أحمد في مسنده (1/ 348) ، وعبد الرزاق في مصنّفه (5/ 389) برقم (9743) ، والطبراني في الكبير برقم (12155) ، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 236) وقال: سنده حسن، وحسّن إسناده أيضا ابن كثير في السيرة (2/ 239) ] . (2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ [برقم (3653) ، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، برقم (2381) ، وأحمد في المسند (1/ 4) من حديث أبي بكر رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ركوب سراقة في أثر الرسول صلى الله عليه وسلم وما وقع له: وجعلت قريش في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فقدوه، مئة ناقة، لمن يردّه عليهم، ومكثا في الغار ثلاث ليال ثمّ انطلقا، ومعهما عامر بن فهيرة ودليل من المشركين «1» ، استأجره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بهم على طريق السواحل. وحمل سراقة بن مالك بن جعشم الطمع على أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويردّه على قريش، فيأخذ مئة ناقة منهم، فركب على أثره يعدو، وعثر به الفرس، فسقط عنه فأبى إلا أن يتبعه، فركب في أثره، وعثر به الفرس مرة ثانية، فسقط عنه، وأبى إلا أن يتبعه، فركب في أثره، فلمّا بدا له القوم رآهم، وعثر به الفرس مرة ثالثة، وذهبت يداه في الأرض، وسقط عنه، وتبعهما دخان كالإعصار. وعرف سراقة حين رأى ذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حماية الله تعالى، وأنّه ظاهر لا محالة، فنادى القوم، وقال: أنا سراقة بن جعشم، أنظروني أكلمكم، فو الله لا يأتيكم منّي شيء تكرهونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «قل له: وما تبتغي منّا؟» قال سراقة: تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك، فكتب عامر بن فهيرة كتابا في عظم أو رقعة «2» .   (1) [هو عبد الله بن أريقط كما ذكره العلّامة المؤلّف تحت عنوان: «هجرة الرسول إلى المدينة» ، وكما في «السيرة النبوية» لابن هشام: « ... فاستأجر عبد الله بن أرقط- كذا عند ابن هشام- رجلا بن بني الديل بن بكر ... وكان مشركا يدلّهما على الطريق، (ج 1، ص 417، طبع دار ابن كثير بدمشق) ] . (2) سيرة ابن هشام: ج: 1؛ ص 489- 490؛ ورواه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] ، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة باختلاف بعض الألفاظ [برقم 3906] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 نبوءة لا يسيغها العقل الماديّ: وفي هذه الحال التي اضطرّ فيها نبيّ الله إلى الهجرة، والخروج من مكّة، والقوم يطاردونه ويتبعون آثاره، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم البعيد الذي يطأ فيه أتباعه تاج كسرى وعرش قيصر، ويفتحون خزائن الأرض، فتنبأ في هذا الظلام الحالك بهذا النور الباهر، وقال لسراقة: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟» . إنّ الله قد وعد نبيّه بالنصر والفتح المبين، ولدينه بالظهور العامّ والفتح التامّ، وقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] . وقد أنكر ذلك قصار النظر وضعاف العقول، واستبعدته قريش، ولكنّ عين النبوة ترى البعيد قريبا إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران: 9] . وكان كذلك، فلمّا أتي عمر- رضي الله عنه- بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها «1» . وعرض عليه سراقة الزاد والمتاع، فلم يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزد أن قال: «أخف عنّا» «2» . رجل مبارك: ومرّا في مسيرهما بأمّ معبد الخزاعيّة، وكانت عندها شاة خلّفها الجهد عن الغنم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمّى الله، ودعا، فدرّت،   (1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لابن عبد البر، ج 2، ص 597. (2) أخرجه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم [برقم 3906] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فسقاها، وسقى أصحابه، حتى رووا، ثمّ شرب، وحلب فيه ثانيا، حتّى ملأ الإناء، فلمّا رجع أبو معبد، سأل عن القصّة، فقالت: لا والله إلا أنّه مرّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ووصفته له وصفا جميلا، قال: والله إنّي لأراه صاحب قريش الذي تطلبه «1» . ولم يزل يسلك بهما الدّليل، حتّى قدم بهما «قباء» ، وهي في ضواحي المدينة، وذلك في الثاني عشر من ربيع الأول، يوم الإثنين «2» . فكان مبدأ التاريخ الإسلاميّ.   (1) زاد المعاد، ج 2 ص 309 [وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 9- 10) وصحّحه، ووافقه الذهبي] . (2) رواه البخاري، [في كتاب مناقب الأنصار] باب «هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة» [رقم: 3906] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الفصل الخامس العهد المدنيّ تصوير المدينة المنوّرة عند الهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة: المؤاخاة- الصحيفة- المسجد الإذن بالقتال معركة بدر الحاسمة غزوة أحد غزوة الخندق غزوة بني قريظة غزوة بني المصطلق وحديث الإفك صلح الحديبية دعوة الملوك والأمراء إلى الإسلام غزوة خيبر غزوة مؤتة فتح مكة غزوة حنين غزوة الطائف غزوة تبوك عام الوفود حجة الوداع الوفاة أزواجه أمّهات المؤمنين وأولاده وأسباطه صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 تصوير المدينة عند الهجرة اختلاف بين المجتمع المكيّ والمجتمع المدنيّ: ولكي نأخذ صورة إجمالية صحيحة عن مدينة (يثرب) - التي اختارها الله دار هجرة للرّسول، ومنطلق الدعوة الإسلامية في العالم، ومهد أوّل مجتمع إسلاميّ يقوم بعد ظهور الإسلام- يجب أن نعرف وضعها المدنيّ، والاجتماعيّ، والاقتصاديّ، وصلة القبائل المقيمة فيها، بعضها ببعض، ومركز اليهود فيها، الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والحربيّ، والواقع الذي كانت تعيشه هذه المدينة الخصبة الغنية، التي التقت فيها ديانات، وثقافات، ومجتمعات مختلفة، بخلاف مكّة ذات الطبيعة الواحدة، والطابع الموحّد، والدين المشترك، وإلى القارىء بعض الأضواء. اليهود: المرجّح في ضوء التاريخ أنّ غالبية اليهود حلّوا بالجزيرة العربيّة بصفة عامة، ومدينة يثرب بصفة خاصة، في القرن الأول الميلاديّ، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون: «بعد حرب اليهود والرّومان سنة 70 م التي انتهت بخراب بلاد فلسطين، وتدمير هيكل بيت المقدس، وتشتّت اليهود في أصقاع العالم، قصدت جموع كثيرة من اليهود بلاد العرب كما حدّثنا عن ذلك المؤرّخ اليهوديّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 «يوسي فوس» الذي شهد تلك الحروب، وكان قائدا لبعض وحداتها.. وتؤيّد المصادر العربية كلّ هذا» «1» . وكانت في المدينة ثلاث قبائل كبيرة رئيسية من اليهود، بلغ عدد رجالها البالغين أكثر من ألفين، وهي: «قينقاع» و «النّضير» و «قريظة» ، ويقدّر أنّ رجال قينقاع المحاربين، بلغ عددهم سبعمئة، كما كان عدد رجال النّضير مثل هذا العدد، وكان الرجال البالغون من قريظة ما بين سبعمئة وتسعمئة «2» . وكانت العلاقة بين هذه القبائل الثلاث مضطربة متوتّرة، وقد يكون بعضهم حربا على بعض، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون: «قد كانت هناك عداوة بين بني قينقاع وبقية اليهود، سببها أنّ بني قينقاع كانوا قد اشتركوا مع بني الخزرج في يوم «بعاث» وقد أثخن بنو النّضير وبنو قريظة في بني قينقاع، ومزّقوهم كلّ ممزّق، مع أنّهم دفعوا الفدية عن كلّ ما وقع في أيديهم من اليهود، وقد استمرّت هذه العداوة بين البطون اليهودية بعد   (1) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام: للدكتور إسرائيل ولفنسون (أبو ذؤيب) ، ص 9؛ مطبعة الاعتماد القاهرة 1927 م. (2) استفيد في هذا التقدير مما جاء في سيرة ابن هشام من الأعداد عند الحوادث والحروب، كجلاء بني النضير، وقتل الرجال من بني قريظة، وغير ذلك من القرائن. و «قينقاع» و «النضير» و «قريظة» هي القبائل اليهودية الأم، ولها توابع يلتحقون بها، وينسبون إليها كبني هدل، التابعين لبني قريظة، كان منهم بعض كبار الصحابة الذين أسلموا من أهل الكتاب، وكبني زنباع وهم فرع من فروع بني قريظة، وقد جاءت أسماء لجماعات يهودية في العقد الذي تم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، كيهود بني عوف، ويهود بني النجار؛ ويهود بني ساعدة، ويهود بني ثعلبة، وبني جفنة، وبني الحارث، وغيرها، وقد جاء في هذا العقد بعد ذكر هذه الجماعات «إنّ بطانة يهود كأنفسهم» ؛ وذلك الذي حمل السمهودي صاحب كتاب «وفاء الوفا في أخبار دار المصطفى» على أن يقول: «إنّ يهود كانوا نيفا وعشرين قبيلة» ؛ (وفاء الوفا: ص 116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 يوم «بعاث» ، حتى وقعت الحرب بين الأنصار وبين بني قينقاع، فلم ينهض معهم أحد من اليهود في محاربة الأنصار. وقد أشار القرآن إلى عداوة اليهود فيما بينهم بقوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ «1» [البقرة: 84- 85] . وكانوا يعيشون في أحياء وقرى مختلفة خاصة بهم، فكانت بنو قينقاع يسكنون داخل المدينة في محلّة خاصة بهم، بعد أن طردهم إخوانهم بنو النّضير وقريظة من مساكنهم التي كانت خارج المدينة، وكانت مساكن بني النضير بالعالية بوادي «بطحان» على بعد ميلين أو ثلاثة من المدينة، وكانت عامرة بالنّخيل، والزّروع، وكانت بنو قريظة يسكنون في منطقة (مهزور) التي تقع على بعد بضعة أميال من جنوب المدينة «2» . وكانت لهم حصون، وآطام، وقرى، يعيشون فيها متكتّلين «3» مستقلّين، لم يتمكّنوا من إنشاء حكومات يحكمها اليهود، بل كانوا مستقلّين في حماية سادات القبائل ورؤسائها، يؤدّون لهم إتاوة في كلّ عام، مقابل حمايتهم لهم، ودفاعهم عنهم، ومنع الأعراب من التعدّي عليهم، وقد لجؤوا إلى عقد المحالفات معهم، وكان لكلّ زعيم يهوديّ حليف من   (1) اليهود في بلاد العرب: ص 129. (2) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: للدكتور محمد سيد الطنطاوي، ص 77. (3) [متكتّلين: أي متّحدين، ومتّفقين على رأى واحد] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الأعراب ومن رؤساء العرب «1» . وكانوا ينعتون أنفسهم بأنّهم أهل العلم بالأديان والشّرائع، وكانت لهم مدارس «2» يتدارسون فيها أمور دينهم، وأحكام شريعتهم، وأيامهم الماضية، وأخبارهم الخاصّة برسلهم وأنبيائهم، كما كانت لهم أماكن خاصة يقيمون فيها عباداتهم وشعائر دينهم، وكانت تسمّى «المدراس» وكان المكان الذي يتجمّع فيه اليهود لتبادل المشورة في سائر أحوالهم الدينية والدنيوية. وكانت لهم تشريعاتهم ونظمهم الخاصة بهم، أخذوا بعضها عن كتبهم، وبعضها وضعه لهم كهّانهم وأحبارهم من عند أنفسهم، وكانت لهم أعيادهم الخاصة بهم، وأيام خاصة، يصومون فيها، كيوم عاشوراء «3» . ويبدو أنّه ضعفت صلتهم بدينهم الأصيل والتعليمات التي جاءت في صحفهم، وأصبحوا على مرّ الأيام لا يتميّزون عن جيرانهم العرب، إلّا بأثارة من عقيدة التوحيد، وتمييز بين الحلال والحرام، ولمّا جاء الإسلام بعقيدة التوحيد النقيّة الحاسمة كما جاء في القرآن، زال تميّزهم في ذلك أيضا. وقد بلغوا غاية الإسفاف والتدنّي في الأخلاق، وأصبحوا يستعينون في قضاء ماربهم بأمور خفيّة مدسوسة كالسّحر، ودسّ السّمّ في الطعام، وتسلية النفس بالتنكيت والتوريب «4» ، واستعمال الكلمات الموهمة ذات المعنيين شأن المجتمعات الحاقدة المغلوبة على أمرها، وبراعة اليهود في فنون السّحر   (1) ملخّص من «تاريخ العرب قبل الإسلام» ج 7، ص 23 للدكتور جواد علي. (2) تحقّق من المصادر اليهودية أنّ هذه المدارس كانت مركزا للتعليم الديني العالي وكانت كالكليات والجامعات في عصرنا (راجع دائرة المعارف اليهودية) . (3) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: ص 80- 81. (4) التوريب: أن تورّي عن الشيء بالمعارضات والمباحات (لسان العرب والقاموس المحيط) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 والكهانة من الحقائق المسلّمة في التاريخ، وظلّ قادتهم وعلماؤهم يعترفون بذلك بشيء من التيه والافتخار، وأشار إلى ذلك القرآن بقوله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ... الخ [البقرة: 102] ، وقد ظلّ هذا الواقع باقيا إلى عهد الرسالة، يقول المستشرق اليهوديّ الشهير مارجليوث) Margoliouth (المعروف بتحامله على الإسلام وصاحب رسالته في كتابه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان هؤلاء اليهود بارعين في فنّ السّحر، وكانوا يفضّلون أسلحة الفنّ الأسود (السّحر) على القتال السّافر، والمبارزة في ساحة الحرب» «1» . وسيأتي في قصّة غزوة خيبر محاولة دسّ السّمّ في شاة مشويّة قدّمت للنبيّ صلى الله عليه وسلم للتخلّص منه، وسلم منه النبيّ صلى الله عليه وسلم ومات بشر بن البراء بن معرور «2» . وأمّا استخدام الكلمات المعروفة بطريقة خاصة وإرادة معانيها المستهجنة فقد جاء في القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 104] . أخرج أبو نعيم في (الدّلائل) عن ابن عباس رضي الله عنه أنّ اليهود كانوا يقولون: «راعنا» سرّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبّ قبيح بلسانهم، كانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين سدّا للباب وقطعا للألسنة، وإبعادا عن المشابهة، ومعنى هذه الكلمة عند اليهود اسمع-   D.S.Margoliouths Muhammad and The Rise of Islam ,p. 981. (1) (2) رواه البخاري [في كتاب المغازي] ، باب الشاة التي سمّت للنبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر [برقم (4249) ، ومسلم في كتاب السلام، باب السّمّ، برقم (2190) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في كتاب الطب، باب ما يذكر في سمّ النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (5777) ، وأحمد: (2/ 451) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 لا سمعت- وقيل: أرادوا نسبته صلى الله عليه وسلم- وحاشاه- إلى «الرّعن» مشتقّا من الرعونة وهي الجهل والحمق، والألف حينئذ لمدّ الصوت «1» . وروى البخاريّ بسنده عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان اليهود يسلّمون على النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقولون: «السّام عليك» «2» ويعنون به الموت، وفي الحديث «لكل داء دواء، إلا السّام» «3» أي: الموت، وفي ذلك نزلت الآية: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ «4» [المجادلة: 8] . وابتلوا كذلك بانحطاط خلقيّ جنسيّ، وتورّط فيما لا يليق بمجتمع فاضل متماسك يقوم على شريعة وتعليمات سماويّة، تجلّى ذلك في قصة امرأة من العرب وقعت في سوق بني قينقاع، وقد جلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده، إلى ظهرها، فلمّا قامت انكشفت سوءتها فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدّت اليهود على المسلم فقتلوه «5» ، ويبدو أنّ هذه الحادثة لم تكن فريدة من نوعها، ويتعذّر وقوعها في أسواق العرب غالبا. وكانت معظم معاملاتهم مع غيرهم تقوم على الرهان، وتعاطي الرّبا، وكانت لهم من طبيعة منطقة المدينة الزراعيّة فرصة إلى ذلك، لأنّ الزّرّاع   (1) روح المعاني: للعلامة شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي: ج 1، ص 348- 349. (2) رواه البخاري، في كتاب الدعوات [باب الرّفق في الأمر كلّه، برقم (6024) ، ومسلم في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام ... ، برقم (2165) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (3) مجمع بحار الأنوار: ج 3، ص 155. (4) راجع «روح المعاني» ، و «تفسير ابن كثير» . (5) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 عادة يحتاجون إلى اقتراض الأموال لحين الحصاد «1» . وكانت الرّهون لا تقتصر على الرهائن الماليّة، بل تخطّتها إلى رهن النساء والولدان، وقد جاء في قصّة قتل كعب بن الأشرف النّضري التي رواها الإمام البخاريّ- رحمه الله- في صحيحه، أنّه قال له محمد بن مسلمة: قد أردنا أن تسلفنا وسقا «2» أو وسقين، فقال: نعم، ارهنوني، قالوا: أيّ شيء تريد؟! قال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسبّ أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟! هذا عار علينا، ولكنّا نرهنك اللأمة «3» . ومن طبيعة هذه الرّهون خصوصا إذا كانت في الأبناء والنساء: نشوء الحقد والكراهة بين الراهنين والمرتهنين، لا سيّما وأنّ العرب اشتهروا بالغيرة الشديدة على نسائهم وشدّة الأنفة. وقد ترتّب على سيطرة اليهود على الجوانب الاقتصاديّة في المدينة وضواحيها أن قوي نفوذهم الماليّ، وصاروا يتحكّمون في الأسواق تحكّما فاحشا، ويحتكرونها لمصلحتهم ومنفعتهم، فكرههم السواد الأعظم من الناس بسبب أنانيتهم واشتطاطهم في أخذ الرّبا، وحصولهم على غنى وثراء بطرق يأنف العربيّ عن سلوكها والتّعامل بها «4» .   (1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 79. (2) [الوسق: مكيال معلوم، ستّون صاعا، والصّاع: مكيال تكال به الحبوب ونحوها، وهو عند فلّاحي الشام: نصف المدّ الشامي، أي: يعادل (9) لترات] . (3) رواه البخاري في كتاب المغازي، باب «قتل كعب بن الأشرف» [برقم (4037) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب قتل كعب بن الأشراف طاغوت اليهود، برقم (1801) ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه] . وقد سرد القصة ابن هشام باختلاف يسير في «السيرة النبوية» ج 2، ص 51. (4) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: ص 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ولما طبعوا عليه من الجشع، ولسياستهم التوسعيّة، يقول) De -Lacy OLeary (في كتابه «العرب قبل محمد» : «ساءت العلاقات بين أولئك البدو (المدنيين) «1» واليهود المستعمرين في القرن السابع الميلاديّ، فإنّهم كانوا قد وسّعوا مناطقهم المزروعة إلى مراعي هؤلاء البدو» «2» . وكانت علاقة اليهود بالأوس والخزرج- سكان المدينة العرب- خاضعة للمنفعة الشخصية والمكاسب الماديّة، فهم يعملون على إثارة الحرب بين الفريقين، متى وجدوا في إثارتها فائدة لهم، كما حصل ذلك في كثير من الحروب التي أنهكت الأوس والخزرج، وكان يهمّهم فقط أن تكون لهم السيطرة المالية على المدينة، وحديثهم عن النبيّ المرتقب شجّع الأوس والخزرج على الدخول في الإسلام «3» . أمّا لغة اليهود في بلاد العرب، فقد كانت العربية بطبيعة الحال، ولكنّها لم تكن خالصة، بل كانت تشوبها الرّطانة العبريّة، لأنّهم لم يتركوا استعمال اللغة العبرية تركا تاما، بل كانوا يستعملونها في صلواتهم ودراساتهم «4» . أمّا الجانب الدينيّ والدعويّ فيقول الدكتور إسرائيل ولفنسون: «لا شكّ أنّه كان في المقدرة اليهوديّة أن تزيد في بسط نفوذها الدينيّ بين   (1) المراد بهم القبائل العربية؛ مثل الأوس والخزرج ومن جاورهم من العرب في ضواحي المدينة. Arabia Before Mohammad ,London 7291 p. 471. (2) (3) مستفاد من كتاب «بنو إسرائيل في القرآن والسنة» للدكتور محمد سيد طنطاوي، ج: 1، ص 73 إلى 101. (4) مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول: للأستاذ أحمد إبراهيم الشريف، ص 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 العرب، حتى تبلغ منزلة أرقى مما كانت عليه لو توافرت عند اليهود النية على نشر الدعوة الدينية بطريقة مباشرة، ولكنّ الذي يعلم تاريخ اليهود يشهد بأنّ الأمة الإسرائيلية لم تمل بوجه عام إلى إرغام الأمم على اعتناق دينها، وأنّ نشر الدعوة الدينيّة من بعض الوجوه محظور على اليهود» «1» . عجز اليهود كعادتهم أن يكيّفوا أنفسهم ومجتمعهم بالحقائق والواقع والتطوّرات الحديثة، ويفهموا التحدّي الحديث وينتفعوا بالفرصة المتاحة ويدينوا بالإسلام، فيأخذوا مكانهم اللّائق بثقافتهم وعقليتهم وتجاربهم والقوى المودعة فيهم، وذلك مصير كلّ مجتمع يعيش على التاريخ، والإدلال بالنسب والتمنّيات والأحلام المعسولة، ورواسب الماضي والقيادات المفلسة المنهارة. إنّ اليهود لم يستطيعوا أن يبرزوا وجودهم، ويثبتوا صلاحيتهم وتفوّقهم كأمّة ذات رسالة وكتاب سماويّ، وكورثة الأنبياء السابقين وذرّيتهم، فلم يزعجهم ولم يحرّك ساكنهم ما كان عليه العرب من وثنيّة سخيفة وجاهلية منحطة، ولم يدعوا- على الأقلّ- إلى عقيدة التوحيد التي تميّزوا بها عبر العصور والأجيال، ورغم الانحطاط الخلقيّ ومواضع الضعف فيهم، ولعلّ السبب الرئيسيّ هو عدم ارتياحهم إلى دعوة غير الإسرائيليين إلى دين الأنبياء، بل امتناعهم عن ذلك عبر التاريخ- كما يقول (إسرائيل ولفنسون) وكما قالت السيدة مريم جميلة اليهودية الأمريكية سابقا، والمهتدية إلى الإسلام: ثمّ الإخلاد إلى الراحة والانغماس في الكسب والمعيشة، كما هي طبيعة اليهود. ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ عددا من العرب المنتمين إلى الأوس والخزرج وغيرهما من القبائل العربية الأصيلة، دانوا باليهودية عن رغبة منهم، أو بتأثير   (1) راجع «اليهود في بلاد العرب» لإسرائيل ولفنسون، ص 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 المصاهرة والزواج، أو بحكم النشأة في البيئة اليهودية، وقد كان في يهود العرب جميع هذه الأنواع، وقد ثبت أنّ التاجر اليهوديّ الكبير والشاعر المشهور كعب بن الأشرف الذي يعرف بالنّضريّ كان من قبيلة «طيىء» تزوّج أبوه في «بني النضير» ، فنشأ كعب بن الأشرف يهوديا متحمّسا. قال ابن هشام: «وكان رجلا من طيىء، ثم أحد بني نبهان، وكانت أمّه من بني النّضير» «1» . وكان بعض من لا يعيش له ولد من العرب ينذر، إذا ولد له ابن وعاش هوّدوه، وكان في المدينة عدد من العرب الذين دخلوا في اليهوديّة عن هذا الطريق. روى الإمام أبو داود السّجستاني بسنده عن ابن عباس قال: «كانت المرأة تكون مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد، أن تهوّده، فلمّا أجليت بنو النّضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] . قال أبو داود: المقلات: التي لا يعيش لها ولد» «2» . الأوس والخزرج: تنتمي بطون الأوس والخزرج- سكّان المدينة العرب- إلى القبائل الأزدية اليمنيّة، وكانت موجات هذه الهجرة من اليمن إلى يثرب متفرّقة في أوقات مختلفة، وكانت لعوامل متعدّدة، منها اضطراب أحوال اليمن وغزو الأحباش، وإهمال أمر الإرواء، بخراب سدّ «مأرب» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 2؛ ص 51. (2) راجع: سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب «في الأسير يكره على الإسلام» [برقم (2682) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وعلى هذا فالأوس والخزرج أحدث عهدا في المدينة من اليهود «1» . وقد سكنت بطون الأوس في المنطقة الجنوبية والشرقية، وهي منطقة العوالي من يثرب، بينما سكنت بطون الخزرج المنطقة الوسطى الشمالية، وهي سافلة المدينة، وليس وراءهم شيء في الغرب إلى خلاء حرة الوبرة «2» . وانقسم أمر الخزرج إلى أربعة أبطن، وهم: مالك، وعديّ، ومازن، ودينار، كلّها من بني النجّار المعروف ب «تيم اللات» ، وقد سكنت بطون بني النجار في المنطقة الوسطى التي حول مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقد سكن الأوس المناطق الزراعية الغنية في المدينة، وجاوروا أهمّ قبائل اليهود وجموعهم، واستوطن الخزرج مناطق أقلّ خصبا، وقد جاورهم قبيلة يهوديّة كبيرة واحدة، وهي «القينقاع» «3» . ليس من السّهل الحصول الآن على إحصاء دقيق عن عدد رجال الأوس والخزرج، ولكنّ الباحث المتتبع للحوادث يستطيع تحديد قوّتهم الحربية من المعارك التي خاضوها بعد الهجرة، فقد بلغ عدد محاربيهم في يوم فتح مكة أربعة آلاف مقاتل «4» . وكان العرب في وقت الهجرة النبويّة أصحاب الكلمة العليا في يثرب، وبيدهم كان توجيه الأمور بها، ولم يستطع اليهود مقابل ذلك أن يجمعوا كلمتهم، ويقفوا صفّا واحدا في وجه خصومهم، فتفرّقت بطونهم، ودخل   (1) راجع «مكة والمدينة» ؛ ص 315- 316. (2) مكة والمدينة: ص 311. (3) المصدر السابق: ص 313. (4) إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع: لتقي الدين أبي محمد المقريزي، ج 1، ص 364 (طبع القاهرة 1941 م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 بعضها في محالفات مع الأوس، ودخل بعضها في محالفات مع الخزرج، وكانوا في القتال أقسى على بني جنسهم من العرب، واستحكم عداء بين بني القينقاع وبني النّضير وبني قريظة، جعل بني قينقاع يتركون أرضهم وزرعهم، ويقتصرون على الصناعة «1» . ووقعت كذلك بين الأوس والخزرج حروب كثيرة، أوّلها حرب سمير، وآخرها بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات «2» . وقد عمل اليهود بجانبهم على الدسّ بين الأوس والخزرج وتشجيع عوامل الفرقة، وإذكاء روح التحاسد، حتى يشغلوهم بأنفسهم عنهم «3» ، وقد أدرك العرب منهم ذلك فلقبوهم ب «الثعالب» . الوضع الطبيعيّ: كانت يثرب عند الهجرة النبويّة منقسمة إلى عدّة دوائر، تسكنها بطون عربيّة ويهوديّة، وكل دائرة تابعة لبطن من البطون، وكانت الدائرة تنقسم إلى قسمين: يشتمل القسم الأول على الأراضي الزراعيّة بمنازلها وسكانها، ويشتمل القسم الثاني على الأطم «4» أو الآطام «5» . وقد بلغ عدد آطام اليهود في يثرب تسعة وخمسين أطما «6» ، ويقول الدكتور ولفنسون في وصف هذه الآطام:   (1) مكة والمدينة: ص 322. (2) المصدر السابق: ص 322- 323. (3) راجع القصة التي رواها ابن هشام: ج 1، ص 555. (4) [الأطم جمعه: الآطام: وهو الحصن، انظر تفسيره في الصفحة القادمة] . (5) مستفاد من كتاب «تاريخ اليهود في بلاد العرب» للدكتور إسرائيل ولفنسون، ص 116. (6) وفاء الوفا في أخبار دار المصطفى (صلى الله عليه وسلم) : للسمهودي، ج 1، ص 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 «كانت أهمية الآطام عظيمة في يثرب، فكان يفزع إليها أفراد البطن عند هجوم العدوّ، ويأوي إليها النساء والأطفال والعجزة، حين يذهب الرجال لمقاتلة الأعداء، وقد كانت الآطام تستعمل كالمخازن تجمع فيها الغلال والثّمار، ذلك أنّها كانت معرضة في أماكنها المكشوفة للنّهب والسلب، وكان الأطم مربعا لكنز الأموال والسّلاح، وكان للقوافل المثقلة بالبضائع أن تنزل بالقرب منه، كما كانت تقام على أبوابه الأسواق. وكانت الآطام تشتمل- كما نظنّ- على المعابد وبيوت «المدراس» ، إذ كانت فاخرة الأثاث، كثيرة الأدوات، مملوءة بالأسفار، فكان يجتمع فيها الزّعماء للبحث والمشاورة حيث يقسمون بالكتب المقدّسة، حين يهمّون بإبرام العقود والاتفاقات» «1» . ويقول الدكتور (ولفنسون) في تفسير كلمة «أطم» : «أنّها مأخوذة من اللغة العبريّة، فيقال أطم عينيه: أغمضهما، وأطم أذنيه: سدّهما، والأطم في الجدران والحيطان: هي النوافذ المغلقة من الخارج، والمفتوحة من الداخل، ويستعمل في السّور أي الحائط الضخم» . يقول الدكتور: «وعلى ذلك يمكننا أن نفترض أنّ اليهود أطلقوا على الحصن اسم أطم، لأنّه كان في إمكانهم أن يغلقوا أبوابه، وإن كانت له نوافذ من الخارج وتفتح من الداخل» «2» . ومن هذه الأحياء والدّوائر المحصّنة كانت تتكوّن مدينة (يثرب) ، فهي   (1) اليهود في بلاد العرب: ص 116- 117. (2) المصدر السابق: ص 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 في الحقيقة مجموعة من القرى تقاربت وتجمّعت، فتكوّنت منها المدينة، وإلى ذلك أشار القرآن بقوله: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [الحشر: 7] . وبقوله: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ «1» [الحشر: 14] . و (حرّة واقم) التي تحدّ المدينة من الشّرق، كانت حرة أكثر عمرانا من الوبرة، وحين هاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى يثرب، كانت حرة واقم مسكونة بأهمّ قبائل اليهود من بني النّضير وقريظة، وعدد من عشائر اليهود الآخرى، كما كانت تسكنها أهمّ البطون الأوسيّة بنو عبد الأشهل، وبنو ظفر، وبنو حارثة، وبنو معاوية، وفي منازل بني الأشهل كان يقوم حصنهم واقم، الذي سمّيت الحرة باسمه «2» . الحالة الدينيّة والمكانة الاجتماعيّة: كان العرب تابعين لقريش وأهل مكة في العقيدة والديانة، ينظرون إلى قريش كسدنة للبيت، وقادة في الدين، وقدوة في الاعتقاد والعبادة، خاضعين للوثنيّة السائدة على جزيرة العرب، يعبدون من الأصنام ما تعبدها قريش وأهل الحجاز، إلّا أنّ علاقتهم ببعض الأصنام كانت أقوى من علاقتهم ببعضها. فكانت «مناة» لأهل المدينة، وكانت أقدم الأصنام، وكان الأوس والخزرج أشدّ إعظاما لها من غيرهم، وكانوا يهلّون لها شركا بالله تعالى، وكانت حذو «قديد» الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل.   (1) مكة والمدينة: ص 294. (2) منزل الوحي: للدكتور محمد حسين هيكل، ص 577. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 كما كانت اللّات لأهل الطائف، و «العزّى» لأهل مكّة، وكان أهل هذه المدن أكثر تعصّبا وحميّة لها من غيرها، وكان من اتّخذ في داره صنما من أهل المدينة من خشب أو غيره يسمّيه «مناة» أيضا، كما فعل ذلك عمرو بن الجموح سيّد من سادات بني سلمة قبل أن يسلم «1» . وقد جاء في حديث رواه الإمام أحمد عن عروة عن عائشة في تفسير قوله تعالى: * إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة: 158] . قالت: إنّ الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلّون «لمناة» الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهلّ لها يتحرّج أن يطوف بالصّفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنّا كنّا نتحرّج أن نطوف بالصّفا والمروة في الجاهليّة، فأنزل الله عزّ وجلّ: * إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «2» [البقرة: 158] . ولم نطّلع على صنم لهم خاصّ في المدينة اشتهر كاللّات ومناة، والعزّى، أو كهبل، يعكفون على عبادته، ويشدّ إليه الرّحال من خارج المدينة، ويبدو أنّ الأصنام لم تنتشر في المدينة انتشارها في مكّة، فقد كان لكلّ بيت في مكة صنم خاصّ، وكانت الأصنام يطاف بها وتباع، فكانوا في الوثنيّة عيالا على أهل مكة وأتباعا لهم. وكان لأهل (المدينة) يومان يلعبون فيهما، فلمّا قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة   (1) مستفاد من «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» للعلامة السيد محمود شكري الآلوسي؛ ج 1، ص 346، ج 2، ص 208. (2) [أخرجه البخاري في كتاب العمرة، باب يفعل بالعمرة ما يفعل بالحجّ، برقم (1790) ، ومسلم في كتاب الحج، باب بيان أنّ السّعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلّا به، برقم (1277) ، وأبو داود في كتاب المناسك، باب أمر الصفا والمروة، برقم (1901) ، والترمذي في تفسير القرآن، برقم (2965) ، وأحمد (6/ 144- 162) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 قال لهم: «قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرا منهما، يوم الفطر والأضحى» «1» ، وقد ذكر بعض شرّاح الحديث أنّهما النّيروز والمهرجان، وكأنّهم أخذوهما من الفرس «2» . وكانت قريش تعترف بشرف الأوس والخزرج، وهم بنو قحطان العرب العاربة، وكانوا يصاهرونهم، ويتزوّجون فيهم، وقد تزوّج هاشم بن عبد مناف وهو سيد قريش في بني النجّار، تزوّج سلمى بنت عمرو بن زيد من بني عديّ بن النّجار، وهم من الخزرج إلا أنّهم كانوا يرون لأنفسهم فضلا عليهم، وقد قال عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة الذين دعوا إلى المبارزة يوم بدر، فخرج إليهم فتية من الأنصار فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد! أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا عليّ، فلمّا قاموا ودنوا منهم، وسمّوا أنفسهم، قالوا: نعم أكفاء كرام «3» . وكانوا ينظرون إلى الفلاحة التي كان يمارسها أهل المدينة بحكم طبيعة أرضهم ولاعتمادهم عليها في معاشهم نظرة فيها شيء من الاحتقار، وقد تجلّت هذه النظرة في الكلمة التي قالها أبو جهل وهو عقير، قد قتله ابنا عفراء   (1) [أخرجه أبو داود في كتاب الصّلاة، باب صلاة العيدين، برقم (1134) ، والنّسائي في كتاب صلاة العيد، برقم (1556) ، والبيهقي في السّنن، (ج 3/ 277) وغيرهم من حديث أنس رضي الله عنه] . (2) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب. (3) ابن هشام: ج، ص 625. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وهما من الأنصار، وقد أدركه عبد الله بن مسعود وبه رمق «لو غير أكّار «1» قتلني» «2» . الحالة الاقتصادية والحضارية: كانت مدينة يثرب بطبيعتها منطقة زراعيّة، وكان أكثر اعتماد أهلها على الزّراعة والبساتين، وكان من أهمّ حاصلاتها التّمر والعنب، فكانت فيها جنّات النّخيل والأعناب «3» ، وجنّات معروشات وغير معروشات، وزروع ونخيل صنوان وغير صنوان «4» ، ومن الزّروع الحبوب والبقول، وكان التمر وخاصة أيام الجدب، وتخلف الأمطار، يسدّ كثيرا من حاجة السكان الغذائية، وكان كعملة يتبادل بها أهلها عند الحاجة، وكانت النّخيل مصدر خيرات كثيرة في حياتهم، فكانوا يستخدمونه في الغذاء، والبناء،   (1) قال العلامة محمد طاهر الفتني في «مجمع بحار الأنوار» (1/ 68) : أي الزّراع والفلّاح: وهو عند العرب ناقص يعرّض بأنّ ابني عفراء من الزراع، فلو غيرهما قتلني لم يكن عليّ نقص [أراد به احتقاره وانتقاصه، كيف مثله يقتل مثله] . (2) [أخرجه البخاريّ في كتاب المغازي برقم (4020) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب قتل أبي جهل، برقم (1800) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (3) اقرأ حديث أبي طلحة في بيرحاء الذي رواه الشيخان: وكانت بساتين ملتفة الأغصان والأوراق حتى يدخل فيها الدبسي- وهو طائر صغير- فلا يكاد يخرج منها، جاء في قصة أبي طلحة الأنصاري: أنه كان يصلّي في حائط له، فطار دبسي: فطفق يتردّد يلتمس مخرجا فأعجبه ذلك، فجعل يتبعه بصره ساعة، إلى قصة تصدقه بهذا الحائط بسبب الفتنة التي فتن بها، أخرجه مالك في موطّئه [في كتاب الصدقة، باب الترغيب في الصدقة، برقم (1926) ، والبخاري في كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، برقم (1461) ، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج، برقم (2312) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، في تفسير سورة آل عمران، برقم (2997) . (4) راجع سورة الأنعام وسورة الرعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 والصناعة، والوقود، وعلف الدوابّ «1» . ولتمر المدينة أنواع كثيرة، وتفاصيل دقيقة تصعب الإحاطة بها «2» . ولأهل المدينة تجارب وطرق في تنمية حاصل النخيل وتحسينه استفادوها من طول المراس، منها تأبير النخل «3» . هذا لا ينفي وجود حركة تجارية في المدينة، ولكنّها لم تكن في القوّة والانتشار بمكانة الحركة التجارية في مكة، إذ كان اعتماد أبناء الوادي- وهي غير ذي زرع ومياه وفيرة- على التّجارة ورحلة الشّتاء والصّيف. وكانت في المدينة بعض الصّناعات يمارس أكثرها اليهود، ولعلّهم جلبوها من اليمن، فلم يزالوا فيه إلى أن غادروه في الزمن الأخير، حاذقين في الصناعات، وكان عامة بني قينقاع صاغة، وكانوا أغنى طوائف اليهود في مدينة يثرب، وكانت بيوتهم تحتوي على الأموال الطائلة، والحليّ الكثيرة من الفضّة والذهب، مع أنّ عددهم كان غير كثير «4» . وقد منح الله أرض يثرب، وهي بركانية التربة، خصبا زائدا، وهي ذات   (1) اقرأ شرح الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه (في كتاب العلم، وترجم له: «باب طرح الإمام المسألة على الناس ليختبر ما عندهم من العلم» ) [برقم (61) ] في «فتح الباري» ، للحافظ ابن حجر العسقلاني، أو «عمدة القاري» للعيني [وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب مثل المؤمن مثل النخلة، برقم (2811) ] . (2) تدلّ الثروة اللغوية الكبيرة التي تدور حول النخلة والتمر، على ما كانت تشغله هذه الشجرة وثمرتها من مكان في حياة العرب عامة وأهل المدينة خاصة، وما كان لهما من أهمية، راجع على سبيل المثال «أدب الكاتب» لابن قتيبة و «فقه اللغة» للثعالبي، و «المخصّص» لابن سيده؛ وقد أفرد عدد من العلماء كتبا للنخل. (3) التأبير: هو أن يشقّ طلع النخلة ليذر فيه شيء من طلع ذكر النخل، (شرح مسلم للنووي) . (4) اليهود في بلاد العرب: ص 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وديان كثيرة، تفيض بمياه السيول، فتروي أرضها وتسقي النخل والزروع، اشتهر منها وادي العقيق «1» ، الذي كان متنزّه المدينة، وكان يتدفّق بالماء، ويزهو بالبساتين، وكانت الأرض صالحة لحفر الآبار، وقد كثرت فيها البساتين، ومنها ما هو مسوّر ويسمّيه أهل المدينة «الحائط» «2» . واشتهرت آبار كثيرة بعذوبة الماء ووفرته، وكانت لهم شراج «3» ، وكانوا يحوّلون الماء بالمساحي إلى حدائقهم «4» . وكان من الحبوب الرئيسيّة الشعير، ثم القمح، وتكثر الخضراوات والبقول، وكانت لهم طرق في المزارعة، والمؤاجرة، والمزابنة، والمحاقلة، والمخابرة، والمعاومة، منها ما أقرّه الإسلام ومنها ما منعه أو أصلحه «5» .   (1) اقرأ «معجم البلدان» لياقوت الحموي؛ و «الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني. (2) اقرأ قصة ابتلاء كعب بن مالك في الجامع الصحيح للبخاري (كتاب المغازي) وقد جاء فيه: «حتى إذا طال على ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمّي» [انظر تخريجه المفصّل في هذا الفصل، ص 492] . (3) الشرجة: هي مسيل الماء. (4) اقرأ حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم، وجاء فيه: «اسق حديقة فلان» ، وجاء فيه ذكر الشراج، وتحويل الماء بالمسحاة [أخرجه مسلم في كتاب الزهد، باب فضل الإنفاق على المساكين وابن السبيل، برقم (2984) ، وابن حبان في الصحيح (8/ 142) برقم (3356) ، وأحمد في المسند (2/ 296) ] . (5) اقرأ أبواب الحرث والمزارعة في الصحاح: و «المزابنة» : بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر كيلا، و «المحاقلة» : بيع الزرع في سنبله، الشعير بشعير كيلا، والقمح بقمح كيلا، و «المخابرة» و «المزارعة» متقاربتان؛ وهما المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع؛ كالثلث، والربع، لكن في المزارعة يكون البذر من مالك الأرض، وفي المخابرة يكون البذر من العامل، وقال جماعة من أهل اللغة: هما بمعنى، وفي صحة المزارعة والمخابرة خلاف مشهور للسلف والخلف؛ (مستفاد من شرح النووي لمسلم) . «والمعاومة» : هو بيع السنين، ومعناه: أن يبيع ثمر الشجرة عامين؛ أو ثلاثة أو أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وكانت العملة في مكة والمدينة واحدة، وقد شرحناها ص (142- 143) . وكانت المدينة تعتمد على المكاييل، وتحتاج إليها أكثر من مكة، لاعتماد أهلها على الحبوب والثّمار «1» ، وكانت الأكيال المستعملة في المدينة هي المدّ والصّاع والفرق والعرق والوسق «2» . أمّا الأوزان المستعملة فهي الدرهم والثقاف والدّانق والقيراط والنّواة والرّطل والقنطار والأوقيّة «1» . ولم تكن المدينة- على خصبها- مكتفية غذائيا، فكان أهلها يستوردون بعض المواد الغذائية من الخارج، وكانوا يجلبون دقيق الحوار والسمن والعسل، من الشام. قد جاء في حديث رواه الترمذيّ عن قتادة بن النعمان- رضي الله عنه-: «كان الناس إنّما طعامهم بالمدينة، التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة «3» ، من الشام من الدرمك «4» ، ابتاع الرجل منها فخصّ بها نفسه، وأمّا العيال فإنّما طعامهم التمر والشعير «5» ، والقصة تلقي ضوءا على الحالة الغذائيّة في المدينة- التي لم   (1) لذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الميزان ميزان أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة» (رواه أبو داود والنسائي من رواية طاووس عن ابن عمر، وصححه ابن حبان، والدارقطني) . (2) راجع للتفصيل والتقدير شروح كتب الحديث وكتب الخلاف، انظر لمقاديرها «التراتيب الإدارية» ج 1، ص 413- 415. (3) الضافطة: قال الفتني: «الضافطة» و «الضفاط» من يجلب الميرة والمتاع إلى المدن؛ وكانوا قوما من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت وغيرهما، (مجمع بحار الأنوار، ج 3، ص 410؛ طبع حيدرآباد- الهند) . (4) «الدرمك» : الدقيق الحوارى؛ واحده: «الدرمكة» . (5) انظر تفسير قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً [النساء: 107] . الآيات في جامع الترمذي [أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة النساء، رقم الحديث (3036) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 تحدث بعد الهجرة فجأة- وعلى المستويات المختلفة في المعيشة. وكان اليهود- كما عرف من طبيعتهم وتاريخهم في كلّ بلد- أكثر غنى من العرب، وكان العرب بطبيعتهم العربيّة البدويّة، لا يفكّرون في المستقبل كثيرا، فيوفّرون له المال، وكانوا أهل ضيافة وكرم، يضطرون إلى الاستدانة من اليهود، وكثيرا ما تكون هذه الاستدانة بالربا والرهن. وكان لأهل المدينة ثروة من الإبل والبقر والأغنام، ويستخدمون الإبل في إرواء الأراضي ويسمّونها ب «الإبل النواضح» ، وكانت لهم مراع اشتهرت منها «زغابة» و «الغابة» ، يحتطب منها الناس، ويرعون فيها ماشيتهم «1» وكانت لهم خيل يستخدمونها في الحروب وإن كانت قليلة بالنسبة إلى مكة. وكان بنو سليم مشهورين باقتناء الخيل، يجلبونها من الخارج. وكانت في المدينة عدّة أسواق، أهمّها «سوق بني قينقاع» مركز بيع الحلي والمصوغات الذهبيّة، وكانت سوق للبزازين، وتوجد في المدينة المنسوجات القطنية والحريرية، والنّمارق الملونة والسّتور المرسومة «2» . وكان عطّارون يبيعون أنواع العطور والمسك، وكان يوجد من يتّجر في العنبر والزّئبق «3» . وكانت أنواع من البيع منها ما أقرّه الإسلام، ومنها ما منعه، مثل   (1) راجع «معجم البلدان» لياقوت الحموي، و «وفاء الوفا» للسّمهودي. (2) اقرأ حديث عائشة الذي [أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير.. برقم (2107) وغيره] وقد جاء فيه ذكر القرام» قال الفتني: هو ستر رقيق وقيل صفيق من صوف ذي ألوان، قيل: ضربته مثل حجلة العروس، وقيل: وكان مزينا منقشا، (مجمع بحار الأنوار: ج 4، ص 258) . (3) راجع «التراتيب الإدارية» للعلامة عبد الحي الكتاني (القسم التاسع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 النّجش «1» والاحتكار، وتلقي الرّكبان «2» خارج المدينة، وبيع المصرّاة «3» ، والبيع بالنّسيئة «4» ، وبيع الحاضر للبادي، وبيع المجازفة «5» ، وبيع المزابنة «6» ، والمخاضرة «7» «8» ، وكان من الأوس والخزرج من يتعامل بالرّبا، وإن كان ذلك نادرا بالنسبة إلى اليهود. وقد توسّعت الحياة في المدينة بعض التوسّع، ورقت بحكم طبيعة أهلها، فكانت البيوت ذات طبقات «9» ، وكانت لبعض البيوت حدائق، وكانوا يستعذبون الماء، وقد يأتون به من بعيد، وكانت توجد كراس «10» ، وكانت تستعمل أقداح من زجاج وأقداح من الحجارة، وسرج منوّعة «11» ، وكانوا يستخدمون المكاتل والقفف في أعمال المنزل والزراعة، وكان للأغنياء شيء كثير من الأثاث لبيوتهم، خصوصا اليهود، وكانت أنواع من   (1) [النّجش: الزيادة في ثمن السلعة المعروضة للبيع، لا ليشتريها بل ليغرّ بذلك غيره] . (2) [الرّكبان: الذين يجلبون إلى البلد الأرزاق للبيع، وسواء كانوا ركبانا أو مشاة، جماعة أو واحدا] . (3) [المصرّاة: الدّابّة الحلوب حبس لبنها في ضرعها، ليوهم المشتري كثرة اللبن] . (4) [النّسيئة: التأخير، يقال: باعه بنسيئة] . (5) [المجازفة: هي بيع الشيء لا يعلم كيله أو وزنه] . (6) [المزابنة: وهي بيع الرّطب في رؤوس النّخل بالتّمر، وأصله من الزّبن، وهو الدفع، كأن كلّ واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقّه بل يزاد منه، وإنما نهي في الحديث عنها لما يقع فيها من الغبن والجهالة] . (7) [المخاضرة: هي بيع الثمار والحبوب قبل أن يبدو صلاحها] . (8) انظر أبواب البيع في كتب الحديث والفقه؛ وأحكامها من الحل والحرمة. (9) انظر حديث الهجرة، ونزول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب رضي الله عنه [في صحيح مسلم، برقم (2053) ] . (10) التراتيب الإدارية: ج 1، ص 97. (11) المصدر السابق: ج 1، ص 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الحلي كالأساور، والدمالج، والخلاخيل، والأقرطة، والخواتم، والعقود من الذهب أو من جزع ظفار «1» ، وكان الغزل والنسيج فاشيين في النساء، فكانت الخياطة والدباغة وعمل بناء البيوت، وضرب الطوب، والنحت، من الصناعات التي عرفت في المدينة قبل الهجرة. الوضع المعقد الذي واجهه الرسول صلى الله عليه وسلم في مدينة يثرب: وهكذا لم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون من مدينة- مكة- إلى قرية- يثرب- بل انتقل من مدينة إلى مدينة، وإن كانت هي الآخرى تختلف عن الأولى في مظاهر كثيرة للحياة، وكانت أصغر منها نسبيا، ولكنّ الحياة فيها كانت أكثر تعقّدا، والقضايا التي سيواجهها الرسول أكثر تنوّعا، لوجود ديانات وبيئات وثقافات مختلفة، لا يتغلّب عليها ولا يصهر المدينة كلّها في بوتقة عقيدة واحدة، ودعوة واحدة إلا الرسول المؤيد من الله، الذي أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب، وقوّة الجمع بين الأنماط البشرية الكثيرة، والقوى المتصارعة والأهواء المتعاكسة، وألقى عليه محبة منه، وصدق الله العظيم: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62- 63]   (1) اقرأ حديث عائشة في قصة الإفك الذي رواه البخاري في كتاب المغازي [باب حديث الإفك، برقم (4141) ، ومسلم في كتاب التوبة، باب في حديث الإفك، برقم (2770) ، والنّسائي في السنن الكبرى (5/ 295) ، برقم (8931) ، وعبد الرزاق في المصنّف (5/ 410) برقم (9748) ] . و «الجزع» : خرز فيه سواد وبياض؛ و «ظفار» : مدينة باليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 خريطة أثرية تقريبية للمدينة المنورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 مساكن القبائل الهامة ومواقع الغزوات الإسلامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 في المدينة كيف استقبلت المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سمع الأنصار بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة، فكانوا يخرجون كلّ يوم إذا صلّوا الصبح إلى ظاهر المدينة، ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يبرحون حتّى تغلبهم الشمس على الظّلال، فيدخلون بيوتهم، وكان الزمن زمن صيف وحرّ. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الناس البيوت، وكان اليهود يرون ما يصنع الأنصار، وكان أول من رآه رجل من اليهود، فصرخ بأعلى صوته، وأخبر الأنصار بقدوم رسول الله، فخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظلّ نخلة، ومعه أبو بكر- رضي الله عنه- في مثل سنّه- وأكثرهم لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وازدحم الناس، ما يميّزون بينه وبين أبي بكر، وفطن لذلك أبو بكر، فقام يظلّه بردائه فانكشف للناس الأمر «1» . واستقبلهما زهاء خمسمئة من الأنصار، حتى انتهوا إليهما فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين. أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتّى إنّ العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيّهم هو؟ أيّهم هو؟، يقول أنس   (1) ابن هشام: ج 1، ص 492 [حديث الهجرة: أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، برقم (3906) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 - رضي الله عنه-: فما رأينا منظرا شبيها به «1» . وخرج الناس حين قدما المدينة في الطّرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر! جاء رسول الله، الله أكبر! جاء محمّد، الله أكبر! جاء محمد، الله أكبر! جاء رسول الله «2» . ويقول البراء بن عازب- وكان حديث السّنّ-: قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» وكبّر المسلمون فرحا بقدومه، وما فرحوا لشيء في حياتهم كفرحهم بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت المدينة باسمة الثّغر، ترفل في حلل الفرح والفخر، وكانت بنات الأنصار ينشدن «4» في سرور ونشوة: [من مجزوء الرمل]   (1) [أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب مقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، برقم (3932) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ابتناء مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، برقم (524) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب بناء المساجد، برقم (453) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (2) [أخرجه البخاري في مناقب الصحابة، باب مناقب المهاجرين، برقم (3652) ] . (3) رواه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] ، باب مقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة [برقم (3652) ] . (4) ابن كثير ج/ 2، ص/ 269، رواه البيهقي بسنده عن ابن عباس وعائشة، روى ابن القيم البيتين الأولين عند عودة النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة، وخروج الناس لتلقيه، قال: «وبعض الرواة يتوهم وهما ظاهريا، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام» (زاد المعاد ج/ 2 ص/ 101) . ولكنّ المشهور المستفيض أنّ هذا النشيد إنما كان عند مقدمه من مكة إلى المدينة، وعلى ذلك تكاد تتفق كتب السيرة، وفي الأبيات شواهد داخلية على أنها كانت عند مقدمه الأول- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع وجب الشّكر علينا ... ما دعا لله داع أيّها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع يقول أنس بن مالك الأنصاريّ- وهو غلام يومئذ-: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة، فما رأيت يوما قطّ، كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل المدينة علينا «1» . مسجد قباء وأول جمعة في المدينة: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ب «قباء» أربعة أيام، وأسّس مسجدا هناك، وخرج يوم الجمعة، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلّاها في مسجدهم، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة «2» .   - إلى المدينة، فإن روح الفرح والحماس التي تسيطر على هذه الأبيات تنطق بأنها قيلت وأنشدت عند الطلعة الأولى. وقد تعدّدت الثنيات في المدينة، فلا مانع من أن يكون القادم من مكة يمر بثنية الوداع الواقعة في مدخل المدينة، فكان المدرج الذي ينزل منه إلى بئر عروة بالجنوب الغربي بالمدينة يسمى بثنية الوداع أيضا. يقول الشيخ عبد القدوس الأنصاري في كتاب «آثار المدينة المنورة» (ص 160) : «وكما أنّ أهل المدينة كانوا يودّعون المسافر إلى جهة مكة من الثنية الواقعة بطريق مكة، ويحق لكل من الثنيتين بهذا النظر أن تسمّى ثنية الوداع لقيام معنى الثنية الذي هو الطريق في الجبل والوداع بكل منهما ولاشتراكهما فيه، فكلتاهما مركز لتوديع المسافرين ويقول: «ويوافقنا العباسي في تاريخه للمدينة على هذا الرأي، وهي ثنية الوداع التي تشرف على وادي العقيق، وتحيط به الحرة من كل جانب» . (1) أخرجه الدارمي [1/ 41، وأحمد (3/ 122) ، والحاكم (3/ 12) عن أنس رضي الله عنه بسند صحيح] . (2) ابن هشام: ج 1، ص: 494 [وأخرجه الطبراني، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 62- 63) : رواه الطبرانيّ ورجاله ثقات] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 في بيت أبي أيوب الأنصاريّ: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والناس يتلقّونه في الطريق أرسالا، ويطلبون منه الإقامة عندهم، ويقولون: أقم عندنا في العدد والعدد والمنعة، ويمسكون بزمام النّاقة، فيقول: «خلّوا سبيلها، فإنّها مأمورة» ووقع ذلك مرارا. ولمّا مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بحيّ من بني النجّار إذا جوار يضربن بالدفوف ويقلن: [من الرجز] نحن جوار من بني النّجار ... يا حبّذا محمّد من جار حتّى إذا أتى دار بني مالك بن النجّار، بركت على مكان فيه باب المسجد النبويّ اليوم، وهو يومئذ مربد «1» لغلامين يتيمين من بني النجّار، وهم أخواله صلى الله عليه وسلم. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الناقة، فاحتمل أبو أيوب- خالد بن زيد النجاريّ الخزرجيّ- رحله، فوضعه في بيته، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبالغ أبو أيوب في ضيافته وإكرامه، ونزل في السّفل من البيت، وكره أبو أيوب وأعظم أن يكون في العلوّ، فطلب منه أن يكون هو صلى الله عليه وسلم في العلوّ، ويكون هو- رضي الله عنه- وعياله في السفل، فقال: «يا أبا أيوب! إنّ أرفق بنا وبمن معنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت» .   (1) ابن كثير: ج 2، ص 274 [وأخرجه ابن ماجه في أبواب النكاح، باب الغناء والدف، برقم (1899) ، والطبراني في الصغير (ج 1/ ص 65) برقم (78) ، وأبو يعلى في مسنده (ج 6/ 134) برقم (3409) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 42) : رواه أبو يعلى من طريق رشيد عن ثابت، ورشيد هذا قال عنه الذهبي: مجهول] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ولم يكن أبو أيوب الأنصاريّ من الموسرين، لكنّه كان عظيم الفرح بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، كبير الاعتداد والشكر لهذه الكرامة التي أكرمه الله بها. والحبّ يلهم من أساليب الراحة وطرائق الخدمة، ما لا يلهمه شيء آخر، يقول أبو أيوب: وكنّا نصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، ثمّ نبعث إليه، فإذا ردّ علينا فضله تيممت أنا وأمّ أيوب موضع يده، فأكلنا منه، نبتغي بذلك البركة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفل البيت وكنّا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حبّ «1» لنا فيه ماء، فقمت أنا وأمّ أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشّف بها الماء، تخوّفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء فيؤذيه «2» . بناء المسجد النبويّ والمساكن: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين- صاحبي المربد- «3» فساومهما بالمربد ليتّخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة، حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا «4» .   (1) الحبّ: الجرّة (القاموس: حبب) . (2) رواه ابن إسحاق بسنده عن أبي أيوب (ابن كثير ج 2، ص 227) [وأخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب إباحة أكل الثوم ... ، برقم (2053) ، والترمذي في أبواب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية أكل الثوم والبصل، برقم (1807) ، وأحمد في مسنده (5/ 94- 95) ، والبيهقي في «الدلائل» (10/ 509- 510) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه] . (3) المربد: الموضع الذي يجفّف فيه التمر. (4) أخرجه البخاري [في كتاب مناقب الأنصار] ، باب مقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، [برقم (3932) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ابتناء مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، برقم (524) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب في بناء المساجد، برقم (454) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد، فكان ينقل اللّبن، واقتدى به المسلمون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهمّ إنّ الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره «1» وكان المسلمون مسرورين سعداء، ينشدون الشعر، ويحمدون الله تعالى. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب سبعة أشهر «2» ، حتّى بني له مسجده ومساكنه، فانتقل إلى مساكنه. وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد، إلّا مفتون، أو محبوس، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها «3» . كان من الإصلاحات والتطويرات المباركة- وإن كانت لفظية واسمية- تغيير اسم المدينة، فقد كان اسم المدينة المنوّرة القديم «يثرب» ومعناه ذميم يتشاءم به، لأنّ الثّرب فساد في كلام العرب، والتثريب هو اللوم والتعيير «4» ، وكان اسما شائعا تقصد وتعرف به هذه المدينة، وقد قال الله تعالى: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب: 13] . وقد ورد في حديث صحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غيّر اسمها من يثرب إلى   (1) ابن كثير: ج 2، ص 251 [وقد سبق تخريجه في صفحة (279) حاشية (4) من حديث أنس بن مالك وأبي بكر رضي الله عنهما] . (2) ابن كثير: ج 2، ص 279، وهو في رواية الواقدي عند أبي سعد، وجزم به ابن حجر في الفتح، وقال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بني له فيها مسجده ومساكنه، وحينئذ تكون إقامته صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب أكثر من عشرة أشهر. (3) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 499- 500. (4) لسان العرب للعلامة ابن منظور، مادة «ثرب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 «المدينة» ، ونهى عن استخدام اسمها القديم، وقال: «هي طابة» «1» ، وورد في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: «هذه طابة» «2» . قال ابن عباس رضي الله عنه: «من قال للمدينة يثرب فليستغفر الله ثلاثا إنّما هي طيبة» «3» . المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على المواساة، وكان الأنصار يتسابقون في مؤاخاة المهاجرين، حتّى يؤول الأمر إلى الاقتراع، وكانوا يحكمونهم في بيوتهم وأثاثهم وأموالهم وأرضهم وكراعهم، ويؤثرونهم على أنفسهم. وقد يقول الأنصاريّ «4» للمهاجر «5» : انظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان، فانظر أيّهما أعجب إليك حتى أطلقها، ويقول المهاجر: بارك الله لك في أهلك ومالك، ودلّني على السّوق. فكان من الأنصاريّ الإيثار، ومن المهاجر التعفّف وعزّة النفس «6» .   (1) [أخرجه أحمد في مسنده (4/ 285) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه] . (2) [أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب خرص التمر، برقم (1481) ، وفي كتاب المغازي، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر، برقم (4422) ، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل أحد، برقم (1392) ، وابن حبان (10/ 255) ، والبيهقي في السنن (6/ 372) وغيرهم من حديث أبي حميد] . (3) مدينة يثرب قبل الإسلام: للدكتور ياسين غضبان، طبع دار البشير، ص 17. (4) [هو سعد بن الرّبيع رضي الله عنه] . (5) [هو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه] . (6) اقرأ في الجامع الصحيح للبخاري، «باب» إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار «وباب» كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه؛ قصة عبد الرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وكان هذا الإخاء أساسا لإخاء إسلاميّ عالميّ فريد من نوعه، ومقدمة لنهضة أمة ذات دعوة ورسالة، تنطلق لصياغة عالم جديد، قائم على عقائد صحيحة معيّنة وأهداف صالحة منقذة للعالم من الشّقاء والتناحر والانتحار وعلى علاقات جديدة من الإيمان والإخاء المعنويّ والعمل المشترك، وكان هذا الإخاء المحدود بين المهاجرين والأنصار طليعة وشريطة لاستئناف حياة جديدة للعالم والإنسانية، لذلك خاطب الله هذه الحفنة البشرية في مدينة صغيرة بقوله: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الأنفال: 73] كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وموادعة يهود: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهودا، وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم «1» .   -[رقم (3937) ، ومسلم في كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن..، برقم (1427) ، وأبو داود في كتاب النكاح، باب قلّة المهر، برقم (2109) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (1) راجع للتفصيل «ابن هشام» : ج 1، ص 501. راجع للاطلاع على أهمية هذه الوثيقة السياسية التي يجوز أن تعتبر أقدم دستور دقيق مسجّل في العالم بقي بنصّه وفصّه إلى هذا اليوم، واستعراض ما جاء فيها من موادّ وبنود عميقة في الحكمة السياسية والمدنية والحربية، تجلّت فيها الحكمة النبوية، والهداية الربانية، والدراسة المتزنة للواقع، مقالة الدكتور محمد حميد الله أستاذ الحقوق الدولية في الجامعة العثمانية بحيدر آباد الهند، تعريب مؤلف هذا الكتاب (السيرة النبوية) ، جاءت في مجموعة المباحث العلمية من المقالات السنية، (طبع إدارة جمعية دائرة المعارف العثمانية، 1358 هـ) ص/ 98- 117، واقرأ نصّ الوثيقة في سيرة ابن هشام، ق/ 1، ص/ 501- 504 (طبعة مطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر) ، وفي كتاب الأموال لأبي عبيد، وفي البداية والنهاية لابن كثير، ج/ 3، ص/ 224- 226، وفي «مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة» للدكتور حميد الله، (طبع مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 شرع الأذان: ولمّا اطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، واستحكم أمر الإسلام، وكان الناس يجتمعون إليه للصلاة في مواقيتها بغير دعوة، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق الإعلان التي اعتادها اليهود والنصارى من بوق وناقوس ونار، أكرم الله المسلمين بالأذان، فأراه بعضهم في المنام، فأقرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه للمسلمين، واختير بلال بن رباح الحبشيّ للأذان، وكان مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إمام المؤذّنين إلى يوم القيامة» . ظهور النفاق والمنافقين في المدينة: لم يكن في مكة نفاق «2» ؛ لأنّ الإسلام كان هناك مغلوبا على أمره، لا يملك حولا ولا طولا، ولا يملك لأحد نفعا ولا ضرّا؛ وكان كلّ من يدخل فيه يعرّض نفسه للخطر والضّرر، ويثير لها العداء، ويهيج الأعداء، فلا يقبل عليه إلا من صدق عزمه، وقوي إيمانه، وجازف بحياته ومستقبله، ولم تكن هنالك قوتان متماثلتان، إنّما كان المشركون الأقوياء القاهرون، والمؤمنون المضطهدون المستضعفون، وقد صوره القرآن بقوله البليغ: وَاذْكُرُوا إِذْ   - القاهرة) . (1) [قصة شرح الأذان أخرجها أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، برقم (499) ، والترمذي في الصلاة، باب ما جاء في بدء الأذان، برقم (189) ، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في أبواب الأذان والسنة فيها، باب بدء الأذان، برقم (706) ، والدارمي (1/ 269) ، وأحمد (4/ 43) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه] . (2) وهو الذي يرجّحه أكثر المفسرين والمؤرخين، وجميع السور التي ذكر فيها النفاق والمنافقين مدنية، وقد جاء في سورة براءة وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التوبة: 101] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الأنفال: 26] . فلمّا انتقل الإسلام إلى المدينة واستقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيها، وبدأ الإسلام ينتشر، ويزحف، ويعلو، وقام المجتمع الإسلاميّ بجميع لوازمه، تغير الوضع ونجم النفاق ورفع رأسه، وكان ظاهرة طبيعية نفسية لا بدّ منها، فإنّما تظهر بادرة «النفاق» في بيئة تجمع بين دعوتين متنافستين، وقيادتين متقابلتين، هناك يوجد عنصر مضطرب يتأرجح بين هاتين الدعوتين، ويتردد في إيثار إحداهما على الآخرى، وقد ينحاز إلى دعوة، فيكون في معسكرها، ويعطيها ولاءه وحبّه العاطفيّ، إلا أنّ مصالحه المادية، وانتشار الدعوة المقابلة وانتصارها، لا يسمح له بإعلان موقفه، والانضواء إلى الدعوة الأولى، وقطعه للحبال التي تربطه ببيئته الأولى، وقد صوّر القرآن هذا الموقف المضطرب تصويرا دقيقا، فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج: 11] ، وهم الذين وصفهم بقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [النساء: 143] . وكان على رأس هؤلاء المنافقين الذين كانوا من الأوس والخزرج واليهود عبد الله بن أبيّ ابن سلول، اتفقوا بعد حرب بعاث على أن يولّوه الرئاسة ويتوّجوه، وكان قد تمّ له كلّ ذلك إذ جاء الإسلام، وصار النّاس يدخلون في دين الله أفواجا، فشرق به وكرهه كرها شديدا، قال ابن هشام: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وسيّد أهلها عبد الله بن أبيّ ابن سلول العوفيّ.. لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل غيره من أحد الفريقين، حتى جاء الإسلام، وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه، ثمّ يملكوه عليهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلمّا انصرف قومه عنه إلى الإسلام، ضغن «1» ، ورأى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا، فلمّا رأى قومه قد أبوا إلّا الإسلام دخل فيه كارها، مصرّا على نفاق وضغن» «2» . وعادى الإسلام كلّ من كان في قلبه مرض، وفي السيادة طمع، وضاق ذرعا بهذا الدّين الزاحف، الذي هدم كلّ ما بناه، ونقض كلّ ما أبرمه، وجعل للمدينة شأنا غير الشأن، ومن المهاجرين والأنصار أمة جديدة، ألّف بين قلوبها، وبذلت نفوسها دون الرسول، وقدّمت محبّته على محبة الآباء والأبناء والأزواج، فامتلأت قلوب هؤلاء المنافقين غيظا وحسدا، فصاروا يكيدون له، ويتربّصون به الدوائر، ويقلّبون له الأمور، وتكونت في المدينة جبهة معادية، متسرّبة في المجتمع الإسلاميّ، وكان على المسلمين أن يكونوا منها على حذر دائما، فقد تكون أشدّ خطرا على الإسلام والمسلمين من الأعداء المجاهرين، ومن هنا زخر القرآن بذكرهم وإزاحة السّتار عنهم، وكان لهم مع الإسلام وللإسلام معهم شأن، ويتردّد ذكرهم في كتب السيرة، وفي هذا الكتاب. طلائع عداء اليهود: وبدت طلائع عداء اليهود للإسلام بعد ما كان موقفهم موقف الحياد من المسلمين والمشركين من أهل مكة والمدينة، وربّما كانوا أميل إلى الإسلام   (1) الضّغن: الحقد والعداوة والبغضاء، وكذلك الضّغينة. (2) سيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 584- 585 [وأخرجه البخاريّ في كتاب التفسير، باب وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ... ، برقم (4566) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وصبره على أذى المنافقين، برقم (1798) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 والمسلمين، لأنّهم جميعا يلتقون على الإيمان بالنبوات والإيمان بالبعث، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، وهم أقرب الأمم إلى المسلمين في توحيد ذات الله وصفاته- على ما اعترى هذه العقيدة عند اليهود من الوهن بحكم التأثر بالأمم الجاهليّة التي جاوروها، والبلاد الوثنيّة التي قضوا فيها أيام الجلاء والنفي الطويلة، وما دخل فيها من الغلوّ والتقديس لبعض أنبيائهم، كما شرحناه في كلامنا على الوضع الدينيّ لليهودية في القرن السادس المسيحيّ «1» . فكانت كلّ القرائن تدلّ على أنّهم يلتزمون هذا الحياد، إن لم يشايعوا الإسلام الذي جاء مصدّقا لكتابهم، والنبيّ الذي دعا إلى الإيمان بأنبياء بني إسرائيل، وأعلن القرآن على لسان المؤمنين فقال: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] ، ولو كان ذلك لكان للتاريخ البشريّ- فضلا عن التاريخ الإسلاميّ- اتجاه آخر، ولكفيت الدعوة الإسلاميّة الشيء الكثير من المشاكل والقضايا التي أثارها الصراع بين الإسلام واليهودية، والنضال بين المسلمين الذين كانوا في دور النشوء والتكوين وبين اليهود الأقوياء الأغنياء المثقّفين. ولكنّ ذلك لم يكن لسببين رئيسيين: أوّلهما: ما طبع عليه اليهود من حسد، وضيق صدر، وجمود. وثانيهما: ما بدأ القرآن به من نقد لما كان عليه اليهود من عقائد باطلة، وأخلاق منحطة، وعادات سيئة، وذكر لتاريخهم الماضي المليء بالأحداث من محاربة الأنبياء ودعواتهم، والاجتراء على قتلهم، وعنادهم، وصدّ عن   (1) راجع فصل «العصر الجاهلي» في الفصل الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 سبيل الله، وافتراء على الله، وشره للمال، وأخذهم الرّبا وقد نهوا عنه، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكلهم السّحت، وتحريفهم للتوراة، وحبّهم الزائد للحياة، وغير ذلك مما زخر به القرآن. وإذا كان مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زعيم سياسيّ لحسب للوضع المعقّد- الذي كانت تعيشه المدينة- حسابه، وابتعد عن إثارة سخط اليهود وعدائهم، إن لم يتملّقهم ويتودّد إليهم، ولكنّه الرسول المأمور بتبليغ الرسالة، والصدع بما أمر به، وتمحيص الحقّ والباطل، وعدم مسايرة الفساد والضّلال، والمكلّف بدعوة الطوائف والأمم جميعا إلى الإسلام، وفيهم اليهود والنصارى أهل الكتاب، مهما كلّفه ذلك من ثمن ومشكلات طريفة، فإنّه هو النهج النبويّ الذي سار عليه الأنبياء قبله، وهو النهج القويم، والفارق بين السياسة والنبوّة، والزعماء القوميّين والأنبياء المرسلين. هذا التعرّض لليهود في عقائدهم وحياتهم وأخلاقهم هو الذي أثار اليهود على الإسلام والمسلمين، فغيّروا موقفهم منهم، وناصبوا الإسلام العداء الخفيّ والسافر، وبرزوا في الميدان، وكان الكاتب اليهودي الفاضل «إسرائيل ولفنسون» دقيقا ومنصفا «1» في تحليل أسباب هذا النزاع، فقال: «لو وقفت تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم عند حدّ محاربته للدّيانة الوثنيّة فحسب، ولم يكلّف اليهود أن يعترفوا برسالته، لما وقع نزاع بين اليهود والمسلمين، ولكان اليهود قد نظروا بعين ملؤها التبجيل والاحترام لتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأيّدوه وساعدوه بأموالهم وأنفسهم، حتى يحطّم الأصنام، ويقضي على العقائد الوثنيّة، لكن بشرط ألا يتعرّض لهم ولا لدينهم، وبشرط ألا يكلّفهم الاعتراف بالرسالة الجديدة، لأنّ العقلية اليهودية لا تلين أمام شيء يزحزحها   (1) [لم يعرف عن اليهود فضل ولا إنصاف ولا أمانة علمية] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 عن دينها، وتأبى أن تعترف بأن يوجد نبيّ من غير بني إسرائيل» «1» . هذا، وقد زاد اليهود غيظا وحقدا على الإسلام أنّه أسلم بعض أحبار اليهود وعلمائهم، كعبد الله بن سلام «2» ، وكان ذا مكانة عالية عندهم، ولم يكونوا يتوقّعون أن يدخل مثله في الإسلام، فأثار ذلك الحقد الدفين فيهم «3» . ولم يقتصر اليهود على مخالفة الإسلام، والابتعاد عنه، بل تعدّوا ذلك إلى تفضيل عبادة أوثان المشركين على المسلمين؛ الذين يلتقون معهم على عبادة الإله الواحد، ونبذ الأوثان والأصنام، وكان من المعقول المنتظر أنّهم إذا طلبت منهم المفاضلة بين دين قريش، والدين الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم، على ما كان من خلاف بينهم وبين المسلمين- أن يشهدوا بفضل الإسلام على الوثنيّة، ولكنّ عداء الإسلام لم يسمح لهم بذلك، فقد روي أنّ قريشا قالت لعلماء اليهود الذين زاروهم في مكة: «يا معشر اليهود! إنّكم أهل الكتاب الأوّل، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه، نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟!، قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحقّ» «4» .   (1) تاريخ اليهود في بلاد العرب: (ولفنسون- ص 123) . (2) [انظر قصة إسلام عبد الله بن سلام في «الجامع الصحيح» أخرجها البخاري، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، في كتاب التفسير، باب مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ برقم (4480) ] . (3) ويبلغ عدد من أسلم من اليهود وكان له شرف الصحبة 39 رجلا، جاءت أسماؤهم وتراجمهم في كتب طبقات الصحابة؛ كتاب «الإصابة» و «الاستيعاب» و «أسد الغابة» وغيرها، منهم بعض كبار العلماء وأجلة الصحابة، اعتمدنا في عدد المسلمين من أهل الكتاب على إحصاء مؤلف كتاب «الصحابة والتابعون من أهل الكتاب» للأستاذ مجيب الله الندوي، طبع دار المصنفين، أعظم كره (الهند) . (4) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ويقول العالم اليهوديّ الدكتور إسرائيل ولفنسون معلّقا على هذا الحادث: «ولكنّ الذي يلامون عليه بحقّ، والذي يؤلم كلّ مؤمن بإله واحد من اليهود والمسلمين على السواء، إنما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفر من اليهود، وبين بني قريش الوثنيّين، حيث فضّل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دين صاحب الرسالة الإسلاميّة» . إلى أن قال: «ثمّ إنّ ضرورات الحروب أباحت للأمم استعمال الحيل والأكاذيب، والتوسل بالخدع والأضاليل للتغلّب على العدوّ، ولكن مع هذا كان من واجب هؤلاء اليهود ألا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وألّا يصرّحوا أمام زعماء قريش، بأنّ عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلاميّ، ولو أدّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم، لأنّ بني إسرائيل الذين كانوا مدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتّى من الأدوار التاريخيّة، كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكلّ عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين» «1» . وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء: 51] . تحويل القبلة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يصلّون إلى بيت المقدس، ومضى على ذلك ستة عشر شهرا بعدما قدم المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ أن يصرف   (1) اليهود في بلاد العرب: ص 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 إلى الكعبة، وكان المسلمون العرب- وقد رضعوا لبان حبّ الكعبة وتعظيمها، وامتزج ذلك بلحومهم ودمائهم- لا يعدلون بالكعبة بيتا، ولا بقبلة إبراهيم وإسماعيل قبلة، وكانوا يحبّون أن يصرفوا إلى الكعبة، وكان في جعل القبلة إلى بيت المقدس محنة للمسلمين، ولكنّهم قالوا: «سمعنا وأطعنا» وقالوا: «آمنّا به كلّ من عند ربنا» فلم يكونوا يعرفون إلا الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخضوع لأوامر الله، وافقت هواهم أم لم توافقها، واتفقت مع عاداتهم أم لم تتّفق. فلما امتحن الله قلوبهم للتقوى واستسلامهم لأمر الله، صرف رسوله والمسلمين إلى الكعبة «1» ؛ يقول القرآن: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة: 143] . وانصرف المسلمون إلى الكعبة مطيعين لله ولرسوله، وصارت قبلة المسلمين إلى يوم القيامة أينما كانوا ولّوا وجوههم شطرها «2» .   (1) وكان تحويل القبلة في سنة اثنتين من الهجرة. (2) راجع الصحاح الستة، وتفسير الآيات في تحويل القبلة في كتب التفسير [انظر الأحاديث في تحويل القبلة، أخرجها البخاري في كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، برقم (40) ، وفي كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة..، برقم (399) ، وفي كتاب التفسير، باب قوله تعالى: * سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ.. برقم (4486) ، وباب وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها، برقم (4492) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، برقم (525) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، في تفسير سورة البقرة، برقم (2962) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات، باب القبلة، برقم (1010) ، وأحمد (4/ 274) ، كلهم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 تحرّش قريش بالمسلمين بالمدينة: فلمّا استقرّ الإسلام بالمدينة، وعرفت قريش أنّه في نموّ وازدهار، وأنّ كلّ يوم يمضي يزيد في قوّته وانتشاره، وأنّه إذا بقي الوضع هكذا، فإنّه يفلت منهم الزمام، ويصير كشابّ ترعرع واستكمل قوّته وشبابه، فلا سبيل لهم إليه. هنالك شمّروا للمسلمين عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كلّ جانب، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح، ويقول لهم: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء: 77] حتى تهون عليهم الحياة واللذّات، وتسهل لهم الطاعة ومخالفة النفس والإيثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الإذن بالقتال فلمّا قويت الشوكة، واشتدّ الجناح، أذن لهم في القتال، ولم يفرضه عليهم «1» ، فقال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج: 39] «2» . وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سرايا وبعوثا إلى بعض القبائل والنّواحي، ولم تكن في غالب الأحيان حرب، وقد تكون مناوشات، وكانت تفيد إلقاء الرعب في قلوب المشركين، وتظهر بها شوكة المسلمين ونشاطهم. سرية عبد الله بن جحش: ونخصّ بالذكر من هذه السّرايا سريّة عبد الله بن جحش، فقد نزلت فيها آية، ولأنّها تلقي ضوءا على أنّ القرآن لا يساير المسلمين في كلّ ما يصدر عنهم من تفريط أو خطأ، وأنّه الميزان العادل في الحكم على جميع الأمم والطوائف، وإلى القارىء قصّة هذه السرية بالاختصار: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسديّ في رجب «3» سنة اثنتين وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، وكتب له كتابا، وأمره ألّا ينظر فيه،   (1) راجع «زاد المعاد» ج 1، ص 314. (2) [انظر حادثة الإذن بالقتال في الأحاديث التي أخرجها الترمذي في أبواب تفسير القرآن في تفسير سورة الحج، برقم (3171) ، وأحمد (1/ 216) ، والحاكم (2/ 66) - وصحّحه، ووافقه الذّهبيّ- من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . (3) كان العرب يفضّلون العمرة في رجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 حتى يسير يومين ثمّ ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا. ولمّا سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب، فنظر فيه، فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم، فلمّا نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعا وطاعة، ثمّ قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشا، حتّى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها، فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأمّا أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلّف عنه منهم أحد. ومضى عبد الله بن جحش وأصحابه حتّى نزلوا بنخلة، فمرّت بهم عير لقريش، فيها عمرو بن الحضرميّ، فلما رآهم القوم، هابوهم، وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه، فلمّا رأوه أمنوا، وقال: عمّار «1» لا بأس عليكم منهم، وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب «2» فقال المسلمون: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة   (1) كتب المغازي والسير، وذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ هذه السرية كانت في جمادى الآخرة وكان حادث قتل عمرو بن الحضرمي حدث سلخ هذا الشهر. (2) رجب أول الأشهر الحرم الأربعة، وكان القتال ممنوعا في الشهر الحرام، درج العرب على ذلك في الجاهلية وفي صدر الإسلام، وكان القوم يعرفون ذلك، والأشهر الثلاثة الباقية: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم. ذهب الجمهور إلى أن الآية منسوخة نسختها آية براءة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] . سئل سعيد بن المسيب: هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال: نعم، ولم نقرأ في كتاب من كتب التاريخ والفتوح أن إعلانا صدر من- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ليدخلنّ الحرم، فليمتنعنّ منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنّهم في الشهر الحرام، فتردّد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثمّ شجّعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التّميميّ عمرو بن الحضرميّ بسهم فقتله، واستأسر اثنين منهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين. فلمّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا، فلمّا قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم، وظنّوا أنّهم قد هلكوا، عنّفهم إخوانهم المسلمون فيما صنعوا وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ «1» [البقرة: 217] . قال العلّامة ابن قيم الجوزية في «زاد المعاد» : «والمقصود أنّ الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرّىء أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشّهر الحرام بل أخبر أنّه كبير، وأنّ ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشّهر الحرام، فهم أحقّ بالذمّ والعيب والعقوبة، لا سيّما وأولياؤه كانوا متأوّلين في قتالهم ذلك، أو   - مركز الخلافة أو القيادة الإسلامية بوقف الإجراءات الحربية لأجل شهر من الأشهر الحرم، وعلى ذلك جرى المسلمون في عصورهم في الحروب والفتوح الإسلامية. (1) سيرة ابن هشام: ج: 1، ص: 601- 605 [أخرجه البيهقي (9/ 11- 12) ، والطبري في تفسيره (2/ 349- 350) ، وأبو يعلى في مسنده برقم (1534) ، والطبراني في الكبير برقم (1670) من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 198) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 مقصّرين نوع تقصير، يغفر لهم الله في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله» «1» . غزوة الأبواء: وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه «غزوة الأبواء» «2» ، وتسمّى (بواطا) كذلك، وهي أولّ غزوة غزاها بنفسه، ولم يلق كيدا، فرجع، وتلتها غزوات وسرايا. فرض صوم رمضان: وفي السّنة الثانية الهجريّة فرض الصوم، وذلك بعد أن رسخت العقيدة في قلوب المسلمين، وألفوا الصلاة، وهاموا بها، وتلقّوا الأوامر والأحكام الشرعيّة بقبول واستعداد، كأنّهم كانوا منها على ميعاد، وأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] . وقال: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «3» [البقرة: 185] .   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 341. (2) راجع للتفصيل في «سيرة ابن هشام» ج 1، ص 591- 606. (3) اقرأ للتفصيل وأسرار الصوم وحكمه «الأركان الأربعة» للمؤلف، ص: 220، طبعة دار ابن كثير بدمشق (عام 1420 هـ- 2000 م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 خريطة السرايا قبل غزوة بدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 خريطة غزوة بدر الكبرى 17/ رمضان 2 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 معركة بدر الحاسمة: سنة اثنتين من الهجرة أهميّة معركة بدر: وفي رمضان سنة اثنتين من الهجرة، كانت غزوة بدر الكبرى «1» ، وهي المعركة الحاسمة التي تقرّر مصير الأمّة الإسلاميّة ومصير الدعوة الإسلاميّة، وعليها يتوقف مصير الإنسانيّة المعنويّ. فكلّ ما حدث من فتوح وانتصارات، وكلّ ما قام من دول وحكومات، مدين للفتح المبين في ميدان بدر، ولذلك سمّى الله هذه المعركة ب «يوم الفرقان» فقال: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الأنفال: 41] . وكان من خبر هذه الغزوة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشّام في عير عظيمة لقريش، فيها أموالهم وتجارتهم، وكانت الحرب قائمة بين المسلمين وبين قريش المشركين، لا تألو قريش في محاربة الإسلام، والصدّ عن سبيل الله، وإقامة الصعوبات للمسلمين، وكانت تبذل أموالها وكلّ ما تملكه، من حول وطول، ومن سلاح وكراع «2» في محاربة   (1) تقع بدر على 145 كيلومترا في الجنوب الغربي من المدينة المنّورة. (2) [الكراع: اسم لجميع الخيل] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الإسلام، وإضعاف شأن المسلمين، وكانت كتائبهم تصل إلى حدود المدينة وإلى مراعيها. فلمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشّام على رأس هذه العير، وكان من أشدّ الناس عداوة للإسلام، ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إليها، ولم يحتفل احتفالا بليغا، لأنّ الأمر أمر عير لا نفير «1» .   (1) كما جاء في رواية كعب بن مالك التي جاءت في (صحيح البخاري) باب غزوة بدر. ويبدو من متابعة الأخبار والقرائن الدقيقة أنّ هذا الركب التجاري الذي اتجه إلى الشام، إنما كان من ضمن الاستعداد للهجوم على المدينة، فقد ثبت تاريخيا أن أهل مكة (بصفة العموم والإطباق) أسهموا في تمويل هذا الركب بسهامهم، حتى تستطيع قريش الإغارة على المدينة، حتى النساء أسهمن بأموالهنّ في تجهيز هذا الركب، وكان هذا الركب التجاري عائدا ببضائع تجارية، قيمتها نحو خمسين ألف دينار ذهبي، وكان الهدف استخدام هذه الثروة في الإغارة على المدينة. قال البيهقي في (دلائل النبوة) 3/ 102: يقال: كانت عيرهم ألف بعير، ولم يكن لأحد من قريش أوقية فما فوقها، إلا بعث بها مع أبي سفيان، وكذلك جاء في (طبقات ابن سعد) . وتدلّ القرائن العقلية والعادات المتّبعة، على أن الركب كان يحمل كمية كبيرة من الأسلحة الحربية المستوردة من الشام، لأن مكة والحجاز لم تكن فيها مصانع للأسلحة الحربية، وإنما كانت تستورد من الخارج، وكانت هذه الأسلحة مهيأة ومستوردة للقتال ضد الجالية الإسلامية الصغيرة القاطنة في المدينة. فكان مما تقتضيه مصلحة الدفاع عن المدينة وعن الكيان الإسلامي الفريد القليل في العدد والعدّة، أن يحال بين قريش وبين هدف الهجوم على المدينة، مستعينة في ذلك بهذه الثروة الطائلة، التي حصّلتها عن طريق التجارة، وجلب البضائع الثمينة والمال التجاري من سورية الغنية الراقية، إضافة إلى الأسلحة الحربية السورية، وكان حملتها من المغيرين الجائرين على الجالية الإسلامية الصغيرة، والمستحلّين لنفوسها وأموالها وأعراضها. ويبدو من متابعة الأخبار، واستعراض المحيط الذي أحاط بهذا الإقدام العسكري، أنّ قريشا لما بلغهم همّ المسلمين بمواجهة الركب التجاري القادم من الشام، استعدّت للدفاع عن هذا الركب، ولو اقتضى ذلك الهجوم على الجالية الإسلامية اللاجئة في المدينة، وذلك تحت قيادة أبي جهل أعدى عدوّ للإسلام-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وبلغ أبا سفيان مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده إياه، فأرسل إلى مكة مستصرخا لقريش ليمنعوه من المسلمين، وبلغ الصريخ أهل مكّة، فجدّ جدّهم، ونهضوا مسرعين ولم يتخلّف من أشرافهم أحد، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلّف عنهم أحد من بطون قريش إلا القليل النادر، وجاؤوا على حميّة، وغضب، وحنق. تجاوب الأنصار وتفانيهم في الطاعة: ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج قريش استشار أصحابه، وكان يعني الأنصار لأنهم بايعوه على أن يمنعوه في ديارهم، فلمّا عزم على الخروج من المدينة، أراد أن يعلم ما عندهم، فتكلم المهاجرون، فأحسنوا، ثمّ استشارهم ثانيا فتكلّموا أيضا فأحسنوا، ثمّ استشارهم ثالثا، ففهمت الأنصار   - فكان هنالك إمكانان متبائنان: إما هجوم المسلمين على الركب التجاري، وإما مواجهة زحف قريش، فكان من الطبيعي أن يؤثر العدد الغالب من الخارجين من المدينة مواجهة الركب التجاري فقط بطبيعة الحال، ومقتضى الفطرة، ويقضي الله بترجيح الجانب المقابل، وهو وقوع الضربة الموجعة الحاسمة على أعداء الإسلام المغيرين، وإشعارهم بما للإسلام والمسلمين من مستقبل زاهر. وقد سبق ذلك نزول الآية: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال: 7- 8] . وقد روى الطبريّ في (التفسير) عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قال: «أقبلت عير أهل مكة- يريد من الشام- فبلغ أهل المدينة ذلك، فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العير، فبلغ ذلك أهل مكة، فسارعوا السير إليها، لا يغلب عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين، فكانوا أن يلقوا العير أحبّ إليهم، وأيسر شوكة، وأحضر مغنما، فلما سبقت العير، وفاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم، فكره القوم مسيرهم لشوكة في القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أنّه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله! كأنّك تعرض بنا، لعلّك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقا عليها ألا تنصرك إلّا في ديارهم، إنّي أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منّا كان أحبّ إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر، فأمرنا تبع لأمرك، فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان «1» ، لنسيرنّ معك، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك. وقال له المقداد: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: «اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون» ولكنّا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك. فلمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أشرق وجهه، وسرّ بما سمع من أصحابه، وقال: «سيروا، وأبشروا» «2» . تنافس الغلمان في الجهاد والشهادة: ولمّا توجّه المسلمون إلى بدر، خرج غلام اسمه عمير بن أبي وقّاص، وهو في السادسة عشرة من سنّه، وكان يخاف ألا يقبله النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّه صغير، فكان يجتهد ألا يراه أحد، وكان يتوارى، وسأله أخوه الأكبر: سعد بن أبي وقّاص، عن ذلك فقال: أخاف أن يردّني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّا أحبّ   (1) غمدان بضم أوّله، وسكون ثانيه، قصر بصنعاء باليمن كان منزل الملوك (مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع) . [والذي في صحيح مسلم: برك الغماد] . (2) زاد المعاد: ج 1، ص 342- 343، وسيرة ابن هشام: ج 1؛ ص 614؛ ورواه البخاري مختصرا في [كتاب المغازي] باب قوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ [الأنفال: 9] [برقم (3952) ] ، ومسلم [في كتاب الجهاد] في باب «غزوة بدر» برقم [1779] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الخروج، لعلّ الله يرزقني الشهادة، وكان كذلك، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردّه لأنّه لم يبلغ مبلغ الرجال، فبكى عمير، ورقّ له قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه، وقتل شهيدا في الغزوة «1» . التفاوت بين المسلمين والكفار في العدد والعدد: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا في ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا، لم يكن معهم من الخيل إلا فرسان، وسبعون بعيرا، يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد «2» ، لا فرق في ذلك بين جنديّ وقائد، وتابع ومتبوع، فكان منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وكبار الصحابة «3» . ودفع اللّواء إلى مصعب بن عمير، وراية المهاجرين إلى عليّ بن أبي طالب، وراية الأنصار إلى سعد بن معاذ. ولمّا سمع أبو سفيان خروج المسلمين، خفض ولحق بساحل البحر، ولمّا رأى أنّه قد نجا وسلمت العير، كتب إلى قريش أن ارجعوا، فإنّكم إنّما خرجتم لتحرزوا عيركم، وهمّوا بالرجوع، فأبى أبو جهل إلا القتال «4» ، وكانت قريش بين ألف وزيادة «5» ، منهم صناديد قريش وسادتها، وفرسانها   (1) راجع «أسد الغابة» ج: 4، ص: 148 [وأخرج هذه القصّة البزّار في «كشف الأستار» برقم (1770) ، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 69) : رواه البزّار، ورجاله ثقات] . (2) زاد المعاد: ج: 1، ص: 342. (3) [أخرجه أحمد في مسنده (1/ 411) ، وابن حبان في صحيحه برقم (1688) ، والحاكم في المستدرك (3/ 20) : وصحّحه الذهبيّ] . (4) زاد المعاد: ج 1، ص 343، وابن هشام: ج 1، ص 618- 619. (5) رواه أحمد والبزار والطبراني، وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي، وفي فتح الباري (ج 7، ص 291) ، أن هذا هو المشهور عند ابن إسحاق وجماعة من أهل المغازي. وقد جاءت في روايات وكتب السيرة أعداد أخرى، وهي أرقام متقاربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وأبطالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» «1» . أمرهم شورى بينهم: ومضت قريش، حتّى نزلوا بجانب من الوادي، ونزل المسلمون بجانب بدر، فجاء الحباب بن المنذر، وقال: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله! فإنّ هذا ليس بمنزل، وأشار عليه بأرض تصلح للحرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي، ونهض ومن معه من الناس، فأتى أدنى ماء من القوم، فنزل عليه «2» . وسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الماء شطر الليل، وصنعوا الحياض وسمح رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن وردها من الكفار بالشّرب «3» . وأنزل الله عزّ وجلّ في تلك الليلة مطرا، كان على المشركين وابلا شديدا، ومنعهم من التقدّم، وكان على المسلمين رحمة، وطّأ الأرض،   (1) [أخرجه أحمد في المسند (1/ 117) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسند صحيح، وأخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر، برقم (1779) ] . (2) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 620 [وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 426) : وقال الذهبيّ: حديث منكر] . (3) مستفاد من «سيرة ابن هشام» : ج 1؛ ص 622. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وصلّب الرمل، وثبّت الأقدام، وربط على قلوبهم «1» . وهو قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ [الأنفال: 11] . الرسول القائد: وتجلّت عبقريته القيادية العسكرية- بجوار رسالته العظمى التي هي الأساس ومصدر الإلهام والهداية- في قيادته للجيش، وتعبئته الحكيمة، وسدّه لمنافذ الخطر والهجوم، وتقديره الصحيح لقوّة العدوّ الحربيّة وعدده ومواضع نزوله، جاءت تفاصيلها في كتب السيرة «2» . استعداد للمعركة: وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيه، على تلّ مشرف على المعركة، ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده: «هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان، إن شاء الله» ، فما تعدّى أحد منهم موضع إشارته «3» . ولمّا طلع المشركون، وتراءى الجمعان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 343. (2) اقرأ تفاصيل الخطوات الدفاعية والإجراءات العسكرية الحكيمة التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل معركة بدر في كتاب «حديث الدفاع» للواء «محمد أكبر خان» القائد الباكستاني في «الأردوية» و «الرسول القائد» للواء الركن المتقاعد محمود شيت خطّاب القائد العراقي، في العربية. (3) [أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب غزوة بدر، برقم (1779) وو في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميّت من الجنة أو النار..، برقم (2873) ، وأحمد في مسنده (1/ 26) : والنّسائي في كتاب الجنائز، باب أرواح المؤمنين (4/ 108) من حديث أنس رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها جاءت تحاربك، وتكذّب رسولك» «1» . وكانت ليلة الجمعة، السابع عشر من رمضان، فلمّا أصبحوا أقبلت قريش في كتائبها، واصطفّ الفريقان «2» . دعاء وتضرّع، ومناشدة وشفاعة: عدّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ورجع إلى العريش، فدخله، ومعه أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الابتهال، والتضرّع، والدعاء، وقد علم أن لو وكل المسلمون إلى أنفسهم وقوتهم فالنتيجة معلومة واضحة، نتيجة كلّ قليل ضعيف أمام قويّ كثير العدد، ولمّا رأى الكفّتين: كفّة المسلمين وكفّة المشركين، غير متكافئتين، وضع صنجة «3» في كفّة المسلمين، رجحت بها رجحانا ظاهرا، فاستغاث بالله الذي لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال: 10] . وشفع للكتيبة المؤمنة القليلة العدد، الفقيرة في العدد، فقال: «اللهمّ! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض» . وجعل يهتف بربّه عزّ وجلّ ويقول: «اللهمّ! أنجز لي ما وعدتني، اللهمّ   (1) [أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، برقم (1763) ، وأحمد في مسنده (1/ 30- 32) من حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في كتاب المغازي، باب قول الله تعالى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ... برقم (3953) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما] . (2) زاد المعاد: ج 1، ص 343- 344. (3) [الصّنجة: أي سنجة الميزان: ما يوزن به كالرّطل والأوقيّة] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 رسم ساحة القتال في غزوة بدر الكبرى ويبدو في جوانبها الحائط الذي بني حولها، وتقع العدوة القصوى في جانب اليسار من الرسم في الجهة الجنوبية من الساحة والتي كان نزول جيش الكفار فيها. أما العدوة الدنيا فإنها تقع في نهاية الرسم الشرقي وكانت منزل الجيش الإسلامي وتقع بمقربة منها مقابر شهداء بدر التي يبدو جزء من حائطها في الرسم. رسم ساحة القتال في غزوة بدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 نصرك» ويرفع يديه إلى السماء، حتّى سقط الرّداء عن منكبيه، وجعل أبو بكر رضي الله عنه- يسلّيه، ويشفق عليه من كثرة الابتهال «1» . تعريف دقيق بالأمّة وتحديد لمركزها ورسالتها: لقد شفع الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه العصابة المؤمنة في هذه الساعة الحاسمة الدقيقة، بالكلمة الوجيزة التي تجلّت فيها الثقة والاضطراب والسكينة والافتقار جنبا لجنب، فكانت أدقّ تعريف بهذه الأمة وأدق تحديد لمركزها ومكانتها بين الأمم، وقيمتها وغنائها في هذا العالم، والثغر الذي ترابط عليه، وهو الدعوة إلى الله وإخلاص الدين والعبادة له. وقد أثبت الانتصار الرائع المعجز الذي أبطل كلّ تجربة، صدق هذه الكلمة ودقّتها، وأنّها كانت تصويرا دقيقا لهذه الأمّة «2» .   (1) راجع «زاد المعاد» ، وكتب السيرة، ورواه في الصحيح [صحيح مسلم] في كتاب الجهاد والسير [ (باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر) [برقم (1763) ، وأحمد في مسنده (1/ 30) ] عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: «لما كان يوم بدر نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاثمئة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني؛ اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» . (2) ولمّا أجاب الله دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقضى بانتصار المسلمين على عدوهم- على تفاوت واضح بين العدد والعدد- وبقائهم، فكان بقاء المسلمين مشروطا بقيام حياة العبودية بهم والدعوة إلى التوحيد الخالص، فلو انقطعت الصلة بينهم وبين الدعوة إلى التوحيد الخالص، وعبادة الله تعالى ورواجها وازدهارها في العالم، لم يبق على الله لهم حقّ وذمة، وأصبحوا كسائر الأمم، خاضعين لنواميس الحياة وسنن الكون. فكانت الدعوة إلى الله وحده وعبادته وتنفيذ أحكامه وشرائعه في العالم قيمة الأمة الإسلامية بين الأمم ودورها في العالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 هذان خصمان اختصموا في ربّهم: ثمّ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النّاس، فحرّضهم على القتال، وخرج عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد، فلمّا توسّطوا بين الصفين، طلبوا المبارزة فخرج إليهم ثلاثة فتية من الأنصار فقالوا: من أنتم؟!. قالوا: رهط من الأنصار!. قالوا: أكفاء كرام، ولكن أخرجوا إلينا من بني عمّنا. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قم يا عبيدة بن الحارث (ابن المطلب بن عبد مناف) وقم يا حمزة، وقم يا عليّ» . قالوا: نعم أكفاء كرام. وبارز عبيدة- وكان أسنّ القوم- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز عليّ الوليد بن عتبة، فأما حمزة وعليّ فلم يمهلا خصميهما أن قتلاهما، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة، فأجهزا عليه، واحتملا عبيدة وهو جريح، ومات شهيدا «1» . التحام الفريقين ونشوب الحرب: وتزاحم الناس، ودنا بعضهم من بعض، ودنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى جنّة عرضها السّماوات والأرض» «2» .   (1) سيرة ابن هشام: ج: 1، ص: 625 [وأخرجه أحمد في مسنده (1/ 117) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في المبارزة، برقم (2665) من حديث عليّ رضي الله عنه] . (2) [أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1901) ، وأحمد (3/ 126) ، والبيهقي في السنن (9/ 43) و (9/ 99) ، وأبو عوانة في مسنده (4/ 459) والحاكم في المستدرك (3/ 481) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 أول قتيل: وقام عمير بن الحمام الأنصاريّ، فقال: يا رسول الله! جنّة عرضها السّماوات والأرض؟ قال: «نعم» . قال: بخ بخ «1» يا رسول الله!. قال: ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهنّ، ثمّ قال: لئن حييت حتى آكل من تمراتي هذه، إنّها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثمّ قاتل، حتّى قتل فكان أول قتيل «2» . والناس على مصافّهم، صابرون ذاكرون الله كثيرا، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالا شديدا، وكان أقرب الناس من العدوّ، وكان من أشدّ الناس يومئذ بأسا «3» ، ونزّل الله الملائكة بالرحمة والنصر، وقاتلوا المشركين، وهو قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال: 12] .   (1) [بخ (بكسر الخاء وإسكانها) : كلمة تقال في موضع الإعجاب] . (2) زاد المعاد: ج 1، ص 345، و «سيرة ابن كثير» ج 1، ص 421، [وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1901) ، والحاكم في المستدرك (3/ 426) ؛ وأحمد في المسند (3/ 136- 137) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (3) سيرة ابن كثير: ج 1، ص 425. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 مسابقة الإخوة في قتل أعداء الله ورسوله: وتسابق الشباب في الشهادة ونيل السعادة، وكانت مسابقة بين أخلّاء وأصدقاء، وإخوة أشقّاء. يقول عبد الرّحمن بن عوف: «إنّي لفي الصفّ يوم بدر، إذ التفتّ فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السّنّ، فكأنّي لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرّا من صاحبه: يا عمّ أرني أبا جهل فقلت: يابن أخي ما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، وقال لي الآخر سرّا من صاحبه مثله، قال: فما سرّني أنّي بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدّا عليه مثل الصّقرين حتّى ضرباه، وهما أبناء عفراء» «1» . ولمّا قتل أبو جهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أبو جهل فرعون هذه الأمّة» «2» . الفتح المبين: ولمّا أسفرت الحرب عن انتصار المسلمين وهزيمة المشركين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» . وصدق الله العظيم:   (1) أصل الرواية في الصحيحين، واللفظ للبخاري. (كتاب المغازي باب «غزوة بدر» [برقم (3988) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل برقم (1752) ، وأحمد في المسند (1/ 193) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه] ) . (2) سيرة ابن كثير: ج 1، ص 444 [وأخرجه الطبراني في الكبير برقم (8468) ، والبيهقي في «الدلائل» (2/ 261- 262) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123] . وأمر بالقتلى أن يطرحوا بالقليب فطرحوا فيه، ووقف عليهم، فقال: «يا أهل القليب! هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقا» «1» . وقتل من سراة الكفّار يوم بدر سبعون وأسر سبعون «2» ، ومن المسلمين من قريش ستّة ومن الأنصار ثمانية «3» . وقع معركة بدر: وتوجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيّدا مظفّرا، وقد خافه كلّ عدوّ له بالمدينة وحولها، وأسلم بشر كثير من أهل المدينة. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرين إلى المدينة منهما عبد الله بن رواحة، يبشّر أهل المدينة، ويقول: «يا معشر الأنصار! أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم، ويسمّي من قتل في بدر من صناديد قريش، يبشّرهم دارا دارا، والصبيان ينشدون الأبيات معه سرورا وشكرا، والناس بين مصدّق ومتردّد، حتّى أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة، وجيء بالأسرى وعليهم «شقران» مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم «4» ، حتّى إذا كان بالرّوحاء لقيه المسلمون   (1) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 638- 639، [وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، برقم (3976) ، ومسلم في كتاب الجنة ونعيمها، باب عرض مقعد الميّت من الجنة والنار عليه..، برقم (2874) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (2) رواه البخاري، عن البراء بن عازب، [باب] غزوة بدر من كتاب المغازي [برقم (3986) ] . (3) سيرة ابن كثير: ج 1، ص 463. (4) المصدر السابق: ص 470- 473 [وأخرجه البيهقي في السّنن (9/ 147) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 يهنّئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين. ووقعت النياحة في بيوت المشركين بمكّة، وكثر البكاء على القتلى «1» ، ودخل الرعب في قلوب الأعداء، ونذر أبو سفيان ألّا يمسّ رأسه ماء، حتّى يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ووجد المسلمون المستخفون في مكة في أنفسهم قوّة وعزا. إخاء العقيدة فوق إخاء الولادة: أسر يوم بدر أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمّه، وكان مصعب صاحب اللواء يوم بدر، وأبو عزيز صاحب لواء المشركين، ومرّ به أخوه مصعب ورجل من الأنصار يشدّ يديه، فأوصاه بأن يشدّ الوثاق، قال: إنّ أمّه ذات متاع لعلّها تفديه منك، فقال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟! فقال له مصعب: إنّه أخي من دونك «2» . كيف عامل المسلمون الأسرى؟ وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى، فقال: «استوصوا بهم خيرا» يقول أبو عزيز هذا: «كنت في رهط من الأنصار، حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز، وأكلوا التّمر، لوصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحي، فأردّها، فيردّها عليّ، ما يمسّها «3» . وكان من الأسرى العباس بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمّه   (1) راجع «سيرة ابن هشام» : ج 1؛ ص 647- 648. (2) سيرة ابن كثير: ج 2، ص 475. (3) المصدر السابق: ج 2، ص 475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 عقيل بن أبي طالب «1» ، وأبو العاص بن الربيع، زوج بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان حكم الإسلام عاما، لا يميّز بين قريب وبعيد. تعليم غلمان المسلمين فداء الأسرى: وعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأسرى، وقبل منهم الفداء، وكان يفادي بهم على قدر أموالهم، وكان من لا شيء له منّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقه، وبعثت قريش في فداء الأسارى وأطلق سراحهم. وكان من بين الأسرى، من لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلّموا أولاد الأنصار الكتابة «2» ، فيعلّم كلّ واحد عشرة من المسلمين الكتابة «3» . وكان زيد بن ثابت ممّن تعلّم بهذا الطريق، وكان في ذلك من تقدير العلم وتشجيع القراءة والكتابة ما لا يحتاج إلى توضيح.   (1) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 3. (2) مسند أحمد: ج 1، ص 247. (3) طبقات ابن سعد: ج 2، ص 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 خريطة السرايا والغزوات بين بدر وأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 خريطة إجلاء بني قينقاع شوال سنة 2 للهجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 غزوات وسرايا بين بدر وأحد غزوة السويق: كان أبو سفيان قد نذر ألا يمسّ رأسه ماء، حتّى يغزو المسلمين، فخرج في مئتي راكب من قريش ليبرّ يمينه، واستأذن على سلام بن مشكم سيد بني النّضير، فأذن له، وقراه، وسقاه، وبطن له من خبر الناس، وبعث رجالا، فقتلوا رجلين من الأنصار. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، ورجع أبو سفيان وأصحابه قبل أن يدركهم المسلمون، وألقوا أزوادا كثيرة، عامّتها سويق، فسمّيت «غزوة السّويق» «1» . إجلاء بني قينقاع: وكان بنو قينقاع أول يهود، نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوا في بدر وأحد، وآذوا المسلمين، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، حتّى نزلوا على حكمه، وشفع فيهم حليفهم عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، فأطلقهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» وكانوا سبعمئة مقاتل، وكانوا صاغة وتجّارا «3» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 44- 45. (2) المصدر السابق: ج 1، ص 47- 49. (3) زاد المعاد: ج 1، ص 348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 أصدر النبيّ صلى الله عليه وسلم عفوا عاما عن هؤلاء اليهود شريطة أن يخرجوا من المدينة إلى أيّ مكان شاؤوا، فجلوا عنها إلى الشام آمنين على أنفسهم، وعلى ما قدروا من حمله من أموالهم، وغادر بنو قينقاع يثرب سالمين بعد أن كانوا يتوقّعون الموت جزاء نكثهم وتمرّدهم «1» . يقول المستشرق إسرائيل ولفنسون في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب» : «كان لا بدّ من عمل حاسم إزاء بني قينقاع وهم يسكنون داخل المدينة في حيّ واحد، من أحياء العرب وتطهير المدينة وأحياء الأنصار من غير المسلمين» .   (1) راجع «سيرة ابن هشام» : ج 2، ص 48، وإجلاء بني قينقاع وقع بعد غزوة بدر الكبرى، وقد حدّد الزهري تاريخه، وذكر أنه كان في شوال من السنة الثانية من الهجرة. يقول مونتجمري وات) Montgomery Watt (في كتابه) Muhammad Prophet Statesman (ص 130: «لقد كان طرد قبيلة بني قينقاع أحد العوامل الهامة التي عملت على تثبيت مركز محمد ودعمه، وسبب هذا الطرد كما ترويه بعض الروايات نزاع طفيف طرأ بين يهود قينقاع وبعض التجار المسلمين في السوق في المدينة.. إلخ» . وينفي مونتجمري وات أن يكون سبب هذا الطرد قصة المرأة المسلمة التي اعتدي عليها في سوق بني قينقاع كما جاءت في كتب السيرة، وهو يقول: «أمّا الأسباب التي أدّت بمحمد إلى اتخاذ قرار طرد اليهود فيظهر أنها أكثر عمقا من هذه الحادثة العابرة، فاليهود لم يظهروا استعدادهم التام للاندماج في المجتمع الإسلامي» . ويضيف قائلا: «وقد يكون محمد أيضا على علم بالعلاقات الوديّة بين اليهود ومناوئيه من قريش في مكة، وهذا يعدّ مخالفة لروح الاتفاقية المبرمة بين المسلمين واليهود، وتناقضا لها» . راجع للتفصيل «غزوة بني قينقاع» للأستاذ محمد أحمد باشميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 قتل كعب بن الأشرف: وكان كعب بن الأشرف أحد رؤساء اليهود، شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، فلمّا كانت وقعة بدر، ذهب إلى مكة، فجعل يؤلّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، ثم رجع إلى المدينة على تلك الحال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف، فإنّه قد آذى الله ورسوله» ؟، فانتدب له رجال من الأنصار، فقتلوه «1» .   (1) زاد المعاد: ص 348، ملخّصا. وقع قتل كعب بن أشرف بعد غزوة بدر، وقيل: غزوة بني النضير. وحدّد الواقدي ذلك بدقة وذكر أنه وقع في السنة الثالثة لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول. (السيرة النبوية الصحيحة، للدكتور أكرم ضياء العمري: ص/ 202- 203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 خريطة غزوة أحد 15 شوال 3 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 غزوة أحد شوّال سنة ثلاث من الهجرة الحميّة الجاهلية وأخذ الثأر: لمّا أصيب صناديد قريش يوم بدر، ورجع فلّهم إلى مكة، عظم المصاب عليهم، ومشى رجال أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم، فكلّموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فاستعانوا بهذا المال على حرب المسلمين، ففعلوا واجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرّض الشعراء الناس بشعرهم، وأثاروا فيهم الغيرة والحميّة. وخرجت قريش في منتصف شوّال سنة ثلاث للهجرة بحدّها وحديدها، بأبنائها ومن تابعها من القبائل، وخرجوا معهم بالظّعن «1» ، لئلا يفرّوا «2» ، وخرج سادة قريش بأزواجهم وأقبلوا حتّى نزلوا مقابل المدينة. وكان من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم المسلمون بالمدينة، ويدعهم فإن يدخلوا عليهم قاتلوهم فيها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج، وكان رأي عبد الله بن أبيّ ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجال من المسلمين ممّن فاتهم بدر: يا رسول الله! اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرونا أنا جبنّا عنهم وضعفنا. فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته فلبس لأمته، وندم   (1) الظعن: جمع ظعينة، وهي المرأة ما دامت في الهودج. (2) ابن هشام: ج 2، ص 60- 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الذين اقترحوا الخروج، فقالوا: استكرهناك يا رسول الله! ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلّى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتّى يقاتل» «1» . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه «2» ، فلمّا كانوا بالشّوط بين المدينة وأحد، انخذل عنه عبد الله بن أبيّ بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني «3» . في ميدان أحد: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى نزل الشّعب من أحد (وهو جبل على نحو ثلاثة كيلو متر من المدينة) وجعل ظهره وعسكره إلى أحد «4» ، وقال: لا يقاتلنّ أحد منكم حتّى نأمره بالقتال، وتعبّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال، وهو في سبعمئة رجل. وأمّر على الرّماة عبد الله بن جبير، وهم خمسون رجلا، فقال: ادفع   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 63 [وأخرجه أحمد في مسنده (3/ 351) والدارميّ في كتاب الرؤيا، باب في القمص واللبن..، برقم (2082) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه] . (2) لفظ ابن حزم الرقم الذي ذكرته المصادر الكثيرة عن عدد جند المسلمين في غزوة أحد، وفق أقيسة قليلة بحتة، ولكن المشهور المستفيض ما ذكر. (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 63 [وأخرجه البخاريّ في كتاب المغازي، باب غزوة أحد، برقم (4050) ، ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2776) في أبواب تفسير القرآن، في تفسير سورة النساء، برقم (3028) ، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه] . (4) راجع لفهم «الوضع الاستراتيجي» في ميدان أحد، كتاب «ساحات القتال في العهد النبوي» ب (اللغة الأردوية) للدكتور حميد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الخيل عنّا بالنّبل، لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا «1» وأمرهم بأن يلزموا مركزهم، وألّا يفارقوا ولو رأوا الطّير تتخطّف العسكر «2» . ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم درعا فوق درع، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه-. مسابقة بين أتراب: ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الغلمان في يوم أحد لصغرهم، فردّ سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة سنة، وشفع أبو رافع لابنه وقال: يا رسول الله! إنّ ابني رافعا رام، فأجازه النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم سمرة بن جندب وهو في سنّ رافع، وردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغره، فقال سمرة: لقد أجزت رافعا ورددتني، ولو صارعته لصرعته، ووقعت المصارعة بينهما، فصرع سمرة رافعا فأجيز وخرج وقاتل يوم أحد «3» . المعركة: والتقى النّاس، ودنا بعضهم من بعض، وقامت هند بنت عتبة في النّسوة، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال يحرضنهم، واقتتل الناس حتّى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة الذي أخذ السيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 66. (2) زاد المعاد: ج 1، ص 349، وراجع «صحيح البخاري» كتاب المغازي، باب غزوة أحد، [برقم (4043) و «مسند الإمام أحمد» (4/ 293) حديث البراء بن عازب رضي الله عنه] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 رسم ساحة القتال في غزوة أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ووعده بأنّه يأخذه بحقّه، حتى أمعن في الناس، وجعل لا يلقى أحدا إلا قتله «1» . شهادة حمزة بن عبد المطلّب ومصعب بن عمير رضي الله عنهما: وقاتل حمزة بن عبد المطّلب قتالا شديدا، وقتل عددا من الأبطال، لا يقف أمامه شيء، وكان وحشيّ غلام جبير بن مطعم له بالمرصاد، وكان يقذف بحربة له قلّما يخطىء بها شيئا، ووعده جبير بالعتق إن قتل حمزة، وقد قتل عمّه طعيمة يوم بدر، وكانت هند تحرّضه كذلك على قتل حمزة وشفاء نفسها، وحمل وحشيّ على حمزة بحربته، فدفعها عليه حتّى خرجت من بين رجليه، فوقع شهيدا «2» . وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى قتل، وأبلى المسلمون بلاء حسنا «3» . غلبة المسلمين: وأنزل الله تعالى نصره عليهم، وصدقهم وعده، حتّى كشفوا المشركين عن العسكر، وكانت الهزيمة لا شكّ فيها، وولّت النساء مشمّرات هوارب «4» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 67- 68. (2) المصدر السابق: ج 2، ص 70- 72، واقرأ القصة بلسان وحشيّ في «الجامع الصحيح» للبخاري، [كتاب المغازي] غزوة أحد، باب «قتل حمزة- رضي الله عنه-» [برقم (4072) وأحمد (3/ 501) ] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 73. (4) المصدر السابق: ج 2، ص 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 كيف دارت الدائرة على المسلمين؟ وبينما هم كذلك إذ انهزم المشركون، وولّوا مدبرين، حتى انتهوا إلى نسائهم، فلمّا رأى الرّماة ذلك، مالوا إلى العسكر، وهم موقنون بالفتح، وقالوا: يا قوم! الغنيمة! الغنيمة! فذكّرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعوا، وظنّوا أن ليس للمشركين رجعة، فأخلوا الثغر، وأخلوا ظهور المسلمين إلى الخيل «1» ، وأصيب أصحاب لواء المشركين حتّى ما يدنو منه أحد من القوم، فأتاهم المشركون من خلفهم، وصرخ صارخ: ألا! إنّ محمدا قد قتل. فتراجع المسلمون وكرّ المشركون كرّة، وانتهزوا الفرصة، وكان يوم بلاء وتمحيص، وخلص العدوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابته الحجارة، حتّى وقع لشقّه، وأصيبت رباعيته، وشجّ في رأسه «2» ، وجرحت شفته صلى الله عليه وسلم وجعل الدم يسيل على وجهه، فيمسحه ويقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعوهم إلى ربّهم؟!» «3» . ولا يعلم المسلمون بمكانه، فأخذ عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه طلحة بن عبيد الله، حتّى استوى قائما، ومصّ مالك بن سنان الدّم عن وجهه صلى الله عليه وسلم وابتلعه «4» . ولم تكن فرّة، إنّما كانت جولة يضطرّ إليها الجيش ثمّ يستأنف كرّة «5» ،   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 350. (2) [الشجّ في الرّأس: هو أن يضربه بشيء، فيجرحه فيه ويشقّه] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 78- 80. (4) المصدر السابق: ج 2، ص 80. (5) يقول المستشرق جيورجيو في كتابه: «نظرة جديدة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم» (ص 267) : «من وجهة نظر محارب متخصّص- محايد- لم يخسر المسلمون في معركة أحد، إنما وقعوا في تجربة مفاجئة وحسب، لأن جيش مكة لم يفن جيش المسلمين، كما لم يحتل- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وما أصاب المسلمين من نكسة ومحنة، وما أصيبوا من خسارة في النفوس، وشهادة من كان قوة للإسلام والمسلمين، وناصرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللدّين، إنّما كان نتيجة زلة للرماة، وعدم تمسّكهم بتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره إلى اللّحظة الأخيرة، وإخلائهم للجبهة التي عيّنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وهو قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 152] . روائع من الحبّ والفداء: نزع أبو عبيدة بن الجرّاح إحدى الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيّته، ونزع الآخرى، فكان ساقط الثنيتين «1» . وتترّس أبو دجانة بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع النّبل في ظهره وهو منحن عليه، حتّى كثر فيه النبل. ورمى سعد بن أبي وقّاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويناوله النبيّ صلى الله عليه وسلم النبل ويقول: «ارم فداك أبي وأمّي» «2» .   - المدينة» . (1) [أخرج البخاريّ حادثة جرح الرّسول صلى الله عليه وسلم، في كتاب المغازي، باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجرح يوم أحد، برقم (4073) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (1793) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أيضا برقم (1791) في الكتاب والباب نفسه] . (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 80- 82، ورواه البخاري [في كتاب المغازي] في غزوة أحد- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وأصيبت عين قتادة بن النّعمان، حتّى وقعت على وجنته «1» فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما «2» . وقصده المشركون، يريدون ما يأباه الله، فحال دونه نفر نحو عشرة، حتّى قتلوا عن آخرهم، وجالدهم طلحة بن عبيد الله، وترس عليه بيده، يقي بها النبيّ صلى الله عليه وسلم فأصيبت أنامله وشلّت يده، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هنالك، فلم يستطع لما به من الجراح والضعف، فجلس طلحة تحته، حتى صعدها، وحانت الصلاة، فصلّى بهم جالسا «3» . ولمّا انهزم الناس، لم ينهزم أنس بن النّضر، عم أنس بن مالك- خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم- وتقدّم، فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمرو؟ فقال أنس: واها لريح الجنّة، يا سعد إني أجدها دون أحد «4» .   - في باب قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران: 122] [برقم (4057) و (4058) ، ومسلم في فضائل الصحابة؛ باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، برقم (2411) ] . (1) [الوجنة: هي أعلى الخدّ] . (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 82. (3) المصدر السابق: ج 2، ص 86، وزاد المعاد: ج 1، ص 350 [وأخرجه الترمذي في أبواب الجهاد، باب ما جاء في الدرع، برقم (1692) ، وفي أبواب المناقب، باب مناقب طلحة، برقم (3739) وقال: حسن غريب، وأحمد في المسند (1/ 165) ، والحاكم في المستدرك (3/ 374) ووافقه الذهبي] . (4) زاد المعاد: ج 1، ص 350، وأصل الرواية في الصحيحين [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة أحد، برقم (4048) ، ومسلم في كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1903) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، سورة السجدة، برقم (3198) ، وفي سورة الأحزاب، برقم (3199) ، وأحمد في المسند (3/ 194) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وانتهى أنس بن النّضر إلى رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟، قوموا وموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثمّ استقبل القوم، فقاتل حتى قتل. يقول أنس رضي الله عنه: لقد وجدنا به يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه «1» . وقاتل زياد بن السّكن في خمسة من الأنصار دون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلون دونه رجلا ثم رجلا، فقاتل زياد حتّى أثبتته الجراحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدنوه منّي» فأدنوه، فوسّده قدمه، فمات وخدّه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له أربعة أبناء شباب، يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا توجّه إلى أحد أراد أن يخرج معه، فقال له بنوه: إنّ الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد. وأتى عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ بنيّ هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك، وو الله إنّي لأرجو أن أستشهد، فأطأ بعرجتي هذه في الجنّة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أنت فقد وضع الله عنك الجهاد، وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه، لعلّ الله يرزقه الشهادة، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدا «3» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 82. (2) المصدر السابق: ج 2، ص 81. (3) زاد المعاد: ج 1، ص 353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 يقول زيد بن ثابت- رضي الله عنه-: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الرّبيع، فقال لي: إن رأيته فأقرئه منّي السلام وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو باخر رمق، وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة سيف، ورمية سهم فقلت: يا سعد! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله السلام، وقل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنّة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته «1» . وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم: اللهمّ! إنّي أقسم عليك أن ألقى العدوّ غدا، فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني: فيم ذاك؟ فأقول: فيك!. عودة المسلمين إلى مركزهم: ولمّا عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض معهم نحو الشّعب، وأدركه أبيّ بن خلف، وهو يقول: أي محمد لا نجوت إن نجوت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه» ، فلمّا دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من أحد أصحابه، ثم استقبله وطعنه في عنقه طعنة تقلّب بها عن فرسه مرارا «2» .   (1) زاد المعاد: ج 2، ص 353 [أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 201) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والبيهقي في «الدلائل» (3/ 248) ، والطبري في تاريخه (2/ 528) من طريق ابن إسحاق] . (2) سيرة ابن هشام: (2/ 84) [أخرجه البيهقي في «السنن» (9/ 24) ، والحاكم في المستدرك (3/ 199- 200) ، وأبو نعيم في «الحلية» و (1/ 109) من حديث سعد بن- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وخرج عليّ بن أبي طالب، فملأ درقته «1» ماء، وغسل من وجهه الدم، وكانت فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم تغسله، وعليّ يسكب الماء بالمجنّ «2» ، فلمّا رأت فاطمة أنّ الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، وألصقتها، فاستمسك الدّم «3» . وكانت عائشة بنت أبي بكر وأمّ سليم تنقلان القرب على متونهما تفرغانها في أفواه القوم، ثمّ ترجعان فتملأ انها، ثم تجيئان، فتفرغانها في أفواه القوم «4» ، وكانت أمّ سليط تزفر «5» لهما القرب «6» . ووقعت هند بنت عتبة، والنّسوة اللائي معها يمثّلن بالقتلى من المسلمين، يجد عن الآذان والآنف، وبقرت عن كبد حمزة- رضي الله عنه- فمضغتها، فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها «7» .   - وقاص رضي الله عنه، وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي] . (1) [الدّرقة: التّرس من جلد ليس فيه خشب ولا عقب] . (2) [المجن: قد تكرّر في الأحاديث ذكر «المجنّ والمجانّ» وهو التّرس والتّرسة، والميم زائدة لأنّه من الجنّة] . (3) رواه البخاري في «غزوة أحد» باب «ما أصاب النبي من الجراح يوم أحد» [برقم (4075) ] ، ومسلم في [كتاب الجهاد والسير] باب «غزوة أحد» [برقم (1790) ] باختلاف يسير، [وأحمد في المسند (5/ 330) ، وابن ماجه في أبواب الطب، باب دواء الجراحة، برقم (3464) من حديث سهل بن سعد السّاعدي رضي الله عنه] وابن هشام: ج 2، ص 85 وزاد المعاد: ج 1، ص 352. (4) رواه البخاري [في كتاب المغازي] (غزوة أحد) باب إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [برقم (4064) ] ، ومسلم [في كتاب الجهاد] في باب غزوة النساء مع الرجال [برقم (1811) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (5) تزفر: تستقي. (6) رواه البخاري، [في كتاب المغازي] باب «أم سليط» [برقم (4071) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه] . (7) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ولمّا أراد أبو سفيان الانصراف، أشرف على الجبل، ثمّ صرخ بأعلى صوته: إنّ الحرب سجال، يوم بيوم، اعل هبل. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قم يا عمر، فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء، فقتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار» «1» . قال أبو سفيان: لنا العزّى ولا عزّى لكم. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» . قالوا: ما نقول؟. قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» «2» . ولمّا انصرف، وانصرف المسلمون، نادى: إنّ موعدكم بدر للعام القابل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: «قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد» «3» . وفزع النّاس لقتلاهم، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة، وكان عمّه وأخاه من الرضاعة، والمقاتل دونه. صبر امرأة مؤمنة: وأقبلت صفيّة بنت عبد المطّلب لتنظر إليه، وكان أخاها لأبيها وأمّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزّبير بن العوام: «القها، فأرجعها، لا ترى ما بأخيها» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 93. (2) رواه البخاري، [في كتاب المغازي] باب «غزوة أحد» برقم (4043) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في الكمناء، برقم (2662) ، وأحمد في المسند (4/ 293) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فقال لها: يا أمّه! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أن قد مثّل بأخي، وذلك في الله لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء الله، وأتته، فنظرت إليه، وصلّت عليه، واسترجعت واستغفرت له، ثمّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن «1» . كيف دفن مصعب بن عمير وشهداء أحد؟ وقتل مصعب بن عمير صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أنعم فتيان قريش قبل الإسلام، فكفّن في بردة، إن غطّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطّيت رجلاه بدا رأسه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «غطّوا بها رأسه، واجعلوا على رجله الإذخر «2» » «3» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرّجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: «أيّهم أكثر أخذا للقرآن؟» فإذا أشير له إلى أحد، قدّمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» ، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلّ عليهم، ولم يغسّلوا «4» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 97 [أخرجه أحمد (1/ 165) ، والبيهقي (4/ 401) من حديث الزبير بن العوّام رضي الله عنه] . (2) [الإذخر: حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب] . (3) رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب إذا لم يجد كفنا إلا ما يواري رأسه..، برقم (1276) ، ومسلم في كتاب الجنائز، باب في كفن الميت، برقم (940) من حديث خبّاب ابن الأرت رضي الله عنه] . (4) رواه البخاري [في كتاب الجنائز] ، باب «من قتل من المسلمين يوم أحد» [برقم (1343) ، والترمذي في أبواب الجنائز، باب ما جاء في ترك الصلاة على الشهيد، برقم (1036) ، وأبو داود في كتاب الجنائز، باب في الشهيد يغسل؟ برقم (3138) ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه] . هذا ما جاء في الجامع الصحيح، وقد وردت الأحاديث في الصلاة عليهم، وفي المسألة- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 إيثار النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عاد المسلمون إلى المدينة، فمرّوا بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا نعوا لها، قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أمّ فلان! هو بحمد الله كما تحبّين، قالت: أرونيه حتّى أنظر إليه، حتّى إذا رأته قالت: كلّ مصيبة بعدك جلل «1» . اتّباع المسلمين أثر العدوّ واستماتتهم في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم: وتلاوم المشركون، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدّهم، ثمّ تركتموهم ولم تبتروهم «2» . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدوّ هذا، والمسلمون مثخنون بالجراح، فلمّا كان الغد من يوم الأحد، أذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّاس بالخروج في طلب العدوّ، وأذّن ألا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، وما من المسلمين إلا جريح ثقيل، فخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتخلف منهم أحد، وانتهوا إلى «حمراء الأسد» ، وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثمّ رجعوا إلى المدينة «3» وقد أثنى الله تعالى على ذلك وخلّد ذكره، فقال: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً   - تفصيل وخلاف، راجع شروح الحديث وكتب الخلاف. (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 99 [وأخرجه البيهقي في «الدلائل» (3/ 302) ، والطبري في تاريخه (2/ 533) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه] . (2) [أي لم يقطعوهم مستأصلين] . (3) سيرة ابن كثير: ج 3، ص 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 172- 175] . وقد استشهد من المسلمين يوم أحد سبعون، أكثرهم من الأنصار، رضي الله عنهم، وقتل من المشركين اثنان وعشرون رجلا «1» . تربية نفوس المسلمين: وقد كان ما وقع في أحد من محنة للمسلمين، تمحيصا وتربية لهم، فلا ثقة بجماعة عاشت على سرور انتصار، ونشوة الفتح، وحلاوة الظفر، ولم تذق مرارة المصائب والخسائر، فإنّها إذا أصيبت بذلك في يوم من الأيام، عزّ ذلك عليها واضطرب إيمانها، ولذلك يقول الله تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [آل عمران: 153] . وقد هيّأ الله نفوس المسلمين في هذه المعركة، لتتلقّى نبأ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادته، وإن تأخّر ذلك، والثبات على العقيدة، والدعوة إليها والجهاد في سبيلها والوفاء لها في حياته، وبعد حياته، فلا يجبنون ولا يتخاذلون، ولا يهنون ولا يستكينون، فقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] .   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 101- 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 أحبّ إلى النفس من النفس: وفي سنة ثلاث للهجرة طلبت «عضل» «و «القارة» نفرا من المسلمين، ليعلّموهم، فبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة من أصحابه، معهم عاصم بن ثابت، وخبيب بن عديّ، وزيد بن الدّثنة، حتّى إذا كانوا على «الرّجيع» وهو موضع بين «عسفان» ومكة، غدروا بهم، قالوا: لكم عهد الله وميثاقه ألّا نقتلكم، فقال بعض المسلمين: لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا، وقاتلوا القوم حتّى قتلوا. وأمّا زيد بن الدّثنة، وخبيب بن عديّ، وعبد الله بن طارق، فأعطوا بأيديهم، فأسرهم المشركون، وقتل عبد الله بن طارق في الطريق، وأمّا خبيب وزيد، فباعوهما من قريش، وابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب، ليقتله بأبيه إهاب، وأمّا زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف. وأخرجوا زيدا من الحرم ليقتلوه، واجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد! أتحبّ أنّ محمدا عندنا الآن في مكانك وأنّك في أهلك، قال: ما أحبّ أنّ محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنّي جالس في أهلي «1» ، قال أبو سفيان: ما رأيت من النّاس أحدا يحبّ أحدا كحبّ أصحاب محمد محمدا، ثمّ قتل «2» . وأمّا خبيب، فلمّا جاؤوا به ليصلبوه، قال لهم: إن رأيتم أن تدعوني   (1) ذكره عروة وموسى بن عقبة في قصة خبيب (ابن كثير: ج 3، ص 131) . (2) رواية ابن إسحاق (ابن هشام: ج 2، ص 172) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 خريطة يوم الرجيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 حتّى أركع ركعتين، فافعلوا، قالوا: دونك، فاركع، فركع ركعتين، أتمّهما وأحسنهما، ثمّ أقبل على القوم، فقال: أمّا والله لولا أن تظنّوا أنّي إنّما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة، وأنشد بيتين: [من الطويل] فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيّ شقّ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع «1» بئر معونة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرا من أصحابه على طلب من عامر بن مالك ليدعوهم إلى الإسلام، وكانوا سبعين رجلا من خيار المسلمين، فساروا حتّى نزلوا بئر معونة، واجتمع عليهم قبائل من بني سليم: «عصيّة» و «رعل» و «ذكوان» ، فغشوا القوم، وأحاطوا بهم في رحالهم، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم، ثم قاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، إلا كعب بن زيد، عاش حتّى قتل يوم الخندق شهيدا «2» .   (1) راجع للتفصيل «سيرة ابن هشام» : ج 2، ص 169- 176؛ ورواه البخاري في كتاب المغازي، باب التوحيد والجهاد، [برقم (3989) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في الرجل يستأمر، برقم (2660) و (2661) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . باختلاف يسير، وابن كثير: ج 3، ص 123- 125. (2) راجع البخاري [أخرجه في كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع، ورعل، وذكوان..، برقم (4093) من حديث عائشة رضي الله عنه] ، ومسلم [في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات ... ، برقم (677) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] ، وسيرة ابن هشام [2/ 183- 187] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 كلمة قتيل كانت سببا لإسلام القاتل: وفي هذه السّرية قتل حرام بن ملحان، قتله جبار بن سلمى، وكان سبب إسلامه كلمة قالها حرام، وهو يجود بنفسه، يقول جبار: إنّ مما دعاني إلى الإسلام أنّي طعنت رجلا منهم يومئذ برمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول: فزت وربّ الكعبة! فقلت في نفسي: ما فاز؟! ألست قد قتلت الرجل؟! حتّى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: للشهادة، فقلت: فاز لعمر الله، فكان سببا لإسلامه «1» .   (1) [أخرج هذه القصة مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلوات..، برقم (677) ، والبيهقيّ في «الدلائل» (3/ 347) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] وابن هشام: ج 2، ص 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 خريطة إجلاء بني النضير ربيع الأول سنة 4 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 إجلاء بني النّضير خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النّضير- وهم قبيلة عظيمة من اليهود- ليستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فرقّوا في الكلام ووعدوا بخير، ولكنّهم أضمروا الغدر والاغتيال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا إلى جنب جدار من بيوتهم، فناجى بعضهم بعضا: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل يعلو هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السّماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسّير إليهم، ثمّ سار بالنّاس، حتّى نزل بهم، وذلك في شهر ربيع الأول سنة أربع، فحاصرهم ستّ ليال، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكفّ عن دمائهم على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فقبل، واحتملوا من أموالهم ما استقلّت بها الإبل، وكان الرجل منهم يهدم بيته عن العتبة والأسكفة، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به «1» ، يقول الله تعالى في هذه الغزوة:   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 190- 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] . فمنهم من خرج إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشّام، وتخلّص المسلمون من وكر من أوكار المكيدة والمؤامرة والنّفاق والخداع، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب: 25] . وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم إلى المهاجرين الأوّلين «1» . غزوة ذات الرقاع: وفي سنة أربع غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدا فسار حتى نزل نخلا، وكان ستة رجال- منهم أبو موسى الأشعريّ- بينهم بعير يتعقّبونه، فنقبت أقدامهم، وسقطت أظفارها، فكانوا يلفّون على أرجلهم الخرق، فسمّيت «غزوة ذات الرّقاع» «2» . وتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتّى صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف «3» .   (1) [أخرج البخاري واقعة إجلاء بني النضير في كتاب المغازي، باب حديث بني النضير ... ، برقم (4031) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، برقم (1746) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما] . (2) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرّقاع، برقم (4128) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب غزوة ذات الرقاع، برقم (1816) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا، في الكتاب نفسه، باب غزوة بني المصطلق..، برقم (4139) ، ومسلم في كتاب الصلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، برقم (843) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2 ص 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 من يمنعك مني؟ ولمّا قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة، وقفل معه النّاس أدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرّق الناس في العضاه «1» ، يستظلّون الشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة، فعلّق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، ثمّ إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فإذا عنده أعرابيّ جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده مصلتا، فقال لي: من يمنعك منّي؟، قلت: «الله» فها هو جالس، ثمّ لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . غزوات لم يكن فيها قتال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة أربع، إلى بدر؛ لميعاد أبي سفيان فنزله، وأقام عليه ثماني ليال، ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان، ثمّ بدا له الرجوع، وقال: إنّ عامكم هذا عام جدب، وإنّي راجع فارجعوا، وكفى الله المؤمنين القتال. وغزا دومة الجندل «3» ، ولم يلق كيدا، فرجع إلى المدينة «4» .   (1) العضاه: شجر كثير الشوك. (2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، [برقم (4136) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، برقم (843) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما] . (3) [دومة الجندل: وهي موضع، تضمّ دالها وتفتح] . (4) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 209- 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 خريطة السرايا والغزوات بين أحد والخندق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 غزوة الخندق أو غزوة الأحزاب شوّال سنة خمس من الهجرة وفي شوّال سنة خمس كانت غزوة الخندق أو غزوة الأحزاب «1» ، وكانت من الحوادث التي لها أثر بعيد في تاريخ الإسلام والمسلمين، وفي تقرير مصير الدعوة الإسلامية، وفي المدّ الإسلاميّ، وكانت معركة حاسمة، ومحنة ابتلي فيها المسلمون ابتلاء لم يبتلوا بمثله. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الأحزاب: 10- 11] . وكان سببها اليهود، فقد خرج نفر من بني النّضير، ونفر من بني وائل، فقدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا قد جرّبوها واكتووا بنارها، فصاروا يتهيّبونها، ويزهدون فيها، فزيّنها لهم الوفد اليهوديّ وهوّن أمرها، وقالوا: إنّا سنكون معكم حتّى نستأصله، فسرّ ذلك   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 خريطة غزوة الخندق شوال 5 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 قريشا، ونشطوا لما دعوهم إليه، واجتمعوا لذلك، واتعدوا له. ثمّ خرج الوفد، فجاء غطفان، فدعاهم إلى ذلك، وطاف في القبائل، وعرض عليها مشروع غزو المدينة، وموافقة قريش عليه «1» . وتمّت اتفاقية عسكرية، كان قريش واليهود وغطفان من أهمّ أعضائها، واتّفقوا على شروط، من أهمّها أن تشارك غطفان في «جيش الاتحاد» أو عسكر الحلفاء، بستة آلاف مقاتل، وأن يدفع اليهود لقبائل غطفان كلّ ثمر نخل خيبر لسنة واحدة، وحشدت قريش أربعة آلاف مقاتل، وغطفان ستة آلاف مقاتل، فكانوا عشرة آلاف، وأسندت قيادة الجيش إلى أبي سفيان «2» . الحكمة ضالّة المؤمن: ولمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بزحفهم إلى المدينة، وتحزّب الأحزاب لقتال المسلمين، وعزمها على استئصال شأفتهم، أهمّ المسلمين ذلك، وتهيؤوا للحرب، وقرّروا التحصّن في المدينة والدفاع عنها، وكان جيش المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل. هنالك أشار سلمان الفارسيّ بضرب الخندق على المدينة «3» ، وكانت خطّة حربيّة متبعة عند الفرس «4» ، قال سلمان: يا رسول الله! إنّا كنّا بأرض فارس إذا تخوّفنا الخيل خندقنا علينا، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه فأمر بحفر   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 214- 215. (2) المصدر السابق نفسه: ص 219- 220. (3) المصدر السابق نفسه: ص 224. (4) وكلمة خندق معرب كلمة «كنده» وترد كلمة خندك في الفارسية أيضا بنفس المعنى. راجع (فرهنك عميد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الخندق في السهل الواقع شمال غرب المدينة وهو الجانب المكشوف الذي يخاف منه اقتحام العدوّ «1» . وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق بين أصحابه، لكلّ عشرة منهم أربعون ذراعا «2» ، وقد بلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، والعرض من تسعة إلى ما فوقها «3» «4» . روح المساواة والمواساة بين المسلمين: وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق، ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب فيه ودأبوا «5» ، وكان البرد شديدا، ولا   (1) وقد تمّ حفره في شمالي المدينة الشرقي إلى غربيها، وكان حدّه الشرقي طرف حرة واقم، وحده الغربي غربي وادي بطحان، حيث طرف الحرة الغربية، (حرة الوبرة) . (آثار المدينة المنورة- للأستاذ عبد القدوس الأنصاري) . أمّا ما جاء من تحقيق العقيد عيسى أمين المجادل، المنشور في مجلة «الدفاع» الصادرة من إدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة بالرياض، عدد 79 شهر ذي الحجة سنة 1410 هـ: «إن الحفريات دلّت على أن الخندق كان طوله 8 كيلو مترات، وعرضه 6 أمتار، وعمقه 5 أمتار، فإن ما قيل عن الطول مستبعد نظرا إلى مساحة المدينة وصعوبة الحفر إلى هذا الحد، وعدم الحاجة إليه، أمّا ما قيل عن العرض والعمق فإن الاعتماد عليه ممكن ولا إشكال فيه» . (2) سيرة ابن كثير: ج 3، ص 192. (3) [انظر واقعة غزوة الخندق، أخرجها البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، في كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، برقم (4106) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب غزوة الخندق، برقم (1803) ، وأخرجها البخاري أيضا من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في الكتاب والباب نفسه، برقم (4098) ، ومسلم عنه أيضا في الكتاب والباب نفسه، برقم (4098) ] . (4) غزوة الأحزاب: للأستاذ محمد أحمد باشميل. (5) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 يجدون من القوت إلا ما يسدّ الرمق، وقد لا يجدونه. يقول أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه حجرين «1» . وكانوا مسرورين، يحمدون الله، ويرتجزون، ولا يشكون ولا يتعتّبون. يقول أنس- رضي الله عنه-: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلمّا رأى ما بهم من النّصب والجوع، قال: اللهمّ إنّ الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له: [من الرجز] نحن الذين بايعوا محمّدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا «2» قال: ويؤتون بملء كفّ من الشّعير، فيصنع لهم بإهالة «3» سنخة «4» «5» . نور الفتوح الإسلاميّة في ظلام الحصار والشدّة: عرض للمسلمين في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة، لا تأخذ فيها   (1) أخرجه الترمذي [في أبواب الزهد، باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (2371) ] ، قال الطيبي: «عادة من اشتدّ جوعه وخمص بطنه أن يشد على بطنه حجرا، ليتقوّم به صلبه» . (مشكاة المصابيح مع هامشها؛ ج 2، ص 448) . (2) أخرجه البخاري في الصحيح عن أنس رضي الله عنه في كتاب المغازي، باب غزوة الخندق [برقم (4099) و (4100) ] ، ورواه مسلم عن أنس نحوه [في كتاب الجهاد، باب غزوة الأحزاب، برقم (1805) ] . (3) الإهالة: الودكة وكل ما يؤتدم به. (4) السنخة: المتغيرة الريح، الفاسدة الطعم. (5) سيرة ابن كثير: ج 3، ص 184، نقلا عن البخاري [قد سبق تخريجه آنفا] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها أخذ المعول، وقال: «باسم الله» وضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام» فقطع ثلثا آخر، فقال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إنّي لأبصار قصر المدائن الأبيض» ثمّ ضرب الثالثة، فقال: «باسم الله» فقطع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنّي لأبصار أبواب صنعاء من مكاني الساعة» «1» . هذا، والمسلمون في شكّ من حياتهم، يعضّهم الجوع، ويؤذيهم البرد، وينذرهم العدوّ. المعجزات النبوية في الغزوة: وظهرت المعجزات على يد الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا اشتدّت على المسلمين في بعض الخندق كدية «2» ، دعا بإناء من ماء، فتفل فيه، ثمّ دعا بما شاء الله أن يدعو به، ونضح ذلك الماء على تلك الكدية فانهالت وعادت كالكثيب «3» . وظهرت البركة في طعام قليل، فشبع به عدد كبير، وكفى الجيش كلّه. قال جابر بن عبد الله: إنّا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاؤوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: «أنا نازل» ثمّ قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم «4» ، فقلت: يا رسول الله!   (1) أخرجه البيهقي [في «الدلائل» (3/ 417- 418) ] بسنده عن البراء بن عازب الأنصاري [وأخرجه أحمد في مسنده (4/ 303) و] (ابن كثير، ج 3، ص 194) . (2) [الكدية: قطعة غليظة صلبة لا تعمل فيها الفأس] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 217- 218. (4) أهيل أو أهيم: أي: رملا سائلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق «1» ، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتّى جعلنا اللحم في البرمة «2» ، ثمّ جئت النبيّ صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي «3» ، قد كادت أن تنضج فقلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: «كم هو؟» فذكرت له، قال: «كثير طيب. قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التّنوّر، حتّى آتي» فقال: «قوموا» فقام المهاجرون والأنصار. فلمّا دخلت على امرأتي، قلت: ويحك! جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم! قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: «ادخلوا ولا تضاغطوا» فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم ويخمّر «4» البرمة والتنّور إذا أخذ منه، ويقرّب إلى أصحابه، ثمّ ينزع. فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا. وبقي بقية، قال: «كلي هذا وأهدي، فإنّ الناس قد أصابتهم مجاعة» «5» . وفي رواية: قال جابر: جئته، فساررته فقلت: يا رسول الله! ذبحنا بهيمة لنا وطحنّا صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح   (1) العناق: الأنثى من ولد الماعز. (2) البرمة: القدر. (3) الأثافي: حجارة ثلاثة توضع عليها القدر. (4) يخمر: يغطي. (5) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح [في كتاب المغازي] باب «غزوة الخندق» [برقم (4102) ، ومسلم في كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، برقم (2039) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: «يا أصحاب الخندق! إن جابرا قد صنع سورا» «1» «2» . إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم: وأقبلت قريش، حتّى نزلت أمام المدينة، في عشرة آلاف، وأقبلت غطفان بتوابعهم، فنزلوا أمام المدينة أيضا، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في ثلاثة آلاف وبينه وبين قومه الخندق. وكان بين المسلمين وبين بني قريظة عقد وعهد، فحملهم حييّ بن أخطب سيّد بني النضير- على نقض العهد، وقد فعل ذلك بنو قريظة بعد امتناع وتردّد، وتحققه رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» فعظم عند ذلك البلاء، واشتدّ الخوف، ونجم النفاق من بعض المنافقين، وهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد الصلح بينه وبين غطفان على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، رفقا بالأنصار، وتخفيفا عنهم، فقد استقلّوا بأكبر نصيب من أعباء الحرب. ثمّ عدل عن ذلك، بعد ما رأى من سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الثبات والاستقامة، والصمود أمام العدوّ، والإباء، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! قد كنّا نحن وهؤلاء على الشّرك بالله، وعبادة الأوثان، لا نعبد   (1) قال الفتني في «مجمع بحار الأنوار» : اللفظة فارسية وهو طعام العرس في لغة الفرس. (2) أخرجه البخاري في صحيحه [في كتاب المغازي] في باب «غزوة الخندق» [برقم (4102) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 220- 221 [انظر نقض بني قريظة للعهد في حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب الزبير بن العوام رضي الله عنه برقم (3720) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما، برقم (2416) ، وأخرجه البخاري أيضا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الكتاب والباب نفسه، برقم (3719) ، ومسلم أيضا في الكتاب والباب نفسه برقم (2416) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الله ولا نعرفه، وهم لا يطعمون منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السّيف، حتّى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنت وذاك» «1» . بين فارس الإسلام وفارس الجاهلية: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وعدوّهم محاصرهم، ولم يكن بينهم قتال، إلا أنّ فوارس من قريش أقبلوا تسرع بهم خيلهم حتّى وقفوا على الخندق، فلمّا رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها! ثم تيمّموا مكانا ضيّقا من الخندق، فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه، فجالت بهم في أرض المدينة، ومنهم الفارس المشهور: عمرو بن عبد ودّ، الذي كان يقوّم بألف فارس، فلمّا وقف قال: من يبارز؟ فبرز عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- فقال: يا عمرو! إنّك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلّتين، إلا أخذتها منه. قال: أجل. قال له عليّ: فإنّي أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإنّي أدعوك إلى النّزال. فقال له: لم يابن أخي؟ فو الله، ما أحبّ أن أقتلك. قال له عليّ- رضي الله عنه-: لكنّي والله أحبّ أن أقتلك.   (1) راجع للتفصيل سيرة ابن هشام: ج 2، ص 222- 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه، فعقره، وضرب وجهه، ثمّ أقبل على عليّ- رضي الله عنه- فتنازلا وتجاولا فقتله عليّ- رضي الله عنه- «1» وكان من فوارسهم نوفل بن مغيرة قد اقتحم الخندق بفرسه، فتورط فيه، فقتل هنالك، وخرجت خيلهم منهزمة، حتّى اقتحمت من الخندق هاربة. أمّ تحرّض ابنها على القتال والشهادة: تقول عائشة- أمّ المؤمنين- رضي الله عنها- وكانت مع نسوة مسلمات في حصن بني حارثة وذلك قبل أن يضرب عليهنّ بالحجاب: مرّ سعد بن معاذ وعليه درع قصيرة، قد خرجت منها ذراعه كلّها، وهو يرتجز، فقالت له أمّه: الحق يا بنيّ فقد والله أخرت. قالت عائشة: فقلت لها: يا أمّ سعد! والله لو ددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي. وكان ما تخوّفته عائشة- رضي الله عنها- فرمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل «2» ، ومات شهيدا في غزوة بني قريظة «3» . ولله جنود السموات والأرض: أحاط المشركون بالمسلمين، حتّى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم، فحاصروهم قريبا من شهر، وأخذوا بكلّ ناحية، واشتدّ البلاء، وتجهّر النفاق، واستأذن بعض الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة   (1) ابن كثير: ج 3، ص 202- 203 [أخرج الحاكم هذه القصة في «المستدرك» (3/ 32) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، صحّحه الذهبي ووافقه] . (2) الأكحل: عرق في الذراع. (3) ابن كثير: ج 3، ص 207 [أخرج هذه القصة أحمد في مسنده (6/ 141) من حديث عائشة رضي الله عنها، وذكرها الهيثمي في المجمع (6/ 136- 138) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وقالوا: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً [الأحزاب: 13] . وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدّة، إذ جاءه نعيم بن مسعود الغطفانيّ، فقال: يا رسول الله! إنّي قد أسلمت، وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنّا إن استطعت، فإنّ الحرب خدعة» . فخرج نعيم بن مسعود، فأتى بني قريظة، وتكلّم معهم بكلام جعلهم يشكّون في صحّة موقفهم وولائهم لقريش وغطفان الذين ليسوا من أهل البلد، وعدائهم للمهاجرين والأنصار، الذين هم أهل الدار وجيرانهم الدائمون، وأشار عليهم بألّا يقاتلوا مع قريش وغطفان حتّى يأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونوا بأيديهم ثقة لهم، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي. ثمّ خرج حتى أتى قريشا، فأظهر لهم إخلاصه ونصيحته، وأخبرهم بأنّ اليهود قد ندموا على ما فعلوا، وسيطلبون منهم رجالا من أشرافهم تأمينا للعهد، وسيسلمونهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيضربون أعناقهم ثم خرج إلى غطفان وقال لهم مثل ما قال لقريش، فكان كلا الفريقين على حذر، وتوغّرت صدورهم على اليهود، ودبّت الفرقة بين الأحزاب، وتوجّس كلّ منهم خيفة من صاحبه «1» . ولمّا طلب أبو سفيان ورؤوس غطفان معركة حاسمة بينهم وبين المسلمين تكاسل اليهود، وطلبوا منهم رهنا من رجالهم، فتحقّق لقريش وغطفان صدق ما حدّثهم به نعيم بن مسعود، وامتنعوا عن تحقيق طلبهم، وتحقق لليهود صدق حديثه كذلك، وهكذا تخاذل بعضهم عن بعض وتمزّق الشمل وتفرّقت الكلمة.   (1) [انظر خدعة نعيم بن مسعود وللأحزاب فيما أخرجه عبد الرزاق في مصنّفه مرسلا برقم (9737) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وكان من صنع الله لنبيّه أن بعث الله على الأحزاب الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تقلب قدورهم وتطرح أبنيتهم، وقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش! إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح ما ترون، ما تطمئنّ لنا قدور، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا، فإنّي مرتحل. وقام أبو سفيان إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فما أطلق عقاله إلّا وهو قائم. وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلّي، وأخبره حذيفة بن اليمان الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم عينا إلى الأحزاب ينظر له ما فعل القوم، ثمّ يرجع، فأخبره بما رأى «1» ، فلمّا أصبح انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة، وانصرف المسلمون ووضعوا السلاح «2» ، وصدق الله العظيم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الأحزاب: 9] . وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [الأحزاب: 25] . ووضعت الحرب أوزارها، فلم ترجع قريش بعدها إلى حرب   (1) اقرأ القصة بطولها في صحيح مسلم [في كتاب الجهاد] ، باب «غزوة الأحزاب» [برقم (1788) ، وفي مسند أحمد (5/ 392- 393) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه] . (2) اقرأ للتفصيل ابن كثير: ج 3، ص 214- 221، رواية عن ابن إسحاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 المسلمين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنّكم تغزونهم» «1» . واستشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة على أكثر تقدير، وقتل من المشركين أربعة «2» .   (1) سيرة ابن كثير: ج 3، ص 221. (2) المصدر السابق: ج 3، ص 222 [وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الخندق..، برقم (4110) وأحمد في المسند (4/ 262) و (6/ 394) والطبراني في الكبير برقم (6484) في حديث سليمان بن صرد بلفظ: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 غزوة بني قريظة سنة خمس من الهجرة نقض بني قريظة العهد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة، كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم، وجاء فيه: «وأنّ من تبعنا من يهود، فإنّ له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وأنّه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأنّ قبائل «1» يهود أمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم» . وجاء فيه: «أنّ بينهم النصر على ما حارب أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم، وأنّ بينهم النّصر على من دهم يثرب» «2» .   (1) جاء في العهد: أسماء القبائل اليهودية كبني عوف، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة. (2) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 503- 504. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ولكنّ حييّ بن أخطب اليهوديّ- سيّد بني النضير- نجح في حمل بني قريظة على نقض العهد، وممالأة قريش، بعد ما قال سيدهم كعب بن أسد القرظيّ: لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء، ونقض كعب بن أسد عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولمّا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر نقضهم للعهد، بعث سعد بن معاذ رضي الله عنه- سيد الأوس- وهم حلفاء بني قريظة- وسعد بن عبادة- سيّد الخزرج- في رجال من الأنصار، ليتحقّقوا الخبر، فوجدوهم على شرّ مما بلغهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد «1» . وبدؤوا بالفعل في الاستعداد للهجوم على المسلمين، وهكذا حاولوا طعن جيش المسلمين من الخلف «2» ، وكان ذلك أشدّ وأنكى من الهجوم السافر والحرب في الميدان، وذلك قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب: 10] . واشتدّ ذلك على المسلمين، حتّى قال سعد بن معاذ- وكان من أولى الناس بالحدب عليهم، يحنو عليهم في كلّ ما يلمّ بهم- لما أصابه السهم في غزوة الخندق، فقطع منه الأكحل، وأيقن بالموت-: «اللهمّ! لا تمتني   (1) راجع «سيرة ابن هشام» ج 2، ص 220- 223. (2) جاء في كتاب) Cambridge History of Islam ج 1، ص 49) بقلم الأستاذ الإنجليزي الشهير» Montgomery Watt كانت قد بقيت في المدينة قبيلة عظيمة، هي قبيلة بني قريظة، وكانت تتظاهر بالإخلاص عند ما حاصر المشركون المدينة، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنها كانت قد تمالأت مع المشركين، وكانت تنتهز أول فرصة للهجوم على المسلمين من خلف» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 حتّى تقرّ عيني من بني قريظة» «1» . المسير إلى بني قريظة: فلمّا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة ووضعوا السلاح، أتى جبريل، وقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: «نعم» فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، فإنّي عامد إليهم، فمزلزل بهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذّنا، فأذّن في النّاس: «أنّ من كان سامعا مطيعا فلا يصلّينّ العصر إلّا في بني قريظة» «2» . ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، حتّى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب «3» . ندم أبي لبابة وتوبة الله عليه: وبعثت بنو قريظة إلى رسول الله أن ابعث إلينا أبا لبابة أخا بني عمرو بن عوف- وكانوا حلفاء الأوس- لنستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلمّا رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان، يبكون في   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 227. وكان سعد قد أصابه سهم قرشي لا قرظي، وقد جاء اسم الرّامي في صحيح البخاري حبّان بن العرقة القريشي [انظر: كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب..، رقم (4122) و «السنن الكبرى» للبيهقي (9/ 97) ، ومسند الإمام أحمد (6/ 56) ] ، فلم يكن عند سعد ترة على القرظيين، ودافعا له إلى هذا الحكم. (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 233- 234؛ أخرج البخاري القصة بزيادة وتفصيل في باب مرجع النّبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم [برقم (4199) ] . وأخرجها مسلم في كتاب الجهاد والسير في باب «جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل، أهل للحكم» [برقم (1770) ] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وجهه، فرقّ لهم وقالوا له: يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنّه الذبح. قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتّى يتوب الله عليّ ممّا صنعت، وعاهدت الله ألّا أطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا. ولمّا تاب الله عليه قال: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 102] . فثار النّاس إليه ليطلقوه، فقال: لا، والله، حتّى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، ومرّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا إلى صلاة الصبح، فأطلقه وقد أقام مرتبطا بالجذع نحو عشرين ليلة، تأتيه امرأته في كلّ وقت صلاة، فتحلّه للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع «1» . آن «2» لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم: ونزل بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبت الأوس، وقالوا: يا رسول الله! إنّهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا «3» بالأمس ما قد علمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضون يا معشر الأوس   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 236- 238. (2) أنى: أي حان. (3) يعنون بني قينقاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 أن يحكم فيهم رجل منكم» ؟ قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فذاك إلى سعد بن معاذ» ، فأرسل إليه، فلمّا جاء إليه، قال له بنو قبيلته: يا أبا عمرو! أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما ولّاك ذلك لتحسن فيهم، فلمّا أكثروا عليه، قال: لقد أنى لسعد ألّا تأخذه في الله لومة لائم، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذّراري والنساء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله» «1» . موافقة لشريعة بني إسرائيل: وقد وافق ذلك قانون الحرب في شريعة بني إسرائيل، فقد جاء في سفر التثنية (الإصحاح العشرون 10- 11- 12- 13) :   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 239- 240، وفي رواية البخاري [في كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب..، برقم (4121) و (4122) ] ، ومسلم [في كتاب الجهاد، باب جواز قتال من نقض العهد..، برقم (1768) (1769) ] قال: قضيت بحكم الله؛ وربما قال: بحكم الملك «صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب: مرجع النّبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة» . وكان عددهم حوالي ثمانمئة (800) مقاتل، كما جاء في «الكامل» لابن الأثير (ج/ 2، ص/ 127) . وقد شكّك في هذا العدد بعض الكتّاب المعاصرين في ضوء القياس واستبعاد وقوع ذلك في بلد صغير كالمدينة وبأمر نبي اتسمت سيرته بالرحمة والرأفة، من غير استناد إلى شهادات تاريخية، راجع كتاب.D.Barakat Ahmad Muhammad The jews والمراجع اليهودية ساكتة عن التعليق على هذا الحادث الذي كان جديرا باستفزاز شعورهم الديني، وقد صنّف مؤلف يهودي اسمه صموئيل أسبك كتابا مهما في القرن السادس عشر المسيحي أسماه «ماثر شهداء اليهود» ولكنه لم يتعرض لجلاء بني قينقاع وبني النضير عن المدينة، ولا لإعدام مقاتلي بني قريظة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 «حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك فكلّ الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، وتستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها، وإذا دفع الربّ إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة كلّ غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الربّ إلهك» . وهذه كانت العادة المتبعة في بني إسرائيل في عهد أنبيائهم، فقد جاء في التوراة: «فتجنّدوا على مديان كما أمر الربّ، وقتلوا كلّ ذكر، وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم، أوي، وراقم، وصور، وحور، ورابع، خمسة ملوك مديان، وبلعام بن باعور قتلوه بالسيف، وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم، ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكلّ أملاكهم، أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار» . (سفر العدد، الإصحاح الحادي والثلاثون 7- 8- 9- 10) . وذلك في عهد موسى- عليه السلام- وبموافقة منه. وقد جاء في التوراة: «فخرج موسى والعازر الكاهن وكلّ رؤساء الجماعة لاستقبالهم إلى خارج المحلة، فسخط موسى على وكلاء الجيش رؤساء الألوف ورؤساء المئات القادمين من جند الحرب، وقال لهم موسى: هل أبقيتم كلّ أنثى حيّة» (سفر العدد، الإصحاح الحادي والثلاثون 13- 16) «1» .   (1) الكتاب المقدّس: مطبعة أو كسفورد، 1879 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ونفّذ في بني قريظة حكم سعد بن معاذ، وخلت المدينة من جميع أوكار المؤامرة والمحاربة اليهودية، وأمن المسلمون من الطّعن من الخلف، ومن نشر الفوضى في الداخل. وقتلت الخزرج سلّام بن أبي الحقيق، وكان ممن حزب الأحزاب، وكانت الأوس قد قتلت من قبل كعب بن الأشرف، وكان مقدّما في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتحريض عليه، فنجا المسلمون من الرؤوس التي كانت تكيد ضدّ الإسلام والمسلمين، وتقود الحركات ضدّهم، واستراح المسلمون «1» . وكان ما عامل به رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة مما اقتضته سياسة الحرب وطبيعة القبائل العربية واليهودية، وكان لا بدّ من عقوبة صارمة تكون درسا للعابثين بالعهود والمحالفات، ونكالا لما بين يديها وما خلفها، يقول LR.V.C.Bodley في كتابه «حياة محمد الرسول» : «وكان محمد وحيدا في بلاد العرب، وكانت هذه البلاد من حيث المساحة ثلث الولايات المتحدة الأمريكية، وكان عدد النفوس فيها يبلغ خمسة ملايين نفس.. ولم يكن عنده من الجيوش التي تحمل الناس على امتثال أمره إلا الجيش الذي لا يزيد على ثلاثة آلاف جنديّ، ولم يكن هذا الجيش مسلّحا تسليحا كاملا، فإذا وهن محمد في هذه القضية أو ترك جريمة غدر بني قريظة من غير أن يعاقبهم عليها، لم يكن للإسلام في جزيرة العرب بقاء، إنّه لا شكّ أنّ عملية قتل اليهود كانت عنيفة، ولكن لم يكن حادثا فريدا من نوعه في تاريخ الديانات، ولقد كان لهذا العمل مبرّر من وجهة نظر   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 273 [انظر خبر قتل سلام بن أبي الحقيق فيما أخرجه البخاري، في كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق ... ، برقم (4038) و (4039) و (4040) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 المسلمين، قد تحتّم الآن على القبائل العربية واليهود أن يتأملوا مرة بعد مرة قبل أن يقدموا على غدر أو نقض عهد، لأنّهم قد عرفوا عواقبه الوخيمة وشاهدوا أن محمدا يستطيع أن ينفّذ ما يريده» «1» . وقد كان من فوائد القضاء على آخر حصن من حصون اليهود في المدينة الضعف الذي طرأ على معسكر النفاق، ونشاط المنافقين، فقد أثّر ذلك في معنوياتهم، وأفقدهم الشيء الكثير من الثقة والآمال الواسعة، فقد كانوا آخر معقل من معاقلهم الكبيرة، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون معلّقا على غزوة بني قريظة: «وأمّا المنافقون فقد خفت صوتهم بعد يوم قريظة، ولم نعد نسمع لهم أعمالا أو أقوالا تناقض إرادة النّبيّ وأصحابه، كما كان يفهم ذلك من قبل» «2» . العفو عمّن ظلم وعطاء من حرم: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت بثمامة بن أثال- سيّد بني حنيفة- فربط إلى سارية من سواري المسجد.   The Messenger -The Life Mohammad) London 6491 (PP. 202 -302. (1) (2) اليهود في بلاد العرب: ص 155. وقد أصاب الأستاذ محمد أحمد باشميل إذ قال: «غزوة الأحزاب- بحد ذاتها- ليست إلّا غزوة يهودية صرفة خطّط لها التفكير الإسرائيلي في خيبر، وقام بتمويلها المال اليهودي، الذي لا ينفق (إن أنفق) إلّا على إثارة الحروب، وشراء الذمم لبسط النفوذ اليهودي. وغزوة بني قريظة في حد ذاتها امتداد لمعركة الأحزاب، فقد كان يهود بني قريظة يمثلون الجناح الثالث للاتحاد العسكري الوثني اليهودي الذي قام لسحق المسلمين وإبادتهم إبادة كاملة» (غزوة بني قريظة: ص/ 149- 155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 خريطة إجلاء بني قريظة سنة 5 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ومرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فاسأل تعط ما شئت. فتركه، ثمّ مرّ به أخرى، وقال له مثل ذلك، فردّ عليه كما ردّ عليه أولا، ثم مرة ثالثة، فقال: «أطلقوا ثمامة» فأطلقه. وذهب ثمامة إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم جاءه فأسلم، وقال: والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحبّ الأديان إليّ، وإنّ خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر. فلمّا قدم ثمامة على قريش، قالوا: صبوت يا ثمامة! قال: لا والله، ولكنّي أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، لا والله ما يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتّى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت اليمامة ريف مكة. فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتّى جهدت قريش، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يكتب إلى ثمامة يخلّي إليهم حمل الطعام، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» .   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 377؛ وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب «الإمداد بالملائكة يوم بدر» [برقم (1764) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 غزوة بني المصطلق و قصّة الإفك [ غزوة بني المصطلق شعبان 5 هجرية ] وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة ستّ «1» أنّ بني المصطلق وهم فرع من خزاعة، يجمعون له.. فلما سمع خرج إليهم، وقد خرج معه أكبر عدد من المنافقين، خرج في غزوة «2» ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وقد بلغت سطوة المسلمين أوجها بعد انتصارهم في غزوة الأحزاب التي اجتمعت فيها قريش وحزبت الأحزاب للقضاء على الإسلام، اجتماعا لم تجتمع مثله، فكانت «3» شوكة في حلقوم الكفّار في مكة، واليهود والمنافقين في المدينة وحولها، وعرفوا أنّ المسلمين لن يغلبوا في ساحة القتال بكثرة العدد والعدد، فاعتمدوا أخيرا على إثارة الفتن الداخلية، والتحريش بين المسلمين بإحياء النّعرة القوميّة القبلية، والإساءة إلى مقام الرسول صلى الله عليه وسلم وتشكيك المسلمين فيه، ونشر المقالة حول عرضه وكرامته، وأحبّ أزواجه إليه، وبذلك يتزلزل كيان هذا المجتمع المثاليّ الوليد، الذي كان كلّ عضو من أعضائه مرآة أخيه، إذا سمع عنه ما يريب عاد إلى نفسه، فرآها نزيهة، فنفى   (1) قدّم موسى بن عقبة غزوة بني المصطلق إلى السنة الرابعة مخالفا معظم كتّاب السيرة الذين يجعلونها في السنة السادسة، وتابعه ابن القيم حيث اشترك سعد بن معاذ بالغزوة، وقد استشهد في أعقاب غزوة بني قريظة، (السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري) . (2) جاء في «طبقات ابن سعد» : وخرج معه بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قط مثلها (كتاب الطبقات الكبرى، 2/ 45، القسم الأول، طبع ليدن، 1325 هـ) . (3) [فكانت: الضمير فيه راجع إلى سطوة] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 غزوة بني المصطلق شعبان 5 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 هذه التهمة كما ينفيها عن نفسه، ويفقد بعضهم الثقة ببعض، فإذا زالت الثقة بأهل بيت النبوّة، زالت عن الجميع، وكانت أعظم مؤامرة حاكها المنافقون وقد تجلّت هذه السياسة الماكرة في غزوة بني المصطلق أكثر ممّا تجلّت في أيّ غزوة. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق، ولقيهم على ماء لهم، يقال له «المريسيع» «1» من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، وانهزم بنو المصطلق «2» . واقتتل أجير لعمر بن الخطاب من بني غفار، وحليف للخزرج من جهينة، فصرخ الجهنيّ: «يا معشر الأنصار!» وصرخ الأجير: «يا معشر المهاجرين!» فغضب عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم، فقال: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ليس الأمر إلا كما قيل: «سمّن كلبك يأكلك» أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، ثمّ أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم، لتحوّلوا إلى غير داركم» «3» .   (1) ومن هنا سمّيت هذه الغزوة بغزوة المريسيع أيضا، كما في طبقات ابن سعد وغيرها. (2) كانت لغزوة بني المصطلق في المريسيع أهمية سياسية واستراتيجية واقتصادية كبيرة، وهي الطريق الرئيسي للتجارة المكية، وكانت طريقا فرعيا من مكة إلى المدينة كان يمرّ بها، إلى غير ذلك من الخصائص (مستفاد من بحث الدكتور حسين مؤنس المقدم إلى مؤتمر السيرة والسنة النبوية المنعقد في الدوحة في شهر محرم عام 1400 هـ) . (3) [أخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2772) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة المنافقين، برقم (3312) ، وأحمد في المسند (4/ 369 373) . من حديث زيد بن أرقم رضي لله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 فلمّا سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالرحيل، لئلا ينشغل الناس بهذه الفتنة، ويجد الشيطان سبيلا إلى نفوسهم، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس. ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى، وليلتهم حتّى أصبح، وصدر يومهم ذلك، حتّى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض، فوقعوا نياما. وقدم عبد الله بن عبد الله بن أبيّ الناس، حتّى وقف لأبيه على الطريق، فلمّا رآه أناخ به، وقال: لا أفارقك حتّى تزعم أنّك الذليل، ومحمد العزيز، فمرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «دعه، فلعمري لنحسننّ صحبته ما دام بين أظهرنا» «1» . قصّة الإفك: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا، أقرع بين نسائه، فأيّتهن خرج سهمها خرج بها معه، وخرج سهم عائشة بنت أبي بكر زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فخرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا فرغ من سفره ذلك توجّه قافلا، حتّى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا، فبات به بعض الليل، ثمّ أذّن بالرحيل، وخرجت عائشة لبعض حاجتها، وفي عنقها عقد لها، فانسلّ من   (1) طبقات ابن سعد: ج 2، ق 1، ص 46، طبع ليدن. [وقد وردت أخبار محاولة المنافقين في إثارة الفتنة بين المسلمين لما حصل بين الرجل الأنصاري والمهاجرين فيما أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) برقم (4907) والترمذي في أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة المنافقين، برقم (3315) ، وأحمد في المسند (2/ 392- 393) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 حيث لا تشعر، فلمّا رجعت إلى الرّحل فقدت العقد فذهبت تبحث عنه وقد أخذ الناس في الرحيل، فجاء القوم الذين كانوا يرحّلون لها البعير، فأخذوا الهودج، وهم يظنّون أنّها فيه، وكانت فتاة صغيرة السنّ، خفيفة اللحم، فلم ينتبهوا لخفّتها، ولم يشكّوا أنّها فيه، ورجعت عائشة إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب، وقد انطلق الناس، فتلففت بجلبابها، واضطجعت في مكانها. وبينما هي كذلك إذ مرّ بها صفوان بن المعطّل السّلمي، وقد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته، فلمّا رآها استرجع، وقال: ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرّب البعير واستأخر، فركبت وأخذ برأس البعير، وانطلق سريعا يطلب الناس فأدركهم، وقد نزلوا، ولحقت بالركب، فلم يرع الناس شيء، فكان مما ألفوه في حياة البادية ومسير القوافل، وكان حفظ الذمار والتعفف عن مثل هذه الخسائس، من الأعراف العربية التي كانوا يحافظون عليها في الجاهليّة والإسلام «1» ، فيقول الشاعر الجاهليّ: [من الكامل] وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها «2»   (1) ومن أمثلته ما حكته أم سلمة، وقد حال قومها بينها وبين زوجها أبي سلمة، فلم يدعوها تهاجر معه إلى المدينة، فكانت تخرج كل غداة إلى الأبطح فما تزال تبكي حتى تمسي، سنة أو قريبا منها، حتى رقّوا لها وقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، فارتحلت بعيرها وما معها أحد، فلقيها عثمان بن طلحة الداري فرثى لها، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معها إلى المدينة، قالت أم سلمة: والله ما صحبت رجلا من العرب قطّ أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيده في الشجر.. إلى أن قالت: فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة. (سيرة ابن كثير، ج 2، ص 215- 217) وهذا قبل أن يسلم عثمان بن طلحة، فكان صفوان بن المعطّل السّلمي أحقّ بهذا الخلق والنزاهة، فقد أسلم قديما وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) ديوان الحماسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وقد كان الصحابة- رضي الله عنهم- مع الرسول صلى الله عليه وسلم كالأبناء للآباء، وأزواجه أمهاتهم، وكان أحبّ إليهم من والدهم وولدهم والناس أجمعين، وقد عرف صفوان بن المعطّل بالدين والصلاح والعفّة والحياء، ذكر أنّه لم يكن له أرب في النساء. وكانت القضية لا تسترعي انتباها، ولكنّ عبد الله بن أبيّ تبنّى هذه القضية، وتحدّث بها بعد عودته إلى المدينة، وشايعه أصحابه من المنافقين، واهتبلوها لإثارة الفتنة بين المسلمين وإضعاف الصّلة التي تربطهم بمقام صاحب الرسالة العظمى ومن يتصل به من أهل، وإضعاف ثقة المسلمين بعضهم بأمانة بعض، وتورّط في هذه المكيدة بضع من المسلمين الذين أصبحوا فريسة التشهي للحديث والترديد لكلّ ما قيل من غير تمحيص «1» . فلمّا سمعت بذلك عائشة وفوجئت به في المدينة فزعت له، وحزنت حزنا شديدا، لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم، وكبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف مصدره، فقام من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبيّ، وهو على المنبر، فقال: «يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلّا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت فيه إلا خيرا، وما يدخل على أهلي إلا معي» ، فقام أسيد بن خضير، فقال: أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، وكان عبد الله بن أبيّ من الخزرج، فاحتملت بعضهم الحميّة، وثار الحيّان، وكاد الشيطان أن يلعب بهم لولا حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه.   (1) وذلك ما أشار الله تعالى إليه بقوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 هذا، والصّدّيقة بنت الصدّيق موقنة ببراءتها، عزيزة النفس، مليئة بالثقة والاعتزاز، شأن الأبرياء الذين لا ترتقي إليهم شبهة، ولا تلتصق بهم لوثة، تعلم أنّ الله سيبرّئها، ويبعد كل ظنّة وتهمة عن ساحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنّها لم تكن تظنّ أنّ الله منزل في شأنها وحيا يتلى، ويجعله كلمة باقية في أعقاب هذه الأمّة، ولكنّها ما تلبّثت طويلا أن أنزل الله على رسوله في شأنها القرآن، وأنزل براءتها من فوق سبع سموات، فقال إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور: 11- 12] . وبذلك انطفأت نار الفتنة، وانحسمت مادة الفساد، وخزي الشيطان، وكأن لم يكن شيء، فتشاغل المسلمون بما أمرهم الله به ورسوله، وبما يعود عليهم وعلى الإنسانيّة بالخير والسعادة «1» .   (1) القصة مقتبسة من سيرة ابن هشام: ج 2، ص 289- 302، وجاءت قصة الإفك من حديث عائشة الذي رواه البخاري [في كتاب المغازي، باب حديث الإفك، برقم (4141) ، ومسلم في كتاب التوبة، باب في حديث الإفك..، برقم (2770) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة النور، برقم (3180) وأحمد في المسند (6/ 59) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 صلح الحديبية ذو القعدة سنة ست من الهجرة رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهيّؤ المسلمين لدخول مكة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام أنّه دخل مكّة، وطاف بالبيت وذلك في غير تحديد للزمان، وتعيين للشهر والعام «1» - فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فاستبشروا به، وفرحوا فرحا عظيما، وقد طال عهدهم بمكّة والكعبة التي رضعوا لبان حبّها، ودانوا بتعظيمها، وما زادهم الإسلام إلّا ارتباطا بها وشوقا إليها، وقد تاقت نفوسهم إلى الطواف حولها، وتطلّعت إليه تطلّعا شديدا. وكان المهاجرون أشدّهم حنينا إلى مكّة، فقد ولدوا ونشؤوا فيها وأحبّوها حبا شديدا، وقد حيل بينهم وبينها، فلمّا أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، لم يشكّوا أنّ هذه الرؤيا تتفسّر هذا العام، وقد صادف كلّ ذلك رغبة شديدة في نفوسهم، وأثار كامن الشّوق ودفين الحبّ فتهيّؤوا للخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتخلّف منهم إلا نادر.   (1) راجع سورة الفتح 27، واقرأ تفسيرها في تفسير ابن كثير: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الفتح: 27] .. إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 إلى مكة بعد عهد طويل: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة في ذي القعدة سنة ستّ معتمرا- لا يريد حربا- إلى الحديبية ومعه ألف وخمسمئة، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليعلم النّاس أنّه إنما خرج زائرا للبيت، معظّما له «1» . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش الخزاعيّ عينا له من خزاعة، يخبره عن قريش، حتّى إذا كان قريبا من «عسفان» «2» أتاه عينه، فقال: إنّي تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش «3» وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، وسار النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى إذا كان بالثنيّة التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقالوا: خلأت «4» القصواء «5» ، خلأت القصواء، فقال: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل «6» ، والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظّمون فيها حرمات الله، ويسألونني فيها صلة الرحم، إلا أعطيتهم إيّاها» ، ثمّ زجرها، فوثبت به، فعدل، حتّى نزل بأقصى الحديبية، على ثمد قليل الماء، وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثمّ أمرهم أن يجعلوه فيه، فما زال يجيش لهم بالريّ حتّى صدروا عنه «7» .   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 380، وابن هشام: ج 2، ص 308. (2) موضع بين مكة والمدينة. (3) الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة. (4) خلأ: كفتح، خلوءا أي لم يبرح مكانه. (5) اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم [والقصواء: الناقة التي قطع طرف أذنها، ولم تكن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم قصواء، وإنما كان هذا لقبا لها] . (6) إشارة إلى فيل أبرهة الذي حبسه الله عن الدخول في مكة. (7) زاد المعاد: ج 1، ص 381. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فزع قريش من دخول المسلمين في مكّة: وفزعت قريش لنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فأحبّ أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه، فدعا عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله! ليس بمكّة أحد من بني عديّ بن كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفّان، فإنّ عشيرته بها، وإنّه مبلغ ما أردت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان وأرسله إلى قريش، وقال: أخبرهم أنّا لم نأت لقتال وإنّما جئنا عمّارا، وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالا بمكّة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم، ويبشّرهم بالفتح، ويخبرهم أنّ الله عزّ وجلّ مظهر دينه حتى لا يستخفى فيها بالإيمان «1» . امتحان الحبّ والوفاء: وانطلق عثمان حتّى جاء مكة، وأتى أبا سفيان، وعظاماء قريش، وبلّغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به. وقالوا حين فرغ عن رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: إن شئت أن تطوف البيت فطف. فقال: ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . وقال عثمان حين رجع، وقال له المسلمون: أشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت؟: «بئس ما ظننتم بي والذي نفسي بيده، لو مكثت بها سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية، ما طفت بها حتّى يطوف بها   (1) زاد المعاد: ج 1، ص: 381. (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت» «1» . بيعة الرضوان: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة، فسار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه ألّا يفروا، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه، وقال: هذه عن عثمان «2» ، فكانت بيعة الرضوان تحت شجرة سمرة «3» في الحديبية التي أنزل الله عنها: * لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح: 18] . وساطات ومفاوضات: فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعيّ في رجال من خزاعة، فكلّمه، وسأله ما الذي جاء به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا لم نجىء لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين، وأنّ قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرّت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم، ويخلّوا بيني وبين الناس، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، فعلوا، وإلّا فقد جمّوا، وإن أبوا إلا القتال، فو الذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري حتّى تنفرد سالفتي «4» ، أو لينفذنّ الله أمره.   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 382. (2) المصدر السابق: ج 1، ص 382، [انظر حادثة بيعة رضوان فيما أخرجه مسلم من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، في كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عنه إدارة القتال ... ، برقم (1858) ] . (3) السمر: الطلح. (4) السالفة: صفحة العنق عند معلق القرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 فلمّا بلّغهم بديل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عروة بن مسعود الثقفيّ: إنّ هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، ودعوني آته، فقالوا: ائته، وجاء عروة بن مسعود الثقفيّ، فكلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عروة يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تنخم نخامة «1» إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها جلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك: على كسرى وقيصر والنجاشيّ، والله ما رأيت ملكا يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدا، ووصف لهم ما رآه، وقد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها «2» . معاهدة وصلح: وجاء رجل من بني كنانة، ورجل اسمه مكرز بن حفص، وأخبرا قريشا بما رأيا، ثمّ بعثت قريش سهيل بن عمرو، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، وقال: اكتب بيننا وبينكم كتابا «3» . حكمة وحلم وتنازل: فدعا الكاتب- وهو عليّ بن أبي طالب- فقال: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم» .   (1) [النّخامة: البزقة التي تخرج من أقصى الحلق] . (2) زاد المعاد: ج 1، ص 382. (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 316، وأخرجه البخاري في صحيحه باختلاف يسير؛ راجع كتاب المغازي، باب عمرة القضاء [برقم (4178) و (4179) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فقال سهيل: أمّا «الرّحمن» فو الله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: «باسمك اللهمّ» كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها، إلّا «بسم الله الرحمن الرحيم» ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «اكتب باسمك اللهمّ» . ثمّ قال: «اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» فقال سهيل: والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّي رسول الله وإن كذّبتموني، اكتب محمد بن عبد الله» ، فأمر عليّا أن يمحوها، فقال عليّ: لا والله لا أمحوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرني مكانها» فأراه مكانها، فمحاها «1» . صلح وامتحان: فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «على أن تخلّوا بيننا وبين البيت، فنطوف به» . فقال سهيل: والله لا تتحدّث العرب أنّا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب. قال سهيل: وعلى ألّا يأتيك منّا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! وبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل، يرسف في قيوده، قد   (1) أخرجه مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية [برقم (1783) وابن أبي شيبة في المصنّف (7/ 383) ، وابن حبان في الصحيح (11/ 212) برقم (4869) والبيهقي في السنن (9/ 220) برقم (18589) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 خرج من أسفل مكة، حتّى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين. قال سهيل: هذا يا محمّد أول ما أقاضيك عليه على أن تردّه. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّا لم نقض الكتاب بعد» . قال: فو الله إذا لا أقاضيك على شيء أبدا. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فأجزه لي» . قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: «بلى، فافعل» . قال: ما أنا بفاعل. قال أبو جندل: يا معشر المسلمين! أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذّب في الله عذابا شديدا «1» ، وردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اصطلح الفريقان على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهنّ الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض، وعلى أنّه من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد، لم يردوه عليه، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه «2» .   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 383، وأخرجه البخاري في الجامع الصحيح في كتاب الشروط، باب «الشروط في الجهاد» [برقم (2731) و (2732) ، وأحمد في المسند (4/ 328- 329) ، وعبد الرزاق في المصنّف برقم (9730) ، وأبو يعلى في المسند برقم (42) من حديث مروان بن حكم، والمسور بن مخرمة] . (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 317- 318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ابتلاء المسلمين في الصلح والعودة إلى المدينة: فلمّا رأى المسلمون ما رأوه من الصلح والرجوع، وما تحمّل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه، دخل على الناس من ذلك أمر عظيم، حتّى كادوا يهلكون، ووقع ذلك من نفوسهم كلّ موقع، حتّى جاء عمر بن الخطّاب إلى أبي بكر- رضي الله عنهما- فقال: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى! أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنّك آتيه ومطوف به «1» . فلمّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلح، قام إلى هديه، فنحره، ثمّ جلس فحلق رأسه، وعظم ذلك على المسلمين، لأنّهم خرجوا وهم لا يشكّون في دخول مكة والعمرة، ولكن لمّا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق، تواثبوا ينحرون ويحلقون «2» . صلح مهين أم فتح مبين؟ ثمّ رجع إلى المدينة، وفي مرجعه أنزل الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [الفتح: 1- 3] . قال عمر- رضي الله عنه-: أو فتح هو يا رسول الله؟   (1) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، [في كتاب الجزية والموادعة، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، برم (3182) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية، برقم (1785) ، وأحمد (3/ 486) من حديث سهل بن حنيف] . (2) راجع للتفصيل «زاد المعاد» ج 1، ص 383. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 قال: «نعم» ! «1» . عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم: ولمّا رجع إلى المدينة، جاءه رجل من قريش اسمه أبو بصير عتبة بن أسيد، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرّجلين، فخرجا به، فخرج هاربا منهم، حتّى أتى سيف البحر، وتفلّت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتّى اجتمعت منهم عصابة، لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشّام إلّا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فهو آمن «2» . كيف تحوّل الصلح إلى الفتح والنصر؟ ودلّت الحوادث الأخيرة على أنّ صلح الحديبية الذي تنازل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبول كلّ ما ألحّت عليه قريش، ورأوا فيه انتصارا لهم ومكسبا، وتحمّله المسلمون في قوّة إيمانهم، وشدّة طاعتهم للرسول، كان فتح باب جديد لانتصار الإسلام، وانتشاره في جزيرة العرب بسرعة لم تسبق، وكان بابا إلى فتح مكّة، ودعوة ملوك العالم كقيصر وكسرى والمقوقس والنجاشيّ وأمراء العرب، وصدق الله العظيم:   (1) راجع صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية، [رقم الحديث (1786) ، والترمذي، أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة الفتح، رقم (3263) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (2) زاد المعاد: ج 1، ص 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216] . كان من مكاسب هذا الصّلح اعتراف قريش بمكانة المسلمين، وتسليمهم لهم كفريق قويّ كريم، تبرم معه المعاهدات، ويتّفق معه على مفاوضات، ثمّ كان من أفضل ثمار هذا الصلح الهدنة، التي استراح فيها المسلمون عن الحروب التي لا أوّل لها ولا آخر، والتي شغلتهم واستهلكت قوّتهم، فاستطاعوا في هذه الفترة السلمية، أن يقوموا بدعوة الإسلام، في ظلّ الأمن والسلام، وفي جوّ من الهدوء والسكينة. وأتاح هذا الصلح الفرصة للمسلمين والمشركين على السواء لأن يختلطوا بعضهم ببعض، فيطلع المشركون على محاسن الإسلام، وما صنع من عجائب ومعجزات في تهذيب الأخلاق، وتزكية النفوس، وتطهير العقول والقلوب، من ألواث الشرك والوثنية، والعداء والخصومة، والضراوة بالدماء، والولوع بالحرب في بني جلدتهم الذين لا يختلفون عنهم في نسب وبيئة ولغة. ولم يخف عليهم- رغم عنادهم وجحودهم- أن تعاليم الإسلام وحدها وصحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم هي التي ميّزتهم عن أقرانهم وبني أعمامهم، وجعلت منهم أمة غير أمة، ونمطا من أنماط البشرية غير النمط القديم، فكان في ذلك باعث قويّ على تفهّم الإسلام والاعتراف بتأثيره. فلم يمض على هذا الصّلح عام كامل حتّى دخل في الإسلام من العرب أكثر من الذين دخلوا فيه خلال خمس عشرة سنة- ومكّة لم تفتح بعد-. يقول الإمام ابن شهاب الزّهريّ (ت 124 هـ) : «فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنّما كان القتال حيث التقى الناس، فلمّا كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وكلّم الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث، والمنازعة، فلم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» «1» . قال ابن هشام: «والدليل على قول الزهريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمئة، في قول جابر بن عبد الله، ثمّ خرج في عام فتح مكّة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف» «2» . واستفاد بهذه الهدنة المستضعفون في مكّة، وقد أسلم على يد أبي جندل عدد كبير من أبناء قريش في مكّة، وضاقت قريش ذرعا بهذا الداعي إلى الإسلام، وانتشار الإسلام في مكّة. ولحقوا بأبي بصير، وصار مركز دعوة وقوة للإسلام، وتكلّمت في شأنهم قريش، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقهم به في المدينة، ففعل، ونجوا من الضيق الذي كانوا فيه بمكّة، وكان كلّ ذلك من حسنات هذا الصلح وفوائد هذه الهدنة «3» . وكان من فوائد الموقف المسالم الذي وقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بدا منه من زهد في الحرب، ورغبة في الصلح، وحلم وأناة أن تغيّرت نظرة القبائل العربية التي لم تدخل في الإسلام بعد، إلى الدين الجديد، والداعي إليه، ونشأ في نفوسهم إجلال للإسلام وتقدير له لم يكن من قبل، وكانت فائدة دعويّة لا يستهان بقيمتها وإن لم تكن مقصودة، سعى إليها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون.   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 322. (2) المصدر السابق: ج 2، ص 322. (3) راجع «زاد المعاد» : ج 1، ص 388- 389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص: وكان صلح الحديبية فتحا للقلوب، دخل في الإسلام خالد بن الوليد الذي كان قائد الفرسان لقريش، وبطل معارك عظيمة، وقد سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم «سيف الله» وهو الذي أبلى في الله بلاء حسنا، وفتح الله على يده الشام. ودخل عمرو بن العاص- أحد كبار القادة والأمراء وفاتح مصر من بعد- وقد قدما المدينة بعد صلح الحديبية، فأسلما وحسن إسلامهما «1» .   (1) راجع «سيرة ابن هشام» ج 2، ص 277- 278 [انظر قصة إسلامهما في مسند الإمام أحمد (4/ 198- 199) ، وفي «المستدرك» للحاكم (3/ 456) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 خريطة غزوة الحديبية ذي القعدة 6 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 خريطة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 دعوة الملوك والأمراء إلى الإسلام أواخر سنة ستّ وأوائل سنة أربع من الهجرة دعوة حكمة: ولمّا تمّ الصلح، وهدأت الأحوال، وجدت الدعوة الإسلاميّة متنفّسا ومجالا للتقدّم، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبا إلى ملوك العالم وأمراء العرب، يدعوهم فيها إلى الإسلام «1» وإلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة «2» ، واهتمّ اهتماما كبيرا، فاختار لكلّ واحد منهم رسولا يليق به، ويعرف لغته وبلاده «3» .   (1) [دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للملوك والأمراء إلى الإسلام، أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الإسلام، برقم (1774) ، والترمذي في أبواب الاستئذان، باب في مكاتبة المشركين برقم (2716) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (2) نرجّح أنّ هذه الرسائل وجّهت في شهر ذي الحجة سنة ست بعد صلح الحديبية، كما قال الواقديّ وهو يوافق 627 م، فإنّ في مقدّمة هؤلاء الملوك الإمبراطور الإيراني «كسرى أبرويز» ومن المقرّر أنه مات في مارس سنة 628 م، ومن هنا يتقرّر أنّ صلح الحديبية في أوائل سنة 627 م، وكان من الصعب وصول الرسالة الموجهة إلى هرقل كذلك، إذا كانت وجّهت في سنة 628 م، لأنّه كان قد توجّه في هذه السنة إلى أرمينيا. (راجع «فتح العرب لمصر» لألفرد بتلر، ص 139- 140) . (3) يشير كلام ابن سعد في «الطبقات» ج 2، ص 23، والسيوطي في «الخصائص الكبرى» - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 وقيل له: إنّهم لا يقبلون كتابا إلّا بخاتم، فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حلقته فضة، ونقش فيه (محمّد رسول الله) «1» . وقد دلّت هذه الكتب على أنّ هذا الدّين ليس دين العرب، أو دين الجزيرة العربيّة، وإنما هو دين البشريّة ودين الإنسانيّة، وكان إنذارا للسّلطات الحاكمة خارج الجزيرة المالكة للحول والطول، والحاكمة لأوسع رقاع راقية متمدّنة، بأنّها مهدّدة بالانقراض والزوال، إذا لم تستجب للدعوة أو تسمح- على الأقلّ- من تمكين رعاياها للاطلاع على هذه الدعوة، والاستماع إليها، وتقرير مصيرها في شأنها.   - ج 2، ص 11: إلى أنّ ذلك كان على سبيل المعجزة، فجاء فيما ساقاه من الرواية: « ... فأصبح كل واحد يتكلّم لغة البلاد التي أرسل إليها» .. والمؤلّف حين لا يستبعد وقوع المعجزة، فسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير الأنبياء قبله مليئة بالمعجزات وخوارق العادات، وإنكارها من المكابرة، ولكنّه يرجّح أنّ ذلك كان مبنيا على الحكمة وحسن الاختيار من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن وجود من يحسن اللغة الرومية واللغة الفارسية، ولغة الأقباط في مصر، ولغة أهل الحبشة، غريبا لكثرة اختلاط العرب بهذه الأمم الأربع وكثرة رحلاتهم التجارية إلى هذه الأقطار وتنقّلاتهم فيها، وكانت القضية محدودة في هذه اللغات الأربع، إذ كان لغة أمراء الجزيرة العربية ورؤساء القبائل الذين كتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه، ودعاهم إلى الإسلام، اللغة العربية، وفي اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي لحمل رسالته إلى هرقل قيصر الروم، معنى لطيف يؤيد ما أشرنا إليه من حسن الاختيار، ومراعاة الحكمة، وقد كان شابا جميل الصورة، ذكيا فطنا، صادق الإيمان، وقد قيل في وصفه أنّ جبريل كان يفد على النّبي صلى الله عليه وسلم في صورته، وكان أجدر بحمل هذا الكتاب إلى قيصر الروم، وإلى بلاد الشام من غيره، كما كانت هذه البلاد وأهلها أليق به من غيرهم. (1) [أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب دعوة اليهود والنصارى (2939) والترمذي (2719) ، وأبو داود في أول كتاب الخاتم، باب ما جاء في اتخاذ الخاتم، برقم (4214) والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 196) ، وابن حبان في صحيحه (14/ 303) برقم (6392) . وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الكتب التي أرسلت إلى الملوك: ومن هؤلاء الملوك الإمبراطور الروميّ «هرقل» وإمبراطور فارس «كسرى أبرويز» ، والنّجاشيّ ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر. وهنا نصوص الكتب التي أرسلت إلى هؤلاء الملوك: قد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه إلى «هرقل» مع دحية الكلبيّ، وقد دفعه إلى عظيم «بصرى» فدفعه إلى هرقل، وهنا نصّ الكتاب: «بسم الله الرّحمن الرّحيم من محمّد عبد الله ورسوله، إلى «هرقل» عظيم الرّوم، سلام على من اتبع الهدى. أمّا بعد؛ فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن توليت فإنّ عليك إثم الأريسيين يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «1» [آل عمران: 64] » . وجاء في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز:   (1) [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (7) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الشام يدعوه إلى الإسلام، برقم (1773) ، والترمذي في أبواب الاستئذان، باب ما جاء كيف يكتب إلى أهل الشرك، برقم (2717) ، وأبو داود في كتاب الأدب، باب كيف يكتب إلى الذمي، برقم (5136) ، وأحمد في المسند (1/ 263) من حديث ابن عباس عن أبي سفيان] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 «بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيّا، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس» «1» . وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة: «بسم الله الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول الله، إلى النّجاشيّ عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدّوس السّلام المؤمن المهيمن، وأشهد أنّ عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده، وإنّي أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإنّي رسول الله، وإنّي أدعوك وجنودك إلى الله عزّ وجلّ، وقد بلّغت ونصحت فاقبل نصيحتي، والسّلام على من اتبع الهدى» «2» . وكتب إلى المقوقس عظيم القبط: «بسم الله الرّحمن الرّحيم من محمّد عبد الله ورسوله إلى «المقوقس» عظيم القبط،   (1) الطبري: ج 3، ص 90، [وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، برقم (4424) ، وأحمد (1/ 243- 305) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . (2) طبقات ابن سعد: ج 3، ص 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 سلام على من اتبع الهدى. أمّا بعد، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، فإن تولّيت فإنّ عليك إثم أهل القبط، يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «1» [آل عمران: 64] » .   (1) «المواهب اللدنية» ، ج 3، ص 247- 248. وقد اكتشفت حتى الآن خمسة رقوق، فقد عثر المستشرق الفرنسي بارتليمي) Barthelemy (في أحد الأديرة بناحية «أخميم» من صعيد مصر على رق جلدي قديم، وذلك سنة 1850 م اتّضح بالدراسة أنه رسالة النّبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم القبط في مصر. وأسهم المسيو بلين) Belin (في تحقيق الرسالة، ومقارنة نصها بما ورد في الأصول، ثم أعلن بعد ذلك عن الثقة في أصالة المخطوط، ونشرت عن ذلك دراسة في المجلة الآسيوية سنة 1854 م، ثم في مجلة الهلال المصرية في نوفمبر سنة 1904 م. كذلك اكتشف مخطوط جلديّ يحتمل أن يكون أصل الرسالة النبوية إلى منذر بن ساوى حاكم البحرين، نشر الدكتور بوش) Busch (الألماني حوله مقالا في مجلة المستشرقين الألمان. وفي سنة 1940 م، نشر المستشرق الإنكليزي دنلوب) Dunlop (مقالا في مجلة الجمعية الآسيوية الملكية أعلن فيه أنه تحصّل على رقّ جلديّ يملكه تاجر سوريّ، يظنّ أنه رسالة النّبي صلى الله عليه وسلم إلى نجاشي الحبشة، وذكر أن المالك السوري تخصّل على المخطوط من قسيس أثيوبي جاء إلى دمشق وقت الحرب العالمية الثانية. وفي مايو 1963 م نشر الدكتور صلاح الدين المنجد مقالا في جريدة «الحياة» ببيروت، يعلن فيه الكشف عن رسالة النّبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وذكر أنّ الأصل الجلدي لهذه الرسالة محفوظ لدى الأستاذ هنري فرعون أحد الوزراء اللبنانيين السابقين، وهو مخطوط بين اللوحين الزجاجيين، وفيه تمزيق واضح من أعلى الوسط يتّجه إلى يمين الرسالة وإلى أسفلها، وقد خيّط هذا التمزيق بمهارة للمحافظة على مظهر الرسالة. (ملخّص من بحث الدراسات المتعلّقة برسائل النّبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك في عصره «للدكتور عز الدين إبراهيم» ، المقدّم إلى مؤتمر السيرة، المنعقد في الدوحة شهر محرم 1400 هـ) -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 اعتبارات حكيمة خاصة بالملوك الذين وجّهت إليهم هذه الرسائل: ويلاحظ القارىء الذكيّ فوارق دقيقة مؤسّسة على حكمة الدعوة والرسالات النبويّة، روعي فيها ما يمتاز به هؤلاء الملوك في العقائد التي يدينون بها، و «الخلفيات» التي يمتازون بها. فلمّا كان «هرقل» و «المقوقس» يدينان بألوهية المسيح كليّا وجزئيا، وكونه ابن الله، جاءت في الكتابين اللذين وجّها إليهما كلمة «عبد الله» مع اسم النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم صاحب هاتين الرّسالتين، فيبتدىء الكتابان بعد التسمية بقوله: «من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم» ، وبقوله: «من محمّد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط» بخلاف ما جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز، فاكتفى بقوله: «من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس» . وجاءت كذلك آية: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] ، في هذين الكتابين، وما   - أمّا الكتاب الذي وجّه إلى الإمبراطور الروماني هرقل، فقد كان محفوظا في إسبانيا إلى القرن السابع الهجري، وقد أشار إلى وجوده في عصره المحدّث والمؤرّخ الشهير العلامة السّهيلي من رجال القرن السادس الهجري. وقد جاء في «إرشاد الساري» لشرح صحيح البخاري تأليف أبي العباس شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني، المتوفى سنة 923 هـ، (1/ 81) : «وحكي أنّ ملك الإفرنج في دولة الملك المنصور قلاوون الصالحي أخرج لسيف الدين قبج صندوقا مصفحا بالذهب، واستخرج منه مقلمة من ذهب، فأخرج منها كتابا زالت أكثر حروفه، فقال: هذا كتاب نبيّكم إلى جدّي قيصر، مازلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنّه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 جاءت في كتابه إلى كسرى أبرويز لأنّ الآية تخاطب أهل الكتاب الذين دانوا بألوهية المسيح، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم، وقد كان هرقل إمبراطور الدولة البيزنطيّة والمقوقس حاكم مصر قائدين سياسيّين، وزعيمين دينيّين كبيرين للعالم المسيحيّ، مع اختلاف يسير في الاعتقاد في المسيح هل له طبيعة أم طبيعتان» «1» . ولمّا كان كسرى أبرويز وقومه يعبدون الشّمس والنّار، ويدينون بوجود إلهين، أحدهما يمثّل الخير وهو يزدان، والثاني يمثّل الشرّ وهو أهرمن، وكانوا بعيدين عن مفهوم النبوّة والتصوّر الصحيح للرسالة السماوية، جاءت في الكتاب الذي وجّه إلى الإمبراطور الإيرانيّ عبارة: (وإنّي رسول الله إلى الناس كافّة لينذر من كان حيّا) . من هم هؤلاء الملوك؟ ولكي نشعر بأهميّة هذه الرّسائل التي وجّهت إلى دول وبلاد مختلفة، وملوكها، ومكانتها الصحيحة في التاريخ المعاصر، ووقعها في القلوب والنفوس، يجب أن نتعرّف بهؤلاء الأشخاص الأربعة: «هرقل» ، و «كسرى» ، و «النّجاشيّ» ، و «المقوقس» ، وحجم الحكومات التي كانوا يحكمونها. فقد يتصوّر القارىء الذي لم يتّسع وقته لدراسة التاريخ السياسيّ في القرن السابع المسيحيّ، ولم تتوفّر عنده معلومات عن هذه الممالك التي كان يحكمها هؤلاء الملوك، أنّها رسائل وجّهت إلى أمراء، أو   (1) راجع للتفصيل كتاب المؤلف: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!» الباب الأول، الفصل الأول، ص (78- 85) طبع دار ابن كثير بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 أقيال يكثر عددهم في كلّ زمان ومكان، أمّا من عرف مكانة هؤلاء الملوك في الخريطة السياسية في ذلك العصر، واطّلع على تاريخهم وسيرتهم وأخلاقهم، وما كان لهم من حول وطول، وسطوة ورهبة، عرف ضخامة هذا العمل الذي لا يقدم عليه إلا نبيّ مأمور من الله، مكلّف بالدعوة، بعيد عن كلّ ظلّ من ظلال الخوف والضعف تجلّى عليه ملكوت السموات والأرض فتراءى له هؤلاء الملوك دمى كسيت حللا ملوكية فاخرة، أو تماثيل لا روح فيها ولا حياة. هرقل الأول قيصر الروم (610- 641 م) : هو هرقل قيصر الروم الإمبراطور البيزنطيّ، كان يحكم إمبراطورية واسعة، توزّعت مع الإمبراطورية الإيرانية العالم المتمدّن في ذلك اليوم، وحكمت نصف العالم تقريبا، وكانت لها ولايات واسعة غنيّة متمدنة راقية، في القارات الثلاث: أوربة، وآسيا، وإفريقية، وخلفت الدولة الرومية الكبرى التي خضع لها العالم القديم «1» . وكان من أسرة يونانية الأصل، ولد في «كيبوديشية» ونشأ في قرطاجنة «كارتهيج» «2» ، وكان ابن حاكم إفريقية الروميّ Exarch of Afrca ولم يكن شيء يدلّ على عصاميته ونبوغه، أو عبقريته القيادية، إلى أن قتل فوقاس) Phocas (المغتصب، إمبراطور البيزنطية الشرعيّ موريقس) Maurices (سنة   (1) قد ذكرنا حدود هذه المملكة، وما كانت تحكمه من ولايات، ومقاطعات، في أوربة وآسيا، وإفريقية، في الباب الأول من هذا الكتاب، تحت عنوان «الدولة الرومية الشرقية» . (2) مدينة قديمة في إفريقية، أسّسها الفينيقيون في 814 ق. م، وبمقربة من أطلالها قامت مدينة تونس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 602 م الذي كان صاحب الفضل على كسرى أبرويز، وانتهز الفرس هذه الفرصة للزحف على الدولة البيزنطية فدوّخوها واحتلّوها وأهانوها واحتضرت الدولة البيزنطيّة الشهيرة تلفظ آخر أنفاسها «1» ، فدعي هرقل من قرطاجنة فقتل فوقاس، وتسلّم زمام الحكم والقيادة في سنة 610 م «2» ، والمملكة في صراع الموت والحياة، وفي براثن المجاعة، والأمراض الوبائية، والفقر، والعجز الماليّ. وبقي هرقل في سنواته الأولى لا يبعث أملا ولا يحرّك ساكنا، ولكن حدث فيه انقلاب في سنة 616 م (وهي السنة التي نبّأ القرآن فيها بغلبة الروم في بضع سنين) «3» ، فتحوّل من ملك متخاذل راكن إلى الدعة والترف، إلى قائد متحمّس غيور، قد ملكته الفكرة وثارت فيه الحميّة، وتوجّه إلى مركز الإمبراطورية الإيرانية، يستعيد بلاده وكرامة أمّته، ويفتح مدن إيران الشهيرة، ويستولي على مراكزها الكبيرة، حتّى أوغل في قلب إيران، وأهان الإمبراطورية الإيرانية العظيمة القديمة، وأثخنها قتلا وجراحا، حتّى أو شكت الإمبراطورية السّاسانية على النهاية، وتزلزلت قوائم عرش آل ساسان، ورجع القائد المنتصر، فدخل القسطنطينية دخول الفاتح العظيم سنة 625 م «4» ، وتوجّه إلى بيت المقدس في سنة 629 م، ليعيد إليه الصليب   (1) اقرأ القصة مفصّلة في كتاب «انحطاط دولة روما وسقوطها» لمؤلّفه «جبون» ، وكتاب «إيران في عهد الساسانيين» لمؤلفه «آرتهر كرستن سين» . (2) وبعد مضي عام على هذا الحادث كانت البعثة المحمدية في الجزيرة العربية. (3) واقرأ مقال «إحدى نبوءات القرآن العظيمة ونبوءة غلبة الروم» في كتاب المؤلف «المدخل إلى الدراسات القرآنية» طبعة دار ابن كثير بدمشق، وطبعة المجمع الإسلامي العلمي ندوة العلماء لكهنؤ (الهند) . (4) وفي سنة 626 م كانت واقعة بدر الكبرى التي التقى فيها انتصار المسلمين على مشركي مكة بانتصار الروم أهل الكتاب على منافسيهم الفرس عباد النار، وتحققت نبوءة القرآن عن غلبة- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 المقدّس، الذي أخذه الفرس، وليفي بنذره، فكان الناس يبسطون له البسط ليمشي عليها، وينثرون عليه الرياحين «1» ، إبداء لسرورهم وإجلالهم، وأقيم احتفال كبير بمناسبة عودة الصليب المقدّس إلى مكانه، وإظهارا للسّرور بالفتح العظيم في القدس، وهنا وصله كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعوه فيه إلى الإسلام «2» . وعاد هرقل إلى ما كان عليه من دعة وترف، حتّى واجه الزحف الإسلاميّ الذي أدّى إلى زوال ملكه، وانتهاء الحكم البيزنطيّ من آسيا وإفريقية وانحصاره في أوربة وآسيا الصغرى، وعلى كلّ فإنّه كان من كبار ملوك العالم في عصره، لا ينافسه في اتساع المملكة، والقوة الحربية، وزهوّ المدنية، إلا الإمبراطور الإيرانيّ خسرو الثاني، ومات سنة 641 م في القسطنطينية، ودفن فيها. كسرى أبرويز (خسرو أبرويز الثاني) (950- 628) : كان ابن هرمز الرابع، وحفيد خسرو الأول المعروف ب «أنوشيروان» العادل، يسمّيه العرب «كسرى أبرويز» جرى تتويجه على أثر قتل والده في سنة 590 م، وثار عليه بهرام جوبين، وانهزم أبرويز فخرج من المملكة السّاسانية، والتجأ إلى الإمبراطور البيزنطيّ موريقس) Maurice (واستعان به   - الروم في بضع سنين (والبضع مدة دون العشرة) . (1) فتح الباري: ج 1، ص 31. (2) وقد كان سبب تأخّر الكتاب النبوي إلى هرقل- بخلاف كسرى الذي وصله الكتاب قبل ذلك- أولا: أن الكتاب دفع إلى عظيم «بصرى» ليقدمه إلى قيصر، ولعله لم يتمكن من تسليمه إياه لانشغال قيصر بالحرب، وبعده عن عاصمته، وثانيا: أن المراجع الغربية تذكر أن هرقل قد اضطر إلى التوجه إلى أرمينيا في سنة 628 م لقمع ثورة أو غرض آخر، فلم يتمكن من الوفاء بنذره إلا في سنة 629 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 على استرداد ملكه، فأمدّه موريقس بجيوش جرّارة، وبعد حروب دامية انهزم بهرام، وتربّع خسرو على عرش آبائه. وفي سنة 612 م زحف كسرى أبرويز على المملكة البيزنطيّة ليأخذ بثأر وليّ نعمته وأبيه المعنويّ موريقس، من قاتله النذل المغتصب لعرش القياصرة فوقاس) Phocas (ولم يكفه قتل فوقاس عن الاستمرار في الزحف الذي ساءت فيه نيّته، فواصله إلى القسطنطينية ووصل إلى ما لم يصل إليه سلفه من تدويخ المملكة المنافسة القديمة، وبلغ انتصاره ومجده أوجهما في سنة 615 م حتى نجح هرقل في دحر الإيرانيّين عن بلاده، والهجوم المنتصر على مركز المملكة السّاسانية، حتى اضطرّ كسرى أبرويز إلى أن يغادر عاصمته، والالتجاء إلى مكان حريز «1» ، ولكنّه ما لبث أن قتل في ثورة في سنة 628 م. اتفقت كلمة مؤرّخي إيران على أنّ خسرو الثاني كان أعظم ملوك إيران أبهة وعظمة، فقد بلغت الدولة السّاسانية في عهده أوجها في الزينة والمدنية والزهوّ، ومظاهر الترف والبذخ، وقد دخل جزء من الولاية الشمالية الغربية في الهند في حكمه «2» ، وكان يلقّب نفسه ويسمّيه كما يلي: «في الآلهة إنسان غير فان، وفي البشر إله ليس له ثان، علت كلمته، وارتفع مجده، يطلع مع الشمس بضوئه، وينير الليالي المظلمة بنوره» «3» . وقد بلغت في عهده المملكة الساسانية إلى ما لم تبلغ إليه في عهد من عهودها من الأبّهة، والفخفخة، وقد وصفه المؤرخ الطّبريّ في تاريخه بقوله:   (1) [مكان حريز: أي، حصين آمن] . (2) إيران في عهد الساسانيين: ص 602. (3) المصدر السابق: ص 604، نقلا عن تهيو في ليكتس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 «كان من أشدّ ملوكهم بطشا، وأنفذهم رأيا، وأبعدهم غورا، وبلغ فيما ذكر من البأس والنّجدة، والنصر والظفر وجمع الأموال والكنوز، ومساعدة القدر ومساعدة الدهر إياه، ما لم يتهيأ لملك أكثر منه، ولذلك سمّي «أبرويز» وتفسيره بالعربية «المظفر» «1» . وقد تأنّق تأنّقا عظيما في مظاهر الترف والمدنية، وأبدع في أنواع الأطعمة والأشربة «2» ، وبلغ في الألطاف والأدهان والعطور شأوا بعيدا، وقد نشأ في عهده ذوق دقيق للأطعمة اللذيذة، والخمور الراقية، والعطور اللطيفة، وارتقى في عهده الغناء والموسيقا، وأقبل الناس عليها إقبالا عظيما، وكانت عنده نهامة بجمع الأموال، واكتناز الكنوز، وجمع الطرف والنفائس، ولمّا نقل كنزه في سنة 607- 608 م من البناء القديم إلى البناء الجديد في طيسيفون، كان ما نقله 460 مليونا وثمانية ملايين مثقال ذهب، وذلك ما يساوي 370 مليون وخمسة ملايين فرنك ذهبيّ، وفي العام الثالث عشر من جلوسه على العرش كان في خزانته 880 مليون مثقال ذهب «3» ، وقد حكم 37 سنة، وخلفه ابنه شيرويه. المقوقس: هو حاكم الإسكندرية، والنائب العام للدولة البيزنطية في مصر، وقد ذكره المؤرّخون العرب غالبا باسم «المقوقس» واختلفوا في تسميته الحقيقية وكنيته اختلافا كثيرا، أمّا المؤرّخ أبو صالح الذي ألّف تاريخه في القرن السادس الهجريّ (1200 م) فسمّاه ب «جريج بن مينا المقوقس» وقد ذكر   (1) تاريخ الأمم والملوك للطبري: 2/ 137، المطبعة الحسينية الطبعة الأولى بمصر. (2) راجع تاريخ الأمم والملوك: للطبري، ص 995. (3) إيران في عهد الساسانيين: ص 611. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ابن خالدون أنه كان من الأقباط، والمقريزيّ سمّاه «المقوقس الروميّ» فلما هاجم الفرس مصر فرّ حاكم الإسكندرية من قبل البيزنطيين، واسمه) John the Almoner (من الإسكندرية إلى قبرص ومات هناك، فعيّن هرقل مكانه نائبا آخر اسمه «جورج» ، ولعلّه هو الذي يسمّيه العرب ب «جريج» وولّاه رئاسة الكنيسة الملكانية، وقد ذكر بعض المؤرّخين أنّ تعيينه كان في سنة 621 م. ويرجّح «ألفرد بتلر» مؤلّف كتاب «فتح العرب لمصر» أنّ العرب كانوا يعتقدون أنّ الحاكم الذي كان يحكم مصر من قبل الدولة البيزنطية بعد انتصارها على إيران، كان يلقّب ب «المقوقس» وكان رئيس الكنيسة وحاكم مصر في وقت واحد، فأطلقوا على جورج الذي كان نائبا عن الدولة بهذا اللقب، ويرجّح أن «المقوقس» لقب لا علم، وقد ردّ هذا الاسم إلى أصول قبطية، ويمكن أن أسقفا قبطيا تسلّم زمام الحكم، ورئاسة الكنيسة عند استيلاء الفرس على مصر، وقد انسحبت القوات الإيرانية عن مصر في سنة 627 م، ولكن لم توقّع وثيقة الصلح إلّا في سنة 628 م، فيمكن أنّ كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس وصل إليه في هذه الفترة، حين كان الحاكم المصريّ شبه مستقل «1» ولذلك خاطبه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ب «عظيم القبط» . وقد كانت مصر من أغنى ولايات الدولة البيزنطيّة، وأكثرها خصوبة وإنتاجا وسكّانا، وكانت تموّن العاصمة بالمواد الغذائية، وقد وصفها فاتح مصر عمرو بن العاص (م 63 هـ) وقد دخلها بعد أن مضى على كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس 14 عاما، في كتابه الذي كتبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بقوله: «مصر تربة غبراء وشجرة   Appendix -C -P. 805 -045 (1) راجع «فتح العرب لمصر» لألفرد بتلر، وقد ورد اسم هذا الحاكم في بعض الكتب الجزكيروس أو قيرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر» «1» . ويدلّ على عمرانها وكثرة نفوسها أنّ عمرو بن العاص لمّا تمّ له فتح مصر سنة 20 هـ (640 م) أحصى من تستحقّ عليه الجزية يومئذ، فبلغوا أكثر من ستة ملايين «2» ، وكان الرومان يبلغون مئة ألف. وقد جاء في كتاب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: «أمّا بعد، فإنّي فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أنّي أحصيت فيها أربعة آلاف متنة «3» ، بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهوديّ، وأربعمئة ملهى للملوك» «4» . النجاشيّ: إنّ هذه البلاد لم تزل تسمّى من قديم الزمان بالحبشة) Abyssinia (أو أثيوبيا،) Ethiopia (وهي بلاد من إفريقية الشرقية، واقعة في الجنوب الغربيّ من البحر الأحمر ولا يمكن تقدير حدودها في العصر الذي نتحدّث عنه. وحكومتها من أقدم الحكومات في العالم، وتقول الأخبار اليهوديّة أن ملكة «سبأ» كانت تسكن في الحبشة، وأنّ ذرّية سليمان ما زالت تحكم الحبشة، وقد بدأ اليهود يسكنون في الحبشة بعد خراب هيكل سليمان،   (1) النجوم الزاهرة: لابن تغري بردي، ج 1، ص 32. (2) دائرة معارف القرن العشرين: للأستاذ محمد فريد وجدي، راجع مادة «مصر» والمؤلف يشك في صحة هذا العدد في ضوء تجارب تضخم العمران في البلاد المختلفة، فإن عدد النفوس في مصر في عصرنا لا يزيد على أربعين مليونا. (3) هو المكان الصلب المرتفع، كما في القاموس. (4) حسن المحاضرة: للسيوطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وبدأت النصرانيّة تنتشر في الحبشة منذ القرن الرابع الميلاديّ، ولمّا بدأ ملك اليمن يضطهد المسيحيّين في بلاده طلب جستينين الأول من ملك الحبشة أن يساعد المسيحيّين في اليمن، فاستولى على اليمن في سنة 525 م، ودامت السلطة الحبشية على اليمن العربية نحو خمسين سنة (وفي هذه الفترة هاجم ملك اليمن من قبل الحبشة أبرهة مكّة ليخرّب البيت، ووقعت حادثة الفيل) . وكانت عاصمة الحبشة) Axum (وكانت حكومة مستقلة لا تخضع لحكومة أجنبية، ولا تؤدّي إليها الخراج، ولا تتصل بالإمبراطورية البيزنطيّة إلا عن طريق الصداقة والمشاركة في ديانة واحدة (المسيحية) يدلّ على ذلك دلالة واضحة أنّ الإمبراطور البيزنطيّ «جستينين» عيّن في منتصف القرن الثالث المسيحيّ رجلا اسمه «جوليان) Julian ( «سفيرا في بلاط الحبشة «1» . ويقول) De Lacy OLeary (في كتابه «العرب قبل محمد» : «كانت الحبشة منذ 522 م حتّى ظهور الإسلام مسيطرة على تجارة شرق المحيط الأحمر وإفريقية، بل لعلّها كانت مسيطرة على تجارة الهند أيضا» «2» . وكان ملك الحبشة يلقّب دائما ب «النجاشيّ.Nagusa Nagashi « وقد اضطربت الأقوال والروايات في تعيين هذا النجاشيّ الذي كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، وممّا لا شكّ فيه أنّ هنالك شخصيّتين متمايزتين، الأول هو الذي هاجر إليه المسلمون من مكّة، وكان   (1) A.H.M.Jones Elizabeth Monros:A History of Abyssinia) Oxford, 5391 (P.36 ) Arabia Before Mohammad () London ,7291 (P. 021 (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فيهم جعفر بن أبي طالب، وذلك سنة خمس من النبوّة، ويستبعد أنّه صلى الله عليه وسلم كتب إليه كتابا يدعوه في ذلك الحين، فإنّ الأوضاع لم تكن تسمح بذلك، ولم يكن قد آن أوانه بعد، ولا نعرف أنّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى ملك من الملوك قبل الهجرة يدعوه إلى الإسلام، وغاية الأمر أنّه طلب منه أن يؤوي المسلمين الذين قست عليهم قريش وابن خالدون أنه كان من الأقباط، والمقريزيّ سمّاه «المقوقس الروميّ» فلما هاجم الفرس مصر فرّ حاكم الإسكندرية من قبل البيزنطيين، واسمه) John the Almoner (من الإسكندرية إلى قبرص ومات هناك، فعيّن هرقل مكانه نائبا آخر اسمه «جورج» ، ولعلّه هو الذي يسمّيه العرب ب «جريج» وولّاه رئاسة الكنيسة الملكانية، وقد ذكر بعض المؤرّخين أنّ تعيينه كان في سنة 621 م. ويرجّح «ألفرد بتلر» مؤلّف كتاب «فتح العرب لمصر» أنّ العرب كانوا يعتقدون أنّ الحاكم الذي كان يحكم مصر من قبل الدولة البيزنطية بعد انتصارها على إيران، كان يلقّب ب «المقوقس» وكان رئيس الكنيسة وحاكم مصر في وقت واحد، فأطلقوا على جورج الذي كان نائبا عن الدولة بهذا اللقب، ويرجّح أن «المقوقس» لقب لا علم، وقد ردّ هذا الاسم إلى أصول قبطية، ويمكن أن أسقفا قبطيا تسلّم زمام الحكم، ورئاسة الكنيسة عند استيلاء الفرس على مصر، وقد انسحبت القوات الإيرانية عن مصر في سنة 627 م، ولكن لم توقّع وثيقة الصلح إلّا في سنة 628 م، فيمكن أنّ كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس وصل إليه في هذه الفترة، حين كان الحاكم المصريّ شبه مستقل «1» ولذلك خاطبه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ب «عظيم القبط» . وقد كانت مصر من أغنى ولايات الدولة البيزنطيّة، وأكثرها خصوبة وإنتاجا وسكّانا، وكانت تموّن العاصمة بالمواد الغذائية، وقد وصفها فاتح مصر عمرو بن العاص (م 63 هـ) وقد دخلها بعد أن مضى على كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس 14 عاما، في كتابه الذي كتبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بقوله: «مصر تربة غبراء وشجرة   Appendix -C -P. 805 -045 (1) راجع «فتح العرب لمصر» لألفرد بتلر، وقد ورد اسم هذا الحاكم في بعض الكتب الجزكيروس أو قيرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر» «1» . ويدلّ على عمرانها وكثرة نفوسها أنّ عمرو بن العاص لمّا تمّ له فتح مصر سنة 20 هـ (640 م) أحصى من تستحقّ عليه الجزية يومئذ، فبلغوا أكثر من ستة ملايين «2» ، وكان الرومان يبلغون مئة ألف. وقد جاء في كتاب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: «أمّا بعد، فإنّي فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أنّي أحصيت فيها أربعة آلاف متنة «3» ، بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهوديّ، وأربعمئة ملهى للملوك» «4» . النجاشيّ: إنّ هذه البلاد لم تزل تسمّى من قديم الزمان بالحبشة) Abyssinia (أو أثيوبيا،) Ethiopia (وهي بلاد من إفريقية الشرقية، واقعة في الجنوب الغربيّ من البحر الأحمر ولا يمكن تقدير حدودها في العصر الذي نتحدّث عنه. وحكومتها من أقدم الحكومات في العالم، وتقول الأخبار اليهوديّة أن ملكة «سبأ» كانت تسكن في الحبشة، وأنّ ذرّية سليمان ما زالت تحكم الحبشة، وقد بدأ اليهود يسكنون في الحبشة بعد خراب هيكل سليمان،   (1) النجوم الزاهرة: لابن تغري بردي، ج 1، ص 32. (2) دائرة معارف القرن العشرين: للأستاذ محمد فريد وجدي، راجع مادة «مصر» والمؤلف يشك في صحة هذا العدد في ضوء تجارب تضخم العمران في البلاد المختلفة، فإن عدد النفوس في مصر في عصرنا لا يزيد على أربعين مليونا. (3) هو المكان الصلب المرتفع، كما في القاموس. (4) حسن المحاضرة: للسيوطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وبدأت النصرانيّة تنتشر في الحبشة منذ القرن الرابع الميلاديّ، ولمّا بدأ ملك اليمن يضطهد المسيحيّين في بلاده طلب جستينين الأول من ملك الحبشة أن يساعد المسيحيّين في اليمن، فاستولى على اليمن في سنة 525 م، ودامت السلطة الحبشية على اليمن العربية نحو خمسين سنة (وفي هذه الفترة هاجم ملك اليمن من قبل الحبشة أبرهة مكّة ليخرّب البيت، ووقعت حادثة الفيل) . وكانت عاصمة الحبشة) Axum (وكانت حكومة مستقلة لا تخضع لحكومة أجنبية، ولا تؤدّي إليها الخراج، ولا تتصل بالإمبراطورية البيزنطيّة إلا عن طريق الصداقة والمشاركة في ديانة واحدة (المسيحية) يدلّ على ذلك دلالة واضحة أنّ الإمبراطور البيزنطيّ «جستينين» عيّن في منتصف القرن الثالث المسيحيّ رجلا اسمه «جوليان) Julian ( «سفيرا في بلاط الحبشة «1» . ويقول) De Lacy OLeary (في كتابه «العرب قبل محمد» : «كانت الحبشة منذ 522 م حتّى ظهور الإسلام مسيطرة على تجارة شرق المحيط الأحمر وإفريقية، بل لعلّها كانت مسيطرة على تجارة الهند أيضا» «2» . وكان ملك الحبشة يلقّب دائما ب «النجاشيّ.Nagusa Nagashi « وقد اضطربت الأقوال والروايات في تعيين هذا النجاشيّ الذي كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، وممّا لا شكّ فيه أنّ هنالك شخصيّتين متمايزتين، الأول هو الذي هاجر إليه المسلمون من مكّة، وكان   (1) 63.P (1935 ,drofxO) ainissybA fo yrotsiH A:sornoM htebazilE senoJ.M.H.A ) Arabia Before Mohammad () London ,7291 (P. 021 (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فيهم جعفر بن أبي طالب، وذلك سنة خمس من النبوّة، ويستبعد أنّه صلى الله عليه وسلم كتب إليه كتابا يدعوه في ذلك الحين، فإنّ الأوضاع لم تكن تسمح بذلك، ولم يكن قد آن أوانه بعد، ولا نعرف أنّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى ملك من الملوك قبل الهجرة يدعوه إلى الإسلام، وغاية الأمر أنّه طلب منه أن يؤوي المسلمين الذين قست عليهم قريش واضطهدوهم. ويستأنس من الأخبار التي رواها ابن هشام وغيره في كتب السيرة أنّه دخل الإيمان في قلبه، وآمن بأنّ عيسى ابن مريم- عليه الصلاة والسلام- هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم. أمّا النّجاشيّ الذي كتب له النّبيّ صلى الله عليه وسلم كتابا يدعوه إلى الإسلام، فهو كما مال إليه الحافظ ابن كثير هو النجاشيّ الذي ولّي بعد المسلم صاحب جعفر بن أبي طالب، يقول ابن كثير: «وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله قبل الفتح» ، ونرجّح أنه هو الذي أسلم ونعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وصلى عليه، وقد ذكر الأبيّ عن الواقديّ وغيره من أهل السير: «أنّه النجاشيّ الذي صلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في رجب سنة تسع منصرف تبوك» «1» . وبذلك يحصل التوفيق بين الروايات المختلفة، وتدلّ عليه القرائن والدراية، والله أعلم. كيف تلقّى هؤلاء الملوك هذه الرسائل الكريمة؟ فأمّا «هرقل» و «النّجاشي» و «المقوقس» فتأدّبوا، ورقّوا في جوابهم،   (1) [أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الإسلام، برقم (1774) ، والترمذي في أبواب الاستئذان، باب مكاتبة المشركين، برقم (2716) من حديث أنس رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وأكرم «النجاشيّ» و «المقوقس» رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل «المقوقس» هدايا منها جاريتان كانت إحداهما مارية أمّ إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمّا كسرى أبرويز، فلمّا قرىء عليه الكتاب مزّقه، وقال: يكتب إليّ هذا وهو عبدي؟! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مزّق الله ملكه» «1» . وأمر كسرى باذان وهو حاكمه على اليمن بإحضاره، فأرسل بابويه يقول له: إن ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّ الله قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه فقتله «2» . وقد تحقّق ما أنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلّ دقّة، فقد استولى على عرشه ابنه «قباذ» الملقب ب «شيرويه» وقتل كسرى ذليلا مهانا بإيعاز منه سنة 628 م، وقد تمزّق ملكه بعد وفاته، وأصبح لعبة في أيدي أبناء الأسرة الحاكمة، فلم يعش «شيرويه» إلا ستة أشهر، وتوالى على عرشه في مدّة أربع سنوات عشرة ملوك، واضطرب حبل الدولة إلى أن اجتمع الناس على «يزدجرد» وتوجوه، وهو آخر ملوك بني ساسان، وهو الذي واجه الزحف الإسلاميّ الذي أدى إلى انقراض الدولة الساسانية التي دامت وازدهرت أكثر من أربعة قرون انقراضا كلّيا، وكان ذلك في سنة 637 م، وهكذا تحقّقت هذه النبوءة في ظرف ثماني سنين «3» ، ولم تعد بعد ذلك الإمبراطورية الساسانية،   (1) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي] ، باب كتاب النّبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر. [برقم (4424) ، وأحمد في المسند (1/ 243- 305) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . (2) تاريخ الطبري: ج 3، ص 90- 91. (3) ملخّصا من كتاب «إيران في عهد الساسانيين» ، الباب التاسع، «عهد الدولة الساسانية الأخير الزاهر» ، ص 593، والباب العاشر «سقوط المملكة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 فتحققت به نبوءة أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده» «1» . وملّك الله المسلمين إيران، وهدى أهلها للإسلام، فكان منهم أئمة في العلم والدين، وعباقرة الإسلام، وأعلام المسلمين، وصدق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس من أبناء فارس» «2» . حوار بين «هرقل» وأبي سفيان: وقد أراد «هرقل» أن يتثبّت في أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبحث عمّن يستخبره في شأنه، وصادف ذلك وجود أبي سفيان في «غزة» فأحضره إليه- وقد جاء في تجارة- وكانت استفساراته استفسارات عاقل مجرّب خبير بتاريخ الديانات وخصائص الأنبياء وسيرهم وشأن الأمم معهم وسنّة الله في أمرهم، وصدقه أبو سفيان شأن العرب الأولين حياء من أن يأثر الناس عليه كذبا، وجرى بينهما الحوار الآتي: هرقل: كيف نسبه فيكم؟ أبو سفيان: هو فينا ذو نسب. هرقل: فهل قال هذا القول منكم أحد قطّ قبله؟ أبو سفيان: لا.   (1) قطعة من حديث أخرجه مسلم [في كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل..، برقم (2918) ] عن ابن عيينة، ورواه الإمام الشافعي بسنده أيضا، وراجع ابن كثير، ج 3، ص 513. (2) أخرجه أحمد في المسند (2/ 296) ، [وابن حبان برقم (7309) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 هرقل: فهل كان من آبائه من ملك؟ أبو سفيان: لا. هرقل: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟ أبو سفيان: بل يزيدون. هرقل: فهل يرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ أبو سفيان: لا. هرقل: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ أبو سفيان: لا. هرقل: فهل يغدر؟ أبو سفيان: لا، ونحن منه في مدّة لا ندري ما هو فاعل فيها، (قال: ولم تمكنّي كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة) . هرقل: فهل قاتلتموه؟ أبو سفيان: نعم. هرقل: فكيف كان قتالكم إيّاه؟ أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال «1» ، ينال منّا وننال منه. هرقل: ماذا يأمركم؟   (1) [أي مرّة لنا ومرّة علينا، وأصله أنّ المستقين بالسّجل، يكون لكلّ واحد منهم سجل] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 أبو سفيان: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصّلاة، والصّدق، والعفاف، والصّلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنّه فيكم ذو نسب، وكذلك الرّسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، قلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسّى بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت: أن لا، فقلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا، فقد أعرف أنّه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت: أنّ ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنّهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتّى يتمّ، وسألتك أيرتدّ أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بم يأمركم؟ فذكرت أنّه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصّلاة والصّدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنّه خارج، ولم أكن أظنّ أنّه منكم، فلو أنّي أعلم أنّي أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 كنت عنده لغسلت عن قدميه «1» .. وأذن لعظماء الروم في القصر وأمر أبوابه فغلّقت، ثمّ اطّلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد أن يثبت ملككم وتبايعوا هذا النبيّ؟ ففرّوا وبادروا إلى الأبواب فوجدوها قد غلّقت، فلمّا رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان قال: ردّوهم عليّ، وقال: إنّي قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدّتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه «2» . وهكذا آثر هرقل الملك على الهداية، ووقعت بينه وبين المسلمين في خلافة أبي بكر وعمر حروب ومعارك، وكان فيها ذهاب ملكه وسلطانه «3» . من هم الأريسيون؟ وردت كلمة «الأريسيين» أو «اليريسيين» - على اختلاف الروايات- في الكتاب الذي وجّه إلى «هرقل» وحده، ولم ترد في كتاب من الكتب التي أرسلت إلى غيره. واختلف علماء الحديث واللغة في مدلول هذه الكلمة، فالقول المشهور أنّ «الأريسيين» جمع «أريسي» وهم الخول والخدم والأكّارون «4» .   (1) أخرجه البخاري [في كتاب بدء الوحي] ، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، [برقم (7) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الشام يدعوه إلى الإسلام، برقم (1773) ، والترمذي في الاستئذان، باب ما جاء في ختم الكتاب، برقم (2718) ، وأبو داود في كتاب الأدب، باب كيف يكتب إلى الذمي، برقم (5136) ، وأحمد في المسند (1/ 263) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . (2) [قد سبق تخريجه في التعليق آنفا] . (3) [قد سبق تخريجه في التعليق سابقا] . (4) راجع شرح النووي لصحيح مسلم، و «مجمع بحار الأنوار» للعلامة محمد طاهر الفتني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وجاء في «لسان العرب» لابن منظور: «الأرس» : الأصل و «الأريس» : الأكار، نقله عن ثعلب. وذكر عن ابن الأعرابيّ: أنه قال أرس يأرس أرسا إذا صار أريسا، وأرّس يؤرّس تأريسا: إذا صار أكارا. ونقل عن أبي عبيدة أنّه قال: الأجود عندي أن يقال أنّ «الأريس» كبيرهم الذي يمتثل أمره، ويطيعونه إذا طلب منهم الطاعة «1» . وهنا يتساءل القارىء الفطن إذا كان المراد من «الأريسيين» الفلّاحين، كان «كسرى أبرويز» إمبراطور إيران أحقّ بأن يحذر من وقوع إثمهم ومسؤوليتهم عليه، وبأن ترد هذه الكلمة في الكتاب الذي كتب إليه، فإنّ طبقة الفلاحين كانت أعظم وأوسع وأكثر تميزا في المملكة السّاسانية الإيرانية منها في المملكة البيزنطيّة الرومانية، وكان أكثر اعتماد إيران في دخلها ومواردها على الفلاحة، وإلى ذلك نبّه الأزهريّ، كما نقل عنه ابن منظور بقوله: «وكان أهل السواد من هو على دين كسرى أهل فلاحة وإثارة للأرض، وكان أهل الروم أهل أثاث وصنعة، فكانوا يقولون للمجوس «أريسيين» نسبوهم إلى «الأريس» وهو الأكار، وكانت العرب تسمّيهم «الفلّاحين» «2» . ولذلك نرجّح أنّ المراد بالأريسيين هم أتباع «أريوس» المصريّ) Arius 082 -633 (وهو مؤسس فرقة مسيحية كان لها دور كبير في تاريخ العقائد المسيحيّة والإصلاح الدينيّ، وقد شغلت الدولة البيزنطية والكنيسة المسيحية زمنا طويلا.   (1) راجع «لسان العرب» مادة «أرس» . (2) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 و «أريوس» هو الذي نادى بالتوحيد، والتمييز بين الخالق والمخلوق والأب والابن- على حدّ تعبير المسيحيين- فأثار نقاشا حول الموضوع، وكان الشغل الشاغل في المجتمع المسيحيّ لعدّة قرون، وآراؤه تتلخص في أنّه ليس من شأن الإله الواحد أن يظهر على الأرض، لذلك هو ملأ السيد المسيح بالقوة والكلام الإلهيّ، وأنّ من صفات الله الأساسية الوحدانية والأبدية وأنّه لم يخلق أحدا من ذاته رأسا، وأن الابن ليس هو الإله، بل هو مظهر لحكمة أمر الربّ، وأنّ ألوهيته إضافية لا مطلقة «1» . ويقول جيمس ماكنون) James Mackinon (في كتابه «من المسيح إلى قسطنطين» : «كان «أريوس» يلحّ على أنّ الله وحده القديم، كان الأزليّ الأبديّ، وليس له شريك، وهو الذي خلق الابن من العدم، لذلك ليس الابن هو الأزليّ، ولم يكن الله أبا من الأبد، فقد كان حين من الدهر لم يكن فيه وجود للابن، وأنّ الابن يحمل حقيقة خاصة لا يشاركه فيها الله وهو خاضع للتطورات، وليس هو الله بالمعنى الصحيح، إلا أنّه يصلح لأن يكون كاملا، ولكنّه على كلّ حال مخلوق كامل» «2» . بينما كانت كنيسة إسكندرية في أوائل القرن الرابع المسيحيّ تدين بألوهية المسيح إطلاقا من غير تفريق بين الخالق والمخلوق والأب والابن. وقد أقصاه رئيس الكنيسة المصريّة البطريق ألكساندر) Alexander (في سنة 321 م من كنيسة الإسكندرية، وغادر «أريوس» المدينة، ولكن لم ينته النزاع بخروجه، وحاول الإمبراطور قسطنطين حسم هذا الخلاف ولكنّه أخفق.   (1) راجع للتفصيل «دائرة معارف الديانات والأخلاق» ج 1، مقال. ) From Christ to Constantine () London ,6391 ((2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وفي سنة 325 م عقد مجمعا في نيقية اجتمع فيه 2030 أسقفا، وكان الإمبراطور يميل إلى ألوهية المسيح فحكم ضدّ «أريوس» رغم أن أغلبية الحاضرين كانت تؤيد «أريوس» ، ولم يوافقه إلا 318 أسقفا، فنفاه إلى إليريا) Illyria (وأحرقت كتاباته، وكان من وجدت عنده يعاقب. ولكنّ هذه المحاولات لم تقلّل من أهميّة «أريوس» وإقبال الناس عليه، وكان آخر أمره أنّ «قسطنطين» لان في موقفه ورفع الحظر على عقيدته، وبعد موت منافسه الأكبر ألكساندر ونفي خليفته) Athanasius (عاد «أريوس» إلى الإسكندرية، وكاد «قسطنطين» يولّيه رئاسة الكنيسة المصرية، ويدين بعقيدته، ولكن باغتته المنية قبل ذلك «1» . وقد جاء في كتاب «الصّراع بين الدين والعلم» ل «درابر» أنّ ثلاثة عشر مجمعا مسيحيا حكمت ضدّ «أريوس» في القرن الرابع المسيحيّ، وخمسة عشر مجمعا حكمت في تأييده، وسبعة عشر مجمعا أدلت برأي قريب من رأي «أريوس» ، وهكذا عقدت خمسة وأربعون مجمعا للتقرير في هذه القضية. والحقّ أنّ العالم المسيحيّ لم يكن له عهد بعقيدة التثليث السائدة الآن قبل القرن الرابع، وقد جاء في دائرة المعارف الكاثوليكيّة الجديدة: «أنّه لم يرفع الستار عن تطوّر عقيدة التثليث وسرّها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلاديّ.. وكلّ من يتحدّث عن عقيدة التثليث المطلقة، إنّما ينتقل من فجر التاريخ المسيحيّ إلى ربع القرن الرابع الأخير، فإنّ القول بأنّ الإله الواحد له ثلاثة مظاهر لم يتغلغل في أحشاء العالم المسيحيّ في حياته وفكره إلّا في هذه الفترة الزمنيّة» «2» .   (1) دائرة معارف الديانات والأخلاق: مقال.) Arianism ( The new catholic Encyclopedia (2) مقال «التثليث المقدس» ، ج 14، ص 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 ودامت عقيدة «أريوس» ودعوته تصارعان الدعوة المكشوفة إلى تأليه المسيح وتسويته بالإله الواحد الصّمد وكانت الحرب سجالا، وقد دان بهذه العقيدة عدد كبير من النصارى في الولايات الشرقيّة من المملكة البيزنطيّة إلى أن عقد تيوسودس الكبير) Theosodus The Great (مجمعا مسيحيا في القسطنطينيّة، قضى بألوهية المسيح وابنيّته، وقضى هذا الإعلان على العقيدة التي دعا إليها «أريوس» واختفت. ولكنّها عاشت بعد ذلك، ودانت بها طائفة من النصارى، اشتهرت ب «الفرقة الأريسية» أو «الأريسيين» . إذا من المرجّح المعقول أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم إنّما عنى هذه الفرقة بقوله: «فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيين» فإنّها هي القائمة بالتوحيد النسبيّ في العالم المسيحيّ الذي تتزعمه الدولة البيزنطيّة العظمى، التي كان على رأسها القيصر «هرقل» «1» . ومن الغريب أنّ بعض كبار علماء الإسلام في العصر الأول قد ذهبوا إلى هذا، فجاء في «مشكل الآثار» للإمام أبي جعفر الطّحاويّ مؤلّف «شرح معاني الآثار» المشهور (ت 321 هـ) ما نصّه: «وقد ذكر بعض أهل المعرفة بهذه المعاني أنّ في رهط هرقل فرقة تعرف بالأريسية توحّد الله، وتعترف بعبودية المسيح له عزّ وجلّ، ولا تقول شيئا ممّا يقول النصارى في ربوبيته وتؤمن بنبوّته، فإنّها تمسك بدين المسيح مؤمنة بما في إنجيله جاحدة لما يقوله النصارى سوى ذلك، وإذا كان ذلك كذلك،   (1) اطلعت بعد صدور الطبعة الثالثة للكتاب على بحث قيم لصديقنا الفاضل الدكتور محمد معروف الدّواليبي في الأريسيين يؤيد ما قلناه أن النّبي صلى الله عليه وسلم إنما عنى بقوله: «فإن توليت فإن عليك إثم اليريسيين» أتباع أريوس) Arius (الفرقة المسيحية الوحيدة القائلة ببشرية المسيح النافية لألوهيته، وقد جاء هذا البحث القيم في رسالته «نظرات إسلامية» بعنوان: «أريسيون من جديد» ص 68- 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 جاز أن يقال لهذه الفرقة «الأريسيون» في الرفع و «الأريسيين» في النصب والجرّ، كما ذهب إليه أصحاب الحديث «1» . وقريبا من ذلك قال الإمام محيي الدين يحيى النّوويّ شارح «صحيح مسلم» (ت 676 هـ) فقال: «الثاني أنّهم اليهود والنصارى وهم أتباع عبد الله «2» بن أريس، (الذي تنسب إليه الأروسية) من النصارى، وله مقالة في كتب المقالات، ويقال لهم «الأروسيون» «3» . رسائل إلى أمراء العرب: ومن أمراء العرب كتب إلى المنذر بن ساوى صاحب البحرين «4» ، وإلى جيفر بن الجلندى «5» وعبد بن الجلندى الأزديين صاحبي عمان، وإلى   (1) مشكل الآثار: ج 3، ص 399. (2) هذا تسامح من النووي، فإنه كان قبل ظهور الإسلام بثلاثة قرون، ولم يكن اسمه اسما إسلاميا عربيا. (3) شرح صحيح مسلم: للنووي، ج 2، ص 98. (4) «البحرين» هي التي تسمّى الآن الأحساء، وكان جل سكّانها من بني عبد القيس، وبكر بن وائل، وتميم، أما الوالي عليها في أيام كتابة هذه الرسائل فكان المنذر بن ساوى، وهو من بني تميم. وليرجع في الاطلاع على نصوص الكتب التي وجّهت إلى الملوك وأمراء العرب ورؤساء القبائل ومعرفة من أرسلت معهم هذه الكتب وأخبار من أرسلت إليهم، وتراجم من حملها، كتاب «إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين» صلى الله عليه وسلم تأليف الإمام محمد بن طولون الدمشقي (880- 953 هـ) مؤسسة الرسالة، بيروت [وطبع كذلك بتحقيق الأستاذ محمود الأرناؤوط في دار ابن كثير بدمشق] . (5) جيفر بن جلندى وعبد بن جلندى، كانا حاكمين على عمان في هذا الوقت، وكان جيفر هو الملك منهما، وكان أسن من أخيه، (راجع نهاية الأرب 18- 67 وما بعد) . وكلمة الجلندى على ما يظهر من روايات الإخباريين ليست أسماء لشخص، وإنما هي لقب، وقد تعني «قليلا» أو «كاهنا» في لهجات أهل عمان (ج 4، ص 201) «تاريخ العرب قبل الإسلام» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 هوذة بن عليّ «1» صاحب اليمامة «2» ، وإلى حارث بن شمر الغسّانيّ. وأسلم المنذر بن ساوى وجيفر وعبد ابنا الجلندى، وأمّا هوذة بن عليّ صاحب اليمامة فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل له بعض الأمر فأبى، ومات هوذة على أثر ذلك «3» . غزوة بني لحيان وغزوة ذي قرد: وكان بين صلح الحديبية (سنة ست من الهجرة) وبين غزوة خيبر غزوة بني لحيان، وغزوة ذي قرد «4» ، خرج فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل ابن أمّ مكتوم على المدينة. وكان سبب الأولى طلب بأصحاب الرجيع خبيب بن عديّ وأصحابه. وسبب الثانية إغارة المشركين على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، وقتل رجل من بني غفار، واحتمال امرأته مع اللّقاح «5» «6» .   (1) (هوذة بن علي الحنفي) كان ملكا على اليمامة، وكان على دين النصرانية، وإليه أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو، وحدود اليمامة يومئذ من الشرق إلى البحرين، ومن الغرب تنتهي إلى الحجاز، ومن مواضع اليمامة (منفوحة) كان يسكنها الأعشى، ومن أبرز قبائل اليمامة في أيام الرسول بنو حنيفة، ومنهم كان مسيلمة بن حبيب المعروف بالكذّاب لا دعائه النبوة. (2) تاريخ الطبري: ج 3، ص 84- 85. (3) زاد المعاد: ج 2، ص 58. (4) على ما جاء في صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع [في كتاب الجهاد، باب غزوة ذي قرد وغيرها، برقم (1807) ، وأحمد في المسند (4/ 52- 54) ] ، وقد رجّحه ابن حجر في فتح الباري، أما أصحاب السير فهم متفقون على أنّ غزوة ذي قرد كانت قبل صلح الحديبية. (5) [اللقاح: وقد تكرّر ذكر في الأحاديث مفردا ومجموعا: وهي الإبل الحوامل ذوات الألبان] . (6) راجع «سيرة ابن هشام» ج 2، ص 279- 289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 غزوة خيبر سنة سبع من الهجرة جائزة من الله: إنّ الله سبحانه وتعالى بشّر أصحاب بيعة الرّضوان- في الحديبية- الذين أطاعوا الله ورسوله، وآثروا حكم الله وأمره على ما تهواه أنفسهم، وترشد إليه عقولهم، بالفتح القريب والمغانم الكثيرة، فقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [الفتح: 18- 19] . وكانت مقدّمة هذه الفتوح والمغانم، غزوة خيبر، وكانت «خيبر» مستعمرة يهودية تتضمن قلاعا حصينة «1» ، وقاعدة حربية لليهود، وكانت آخر معقل من معاقلهم في جزيرة العرب، وكانوا يتربّصون بالمسلمين الدوائر، ولا ينسون ما حلّ بإخوانهم، ولا يأمنون أن يحلّ بهم، وكانوا يتامرون مع   (1) وكان من أشهر هذه الحصون، ناعم، قموص، حصن الشق، حصن نطاة، حصن السلالم، حصن الوطيح، حصن الكتيبة، ويذكر اليعقوبي أنه كان في خيبر عشرون ألف مقاتل نقلا عن كتاب «الصحابة والتابعون من أهل الكتاب» (ج 2، ص 56 للأستاذ مجيب الله الندوي، طبع دار المصنفين- الهند) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 خريطة غزوة خيبر محرم 7 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 غطفان لغزو المدينة «1» ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستريح منهم ويأمن من جهتهم، وكانت في الشمال الشرقيّ للمدينة على بعد سبعين ميلا منه. جيش مؤمن تحت قيادة نبيّ: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجّة وبعض المحرم، ثمّ خرج في بقيّة المحرم سنة سبع إلى «خيبر» . وكان عامر بن الأكوع يرتجز في مسيره إليها، فيقول: [من الرجز] : والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا إنّا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا «2» وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه وكانوا ألفا وأربعمئة، وكان معهم مئتا فرس، ولم يأذن لمن تخلّف عن الحديبية، وخرجت عشرون امرأة من نساء الصحابة، لمداواة المرضى وخدمة الجرحى، والإسعاف بالماء والطعام أثناء القتال. وأقبل الجيش حتّى نزل ب «الرّجيع» «3» بين اليهود وغطفان، ليحول   (1) يقول الأستاذ الإنجليزي الشهير LW.Montgomery Watt في كتابه)) Mohammad Prophet and Statesman (محمد النبي والسياسي) : «كان يهود خيبر وخاصة رؤساء قبيلة بني النضير التي أجلاها الرسول من المدينة يضمرون الحقد لمحمد، وهم الذين نجحوا في حمل قبائل العرب المجاورة على حمل السلاح على المسلمين والزحف عليهم، بما بذلوه من أموال، وكان ذلك هو السبب الرئيسي في توجّه محمد إلى خيبر بجيوشه» . (2) سيرة ابن كثير: ج 1، ص 344- 345 [وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم (3959) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب غزوة خيبر، برقم (1802) من حديث سلمة بن الأكوع باختلاف يسير في ألفاظه وأبياته] . (3) [الرّجيع: هو ماء لهذيل] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 بينهم وبين أن يمدّوا أهل خيبر، فقد كانوا لهم مظاهرين، فامتنعوا عن ذلك، وأقاموا في أموالهم وأهليهم، وخلّوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر «1» . ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسّويق، فأمر به، فثرّي «2» ، فأكل المسلمون «3» ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر، وسأل الخير، واستعاذ من شرّها وشرّ أهلها، وكان إذا غزا قوما لم يغزهم حتّى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى إذا أصبح لم يسمع أذانا، فركب وركب القوم، واستقبلوا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم «4» وبمكاتلهم «5» ، فلمّا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش، قالوا: محمد والخميس «6» معه، فأدبروا هربا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «7» .   (1) وكانت غطفان مجموعا قبليا متخما مسرفا في البداوة، ينزل شرقي جبل السراة، جنوبي خيبر، وتمتد منازله حتى هضبة نجد، وكان هؤلاء يهددون هذه الطرق ويجبون من قوافلها أتاوات كبيرة، وكانت غطفان من القبائل التي سارت لغزو المدينة في غزوة الخندق. «بحث الدكتور حسين مؤنس محاولة وضع أطلس للسيرة النبوية الشريفة والعصر النبوي» . (2) ثرّي: بلّ. (3) [أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من مضمض من السّويق..، برقم (209) ، وعبد الرزاق في المصنّف، برقم (691) من حديث سويد بن النعمان رضي الله عنه] . (4) المساحي: جمع مسحاة، وهي المجرفة من الحديد. (5) مكاتل: جمع مكتل، وهي قفة كبيرة. (6) الخميس: الجيش. (7) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 329- 330 [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم (4197) ، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل المدينة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة..، برقم (1365) ، والترمذي في أبواب السير، باب في البيات والغارات، برقم (1550) ، وأحمد في المسند (3/ 102) من حديث أنس رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 قائد منصور: ونازل رسول الله صلى الله عليه وسلم حصون خيبر، وبدأ يفتتحها حصنا حصنا، وكان أول حصن افتتح حصن ناعم، ومنها- حصن القموص- وقد استعصى حصن القموص على المسلمين، وكان عليّ بن أبي طالب رمدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليأخذنّ الرّاية غدا رجل يحبّه الله ورسوله، يفتح عليه، وتطاول له كبار الصحابة- رضي الله عنهم- وكلّ منهم يرجو أن يكون صاحب ذلك، ودعا عليّا، وهو يشتكي عينيه، فأتى فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرىء، حتّى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية «1» ، فقال عليّ- رضي الله عنه-: أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله تعالى فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النّعم» «2» «3» . بين أسد الإسلام وبطل اليهود: وأتى عليّ- رضي الله عنه- حصن القموص، فخرج «مرحب» وهو   (1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم (4197) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، برقم (2406) ، وأحمد في المسند (5/ 333) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه] . (2) [حمر النّعم: الإبل البيض أو الحمراء التي تعني الغنى والعزة والجاه] . (3) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، برقم (4197) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، برقم (2406) ، وأبو داود في كتاب العلم، باب فضل نشر العلم، برقم (3661) ، وابن حبان في الصحيح (15/ 378) برقم (6932) وغيرهم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الفارس المشهور، يرتجز فاختلفا ضربتين، فبدره عليّ بضربة، ففلق مغفره ورأسه، ووقع في الأضراس، وكان الفتح «1» . وكانت لمحمد بن مسلمة مواقف بطولية في هذه المعركة، وأبلى فيها بلاء حسنا، وقتل بعض كبار الفرسان والأبطال من اليهود. عمل قليلا وأجر كثيرا: وجاء عبد أسود حبشيّ من أهل خيبر، كان في غنم لسيّده، فلمّا رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح، سألهم: ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنّه نبيّ، فوقع في نفسه ذكر النبيّ، فأقبل بغنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا تقول؟ وما تدعو إليه؟ قال: أدعو إلى الإسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله، وألا تعبد إلا الله، قال العبد: فما لي إن شهدت وآمنت بالله عزّ وجلّ، قال: «لك الجنّة إن متّ على ذلك» . فأسلم ثمّ قال: يا نبيّ الله! إنّ هذه الغنم عندي أمانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجها من عندك وارمها ب «الحصباء» «2» فإنّ الله سيؤدّي عنك أمانتك، ففعل، فرجعت الغنم إلى سيّدها، فعلم اليهوديّ أنّ غلامه قد أسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فوعظهم، وحضّهم على الجهاد، فلمّا التقى المسلمون واليهود قتل- فيمن قتل- العبد الأسود، واحتمله   (1) اختلفت الروايات في تعيين هذا الحصن الذي فتحه علي، والذي يرجح أنه كان حصن القموص؛ لأن هذا الحصن كان مركز مرحب الفارس اليهودي المشهور، وقد جاء في سيرة ابن هشام أن الذي قتل «مرحب» هو محمد بن مسلمة (ق 2، ص 333- 334) والمشهور أن الذي قتله هو علي بن أبي طالب (الطبري ص 1579) وقد جاء ذلك مصرحا في رواية مسلم، وجاءت فيه الأبيات التي ارتجز بها علي، والذي يرويه مسلم بسنده أولى بالاعتماد والترجيح (راجع صحيح مسلم [رقم (1807) ] كتاب الجهاد والسير) . (2) [الحصباء: هو الحصى الصغيرة] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 المسلمون إلى معسكرهم، فأدخل في الفسطاط «1» فزعموا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اطّلع في الفسطاط، ثمّ أقبل على أصحابه، وقال: «لقد أكرم الله هذا العبد، وساقه إلى خير، ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين، ولم يصلّ لله سجدة قطّ» «2» . ما على هذا اتبعتك: وجاء رجل من الأعراب إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فامن به واتبعه، فقال: أهاجر معك، فأوصى به بعض أصحابه، فلمّا كانت غزوة خيبر، غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقسّمه له، وكان يرعى ظهرهم، فلمّا جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه، فجاء به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «قسم قسمته لك» قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا- وأشار إلى حلقه- بسهم، فأموت فأدخل الجنّة، فقال: «إن تصدق الله يصدقك» . ثمّ نهضوا إلى قتال العدوّ، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقتول، فقال: «أهو هو؟» قالوا: نعم، قال: «صدق الله فصدقه» فكفّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جبّته ثم قدّمه، فصلّى عليه، وكان من دعائه له: «اللهمّ هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك، قتل شهيدا وأنا عليه شهيد «3» » .   (1) [الفسطاط: هو ضرب من الأبنية في السّفر دون السّرادق] . (2) زاد المعاد: ج 1، ص 393. (3) المصدر السابق: ج 1، ص 394 [وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 688) برقم (6527) من حديث شدّاد بن الهاد بسند صحيح، والنّسائي في السنن الكبرى (1/ 634) برقم (2080) ، والبيهقي في السنن (4/ 15) برقم (6608) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 شرط البقاء في خيبر: وافتتحت الحصون، حصن بعد حصن، بعد قتال وحصار، دام أياما، حتّى سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم منها، فقالوا: يا محمّد! دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون يقومون عليها، فأعطاهم خيبر على أنّ لهم الشطر من كلّ زرع وثمر، ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرّهم «1» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليهم عبد الله بن رواحة، فيخرص عليهم، ويجعل ذلك نصفين، فيخيّرهم أن يأخذوا أيهما شاؤوا، فيقولون: بهذا قامت السموات والأرض «2» . روح التسامح الديني: وكان من بين المغانم التي غنمها المسلمون في غزوة خيبر صحائف متعدّدة من التوراة، فلمّا جاء اليهود يطلبونها أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتسليمها لهم «3» ، ويقول الدكتور إسرائيل ولفنسون معلّقا على هذه القصّة: «ويدلّ هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية مما جعل اليهود يشيرون إلى النبيّ بالبنان، ويحفظون له هذه اليد حيث لم يتعرّض بسوء لصحفهم المقدّسة، ويذكرون بإزاء ذلك ما فعله الرّومان حين تغلّبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ب. م إذ حرقوا الكتب المقدّسة   (1) زاد المعاد: ج 1، 394- 395 وراجع للتفصيل سنن أبي داود، باب المساقاة. (2) فتوح البلدان: للبلاذري، ص 34 [انظر الأحاديث المفصلة في هذا الباب فيما أخرجه أبو داود في كتاب الخراج، باب ما جاء في حكم أرض خيبر، برقم (3006) ، وابن حبان في الصحيح برقم (1697) وغيرها من حديث ابن عمر رضي الله عنهما] . (3) تاريخ الخميس: ج 2، ص 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وداسوها بأرجلهم، وما فعله المتعصّبون من النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حيث أحرقوا أيضا صحف التوراة، وهذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممّن ذكرناهم وبين رسول الإسلام» «1» . قدوم جعفر بن أبي طالب: وفي هذه الغزوة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمّه جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا عظيما، وتلقّاه بالبشر، وقبّل جبهته، وقال: «والله ما أدري بأيّهما أفرح: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر» «2» . محاولة أثيمة لليهود: وفي هذه الغزوة سمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهدت له زينب بنت الحارث اليهودية، امرأة سلّام بن مشكم، شاة مشوية قد سمّتها، وسألت: أيّ اللّحم أحبّ إليه؟ فقالوا: الذراع، فأكثرت السمّ في الذراع، فلمّا انتهش من ذراعها، أخبره الذراع بأنّه مسموم، فلفظ الأكلة. وجمع اليهود، ثمّ قال: «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه» ؟ قالوا: نعم. قال: «أجعلتم في هذه الشاة سمّا» ؟ قالوا: نعم. قال: «فما حملكم على ذلك» ؟   (1) تاريخ اليهود في بلاد العرب: ص 170. (2) زاد المعاد: ج 1، ص 397 [وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 211) عن الشعبي مرسلا، وعن جابر موصولا] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 قالوا: أردنا إن كنت كاذبا نسترح منك، وإن كنت نبيا لم يضرّك. وجيء بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أردت قتلك. فقال: «ما كان الله ليسلّطك عليّ» . قالوا: ألا نقتلها؟ قال: «لا» ولم يتعرّض لها، ولم يعاقبها. ولم يقتلها صلى الله عليه وسلم أولا، فلمّا مات بشر بن البراء بن معرور قتلها «1» . أثر غزوة خيبر: وكان لغزوة خيبر وانتصار المسلمين فيها انتصارا رائعا وقع كبير في قلوب القبائل العربية التي لم تسلم بعد، فقد كانت تعرف قوة اليهود الحربية في خيبر، وما كانوا يتمتّعون به من غنى ورفاهية، وثروة زراعية غذائية، ووفور السلاح والكراع، وقوّة الحصون والآطام، واستعصائها على الزاحفين المهاجمين، ووجود القادة المحنّكين، والأبطال المدرّبين كمرحب، والحارث أبي زينب، وكان له أثر في مجرى الحوادث. يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون معلّقا على غزوة خيبر وأثرها في تاريخ الإسلام:   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 398، وأخرجه البخاري مختصرا عن أبي هريرة، [في كتاب الطب] في باب «الشاة التي سمت النبي بخيبر» [برقم (5777) ، وأبو داود في كتاب الديانات، باب فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات..، برقم (4509) ، وأحمد في المسند (2/ 451) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في كتاب الهبة..، باب قبول الهدية من المشركين برقم (2617) ، ومسلم في كتاب السلام، باب السم، برقم (2190) من حديث أنس رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 «وممّا لا شكّ فيه أنّ غزوة خيبر كانت ذات شأن عظيم في تاريخ الفتوح الإسلاميّة، إذ كانت قبائل الحجاز تراقب نتيجتها باهتمام وتنظم شؤونها على حسب ما كان يتراءى لها من نتيجة صليل السّيوف بين الأنصار واليهود، وقد كان أعداء الرسول الكثيرون في بادية العرب وحاضرتها يعلّقون آمالا كبيرة على تلك الغزوة» «1» . والأمر في غزوة خيبر (كما لاحظه الدكتور حسين مؤنس) لم يكن يقتصر على القضاء على مركز المقاومة اليهوديّ، بل يتخطّى ذلك إلى ما لا يقلّ أهمية عن ذلك، وهو القضاء على مقاومة أكبر القبائل العربية الضاربة فيما بين الحجاز ونجد في الشمال وسط الجزيرة وهي غطفان، ولم يكن من ذلك مفرّ قبل أن يتّجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقواته كلّها نحو مكّة للفراغ من أمرها «2» . فتوح ومغانم: وبعد ما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر خيبر، انصرف إلى فدك «3» ، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصالحونه على النصف من فدك، فقبل ذلك منهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسّمه حيث يرى من مصالحه ومصالح المسلمين «4» . ثمّ جاء إلى وادي القرى «5» ، وهي مجموعة قرى بين «خيبر»   (1) تاريخ اليهود في بلاد العرب: ص 162. (2) من بحث الدكتور حسين مؤنس قدمه إلى مؤتمر السيرة والسنة النبوية المنعقد في الدوحة في شهر محرم عام 1400 هـ. (3) كانت فدك حكومة مستقلة كسائر الواحات والقرى في أعالي الحجاز، أهلها من اليهود وبها قوم من بني مرة، وقوم من بني سعد بن بكر. (نهاية الأرب، 17/ 309) . (4) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 368. (5) وادي القرى: واد كثرت قراه، لذلك قيل له وادي القرى، وأهله عرب ويهود، وهو من المواضع المعروفة بالخصب في جزيرة العرب، وبه عيون وآبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 و «تيماء» «1» وقد استعمرها اليهود قبل الإسلام، وأصبحت لهم مركزا، وانضاف إليهم جماعة من العرب، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وأخبرهم أنّهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم، وحسابهم على الله «2» . وكانت في هذه الغزوة مبارزات، كان الزبير بن العوام- رضي الله عنه- بطلها، وكان الانتصار فيها للمسلمين، وأعطى اليهود من غد ما بأيديهم، وغنم المسلمون أموالا، وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا، وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخل بيد اليهود، وعاملهم عليها. ولمّا بلغ يهود تيماء ما واطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، وفدك، ووادي القرى، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاموا بأموالهم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة «3» . تعفّف المهاجرين: ولمّا وصل المسلمون إلى المدينة، ردّ المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل، حين صار لهم بخيبر مال ونخيل، وكانت أمّ سليم- وهي أمّ أنس بن مالك- أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا فأعطاهن مولاته أم أيمن، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمّ سليم عذاقها «4» ،   (1) معجم البلدان: ج 7. (2) [أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في كتاب الأيمان والنذور، باب هل يدخل في الأيمان والنذور والأرض والغنم..، برقم (6707) ] . (3) ملخصا من «زاد المعاد» : ج 1، ص 405. (4) [عذاقها: أي نخلاتها، وواحدتها: عذق] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 خريطة عمرة القضاء 7 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وأعطى أمّ أيمن مكانهنّ من حائطه مكان كلّ عذق عشرة «1» . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خيبر سرايا كثيرة، وأمّر عليها كبار الصحابة، وكان في بعضها قتال، ولم يكن في بعضها قتال «2» . عمرة القضاء: ولمّا كان العام المقبل، وذلك في سنة سبع، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وخلّت قريش بينه وبين مكّة، وأقفلوا بيوتهم، وطلعوا على جبل قعيقعان «3» ، فأقام بها ثلاثا، واعتمر، وهو قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح: 27] . التنافس في حضانة البنت وتكافؤ المسلمين في الحقوق: وقد تغيّرت النفوس والعقول بتأثير الإسلام تغيرا عظيما، فعادت البنت التي كان يتعيّر بها أشراف العرب، وجرت عادة وأدها في بعض القبائل،   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 406، وروى مسلم القصة مفصلة في كتاب الجهاد والسير في باب «رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح» [برقم (1771) من حديث أنس رضي الله عنه] وذكر فيها فتح قريظة والنضير. (2) زاد المعاد: ج 1، ص 409- 410. (3) راجع صحيح البخاري [كتاب المغازي] باب عمرة القضاء، [رقم (4256) ، وأبو داود، كتاب المناسك، باب في الرمل، رقم (1885) ، وابن حبان في الصحيح (9/ 199) رقم (3811) وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقعيقعان: هو جبل بمكة. قيل: سمّي به، لأنّ جرهما لمّا تحاربوا كثرت قعقعة السّلاح هناك (النهاية: 4/ 88) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 فرارا من العار، وزهدا في البنات- حبيبة يتنافس في كفالتها وتربيتها المسلمون. وكانوا سواسية، لا يرجح بعضهم على بعض إلا بفضل أو حقّ، ولمّا أراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الخروج من مكّة، تبعته ابنة حمزة تنادي: يا عمّ! يا عمّ! فتناولها عليّ، فأخذ بيدها وقال لفاطمة- عليها السلام-: دونك ابنة عمّك، فحملتها، فاختصم فيها عليّ وزيد وجعفر، فقال عليّ: أنا أخذتها، وهي بنت عميّ، وقال جعفر: ابنة عمّي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى فيها النّبيّ صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأمّ» وقال لعليّ: «أنت منّي وأنا منك» وقال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» «1» .   (1) أخرجه البخاري، في كتاب المغازي، باب عمرة القضاء [برقم (2699) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وأبو داود في كتاب الطلاق، باب من أحق بالولد، برقم (2280) من حديث علي رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 خريطة غزوة مؤتة جمادى الأولى 8 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 غزوة مؤتة «1» جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة قاتل سفير المسلمين وعقوبته: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزديّ بكتابه إلى شرحبيل بن عمرو الغسّانيّ، حاكم «بصرى» التابع لقيصر ملك الروم، فأوثقه رباطا، ثمّ قدّمه فضرب عنقه «2» ، ولم تجر العادة بقتل الرسل والسّفراء، عند الملوك والأمراء، مهما اشتدّ الخلاف، وكرهت الرسالة التي يحملونها، وكان حادثا لا يجوز التغاضي عنه، ففيه خطر عظيم على الرّسل والسّفراء، وإهانة شديدة للمرسل والرسالة، فكان لا بدّ من تأديب هذا المعتدي والغضب لهذا المعتدى عليه، حتّى لا تهون حياة السفراء، ولا تتكرّر هذه المأساة. أول جيش في أرض الروم: فلمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، أراد أن يبعث بعثا إلى «بصرى» وذلك   (1) قرية تقع الآن على بعد 12 كيلو مترا جنوب الكرك في الأردن، والمسافة بين المدينة ومؤتة 1100 كيلو مترا تقريبا، وقد قطعها المسلمون على ظهور الإبل والخيل، وانقطع عنهم المدد والميرة والخبر بعد ما خرجوا من بلدهم، وهم يدخلون في لهوات العدو وفي فكيه، يفعل بهم ما يشاء. (مقتبس من كتاب المؤلّف «من نهر كابل إلى نهر اليرموك» ) [انظر «رحلات العلّامة أبي الحسن الندوي، ص (364) طبع دار ابن كثير بدمشق] . (2) زاد المعاد: ج 1، ص 414. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 في جمادى الأولى من السّنة الثامنة للهجرة، فتجهز الناس، وهم ثلاثة آلاف، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الجيش كبار المهاجرين والأنصار، وقال: «إن أصيب فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة» ، فلمّا حضر خروجهم، ودّع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّموا عليهم «1» ، وكان أمامهم سفر طويل شاقّ، وعدوّ ذو شوكة، يتمتّع بحماية أعظم مملكة في ذلك العصر. ومضى الجيش، حتّى نزل ب «معان» وبلغ المسلمين أنّ هرقل ب «البلقاء» في مئة ألف من الروم، وانضمّ إليهم جمع كثير من قبائل العرب: لخم، وجذام، وبلقين، وبهراء، وبلي، فأقاموا على «معان» ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدوّنا، فإمّا أن يمدّنا بالرّجال، وإمّا أن يأمر بأمره فنمضي له «2» . ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة: وشجّع الناس عبد الله بن رواحة، فقال: يا قوم! والله إنّ الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوّة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا به الله، فانطلقوا، فإنّما هي إحدى الحسنيين، إمّا ظفر وإما شهادة، فمضى الناس «3» .   (1) زاد المعاد: وابن هشام: ج 2، ص 273 [وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة..، برقم (4261) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأحمد في المسند (5/ 391- 300- 301) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه] . (2) زاد المعاد: ج 1، ص 415. (3) المصدر السابق: ج 1، ص 415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 قتال المستميتين وصولة الأسود: فلمّا كانوا بتخوم البلقاء، لقيتهم الجموع من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء، يقال لها «مشارف» ودنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها «مؤتة» والتقى الناس، واقتتلوا «1» . وقاتل زيد بن حارثة- رضي الله عنه- براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى استشهد، وقد أخذت الرماح منه كلّ مأخذ، ثمّ أخذها جعفر فقاتل بها، حتّى إذا أرهقه القتال، اقتحم عن فرسه فعقرها، ثم قاتل، فقطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره، فقطعت يساره، فاحتضن الراية بعضديه حتّى قتل، وله ثلاث وثلاثون سنة «2» ، ووجد المسلمون ما بين صدره ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة، ما بين ضربة بالسّيف، وطعنة بالرمح كلّها في الأمام «3» ، ومات فتى الفتيان وهو يحنّ إلى الجنّة، ويتغنّى بنعمائها، ويستهين بالعدوّ وعدده وعدده، وبزخارف الدنيا. فلمّا قتل جعفر، أخذ عبد الله بن رواحة الرّاية وتقدّم بها، ونزل عن فرسه، وأتاه ابن عمّ له، بعظم عليه بعض لحم، وقال: شدّ بهذا صلبك، فإنّك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذ بيده وأخذ منه بفمه يسيرا، ثمّ ألقاه من يده، وأخذ سيفه فتقدّم وقاتل حتى قتل «4» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 377- 378. (2) زاد المعاد: ج 1، ص 415 باختصار. (3) ابن كثير: ج 3، ص 474، وزاد المعاد: ج 1، ص 415، وجاء في (الجامع الصحيح) «فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين ما بين طعنة ورمية» [انظر كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة، رقم الحديث (4260) ] . (4) زاد المعاد: ج 1، ص 415، سيرة ابن هشام: ج 2، ص 379 [وأخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الدابة تعرقب في الحرب، برقم (2573) من حديث عبد الله بن- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 قيادة خالد الحكيمة: واصطلح النّاس بعده على خالد بن الوليد- رضي الله عنه- فأخذ الراية، ودافع القوم، وكان شجاعا حكيما، يعرف سياسة الحرب، فانحاز بالجيش الإسلاميّ إلى الجنوب، وانسحب العدوّ نحو الشمال «1» ، وأرخى الليل سدوله، حتّى انصرف النّاس، وكلا الفريقين اغتنم السلامة، ورأى المصلحة في عدم التحرّش ومتابعة القتال. ومعروف أنّ عملية الانسحاب- كما يقول الفاضل اللواء الركن محمود شيت خطّاب- تعدّ من أصعب العمليات العسكرية لاحتمال انقلاب الانسحاب إلى هزيمة، والهزيمة كارثة تؤدّي إلى خسائر فادحة بالمنهزمين، ولا تعدّ خسائر المسلمين الضئيلة في مؤتة شيئا يذكر بجانب الفائدة العسكريّة التي أفادها الاطلاع على خواصّ قوات الروم وتنظيمها وتسليحها وأساليب قتالها مما اتضح أثره في المعارك التي خاضها المسلمون فيما بعد «2» . ووزّع خالد عددا غير قليل من رجاله في خطّ مؤخرة جيشه، أحدثوا حين أصبح الناس ضجّة عظيمة، أدخلت إلى روع العدوّ أنّ مددا جاء من المدينة، فتهيّب الروم المسلمين، وقالوا: إذا كان صنع ثلاثة آلاف بنا ما قد رأيناه، فكيف بهم إذا جاءهم المدد، الذي لا يعرف عدده وقوته؟!!، فتقاعس الروم عن مهاجمة الجيش الإسلاميّ، وكفى الله المؤمنين القتال «3» .   - الزبير، والهيثمي في المجمع (6/ 159- 160) عن رجل من الصحابة وحسّنه الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 511) ] . (1) زاد المعاد: ج 1، ص 415، وسيرة ابن هشام: ج 2، ص 379- 380. (2) شيت خطّاب، الرسول القائد، ص 206- 207، وعن مؤتة انظر كذلك.Encyclopedia of Islam ,art ,muta (3) راجع «المغازي» للواقدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 خبر عيان لا بيان: وبينما كان المسلمون يخوضون المعركة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أصحابه في المدينة بما يجري في المعركة، يقول أنس بن مالك- رضي الله عنه-: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفر وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم الخبر، فقال: «أخذ الراية زيد، فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب» وعيناه تذرفان «حتّى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتّى فتح الله عليهم» «1» . وفي رواية أنّه قال وهو على المنبر: «وما يسرّهم أنّهم عندنا» . الطيّار ذو الجناحين: وقال في جعفر: «إنّ الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث شاء «2» » ولذلك لقّب ب «جعفر الطيّار» و «ذي الجناحين» . حبّ نبويّ وعاطفة إنسانية: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوج جعفر: «ائتيني ببني جعفر» ، فلمّا حضروا تشمّمهم، وذرفت عيناه، وأخبر بشهادة جعفر، ولمّا أتاهم النعي، قال لأهله: «اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم أمر يشغلهم» وعرف في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن «3» .   (1) رواه البخاري [في كتاب المغازي] ، باب غزوة مؤتة [برقم (4262) ، وأحمد في المسند (3/ 113) من حديث أنس رضي الله عنه. (2) روى البخاري في صحيحه: كان ابن عمر إذا حيا ابن جعفر قال: السلام عليك يابن ذي الجناحين، [أخرجه في كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة، برقم (3709) ] ، وزاد المعاد، ج 1، ص 415. (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 380- 381 باختصار، والرواية في سنن الترمذي [في أبواب- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 كرّارون لا فرّارون: ولمّا دنا الجيش من حول المدينة، تلقّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولقيهم الصبيان يشتدّون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابّة، فقال: «خذوا الصبيان واحملوهم، وأعطوني ابن جعفر» فأتي بعبد الله، فأخذه، فحمله بين يديه. وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا فرّار! فررتم في سبيل الله، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسوا بالفرّار، ولكنهم الكرّار إن شاء الله تعالى» «1» . بين مؤتة وفتح مكة: وكان بين غزوة مؤتة وفتح مكة سرية ذات السلاسل، كانت في جمادى الآخرة، سنة ثمان، وهي وراء وادي القرى، وكانت في بلاد قضاعة، دوّخها الجيش الإسلاميّ. وسريّة الخبط، وكان أميرها أبا عبيدة بن الجرّاح، وكانت في رجب سنة ثمان، في ثلاثمئة رجل من المهاجرين والأنصار، أرسلهم إلى حيّ من جهينة، مما يلي ساحل البحر، وأصابهم في الطريق جوع شديد، حتّى أكلوا الخبط (وهو ورق الشجر) وألقى إليهم البحر حوتا عظيما، يقال له «العنبر»   - الجنائز، باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت، برقم (998) ، وأبو داود في كتاب الجنائز، باب صنعة الطعام لأهل الميت، برقم (3132) ، وابن ماجه في أبواب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت، برقم (1610) ، وأحمد في المسند (1/ 205) من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما] . (1) رواه الإمام أحمد بن حنبل [وأخرجه ابن هشام في السيرة (3/ 478) مرسلا من طريق ابن إسحاق عن عروة، وسنده ضعيف] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 فأكلوا منه نصف شهر، وادّهنوا منه، حتّى صلحت منه أجسامهم، ولمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هو رزق أخرجه الله لكم» فتناول من لحمه شيئا «1» .   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 417، والرواية في صحيح البخاري، [في كتاب المغازي] باب «غزوة سيف البحر» [برقم (4361) ] وفي صحيح مسلم [في كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة ميتات البحر، برقم (1935) ، وأبو داود في كتاب الأطعمة، باب في دواب البحر، برقم (3840) ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 خريطة فتح مكة المكرمة رمضان 8 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 فتح مكّة «1» رمضان سنة ثمان من الهجرة تمهيد لفتح مكة: ولمّا تمّ أمر الله في ترسيخ هذا الدّين، وتربية المسلمين، وامتحن الله قلوبهم للتّقوى، وفاضت كأس قريش ظلما وعدوانا، وجحودا بالحقّ، وصدّا عن سبيل الله، ومحاربة للإسلام وأهله، أراد الله أن يدخل رسوله والمسلمون مكة فاتحين غالبين، يطهّروا الكعبة من الرّجس من الأوثان وقول الزّور، ويعيدوا مكة إلى مكانتها الأولى، فتكون مثابة للناس وأمنا، ويجعلون البيت كما كان مباركا وهدى للعالمين. نقض بني بكر وقريش الحلف: وقد هيّأ الله لذلك أسبابا، وساعدت عليها قريش، بل دعت إليها من حيث لا تشعر، فقد وقع حادث لم يسوّغ ذلك فحسب، بل أوجبه، ولله جنود السّماوات والأرض. كان قد تقرّر في صلح الحديبيّة أنّ من أحبّ أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فعل، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل، ودخلت   (1) الموافق ليناير سنة 630 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده «1» . وكان بين بني بكر وبين خزاعة ترة «2» قديمة، وعداء متوارث، يرجع تاريخه إلى ما قبل البعثة، وجاء الإسلام فحجز بينهم، وتشاغل الناس بشأنه، فلمّا كانت الهدنة، ودخلت القبيلتان في معسكرين متحاربين، أراد بنو بكر أن ينتهزوا هذه الفرصة، ليصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فبيّت نفر من بني بكر لخزاعة وهم على ماء لهم فأصابوا منهم رجالا، وتناوشوا واقتتلوا. وأعانت قريش بني بكر بالسّلاح، وقاتل معهم أشراف من قريش مستخفين ليلا، حتّى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلمّا انتهوا إليه قالت بنو بكر لبعض رجالهم: إنّا قد دخلنا الحرم، إلهك! إلهك! فقال: لا إله اليوم! يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلا تجدون هذه الفرصة بعد ذلك «3» . الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم: وخرج عمرو بن سالم الخزاعيّ، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوقف عليه، وأنشد أبياتا، ينشده فيها الحلف الذي كان بينه وبين خزاعة، وسأله النصر والنجدة، ويخبره بأنّ قريشا أخلفوه الموعد، ونقضوا ميثاقه المؤكد، وأنّهم بيّتوا وهم على ماء لهم وقتلوا ركّعا وسجّدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت يا عمرو بن سالم!» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 390. (2) [ترة: أي ثأر] . (3) زاد المعاد: ج 1، ص 419، وابن هشام: ج 2، ص 390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 براءة الذمة وإقامة الحجة: وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستوثق منهم الخبر، ويعذر إلى قريش، فبعث إليهم رجلا يخيّرهم بين إحدى ثلاث خلال، بين أن يدفعوا دية قتلى خزاعة، أو يبرؤوا من حلف من تولّى كبر هذا النقض، وقاد الحملة على خزاعة، وهم بنو نفاثة من بني بكر، أو ينبذ إليهم على سواء، فأجابه بعض زعمائهم: لكن ننبذ إليهم على سواء، وبذلك برئت ذمّة قريش، وقامت عليهم الحجّة «1» . محاولة قريش لتجديد العهد: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنّاس حين بلغه الخبر: «كأنّكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشدّ العقد ويزيد المدّة» وهكذا كان، فرهبت قريش مما صنعت، وندمت على الجواب القاسي الذي أجاب به بعض سفهائهم، فبعثوا أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد المدّة «2» . إيثار النّبيّ على الآباء والأبناء: وقدم أبو سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ودخل على ابنته «أمّ حبيبة» زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنيّة! ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عنّي؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس، ولم أحبّ أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) أخرجه الزرقاني في المواهب (2/ 349) : عن ابن عائذ عن ابن عمر، والرجل الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه ضمرة، والذي أجابه من قريش اسمه قرطة بن عمرو. (2) زاد المعاد: ج 1، ص 420، وابن هشام: ج 2، ص 395- 396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 قال: والله لقد أصابك بعدي شرّ «1» . حيرة أبي سفيان وإخفاقه: وأتى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمه فلم يردّ عليه شيئا، ثمّ ذهب إلى أبي بكر فكلّمه أن يكلّم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل، وراود عمر وعليّا وفاطمة على ذلك، فلم يجبه أحد إلى ذلك، وقالوا: إنّ الأمر أجلّ منه، حتّى احتار في أمره، وقال لفاطمة: يا بنت محمد! هل لك أن تأمري بنيّك هذا- وأشار إلى الحسن بن عليّ، وهو غلام يدبّ- أن يجير بين الناس، فيكون سيّد العرب إلى آخر الدهر، قالت: والله ما بلغ بنيّي هذا أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمّا رأى عليّ حيرته، وما فيه من ضيق وكرب، قال له: ما أعلم لك شيئا يغني عنك شيئا، ولكنّك سيّد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟ قال: والله ما أظنّه، ولكنّي لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس! إنّي قد أجرت بين الناس، ثمّ ركب بعيره، فانطلق «2» . ولمّا سمعت قريش القصّة، قالوا: جئتنا بما لا يغني عنّا، ولا يغني عنك شيئا. التأهب لمكّة وكتاب حاطب بن أبي بلتعة: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، واستعان على أمره بالكتمان، ثمّ أعلم الناس أنّه سائر إلى مكّة وأمرهم بالجدّ والتجهّز، وقال: «اللهم! خذ   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 420، وابن هشام: ج 2، ص 395- 396. (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 396- 397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها» «1» . ولمّا كان المجتمع الإسلاميّ المدنيّ مجتمعا بشريا يعيش في واقع الحياة، وبين المشاعر الإنسانيّة، وخواطر النفس ورغباتها، كان الأفراد فيه يصيبون ويخطئون، وقد يكونون متأوّلين في تصرّفاتهم وأحكامهم، وقد يجانبهم الصواب في هذا التأويل، وذلك من خصائص المجتمعات البشريّة التي تتمتّع بالحريّة والثقة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لا يقرّهم على هذا الخطأ، يلتمس لهم العذر، ويتسامح معهم، وكان من أوسع الناس صدرا مع هؤلاء المخطئين، وأكثرهم معرفة بفضلهم وحسن بلائهم في الجهاد، وسوابقهم في الإسلام، وقد حفظ لنا الحديث وكتب السيرة النبويّة وتاريخ الإسلام مثل هذه الحوادث النادرة في الوقوع، وهو ممّا يدلّ على أمانتها وشهادتها بالحقّ. ومن هذه الحوادث ما وقع لحاطب بن أبي بلتعة، وهو ممّن هاجر من مكّة وشهد بدرا، فقد جاء في الروايات أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أعلم الناس أنّه سائر إلى مكّة، وأسرّ الأمر، فتجهّز الناس كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا، يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثمّ أعطاه امرأة، وجعل لها جعلا على أن تبلّغه قريشا، فجعلته في قرون رأسها «2» ، ثمّ خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السّماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والزّبير، فقال: انطلقا حتّى تأتيا روضة خاخ «3» ، فإنّ فيها ظعينة معها كتاب إلى قريش.   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 421، وابن هشام: ج 2، ص 397. (2) [قرون رأسها: أي ضفائرها] . (3) موضع بين المدينة ومكة، قال الفتني: بمعجمتين موضع باثني عشر ميلا من المدينة، وقيل بمهملة وجيم، وهو تصحيف، (مجمع بحار الأنوار، ج 2، ص 120، طبع حيدر آباد، الهند) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فانطلقا تعادي بهما خيلهما حتّى وجدا المرأة بذلك المكان، فاستنزلاها وقالا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب! ففتّشا رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها عليّ- رضي الله عنه-: أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجنّ الكتاب، أو لنجرّدنك، فلمّا رأت الجدّ منه، قالت: أعرض، فأعرض، فحلّت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا، فقال: «يا حاطب ما هذا» فقال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، والله إنّي لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت، ولا بدّلت، ولكنّي كنت امرأ ملصقا في قريش، لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنّه قد خان الله ورسوله، وقد نافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّه شهد بدرا، وما يدريك يا عمر! لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» ! فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم «1» . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان من المدينة ومعه عشرة   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 421- وقد وردت القصة في الصحاح [انظر هذه القصة فيما أوردها البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، برقم (4274) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل حاطب بن أبي بلتعة ... ، برقم (2494) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما، برقم (2650) و (2651) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، في سورة الممتحنة، برقم (3305) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 آلاف «1» ، ومضى حتّى نزل «مرّ الظهران» ، وعمّى الله الأخبار عن قريش، فهم على وجل وارتقاب. عفو عمّن ظلم: ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق ابن عمّه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فأعرض عنه، لما كان يلقاه منه من شدّة الأذى والهجو، فشكا ذلك إلى عليّ، فقال له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ [يوسف: 91] ، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92] ، وحسن إسلامه بعد ذلك، وما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه «2» . أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش، فأوقدوا النيران، وخرج أبو سفيان بن حرب يتجسّس الأخبار، وهو يقول: «ما رأيت كاللّيلة نيرانا قطّ ولا عسكرا» ، وكان العبّاس بن عبد المطلب، قد خرج من مكّة قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا ولحق بالعسكر، فعرف صوت أبي سفيان، وقال: هذا   (1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان، برقم (4276) ، ومسلم في كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية..، برقم (1113) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . (2) زاد المعاد: ج 1، ص 421 [انظر قصة إسلام أبي سفيان فيما أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 43- 44) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصحّحه، ووافقه الذهبي] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 رسول الله صلى الله عليه وسلم في النّاس، واصباح قريش! فأركبه في عجز بغلته، وخشي عليه أن يدركه أحد المسلمين فيقتله، وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنّه لا إله إلا الله؟» . قال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عنّي شيئا بعد. قال: «ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟» . قال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أمّا هذه والله فإنّ في النفس منها حتى الآن شيئا. قال العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحقّ «1» . عفو عامّ وأمن بسيط: ووسّع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمن والعفو، حتّى أصبح أهل مكّة لا يهلك منهم إلّا من زهد في السلامة، وكره الحياة، فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» «2» . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه عن أن يستخدموا السلاح عند ما يدخلون مكّة على أيّ إنسان إلّا من اعترضهم وقاومهم، وأمر بأن يعفّ الجيش عن أموال   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 403، وزاد المعاد: ج 1، ص 422. (2) المصدر السابق: ج 2، ص 403، والرواية في البخاري مختصرة، باب «أين ركّز النّبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح» [برقم (4280) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 أهل مكّة وممتلكاتهم وأن يكفّوا أيديهم عنها «1» . أبو سفيان أمام موكب الفتح: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب أن يجلس أبا سفيان حيث تمرّ به كتائب الإيمان. وتحرّكت كتائب الفتح كأنّها بحر يموج، وكانت القبائل تمرّ على راياتها، كلّما مرّت قبيلة سأل عباسا عنها وعن اسم القبائل، فيقول: ما لي ولبني فلان؟ حتّى مرّ الرسول صلى الله عليه وسلم في كتيبة خضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله! يا عباس من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قال: يا أبا سفيان! إنّها النبوّة. قال: فنعم إذا «2» . وقام أبو سفيان فصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، ما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد «3» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 409. (2) المصدر السابق: ج 2، ص 404 [وقد سبق تخريجه آنفا، وهو جزء من حديث ابن عباس رضي الله عنه نفسه] . (3) المصدر السابق نفسه: ص 405، وزاد المعاد: ج 1، ص 423، وهو جزء من حديث- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 دخول خاشع متواضع، لا دخول فاتح متعال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة، وهو واضع رأسه تواضعا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتّى إنّ ذقنه ليكاد يمسّ واسطة الرّحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح «1» . وفي دخوله مكّة فاتحا- وهي قلب جزيرة العرب ومركزها الروحيّ والسياسيّ- رفع كلّ شعار من شعائر العدل والمساواة، والتواضع والخضوع، فأردف أسامة بن زيد «2» ، وهو ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يردف أحدا من أبناء هاشم وأبناء أشراف قريش، وهم كثير. وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمان من الهجرة. أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل فكلّمه، فجعل ترعد فرائصه «3» ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هوّن عليك فإنّي لست بملك، وإنّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» «4» «5» .   - ابن عباس رضي الله عنهما السابق. (1) السيرة النبوية: لابن كثير، ج 3، ص 554، وجاء في صحيح البخاري رواية عن معاوية بن قرّة [عن عبد الله بن مغفّل] : «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح [وقال: «لولا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجّع» انظر كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟، برقم (4281) ] . (2) السيرة النبوية: لابن كثير، ج 3، ص 556. (3) [القديد: اللّحم المملوح المجفّف في الشّمس] . (4) [الفرائص، جمع الفريصة، وهي عصب الرقبة وعروقها، لأنها هي التي تثور عند الغضب وترجف من الخوف] . (5) [أخرجه ابن ماجه في الأطعمة، باب القديد، برقم (3312) ، والحاكم (2/ 466) و (3/ 48) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 مرحمة لا ملحمة: ولمّا مرّ سعد بن عبادة بأبي سفيان في كتيبة الأنصار، قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشا، فلما حاذاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته شكا إليه ذاك أبو سفيان، قال: يا رسول الله! ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: «وما قال؟» قال: كذا وكذا. فاستنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة سعد، وقال: «بل اليوم يوم المرحمة، اليوم يعزّ الله قريشا، ويعظّم الله الكعبة» «1» . وأرسل إلى سعد، فنزع منه اللواء، ودفعه إلى قيس ابنه، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار إلى ابنه «2» . ولم يزد الرسول الملهم أن أبدل حرفا بحرف، وأبا بابن، فعالج نفس أبي سفيان المكلومة- وكان في حاجة إلى تأليف القلب- من غير أن يسيء إلى سعد، صاحب سوابق في الإسلام. مناوشات قليلة: وكانت مناوشات قليلة بين صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وبين أصحاب خالد بن الوليد، وأصيب من المشركين ناس قريب من اثني عشر رجلا، ثم انهزموا «3» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد   (1) رواه الأموي في المغازي (فتح الباري: ج 8، ص 7) وروى البخاري القصة باختلاف بعض الألفاظ، ومقالة سعد بن عبادة ورد النّبي صلى الله عليه وسلم في صحيحه، والأموي هو يحيى بن سعيد بن أبان، صدوق، روى له الستة، مات سنة 94 هـ (راجع، ج 2، ص 613) . (2) زاد المعاد، ج 1، ص 423 [أخرجه البخاري بلفظ آخر في الحديث الطويل، في كتاب المغازي، باب: أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟ برقم (4280) ] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 407- 408 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 إلى أمرائه من المسلمين، حين يدخلون مكّة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم «1» . تطهير الحرم من الأوثان: ولمّا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم واطمأنّ النّاس، خرج حتّى جاء البيت، فطاف به، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمئة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: 81] وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ [سبأ: 49] ، والأصنام تتساقط على وجوهها «2» . ورأى في الكعبة الصّور والتماثيل، فأمر بالصّور وبالتماثيل فكسرت «3» . اليوم يوم برّ ووفاء: ولمّا قضى طوافه، دعا (عثمان بن طلحة) ، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، ودخل، وكان قد طلب منه المفتاح يوما قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ له القول، ونال منه، فحلم عنه، وقال: «يا عثمان! لعلّك ترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت» . فقال: لقد هلكت قريش يومئذ وذلّت. فقال: «بل عمرت وعزّت يومئذ» .   (1) سيرة ابن هشام: ص 409. (2) زاد المعاد: ج 1، ص 424، وراجع القصة في صحيح البخاري [في كتاب المغازي] باب أين ركز رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟ [برقم (4287) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة، برقم (1781) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 411، وزاد المعاد: ج 2، ص 424 [وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف برقم (18751) من حديث جابر رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعا، وظنّ أنّ الأمر سيصير إلى ما قال «1» . فلمّا خرج من الكعبة، قام إليه عليّ بن أبي طالب، ومفتاح الكعبة في يده صلى الله عليه وسلم، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة مع السّقاية، صلّى الله عليك وسلّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين عثمان بن طلحة؟» فدعي له، فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان! اليوم يوم برّ ووفاء «2» ، خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلّا ظالم» «3» . الإسلام دين توحيد ووحدة: وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الكعبة، وقريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع، فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فقال: «لا إله إلّا الله   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 425، وراجع القصّة في صحيح البخاري [في كتاب الجهاد والسير، باب الردف على الحمار، برقم (2988) ، ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره برقم (1329) ، وأبو داود في كتاب المناسك، باب الصلاة في مكة، برقم (2023) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما] . (2) السيرة النبوية: لابن هشام، ج 2، ص 411- 412 ملخصا. (3) زاد المعاد: ج 1، ص 425، نقلا عن طبقات ابن سعد [ «خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم» هذه الكلمات الموجزة تتضمّن ثلاثة تنبّؤات: 1- بقاء نسل أبي طلحة في الدنيا باستمرار. 2- ارتباط الحفاظ على مفتاح بيت الله وخدمته بهم. 3- تسمية من ينزع منهم المفتاح ظالما. وعن الأول والثاني يعلم العالم كلّه أنّ المفتاح باق في بني شيبة إلى الآن، ونسلهم لا يزال باقيا. وعن الثالث قال المؤرّخون إنّ (يزيد) سلب المفتاح منهم، وبعد ذلك مضى أربعة عشر قرنا ولم يجترىء أحد على سلبه منهم حتى لا يلقّب بالظالم، وهو اللقب الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يسلبه مفتاح الكعبة من نسل أبي طلحة (رحمة للعالمين: ص 750) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كلّ مأثرة أو مال أو دم، فهو تحت قدميّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج» «1» . «يا معشر قريش! إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة، وتعظّمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب» ، ثمّ تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «2» [الحجرات: 13] . نبيّ المحبّة ورسول الرحمة: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر قريش! ما ترون أنّي فاعل بكم؟» قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم! قال: «فإنّي أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء» «3» . وأمر بلالا أن يصعد، فيؤذن على الكعبة، ورؤساء قريش وأشرافهم يسمعون كلمة الله تعلو، ومكّة ترتجّ بالأذان. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أمّ هانىء بنت أبي طالب، فاغتسل، وصلّى ثماني ركعات صلاة الفتح شكرا لله عليه «4» .   (1) [أخرجه أبو داود في كتاب الديات، باب في دية الخطأ شبه العمد، برقم (4547) ، وابن ماجه، في أبواب الديات، باب في دية شبه العمد مغلظة، برقم (2627) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما] . (2) زاد المعاد: ج 1، ص 424. (3) المصدر السابق: ج 1، ص 424. (4) رواه البخاري [في كتاب المغازي] في باب منزل النّبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح [برقم (1176) ، - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 لا تمييز في تنفيذ حدود الله: وسرقت امرأة من بني مخزوم- اسمها فاطمة- في هذه الغزوة، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد، لمكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشفعونه، فلمّا كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلوّن وجهه، وقال: «أتكلّمني في حدّ من حدود الله؟!» . قال أسامة: استغفر الله لي يا رسول الله! فلمّا كان العشيّ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثمّ قال: «أمّا بعد، فإنّما أهلك الناس قبلكم، أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والذي نفس محمد بيده، لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» . ثمّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة، فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك، وتزوّجت «1» . عفو عن الأعداء الألدّاء: ولمّا استقرّ الفتح، وأمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس كلّهم، إلا تسعة نفر، أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم من ارتدّ عن دينه، ومنهم من قتل مسلما غيلة، ومنهم من كان يشتغل ويتسلّى بهجائه ويذيعه بين الناس،   - ومسلم في كتاب الحيض، باب تستر المغتسل بثوب ونحوه، برقم (336) من حديث أم هانىء رضي الله عنها] ، وزاد المعاد: ج 1، ص 425. (1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، برقم (6788) ، ومسلم في كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره ... ، برقم (1688) ، وأبو داود في كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه، برقم (4373) ، والترمذي في الحدود، باب ما جاء في كراهية أن يشفع في أبواب الحدود، برقم (1430) وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وكان منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان قد ارتدّ. ومنهم عكرمة بن أبي جهل، وكان قد خرج إلى اليمن كارها لدولة الإسلام وخائفا على نفسه، فاستأمنت له امرأته بعد أن فرّ، فأمّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن أعدى عدوّ له في الدنيا، وثب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عليه رداء، فرحا به وترحيبا، وأسلم عكرمة، فسرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورا عظيما، وحسن إسلامه، وكان له مواقف عظيمة في حروب الرّدّة وحروب الشّام. ومنهم وحشيّ مولى جبير بن مطعم، وقاتل عمّ الرسول وأسد الله ورسوله حمزة بن عبد المطلب- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه- فأسلم، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامه. ومنهم هبّار بن الأسود، وكان قد عرض لزينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتّى سقطت على صخرة، وأسقطت جنينها، ففرّ، ثمّ أسلم، وحسن إسلامه، واستؤمن لسارة ولإحدى القينتين اللتين كانتا تغنّيان بهجائه، فأمّنهما فأسلمتا «1» . بين هند بنت عتبة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم: واجتمع النّاس بمكة لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فجلس لهم على الصّفا، وأخذ على النّاس السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا. ولمّا فرغ من بيعة الرّجال، بايع النساء، وفيهن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان متنقبة متنكّرة لما كان من صنيعها بحمزة «2» .   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 425. (2) [انظر قصة إسلامها في الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (6641) ، ومسلم في كتاب الأقضية، باب قضية هند، - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهنّ: «بايعنني على ألّا تشركن بالله شيئا» . فقالت هند: والله إنّك لتأخذ علينا ما لا تأخذ من الرجال. قال: «ولا تسرقن» . فقالت: إنّي كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة «1» ، وما كنت أدري أكان ذلك حلالا أم لا؟ فقال أبو سفيان- وكان شاهدا لما تقول-: أمّا ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حلّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإنّك لهند بنت عتبة» ؟ قالت: نعم، فاعف عمّا سلف، عفا الله عنك. ثم قال: «ولا تزنين» . فقالت: يا رسول الله! وهل تزني الحرّة؟ «2» . ثم قال: «ولا تقتلن أولادكنّ» . قالت: ربّيناهم صغارا، وقتلتهم كبارا، فأنت وهم أعلم «3» ، فضحك عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- حتى استغرق. ثمّ قال: «ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ» . فقالت: والله إنّ إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل. ثمّ قال: «ولا يعصينني» .   - برقم (1714) ، وأبو داود كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقّه من تحت يده، برقم (3532) و (3533) من حديث عائشة رضي الله عنهما] . (1) [الهنة: أي الحاجة، ويعبّر بها عن كلّ شيء (والنهاية 5/ 279) ] . (2) السيرة النبوية: لابن كثير، ج 3، ص 603. (3) السيرة الحلبية: ج 3، ص 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 فقالت: في معروف «1» . المحيا محياكم والممات مماتكم: ولمّا فتح الله مكة على رسوله- وهي بلده ووطنه ومولده- تحدّث الأنصار فيما بينهم، فقالوا: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح الله عليه أرضه وبلده، فهو مقيم بها، لا يعود إلى المدينة. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار عن حديثهم، ولا يعرفه غيرهم، فاستحيوا ثم أقرّوا به، فقال: «معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم» «2» . كيف انقلب العدوّ محبا والماجن تقيا: همّ فضالة بن عمير أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فلمّا دنا منه قال له: «فضالة!» قال: نعم يا رسول الله! فقال: «ماذا كنت تحدّث به نفسك؟» . قال: لا شيء، كنت أذكر الله. فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ قال: «استغفر الله» ، ثمّ وضع يده على صدره، فسكن قلبه، وكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري، حتّى ما خلق الله شيئا أحبّ إليّ منه.   (1) السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، ص 602- 603، بزيادة يسيرة من غير ابن كثير. (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 416 [وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب فتح مكة، برقم (1780) ، وأبو داود في كتاب الخراج، باب ما جاء في خبر مكة، برقم (3024) ، وأحمد في المسند (2/ 538) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 قال فضالة: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدّث إليها، قالت: هلمّ إلى الحديث، قال: يأبى الله عليك والإسلام «1» . إزالة آثار الجاهليّة وشعائر الوثنيّة: وبثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه إلى الأوثان التي كانت حول الكعبة، فكسرت كلّها، منها اللّات والعزّى، ومناة الثالثة الآخرى، ونادى مناديه بمكّة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدع في بيته صنما إلّا كسره» . وبعث رجالا من أصحابه إلى القبائل، فهدموا أصنامها «2» ، وقال جابر: كان بيت في الجاهليّة يقال له «ذو الخلصة» و «الكعبة اليمانية» و «الكعبة الشاميّة» ، فقال لي النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألا تريحني من ذي الخلصة» ؟ يقول جابر: فنفرت في مئة وخمسين راكبا من أحمس، (وكانوا أصحاب خيل) فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده، فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فدعا لنا ولأحمس «3» «4» . وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكّة خطيبا، فأعلن حرمة مكّة إلى يوم القيامة: «لا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما، أو يعضد «5» بها   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 417، وزاد المعاد: ج 1، ص 426. (2) راجع للتفصيل «زاد المعاد» ج 1، ص 426. (3) [الأحمس: وهم قريش، ومن ولدت قريش، وكنانة جديلة قيس، سمّوا أحمسا لأنهم تحمّسوا في دينهم: أي تشدّدوا (النهاية: 1/ 440) ] . (4) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح في كتاب المغازي، باب غزوة ذي الخلصة [برقم (4355) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل جرير بن عبد الله رضي الله عنه، برقم (2476) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في بعثة البشراء، برقم (2772) ، وأحمد في المسند (4/ 362) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه] . (5) يعضد: يقطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 شجرة» ، وقال: «لم تحلّ لأحد كان قبلي، ولا تحلّ لأحد يكون بعدي» » ، ثمّ انصرف راجعا إلى المدينة «2» . أثر فتح مكّة: وكان لفتح مكّة أثر عميق في نفوس العرب، فشرح الله صدر كثير منهم للإسلام، وصاروا يدخلون فيه أرسالا. وكانت عدّة قبائل بينها وبين قريش حلف، وكانت ممتنعة عن الدخول في الإسلام لمكانة هذا الحلف. وكانت قبائل ترهب قريشا وتجلّها، فلما رأتهم استسلموا للإسلام ورغبوا فيه زال الحاجز. وكانت قبائل تعتبر مكّة لا يفتحها ولا يدخلها ملك جبّار أو من يريد لها سوءا، ولا يزال فيها من عاصر حادثة الفيل، وشاهد ما فعل بأبرهة، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنّه إن ظهر عليهم فهو نبيّ صادق «3» . فلمّا فتح الله لنبيّه مكّة، وخضعت قريش للإسلام طوعا أو كرها، أقبل العرب على الإسلام إقبالا لم يعرف قبل ذلك، وصاروا يدخلون في دين الله أفواجا «4» ، وصدق الله العظيم: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ   (1) [أخرجه البخاري في كتاب اللقطة، باب كيف تعرّف لقطة أهل مكّة، برقم (2434) ، ومسلم في كتاب الحج، باب تحريم مكة..، برقم (1353) ، وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . (2) راجع «زاد المعاد» ج 1، ص 425- 426. (3) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي] ، باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح، [برقم (4302) ، من حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه] . (4) مستفاد من كتاب «رحمة للعالمين» لمؤلفه الشهير قاضي محمد سليمان المنصور فوري، [وقد نقله إلى العربية الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم، طبع في دار السلام- الرياض، - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً [النصر: 1- 2] أمير شابّ حديث السنّ: وأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يغادر مكّة عتّاب بن أسيد «1» ، يدير أمورها، ويقيم الموسم والحجّ بالمسلمين، وهو دون العشرين سنة، أو فوقها قليلا، وذلك بمحضر من أهل الأسنان والفضل، فدلّ على أنّ المناصب على الجدارة والقوة، وأقرّه أبو بكر في خلافته «2» .   - انظر اقتباس المؤلف من هذا الكتاب في ترجمته العربية، ص 115- 116، وفيه فوائد أخرى أيضا] . (1) ابن هشام: ج 2، ص 440. (2) راجع «الإصابة» و «أسد الغابة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 خريطة السرايا والغزوات بعد فتح مكة رمضان 8 هـ ربيع الآخر 9 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 غزوة حنين «1» شوّال سنة ثمان من الهجرة محاولة أخرى لإطفاء نور الله بالأفواه: وبعد أن تمّ فتح مكة، وبدأ النّاس يدخلون في دين الله أفواجا، أطلق العرب السّهم الأخير في كنانتهم على الإسلام والمسلمين، فكانت محاولة يائسة لمحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف مدّ الإسلام في جزيرة العرب. اجتماع هوازن «2» : وكانت هوازن قوة كبيرة بعد قريش، وكان بينها وبين قريش تنافس، فلم تخضع لما خضعت له قريش، وأرادت أن يكون لها الفضل والصيت في استئصال شأفة الإسلام، فيقال: إنّ هوازن استطاعت ما لم تستطعه قريش. قام مالك بن عوف النّصريّ- سيد هوازن- فنادى بالحرب واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلّها، ونصر وجشم كلّها، وسعد بن بكر، وتخلّف عن هوازن   (1) [انظر أخبار هذه الغزوة في: «سيرة ابن هشام» (2/ 437- 500) و «طبقات ابن سعد» (2/ 149- 158) و «تاريخ الطبري» (3/ 125) و «البداية والنهاية» (4/ 322) ] . (2) [واقعة اجتماع هوازن؛ أخرجها ابن هشام في السيرة، وأحمد في المسند (3/ 376) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 خريطة غزوة حنين شوال 8 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 كعب وكلاب، وأجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحطّ مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، ليثبتوا ويدافعوا عن الأهل والعرض. وشهد الحرب دريد بن الصّمّة، وكان شيخا كبير السّنّ، مجرّبا، له رأي وحكمة، ونزلوا ب «أوطاس» «1» ، وللبعير رغاء، وللحمير نهاق، وللشاء ثغاء «2» ، وللصغار بكاء، وقال مالك للناس: «إذا رأيتم المسلمين فاكسروا جفون سيوفكم «3» ، ثمّ شدّوا شدّة رجل واحد» «4» . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ألفان من أهل مكّة، ومنهم من هو حديث العهد بالإسلام، ومنهم من لم يسلم، وعشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة فبلغ عددهم إلى ما لم يبلغه في غزوة قبل ذلك، حتى قال أناس من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلّة، وأعجبتهم كثرة الناس «5» . واستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أميّة أدراعا وسلاحا- وهو مشرك- ومضى على وجهه يريد لقاء هوازن «6» . لا رجعة للوثنيّة: قد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين بعض حديثي العهد بالجاهليّة، وكانت لبعض القبائل شجرة عظيمة خضراء، يقال لها: «ذات أنواط»   (1) أوطاس: واد في ديار هوازن عند الطائف كانت فيه وقعة حنين. (2) [الرّغاء: صوت الإبل، والنّهاق: صوت الحمار. والثّغاء: صياح الغنم] . (3) [جفون السّيوف: أي أغمادها] . (4) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 437- 439. (5) تفسير الطبري: ج 10، ص 62- 63. (6) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 440. [وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في تضمين العارية، برقم (3562) ، وأحمد في المسند (3/ 401) وغيرهما من حديث صفوان بن أمية رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 يأتونها كلّ سنة، فيعلّقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما. وبينما هم يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وقع بصرهم على الشجرة، فتحلّبت أفواههم على أعياد الجاهليّة التي هجروها، ومشاهدها التي طال عهدهم بها، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا «ذات أنواط» كما لهم «ذات أنواط» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر! قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] ، لتركبنّ سنن من كان قبلكم» «1» . في وادي حنين: واستقبل المسلمون وادي حنين، وذلك في عاشر شوال، سنة ثمان، وهم ينحدرون فيه انحدارا في ظلام الصبح، وكانت هوازن قد سبقتهم إلى الوادي، وكمنوا لهم في شعابه وأحنائه ومضايقه، فما راع المسلمين إلّا أن رشقوهم بالنبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد، وكانوا قوما رماة «2» . وانشمر عامة المسلمين راجعين، لا يلوي منهم أحد على أحد «3» ، وكانت فترة حاسمة، يوشك أن تدور الدائرة على المسلمين، فلا تقوم لهم   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 442 [أخرجه الترمذي في أبواب الفتن، باب ما جاء «لتركبن سنن من كان قبلكم» برقم (2180) ، وأحمد في المسند (5/ 240) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 261) : رواه أحمد والطبراني، وفي إسناد أحمد ابن لهيعة وفيه ضعف، وفي إسناد الطبراني يحيى بن عثمان عن أبي حازم، ولم أعرفه، وبقية رجالهم ثقات] . (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 442- 443. (3) زاد المعاد: ج 1، ص 446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 قائمة بعد ذلك، وكانت شبيهة بما وقع يوم أحد حين طار في الناس أن النّبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، وانحسر عنه المسلمون. شماتة الأعداء وتزلزل ضعاف الإيمان: ولمّا رأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكّة، والذين لمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، هذه الهزيمة، تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضّغن، فقال بعضهم: «لا تنتهي هزيمتهم دون البحر» ، وقال بعضهم: «ألا بطل السحر اليوم» «1» . الفتح والسكينة: ولمّا تمّ ما أراد الله من تأديب المسلمين الذين أعجبتهم الكثرة، وأذاقهم الله مرارة الهزيمة بعد حلاوة الفتح، ليقوّي إيمانهم، فلا يبطرهم الفتح، ولا تؤيسهم الهزيمة، ردّ لهم الكرّة على الأعداء، وأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا في موقفه، على بغلته الشهباء، غير وجل ولا هيّاب، وقد بقي معه نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، والعباس بن عبد المطلب آخذ بحكمة بغلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من مجزوء الرجز] أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب «2»   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 442- 444 مختصرا. (2) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي] باب قول الله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ برقم (4315) ] وفيه أنّ أبا سفيان بن الحارث أخذ بغلته البيضاء. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين، [برقم (1776) ، والترمذي في أبواب الجهاد، باب ما جاء في الثبات عند القتال، برقم (1688) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما] ، وراجع للتفصيل «سيرة ابن هشام» (ج: 2/ ص 444- 445) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 ولمّا استقبلته كتائب المشركين، أخذ قبضة من تراب، ورمى بها إلى عيون الأعداء إلى البعد، فملأت أعين القوم. ولمّا رأى انشغال الناس بأنفسهم، قال: «يا عباس! اصرخ يا معشر الأنصار! يا معشر أصحاب السمرة!» فأجابوا: لبّيك لبّيك، وكان رجلا صيّتا، فيؤمّ الرجل الصوت ويقتحم عن بعيره، ويأخذ سيفه وترسه، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتّى إذا اجتمع إليه منهم طائفة، استقبلوا الناس، فاقتتلوا. وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه، فنظر إلى القوم يجتلدون، فقال: «الآن حمي الوطيس» «1» ، ثمّ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيّات فرمى بهنّ وجوه الكفار، يقول عباس: «فما زلت أرى حدّهم كليلا وأمرهم مدبرا» «2» . واجتلد الناس، فما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم، حتّى وجدوا الأسارى مكتّفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» ، وأنزل الله ملائكته بالنّصر، فامتلأ بهم الوادي «4» ، وتمّت هزيمة هوازن، وذلك قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ   (1) سيرة ابن هشام: (ج: 2، ص 445) : (استعرت الحرب) هذه من الكلم التي لم يسبق النبيّ صلى الله عليه وسلم إليها [والوطيس: هو حجارة مدوّرة إذا حميت لم يقدر أحد يطؤها، (النهاية: 5/ 204) ] . (2) أخرجه مسلم [في كتاب الجهاد، باب غزوة حنين، برقم (1775) ، وأحمد في المسند (1/ 207) ، وعبد الرزاق في المصنّف، برقم (9741) من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 445. (4) المصدر السابق: ج 2، ص 449، ورواه مسلم مطولا في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين [برقم (1775) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ [التوبة: 25- 26] . آخر غزوة ضدّ الإسلام والمسلمين: وبغزوة حنين طفئت جمرة العرب، فقد استفرغت قواهم، واستنفدت سهامهم، وأذلّت جمعهم، فانشرحت صدورهم للدخول في الإسلام. في أوطاس: ولمّا تمّت الهزيمة لهوازن، ذهبت فرقة منهم- فيهم الرئيس مالك بن عوف- فلجؤوا إلى الطائف، فتحصّنوا بها، وسارت فرقة فعسكروا ب «أوطاس» ، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من أصحابه، عليهم أبو عامر الأشعريّ، فقاتلوهم فغلبوهم «1» . وجمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها، فأمر بالسّبايا والأموال إلى «الجعرانة» «2» فحبست بها «3» . وكان السّبي ستّة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألفا، والغنم أكثر   (1) السيرة النبوية: لابن كثير، ج 3، ص 640 [وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة أوطاس، برقم (4323) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه برقم (2498) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه] . (2) يخفّف ويثقل، تقع على الطريق الشمالي الشرقي من مكة إلى الطائف على مسافة أكثر من 20 كيلو مترا وهي خارج الحرم، وقد أحرم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم للعمرة، وعليها كان يلتقي الطريقان من مكة والمدينة إلى الطائف في العهد النبوي (مقتبس من كتاب «الحج ومقامات الحج» للأستاذ محمد الرابع الحسني الندوي) . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 459. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضّة، وكان أكبر مغنم غنمه المسلمون. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى أصحابه يوم حنين، أن يقتلوا وليدا، أو امرأة، أو أجيرا، أو عبدا مستعانا به، وتأسّف على امرأة قتلت في حنين «1» .   (1) سيرة ابن كثير: ج 3، ص 638. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 غزوة الطّائف شوّال سنة ثمان من الهجرة فلول ثقيف: وقدم فلّ «1» ثقيف الطائف، وأغلقوا عليهم أبواب مدينتها، ورموا حصنهم، وأدخلوا فيه ما يصلح لهم لسنة، وأعدّوا للحرب عدّتها، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في شوّال سنة ثمان إليهم، ومضى حتّى نزل قريبا من الطائف، ولم يقدروا على أن يدخلوه، فقد أغلقوه دونهم، ورمت ثقيف المسلمين بالنبل رميا شديدا، كأنّه رجل «2» جراد، وكانوا رماة. حصار الطائف: فنقل رسول الله صلى الله عليه وسلم العسكر إلى مكان آخر، وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وقاتلهم قتالا شديدا، وتراموا بالنّبل، واستخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحصار المنجنيق لأوّل مرّة، واشتدّ الحصار، وقتل رجال من المسلمين بالنبل «3» .   (1) [الفلّ: القوم المنهزمون] . (2) [جماعة عظيمة من الجراد] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 478- 483 باختصار، وزاد المعاد: ج 1، ص 457 ملخصا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الرحمة في ميدان الحرب: ولمّا ضاق الحصار، وطالت الحرب، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف وهي مما يعتمدون عليها في معاشهم، ووقع الناس فيها يقطعون، فسألوه أن يدعها لله، وللرحم، فقال: «فإنّي أدعها لله والرحم» . ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ» ، فخرج منهم بضعة عشر رجلا، فيهم أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع كلّ رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشقّ ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة «1» . رفع الحصار: ولم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف، فأمر عمر بن الخطّاب رضي الله عنه- فأذّن في الناس بالرّحيل، فضجّ الناس من ذلك، وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاغدوا على القتال» فغدوا، فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا قافلون غدا إن شاء الله» فسرّوا بذلك، وأظعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك «2» . سبايا حنين ومغانمها: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم «الجعرانة» فيمن معه من النّاس، واستأنى بهوازن   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 457، نقلا عن ابن إسحاق. (2) والقصة في صحيح البخاري [في كتاب المغازي] باب «غزوة الطائف» [رقم: 4325] وفي صحيح مسلم [في كتاب الجهاد] ، باب «غزوة الطائف» [رقم (1778) عن ابن عمر رضي الله عنهما] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة ليلة، ثمّ بدأ بالأموال فقسّمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول النّاس، وأجزل لأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية، وأعطى حكيم بن حزام، والنّضر بن الحارث، والعلاء بن حارثة الثقفي، وغيرهم من أشراف قريش، فأكثر وأجزل، ثمّ أمر بإحضار الغنائم والناس، ففرضها عليهم «1» . حبّ الأنصار وإيثارهم: وتقاول شباب من الأنصار في هذا الفرض الذي كان لأشراف قريش، ولمؤلّفة القلوب النصيب الأكبر فيه، ولم يكن للأنصار إلا نصيب ضئيل. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار، فجمعوا في حظيرة، فخطب خطبة عظيمة مسّت قلوبهم، ففاضت لها عيونهم، وثار فيهم الحبّ والحنان، قال فيها: «ألم آتكم ضلّالا، فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟!» . قالوا: الله ورسوله أمنّ وأفضل. ولمّا سكتوا قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله! لله ولرسوله المنّ والفضل. قال: «أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم، ولصدّقتم: أتيتنا مكذّبا فصدّقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فاويناك، وعائلا فواسيناك» .   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 448، باختصار [وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام..، برقم (1060) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ثمّ انعطف عليهم بكلمة فيها الثقة، وفيها العدالة، وفيها حكمة هذا التفاوت في الفرض والعطاء، فقال: «أوجدتم عليّ يا معشر الأنصار في أنفسكم، في لعاعة «1» من الدّنيا، تألّفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم» . ثم قال كلمة لم يتمالكوا أمامها، فانفجر الإيمان والحنان في نفوسهم، وتدفّق، قال: «ألا ترضون يا معشر الأنصار! أن يذهب النّاس بالشّاء والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده، لمّا تنقلبون به خير ممّا ينقلبون به، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك النّاس شعبا وواديا، وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار، والناس دثار، اللهمّ ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» . وبكى القوم حتّى أخضلوا لحاهم، وقالوا: «رضينا برسول الله قسما وحظّا» «2» «3» .   (1) لعاعة: بقلة خضراء وناعمة، شبه بها زهرة الدنيا ونعيمها [ومنه «ما بقي في الإناء إلّا لعاعة» والمعنى بقية يسيرة] . (2) أصل الرواية في الصحيحين، وساقه ابن القيم في «زاد المعاد» أجمع وأشمل الطرق فاعتمدنا عليه، راجع الجامع الصحيح للبخاري، [كتاب المغازي] باب «غزوة الطائف» [رقم الحديث (4330) ، و «صحيح مسلم» كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام..، برقم (1061) ، و «مسند الإمام أحمد» (4/ 24) ، من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، وأخرجه أحمد أيضا (3/ 76) ، وابن هشام في السيرة (2/ 498- 499) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه] . (3) [وفي الحقّ أنّ هذه الخطبة فريدة في لغات العالم، وإنها كما قال مولانا الداعية المجدّد أبو الحسن علي الحسني الندوي حين اطّلع على شرحي لهذه الخطبة فقال: إنّي أحسن ستّ- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ردّ السبايا على هوازن: وقدم وفد هوازن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا، فسألوه أن يمنّ عليهم بالسبي والأموال، فقال: «إنّ معي من ترون، وإنّ أحبّ الحديث إليّ أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم؟» . قالوا: ما كنّا نعدل بالأبناء والنساء شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا صلّيت الغداة فقوموا وقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردّ علينا سبينا» فلمّا صلّى الغداة، قاموا، فقالوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأسأل لكم الناس» فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبى ثلاثة من بني تميم، وبني فزارة، وبني سليم، أن يتنازلوا عن سبيهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ هؤلاء القوم قد جاؤوا مسلمين، وقد كنت استأنيت بهم، وقد خيّرتهم، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان عنده منهنّ شيء، فطابت نفسه بأن يردّه، فسبيل ذلك، ومن أحبّ أن يستمسك بحقّه، فليردّ عليهم، وله بكلّ فريضة ستّ فرائض، من أوّل ما يفيء الله علينا» . فقال الناس: قد طيّبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنا لا نعرف من رضي منكم ممّن لم يرض، فارجعوا، حتّى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» ، فردّوا   - لغات عالمية، لا أعرف فيها مثل هذه الخطبة، وإنها لمن دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم (الأستاذ الدكتور نور الدين عتر في كتابه «في ظلال الحديث النبوي..» ص 336) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 عليهم نساءهم وأبناءهم، ولم يتخلف منهم أحد، وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم السبي قبطيّة قبطيّة» «1» «2» . رقّة وكرم: وكان المسلمون قد ساقوا فيمن ساقوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الشّيماء بنت حليمة السعدية، أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرّضاعة، وعنّفوا عليها في السّوق، وهم لا يدرون، فقالت للمسلمين: تعلمون والله أنّي أخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدّقوها حتّى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما انتهت الشّيماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله! إنّي أختك من الرّضاعة، قال: ما علامة ذلك؟ قالت: عضّة عضضتنيها في ظهري، وأنا متورّكتك «3» ، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، وخيّرها، وقال: «إن أحببت الإقامة فعندي محببة ومكرّمة، وإن أحببت أن أمتّعك وترجعي إلى قومك فعلت» ، فقالت: بل تمتّعني وتردّني إلى قومي «4» .   (1) [القبطيّة: الثّوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء، وكأنّه منسوب إلى القبط، هم أهل مصر وضمّ القاف من تغيير النّسب، وهذا في الثياب، فأمّا في الناس فقبطيّ، بالكسر (النهاية: 4/ 6) ] . (2) زاد المعاد، ج 1، ص 449، وروى البخاري القصة [في كتاب المغازي] ، في باب قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ ... إلخ باختلاف بعض الألفاظ [برقم (4318) و (4319) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال، برقم (2693) ، وأحمد في المسند (4/ 326) من حديث عروة بن الزبير] . (3) يعني: حاملتك على وركي. (4) السيرة النبوية: لابن كثير: ج 3، ص 689. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 ومتّعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء «1» . عمرة الجعرانة: ولمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين، وقسّمت السبايا والمغانم في الجعرانة، وهي على مرحلة من مكّة وميقات أهل الطائف، أحرم منها للعمرة، واعتمر وانصرف راجعا إلى المدينة «2» ، وذلك في شهر ذي القعدة «3» ، سنة ثمان. طائعون لا كارهون: ولمّا ارتحل المسلمون من الطائف، واستقبلوا المدينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا آيبون، تائبون، عابدون، لربّنا حامدون» . قيل: يا رسول الله! ادع الله على ثقيف. قال: «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم» . ولحق عروة بن مسعود الثقفيّ، وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل المدينة، فأسلم ورجع يدعو قومه إلى الإسلام، وكان محبّبا إليهم، صاحب منزلة فيهم، فلمّا دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه، رموه بالنّبل، فقتل شهيدا.   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 449. (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 500. (3) أخرجه البخاري، [في كتاب المغازي] باب «غزوة الحديبية» [برقم (4148) ، ومسلم في كتاب الحج، باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم..، برقم (1253) ، وأبو داود في كتاب المناسك، باب العمرة، برقم (1994) من حديث أنس رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وأقامت ثقيف بعد قتله أشهرا، ثمّ ائتمروا بينهم، ورأوا أنّه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فأرسلوا وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا هوادة مع الوثنية: وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب عليهم قبة في ناحية مسجده، وأسلموا. وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم «اللّات» لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى سألوا شهرا واحدا بعد قدومهم، فأبى عليهم إلّا أن يبعث أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة- وهو من قومهم- يهدمانها. وسألوه أن يعفيهم من الصلاة، فقال: «لا خير في دين لا صلاة فيه» . ولمّا فرغوا من أمرهم وتوجّهوا إلى بلادهم راجعين، بعث معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة، فهدمها المغيرة، وانتشر الإسلام في ثقيف، حتى أسلم أهل الطائف عن آخرهم «1» . إسلام كعب بن زهير: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، جاءه كعب بن زهير- الشاعر بن الشاعر- وكان قد هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ ضاقت به الأرض، وضاقت عليه نفسه، وحثّه أخوه «بجير» على أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم تائبا مسلما، وحذّره من سوء العاقبة إن لم يفعل ذلك، فقال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي اشتهرت ب «قصيدة بانت سعاد» .   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 458- 459 ملخصا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 فقدم المدينة، وغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلّى الصبح، ثمّ جلس إليه، فوضع يده في يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ كعب بن زهير جاء يستأمنك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه؟ فوثب عليه رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله دعني وعدوّ الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه عنك» فقد جاء تائبا نازعا، وأنشد كعب قصيدته اللامية التي أولها: [من البسيط] بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها لم يفد مكبول وقال مادحا فيها: إنّ الرّسول لنور يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول فخلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردته «1» .   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 466- 468. قال القسطلاني في «المواهب» (: ج 3، ص 70) في رواية أبي بكر بن الأنباري أنه لمّا وصل إلى قوله: [من البسيط] إنّ الرسول لنور يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول رمى عليه الصلاة والسلام بردة كانت عليه، وأن معاوية بذل فيها عشرة آلاف، فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، فلما مات كعب، بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم، قال: وهي البردة التي عند السلاطين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 خريطة غزوة العسرة رجب 9 هجرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 غزوة تبوك «1» رجب سنة تسع من الهجرة أثر غزوة تبوك النفسيّ وسببها: كانت غزوة تبوك نظير فتح مكّة في قذف الرّعب في قلوب الأعداء، ورفع الغشاوة عن عيون كثير من الذين كانوا يعتقدون أنّ الإسلام سراج يلتهب ثمّ ينطفىء، أو سحابة صيف عن قليل تنقشع، وكانت هذه الغزوة احتكاكا بأعظم قوّة وأكبر دولة في العصر، وكانت عظيمة الشوكة، مرهوبة الجانب في نظر العرب. وقد قال أبو سفيان حين رأى اهتمام هرقل- الإمبراطور الروميّ- بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه مع دحية الكلبيّ، وحسابه لظهور النبيّ في جزيرة العرب: «لقد أمر «2» أمر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما   (1) موضع من بلاد العرب بين المدينة المنورة ودمشق على نصف الطريق، واقع إلى الجنوب الشرقي من أيلة، وفي معجم البلدان لياقوت عن أبي زيد: «تبوك بين الحجر وأول الشام على أربع مراحل من الحجر، ويقال: إن أصحاب الأيكة الذي بعث إليهم شعيب كانوا هناك» انتهى. وتبوك على ست مراحل من بحر القلزم بين جبلي حسمى وشروى، (ملخصا من دائرة المعارف للبستاني) وهي الآن ثكنة تابعة لإمارة المدينة في المملكة العربية السعودية، على بعد 760 كيلو مترا تقريبا من المدينة المنورة. (2) [أمر الأمر: أي اشتدّ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 زلت موقنا أنّه سيظهر، حتى أدخل الله عليّ الإسلام» «1» . وكان العرب لا يحلمون بغزو الروم والزّحف عليهم، بل كانوا يخافون أن يغزوهم في عقر دارهم، بل كانوا يرون أنفسهم أصغر من ذلك، وكان المسلمون في المدينة إذا حزبهم أمر، أو دهمهم خطر، ابتدرت أذهانهم إلى هجوم غسان وغزوهم، وهم تبع لقيصر ملك الروم وعماله. جاء في قصّة الإيلاء التي وقعت سنة ثمان، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه-: «كان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتيه بالخبر، ونحن حينئذ نتخوّف ملكا من ملوك غسّان ذكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فأتى صاحبي الأنصاريّ يدقّ الباب، وقال: افتح افتح، فقلت: جاء الغسّانيّ؟!» «2» . وقد كانت الدولة الروميّة في أوجها، وقد دحرت جيوشها في قيادة هرقل جيوش إيران وأوغلت في ديارها، وهزمتها هزيمة منكرة، ومشى هرقل من حمص إلى «إيلياء» في موكب الملك المنتصر، والقائد المظفّر شكرا «3» على هذا الانتصار الرائع، وذلك سنة سبع للهجرة، يحمل الصليب الذي استردّه من الفرس، وقد بسطت له البسط، ووزّعت عليه الرياحين، فمشى   (1) [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب كيف كان بدء الوحي، برقم (7) ، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن أبي سفيان] . (2) أخرجه البخاري في تفسير سورة التحريم، باب: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ..، برقم (4913) ، ومسلم في كتاب الطلاق [باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخيرهنّ، برقم (1479) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . (3) صحيح مسلم (كتاب الجهاد والسير) ، باب «كتاب النّبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام» [برقم (1773) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي سفيان] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 عليها «1» ، فما مضى على هذا الانتصار الرائع عامان، حتّى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يريد الروم. وقد مهّد الله بهذا الغزو الذي كان له أثر عميق في نفوس العرب، لغزو المسلمين للشام في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر، وكان ذلك سندا له. ويقال في سبب هذه الغزوة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اتصل به نبأ تهيّؤ الروم لغزو حدود العرب الشمالية، قال ابن سعد وشيخه الواقديّ: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه من الأنباط أنّ هرقل رزق أصحابه لسنة وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان وغيرهم من متنصّرة العرب، وجاءت مقدّمتهم إلى البلقاء» «2» . وسواء صحّت هذه الرواية أو لم تصحّ، فقد كانت الغاية في الحقيقة من هذه الغزوة إرهاب الدولة المجاورة، التي كانت تخاف معرّتها على مركز الإسلام والمسلمين، وعلى الدعوة الإسلاميّة الزاحفة وقوّتها الناشئة، ومنعها من أن تطمع في غزو المسلمين في عقر دارهم، وأن تعتبرهم مالا سائبا أو لقمة سائغة، فمن كان هذا شأنه لا يتقدّم بجيوشه إلى هذه الإمبراطورية العظيمة، ويدخل في حدودها متحدّيا متهدّدا، وتلك هي الحكمة التي ذكرها القرآن في سياق الآيات التي نزلت في غزوة تبوك، وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 123] . وقد تحقّقت هذه الغاية، فلم يقابل الروم هذا الزحف بزحف مقابل، وبتحرّكات عسكرية، بل كان هنالك نوع انسحاب مقابل هذا التحدّي السافر، وصاروا يحسبون لهذه القوّة الناشئة حسابا لم يحسبوه من قبل.   (1) فتح الباري: ج 1، ص 31. (2) الزرقاني على المواهب: ج 2، ص 63- 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 والحكمة الثانية في هذه الغزوة الجريئة، بل في هذه المغامرة الخطرة، هي إدخال الرّعب في قلوب القبائل العربية التي لم تدخل في الإسلام في جزيرة العرب، والقبائل العربيّة المنتصرة الخاضعة لنفوذ الإمبراطورية الرومانية، والتابعة لها، وإتاحة الفرصة لها للتفكير في أهميّة الدّين الإسلاميّ جدّيا، وأنّه ليس من الفقاقيع والنفاخات التي تعلو سطح الماء ثمّ تغيب، وأنّ له مستقبلا زاهرا، لعلّ ذلك يفتح لها الطريق في الدخول في الإسلام، الذي ظهر في أرضهم وبلادهم، وذلك ما أشار إليه القرآن بقوله في الذين خرجوا في هذه الغزوة: وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ [التوبة: 120] . وقد كان الروم لا يزالون يذكرون غزوة مؤتة التي لم يقضوا منها حاجة في نفوسهم ولم يشفوها، وقد أسفرت عن انسحاب كلّ فريق راضيا من الغنيمة بالإياب، وقد أضعفت رهبة الدولة البيزنطيّة وجيوشها الجرارة في نفوس العرب. وبالجملة فقد كانت لهذه الغزوة أهميّة كبيرة في السيرة النبوية وتاريخ الدعوة الإسلامية، وتحقّقت منها غايات كانت بعيدة الأثر في نفوس المسلمين والعرب، ومجرى الحوادث في تاريخ الإسلام. زمن الغزوة: وكانت هذه الغزوة في رجب سنة تسع «1» ، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ   (1) إنّه من الصعب تحديد زمن غزوة تبوك؛ طبق التقويم الشمسي الميلادي، وتعيين الشهر الإفرنجي الذي كان فيه الخروج من المدينة إلى تبوك، وقد جعل بعض مؤلفي السيرة شهر- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 شديد حين طابت الثّمار والظّلال واستقبل سفرا بعيدا ومفازة «1» وعدوا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد «2» ، وكان الزمن زمن عسرة الناس وجدب البلاد. وتعلّل المنافقون بعلل، وكرهوا الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إشفاقا من العدوّ القويّ القاهر، وفرارا من الحرّ الشديد، زهادة في الجهاد، وشكّا في الحقّ، في ذلك يقول الله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ   - نوفمبر مقابل رجب سنة 9 هـ، منهم العلامة شبلي النّعماني في كتابه الشهير «سيرة النبي» ، ولكنّ الشواهد الداخلية، والتصريحات التي جاءت في نص الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما من أصحاب الصحاح والسنن، تحتّم أن تكون هذه الغزوة قد وقعت في زمن الصيف، لقد جاء في صلب الحديث على لسان كعب بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاها في حرّ شديد حين طابت الثمار والظلال» فليكن ذلك هو الميزان والحاكم في تحديد زمن هذه الغزوة، وكل ما لا يتفق معه لا يعول عليه. وفي روآية موسى بن عاقبة عن ابن شهاب: «في قيظ شديد في ليالي الخريف والناس خارفون في نخيلهم، وأكثر من ذلك قول المنافقين الذي نقله القرآن في سورة آل توبة، ثم رده عليهم، فقال: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] » [فتح الباري: 8/ 118] . وشهر نوفمبر في المدينة والحجاز، مبدأ الشتاء، وتطبيق التقويمين الشمسي والميلادي، والهلالي الهجري، من الأمور الصعبة، وقد كثر فيه الاضطراب لاختلاف أهل السير في مبدأ التقويم الهجري، هل كان من ربيع الأول أو من المحرم. وقد توصّل الأستاذ إسحاق الرّامفوري بعد استعراض طويل للحوادث والغزوات، وتطبيق بين التقويمين، أنّه كان شهر أبريل (نيسان) ولا يبعد عن الصواب، لأنه مبدأ الصيف في المدينة، إلا أنه ذكر أنه كان ذلك في سنة 630 م، والعلامة شبلي النعماني عيّنها بسنة 635 م، والله أعلم. (1) مفازة: فلاة لا ماء فيها. (2) مقتبس من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه الذي رواه الشيخان [انظر تخريجه في صفحة 492] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] . تنافس الصحابة في الجهاد والمسير: وجدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره، وأمر الناس بالجهاز، وحضّ أهل الغنى على النفقة في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى، واحتسبوا، وجهّز عثمان بن عفّان جيش العسرة، وأنفق ألف دينار، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» ، واستحمل «2» رجال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل حاجة، فاعتذر رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم وجود الظهر، فاشتدّ حزنهم على ذلك، وأسقط الله عنهم الحرج، يقول الله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ [التوبة: 92] . وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النيّة، حين تخلّفوا عن هذه الغزوة من غير شكّ ولا ارتياب. مسير الجيش إلى تبوك: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألفا من الناس من المدينة إلى تبوك، وكان أكبر جيش خرج به في غزوة، وضرب عسكره على ثنيّة الوداع، واستعمل   (1) [أخرجه الترمذي في أبواب المناقب، باب [في عد عثمان تسميته شهيدا،..، برقم (3701) ، وقال: حسن غريب، وأحمد في المسند (5/ 63) بإسناد حسن من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه] . (2) [استحمل، أي: طلب راحلة تحمله إلى المعركة] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاريّ، وخلف على أهله عليّ بن أبي طالب، وقال له حين شكا إليه إرجاف المنافقين وقالتهم: «أفلا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس نبيّ بعدي» «1» . ونزل ب «الحجر» ديار ثمود، وأخبرهم بأنّها ديار المعذّبين، وقال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلّا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم» «2» وقال: «لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضّؤوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا» . وأصبح الناس ولا ماء لهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا، فأرسل الله سبحانه سحابة، فأمطرت حتّى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء «3» . تخوّف العرب من الرّوم: وكان رهط من المنافقين يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فيقول بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنّا بكم غدا مقرّنين بالحبال «4» .   (1) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة تبوك..، برقم (4416) ، وأحمد في المسند (1/ 182) من حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه] . (2) زاد المعاد: ج 1 ص 403، وسيرة ابن هشام: ج 2، ص 522، ومعناه في الصحيحين [أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله «ولقد كذب أصحاب الحجر» ، برقم (4702) ومسلم في الزهد، باب النهي عن الدخول على أهل الحجر إلّا من يدخل باكيا، برقم (2980) ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 522 [أخرج الطبراني هذه الحادثة في «المعجم الأوسط» ، وقال الهيثمي (6/ 194- 195) : رواه البزّار والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقات] . (4) سيرة ابن هشام: ج 1، ص 524- 526. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 الصلح بين الرسول وأصحاب أيلة: ولمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يوحنّا بن رؤبة صاحب أيلة- وهو أحد الأمراء المقيمين بالحدود- فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل «جرباء» ، و «أذرح» «1» وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب أمن، كان فيه كفالة الحدود وتأمين المياه، والطّرق البرية والبحرية، والضمان لسلامة الفريقين، وأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . عودة الرسول إلى المدينة: وهنا بلغ خبر انسحاب الروم وعدولهم عن فكرة الزحف واقتحام الحدود، فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم محلا لتتبّعهم داخل بلادهم، وقد تحقّق الغرض. وكان أكيدر بن عبد الملك الكنديّ النصرانيّ أمير دومة «3» ، وكان ردءا لجيوش الروم، إذ جاءت من ناحيته، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه خالد بن الوليد في خمسمئة فارس، وأسر خالد أكيدر، وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، وخلّى سبيله «4» .   (1) [جرباء وأذرح: هما قريتان بالشّام] . (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 525- 526. (3) دومة الجندل: كانت قرية عامرة، يقصدها الأعراب للبيع والشراء، كانت قد خربت على مر الزمن، فنزل بها «أكيدر» فأعاد إليها رواءها، وغرس الزيتون بها، فتوافد إليها الأعراب، يحميها سور قديم، وفي داخل السور حصن منيع، اشتهر بين أعراب الشمال، بذلك اكتسبت المدينة أهمية استراتيجية، وكان أكثر سكانها من كلب، وكان «أكيدر» يلقب نفسه بلقب الملك، على عادة ذلك الوقت، وكان أهل دومة على النصرانية في ذلك الحين. (راجع «تاريخ العرب قبل الإسلام» ) . (4) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 526. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ب «تبوك» بضع عشرة ليلة، ثمّ انصرف قافلا إلى المدينة «1» . في جنازة مسلم مسكين: ومات عبد الله ذو البجادين في «تبوك» ، وكان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك، ويضيّقون عليه، حتّى تركوه في بجاد «2» ليس عليه غيره، فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا كان قريبا منه، شقّ بجاده باثنين، فاتّزر بواحد، واشتمل عليه، ثمّ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: «ذو البجادين» ، ولمّا مات في تبوك شيّعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر في ظلام الليل، وفي يد بعضهم مشعل، يسيرون في ضوئه، وقد حفروا له، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدلّيانه إليه، وهو يقول: «أدنيا إليّ أخاكما» فدلّياه إليه، فلمّا هيّأه لشقه، قال: «اللهم! إنّي أمسيت راضيا عنه، فارض عنه» ، قال عبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة «3» . ابتلاء كعب بن مالك ونجاحه فيه: وكان من بين من تخلّف عن هذه الغزوة من غير شكّ ولا ارتياب، كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة، وكانوا من السابقين الأولين، ولهم حسن بلاء في الإسلام، وكان مرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة ممن شهد بدرا، ولم يكن التخلف عن الغزوات من خلقهم وعادتهم،   (1) المصدر السابق: ج 2، ص 527. (2) [البجاد، وجمعه البجد: هو الكساء الغليظ، ومنه تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد نهم ذا البجادين، لأنّه حين أراد المصير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعت أمّه بجادا لها قطعتين فارتدى بإحداهما وائتزر بالآخرى (النهاية: 1/ 96) ] . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 527- 528. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 ولم يكن ذلك إلّا من حكمة إلهيّة، وتمحيصا لأنفسهم، وتربية للمسلمين، وإنّما هو التسويف، وضعف الإرادة، والاعتماد الزائد على الوسائل الموجودة وعدم الجدّ والإسراع في الأمر، وكم جنى ذلك على أناس لم يكونوا أقلّ من إخوانهم إيمانا وحبا لله ولرسوله، وذلك ما عبّر عنه ثالث ثلاثتهم كعب بن مالك بقوله: «فطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا.. فأقول في نفسي، أنا قادر عليه، ولم يزل يتمادى بي، حتّى اشتدّ الجدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهّز بعده بيوم أو يومين، ثمّ ألحقهم، فغدوت- بعد أن فصلوا- لأتجهّز فرجعت ولم أقض شيئا، ثمّ غدوت فرجعت فلم أقض شيئا. فلم يزل بي حتّى أسرعوا، وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدّر لي ذلك» «1» . وقد امتحن الله إيمان هؤلاء الثلاثة، ومدى حبّهم للرسول صلى الله عليه وسلم ووفائهم للإسلام، والبقاء عليه في السرّاء والضرّاء، وإكرام الناس وجفوتهم، وفي حال إقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضه امتحانا قلّ نظيره في تاريخ المجتمعات   (1) أخرجه البخاري، في كتاب المغازي [باب حديث كعب بن مالك ... ، برقم (4418) ، ومسلم في كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك، برقم (2769) ، وأبو داود في كتاب الإيمان والنذور، باب فيمن نذر أن يتصدّق بماله، برقم (3321) ، والنّسائي في الطلاق، باب الحقي بأهلك..، برقم (3451) و (3452) ، وعبد الرزاق في المصنّف، برقم (9744) ، وابن أبي شيبة في المصنّف، برقم (18853) ، وابن هشام في السيرة (2/ 531) ، وابن جرير في التفسير (11/ 58) ، وابن كثير في السيرة (4/ 42- 48) ، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 273- 279) وغيرهم من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 البشريّة التي تقوم على أساس الإيمان والعقيدة والحبّ والعاطفة. وقد صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذب الناس، وشهدوا على أنفسهم، حين برّأها المنافقون. يقول كعب بن مالك في حديثه البليغ الطويل: «جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكّل سرائرهم إلى الله، فجئته وسلّمت عليه، فلمّا سلّمت عليه، تبسّم تبسّم المغضب، ثمّ قال: تعال، فجئت أمشي، حتّى جلست بين يديه فقال لي: ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك. فقلت: بلى والله؟ إنّي والله لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكنّي والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي، ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إنّي لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي من عذر، لا والله ما كنت أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك» . وجاءت الساعة الرهيبة، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامهم، وما كان من المسلمين إلا السّمع والطاعة، فاجتنبهم الناس وتغيّروا لهم، حتّى تنكّرت في نفوسهم الأرض، فما هي التي يعرفونها، ولبثوا على ذلك خمسين ليلة، فأمّا مرارة بن الرّبيع وهلال بن أميّة، فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا كعب بن مالك، فكان أشبّ الثلاثة وأجلدهم، وكان يخرج فيشهد الصلاة مع المسلمين، ويطوف في الأسواق، ولا يكلّمه أحد «1» .   (1) مقتبس من حديث كعب بن مالك نصه وهو يصور الحال ويذكر القصة [قد سبق تخريجه قبل- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وكلّ ذلك لم يؤثّر في رابطة الحبّ والولاء، التي كانت تربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثّر كذلك في عطف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ورأفته به، بل لم يزده هذا العتاب إلّا رسوخا في المحبة، ولوعة، وجوى، يقول: «وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السّلام أم لا؟ ثمّ أصلّي قريبا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل عليّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عنّي» . فتنكّرت له الدّنيا وأعرض عنه من كانت له دالّة عليه، يقول: «حتّى إذا طال عليّ ذلك من جفوة النّاس، مشيت حتّى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمّي وأحبّ الناس إليّ، فسلّمت عليه، فو الله ما ردّ عليّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة! أنشدك بالله هل تعلمني أحبّ الله ورسوله؟ فسكت فعدت له، فنشدته، فسكت، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتولّيت حتّى تسوّرت الجدار» «1» . ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعدّى إلى أزواج هؤلاء الثلاثة، فأمروا أن يعتزلوهنّ، ففعلوا. وجاءت أدقّ مرحلة من مراحل هذا الامتحان للحبّ والوفاء، والثبات والاستقامة، وذلك حين خطب ودّه ملك غسان، الذي كانت منادمته وحضور مجلسه شرفا يتنافس فيه المتنافسون، ويتغنّى به شعراء العرب سنين طوالا «2» ، فجاءه- وهو في ضيق النفس، وجفوة النّاس، وإعراض   - قليل] . (1) حديث كعب بن مالك في صحيح البخاري [قد سبق تخريجه قبل قليل في صفحة (492) ] . (2) اقرأ قصيدة حسان بن ثابت الأنصاري في مدح آل جفنة، يقول فيها: [من الكامل] لله درّ عصابة نادمتهم ... يوما بجلّق في الزمان الأوّل - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه- رسول ملك غسان، فيدفع إليه كتابا منه يقول فيه: «إنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة فالحق بنا نواسك» ، فتثور في كعب الغيرة، ويهيج الحنان، فيقصد تنّورا، ويرمي هذا الكتاب فيه. ولمّا تمّ ما أراده الله من تمحيص هؤلاء الثلاثة المؤمنين وتخليد ذكرهم في القرآن، ودرسهم للمسلمين إلى آخر الأبد، وإقامة برهان على قوة إيمان وحسن إسلام، وقد ضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، أفرج عنهم، وأنزل توبتهم من فوق سبع سموات. ولم يفردهم بالتوبة حتّى يشعروا بغربتهم وبكونهم شامة بين الناس، بل مهّد لتوبتهم التوبة على سيد الأنبياء والمهاجرين والأنصار الذين لم يتخلّفوا، تكريما لهم، وجبرا لخواطرهم، ورفعا لمكانتهم، فقال: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 117- 118] . نظرة على الغزوات: وبغزوة تبوك التي كانت في رجب سنة تسع للهجرة انتهت الغزوات النبويّة، التي بلغ عددها سبعا وعشرين غزوة «1» ، والبعوث والسّرايا التي بلغ   - يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل (1) على تحقيق ابن القيم في «زاد المعاد» ومن رأي اللّواء الركن محمود شيت خطّاب وتحقيقه- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 عددها ستين «1» ، ولم يكن في كلّها قتال. وقد أريق في جميع هذه الغزوات والسّرايا التي بعثها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقلّ دم عرف في تاريخ الحروب والغزوات، فلم تتجاوز القتلى كلّها 1018 قتيلا من الفريقين، وكانت حاقنة لدماء لا يعلم عددها إلّا الله، عاصمة لنفوس وأعراض لا يحصيها إحصاء، باسطة الأمن في أرجاء الجزيرة حتّى استطاعت الظّعينة «2» أن ترتحل من الحيرة «3» حتّى تطوف بالكعبة، ولا تخاف أحدا إلّا الله «4» ، والمرأة من القادسيّة على بعيرها حتّى تزور البيت لا تخاف «5» بعد ما كانت الجزيرة كلّها كفّة حابل، وشبكة دقيقة من ترات وثارات، وحروب وغارات، لا تمشي فيها قوافل الحكومات الكبيرة إلا بخفارة ساهرة، وبذرقة «6» ماهرة. وكانت هذه الحروب مؤسّسة على الأصلين القرآنيين الحكيمين: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 191] ، ووَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي   - أنّ عددها يبلغ ثمانيا وعشرين (28) غزوة (بحث تاريخ جيش النّبي صلى الله عليه وسلم) . (1) كما حقّقها مؤلف السيرة الشهيرة القاضي محمد سليمان المنصور فوري في الجزء الثاني من كتابه: «رحمة للعالمين» ، وهو مبنيّ على استقراء دقيق [انظر هذا التحقيق النفيس في ترجمته العربية بعنوان «نظرة تحليلية على هذه الغزوات والسرايا» ، في صفحة (457- 470) ] . (2) [الظّعينة: هي الراحلة التي يرحل ويظعن عليها، أي يسار، وقيل للمرأة ظعينة، لأنها تظعن مع الزّوج حيثما ظعن، أو لأنّها تحمل على الرّاحلة إذا ظعنت، وقيل: الظعينة: المرأة في الهودج، ثم قيل للهودج بلا امرأت وللمرأة بلا هودج: ظعينة (النهاية: 3/ 157) ] . (3) [الحيرة: بلد بالعراق خربت (مقدمة فتح الباري: 1/ 109) ] . (4) أخرجه البخاري، [في كتاب المناقب] باب «علامات النبوة» برقم (3595) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه] . (5) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 581. (6) البذرقة- بالذال المعجمة والمهملة-: الخفارة (القاموس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 الْأَلْبابِ [البقرة: 179] ، موفّرة على النوع الإنسانيّ والمجتمع البشريّ قدرا كبيرا من الوقت والجهد في تغيير الأحوال ودرء الأخطار، وكانت خاضعة لآداب خلقية وتعليمات رحيمة جعلتها أشبه بعملية التأديب منها بعملية التعذيب. أمّا بالنسبة إلى نجاح العمليّة وسرعتها فقد استمرّ التوسّع بنسبة 274 ميلا مربعا في ظرف عشر سنوات، ولم يخسر المسلمون فيها إلا بنسبة شخص واحد في الشّهر، وكان أقصى خسائر العدوّ في النفوس 150 شخصا، فلمّا اكتملت السنوات العشر خضع أكثر من مليون ميل مربع للحكم الإسلاميّ «1» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ودّع جيشا، قال: «أوصيكم بتقوى الله، وبمن معكم من المسلمين خيرا، اغزوا باسم الله، في سبيل الله من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تغلّوا، ولا تقتلوا وليدا   (1) مستفاد من كتاب «حديث دفاع» للواء محمد أكبر خان، ص 272. [انظروا إلى مدى نجاح الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ضحى بثمانية عشر وألف رجل فقط لتحقيق المصالح الروحية والخلقية والمادية والقومية التي لم تحقّقها أمة ولا دولة حتى اليوم. دعونا من حروب رجال الدنيا، ولنذكر ما يسمّى بالحروب المقدّسة، فهذه حروب «مها بهارت» (التي وقعت في الهند في القرن السادس قبل المسيح) لا يقلّ عدد المقتولين فيها عن عشرة ملايين نسمة، وكذلك أهلكت الهيئات الدينية والمقدّسة في أوربة نفوسا يربو عددها على مئات الآلاف. وقد ذكر المسترجان وديون بورت في كتابه:) Apology For Mohammad and Quran (أنّ عدد من أعدمته- سيذكره العلّامة المؤلّف أيضا- محاكم التفتيش بلغ اثني عشر مليون نسمة كانوا مسيحيين، قتلوا بأيد مسيحية. ودولة إسبانية وحدها أهلكت ثلاثمئة ألف وأربعين ألفا من المسيحيين، واثنان وثلاثون ألفا منهم أحرقوا أحياء (رحمة للعالمين، للقاضي محمد سليمان سلمان المنصور فوري: ص 469- 475) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 ولا امرأة، ولا كبيرا فانيا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تعقروا نخلا، ولا تقطعوا شجرا، ولا تهدموا بناء» «1» . قارن ذلك بقتلى الحربين العالميتين: الأولى (1914- 1918 م) والثانية (1939- 1945 م) ، فقد ذكر الكاتب المحقّق في «دائرة المعارف البريطانيّة» في هذا الموضوع، أنّ عدد المقتولين في الحرب العالمية الأولى بلغ ستة ملايين وأربعمئة ألف نفس (000، 400، 6) «2» ، وعدد المقتولين في الحرب العالميّة الثانية بين خمسة وثلاثين مليونا وستّين مليون نفس (بين 000، 000، 35 و 000، 000، 60) «3» . ولم تخدم هاتان الحربان- كما يعلم الجميع- مصلحة إنسانية، ولم يستفد منها العالم البشريّ في قليل أو كثير. وقد بلغ عدد ضحايا محاكم التفتيش في أوربة في القرون الوسطى، والاضطهاد الكنسيّ إلى اثني عشر مليون نفس (000، 000، 12) «4» .   (1) رواه الواقدي عن زيد بن أرقم في غزوة مؤتة. (2) دائرة المعارف البريطانية: ج 19، ص 669. (3) ص 1013، (طبعة 1974 م) . [نشرت صحيفة «همدم» الأردوية الصادرة في 17/ من إبريل سنة 1919 م) تعداد قتلى الحرب العالمية المستمرة من سنة 18- 1914 م حسب مايلي: روسية (170) ألف نسمة، وألمانية (160) ألف نسمة، فرنسة (200) ألف نسمة، وإيطالية (460) ألف نسمة، والنمسا (800) ألف نسمة، وبريطانية (800) ألف نسمة، وتركية (250) ألف نسمة، وبلجيكا (102) ألف نسمة، وبلغارية (100) ألف نسمة، ورومانية (100) ألف نسمة، وأمريكة (50) ألف نسمة. المجموع الكلي أكثر من سبعة ملايين نسمة. ويشكّ كاتب المقال ويتساءل: هل دخل عدد قتلى مستعمرات الهند وفرنسة في تعداد إنكليز وفرنسا أم لا؟ ولكنّه يعترف بأنّ عدد الجرحى والأسرى والضائعين لم يدرج في الأعداد المذكورة. (رحمة للعالمين، ص: 496) ] . .John Davenport:Apology For Muhammad and Quran (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 أوّل حجّ في الإسلام: وفرض الحجّ سنة تسع «1» ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا للحجّ هذه السنة، ليقيم للمسلمين حجّهم، والناس من أهل الشّرك على منازلهم من حجّهم «2» وخرج مع أبي بكر من أراد الحجّ من المسلمين في ثلاثمئة رجل من المدينة «3» . ونزلت سورة (براءة) على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليّ بن أبي طالب، فقال له: «اخرج بهذه القصّة من صدر براءة وأذّن في الناس يوم النحر- إذا اجتمعوا بمنى- أنّه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدّته» . فخرج عليّ بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء، حتّى أدرك أبا بكر بالطريق، فلمّا رآه أبو بكر قال: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثمّ مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحجّ، حتّى إذا كان يوم النّحر، قام عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- فأذّن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم «4» .   (1) ذهب بعض العلماء إلى أنّ فرض الحج كان في السنة السادسة من الهجرة، واختاره العلامة الشيخ محمد الخضري في «تاريخ التشريع الإسلامي» ص 52. (2) ابن هشام: ج 2، ص 543. (3) زاد المعاد: ج 2، ص 24. (4) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 543- 546 [هذا الحديث مرسل، وله شواهد كثيرة، منها ما جاء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الترمذي في أبواب تفسير القرآن، سورة التوبة، برقم (3091) ، وقال: حديث حسن غريب، وعند أحمد في المسند (2/ 99) ، وقد ذكر ابن كثير في التفسير (2/ 332- 334) كثيرا من هذه الشواهد] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 خريطة السرايا والغزوات بعد فتح مكة رجب 9 هـ- صفر 11 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 عام الوفود سنة تسع من الهجرة تقاطر الوفود إلى المدينة وأثرها في الحياة: وبعد أن فتح الله مكّة، وعاد نبيّه من تبوك سالما غانما، وكان قد كتب قبل ذلك إلى الملوك والأمراء كتبا دعاهم فيها إلى الإسلام، فلقي من بعضهم الاستجابة الكريمة، ومن بعضهم ردّا رقيقا رفيقا، ووقف بعضهم أمامها خاشعا مترددا، وردّها بعضهم ردّا قبيحا، وتلقّاها بالإهانة والكبر، فلقي عقوبة عاجلة أطاحت بملكه ونفسه، وقد تسامع ذلك العرب كلّهم وتحدّثوا به. وكان لفتح مكّة- عاصمة الجزيرة الروحيّة والاجتماعية- ودخول رؤساء قريش في الإسلام، وسقوط أكبر حصن من حصون المقاومة أمام دين الله، أثر عميق في نفوس المترددين والمتربّصين من العرب، فزال الحاجز بينهم وبين الإسلام، وطويت المسافة بينهم وبين قبوله. قال العلّامة محمد طاهر الفتني (ت 986 هـ) في السّير من كتابه «مجمع بحار الأنوار» : «وهذه السّنة «1» سنة الوفود، فإنّ العرب تربّصوا بالإسلام أمر قريش،   (1) يعني سنة تسع للهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 خريطة عام الوفود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 لأنّهم إمام الناس، وأهل بيت الله، فلمّا دانوا، وفتحت مكة، وأسلمت ثقيف، عرفوا أنه لا طاقة بهم، ووفدت الوفود من كلّ وجه يدخلون في دين الله أفواجا» «1» . فكان لكلّ ذلك أثره الطبيعيّ في النفس، ففتح الطريق للدخول في الإسلام ولقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وتقاطرت وفود هداية واستطلاع إلى مركز الإسلام كأنّها عقد انفرط، فتساقطت لآلئه في حجر الإسلام. وكانت تعود إلى مراكزها تحمل روحا جديدة، وشحنة إيمانية، وحماسا في الدعوة إلى الإسلام، وكراهة شديدة للوثنيّة وآثارها، والجاهليّة وشعائرها. كان من هذه الوفود وفد بني تميم، فيه أشراف قومهم المشهورون، جرت مساجلة بين خطيبهم وشاعرهم، وبين خطيب المسلمين وشاعرهم، ظهر فيها فضل الإسلام وتفوّق خطيبه وشاعره، أقرّ بذلك رؤساؤهم وأسلموا، وأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم «2» . وقدم وفد بني عامر، وقدم ضمام بن ثعلبة وافدا عن بني سعد بن بكر، ورجع إلى قومه داعيا، فكان أوّل ما تكلّم به أن قال: بئست «اللّات» و «العزّى» . قالوا: مه يا ضمام! اتّق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون. وقال: ويلكم! إنّهما والله لا يضرّان ولا ينفعان، إنّ الله قد بعث رسولا، ونزّل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وحده   (1) مجمع بحار الأنوار: ج 5، ص 272. (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 560- 568. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فما أمسى من ذلك اليوم في حيّه رجل ولا امرأة إلا مسلما «1» . وقدم وفد بني حنيفة، معهم مسيلمة الكذّاب، وأسلم، وارتدّ، وتنبّأ، وتكذّب لهم، وكان مثير فتنة الرّدة، وقتل فيها «2» . وقدم وفد بني طيىء، وفيهم زيد الخيل- الفارس المشهور- وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم «زيد الخير» وحسن إسلامه. وقدم عديّ بن حاتم- ابن الجواد المشهور- وأسلم بعد ما رأى أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواضعه، حتّى قال: والله ما هذا بأمر ملك. وقدم وفد من بني زبيد، وفيهم فارس العرب المشهور عمرو بن معد يكرب، ووفد كندة فيهم الأشعث بن قيس، ووفد من الأزد، ورسول ملوك حمير بكتابهم يخبرون فيه بإسلامهم. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى إلى اليمن، للدعوة إلى الإسلام، وأوصاهما، وقال: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا» «3» .   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 574 [أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ما جاء في العلم، برقم (63) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام، برقم (12) ، والنسائي في كتاب الصيام، باب وجوب الصيام، برقم (2093) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد، برقم (486) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (2) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة..، برقم (4373) ، ومسلم في كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (2273) ، والترمذي في أبواب الرؤيا، باب ما جاء في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في الميزان والدلو، برقم (2292) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . (3) أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، في كتاب المغازي، باب: بعث معاذ وأبي موسى إلى اليمن، [برقم (4341) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وبعث فروة بن عمرو الجذاميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه، وكان عاملا للروم على العرب في «معان» وما حولها من أرض الشام. وأسلم بنو الحارث بن كعب ب «نجران» على يد خالد بن الوليد، وأقام فيهم خالد يعلّمهم الإسلام، وأقبل خالد ومعه وفد بني الحارث وعادوا إلى بلادهم، فبعث إليهم عمرو بن حزم ليفقّههم في الدين، ويعلّمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم. وقدم وفد همدان «1» . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة، فكسر «اللّات!» ، ثمّ علا أعلى سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا، حتّى سوّوها بالأرض، وأقبل الوفد حتّى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمده «2» . وقدم وفد عبد القيس، ورحّب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم ونهاهم عن الأوعية التي يسرع فيها الإسكار، سدا للذرائع، ولأنّهم كانوا يكثرون منها «3» . وقدم وفد الأشعريين وأهل اليمن، وكانوا يرتجزون: [من مجزوء الرجز]   - التنفير، برقم (1733) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه] . (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 575- 596. (2) سيرة ابن كثير: ج 4، ص 62- 63. (3) زاد المعاد: ج 2، ص 28، الحديث في الصحيحين عن ابن عباس [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان، برقم (53) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة..، برقم (13) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 غدا نلقى الأحبّه ... محمدا وحزبه «1» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاكم أهل اليمن، هم أرقّ أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانيّة» «2» . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أهل اليمن، يدعوهم إلى الإسلام في نفر من المسلمين، فأقاموا ستة أشهر، يدعوهم خالد إلى الإسلام، فلم يجيبوه، ثمّ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعا، فكتب عليّ- رضي الله عنه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بإسلامهم، فلمّا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خرّ ساجدا ثمّ رفع رأسه، وقال: «السّلام على همدان، السلام على همدان» «3» . وقدم وفد مزينة في أربعمئة رجل. وقدم وفد نصارى نجران وهم ستون راكبا، منهم أربعة وعشرون رجلا من أشرافهم، فيهم أبو حارثة- أسقفهم وحبرهم- وكانت ملوك الروم قد شرّفوه، وموّلوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، ونزلت فيهم آيات كثيرة من القرآن «4» .   (1) زاد المعاد: ص 32 [وأخرجه أحمد في المسند (3/ 105) ، والبيهقي في «الدلائل» (5/ 351) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (2) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي] باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، [برقم (4388) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه..، برقم (52) ، وأحمد في المسند (2/ 235) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . (3) زاد المعاد: ج 2، ص 33 [أخرجه البيهقي في السنن (2/ 369) برقم (3747) ، والروياني في المسند (1/ 219) برقم (305) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه] . (4) اقرأ للتفصيل «زاد المعاد» ج 2، ص 35- 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران كتابا، يدعوهم فيه إلى الإسلام، فلمّا قرؤوه بعثوا وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم وسألوه، ونزلت في جواب أسئلتهم آيات كثيرة من سورة آل عمران، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباهلهم «1» ، وأبى شرحبيل ذلك وخاف، فلمّا كان من الغد أتوه، فكتب لهم كتابا، وضرب عليهم الخراج «2» ، وبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجرّاح، وقال: «هذا أمين هذه الأمة» «3» . وقدم وفد تجيب، وسرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرم منزلهم، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسّنن فازداد بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم، وأقاموا أياما، ولم يطيلوا اللّبث فقيل لهم: وما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى من وراءنا، فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامنا إيّاه، وما ردّ علينا، وانطلقوا راجعين، ثمّ وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم ب «منى» سنة عشر «4» . وكان من ضمن الوفود وفد بني فزارة، ووفد بني أسد، ووفد بهراء، ووفد عذرة، وأسلموا، وبشّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الشّام ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، وأخبرهم أن ليس عليهم إلّا الأضحية.   (1) [باهل يباهل مباهلة، من باب المفاعلة: وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منّا] . (2) زاد المعاد: ص 37. (3) سيرة ابن كثير، ج 4، ص 100، وأخرجه البخاري مختصرا [في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح..، برقم (3745) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي عبيدة ... ، برقم (2420) ، وغيرهما من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه] . (4) زاد المعاد: ج 2، ص 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 ووفد بلي، ووفد ذي مرّة، ووفد خولان، وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنم لخولان «1» ، الذي كانوا يعبدونه، قالوا: أبشر، بدّلنا الله به ما جئت به، وقد بقيت منّا بقايا من شيخ كبير، وعجوز كبيرة، متمسّكون به ولو قدمنا عليه لهدمناه إن شاء الله «2» . وقدم وفد محارب، ووفد غسّان، وغامد، ووفد النّخع «3» . وكانت الوفود تتعلّم الإسلام، وتتفقّه في الدّين، ويشهدون أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعشرة أصحابه، وقد تضرب لهم خيام في فناء المسجد، فيسمعون القرآن، ويرون المسلمين يصلّون، ويسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّا يجول في خاطرهم في بساطة وصراحة، ويجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلاغة وحكمة، ويستشهد بالقرآن، فيؤمنون، ويطمئنّون. بين وثنيّ جاهل وبين نبيّ معلّم: وهذا حديث دار بين كنانة بن عبد ياليل وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنانة: أفرأيت الزّنى، فإنّا قوم نعتزب، ولا بدّ لنا منه؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو عليكم حرام، وإنّ الله تعالى يقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] » . كنانة: أفرأيت الرّبا فإنّه أموالنا كلّها؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكم رؤوس أموالكم، إنّ الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا   (1) زاد المعاد: ص 44- 47. (2) المصدر السابق: ص 47. (3) المصدر السابق: ص 47- 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 خريطة سرايا تكسير الأصنام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] » . كنانة: أفرأيت الخمر فإنها عصير أرضنا لا بدّ لنا منها؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله قد حرّمها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] » . كنانة: أفرأيت الرّبّة «1» ، ما نصنع بها؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اهدموها» . كنانة وقومه: لو تعلم الرّبّة أنّك تريد هدمها لقتلت أهلها. وهنا تدخّل عمر بن الخطاب في الحديث، فقال: ويحك يا بن عبد يا ليل، ما أجهلك! إنما الرّبّة حجر. كنانة وقومه: إنّا لم نأتك يا بن الخطاب، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تولّ أنت هدمها، فأمّا نحن فإنّا لا نهدمها أبدا. رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها» وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجوع، وأكرمهم وحيّاهم. وقالوا: يا رسول الله، أمّر علينا رجلا يؤمّنا من قومنا، فأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان أصغرهم سنّا، لما رأى من حرصه على الإسلام، وكان قد تعلّم سورا من القرآن قبل أن يخرج «2» . وكان عام الوفود عام القضاء على نفوذ الوثنيّة، وتصفية الوجود الوثنيّ في جزيرة العرب.   (1) [الرّبة: يعني اللّات، وهي الصّخرة التي كانت تعبدها ثقيف بالطّائف] . (2) زاد المعاد: ج 2، ص 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 فرض الزكاة والصدقات: وفي السنة التاسعة للهجرة «1» بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه وعمّاله على الصّدقات إلى كلّ ما دخل فيه الإسلام من البلدان.   (1) المرجّح أنّ فرض الزكاة كان في السنة الخامسة، قال الحافظ ابن حجر: «وما يدلّ على أنّ فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث النّبي صلى الله عليه وسلم في قصة ضمام بن ثعلبة، وكان قدوم ضمام سنة خمس، وأن الذي وقع في التاسعة هو بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعي تقدّم فرضية الزكاة قبل ذلك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 خريطة حجة الوداع والطريق الذي سلكه النبيّ صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 حجّة الوداع سنة عشر من الهجرة حجة الوداع وأوانها: ولمّا تمّ ما أراده الله من تطهير نفوس الأمّة من شوائب الوثنيّة، وعادات الجاهليّة، وإنارتها بنور الإيمان، وإشعال مجامرها بالحبّ والحنان، وتمّ ما أراده الله، من تطهير بيته من الرّجس والأوثان، وتاقت نفوس المسلمين الذين بعد عهدهم عن حجّ البيت، وطفحت كأس الحبّ والحنان، حتّى فاضت ودنت ساعة الفراق، وألجأت الضّرورة إلى وداع الأمة، آذن الله لنبيّه في الحجّ، ولم يكن قد حجّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الإسلام. قيمتها البلاغية والتربوية: فخرج من المدينة ليحجّ البيت، ويلقى المسلمين، ويعلّمهم دينهم ومناسكهم، ويؤدّي الشهادة، ويبلّغ الأمانة، ويوصي الوصايا الأخيرة، ويأخذ من المسلمين العهد والميثاق، ويمحو آثار الجاهليّة، ويطمسها ويضعها تحت قدميه. وكانت هذه الحجّة تقوم مقام ألف خطبة وألف درس، وكانت مدرسة متنقّلة ومسجدا سيّارا، وثكنة جوالة، يتعلّم فيها الجاهل وينتبه الغافل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وينشط فيها الكسلان، ويقوى فيها الضعيف، وكانت سحابة رحمة تغشاهم في الحلّ والتّرحال، وهي سحابة صحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحبّه وعطفه، وتربيته وإشرافه. تسجيل دقائق حجّة النبيّ: وقد سجّل الرّواة العادلون من الصحابة كلّ دقيقة من دقائق هذه الرحلة، وكلّ حادث من حوادثها الصغيرة، تسجيلا لا يوجد له نظير في رحلات الملوك والعظماء، والعلماء والنبغاء «1» . سياق حجّته صلى الله عليه وسلم إجماليا: ونحن نلخّص «2» هذه الحجّة التي سمّيت ب «حجّة الوداع» و «حجّة البلاغ» و «حجّة التّمام» ، وكانت كلّ ذلك أو أكثر، وحجّ معه أكثر من مئة ألف إنسان «3» . كيف حجّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجّ، وأعلم الناس أنّه حاجّ، فتجهّزوا وذلك في شهر ذي القعدة سنة عشر للخروج معه، وسمع بذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحجّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافاه في الطريق خلائق   (1) اقرأ كتاب «حجة الوداع وجزء عمرات النّبي صلى الله عليه وسلم» للعلامة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي وتقديمه بقلم كاتب هذه السطور (طبع المكتب الإسلامي بيروت) . (2) اعتمدنا في هذا التلخيص على كتاب «زاد المعاد» النفيس للعلامة ابن قيم الجوزية المتوفى عام 751 هـ، وقد استوعب الموضوع رواية وتاريخا وفقها. (3) روي عددهم من مئة وأربعة عشر ألفا إلى مئة وثلاثين ألفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 لا يحصون، فكانوا من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله مدّ البصر. وخرج من المدينة نهارا بعد الظهر لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت، بعد أن صلّى الظهر بها أربعا، وخطبهم قبل ذلك خطبة علّمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه. ثم سار وهو يلبّي، ويقول: «لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك» والناس معه يزيدون وينقصون، وهو يقرّهم، ولا ينكر عليهم، ولزم تلبيته، ثمّ سار حتّى نزل ب «العرج» «1» وكانت زاملته وزاملة «2» أبي بكر واحدة. ثم مضى حتّى أتى «الأبواء» «3» فوادي «عسفان» «4» في «سرف» «5» ، ثمّ نهض إلى أن نزل ب «ذي الطّوى» «6» ، فبات بها ليلة الأحد، لأربع خلون من ذي الحجّة، وصلّى بها الصبح، ثمّ اغتسل من يومه، ونهض إلى مكّة، فدخلها نهارا من أعلاها، ثمّ سار، حتّى دخل المسجد، وذلك ضحى، فلمّا نظر إلى البيت قال: «اللهمّ زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة» ويرفع يديه ويكبّر، ويقول: «اللهمّ أنت السّلام، ومنك السّلام، حيّنا ربّنا بالسّلام» .   (1) [العرج: قرية جامعة على طريق مكّة من المدينة] . (2) [الزاملة: هي البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزمل، وهو الحمل] . (3) [الأبواء: جبل بين مكّة والمدينة، وعنده بلد ينسب إليه] . (4) [عسفان: قرية جامعة بين مكّة والمدينة] . (5) [سرف: قرية على ستة أميال من مكة من طريق مر، وقيل سبعة وتسعة واثنا عشر، وليس بجامع اليوم (معجم ما استعجم) ] . (6) [الطّوى: موضع عند باب مكّة يستحبّ لمن دخل مكّة أن يغتسل به (النهاية: 3/ 147) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 ولمّا دخل المسجد عمد إلى البيت، فلمّا حاذى الحجر الأسود، استلمه، ولم يزاحم عليه، ثمّ أخذ عن يمينه، وجعل البيت عن يساره، ورمل في طوافه هذا ثلاثة الأشواط الأول، وكان يسرع في مشيه، ويقارب بين خطاه، واضطبع بردائه، فجعله على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الآخر ومنكبه، وكلّما حاذى الحجر الأسود أشار إليه، واستلمه بمحجنه «1» . فلمّا فرغ من طوافه، جاء إلى خلف المقام، فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] فصلّى ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته، أقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثمّ خرج إلى الصّفا من الباب الذي يقابله، فلمّا قرب منه قرأ: «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به» ، ثمّ رقي عليه، حتّى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحّد الله وكبّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» . وأقام بمكّة أربعة أيام: يوم الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فلمّا كان يوم الخميس ضحى، توجّه بمن معه من المسلمين إلى منى، فنزل بها، وصلّى بها الظهر والعصر، وبات بها، وكان ليلة الجمعة، فلمّا طلعت الشمس، سار منها إلى عرفة، ووجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتّى إذا زالت الشمس، أمر بناقته القصواء، فرحّلت، ثمّ سار، حتّى أتى بطن الوادي من أرض عرفة، فخطب الناس- وهو على راحلته- خطبة عظيمة قرّر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشّرك والجاهلية، وقرّر فيها تحريم المحرّمات التي اتّفقت الملل على تحريمها، وهي الدماء والأموال والأعراض، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه، ووضع ربا الجاهلية   (1) [المحجن: عصا معقّفة الرّأس كالصّولجان] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 كلّه، وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيرا، وذكر الحقّ الذي لهنّ وعليهنّ، وأنّ الواجب لهنّ الرزق والكسوة بالمعروف. وأوصى الأمّة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنّهم لن يضلّوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبر أنّهم مسؤولون عنه، واستنطقهم بماذا يقولون وبماذا يشهدون؟ قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت، فرفع إصبعه إلى السّماء واستشهد الله عليهم ثلاث مرّات، وأمرهم أن يبلّغ شاهدهم غائبهم، فلمّا أتمّ الخطبة، أمر بلالا فأذّن ثم أقام الصلاة، فصلّى الظهر ركعتين، ثمّ أقام فصلّى العصر ركعتين أيضا، وكان يوم الجمعة. فلمّا فرغ من صلاته ركب حتّى أتى الموقف، فوقف وكان على بعيره، فأخذ في الدعاء والتضرّع والابتهال إلى غروب الشمس، وكان في دعائه رافعا يديه إلى صدره، كاستطعام المسكين، يقول فيهم: «اللهمّ! إنّك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سرّي وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق، المقرّ المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذّليل، وأدعوك دعاء الخائف الضّرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذلّ جسده، ورغم أنفه لك، اللهمّ! لا تجعلني بدعائك ربّ شقيّا، وكن لي رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين» «1» . وهنالك أنزلت عليه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] ، فلمّا غربت الشمس، أفاض من عرفة،   (1) [أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 174) برقم (11405) ، والصغير (2/ 15) ، برقم (696) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي إسناده يحيى بن صالح الأيلي، روي عنه مناكير] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وأردف أسامة بن زيد خلفه، وأفاض بالسكينة، وضمّ إليه زمام ناقته، حتّى إنّ رأسها ليصيب طرف رحله، وهو يقول: «أيّها الناس، عليكم بالسّكينة» «1» . وكان يلبّي في مسيره ذلك، لا يقطع التلبية حتّى أتى المزدلفة، وأمر المؤذّن بالأذان فأذّن، ثمّ أقام، فصلّى المغرب قبل حطّ الرحال وتبريك الجمال، فلمّا حطّوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة، ثمّ صلّى العشاء، ثمّ نام، حتّى أصبح. فلمّا طلع الفجر صلّاها في أوّل الوقت، ثمّ ركب حتّى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، وأخذ في الدعاء والتضرّع، والتكبير والتهليل والذكر، حتّى أسفر جدا، وذلك قبل طلوع الشمس. ثمّ سار من مزدلفة، مردفا للفضل بن عباس، وهو يلبّي في مسيره، وأمر ابن عباس أن يلتقط له حصى الجمار سبع حصيات، فلمّا أتى بطن محسّر حرّك ناقته، وأسرع السير، فإنّ هنالك أصاب أصحاب الفيل العذاب، حتّى أتى منى، فأتى جمرة العقبة، فرماها راكبا بعد طلوع الشمس، وقطع التلبية. ثمّ رجع إلى منى، فخطب الناس خطبة بليغة، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وتحريمه، وفضله عند الله، وحرمة مكّة على جميع البلاد، وأمر   (1) [أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة..، برقم (1671) ، ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب إدامة الحاج التلبية..، برقم (1282) ، وأبو داود في كتاب المناسك، باب الدفعة من عرفة، برقم (1920) ، والنّسائي في مناسك الحج، باب فرض الوقوف بعرفة، برقم (3021) ، وأحمد في المسند (5/ 201) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 بالسّمع والطّاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه، وأمر الناس ألا يرجعوا بعده كفارا، يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمر بالتبليغ عنه، وقال في خطبته تلك: «اعبدوا ربّكم، وصلّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنّة ربّكم» ، وودّع الناس حينئذ فقالوا: «حجّة الوداع» . ثمّ انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سنيّ عمره، ثمّ أمسك وأمر عليّا أن ينحر ما بقي من المئة. فلمّا أكمل صلى الله عليه وسلم نحره استدعى بالحلّاق، فحلق رأسه، وقسم شعره بين من يليه. ثمّ أفاض إلى مكة راكبا، وطاف طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة، ثمّ أتى زمزم، فشرب وهو قائم. ثمّ رجع إلى منى من يومه ذلك، فبات بها، فلمّا أصبح انتظر زوال الشمس، فلمّا زالت مشى من رحله إلى الجمار، فبدأ بالجمرة الأولى، ثمّ الوسطى، ثمّ الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة. وخطب الناس بمنى خطبتين: خطبة يوم النّحر، وقد تقدّمت، والخطبة الثانية في ثاني يوم النحر. وتأخّر حتّى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، ثمّ نهض إلى مكّة، فطاف للوداع ليلا سحرا، وأمر الناس بالرحيل، وتوجّه إلى المدينة «1» .   (1) ملخّصا من «زاد المعاد» ومقتبسا منه، ج 1، ص 180- 249، بحذف المباحث التي توسّع فيها المؤلف وأفاض، ومواضع الخلاف بين الفقهاء والمحدّثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 ولمّا وصل إلى غدير خمّ «1» ، خطب صلى الله عليه وسلم وذكر فيها فضل عليّ- رضي الله عنه- وقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ! وال من والاه، وعاد من عاداه» «2» . فلمّا أتى «ذا الحليفة» بات بها، فلمّا رأى المدينة، كبّر ثلاث مرّات، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، آيبون تائبون، عابدون، ساجدون، لربّنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، ثمّ دخلها نهارا «3» . خطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع: ونذكر هنا نصّ الخطبة التي خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، ونصّ الخطبة التي خطبها في أوسط أيام التشريق، للموعظة البليغة، والفوائد الكثيرة التي تشتملان عليها هاتان الخطبتان العظيمتان. فقال في خطبة عرفة: «إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.   (1) غدير بين مكة والمدينة، بينه وبين الجحفة ميلان. (2) السيرة النبوية: لابن كثير: ج 4، ص 415- 416) : نقلا عن الإمام أحمد والنسائي [أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 118) برقم (4576) ، وابن حبان في الصحيح (15/ 376) برقم (6931) ، والنسائي في السنن الكبرى (5/ 130) برقم (8464) ، وأحمد في المسند (4/ 368) وغيرهم من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه] . وسبب ذلك أن بعض الناس كانوا قد اشتكوا عليا وعتبوا عليه، وتكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا، وتضييقا وبخلا، والصواب كان مع عليّ في ذلك. (3) زاد المعاد: ج 1، ص 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ألا كلّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع، ودماء الجاهليّة موضوعة، وإنّ أوّل دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضع من ربانا ربا العبّاس بن عبد المطلب، فإنّه موضوع كلّه. فاتّقوا الله في النساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، ولكم عليهنّ ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربا غير مبرّح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عنّي، فماذا أنتم قائلون؟» . قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السّماء وينكبها إلى الناس: «اللهمّ اشهد» ثلاث مرّات «1» . [ نص خطبة النبي ص ] وهذا نصّ الخطبة التي خطبها صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق: «يا أيّها الناس! هل تدرون في أيّ شهر أنتم؟ وفي أيّ يوم أنتم؟ وفي أيّ بلد أنتم؟» .   (1) أخرجه مسلم [في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (1218) ] وأبو داود [في كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (1905) ] وغيرهما عن جابر رضي الله عنه، [وأخرجه البخاري في كتاب المغازي. باب حجة الوداع، برقم (4406) ، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين، برقم (1679) ، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه الترمذي في أبواب تفسير القرآن، سورة التوبة، برقم (3087) ، وابن ماجه في أبواب المناسك، باب الخطبة يوم النحر، برقم (3055) من حديث عمرو بن الأحوص] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 فقالوا: في يوم حرام، وبلد حرام، وشهر حرام. قال: «فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، وفي بلدكم هذا، إلى يوم تلقونه» . ثمّ قال: «اسمعوا منّي تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنّه لا يحلّ مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه. ألا! وإنّ كلّ دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدميّ هذه، إلى يوم القيامة، وإنّ أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل. ألا وإنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع، وإنّ الله عزّ وجلّ قضى أنّ أوّل ربا يوضع ربا العبّاس بن عبد المطّلب، لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون. ألا وإنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، ثمّ قرأ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36] . ألا لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض. ألا إنّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلّون، ولكنّه في التحريش بينكم، واتّقوا الله في النساء، فإنهنّ عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، إنّ لهن عليكم حقا، ولكم عليهنّ حقا ألّا يوطئن فرشكم أحدا غيركم، ولا يأذنّ في بيوتكم لأحد تكرهونه، فإن خفتم نشوزهنّ، فعظوهنّ، واهجروهنّ في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرّح، ولهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، وإنّما أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 عزّ وجلّ، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها» . وبسط يديه، وقال: «ألا هل بلّغت؟! ألا هل بلّغت؟!» . ثمّ قال: «ليبلّغ الشاهد الغائب، فإنّه ربّ مبلّغ أسعد من سامع» «1» .   (1) أخرجه الإمام أحمد في المسند [5/ 73] عن أبي حرة الرقاشي عن عمّه، وقال الهيثمي في المجمع (3/ 266) : رواه أحمد، وأبو حرة الرقاشي وثّقه أبو داود وضعّفه ابن معين، وفيه عليّ بن زيد وفيه كلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 الوفاة ربيع الأول السّنة الحادية عشرة للهجرة كمال مهمّة التبليغ والتشريع ودنوّ ساعة اللقاء: ولمّا بلغ هذا الدين ذروة الكمال، ونزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] . وبلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة، وأدّى الأمانة، وجاهد في الله حقّ جهاده، وربّى أمّة تقلّدت مهامّ النبوّة ومسؤولياتها، من غير نبوّة، وكلّفت النهوض بالدعوة، وصيانة الدين من التحريف، فقال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] . وضمن الله لهذا القرآن الذي هو أساس هذا الدين، ومصدر الإيمان واليقين، بالبقاء والنّقاء، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] . وأقرّ الله عين نبيّه بدخول الناس في هذا الدّين أفواجا، وبدت طلائع انتشاره في العالم، وظهوره على الأديان كلّها. فقال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر: 1- 3] مدارسة القرآن ومضاعفة اعتكاف رمضان: وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعتكف في كلّ رمضان عشرة أيام، فلمّا كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين «1» . وكان جبريل يلقاه في كلّ ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، ولكنّه صلى الله عليه وسلم قال ذلك العام: «إنّه عارضني العام مرّتين، ولا أراه إلّا حضر أجلي» «2» . أذن الله لنبيّه باللقاء الذي لم يكن أحد أشدّ شوقا له منه، وقد أحبّ الله لقاءه كما هو أحبّ لقاءه. وقد هيّأ الله الصحابة- رضي الله عنهم- الذين لم يكن أحد أشدّ حبّا له منهم، لسماع نبأ وفاته، واحتمال فراقه الذي لم يكن بدّ منه، مهما تأخّرت ساعة الفراق، ففوجئوا بنبأ شهادته في معركة أحد، ثمّ تحقّق أنّه كان إرجافا من الشيطان، وأنّ الله ممتّعهم بحياة نبيّهم إلى حين، ولكن لا بدّ من وقوع هذا الحادث، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] . فكان المسلمون- الذين أحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربيتهم، وربط قلوبهم بالله تعالى، وشغلهم بتبليغ رسالة الإسلام إلى أقصى الحدود وأبعد الأمم،   (1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتكاف، باب «الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان» [برقم (2044) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . (2) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب «علامات النبوة» [رقم الحديث (3624) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل فاطمة رضي الله عنها، رقم الحديث (2450) من حديث عائشة رضي الله عنها] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده- على يقين بأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مودّعهم في يوم من الأيام، ومفارق لهذا العالم الفاني، وراجع إلى ربّه، ليجزيه الجزاء الأوفى، فلمّا نزلت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فهم منها الصحابة أنّه إيذان بدنوّ ساعة الفراق، فقد تمّت المهمّة، وجاء نصر الله والفتح «1» . وقد استشعر كبار الصحابة وفاته حين نزلت الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «2» . الشوق إلى لقاء الله وتوديع الدّنيا: وقد ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما عاد من حجّة الوداع التي أشار فيها إلى دنوّ أجله «3» ، ما يدلّ على التأهّب للسفر، واللحوق بالرفيق الأعلى، فصلّى على قتلى أحد، كأنّه مودّع أصحابه عن قريب- بعد ثماني سنين- كالمودّع للأحياء والأموات، ثمّ طلع المنبر، فقال: «إنّي بين أيديكم فرط «4» ، وأنا عليكم شهيد، وإنّ موعدكم الحوض، وإنّي لأنظر إليه من مقامي هذا، وإنّي   (1) يقول ابن عباس: «هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له» ، وروى الإمام أحمد. [1/ 449] بسند عن ابن عباس، قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعيت إليّ نفسي» [وأخرجه عبد الرزاق في المصنّف (11/ 318) برقم (20646) ، والطبراني في الكبير (10/ 67) برقم (9970) ، وأحمد في المسند (1/ 449) من حديث عبد الله بن مسعود] . راجع تفسير ابن كثير. (2) راجع «السيرة النبوية» لابن كثير: ج 4، ص 427. (3) أخرج مسلم في صحيحه [في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة..، برقم (1297) ] عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند جمرة العقبة وقال لنا: «خذوا عني مناسككم فلعلّي لا أحجّ بعد عامي هذا» . (4) [فرط: يقال: فرط يفرط، فهو فارط وفرط؛ إذا تقدّم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء، ويهيّىء لهم الدّلاء والأرشية] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنّي لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم الدّنيا أن تنافسوا فيها فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم» «1» . شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقد ابتدأت شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شهر صفر «2» سنة 11 للهجرة، وكان مبدأ ذلك أنّه صلى الله عليه وسلم خرج إلى «بقيع الغرقد» «3» من جوف الليل، فاستغفر لهم، ثمّ رجع إلى أهله، فلمّا أصبح ابتدىء بوجعه من يومه ذلك «4» . قالت عائشة أمّ المؤمنين- رضي الله عنها-: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه، فقال: «بل أنا، والله يا عائشة وا رأساه «5» » واشتدّ به وجعه، وهو في بيت ميمونة رضي الله عنها- فدعا نساءه، فاستأذنهنّ في أن يمرّض في بيت عائشة، فأذنّ له، وخرج يمشي بين رجلين من أهله، أحدهما الفضل بن عبّاس، والآخر عليّ بن أبي طالب، عاصبا رأسه، تخطّ قدماه، حتّى دخل بيت عائشة رضي الله عنها «6» .   (1) حديث متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، برقم (1344) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته، برقم (2296) ، والنسائي في كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، برقم (1956) ، وأحمد في المسند (4/ 149) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه] . (2) على القول الراجح وتتبع الأحاديث، والمرجح أنه كان يوم الإثنين. (3) [بقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة، سمّي لأنه كان فيه غرقد وقطع، والغرقد: ضرب من شجر العضاه وشجر الشّوك] . (4) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 642، وابن كثير: ج 4، ص 443. (5) المصدر السابق: ج 2، ص 633. (6) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، برقم (4442) ، - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 تقول عائشة- رضي الله عنها-: وكان يقول في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة! ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت ب «خيبر» فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري «1» من ذلك السّمّ» «2» . آخر البعوث: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشّام، وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء و «الدّاروم» «3» من أرض فلسطين. وانتدب كثير من الكبار من المهاجرين والأنصار في جيشه، كان من أكبرهم عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتدّ به المرض، وجيش أسامة مخيّم ب «الجرف» «4» وأنفذ أبو بكر جيش أسامة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيقا لرغبته وإكمالا لمراده. الاهتمام ببعث أسامة: واستبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه، فخرج عاصبا رأسه، حتّى جلس على المنبر، وقد كان الناس قالوا في إمرة   - ومسلم في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام من يصلّي بالناس..، برقم (418) ، وأحمد في المسند (6/ 117) ] . (1) أبهر: عرق مستبطن بالصلب يتصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه. (2) أخرجه البخاري معلّقا، في كتاب المغازي باب «مرض النّبي صلى الله عليه وسلم ووفاته» [برقم (4428) ] أسنده الحافظ البيهقي عن الحاكم عن الزهري به (راجع ابن كثير، ج 4، ص 449) . (3) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 642. (4) السيرة النبوية: لابن كثير: ج 4، ص 441 [وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد..، برقم (4468) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل زيد بن حارثة، وابنه أسامة رضي الله عنهما، برقم (2426) ، والترمذي في أبواب المناقب، باب مناقب أسامة بن زيد رضي الله عنه، برقم (3814) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 خريطة آخر بعوث النبي صلى الله عليه وسلم جيش أسامة بن زيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 أسامة: أمّر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهل له، ثمّ قال: «أيّها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقا لها» ثمّ نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسرع الناس في جهازهم، وثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، خرج أسامة بجيشه حتّى نزلوا «الجرف» من المدينة على فرسخ، فضرب به عسكره، حتّى تتامّ إليه الناس. وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام أسامة والناس ينظرون ما الله قاض في رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . وأوصى المسلمين في مرضه أن يجيزوا الوفد بنحو ممّا كان يجيزهم، وألّا يتركوا في جزيرة العرب دينين، قال: «أخرجوا منها المشركين» «2» . دعاء للمسلمين وتحذير لهم عن العلو والكبرياء: وفي يوم من أيام شكواه اجتمع نفر من المسلمين في بيت عائشة، فرحّب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيّاهم، ودعا لهم بالهدى والنّصر والتوفيق، وقال: «أوصيكم بتقوى الله وأوصى الله بكم، وأستخلفه عليكم، إنّي لكم منه نذير مبين، ألّا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإنّ الله قال لي ولكم: تِلْكَ   (1) سيرة ابن هشام: ق 2، ص 650، وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة زيد بن حارثة» [برقم (4250) ] وفيه: أن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايم الله لقد كان خليقا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليّ وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده» [وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل زيد بن حارثة..، برقم (2426) ، وابن حبان في الصحيح (15/ 535) برقم (7059) ، وأحمد في المسند (2/ 20) ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما] . (2) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي] ، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، برقم (4431) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] ، وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 60] » . زهد في الدّنيا وكراهية لما فضل من المال: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة ما فعلت بالذّهب؟» فجاءت ما بين الخمسة إلى السبعة أو الثمانية أو التسعة، فجعل يقلّبها بيده، ويقول: «ما ظنّ محمّد بالله عزّ وجلّ، لو لقيه وهذه عنده، أنفقيها» «1» . اهتمام بالصلاة وإمامة أبي بكر: وثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: «أصلّى الناس؟» . قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: «ضعوا لي ماء في المخضب» «2» ، ففعلوا، فاغتسل ثمّ ذهب لينوء «3» ، فأغمي عليه، ثمّ أفاق، فقال: «أصلّى الناس؟» قالوا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بأن يصلّي بالناس، وكان أبو بكر رجلا رقيقا، فقال: يا عمر صلّ بالناس، فقال: أنت أحقّ بذلك منّي، فصلّى بهم تلك الأيام. ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفّة، فخرج بين رجلين، أحدهما العباس،   (1) [أخرجه ابن حبان في الصحيح (8/ 8) برقم (3212) ، وأحمد في المسند (6/ 49 و 186) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (2) [المخضب: شبه المركن، وهي إجّانة تغسل فيها الثياب] . (3) [لينوء: أي لينهض بجهد] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 والآخر عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنهما- لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخّر فأومأ إليه ألا يتأخّر، وأمرهما، فأجلساه إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلّي قائما، وهو يأتم بصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاة أبي بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد «1» . وعن أمّ الفضل بنت الحارث، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا، ثمّ ما صلّى لنا بعدها، حتّى قبضه الله «2» . خطبة الوداع: وكان فيما تكلّم «3» به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس على المنبر، عاصبا رأسه: «إنّ عبدا من عباد الله، خيّره الله بين الدّنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله» ، وفهم أبو بكر معنى هذه الكلمة، وعرف أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني   (1) [أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتمّ به، برقم (687) ، ومسلم في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام..، برقم (418) ، والنسائي في كتاب الإمامة، باب الائتمام بالإمام يصلّي قاعدا، برقم (834) وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها] . (2) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي] باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، برقم (4429) ، ومسلم في كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح، برقم (462) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب قدر القراءة في المغرب، برقم (810) من حديث أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها] . (3) يدلّ التتبع للأحاديث أنها كانت الخطبة الأخيرة، وقد ذهب الحافظ ابن حجر إلى أنها كانت يوم الخميس قبل الوفاة بخمسة أيام، والمرجح أن هذه الصلاة كانت صلاة الظهر، وكل ما روي من خطب مختلفة في فضل أبي بكر رضي الله عنه، وسد الأبواب النافذة في المسجد إلا خوخة أبي بكر، وفضل الأنصار والوصية لهم، قطع من هذه الخطبة، رواها الصحابة مفردة، وكانت هذه الصلاة، الصلاة الأخيرة التي صلاها النّبي صلى الله عليه وسلم جماعة وهو إمام، ولم يحضر صلاة المسلمين في المسجد بعد هذه الصلاة، وبذلك تجمع الأقوال والروايات المختلفة (مستفاد من «أصح السير» للشيخ عبد الرؤوف الدّانا بوري رحمه الله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 نفسه، فبكى، وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا. فقال: «على رسلك يا أبا بكر! إنّه ليس من الناس أحد أمنّ عليّ في نفسه وماله من أبي بكر، ولو كنت متّخذا من الناس خليلا لا تّخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلّة الإسلام أفضل» «1» . وقال: «سدّوا عنّي كلّ خوخة «2» في المسجد، غير خوخة أبي بكر» «3» . وصية الأنصار: وكان أبو بكر والعباس- رضي الله عنهما- مرّا بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النّبي صلى الله عليه وسلم منا، وأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر «4» ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله، ثمّ أثنى عليه، ثمّ قال: «أوصيكم بالأنصار فإنّهم كرشي وعيبتي «5» ، وقد قضوا الذي عليهم،   (1) أخرجه البخاري [في كتاب الصلاة] باب: الخوخة والممر في الصلاة، [برقم (466) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، برقم (2382) ، والترمذي في أبواب المناقب، باب مناقب أبي بكر رضي الله عنه..، برقم (3661) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه] . (2) [الخوخة: باب صغير، كالنّافذة الكبيرة، وتكون بين بيتين ينصب عليها باب] . (3) صحيح البخاري: كتاب الصلاة، باب الخوخة والممر في الصلاة [قد سبق تخريجه آنفا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه] . (4) المرجّح أنّ هذه الخطبة الأخيرة كانت يوم الخميس بعد صلاة الظهر، لأن راوي الحديث وهو أنس بن مالك قال: «صعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهل له» . (5) [قوله صلى الله عليه وسلم: «الأنصار كرشي وعيبتي» أراد أنّهم بطانته وموضع سرّه وأمانته، والذين يعتمد عليهم في أموره، واستعار الكرش والعيبة لذلك؛ لأنّ المجترّ يجمع علفه في- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» «1» . آخر نظرة إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة: وكان أبو بكر يصلّي بالمسلمين، حتّى إذا كان يوم الإثنين، وهم صفوف في صلاة الفجر، كشف النّبيّ صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، ينظر إلى المسلمين، وهم وقوف أمام ربّهم، ورأى كيف أثمر غرس دعوته وجهاده، وكيف نشأت أمّة تحافظ على الصلاة، وتواظب عليها بحضرة نبيّها وغيبته، وقد قرّت عينه بهذا المنظر البهيج، وبهذا النجاح الذي لم يقدّر لنبيّ أو داع قبله، واطمأنّ إلى أنّ صلة هذه الأمّة بهذا الدين وعبادة الله تعالى، صلة دائمة، لا تقطعها وفاة نبيّها، فملىء من السرور ما الله به عليم، واستنار وجهه وهو منير، يقول الصحابة- رضي الله عنهم-: كشف النّبيّ صلى الله عليه وسلم ستر حجرة عائشة، ينظر إلينا وهو قائم، كأنّ وجهه ورقة مصحف، ثمّ تبسّم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح، وظننّا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا أن أتمّوا صلاتكم، وأرخى الستر وتوفّي من يومه صلى الله عليه وسلم «2» .   - كرشه، والرجل يضع ثيابه في عيبته. وقيل أيضا: أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي. ويقال: عليه كرش من الناس: أي جماعة (النهاية: 4/ 163- 164) ] . (1) صحيح البخاري (فضائل أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النّبي صلى الله عليه وسلم: «اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» ) [برقم (927) و (3628) و (3800) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . (2) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي] باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، [برقم (680) ، ومسلم في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام ... ، برقم (419) ، وابن ماجه في أبواب الجنائز، باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (1624) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 تحذير من عبادة القبور واتخاذها مساجد: كان آخر ما تكلّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: «قاتل الله اليهود والنّصارى، اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقينّ دينان بأرض العرب» «1» . تقول عائشة وابن عباس- رضي الله عنهما-: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة «2» له على وجهه، فإذا اغتمّ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتّخذوا من قبور أنبيائهم مساجد» يحذّر ما صنعوا «3» . الوصية الأخيرة: كانت عامة وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة: «الصّلاة وما ملكت أيمانكم» ، حتّى جعل يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه «4» .   (1) [أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجامع، باب ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة، برقم (1696) ، والبخاري في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، برقم (1330) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المسجد على القبور، برقم (530) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . (2) [الخميصة: هي ثوب خزّ، أو صوف معلم. وقيل: لا تسمّى خميصة إلّا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس الناس قديما [ «النهاية» (2/ 80- 81) ] . (3) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، برقم (4443) و (4444) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المسجد..، برقم (531) ، والنّسائي في كتاب المساجد، باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد، برقم (704) ، وأحمد في المسند (1/ 218) و (6/ 34) ] . (4) أخرجه البيهقي (8/ 11) انظر ابن كثير: «السيرة النبوية» (4/ 473) [وأخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في حق المملوك، برقم (5156) ، وابن ماجه في أبواب الوصايا، باب هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (2698) ، وأحمد في المسند (1/ 78) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 يقول عليّ- رضي الله عنه-: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصّلاة والزّكاة وما ملكت أيمانكم «1» . وتقول عائشة- رضي الله عنها-: ذهبت أعوده، فرفع بصره إلى السماء وقال: «في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى» «2» . ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر، وبيده جريدة رطبة، فنظر إليها، فظننت أن له بها حاجة، قالت: فأخذتها، فنفضتها، فدفعتها إليه، فاستنّ بها أحسن ما كان مستنّا، ثم ذهب يناولنيها فسقطت من يده «3» . وقالت: وبين يديه ركوة «4» أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء، فيمسح بها وجهه، ثمّ يقول: «لا إله إلّا الله، إن للموت لسكرات» ، ثمّ نصب أصبعه اليسرى، وجعل يقول: «في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى» ، حتى قبض ومالت يده في الماء «5» . وقالت: نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخذي، غشي عليه ساعة، ثمّ   (1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 78) وابن كثير [في «السيرة النبوية» ] (4/ 473) . (2) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، برقم (4437) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (3) سيرة ابن كثير: ج 4، ص 474- 475، والرواية في البخاري [في كتاب المغازي] باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، [برقم (4438) وأحمد (6/ 48) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (4) [الرّكوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء] . (5) أخرجه البخاري [في كتاب المغازي] ، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، [برقم (4449) ، ومسلم في كتاب السلام، باب رقية المريض بالمعوذات والنفث، برقم (2192) ، والترمذي في أبواب الدعوات، باب ما جاء في جامع الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (3496) ، وابن ماجه في أبواب الجنائز، باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (1620) من حديث عائشة رضي الله عنها] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت، وقال: «اللهمّ الرفيق الأعلى» ، وكانت آخر كلمة تكلّم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . كيف فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا: فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدّنيا، وهو يحكم جزيرة العرب، ويرهبه ملوك الدنيا، ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم، «وما ترك عند موته دينارا ولا درهما، ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا، إلّا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضا جعلها صدقة» «2» . وتوفّي ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعا من شعير، ما وجد ما يفكّ به، حتّى مات صلى الله عليه وسلم «3» . وأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه هذا أربعين نفسا، وكانت عنده سبعة دنانير أو ستّة، فأمر عائشة- رضي الله عنها- أن تتصدّق بها «4» . تقول عائشة- أمّ المؤمنين رضي الله عنها-: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رفّ لي، فأكلت منه حتّى طال عليّ فكلته ففني «5» .   (1) [قد سبق تخريجه آنفا] . (2) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم، برقم (4461) من حديث عمرو بن الحارث رضي الله عنه] . (3) أخرجه البيهقي في الدلائل [ (4/ 49) ، برقم (6246) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (4467) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (4) السيرة الحلبية: ج 3، ص 381. (5) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب الفقر، برقم (6451) ، ومسلم في كتاب الزهد، باب الدنيا سجن للمؤمن، وجنة للكافر، برقم (2973) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 وكان ذلك الفراق يوم الإثنين 12 ربيع الأول، سنة 11 للهجرة بعد الزوال «1» ، وله صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون «2» ، وكان أشدّ الأيام سوادا ووحشة ومصابا على المسلمين، ومحنة للإنسانيّة، كما كان يوم ولادته أسعد يوم طلعت فيه الشمس. يقول أنس وأبو سعيد الخدريّ- رضي الله عنهما-: كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كلّ شيء، فلمّا كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كلّ شيء. وبكت أمّ أيمن، فقيل لها: ما يبكيك على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: إنّي قد علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت، ولكن إنّما أبكي على الوحي الذي رفع عنّا «3» . كيف تلقّى الصحابة نبأ الوفاة؟ ونزلت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة كالصّاعقة، لشدة حبّهم له، وما تعوّدوه من العيش في كنفه، عيش الأبناء في حجر الآباء، بل أكثر من ذلك، قد قال الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] . وقد كان كلّ واحد منهم يحسب أنّه أكرم عليه وأحبّ لديه من صاحبه،   (1) وقد جاء في بعض الروايات وقت الضحى أو الضحوة كما جاء في «الاستيعاب» ج 1، ص 47. (2) على أرجح الأقوال [انظر فيما أخرجه البخاري في هذا الباب، في كتاب المغازي، باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (4466) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (3) السيرة النبوية: لابن كثير، ج 4، ص 554- 556. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 ولم يكد بعضهم يصدّق بنبأ وفاته، وكان في مقدّمتهم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه-، فأنكر على من قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج إلى المسجد وخطب الناس، وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتّى يفني الله المنافقين «1» . موقف أبي بكر الحاسم: وكان أبو بكر- رضي الله عنه- وهو الذي هيّأه الله لخلافة النبوّة والوقوف موقف العزيمة والحكمة، رجل الساعة المطلوب والجبل الراسي الذي لا يحول ولا يزول، فأقبل من منزله حين بلغه الخبر، حتّى نزل على باب المسجد، وعمر يكلّم الناس، فلم يلتفت إلى شيء، حتّى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة وهو مسجّى «2» ، فكشف عن وجهه، ثمّ أقبل عليه فقبّله، ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي، أمّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبدا، وردّ البرد على وجهه صلى الله عليه وسلم. ثمّ خرج وعمر يكلّم الناس، فقال: على رسلك يا عمر! وأنصت، فأبى إلّا أن يتكلّم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت، أقبل على الناس، فلمّا سمعوا كلامه أقبلوا عليه، وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس! إنّه من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنّ الله حيّ لا يموت، ثمّ تلا هذه الآية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى   (1) سيرة ابن كثير: ج 4، ص 479 [وأخرجه أحمد في المسند (6/ 219- 220) ، والترمذي في الشمائل باب في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (373) ، وأبو يعلى في المسند، برقم (48) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (2) مسجّى: أي مغطّى ببرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] . يقول من شهد هذا الموقف: والله كأنّ الناس لم يعلموا أنّ هذه الآية نزلت حتّى تلاها أبو بكر يومئذ، وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنّما هي في أفواههم، ويقول عمر: والله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت «1» حتّى وقعت إلى الأرض، ما تحملني رجلاي، وعرفت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات «2» . بيعة أبي بكر بالخلافة: وبايع المسلمون أبا بكر بالخلافة، في سقيفة «3» بني ساعدة «4» ، حتّى لا يجد الشيطان سبيلا إلى تفريق كلمتهم، وتمزيق شملهم، ولا تلعب الأهواء بقلوبهم، وليفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدّنيا وكلمة المسلمين واحدة، وشملهم منتظم، وعليهم أمير يتولّى أمورهم، ومنها تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه. كيف ودّع المسلمون رسولهم وصلّوا عليه؟ وهدأ النّاس، وانجلى عنهم ما كانوا فيه من حيرة وغمرة، وتشاغلوا بما علّمهم رسولهم من عملهم لمن فارق الدّنيا.   (1) أي: تحيرت ودهشت. (2) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 655- 656، ورواه البخاري مطولا [في كتاب المغازي] باب «مرض النّبي صلى الله عليه وسلم ووفاته» [برقم (4452) و (4453) ، من حديث ابن عباس رضي الله عنها] . (3) [السّقيفة: صفّة لها سقف] . (4) [أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب ما جاء في السّقائف، برقم (2462) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 ولمّا فرغ من غسله وتكفينه صلى الله عليه وسلم وقد تولّى ذلك أهل بيته، وضع سريره في بيته، وحدّثهم أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض نبيّ إلّا دفن حيث قبض» فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفّي فيه، وحفر له تحته، وتولّى ذلك أبو طلحة الأنصاريّ. ثمّ دخلوا يصلّون عليه أرسالا، دخل الرجال حتّى إذا فرغوا، أدخل النّساء، حتّى إذا فرغ النساء، أدخل الصّبيان، ولم يؤمّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد «1» . وكان ذلك يوم الثلاثاء «2» . وكان يوما حزينا في المدينة، وأذّن بلال بالفجر، فلمّا ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكى وانتحب، فزاد المسلمين حزنا، وقد اعتادوا أن يسمعوا هذا الأذان ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم. تقول أمّ سلمة- أمّ المؤمنين-: يا لها من مصيبة، ما أصبنا بعدها بمصيبة إلّا هانت، إذا ذكرنا مصيبتنا به صلى الله عليه وسلم «3» . وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه: «يا أيّها الناس، أيّما أحد من الناس (أو من المؤمنين) أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي، عن المصيبة الّتي تصيبه بغيره،   (1) سيرة ابن هشام: ج 2، ص 663 [وأخرجه الترمذي في الشمائل، باب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (376) ، وابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات، باب ما جاء في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، برقم (1234) ، والطبراني في الكبير برقم (6367) من حديث سالم بن عبيد] . (2) طبقات ابن سعد: نقلا عن «السيرة النبوية لابن كثير، ج 4، ص 507 رواية عن الأوزاعي، وابن جريح وأبي جعفر. (3) السيرة النبوية: لابن كثير، ج 4، ص 538- 549. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 فإنّ أحدا من أمّتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي» «1» . وقالت فاطمة- رضي الله عنها- حين دفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا «2» على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب «3» ؟!! ولكن مع تعلّقهم به لم ينح عليه، فقد نهى عن النّياحة أشدّ النهي.   (1) السيرة النبوية: لابن كثير، ج 4، ص 549، نقلا عن ابن ماجه [أخرجه في الجنائز، باب ما جاء في الصبر على المصيبة، برقم (1599) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (2) [يحثو التراب: أي يرمي به عن نفسه] . (3) أخرجه البخاري، [في كتاب المغازي] ، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (4462) ، والترمذي في «الشمائل» باب في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (379) ، وابن ماجه في الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم، برقم (1629) ، وأحمد في المسند (3/ 141) وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 أزواجه أمّهات المؤمنين وأولاده وأسباطه صلى الله عليه وسلم أ- أزواجه صلى الله عليه وسلم: أولاهنّ خديجة بنت خويلد القرشيّة الأسديّة- رضي الله عنها-: تزوّجها قبل النبوّة ولها أربعون سنة، وهي التي آزرته على النبوّة وجاهدت معه، وواسته بنفسها ومالها، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، وجميع أولاده صلى الله عليه وسلم (غير سيدنا إبراهيم) منها، وكان دائم الذّكر لها، والاعتراف بفضلها، وربّما إذا ذبح الشاة يقطعها أعضاء يبعثها في صدائق خديجة- رضي الله عنها- «1» . ثمّ تزوّج بعد موتها بأيام سودة بنت زمعة القرشيّة العامرية. ثمّ تزوّج بعدها عائشة الصّدّيقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أفقه نساء الأمة وأعلمهنّ، وكان الأكابر من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى قولها، ويستفتونها.   (1) متفق عليه، [أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة ... ، برقم (3816) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل خديجة رضي الله عنها ... ، برقم (2435) من حديث عائشة رضي الله عنها] . وممّا جاء في رواية عائشة فيها: «ما غرت على أحد من نساء النّبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 ثمّ تزوّج حفصة بنت عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما. ثمّ تزوّج زينب بنت خزيمة، وتوفّيت عنده بعد شهرين. ثمّ تزوّج أمّ سلمة هند بنت أبي أميّة حذيفة بن المغيرة القرشيّة المخزوميّة وهي آخر نسائه موتا. ثمّ تزوّج زينب بنت جحش وهي ابنة عمّته أميمة. وتزوّج جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقيّة ثمّ أمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب ثمّ صفية بنت حييّ بن أخطب سيّد بني النّضير ومن ولد هارون بن عمران أخي نبيّ الله موسى. ثم ميمونة بنت الحارث الهلالية، وهي آخر من تزوّج بها. ولا خلاف أنّه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع زوجات وهنّ من ذكرنا، غير خديجة وزينب بنت خزيمة، فقد توفّيتا في حياته صلى الله عليه وسلم وكلّهن ثيبات غير عائشة «1» . وتوفّي عن سرّيّتين: مارية بنت شمعون القبطية المصرية أهداها إليه صلى الله عليه وسلم المقوقس عظيم مصر، وهي أمّ ولده إبراهيم- عليه السلام-. وريحانة بنت زيد من بني النضير «2» أسلمت فأعتقها ثم تزوّجها «3» . وحرّم الله زواجهنّ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّهنّ أمّهات المؤمنين، وفي   (1) ملخصا من «زاد المعاد» لابن القيم: ج 1، ص 26- 29. (2) ويقال من بني قريظة. (3) سيرة ابن كثير: ج 4، ص 604- 605. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 ذلك حفظ للصلة الدقيقة الحساسة التي تربط الأمّة بنبيّها صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: 53] . قال ابن كثير في تفسير الآية: «أجمع العلماء قاطبة على أنّ من توفّي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنّه يحرم على غيره تزوّجها من بعده، لأنهنّ أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين» «1» . وقفة قصيرة عند تعدّد الزوجات: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم شطرا من عمره في العزوبة، مدّة خمسة وعشرين عاما، وهي فترة الشباب التي استوفت أفضل شروطه وصفاته، وكان مثلا للفتوّة الإنسانيّة العربيّة السليمة، والصحّة التي كان فيها نصيب للنشأة في البادية، والبعد عن أدواء المدنية، والتحلّي بأفضل صفات الفروسيّة والرّجولة، ولم يجد أشدّ أعدائه له مغمزا في هذه الفترة الحاسمة الدقيقة في حياته قبل النبوّة وبعد النبوّة إلى هذا اليوم، فكان مثالا للطّهر والعفاف والنزاهة والبراءة والعزوف عن كلّ ما لا يليق به. فلمّا بلغ خمسا وعشرين سنة تزوّج خديجة بنت خويلد، وهي أيّم، قد بلغت من عمرها أربعين سنة، وقد تزوّجت قبله برجلين، ولها أولاد، وبينه وبينها من التفاوت في السنّ 15 سنة على القول المشهور، ثمّ تزوّج بعدها وقد جاوز الخمسين- سودة بنت زمعة، وقد توفي زوجها في الحبشة مسلما مهاجرا.   (1) سيرة ابن كثير: ج 4، ص 493، طبع دار الأندلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 ولم يتزوّج صلى الله عليه وسلم بكرا إلا عائشة بنت أبي بكر. وما تزوّج زواجا إلا ولهذا الزواج مصلحة راجحة من مصالح الدعوة الإسلاميّة، أو المروءة ومكارم الأخلاق، أو جلب منفعة عامّة، ودرء خطر اجتماعيّ كبير، فقد كان للأرحام والمصاهرة تأثير كبير في حياة العرب القبليّة، والاجتماعيّة، وقيمة ليست في أمّة أخرى، فكان لهذه المصاهرة أثرها البعيد في تاريخ الدعوة الإسلاميّة، والمجتمع الإسلاميّ المثاليّ، وحقن الدماء والتوقي من معرّة القبائل العربيّة. ولم تكن حياته معهنّ حياة ترف ورفاهية، وتوسّع في المطاعم والمشارب وخفض العيش- وتلك غاية الزوجات في نظر كثير من الناس- بل كانت حياة زهد وتقشّف، وإيثار وقناعة، لا يطيقها أعاظم الرجال وكبار الزهاد في القديم والحديث، وحسب القارىء المنصف أن يقرأ قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 28- 29] . وكان من أثر هذه الغاية المتوخّاة، والنفسيّة السامية، والتربية العميقة المؤثرة، أن اخترن كلّهنّ- رضي الله عنهنّ وأرضاهنّ من غير استثناء وتلكّؤ- الله ورسوله والدار الآخرة، ويكفي مثالا، ما أجابت به عائشة- رضي الله عنها- فلمّا تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وقال لها: «لا عليك ألا تستعجلي حتّى تستأمري أبويك» . قالت له: أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنّي أريد الله ورسوله والدار الآخرة «1» ،   (1) وسيمرّ شيء منها بالقارىء في الفصل السادس «الأخلاق والشمائل» من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 قالت: ثمّ فعلت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت «1» . ولم يشغل رسول الله صلى الله عليه وسلم تعدّد الزوجات، وما يستلزم ذلك نفسيا واقتصاديا واجتماعيا، عن النهوض بأعباء الدعوة، والجهاد والتقشّف، والحياة المثالية، والقيام بالأمور الجسام، برهة من الزمان، بل زاده ذلك نشاطا وقوة، وكنّ أعوانا له على القيام بما أكرمه الله به، من تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة، وتعليم المسلمين دينهم، ذكورا وإناثا، وكنّ يرافقنه في الحروب والغزوات، فيداوين الجرحى ويمرّضن المرضى، ويشرن بالخير، ويواسين في الشّدّة، وبهنّ قام نحو ثلث الدين- ممّا يتعلّق بحياته المنزلية والعشرة وكثير من الأحكام- تعلّمها المسلمون منهنّ، وحفظوه ونشروه «2» . وناهيك بأمّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- فقد قال إمام علم الرجال والطبقات الحافظ أبو عبد الله شمس الدين الذّهبيّ (ت 748 هـ) في كتابه المشهور «تذكرة الحفّاظ» : «كانت أكبر فقهاء الصحابة، كان فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعون   (1) [أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا.. برقم (4785) و (4786) ، ومسلم في كتاب الطلاق، باب بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، برقم (1475) ، والنسائي في السنن الكبرى (3/ 260) برقم (5309) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، سورة الأحزاب، برقم (3204) وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها] . (2) وقد أحسن الكلام في موضوع تعدّد الزوجات وما كان فيه من حكم ومصالح وما يحيط به من أحوال وظروف، مؤلف السيرة الهندي القاضي محمد سليمان المنصور فوري في كتابه النفيس «رحمة للعالمين» راجع ص 141- 144، والكاتب المصري الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد، في كتابه «عبقرية محمد» تحت عنوان «تعدّد الأزواج» وعنوان «أسباب تعدّد زوجاته» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 إليها، يروى عن قبيصة بنت ذؤيب، قالت: كانت عائشة أعلم الناس، يسألها أكابر الصحابة. وقال أبو موسى: ما أشكل علينا أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم حديث قطّ، فسألنا عائشة، إلّا وجدنا عندها منه علما. وقال حسّان: ما رأيت أحدا من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة ولا بحلال وحرام ولا بشعر ولا بحديث العرب ولا النّسب من عائشة رضي الله عنها» «1» . وأمّا مكارم الأخلاق، وعلو الهمّة، والجود، والمواساة، فعن البحر حدّث ولا حرج، وحسبك ما رواه هشام عن أبيه: أنّ معاوية بعث إلى عائشة مئة ألف، فو الله ما غاب علينا الشهر حتّى فرّقتها، فقالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من ذلك بدرهم لحما، فقالت: ألا ذكّرتني «2» ، وكانت صائمة «3» . وقد نشأت «مشكلة تعدّد الزوجات» في حياة محمّد صلى الله عليه وسلم وشغلت عقول كثير من الباحثين الغربيين وأقلام الكتاب المستشرقين، وكثر التساؤل عنها، بسبب إخضاعهم الحياة الزوجية في بلاد العرب وفي الشريعة الإسلامية، وفي العصر الذي ظهر فيه الإسلام، للقيم والتصوّرات والأعراف الغربيّة، وتسليط الموازين والمقاييس الغربية (التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي وليدة   (1) تذكرة الحفاظ: ج 1، ص 27- 28، طبعة دار إحياء التراث العربي [وأخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي الناس..، برقم (6285) و (6286) ، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل فاطمة رضي الله عنها، برقم (2450) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (2) تذكرة الحفاظ: ج 1، ص 28. (3) زيادة من رواية أمّ ذرّ (المصدر السابق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 حضارة خاصّة ومجتمع خاصّ) على ما تقبله الفطرة السليمة والبيئة العربية، وتقتضيه المصالح الخلقية والاجتماعية، ويأذن به الله. وتلك نقطة ضعف في التفكير الغربيّ وفي الكتابات الغربية يجعلون الغرب هو الميزان، ثمّ يطلقون أحكاما قاسية على كلّ ما جانبه أو اختلف عنه، فيخلقون مشكلة ثمّ يعالجونها، وما هي إلا نتيجة كبريائهم، وتقديسهم الزائد للقيم والمثل الغربية. وقد كان مؤلّف السيرة الإنجليزي المستر R.V.C.Bodley منصفا وجريئا في نقد هذا الشعور الغربيّ نحو تعدّد الزوجات في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول في كتابه «حياة محمّد الرسول» : «إنّه لا داعي إلى قياس حياة محمد الزوجيّة بالمقاييس الغربيّة، ولا الحكم عليها من وجهة نظر التقاليد والقوانين التي سنّتها المسيحيّة في الغرب، فلم يكن أولئك الرجال- العرب- غربيين ولا مسيحيين، إنّما نشؤوا في بلاد وفي عصر كان يسود عليه نظامهم الخلقيّ الخاصّ، ورغم كلّ ذلك لا مبرر لفتضيل النظام الخلقيّ الأمريكيّ أو الأروبيّ على النظام الخلقيّ العربيّ، إنّ الغربيين لا يزالون في حاجة إلى بحث دقيق، وتمحيص كبير لتفضيل نظامهم الخلقيّ وطريقة حياتهم على غيرها، فعليهم أن يتجنّبوا الطّعن في ديانات أخرى ومدنيات أخرى» «1» . وليست «شناعة» تعدّد الزوجات (التي تخيّلها الغرب، وآمن بها أبناؤه في تقليد وحماس، واعتبروها حقيقة بديهية مسلمة، وجسّمها كتّابه ومشرّعوه) ، شناعة دائمة على مرّ العصور والأجيال، قائمة على أسس علمية   (1) R.V.C.Bodley:The Messenger- The Life Of Mohammad,) London, 6491 (pp.202- 302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 ثابتة، أو الفطرة الإنسانية السليمة، بل هي شناعة خيالية عاطفية، ناتجة عن دعاية قوية متحمّسة، تخفّ وقد تزول مع الزمان بتغيّر الاتجاهات والأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة «1» .   (1) وإلى ذلك أشار الكاتب الغربي العصري) Alwin Toffler (في كتابه الحديث) Future SchocK (الذي أحدث دويا في الأوساط العلمية أخيرا، اقرأ (على سبيل المثال) ص 227 232، (طبع لندن 1975 م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 أحوال أمّهات المؤمنين رضي الله عنهنّ التاريخية «1»   (1) من إضافات المحقّق الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 ب- أولاده وأسباطه صلى الله عليه وسلم: ولدت له خديجة القاسم، وبه كان يكنّى، ومات طفلا، ثمّ زينب ثم رقيّة وأمّ كلثوم وفاطمة، واختلفوا في عبد الله، والطّيب، والطاهر، فعدّهم بعضهم ثلاثة أولاد، والصحيح عند ابن القيّم أنّ الطيب والطاهر لقبان لعبد الله، وهؤلاء كلّهم من خديجة- رضي الله عنها- «1» . أمّا فاطمة فهي أحبّ بناته إليه، وأخبر بأنّها سيدة نساء أهل الجنّة «2» ، وقال: «فاطمة بضعة منّي، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها» «3» ، وهي أوّل أهل بيته لحوقا به. وولدت له مارية القبطية إبراهيم، فتوفّي وقد ملأ المهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم حين توفّي: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا، إنّا بك يا إبراهيم! لمحزونون» «4» .   (1) زاد المعاد: ج 1، ص 25- 26. (2) [أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها، في كتاب المناقب، باب علامات النبوّة ... ، برقم (3623) ، وابن حبان في الصحيح (15/ 402) برقم (6952) ، والنّسائي في السنن الكبرى (5/ 145) برقم (8512) و (8513) ، وأخرجه الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في أبواب المناقب، باب مناقب أبي محمّد الحسن بن علي بن أبي طالب ... ، برقم (3781) ، وفي باب ما جاء في فضل فاطمة رضي الله عنها، برقم (3873) ، وأحمد في المسند (5/ 391) ] . (3) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (3714) ، وفي باب مناقب فاطمة رضي الله عنها، برقم (3767) ، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل فاطمة رضي الله عنها، برقم (2449) ، والترمذي في أبواب المناقب، باب ما جاء في فضل فاطمة رضي الله عنها، برقم (3869) ، والنّسائي في السنن الكبرى (5/ 97) ، برقم (8370) و (8371) وغيرهم من حديث المسور بن مخرمة] . (4) [أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ «إنا بك لمحزونون» برقم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 وكسفت الشمس يوم موته، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزّ وجلّ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» «1» . الفرق بين نبيّ مرسل وزعيم سياسيّ: لو كان مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة الحزينة أيّ داع من الدعاة، أو زعيم من الزعماء، أو قائد دعوة أو حركة أو جماعة، لسكت على هذا الكلام- إذ لم يوفّق إلى نفيه- ظنّا منه أنّ ذلك الكلام إنّما هو في صالح دعوته وحركته، وظنّ أنّه لم يسترع الانتباه إلى هذه الناحية، بل إنّ الناس بأنفسهم فكّروا في ذلك، وقالوا: إنّ الشمس إنما انكسفت لوفاة ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا فهو ليس مكلّفا بنفي هذا التفكير.   - (1303) ، وأبو داود في كتاب الجنائز، باب في البكاء على الميت، برقم (3126) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (3/ 63) برقم (12126) ، وعبد الرزاق في المصنّف (3/ 553) برقم (6672) ، وابن حبان في الصحيح (7/ 162) برقم (2902) ، وأحمد في المسند (3/ 194) وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الكسوف [أخرجه البخاري في كتاب الكسوف، باب الدعاء في الكسوف، برقم (1060) ، ومسلم في كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، برقم (907) ، وأبو داود في كتاب صلاة الاستسقاء، باب صلاة الكسوف، برقم (1177) ، والنسائي في السنن الكبرى (1/ 567) برقم (1843) ، وابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات، باب ما جاء في صلاة الكسوف، برقم (1262) ، وأحمد في المسند (2/ 118) وغيرهم من حديث عائشة، وابن عباس، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم جميعا] . يقول المرحوم محمود باشا الفلكي في كتابه «التقويم العربي قبل الإسلام وتاريخ ميلاد الرسول وهجرته صلى الله عليه وسلم» ص 18- 19 «قد قمت بحساب دقيق بيّن لي أن الشمس قد كسفت حقيقة كسوفا كليا تقريبا بالمدينة عند الساعة الثامنة والدقيقة الثلاثين بعد منتصف الليل يوم السابع والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني سنة 632 ميلادية 1 هـ) » . وذلك يوافق اليوم التاسع والعشرين من شوال سنة عشر للهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وذلك هو الفرق بعينه بين النبيّ وغيره، فإنّ الأحداث التي يستغلّها أصحاب التفكير السياسيّ- وإن كانت حوادث طبيعية- يرى الأنبياء الكرام عليهم السلام- استغلالها على حساب الدين حراما، وأمرا يرادف الكفر، ولا أدري أنّ أحدا سوى محمّد صلى الله عليه وسلم يكون قد صدق في هذا الامتحان من غير الأنبياء، ومن مؤسّسي الجماعات وزعماء السياسة. وولدت زينب- وقد تزوّجها أبو العاص بن الرّبيع وهو ابن أخت خديجة- ابنا اسمه عليّ، وبنتا اسمها أمامة. وتزوّج رقيّة عثمان بن عفّان، فولدت له ابنه عبد الله، وماتت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، وكان عثمان قد أقام عندها يمرّضها، وتزوّج بعدها بأختها أمّ كلثوم، ولهذا كان يقال له «ذو النورين» وتوفّيت عنده أيضا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتزوّجت فاطمة عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت له حسنا، وبه كان يكنى، وحسينا، وفيهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هما ريحانتاي من الدّنيا» «1» ، وفيهما قال: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» «2» .   (1) مقتبس من هامش «مطلع الأنوار» لابن الربيع، ص 67، [أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنها، برقم (3753) ، والترمذي في أبواب المناقب، باب مناقب أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب والحسين بن علي رضي الله عنهما، برقم (3770) ، والطبراني في الكبير (3/ 127) برقم (2884) ، وأبو يعلى في المسند، (10/ 106) ، برقم (5739) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما] . (2) [أخرجه الترمذي في أبواب المناقب، باب مناقب أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، برقم (3768) ، والنّسائي في السنن الكبرى (5/ 50) برقم (8169) ، - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 وقد بارك الله في ذريّتهما، ونفع بها الإسلام والمسلمين، وكان منهم سادة وقادة، وأئمة في العلم والدّين والجهاد والزهادة. وولدت فاطمة لعليّ زينب وأمّ كلثوم، وتزوّج زينب ابن عمّها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أحد أجواد العرب في الإسلام، وولدت له عليّا وعونا، وتزوّج أمّ كلثوم بنت عليّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فولدت زيدا ومات عنها «1» . وكلّ أولاده صلى الله عليه وسلم توفّي قبله إلّا فاطمة، فإنّها تأخّرت بعده بستة أشهر «2» .   - وأحمد في المسند (3/ 64) وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد روي هذا الحديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أيضا] . (1) مقتبس من «السيرة النبوية» لابن كثير وغيره: ج 4، ص 581- 582. (2) زاد المعاد: لابن قيم الجوزية، ج 1، ص 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 الفصل السادس الأخلاق والشّمائل صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا مع النّاس في منزله ومع أهله وعياله رقّة الشعور الإنساني ونبل العاطفة كرمه وحلمه الحفاظ على أصالة الدين والغيرة على روحه وتعاليمه تواضعه شجاعته وحياؤه رأفة عامّة ورحمة واسعة أسوة كاملة وقدوة عامّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 الأخلاق والشّمائل صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا: وصفه صلى الله عليه وسلم هند ابن أبي هالة (ابن خديجة أم المؤمنين وخال الحسن والحسين رضي الله عنهما) وكان رجلا وصّافا، فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل «1» الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السّكت، لا يتكلّم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه «2» ، ويتكلّم بجوامع الكلم، كلامه فصل «3» ، لا فضول ولا تقصير. ليس بالجافي «4» ، ولا المهين «5» ، يعظّم النعمة وإن دقّت «6» ، لا يذمّ منها شيئا، غير أنّه لم يكن يذمّ ذوّاقا «7» ولا يمدحه.   (1) أي لا ينفك حزن عن حزن يعقبه. (2) جمع شدق بالكسر: طرف الفم، أي إنه يستعمل جميع فمه للتكلّم، ولا يقتصر على تحريك شفتيه كفعل المتكبّرين. (3) الفاصل بين الحق والباطل. (4) الغليظ الطبع السيىء الخلق. (5) يروى بضم الميم أو بفتحها، فالضم على الفاعل من «أهان» أي لا يهين من يصحبه، والفتح على المفعول من المهانة: أي الحقارة، والابتذال، فالمعنى لم يكن غليظ الخلق ولا ضعيفه، بل كان معتدلا بين أنواع المهابة والوقار والجلالة. (6) صغرت وقلت. (7) المأكول والمشروب، أي: كان صلى الله عليه وسلم يمدح جميع نعم الله، ولا يشتغل بمذمتها قطّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها «1» ، فإذا تعدّي الحقّ، لم يقم لغضبه شيء، حتّى ينتصر له، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. إذا أشار أشار بكفّه كلّها، وإذا تعجّب قلبها، وإذا تحدّث اتّصل بها، وضرب براحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح «2» ، وإذا فرح غضّ طرفه. جلّ «3» ضحكه التبسّم، يفترّ «4» عن مثل حبّ الغمام «5» «6» . ووصفه عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه- وهو من أعرف الناس به، وأكثرهم عشرة له، وأقدرهم على الوصف والبيان، فقال: «لم يكن فاحشا «7» ، متفحّشا «8» ، ولا صخّابا «9» في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح «10» ، ما ضرب بيده شيئا قطّ، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادما ولا امرأة، وما رأيته منتصرا «11»   (1) أي ولا يغضبه أيضا ما كان له علاقة بالدنيا. (2) جد في الإعراض وبالغ فيه. (3) معظمه وأكثره. (4) من افتر: ضحك ضحكا حسنا حتى بدت أسنانه من غير قهقهة. (5) بفتحتين: البرد. (6) [أخرجه الترمذي في «الشمائل» باب كيف كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (225) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 155) برقم (1425) ، والطبراني في الكبير (22/ 156) برقم (414) من حديث هند بن أبي هالة رضي الله عنه] . (7) أي ذو فحش من القول والفعل، وإن كان استعماله في القول أكثر منه في الفعل والصفة. (8) أي ولا المتكلف به، أي ولم يكن الفحش له خلقيا ولا كسبيا. (9) أي صياحا. (10) صفح عنه: أعرض عنه وتركه، بابه فتح. (11) منتقما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 من مظلمة ظلمها قطّ ما لم ينتهك من محارم الله تعالى شيء، فإذا انتهك من محارم الله، كان من أشدّهم غضبا، وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وإذا دخل بيته كان بشرا من البشر، يفلّي «1» ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. كان يخزن لسانه إلّا فيما يعنيه، ويؤلّفهم ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم، ويولّيه عليهم، ويحذّر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي على أحد منهم بشره «2» ، ولا خلقه. ويتفقّد «3» أصحابه، ويسأل الناس عمّا في الناس، ويحسّن الحسن ويقوّيه، ويقبّح القبيح ويوهيه «4» ، معتدل الأمر غير مختلف، ولا يغافل مخافة أن يغافلوا ويملّوا، لكلّ حال عنده عتاد «5» ولا يقصّر عن الحقّ، ولا يجاوزه، الذين يلونه من النّاس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة «6» ومؤازرة «7» . ولا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كلّ جلسائه نصيبه، ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو فاوضه «8» في حاجة صابره حتّى يكون هو   (1) فلّى يفلّي فليا رأسه أو ثوبه: نقاهما من القمل. (2) بالكسر: طلاقة الوجه وبشاشته. (3) أي يتعرف ويطلب من غاب عنهم. (4) بتشديد الهاء وتخفيفها من التوهية والإيهاء: يضعفه. (5) بالفتح هو العدة والتأهب مما يصلح لكل ما يقع، ج أعتد، وعتد، وأعتدة. (6) المداراة، وهي إصلاح أحوال الناس بالمال والنفس. (7) المعاونة. (8) عامله في حاجة أو خالطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 المنصرف، ومن سأله حاجته لم يردّه إلا بها أو بميسور من القول. وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحقّ سواء، مجلسه مجلس علم وحياء وصبر وأمانة، ولا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن «1» فيه الحرم، ولا تنثى «2» فلتاته «3» ، متعادلين «4» يتفاضلون فيه بالتقوى، ويوقّرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب» . وقال: «كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن «5» الجانب، ليس بفظّ «6» ، ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا عيّاب، ولا مشاح «7» يتغافل عمّا لا يشتهي، ولا يؤيس منه، ولا يجيب فيه «8» . قد ترك نفسه من ثلاث: المراء «9» ، والإكبار، وما لا يعنيه، ترك الناس من ثلاث: كان لا يذمّ أحدا ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلّم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلّم أطرق «10» جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطير، فإذا   (1) بضم التاء وسكون الهمزة من الأبن وهو العيب والتهمة؛ أي لا تقذف ولا تعاب. (2) بضم التاء وسكون النون وفتح المثلثة أي لا تشاع ولا تذاع. (3) أي زلاته ومعائبه على تقدير وجود وقوعها، جمع فلتة وهي ما يصدر من الرجل من سقطة. (4) متساوين. (5) أي سريع العطف، كثير اللطف، جميل الصفح، وقليل الخلاف، وقيل: كناية عن السكون والوقار والخشوع والخضوع. (6) الغليظ السيىء الخلق، الخشن الكلام، ج أفظاظ، وفي القرآن: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] . (7) اسم فاعل من المفاعلة من الشح، وهو البخل، وقيل أشده. (8) أي لا يجيب أحدا فيما لا يشتهي بل يسكت عنه عفوا وتكرما. (9) الجدال. (10) أمالوا رؤوسهم، وأقبلوا ببصرهم إلى صدورهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 سكت تكلّموا، لا يتنازعون عنده الحديث ومن تكلّم عنده أنصتوا له حتّى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم «1» يضحك ممّا يضحكون، ويتعجّب مما يتعجّبون، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتّى كان أصحابه يستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه «2» ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافىء «3» ، ولا يقطع على أحد حديثه حتّى يجوز «4» فيقطعه بنهي أو قيام» . أجود الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة «5» ، وألينهم عريكة «6» ، وأكرمهم عشيرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم» «7» . وقد كسا الله نبيّه لباس الجمال، وألقى عليه محبّة ومهابة منه، وصفه هند بن أبي هالة، فقال: «كان فخما «8» ، مفخّما «9» ، يتلألأ «10» وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر» «11» .   (1) أي حديث أفضلهم وكأول تكلمهم، أي لا عن ملال وسامة. (2) الإرفاد: الإعطاء والإعانة. (3) أي مقارب في مدحه، لا يجاوز عن حد مثله، ولا مقصر به عما رفعه الله إليه من علو مقامه. (4) أي يتجاوز عن الحد والحق. (5) اللسان. (6) الطبيعة؛ ج عرائك. (7) ملتقطا من جزء الشمائل للترمذي. (8) بفتح الفاء وسكون الخاء: أي عظيما في نفسه. (9) أي المعظم في الصدور والعيون. (10) أي يستنير. (11) [أخرجه الترمذي في «الشمائل» باب كيف كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (7) ، وابن سعد في «الطبقات» (1/ 316) ، والبيهقي في «الدلائل» (1/ 286) من حديث هند بن أبي هالة] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 ووصفه البراء بن عازب- رضي الله عنه- فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعا «1» ، وقد رأيته في حلّة حمراء، ما رأيت شيئا قطّ أحسن منه» «2» . ووصفه أبو هريرة- رضي الله عنه- فقال: «كان ربعة «3» ، وهو إلى الطول أقرب، شديد البياض، أسود شعر اللحية، حسن الثّغر، أهدب «4» أشعار العينين، بعيد ما بين المنكبين (إلى أن قال) : لم أر مثله قبل ولا بعد» «5» . ويقول أنس- رضي الله عنه-: «ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قطّ أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم» «6» . مع الله تعالى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما أكرمه الله به من الرسالة والخلّة والاصطفاء وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر أعظم الناس اجتهادا في العبادة، وحرصا عليها، وولعا بها.   (1) وسط القامة. (2) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (3551) ، ومسلم في الفضائل، باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم ... ، برقم (2337) ، وأبو داود في كتاب اللباس، باب في الرخصة في ذلك، برقم (4072) ، والترمذي في «الشمائل» ، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (3) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه] . (3) الوسط القامة. (4) الطويل الأشعار. (5) [أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» باب: إذا التفت التفت جميعا، برقم (1155) ] . (6) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، [برقم (3561) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب طيب ريحه صلى الله عليه وسلم برقم (2330) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 يقول المغيرة بن شعبة: «قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى تورّمت قدماه، فقيل له: يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟» «1» . وقالت عائشة- رضي الله عنها-: «قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم باية من القرآن ليلة» «2» . وقال أبو ذرّ: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى أصبح باية، والآية: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «3» [المائدة: 118] » . وعن عائشة أيضا: «كان يصوم حتّى نقول: لا يفطر، ويفطر حتّى نقول: لا يصوم» «4» . وقال أنس: «كان لا تشاء أن تراه من اللّيل مصلّيا إلّا رأيته، ولا نائما إلا رأيته» «5» .   (1) [أخرجه البخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة الفتح، برقم (1130) ، ومسلم في صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، برقم (2819) ، والنّسائي في كتاب قيام الليل، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، برقم (1645) ، والترمذي في «الشمائل» باب في عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (261) ، وابن ماجه في إقامة الصلوات، باب ما جاء في طول القيام في الصلوات، برقم (1419) ] . (2) أخرجه الترمذي [في أبواب الصلاة، باب ما جاء في القراءة بالليل، برقم (448) ] . (3) أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (1/ 346) برقم (1083) ، وابن ماجه، [في إقامة الصلوات] ، باب ما جاء في القراءة في الليل [برقم (1350) ] . (4) [أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، برقم (1156) ، والترمذي في أبواب الصوم، باب ما جاء في صوم الدهر، برقم (768) ، وفي «الشمائل» في باب ما جاء في صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (294) ] . (5) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم ونومه، برقم (1141) ، والترمذي في الصوم، باب ما جاء في سرد الصوم، برقم (769) ، وأحمد (3/ 104- 114) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 وعن عبد الله بن الشّخّير، قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي، ولجوفه أزير كأزيز المرجل «1» ، من البكاء» «2» . وكان لا يكاد يتسلّى عن الصلاة، ويرغب عنها إلى غيرها فيقول: «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» «3» . ويقول الصحابة- رضي الله عنهم-: كان إذا حزبه أمر صلّى «4» . وعن أبي الدّرداء- رضي الله عنه-: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلة ريح شديدة، كان مفزعه إلى المسجد، حتّى تسكن الريح، وإذا حدث في السماء حدث من خسوف شمس أو قمر، كان مفزعه إلى الصلاة حتّى ينجلي «5» . وكان يحنّ إلى الصلاة، ويتحيّنها، فلا يهدأ له بال، ولا يقرّ له قرار، حتى يقبل عليها، وكان يقول أحيانا لمؤذّنه بلال: «يا بلال! أقم الصلاة، أرحنا بها» «6» . نظرته صلى الله عليه وسلم إلى الحياة وزهده فيها: أمّا نظرته إلى الدّيا نار والدّرهم، والمال والمتاع فأكبر مجموعة من   (1) [المرجل: قدر من نحاس، وأزيره: صوت غليانه، والمراد به: ما كان يعرض له في الصلاة من الخوف الذي يوجب ذلك الصوت] . (2) [أخرجه الترمذي في «الشمائل» باب في بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (319) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب البكاء في الصلاة، برقم (904) ، والنسائي في «السنن الكبرى» (1/ 195) برقم (544) ، وأحمد (4/ 25) ] . (3) أخرجه النسائي في كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، [برقم (3939) ] . (4) أخرجه أبو داود في كتاب التطوع، باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، برقم (1319) . (5) أخرجه الطبراني في الكبير [وقال الهيثمي في المجمع (2/ 411) : رواه الطبراني في الكبير من رواية زياد بن صخر عن أبي الدرداء، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات] . (6) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، [برقم (4985) و (4986) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 الألفاظ، وقدرة بيانية لا تفي بالغرض، فإنّ تلاميذ مدرسته الإيمانيّة الربانيّة، وتلاميذ تلاميذهم من العرب والعجم، في مشارق الأرض ومغاربها، نظروا إلى الدينار والدرهم كالخزف والحصى والرمل والتراب، وروي عنهم من الزهادة في الدّنيا، والاستهانة بزخارف الحياة، والغرام بإنفاق المال على غيرهم، وإيثارهم عليهم، والقناعة بالكفاف وأقلّ من الكفاف، ما يحيّر الألباب «1» ، فكيف بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي كان قدوتهم في كلّ خير وفضل، وإمامهم ومعلّمهم. ولكنّنا نترك ما رواه الصحابة- رضي الله عنهم- في هذا الباب، وما جرى على لسانهم من الأقوال ينطق بذلك، فلا كلام أبلغ من الحوادث والأخبار، ولا أنطق منها. كان قوله المأثور المشهور، وبه كان عمله، وعليه تدور حياته صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ إنّ الأجر أجر الآخرة» «2» . وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «ما لي وللدنيا، وما أنا والدنيا إلّا كراكب استظلّ تحت شجرة، ثمّ راح وتركها» «3» . ورآه عمر مضطجعا على حصير، قد أثّر في جنبه، فهملت عينا عمر،   (1) وليراجع في ذلك الكتب التي ألفت في هذا الموضوع، ككتاب الزهد لعبد الله بن المبارك، وكتاب الزهد للبيهقي، و «صفة الصفوة» لابن الجوزي، و «حلية الأولياء» لأبي نعيم. (2) [أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب: مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، برقم (3932) ، ومسلم في كتاب الصلاة، باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (524) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب في بناء المساجد، برقم (453) وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . (3) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده [وأخرجه الترمذي في أبواب الزهد، باب حديث «ما الدنيا إلا كراكب استظلّ» برقم (4109) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 فقال: ما لك؟ فقال: يا رسول الله! أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه؟ فاحمرّ وجهه، وقال: «أو في شكّ أنت يا بن الخطّاب؟» ثمّ قال: «أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدّنيا» «1» . وكان لا يحبّ هذا الطّراز من المعيشة لنفسه فقط، بل كان يحبّه لأهله وعياله، ويؤثره لهم، فروي عنه أنّه قال: «اللهمّ اجعل رزق آل محمد قوتا» «2» . وقال أبو هريرة- رضي الله عنه-: «والذي نفس أبي هريرة بيده، ما شبع نبيّ الله وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة حتى فارق الدّنيا» «3» . وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «إن كنّا آل محمد ليمرّ بنا الهلال ما نوقد نارا، إنّما هما الأسودان: التّمر والماء» «4» .   (1) راجع الحديث بطوله في الصحيحين [أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة.. برقم (2468) ، ومسلم في الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن..، برقم (1479) ، والترمذي في تفسير القرآن، في تفسير سورة التحريم، برقم (3318) ، وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما] . (2) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه..، برقم (6460) ، ومسلم في كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة، برقم (1055) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . (3) أخرجه مسلم [في كتاب الزهد، باب: الدنيا سجن للمؤمن وجنة للكافر، برقم (2979) ، والترمذي في أبواب الزهد، باب ما جاء في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم وأهله، برقم (2358) ، وابن ماجه في أبواب الأطعمة، باب خبز البر، برقم (3343) ، وأحمد في المسند (2/ 434) ] . (4) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الهبة..، باب فضل الهبة (2567) ، ومسلم في كتاب الزهد، باب: الدنيا سجن للمؤمن..، برقم (2972) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 وقد كانت له درع مرهونة عند يهوديّ، فما وجد ما يفكّها، حتّى مات «1» . وإنّه صلى الله عليه وسلم حجّ حجّة الوداع، والمسلمون معه مدّ البصر، والجزيرة خاضعة له، على رحل رثّ، عليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فقال: «اللهمّ اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» «2» . وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ- رضي الله عنه-: «ما يسرّني أنّ عندي مثل أحد هذا ذهبا، تمضي عليّ ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلّا شيء أرصده لدين، إلّا أن أقول به في عباد الله هكذا، وهكذا، وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه» «3» . ويقول جابر بن عبد الله- رضي الله عنه-: «ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فقال: لا» «4» . وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة» «5» .   (1) [أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب، برقم (2916) ، ومسلم في كتاب المساقاة، باب الرهن وجوازه، برقم (1603) ، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . (2) أخرجه الترمذي في «الشمائل» [باب تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (332) ، وابن ماجه في أبواب المناسك، باب الحج على الرحل، برقم (2890) من حديث أنس رضي الله عنه] . (3) متفق عليه واللفظ للبخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أحبّ أنّ لي أحدا ذهبا» برقم (6445) ، ومسلم في كتاب الزكاة، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدّي الزكاة، برقم (991) ، وابن ماجه في أبواب الزهد، باب مجالسة الفقراء، برقم (4132) ] . (4) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب حسن الخلق، [برقم (6034) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب في سخائه صلى الله عليه وسلم، برقم (2311) ] . (5) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب بدء الوحي، برقم (6) ، ومسلم في كتاب- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 وعن أنس- رضي الله عنه- «أنّ رجلا سأله، فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى بلاده، وقال: أسلموا، فإنّ محمدا يعطي عطاء من لا يخشى فاقة» . وحمل إليه صلى الله عليه وسلم تسعون ألف درهم، فوضعت على حصير، ثمّ قام إليها يقسّمها، فما ردّ سائلا حتى فرغ منها» . مع الناس: وكانت لا تمنعه هذه العبادة والزهد في الدّنيا، والإقبال على الله بقلبه وقالبه، والاشتغال به، ومناجاته، عن دوام البشر، وطلاقة الوجه، وتفقّد القلوب، وملاطفة الناس، وإيتاء كلّ ذي حقّ حقّه، وذلك شيء لا يقوى عليه غيره. وقد كان يقول: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» «1» . وقد كان أوسع الناس صدرا، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحرّ والعبد، والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر «2» ولم ير مادّا رجليه بين أصحابه حتى لا يضيّق بهما على أحد.   - الفضائل، باب جوده صلى الله عليه وسلم، برقم (2308) وغيرهما] . (1) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم..» برقم (6485) ومسلم في كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله..، برقم (2359) ] (2) من كلام أنس بن مالك رضي الله عنه، رواه أبو نعيم في الحلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 يقول عبد الله بن الحارث- رضي الله عنه-: ما رأيت أكثر تبسّما من رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . وعن جابر بن سمرة- رضي الله عنه- قال: «جالست رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مئة مرّة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهليّة، وهو ساكت وربّما تبسّم معهم» . ويقول الشّريد الثّقفي: «استنشدني نبيّ الله شعر أميّة بن أبي الصّلت فأنشدته» «2» . وكان حنونا ودودا، تجلّت فيه العواطف الإنسانية، والمشاعر اللطيفة في أسمى مظاهرها وأجملها. يقول أنس بن مالك- رضي الله عنه-: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. لفاطمة: ادعي لي ابنيّ (يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما) فيشمّهما ويضمّهما إليه «3» ، ودعا سبطه حسن بن عليّ مرة، فجاء يشتدّ، فوقع في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ أدخل يده في لحيته، ثمّ جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفتح فاه، فيدخل فاه في فيه» «4» . وتقول عائشة- رضي الله عنها-: «قدم زيد بن حارثة (وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم) المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فأتاه، فقرع الباب، فقام   (1) [أخرجه الترمذي في أبواب المناقب، باب ما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (3641) ، وفي «الشمائل» في باب ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (230) ] . (2) [أخرجه مسلم في كتاب الشعر، باب: في إنشاد الأشعار..، برقم (2255) ، وابن ماجه في أبواب الأدب، باب الشعر، برقم (3758) من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه] . (3) أخرجه الترمذي في أبواب المناقب، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما، [برقم (3772) ] . (4) [أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» في باب الاحتباء، برقم (1183) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 إليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم عريان، يجرّ ثوبه، فاعتنقه وقبّله «1» . وعن أسامة بن زيد- رضي الله عنه- أنّ ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه أنّ ابني قد احتضر، فاشهدنا، فأرسل يقرأ السّلام، ويقول: «إنّ لله ما أخذ وما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه، فقام وقمنا معه، فلمّا قعد رفع إليه، فأقعده في حجره، ونفس الصبيّ تقعقع «2» ، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟! قال: «هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنّما يرحم الله من عباده الرّحماء» «3» . ولمّا شدّ وثاق العباس في أسرى بدر، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يئنّ لم يأخذه النوم، فبلغ الأنصار، فأطلقه الأنصار، ولم تحمله تلك الشفقة على التمييز بينه وبين سائر أسرى بدر، فلمّا فهم الأنصار رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفكّ وثاقه، سألوه أن يتركوا له الفداء طلبا لتمام رضاه، فلم يجبهم إلى ذلك «4» . وجاء أعرابيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتقبّلون الصّبيان؟ فما نقبّلهم؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أو أملك لك إذا نزع الله الرحمة من قلبك؟» «5» .   (1) أخرجه الترمذي في أبواب الاستئذان، باب ما جاء في المعانقة، [برقم (2732) ] . (2) [أي تضطرب وتتحرّك. أراد: كلّما صار إلى حال لم يلبث أن ينتقل إلى أخرى تقرّبه من الموت] . (3) أخرجه البخاري في كتاب المرض، باب عيادة الصبيان، برقم (5655) ، وفي كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يعذّب الميّت ببعض بكاء أهله» ، [برقم (1284) ، وأحمد في المسند (6/ 245) ] . (4) فتح الباري: ج 8، ص 324 (الطبعة المصرية) [وأخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا، برقم (4018) من حديث أنس رضي الله عنه] . (5) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب: رحمة الوالد، [برقم (5998) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال..، برقم (2317) ، وابن ماجه في- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 وكان عطوفا على الصبيان، رفيقا بهم. روي عن أنس- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على صبيان يلعبون، فسلّم عليهم «1» يقول أنس بن مالك: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتّى يقول لأخ لي صغير: «يا أبا عمير! ما فعل النّغير «2» » «3» . وكان شديد الرّأفة بالمسلمين، كثير المراعاة لاختلاف أحوالهم، وما يعتري النفوس من فتور وملل. يقول ابن مسعود- رضي الله عنه-: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّلنا «4» بالموعظة كراهة السامة علينا «5» ، وكان مع شدّة ولعه بالصلاة يتجوّزها إذا سمع بكاء صبيّ، فقد روي عنه أنّه قال: «إنّي لأقوم في الصلاة أريد أن   - أبواب الأدب، باب برّ الوالدين والإحسان إلى البنات، برقم (3665) من حديث عائشة رضي الله عنها] . (1) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، [باب التسليم على الصبيان، برقم (6247) ، ومسلم في كتاب السلام، باب استحباب السلام على الصبيان، برقم (2168) ، والترمذي في أبواب الاستئذان، باب ما جاء في التسليم على الصبيان، برقم (2696) ] . (2) [النّغير: هو تصغير النّغر، وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار] . (3) [أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» في باب المزاح مع الصبي، برقم (269) ، وأخرجه في الصحيح في كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس، برقم (6129) ، ومسلم في كتاب الآداب، باب جواز تكنية من لم يولد له..، برقم (2150) ، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في الرجل يتكنى وليس له ولد، برقم (4969) ، والترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة على البسط، برقم (333) ] . (4) [يتخوّلنا: أي يتعهّدنا] . (5) [أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب الموعظة ساعة بعد ساعة، برقم (6411) ، ومسلم في كتاب صفات المنافقين، باب الاقتصاد في الموعظة، برقم (2821) ، والترمذي في أبواب الأدب، باب ما جاء في الفصاحة والبيان، برقم (2855) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 أطوّل فيها، فأسمع بكاء الصبيّ فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمّه» «1» . وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنّ رجلا قال: والله يا رسول الله! إنّي لأتأخّر عن صلاة الغداة من أجل فلان ممّا يطيل بنا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشدّ غضبا منه يومئذ، ثمّ قال: «إنّ منكم منفّرين، فأيّكم صلّى بالناس فليتجوّز، فإنّ فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة» «2» . ومن ذلك أنّ أنجشة «3» كان يحدو بالنساء، وكان حسن الصوت، والإبل تسرع إذا سمعت الحداء «4» ، فيشقّ ذلك على النساء، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا أنجشة! رويدك سوقك بالقوارير «5» » «6» . وقد برّأه الله من الحقد، ومن أن يضمر لأحد سوءا. روي عنه أنّه كان يقول: «لا يبلّغني أحد منكم من أصحابي شيئا، فإنّي   (1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، [برقم (707) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب تخفيف الصلاة. برقم (789) ، وابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات، باب: من أمّ قوما فليخفف، برقم (984) ] . (2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: تخفيف الإمام القراءة، [برقم (702) ، ومسلم في كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، برقم (466) ، وابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات، باب: من أمّ قوما فليخفف، برقم (984) ] . (3) [هو غلام أسود كان حاديا، وكان حسن الصوت بالحداء، يكنى أبا مارية] . (4) [الحداء: سوق الإبل بضرب مخصوص من الغناء، ويكون بالرجز غالبا] . (5) [أراد بالقوارير: النساء، شبّههنّ بها من الزجاج، لأنه يسرع إليها الكسر، وهو من المجاز] . (6) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» [في باب المزاح، برقم (264) وأخرجه في الصحيح في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز..، برقم (6149) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء..، برقم (2323) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 أحبّ أن أخرج إليكم، وأنا سليم الصدر» «1» . وكان لهم أبا رحيما، وأصبح المسلمون كلّهم له عيالا، يحنو عليهم حنوّ المرضعات على الفطيم، لا شأن له بما متّعهم الله به من مال، ووسّع لهم في الرّزق. أمّا ديونهم، وما يثقل كواهلهم، فكان يستقلّ به، ويقول: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلّا فإلينا» «2» . وفي رواية أنّه قال: «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدّنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن مات، وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا، فليأت مولاه» «3» . اعتدال الفطرة وسلامة الذوق: وقد خلقه الله في أتمّ خلق وخلق، وإليه المنتهى- عبر القرون والأجيال- في اعتدال الفطرة، وسلامة الذّوق، ورقّة الشعور، والسّداد، والاقتصاد، والبعد عن الإفراط والتفريط، تقول عائشة- رضي الله عنها-: «ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قطّ إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان   (1) كتاب الشفاء: ص 55، أخرجه عن طريق أبي داود [وأخرجه في سننه في كتاب الأدب، باب في رفع الحديث من المجلس، برقم (4860) ، والترمذي في أبواب المناقب، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (3896) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما] . (2) أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض، باب: الصلاة على من ترك دينا، [برقم (2298) ، وأبو داود في كتاب الفرائض، باب في ميراث ذوي الأرحام، برقم (2899) و (2900) ، وابن ماجه في أبواب الصدقات، باب: من ترك دينا أو ضياعا فعلى الله ورسوله، برقم (2416) ] . (3) [قد سبق تخريجه في الحديث السابق] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 إثما، كان أبعد الناس منه» «1» . وكان أبعد الناس عن التكلّف، والمغالاة في الزهد، وحرمان النفس حقوقها. روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الدّين يسر، ولن يشادّ الدّين أحد إلّا غلبه، فسدّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة «2» » «3» . وقال: «مه! عليكم بما تطيقون، فو الله ما يملّ الله حتّى تملّوا» . وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: سئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أي الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: «الحنيفية السّمحة «4» » «5» . وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطّعون» «6» .   (1) [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، برقم (3560) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، برقم (2327) ، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في التجاوز في الأمر، برقم (4785) ] . (2) [الدّلجة، بالضم والفتح: هو سير الليل] . (3) أخرجه البخاري [في كتاب الإيمان، باب: الدين يسر برقم (39) ، والنسائي في كتاب الإيمان، باب الدين يسر، برقم (5037) ] . (4) [الحنيفية السمحة: هي ملّة إبراهيم عليه السلام، ومعنى السّمحة: السهلة] . (5) [أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» باب حسن الخلق، برقم (287) ، وأحمد في المسند (1/ 236) والحديث حسن لغيره] . (6) المتنطّعون: المتشدّدون المتعمّقون، أخرجه مسلم [في كتاب العلم، باب: هلك المتنطعون، برقم (2670) ، وأبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم (4608) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 وقال لبعض من بعثهم للدعوة والتعليم: «يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا» «1» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده» «2» . في منزله ومع أهله وعياله: وكان في منزله بشرا من البشر، كما تقول عائشة- رضي الله عنها-: «كان يفلّي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه» . وقالت: «كان يرقع الثوب، ويخصف النّعل» . ونحو هذا قيل لعائشة- رضي الله عنها-: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: «كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة» «3» . وفي رواية: «كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، كما يعمل أحدكم في بيته» «4» .   (1) [أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب..، برقم (3038) ، ومسلم في كتاب الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك التفسير، برقم (1733) ، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في كراهة المراء، برقم (4835) وغيرهم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه] . (2) أخرجه الترمذي في أبواب الأدب، باب: «إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» ، [برقم (2819) ، والحديث حسن] . (3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب «من كان في حاجة أهله» [برقم (676) و (5362) و (6039) ] . (4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/ 260) برقم (20492) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 وقالت عائشة: «كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان ضحّاكا بسّاما» «1» . وعن أنس- رضي الله عنه- قال: «ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم» «2» . وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» «3» . وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: «ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله، وإنّ كرهه تركه» «4» . تقديم الأقربين في المخاوف والمغارم وتأخيرهم في الرخاء والمغانم: وكان شعاره الدائم في أهل بيته وعياله، وأقرب الناس إليه تقديمهم في المخاوف والمغارم، وتأخيرهم في الرخاء والمغانم. طلب عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة- وهم كانوا من أبطال العرب المرموقين- من يبارزهم من قريش، وممّن فارق دينهم من أهل مكّة، وهاجر منها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعرف الناس بمكانتهم وبغنائهم في   (1) أخرجه ابن عساكر [في تاريخ دمشق (3/ 383) ] . (2) أخرجه مسلم [في كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم للصبيان والعيال..، برقم (2316) ] . (3) [أخرجه الترمذي في أبواب المناقب، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (3895) ، وابن ماجه في أبواب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، برقم (1977) ] . (4) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب: ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما، برقم (3563) ، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب: لا يعيب الطعام، برقم (2064) ، وأبو داود كتاب الأطعمة، باب في كراهية ذمّ الطعام، برقم (3763) ، والترمذي في أبواب البر والصلة، باب: ما جاء في ترك العيب للنعمة، برقم (2031) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 الحرب، وكان في قريش من ينهض لذلك من الأبطال والفرسان، فلم يزد أن قال: «قم يا حمزة! قم يا عليّ! قم يا عبيدة!» وهم من أقرب الناس إليه رحما ودما، وأحبّهم إليه، ولم يؤثر أحدا عليهم، ضنّا بحياتهم وإبقاء عليهم، وكان من صنع الله تعالى أن كتب لهم الغلبة والانتصار على منافسيهم، ورجع حمزة وعليّ سالمين مظفّرين، وحمل عبيدة جريحا «1» . ولمّا أراد أن يحرّم الرّبا، ويهدر دم الجاهلية القديمة، بدأ بعمّه العبّاس بن عبد المطلب، وابن أخ له من بني هاشم، ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. فقال في خطبته في حجّة الوداع: «وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضع من ربانا: ربا العباس بن عبد المطلب، ودماء الجاهلية موضوعة، وإنّ أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث» «2» . أمّا في الرّخاء وعند المغانم، فكان دائما يؤخّرهم، ويؤثر عليهم غيرهم خلافا للملوك والقادة والزعماء- يقول عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-: إنّ فاطمة- عليها السلام- اشتكت ما تلقى من الرّحى ممّا تطحن، فبلغها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسبي، فأتته تسأله خادما، فلم توافقه، فذكرت لعائشة، فجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت عائشة له، فأتانا، وقد دخلنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: «على مكانكما» ، حتّى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: «ألا أدلّكما على خير ممّا سألتماني، إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وسبّحا ثلاثا وثلاثين، فإنّ ذلك خير لكما ممّا سألتماه» «3» .   (1) [انظر تخريجه في غزوة بدر في الفصل الخامس، ص 309] . (2) [خرّجنا هذا الحديث عن جابر عبد الله رضي الله عنهما في الفصل الخامس في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، انظر صفحة (521) ] . (3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب «الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم» - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 وفي رواية في هذه القصّة أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا أعطيكم وأدع أهل الصّفّة تطوى بطونهم من الجوع، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم، وأنفق عليهم أثمانهم» «1» . رقة الشعور الإنساني ونبل العاطفة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعباء النبوّة والدعوة، وهمّ الإنسانيّة والأحزان والأثقال التي لا تحملها الجبال الرّاسيات قد تجلّى فيه الشعور الإنسانيّ الرقيق، والعاطفة الإنسانية النبيلة، في أجمل مظاهرهما، فمع صرامته وقوّة عزيمته التي يمتاز بها الأنبياء، والتي كانت لا تقيم في سبيل الدعوة وإعلاء كلمة الله، وامتثال أوامره لشيء قيمة أو وزنا، لم ينس أصحابه الأوفياء الذين لبّوا دعوته، وبذلوا في سبيل الله مهجهم وأرواحهم، واستشهدوا في معركة أحد إلى آخر يوم من أيام حياته، فكان يذكرهم، ويدعو لهم، ويزورهم، وسرى هذا الحبّ إلى المكان الذي قامت فيه هذه المعركة، والجبل الذي شاهدها، والبلد الذي احتضنه، فروى عنه الصحابة- رضي الله عنهم- أنّه قال: «هذا جبل يحبّنا ونحبّه» «2» . وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد،   -[برقم (5361) ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، برقم (2727) ، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في التسبيح عند النوم، برقم (5062) ] . (1) أخرجه أحمد [في المسند (1/ 106) وانظر «فتح الباري» (7/ 23- 24) ] . (2) [أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: أحد يحبنا، برقم (3367) ، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل أحد، برقم (1392) و (1393) والترمذي في أبواب المناقب، باب ما جاء في فضل المدينة، برقم (3922) وغيرهم] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 فقال: «هذا جبل يحبّنا ونحبّه» «1» . وعن أبي حميد قال: «أقبلنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتّى إذا أشرفنا على المدينة، قال: «هذه طابة، وهذا جبل يحبّنا ونحبّه» «2» . وعن عقبة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما، فصلّى على أهل أحد صلاته على الميّت «3» . وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر أصحاب أحد: «أما والله، لوددت أنّني غودرت مع أصحاب بنحص «4» الجبل» «5» . وقد احتمل شهادة عمّه وأخيه في الرّضاعة، والذي غضب له، ودافع عنه بمكّة، واستشهد في معركة أحد، ومثّل به تمثيلا لم يمثّل بأحد من القتلى، فاحتمل كلّ ذلك في صبر أولي العزم من الرّسل، ولكنّه لمّا دخل المدينة راجعا من أحد، ومرّ بدار بني عبد الأشهل، فسمع البكاء، ونوائح على قتلاهم، فحرّك ذلك في نفسه الشعور الإنسانيّ النبيل، فذرفت عيناه، ثمّ قال: «لكنّ حمزة لا بواكي له» «6» .   (1) [أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب فضل الخدمة في الغزو، برقم (2889) ، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل المدينة..، برقم (1365) ، والترمذي في أبواب المناقب، باب ما جاء في فضل المدينة، برقم (3922) ، وأحمد في المسند (2/ 387) برقم (9013) وغيرهم] . (2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قصة تبوك، برقم (4422) ، ومسلم في كتاب الحج، باب فضل أحد، برقم (1392) ] . (3) [انظر تخريجه في الفصل الرابع في أحاديث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ص (528) حاشية رقم (1) ] . (4) بنحص الجبل: أي سفح الجبل. (5) تفرّد به أحمد [وأخرجه في المسند (3/ 375) ] ، ابن كثير ج 3، ص 89. (6) ابن كثير: ج 3، ص 95 [وأخرجه ابن ماجه في أبواب الجنائز، باب ما جاء في البكاء- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 ولكنّ هذا الشعور الإنسانيّ النبيل لم يستطع أن يقهر الشعور بمسؤوليّة النبوّة والدعوة والوقوف عند حدود الله، فقد روى أصحاب السّير أنّه لمّا رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير- رضي الله عنهما- إلى دار بني عبد الأشهل أمر نساءهم أن يحتزمن، ثمّ يذهبن، ويبكين على عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلن، ولمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن على حمزة، خرج عليهنّ، وهنّ في باب المسجد يبكين، فقال: «ارجعن يرحمكنّ الله، فقد آسيتنّ بأنفسكنّ» . وروي أنّه قال: «ما هذا؟» فأخبر بما فعلت الأنصار بنسائهم، فاستغفر لهم، وقال لهم خيرا، وقال: ما هذا أردت، وما أحبّ البكاء» ونهى عنه «1» . وأدقّ من هذه المواقف كلّها موقف وقفه مع وحشيّ، قاتل أسد الله وأسد رسوله حمزة- رضي الله عنه- فلمّا فتح الله للمسلمين مكة، ضاقت عليه المذاهب، وفكّر في اللحوق بالشّام واليمن وببعض البلاد، وأظلمت عليه الدّنيا، فقيل له: ويحك إنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقتل أحدا من النّاس دخل في دينه، فتشهّد شهادة الحقّ، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منه الإسلام، ولم يفزعه، وسمع منه قصة قتل حمزة، فلمّا فرغ من حديثه تحرّك فيه ذلك الشعور الإنسانيّ الرقيق، من غير أن يزاحم طبيعة منصب النبوّة الرفيع، فيرفض إسلامه أو يثور فيه الغضب، فيقتله شفاء للنفس، ولم يزد أن قال: «ويحك غيّب عني وجهك، فلا أرينّك» ، قال وحشيّ: وكنت أتنكّب «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلّا يراني، حتّى قبضه الله صلى الله عليه وسلم «3» .   - على الميت، برقم (1591) ، وأحمد في المسند (2/ 40) و (2/ 84) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما] وقال ابن كثير: «وهذا على شرط مسلم» . (1) ابن كثير: ج 3، ص 96. (2) [أتنكّب: أي أتنحّى وأعرض عنه] . (3) ابن هشام: ج 2، ص 72، وروى البخاري هذه القصة في كتاب المغازي، باب قتل- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 وفي رواية البخاريّ: فلمّا رآني قال: «أنت وحشيّ؟» . قلت: نعم. قال: «أنت قتلت حمزة؟» قلت: قد كان من الأمر ما بلغك. قال: «فهل تستطيع أن تغيّب وجهك عنّي؟» «1» . ومن مظاهر هذا الشعور الإنسانيّ الرقيق، والعاطفة النبيلة أنّه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى رسم قبر فجلس، وأدركته الرقّة، فبكى، وقال: «هذا قبر آمنة بنت وهب» ، وذلك حين مضت على وفاتها مدة طويلة «2» . كرمه وحلمه: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الخلق أجمعين، ومعلّمهم في حسن الخلق وكرم النفس، والتواضع، لقد قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» «3» . وعن جابر رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله بعثني لتمام مكارم   - حمزة رضي الله عنه [برقم (4072) ، وأحمد في المسند (3/ 501) ، وابن حبان في الصحيح برقم (7013) وغيرهم] . (1) [انظر تخريج الحديث السابق] . (2) أخرجه البيهقي عن طريق سفيان الثوري مطولا، راجع ابن كثير، ج 1، ص 236 [وأخرجه ابن أبي شيبة بمعناه في المصنّف (3/ 29) برقم (11808) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه] . (3) [حديث ضعيف؛ أخرجه السيوطي في «الجامع الصغير» برقم (310) ، وعزاه لابن السمعاني في «أدب الإملاء» عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال المناوي في «فيض القدير» (1/ 225) : معناه صحيح لكنّه لم يأت من طريق صحيح، وذكره ابن الجوزيّ في «الواهيات» ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال» «1» . وسئلت عائشة- رضي الله عنها- عن خلقه، فقالت: «كان خلقه القرآن» «2» . وكان في العفو والحلم ورحابة الصدر وقوّة الاحتمال، حيث لا يبلغه ذكاء الأذكياء، وخيال الشعراء، ولو لم يرو عن طريق لا يتطرّق إليه شكّ، ولا ترتقي إليه شبهة، لما قبلته أذهان النّاس، ولكن روي بإسناد صحيح متّصل، ونقل عادل عن عادل، وتواتر، واستفاض ذلك، فكان أثبت من التاريخ الأمين، ونحن هنا نكتفي بقليل ممّا روي في هذا الباب. فمن كرمه صلى الله عليه وسلم وعفوه عن أشد أعدائه، وإحسانه إليه أنّه «أتى عبد الله بن أبيّ «3» - رأس المنافقين- بعد ما أدخل حفرته، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرج، فوضعه على ركبتيه، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه» «4» . وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانيّ، غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد أثّرت بها حاشية الرّداء من   (1) أخرجه البغوي في «مصابيح السنة» ، [في كتاب الفضائل والشمائل، باب فضائل سيد المرسلين صلوات الله عليه، برقم (4490) وأخرجه بإسناده في «شرح السنة» كتاب الفضائل، باب فضائل سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم، (13/ 202) ، برقم (3622) و (3623) ] . (2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه [في كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، برقم (746) ، وأحمد في المسند (6/ 91- 163- 216) ] . (3) وهلك سنة تسع في ذي القعدة بعد الانصراف من تبوك، (الزرقاني: ج 3، ص 112- 113) . (4) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، [باب هل يخرج الميّت من القبر واللّحد لعلّة؟ برقم (1350) ملخّصا، ومسلم في صفات المنافقين، أول الكتاب، برقم (2773) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 شدّة جبذته، ثمّ قال: يا محمّد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفتّ إليه، فضحك، ثمّ أمر له بعطاء» «1» . وجاء زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضاه دينا عليه، فجبذ ثوبه عن منكبه، وأخذ بمجامع ثوبه، وأغلظ له، ثمّ قال: إنّكم بني عبد المطلب مطل، فانتهره عمر، وشدّد له في القول، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يبتسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وهو كنّا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر! تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي» ، ثمّ قال: «لقد بقي من أجله ثلاث» ، وأمر عمر أن يقضيه ماله، ويزيده عشرين صاعا لما روّعه، فكان سبب إسلامه «2» . يقول أنس- رضي الله عنه-: إنّ ثمانين رجلا من أهل مكّة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل «التنعيم» متسلّحين، يريدون غرّة النّبيّ «3» ، فأخذهم سلما «4» ، فاستحياهم «5» . وعن جابر- رضي الله عنه- قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فأدركته القائلة، وهو في واد كثير العضاه «6» ، فنزل تحت سمرة «7» ، واستظلّ   (1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: ما كان النّبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم [برقم (5809) ، ومسلم في كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلّفة..، برقم (1057) ] وأحمد في المسند (3/ 153) باختلاف في اللفظ. (2) [أخرجه البيهقي مفصّلا، وابن حبان برقم (2105) ، والحاكم (2/ 37) برقم (2237) ، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه] . (3) الغرة: الغافلة. (4) السلم: الأسر. (5) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب قول الله: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» [برقم (1088) ] . (6) [العضاه: هو كلّ شجر عظيم له شوك، الواحدة عضاهة] . (7) [السمرة: ضرب من شجر الطلح] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 بها، وعلّق سيفه، فتفرّق الناس في الشجر يستظلّون، وبينما نحن كذلك، إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا، فإذا أعرابيّ قاعد بين يديه، فقال: «إنّ هذا أتاني وأنا نائم، فاخترط عليّ سيفي، فاستيقظت، وهو في يده قائم على رأسي مخترط صلتا، قال: من يمنعك منّي؟ قلت: الله! فشامه «1» ، ثم قعد، فها هو ذا جالس» ، قال: ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . وقد كان حلمه يسع ما لا يسعه حلم الصحابة- وهم أصحاب حلم وأناة- وكان في كلّ ذلك معلّما رفيقا، ومصلحا رحيما. من ذلك ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- قال: بال أعرابيّ في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وأريقوا على بوله سجلا من الماء، أو ذنوبا من ماء، فإنّما بعثتم ميسّرين، ولم تبعثوا معسّرين» «3» . وعن معاوية بن الحكم قال: بينا أنا أصلّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمّياه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمّا رأيتهم يصمّتونني لكنّي سكتّ، فلمّا صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمّي، ما رأيت معلّما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو الله ما نهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، فقال: «إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس،   (1) أي ردّه إلى غمده، وقيل: هو بمعنى سله ونظر إليه (مجمع بحار الأنوار، ج 3) . (2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: غزوة بني المصطلق [برقم (2910) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف، برقم (843) ] . (3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء [باب صبّ الماء على البول في المسجد، برقم (220) ، والترمذي في أبواب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض، برقم (147) ، والنّسائي في كتاب الطهارة، باب ترك التوقيت في الماء، برقم (56) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 إنّما هي التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن» «1» . ويقول أنس بن مالك- رضي الله عنه-: «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم رحيما، وكان لا يأتيه أحد إلّا وعده، وأنجز له، إن كان عنده، وأقيمت الصلاة، وجاء أعرابيّ، فأخذ ثوبه فقال: إنّما بقي من حاجتي يسيرة، وأخاف أن أنساها، فقام معه، حتّى فرغ من حاجته، ثمّ أقبل فصلّى» . ومن أمثلة قوّة احتماله، وسعة صدره، وعظم صبره، ما شهد به خادمه أنس بن مالك- رضي الله عنه- وقد كان حديث السنّ، قال: خدمت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أفّ ولا لم صنعت، ولا ألا صنعت! «2» . وروى سواد بن عمر، قال: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا متخلّق، فقال: «ورس ورس، حطّ حطّ» ، وغشيني بقضيب في يده ببطني، فأوجعني، فقلت: القصاص يا رسول الله، فكشف لي عن بطنه، فأبيت القصاص «3» . الحفاظ على أصالة الدين والغيرة على روحه وتعاليمه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على رفقه ولين كنفه وقوّة احتماله وتغاضيه عن سقطات الناس وزلّاتهم- على حدّ لا يتصوّر فوقه- شديد الحفاظ على أصالة   (1) أخرجه مسلم [في كتاب المساجد] ، باب تحريم الكلام في الصلاة، [برقم (537) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب تشميت العاطس في الصلاة، برقم (930) ، والنسائي في كتاب السهو، باب: الكلام في الصلاة، برقم (1219) ] . (2) [أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء، برقم (6038) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، برقم (2309) ، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في الحلم وأخلاقه النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (4773) ، والترمذي في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في خلق النبي صلى الله عليه وسلم، برقم (2015) ] . (3) كتاب الشفاء [الباب الثاني، الفصل السابع، وج 1/ ص 444، طبع مكتبة الفارابي، بدمشق، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف (45/ 50) برقم (17677) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 الدين، شديد الغيرة على روحه وتعاليمه وعلى عقيدة التوحيد، شديد الحذر مما يعرّض أمّته لخطر التورّط في الأوهام والمغالاة، وتقديس الأشخاص، والعودة إلى الجاهليّة، لا تأخذه في ذلك هوادة، ولا تمنعه من الإنكار عليه مصالح قياديّة أو اعتبارات سياسيّة، وكان في ذلك يختلف عن قادة الجماعات والزعماء السياسيين اختلافا واضحا. ومن أوضح أمثلته ما وقع عند وفاة ابنه سيّدنا إبراهيم «1» ، فقد كسفت الشمس يوم موته، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله- عزّ وجلّ- لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبّروا، وصلّوا وتصدّقوا» «2» . ولو كان مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة الحزينة العاطفيّة أيّ داع من الدعاة أو زعيم من الزعماء، أو قائد دعوة وحركة وجماعة كان أقلّ مواقفه من هذا التعليق أو التفسير للحادث السكوت، لأنّه كان في صالح دعوته وحركته، ولأنّه يضفي على شخصه وأسرته ما يستطيع أن يستعين به في بسط نفوذه على قلوب النّاس وعقولهم، وتقوية ثقتهم به، وإعجابهم له، وذلك شيء يتمناه قادة الشعوب والجماعات، ومنشئو الدّول والحكومات، ويعملون له ألف حيلة، وقد هيّأ الله له ذلك من طريق الغيب، فلا عليه إن سكت. ولكنّه صلى الله عليه وسلم لم يحتمل سماع هذا الكلام، ولم يسكت عليه لدقيقة، بل بادر إلى إزالة هذا الوهم الذي يجرّ إلى إفساد العقيدة، وربط الحوادث الكونيّة، وسنن الله تعالى في خلقه بما يقع لأفراد البشر، ولو كانوا من الأنبياء   (1) كان ذلك في العام العاشر من الهجرة، وكان ابن سنة ونصف. (2) حديث متفق عليه. [انظر تخريجه في الفصل الخامس، ص 555] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 أو أولادهم وأفراد أسرهم من ولادة وموت وصحّة ومرض، وذلك مدخل قديم، دخل منه الشّرك وتقديس العباد في الأمم السابقة، فنفى هذا الأسلوب من التفكير الجاهليّ، وأوضح الحقيقة، وشرع لذلك صلاة مخصوصة- هي صلاة الخسوف- لتوثيق الصلة بالله تعالى وعبادته واقتلاع هذه الجرثومة الجاهليّة من النفوس والعقول. وكذلك لم يسعه السكوت حين قال رجل: ما شاء الله وشئت، فقال صلى الله عليه وسلم: «أجعلتني لله ندّا» ، وقال رجل- وهو يخطب-: «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى» ، فقال: «بئس خطيب القوم أنت» «1» . وفي هذه المواقف يتجلّى «الموقف النبويّ» وما يمتاز به الأنبياء عن القادة والزعماء وعظاماء البشر، من تجرّد عن الأنانيّة، واستغلال الحوادث وضعف العقول في صالحهم، والسماح للمدح والإطراء «2» ، ولو تخطّى الحدود، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء في ذلك والأسوة الكاملة، وقد قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنّما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» «3» .   (1) [أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم (870) ، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قومه، برقم (1099) ، والنسائي في كتاب النكاح، باب ما يكره من الخطبة، برقم (3281) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه] . (2) [الإطراء: مجاوزة الحدّ في المدح والكذب فيه] . (3) [أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، برقم (3445) ، والترمذي في «الشمائل» باب تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (328) ، والدارمي في كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني» برقم (2682) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 تواضعه صلى الله عليه وسلم: أمّا تواضعه صلى الله عليه وسلم فقد بلغ الغاية فيه، فلم يكن يحبّ التمييز في شيء، ولا أن يقوم له النّاس، وأن يبالغوا في مدحه، فيطروه، كما أطرت الأمم السابقة أنبياءها، أو أن يرفعوه من منزلة العبوديّة والرسالة. قال أنس: لم يكن شخص أحبّ إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنّا إذا رأيناه لم نقم له لما نعلم من كراهيته لذلك «1» . وقيل له: يا خير البريّة! فقال: «ذاك إبراهيم- عليه السلام-» «2» . وروي عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنّما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» «3» . وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستنكف أن يمشي مع العبد، ولا مع الأرملة، حتّى يفرغ لهم من حاجتهم «4» . وعن أنس قال: كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت «5» .   (1) [أخرجه الترمذي في أبواب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل، برقم (2754) ] وأحمد في المسند (3/ 132) . (2) [أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب من فضل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، برقم (2369) ، وأبو داود في كتاب السنة، باب في التخيير بين الأنبياء عليهم السلام، برقم (4672) ، والترمذي في أبواب تفسير القرآن، برقم (3352) ، وأحمد (3/ 178) ] . (3) [قد سبق تخريجه قبل قليل] . (4) أخرجه البيهقي [في «دلائل النبوة» (1/ 329) ، والحاكم في المستدرك (2/ 614) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه] . (5) [أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الكبر، برقم (6072) ] أخرجه أحمد في- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 ولمّا قدم عليه عديّ بن حاتم الطائيّ، دعاه إلى منزله فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها، فجعلها بينه وبين عديّ، وجلس على الأرض. قال عديّ: فعرفت أنّه ليس بملك «1» . وعن أنس- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد «2» . وعن جابر- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلّف في المسير فيزجي «3» الضعيف ويدعو له «4» . وعن أنس- رضي الله عنه- أنّه كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة «5» السّنخة «6» ، فيجيب «7» .   - المسند، (3/ 198- 215) ، وجمع الفوائد، ج 2، كتاب المناقب، باب صفاته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم. (1) زاد المعاد: ج 1، ص 43. (2) أخرجه الترمذي في «الشمائل» باب: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، [برقم (328) ، وأخرجه في جامعه في أبواب الجنائز، باب آخر في سنة عيادة المريض وشهود الجنازة، برقم (1017) ، وابن ماجه في أبواب الزهد، باب البراءة من الكبر والتواضع، برقم (4178) ، والحديث ضعيف فيه مسلم الأعور، قال الدارقطني في علله (2/ 162) : ضعيف] . (3) [أي يسوقه ليلحقه بالرّفاق] . (4) ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» . [وأخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب لزوم الساقة، برقم (2639) ] . (5) الإهالة: كل شيء من الأدهان مما يؤتدم به. (6) السنخة: المتغيرة الريح. (7) أخرجه الترمذي في الشمائل، في باب «تواضع النّبي صلى الله عليه وسلم» [برقم (328) ، وأخرجه في جامعه في أبواب الجنائز، باب في سنة عيادة المريض وشهود الجنازة، برقم (1017) ، وأحمد في المسند (3/ 133- 208) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 وروي عنه أنّه قال: «إنّما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» «1» . ويقول عبد الله بن عمرو بن العاص: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقيت له وسادة من أدم حشوها ليف، فجلس على الأرض، وصارت الوسادة بيني وبينه» «2» . وكان صلى الله عليه وسلم يقمّ «3» البيت، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه «4» ، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها، ويحمل بضاعته من السوق «5» . شجاعته وحياؤه: وقد كان يجمع بين الحياء والشجاعة، وقد اعتبرهما كثير من الناس من الأضداد. أمّا الحياء فقد روي عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- أنّه كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه «6» ، وكان   (1) كتاب الشفاء: ص 101. (2) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» [باب من ألقى له وسادة، برقم (1176) وأخرجه في الصحيح في كتاب الاستئذان، باب: من ألقي له وسادة، برقم (6277) ، ومسلم في كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر ... ، برقم (2741) ] . (3) يقمّ: أي ينظّف. (4) [النّاضح: البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقى عليه الماء (لسان العرب، مادة: نضح) ] . (5) كتاب الشفاء: [القسم الأول، الباب الثاني (ج 1/ ص 266) ] . (6) [أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم برقم (3562) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم، برقم (2320) ، وابن ماجه في أبواب الزهد، باب الحياء، برقم (4180) ، والترمذي في «الشمائل» في باب حياء رسول الله صلى الله عليه وسلم، برقم (356) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 يمنعه الحياء عن أن يواجه أحدا بما يكرهه، فيكل ذلك إلى غيره. روى أنس- رضي الله عنه- أنّه كان عنده صلى الله عليه وسلم رجل له أثر صفرة «1» ، فكان صلى الله عليه وسلم لا يكاد يواجه! أحدا بشيء يكرهه، فلمّا قام، قال للقوم: «لو قلتم له: يدع هذه الصّفرة» «2» . وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن أحد ما يكرهه، لم يقل ما بال فلان يقول كذلك، ولكن يقول: «ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا» ينهى عنه، ولا يسمّي فاعله «3» . أمّا الشّجاعة، فناهيك بشهادة عليّ فارس الفرسان، وفتى الفتيان، قال رضي الله عنه-: إنّا كنّا إذا اشتدّ البأس، واحمرّت الحدق، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه، ولقد رأيتني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدوّ «4» . يقول أنس- رضي الله عنه-: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصّوت، فاستقبلهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: «لن تراعوا لن تراعوا» ، وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، وفي   (1) [الصفرة: بقية صفرة من الزعفران] . (2) أخرجه الترمذي في الشمائل، باب «خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم» [برقم (339) ، وأبو داود في كتاب الترجل، باب في الخلوق للرجال، برقم (4182) ، والنّسائي في «عمل اليوم والليلة» برقم (236) ] . (3) [أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب، برقم (6101) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب علمه بالله تعالى وشدّة خشيته، برقم (2356) ] . (4) كتاب الشفاء: (ج 1/ ص 237) ، وأخرجه أحمد في المسند (1/ 86) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 عنقه السيف، فقال: «لقد وجدته بحرا، أو إنّه لبحر» «1» . وقد ثبت في معركة أحد، ويوم حنين، حين انكشف عنه الشجعان، وخلا الميدان، وهو ثابت على بغلته، كأن لم يكن شيء، ويقول: [من مجزوء الرجز] أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب رأفة عامة ورحمة واسعة: وكان مع شجاعته هذه: رقيق القلب، سريع الدمعة، يرقّ للضعفاء، ويرحم الحيوانات والدوابّ، ويوصي بالرفق بها. يروي عنه شدّاد بن أوس، فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» «2» . وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنّ رجلا أضجع شاة وهو يحدّ شفرته، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أتريد أن تميتها موتتين؟ هلّا حددت شفرتك قبل أن تضجعها» «3» ؟. وقد أوصى أصحابه بالإحسان في علف الدابّة وسقيها، وعدم إرهاقها   (1) [قد سبق تخريجه في غزوة حنين في الفصل الرابع] . (2) أخرجه البخاري في كتاب الذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح، [برقم (1955) ، وأبو داود في كتاب الضحايا، باب في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة، برقم (2814) ، والنّسائي في كتاب الضحايا، باب الأمر بإحداد الشفرة، برقم (4410) ، وابن ماجه في أبواب الذبائح، باب: إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، برقم (3170) ] . (3) [أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 231) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 33) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 وتكليفها ما لا تطيق، وعدم اتخاذها غرضا. ونوّه بما في إزالة الكربة عن الحيوانات وإراحتهم من الأجر والثواب والقرب عند الله. روي عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: «بينما رجل يمشي بطريق اشتدّ عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثّرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ منّي، فنزل البئر فملأ خفّه ماء، ثمّ أمسكه بفيه حتّى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له» . قالوا: يا رسول الله! وإنّ لنا في البهائم أجرا؟ فقال: «في كلّ كبد رطبة أجر» «1» . وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عذّبت امرأة في هرّة لم تطعمها، ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش «2» الأرض» «3» . وعن سهل بن عمرو (وقيل سهل بن الربيع بن عمرو) قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال: «اتّقوا الله في هذه البهائم   (1) أخرجه البخاري في كتاب المساقاة، باب: فضل سقي الماء، [برقم (2363) ، ومسلم في كتاب السلام، باب: فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها، برقم (2244) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، برقم (2550) ] . (2) هي هوام الأرض وحشراتها، ذكره النووي. (3) [أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه..، برقم (3318) ، ومسلم في كتاب السلام، باب تحريم قتل الهرة، برقم (2242) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 المعجمة! فاركبوها صالحة وكلوها صالحة» «1» . وعن عبد الله بن جعفر- رضي الله عنهما- قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فمسح سراته «2» ، وذفراه، فسكن، فقال: «من ربّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟» فجاء فتى من الأنصار، فقال: هذا لي يا رسول الله، قال: «أفلا تتّقي الله في هذه البهيمة التي ملّكك الله إياها؟ فإنه يشكو إليّ أنّك تجيعه وتدئبه» «3» «4» . وروى أبو هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سافرتم في الخصب؛ أعطوا الإبل حظّها من الأرض، وإذا سافرتم بالجدب، فأسرعوا عليها السير، وبادروا بها نقيها، وإذا عرّستم فاجتنبوا الطريق، فإنّها طريق الدوابّ ومأوى الهوام بالليل» «5» . وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجعلت تعرّش، فجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «من فجع هذه بولدها، ردّوا ولدها إليها» .   (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، [برقم (2548) ] . (2) سراته: أي سنامه. (3) [تدئبه: أي تكدّه وتتعبه (من: دأب يدأب، وأدأب يدئب) ] . (4) أخرجه أبو داود [في كتاب الجهاد] ، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، [برقم (2549) ، وأحمد في المسند (1/ 205) ] . (5) أخرجه مسلم [في كتاب الإمارة] ، باب مراعاة مصلحة الدواب في السير..، [برقم (1926) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في سرعة السير والنهي عن التعريس في الطريق، برقم (2569) ، والترمذي في أبواب الأدب، باب مراعاة الإبل في الخصب والسنة في السفر، برقم (2858) ، وغيرهم] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 ورأى قرية نمل قد حرقناها، قال: «من حرق هذه؟» فقلنا: نحن، قال: «إنّه لا ينبغي أن يعذّب بالنار إلا ربّ النار» «1» . هذا فضلا عمّا أوصاه للخادم والأجير، وهما بشر من البشر، ولهما فضل على السّيد والمستأجر، فقد أوصى صلى الله عليه وسلم بالخدم والعبيد خيرا. روى جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي بالمملوكين خيرا، ويقول: «أطعموهم ممّا تأكلون، وألبسوهم من لبوسكم، ولا تعذّبوا خلق الله عزّ وجلّ، إنّ إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم» «2» . وروي عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابيّ إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كم أعفو عن الخادم كلّ يوم؟ قال: «سبعين مرة» «3» . وعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه» «4» .   (1) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في كراهية حرق العدوّ، [برقم (2675) ، وأحمد في المسند (1/ 404) ] . (2) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ص (30) ، [وأخرجه في صحيحه في كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن، برقم (6050) ، ومسلم في كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل..، برقم (1661) ، والترمذي في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان إلى الخادم، برقم (1945) من حديث المعرور بن سويد رضي الله عنه] . (3) [أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في حق المملوك، برقم (5164) ، والترمذي في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في العفو، عن الخادم، برقم (1949) ، وأحمد في المسند (2/ 90) ] . (4) أخرجه ابن ماجه في أبواب الرهون، باب: أجر الأجراء [برقم (2443) ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 أسوة كاملة وقدوة عامة: ونختم هذا الفصل بقطعة جميلة نقتبسها من كتاب «الرسالة المحمديّة» «1» لمؤلّف السيرة النبويّة الشهير، أستاذنا العلامة سليمان النّدوي «2» ، ذكر فيها كيف كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أسوة لجميع طبقات البشر، ويصلح أن يكون قدوة لجميع أفراد بني آدم، على اختلاف صنائعهم ومهنهم وظروفهم وبيئاتهم في كلّ زمان، يقول- رحمة الله-: «لقد مثّلت حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعمالا كثيرة متنوعة، بحيث تكون فيها الأسوة الصالحة، والمنهج الأعلى، للحياة الإنسانيّة في جميع أطوارها؛ لأنها جمعت بين الأخلاق العالية والعادات الحسنة، والعواطف النبيلة المعتدلة، والنوازع العظيمة القويمة. إذا كنت غنيّا مثريا، فاقتد بالرسول صلى الله عليه وسلم عند ما كان تاجرا يسير بسلعه بين الحجاز والشام، وحين ملك خزائن البحرين. وإن كنت فقيرا معدما فلتكن لك أسوة به وهو محصور في شعب   (1) [هو من أقوى الكتب في السيرة النبوية، وأروعها في جمال التعبير، وبثّ حلاوة الإيمان، وتوثيق الصّلة بذات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو عصارة لمكتبة كاملة في السيرة، وهو هدية ثمينة لغير المسلمين والمثقّفين المسلمين، والباحثين عن الحق للتعريف بالإسلام، ولعرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بإيجاز، وأسلوب مقنع مؤثّر- (العلامة المؤلّف في كتابه «شخصيات وكتب» ص 56) وقد طبع الكتاب بعنايتنا في دار ابن كثير بدمشق عام 1423 هـ 2002 م] . (2) [توفي رحمه الله- بمدينة كراتشي عام 1373 هـ (1952 م) ، ومن يريد الاستزادة والاطلاع على شخصيته العبقرية ومكانته العلمية وآثاره التأليفية فليرجع إلى كتاب «السيد سليمان الندوي: أمير علماء الهند في عصره، وشيخ الندويين» تأليف الدكتور محمد أكرم الندوي، طبع دار القلم بدمشق] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 أبي طالب، وحين قدم إلى المدينة مهاجرا إليها من وطنه، وهو لا يحمل من حطام الدّنيا شيئا. وإن كنت ملكا فاقتد بسننه وأعماله حين ملك أمر العرب، وغلب على آفاقهم، ودان لطاعته عظاماؤهم وذوو أحلامهم. وإن كنت رعية ضعيفا، فلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة أيام كان محكوما بمكة في نظام المشركين. وإن كنت فاتحا غالبا، فلك في حياته نصيب أيّام ظفره بعدوّه في بدر وحنين ومكة. وإن كنت منهزما- لا قدّر الله ذلك- فاعتبر به في يوم أحد وهو بين أصحابه القتلى ورفقائه المثخنين بالجراح. وإن كنت معلّما، فانظر إليه وهو يعلّم أصحابه في صحن المسجد. وإن كنت تلميذا متعلّما، فتصوّر مقعده بين يدي الروح الأمين جاثيا مسترشدا. وإن كنت واعظا ناصحا ومرشدا أمينا، فاستمع إليه وهو يعظ الناس على أعواد المسجد النبويّ. وإن أردت أن تقيم الحقّ وتصدع بالمعروف، وأنت لا ناصر لك ولا معين، فانظر إليه وهو ضعيف بمكة، لا ناصر ينصره، ولا معين يعينه، ومع ذلك فهو يدعو إلى الحقّ ويعلن به. وإن هزمت عدوّك وخضدت شوكته، وقهرت عناده، فظهر الحقّ على يديك، وزهق الباطل، واستتبّ الأمر، فانظر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة، وفتحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 وإن أردت أن تصلح أمورك، وتقوم على ضياعك، فانظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد ملك ضياع بني النّضير وخيبر، وفدك، كيف دبّر أمورها، وأصلح شؤونها، وفوّضها إلى من أحسن القيام عليها. وإن كنت يتيما، فانظر إلى فلذة كبد آمنة وزوجها عبد الله، وقد توفيا وابنهما صغير رضيع. وإن كنت صغير السنّ، فانظر إلى ذلك الوليد العظيم حين أرضعته مرضعته الحنون حليمة السّعديّة. وإن كنت شابّا فاقرأ سيرة راعي مكة. وإن كنت تاجرا مسافرا بالبضائع، فلاحظ شؤون سيّد القافلة التي قصدت «بصرى» . وإن كنت قاضيا أو حكما فانظر إلى الحكم الذي قصد الكعبة قبل بزوغ الشمس ليضع الحجر الأسود في محلّه، وقد كاد رؤساء مكة يقتتلون، ثمّ أرجع البصر إليه مرة أخرى، وهو في فناء مسجد المدينة يقضي بين الناس بالعدل، يستوي عنده منهم الفقير المعدم، والغنيّ المثريّ. وإن كنت زوجا فاقرأ السيرة الطاهرة، والحياة النزيهة لزوج خديجة وعائشة. وإن كنت أبا أولاد، فتعلّم ما كان عليه والد فاطمة الزهراء، وجدّ الحسن والحسين رضي الله عنهما. وأيّا من كنت، وفي أيّ شأن كان شأنك، فإنّك مهما أصبحت أو أمسيت، وعلى أيّ حال بتّ أو أضحيت، فلك في حياة محمد صلى الله عليه وسلم هداية حسنة، وقدوة صالحة تضيء لك بنورها دياجي الحياة، وينجلي لك بضوئها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 ظلام العيش، فتصلح ما اضطرب من أمورك، وتثقف بهديه أودك، وتقوّم بسننه عوجك. وإنّ السيرة الطيبة الجامعة لشتّى الأمور هي ملاك الأخلاق، وجماع التعاليم، لشعوب الأرض، وللناس كافّة، في أطوار الحياة كلّها، وأحوال الناس على اختلافها وتنوّعها، فالسيرة المحمديّة نور للمستنير، وهديها نبراس للمستهدي، وإرشادها ملجأ لكلّ مسترشد «1» .   (1) الرسالة المحمدية: المحاضرة الخامسة: «السيرة المحمدية من ناحيتها الجامعة» ص (117- 118) طبع دار ابن كثير بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 الفصل السابع فضل البعثة المحمّدية على الإنسانيّة ومنحها العالميّة الخالدة أ- فضل البعثة المحمدية على الإنسانية: إعلان فريد في تاريخ الرسالات والديانات قيمة الرحمة التي اقترنت بالبعثة المحمدية البعثة المحمدية أنقذت النوع البشريّ من الشقاء مهمة النبوّة ودورها في الإنقاذ والإسعاد ب- العالم الجديد في حساب البعثة المحمدية ومنحها: منح البعثة المحمدية عقيدة التوحيد النقية الواضحة مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية إعلان كرامة الإنسان وسموّه محاربة اليأس والتشاؤم وبعث الأمل والرجاء الجمع بين الدين والدنيا تعيين الأهداف والغايات وميادين العمل والكفاح * ولادة عالم جديد وإنسان جديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 فضل البعثة المحمّديّة على الإنسانيّة ومنحها العالميّة الخالدة «1» أ- فضل البعثة المحمدية على الإنسانية 1- إعلان فريد في تاريخ الرسالات والديانات: قال الله تعالى مخاطبا لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، هذا إعلان فريد من نوعه، جاء في كتاب خالد قدّر الله سبحانه وتعالى له أن يتلى في كلّ مكان وزمان، ويبلغ عدد قرائه ملايين الملايين، وقال عنه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] . إنّ سعة هذا الإعلان، وإطاره الكبير، ومساحته بحساب الزمان والمكان، تجعلان هذا الإعلان خارقا للعادة، لا يمكن أن يمرّ به الإنسان   (1) محاضرة ألقاها المؤلف في 20 ربيع الآخر 1395 هـ (2/ 5/ 1975 م) في قاعة المحاضرات الكبرى بمدينة لكهنؤ- الهند، حضرها جمّ غفير من المثقفين من جميع طبقات الشعب، من المسلمين وغير المسلمين، نقلها إلى العربية الأستاذ محمد الحسني رئيس تحرير مجلة «البعث الإسلامي» وتناولها المحاضر بالتنقيح والتهذيب وشيء من الحذف والزيادة، ولما كانت هذه المحاضرة وثيقة الصلة بالسيرة النبوية، وفضلها على الإنسانية والمدنية، جعلها المؤلّف الفصل الأخير لهذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 الواعي مرورا عابرا سريعا، فإنّ مساحته الزمنيّة تحوي جميع الأجيال، والأدوار التاريخيّة التي تتلو البعثة المحمدية، ومساحته المكانيّة تسع العالم كلّه، فإنّ الله سبحانه وتعالى لم يقل: إنّنا أرسلناك رحمة لجزيرة العرب، أو للشرق أو الغرب أو لقارّة مثل آسيا مثلا، بل إنّه قال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] . الحقّ أنّ سعة هذا الإعلان وشموله، وعظمته وسموّه، واستمراره وخلوده، كلّ ذلك يقتضي أن يقف عنده مؤرّخو العالم وفلاسفته، ونوابغه وأذكياؤه حيارى مشدوهين، بل يقف أمامه الفكر الإنسانيّ كلّه حائرا مشدوها، وينقطع إليه كلّيا- ردحة من الزمان- يبحث في مدى صدق هذا الإعلان، أو صحة هذا الواقع، لأنّنا لم نجد في تاريخ الأديان والنّحل، وفي تاريخ الحضارات والفلسفات وتاريخ الحركات الإصلاحيّة والمحاولات الثوريّة، بل في تاريخ العالم كلّه، وفي المكتبة الإنسانيّة بأسرها مثل هذا الإعلان المحيط بالكون كلّه، والأجيال البشريّة كلّها، والأدوار التاريخيّة بأجمعها، حول أيّ شخصيّة من شخصيّات العالم، حتّى إنّ خلاصة تعاليم الأنبياء السابقين، ونبذة من أحوالهم وسيرتهم الّتي وصلت إلينا هي أيضا مجرّدة عن مثل هذا الإعلان. أمّا اليهوديّة- وهي ديانة قديمة مشهورة- فإنّها تنظر إلى الله كربّ بني إسرائيل، وإله بني إسرائيل في الغالب. إنّ صحف العهد القديم، والكتب المقدسة الدينيّة عند اليهود تخلو عن ذكر الله كربّ العالمين، وربّ الكون بتاتا، ولذلك فالبحث في سيرة نبيّ من أنبيائهم، مثل موسى وهارون، أو داود وسليمان، عن مثل هذا الإعلان، عبث وإضاعة وقت، فإنّ هذه الديانة لم تكن- في أيّ مرحلة من مراحلها- رسالة رحمة ومساواة للجيل الإنسانيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 كلّه من غير تمييز عنصريّ ولم تشجّع فيها الدعوة إلى هذه الديانة خارج شعب إسرائيل أبدا «1» . أمّا المسيحيّة التي عرفت بتسامحها وحماسها للدعوة، وعطفها على الإنسانية، فقد جاء في الإنجيل تصريح- والعهدة على الكتاب- بأنّ المسيح صرّح بأنّه لم يبعث إلا ليرعى خراف بني إسرائيل الضالة «2» ، وحين لفت نظره إلى بعض المرضى الذين لم تكن لهم صلة رحم ونسب ببني إسرائيل اعتذر وقال: «إنّي لست ذلك الرجل الذي يعطي خبز الأولاد للكلاب» «3» . أمّا الدّيانات الشرقيّة والآسيويّة الآخرى، وخاصة الهندوكيّة، فإنّها لا تختلف كثيرا عن النموذج السابق، بل إنّها تسبق الديانات السابقة أحيانا في تقديس النّسب والسلالة، وتوزيع النّاس في طبقات توزيعا ظالما جائرا، لا يعرف اللين والمرونة. فقد كان المنبوذون في المجتمع الهنديّ محرومين من كلّ نوع من التكريم والشرف والمساواة، ومن أولى حقوق الإنسان، وأبسط مبادىء الإنسانيّة، لا يجوز لهم تحصيل العلم، والتعليم، والتدريس، والتطلّع إلى الهضبة الروحية. فقد خصّ دراسة «ويدا» وتقديم القرابين، والنذر لآلهتهم وأوثانهم بالبراهمة فحسب «4» ، وكان النظر في كتب «ويدا» ودراستها مقصورا على   (1) انظر للتوسع والتفصيل في هذا الموضوع كتاب المهتدية الأمريكية الفاضلة مريم جميلة.) Islam Versus Ahl -El -Kitab ,Past Present 22 -32: (2) إنجيل متى: باب 15، آية 24، وباب 10، آية 6- 7. (3) متى: باب 15- آية 26. (4) منوشاستر: الباب الأول- 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 فئة الشتري والويش «1» ، وقد صرّح «منوشاستر» أنّ المنبوذين لم يخلقهم الله إلّا لغرض واحد، وهو خدمة الطبقات الثلاث التي مضى ذكرها «2» . إنّ أهل الهند القدامى لم يكونوا يعرفون وراء جبال «هملايا» دنيا، لا صلة لهم بالعالم الخارجيّ، وبالشعوب الآخرى، ولا رغبة لهم في الإطلال عليها، لذلك فإنّ البحث عن مثل هذا الإعلان عن نبيّ أو وليّ أو مصلح فيهم عبث وإضاعة جهد ووقت. الحقيقة أنّ البحث عن نبيّ يكون رحمة للعالمين في ديانة لا تحمل عقيدة «ربّ العالمين» غير معقول وغير منطقيّ. 2- قيمة الرحمة التي اقترنت بالبعثة المحمديّة كما وكيفا: إنّ لتقدير شيء، ووضعه في محلّه المناسب ومكانه اللائق مقياسين بصورة عامّة: الأوّل: مقداره وحجمه الذي يعبّر عنه في المصطلح الحديث بالكميّة.) Quantity ( والثاني: جوهره ووصفه الذي يقال له الكيفية.) Quality ( وهذا الإعلان الذي نادى به القرآن يشمل هذين النوعين، ويجمع بين الناحيتين، فإنّ بعثته صلى الله عليه وسلم وشخصه العظيم، وتعاليمه السامية الخالدة أفاضت على الإنسانيّة مسحة جديدة من الحياة والنشاط، وكانت السبب المباشر في شفائها من أسقامها وعلّاتها، وفي حلّ معضلاتها، ونهاية آلامها وأحزانها، وهطول أمطار الرحمة والبركة، واليمن والسعادة، والخير   (1) منوشاستر: الباب الأول- آية 89- 90. (2) المصدر السابق: الباب الأول- 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 والفلاح على أرضها المجدبة القاحلة، وكانت هذه المعطيات المحمديّة الغالية منقطعة النظير بحساب السعة والوفرة، والحجم والكميّة) Quantity (وبحساب النفع والإفادة والجوهر والكيفية) Quality (أيضا. (الرّحمة) لفظ شاع استعماله في حياتنا اليوميّة، وهو يطلق على كلّ شيء ينال به الإنسان نفعا وراحة، أمّا أنواع الرحمة وأقسامها، ودرجاتها ومدارجها، فلا حصر لها، يقدّم أحدنا الماء البارد إلى أخيه العطشان، ويدلّ المسافر والغريب على الطريق، ويحرّك له المروحة في يوم صائف شديد الحرّ، الأمّ تحنو على طفلها، الأب يربّي ولده ويعلّمه، ويزوّده بحاجيات الحياة، المدرّس يدرّس تلاميذه، ويمنحهم ما عنده من نعمة العلم، وهكذا إطعام الجائع المسكين، وإكرام الضيف، وكساء العريان، كلّ ذلك من مظاهر الرحمة العامة، وألوانها المختلفة الزاهية، وهي تستحقّ منّا كلّ تقدير، واعتراف، وشكر. ولكنّ أكبر مظهر من مظاهر الرحمة، وأروع صورة من صورها الجميلة أن ينقذ أحدنا أخاه من مخالب الموت، هناك طفل صغير بريء نراه في حالة الاحتضار، كاد يلفظ نفسه الأخير، الأمّ تقف إلى جواره تبكي، قد أظلمت الدّنيا في ناظريها، وانقطع أملها في فلذة كبدها، ومأوى حنانها وحبّها، الأب يسعى هنا وهناك هائما على وجهه، فلا يجد راقيا وأنيسا، هنالك يأتي طبيب حاذق، كما ينزل الملك من السماء ويقول مهلا.. لا داعي للقلق، ولا موجب لليأس، ولا يلقي في فم الطفل قطرات قليلة من الدواء حتّى يفتح عينيه وينشط. تصوّر ماذا يقال لهذا الطبيب؟ ألا يقال له: أنّه ملك الرحمة، أرسله الله لإنقاذ هذا الطفل، وإعادة الحياة إليه؟ هنالك تتلاشى كلّ هذه الأنواع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 الرحمة التي قدمناها أولا، وتذوب أمام هذا المظهر الرائع الأخّاذ من الرحمة، إنها ليست منّة على الطفل فقط، بل على أسرته كلّها. نرى أعمى يمشي متوكّئا على عصاه، قد شارف هوّة عميقة أو بئرا، قد تكون خطوته التالية خطوة الموت، فيهرول إليه عبد من عباد الله ويأخذ بحجزه، ويمنعه عن الوقوع في هذه الهوّة، أفلا نسمّيه ملك الرحمة؟ هذا شابّ يافع، قرّة عين أبويه، وكفيل عائلته الفقيرة، قد أشرف على الغرق في نهر فائض يحاول أن يطفو على الماء، ولكن بدون جدوى، فيقفز إليه رجل مجازفا بحياته، ويأخذ به إلى ساحل النجاة، فيحمله ربّ الأسرة أو إخوة هذا الشاب على أعناقهم، ويضمّونه إلى صدورهم بحرارة وحبّ، ولا ينسون فضله على أسرتهم الصغيرة مدى الدهر، ترى هل تساوي مظاهر الرحمة الأولى هذه الرحمة العظيمة الغالية؟!!. 3- البعثة المحمدية أنقذت الجيل البشري من الشقاء والهلاك: ولكنّ آخر مظهر من مظاهر الرحمة وقيمتها وذروة سنامها، هي أن ينقذ رجل الإنسانيّة كلّها من الهلاك، وهناك فرق عظيم بين هلاك وهلاك، وبين خطر وخطر، ذلك هلاك محدود سطحيّ، وخطر عابر قد يزول، وهذا هلاك أبديّ، وخطر مستمرّ لا يزول، لذلك فإنّ رحمة الأنبياء بالنوع البشريّ لا تقاس أبدا على هذه الرحمات، رغم أهميّتها وعظمتها. إنّ أمامنا بحرا هائجا مائجا من الحياة لم يلتقم الأفراد والآحاد فحسب، بل إنّه ابتلع الأمم والبلاد، وهضم الحضارات والمدنيّات، ترتفع أمواجه العاتية الهائلة، كأفواه التماسيح الفاغرة، وتنقضّ على الجماعات البشريّة كالأسد الضاري، والمشكلة أنّه كيف نعبر هذا البحر الهادر الزاخر الذي لا يعرف الرحمة؟، وكيف ننزل بسفينة الإنسانية على برّ الأمان؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 ولا يكون صاحب الفضل الأكبر في هذا المجال، ولا يعتبر أكبر منقذ للإنسانيّة، وصاحب المنّة عليها، والإحسان إليها، إلّا من يجدّف هذه السفينة، التي تلعب بها العواصف الهوجاء والأمواج الهائلة كالجبال، والتي غاصت بركّابها، وغاب الملّاح والرّبّان، ثمّ يوصلها بسلامة إلى ساحل النجاة؟!! إنّ النوع البشريّ شاكر لهؤلاء الذين منحوه هدية العلم، ويشكر هؤلاء الذين جمعوا له هذه الأكداس من المعلومات، ويشكر الذين هيّؤوا له كلّ هذه التسهيلات، وزوّدوه بوسائل الراحة والرخاء، وذلّلوا صعاب الحياة، واقتحموا عقباتها وشعابها، إنّه لا يبخس حقّ أحد من هؤلاء، ولا ينكر فضلهم عليه، ولكنّ قضيّته الكبرى، ومشكلته الأولى هي أنّه كيف ينفذ نفسه من أعدائه الذين وقفوا له بالمرصاد، وأحاطوا به من كلّ جانب، وكيف يصل بسفينته إلى برّ السلامة والأمان؟!. فما هي أمواج هذا البحر، وما هي تماسيحه الضّارية الشّرسة؟ إنّها الجهل عن خالق هذا الكون وربّ العالمين، وعن صفاته العليا، وأسمائه الحسنى، والوقوع في حبائل الشرك والوثنيّة، وعبادة الأصنام، والاسترسال مع الخرافات والأوهام، إنّها بلادة حسّ الإنسانيّة، وذهولها عن نفسها، وغفلتها عن خالقها وبارئها. إنّها عبادة المادّة والمعدة، وتعدّي الحدود، وانتهاك الحرمات، وسورة النفس الأمارة بالسوء، والتهرّب من أداء الواجبات والحقوق، والإصرار على المنافع والحظوظ. إنّ أكبر خطر على الإنسانيّة أن يحدث في بنائها خلل، وتحيد لبنتها الأساسيّة عن مكانها الصحيح، فينسى الإنسان قيمته ومداركه، وغاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 حياته، ويظنّ نفسه ذئبا مفترسا، أو أفعى، أو ثعبانا، فحين يذهل الإنسان عن هذه الحقائق الكبرى يتحوّل بحر هذه الحياة إلى نار متأجّجة، ولهب مرتفع، هنالك يزدرد الإنسان أخاه، ويفترسه، ولا يحتاج إلى الثعابين، والعقارب، والذئاب، والفهود.. فقد ينقلب الإنسان أكبر ذئب في هذه الغابة الإنسانية.. تخجل أمامه الذئاب، ويتحوّل شيطانا ماردا، تستحي منه الشياطين، هنالك يحترق الإنسان، ويشوى في ناره التي أشعلها بنفسه، ولا يحتاج إلى أن يستوردها من الخارج. في هذه الفترة الرهيبة المظلمة تهبّ نفحة من نفحات الرحمة الإلهيّة، وتنتعش رفات الإنسانيّة الخامدة الهامدة، وتزوّدها بملّاحين يجدّفون سفينتها بنجاح ومهارة. 4- مهمّة النبوة ودورها في الإنقاذ والإسعاد وطبيعة عمل الأنبياء: وأضرب- لتوضيح مهمّة النبوّة، وطبيعة عمل الأنبياء- مثلا سوف نفهم به مهمّة النبوّة وموقفها من غير دلائل فلسفية دقيقة. يحكى أنّ فريقا من تلاميذ المدارس ركبوا سفينة للنزهة في البحر، أو للوصول إلى البرّ، وكان في النفس نشاط وفي الوقت سعة، وكان الملّاح المجدّف الأميّ خير موضوع للدعابة والتّندّر، وخير وسيلة للتلهّي، وترويح النفس، فخاطبه تلميذ ذكيّ جريء، وقال: يا عمّ، ماذا درست من العلوم؟ قال الملّاح: لا شيء يا عزيزي! قال: أما درست العلوم الطبيعيّة يا عمّي؟ قال: كلّا وما سمعت بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 وتكلّم أحد التلاميذ، فقال: ولكنّك لا بدّ درست الأقليدس والجبر والمقابلة! قال: وهذا أغرب، وتصدّقون أنّي أوّل مرّة أسمع هذه الأسماء الهائلة الغريبة. وتكلّم ثالث «شاطر» فقال: ولكنّي متأكّد من أنّك درست الجغرافية والتاريخ؟ فقال: هل هما اسمان لبلدين، أو علمان لشخصين؟ وهنا لم يملك الشباب نفوسهم المرحة، وعلا صوتهم بالقهقهة، وقالوا: ما سنّك يا عمّ؟ قال: أنا في الأربعين من سنّي. قالوا: ضيّعت نصف عمرك يا عمّنا. وسكت الملّاح الأمّيّ على غصص ومضض، وبقي ينتظر دوره والزمان دوّار. وهاج البحر وماج، وارتفعت الأمواج، وبدأت السفينة تضطرب والأمواج فاغرة أفواهها لتبتلعها، واضطرب الشباب في السفينة- وكانت أوّل تجربتهم في البحر- وأشرفت السفينة على الغرق. وجاء دور الملّاح الأميّ، فقال في هدوء ووقار: ما هي العلوم التي درستموها يا شباب؟ وبدأ الشباب يتلون قائمة طويلة للعلوم والآداب التي درسوها في الكليّة، ويتوسّعون فيها في الجامعة، من غير أن يفطنوا لغرض الملّاح الجاهل، الحكيم، ولمّا انتهوا من عدّ العلوم المرعبة أسماؤها، قال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 وقار تمزجه نشوة الانتصار: لقد درستم يا أبنائي هذه العلوم الكثيرة، فهل درستم علم السّباحة؟ وهل تعرفون إذا انقلبت هذه السفينة- لا قدّر الله- كيف تسبحون وتصلون إلى الساحل بسلام؟ قالوا: لا والله يا عمّ، هو العلم الوحيد الذي فاتتنا دراسته والإلمام به. هنالك ضحك الملّاح وقال: إذا كنت ضيّعت نصف عمري، فقد أتلفتم عمركم كلّه، لأنّ هذه العلوم لا تغني عنكم في هذا الطوفان، إنّما كان ينجدكم العلم الوحيد، هو علم السباحة الذي تجهلونه «1» . هذه مهمّة النبوّة ودورها في إنقاذ البشريّة المشرفة على الغرق، وهذه طبيعة عمل الأنبياء والرسل، وامتيازه عن سائر أصناف التعليم والتربية، والترويح والتسلية، يمنحون الجيل البشريّ «علم النجاة» ويعلمونه فنّ السباحة، وتجديف سفينة الحياة. إنّ التاريخ الإنسانيّ يدلّ دلالة واضحة على أنّه لما غرقت سفينة الحياة لفساد أخلاق الناس، وسيّئات أعمالهم، غرقت بكلّ ما فيها من مجموعة بشرية، ورصيد حضاريّ، ومحصول فكريّ، وإنتاج علميّ وفلسفيّ، وبكلّ ما فيها من روائع الشعر والأدب والبيان، وأنّ هذه السفينة لم تغرق أبدا من أجل الانحطاط الأدبيّ، وقلّة المدارس والجامعات، وفقدان التعليم العالي، أو من قلّة المال وانخفاض مستوى المعيشة، إنّها غرقت لأنّ الإنسان أعدّ نفسه للانتحار، إنّه صار معولا هداما لذلك البناء الذي فيه متاعه وأهله.   (1) القصة مقتبسة من كتاب المؤلف «النبوة والأنبياء في ضوء القرآن» ص (24) من الطبعة السابعة لدار القلم بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 إنّ التاريخ يدلّنا على أنّ الفكر الإنسانيّ أصيب في كثير من الأحيان بنوبات عصبيّة دفعته إلى التدمير والإبادة، بدلا من التعمير والبناء، فقد رأينا مستغربين مأخوذين بالحيرة والدهشة، ورأينا بأمّ أعيننا، ونحن لا نكاد نصدّق هذا الواقع لهول المنظر وبشاعة الوضع، أنّ الإنسان قام يهدم أساسه بكلّ قوّة وحماس، ذلك الأساس الذي قام عليه صرحه الحضاريّ والفكريّ العظيم، وظلّ مشتغلا بهذه العمليّة المجنونة بكلّ شوق ورغبة، كأنّها عملية بنّاءة ومأثرة إنسانية رائعة، وخدمة ممتازة، وصار يلحّ على الوقوع في خندق الموت، وقد تملّكته السامة من الحياة، واستبدّ به الشوق إلى الهلاك، كأنّ الحياة عذاب وجحيم، والهلاك جنة ونعيم. 5- تصوير العصر الجاهلي وتهيؤه للانهيار والانتحار: ذلك هو الوضع الذي ساد على العالم في القرن السادس المسيحيّ، فإننا نجد هناك استعدادات عامة للانتحار الاجتماعيّ العام، لم يكن النوع البشريّ في ذلك الزمان راضيا بالانتحار فحسب، بل كان يتساقط عليه، ويتهالك فيه، كأنّه نذر به وحلف، فيريد أن يفي بنذره ولا يحنث في قسمه، ولقد صوّر القرآن العظيم هذا المنظر وهذا الوضع تصويرا دقيقا، لا يصوّره أيّ رسّام أو أديب، أو روائيّ أو مؤرّخ: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران: 103] . رحم الله المؤرّخين، فإنّهم لم يصوّروا الجاهلية حين سردوا لنا وقائع البعثة المحمديّة تصويرا دقيقا، وهم معذورون ومأجورون، مثابون ومشكورون، فإنّ ذخيرة الأدب واللغة لا تسعفهم كلّ الإسعاف، الحقيقة أنّ هذا الوضع في قمّة من الهيبة والفظاعة، وفي منتهى الدّقة والتعقيد، لا يمكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 وصفه بريشة قلم، والتعبير عنه بأيّ قدرة بيانيّة، وصلاحيّة لغوية. هل كان العصر الجاهليّ- الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم- قضية انحطاط اجتماعيّ أو خلقيّ، هل إنّه كان قضية وثنيّة مجردة، أو قضيّة خمر وقمار، وعبث واستهتار، أو ظلم واستبداد، قضية قوانين اقتصادية جائرة، وتعسف الحكام الغاشمين، هل إنّه كان قضية وأد البنات، كلّا، إنّه كان قضية وأد الإنسانية كلّها. لقد انتهى هذا الدور، وانقرض هذا الجيل، وغاب هذا التصوير البشع عن أعين الناس، فكيف نعيده ونمثّله، ونجعله حسّيا شاخصا تراه الأبصار، وتلمسه البنان، وجلّ ما نستطيع أن نقول: إنّه عصر جاهليّ لا يفهمه حقّ الفهم إلّا من عاش فيه واكتوى بناره، ولو كان لمصوّر يحاول التصوير يمكن أن يمثّل البشرية في صورة إنسان في غاية الجمال والصّحة، والأناقة وحسن الهندام، الإنسان الذي هو نموذج بديع فريد لصنع الله الذي أتقن كلّ شيء، والذي هو محسود الملائكة، وغاية الخلق، الذي كلّله الله بتاج خلافته، فصار زينة الوجود، ولبّ لباب الحقيقة والعرفان، وبه تحوّلت هذه الأرض الخراب اليباب إلى روضة غنّاء، وحديقة فيحاء، ثمّ يصوّر هذا الإنسان يريد أن يقفز في خندق عظيم هائل ترتفع منه ألسنة اللهب، وقد تحفّز واستجمع قواه، وجمع ثيابه، ورفع رجله في الفضاء فعلا، وكاد يقع فيه، وما هي إلا دقائق وثوان حتّى يغيب في هذا الظلام المهيب، ظلام الموت، فلعلّ هذا التصوير يصوّر بعض الجانب من العصر الجاهليّ عند بعثة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة، فقال في إيجاز وفي إعجاز: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران: 103] ، وذلك ما شرحه لسان النبوّة بمثال رائع بليغ، فقال عليه الصلاة والسلام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 «مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلمّا أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدوابّ التي تقع في النّار يقعن فيها، وجعل يحجزهنّ ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها» ، وقال في آخرها: «فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار هلمّ عن النار، هلمّ عن النار، فتغلبوني وتقتحمون فيها» «1» . لقد كانت القضيّة الكبرى في هذه القصّة كلّها أن تصل سفينة الإنسانيّة بسلامة الله وفي حفظه ورعايته إلى شاطىء النجاة، لأنّه حين يستوي الإنسان ويعتدل طبعه، وتتحلّى الحياة بالاقتصاد والاتزان، تنفعه- إذا- كلّ هذه المشروعات البنائيّة والإنمائيّة، أو الأدبيّة والعلميّة التي أوتي مواهبها كثير من أصدقاء الإنسانية وأنصارها. ومن هنالك، فإنّ الإنسانية كلّها مدينة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام- لأنّهم أنقذوها من تلك الأخطار المحدقة التي سلّطت على رأسها كالسّيف المصلت، ولا يتحرر من منّتهم وفضلهم مشروع علميّ، ولا تخطيط اجتماعيّ، ولا مدرسة فكريّة، أو فلسفيّة. كما أنّ العالم المعاصر مدين لهم في هذا البقاء والاستمرار، وجدارة الحياة؛ لأنّ الإنسان اعترف- أحيانا كثيرة- بلسان حاله، إن لم يقل بلسان مقاله، أنّه فقد حقّ البقاء في هذه الأرض، وأنّه لا يحمل الآن أيّ رحمة وبركة، وفيض وإفادة، ودعوة رسالة للإنسانية، إنّه رفع الدعوى في المحكمة الإلهيّة ضدّ نفسه، وشهد عليها، لقد كانت ملفّاته مهيأة للحكم   (1) متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، برقم (6483) ، ومسلم في كتاب الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمّته ... ، برقم (2284) ، والترمذي في أبواب الأدب، باب ما جاء في مثل ابن آدم وأجله وماله، برقم (2874) ] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 العادل الأخير، وقد نصّب الإنسان نفسه لأكبر عقوبة تتصوّر، بل لعقوبة الإعدام. ولا عجب في ذلك، فحينما تتعدّى المدنية حدودها الطبيعية وتخرج من طورها، وتنسى القيم الخلقيّة كليّا، أو تكفر بها صراحة وعلنا، ويتغافل الإنسان عن كلّ غاية نبيلة، ومقصد شريف، وعن كل واقع وحقيقة غير الحقائق الماديّة، وتحقيق ماربه الجسديّة، وإرواء ظمئه الحيوانيّ، وحينما يحلّ محلّ القلب الإنسانيّ قلب الذئب والنمر والفهد، وتتكوّن في جسمه معدة خياليّة أو صناعية، ونفس أمّارة بالسوء، لا يقرّ لها قرار، ولا يضبطها وازع أو رادع، وحينما تصيب الإنسانيّة نوبة شديدة من الجنون، يبعث الله لها جماعة من الجرّاحين، أو عصابة من السفاحين، وتأتي لأورامها المنتفخة سكاكين من ظهر الغيب تقضي عليها، وتقطع دابرها، وتستأصل شأفتها. إنّ فساد المدنيّة وهوسها وجنونها أشدّ من جنون الملكيّة والحكم الشخصيّ، وأوسع منه شرا لأنّه حين يجنّ جنون شخص ضعيف نحيل واحد يقضّ مضاجع أهل الحارة كلّها، وينغّص عيشهم الهادىء. تصور ماذا يحدث في العالم، إذا جنّ جنون النوع البشريّ أجمع، وتنخّر هيكل المدنية وتعفّن، وفسدت طبيعة الإنسانيّة؟ هل له من رقية أو علاج؟ إلّا أنّه لم تفسد المدنيّة فحسب في العصر الجاهليّ، بل تفسّخت جثتها، وتعفّنت، ونشأت فيها ديدان قذرة، وأصبح الإنسان يقتنص الإنسان ويصطاده، ويتلذذ بسكراته وشدائده عند الموت، ويتمتع بحالة الاحتضار، كما يتمتع أحدنا بمنظر البساتين والأشجار والورود والأزهار، ويطرب ويهتزّ لاضطرابه وتقلّبه على الحجر، ويفرح بأنين المصاب والمريض والمنكوب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 وصراخه وعويله، كما يفرح بالشراب الهنيء والطعام الشهيّ أو بالمنظر السارّ الجميل. سرّح طرفك في تاريخ رومة التي تغنّت أوربة- وما تزال- بفتوحها وبطولاتها، وأمجادها وتشريعها وحضارتها، تجد نموذجا حيّا للقسوة البشريّة التي بلغت قمّتها في هذا العصر، يقول «ليكي» في كتابه «تاريخ أخلاق أوربة» يصوّر جانبا من همجيّة الإنسان وضراوته، ووحشيّته النادرة، يقول: «إنّ أكثر المناظر سحرا على نفوس أهل رومة، وأعظم تسلية ومتعة لهم، حين كان يسقط الجريح في مبارزة أحد الأبطال من بني جنسه، أو مصارعة سبع ضار يتشحّط في دمه، هنالك كان يفلت الزمام، ويغلب الناس على أمرهم، ويفقدون رشدهم، فيتهالك الحشد الحاشد- وفيه النساء والأطفال والشيوخ العجّز- على الدنوّ من هذا المنظر الرهيب، والإنسان البائس الشقيّ، وهو من بني جلدتهم وأبناء بلادهم، ليمتّعوا نفوسهم بمشاهدة احتضاره، وليرنّ في آذانهم رنين أنينه، فقد كان أجمل من كلّ غناء وموسيقا، وسجع الطيور، وكان رجال الشّرطة الذين كان من واجبهم المحافظة على النظام، يقفون مشدوهين مكتوفي الأيدي أمام هذه الموجة العارمة من المتعة الظالمة الآثمة، لا يملكون من أمرهم شيئا» «1» . لقد كانت قصّة الجاهلية الأولى أنّ حجرها الأساسيّ حاد عن موضعه، بل تحطّم وتهشّم ولم يبق أمل في إصلاحه، ووضعه في محلّه الصحيح، ووقف الإنسان أمام المحكمة الإلهيّة ينتظر الحكم النهائي الأخير في مصيره، هنالك بعث محمد صلى الله عليه وسلم ونادى صوت السماء: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] .   (1) راجع «تاريخ أخلاق أوربة» للمؤلف الإنجليزي ليكي، ج 1، ص 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 ب- العالم الجديد في حساب البعثة المحمدية ومنحها الحقيقة التي لا مراء فيها أنّ هذا الدور الذي نعيشه، وما يليه من الأدوار التاريخيّة القادمة، كلّها في حساب البعثة المحمديّة، ودعوته العامّة الخالدة، وجهوده المشكورة المثمرة، لأنّه رفع- أولا- هذا السيف المصلت على رقاب الإنسانيّة الذي كاد يقضي عليها، ثمّ أغناها بمنح غالية ومعطيات خالدة، وهدايا طريفة جديدة، بعث فيها الحيويّة والنشاط، والهمّة والطموح، والعزة والكرامة، والهدف الصحيح، والغاية النبيلة، واستهلّ بفضل هذه المنح والمعطيات- عهد جديد من السموّ الإنسانيّ، والثقافة والمدنيّة، والربانيّة والإخلاص، وإنشاء الإنسان وتكوينه الخلقيّ والاجتماعيّ. منح البعثة المحمديّة الستة، وأثرها في تاريخ الإنسان: ونذكر الآن- على سبيل المثال لا الحصر- ستة من معطياته الهامّة، ومنحه الأساسيّة الغالية التي كان لها الدور الأكبر في توجيه النوع البشريّ، وإصلاحه وإرشاده، ونهضته وازدهاره والتي خلقت عالما مشرقا جديدا لا يشبه العالم الشاحب القديم في شيء. 1- عقيدة التوحيد النقية الواضحة: مأثرته الأولى صلى الله عليه وسلم أنّه منح الإنسانية عقيدة التوحيد الصافية الغالية: فهي عقيدة ثائرة معجزة، متدفّقة بالقوة والحياة، مقلبة للأوضاع، مدمرة للآلهة الباطلة، لم تنل ولن تنال الإنسانيّة مثلها إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 هذا الإنسان الذي يحمل دعاوى فارغة، ومزاعم جوفاء من الشعر والفلسفة والسياسة والاجتماع، والذي استعبد الأمم والبلاد مرارا كثيرة، والذي حوّل الأحجار الصمّاء أزهارا عابقة فيحاء، وفجّر الأنهار من بطون الجبال، والذي ادّعى الرّبوبيّة أحيانا، هذا الإنسان كان يسجد لأشياء تافهة لا تضرّ ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج: 73] . وكان يركع أمام أشياء صنعها بنفسه، ويخافها، ويرجو منها الخير، إنّه لم يخرّ ساجدا للجبال والأنهار، والأشجار والحيوانات، والأرواح والشياطين، وسائر مظاهر الطبيعة فحسب، بل سجد للحشرات والديدان أيضا، وقضى حياته كلّها بين هواجس ووساوس وبين أخيلة وأوهام، وأمان وأحلام، كانت نتيجته الطبيعيّة الجبن والوهن، والفوضى الفكريّة، والقلق النفسيّ وفقدان الثقة، وعدم الاستقرار. فأغناه صلى الله عليه وسلم بعقيدة صافية نقيّة سهلة سائغة، حافزة للهمم، باعثة للحياة، فتخلّص من كلّ خوف ووجل، وصار لا يخاف أحدا إلا الله، وعلم علم اليقين، أنّه وحده هو الضارّ والنافع، والمعطي والمانع، وأنّه وحده الكفيل لحاجات البشر. فتغيّر العالم كلّه في نظره بهذه المعرفة الجديدة، والاكتشاف الجديد، وصار مصونا عن كلّ نوع من العبوديّة والرقّ، وعن كلّ رجاء وخوف من المخلوق، وعن كلّ ما يشتّت ويشوّش الأفكار، فقد شعر بوحدة في هذه الكثرة، واعتبر نفسه أشرف خلق الله، وسيد هذه الأرض، وخليفة الله فيها، يطيع ربّه وخالقه، وينفّذ أوامره، ويحقّق بذلك هذا الشرف الإنسانيّ العظيم، والعظمة الإنسانيّة الخالدة التي حرمتها الدّنيا منذ زمن بعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 إنّها البعثة المحمدية التي أتحفت الإنسانية بهذه التحفة النادرة- عقيدة التوحيد- التي كانت مجهولة مغمورة، مظلومة مغبونة، أكثر من أيّ عقيدة في العالم، ثمّ ردّد صداها العالم كلّه، وتأثرت بها الفلسفات العالمية والدعوات العالميّة كلّها في قليل أو كثير. إنّ بعض الديانات الكبيرة التي نشأت على الشّرك وتعدّد الآلهة وامتزجت به لحما ودما، اضطرّت في الأخير إلى أن تعترف- ولو بصوت خافت، وهمسة في الآذان- أنّ الله واحد لا شريك له، وأرغمت على تأويل معتقداتها المشركة تأويلا فلسفيا يبرّئها من تهمة الشرك والبدعة، وتجعلها متشابهة بعقيدة التوحيد في الإسلام بقدر ما، وبدأ رجالها وسدنتها يستحون من الاعتراف بالشّرك، ويخجلون من ذكره، وأصيبت هذه الأنظمة المشركة كلّها بمركّب النقص، والشعور بالصّغار والهوان) Inferiority Complex (فكانت هذه التحفة أغلى التّحف التي سعدت بها الإنسانيّة بفضل بعثته صلى الله عليه وسلم. 2- مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية: ومأثرته الثانية العظيمة، ومنّته الباقية السائرة في العالم، هو تصوّر الوحدة الإنسانيّة والمساواة البشرية، كان الإنسان موزّعا بين قبائل وأمم وطبقات بعضها دون بعض، وقوميّات ضيقة، وكان التفاوت بين هذه الطبقات تفاوتا هائلا كتفاوت ما بين الإنسان والحيوان، وبين الحرّ والعبد، وبين العابد والمعبود، لم تكن هناك فكرة عن الوحدة والمساواة إطلاقا، فأعلن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد قرون طويلة من الصّمت المطبق، والظلام السائد ذلك الإعلان الثائر، المدهش للعقول، القالب للأوضاع: «أيّها الناس إن ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلّكم لآدم، وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 أتقاكم، وليس لعربيّ على أعجميّ فضل إلّا بالتقوى» «1» . وهذا الإعلان يتضمّن إعلانين، هما الدّعامتان اللّتان يقوم عليهما الأمن والسلام، وعليهما قام السلام في كلّ زمان ومكان، وهما: وحدة الربوبية والوحدة البشريّة، فالإنسان أخو الإنسان من جهتين، والإنسان أخو الإنسان مرتين، مرة «وهي الأساس» لأنّ الربّ واحد، ومرة ثانية لأنّ الأب واحد يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1] ، يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13] . إنّها كلمات خالدة جرت على لسان النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع، وحينما قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا الإعلان التاريخيّ العظيم، لم يكن العالم في وضع طبيعيّ هادىء يسيغ فيه هذه الكلمات الجريئة الصريحة، ويطيقها. إنّ هذا الإعلان لم يكن أقلّ من زلزال هائل عنيف، إنّ هناك أشياء قد تتحمّلها بصورة تدريجيّة، أو من وراء ستار، مثل التيار الكهربائيّ، فقد نلمسه إذا كان مغطى، أو داخلا في باطن الأسلاك،.. ولكنّنا إذا لمسناه عاريا أصابتنا صدمة عنيفة، أو قضي علينا بتاتا. إنّ هذه الأشواط البعيدة، والمسافات الشاسعة من العلم والفهم، والفكر الإنسانيّ التي قطعتها الإنسانيّة اليوم بفضل الدعوة الإسلاميّة، وظهور المجتمع الإسلاميّ، وبجهود الدعاة، والمصلحين والمربّين، جعلت هذا الإعلان الهائل، الثائر الفائر، المزلزل لأوكار الجاهلية، ومعاقل الشرك   (1) كنز العمال (3/ 93) برقم (5652) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 والوثنيّة والعنصريّة في العالم، منها ميثاق حقوق الإنسان Human Rights Charter الذي حملت لواءه الأمم المتّحدة، وتصريحات تقوم بها كلّ جمهورية وكلّ مؤسّسة عن الحقوق الإنسانية، والمساواة الإنسانيّة، فلا يستغربها أحد. ولكن أتى على الإنسان حين من الدهر، سادت فيه عقيدة أشرفيّة بعض الأمم والأسر وكونها فوق مستوى البشر، وكانت بعض الأسر والسّلالات تعزو نسبها إلى الشمس والقمر، وإلى الله سبحانه: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً [الإسراء: 43] ، إنّ القرآن حكى لنا قول اليهود والنصارى، فقال: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ، وكان فراعنة مصر يزعمون أنّهم تجسيد لإله الشمس «ر ع) Ray ( «ومظهر له. أمّا في الهند فقد عرفت فيها أسرتان سمّيتا «سورج بنسي» يعني: أبناء الشمس، و «جندربنسي» أبناء القمر. أمّا في إيران فقد كانت أكاسرتها يزعمون أنّه يجري في عروقهم الدم الإلهيّ، وكان أهل البلاد ينظرون إليهم نظرة تقديس وتأليه، وكان من ألقاب كسرى أبرويز (590- 628 م) ووصفه: «في الآلهة إنسان غير فان، وفي البشر إله ليس له ثان، علت كلمته، وارتفع مجده، يطلع مع الشمس بضوئه وينير الليالي المظلمة بنوره» «1» . وكذلك كانت القياصرة آلهة، فكان كلّ من تملّك زمام البلاد كان إلها، وكان لقبهم) August (يعني «المهيب الجليل» «2» .   (1) إيران في عهد الساسانيين: ص 604. (2) راجع العالم الروماني) The Roman World (تأليف،) Victor Chopart ص 418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 أمّا الصّينيون فكانوا يعتبرون الإمبراطور ابن السّماء، ويعتقدون أنّ السماء ذكر والأرض أنثى، وباتصالهما خلق هذا الكون، وأنّ الإمبراطور ختا الأول هو بكر هذين الزوجين «1» . أمّا العرب فكانوا يعتبرون كلّ من سواهم «العجم» وكانت قبيلة قريش ترى نفسها أشرف قبائل العرب، وتحافظ على امتيازها في الموسم، فلا تشارك الناس في مواقفهم ومساكنهم «2» ، ولم تكن تدخل عرفات «3» مع الحجيج، بل تبقى في الحرم وتقف بالمزدلفة، وتقول: نحن أهل الله في بلدته، وقطّان بيته، وتقول: نحن حمس «4» «5» . 3- إعلان كرامة الإنسان وسموّه: والمنّة الثالثة العظيمة على النوع البشريّ، هو إعلان كرامة الإنسان وسموّه، وشرف الإنسانيّة وعلوّ قدرها: لقد بلغ الإنسان قبل البعثة المحمديّة إلى حضيض الذلّ والهوان، فلم يكن على وجه الأرض شيء أصغر منه وأحقر، وكانت بعض الحيوانات «المقدّسة» وبعض الأشجار «المقدّسة» التي علقت بها أساطير ومعتقدات خاصة أكرم وأعزّ عند عبّادها، وأجدر بالصيانة، والمحافظة عليها من الإنسان، ولو كان ذلك على حساب قتل الأبرياء، وسفك الدماء.   (1) انظر «تاريخ الصين» بقلم جيمس كاركون. (2) انظر كتب الحديث والسيرة. (3) عرفات خارج الحرم. (4) [والحمس: قريش وما ولدت] . (5) [أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب التعجيل إلى الموقف، برقم (1665) ، ومسلم في كتاب الحج، باب في الوقوف، وقوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ. برقم (1219) ، من حديث عائشة رضي الله عنها] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 وكانت تقدّم لها القرابين من دم الإنسان ولحمه من غير وخز ضمير وتأنيب قلب، وقد رأينا بعض نماذجها وصورها البشعة في بلاد متقدّمة راقية، كالهند في القرن العشرين. فأعاد سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإنسانيّة كرامتها وشرفها، وردّ إليها اعتبارها وقيمتها، وأعلن أنّ الإنسان أعزّ وجود في هذا الكون، وأغلى جوهر في هذا العالم، وليس هنا شيء أشرف وأكرم، وأجدر بالحبّ، وأحقّ بالحفاظ عليه من هذا الإنسان، إنّه رفع مكانته حتى صار الإنسان خليفة الله ونائبه، خلق له العالم، وهو خلق لله وحده، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] ، وأنّه أشرف خلق الله، وفي مكان الرئاسة والصدارة: * وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70] . وليس أدلّ على كرامته والاعتراف بعظمته من قوله: «الخلق عيال الله، فأحبّ النّاس إلى الله من أحسن إلى عياله» «1» . وليس هنا أبلغ في الدلالة على سموّ الإنسانيّة، والتقرّب إلى الله بخدمتها، والعطف عليها، من الحديث الذي رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة: يابن آدم، مرضت فلم تعدني!. قال: يا ربّ كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟   (1) [أخرجه الطبراني في الأوسط (5/ 356) برقم (5541) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 قال: أما علمت أنّ عبدي فلانا مرض فلم تعده! أما علمت أنّك لو عدته لوجدتني عنده. يابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا ربّ كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمت أنّه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنّك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يابن آدم، استسقيتك فلم تسقني. قال: يا ربّ كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنّك لو سقيته لوجدت ذلك عندي» «1» . هل يتصوّر إعلان أوضح وأفصح بسموّ إنسانيته، وعلوّ مكانة الإنسان من هذا الإعلان؟ وهل فاز الإنسان بهذه المكانة السامقة والشرف العالي في أيّ ديانة وفلسفة في العالم القديم والحديث؟. إنّه صلى الله عليه وسلم جعل الرحمة على بني آدم الشرط اللازم لجلب رحمة الله، فقال عليه السلام: «الرّاحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» «2» .   (1) أخرجه مسلم في صحيحه [في كتاب البر والصلة، باب فضل عيادة المريض، برقم (2569) ] . (2) أخرجه أبو داود [في كتاب الأدب، باب في الرحمة، برقم (4931) ، والترمذي في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الناس، برقم (1924) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال: هذا حديث حسن صحيح] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 ترى ما كان عليه وضع العالم، وحالته الاجتماعيّة والسياسية، قبل أن ينهض النّبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة، دعوة الوحدة الإنسانيّة، والكرامة الإنسانيّة، ويجاهد في سبيلها أبلغ جهاد؟ لقد كان ثمن شهوة فرد واحد، وهوى شخص واحد قبل بعثته صلى الله عليه وسلم أكبر، وأغلى من أرواح الآلاف ومئات الآلاف من البشر، ينهض ملك واحد، وإمبراطور واحد، يكتسح البلاد، ويستعبد العباد، ويضرب الرقاب، ويهلك الحرث والنسل، ويأتي على الأخضر واليابس، لتحقيق مأرب حقير في نفسه. ويزحف الإسكندر حتّى يبلغ الهند، ويدمّر في طريقه حضارات ومدنيّات، وينهض شرّه ويقتنص الفئات البشريّة، كما يقتنص أحدنا حيوانات الغابة. واندلعت في زماننا حربان عالميتان ذهب ضحيتهما ملايين، ولم يكن ذلك إلا نتيجة صلف قوميّ، وأنانية فردية، وشهوة الحكم، والسّيطرة على الأسواق التجاريّة العالمية. 4- محاربة اليأس والتشاؤم، وبعث الأمل والرجاء، والثقة والاعتزاز في نفس الإنسان: المأثرة الرابعة أنّ أكثر أفراد النوع الإنسانيّ كانوا مصابين باليأس من رحمة الله، وبسوء الظنّ بالفطرة الإنسانية السليمة، وكان في إيجاد هذا الجوّ الخاصّ، والحالة العقلية الخاصة دور كبير لبعض الديانات الشرقيّة القديمة، والمسيحية المحرّفة في أوربة، وفي الشرق العربي. فقد دانت الديانات القديمة في الهند بعقيدة التناسخ، وفلسفته التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 لا مجال عندها في إرادة الإنسان وتصرّفه مطلقا، وأنّ كلّ إنسان مضطرّ لا محالة لنيل عقوبة ما، لما قدّمت يداه في حياته الأولى، وذلك بالظهور في شكل سبع مفترس، أو دابّة سائمة، أو حيوان خسيس، أو إنسان شقيّ معذّب. بينما نادت المسيحيّة بأنّ الإنسان عاص ومذنب بالولادة والفطرة، والمسيح صار كفّارة وفداء له عن هذه الذنوب، فأنشأت هذه العقيدة- بطبيعة الحال- في نفوس الملايين في العالم المتمدّن المعمور الذين اعتنقوا المسيحيّة سوء ظنّ بنفوسهم، ويأسا عن مستقبلهم، وعن الرحمة الإلهية. هنالك أعلن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكلّ قوّة وصراحة، أنّ فطرة الإنسان هي كاللوح الصافي، الذي لم يكتب عليه بعد، ويمكن أن ينقش فيه أروع نقش، ويحرر فيه أجمل تحرير، وأنّ الإنسان يستهلّ حياته بنفسه، ويستحقّ الثواب والعقاب، والجنة والنار بعمله، وهو غير مسؤول عن عمل غيره. فقد ذكر القرآن في مواضع كثيرة، أنّ الإنسان مسؤول عن عمله فحسب، وأنّه مثاب ومشكور على سعيه: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النجم: 38- 41] . هذا الإعلان أعاد إلى الإنسان ثقته المفقودة بفطرته ومواهبه الطبيعيّة، وانطلق إلى الأمام بعزم قويّ، وحماس زائد، وعاطفة جياشة ليصنع مصيره ومصير الإنسانيّة، ويجرّب حظّه وقدرته في تلك الإمكانيات الهائلة، والفرص الغالية. إنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم قرر أنّ المعاصي والذنوب، والأخطاء والزلّات فترة عابرة زائلة في حياة الإنسان، يقع فيها الإنسان بجهله وغروره، وقصر نظره حينا، وبإغواء الشيطان، وإغراء النفس بعض الأحيان، وأنّ الصلاح والصلاحية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 والاعتراف بالذنب، والندامة أصل من أصول فطرته، وجوهر إنسانيته، وأنّ الابتهال إلى الله، والتضرّع إليه، والعزم الأكيد على عدم العودة إلى الذنب دليل على شرف الإنسان، وأصالة معدنه، وهو ميراث آدم عليه السلام. إنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم فتح أمام المذنبين الخطّائين- الغارقين في حمأة المعصية والرذيلة إلى آذانهم- بابا واسعا للتوبة، ودعا إليها الناس دعوة عامّة، وشرح فضل التوبة شرحا وافيا، وأفاض فيه إفاضة نستطيع بها القول بأنّه أحيا هذا الركن الخاصّ العظيم من الدين، ولذلك سمّي «بنبيّ التوبة» من بين أسمائه الجميلة الآخرى، لأنّه ما دعا إلى التوبة كوسيلة اضطرارية يتدارك بها الإنسان ما فاته فحسب، بل إنّه رفع من شأنها حتّى صارت من أفضل العبادات، والقربات عند الله، وصارت طريقا سهلا للوصول- في أقرب وقت- إلى أقصى درجات القرب والولاية، يغبط عليها النّسّاك والزهاد، والأبرياء والأطهار من عباد الله. إنّ القرآن شرح فضل التوبة وسعتها، ونقاء الإنسان من أكبر ذنب وأعظم معصية يتصورها الإنسان، وذلك بأسلوب جميل يستهوي القلوب، ودعا العصاة والمذنبين، وصرعى النفس والشيطان إلى اللجوء إلى الله سبحانه، والفرار إليه، والتفيّؤ بظلال رحمته، والترامي في أحضان رأفته وعطفه، وصوّر بحار رحمته الزاخرة، الواسعة الأرجاء، المحيطة بالأنفس والآفاق، تصويرا رائعا جميلا، شائقا مثيرا، يبدو منه أنّ الله سبحانه وتعالى ليس حليما رحيما، وجوادا كريما فحسب، بل إنّه- إذا صحّ هذا التعبير- يحبّ التوابين، ويشتاق إليهم، ويشكر سعيهم البليغ، ويقدّره كلّ التقدير، اقرأ الآيات التالية، وتذوّق أسلوب هذا اللطف والعطف، وجوّ الودّ الذي يغشى هذه الآيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 * قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] . وأكثر من ذلك وأروع ما نجد في الآية التالية، حيث ذكر الله سبحانه جماعات مختلفة من عباده الصالحين، فاستهلّ هذه القائمة المشرقة النورانيّة بالتائبين، إنّها آية من سورة «التوبة» [112] : التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. هذا التكريم وتبرئة العبد التائب من ذنبه، وإظهار الثقة به تجلّى واضحا حين أعلن القرآن قبول توبة ثلاثة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم الذين تخلفوا عن غزوة تبوك «1» من غير عذر صحيح مقبول، وبقوا في المدينة، فبدأ القرآن بذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار، الذين لم يتخلفوا عن هذه الغزوة، ثمّ ثنّى بهؤلاء الثلاثة الذي تخلّفوا، حتّى لا يشعر هؤلاء المخلّفون بإفرادهم بالتوبة ويكونوا بمعزل عن الشعور بالهوان، وما يسمّى في علم النفس «بمركب النقص» ، ويتّضح للمؤمنين إلى يوم القيامة أن مكانتهم الطبيعيّة في الصف الأول من الصادقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فلا داعي للاستحياء، ولا مكان للعار. هل هناك مثال أروع وأجمل، وأدقّ وأعمق، وأحلى وأزهى لقبول التوبة، وتكريم التائب، ومسح غاشية الكابة عنه بلطف وودّ، وحبّ وحنوّ   (1) اقرأ للتفصيل كتب السيرة، والتفسير، والحديث، «غزوة تبوك» وقد مرت القصة في هذا الكتاب في موضعها في الفصل الخامس، ص (492) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 في تاريخ الأديان، والأخلاق، والتربية والإصلاح، من هذا المثال؟! اقرأ معي الآيات التالية: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 117- 118] . ثمّ أعلن أيضا كمبدأ عامّ أنّ رحمة الله تسع كلّ شيء، وتسبق غضبه وجلاله، يقول القرآن: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] . وجاء في حديث قدسيّ: «إنّ رحمتي سبقت غضبي» «1» إنّه جعل اليأس مرادفا للكفر والجهل والضلال، وبين ذلك على لسان يعقوب عليه السلام: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: 87] ، وذكر في موضع آخر قول إبراهيم- عليه السلام- فقال: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر: 56] . وهكذا أسعف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة المفتوحة العامّة إلى التوبة وبيان فضائلها، وسعتها وشمولها الإنسانيّة المذعورة الخائفة التي كانت تئنّ تحت وطأة اليأس، والقنوط، وترتعد فرائصها بإنذارات العقاب والعذاب، ومظاهر الغضب والجلال «2» ، ومنحها فرصة جديدة جميلة من الحياة، ونفخ   (1) [أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب «وكان عرشه على الماء..» برقم (7422) ، والنسائي في السنن الكبرى (4/ 417- 418) برقم (7751- 7757) وأبو يعلى في المسند (11/ 316) برقم (6432) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . (2) وقد كان في ذلك لعلماء اليهود، وشرّاح الكتب المقدّسة، ورهبان المسيحية الغلاة- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 في قلبها الضعيف المتواني، وجسدها الهامد البارد روحا جديدة، وحرارة جديدة، وهيّأ لجروحها بلسما، ورفعها من حضيض التراب إلى أوج العزّة والسيادة، والثقة والاعتزاز، والاعتداد بالنفس، والاعتماد على الله. 5- الجمع بين الدين والدنيا، وتوحيد الصفوف المتنافرة، والمعسكرات التجارية: لقد وزّعت الديانات القديمة- خاصّة المسيحية- الحياة الإنسانية في قسمين: قسم للدين، وقسم للدنيا، ووزّعت هذا الكوكب الأرضيّ في معسكرين: معسكر رجال الدين، ومعسكر رجال الدنيا، وما كان هذان المعسكران منفصلين فحسب، بل حال بينهما خليج كبير، ووقف بينهما حاجز سميك، وظلّا متشاكسين متحاربين. وكان كلّ واحد يعتقد أنّ هناك خصومة وعداء بين الدين والدنيا، فإذا أراد إنسان أن يتصل بأحدهما، لزم عليه أن يقطع صلته بالآخر، بل أن يعلن الحرب عليه، فلا يمكنه- على حدّ قولهم- أن يركب سفينتين في وقت واحد، وأنّه لا سبيل إلى الكفاح الاقتصاديّ ورخائه من غير غفلة عن الدار الآخرة، وإعراض عن فاطر السموات والأرض، ولا بقاء لحكم أو سلطة من غير إهمال التعاليم الدينيّة والخلقيّة، والتجرّد عن خشية الله، ولا إمكان للتديّن من غير رهبانيّة، وقطع الصلة عن الدنيا وما فيها. المعلوم المقرّر أنّ الإنسان محبّ لليسر، مجبول عليه، وكلّ فكرة دينيّة لا تسمح بالاستمتاع المباح، والنهضة، والعزّة، والحصول على القوة والحكم، لا تصلح للنوع البشريّ في الغالب، إنّه صراع مع الفطرة   - المتطرّفين أكبر نصيب في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 السليمة، وكبت للغرائز الطبيعيّة البريئة في الإنسان، وكانت نتيجة هذا الصراع أنّ العدد الأكبر من أصحاب الفطنة والذكاء، والكفاءات العلميّة، آثر الدّنيا على الدين، ورضي بها- كحاجة اجتماعيّة، وواقع حيّ- واطمأنّ إليها، وعكف على تحسين هذه الحياة، والحصول على ملذّاتها، ولم يبق له أمل في الرقيّ الدينيّ، والتقدّم الروحيّ. وأكثر الذين هجروا الدين بصورة عامّة، هجروه على أساس التناقض الذي حسبوه حقيقة بديهية مسلّمة، وثار البلاط الذي كان يتزعّم الحكم الدنيويّ على الكنيسة التي كانت تمثّل الدين، وتجرّد عن سائر قيوده، فصارت الحكومات- بطبيعة المنطق- كفيل هائج مائج، تخلّص من سلاسله وقيوده، أو كجمل هائم، حبله على غاربه، هذا الانفصال النكد بين الدين والدنيا، وذلك العداء المشؤوم بين «رجال الدين ورجال الدنيا» فتح الباب على مصراعيه للإلحاد واللادينية، وكانت فريسته الغرب أولا، والأمم التي دانت له في الفكر والعلم والثقافة، أو عاشت تحت رايته ثانيا. وزاد الطّين بلّة دعاة المسيحيّة المتطرّفون والمفرطون، الذين كانوا يعتبرون الفطرة البشريّة أكبر عائق في التزكية الروحية والاتصال بالسماء، والذين لم يدّخروا وسعا في إذلالها وتعذيبها بأنواع من الأحكام القاسية والتعاليم الجائرة «1» وقدّموا صورة وحشيّة كالحة مفزعة للدين، تقشعرّ منها جلود الذين آمنوا، وآل الأمر في نهاية الشوط إلى تقلّص ظلّ الدين، وبلغت عبادة النفس والهوى- في أوسع معناها- إلى ذروتها، وأصبحت الدّنيا تتأرجح بين طرفي نقيض، ثمّ سقطت أخيرا بضعف الوازع الدينيّ، أو فقدان   (1) انظر «تاريخ أخلاق أوربة» ، ج 2، لمؤلّفه ليكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 الحاسّة الدينية في هوّة عميقة من اللادينية، والفوضى الخلقيّة العامة «1» . وأعظم هديّة للبعثة المحمديّة، ومنّتها العظيمة نداؤها الذي دوّت به الآفاق أنّ أساس الأعمال والأخلاق، هو الهدف الذي ينشده المرء، والذي عبّر عنه الشارع بلفظ مفرد بسيط، ولكنّه واسع عميق «النية» ، فقال: «إنّما الأعمال بالنّيات، وإنّما لكلّ امرىء ما نوى» «2» . وإنّ كلّ عمل يقوم به الإنسان ابتغاء مرضاة الله، وبدافع الإخلاص، وامتثال أمره وطاعته، هو وسيلة إلى التقرّب إلى الله، والوصول إلى أعلى مراتب اليقين، ودرجات الإيمان، وهو دين خالص لا تشوبه شائبة، ولو كان هذا العمل جهادا وقتالا وحكما وإدارة، وتمتعا بطيّبات الأرض، وتحقيقا لمطالب النفس، وسعيا لطلب الرزق والوظيفة، واستمتاعا بالتسلية البريئة المباحة، والحياة العائلية والزوجية. وكلّ عبادة وخدمة دينية- بالعكس من ذلك- تعتبر دنيا إذا تجرّدت من طلب رضا الله سبحانه، والخضوع لأوامره ونواهيه، وغشيتها غاشية من الغافلة، ونسيان الآخرة، ولو كانت صلوات مكتوبة، ولو كانت هجرة   (1) اقرأ للتفصيل كتاب «الصراع بين الدين والعلم) Conflict Between Religion) Science ( «لدرابر) Draper (أو «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» الباب الرابع «العصر الأوربي» . (2) الحديث الصحيح الذي بلغ عند بعض المحدثين حد الاستفاضة والشهرة، والذي افتتح به الإمام البخاري كتابه «الجامع الصحيح» ، وتمام الحديث: «إنّما الأعمال بالنيات، وإنّما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (حديث متفق عليه [أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، برقم (1) ، وأبو داود في كتاب الطلاق، باب في ما عني به الطلاق، برقم (2201) ، وابن ماجه في أبواب الزهد، باب النية، برقم (4227) وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 وجهادا وذكرا وتسبيحا وقتالا في سبيل الله، ولا يثاب عليه العامل، والعالم، والمجاهد، والداعي، بل قد تعود تلك الأعمال والخدمات عليه وبالا، وتكون بينه وبين الله حجابا «1» . إنّ المأثرة الخامسة من ماثر سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنّه ملأ هذه الفجوة الواسعة بين الدين والدّنيا، وجعل هذين المتنافرين المتباعدين، اللذين عاشا في خصام دائم، وعداء سافر، وحقد مستمرّ، يتعانقان في إلف وودّ، ويتعايشان في سلام ووئام. إنّه صلى الله عليه وسلم رسول الوحدة، وبشير ونذير في الوقت ذاته، إنّه أخذ النوع البشريّ من المعسكرين المتحاربين إلى جبهة موحّدة من الإيمان والاحتساب، والعطف على البشريّة، وابتغاء رضوان الله، وعلّمنا هذا الدعاء الجامع، المعجز الواسع: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة: 201] . إنّه أعلن بالآية القرآنية: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: 162] أنّ حياة المؤمن ليست مجموع وحدات متفرّقة مضادّة، بل هي وحدة تسيطر عليها روح العبادة والاحتساب، ويقودها الإيمان بالله والإسلام لأوامره، وهي تشمل شعب الحياة كلّها، وميادين الكفاح كلّها، وأصناف العمل كلّها، إذا تحقّق الإخلاص، وصحّت النيّة، وأريد بها وجه الله، وكانت على المنهج الصحيح الذي جاء به الأنبياء. فدلّ ذلك على أنّه رسول الوحدة والوئام والانسجام بالكمال والتمام، وأنّه البشير والنذير في نفس الوقت، إنّه قضى على نظرية الانفصال بين الدين   (1) كتب الحديث زاخرة بالآثار الدالة على ذلك. انظر أبواب الإخلاص، والنية، والإيمان، والاحتساب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 والدنيا، فجعل الحياة كلّها عبادة، وجعل الأرض كلّها مسجدا، وأخذ بيد الإنسان من معسكرات متحاربة متصارعة، إلى جبهة واحدة واسعة من العمل الصالح، وخدمة الإنسانية النافعة، وابتغاء مرضاة الله، فترى هناك ملوكا في أطمار الفقراء، وزهّادا في زيّ الملوك والأمراء، جبال حلم وينابيع علم، عبّاد ليل وأحلاس خيل، من غير تناقض أو صعوبة، واختلال أو تعسّف. 6- تعيين الأهداف والغايات وميادين العمل والكفاح: المأثرة السادسة، أو الانقلاب السادس الذي أحدثه محمّد صلى الله عليه وسلم في الحياة البشرية، أنّه هدى الإنسان إلى محلّ لائق كريم يصرف فيه قواه، ورفعه إلى أجواء فسيحة عالية يحلّق فيها. كان الإنسان قبل البعثة المحمديّة جاهلا لهدفه الحقيقيّ، لا يدري إلى أين يتّجه، وإلى أين المصير؟ وما هو المجال الأفضل والحقيقيّ لمواهبه وطاقاته وجهوده؟ إنّه وضع لنفسه مقاصد وهمية صناعية، وحصر نفسه في دوائر ضيقة محدودة، كانت تستنفد قواه وطاقاته وذكاءه، وكان المثل الأعلى عنده للرجل الناجح واللامع من يكون أكثر جمعا ومالا، وأوسع نفوذا وقوة، متحكّما في أكبر مجموعة من البشر، وأوسع بقعة من بقاع المعمورة. كان هناك ملايين لم يزد طموحهم على التمتّع بألوان زاهية، وأصوات مطربة، وأطعمة لذيذة، وأكثر من تقليد البلبل في صوته، أو الطاووس في لونه، بل أكثر من مسايرة الماشية والغنم، والأنعام والدوابّ. كان هناك آلاف عاشوا دائما بين بلاط الملوك، وحاشيتهم، وبذلوا نبوغهم وذكاءهم في التزلّف إلى الأمراء، والتملّق أمام الأغنياء، أو الخضوع للجبابرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 والأقوياء، أو التسلّي بالأدب الفارغ الذي لا قيمة له في الدّنيا والآخرة. فجاء محمّد صلى الله عليه وسلم وجعل غايته الأخيرة الحقيقية، وهدفه الأعلى المنشود نصب عينيه، وأرسخ في قلب الإنسان: أنّ المجال الحقيقيّ لجهده واجتهاده، ومواهبه وأشواقه، وطموحه وسموّه، وطيرانه وتحليقه، هو معرفة فاطر السموات والأرض، واطلاع على صفاته، وقدرته وحكمته، وسعة ملكوت السموات والأرض وعظمتها وخلودها، والحصول على الإيمان واليقين، والفوز برضوان الله وحده، والرضا به وبقدره، والبحث عن وحدة تؤلف بين الأجزاء المتناثرة أحيانا، والمتناقضة أحيانا أخرى، وتنمية قواه الباطنة، ومداركه الروحية للوصول إلى درجات القرب واليقين، والحثّ على خدمة الإنسانية، والإيثار والتضحية، والوصول بذلك إلى مكان لا تصل إليه الملائكة المقربون، وتلك هي السعادة الحقيقية للإنسان، ونهاية كماله، ومعراج قلبه وروحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 ولادة عالم جديد وإنسان جديد لقد تغيّرت الدّنيا بعد بعثة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بفضل تلك التعاليم السامية، كما يتغيّر الطقس، وانتقلت الإنسانية من فصل كلّه جدب وخريف، وسموم وحميم، إلى فصل كلّه ربيع وأزهار، وجنات تجري من تحتها الأنهار، تغيّرت طباع الناس، وأشرقت القلوب بنور ربّها، وعمّ الإقبال على الله، واطّلع الإنسان على طعم جديد لم يألفه، وذوق لم يجرّبه، وهيام لم يعرفه من قبل. انتعشت القلوب الخاوية الضّامرة الباردة الهامدة؛ بحرارة الإيمان وقوة الحنان، استضاءت العقول بنور جديد، وسكرت النفوس بنشوة جديدة، وخرجت الإنسانيّة أفواجا تطلب الطريق الصحيح ومحلّها الرفيع، وتحنّ إلى مكانتها السامقة العالية، فلا ترى أمة من الأمم، وبلدا من البلاد، إلا وهو يريد السباق في هذا المضمار، ويتنافس فيه، فما ترى العرب والعجم، ومصر والشام، وتركستان وإيران، والعراق وخراسان، وشمالي إفريقية، والأندلس وبلاد الهند، وجزائر شرق الهند، إلّا سكارى هذا الحبّ العلويّ، والفيض السماويّ، وعشّاق هذا الهدف السامي، وفقراء على هذا الباب العالي. كان يبدو أنّ الإنسانية أفاقت واستيقظت، وفتحت عيونها بعد سبات عميق طويل، دام قرونا طويلة، فأرادت أن تتدارك ما فاتها حتّى عمر كلّ جزء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 من أجزائها، وكلّ ركن من أركانها بدعاة ربانيّين مخلصين، مجاهدين مصلحين، مربّين، عارفين بالله، متحرّقين لخلق الله، باذلين أنفسهم ونفيسهم لخير الإنسانيّة، وإنقاذها من الخطر المحدق بها من كلّ جانب، رجال تحسدهم الملائكة، فأشعلوا مجامر القلوب الباردة، وأزكوا شعلة الحبّ الإلهيّ، وفجّروا أنهار العلوم والآداب، والحكم والمعارف، وفتحوا ينبوعا فياضا، متدفّقا من العلم والعرفان، والإيمان والحنان، وأنشؤوا في نفوس البشر مقتا شديدا للظلم والجور، والعدوان والبغضاء، ولقّنوا الشعوب المضطهدة، المهانة الذليلة، دروس المساواة، وضمّوا المنبوذين والمهجورين، والمساكين الذين لفظهم المجتمع، وطردهم أهلهم وعشيرتهم؛ إلى صدورهم العامرة بالحب والحنان، إنّك تجد آثارهم، وتلمس آياتهم على كلّ جزء من أجزاء البسيطة كمواقع القطر، لا يخلو منها بيت وبر، ولا مدر. وانظر في جوهر أعمالهم وكيفيّتها) Quality (فضلا عن كميّتها) Quantity (وشاهد سموّ أفكارهم، وتحليقها في أجواء وآفاق رفيعة، وانظر شعورهم المرهف، وروحهم اللطيفة الوادعة الرقيقة، وذكاءهم الوقّاد، وطبعهم السليم، وكيف كانوا يتوجّعون للإنسانية ويذوبون لها كالشمعة، وكيف كانت نفوسهم وأرواحهم تتلوى وتذوب في نار الأسى والإشفاق، والعطف على الخلق، والحرص على ما فيه نفعه وصلاحه، كيف كانوا يقعون في المهالك، ويرحّبون بالخسائر لإنقاذ الناس، ودفع البلاء عنهم، كيف كان حكامهم وولاة أمورهم، يصرّفون الأمور، ويشعرون بالمسؤوليّة، يعسّون بالليل ويرابطون على الثغر، وكيف كان الشعب منسجما معهم، مطيعا لأوامرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 واقرأ- أيضا- أخبار عبادتهم، وزهدهم، وحالتهم في الدعاء، ومكارم أخلاقهم، وشهادتهم على نفوسهم، واحتسابهم لها، وحبّهم للصغار، والضعفاء، ولين قلوبهم مع الإخوان والأصدقاء، وكرمهم وسماحهم، وعفوهم وصفحهم عن الأعداء، وسوف ترى أنّ أحلام الشعراء والأدباء، وخيالهم الخصيب، وقريحتهم الفياضة، لا تصل إلى تلك القمّة العالية التي وصل إليها هؤلاء في عالم الحقيقة والواقع، ولولا تواتر ما جاء في هذا الباب واستفاضته، ولولا شهادات التاريخ الموثوق بها، بدت هذه الأخبار كقصص وأساطير نسجها الخيال. إنّ هذا الانقلاب العظيم، والدور الزاهر الجديد معجزة من معجزات محمّد صلى الله عليه وسلم ومأثرة من ماثر بعثته، ونفحة من نفحات الرحمة الإلهية التي عمّت الأمكنة كلّها، والأزمنة كلّها، وصدق الله العظيم: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 جداول الغزوات والسّرايا والأحداث المتعلّقة بالسّيرة النبوية «1»   (1) هذه إضافة المحقّق إلى الكتاب من «رحمة للعالمين» للقاضي محمد سليمان سلمان المنصور فوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 أ- الغزوات الملحق رقم (1) الرقم المسلسل اسم الغزوة وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 1 غزوة ودان وهي غزوة الأبواء، وقعت في صفر المظفر سنة 2 هـ 70 النبي صلى الله عليه وسلم عاهد عمرو بن مخشي الضمري على ألا يعين قريشا ولا المسلمين. 2 غزوة بواط، وقعت في ربيع الأول سنة 2 هـ 200 النبي صلى الله عليه وسلم 100 أمية بن خلف بلغ إلى بواط من ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة، لقي في الطريق قريشا وأمية. رضوى: اسم جبل بالقرب من ينبع. 3 غزوة سفوان أو غزوة بدر الأولى، وقعت في ربيع الأول سنة 2 هـ 70 النبي صلى الله عليه وسلم كرز بن جابر الفهري خرج في طلب العدو حتى بلغ صفوان فلم يدركه كان كرز بن جابر قد أغار على مواش لأهل المدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 الرقم المسلسل اسم الغزوة وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 4 غزوة ذي العشيرة، وقعت في جمادى الآخرة سنة 2 هـ 150 النبي صلى الله عليه وسلم وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة. ذو العشيرة موضع بين مكة والمدينة من بطن ينبع. 5 غزوة بدر الكبرى، وقعت في رمضان سنة 2 هـ 313 النبي صلى الله عليه وسلم 1000 أبو جهل 22 70 70 انتصر المسلمون على العدوّ. بين بدر ومكة سبعة منازل، وبين بدر والمدينة ثلاثة منازل لما علم بخروج قريش إلى المدينة ارتحل دفاعا عن المسلمين. 6 غزوة بني قينقاع، في شوال سنة 2 هـ النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة بني قينقاع تم إجلاؤهم أتوا بالشرّ في المدينة حين كان المسلمون في بدر فأجلوا لذلك 7 غزوة السويق، في ذي الحجة سنة 2 هـ 200 النبي صلى الله عليه وسلم 200 أبو سفيان الأموي 2 خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه فلم يدركه. بعث أبو سفيان رجالا من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 الرقم المسلسل اسم الغزوة وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة فحرّقوا في أصوار من نخل ووجدوا بها رجلين فقتلوهما. 8 غزوة قرقرة الكدر، أو غزوة بني سليم، وقعت في محرم الحرام سنة 2 هـ 200 النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة بني غطفان وبني سليم 1 خرج العدو يغزو المدينة فانصرف حين رأى جمعا من المسلمين. أسر عبد اسمه يسار فأطلق سراحه. 9 غزوة ذي أمر، أو غزوة غطفان أو غزوة أنمار، وقعت في ربيع الأول سنة 3 هـ 450 النبي صلى الله عليه وسلم بنو ثعلبة وبنو محارب اجتمعت بنو ثعلبة وبنو محارب للإغارة على المدينة فانصرفوا حين رأوا جمعا من المسلمين. خرج النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ نجدا وهنا أسلم الذي كان هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. 10 غزوة أحد، وقعت في شوال سنة 3 هـ 650 راجلا 2800 راجلا 200 راكبا 3000 أبو سفيان الأموي 40 جريحا 70 شهيدا 30 قتيلا لحقت خسارة فادحة بالمسلمين ولكن فشل الكفار نتيجة لرعب أصابهم. بين أحد وبين المدينة ثلاثة أميال كان الأعداء زحفوا من مكة إلى أحد. 11 غزوة حمراء الأسد، 540 النبي صلى الله عليه وسلم 2970 أبو سفيان 2 أبو عزة خرج النبي صلى الله عليه وسلم لما كان الغد من يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 الرقم المسلسل اسم الغزوة وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة وقعت في 7 من شوال المكرم سنة 3 هـ ومعاوية ابن المغيرة مرعبا للعدو. أحد خرج المسلمون إلى معسكر العدو لئلا يغير عليهم ثانية ظانا بهم ضعفا، أسر رجلان وقتل أبو عزة الشاعر لأنه كان وعد في بدر بأنه لا يظاهر أبدا على المسلمين ثم نقض عهده، وحث المشركين على المسلمين. 12 غزوة بني النضير، وقعت في ربيع الأول سنة 4 هـ النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة بني النضير تم إجلاؤهم بأنهم همّوا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم. كانت بنو النضير في المدينة ولما أرادوا الغدر بالمسلمين. أجلوا إلى أرض خيبر، وقد وقعت غزوة خيبر جزاء شرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 الرقم المسلسل اسم الغزوة وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 13 غزوة بدر الأخرى، وقعت في ذي القعدة سنة 4 هـ 1500 راجل، 10 راكبا 1510 النبي صلى الله عليه وسلم 2000 راجل، 50 راكبا 2050 أبو سفيان الأموي لم تحدث مواجهة. خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل بناحية الظهران أو عسفان، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدومه، خرج إليه فرجع أبو سفيان فرجع النبي صلى الله عليه وسلم أيضا. 14 غزوة دومة الجندل، في ربيع الأول سنة 5 هـ 1000 النبي صلى الله عليه وسلم أهل دومة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا. كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع باجتماع حاشد بدومة الجندل للإغارة على المدينة فخرج إليها فعلم بكذبه فرجع ووادع عيينة بن حصين في الطريق. 15 غزوة بني المصطلق، أو المريسيع، وقعت النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن ضرار سيد بني 19 10 انهزم العدو وأطلق الأسرى كلهم. بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 الرقم المسلسل اسم الغزوة وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة في شعبان المعظم سنة 5 هـ المصطلق وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، فبعث إليهم بريدة الأسلمي يأتيه منها بخبر فعلم بصحته فخرج إليهم فقاتله بنو المصطلق فقط وفر الباقون. 16 غزوة الأحزاب أو الخندق، وقعت في شوال المكرم أو في ذي القعدة سنة 5 هـ 3000 النبي صلى الله عليه وسلم 10000 أبو سفيان الأموي وغيره 6 10 انقلب العدو خائبا خاسئا. إن نفرا من اليهود دعوا قريشا والقبائل الأخرى للحرب ضد المسلمين فضرب المسلمون الخندق على المدينة دفاعا عن أنفسهم. فحاصرهم الأعداء شهرا ثم انشمروا راجعين إلى بلادهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 الرقم المسلسل اسم الغزوة وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 17 غزوة بني قريظة، وقعت في ذي الحجة سنة 5 هـ النبي صلى الله عليه وسلم بنو قريظة 4 200 400 من الأعداء من قتل ومنهم من أسر. كان لبني قريظة عقد مع المسلمين فلما أرادوا الغدر أسروا فحكم رسول الله رجلا في بني قريظة ليحكم بما أنزل الله، فحكم بقتل أربعمئة رجل حسب التوراة التي كانوا يؤمنون بها وهذا العدد مروي عن جابر في الترمذي وفي مسند الإمام أحمد وسنن الدارمي «1» .   (1) أخرجه الترمذي في أبواب السير، باب ما جاء في النزول على الحكم، برقم (1582) ، وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد في المسند (3 350) ، والدارمي في السنن في كتاب السير، باب نزول أهل بني قريظة على حكم سعد بن معاذ، (2 238) ، وصحّح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (7 414) وقال: «واختلف في عدّتهم، فعند ابن إسحاق أنّهم كانوا ستمئة، وبه جزم أبو عمرو في ترجمة سعد ابن معاذ، وعند ابن عائذ من مرسل قتادة وكانوا سبعمئة، وقال السهيلي: المكثر يقول إنهم ما بين الثمانمئة إلى التسعمئة، وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 الرقم المسلسل اسم الغزوة وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 18 غزوة بني لحيان، وقعت في ربيع الأول سنة 6 هـ 200 النبي صلى الله عليه وسلم بنو لحيان من بطون هذيل تفرق العدو حين علم بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليه. كانت هذه الغزوة لتأديب أهل الرجيع الذين كانوا قتلوا عشرة من الدعاة الأبرياء (انظر رقم 22) . 19 غزوة ذي قردة أو الغابة وقعت في ربيع الآخر سنة 6 هـ 500 النبي صلى الله عليه وسلم مع سلمة بن الأكوع الأسلمي خيل من غطفان تحت قيادة عيينة الفزاري امرأة واحدة 3 1 أغاروا على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج المسلمون في طلبهم فلحقوا بهم. عدت هذه العصابة من النّهاب على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلوا رجلا واحتملوا المرأة على اللقاح فخرج رجال من أصحابه في طلبهم ثم لحقهم النبي صلى الله عليه وسلم بهم. 20 غزوة الحديبية في ذي القعدة سنة 6 هـ 1400 النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة سهيل بن عمرو القرشي تم الصلح بين المسلمين وبين كان النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا فصدته قريش.   - مقاتل، فيحتمل في طريق الجمع أن يقال: إن الباقين كانوا أتباعا، وقد حكى ابن إسحاق أنه قيل: إنهم كانوا تسعمئة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 الرقم المسلسل اسم الغزوة وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة قريش لشعر سنوات ورجع النبي صلى الله عليه وسلم. عن البيت في الحديبية التي بينها وبين مكة أربعة عشر ميلا فتم فيها الصلح. 21 غزوة خيبر، وقعت في محرم الحرام سنة 7 هـ 1400 رجل، 120 امرأة ممرضة 1420 النبي صلى الله عليه وسلم 10000 يهود خيبر كنانة ابن أبي الحقيق 50 جريحا 18 93 فتح الله للمسلمين فتحا مبينا. سبق لليهود أن قاتلوا المسلمين في أحد والأحزاب، وكانوا يريدون بعدها غزو المدينة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فأفسد عليهم نواياهم العدوانية 22 غزوة وادي القرى، وقعت في محرم الحرام سنة 7 هـ 1382 النبي صلى الله عليه وسلم اليهود من سكان وادي القرى 11 23 غزوة فتح مكة، وقعت في رمضان سنة 8 هـ 10000 النبي صلى الله عليه وسلم قريش مكة 2 12 انتصر المسلمون. اختلف العلماء هل دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا أم مصالحا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 الرقم المسلسل اسم الغزوة وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة والحقيقة أنه صلى الله عليه وسلم كان أمر الجيوش بأن تدخلها ولا تستخدم الأسلحة ما لم تتعرض لها جماعة مسلحة، فدخلت الجيوش مكة بطرق متفرقة ولم تتعرض لها إلا كتيبة من الجنود، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وجعل الناس كلهم طلقاء لا تثريب عليهم. 24 غزوة حنين أو أوطاس أو هوازن، وقعت في شوال سنة 8 هـ 12000 النبي صلى الله عليه وسلم بنو هوازن وبنو ثقيف وبنو معز وبنو أحسم 6 6000 71 انتصر المسلمون. أطلق النبي صلى الله عليه وسلم جميع الأسرى دون عوض وأعطاهم الكسوة كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 الرقم المسلسل اسم الغزوة وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 25 غزوة الطائف، وقعت في شوال سنة 8 هـ 12000 النبي صلى الله عليه وسلم بنو ثقيف جمع كثير 13 جمع كثير رجع النبي صلى الله عليه وسلم بعد محاصرة دامت شهرا. لما رفع النبي صلى الله عليه وسلم عنهم الحصار قدموا عليه وأسلموا. 26 غزوة تبوك، وقعت في رجب سنة 9 هـ 30000 الرسول صلى الله عليه وسلم هرقل قيصر الروم قام النبي صلى الله عليه وسلم بالتجمع مع أصحابه وأرهب الأعداء ثم رجع إلى المدينة. كان بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن هرقل يريد الإغارة على المدينة ليغسل العار الذي لحقه في وقعة مؤتة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الثغور فأصاب الذعر الأعداء فقعدوا عن الحرب. 27 غزوة ذات الرقاع، وقعت في محرم الحرام سنة 7 هـ 400 النبي صلى الله عليه وسلم بنو غطفان وبنو محارب وبنو ثعلبة وبنو أنمار تفرق العدو. كانت بنو غطفان قد جمعوا جموعا من بني محارب وبني ثعلبة وبني أنمار للإغارة على المسلمين، فلما قام المسلمون بحشودهم تفرقوا جميعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 ب- السرايا الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 1 سرية سيف البحر، وقعت في رمضان سنة 1 هـ 30 راكبا حمزة بن عبد المطلب 300 أبو جهل انصرف المسلمون دون قتال. بعثت هذه السرية لدراسة أحوال مكة، وجد الأعداء أن المسلمين منتبهون فانصرفوا عنهم. 2 سرية الرابغ، وقعت في شوال سنة 1 هـ 60 عبيد بن الحارث «1» 200 عكرمة وأبو سفيان انصرف المسلمون دون قتال. بعثت هذه السرية لتفقد أحوال أهل مكة فرأت جمعا عظيما من قريش بأسفل ثنية المرة 3 سرية ضرار، وقعت في ذي القعدة سنة 1 هـ 80 سعد بن أبي وقاص «2» خرج حتى بلغ الجحفة ثم رجع ولم يلق كيدا. 4 سرية النخلة، وقعت 12 عبد الله بن جحش قافلة تحت أطلق الأسيران وودى أرسلوا لاستطلاع   (1) يوجد ذكره في شهادة كربلا. (2) هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين جعلهم عمر رضي الله عنه أهلا للخلافة، فاتح فارس ومؤسس الكوفة، وخاض وقائع كثيرة في سبيل الله، وسابع الستة الذين أسلموا، توفي سنة 54 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 5 في رجب سنة 2 هـ- سرية عمير بن العدي الخطمي، وقعت في رمضان سنة 2 هـ 1 عمير «1» 1 قيادة بني أمية عصماء بنت مروان قتلت عصماء القتيل قريش فوقع الصدام. قتل عمير أخته التي كانت تحض قومها على الحرب ضد المسلمين. 6 سرية سالم بن عمير الأنصاري، وقعث في شوال سنة 2 هـ 1 سالم «2» الخطمية 1 أبو عفك اليهودي قتل اليهودي كان أبو عفك اليهودي يسنفز اليهود على المسلمين فقتله سالم. 7 سرية قرقرة الكدر، وقعت في سنة 2 هـ غالب بن عبد الله الليثي قبيلة بني غطفان وبني سليم 3 قتل عدد من الأعداء وفرّ الباقون. بعثت هذه السرية إكمالا إذ اجتمع الأعداء مرة ثانية. 8 سرية محمد بن مسلمة وقعت في ربيع الأول سنة 3 هـ محمد بن مسلمة الأنصاري «3» الخزرجي 1 كعب بن الأشرف اليهودي 1 1 كان كعب بن الأشرف يحرض القبائل من   (1) هو أول من أسلم من بني خطمة، كان إمام قومه وكانت عيناه ضعيفتين، والده عدي بن خرشة شاعر شهير. (2) شهد بدرا وأحدا والخندق، وكان يبكي خوفا من الله. توفي في إمارة معاوية. (3) هو من كبار الصحابة، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على المدينة في غيابه عنها، كان بمعزل عن الناس أيام الفتنة. توفي سنة 41 هـ- بالمدينة وهو ابن سبع وسبعين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القنيل النتيجة الملاحظة اليهود ضد المسلمين ودعا قريشا إلى الحرب فوقعت غزوة أحد. 9 سرية قردة، وقعت في جمادى الآخرة سنة 3 هـ 100 زيد بن حارثة رضي الله عنه أبو سفيان الأموي 1 خرج زيد بن حارثة في بعث فتلقى قريشا في طريقهم إلى العراق. أسر فرات بن حيّان دليل القافلة التجارية فأسلم. 10 سرية قطن أو سرية أبي سلمة المخزومي، وقعت في غرة محرم الحرام سنة 4 هـ 150 أبو سلمة المخزومي طلحة، وسلمة لم يتمكنوا من الإغارة على المدينة بمظاهرة. هو رئيس قطاع الطريق أراد الإغارة على المدينة ولكن المسلمين تظاهروا فوصلوا إلى قطن وهو مسكنه فتفرق جمعه. 11 سرية عبد الله بن أنيس وقعت في 5 من محرم الحرام سنة 4 هـ 1 عبد الله بن أنيس الجهني الأنصاري 1 سفيان الهذلي 1 سمع عبد الله بأن سفيان استنفر قوما ضد المسلمين بعرنة فوصل إليها وقتل بها سفيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 12 سرية الرجيع، وقعت في صفر المظفر سنة 4 هـ 10 عاصم بن ثابت أو مرثد بن الغنوي 100 قبيلة عضل والقارة 10 استشهد عشرة من القرّاء. كانت سلامة امرأة طلحة قد جعلت مئة ناقة لمن يقتل عاصما، فقدم رهط من قبيلتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستصحبوا عشرة من القراء فقتلوا منهم ثمانية وباعوا منهم اثنين بمكة فصلبهما أهل مكة وبقي جثمانهما على الخشبة أربعين يوما. وفي كتب السيرة أنهم كانوا ستة وفي البخاري أنهم كانوا عشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 13 سرية بئر معونة أو سرية طرز، وقعت في صفر سنة 4 هـ 70 منذر بن عمرو جماعة كبيرة عامر بن مالك 1 69 استشهد تسع وستون من الدعاة. قدم عامر بن مالك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا من أصحابه، فلما نزلوا ببئر معونة غشيتهم قبائل من بني سليم من رعل وذكوان وقتلوهم إلا عمرو بن أمية الضمري فإنه كان في سرح القوم. 14 سرية عمرو بن أمية الضمري، وقعت في 1 عمرو بن أمية الضمري 2 من قبيلة بني كلاب 2 بما أن عمرو بن أمية الضمري كان قتل وجد عمرو بن أمية الضمري الذي كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة ربيع الأول سنة 4 هـ رجلين من قبيلتين كان معهما عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. يرجع إلى المدينة من بين السبعين قارئا رجلين في ظلّ فأمهلهما حتى إذا ناما قتلهما يظن أنهما من جماعة القاتلين. 15 سرية عبد الله بن عتيك وقعت في ذي القعدة سنة 5 هـ 5 عبد الله بن عتيك الأنصاري الخزرجي «1» 1 سلام بن أبي الحقيق من يهود خيبر 1 قتل العدو هو الذي تولى تحريض القبائل على المسلمين في غزوة الأحزاب وكان يدعو إلى جميع القبائل فقتله عبد الله في مضجعه ليلا. 16 سرية القرطاء، وقعت في محرم الحرام سنة 6 هـ 30 محمد بن مسلمة الأنصاري 30 ثمامة بن أثال 1 أسر ثمامة فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم. رأى محمد بن مسلمة أن ثمامة يذهب إلى   (1) شهد أحدا واستشهد في غزوة اليمامة كانت قدمه قد انكسرت في السرية المذكورة فمسح الرسول صلى الله عليه وسلم بيده عليها فبرأت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة المدينة فحال دونه فأسره فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم لحسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وكان ثمامة سيد نجد. 17 سرية عكّاشة بن محصن أو سرية غمر مرزوق، وقعت في ربيع الآخر سنة 6 هـ 40 عكاشة بن محصن الأسدي «1» بنو أسد تفرق الأعداء ولم تكن المواجهة. أسرت مئتان من الإبل لهم. كان بنو أسد قد أجمعوا الإغارة على المدينة فبعثت إليهم هذه السرية. 18 سرية ذي القصة في ربيع الآخر سنة 6 هـ 10 محمد بن سلمة 100 بنو ثعلبة 1 الجريح 9 استشهد تسعة من الدعاة وأصيب محمد ابن مسلمة بجرح. كان عشرة من القراء ذهبوا يبلغونهم وبينما هم نائمون إذ عمد إليهم بنو ثعلبة فقتلوهم.   (1) هو من كبار الصحابة قتله المرتدون في خلافة أبي بكر وهو ابن اثنتين وأربعين سنة، شهد المشاهد كلها من أحد وبدر وغيرها. كان بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يدخل الجنة بغير حساب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 19 سرية بني ثعلبة، وقعت في ربيع الآخر سنة 6 هـ 40 أبو عبيدة بن الجراح بنو ثعلبة 1 انصرف العدو وغنم المسلمون ما كان لهم من المتاع. بعثت هذه السرية لتصيب بثأر الذين استشهدوا في ذي القصة. 20 سرية الجموم، وقعت في ربيع الآخر سنة 6 هـ زيد بن حارثة بنو سليم الأسرى 10 أسر رجال فأطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم كان زوج المرأة المخبرة. كانت امرأة يقال لها حليمة قد دلت زيد بن حارثة على محلة من محال بني سليم وقد ذكرنا عدد الأسرى على وجه التقدير. 21 سرية الطرف أو الطرق، وقعت في جمادى الآخرة سنة 6 هـ 15 زيد بن حارثة بنو ثعلبة هرب الأعداء وأصاب المسلمون عشرين بعيرا. بعثت هذه السرية لمعاقبة المجرمين بذي القصة. انظر الرقم (18) . 22 سرية وادي القرى، وقعت في رجب سنة 6 هـ 12 زيد بن حارثة سكان وادي القرى 1 جريحا 9 قتل من المسلمين تسعة رجال وجرح واحد. كان زيد بن حارثة ذهب إليهم للجولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة فحملوا عليه وعلى أصحابه. 23 سرية دومة الجندل، وقعت في شعبان سنة 6 هـ عبد الرحمن بن عوف الزهري «1» قبيلة بني كلب الأصبغ بن عمرو الكلبي تحقق نجاح ملموس في مجال الدعوة. أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانيا وأسلم معه ناس كثير من قومه. 24 سرية فدك، وقعت في شعبان سنة 6 هـ 200 علي بن أبي طالب بنو سعد بن بكر هربت بنو سعد وأصاب المسلمون مئة بعير وألفي شاة. بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر فقام علي بن أبي طالب بالمظاهرة. 25 سرية أم قرفة، وقعت في رمضان سنة 6 هـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه بنو فزارة تحت قيادة أم قرفة 2 انهزم العدو. كانت بنو فزارة قد أغاروا على قافلة زيد ابن حارثة التجارية.   (1) هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة جعلهم الفاروق رضي الله عنه أهلا للخلافة، وكان تاجرا كبيرا وغنيا زاهدا أمينا في الأرض وأمينا في السماء. وكان يخدم أمهات المؤمنين بالأموال. جرح في غزوة أحد إحدى عشرة جراحة. صلّى النبي صلى الله عليه وسلم وراءه في سفر. توفي سنة 31 هـ- وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة بإيعاز من أم قرفة وابنتها معها وهرب الباقون. 26 سرية عبد الله بن رواحة وقعت في شوال سنة 6 هـ 30 عبد الله بن رواحة 30 أسير بن زرام اليهودي. 1 30 وقع الاشتباك لسوء فهم الفريقين فقتل اليهود جميعا. كان عبد الله بن رواحة ذهب في ثلاثين من أصحابه إلى أسير ليدعوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج أسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين رجلا من اليهود فتحامل المسلمون واليهود ليلا لسوء فهم. 27 سرية العرنيين، وقعت في شوال سنة 6 هـ 20 كرز بن جابر الفهري «1» رجال من عكل وعرينة 1 8 قتلوا الراعي واستاقوا الإبل فأسروا ومثل بهم. استوخموا المدينة فشربوا من ألبان الإبل   (1) ينتهي نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من فهر، كان رئيس الكفار حين وقعت غزوة سفوان، استشهد يوم الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة وأبوالها فصحوا ثم قتلوا يسارا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود. 28 سرية عمرو بن أمية الضمري، وقعت في شوال سنة 6 هـ 1 عمرو بن أمية كان عمرو بن أمية قد جاء إلى مكة ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم لما قد رأى من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم. ثم رجع إلى مكة ودعا الناس بها إلى الإسلام، يقول بعض أعداء الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمره بأن يقتل أبا سفيان ولكن لا توجد أي رواية بهذا المعنى في الكتب الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 29 سرية عيص، وقعت في صفر سنة 7 هـ 72 أبو جندل وأبو بصير. قافلة قريش 9 أخذ أموال العدو ثم ردها إليهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. كان أبو جندل قد أسلم بمكة فأسرته قريش فلبث فيهم حبيسا يدعو الناس إلى الإسلام، فأسلم على يديه عدد كبير منهم ثم فرّ هو وأصحابه ونزلوا في جبل في الطريق بين مكة والشام، وقطعوا الطريق على ركب قريش الذي كان فريقا محاربا. فرد النبي صلى الله عليه وسلم أموال قريش واستقدم أبا جندل إلى المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 30 سرية الكديد، وقعت في صفر سنة 7 هـ 60 غالب بن عبد الله الليثي بنو الملوح 1 وقع اشتباك. كانت بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير ابن سويد فبعثت إليهم هذه السرية للتوبيخ. 31 سرية فدك، وقعت في صفر سنة 7 هـ غالب بن عبد الله الليثي أهل فدك قتل ناس من العدو. 32 سرية حسمى، وقعت في جمادى الآخرة سنة 7 هـ 50 زيد بن حارثة 102 الهنيد بن عوص الجزري 100 2 انتصر المسلمون وقتل الهنيد مع ابنه وأطلق الباقون بعد توبتهم. كان دحية الكلبي يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من عند قيصر بالهدايا والكسوة فلقيه الهنيد في ناس فقطعوا عليه الطريق فبعث زيد بن حارثة إلى قطاع الطريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 33 سرية تربة، وقعت في شعبان سنة 7 هـ عمر بن الخطاب أهل تربة تفرق العدو. بين تربة ومكة منزلان كان أهل تربة قد اصطلحوا مع بني غطفان فقام المسلمون بالمظاهرة في محالهم. 34 سرية بني كلاب، وقعت في شعبان سنة 7 هـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه بنو كلاب انتصر المسلمون سبي من الأعداء جماعة وقتل آخرون. كانوا أجمعوا الهجوم على المسلمين مع بني محارب وبني أنمار. 35 سرية الميفعة، وقعت في رمضان سنة 7 هـ غالب بن عبد الله الليثي أهل الميفعة وقع اشتباك. كانوا حلفاء أهل خيبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 36 سرية خربة، وقعت في رمضان سنة 7 هـ أسامة بن زيد «1» أهل خربة بينما أسامة وأصحابه يمشون في الطريق إذ هبط إليهم رجل من الجبل فقتله أسامة بعد أن قال: «لا إله إلا الله» . 37 سرية بن مرة، وقعت في شوال 7 هـ 30 بشير بن سعد بنو مرة بالقرب من فدك. وقع اشتباك. كانوا حلفاء أهل خيبر 38 سرية بشير بن سعد الأنصاري «2» ، وقعت في شوال سنة 7 هـ 30 بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري بنو فزارة وعذرة 30 2 أصيب المسلمون كلهم بجروح وأسر للعدو رجلان. كانت بنو فزارة وبنو عذرة قد ساعدوا اليهود في خيبر فبعث إليهم هذه السرية للترويع وكان الغرض منها حشد القوة فقط. 39 سرية بن أبي العوجاء، 50 بنو سليم 1 49 أصيب ابن أبي العوجاء قام المسلمون بحشد   (1) أسامة كان حبيبا لرسول الله، والدته أم أيمن التي يناديها النبي صلى الله عليه وسلم بأمي بعد أمي. والدة زيد بن حارثة الذي يناديه الناس بزيد بن محمد لشفقة النبي صلى الله عليه وسلم عليه. توفي سنة 54 هـ. (2) هو العقبى البدري، وأول من بايع أبا بكر الصديق يوم السقيفة، استشهد بعين التمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة في ذي الحجة سنة 7 هـ ابن أبي العوجاء جرح واستشهد الباقون. قواهم في محالهم لأنهم كانوا يجمعون للإغارة على المدينة. 40 سرية ذات أطلاح، وقعت في ربيع الأول سنة 8 هـ 15 كعب بن عمير الأنصاري الغفاري أهالي ذات أطلح بنو قضاعة 14 استشهد المسلمون جميعا وبرأ واحد منهم. كانوا يجمعون في عدد كبير للإغارة على المسلمين فبعث إليهم كتيبة لتخويفهم فاستشهد المسلمون جميعا لكثرة عدد العدو 41 سرية ذات عرق، وقعت في ربيع الأول سنة 8 هـ 25 شجاع بن وهب الأسدي «1» بنو هوازن أهالي ذات عرق لم يكن اللقاء أصاب المسلمون لعدوهم إبلا. كانت بنو هوازن قد مدوا يد المعونة إلى أعداء المسلمين مرارا وكانوا قد اجتمعوا الآن في عدد كبير على بعد خمسة منازل   (1) هاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها. بعثه النبي صلى الله عليه وسلم رسولا إلى الحارث الغساني وجبلة الغساني. استشهد في غزوة اليمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة من المدينة فاحتشد المسلمون لتخويفهم. 42 سرية مؤتة، وقعت في جمادى الأولى سنة 8 هـ 3000 زيد بن حارثة 100000 شرحبيل الغساني 12 لم نعرف عدد المفقودين انتصر المسلمون. كان شرحبيل قد قتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعت لذلك الحرب. ومع أن الجيش الإسلامي أصيب بخسائر إلا أن ثلاثة آلاف هزموا مئة ألف. 43 سرية ذات السلاسل، وقعت في جمادى الآخرة سنة 8 هـ 500 عمرو بن العاص القرشي السهمي «1» بنو قضاعة ساكنو ذات السلاسل هرب الأعداء بمظاهرة المسلمين. كان جمع من قضاعة قد تجمعوا للإغارة على المدينة. والسبب في جعل عمرو بن العاص أميرا   (1) أسلم في صفة سنة 8 هـ، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على عمان، واستعمله عمر على فلسطين ثم فتح مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة أنه كان من سكان وادي هذا القوم وكان خبيرا بهذه المنطقة. 44 سرية سيف البحر، وقعت في رجب سنة 8 هـ 300 أبو عبيدة بن الجراح قريش أقام المسلمون على الساحل أياما ثم انصرفوا. كان الغرض من هذه السرية تشتيت همم قريش. 45 سرية محارب، وقعت في شعبان سنة 8 هـ 15 أبو قتادة الأنصاري «1» بنو غطفان ساكنو خضرة الواقعة في نجد هرب العدو خائفا وأصاب المسلمون غنائم. بنو غطفان الذين هجموا مرارا على المسلمين كانوا يتجمعون الآن بخضرة فبعثت إليهم سرية مكوّنة من خمسة عشر رجلا للاستطلاع. 46 سرية خالد، وقعت في خالد بن الوليد الصنم العزى كانت العزى صنم بني   (1) يلقب بفارس الرسول، شهد المشاهد كلها زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن علي رضي الله عنه. توفي سنة 20 هـ- بالكوفة، صلى عليه عليّ بسبع تكبيرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة رمضان سنة 8 هـ كنانة فحطمها خالد ابن الوليد رضي الله عنه. 47 سرية عمرو بن العاص، وقعت في رمضان سنة 8 هـ عمرو بن العاص الصنم سواع كانت سواع صنم بني هذيل فحطمها عمرو ابن العاص رضي الله عنه. 48 سرية سعد الأشهلي، وقعت في رمضان سنة 8 هـ سعد بن زيد الأشهلي الأنصاري الصنم مناة كانت مناة صنم قبيلتي الأوس والخزرج فهدمها سعد الأشهلي رضي الله عنه. 49 سرية خالد بن الوليد، وقعت في شوال سنة 8 هـ 350 خالد بن الوليد بنو جذيمة 95 قتل خمسة وتسعون رجلا من بني جذيمة ممن كانوا أسلموا، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلهم وودى بهم الدية. كان خالد بن الوليد بعث داعيا وكانت بنو جذيمة قد أسلموا من قبل فشكّ خالد في إسلامهم وقتل منهم رجالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 50 سرية عيينة بن حصين، وقعت في محرم سنة 9 هـ 150 راكبا عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري «1» قبيلة بني تميم 62 تم القضاء على الثورة. قامت هذه القبيلة بإغراء القبائل التابعة لها ومنعتها عن أداء الجزية ولما خرج إليهم عيينة هربوا فأسر منهم 11 رجلا و 21 امرأة و 20 ولدا فأطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم جميعا حين قدم عليه سيدهم. 51 سرية قطبة بن عامر، وقعت في صفر سنة 9 هـ 20 قطبة بن عامر قبيلة خثعم أكثر من نصف أكثرهم تفرقوا وانتشروا. كانوا يدبرون مؤامرة ضد المسلمين فجاء قطبة ببعضهم أسرى فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) هو رئيس بني فزارة جعله النبي صلى الله عليه وسلم مطاعا. كان مجتهدا ولوعا بالجدّ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: زوجتي جميلة لو شئت تزوجتها فأبى النبي صلى الله عليه وسلم متبسما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة 52 سرية الضحاك بن سفيان الكلابي، وقعت في ربيع الأول سنة 9 هـ الضحاك رضي الله عنه قبيلة بني كلاب بعث المسلمون إلى بني كلاب داعين فاعترض لهم الكفار فوقع اشتباك ولم نجد عدد أهل السرية في أي كتاب ربما كانوا قليلين. 53 سرية عبد الله بن حذافة وقعت في ربيع الأول سنة 9 هـ 300 عبد الله بن حذافة «1» القرشي السهمي القراصنة من الحثميين هربوا كانوا قد اجتمعوا في ساحل جدة يريدون الإغارة على مكة فتفرقوا حين رأوا هذه السرية. 54 سرية بني طيّىء سنة 9 هـ 150 علي المرتضى رضي الله عنه بنو طيء أسرت سفانة أطلق النبي صلى الله عليه وسلم جميع الأسرى وودّع سفانة   (1) هو رسول رسول الله إلى كسرى، وهو من المهاجرين الأولين الذين هاجروا إلى الحبشة، وكان ظريف الطبع. وقع في أيدي النصارى أسيرا بعد خلافة عمر رضي الله عنه وحاول هرقل أن ينصّره فعصمه الله. توفي بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 الرقم المسلسل اسم السرية وتاريخ وقوعها عدد المسلمين اسم القائد عدد الأعداء اسم القائد خسارة المسلمين الجريح أو الأسير الشهيد خسارة العدو الجريح أو الأسير القتيل النتيجة الملاحظة بنت حاتم وغيرها من الناس بإكرام. 55 سرية دومة الجندل 420 خالد بن الوليد أكيدر أمير دومة الجندل أسر أكيدر أمير دومة وقتل أخوه. أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أكيدر وعقد الحلف مع حكومات نصرانية أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 الملحق رقم (2) جدول الأحداث التاريخية المتعلقة بالسيرة النبوية الرقم المسلسل الحادث السنة الإسلامية القمرية اليوم التاريخ الشهر عام الولادة السنة الميلادية الشمسية عام المبعث عام الهجرة التاريخ الشهر السنة القمرية الميلادية «1» 1 الولادة النبوية الأحد الإثنين 1 9 محرم ربيع الأول 1 1 15 2 فبراير إبريل 571 571 588 588 2 البعثة الإثنين 9- 41 1 9 12 2 610 628 3 وجوب صلاة الفجر والعصر على المسلمين الإثنين 9- 41 9 12 2 610 628 4 بدء نزول القرآن ليلة الجمعة 17 رمضان 41 1 14 17 8 610 628 5 هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة رجب 45 5 4 610 632 6 حصار النبي صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب الثلاثاء 1 محرم 47 7 30 3 10 9 615 634 7 سفره صلى الله عليه وسلم إلى الطائف جمادى الثانية 50 10 2 619 637   (1) في أغسطس السنة الأولى الميلادية يوم الأربعاء كانت غرة محرم الحرام وقد بدأنا السنة الميلادية القمرية من نفس التاريخ، وقد وضعنا السنة الميلادية القمرية ليعلم الفرق بين السنوات الشمسية والقمرية خلال مدة معينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 الرقم المسلسل الحادث السنة الإسلامية القمرية اليوم التاريخ الشهر عام الولادة السنة الميلادية الشمسية عام المبعث عام الهجرة التاريخ الشهر السنة القمرية الميلادية 8 الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الإثنين ليلة 27 رجب 50 10 ليلة 19 20 619 637 9 بداية إيمان أهل المدينة ذو الحجة 50 10 7 619 637 10 بيعة العقبة الأولى ذو الحجة 52 12 7 621 639 11 بيعة العقبة الثانية ذو الحجة 54 53 14 13 6 يونيو 622 640 12 الهجرة من مكة والدخول في الغار ليلة الجمعة 27 صفر 54 14 1 ليلة 13 910 سبتمبر 622 641 13 الدخول في قباء الإثنين 8 ربيع الأول 54 14 1 23 30 6 سبتمبر 622 631 14 الدخول في المدينة المنورة الجمعة 12- 54 14 1 27 24 10 أكتوبر 622 641 15 بناء المسجد النبوي الإثنين 22- 54 14 1 27 24 10 أكتوبر 622 641 16 الزيادة في صلاة الظهر والعصر والعشاء ربيع الثاني 54 14 1 10 أكتوبر 622 641 17 تحويل القبلة السبت 15 شعبان 55 15 2 14 11 10 أكتوبر 624 642 18 أول الصوم بعد وجوب رمضان الأحد 1 رمضان 55 15 2 29 36 20 فبراير 624 642 19 وجوب الزكاة 55 15 3 624 642 20 وجوب الجهاد 55 15 2 624 642 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 الرقم المسلسل الحادث السنة الإسلامية القمرية اليوم التاريخ الشهر عام الولادة السنة الميلادية الشمسية عام المبعث عام الهجرة التاريخ الشهر السنة القمرية الميلادية 21 يوم وقعة بدر الثلاثاء 17 رمضان 55 15 2 16 13 3 مارس 624 642 22 تحريم الخمر 56 16 3 625 643 23 نزول الحجاب الجمعة 1 ذو القعدة 57 17 4 4/ 7 4 أبريل 626 644 24 دعوة الملوك العظام إلى الإسلام الأربعاء 17 محرم 60 20 7 14 11 5 مايو 628 647 25 الفتح المبين الخميس 20 رمضان 61 21 8 14/ 11 1 يناير 630 648 26 وجوب الحج 62 22 9 631 649 27 أول حجة في الإسلام في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. الإثنين أو الثلاثاء 9 ذو الحجة 62 24 9 21 18 3 مارس 631 649 28 حجة الوداع الجمعة- 63 63 10 9/ 9 3 مارس 632 650 29 بداية مرض النبي صلى الله عليه وسلم الإثنين 29 صفر 64 24 11 28/ 25 5 مايو 632 651 30 الوفاة الإثنين في وقت الضحى 13 ربيع الأول 64 24 11 11/ 8 6 يونيو 632 651 31 الدّفن ليلة الأربعاء تم دفنه بعد وفاته باثنتين وثلاثين ساعة 14 ربيع الأول 64 11 12/ 9 6 يونيو 632 651 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 الفهارس العامّة فهرس المراجع العربية فهرس المراجع الأجنبية فهرس الآيات القرآنية الكريمة فهرس الأحاديث والآثار النبوية الشريفة فهرس الأشعار فهرس الأعلام فهرس القبائل والأقوام فهرس الأمكنة والمواضع فهرس الصّور والخرائط فهرس الموضوعات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 فهرس المراجع العربية القرآن الكريم: كتب الحديث: الجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري. جامع الترمذي للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي. سنن أبي داود للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني. سنن النسائي للقاضي أحمد بن شعيب بن علي النسائي. سنن ابن ماجه للعلامة أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني. موطأ الإمام مالك للإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحي. مسند أحمد للإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني. السنن الكبرى للبيهقي للعلامة أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي. سنن الدارمي للعلامة أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. المستدرك للحاكم للحافظ أبي عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري. الأدب المفرد للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. شمائل الترمذي للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي. شرح معاني الآثار للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي. مشكل الآثار للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 مسند أبي داود للحافظ أبي داود الطيالسي. شرح السنة للعلامة أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي. المصنف للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني. مشكاة المصابيح للعلامة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي والشيخ ولي الدين محمد الخطيب التبريزي. الترغيب والترهيب للحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. زاد المعاد للعلامة شمس الدين ابن قيم الجوزية. كنز العمال للعلامة علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين البرهان بوري. شرح مسلم للعلامة محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. فتح الباري للعلامة الحافظ أحمد بن علي بن محمد المعروف بابن حجر العسقلاني. عمدة القاري للعلامة بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني. جمع الفوائد من جامع للعلامة محمد بن محمد بن سليمان الفاسي الأصول ومجمع الزوائد المغربي. المعجم الكبير للعلامة سليمان بن أحمد بن أيوب الشامي الطبراني المواهب اللدنية للعلامة الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني. شرح المواهب اللدنية للعلامة محمد بن عبد الباقي الزرقاني. مجمع بحار الأنوار للعلامة محمد طاهر الفتني. التراتيب الإدارية للعلامة عبد الحي الكتاني. حلية الأولياء للعلامة أبي نعيم الأصبهاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 كتب التفسير: جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري) للعلامة أبي جعفر محمد بن جرير الطبري. تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) للعلامة الحافظ عماد الدين بن كثير. تفسير ماجدي للأستاذ الكبير عبد الماجد الدريابادي (اللغة الأردوية والإنجليزية) . كتب السيرة النبوية: السيرة النبوية للعلامة أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن هشام. كتاب الشفاء للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي. السيرة النبوية للعلامة الحافظ عماد الدين بن كثير. السيرة الحلبية للشيخ علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي. المغازي للعلامة محمد بن عمر الواقدي. الروض الأنف للحافظ عبد الرحمن بن عبد الله السهلي المغربي. كتاب الفصول للعلامة محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري. الخصائص الكبرى للعلامة جلال الدين محمد بن أحمد السيوطي. إمتاع الأسماع، بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع للعلامة تقي الدين أبي محمد المقريزي. الرسالة المحمدية للعلامة السيد سليمان الندوي (تعريب الأستاذ محمد ناظم الندوي) . خاتم النبيين للعلامة محمد أبو زهرة المصري. عبقرية محمد للأستاذ عباس محمود العقاد. الرسول القائد للواء الركن المتقاعد محمود شيت خطّاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 حجة الوداع وجزء عمرات النبي للعلامة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي. غزوة الأحزاب للأستاذ محمد أحمد باشميل. سيرة النبي للعلامة شبلي النعماني (اللغة الأردوية) . رحمة للعالمين للقاضي محمد سليمان المنصور فوري (اللغة الأردوية) . أصح السير للشيخ عبد الرؤوف الدانابوري (اللغة الأردوية) . عهد نبوي كي ميدان جنك ساحات القتال في العهد للدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي المقيم النبوي بباريس (اللغة الأردوية) . حديث دفاع للواء محمد أكبر خان الباكستاني (اللغة الأردوية) . محمد رسول الله للدكتور محمد حميد الله الحيدرآبادي المقيم بباريس، (اللغة الإنجليزية) . كتب التاريخ والتراجم والأخبار: طبقات ابن سعد للعلامة محمد بن سعد كاتب الواقدي. تاريخ الأمم والملوك تاريخ الطبري للعلامة أبي جعفر محمد بن جرير الطبري. البداية والنهاية للعلامة الحافظ عماد الدين بن كثير. الكامل للإمام فخر الدين بن الأثير الجزري. فتوح البلدان للعلامة أحمد بن يحيى بن جابر الشهير بالبلاذري. تاريخ ابن خلدون للعلامة عبد الرحمن بن محمد بن خلدون. تاريخ الخميس للقاضي حسين بن محمد بن الحسن الدياربكري المالكي. الاستيعاب في معرفة الأصحاب للعلامة الحافظ ابن عبد البر المالكي الأندلسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 الإصابة في تمييز الصحابة للعلامة الحافظ أحمد بن علي بن محمد المعروف بابن حجر العسقلاني. أسد الغابة للعلامة عز الدين أبي الحسن علي بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير. صفة الصفوة للعلامة الحافظ عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي. تذكرة الحفاظ للعلامة الحافظ شمس الدين أبي عبد الله الذهبي. كتاب الزهد للإمام عبد الله بن المبارك. الشعر والشعراء لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري. أهل كتاب صحابة وتابعين (الصحابة والتابعون من أهل الكتاب) للأستاذ مجيب الله الندوي (الأردوية) . الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني. تاريخ البلاد والأمم: معجم البلدان للإمام شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت الحموي البغدادي. النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة للعلامة الأمير يوسف بن تغري بردي. المغانم المستطابة في معالم طابة للعلامة مجد الدين الفيروز آبادي. وفاء الوفا في أخبار دار المصطفى للعلامة علي بن عبد الله بن أحمد السمهودي الشافعي. بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للسيد محمود شكري الآلوسي. أخبار مكة للإمام أبي الوليد محمد الأزرقي. تاريخ مكة للأستاذ أحمد السباعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 منزل الوحي للدكتور محمد حسين هيكل. حج ومقامات حج للأستاذ محمد الرابع الحسني الندوي (اللغة الأردوية) . آثار المدينة المنورة للأستاذ عبد القدوس الأنصاري. مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول للأستاذ أحمد إبراهيم الشريف. تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي. تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام للدكتور إسرائيل ولفنسون (أبو ذؤيب) . إيران بعهد ساسانيان ترجمة الدكتور محمد إقبال معلم الكلية الشرقية بلاهور. (إيران في عهد الساسانيين) (اللغة الأردوية) . تاريخ إيران لشاهين مكاريوس. نامهء تنسر (وثيقة إيرانية تاريخية- طبع مينوى) . تاريخ جبن (تاريخ الصين) لجيمس كاركرن. بنو إسرائيل في القرآن والسنة للدكتور محمد سيد الطنطاوي. هندوستاني تمدّن (الهند القديمة) لآشور أتوبا (اللغة الأردوية) . كتب الشريعة الإسلامية والأديان والمذاهب: حجة الله البالغة لشيخ الإسلام أحمد ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي. تاريخ التشريع الإسلامي للعلامة الشيخ محمد الخضري. فقه الزكاة للأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي. الكنز المرصود في قواعد التلمود (اليهود على حسب التلمود) للدكتور يوسف حنا نصر الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 الكتاب المقدس: الإنجيل التوراة ستيارته بركاش (في الديانة الهندوكية) لديانندسر سوتي (اللغة الأردوية) . منوشاستر المعاجم وكتب الأدب والمحاضرات والموسوعات: لسان العرب للعلامة أبي الفضل جمال الدين محمد المعروف بابن منظور المصري. المخصّص للعلامة أبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي المعروف بابن سيده. أدب الكاتب لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري. فقه اللغة للعلامة الشيخ أبي منصور الثعالبي. فرهنك عميد للأستاذ عميد (اللغة الفارسية) . شرح المعلقات السبع للعلامة أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزني. ديوان الحماسة لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي. العقد الفريد للعلامة الشيخ شهاب الدين أحمد المعروف بابن عبد ربه الأندلسي. حسن المحاضرة للعلامة جلال الدين محمد بن أحمد السيوطي. دائرة المعارف للبستاني للمعلم بطرس البستاني. دائرة معارف القرن العشرين للأستاذ محمد فريد وجدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 فهرس المراجع الأجنبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 فهرس الآيات القرآنية الكريمة الآية/ رقم الآية/ الصفحة (2) سورة البقرة هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً/ 29/ 628 وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ/ 84/ 251 ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً/ 85/ 251 وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ/ 89/ 228 وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ/ 102/ 253 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا/ 104/ 253 وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى/ 125/ 516 وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ/ 127/ 119 رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا/ 128/ 119 رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ/ 129/ 98، 119 وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ/ 143/ 290 إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ/ 158/ 263، 516 وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ/ 179/ 496 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ/ 183/ 296 شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ/ 185/ 296 وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ/ 191/ 496 رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ/ 201/ 638 وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ/ 213/ 148 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 الآية/ رقم الآية/ الصفحة وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ/ 216/ 386 يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ/ 217/ 295 لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ/ 256/ 258 إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا/ 275/ 82 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا/ 278/ 510 كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ/ 285/ 286 (3) سورة آل عمران إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ/ 9/ 244 يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ/ 64/ 393، 395، 396 إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ/ 96/ 96 وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً/ 103/ 104، 617، 618 كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ/ 110/ 525 وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ/ 123/ 312 وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ/ 144/ 335، 526، 541 لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ .... مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ/ 152/ 327 فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ/ 153/ 335 الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ/ 172/ 334 الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ/ 173/ 334، 335 فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ/ 174/ 335 إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ/ 175/ 335 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 الآية/ رقم الآية/ الصفحة (4) سورة النساء يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ/ 1/ 625 لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ/ 32/ 141 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ/ 51/ 289 كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ/ 77/ 291 مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ/ 143/ 284 (5) سورة المائدة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ/ 3/ 517، 525، 527 وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ/ 18/ 626 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ/ 90/ 510 إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ/ 118/ 567 (6) سورة الأنعام قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ/ 33/ 239 أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً/ 122/ 103 اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ/ 124/ 100 إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي/ 162/ 638 (7) سورة الأعراف اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ/ 138/ 468 وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ/ 156/ 634 الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي/ 157/ 178 (8) سورة الأنفال وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ/ 10/ 306 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 الآية/ رقم الآية/ الصفحة وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ/ 11/ 305 إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ/ 12/ 310 وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ/ 26/ 283- 284 إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا/ 41/ 299 هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ/ 62/ 271 وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ/ 63/ 271 إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ/ 73/ 271، 282 (9) سورة التوبة لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ/ 25/ 470- 471 ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ/ 26/ 471 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ/ 33/ 244 إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً/ 36/ 522 فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ/ 40/ 242 فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ/ 81/ 488 وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ/ 92/ 488 وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً/ 102/ 362 التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ/ 112/ 633 لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ/ 117/ 495، 634 وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ/ 118/ 495، 634 وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ/ 120/ 486 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ/ 123/ 485 لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ/ 128/ 539 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 الآية/ رقم الآية/ الصفحة (12) سورة يوسف إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ/ 87/ 634 تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ/ 91/ 449 لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ/ 92/ 449 (14) سورة إبراهيم وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً/ 35/ 120 رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ/ 36/ 120 رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ/ 37/ 120 (15) سورة الحجر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ/ 9/ 525، 607 وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ/ 56/ 634 وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ/ 89/ 185 فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ/ 94/ 184 (17) سورة الإسراء وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ/ 32/ 508 سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً/ 43/ 626 وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ/ 70/ 628 جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ/ 81/ 454 (21) سورة الأنبياء وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ/ 107/ 607، 608، 621، 643 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 الآية/ رقم الآية/ الصفحة (22) سورة الحج وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ/ 11/ 284 أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا/ 39/ 293 وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ/ 73/ 623 (24) سورة النور إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ/ 11/ 375 لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ/ 12/ 375 (26) سورة الشعراء وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ/ 214/ 184- 185 وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ/ 215/ 185 (28) سورة القصص تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً/ 83/ 532 وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً/ 86/ 176 (29) سورة العنكبوت وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ/ 48/ 176 يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ / 56/ 240 (30) سورة الروم الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ/ 1- 2/ 167 فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ/ 3/ 167، 168 فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ/ 4/ 167، 168 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 الآية/ رقم الآية/ الصفحة بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ/ 5/ 167 وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ/ 6/ 167 يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا/ 7/ 167 ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ/ 41/ 85 (33) سورة الأحزاب النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ/ 6/ 577 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ/ 9/ 356 إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ/ 10/ 345، 360 هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا/ 11/ 345 وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ/ 13/ 280، 355 لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ/ 21/ 53 وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً/ 25/ 342، 356 يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ/ 28/ 548 وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ/ 29/ 548 وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ/ 53/ 547 وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ/ 25/ 356 (34) سورة سبأ وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ/ 34/ 212 وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ/ 35/ 212 وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ/ 49/ 454 (36) سورة يس لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ/ 6/ 149، 228 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 الآية/ رقم الآية/ الصفحة فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ/ 9/ 236 (39) سورة الزمر أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ/ 60/ 532 قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ/ 53/ 633 (41) سورة فصلت لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ/ 42/ 99 (42) سورة الشورى وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا/ 7/ 134 وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ/ 52/ 176 (43) سورة الزخرف وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ/ 31/ 213، 215 (46) سورة الأحقاف* وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ/ 21/ 116، 117 (48) سورة الفتح إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً/ 1/ 384 لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ/ 2/ 384 وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً/ 3/ 384 وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ/ 4/ 241 * لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ/ 18/ 380، 419 وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً/ 19/ 419 لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ/ 27/ 432 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 الآية/ رقم الآية/ الصفحة (49) سورة الحجرات يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى / 13/ 456، 625 (53) سورة النجم وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى / 3/ 99 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى / 4/ 99 ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى / 17/ 217 لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى / 18/ 217 أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى / 38/ 631 وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى / 39/ 631 وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى / 40/ 631 ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى / 41/ 631 (58) سورة المجادلة وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ/ 8/ 254 (59) سورة الحشر هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ/ 2/ 342 ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى / 7/ 262 وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ/ 9/ 227 لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ/ 14/ 262 (62) سورة الجمعة هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ/ 2/ 145 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 الآية/ رقم الآية/ الصفحة (68) سورة القلم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ/ 4/ 585 (74) سورة المدثر يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ/ 1/ 192 (90) سورة البلد لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ/ 1/ 134 وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ/ 2/ 134 (95) سورة التين وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ/ 1/ 134 وَطُورِ سِينِينَ/ 2/ 134 وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ/ 3/ 134 (96) سورة العلق اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ/ 1/ 180 خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ/ 2/ 180 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ/ 3/ 180 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ/ 4/ 180 عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ/ 5/ 180 (98) سورة البينة لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ/ 1/ 106 رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً/ 2/ 106 فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ/ 3/ 106 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 الآية/ رقم الآية/ الصفحة (105) سورة الفيل أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ/ 1/ 130 أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ/ 2/ 130 وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ/ 3/ 130 تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ/ 4/ 130 فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ/ 5/ 130 (106) سورة قريش لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ / 3/ 146 الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ/ 4/ 146 (110) سورة النصر إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ/ 1/ 462، 525، 527 وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً/ 2/ 463، 525 فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ/ 3/ 526 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 فهرس الأحاديث والآثار النبوية الشريفة طرف الحديث الصفحة أ- أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم 232 أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة 227، 506 أتسمعون يا معشر قريش؟ 191 اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة 597 أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي 568 أجعلتني لله ندا 591 أجود الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة 565 أخبرهم أنّا لم نأت لقتال وإنما جئنا 379 أخذ الراية زيد، فأصيب، ثم أخذها جعفر 439 أخف عنا 244 أخرجوا منها المشركين 531 أدبني ربي فأحسن تأديبي 585 أدعو إلى الإسلام، وأن نشهد 424 ادعي لي ابني، فيشمهما ويضمهما 573 أدنوه مني، فأدنوه، فوسده قدمه 329 إذا سافرتم بالجدب، فأسرعوا عليها السير 598 إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده 408 أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل 381 ارجع إلى قومك، فأخبرهم حتى يأتيك 221 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 طرف الحديث الصفحة ارجعن يرحمكن الله، فقد آسيتن بأنفسكم 584 ارم فداك أبي وأمي 327 استنشدني نبي الله شعر أمية بن أبي الصلت 573 استوصوا بهم خيرا 313 أصلّى الناس؟ 532 اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم أمر 439 أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم 599 اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم 519 أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه 599 أفلا تتقي الله في هذه البهيمة 598 أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون 489 ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب 476 ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم 362 ألا أدلكما على خير مما سألتماني 581 ألقها، فأرجعها، لا ترى ما بأخيها 332 ألم آتكم ضلالا، فهداكم الله بي 475 ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا أنا سنأتي 384 آمن شعره وكفر قلبه 213 أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد 329 أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم 457 أما والله، لوددت أنني غودرت 583 إن أحببت فعندي محببة ومكرمة 478 إن أصيب فجعفر بن أبي طالب 436 إن تصدق الله يصدقك 425 إن رأيته فأقرئه مني السلام 436 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 طرف الحديث الصفحة إن كنا آل محمد ليمر بنا الهلال ما نوقد نارا 570 أنا أعربكم، أنا قرشي واسترضعت 162 أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى 98 أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة 333 أنا وهو كنا إلى غير هذا أحوج منك يا عمر 587 أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى 583 إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على صبيان فسلم 575 أنّ من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلّا 361 إنّ إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم 599 إنّ الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون 263 إنّ ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا 587 إنّ دمائكم وأموالكم حرام عليكم 520 إنّ رحمتي سبقت غضبي 634 إنّ الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد 578 إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله 555، 590 إنّ عبدا من عباد الله، خيّره الله 533 إنّ الله أبد له بيديه جناحين 439 إنّ الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق 585 إنّ الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا 232 إنّ الله عز وجل يقول يوم القيامة: يابن آدم 628 إنّ الله قد أذن لي في الخروج والهجرة 239 إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء 596 إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده 579 إنّ لله ما أخذ وما أعطى 574 إنّ معي من ترون، وإن أحب الحديث 477 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 طرف الحديث الصفحة إنّ منكم منفرين، فأيكم صلّى بالناس 576 إنّ هذا أتاني وأنا نائم فاخترط سيفي 588 إنّ هذا اخترط سيفي وأنا نائم 343 إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس 588 إنّ هؤلاء القوم قد جاؤوا مسلمين 477 إنّا قافلون غدا إن شاء الله 474 إنّا كنا إذا اشتد البأس واحمرت الحدق 595 إنّا لم نجىء لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين 380 إنّا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة 350 انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ 447 إنما الأعمال بالنيات 637 إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد 594 إنما أنت فينا رجل واحد 355 أنه أتى عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته 586 أنه النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم 406 إنه شهد بدرا، وما يدريك يا عمر 448 إنه عارضني المرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي 526 إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار 599 إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد 527 إني رأيت دار هجرتكم، ذات نخل 229 إني رسول الله وإن كذبتموني 382 إني لأقوم في الصلاة أريد أن 575 أو أملك لك إذا نزع الله من قلبك 574 أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة والزكاة 537 أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي 534 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 طرف الحديث الصفحة أوصيكم بتقوى الله، وبمن معكم 497 أو فتح هو يا رسول الله 384 أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم 570 أو مخرجي هم؟ 182 أيها الناس إن ربكم واحد 624 أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة 531 أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا 540 ب- بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا 459 بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله 216 بل هو الرأي والحرب والمكيدة 304 بل اليوم يوم الرحمة، اليوم يعز الله 453 بئس خطيب القوم أنت 591 بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد ذات يوم 193 ت- تدمع العين، ويحزن القلب 554 توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء 538 توفي ودرعه مرهونة عند يهودي 538 ج- جاء الحق وزهق الباطل 454 جعل النبي صلى الله عليه وسلم يفتح فاه، فيدخل 573 ح- حتى استطاعت الظعينة أن ترتحل 475 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 طرف الحديث الصفحة الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة 556 الحنيفية السمحة 578 خ- الخالة بمنزلة الأم 433 خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أف 589 خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان 448 الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله 628 خلوا سبيلها، فإنها مأمورة 278 خيركم خيركم لأهله 580 د- دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أم هانىء 456 دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وهو واضع 452 دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقيت له 594 دعه عنك، فقد جاء تائبا 481 دعه فلعمري لنحسنن صحبته 372 دعوه وأريقوا على بوله سجلا 588 ذ- ذاك إبراهيم عليه السلام 592 ر- الراحمون يرحمهم الرحمن 629 ربح صهيب، ربح صهيب 235 رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع 528 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 طرف الحديث الصفحة س- سبعين مرة 599 سدوا عني كل خوخة في المسجد 534 السلام على همدان 506 سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب 533 سيروا وأبشروا 302 ش- شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع 349 شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة 277 ص- صبرا آل ياسر! موعدكم الجنة 189 الصلاة وما ملكت أيمانكم 536 ع- عذبت امرأة في هرة لم تطعمها 597 غ- غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجله 333 غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدا فسار حتى نزل نخلا ... 342 ف- فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجهد 180 فأنت وذاك 353 فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا وهو يحكم 538 فاستن بها أحسن ما كان 537 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 طرف الحديث الصفحة فاطمة بضعة مني 554 فإني أدعها لله والرحم 474 فرض الله عليه وعلى أمته خمسين صلاة 219 فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حلقته 392 فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم 492 فلو أني أعلم أني أخلص إليهم 410 فهل تستطيع أن تغيب وجهك 585 في الرفيق الأعلى 537 في كل ذات كبد رطبة أجر 597 ق- قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور 536 قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح باية 567 قام النبي صلى الله عليه وسلم باية من القرآن ليلة 567 قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه 567 قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرا منهما 264 قد أردنا أن تسلفنا وسقا 255 قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم 573 قريش والأنصار حليفان وبنو أمية وثقيف 212 قل له: وما تبتغي منا؟ 243 قل: نعم، هو بيننا وبينكم موعد 332 قل يا أبا الوليد أسمع 195 قم يا حمزة! قم يا علي 581 قم يا عبيدة بن الحارث 264، 309 قولوا: اللهم مولانا ولا مولى لكم 332 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 طرف الحديث الصفحة قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض 309 ك- كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد 445 كان إذا حزبه أمر صلّى 568 كان أشد حياء من العذراء في خدرها 594 كان ألين الناس، وأكرم الناس 580 كان أوسع الناس صدرا 540 كان أول ما بدىء به الرؤيا الصادقة 180 كان خلقه القرآن 586 كان دائم الذكر لها والاعتراف بفضلها 545 كان ربعة وهو إلى الطول أقرب 566 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلة ريح 568 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان 561 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعا وقد رأيته 566 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة 575 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويشهد الجنازة 593 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستنكف أن يمشي مع العبد، ولا مع الأرملة 592 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويدعو له 593 كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير 593 كان صلى الله عليه وسلم يقمّ البيت 594 كان فخما، مفخما، يتلألأ 565 كان في مهنة أهله 579 كان لا تشاء أن تراه من الليل 567 كان لي صاحب من الأنصار إذا 484 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 طرف الحديث الصفحة كان الناس إنما طعامهم بالمدينة 268 كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس 571 كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس 595 كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان 526 كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه 579 كان يرقع الثوب، ويخصف النعل 579 كان يصوم حتى نقول لا يفطر 567 كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته 579 كان اليهود يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم 254 كان يوم بعاث يوما قدمه الله تعالى 228 كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم 539 كانت له درع عند يهودي، فما وجد 571 كانت المرأة تكون مقلاتا فتجعل على نفسها 258 كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر حجرة عائشة ينظر إلينا 535 كلا! والله ما يخزيك الله أبدا 182 كنا نصنع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم نبعث إليه 279 كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني 586 كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ 244 كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم؟ 326 ل- لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات 537 لا إله إلا الله وحده لا شريك له 455- 456، 520 لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء 456 لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم 489 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 طرف الحديث الصفحة لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم 591، 592 لا خير في دين لا صلاة فيه 480 لا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك 548 لا يبلغني أحد منكم من أصحابي شيئا 576 لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك 461 لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك 515 لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب 173 لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا من قبور 536 لقد أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك 483 لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان 174 لقد حكمت فيهم بحكم الله 363 لكل داء دواء إلا السام 254 لكن حمزة لا بواكي له 583 الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام 350 الله أكبر! الحمد لله الذي صدق وعده 311 الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا 422 الله أكبر! قلتم والذي نفس محمد بيده 468 اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا 570 اللهم اجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعة 571 اللهم إليك أشكو ضعف قوتي 215 اللهم إن الأجر أجر الآخرة 280، 349، 569 اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد 306 اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم نصرك 306 اللهم إني أمسيت راضيا عنه، فارض عنه 491 اللهم اهد ثقيفا 479 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 طرف الحديث الصفحة اللهم أيّد الإسلام بأبي الحكم ... 204 اللهم خذ العيون والأخبار من قريش 446- 447 اللهم الرفيق الأعلى 538 اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك 425 اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها 306 لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد 462 لم يكن شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم 592 لم يكن فاحشا، متفحشا ولا صخابا 562 لم تغزوكم قريش بعد عامكم هذا 357 لن يخلص إليك شيء تكرهه 236 لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا 572 لو قلتم يدع هذه الصفرة 595 لو كان العلم بالثريا لتناوله أناس 408 ليأخذن الراية غدا رجل يحبه 423 ليسوا الفرار، ولكنهم الكرار 440 م- ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ ولولا 240 ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام 295 ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كنا 595 ما جاء بك يابن الخطاب؟ 204 ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق 378 ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا 577 ماذا كانت تحدث به نفسك 460 ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم 580 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 طرف الحديث الصفحة ما رأيت أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم 573 ما رأيت بمكة أحسن لمة ولا أرق حلة 189 ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فقال: لا 571 ما ظنك باثنين الله ثالثهما 242 ما ظن محمد بالله عز وجل، لو لقيه وهذه عنده. أنفقيها 532 ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط 580 ما عندك يا ثمامة؟ 368 ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض 542 ما لي وللدنيا، وما أنا والدنيا إلا كراكب 569 ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف 566 ما من مؤمن إلا وأنا أولى به 577 ما من نبي إلا وقد رعى الغنم 171 ما هذا أردت، وما أحب البكاء 584 ما يحملك على قولك بخ بخ!؟ 310 ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا 571 ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها 322 مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت 619 مزّق الله ملكه 407 معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم 460 من ترك مالا فلورثته 577 من دخل دار أبي سفيان فهو آمن 450 من كان يؤمن بالله واليوم الآخر 461 من فجع هذه بولدها؟ 598 من كنت مولاه فعلي مولاه 520 من لكعب بن الأشرف 319 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 طرف الحديث الصفحة من محمد رسول الله إلى كسرى 394، 396 من محمد رسول الله إلى النجاشي 394 من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس 395، 396 من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل 393، 396 مه عليكم بما تطيقون، فو الله ما يمل الله 578 ن- نصرت يا عمرو بن سالم 444 هـ- هاك مفتاحك يا عثمان! اليوم يوم بر 455 هذا أبو جهل فرعون هذه الأمة 311 هذا أمين هذه الأمة 507 هذا جبل يحبنا ونحبه 582، 583 هذا قبر آمنة بنت وهب 585 هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء 574 هذه طابة، وهذا جبل يحبنا ونحبه 281، 583 هذه عن عثمان 380 هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ 304 هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ 427 هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها 596 هلك المتنطعون 578 هما ريحانتاي من الدنيا 556 هو رزق أخرجه الله لكم 441 هو عليكم حرام 508 هوّن عليك فإني لست بملك 452 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 طرف الحديث الصفحة هي طابة 281 ووأول ربا أضعه ربا العباس 521 وجعلت قرة عيني في الصلاة 568 وربا الجاهلية موضوع 581 ورس ورس، حط حط 589 وكانت فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم تغسله 331 والذي نفس أبي هريرة بيده، ما شبع نبي الله 570 والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة 582 والله ما أدري بأيهما أفرح 427 ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم 450 ويحك غيب عني وجهك 584 ي- يا أبا أيوب! إن أرفق بنا وبمن معنا 278 يا أبا بكر! مالك تمشي ساعة خلفي 241 يا أبا عمير ما فعل النّغير 575 يا أصحاب الخندق! إن جابرا قد صنع 352 يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير 576 يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله 543 يا أهل القليب! هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ 312 يا أيها الناس، أيما أحد من الناس أصيب 542 يا أيها الناس هل تدرون أي شهر أنتم 521 يا بلال! أقم الصلاة أرحنا بها 568 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 طرف الحديث الصفحة يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني كعب 185 يا بني فلان! إني رسول الله إليكم 220 يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام 529 يا عثمان لعلك ترى هذا المفتاح يوما 454 يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني 188 يا معشر الأنصار! يا معشر أصحاب السمرة 470 يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل 374 يسّرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا 504، 579 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 فهرس الأشعار قافية الباء الصفحة المطلب/-/ 469، 596 قافية الدال أبدا/-/ 349 قافية الراء ظاهر/-/ 80 نقامر/-/ 80 جار/-/ 278 قافية العين تباع/ سكاب/ 95 تجاع/ سكاب/ 95 الكراع/ سكاب/ 95 يستطاع/ سكاب/ 95 الوداع/-/ 277 داع/-/ 277 المطاع/-/ 277 مصرعي/ خبيب بن عدي/ 338 ممزع/ خبيب بن عدي/ 338 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 قافية الفاء الصفحة بالطائف/ عمر بن أبي ربيعة/ 211 قافية اللام معزالا/ كعب بن زهير/ 80 مكبول/ كعب بن زهير/ 481 مسلول كعب بن زهير/ 481 طائل/ الرقاد بن المنذر بن ضرار الضبي/ 79 القبائل/ الرقاد بن المنذر بن ضرار الضبي/ 79 قافية الميم اللمما/ عمرو بن قميئة/ 80 مدامها/ لبيد بن ربيعة/ 80 قافية النون صلينا/ عامر بن الأكوع/ 421 أبينا/ عامر بن الأكوع/ 421 لاقينا/ عامر بن الأكوع 421 أخانا/ عمير التغلبي (القطامي) / 79 قافية الهاء مأواها/-/ 373 المهاجره/-/ 280، 349 حزبه/-/ 506 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 فهرس الأعلام - أ- آدم عليه السلام 456، 632. آرتهر كرستين سين 63، 73. آمنة بنت أبي سفيان 212. آمنة بنت وهب 157، 162، 585، 602. إبراهيم عليه السلام 60، 66، 96، 97، 98، 117، 118، 119، 122، 125، 290، 592. إبراهيم بن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم 172، 545، 554، 590. أبرهة الأشرم 128، 129، 130، 405، 462. أبرويز 402. ابن الأثير 214. ابن إسحاق 229. ابن الأعرابي 412. ابن أم مكتوم 418. ابن خالدون 230، 402. ابن خلكان 26. ابن الدغنة 208. ابن ربيعة بن الحارث 521، 522. ابن سعد 214، 485. ابن شهاب الزهري 386، 387. ابن عباس 82، 220، 221، 253، 258، 281، 518، 536، 571، 578، 596. ابن قيم الجوزية 45، 165، 295. ابن كثير 213، 406، 547. ابن منظور 412. ابن هشام 13، 45، 164، 258، 284، 387، 406. ابنة حمزة 433. أبو أحيحة بن سعيد بن العاص بن أمية 143. أبو أيوب الأنصاري 231، 278، 279، 280. أبو بصير، عتبة بن أسيد 385، 387. أبو بكر الصديق 138، 165، 183، 188، 191، 192، 208، 217، 235، 239، 240، 241، 242، 243، 275، 303، 306، 308، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 341، 384، 411، 446، 463، 485، 491، 499، 515، 529، 532، 533، 534، 535، 540، 541، 542. أبو بكرة 474. أبو جعفر الطحاوي 415. أبو جندل بن سهيل 382، 383، 385، 387. أبو جهل بن هشام 194، 204، 207، 264، 303، 311. أبو حارثة 506. أبو حذيفة 235. أبو الحسن علي الحسني الندوي 9، 10، 11، 12، 14، 16، 17، 18، 20، 21، 23، 25، 26، 27، 33، 36، 38، 41، 43، 55. أبو حميد 583. أبو داود 28. أبو داود السجستاني 258. أبو دجانة 323، 327. أبو الدرداء 568. أبو ذر الغفاري 221، 567، 571. أبو رافع 323. أبو رغال 212. أبو سعيد الخدري 539، 594. أبو سفيان 144. أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب 449. أبو سفيان بن حرب 93، 299، 300، 301، 303، 313، 317، 321، 332، 336، 343، 347، 355، 356، 379، 408، 409، 410، 445، 446، 449، 450، 451، 453، 459، 475، 480، 483. أبو سلمة 233، 234. أبو صالح 402. أبو طالب 162، 163، 164، 165، 166، 172، 183، 186، 187، 188، 206، 207، 209. أبو طلحة الأنصاري 349، 542، 595. أبو العاص بن الربيع 314، 556. أبو عامر الأشعري 471. أبو عبد الله شمس الدين الذهبي 549. أبو عبيدة بن الجراح 184، 327، 412، 440، 507. أبو عزيز بن عمير بن هاشم 313. أبو عمير 575. أبو الفداء 117. أبو قتادة 494. أبو لبابة 361، 362. أبو لهب 143، 159، 186، 206، 220. أبو معبد 245. أبو موسى الأشعري 342، 504، 550. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 أبو نعيم 253. أبو هالة 171. أبو هريرة 566، 570، 578، 580، 588، 597، 598، 628. الأبيّ 406. أبي بن خلف 330. أحمد بن حنبل 263. أحمد بن عرفان الشهيد 30. أحمد حسن الزيات 31. أحمد علي اللاهوري 28. أردشير 72. الأرقم بن أبي الأرقم 184. أركاديوس 168. أريوس المصري 412، 413، 414، 415. الأزهري 412. أسامة بن زيد 452، 457، 518، 529، 531، 574. أسد 138. إسرائيل ولفنسون 249، 250، 256، 257، 260، 261، 287، 289، 318، 366، 426، 428. أسعد بن زرارة 226. الإسكندر 630. أسماء بنت أبي بكر 240. إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام 96، 97، 98، 113، 117، 118، 119، 120، 122، 158، 290. أسيد بن حضير 231، 374، 584. الأشعث بن قيس 504. أكيدر بن عبد الملك الكندي 490. ألفرد بتلر 403. ألكساندر 413، 414. أم أيمن (بركة الحبشية) 163، 430، 432، 539. أم أيوب 279. أم جميل 192. أم حبيبة بنت أبي سفيان 445. أم سعد 354. أم سلمة 233، 542. أم سليط 331. أم سليم 331، 430. أم عبد المطلب بن هاشم 230. أم الفضل بن الحارث 533. أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب 557. أم كلثوم بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم 554، 556. أم معبد الخزاعية 244. أم هانىء بنت أبي طالب 456. أمامة 556. أمية 138. أمية بن أبي الصلت 213، 573. أمية بن خلف 188، 336. أنجشة 576. أنس بن مالك 275، 277، 328، 329، 349، 439، 539، 543، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 1 566، 567، 572، 573، 575، 580، 582، 586، 587، 589، 592، 593، 595. أنس بن النضر 328، 329. إهاب 336. أوي 364. ب- باذان 407. بجير بن زهير 480. بحيرى 164، 165، 166، 167. البخاري 28، 254، 255، 281، 585. بديل بن ورقاء الخزاعي 380، 381. البراء بن عازب 276، 566. برهان الدين السنبهلي 54. بشر بن البراء بن معرور 253، 428. بطليموس 115. بكر 79. البلاذري 211. بلال بن رباح الحبشي 165، 188، 282، 456، 507، 517، 568. بلعام بن باعور 364. بهرام الأول 72. بهرام جوبين 400، 401. بوذا 64، 65. البيضاوي 28. ت- الترمذي 28، 165، 268. تقي الدين الهلالي المراكشي 27. تيم 138. تيوسودس الكبير 415. ث- ثمامة بن أثال 366، 368. ثويبة 159. ج- جابر 343، 461، 585، 587، 593. جابر بن سمرة 573. جابر بن عبد الله 350، 351، 352، 387، 571، 583، 599. جبار بن سلمى 339. جبون 168. جبير بن مطعم 325. جريج 403. جريج بن مينا المقوقس- المقوقس جيستن الأول 69، 405. جعفر بن أبي طالب 147، 164، 196، 198، 199، 200، 201، 406، 427، 433، 436، 437، 439. جمح 138. جورج 403. جوليان 405. جيفر بن الجلندي 416، 418. ح- حارث بن شمر 418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 الحارث بن عمير الأزدي 435. الحارث بن قيس 139. الحارث بن كلدة 213. حارثة بن عمرو 230. حاطب بن أبي بلتعة 446، 447، 448. الحباب بن المنذر 304. حجير بن أبي إهاب 336. حذيفة بن اليمان 356. حرام بن ملحان 339. حسان 550. الحسن بن علي بن أبي طالب 62، 446، 556، 557، 573. حسين أحمد المدني 28. حسين بن علي بن أبي طالب 556، 561، 573، 602. حسين مؤنس 429. الحكم بن أبي العاص بن أمية 190. حكيم بن حزام 475. حليمة السعدية 160، 602. حمزة بن عبد المطلب 172، 194، 204، 205، 235، 264، 309، 325، 331، 332، 458، 581، 583، 584، 585. حميد بن زهير 135. الحنظلية أم أبي جهل 141. حور 364. حيدر حسن خان الطونكي 28. حيي بن أخطب 352، 360. خ- خالد بن الوليد 138، 388، 438، 453، 490، 505، 506. خباب بن الأرت 144، 184، 190، 202، 203، 204. خبيب بن عدي 336، 418. ختا الأول 627. خديجة بنت خويلد 141، 171، 181، 182، 183، 207، 545، 547، 554، 602. خراش الخزاعي 378. خسرو الأول 400، 401. خسرو الثاني 400، 401. خليل بن محمد الأنصاري اليماني 27. خيلوس 115. د- داود بن عروة 213. داود عليه السلام 97، 608. دحية الكلبي 393، 483. دريد بن الصمة 467. ديدوروس الصقلي 115. ذ- الذهبي 165. ر- رابع 364. رافع بن خديج 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 راقم 364. ربيعة بن الحارث 581. رستم 96، 113. رشيد رضا 30. الرقّاد بن المنذر بن ضرار الضبي 79. رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم 196، 554، 556. روبرت بريفولت 78. ز- الزبيدي 174. الزبير بن العوام 184، 235، 332، 430، 447. زرادشت 72. زهرة 138. زهير بن أبي أمية 206. زياد بن السكن 329. زيد 433. زيد بن ثابت 314، 330. زيد بن حارثة 183، 214، 253، 436، 437، 439، 573. زيد بن الدثنة 336. زيد بن سعنة 587. زينب بنت الحارث اليهودية 427. زينب بنت علي بن أبي طالب 557. زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم 458، 554، 556. زيد الخيل (الخير) 504. س- س. وي. ويد 65. سارة 458. سراقة بن مالك بن جعشم 243، 244. سعاد 480، 481. سعد 574. سعد بن أبي وقاص 184، 302، 327. سعد بن الربيع 330. سعد بن عبادة 352، 360، 453. سعد بن معاذ 89، 230، 231، 302، 303، 328، 352، 354، 360، 362، 363، 365، 584. سعيد بن زيد 202، 203. سعيد رمضان المصري 31. سلام بن أبي الحقيق 365. سلام بن مشكم 317، 724. سلمان الفارسي 347. سلمة بن أبي سلمة 233. سلمى بنت عمرو بن زيد 264. سليمان عليه السلام 404، 608. سليمان الندوي 600. سمرة بن جندب 323. سهل بن الربيع بن عمرو 597. سهيل بن عمرو 88، 381، 382، 383، 453. سهم 138. سواد بن عمر 589. سودة بنت زمعة 545، 547. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 سيزر 168. سيف بن ذي يزن 131. ش- شاه بور 72. شبلي النعماني 164، 165. شداد بن أوس 596. شرحبيل بن عمرو الغساني 435، 507. الشريد الثقفي 573. شقرات مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم 312. شيبة بن ربيعة 216، 264، 309، 580. شيرويه 402، 407. الشيماء بنت حليمة السعدية 478. ص- صالح 117. صعصعة بن ناجية 83. صفوان بن أمية 139، 336، 453، 467. صفوان بن المعطل السلمي 373، 374. صفية بنت عبد المطلب 332. صهيب 184، 233، 235. صور 364. ط- الطاهر بن رسول الله صلى الله عليه وسلم 554. الطبري 81، 82، 92، 401. طعيمة 325. الطفيل بن عمرو الدوسي 207، 208. طلحة بن عبيد الله 184، 235، 326، 328. الطيب بن رسول الله صلى الله عليه وسلم 554. ع- عاتكة بنت عبد المطلب 206. العاص بن وائل 174. عاصم بن ثابت 336. عامر بن الأكوع 421. عامر بن صعصعة 503. عامر بن فهيرة 240، 243. عامر بن مالك 338. عائشة بنت أبي بكر (رضي الله عنها) 228، 254، 263، 331، 354، 372، 373، 374، 528، 529، 531، 532، 535، 536، 537، 538، 540، 545، 548، 549، 550، 567، 570، 573، 577، 579، 580، 581، 586، 595، 602. العباس بن عبادة الخزرجي 88. العباس بن عبد المطلب 144، 211، 222، 232، 313، 449، 450، 451، 469، 470، 521، 522، 532، 534، 574، 581. عبد بن أبي ربيعة المخزومي 144. عبد بن الجلندي 416، 418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 عبد الحي الحسني 26. عبد الرحمن بن أبي بكر 537. عبد الرحمن بن عوف 184، 235، 311. عبد الرحمن بن غزوان 165. عبد العزى- أبو لهب. عبد العلي الحسني 27، 44. عبد القادر الرأي فوري 29. عبد الله الأشتر بن محمد 26. عبد الله بن أبي ابن سلول 284، 317، 321، 322، 369، 371، 374، 586. عبد الله بن أبي أوفى 592. عبد الله بن أبي ربيعة 198. عبد الله بن أبي بكر 240. عبد الله بن أريقط 239. عبد الله بن جبير 322. عبد الله بن جدعان التيمي 144، 174، 194. عبد الله بن جحش 293، 294، 295، 330. عبد الله بن جعفر 440، 598. عبد الله بن الحارث 573. عبد الله بن ربيعة 141. عبد الله بن رسول الله صلى الله عليه وسلم 554. عبد الله بن رواحة 312، 426، 436، 437، 439. عبد الله بن سعد بن أبي سرح 458. عبد الله بن سلام 288. عبد الله بن الشخير 568. عبد الله بن طارق 336. عبد الله بن عبد الله بن أبي 372. عبد الله بن عبد المطلب 157، 162، 163، 602. عبد الله بن عثمان 556. عبد الله بن عمر 597، 599. عبد الله بن عمرو بن العاص 579، 594. عبد الله بن مسعود 184، 265، 491، 575، 576، 578، 598. عبد الله ذو البجادين 491. عبد الماجد الغوري 8. عبد المطلب 83، 121، 128، 129، 144، 157، 158، 159، 162، 163، 230. عبد مناف 121. عبيدة بن الحارث بن المطلب 184، 264، 309، 581. عتاب بن أسيد 463. عتبة بن ربيعة 192، 194، 195، 196، 216، 264، 309، 580. عثمان بن أبي العاص 510. عثمان بن طلحة 189، 234، 454، 455. عثمان بن عفان 184، 190، 196، 235، 379، 380، 488، 556. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 عثمان بن مظعون 184، 190، 196. عدّاس 216. عدنان 120، 121، 158. عدي بن حاتم 138، 504، 593. عروة 254، 263. عروة بن مسعود الثقفي 212، 381، 479. عفراء 264، 311. عقبة 583. عقبة بن أبي معيط 193. عقبة بن نافع 89. عقيل بن أبي طالب 164، 314. عكاشة بن محصن 294. عكرمة بن أبي جهل 88، 453، 458. العلاء بن الحارثة 475. علي أحمد الكجراتي الهندي 55. علي بن أبي طالب 31، 36، 164، 183، 221، 235، 236، 239، 264، 303، 309، 326، 331، 341، 353، 354، 381، 382، 423، 424، 433، 446، 447، 448، 449، 454، 489، 499، 506، 519، 520، 528، 533، 537، 556، 557، 562، 581، 595. علي بن أبي العاص 556. عماد الدين خليل 7، 9، 23. عمّار 294. عمار بن مسعود 184. عمار بن ياسر 189. عمر بن الخطاب 138، 202، 203، 204، 205، 235، 244، 303، 332، 341، 371، 379، 384، 403، 404، 411، 446، 448، 459، 474، 484، 485، 491، 510، 529، 532، 540، 541، 557، 569، 570، 587، 592. عمرو بن الجموح 263، 329. عمرو بن حزم 505. عمرو بن الحضرمي 294. عمرو بن سالم الخزاعي 444. عمرو بن العاص 141، 198، 201، 388، 403، 404. عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي 122. عمرو بن عبدود 353، 354. عمرو بن قميئة 80. عمرو بن كلثوم 95، 96. عمرو بن معديكرب 504. عمرو بن هند 95، 96. عمير بن أبي وقاص 302، 303. عمير بن الحمام الأنصاري 310. عمير التغلبي (القطامي) 79. عيسى ابن مريم عليه السلام (المسيح) 62، 98، 124، 200، 394، 396، 397، 406، 413، 414، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 415، 591، 592، 602. ف- فاطمة بنت الخطاب 202، 203. فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم 194، 331، 433، 446، 457، 543، 554، 556، 557، 581، 602. فاطمة المخزومية 457. فرعون 311. فروة بن عمرو الجذامي 505. فضالة بن عمير 460، 461. الفضل بن عباس 518، 528. فهر بن مالك 121. فوقس 398، 399، 401. فيصل 32. فيليب حتّي 124. ق- القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم 554. قباذ 407. قباذ بن فيروز 92. قتادة بن النعمان 80، 268، 328. قسطنطين 413، 414. قصي بن كلاب 121، 134، 136. قطب الدين المدني 26. قيس بن سعد 453. قيصر 244، 381، 385، 484، 570. ك- كسرى 74، 131، 159، 381، 385، 394، 397، 407، 408، 570. كسرى أبرويز 393، 396، 397، 399، 400، 401، 407، 412، 626. كسرى أنوشروان 91، 92، 93. كعب بن أسد القرظي 360. كعب بن الأشرف 258، 319، 365. كعب بن زهير 480، 481. كعب بن زيد 338. كعب بن لؤي 491، 492، 493، 495. كعب بن مالك 491، 492، 493، 495. كنانة بن عبد ياليل 508، 510. ل- لامارتين 104. لبيد بن ربيعة العامري 80، 144. ليكي 621. ليلى 95، 96. م- مارجليوث 253. مارية القبطية 407، 554. مالك بن سنان 326. مالك بن عوف النصري 465، 467، 471. ماني 72. المجسطي 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 محب الدين الخطيب 31. محمد إلياس الكاندهلوي 29، 36. محمد بن راشد المكتوم 33. محمد بن مسلمة 255، 424، 489. محمد حسن الأنصاري 55. محمد سليمان المنصور فوري 7. محمد شفيع 55. محمد طاهر الفتني 501. محمد معاذ الإندوري الندوي 55. محمود شيت الخطاب 438. محسن أحمد باروم 43. محيي الدين أحمد 55. محيي الدين يحيى النووي 416. مخزوم 138. مرارة بن الربيع 491، 493. مرحب 422. مريم جميلة 257. مريم العذراء 201. مزدك 72. مسلم 28، 416. المسيح- عيسى ابن مريم مسيلمة الكذاب 504. مصطفى السباعي 31. مصعب بن عمير 189، 226، 231، 303، 313، 323، 325، 333. المطعم بن عدي 207. المطلب بن عبد مناف 121، 231. معاذ بن جبل 504. معاوية 550. معاوية بن أبي سفيان 475. معاوية بن الحكم 588. معد بن عدنان 121. المغيرة بن شعبة 96، 113، 408، 505، 567. المقداد 302. المقريزي 214، 403. المقوقس 385، 393، 394، 395، 396، 397، 402، 403، 406، 407. مكرز بن حفص 381. المنذر بن ساوى 416، 418. منوشاستر 610. موريقس 398، 400، 401. موسى عليه السلام 98، 99، 117، 182، 302، 364، 468، 489، 608. الميداني 82، 188. ميمونة 528. ن- النجاشي 128، 141، 147، 198، 199، 200، 201، 381، 385، 393، 394، 397، 404، 405، 406، 407. الندوي- أبو الحسن علي الحسني الندوي النضر بن الحارث 213، 475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 نعيم بن عبد الله 202. نعيم بن مسعود 355. نور عالم الأميني الندوي 55. نوفل 138. نوفل بن مغيرة 354. هـ- هـ. ج. ولز 84. هارون عليه السلام 489، 608. هاشم 138، 230، 452. هاشم بن عبد مناف 121، 264. هبّار بن الأسود 458. هرش 65. هرقل 93، 94، 167، 168، 393، 396، 397، 398، 399، 400، 401، 403، 406، 408، 409، 411، 415، 436، 483، 484، 485. هشام 550. هشام بن عمرو بن ربيعة 206. هلال بن أمية 491، 493. هند 95، 96. هند بن أبي هالة 561، 565. هند بنت عتبة 323، 325، 331، 458، 459. هود عليه السلام 116، 117. هوذة بن علي 418. الهيثم بن عدي 82. هيرودوتس 115، 116. - وواقد بن عبد الله التميمي 295. الواقدي 163، 406، 485. وحشي بن حرب 325، 458، 584، 585. ورقة بن نوفل 181، 182. ولفنسون- إسرائيل ولفنسون الوليد بن عتبة 264، 309، 580. الوليد بن المغيرة 143، 190، 193. وليم ميور 101. وهرز 131. ويدا 609. ي- ياقوت 212. يزدجرد 63، 74، 407. يزيد بن أبي سفيان 475. يعقوب عليه السلام 60، 634. يوحنا بن رؤبة 490. يوسف عليه السلام 449، 456. يوسفيوس فلافيوس 115. يوسي قوس 250. Carra de Vaux 166. De Lacy oleary 124، 256، 405. Georges Roux 125. ames Mackinon 413. ohn the Almoner 403. R. V. C. Bodley 365، 551. Victor chopart 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 فهرس القبائل والأقوام - أ- الآريين 76 آل جعفر 439 آل أبي سلمة 234 آل ساسان 399 آل ياسر 189 الأحابيش (الحبش) 131، 146، 378 إرم 228 الأزد 230، 504 الإسرائيليون- بني إسرائيل الأنباط 115، 123، 485 الأنصار 212، 225، 226، 230، 231، 232، 251، 258، 263، 264، 265، 275، 280، 287، 282، 285، 301، 302، 303، 309، 312، 313، 314، 317، 318، 319، 329، 330، 335، 349، 351، 352، 355، 359، 360، 371، 429، 430، 436، 440، 451، 453، 460، 469، 470، 475، 476، 477، 481، 484، 495، 529، 531، 532، 574، 598، 633 الأوس 88، 226، 228، 230، 231، 232، 256، 257، 258، 259، 260، 262، 264، 270، 284، 360، 361، 362، 365، 374 الإيرانيون 85، 93، 168، 401 ب- بلقين 436 بلي 436، 508 بنو أسد 138، 507 بنو إسرائيل 60، 98، 99، 124، 257، 286، 288، 289، 363، 364، 608، 609 بنو إسماعيل 98 بنو الأصفر 483، 489 بنو أمية 138، 143، 212 بنو بكر 443، 444، 445 بنو تغلب 95، 96 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 بنو تميم 95، 477، 503 بنو تيم 138، 192 بنو جمح 139 بنو الحارث بن كعب 505 بنو حارثة 262، 354 بنو حنيفة 366، 504 بنو دينار 259، 334 بنو زبيد 504 بنو زهرة 157 بنو ساسان 407 بنو سالم بن عوف 277 بنو سعد 160، 162، 171، 209، 503، 521 بنو سلمة 263 بنو سليم 269، 338، 477 بنو طيء 504 بنو ظفر 262 بنو عامر 341، 503 بنو عبد الأسد 233، 234 بنو عبد الأشهل 231، 262، 583، 584 بنو عبد الدار 138، 173، 234 بنو عبد مناف 236 بنو عبد المطلب 185، 477، 587 بنو عدي 138، 173، 202، 230 بنو عدي بن كعب 379 بنو عدي بن النجار 162، 264 بنو عمرو بن عوف 234، 361 بنو غفار 371، 418 بنو فزازة 477، 507 بنو فهد 185 بنو قحطان 120، 231، 264 بنو قريظة 250، 251، 260، 262، 352، 354، 355، 356، 359، 360، 361، 362، 365، 366 بنو قصي 138 بنو قينقاع 250، 251، 254، 259، 260، 266، 269، 317، 318 بنو كعب 185 بنو كنانة 381، 446 بنو لحيان 418 بنو مالك بن النجار 278 بنو مخزوم 138، 143، 189، 457 بنو المصطلق 369، 371، 372 بنو المطلب 205 بنو معاوية 262 بنو المغيرة 233 بنو نبهان 258 بنو النجار 259، 264، 278 بنو النضير 250، 251، 258، 260، 262، 317، 341، 345، 352، 360، 602 بنو نوفل 138 بنو هاشم 122، 138، 200، 205، 206، 581 بنو وائل 345 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 بهراء 436، 507 البيزنطيون 70، 85، 167، 403 ت- تجيب 507 ثقيف (الثقفيون) 209، 212، 213، 214، 215، 465، 473، 474، 479، 480 ثمود 117، 489 جذام 436، 485 جرهم 120، 121 جشم 465 جندربنسي 626 جهينة 371، 440 ح- حمير 131، 504 خ- خزاعة 121، 369، 378، 380، 444، 445 الخزرج 88، 225، 226، 228، 230، 231، 232، 250، 256، 257، 258، 259، 260، 262، 264، 270، 284، 360، 362، 365، 371، 374 خولان 508 دوس 208 ذ- ذكوان 338 ذو مرة 508 ر- ربيعة 113 رعل 338 الروم 71، 87، 93، 113، 145، 167، 168، 393، 396، 398، 399، 411، 412، 435، 436، 437، 438، 484، 485، 486، 489، 490، 505، 506 الرومان 61، 90، 93، 115، 118، 123، 249، 404، 426 س- الساسانيون 63 سعد بن بكر 465 سورج بنسي 626 السوريون 71 ص- الصينيون 627 طيء 258 ع- عاد 116، 117، 228 عاملة 485 عبد القيس 505 العدنانية 113، 231 عدي 259 عذرة 507 العرب 29، 30، 37، 66، 78، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 81، 82، 83، 87، 90، 94، 95، 96، 100، 101، 102، 103، 109، 112، 113، 114، 115، 116، 117، 120، 121، 122، 124، 125، 126، 128، 129، 130، 133، 144، 145، 158، 160، 174، 185، 193، 200، 212، 213، 220، 226، 228، 231، 234، 249، 252، 254، 255، 256، 257، 258، 259، 260، 262، 269، 290، 301، 318، 353، 382، 385، 386، 391، 392، 400، 402، 403، 405، 408، 412، 430، 432، 436، 437، 446، 462، 465، 471، 480، 483، 484، 485، 486، 489، 494، 501، 504، 505، 536، 548، 551، 569، 580، 601، 627، 641 العرب العاربة 264 عصيّة 338 عضل 336 غ- غامد 508 غسان 147، 484، 485، 494، 495، 508 غطفان 347، 352، 355، 356، 421، 429 غفار 222 ف- الفرس 87، 113، 145، 147، 167، 347، 399، 400، 403، 484 ق- القارة 336 القبط (الأقباط) 395، 396، 403 قريش 120، 121، 122، 125، 126، 128، 129، 130، 135، 136، 138، 139، 141، 142، 143، 144، 145، 146، 148، 157، 166، 168، 170، 171، 173، 174، 182، 183، 184، 185، 186، 188، 190، 191، 192، 193، 194، 196، 198، 200، 201، 202، 205، 206، 207، 208، 209، 211، 212، 214، 215، 217، 226، 227، 228، 233، 235، 239، 243، 244، 245، 262، 264، 288، 289، 291، 294، 295، 299، 301، 303، 304، 306، 312، 314، 317، 321، 333، 336، 345، 347، 352، 353، 355، 356، 357، 359، 360، 368، 369، 378، 379، 380، 381، 383، 385، 386، 387، 388، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 406، 432، 443، 444، 445، 446، 447، 448، 449، 450، 451، 452، 453، 454، 455، 456، 462، 465، 475، 501، 580، 581، 621 قضاعة 440 قيس 170 ك- كعب 467 كلاب 467 كنوة 504 ل- لخم 436، 485 م- مازن 259 مالك 259 محارب 508 مزينة 506 مضر 113، 121، 230 المغول 85 المكيون 141 المهاجرون 196، 201، 233، 280، 281، 282، 285، 293، 301، 303، 329، 342، 349، 351، 355، 359، 371، 377، 430، 436، 440، 451، 469، 477، 495، 529، 531، 633 ن- النخع 508 نصر 465 هـ- هذيل 521 همدان 505، 506 هوازن 465، 467، 468، 470، 474، 477 ي- اليهود 60، 81، 97، 118، 164، 225، 228، 230، 249، 250، 251، 252، 253، 254، 257، 259، 260، 261، 262، 266، 269، 270، 275، 282، 283، 284، 285، 286، 287، 288، 289، 317، 318، 341، 345، 347، 355، 359، 365، 366، 368، 404، 416، 419، 421، 422، 424، 426، 427، 428، 429، 430، 535، 608، 626 اليونانيون 115 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 فهرس الأمكنة والمواضع - أ- آسيا 85، 99، 109، 141، 398، 400، 608 آسيا الصغرى 400 آسيا الوسطى 64 الأبطح 233 الأبواء 163، 296، 515 أترابرديش 27، 29، 34 أثيوبيا 404 أثينا 84 أحد 23، 317، 321، 322، 323، 329، 330، 333، 335، 526، 527، 582، 583، 596، 601 أذرح 490 الأردن- المملكة الأردنية الهاشمية إستانبول 33 الإسكندرية 402، 403، 414 إسلام آباد 34 إفريقية 100، 112، 398، 400، 405، 641 إفريقية الشمالية 404 إليريا 414 الإمارات العربية المتحدة 33 إنجلترا 33 الأندلس 427، 641 أوربة 77، 78، 85، 100، 398، 400، 498، 621، 630 أوربة الغربية 85 أوربة الوسطى 113 أورشليم 426 أوطاس 467، 471 إيران 63، 71، 72، 73، 74، 90، 91، 167، 399، 401، 403، 408، 412، 484، 626، 641 إيطاليا 78 أيلة 110، 490 إيلياء 484 إيوان كسرى 74 ب- بابل 60 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 باكستان 30، 34 بتراء 123، 124 البحر الأحمر 110، 405 البحر الأطلسي 65، 89 البحر المتوسط 115، 124 البحرين 110، 416، 600 بحيرة ساوا 159 بحيرة لوط 117 بدر 89، 142، 213، 299، 302، 311، 312، 313، 317، 319، 321، 325، 343، 447، 491، 556، 574، 595، 601 برك الغماد 89 برونائي 33 بصرى 164، 393، 435، 602 بطن محسر 518 بقيع الغرقد 528 البلاد العربية 7، 29، 115، 318، 365، 550 البلقاء 436، 437، 485، 529 البيت (بيت الله الحرام) 66، 134، 135، 144، 148، 205، 218، 378، 380، 382، 454، 460، 496، 513، 516 بيت المقدس 249، 290، 399 بئر معونة 338 ت- تبوك 117، 406، 483، 485، 488، 490، 491، 495، 500، 633 تركستان 64 تركيا 33 تكية علان 27 تيماء 430 ث- ثنية الوداع 378، 488 ج- جامعة دمشق 30 جامعة علي كره 55 جامعة كشمير 32 جبل أبي قبيس 134، 135 الجبل الأحمر 134 جبل التنعيم 587 جبل غزوان 211 جبل قعيقعان 134، 232 جدة 7، 42 جرباء 490 الجرف 529، 530 الجزيرة العربية (جزيرة العرب) 65، 87، 91، 95، 96، 99، 100، 101، 102، 109، 110، 111، 113، 114، 116، 117، 124، 125، 131، 139، 145، 146، 147، 175، 226، 229، 231، 249، 262، 385، 392، 419، 429، 465، 483، 486، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 496، 500، 510، 530، 538، 608 الجعرانة 471، 474، 479 جمرة العقبة 518، 519 ح- الحبشة 128، 130، 141، 147، 196، 198، 200، 201، 393، 394، 404، 405، 547 الحجاز 81، 110، 113، 117، 123، 124، 214، 262، 429، 600 الحجر 191، 489 الحجر الأسود 516، 602 الحديبية 88، 377، 378، 379، 380، 385، 387، 388، 418، 419، 421، 443 الحرم 125، 139، 295، 444، 627 الحرمين 35 حرة واقم 229، 262 حرة الوبرة 229، 259 حصن القموص 423 حصن ناعم 423 حضرموت 116 حمراء الأسد 334 حمص 484 حنين 465، 467، 468، 471، 472، 474، 479، 596، 601 الحيرة 95، 112، 147 خ- خراسان 641 الخليج العربي 109، 110 الخندق 229، 338، 345، 347، 348، 349، 350، 352، 353، 354، 356، 357، 361 خيبر 201، 253، 342، 347، 418، 419، 422، 423، 424، 426، 428، 429، 430، 432، 529 دار الأرقم 189 دار العلوم 28، 29، 31، 33، 34، 54 دار الندوة 136، 138، 235 الداروم 529 دمشق 8، 31، 32، 34 دومة 490 دومة الجندل 343 ديوبند 28، 34 ذ- ذو الحليفة 520 ذو طوى 515 ذو قرد 418 ر- رائي بريلي 27، 35، 55 الرباط 34 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 الربع الخالي 116 الرجيع 421 روما 123، 168، 621 الروحاء 312 الرياض 32، 33 ز- زبيد 174 زمزم 118، 121، 519 س- سبأ 404 سد مأرب 258 سرف 515 سقيفة بني ساعدة 541 سورية 71، 124، 125 سوق بني قينقاع 269 ش- الشام 62، 102، 112، 117، 122، 123، 139، 141، 162، 164، 172، 222، 268، 299، 300، 318، 342، 350، 385، 458، 485، 505، 507، 529، 584، 600، 641 شبه القارة الهندية 30، 113 شط العرب 110 شعب أبي طالب 205، 600 ص- الصفا 134، 185، 194، 202 صنعاء 128، 130، 146، 350 ط- الطائف 141، 209، 211، 212، 213، 214، 215، 216، 263، 294، 471، 473، 479، 480 طيسيفيون 74 ع- العالية 251 العراق 62، 112، 125، 141، 641 العرج 515 عرفات (عرفة) 516، 517، 520، 627 العروض- اليمامة عسفان 336، 378، 515 العقبة 88، 109، 110، 225، 226، 231، 232 عمان 416 عمّان الأردن 32 غ- الغابة 418 غار ثور 240 غار حراء 180 غدير خم 520 غزة 408 فارس 131، 159، 213، 350، 353، 393، 394، 396، 408 فدك 429، 430 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 الفرات 95، 123، 125 فرنسا 78 فلسطين 37، 529 ق- القاهرة 32، 34 قباء 234، 245، 277 القدس 218 قديد 262، 371 قرطاجنة 398، 399 القسطنطينية 69، 399، 400، 401، 415 القليس 128 ك- كار تهيج 398 الكعبة 66، 96، 97، 102، 126، 128، 129، 130، 135، 136، 144، 148، 158، 172، 205، 207، 212، 240، 290، 377، 443، 454، 455، 456، 457، 461، 496، 620 كنيسة الإسكندرية 413 ل- لاهور 28 لكهنؤ 6، 28، 29، 31، 33، 41، 43 لندن 32 م- المحيط الهادي 65 المدائن 74، 350 المدينة المنورة 10، 32، 34، 36، 45، 49، 88، 163، 225، 226، 228، 229، 230، 231، 232، 233، 234، 235، 239، 249، 250، 251، 255، 256، 258، 259، 262، 263، 264، 266، 267، 268، 269، 271، 275، 276، 277، 278، 280، 281، 283، 284، 285، 291، 295، 300، 301، 312، 318، 319، 321، 322، 334، 341، 343، 347، 348، 352، 353، 354، 356، 359، 361، 365، 366، 369، 374، 378، 384، 385، 387، 388، 418، 421، 430، 438، 439، 440، 444، 445، 448، 460، 462، 479، 481، 484، 488، 489، 490، 491، 499، 500، 503، 513، 514، 515، 519، 520، 530، 539، 542، 573، 583، 592، 601، 633 مر الظهران 449 المريسيع 371 مزدلفة 518، 627 المسجد الأقصى 217، 218، 219 المسجد الحرام 135، 136، 217 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 المسجد النبوي 601 مصر 31، 62، 71، 102، 123، 141، 388، 393، 397، 402، 403، 404، 626، 641 معان 436، 505 المغرب 34 مكة المكرمة 96، 97، 100، 102، 112، 117، 118، 119، 121، 122، 123، 125، 129، 130، 133، 134، 135، 136، 139، 141، 142، 144، 145، 146، 147، 148، 149، 163، 164، 171، 174، 175، 179، 188، 189، 198، 205، 206، 207، 209، 211، 212، 213، 214، 215، 216، 218، 221، 227، 228، 231، 232، 233، 234، 235، 239، 240، 244، 249، 259، 262، 263، 266، 268، 271، 280، 283، 285، 288، 294، 301، 304، 313، 319، 321، 336، 345، 368، 369، 377، 379، 385، 386، 387، 429، 432، 433، 440، 443، 447، 450، 451، 452، 454، 458، 460، 461، 462، 463، 465، 467، 469، 479، 483، 500، 503، 515، 516، 518، 519، 580، 583، 584، 587، 601، 602 المملكة الأردنية الهاشمية 32، 34، 123، 124 منى 516، 518، 519 مهزور 251 مؤتة 435، 437، 440، 486 ن- نجد 110، 342، 366، 429، 587 نجران 118، 505، 506، 507 نخل 342 نمرة 516 نيقية 414 هـ- هملايا 610 الهند 6، 25، 26، 27، 29، 30، 31، 33، 34، 36، 37، 42، 43، 44، 55، 64، 66، 75، 76، 77، 85، 87، 94، 114، 116، 141، 401، 405، 610، 626، 628، 630، 641 الهند الوسطى 65 ووادي بطحان 251 وادي بكة 97 وادي القرى 429، 430، 440 وجّ 211 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 الولايات المتحدة الأمريكية 365 ي- يثرب 48، 112، 118، 162، 163، 209، 226، 227، 229، 230، 231، 249، 258، 259، 260، 261، 262، 265، 271، 280، 281 اليرموك 88 اليمامة 110، 139، 368، 418 اليمن 110، 112، 118، 128، 129، 131، 139، 141، 146، 147، 227، 258، 266، 350، 405، 407، 458، 504، 505، 506، 584 اليونان 90، 109، 115، 116، 123 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 فهرس الصّور والخرائط خريطة الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية 56 خريطة الوضع السياسي للجزيرة العربية قبل الإسلام 68 خريطة توزيع القبائل العربية في جزيرة العرب 107 خريطة بعض الأوثان التي عبدها العرب في الجاهلية 108 خريطة أصحاب الفيل 127 خريطة مكة المكرمة 137 مكة المكرمة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم 140 شجرة النبي صلى الله عليه وسلم 153 خريطة ديار بني سعد 161 خريطة الهجرة إلى الحبشة 197 خريطة طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم 210 خريطة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم 237 خريطة أثرية تقريبية للمدينة المنورة 272 مساكن القبائل الهامة ومواقع الغزوات الإسلامية 273 خريطة السرايا قبل غزوة بدر 297 خريطة غزوة بدر الكبرى 17 رمضان 2 هـ 298 رسم ساحة القتال في غزوة بدر 307 خريطة السرايا والغزوات بين بدر وأحد 315 خريطة إجلاء بني قينقاع شوال سنة 2 للهجرة 316 خريطة غزوة أحد 15 شوال 3 هجرية 320 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 رسم ساحة القتال في غزوة أحد 324 خريطة يوم الرجيع 337 خريطة إجلاء بني النضير ربيع الأول سنة 4 هجرية 340 خريطة السرايا والغزوات بين أحد والخندق 344 خريطة غزوة الخندق شوال 5 هـ 346 خريطة إجلاء بني قريظة سنة 5 هجرية 367 غزوة بني المصطلق شعبان 5 هجرية 370 خريطة غزوة الحديبية ذي القعدة 6 هجرية 389 خريطة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك 390 كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى 417 خريطة غزوة خيبر محرم 7 هجرية 420 خريطة عمرة القضاء 7 هجرية 431 خريطة غزوة مؤتة جمادى الأولى 8 هجرية 434 خريطة مكة المكرمة رمضان 8 هجرية 442 خريطة السرايا والغزوات بعد فتح مكة رمضان 8 هـ- 3 ربيع 2- 9 هجرية 464 خريطة غزوة حنين شوال 8 هجرية 466 خريطة غزوة العسرة رجب 9 هجرية 482 خريطة السرايا والغزوات بعد فتح مكة رجب 8 هـ- صفر 11 هـ 500 خريطة عام الوفود 502 خريطة سرايا تكسير الأصنام 509 خريطة حجة الوداع والطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم 512 خريطة آخر بعوث النبي صلى الله عليه وسلم جيش أسامة بن زيد 530 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة بين يدي الكتاب 5 الشيخ أبو الحسن الندوي و «السيرة النبوية» 9 ترجمة العلامة المؤلف- رحمه الله تعالى- 25 اسمه ونسبه وأسرته 26 ميلاده ونشأته 27 دراسته الجامعية 28 في سلك التدريس 28 نشاطاته الدعوية والإصلاحية 29 رحلته مع الكتابة والتأليف 30 رئاسة تحرير للمجلّات والجرائد الإسلامية والإشراف عليها 31 رحلاته 31 تقدير وتكريم 32 رئاسته وعضويته للجامعات والمجامع 33 وفاته 34 خلقه وخلقه 35 مؤلفاته 36 الموضوع 39 مقدمة الطبعة الحادية عشرة 41 تقديم الطبعة السابعة 42 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 مقدمة الكتاب في طبعته الأولى 44 الفصل الأول: مدخل إلى السيرة النبوية 57 العصر الجاهلي: 59- 106 نظرة إجمالية على الوضع الديني في القرن السادس المسيحي 59 1- اليهودية 59 2- المسيحية 60 3- المجوس 62 4- البوذية 64 5- البرهمية 64 6- الجاهلية العربية 66 إطلالة على البلاد والأمم في القرن السادس المسيحي 69 1- الإمبراطورية الرومانية الشرقية 69 2- الإمبراطورية الإيرانية الساسانية 71 3- الهند 75 4- أوربة 77 5- الجزيرة العربية في العصر الجاهلي 78 ظلام مطبق ويأس قاتل 83 نظرة عامة على العصر الجاهلي 84 ظهر الفساد في البر والبحر 85 لماذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب؟ 87 فترة حالكة مؤيّسة 100 الحاجة إلى نبيّ مرسل 103 جزيرة العرب قبل البعثة: 109- 131 تحديد جزيرة العرب 109 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 طبيعة الجزيرة وأهلها 110 مراكز عمران وحضارة 112 طبقات العرب 112 وحدة اللغة 113 جزيرة العرب في تاريخ الأمم والديانات 114 صلة الجزيرة بالنبوءات والأديان السماوية 116 إسماعيل عليه السلام في مكة 118 قبيلة قريش 120 قصي بن كلاب وأولاده 121 بنو هاشم 122 الوثنية في مكة، تاريخها ومصادرها 122 حادثة الفيل 126 إيمان قريش بمكانة البيت عند الله 128 وقع حادثة الفيل ودلالتها 130 مكة زمن البعثة وعند ظهور الإسلام 133- 149 مكة مدينة لا قرية 133 نشأة مكة الجديدة وصاحبها 136 تنظيم حياة وتوزيع مناصب ومسؤوليات 136 النشاط التجاري؛ وحركة التصدير والاستيراد 139 الحالة الاقتصادية والعملة والمكاييل 142 أثرياء قريش ومترفوها 143 الصناعات والثقافة والآداب في مكة 144 القوة الحربية 145 كبرى مدن الجزيرة وعاصمتها الروحية والاجتماعية 146 الناحية الخلقية 147 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 الناحية الدينية 148 الفصل الثاني: من الولادة الكريمة إلى البعثة العظيمة 151 157- 176 شجرة النبي صلى الله عليه وسلم 153 من الولادة الكريمة إلى البعثة العظيمة 157 عبد الله وآمنة 157 ولادته الكريمة ونسبه الزكي 157 إمارات خارقة للعادة لولادة عالم جديد، وبعث للإنسانية جديد 158 رضاعته- صلى الله عليه وسلم- 159 وفاة عبد الله وآمنة وعبد المطلب وكفالة أبي طالب 162 قصة الراهب بحيرى 164 مثال غريب من التعصب الديني والإمعان في الافتراض والتخمين 166 التربية الإلهية 170 زواجه- صلى الله عليه وسلم- من خديجة 171 قصة بنيان الكعبة ودرء فتنة عظيمة 172 حلف الفضول 174 قلق غامض وعدم ترقب لنبوة أو رسالة 175 الفصل الثالث: العهد المكي من البعثة إلى الهجرة 177 179- 248 العهد المكي من البعثة إلى الهجرة 179 تباشير الصبح وطلائع السعادة 179 في غار حراء 180 مبعثه- صلى الله عليه وسلم- 180 في بيت خديجة رضي الله عنها 181 بين يدي ورقة بن نوفل 182 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 إسلام خديجة رضي الله عنها وأخلاقها 183 إسلام علي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة رضي الله عنهما 183 إسلام أبي بكر بن قحافة وفضله في الدعوة إلى الإسلام 183 إسلام أشراف من قريش 184 الدعوة جهارا على جبل الصفا 184 الحكمة البليغة في الدعوة والتعليم 184 إظهار قومه العداوة وحدب أبي طالب عليه 186 بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبي طالب 187 لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري 187 تعذيب قريش للمسلمين 188 محاربة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتفننهم في الإيذاء 191 ما فعل كفار قريش بأبي بكر 192 حيرة قريش في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم 193 قسوة قريش في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبالغتهم في ذلك 193 إسلام حمزة بن عبد المطلب 194 ما دار بين عتبة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم 194 هجرة المسلمين إلى الحبشة 196 تعقب قريش للمسلمين 198 تصوير جعفر بن أبي طالب للجاهلية وتعريفه بالإسلام 198 خيبة وفد قريش 200 إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه 202 مقاطعة قريش لبني هاشم والإضراب عنهم 205 في شعب أبي طالب 205 نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة 206 وفاة أبي طالب وخديجة 207 وقع القرآن في القلوب السليمة 207 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 الخروج إلى الطائف وما لقي فيها من الأذى 209 أضواء على الطائف 209 في الطائف 215 الإسراء والمعراج 217 معاني الإسراء والمعراج العميقة ومراميها البعيدة 218 فرض الصلوات 219 عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل 220 الطريق إلى الإسلام 220 الفصل الرابع: الهجرة إلى المدينة المنورة 223 إسلام الأنصار 225 بيعة العقبة الأولى 226 سبب تهيؤ الأنصار للإسلام 226 خصائص المدينة المنورة (يثرب) 229 انتشار الإسلام في المدينة 231 بيعة العقبة الثانية 231 إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة 232 تامر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخير وخيبتهم فيما أرادوا 235 هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة 239 تناقض غريب 239 درس من الهجرة 239 إلى غار ثور 240 من روائع الحب 241 ولله جنود السموات والأرض 241 أدق لحظة مرت بها الإنسانية 242 لا تحزن إن الله معنا 242 ركوب سراقة في أثر الرسول صلى الله عليه وسلم وما وقع له 243 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 نبوة لا يسيغها العقل المادي 244 رجل مبارك 244 الفصل الخامس: العهد المدني 247 تصوير المدينة عند الهجرة: 249- 271 اختلاف بين المجتمع المكي والمجتمع المدني 249 اليهود 249 الأوس والخزرج 258 الوضع الطبيعي 260 الحالة الدينية والمكانة الاجتماعية 262 الحالة الاقتصادية والحضارية 265 الوضع المعقد الذي واجهه الرسول صلى الله عليه وسلم في مدينة يثرب 271 في المدينة: 275- 296 كيف استقبلت المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم 275 مسجد قباء وأول جمعة في المدينة 277 في بيت أبي أيوب الأنصاري 278 بناء المسجد النبوي والمساكن 279 المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار 281 كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وموادعة اليهود 282 شرع الأذان 283 ظهور النفاق والمنافقين في المدينة 283 طلائع عداء اليهود 285 تحول القبلة 289 تحرش قريش بالمسلمين بالمدينة 291 الإذن بالقتال 293 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 سرية عبد الله بن جحش 293 غزوة الأبواء 296 فرض صوم رمضان 296 معركة بدر الحاسمة: سنة اثنتين من الهجرة 299 299- 314 أهمية معركة بدر 299 تجاوب الأنصار وتفانيهم في الطاعة 301 تنافس الغلمان في الجهاد والشهادة 302 التفاوت بين المسلمين والكفار في العدد والعدد 303 أمرهم شورى بينهم 304 الرسول القائد 305 استعداد للمعركة 305 دعاء وتضرع ومناشدة وشفاعة 306 تعريف دقيق بالأمة وتحديد لمركزها ورسالتها 308 هذان خصمان اختصموا في ربهم 309 التحام الفريقين ونشوب الحرب 309 أول قتيل 310 مسابقة الإخوة الأشقاء في قتل أعداء الله ورسوله 311 الفتح المبين 311 وقع معركة بدر 312 إخاء العقيدة فوق إخاء الولادة 313 كيف عامل المسلمون الأسرى 313 تعليم غلمان المسلمين فداء الأسرى 314 غزوات وسرايا بين بدر وأحد 317 غزوة السويق 317 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 إجلاء بني قينقاع 317 قتل كعب بن الأشرف 319 غزوة أحد: 321- 343 الحمية الجاهلية وأخذ الثأر 321 في ميدان أحد 322 مسابقة بين أتراب 323 المعركة 323 شهادة حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير رضي الله عنهما 325 غلبة المسلمين 325 كيف دارت الدائرة على المسلمين 326 روائع من الحب والفداء 327 عودة المسلمين إلى مركزهم 330 صبر امرأة مؤمنة 332 كيف دفن مصعب بن عمير وشهداء أحد؟ 333 إيثار النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم 334 اتباع المسلمين أثر العدو واستماتتهم في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم 334 تربية نفوس المسلمين 335 أحب إلى النفس من النفس 336 بئر معونة 338 كلمة قتيل كانت سببا لإسلام القاتل 339 إجلاء بني النضير 341 غزوة ذات الرقاع 342 من يمنعك مني؟ 343 غزوات لم يكن فيها قتال 343 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 غزوة الخندق أو غزوة الأحزاب: شوال سنة خمس من الهجرة 247- 257 الحكمة ضالة المؤمن 347 روح المساواة والمواساة بين المسلمين 348 نور الفتوح الإسلامية في ظلام الحصار والشدة 349 المعجزات النبوية في الغزوة 350 إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم 352 بين فارس الإسلام وفارس الجاهلية 353 أم تحرض ابنها على القتال والشهادة 354 ولله جنود السموات والأرض 354 غزوة بني قريظة: سنة خمس من الهجرة 359 359- 375 نقض بني قريظة العهد 359 المسير إلى بني قريظة 361 ندم أبي لبابة وتوبة الله عليه 361 آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم 362 موافقة لشريعة بني إسرائيل 363 العفو عمن ظلم وعطاء من حرم 366 غزو بني المصطلق وقصة الإفك 369 قصة الإفك 372 صلح الحديبية: ذو القعدة سنة ست من الهجرة 377 377- 388 رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهيؤ المسلمين لدخول مكة 377 إلى مكة بعد عهد طويل 378 فزع قريش من دخول المسلمين في مكة 379 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 امتحان الحب والوفاء 379 بيعة الرضوان 380 وساطات ومفاوضات 380 معاهدة وصلح 381 حكمة وحلم وتنازل 381 صلح وامتحان 382 بلاء المسلمين في الصلح والعودة إلى المدينة 384 صلح مهين أم فتح مبين؟ 384 عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم 385 كيف تحول الصلح إلى الفتح والنصر؟ 385 إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص 388 دعوة الملوك والأمراء إلى الإسلام: أواخر سنة ست وأوائل سبع من الهجرة 391 391- 418 دعوة وحكمة 391 الكتب التي أرسلت إلى الملوك 393 وجاء في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز 393 وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة 394 وكتب إلى المقوقس عظيم القبط 394 اعتبارات حكيمة خاصة بالملوك الذين وجهت إليهم هذه الرسائل 396 من هم هؤلاء الملوك؟ 397 هرقل الأول قيصر الروم (610- 641 م) 398 كسرى أبرويز (خسرو أبهرويز الثاني 590- 628 م) 400 المقوقس 402 النجاشي 404 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 كيف تلقى هؤلاء الملوك هذه الرسائل الكريمة؟ 406 حوار بين هرقل وأبي سفيان 408 من هم الأريسيون؟ 411 رسائل إلى أمراء العرب 416 غزوة بني لحيان وغزوة ذي قرد 418 غزوة خيبر: سنة سبع من الهجرة 419 419- 433 جائزة من الله 419 جيش مؤمن تحت قيادة نبي 421 قائد منصور 423 بين أسد الله وبطل اليهود 423 عمل قليلا وأجر كثيرا! 424 ما على هذا اتبعتك! 425 شرط البقاء في خيبر 426 روح التسامح الديني 426 قدوم جعفر بن أبي طالب 427 محاولة أثيمة لليهود 427 أثر غزوة خيبر 428 فتوح ومغانم 429 تعفف المهاجرين 430 عمرة القضاء 432 التنافس في حضانة البنت وتكافؤ المسلمين في الحقوق 432 غزوة مؤتة: جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة 435 435- 441 قتل سفير المسلمين وعقوبته 435 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 أول جيش في أرض الروم 435 ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة 436 قتال المستميتين وصولة الأسود 437 قيادة خالد الحكيمة 438 خبر عيان لا بيان 439 الطيار ذو الجناحين 439 حب نبوي وعاطفة إنسانية 439 كرارون لا فرارون 440 بين مؤتة وفتح مكة 440 فتح مكة: رمضان سنة ثمان من الهجرة 443 443- 463 تمهيد لفتح مكة 443 نقض بني بكر وقريش الحلف 443 الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم 444 براءة الذمة وإقامة الحجة 445 محاولة قريش لتجديد العهد 445 إيثار النبي على الآباء والأبناء 445 حيرة أبي سفيان وإخفاقه 446 التأهب لمكة وكتاب حاطب بن أبي بلتعة 446 عفو عمن ظلم 449 أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم 449 عفو عام وأمن بسيط 450 أبو سفيان أمام موكب الفتح 451 دخول خاشع متواضع لا دخول فاتح متعال 452 مرحمة لا ملحمة 453 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 مناوشات قليلة 453 تطهير الحرم من الأوثان 454 اليوم يوم بر ووفاء 454 الإسلام دين توحيد ووحدة 455 نبي المحبة ورسول الرحمة 456 لا تمييز في تنفيذ حدود الله 457 عفو عن الأعداء الألداء 457 بين هند بنت عتبة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم 458 المحيا محياكم والممات مماتكم 460 كيف انقلب العدو محبا والماجن تقيا 460 إزالة آثار الجاهلية وشعائر الوثنية 461 أثر فتح مكة 462 أمير شاب حديث السن 463 غزوة حنين: شوال سنة ثمان من الهجرة 465 465- 472 465- 472 محاولة أخرى لإطفاء نور الله بالأفواه 465 اجتماع هوازن 465 لا رجعة للوثنية 467 في وادي حنين 468 شماتة الأعداء وتزلزل ضعاف الإيمان 469 الفتح والسكينة 469 آخر غزوة ضد الإسلام والمسلمين 471 في أوطاس 471 غزوة الطائف: شوال سنة ثمان من الهجرة 473 473- 481 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 فلول ثقيف 473 حصار الطائف 473 الرحمة في ميدان الحرب 474 رفع الحصار 474 سبايا حنين ومغانمها 474 حب الأنصار وإيثارهم 475 رد السبايا على هوازن 477 رقة وكرم 478 عمرة الجعرانة 479 طائعون لا كارهون 479 لا هوادة مع الوثنية 480 إسلام كعب بن زهير 480 غزوة تبوك: رجب سنة تسع من الهجرة 483 483- 499 أثر غزوة تبوك النفسي وسببها 483 زمن الغزوة 486 تنافس الصحابة في الجهاد والمسير 488 مسير الجيش إلى تبوك 488 تخوف العرب من الروم 489 الصلح بين الرسول وأصحاب أيلة 490 عودة الرسول إلى المدينة 490 في جنازة مسلم مسكين 491 ابتلاء كعب بن مالك ونجاحه فيه 491 نظرة على الغزوات 495 أول حج في الإسلام 499 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 عام الوفود: سنة تسع من الهجرة 501 501- 511 تقاطر الوفود إلى المدينة وأثرها في الحياة 501 بين وثني جاهل وبين نبي معلم 508 فرض الزكاة والصدقات 511 حجة الوداع: سنة عشر من الهجرة 513 513- 523 حجة الوداع وأوانها 513 قيمتها البلاغية والتربوية 513 تسجيل دقائق حجة النبي 514 سياق حجته- صلى الله عليه وسلم- إجماليا 514 كيف حج النبي- صلى الله عليه وسلم-؟ 514 خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع 520 الوفاة: ربيع الأول السنة الحادية عشرة للهجرة 525 525- 543 كمال مهمة التبليغ والتشريع ودنو ساعة اللقاء 525 مدارسة القرآن ومضاعفة اعتكاف رمضان 526 الشوق إلى لقاء الله وتوديع الدنيا 527 شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم 528 آخر البعوث 529 الاهتمام ببعث أسامة 529 دعاء للمسلمين وتحذير لهم عن العلو والكبرياء 531 زهد في الدنيا وكراهة لما فضل من المال 532 اهتمام بالصلاة وإمامة أبي بكر 532 خطبة الوداع 533 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 وصية الأنصار 534 آخر نظرة إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة 535 تحذير من عبادة القبور واتخاذها مساجد 536 الوصية الأخيرة 536 كيف فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا؟ 538 كيف تلقى الصحابة نبأ الوفاة؟ 539 موقف أبي بكر الحاسم 540 بيعة أبي بكر بالخلافة 541 كيف ودع المسلمون رسولهم وصلوا عليه؟ 541 أزواجه أمهات المؤمنين، وأولاده وأسباطه صلى الله عليه وسلم 545 545- 557 أزواجه صلى الله عليه وسلم 545 وقفة قصيرة عند تعدد الزوجات 547 أولاده وأسباطه صلى الله عليه وسلم 554 الفرق بين نبي مرسل وزعيم سياسي 555 الفصل السادس: الأخلاق والشمائل 559 561- 603 الأخلاق والشمائل 561 صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا 561 مع الله تعالى 566 نظرته- صلى الله عليه وسلم- إلى الحياة وزهده فيها 568 مع الناس 572 اعتدال الفطرة وسلامة الذوق 577 في منزله ومع أهله وعياله 579 تقديم الأقربين في المخاوف والمغارم وتأخيرهم في الرخاء والمغانم 580 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 رقة الشعور الإنساني ونبل العاطفة 582 كرمه وحلمه 585 الحفاظ على أصالة الدين والغيرة على روحه وتعاليمه 589 تواضعه صلى الله عليه وسلم 592 شجاعته وحياؤه 594 رأفة عامة ورحمة واسعة 596 أسوة كاملة وقدوة عامة 600 الفصل السابع: فضل البعثة المحمدية على الإنسانية ومنحها العالمية الخالدة: 605 607- 693 فضل البعثة المحمدية على الإنسانية ومنحها العالمية الخالدة 607 أ- فضل البعثة المحمدية على الإنسانية 607 1- إعلان فريد في تاريخ الرسالات والديانات 607 2- قيمة الرحمة التي اقترنت بالبعثة المحمدية كما وكيفا 610 3- البعثة المحمدية أنقذت الجيل البشري من الشقاء والهلاك 612 4- مهمة النبوة ودورها في الإنقاذ والإسعاد، وطبيعة عمل الأنبياء 614 5- تصوير العصر الجاهلي وتهيؤه للانهيار والانتحار 617 ب- العالم الجديد في حساب البعثة المحمدية ومنحها 622 منح البعثة المحمدية الست، وأثرها في تاريخ الإنسان 622 1- عقيدة التوحيد النقية الواضحة 622 2- مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية 624 3- إعلان كرامة الإنسان وسموه 627 4- محاربة اليأس والتشاؤم، وبعث الأمل والرجاء والثقة والاعتزاز في نفس الإنسانية 630 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 5- الجمع بين الدين والدنيا وتوحيد الصفوف المتنافرة، والمعسكرات التجارية 635 6- تعيين الأهداف والغايات، وميادين العمل والكفاح 639 ولادة عالم جديد، وإنسان جديد 641 جداول الغزوات والسرايا 645 أ- الغزوات 646 ب- السرايا 657 جدول الأحداث المتعلقة بالسيرة النبوية 679 الفهارس العامة 683 فهرس المراجع العربية 685 فهرس المراجع الأجنبية 692 فهرس الآيات القرآنية الكريمة 694 فهرس الأحاديث والآثار النبوية الشريفة 705 فهرس الأشعار 721 فهرس الأعلام 723 فهرس القبائل والأقوام 735 فهرس الأمكنة والمواضع 740 فهرس الصور والخرائط 747 فهرس الموضوعات 749 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767