الكتاب: السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها المؤلف: عبد الرحمن على الحجى الناشر: دار ابن كثير - دمشق الطبعة: الأولى - 1420 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها عبد الرحمن على الحجى الكتاب: السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها المؤلف: عبد الرحمن على الحجى الناشر: دار ابن كثير - دمشق الطبعة: الأولى - 1420 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [المدخل] قال الله تعالى في القرآن الكريم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21] . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح: 28- 29] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الإهداء هذا الكتاب أهديه إلى حضرة جناب المصطفى الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أرجو الله عزّ وجلّ القبول، إن شاء الله سبحانه وتعالى. كانت كلمات الإهداء شعرا. وقد جرت قصيدته هذه على اللسان، سليقة وانسيابا متناغما، والشكر والحمد لله رب العالمين. يا سيدي يا أسوتي ... هذا الكتاب هديتي الله أنزل شرعه ... أكرم بها من شرعة أوحى إليك مبلّغا ... أنت الأمين لأمّتي بعثت للناس بها ... طول الزمان وهجرة بعثت فيها منذرا ... ومبشّرا بالنّصرة جاهدت فيها دائما ... لم تعتذر من هجعة كلّ السنين حميتها ... وبذلت كلّ المهجة وفي المسالك تلتقي ... في سوقهم ومجنّة والصحب حولك جدّهم ... بادي الوفا وأصالة أمحمد أنت الذي ... أنقذتنا من تيهة كلّ الرسالة صنتها ... أدّيتها بأمانة وحملتها في مهجة ... وحميتها بالمقلة وبالنفيس فديتها ... أرخصتها سالفة الله أرسل نعمة ... أنعم بها وهديّة قرآنه ضرب الدّجى ... طاو له للظّلمة والناس قد أحيوا بها ... فكانوا خير أمّة لا يعرفون بدونها ... جاءتهم وبسمحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 كانوا شراذم قبلها ... وحربهم لقبيلة لكنهم قاموا دعاة ... ولوحدة في دعوة صاروا نجوما في الورى ... منذ اهتدوا بشريعة أهل الحضارة والنّهى ... بالعدل فتح سريرة ونحن جيل يقتدي ... برسولنا ووراثة على خطاك سيرنا ... مهما بدا من قسوة ونبتغي الله به ... أسعد بها تضحية لنرضي فيه ربّنا ... وبسعدها بشرية سعد الذين تجمعوا ... في منهج ووضيئة فيه السعادة كلّها ... وهو أسّ حضارة هذا النبيّ وصوته ... متجلجلا في آية فأقبل تراه ماثلا ... متحركا في سيرة فرح الزمان بسعده ... ليضيء كلّ مسيرة بغداد المحروسة- العامرية المعمورة- المضيفة المشهورة الخميس: 6 رجب الخير 1418 هـ (6/ 11/ 1997 م) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ملاحظات تمثل النجمة (*) في الاستشهاد بالآيات الكريمة بداية الآية الكريمة ونهايتها. وإذا لم توضع هذه النجمة (*) ، فذلك يعني أن الاستشهاد يشير إلى جزء من الآية الكريمة. كانت طريقة الإشارة في المصادر والمراجع- بالنسبة للجزء والصفحة- عدم ذكر كلمة جزء أو صفحة، بل يوضع خط مائل بين رقم الجزء ورقم الصفحة. فمثلا (3/ 4) تعني الجزء الثالث الصفحة 4. وبالنسبة لكتب الحديث الشريف التي ترقم أحاديثها، كثيرا ما يذكر رقم الحديث الشريف وبعده خط مائل (/) ثم الجزء. مثلا (4964/ 3) يشير الرقم الأول- قبل الخط المائل- إلى رقم الحديث الشريف والرقم (3) - بعد الخط المائل- يشير إلى الجزء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تقديم سنوات كثيرة مرت تناهز أو تجاوز العقدين، وأنا أنادي بشعارات علمية لازمة، منها أن يعتبر التاريخ الإسلامي مادة شرعية تدرّس، واحدة من هذه المواد في أيّ موقع منها، لا سيما السّيرة النبوية الشّريفة، على صاحبها الصلاة والسلام. كما جرى النداء والعمل حثا، لاعتبار هذه السيرة المطهرة على صاحبها الصلاة والسلام- مادة أثيرة في كافة المراكز العلمية والمؤسسات، لا سيما الجامعات؛ لتكون ليس فقط مادة مستقلة بل ومتطلبا جامعيا. ولعل ذلك يتحقق يوما ما بعون الله تعالى وفضله. هذا مهمّ جدا، ومن المهمّ كذلك: أن تقدّم هذه السيرة المطهرة بثوبها الزاهي الجليل، وبالأسلوب البحثي الجميل، وبالعلم الكريم الدليل، فهي مبدأ تاريخنا، هذا التاريخ الإسلامي وشرفه وتاجه. وها أنا اليوم أقدّم هذه الدراسة- باكورة مؤلفات في موضوعها، لما يتلوها من بحوث ودراسات ومؤلفات، إن شاء الله تعالى- صالحة لكل مستوى، ومهمة لكل دارس، وأساسية لكل متمرس. وأرى ذلك لزاما أبديه، وواجبا أقضيه، وعملا أتعبد الله تعالى به، راجيا منه القبول، وأن يجعل- سبحانه- موضعه الإقبال ونفعه عميما. وأقدّمه هنا في بحوث أو مؤلفات متتابعة- إن شاء الله تعالى- كل منها على نسق، حتى يتم كل جانب منها بما يؤهله، شمولا وسعة وعمقا، بعونه ومنّه، وهو على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 تمهيد وتنجيد السيرة النبوية الشّريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- هي التي أقامت مباني هذا الدين- الذي أنزله الله تعالى، وحيا أمينا صادقا على رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم- وبه أتمّ نعمته على خلقه، على قواعده الإيمانية بالله تعالى ورسالته الخاتمة، عقيدة وعبادة وشريعة. ورسمت تعاليم الإسلام في الواقع: سلوكا وتعاملا، بذلا وتضحية، احتمالا وفداء. وهي ثمرة بناء الإسلام- قرآنا وسنّة وسيرة- وأقامت الإنسان والحياة على قواعده المتينة الرصينة الأمينة. ذلك من أجل إقامة المجتمع الفاضل والحياة الإنسانية الكريمة، في واقعية مثالية، أو مثالية واقعية، تبقى دليل الإنسانية ونهجها الميمون الفريد نحو الحياة المرجوة التي أرادها الله لعباده؛ لترسيخ معنى العبودية لله تعالى وحده، وإنجاز الفتوحات المتنوعة في آفاق النفس، وميادين الحياة، وإعمار المجتمع، بصيغة كريمة إنسانية فاضلة، لا يدركونها- صيغة وصبغة ورفعة- إلا به وحده. ولقد قدّمت السيرة النبوية الشريفة القرآن الكريم- كتاب الله تعالى- شرحا موضّحا بالبيان والتفصيل في السّنة النبوية المطهرة، وبالسلوك والتمثيل في واقع الحياة، في كل إطار وفي أي مجال وحال، في السيرة النبوية العطرة. وكما أن كلّ ما في القرآن الكريم يشير ويؤكد ويعلن أنه من عند الله تعالى، وحيا منزّلا منه سبحانه على رسوله الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الصادق المصدوق «1» ، الذي تلقاه من ربه العظيم الجليل سبحانه. وبهذا   (1) الصادق المصدوق: وصف للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وهو تعبير كثر وروده عند رواة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 كله تماما تتضح نبوته ورسوليته ورسالته من خلاله، مضيئة كالشمس رخية كالنسيم رحبة كالفضاء وكالسماء. والله تعالى يقول: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: 191- 197] . ويقول سبحانه وتعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] . والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1» .   الأحاديث النبوية الشريفة، وعموم الصحابة الكرام ومن بعدهم على مدار الأجيال، ونحن والحمد لله إلى يوم الدين. البخاري، رقم (3036) . وكتاب العلم، باب: قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا. «الصادق» : الصادق في قوله. «المصدوق» : المصدوق فيما يأتيه من الوحي الكريم، وكذلك المصدّق فيه. مسلم، رقم (2643) . (1) البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل، رقم (4696) ، مسلم، رقم (152) . جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، (8/ 533، رقم 6333) . «آمن عليه البشر» : أي كل نبي بعثه الله تعالى أعطاه من الآيات والدلائل الواضحة والمعجزات (من خوارق العادات) التي تظهر صدقه، فتقتضي الإيمان به. «أتيته» : أراد القرآن الكريم الذي خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أعطاها الله للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم الموحى به من الله تعالى لفظا ومعنى، وهو المعجزة الكبرى الباقية إلى يوم القيامة، يستمر الإيمان به من غير المسلمين فيؤمنون به ويدخلونه- على مر العصور ومن كل الأقوام، بجانب كل المعجزات الآخرى الكثيرة المتنوعة. «وحيا» : والوحي هنا هو القرآن الكريم، فإنه ليس من كتب الله المنزلة كان معجزا إلا القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فالقرآن الكريم كتاب الله تعالى المبارك، وشرعه المبين، وحبله المتين، أنعم به على البشرية جمعاء، فضلا منه ومنّة؛ ليبلّغه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، رسالة ربانية لا غنى لأهل الأرض عنها في كل ديارهم وأعصارهم ومرتقياتهم. ولا تستريح البشرية- كما استراحت ورأت في جولة سبقت- إلا في ظله. وتلك تجربة وخبرة وشهادة، تكفيها لأخذه واعتماده والعمل به، مكتفية به وحده ومستغنية به عما سواه، حتى لو فاتتها معرفة ذلك، من خلال القرآن والسنة المطهرة والسيرة النبوية الشريفة. وحين تتخذه البشرية منهجا تتعامل به في كل جوانب حياتها، ستنال السيادة والتكريم في الدنيا والسعادة الدائمة في الآخرة. ويوم تدركه وتعرفه وتفقهه لا ترتضي- ذاتيا، ولا يصحّ لها- أن تلتفت لغيره وبطبيعتها، اعتمادا على نظرية (أو حقيقة) التقابل والتواصل والتكامل، أو التوافق والترافق والتعانق. عندها يسقط وتسقط كل ما عداه من البرامج البشرية، والمناهج الأرضية، والمبادئ الوضعية؛ إذ لا يجب أن يحكّم المسلم في حياته كلها غير ما أنزله الله سبحانه، ولا يقبل التحاكم إلى ما يضعه الإنسان، مهما كان. وهذا هو مفهوم العبودية لله تعالى، ومعنى شهادة ألاإله إلّا الله، الذي دعا إليه كافة الأنبياء (عليهم السلام) ، واستمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يجاهد من أجلها عقودا، تثبيتا وتوكيدا وتحديدا بأمانة. والله تعالى يقول في سور متعددة مثل الأنعام والأعراف وهود اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء أخوة، أبناء علّات، أمهاتهم شتّى، ودينهم واحد» «1» .   (1) رواه البخاري: كتاب الأنبياء، باب: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها [سورة مريم، 16] ، رقم (3259) . ومسلم: رقم (2365) . جامع الأصول، (8/ 523، رقم 6321) . «أولى الناس» : أخص الناس به وأقربهم إليه، لأنه بشّر به. «أولاد علات» : الأخوة لأب واحد، من أمّهات مختلفة. والمعنى: أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وكم من مرة حدّث القرآن الكريم، من خلال حشد ضخم من الآيات الكريمات عن الغائب عن علم الإنسان وإدراكه وآفاقه، أي عن الغيب الكائن في التاريخ والحياة، وغاب عن علم الإنسان وعن الغيب الذي سيكون في الدنيا والآخرة سواء. وكلها حقائق منظورة، والتي ستقع مثلما وقعت، فضلا عما فيه من أمور كونية ونفسية وعلمية، وغيرها كثيرة مجهولة، مما لم يدرك بعضه الإنسان إلا بعد قرون وأجيال، ومنه لا يزال خارج دائرة إدراكه، كالذي هو خارج دائرة علمه غيبا. بل ما أكثر ما حدّث القرآن الكريم عن بواطن النفوس، وأعماق السرائر، ومكنونات الضمائر، وحتى بما هو مجهول للشخص والأشخاص أنفسهم. فلنبحث كل هذا في القرآن الكريم، ونقرأه من جديد. كل ذلك وأمثاله يدعو بقوة كلّ إنسان- فضلا عن المسلم- أن يتبع كتاب الله في حياته، ويأخذ به، وردا وإصدارا، وبه تكون النجاة لا بغيره في الدنيا والآخرة. والله تعالى يقول في كتابه العزيز القرآن الكريم: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] . وكما هو الأمر هكذا بالنسبة للقرآن الكريم، فإنّ كلّ ما في السيرة الشريفة- والسّنّة الصحيحة كذلك، بعد بيان القرآن الكريم له، تجده ممهورا بطابع النبوة، وختمها الرسالات- يدل على أنه صلى الله عليه وسلم نبيّ كريم ورسول خاتم، بدعوة الله العالمية إلى أهل الأرض أجمعين وإلى يوم الدين. ولقد أنزله الله تعالى محتويا كلّ أمورهم التي ترفعهم وتقودهم نحو الحياة الكريمة والحضارة الرشيدة، وإلى رضا الله تعالى والسعادة في الدنيا والآخرة.   شرائعهم متفقة في الأصول (مختلفة في الفروع) . «شتى» : متعددة. «دينهم واحد» : دين التوحيد. ويشير هذا إلى أن النسب الحقيقي هو نسب العقيدة والإيمان، وبه وحده لا بغيره يكون التفاضل والقبول والقرب من الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وهذا معلم واحد من معالم هذا الدّين الواضحة، دين أهل الأرض أجمعين، حالا واستقبالا، مثلما هو معلم من معالم السيرة النبوية الشريفة، ومعالمها كثيرة وقوية بينة باهرة، متلألئة مناراتها. مثلما تلمسه وتراه وتشهده في سيرة الصحابة الكرام- رضي الله عنهم أجمعين- الذين دانوا بالعبودية الكاملة لله رب العالمين في أكمل صورها، وهم يبقون نموذجا للأجيال وعلى مدار التاريخ. فعن عبد الله بن مسعود (32 هـ) رضي الله عنه: (أن الله تعالى بعد أن اختار محمدا صلى الله عليه وسلم وبعثه برسالته، إن الله نظر في قلوب العباد فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار الله له أصحابا، فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيّه صلى الله عليه وسلم) «1» . والكل مقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي إن غاب اليوم عنا شخصه الكريم ووجوده الحي الوضئ وجسده الشريف، فهو باق محفوظ ماثل وقائم، بتوجيهاته وسلوكه ومواقفه وآفاق تربيته وجهاده وعبادته ودعائه، في البيت والمسجد والحياة، حربا وسلما في الرضا والغضب والانتصار والانكسار وفي دلائله وشمائله، حية متحركة متعطرة تفوح بالمسك قويا، عبقة تنشر الطيب، كأنك تراه وتشهده وترقبه أمامك قائما. وتلك هي السيرة النبوية الشريفة بشمولها وكمولها ومضامينها. نستبين ذلك أيضا جليا من حياة الصحابة الكرام، بكل جوانبها ونواحيها وميادينها، ونراه ظاهرا جاهرا ومنظورا في سيرتهم المقتداة والمقتدية بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، مهما تفاوتوا- وهم يتفاوتون- في الخير والبرّ والنصرة، لكنهم اغترفوا من هذا النبع الصافي المبارك الكريم؛ ولذلك استحقوا الأوصاف الكريمة التي وصفهم الله تعالى بها في قرآنه العظيم،   (1) حياة الصحابة، الكاندهلوي، (1/ 46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ومنها كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] . فكلمة «كنتم» خاصة في أصحاب محمدا صلى الله عليه وسلم وكل من صنع صنيعهم بأداء شرط الله منها «1» . ولعل الواقع نفسه يشير إلى أبعد من ذلك، حيث يستبين أيضا في هذا المضمار المتسع أن الله تعالى قد صرّف السيرة النبوية الشريفة، آخذا بها في ماجريات (مجريات) السّيرة ومجاليها. وهي رعاية أخرى يتمّها ويتولاها ويقودها، فتسير الأحداث والأمور والناس فيما يريد الله، فكانوا دوما يقومون بما يقومون به، ومن ورائهم القدرة الإلهية وإرادتها، لتجري بنسقها الذي تضمنته، لتكون مثالا يقتدى، ودليلا يحتذى، وبها يهتدى، لكل السائرين والسالكين درب الإيمان بالله تعالى والعاكفين على دعوته، في كل زمان ومكان في كل أحوالهم ومجاليهم، أو المجاوزين لها مسلمين وغير مسلمين. فالأولون يرون فيها طريقهم وبها وحدها يهتدون، والآخرون يرون الحقائق ماثلة قوية ساطعة، فلعلهم يحسنون التعامل معها، فيهرعون إلى أحضانها ينعمون بظلالها. وفي حياة الصحابة الكرام دليل على ما أقول. وإن الصيغ المثبتة عن الصحابة الكرام لتشي- أي: تعلن وتعلم- بقوة لا تقاوم، لتعلنها مدوّية عن روعة هذا الدين؛ كيف وماذا صنع الإسلام بهؤلاء وبأهله كافة، حيث أخذهم من سفوح الجاهلية ووهادها السحيقة بكل ضلالاتها وانحرافاتها والتواآتها- ليرفعهم إلى أعلى القمم الفاضلة، يمكن أن يرتفع إليها إنسان، لا يرتفع إليها إلا بهذا الدين، وبكل جوانبها، بتوازن وانسجام واكتمال. وهو أمر معجز في حقيقته، يشير إلى معجزة الإسلام نفسه في وجه آخر جديد، والتي يمكن أن تتكرر بعواملها. فالقرآن الكريم بيننا وقد حفظه الله تعالى، نصّا كاملا، وحسّا عاملا،   (1) حياة الصحابة (1/ 45- 46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة. فهو صلى الله عليه وسلم الإنسان النبي، والنبي الإنسان، ورسول الله الخاتم. ولا فصل بين كل ذلك. ولا يجوز غير هذا الفهم، ولا تتم له حياة في دائرته بحال وبأي اعتبار ومن أي منظار، حتى لكثير من غير المسلمين، ممن كانت لهم رؤية صحيحة، ولو بعضها، فكيف بالمسلمين؟ بل كيف يصحّ له إسلام بدون ذلك؟ ولو أنصف، حتى غير المسلمين نساء ورجالا ومن كل قوم وملة كانوا، لأحبوه كما لم يحبوا أحدا غيره، ووقروه، وأدنوه من نفوسهم، سواء قادهم ذلك إلى الإسلام- وغالبا ما يقود، والمفروض أن يقود، وذلك أتم وأشم- أو لم يتم. وهذا الذي مضى كله واضح تمام الوضوح في القرآن الكريم والسّنّة النبوية والسيرة الشريفة. وهما لا بد أن يكونا المصدر الأساس لهذه السيرة الشريفة، كتابة ودراسة وتدريسا. ولا علمية ولا منهجية ولا موضوعية بدون ذلك أبدا أبدا. بل منها يجب أن تبدأ دراسة ذلك كله، كما يجب أن يا بنى بها المنهج السليم لدراسة التاريخ الإسلامي وغيره من تواريخ الأمم الآخرى، ويكون عليه الاعتماد في قضية تفسير التاريخ بشكل شامل عام، لتجنب الوقوع في التّيه، أو الخروج منه، الذي أدخلتنا فيه التفاسير المبتسرة الفجة السطحية، والتي مازالت التعديلات والترقيعات والتجميلات تدخل عليها وهي تزداد تشويها، به أو بغيره أو بنفسه. والله تعالى يقول: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء: 18] . ولقد كان هؤلاء الصحابة الكرام الصورة الوضيئة العجيبة التي رسمها القرآن الكريم، بأسلوبه البديع المعجز. إنه كلام الله الذي أراده سبحانه أن يكون معجزة هذا الدين الخالدة الدائمة على مدار الأجيال. أولئك الأخيار الأفذاذ والنماذج المثال، الذين صعدوا ذلك المرتقى العال، فكانت سموّا في الحياة، تحقّق في هذه النماذج القمة الفريدة السعيدة، التي ما كان لها أن تعرفها أبدا- فضلا عن ارتيادها- إلا بهذا الدين الذي أراده الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 للبشرية، ولا يقبل من أحد دينا غيره، ولا انتماء سواه. والصحابة الكرام هم الجيل المثال الفريد، الذي تربّى على مائدة القرآن الكريم، وقادهم لذلك محمد بن عبد الله الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم الذي علمه الله تعالى، وأعدّه، وأدّبه للقيام بهذه الدعوة، مما هو واضح من الإشارات والبشارات، حتى قبل النبوة بل وأسبق منه، ومن كل ما يحيط به. أما النبوة منذ تلقيها- فذلك واضح كل الوضوح في القرآن والسّنّة والسيرة. فكان هؤلاء الصحابة هم أنفسهم كذلك القدوة، والذين كان الإيمان بالله تعالى ودعوته ونبيه صلى الله عليه وسلم في قلوبهم أعظم من الجبال، حتى في ضحكهم ومرحهم ومزاحهم «1» . فالاقتداء- إذا- بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالذين اتبعوه من المهاجرين والأنصار وغيرهم هو طريق الهداية. فالرسول صلى الله عليه وسلم هو نبيّ الله، اختاره الله لدعوته الكريمة. وكان هؤلاء الصحابة الذين عاشوا معه، وتربوا على الإسلام بين يديه بشرا ترقّى، يوم اقتدوا به، واستجابوا لدعوة الله على يديه، وعضّوا عليها بالنواجذ، مما يشير إلى الاقتداء بهم. ونتعلّم منهم كيف تلقوا هذا الدين، واستجابوا له، وارتقوا به ببشريتهم، لنأخذ نحن به مثلهم مقتدين بهم بعد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وهم خير الأصحاب الذين تلقّوا عنه مباشرة، معتمدين في ذلك كله على القرآن الكريم والسّنّة الصحيحة والسّيرة الشريفة، متلمّسين كيف أن كلّ ذلك تحول في حياتهم إلى واقع عملي قوي ملموس. وفي ذلك يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (74 هـ) : (من كان مستنّا فليستنّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمّة، أبرّها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلّها تكلّفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبّهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على   (1) حياة الصحابة (1/ 48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الهدى المستقيم والله ربّ الكعبة) «1» . وبذلك كانوا هداة هذه الأمة والإنسانية، ومبلغي دعوة الله إليهم، حملوها أمانة وصيانة وديانة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعوة وسلوكا وحياة. ملؤوا الدنيا ضياء وهداية وعدلا، فكانوا ينابيع صافية يستقي منها الآخرون. من الوجوه المصابيح الذين هم ... كأنهم من نجوم حية صنعوا أخلاقهم نورهم من أي ناحية ... أقبلت تنظر في أخلاقهم سطعوا وقد وصفهم أحد التابعين مبيّنا بعض أوصافهم، وهو التابعي الجليل مسروق بن الأجدع (63 هـ 683 م) : (شاممت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم أشبه بالإخاذ، تكفي الإخاذة الراكب، وتكفي الإخاذة الراكبين، وتكفي الإخاذة الفئام من الناس، والإخاذة لو صدر عنها الناس جميعا لكفتهم) «2» . فلنحاول العيش ابتداء- ولو لحظات، وحتى من بعيد- بقربهم، نتذوق ما تذوقوه، ونرى حلاوة الإيمان الذي يعمر القلوب، ويأخذ إلى باحة الإسلام ومجاليه وميادينه. وبذلك يكون إعادة الموكب الكريم، وتنطلق به الحياة، مستقيمة رضية وضيئة. وبها يرى الناس عجائب هذا الدين ومعجزاته، مما لم يخطر لهم على بال. فهل نطيق عن ذلك انفكاكا منها، أو ابتعادا عنها، أو إهمالا لها؟ ولعلك وجدت بعض ذلك في أتباع الأنبياء السابقين- صلوات الله وسلامه عليهم- كالحواريّين. ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته   (1) حياة الصحابة (1/ 46) . ولعبد الله بن مسعود (كلام قريب من هذا. جامع الأصول، (1/ 292) . «المستن» : الذي يعمل بالسنة. (2) «شاممت» : عرفت. «الإخاذ» : جمع إخاذة، وهي غدير الماء. «الفئام» : الجماعة من الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ويقتدون بأمره ... » «1» . لكن الصحابة الكرام- وكلهم عدول- أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه، بعد أنبيائه ورسله، خير من الحواريين «2» . ولقد جاء هذا الوصف على لسان بعض النصارى الذين أسلموا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد كرّم الله صحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في آياته الكثيرة «3» ، مما يعرفه المسلم، الأمر الذي يدعو إلى توقيرهم وتقديرهم ومحبتهم جميعا، وهو شأن كل المسلمين، لا ينفكّ عنهم، ولا يتحول، ولا يستبدل. ومن صفة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم، والكتب السّابقة- مما يجعل البشارة بهم ثابتة مع البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح: 28- 29] «4» . كذلك ذكر الله تعالى في آية أخرى، أنّ صفة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ونعته   (1) رواه مسلم: كتاب الإيمان- باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان رقم (50) . (2) تفسير القرطبي (16/ 299) . (3) حياة الصحابة (1/ 35- 40) . (4) المعنى: هذا الوصف الوارد في الآية الكريمة، إنه لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله. ووصف الصحابة الكرام بهذه الصفات. وكل تلك الصفات مذكورة في التوراة والإنجيل، ومبشّر فيهما بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبالصحابة. وما دام أن الله قد ذكر ذلك في القرآن الكريم (وقل مثل هذا في السنة الصحيحة الثابتة) ، فهو لا بدّ حقا مذكور فيهما، مهما بلغ التحريف والإخفاء والادعاء. ولا نحتاج بعده إلى أي دليل- مهما كان- والأمور كلها تستمد الدليل من القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 156- 157] . وبعض هذه الصفات التي وصف الله تعالى بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم، منها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 45- 47] ، وردت في الكتب السابقة، منها التوراة والإنجيل، كما أشارت إليه الآيات السابقة. روى البخاري أن عبد الله بن عمرو بن العاص حين سئل عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: (أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب: 45] . وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكل، ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر (ويصفح) ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلّا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا) «1» .   (1) البخاري: رقم (2018) ، ورقم (4558) . «حرزا للأميين» : حصنا للعرب (ولغيرهم) ، وقد بعثه الله فيهم منهم أولا، فدعاهم إليه أولا. «سخاب» : رفع صوته على الناس. «يقيم به الملة العوجاء» : ينفي الشرك عنها ويثبت التوحيد فيها. «غلف» : غطتها ظلمة الشرك، فهي به مغلفة مظلمة قاتمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 هذه السيرة الشريفة التي عاشت الصورة القرآنية، وائتسى بها الصحابة الكرام خير ائتساء، فكانوا خير مؤتسين لأحسن أسوة، تبقى النموذج الأفضل والقدوة الأمثال لبني الإنسان، وخصوصا للمسلمين في كل وقت وحال. استمدت كلّ ما فيها من هذا الدين الذي أوحاه الله تعالى إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليكون المبلّغ بالنص، تشرحه السّنّة، وتمثيله بالسيرة. وهذه السيرة الشريفة مليئة بالذخائر والكنوز واللآلئ والدرر، ولا بد من الغوص وراء أصدافها الحافظة لها، واستخراج دررها الفريدة من داخلها. عجائبها غزيرة، وعقودها باهرة، أتت بالعجائب والنجائب والمراتب في كل باب، وأنتجت الفتوحات متنوعات في كل درب، وقدمت الصيغ الإنسانية التي تربت على مائدة القرآن الكريم، في أحضانها وأجوائها في كل موقع وصوب وحدب، مقتدية في ذلك كله بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كيف وقد جاء للتطبيق العملي القائم في الحياة الواقعية والمجتمع، بلا تجاهل ولا تماهل ولا تساهل أبدا بحال؟! ذلك لأنها مستمدّة وقائمة على القرآن الكريم. فهي عجب من عجائبه، ومعجزات من إعجازاته؛ التي لا تفنى ولا تنضب. ويبقى لكل زمان وأحد وجيل كذلك، ما ادّخره الله سبحانه وتعالى له برحمته. ومن هنا فلا بدّ من منهجية جديدة مستقلة ومتساوقة ومتعانقة مع هذا التاريخ الإسلامي وبقيته وتوابعه، ابتداء من السيرة النبوية الشريفة، فهي تاجه الرفيع، وعزه المنيع، وقوامه البديع. وقد احتوت السيرة الشريفة ذلك كلّه، ولذلك فكلما عاشها الإنسان، وعاشت به، عرفها أكثر، وأدركها أعمق، واقترب من مضامينها وأسرارها، وأحسن التعبير عنها وتمثّلها، بمقدار العيش فيها، قدرا ومقدارا وإصرارا. وأحسّ- والحمد لله وبفضله- أنني كل يوم أتقدم وأتفهم وأتعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 لاستشراف هذه المعاني والمشاهد والأجواء في هذا المجال وفي غيره سواء بسواء، متعرّفا على جديد من ذلك كله، وأقطف مزيدا من ثمارها الكريمة، فهما وإدراكا وتحصيلا، وكلما تفيأت ظلالها كلما أدركت أبعادها، واقتربت، ووعيت من آفاقها، دراسة ومتابعة وتعمقا. وكل هذا نعمة ومنّة وبركة من الله تعالى رب العالمين، فالحمد لله على نعمه الكثيرة، ونسأله سبحانه الدوام وحسن الختام في ظل الإسلام. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 المبحث الأول السيرة النبوية ظلالها وآفاق دراستها * استهلال وإطلال وإجلال * التخصص العام والدقيق * المقوم الأول المهم * اتساع السيرة النبوية والاقتداء بها * السيرة مرآة ومهماز * مصادر دراسة السيرة * صلحاء الأمة وحماتها * كتابة السيرة الشريفة * العيش في جو السيرة عمقا وتعلقا * كتابة السيرة بين الفقه والتاريخ * دراسة وكتابة السيرة الشريفة وآفاقها * دوام حفظ الله سبحانه لأهل دعوته ونوعيتهم * أسلوب هذه الدراسة * أثر السيرة في المجتمع قوة ودعوة * السيرة وكتابة التاريخ * السيرة وجيل الصحابة هذه الدراسة والكتابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 السيرة النبوية ظلالها وآفاق دراستها * استهلال وإطلال وإجلال: هذه مباحث وفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تقدّم تصورا، وترسم منظرا، تكاد ترقبه وتشهده، حتى لكأنك ترى أحداثه، متحركة أمامك ماثلة نصب بصرك. وبتمعّنك فيها، تتبيّن من خلالها حياة الرسول الكريم، والنبي العظيم صلى الله عليه وسلم قائدنا وقدوتنا وأسوتنا إلى خيري الدنيا والآخرة. تتبين حياة رائعة، وسيرة ساطعة لامعة متماسكة، ترى فيها الكمال الإنساني بالرسالة الربانية، حمّلها إياه الله سبحانه وتعالى المنعم الرحيم بعباده؛ لهداية البشرية الى طريق الخير الوحيد والسعادة الفريدة والحضارة الإنسانية الأكيد. فهي تظهر أهميتها، ودقائق تفاصيلها، وفقهها المتعمق، للعمل بها، والاستظلال بظلها. وهي حصيلة أصيلة، وخبرة مستنيرة، ومتعلّق عاشق، قام بتدريسها لقرابة ثلاثين دورة تدريسية جامعية- سنوية أو فصلية- في العديد من الجامعات في البلاد العربية. وهي تطبيق لمنهج، ودراسة لأحداث، واستقراء لمضامين، ضمّها هذا الجهد في كتاب، مقدّمة لدراسات تالية، ترى هذه المعاني أكثر نورا، وأشد ظهورا، وأشمل حبورا. تراها روائع ومواقع، تنصهر في كتاب جامعي شامل- إن شاء الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وبعونه- تقرّبا إليه، وحبّا لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وخدمة لهذا الدين، من خلال رعاية تاريخه، وبيان حقائقه المنيرة. أستهلّ ذلك بهذا المبحث الأول، عن (السيرة النبوية الشريفة- ظلالها وآفاق دراستها) تتلوها مباحث أخرى، إن شاء الله تعالى وبفضله. * التخصص العام والدقيق: حقيقة إنّ تخصّصي الدقيق هو التاريخ الأندلسي، وليس السيرة النبوية الشريفة، على صاحبها الصلاة والسلام، لكن دراسة السيرة والبحث فيها وهي فخر وشرف- هواية قديمة، وما زالت جديدة ومتجددة والحمد لله وهي كذلك مستمرة إن شاء الله تعالى- بجانب كونها جزآ من التاريخ الإسلامي، التخصّص العام. ولكن طول صحبتي للسيرة الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- وعمق محبتي لها- والحمد لله- وكثرة قراآتي فيها، ومجموعة كتاباتي عنها، والإعداد، وجمع المعلومات لأجلها، كل ذلك يجعلها كالتخصص الدقيق، فشكرا وحمدا لله رب العالمين. وإذا كان موضوع التخصص- رغم أهميته- طريقا وعاملا للكتابة والبحث والدراسة، لكنه- وبالنسبة للتاريخ الإسلامي والدراسات الإسلامية ليس المقوّم الأول، الذي لولاه لما كان لهذا التخصص تلك الأهمية، أو المستوى، أو نوع النّتاج. * المقوّم الأول المهم: وأعني بالمقوم الأول- لكل دراسة، لا سيما في فروع الدراسات الإسلامية، وأخصّ التاريخ الإسلامي، وبالذات السيرة النبوية الشريفة- حسن التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، والارتباط به عقيدة وعبادة، وشريعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وسلوكا، يكون مستمدا على الدوام، من هذا النهر الفياض، الذي يملأ الحياة بكل جوانبها خيرا وبركة، فيوفر ذلك صحّة في القصد، وصفاء في الفهم، ودقة في التصور، وجودة في الاستكناه والاستجلاء، وبغير ذلك فالدراسة هزيلة بخيلة نحيلة، وشاحبة ناحبة، وأمرها يغيض ولا يفيض، ينحدر نضوبها، ويتبعثر هروبا، ثم تذهب أدراج العواصف هشيما تذروه الرياح. وإذا كانت بداية الاهتمام بالسيرة هواية- وما زالت- محببة إلى النفس، وسلوى وقوة لها وأنسا، وغذاء وإطرابا لأركانها، وندى وظلالا تستظل أفياءها، فإنها قد تعمّقت بمرور السّنين وتوالي تدريسها، حتى أصبحت تخصّصا آخر، بعد أن جرى الاستمرار في هذا الاهتمام، وتدريسها في الجامعات لأكثر من بلد، ولما يزيد على خمسة عشر عاما، أكثرها ذات فصلين. ثم فوق ذلك، إن لكل أمر دوافع، ودوافع هذه الدراسة تنبع من عقيدتنا الإسلامية، فان معرفة السيرة الشريفة تاريخا وتفسيرا والتزاما، والسنة المطهرة حديثا وفعلا وتقريرا، مهمة أساسية؛ إذ أنها ترتبط بعقيدة المسلم، وهي جزء من إسلامه. وعلى هذا النسق يجب أن تكون دراستها. * اتساع السيرة النبوية والاقتداء بها: فدراسة السيرة النبوية الشريفة- والتاريخ الإسلامي عموما- بالنسبة لكل مسلم، مهمة أساسية، وإذا كان ذلك مهما لغير المتخصصين والباحثين في أية صيغة وهدف- دراسة وقراءة وحديثا وتدريسا وكتابة عن السيرة الشريفة، فلا بد من العيش في موكبها والسعي لمثلها، فهي لأهل التخصص وأمثالهم أهمّ وألزم وأوجب وأرغب، متابعة وتجلية وحثا وتأليفا، بصيغة تتناسب- قوة ودقة- وموقعها ذاك. وإني كلما سرت، وتقدمت في المتابعة، وتعمقت فيها، فرحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 بالجديد، كما اكتشفت جهلي بالكثير والكثير منها ومن جوانبها، وازددت علما ومعرفة وفقها وإقبالا وتعمقا. والذي يتولى القراءة والدراسة لها- فضلا عن التأليف فيها- لا بد أن يقوم بكل ذلك، اقتداء واهتداء، وتقرّبا إلى الله، تمثّلا والتزاما وسلوكا، وارتقاء بإنسانيته، وإعلاء لتقواه. فالسيرة النبوية الشريفة وصاحبها صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والقدوة الكريمة، واتّباعها ملزم للمسلم لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21] . وهذا كله يقوم على المحبة المتشوقة المتعطشة، إلى حدّ كان بعض الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين- يتحرّون اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم في المندوبات والنوافل والأمور الاعتيادية، تقرّبا الى الله سبحانه وتعالى، وحبّا بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31] . بل إن عبد الله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما- الصحابي الجليل (74 هـ 693 م) » ، كان يتحرى أن يتمثّل أسلوب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأحواله ومشيته، ويترسّم مواطئ أقدامه، في طرقات المدينة وخارجها وغيرها، بل لعله يدفع ناقته لتنطلق في طريق سلكته القصواء، ناقة   (1) عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) ، انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر، 3/ 950 (رقم 1612) . أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، 3/ 340 (رقم 3080) . الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر، 2/ 347 (رقم 4834) . سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، 3/ 203 (رقم 45) . شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد الحنبلي، 1/ 310. الوافي بالوفيات، الصفدي، 17/ 362 (رقم 297) . الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، 4/ 142. أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر، علي وناجي الطنطاويين، 431 وبعدها. عبد الله بن عمر (الصحابي المؤتسي برسول الله صلى الله عليه وسلم) ، سلسلة أعلام المسلمين رقم (6) ، محيي الدين مستو (129- 133) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 رسول الله صلى الله عليه وسلم آملا أن (لعل خفّا يقع على خف) «1» . وكان يقول: (بعث الله نبيّه ونحن أجفى الناس، فنصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم) «2» . وكم حبّب إليّ أخوة كرام- لا سيما من طلبة درّستهم السيرة النبوية الشريفة- أن أكتب السيرة بنفس الطريقة التي أدرّسهم بها، يوم كانوا طلابا يحضرون ويجلسون في قاعات ومدرجات الجامعة، للاستماع الى فصول من السيرة الشريفة. وها أنذا أبدأ اليوم «3» (وقد بدأت ذلك بشكل محدود نحو سنة 1981 م) ، مسرورا ومتشرفا ومتشوقا ومتبرعا ومهتديا ومقتديا، إن شاء الله تعالى. * السيرة مرآة ومهماز: والحق أن (أو كأن) الله تعالى، أراد لهذه السيرة الشريفة أن تكون نموذجا، ولأن هذا الدين اكتمل تطبيقا، بكل شمول وكمال وجمال، لكافة الأعمار والمراحل والأشخاص، نساء ورجالا وأطفالا، فردا وجماعة، ومجتمعا ودولة، صغرت أو كبرت، في السلم والحرب. والجميع أصبح مجتمعا، فيه من غير المسلمين، أو هو خاصّ للمسلمين، تعاملوا مع غير المسلمين داخل المجتمع المسلم وخارجه، ودعوهم ملوكا وشعوبا وزعماء، كل ألوان التعامل في حالاتهم جميعا، في الاضطهاد، ومخلصين   (1) حياة الصحابة، محمد يوسف الكاندهلوي (2/ 374- 375) . أخبار عمر، (438) . عبد الله بن عمر (130) . (2) حياة الصحابة (2/ 375) . (3) تشير هذه البداية إلى ما بعد سنة (1981 م) ، حيث كتب أصل هذا البحث، الذي نشر في مجلة منار الإسلام (التي تصدرها شهريا وزارة الأوقاف في أبو ظبي) ، العدد الرابع، السنة السابعة، ربيع الثاني 1402 (فبراير 1982) . وهنا الآن فقد نقح وحسن وزيد متضاعفا مرات عن مقداره ذاك، حتى لكأنه بحث جديد، ومثل هذا شمل المباحث الآخرى المماثلة في بقية هذا الكتاب، وبعضها قد زيد إلى بضع عشرة مرة من أصل البحث، مثل المبحث الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أو مخادعين، جادين أو لاهين لاعبين. وبذلك فالمسلمون يجدون في السيرة الشريفة، في كل الظروف ما يرتوون منه وينظرون فيه، علاجا وغذاء وارتقاء؛ لأنها صورة هذا الدين، ووحي الله المنزّل على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم قرآنا عمليا في واقع الحياة، وتلك إرادة الله وحكمته. إن السيرة الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- مستودع مترع، متكامل شامل. فهي مليئة بكل هذا، كأن الله تعالى أراد- بعد أن كانت للإسلام صورة طبق الأصل في كل حال- أن تكون قدوة في كل شيء للناس، في كل جيل وحال، لتكون معالم عامة وعلاجا ومثالا وأسوة لكل أحد، وهي في الحق كذلك. فهي مستودع غنيّ بكل ذلك، بما مرّ به ويمرّ. لقد هيأ الله تعالى لهذا الدّين- في كل العصور وفي عصرنا- من خدمه بكل سبيل، وخدم أحداثه وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها ودقائقها وجوانبها. والحمد لله تعالى أن اعتنت الدراسات الحديثة، ورعت، وخدمت السيرة النبوية الشريفة والسنة المطهرة، سواء بتحقيق ونشر مؤلفات السلف الأمهات عنها، أو بالتأليف الكثير المتنوع فيها، وجيّده غير قليل. * مصادر دراسة السيرة: وكتب السنة المطهرة- وأولها الحديث الشريف- مصدر ثرّ أصيل، بعد القرآن الكريم. وإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع شامل للتأليف والكتابة، للدعوة والقدوة: «فإني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد» «1» . فالقرآن الكريم ملئ بأحداث السيرة وأحوالها وأخبارها، وهو الحقّ   (1) مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميد الله، (362) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 المبين، والصدق الأصيل المتين، أصدق وأوثق وأحق كتاب على الأرض وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41- 42] . ثم كتب السنة المطهرة والسيرة الشريفة، وبعدها المؤلفات الأمهات، والأصول الموثوقات، وهي كثيرة شاملة، توفر فيها الحفظ والصدق والرواية والدراية والرعاية والدراسة، وهي خاضعة للموازين الدقيقة في التمحيص، متنا وسندا. والتاريخ الإسلامي- ابتداء من السيرة الشريفة، التي تلاحمت مع الحديث الشريف وعموم السنة المطهرة- نشأ ونشأت في أحضان السنة وعلومها، ذات الشروط الدقيقة، والتي قامت لخدمتها عدة علوم وثيقة «1» . ولفهم هذه الحقيقة الكبرى يمكن- بسهولة- أن تراجع أمهات الكتب الموثقة في التاريخ الإسلامي.   (1) ويمكن فهم بعض جوانب هذه الحقيقة الكبرى من المقارنة بين أمهات كتب التاريخ الإسلامي لمؤرخينا الثّقات- بعد معرفة طريقتهم، وأسلوب تدوينهم، واحتمالهم عبء الرواية في جهودهم- وبين المؤلفات التاريخية لآية أمة أخرى في أي عصر من العصور وحضارة من الحضارات حتى العصر الحاضر، سواء في سرد تاريخهم، أو الكتابة عن تواريخ الأمم الآخرى، لا سيما الإسلامية. وانظر ما يفعله كثرة من المستشرقين في الدسّ والتحريف قصدا وعمدا وعملا، مع سبق إصرار وترتيب مجهد، بل من أجل ذلك اهتموا بالدراسات الإسلامية وألفوا فيها، خاصة أساتذة الجامعات وزعماء ورعاة الكنيسة فيهم، وكثرة من الأساتذة هم كنسيون. والفرق بين مؤرخينا وهؤلاء يكاد يتعانق والفرق بين سيرتهما وتدينهما وعقيدة كل منهما. وهو فرق بين أهل الحق والباطل. فالأوائل يستمدون من الإسلام، وانظر ما قالوا في تواريخ الأمم الآخرى وكيف أنصفوهم، على علم ودراسة أمينة. وبالإمكان أن يكون هذا موضوع بحث مستقل، وراجع ما قدم الآخرون من تاريخنا، رغم وضوحه وتوفر مراجعه وتساوقه مع الحقائق ومع الدلائل والفضائل. ورغم ادعائهم العلمية والموضوعية والمنهجية البحثية التي يزعمون نسبتها إليهم، فكتاباتهم أشبه بالأساطير، لا يعرفون صدقا، ولا يتحرون عدلا، ولا ينصفون حقا، بل على العكس تماما يتعمّدون الإساءة والتشويه. ولكن لا غرابة، فكل ينفق مما عنده، وما أكثر أتباعهم!. راجع: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي (27) وبعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 * صلحاء الأمة وحماتها: وإنّ الذين خدموا هذا الأمر، هم من خيار الأمة الإسلامية وصالحي أجيالها وأعلامها ورجالها ونسائها، خلقا ومكانة، وأعلاهم ذكاء، وأعرفهم صدقا، والتزاما، وتضحية، وفداء، وأكرم عند الناس حالا ومالا ونفسا، وكان هذا عندهم بمنزلة الجهاد. ومثلما كانت هذه الصفات ضرورية وأساسية للمسلم، عضوا في المجتمع والأسرة وفردا في الحياة، مشغولا بإعلائها، كان كلّ ذلك لازما بجانب مواصفات إضافية، إلى هذه الأساسية- تكون جميعا مرجوة ومطلوبة وملزمة للتأليف والكتابة. ومثلما كان الالتزام بالسلوك الإسلامي ومواصفاته خصيصة أولى أساسية لازمة لازبة، كذلك كان توفّر العلم والمعرفة العميقة الجادة الغزيرة الوفيرة قاعدة قرينة بداهة؛ ليكون كلّ على علم وأهلية للتخصّص الذي يعمل فيه، وكلاهما لا غنى عنهما بحال، إلّا أن الأولى هي الأرضية الصّلبة تقوم عليها القاعدة العلمية الأصيلة القوية المتينة. وانعدام تلك الخصيصة الأساس قد يعصف بما عداها، ويورث ضررا، ويوقع خطرا، يودي بصاحبها وبالآخرين وبالعلم نفسه. كما إن انعدامها يجعل المواصفات التالية والباقية منفردة لا قيمة لها، ولو ملك صاحبها أي مقدار، ولا يكون في العداد، على عكس اليوم. ولأمور بسيطة جرّح البعض ابن إسحاق (151 هـ 768 م) ، وهو تابعيّ ثقة صدوق، ومؤلّفه الشهير (السيرة النبوية) خير دليل «1» .   (1) انظر: الطبقات الكبرى (7/ 321) . تاريخ بغداد (1/ 139، 214) . وفيات الأعيان، ابن خلكان (4/ 276، رقم 612) . سير أعلام النبلاء، الذهبي (7/ 33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 * كتابة السيرة الشريفة: إن كتابة السيرة الشريفة- على صاحبها أفضل الصلاة وأتمّ السلام- وقراءتها، ثمرة لتطبيق وأسوة لحياة. ولا يتولى كتابتها وتدريسها إلا أهل هذا اللون من الفهم والاتجاه. ولا بد من النظر إلى السيرة الشريفة في كل ذلك، باستيعاب ليس عقليا فحسب، بل كيانيا متلاحما، يهيمن ويستبطن ويجنّد كافة الجوانب والطاقات، ويستأهلها ويؤهّلها في الإنسان، للتلقي الفاضل؛ لأن الإسلام خاطبها، واهتم بكافة الجوانب في هذا الإنسان، وتناولها، واعتمدها.   وله: تذكرة الحفاظ (1/ 172) . وله: العبر (1/ 216) . شذرات الذهب، ابن العماد (2/ 235) . الوافي بالوفيات (2/ 188) . الأعلام (6/ 28) . ولقد أثنى العديد على ابن إسحاق. وقد وصف بأنه بحر في معرفته بالسيرة النبوية الشريفة- على الرسول الصلاة والسلام- وإنه أمير المؤمنين في الحديث، ووثقه العديد من العلماء، وإن لم يعتبره بعضهم حجة في الحديث الشريف. ويقول الذهبي (تاريخ الإسلام، حوادث وفيات 141- 160، ص 591) : (الذي استقر عليه الأمر أن ابن إسحاق صالح الحديث وأنه في المغازي أقوى منه في الأحكام) . أي: إنه مؤرخ ومحدّث وليس فقيها، مع علمه بالحديث، وتحريه له، واستفادته منه، واقتفائه رواياته، واعتماده عليه، فهو محدّث ومؤرخ، استفاد من كل ذلك في كتابته سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقول الحافظ ابن كثير (774 هـ) في البداية والنهاية (10/ 109) : (صاحب السيرة النبوية التي جمعها وجعلها علما يهتدى به وفخرا يستجلى به، والناس كلهم عيال عليه في ذلك كما قال الشافعي وغيره من الأئمة) . ويقول ابن خلكان (681 هـ) في وفيات الأعيان، 4/ 276: (وكان محمد المذكور ثبتا في الحديث عند أكثر العلماء، وأما في المغازي والسير فلا تجهل إمامته فيها) . وقال ابن العماد الحنبلي (1089 هـ) صاحب شذرات الذهب (2/ 235) ، بأنه: (كان بحرا من بحور العلم، ذكيا، حافظا، طلّابة للعلم، أخباريا، نسابة، علامة ... لا تجهل أمانته (إمامته) ووثقه الأكثرون في الحديث) . ولقد روى له أكثر أهل الصحاح. انظر مقدمة السيرة النبوية الشريفة لابن هشام. والسيرة النبوية، أبو شهبة (1/ 30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فلا بدّ من توفر التلقي، بكل هذه الوسائل التي تعهّدتها السيرة، ليصفو العطاء زلالا، بالتلازم والاستواء والوفاء. فالسيرة الشريفة بفصولها، هي قصة الهداية الإنسانية والإنسان المثال، قصة الإنسان في هذه الأرض وقصة حضارته، قصة السعادة في الدارين، وقصة الموكب السّائر نحو الله بمنهجه سبحانه وتعالى، عبر القرون والأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وكذلك قصة ما يحفّ ذلك كله من طبيعة وحقيقة ووسائل الصراع بين الحق والباطل، حتى يبقى الأخير أسيرا ومنهزما حسيرا، مثلما هي كذلك تحمل كيفية الإيصال والإبلاغ للحق، والإقامة والإدامة والبناء خلال الأجيال. فيبقى الإنسان سيدا في الدنيا وسيدا في الآخرة، حين يتأهّل بمنهج الله تعالى، استحقاقا للخلافة في أرض الله تعالى، بل وكذلك حتى يلقاه سبحانه وتعالى. فالإسلام وحده- من خلال السيرة الشريفة والاقتداء بها- رفع الإنسان، وأهّله لكلّ ذلك. وعندها وبه- لا بغيره- يستطيع أن يا بني الحضارة الفاضلة والإنسانية الكريمة. والإسلام يفعل كلّ ذلك وأمثاله وغيره دوما، وقد فعل. رفع الإسلام قدر الإنسان، وحقّق إنسانيته، بعد أن طهّر نفسه من الأرجاس، وابتناها على الإيمان المستنير بالله وحده لا شريك له، سبحانه وتعالى. فحرّرها من كل ألوان العبوديات والوثنيات والجاهليات، في العقيدة والعبادة والنوايا والأقوال والأفعال، وفي أمور الحياة كافة، وخلوص ذلك كله لله تعالى وحده جلت قدرته، وأعلى مكانتها بذلك، فتحقّقت إنسانيتها المؤمنة المطمئنّة، الراضية بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا. وبه استحق الخلافة في أرض الله، يرعاها بدين الله القويم، وينيرها بمنهجه، ويسير به مضيئا، ويتحرك مشرقا، ويحمل راياته، داعيا له بلسانه، متحركا به بسلوكه. يرى ويعلم أنّ تلك مهمته، إنقاذ البشرية وهدايتها. وهكذا كان المسلمون، لا سيما الصحابة الكرام ومن بعدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ولعله قد مرت بك أقوال وموقف ربعي بن عامر الصحابي الجليل (أو التابعي) «1» ، التي كانت وخاطب بها رستم قائد الفرس في مقابلته له قبل معركة القادسية (15 هـ) حين سأله عما جاء بهم، فقال ربعي: (الله ابتعثنا لنخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله، قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي) «2» . * العيش في جو السيرة عمقا وتعلّقا: ولكل ذلك متطلبات ومواصفات. وإن أيّة دراسة لا تقرأ القرآن الكريم سواء ما يتعلق بالسيرة وغيرها- وما يخص السيرة والدعوة، ولا تعيشها وتعايشها وتحملها، في النفس والفكر والسلوك والحياة، وتتفاعل معها، لا تستطيع أن تتقدم وتتقوم بصورة حسنة. ولا بد من أجل ذلك من تذوّقها وفهمها؛ لأنها ليست مسألة عقلية فحسب، بل تتولى الكيان الإنساني بكافته، منيرة الإيمان. فالمؤرخ المسلم، التقي الورع المتعلم الفقه المتفتح اللّقن الفهم، المزود بكل ذلك، وبالمؤهلات العلمية اللازمة، والإمكانيات البحثية المطلوبة، أقدر وأعمق وأدق وأصدق وأحق، على تناول السيرة النبوية   (1) الإصابة (1/ 503) ، رقم (2572) . (2) البداية والنهاية، ابن كثير (7/ 39) . الكامل في التاريخ، ابن الأثير (2/ 320) . القادسية، أحمد عادل كمال (106) . انظر كذلك: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (127) . حياة الصحابة (1/ 220، 3/ 690) . (حيث أورد تفصيلات وأمثلة أخرى) . قارن: حياة الصحابة (1/ 45) وبعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الشريفة، وعموم التاريخ الإسلامي، بل وآمن وأضمن وأطمن على كتابة تواريخ الأمم الآخرى وأي تاريخ آخر، بل وعلى أية معرفة وتعامل واشتغال في حقل علمي ودراسي، وغيره من حقول الحياة الإنسانية وحضارتها وجوانبها. وهذا ماض وكامن في كلّ دراسة وتدريس، كما هو محفوظ ومعروف وموروث في كل بحث وتأليف وتحقيق، في نتاج علمائنا، ومهما تفاوتوا فيه فهم على هذا الطريق، نشأة وتربية وأداء وخدمة وكتابة وسعيا ووعيا متعمقا. وهاتان الصفتان لازمتان متلازمتان لهذا المؤرخ، وهذا اللون من الدراسات والكتابات التاريخية وغيرها، ولا سيما السيرة النبوية الشريفة. فالأولى منهما: الصفات والمواصفات النوعية، أي: التقوى والورع والفقه والولاء والالتزام بالإسلام والوفاء بكل مستلزماته، وأداء كافة مقتضياته، إيمانا بعقيدته، وقياما بعباداته، وولاء لشريعته، وأخذا بخلقياته- قولا وعملا- وأداء لنصرته، وحضورا لخدمته، مضامين وميادين. والثانية: القيام بحق العلم وحيازة مؤهلاته وإمكانياته، والتمكن في معانيه، والأخذ بأسبابه ووسائله. فهذه المواصفات: النوعية والعلمية، كل منها أساسيّ وضروريّ، سواء بسواء. فالمؤهّل النوعي والعلمي كلاهما كان وراء هذا النّتاج الجمّ الكريم الجليل والعمل النوعي والعلمي الباهر المتسع في التأليف التاريخي وغيره، ابتداء من السّنّة المطهرة والسيرة الشريفة، وكافة الميادين الآخرى. ولا بدّ أن تكون هناك مواصفات مطلوبة، لكل عمل خيّر منير، معتبرة ومعترفة، للقيام بهذا العمل العلمي الجدير، شبيهة بالصفات المطلوبة فيمن يدوّن السّنّة النبوية المطهرة- ومنها الحديث الشريف- أو يؤخذ عنه. وهكذا علت الثقة بعلمائنا الأفاضل وسلفنا الصالح من قبل كلّ أحد، وبأعمالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الإنسانية، لا سيما السيرة النبوية الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- وعموم التاريخ الإسلامي. وإن هؤلاء لم يعتكفوا على الكتابة بل- بجانب التأليف والتدريس- خاضوا الحياة، وحملوا إليها معانيها علما وعملا. وكنت تجدهم في المقدمة وقت الشدائد، وفي القيادة في المعامع، وفي ساحات الجهاد كانوا يحثون الناس، وهم أول الشهداء في الميادين. وإن الأمر الأساسي الوجيه في ذلك، قراءتها بهذا الشكل، وصياغتها، وتقديمها من خلال رؤيتها في النفس، تشقّق وتفتّق ينابيع الإيمان. وكم من غير المسلمين وباطلاعهم على ذلك تأثروا فأسلموا! والذين يعيشون في أجواء السيرة الشريفة، فقها وسلوكا، هم أقدر الناس على تصوّرها والتعبير عنها، وأصبر وأخلص على تقصّي أخبارها، وفهم دقائقها، وتتبع نصوصها، واستخلاص عبرها، والعيش بمعانيها، وحبّهم في التجول بين بساتينها ورياضها. وهم أفضل منهجية وإدراكا وربطا وتقويما، وأعمق رؤية، والأمر في ذلك مطّرد. ومن هنا فالذين عبّروا خير تعبير: هم الذين عاشوا في ظلالها، ونشهد كل هذا، مشمولا به كل المعاني الإسلامية؛ ولذلك نجد هذا الأمر شائعا عند السلف والخلف، قدماء ومحدثين، وحتى يوم الدّين. ولقد فتح الله عليهم جميعا بفهم كريم؛ لذا- وكمثال سالف للعصر- كان ما كتبه علماء الأمة وشهداء الجهاد، أمثال: أبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي الأندلسي (634 هـ 1237 م) الذي كان من كبار أئمة الحديث الشريف والسيرة النبوية، وله كتاب (الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء) ، وغيره من شهداء العصور وشهوده عميقا، سواء ما يتعلّق بالتفسير، أو السيرة النبوية الشريفة، قويا ومعبرا، وهو قائم على تلك المواصفات، من الفهم العميق، والحفظ الدقيق، والعيش السليم، وأخذ النفس بمنهاج الله تعالى الكريم، والتضحية من أجل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وافتدائه. ومن هنا نلحظ هذا الأمر لدى السّلف الصّالح واضحا. * كتابة السيرة بين الفقه والتاريخ: ولدينا في السيرة، والتاريخ الإسلامي عموما، كتب كثيرة، يكاد كلّ مؤلفيها- وهم من السلف- أن يكونوا على علم بالإسلام جيد وممتاز، كذلك التزامهم به، ومنهم من كانوا في الأصل هم فقهاء، وكتبوا في التاريخ. وان كان المؤرخون هم من أهل الفقه في الدّين، وكان من هؤلاء الفقهاء. وهم مثل كثير غيرهم في معرفة الخير وتحرّيه، إلا أنهم أكثر علما، وأشد تماسكا والتزاما، أجدر من كتب السيرة، وأجدى علما وعملا. فهم أفضل من كتب التاريخ الإسلامي، لا سيما السيرة النبوية الشريفة لالتزامهم الدائم بالإسلام، وتوطين أنفسهم على معانيها، وإدراك مراميها، والعيش في أجوائها، شدة ورخاء، منشطا ومكرها. وهذا الإيمان والالتزام يفتّق المضامين، وينبّع المعاني، وينبّه إلى المكامن، وينبّت المفاهيم، ويفتّح المغاليق، ويعمّق الوعي، ويوضّح التصورات، ويشدّ الالتزام، نحو السيرة وبلاغها وتوضيحها وتسديدها وفقهها، تعمقا وتفهما وعملا، دواما وتماما. وكثير من كتبة التاريخ الإسلامي اليوم لا يفقهون الإسلام، إن لم يكونوا يعادونه، ويعرفون عنه تلفيقات مزوّرة، يردّدونها بعد أن تلقوها، وصورا شائهة شائنة التقطوها احتطابا، واعتبروها هي حقائقه، أضعفت ولاءهم وأركست مفاهيمهم، وطمست ضياءه عندهم، وغيّبت بهجته وحجبت بهاءه أمامهم وأودت بمناراته وفتوحاته لديهم. فهم من الناحية العلمية البحتة لا يصلحون لذلك، فضلا عما يمكن أن يتصفوا به من التّحيّز، وعدم الأمانة، وامتلاكهم واحتوائهم الرطانة اللغوية والخلقية والعلمية. ولكن- لا سيما بالنسبة للسيرة- فقد توفرت- والحمد لله- مجموعة من المؤلفات الحديثة، أغنت الكثير من جوانبها، وتوفرت لها من المصادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الأمهات في السيرة الشريفة نفسها، فضلا عن كتب السنة، وأولها الحديث الشريف، ما أغنى مادتها. وذلك فضل من الله ندعوه أن يأخذ مداه إلى تنوير الكتابة في بقية مراحل التاريخ الإسلامي وقضاياه، الذي غدا اليوم ضرورة ملحّة أشدّ الإلحاح. * دراسة وكتابة السيرة الشريفة وآفاقها: ولا بدّ من خدمة التاريخ الإسلامي عموما، والسيرة النبوية خصوصا، بشكل مجوّد، محبّب رصين كريم، والانتفاع بكل ما كتب ويكتب فيها من الجيد الأمين الأصيل، ولمختلف المراحل والجوانب والأحجام والتفاصيل، وبأسلوب يقود إلى تثبيت المعاني الفاضلة وتحبيبها وتقريبها، والاجتذاب؛ لترتقي بها إلى آفاقها الرحيبة الوسيعة المضيئة الطاهرة الباهرة النادرة، حتى تستنير، وترتفع، وتستقيم على الطريق. فمن المهمّ جدا فهم السيرة، وتدبّرها، والكتابة عنها، وتوعية الناس بها، ليس في المناسبات فحسب، بل على الدوام، وذلك جزء من مقتضيات الإسلام، ولا سيما في هذا العصر. ومن المهمّات التي تجتهد هذه الدراسة أخذ نفسها بها- وهي تحيا بها بفضل الله- ألا تنوي شرح السيرة الشريفة- منهجية دراستها وعرض أحداثها- أفكارا ونظرات مجردة، بعيدة عن حركتها وتفاعلها وصيغها وصورها ومواكبها العلمية العالية، فهي تقدّمها نابعة من سيرها ومعتركها ومواقعها، حيّة متلاحمة لصياغة الحياة الجديدة، تبنيها وتحميها، آخذة بتفاصيلها هي نفسها في عرض الأمور، وسوق الصيغة المناسبة من رؤيتها، معاني حية في الحياة، وتسجيل حركتها بهذا الدين وحمله في قلبها ونفسها تعض عليه بنواجذها، سائرة في موكب النور وطريق البناء- بكتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسيرته- يقود موكبه المنير، أسوة حسنة، وقدوة كريمة. وهذه الدراسة تنظر وترقب تلك المواكب وهي تشيد وتبني وسط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 المعترك العاصف، وتقارع كلّ عنيد بليد أو مديد، تعطي وتبذل وتجاهد وتضحي، قوية بهذا الدّين، أبية في كنف الله، أمينة على دعوته، جادّة في خدمة وتثبيت معالمه وأعلامه؛ لتصيغ وتصبغ حركة الحياة البشرية به، وتقود تيارها، وتعلي إنسانيتها- التي كرّمها الله- بمضامينه. تفي بذلك وتلتزم من أول يوم أعلنت عن نفسها، بإبلاغ التوحيد في العقيدة، وإفراد الله سبحانه بالربوبية والألوهية والحاكمية، بقيادة هذا الدين، سارت به على مدار الأجيال. كلّ ذلك تقدّمه- هذه الدراسة- موضحة بالأمثلة والشواهد والأحداث، في كل المراحل والمناهل والمواقع والأمثال والأحوال والأهوال، تحسّه وتلمسه وتنظر أحدهم، من الصحابة الكرام- كما وصفوا- بأنه قرآن يمشي على الأرض «1» ، مقتديا برسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي «كان خلقه القرآن» «2» . ولقد غدا المسلم كله لهذا الدين، وأسلم زمامه له ذلولا، بحب وشوق وإقبال سبّاق. تمر بتلك المعاني تعبّر عنها الوقائع والتصرفات للجميع، جيلا بأكمله، نساء ورجالا، وشيوخا وأطفالا وعجزة، ويسرهم البذل، ويحزنهم ألا تكون الفرصة مهيّأة، والوقت سانحا وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ [التوبة: 92] . ويتقدمون في أشد الأمور صعوبة، في المعارك للموت في سبيل الله، يتنافسون فيه ويتسابقون إليه. وكم منهم حين   (1) مرت عليّ هذه العبارة خلال قراآتي، لكني لم أجد مكانها الآن، لكن هذا الفهم من المصادر الآخرى والمراجع التي تتحدث عن صفة الصحابة الكرام. وقبل كل ذلك ما وصفهم الله تعالى به في القرآن الكريم، ثم ما جاء من فضائلهم في صحيح البخاري وغيره. انظر مثلا: حياة الصحابة (1/ 10، 37- 40، 45 49) . (2) أخرجه مسلم (746، 1/ 513) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 يقتل في سبيل الله يقول: (الله أكبر، فزت وربّ الكعبة) «1» . وهذا الوصف والحال شمل كل ذلك الجيل الكريم الفريد. وهذا التعبير- الذي يشير إلى السرور والفرح للموت في سبيل الله- ذكر لأكثر من صحابي، في أكثر من موقع ومناسبة، منها حادثة بئر معونة (صفر 4 هـ) . وكان عدد الصحابة سبعين راكبا من القرّاء، وهم من خيار المسلمين «2» ، ذهبوا إلى أهل نجد، وذلك بعد أن قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنّة، فعرض عليه صلّى الله عليه وسلم الإسلام ودعاه إليه، فلم يسلم، ولم يبعد عن الإسلام، وقدّم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم هدية، فقال صلّى الله عليه وسلم: «فإني لا أقبل هدية مشرك» «3» . وعرض على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يرسل عددا من الصحابة لدعوة أهل نجد إلى الإسلام، فخاف صلّى الله عليه وسلم أهل نجد، لكن أبا براء تعهّد بإجارتهم وحمايتهم. فبعث صلّى الله عليه وسلم هؤلاء النفر، وجعل عليهم المنذر بن عمرو «4» (وهو من   (1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب: غزوة الرجيع وبئر معونة، رقم (3864/ 4) . كذلك: السيرة النبوية، ابن هشام (3/ 187) . السيرة النبوية، الذهبي (235- 241) . حياة الصحابة (1/ 529، 2/ 245، 3/ 548، 595- 596) . (2) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع وبئر معونة، أرقام (3860 3865) . (3) حياة الصحابة (2/ 245) وحولها أمثلة عن هذا الأمر. وهذه المسألة متكررة، ولها شواهد كثيرة، هي وأمثالها. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية (5/ 78- 79) . (4) المنذر بن عمرو الخزرجي الأنصاري: شهد بيعة العقبة الكبرى، وكان نقيب بني ساعدة هو وسعد بن عبادة، كما شهد بدرا واحدا، واستشهد يوم بئر معونة (وهي سرية القراء) . وكان عددهم سبعين، وكان في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة (أو لعله أولها) ، على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة الشريفة. وكان المنذر أمير هذه السرية. وسمّي «المعنق ليموت» ، لما روي عن رسول الله الكريم صلّى الله عليه وسلم أنه قال فيه لمّا بلغه استشهاده: «أعنق ليموت» . أسد الغابة (5/ 269) . الاستيعاب (4/ 1495) . سيرة ابن هشام (1/ 444، 449، 466، 495، 506، 696، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 النقباء الاثني عشر) . ومنهم الحارث بن الصّمّة «1» وحرام بن ملحان «2» خال أنس بن مالك- وعروة بن أسماء بن الصّلت السّلمي «3» ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي «4» وعامر بن فهيرة «5» - مولى أبي بكر الصديق- رضي الله عنه في رجال من خيار المسلمين، ونزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم. فذهب حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى   3/ 184- 185، 189) . سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي (6/ 91) وبعدها. (1) الحارث بن الصّمّة الأنصاري: وكان قد سار مع الرسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى بدر فكسر بالرّوحاء، فرده صلّى الله عليه وسلم وضرب له بسهمه وأجره، وشهد معه أحدا، وبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومئذ على الموت، واستشهد يوم بئر معونة. وفيه يقول الشاعر يوم بدر: يا ربّ إن الحارث بن الصّمّه ... أهل وفاء صادق وذمّه أقبل في مهامه ملمّه ... في ليلة ظلماء مدلهمّه يسوق بالنبي هادي الأمّه ... يلتمس الجّنة فيما ثمّه الاستيعاب (1/ 292) . أسد الغابة (1/ 398) . سيرة ابن هشام (3/ 184) . السيرة النبوية، ابن كثير (3/ 142) . سبل الهدى والرشاد (6/ 94، 98) . الوافي بالوفيات (11/ 251) (رقم 367) . وكان حين بقي وحده أخذ يقاتل القوم حتى استشهد، بعد أن قتل أربعة منهم، وما استطاعوا قتله إلا بعد أن (شرعوا له الرماح فنظموه فيها) . سبل الهدى والرشاد (6/ 94) . (2) سبل الهدى والرشاد (6/ 93، 98) . السيرة النبوية، ابن كثير (3/ 140) . أسد الغابة (1/ 473) . الوافي بالوفيات (11/ 330) (رقم 488) . (3) سيرة ابن هشام (3/ 194) . حياة الصحابة (1/ 527) . أسد الغابة (4/ 26) . (4) أسد الغابة (1/ 203، 5/ 299) . سبل الهدى (6/ 99) . (5) عامر بن فهيرة: مولى أبي بكر الصديق وأعتقه. أسلم قبل دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلم دار الأرقم، وقد أسلم وهو مملوك، وكان حسن الإسلام، وعذّب في الله، فاشتراه أبو بكر الصّدّيق وأعتقه. وكان يرعى الغنم لأبي بكر في ثور، يروح بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الغار. وكان في الهجرة رفيق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأردفه أبو بكر في الهجرة إلى المدينة. وشهد بدرا وأحدا، ثم استشهد يوم بئر معونة. الاستيعاب (2/ 796) . أسد الغابة (3/ 136) . الإصابة (2/ 256) ، رقم (4415) . سبل الهدى (6/ 93، 95، 97) . السيرة النبوية، ابن كثير (3/ 140- 141) . سيرة ابن هشام (3/ 186) . الوافي بالوفيات (16/ 580) رقم (618) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 عامر بن الطّفيل، فلم ينظر فيه، وعدا غيلة وغدرا على حرام وقتله. وهو ممن قال العبارة المذكورة، بل ونضح الدم على وجهه ورأسه «1» . وبذلك أسلم قاتله، بعد أن عرف معنى عبارته، ورأى ثباته، وشوقه الأكيد للاستشهاد في سبيل الله. وممّن قال العبارة أيضا أميرهم المنذر بن عمرو، وهو الملقّب (المعنق ليموت) وقد صار له لقبا بعد استشهاده. ولما استصرخ عامر بن الطفيل رئيس المشركين بني عامر، رفضوا الاستجابة له وفاء بالعقد والجوار، فاستصرخ قبائل بني سليم، فاستجابوا له: رعل وعصيّة وذكوان. فجرى قتال شديد استشهد فيه كل أولئك الصحابة- رضوان الله عليهم- غير اثنين، وظلّ الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم يدعو عليهم شهرا في صلاة الغداة (الفجر) . وكان هؤلاء السّبعون من الأنصار (أو أغلبهم من الأنصار، وفيهم العديد من المهاجرين) من القراء «2» . وقد أورد البخاري ومسلم خلاصة عن هذه الحادثة كما يرويها أنس بن مالك قال: جاء ناس إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلّمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم القرّاء- فيهم خالي حرام- يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلّمون. وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصّفّة والفقراء. فبعثهم النبي صلّى الله عليه وسلم، فعرضوا لهم فقتلوهم، قبل أن يبلغوا المكان. فقالوا: اللهم بلّغ عنا نبينا أنّا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا. وأتى رجل حراما   (1) البخاري: كتاب المغازي، باب: غزوة الرجيع وبئر معونة، رقم (3865) . حياة الصحابة (1/ 529) . الوافي بالوفيات (11/ 330) رقم (488) . (2) القراء: هم حفظة القرآن الكريم، يحتطبون نهارا، ويتدارسون القرآن، ويتهجّدون ليلا، ويطعمون أهل الصّفّة، ويلبّون سراعا داعي الجهاد. السيرة النبوية، أبو شهبة (2/ 239) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 - خال أنس- من خلفه، فطعنه برمح حتى أنفذه. فقال حرام: فزت وربّ الكعبة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه: «إنّ إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا: اللهم بلّغ عنا نبيّنا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا «1» » «2» . أي تكافل هذا، وأي ترابط، وأي نصرة! لا يمكن أبدا أن تكون إلا بهذا الدّين، حيث استجاب هؤلاء هذا اللون من الاستجابة القوية، فكانوا ممن شملهم قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] ، وكانوا به الجيل المثال.   (1) رواه الشيخان (البخاري ومسلم) ، متفق عليه. البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من ينكب في سبيل الله، رقم (2647) ، واللفظ لمسلم: صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، رقم (677) ، رقم حديث الباب (297/ 1، 147/ 3) . مسند الإمام أحمد (3/ 255، 270) . رياض الصالحين (506) . (2) وأما أهل الصّفّة أو أصحاب الصفة، فهم ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أضياف الإسلام، لم يأووا إلى أهل ولا مال، يبيتون في مسجده صلّى الله عليه وسلم فينزلون صفة المسجد النبوي. وهو موضع مظلّل في مؤخرة مسجده صلّى الله عليه وسلم، يسكنه غرباء وفقراء المهاجرين إلى المدينة، ممن لم يكن لهم منزل يسكنونه. وكانوا أربعمئة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل (تفسير القرطبي، 12/ 168) . يخرجون في كل غزوة. وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم يدعوهم في الليل. فيفرقهم على أصحابه، وتتعشّى طائفة منهم معه صلّى الله عليه وسلم. ومنهم الصحابي الشهير أبو هريرة (حياة الصحابة، 1/ 81، 327) . وأبو ذر الغفاري (حياة الصحابة، 2/ 197) . وكان صلّى الله عليه وسلم يشرف على إطعامهم ورعايتهم بنفسه، وإذا حضر طعام يطعمهم ويسقيهم، وهو آخرهم (حياة الصحابة، 1/ 315، 2/ 196، 3/ 180) ، حتى استقامت أحوالهم، وذهب عنهم فقرهم بفضل هذا الدّين العظيم وسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم التي أقامت ذلك المجتمع الفاضل، وربّت ذلك الجيل الفريد، وقدمت تلك الصور الإنسانية الفاضلة. وقد يكون بلغ عددهم في وقت أربعمئة. وأخرج البخاري أن أبا هريرة قال: رأيت سبعين من أصحاب الصّفّة، ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء. قد ربطوا في أعناقهم. فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. البخاري: كتاب أبواب المساجد، باب: نوم الرجال في المسجد، رقم (431) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ولا بدّ لمن يريد أن يقيم مجتمع الإسلام أن يرتقي إلى هذا المستوى بالعمل قبل الكلام، وعلى هذا سارت أجيال الأمة في عصورها فارتقت، وكانت مثالا. ومن عون الله تعالى ونصره للمؤمنين أن أهلك أعداء الإسلام؛ الذين يظنون أنهم قادرون عليه، فأذهبهم، ونصر عبده وأعزّ جنده «1» . * دوام حفظ الله سبحانه لأهل دعوته ونوعيتهم: وهكذا صرف الله عدوّ دينه ونبيّه والمسلمين، فأنزل بهم عقوبة يستحقونها. فانظر روعة هذا الدين ونصرة الله لأهله المخلصين، ونصرتهم له ولبعضهم، وحبهم لذلك كله، واسترخاص النفس من أجله «2» .   (1) وأما ما كان من أمر عامر بن الطفيل أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك، وقال له: ما تجعل لي إن أسلمت؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم» قال عامر: أتجعل لي الأمر- إن أسلمت- من بعدك؟ فرفض صلّى الله عليه وسلم ذلك (حياة الصحابة 3/ 548) . وقدّم عامر ثلاثة أشياء عرضها على الرسول صلّى الله عليه وسلم: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر (الحضر المدن) أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان (البخاري: كتاب المغازي، باب: غزوة الرجيع، رقم 3860 وبعده) . فلما خرج من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم تهدده فردّ صلّى الله عليه وسلم عليه بقوله: «يمنعك الله» . وذهبت كلّ محاولاته هباء، مع رفيق له كان معه هو أربد بن قيس، كانا يريدان الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان قتله. عامر يشاغل الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم. فقال عامر للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم: يا محمد خالّني (كلمني منفردا) ، قال صلّى الله عليه وسلم: «لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له» . وجعل عامر يكرّر طلبه والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم يجيبه نفس الجواب. ثم حماه الله سبحانه وتعالى منهما، وصرفهما عنه. ودعا عليهما الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم، فقتل الاثنان، هلكا في الطريق. أربد بصاعقة. أما عامر فأصابته آلام فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: غدة كغدة الجمل في بيت سلولية. ثم ركب فرسه، ومات عليها راجعا. انظر تفاصيل ذلك: سيرة ابن هشام، (3/ 568) . زاد المعاد (3/ 603- 605) . سبل الهدى (6/ 550- 553) . (2) راجع: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي (56) . حيث تجد أمثلة أخرى كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ثم لاحظ حبّهم لبعض، وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض هدية المشرك وكيف رفض حلفا مع من يريد أن يسلم لمصلحة، معتمدا- في ذلك كلّه- على الله تعالى، رافضا كل تهديد، ومتأكّدا من نصر الله لأهل دعوته الذين يخلصون له، متوجّهين إليه وحده، ولا يخافون لومة لائم. أليس في ذلك عبرة ودرس وتذكرة؟ وكم من أطفال الصحابة- دون الخامسة عشرة- تقدّم للمعارك، ولما ردّهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم- لصغر سنّهم- بكوا، يريدون الموت في سبيل الله «1» . وقل مثل ذلك في النساء والشيوخ «2» . وهكذا كان كلّ الجيل المثالي الفريد، جيل الصحابة الكريم الذين رباهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده، ونشّأهم على مائدة القرآن، بالوحي الرباني، قرآنا وسنّة وسيرة، فكانوا الجيل القدوة حتى لا يكون الأمر متمثّلا في أفراد متناثرين، هنا وهناك. فهم جيل كلهم كذلك، وليس فيهم غيرهم «3» . ففي صلح الحديبية (السنة السادسة للهجرة) بايع جميع الصحابة- وعددهم ألف وخمسمئة- رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الموت وعلى ألا يفرّوا «4» ، مع أنّهم لم يأتوا مستعدّين للحرب، لا نفسيا ولا حربيا. * أسلوب هذه الدراسة: وبمثل هذا الأسلوب في العرض والدراسة- من شرح مقترن بالأمثلة الحية- تمرّ أمامك أحداث السيرة الشريفة بقوتها وحقيقتها ووضوحها، حتى لكأنك تراها ماثلة أمامك، رأي عين مثولا، تقرأ معانيها، سلوكا واضحا   (1) السيرة النبوية، ابن هشام (3/ 66) . (2) السيرة النبوية، ابن هشام (3/ 90، 97- 99) . (3) راجع: التاريخ الأندلسي (121- 122) . (4) البخاري: كتاب الجهاد، باب البيعة في الحرب ألا يفروا وقال بعضهم على الموت، رقم (2798، 2800) . وكتاب المغازي، باب: غزوة الحديبية، رقم (3936) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وقوة شماء، في سيرة مباركة تقوم على الإيمان بالإسلام، عقيدة وعبادة وشريعة- علما وعملا- ترقبها عن كثب وتشاهدها، إنسانا يتحرّك بهدي هذا الدين، متفاعلة مع الحياة تصبغها وتصيغها على منهجها في كل ركن وجانب وموقع. وهي تقوم بذلك طاعة لله تعالى، في الحرب والمحراب وفي المسجد والسوق والحياة مع الناس، في أسرتها ومع نفسها ومع مجتمعها، مع عدوّها وأخيها، مثلما هي كذلك مع الله سبحانه وتعالى، تطيعه وتتحرّى دينه- قرآنا وسنّة وسيرة- في المنشط والمكره والعسر واليسر، في السرّ والعلانية «1» . وبه قامت وعليه تربّت في معترك الحياة، تؤمن به، وتتشرف بنوره، وتأخذ بتعاليمه في كلّ حين. وتلك هي دوافع هذه الدراسة، ومقوماتها، ومنهجيتها التي تتبناها وتعتمدها، فإنّ دراسة السيرة الشريفة، وعلى هذه المنهجية الحيّة المتفاعلة الداعية للأخذ بها، ضرورية لازمة، وقضية حاسمة حازمة، لا غنى عنها ولا بديل ولا تحويل. وليست دراسة السيرة كمالية، أو نافلة، أو قضية دراسية أو علمية، بل هي أساسية، مهما كان تخصّص المسلم ونوع اهتماماته. ندرسها لنقتدي بها ونهتدي، ونستظل بظلّها في التطبيق العملي الذي تتجلّى فيه نصوص القرآن الكريم والدعوة الإسلامية، مشاهد ووقائع حيّة نابضة، ومتحرّكة مؤثرة. وأهمية ذلك بمقدار الاهتمام والتفاعل مع مضامينها وما يقرّ في القلوب وبمقدار الأخذ به. وكلّ ذلك علامة على تجدّد الأمة المسلمة التي لا تموت، إن شاء الله تعالى وبنعمته سبحانه، ما دامت ملتزمة بذلك، ولا بدّ ان يقيّض الله من يأخذ بها، ويرعاها، ويحميها، بل هي دواما تماما في ولادة مستمرة.   (1) البخاري: كتاب الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار، رقم (18) . مجموعة الوثائق السياسية، (48، 50) . السيرة النبوية، الذهبي (292، 298) . إمتاع الأسماع (1/ 36) . حياة الصحابة (1/ 245) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 * أثر السيرة في المجتمع قوة ودعوة: إنّ قنوات السيرة وأشعتها مبثوثة في التاريخ الإسلامي بطوله، وحتى الوقت الحاضر- وإن تفاوتت- وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. مبثوثة في واقع الحياة، ومدوّنة محفوظة موثقة في مصادرها الأمينة. وطالما كانت السيرة مثار اهتمام وانتباه زائد مركّز، وكلما هبطت بالأمة الأثقال، رفعت عن المسلمين الآثام. وكم من مطّلع من غير المسلمين على السّيرة، قادته أحداثها وأحوالها وآفاقها، إلى الإيمان بصاحبها صلّى الله عليه وسلم نبيّا ورسولا. فانتقل إلى الإسلام، وأقبل عليه مؤمنا به، وقد رضي بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلّى الله عليه وسلم نبيا ورسولا. والسيرة ميدان للتربية على الإسلام، من خلال التاريخ؛ لأنّ الإعجاب بالشيء الكريم، والموقف المحمود، والمشهد المحبوب- فطرة أصيلة متفتحة- يقود للأخذ بذلك الشيء سريعا، خاصّة إذا كان متمثّلا بإنسان وفي نفس السّن المبكر بشكل أكثر. ولا بدّ من الإعجاب بالسيرة خلال الاطلاع عليها، فنرى الإسلام كما أنزله الله تعالى وأوحى به، متمثّلا في إنسان وأعني به: أناسي- وأول ذلك بصاحبها صلّى الله عليه وسلم وبالذين ربّاهم على يديه بهذا الدين العظيم. * السيرة وكتابة التاريخ: ولمنزلة السّيرة، نرجو أن يشتدّ ويزداد الاهتمام بها، ويتمّ افتتاح المراكز لخدمتها. وفي ظل وخدمة السيرة النبوية الشريفة، تكون كتابة التاريخ الإسلامي. وحبذا لو تقوم بذلك مؤسسة مخلصة متخصّصة. كما نرجو أن ترعاها جامعاتنا، وتتولى أداء واجبها نحوها في ذلك، بجعلها متطلبا جامعيا، حيث قد تردّد الكلام حول هذا الموضوع في أكثر من جامعة. بل لقد أبان بعضها أنها تنوي افتتاح معهد، أو مركز، أو قسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 للعناية بالسيرة النبوية الشريفة، كتابة ودراسة وتدريسا، والمرجو ألّا يكون ذلك- وأمثاله جد كثر- تخديرا وتدويرا وتحريرا، ليكون أبعد من سراب. والطاهر أنه لا يعدو ذلك- وهو ما انتهت إليه فعلا، بل قد يزيد في الواقع المشهود- حيث إنّ هذا التأميل مضى عليه ما يقارب من خمسة عشر عاما أو يزيد. * السيرة وجيل الصّحابة: ودراسة السّيرة تظهر روعة المجتمع المسلم؛ الذي تربى جديّا بكتاب الله تعالى، على يدي صاحب السّيرة الشّريفة صلّى الله عليه وسلم وعليها. وإنك لتدرك أنّ ذلك الجيل كان متميّزا متفرّدا، جديدا على كلّ أحد غيره، بل وعلى نفسه وأهله وكل من حوله، وواجد ذلك فيهم، ليس في مواقف فردية أو شخصيات معدودة فحسب، لكن تجده لكلّ منهم عمل اليوم والليلة، وتجد مجموع الأمة كذلك في جيل كامل، نساء ورجالا، شيوخا وأطفالا. ولكنّ هذا العمل الجماعي والاشتمالي للجيل، وثباته على ذلك المنهج- بعد البناء الفردي- كان ثمرة هذه التربية الفردية المستقلة المترابطة المتعادلة المتقنة المعميقة الأصيلة، بمنهج الله ودعوته وبيدي الرسول صلّى الله عليه وسلم وسنّته وسيرته. وفي ظلال سيرته المحفوظة الباقية بين أيدينا- بكلّيتها وشمولها ودقائقها- مصورة، بشكل رائع مشهود. ومن ذلك التّربّي الفردي، قام المجتمع، نتيجة لابتناء الفرد لها، والتربية المتفاعلة العميقة، وفي الممارسة الميدانية مع تعاليم القرآن الكريم، يرعاها هادي الإنسانية وحاديها رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فإنّ التربية في المعترك والميدان، تصفّي النفس والفهم والاتجاه، وتركّز قوة النفس والنية والخلوص لله تعالى، وتجعل المسلم مجاهدا في كلّ ميدان، وهو صاحب التّبعات. والمؤمنون هم بناة الحياة، يعطونها المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الوضئ الذي كرّمه الله به، وإلا فهي حيوانية تقود إلى الشّقوة في الدارين. كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً ... وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً ... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه: 99- 127] . وليس كالإيمان بالله تعالى ودينه وحب نبيه صلّى الله عليه وسلم موقظ للإنسان، وهذا ما يجب أن تسعى إليه العناية بالسيرة النبوية الشريفة، دراسة وتدريسا، قراءة وتحديثا، بحثا وتصنيفا، كتابة وتأليفا وتقديما. * هذه الدراسة والكتابة: واليوم لأول مرّة- والحمد لله سبحانه وتعالى، وهذه من نعمه الكثيرة، ومنها كذلك تدريس السيرة الشريفة- أتولّى كتابة السيرة الشريفة، وإعداد جوانب منها في كتاب مستقل. وهو شرف وفضل من الله، أرجو أن يديمه، ويتمّه، ويجعله كتابة منهجية متصلة متكاملة، بجدّ وحدّ معقول ومأمول من الاستيعاب والاستحباب والاستطياب. ومصادر الكتابة بعد ذلك كلّه، تتطلّب دراسة القرآن الكريم مع التوقف والتركيز والتعمق في مواقع متعددة منه، وكتب السّنّة المطهرة، والسيرة الشريفة، وكتب التاريخ الإسلامي بأنواعه، سواء من كتب التاريخ الإسلامي العام، وكتب التاريخ الإسلامي الخاصّ، التي تنفرد بالحديث عن السّيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 بكلّ جوانبها. وهي كثيرة متعدّدة، سواء تتناول ما يتعلّق بالأحداث والوقائع أو المغازي والسيرة أو الفضائل والشّمائل والدّلائل (المعجزات) أو الصّفات (الآداب) والخصائص أو المراسلات والعلاقات الاجتماعية والدولية سلما وحربا، وبناء المجتمع وتربية أفراده على المعاني، عقيدة وعبادة وشريعة وأخوة ومحبة وتضحية، والارتقاء به وحضارته وأمته، ونصرة الحق ومقاومة الظلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، وعلاج مشكلاته وإبعاد آفاته، وتقويم اعوجاجه والانتصار للحق، والخلوص لله تعالى والعمل على تقواه وطلب رضاه، وحمله رايات الإسلام نشرا وبرّا. مثلما كذلك الاهتمام بالأحوال المتنوعة الخاصة والعامة، في المواضيع الاجتماعية والإدارية والإنسانية والحياتية الحقة الكثيرة المتنوعة، كل ذلك مهمّ تمام الأهمية، وأكبرها تماما. أرجو الله تعالى أن يوفّق له، بكتابة ممتزجة متناسقة مستوعبة مستقصية، على خير ما يرضي الله تعالى، ويليق بسيرة هذا الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذي مدحه الله تعالى في قرآنه الكريم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . فصلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا. إن تمّ ذلك، فهو توفيق من الله أي توفيق، أدعوه تعالى أن يأخذ اليد بسهولة ويسر، ولو كان المعبر إليه مكلفا، من الجهد والوقت والسهر والنظر والصبر والاحتمال، لكنه كله يهون. وما من موضوع- بعد القرآن الكريم كتاب الله تعالى- أولى منها ذلك كله، أو أكثر منه. وجعله الله متوّجا بالأجر، مقرّبا إليه وحده سبحانه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة إليه جدير، وبأوفق صورة من ذلك خبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 المبحث الثاني السيرة النبوية الشريفة استمرار مواكب وقواعد فهم ثاقب * الحب الواضح المتجدد * الخلوص في التوجه والنقاء في التلقي * سبل التعبير عن السيرة النبوية الشريفة * السيرة النبوية مشاهد عملية ومواقف حيّة * معرفة دلائل السيرة المتفردة من خلال تفوقها ومعالمها * تحقق الإسلام بالسيرة * القدوة المثالية الواقعية * نعمة حفظ الله تعالى لكتابه وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلم * قادة الأمة والسيرة * واجبات محبّبة كريمة، وثمار مباركة طيبة * علماء الأمة هم حماتها وبناة حضارتها * جمال أمثلة صياغة الحياة، وتفرّد وعمق صبغتها * علماء الموائد * السنّة وكتابة السيرة * من يكتب السيرة؟ * إرهاصات * أدلة إيضاح وإفصاح * جيلنا والاهتمام بالسيرة * واجب العناية بالسيرة * المسلم ودراسة السيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 السيرة النبوية استمرار مواكب وقواعد فهم ثاقب عاش الصّحابة الكرام رضي الله عنهم معاني السيرة الشريفة، وبها تربوا، فكانوا يقبسونها، ويسيرون على هداها، ويلجؤون لصاحبها صلّى الله عليه وسلم. وهم يحيون معه ويلازمونه، ولا يفتؤون يأخذون منه ويقتدون به، في أمور حياتهم- صغيرها وكبيرها- الفردية والأسرية والاجتماعية والإدارية والتعبدية والنفسية والخلقية، وفي مهامهم وذوات نفوسهم، سلما وحربا، في المنشط والمكره، والعسر واليسر، غضبا ورضا، غنى وفقرا. * الحب الواضح المتجدّد: السيرة النبوية الشريفة تبيّن هذا بوضوح، بسلوك الصحابة الذي يظهر مقدار حبّهم للإسلام ولرسوله صلّى الله عليه وسلم. وكل ذلك جار، وهو عمل اليوم والليلة، سواء في استشارته صلّى الله عليه وسلم واللجوء إليه، أو في تحرّي أمور الدين. يستفتونه، ويقتدون به، ويهتدون بهديه؛ ليأخذوا بها، التزاما وحرصا ومحبّة. وكله نابع من الإسلام وشريعته، قرآنا وسنّة- وحي الله تعالى- أخلاقا وتعاليم وسلوكا، وتنظيما وتعاملا، لا ينفكون عنها، ولا يرتضون غيرها بديلا ولا عنها تحويلا. رافقوه صلّى الله عليه وسلم في كلّ أحواله، خاصها وعامها، خفيّها وجليّها، مع أسرته وخارجها، وصحبوه في سيرته، فتربّوا عليها بيديه وأمام ناظريه وبإشرافه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 في كلّ أحوالهم، يغترفون منها، نهلا وعلّا، ويستضيؤون بها ترحالا وحلّا. وكلما ألمّ بهم أمر هرعوا إليه، يستظلّون ويستفتون، في كل أمورهم، دقيقها وعظيمها، تمثّلوها ومثّلوها، بل اقتدوا به حتى في مشيته وجلسته، وكل حركاته وسكنته ونومه ويقظته، وذلك كلّه عبادة. وجعلوه أسوة وقدوة، وأحبّوه حبّا عظيما، حتى أكثر من النفس والمال والولد. وبذلك يكتمل إيمان المسلم، والله تعالى يقول في القرآن الكريم: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [التوبة: 24] . وكذلك يقول عز من قائل: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] . فلا يكتمل إيمان المسلم حتى يكون كذلك، وكما قال الرسول صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله (عزّ وجلّ) ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبه إلا لله (تعالى) ، وأن يكره أن يعود في الكفر (بعد أن أنقذه الله منه) كما يكره أن يقذف في النار» «1» ، وفي معناه أيضا: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» «2» ، وورد عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» «3» .   (1) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب: حلاوة الإيمان، رقم (16/ 1) . ومسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان خصال من اتصف بهنّ وجد حلاوة الإيمان، رقم (43/ 1) . المسند، (3/ 103، 114، 174) . جامع الأصول (1/ 237) . (2) فتح الباري (13/ 289) . الأربعون النووية، الحديث (41) . سير أعلام النبلاء (19/ 137) . (3) التفسير (5/ 2828) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ولما قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! والله لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يا عمر، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك» قال: يا رسول الله! والله لأنت أحبّ إليّ من كلّ شيء حتى من نفسي، فقال صلّى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر» «1» . * الخلوص في التوجه، والنقاء في التلقّي: والسيرة هي التي احتوت الصيغ العملية للإسلام كله، قرآنا وسنّة، وبكل قواعدهما وأسسهما وأجوائهما، شمولا للحياة، وبناء عليها. ولمّا بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن، في السنة التاسعة للهجرة، أوصاه بالأخذ بكتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والاستمداد منهما. فلقد ورد عن معاذ أنه قال: لما بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى اليمن، قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء» ؟ قال: قلت: أقضي بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله» ؟ قال: فبسنّة رسول الله، قال: «فإن لم تجد في سنّة رسول الله» ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو (لا أقصّر) . قال: فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم صدري، وقال: «الحمد الله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» «2» .   (1) مسند الإمام أحمد (4/ 236) . (2) رواه أبو داود (رقم 3592، 3593) ، كتاب الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء. والترمذي (رقم 1327، 1328) ، كتاب الأحكام، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي. جامع الأصول (10/ 177) . انظر كذلك: البخاري: كتاب المغازي، باب: بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع (رقم 4086- 4088/ 4) . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين أرسل معاذا إلى اليمن في هذه المهمة خرج يودّعه ويوصيه ومعاذ راكب ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ، قال: «يا معاذ! إنك عسى ألّا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمرّ بمسجدي هذا أو قبري» . فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد حدث هذا فعلا، (إذ لم يزل في اليمن حتى توفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فاستقى المسلمون من هذه الينابيع، عقيدة وعبادة وشريعة وتعاليم صافية نقيّة، وأسّسوا أنفسهم وفكرهم وحياتهم عليها، بحيث إنّ الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم غضب يوما، وحتى تغيّر وجهه، حين رأى شيئا من التوراة بيد عمر بن الخطاب، ففهم عمر ذلك، وقال: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلّى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، فسرّي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: «وإنه والله لو كان موسى حيّا بين أظهركم ما حلّ له إلّا أن يتبعني» «1» (من عدة أحاديث) . وفي حديث آخر: «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلّا اتّباعي» «2» وفي رواية أخرى أنّ عمر بن الخطاب قال للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: «أمتهوّكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتّباعي» «3» . ولقد عاش جيل الصحابة- رضي الله عنهم- على الإسلام، قرآنا وسنّة وسيرة، ومثّلوها في كلّ أعمالهم وأمورهم، وحافظوا عليها وحفظوها،   رسول الله صلّى الله عليه وسلم) . أسد الغابة (5/ 195) . «الجشع» : الجزع لفراق الإلف. ثم التفت فأقبل بوجهه صلّى الله عليه وسلم نحو المدينة فقال: «إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا» . المسند (5/ 235) . انظر كذلك: سير أعلام النبلاء (1/ 448) . السيرة النبوية، ابن كثير (4/ 191- 194) . الاستيعاب (3/ 1402- 1407) (رقم 2416) . وتجد في هذا المصادر معلومات وافية عن معاذ بن جبل الصحابي الجليل والعالم النبيل والمجاهد الكريم، أعلم الأمة بالحرام والحلال، والذي يكون (إمام العلماء يوم القيامة برتوة أو رتوتين، والذي كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ [النحل: 120] في تعليمه للخير والائتمام به وطاعته لله عزّ وجل، رضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا به في مستقر رحمته، تحت راية الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم، آمين. الأساس في السنة (4/ 2015) . أسد الغابة (5/ 196- 197) . (1) مسند الإمام أحمد (4/ 265) . سنن الدارمي (1/ 115) . (2) التفسير (1/ 439) . (3) مسند الإمام أحمد (3/ 387) . «التّهوّك» : التحير أو التهور، والوقوع في الشيء بلا مبالاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 بكل طريقة وبسلوكهم، معبّرين عن صدقهم، وحبهم لها ولصاحبها صلّى الله عليه وسلم. مثلما ورثوها وبثّوها وربّوا جيلهم عليها موكبا وراية، تعبيرا وهداية، عبادة ورعاية، كتابة وعناية، رواية ودراية، بناء وإعلاء، تتلقّاها الأمة جيلا بعد جيل، وهكذا. * سبل التعبير عن السيرة النبوية الشريفة: كان التعبير عن السيرة النبوية الشريفة صلّى الله عليه وسلم؛ لعهد الرسالة المباركة والصحابة الكرام والأجيال التي تلتهم، - وإلى أن يشاء الله، في وراثة هذه الأرض ومن عليها- بكل سبيل ميمون. وكذلك كان تماما الهدف منها، الحرص على تدوين أخبارها ودراستها وتحليلها، من كلّ جوانبها، بعمق وفقه وإقبال وتفتّح واحتمال، في ميادين مدرسة حياتية، يتبنّون معالمها، ويتجوّلون في مرابعها، وبأعلامها يحدون، وبعلامتها يهتدون، وفي دروبها يتواثبون. وكان حرصهم على ذلك أعلى من أي شيء يملكونه، وأغلى من حياتهم، بل هي كذلك لها فداء، فباركهم الله، وبارك أعمارهم وجهودهم وجهادهم وكافة أعمالهم. كان ذلك ثمرة لماجرياتها، وتحليلا لصفائها، وفقها لدروسها وعبرها، وتدقيقا لأخبارها، وتعميقا لمعانيها في النفوس، واستنباطا من آفاقها، بشمول وثقوب رأي. وإنما عبّروا عن معانيها بكل ذلك؛ لأن السيرة النبوية الشريفة- مع السّنّة المطهرة، بجانب كونها المصدر الثاني للتشريع، بعد القرآن الكريم- هي كذلك إيضاح وبيان للإسلام كله. ولقد عرضها القرآن الكريم بصيغة مشاهد وشواهد، في الآفاق والأعماق، موكبا سائرا في الحياة، يواكبه المسلم على الدوام ويشهده؛ ليستمده في حاله وماله، بفهم ثاقب، وفكر نيّر، وقلب مستيقظ، ونفس مطمئنّة إلى الله تعالى، ومتّجهة إليه على الدوام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فالسيرة النبوية الشريفة شرح عمليّ، وتصوير للقرآن الكريم والإسلام كله، وإمحاض حق أكيد لمضامينه النقية المليئة بالخيرات. وهكذا يتم بناء الحياة الإسلامية بكل جوانبها وقممها، يقوم عليها كل مسلم- نساء ورجالا- يشيدها حضارة ونضارة، يصونها ويحميها ويعليها. ويمتد بها آفاقا وأعماقا، تنطلق طلائعها المباركة محمولة، علما وعملا، نورت مجتمعه وربت أرضه وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل: 77] . فتحملها دعوة وسلوكا ورحمة تمضي بها إلى الآخرين، تقدّمها نقية حيّة إلى أهل الأرض أجمعين وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] . * السيرة النبوية مشاهد عملية ومواقف حيّة: والسيرة النبوية الشريفة- مقتداة في كل الأحوال والتعامل، ومع كل الظروف والقضايا والأوضاع والألوان- قيادة وجندية، حاكما ومحكوما، فردا وأسرة، مجتمعا ودولة، بكل مهامها الداخلية والخارجية والبناء الاجتماعي للحال والاستقبال. فكانت السيرة النبوية الشريفة هي الصورة والمشاهد والمقاصد والمراصد والمواقف، أقامتها تعاليم الإسلام في القرآن الكريم والسّنّة المطهرة. والسيرة النبوية الشريفة رسم للإسلام، بأحلى الألوان، وأندى الأنغام، سمتا عمليا قام على البناء الإنساني المثال، المتعدد الجوانب والشامل لمكوناته، ليثمر سيرة وسلوكا، حسبما أراده الله تعالى في قرآنه الكريم، وبينته السّنّة النبوية المطهرة. أوحى الله تعالى الى رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم بنصّه ومعناه؛ حرفا حرفا، وكلمة كلمة، وآية آية، وسورة سورة. كلها كاملة صحيحة، وحقيقة مجتمعة، وصدق وحق مبين. وثم بما أوحاه الله تعالى إليه من سنّة وتوجيه وتصويب وتسديد في السيرة، وتشريع ودعوة إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 * معرفة دلائل السيرة المتفردة من خلال تفوّقها ومعالمها: كلّ ذلك رسمت السيرة معالمه واضحة، ماثلة للإنسان النبي الرسول صلّى الله عليه وسلم ليكون قدوة تقتفى في كل جوانبها، باطنها وظاهرها، وكل أفعالها وأقوالها وأمثالها وتقريراتها ومواقعها ومواقفها، وكل أطوار الدّعوة وأحوالها، والدولة ومسؤولياتها والتزاما لها ومواجهاتها ومتطلباتها. وكان ذلك توجيها من الله تعالى ووحيا وأمرا، يجعله وسيرته صلّى الله عليه وسلم وكل حياته، أسوة حسنة، وقدوة كريمة. مثلما كان القرآن الكريم والسنّة المطهرة تعليمات وتشريعا وأوامر، أنزلها الله، وأرادها أن تكون مثالا وملجأ وصيغا عملية يتبعها الناس، ويقتدون بها، إيمانا وقربى لله سبحانه وتعالى. يقول ابن حزم الأندلسي (456 هـ) : (إنّ سيرة محمد صلّى الله عليه وسلم لمن تدبّرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حقّا، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلّى الله عليه وسلم لكفى) «1» . والسّيرة النّبوية- في ذاتها- واحدة من مجموعة أدلّة على نبوّته صلّى الله عليه وسلم. ولا يرتقي أحد إلى شيء من هذه الآفاق إلّا بالاقتداء بها، سواء من ناحية معرفتها، أو الأخذ بها، والعمل بمقتضياتها. وهو أمر لا يكون البتة للوصول الى بعض هذا المستوى، والارتقاء بالمعرفة، وتوفّر هذه الصّياغات- إلا باتّباع هذه الشّريعة التي أرسله الله سبحانه وتعالى بها. والحياة كلها- بكلّ خبراتها وأفكارها وخلقياتها، ماضيا وحاضرا ومستقبلا- على ذلك دليل من الأدلة. إنّ الاقتداء بالرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم واتّباع سيرته الشّريفة الفاضلة الكاملة، التي جعلها الله سبحانه وتعالى نموذجا عاليا كاملا وشاملا لشرعه البارّ الكريم المنير، على مدار التاريخ، وتتابع الأعوام، وتعاقب الأجيال، حتى   (1) الفصل في الملل والنحل، ابن حزم (2/ 90) . كذلك له: جوامع السيرة (6) (المقدمة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 يرث الله الأرض ومن عليها، هي وحدها سفينة النجاة وموئل الحياة وجمال الحقيقة، هداية وسيادة وسعادة، ولا بديل في كل حال ومال. وفي هذا يقول ابن حزم الأندلسي: (من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها، فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل (وليعتمد) أخلاقه وسيره ما أمكنه) «1» . والإسلام في ذاته- قرآنا وسنّة وسيرة- ملئ بالمعجزات الواضحات المتنوعات، في كل أمر وقضية وحدث، بل هو نفسه يصنع المعجزات، ويضع الإنسان في أماكن فريدة ويحقق كل جديد، لا يخطر على بال أحد بحال، بله أن يعرفه أو يحققه، وصولا إلى موقع فيه أو جلوسا لدى ملتقياته، فضلا عن تواجده عند مرتقى من مرتقياته، أو وقوفا قرب أيّة قمّة من قممه، أو اعتلاء شامخاتها. * تحقّق الإسلام بالسيرة: فالسيرة النبوية الشريفة، شرح عملي عميق في واقع الحياة، وتصوير للقرآن الكريم والإسلام كله، في ميادينها كافة، وإمحاض مخلص وأصيل وتطبيقي وحقيقي وصادق وناطق، أكيد وسديد وجديد؛ لمضامين هذا الشرع الحنيف، بقرآنه الكريم- كما أنزله الله سبحانه وتعالى وأراده- وبسنّته الصحيحة المطهرة. وكان من لطف الله تعالى أن الذي أراده الله من هذا الدّين، أسلوبا ووضوحا وثبوتا وشمولا وسعة وامتدادا، كله قد تم وقام في الحياة عمليا وقويا ومهيبا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم، كيلا يفتقد أيّ أحد القدوة والمثل   (1) الأخلاق والسير في مداواة النفوس، ابن حزم (24) . كذلك له: جوامع السيرة (6) (المقدمة) (7- 14، 40- 44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والمثال، في أي موضوع في دعوة ونبوّة ورسالة إلهية، هي خاتم النبوات، ودعوة هي أكرم الدعوات، ورسالة هي آخر الرسالات. وما دامت هي كذلك، فلا بدّ أنها تحتوي على كل ما تحتاجه البشرية لسعادة الدّارين، في كل زمان ومكان. وتجد- بالأخذ بها- برد الظّلال النّديّة، تحميها من حر الهجير، وتلف الشرود، وتيه الانحراف. وتحسّ بالأنس إلى جوارها من موحشات الحياة، وتفرح بإنسانيتها، وتنجو بها من التشتّت والتّفتّت، وتسعد بورودها، وتنعم بحضارتها الفريدة، ملتصقة بها، محافظة عليها. وتلجأ إليها دوما، وتحيا بها دون تراخ أو انفكاك، وفيها تجد الحل الجميل الكريم كلما عنّت لها مشكلات، أو واجهتها صعوبات، لا تبحث في ذلك عن غيرها، ولا في إصلاح حالها من خارجها. وكذلك تحيا بها في كل أحوالها لتأخذ في طريق الحضارة الإنسانية الفاضلة الكريمة، ترتقي بها في سلّمها الكريم، وآفاقها الرحيبة الوضيئة والروحية المتكاملة القوية. ولعلّ الأبيات الآتية تعتبر تعبيرا لهذا المعنى: يا مسلمون ألا أقبلوا ... نحو الرسول وهلّلوا فهتافه كلّ الورى ... درب الحقيقة ماثل لتحكّموا شرع الهدى ... فالأرض منه تنهل اسقوا العطاش مرامهم ... إذ هم بهذا يمتلوا ولوحده ريّ النعيم ... وبغيره لا تأملوا وإذا اكفهرّت غبرة ... واسودّ جوّ ممحل وإذا اضمحلّت خضرة ... إذ زال عنها آمل أو أقفرت من بلدة ... قد غاب عنها سائل لا تبحثوا عن غيره ... كلا، عداه قوّل وما دامت أيضا هي كذلك، فلا بدّ أن تكون من الشمول والاكتمال وعلو المثال ما يحقق كلّ ذلك بأفضل حال، في كل الأجيال، مهما بلغوا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 العلم والرقي والتقنيات، بل يكون ذلك عندها أوضح تأكيد لحاجتها إليه. وهي تجتذب دوما كلّ أحد. وفيها ما لا يملكه الإنسان ولا يعرفه ولا يصل إليه. إذ بها وحدها يستغني ويغتني ويستعلي عن كل ما عداها، ويستصغر ما سواها، معتزا فخورا مبرورا، مدركا للنعمة، ومقبلا عليها، وبه لا بغيره كانوا الأمة الخيّرة كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] . يجد كل ذلك في الكتاب مسطورا، حفظه الله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] . مثلما حفظ السّنّة والسيرة. كما يجده في الحياة منظورا بصيغته العلمية والعملية، كاملة متكاملة شاملة، يقتدي بها وينسج على منوالها، في مجتمع أقامه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم، وهو الذي (كان خلقه القرآن) «1» . جرى ذلك بوحي الله تعالى وأمره وفضله وقدرته وإرادته ورحمته، ممثّلا في ذلك الجيل المقتدي به والمهتدي بهديه. وقد قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 23] . والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم يقول: «أما بعد، فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» «2» .   (1) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل (746/ 1) . ونصّه: (فإن خلق نبي الله صلّى الله عليه وسلم كان القرآن) . ثم انظر البخاري: كتاب الأدب، باب: الكنية للصبي (رقم 5850) حيث روى أنس بن مالك قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا. ومثله في مسلم: كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود (2150/ 3) . (2) رواه البخاري (بأقل منه، وزيادة) : كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلم (رقم: 6849) . جامع الأصول (1/ 289) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ذلك الجيل الخيّر الذي كان وصفا آحادهم فيه بأنه (كان قرآنا يمشي على الأرض) . وكيف لا يكونون كذلك، وهم الذين قد استحقّوا وصف الله تعالى لهم، ومن ماثلهم من الأجيال بعدهم كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] . وهذه وحدها هي الخيرية المؤكّدة، وبمواصفاتها الملتزمة. ثم استحقّوا وصف الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم «خير أمتي (الناس) قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» «1» . وكذلك وصفه صلّى الله عليه وسلم لهم يوم الحديبية: «أنتم (اليوم) خير أهل الأرض» «2» . فالقدوة لكلّ أحد متوفرة فيه، مرسومة معالمها، واضحة الدّلالة، قوية الأصالة، مرتبطة ومعبرة أكرم تعبير، ومتّجهة أفضل اتجاه وأصفاه، ومستمدة من الشّريعة الإسلامية أقوم استمداد، ملتزمة إلى أبعد حدود الالتزام، وأعلاه. يجري ذلك، ويتمّ في إنسانية كريمة مكرمة، ربانية الوجهة مثالية الواقع عالية واعية، رسمتها السيرة النبوية الشريفة، لتتحف بها الإنسان، صورة مثلى، وسيرة عليا، ونموذجا حيّا فريدا، وقدوة متّبعة، يسير اتباعها في ركبها، علهم يقتربون من آفاقها، وابتغاء العيش في أجوائها، وهو ميسّر الأسباب بفضل الله تعالى ومنّته، لمن نوى وأراد. * القدوة المثالية الواقعية: فكانت سيرة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم رسما قويا، للنبوة الخاتمة، والرسالة الأخيرة الخيّرة الدائمة، والدين الحق اللازم، والصورة الأخيرة للإسلام؛   (1) أخرجه البخاري: كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور (رقم: 5208) . كذلك: أعلاه، 47. (2) أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب: غزوة الحديبية (رقم: 3923) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الذي أراده الله رحمة للعالمين، وحمله سيّد المرسلين صلّى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين، في تطبيق معبر، أكرم تعبير، وأفضله، وأوسعه، وأشمله، مما لا يماثله إنسان، بل الجميع لا بدّ أن يقتدي به، ليحيا في ظل شرع الله تعالى الظليل. وفي هذا الاتجاه الذي سبق، يرد وصف عائشة (رضي الله عنها) للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم في فهمها العملي، وفقهها العميق، ورؤيتها الثاقبة، والبصر الواضح، والنظر الكاشف، والبناء القويّ المكين، حين سئلت عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأجابت بأنه (كان خلقه القرآن) . كل ذلك يقوم على وحي الله تعالى- إلى نبيه الكريم صلّى الله عليه وسلم- القرآن العظيم ثم السّنّة المطهرة، يدفعه ويوسعه ويمثله ويتمثله ويشرحه ويقدمه للبشرية كلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم قياما بأمر الله تعالى. وما دامت السيرة الشريفة هي تطبيق للإسلام- قرآنا وسنّة- وأنها تتسع لكل أمور الحياة، ويجد فيها كل أحد حاجته واستقامته وسعادته، للاقتداء بها في كل حال، لذلك المجتمع المسلم، لا بدّ- وهو كذلك دوما- أن يكون معها، وبها يقوم لزاما. ومن هنا فإن الأمة المسلمة، بكلّ أجيالها وطوال عصورها وفي كافة بقاعها كانت كذلك. وكانوا لا ينفكون يلجؤون إليها، ووقت الشدائد والأزمات كل يجد فيها ضالته، كما وجد فيها استقامته ورقيه وسعادته. فهي مرآة ومحثّ وحاد للناس، يتخذونها، ويقتدون بها ويهتدون للسّير في طريق الله المنير؛ الذي أراده سبحانه وتعالى لخلقه أجمعين. وما دامت الأمة المسلمة تحيا بها، وتستظل بأفيائها، وتدعو إلى مثلها، فمن الطبيعيّ إذا ألا تفتأ تعتني بها بكل أسلوب، بجانب هذا الأمر. وليس يحدث ذلك في دراستها وفهمها فحسب، بل والنظر والاستنباط والكتابة والتأليف فيها، يستخرجون من جواهرها وأجوادها وكرائمها لآلئ جديدة فريدة؛ بأصدافها الغنية بمكنوناتها الجديدة المجيدة الوحيدة. وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 هكذا دوما تزخر بها، وتذخر، وتفخر، يشدّون بها الأمة إلى دينها، ويجدّدون أمره وأمرها، ويثيرون معانيها حية في نفوسهم. فهو صلّى الله عليه وسلم خير أسوة والقدوة المثال لكل قدوة بعده ومثال غيره، وهو معنى قول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21] . ومع وفرة التأليف لدى السّلف في السيرة النبوية الشريفة بكافة جوانبها ومضامينها ومجاليها، فقد أبقوا للخلف الكثير والكثير جدا. لتسر هذه تربية عميقة، وتروية بالغة، وقاعدة دفّاعة صلبة، وجذورا غائرة، في الجيل المثالي والمثيل، الذي تنظر إليه الأمة الإسلامية، في أجيالها التالية؛ ولذلك وصفه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم- خير القرون- بذلك الجيل المثال العال- وما يليها، تسري روحها كل أحد، بما تمثّل به من حقائق الإسلام. * نعمة حفظ الله تعالى لكتابه وسنّة رسوله: ومن لطف الله تعالى ورحمته لهذه الأمة الخيرة- بالتزامها المؤمن بدين الله، والمعتز بمنهجه وحده، خلوصا وإخلاصا- ولأهل هذه الأرض، أن حفظ الله تعالى كتابه الكريم المنزل، وقيض من يخدم ويدوّن ويحمي ويحفظ سنّة نبيه صلّى الله عليه وسلم المطهرة، ويسجل كلّ تفاصيل ودقائق وحقائق وأنفاس سيرته النبوية الشريفة صلّى الله عليه وسلم. وكلما عاشت الأمة المسلمة في كل الدائرة المنيرة، اتّسمت بالخيرية استمدتها صافية من هذا المنهج، وارتوتها زلالا من النبع الأصيل- كانت بها حقيقة ولها دقيقة وفيها متمتعة، وستبقى الأمة المسلمة تعيش كذلك، إن شاء الله، مهما تفاوت الأمر، وتردّد. وكلما انحرفت، إليها تؤول، وكلما التاث أمرها إليها تفيء، ومهما ألمّ بها، بنورها تجدّد، وعلى طريقها تردّد. وما أكثر ما حدث ويحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ذلك، وتلك سنّة الله التي لا تتغير وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62] . ولكن كلما تغيب تشرق من جديد هذه الروح، تقدّم ذلك بصفات أفراد قادة، مجهولين أو ظاهرين، أو جنودا يعومون أو ينغمرون، يدعون إلى الله فيتكوّن التيار، تتدفق منه الأنهار، صافية منسابة، تحمل الخير إلى الأرض لتغرسها فيجتنى منها أحلى الثمار، ينعم بها كلّ أحد بلا استثناء، كما جرى ويجري في التاريخ البعيد والقريب، وهو أمر واضح معروف ومشهود. * قادة الأمة والسّيرة: وأسفرت الأمة الإسلامية بقادة من كلّ لون، وأزهرت بهم الحياة، حكاما وعلماء وقادة وبناة وقضاة ودعاة، من هذا اللون يبنون في ظلال هذه المعاني. هؤلاء القادة من كل لون، هم القادة الحقيقيون. والعلماء كانوا بالقيادة أملا وعملا، وللمجتمع موئلا وللجماهير حداة ومثلا، وفي الميادين والملمّات كان أحدهم فارسا وبطلا. والعلماء والقضاة والفقهاء منائر هذه الأمة وماثرها ومفاخرها ومعالمها وحماتها. ومن النكبات أن تصاب هذه الأمة في علمائها، ولذلك فهم بالذات دوما كانوا- ويكونون- الهدف، يطلبهم الأعداء؛ لأنّهم حداة مواكب الخير في طريق الله المنير، ورعاة مراكب النجاة في ظلمات البحر الكبير، بما حافظوا كلمة الله تعالى، يبينونها للناس، ويحملونها في نفوسهم التي استرخصوها، جهادا وجلادا، لرفع راياته خفاقة لتبيّنه للناس. والأمة عرفت قدرهم، وأسلمت مقودها لزمامهم، وملّكت أزمّتها أيديهم، أطاعتهم وأعطتهم ووقفت معهم، وما أكثر الأمثلة على ذلك! امتلأت بها بطون الكتب وسجلّات أيامه الغابرات والحاضرات، وكذلك المستقبلات، إن شاء الله سبحانه وتعالى وبعونه. كان ذلك واضحا وخالصا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وحثيثا لإعلاء كلمة الإسلام في كل عصر ومكان. وفي مختلف الظروف احتملوا الأعباء، وصبروا على البلاء، وتقدّموا لا يأبهون لطغيان العملاء، رفعوا أيديهم الأمينة القوية عالية يحملون اللواء. ونتيجة لهذا الحرص على كل معاني الإسلام وتمثيله، وطاعة لله تعالى وعبادة له، كان مثله حرصهم على جمع السيرة وكتابتها، وتدقيق أخبارها، والسعي لتدوين وجمع كل ما يتعلق بها. ولا يستطيع خدمة السيرة النبوية الشريفة وإتقان هذه الخدمة وإحسان تصويرها وتسطيرها، بشكل أصيل ودقيق وعميق، إلا من كان كذلك. يفعلونه حبا لله تعالى وتقربا إليه وطاعة، وحبا لرسوله الكريم صلّى الله عليه وسلم، وبه يقتدون. وهم الذين تقدموا لكل واجب، خدمة وتضحية، ومنها الحفاظ على دين الله سبحانه وتعالى- بكل طريق- وعلى سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسيرته، بكل ما تقتضيه، ومنه النهوض لدراستها، ونقلها، والكتابة فيها. * واجبات محبّبة كريمة، وثمار مباركة طيبة: وكانت تلك هي الكتابات الجيدة المعتمدة المعتدة الموثقة الباقية، لا يعرفون غيرها، وحسب ما توفر لهم من الإمكانيات، وجعلوا من تلك الكتابات الجيدة- للسيرة الشريفة وغيرها- العامل المنير الخير، مهمة أساسية للمسلمين، لتربيتهم على معاني الإسلام، وهي القصد القصيد منها. إنّ الذين كتبوا في السيرة الشريفة، وعموم التاريخ الإسلامي، كانوا يعتبرون ذلك واجبا إسلاميا، وهو عليهم فريضة ووسيلة إبلاغ. وكانوا يبتغون الأجر والقربى بها عند الله تعالى، وهي عبادة. وكانت متنوعة الثمار، وما كان لله فهو مبارك كثير الثمار، طيبة الأشجار، زاهية الأزهار، بعضها محسوب ومرقوب ومرغوب، وبعضها غير مرقوب ولا محسوب، وهو كذلك طيب ومطلوب. بذور تلقى إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أرض خصباء تملأ الأجواء بكل نماء والعطر والحناء، تقوى وتأبى على كل التواء وعناد وأهواء. ولعلّ من تلك البركة الربانية والعناية الإلهية والرعاية؛ التي أرادها الله، والهداية التي اقتضتها حكمته، والحماية التي توفرت، والهمة القوية الواعية التي امتلكوها وقدّموها، أن المكتبة الإسلامية- وإن أصابها الكثير من الكوارث والنوازل- مما بعضه يمحقها؛ وقد بقي الكثير الكثير من النتاج الإسلامي العزيز الغزير عبر القرون والشجون ذات العداء واللأواء، خلال الجسور والطرق والمعابر والحمائل، غير المنقطعة في كل الظروف، وبرغمها فهي متينة أمينة، ليصل إلينا. وأحيانا على خيط رفيع لا يحتمل مثله، لولا لطف الله الذي به كان هذا النتاج، أقوى من كل القوى المحيطة المتلهفة على طمسه، بل وتغييبه وإتلافه. فكان عمل أولئك المسلمين كله لله تعالى، حصولا للأجر، وأداء للواجب، وإبراء للذمة، وقياما بالدعوة، وحملا للمهمة، وتقديما لواجبها؛ بإقدام وتضحية وتفضيل، وعند الله الجزاء. فالخلوص أساسيّ، ومسارب التأثير والأجر متعددة، وبعضها محسوب، وبعضها غير محسوب. إنّ طبيعة الإسلام تنمّي الطاقة وتفتقها، وتفتح آفاقا نفسية وتبني وتزيد كل قابلية، وتؤسّسها وتنميها. ومنذ عرف المسلم الإسلام اعتناقا واقتناعا، بات في جهاد بالنفس والمال، وإنفاق وعمل غير كليل، ودأب دائم وأصيل. والإسلام وحده الذي يا بني الحياة بدقة وأصالة، ويعطيها بلا بديل، غير ما عند الله تعالى من رضا وقربى وحسنى وأجر وثواب إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان: 9] جعله بعيدا عن أنانية أو نفعية شنشنة بني البشر- يتقدّم للعطاء، ويعمل للبناء. فهو ابن الحياة البارّ، يبنيها بصادق العمل، ويزيّنها بسلوكه الباسم الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وهكذا تكون حياة المسلم الحق، يدّخر الخير والحبّ، ليا بني مجتمعه النظيف، بإيمان عميق، وطاعة وتحرّ واقتداء، يمنحه قوة عجيبة؛ ليقوم على نفس متجدّدة متولدة، نورانية كالضياء باهية كالماء، صافية هي كالهواء العليل، نديّة قوية تحمل اللواء. * علماء الأمة هم حماتها، وبناة حضارتها: وعلماء هذه الأمة الإسلامية الخيرة الخيرية، أنصع وأروع وأقوم وأكرم من في المجتمع النظيف الكريم، وأكبرها طاقة، وأوسعها إقداما، وأمضاها جهادا، وأرغبها في التضحية والفداء. وإنه لمن المستغرب حقّا كيف يمكن أن يجمع المسلم بين التزامه بالإسلام وبين المعاني والمسالك والظواهر والدوافع التي لا تمت له، تلك التي لا تفتأ تقتل فيه الروافد وتمنع إنبات البذور وإثمار الأشجار، وتحجب عن نفسه وفكره وتصوره ومسلكه حقائق الإسلام الخيرة. كما تلمس لدى البعض ممّن حملوا العلم في أزمان مضت- كعلماء بني إسرائيل، وأمثالهم من الأمم الآخرى- وفي هذا الزّمان الذي نحياه. وطوال عمر الحضارة الإسلامية، لم تصف هؤلاء- الأدعياء البؤساء- بالعلم، لكنهم غمروا فلا يظهرون، واندحروا فما يتقدمون. ومهما يكن من أمر فهم عند الله تعالى لا يزنون، بل آثمون ومحاسبون. وفي هذا العصر نلمح ذلك من بعض من حملوا العلم، من الذين شغلتهم مصالح دنياهم وشخصهم ومطامعهم ومنافعهم وأنانيتهم وماليتهم وشهرتهم، عن رضا الله تعالى، وعن حسابات الآخرة، وموازين الشريعة. هؤلاء لا يؤتمنون على كتابة السيرة النبوية الشريفة وبقية التاريخ الإسلامي، ولا أي من فروع الدراسات الإسلامية، تأليفا أو دروسا أو تحاضرا أو مجالسا أو تقديما أو شرحا أو تناظرا منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فلا بدّ بعد النصيحة- إن لم يستفيقوا، أو يستقيموا- أن ينبذوا، وتعرف أقدارهم، بعد ما خابوا أو فشلوا، في مواقف كانت تنتظر، ممن حمل علمهم. ولا يغير من الأمر ندبهم وبكاؤهم، إلا أن يعلنوا توبتهم عن مقالهم وإدانتهم لذلك الماضي الثقيل الذليل؛ الذي يرفضه الإسلام، وأن تظهر لهم مواقف كريمة مخلصة خالصة. * جمال أمثلة صياغة الحياة وتفرّد وعمق صبغتها: وإن الذين صاغوا الحياة الإسلامية، وحموا الإسلام، وحملوا دعوته، هم الذين دوّنوا هذه العلوم، واعتنوا ببناء الحياة على الإسلام، قرآنا وسنّة- حديثا وسيرة وشمائل- وفقها وشريعة. وكان في هذا- كل منهم- على ثغرة في العلم والعمل. وهما في ضمير المسلم وحياته متلازمان، وما عرفوا العلم إلا كذلك ولكليهما. بل هم الذين رفعوا راية الجهاد والاستشهاد، كانوا أمثلة في الحياة والممات. والاطلاع على السيرة النبوية الشريفة يقدم الأمثلة الفرائد والشواهد الشواهق في كل الميادين، سلما وحربا، نساء ورجالا وأطفالا، وعجائز وشيوخا. والحياة الإسلامية مليئة بأولئك الذين خدموا السّنّة والسيرة النبوية كلهم بالاقتداء، وبثّوها بالتدريس، ودوّنوها بالتأليف. وهناك العديد من علماء السيرة المشهورين الذين عرفوا بذلك، سواء أفردوها بالتأليف، أو ضمن مؤلّف عام، أو خصّوا الحديث عنها في جانب من جوانبها، تفصيلا أو اختصارا، أو مبثوثة هنا وهناك من مؤلفاتهم. وإن كثرة منهم من علماء الحديث ورواته والفقهاء والعلماء، في مشرق العالم الإسلامي ومغربه سواء. والأمثلة على ذلك كثيرة. فمنهم ابن حزم الأندلسي (456 هـ) وأبو عمر يوسف بن عبد البرّ (463 هـ) وأبو علي الصّدفي- الذي استشهد سنة (514 هـ) - وأبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي- الذي استشهد سنة (634 هـ) - وكل هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 أندلسيون. والشيخ ولي الله الدهلوي الهندي (1176 هـ) والإمام المجاهد الشهيد أحمد بن عرفان الهندي (1246 هـ) . فهؤلاء وأمثالهم، من قوافل كثيرة، طوال العصور والأجيال، هم بناة الحياة الكريمة الفاضلة. فكم لهم من وقفة للحقّ ناهضة، وللخير هارعة؛ بذلا للمال وإقداما بالنفس في كل حال. وكم في ذلك من بطولات وفروسيات حقة. وآخرون كثيرون قطّعت أجسامهم فما بدّلوا، وانفصلت أعضاء من أبدانهم فما تركوا ميدانهم، وأثخنت جوانبهم جراحات غائرة، وهم مقبلون وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146] . تلك بعض نوادر الذين تربّوا على الإسلام في جوّ السيرة النبوية الشريفة، واغتذوا من ينابيعها الصافية الزّلال، ونموا في أحضانها الحنون، وجلسوا إلى مائدتها الطيبة الزاهية العبقة، في عصرها وما تلاها من عصور، وحتى يومنا هذا وما يتلوه ويتلوه. والأخيار هم في كل مكان، وهم الأمناء على كل شيء، مما يخصّ هذه الأمة، وهم حماة شريعتها يفتدونها، ويتولون شؤونها، ويرعون أمورها. * علماء الموائد: أما علماء الموائد والموالد والمصائد أو المناكب أو المصاعب أو المصائب؛ الذين حازوا علما اتّجروا به، بل ونادوا عليه بيعا وشراء، مبخوسا ومنقوصا، وتقرّبوا به إلى حاكم أو سلطان، أو تاجروا به بين الناس؛ الذين يصدرون الفتاوى ويبيعونها، فليسوا بالعلماء المعدودين المؤتمنين الموثوق بهم. ألا ما أرخصهم، وأرخص الثمن الذي باعوا به علمهم، وادّعوا على الله ما لم ينزّل به سلطانا، في كلامهم ومواقفهم، وفشلوا في سلوكهم الذي أخزاهم في الدنيا مثل الآخرة، ليسوا هم بعلماء، بل هم حلفاء السوء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وأجراء الطواغيت، وخدمة الباطل، ومطايا المنافع. هم أبعد الناس عن استحقاق لقب العلم والعلماء، فلا بدّ أن ينبذوا. فإن فشلوا هم في تمكين هذه الدعوة من نفوسهم، وإظهار صورها في حياتهم، فالله تعالى لا يبارك لهم عملا ولا قولا، مهما ادعوا، وتباكوا، وعلت أصواتهم، وبحّت حناجرهم لتعويض ما فاتهم، إلّا أن يتوبوا توبة نصوحا، تجدد لهم مواقفهم المأمولة من علمهم. وما عدا ذلك فلا ينفعهم، مهما اتسعت دروسهم، وزادت مؤلفاتهم. وهؤلاء غير أمناء على الشريعة وحقائقها، ولا يصلحون لكتابة أي شيء إسلامي أو تاريخه، والسيرة النبوية الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- وكل أمور الإسلام، أكرم من أن يكتب فيها هؤلاء وأمثالهم. * السّنّة وكتابة السّيرة: وفي أضواء قواعد تدوين الحديث الشريف، وأحضان مناهجه العلمية، كانت كتابة السيرة الشريفة ونشأتها وامتدادها وتدريسها ومؤلفاتها، وكذلك عموم التاريخ الإسلامي. ومن هنا تأتي الدعوة إلى كتابة السيرة على قواعد علوم السنّة والحديث. وكم من المحدّثين أنفسهم هم الذين تولوا ذلك! ومن السيرة الشريفة نشأت كتابة التاريخ الإسلامي، وفي حضنها نبتت، وفي ظلال السّنّة المطهرة قامت، وابتدأت، وسارت كريمة عزيزة قوية أبية متقدمة. وإن الذين خدموا هذه الأمور- ومنها التأليف في السيرة النبوية الشريفة- كانوا أوفى الناس وأبرّهم، وكانوا في المجتمع أعلاما وأذكياء وأبطالا ومربين، طبعوا بكلّ ذلك حياتهم. لقد عوّدنا هؤلاء أنهم كانوا يموتون في الجهاد، ويقدمون على الاستشهاد، ويدعون الله تعالى أن يموتوا شهداء، أو في مدينة رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 صلى الله عليه وسلم: (اللهم موتة في سبيلك، أو في مدينة رسولك) «1» . أو إن بعضهم كان يجلب له شيء منها، أو ثوب يأخذه بنفسه، أو يوصيه ويغسله بماء زمزم يدّخره، أو يجمع فيه تراب غبار الجهاد؛ ليكون كفنا يتبرك فيه. وقيادة العلماء للحياة والمجتمعات، ورفع راية الجهاد والبذل والفداء، قضية معروفة في كل العصور، وكم في عصرنا الحاضر على ذلك من شاهد وشهيد! * من يكتب السيرة؟ وكل هؤلاء العلماء الأفاضل، والفقهاء الأماثل، والمجاهدين البواسل؛ الذين كتبوا في السيرة كتبا مستقلة، أو فصولا فيها، أو تناولوا أي جانب منها، استقلالا أو اشتمالا، هم المرجوّة والمندوبة نتاجاتهم لهذا العمل وأمثاله من الأعمال؛ التي تليق بهم، ويليقون بها، بجدارة واستحقاق. هؤلاء وأمثالهم، هم أقدر على كتابة السيرة، وأولى بها، وأحفظ لها، وأعمق فقها، وأروع تصوّرا. وهم الذين يجيدونها ويفهمونها ويحسنون روايتها ودرايتها، وهم مؤتمنون عليها، موثّقون فيها، متعمّقون في أغوارها، متفهمون ومتمثلون مراميها، يمكنهم أن يرسموها بكل سبيل، بعد ما نجحوا في رسمها سلوكا وبأكبر دليل. ورسم السيرة النبوية بالسلوك هو المبتغى والهدف مما يتعلق بهذا الأمر وغيره من أمثاله، ولذلك فحين سئلت عائشة (رضي الله عنها) عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخلاقه قالت: (كان خلقه القرآن) .   (1) الأمثلة كثيرة جدا ووفيرة حول هذا الموضوع. انظر مثلا: تاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ابن الجوزي (236) . كذلك: التاريخ الأندلسي (128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 أما الذين يعادون الإسلام، أو يوالونه اسما ومهنة، أو تخصّصا، أو تاريخا، أو جغرافية، وينحرفون عنه، تأويلا أو تبريرا، فهؤلاء يرمى نتاجهم؛ لأنه سموم، أو شموم تثقل، لا يعتمد عليها، ولا يؤخذ منها، أو يغدو غير ذي جدوى ولا جدير بالاعتبار. ولا مانع من الاطلاع عليها ومتابعة تراكماتها؛ لمعرفة ما يقولون، لكفّ أذاهم، وردّ شبهاتهم، مثل كتابات المستشرقين، أساتذة هؤلاء؛ الذين كانوا تلاميذا أشدّ منهم على السّيرة الشريفة والتاريخ الإسلامي والقضايا الإسلامية. وأحيانا بجهل، ووقاحة، وادعاء أشد وأنكى؛ لذلك آن الأوان- وقبل الآن- لإحلال غيره من كلّ نتاج، نقيّ اليد والوجهة والسلوك. بل حتى المخلصين الحريصين، وربما متفقهين، إن لم يكونوا كما وصفت المسألة وتبينت وثبتت، فليس لهم ولا بهم حاجة أن يكلّفوا أنفسهم هذا العناء؛ لأنهم لا يجيدون ذلك، ولا يمكن تقديم الصورة الكريمة اللازمة، وليس جديرا، إذ قد فاتتهم شروط أخرى لازمة ومهمة، لا تقلّ أهمية عن المعرفة والفقه فيها، بل قد تزيد عليها مرات. حين يكون السلوك الإسلاميّ سطحيا، والاهتمام بالظواهر لا يتعداه، فسيجلب ذلك انحطاط الحقائق عمدا أو سهوا أو ضعفا أو عجزا وهزيمة. وإغماض أو إغماط الوقائع مهما كانت جهيرة منيرة- ويكون بدون جهل- فهذا نفاق وخداع ودغدغة، رغم الصيحات يكون عند أهله وعند أصحابه أسلوبا عاما في تناول الأشياء. وهذا يخصّ- من السلف- الحكّام والمسؤولين، وممن حملوا العلم، وملؤوا مراكزه بغير حقّ، وهم جهلة مهما شغلوا من المناصب حتى العلمية وذات الأهمية، توجيها وتنفذا وتنفيذا. والخلقية الإيمانية مسألة كلّية، كما أنّ الإنسان وإن تخصصت أجهزته البدنية فهي لا تنقطع، ومثله كذلك هذه الأمور: «ألا وإن في الجسد مضغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب» «1» . فهؤلاء الذين حملوا العلم ولم يقدّروه قدره، وابتغوا به الدنيا، وخافوا لومة اللائمين من عباد الله، لا يصلحون للتوجيه والكتابة، والله تعالى محاسبهم ومجازيهم، وعلمهم وحذلقتهم وفيهقتهم لا تنفعهم شيئا، بل هي حجّة عليهم، ومجلبة لغضب الله تعالى وسخطه وعذابه الذي يستحقونه لهم، ولا تنفعهم أحبولات صيحات المدافعين بالانتفاع بعلمهم دون فعلهم، فعلمهم مثل فعلهم غير مقبول وحجّة عليهم، والله تعالى معذّبهم به، كما ورد في القرآن الكريم، والحديث الشريف. فالله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: 2- 4] . ولقد اعتبر الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم المسلم مفلسا إذا لم يلتزم بالخلق الإسلامي، وإن صام وصلى، وجعلهم أبعد الناس عنه صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة. بينما جعل الملتزمين أحبّهم إليه، وأقربهم منه صلّى الله عليه وسلم في يوم القيامة «2» . وفي ذلك أيضا يقول الشاعر الفقيه: وعالم بعلمه لم يعملن ... معذّب من قبل عبّاد الوثن إنّ الذين يمكن أن يكتبوا السيرة النبوية الشريفة، والتاريخ الإسلامي، ويؤلفوا في العلوم الإسلامية عامة- والتاريخ الإسلامي واحد منها- لا بدّ أن يكونوا ممن وصف الله بأنهم لا يخافون في الله لومة لائم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ   (1) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه (رقم: 52) . ومسلم: كتاب المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم (1599/ 3) . (2) رواه الترمذي: كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معالي الأخلاق، رقم (2018) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة: 54] . كما جعل الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم الجهاد ذروة سنام الإسلام «1» ، وأقوى تضحية له. وكان أحدهم يدعو الله- بتواضع- أن يوفّقه لخدمة هذا الدين، ويعتبر ما يكتبه يدّخر له به الأجر عند الله تعالى مدخرا، وأن يكون عمله لله خالصا، وأن مداد العلم الذي يكتب به بالقلم مثل نزيف جرح طاهر في ميدان الجهاد يجري منه الدم. وهكذا كان العلماء في كلّ عصر، تتساوى عندهم الحياة والممات، ويقدّمون ما هو أنفع لدين الله، ويفضّلون الحياة أو الموت، أيهما أفضل لخدمة هذا الدين سواء بسواء. وإذا كان الموت كذلك، فهم يقبلون عليه، ويطلبونه، ويعتبرونه الفوز والطريق إلى الجنة (احرص على الموت توهب لك الحياة) «2» . وهذا لا يمكن أن يكون إلا بتربية ومجاهدة وعيش مع القرآن الكريم وسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسنّته المطهرة، بإيمان، وحب يملؤه، وينعشه، ويحييه، ويحرّكه، ويطير به في الآفاق العليا، سامية كالسماء. وهؤلاء العلماء عوّدونا أنهم كانوا يتبركون بالكتابة في الإسلام، ودراسة القرآن الكريم، والكتابة في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وسنّته المطهرة. ولذلك كان الإمام البخاري (256 هـ 870 م) رحمه الله، بعد ما يدوّن كل حديث، يصلي ركعتين لله تعالى شكرا «3» ، على أنه أنهى واجبا تعبديا، وأنجز مهمة إسلامية، يتقرّب بها إلى الله سبحانه وتعالى في خدمة حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم.   (1) رواه الترمذي: كتاب الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة، رقم (2616) . (2) حكمة قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه. أبو بكر الصديق، علي الطنطاوي (300) . (3) وفيات الأعيان، ابن خلكان (4/ 190) . وعبارة البخاري: (ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولا فرق كبير- إن وجد ذلك- بينه وبين السيرة الشريفة؛ التي كانت جزآ من السنّة المطهّرة، وهي متداخلة معها، أو مستوعبة لها باعتبار. إن كتابة السيرة الشريفة لا بد أن يتولاها الذين تمثّلوها؛ ليقدّموها للجيل، نقية حية متمثّلة، يتعلّمونها، وينقلونها صورا مسطرة وقائمة في الحياة، ابتداء من نفوسهم. والذين فشلوا في تمثيلها، وتصويرها في حياتهم، بجانب عدم أمانتهم فيها، ولا شجاعتهم في التحدث بمواقفها، ويؤوّلون أحداثها، ويفسّرونها لتبرير مواقفهم؛ فإنهم سيلوون أعناق الأحداث والنصوص بعد ما لووا أعناقهم، وليلووا أعناق الآخرين. وهم بعد ذلك أو قبله لا يستطيعون الغور في معانيها، وفهم مضامينها، وتصوّر مراميها، والوصول إلى أعماق مدلولاتها القريبة، فضلا عن البعيدة. ولا بدّ لكتابتها من استيعاب ذلك قولا وعملا، ثم كتابة وتدريسا وتحديثا تأليفا ومتابعة، أو تقديما وتعميقا. وحصول هذا اللون من الفهم الجدير أو الجديد- أحيانا- المنير من بركات الالتزام، وامتداد طبيعته، وقوة مرتكزاته، ومؤهّلات صدق الإقبال عليه. وإنّ الله تعالى يقيّض في كلّ عصر من يتولى هذا الأمر بحقّه، بل قد كتب في ذلك غير المسلمين، من أمثال أحد المؤلفين الأمريكيين الذي ألف كتابا عن مئة من الأعلام في التاريخ أثّروا في الحياة، وما زال أثره في البشرية أكثر وأكبر، فاختار أولهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكذا فإنّ من غير المسلمين من يعينون أحيانا على بيان حقائق الإسلام وسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويعجبون بها، مما يعتبر ذلك للإسلام نصرة وعونا في نشر الإسلام، وإن لم يسلموا لأي سبب- أو هم أضمروا إسلامهم- ولعل ذلك باب لإسلامهم، فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 * إرهاصات: ألا يمكن اعتبار مثل هذه الأمور- رغم وضع المسلمين وحالهم- علامات تشير إلى مستقبل هذا الدّين؟! وإن هذه المواقف، ممن ليسوا مسلمين من بلدان التقدم العلمي والعمران المدني، وهم من علية القوم فيهم، إنها إرهاصات لمستقبل الإسلام، تذيب جدران الشرك والوثنية وبعضها بأيدي أهلها وبلادها- لتفتح الباب أمام الدعوة الإسلامية إلى بيانه، والاقتناع به، واعتناقه؟! وكم كان هذا طريقا لاعتناق الإسلام فيهم، مثلما جرى مع العديد من الأدباء والكتاب الأوربيين والغربيين والشرقيين؛ الذين ألّف كلّ منهم كتابا بلغته عن الرسول صلى الله عليه وسلم فاعتنق الإسلام. إن الدعوة الإسلامية اليوم هي دعوة العصر، رغم كل القيود والسدود والاضطهاد والمطاردة، في الداخل والخارج، ومهما تكاثروا عليها، وما ذلك إلا لشعورهم بأنها كذلك. والعمالات المتنوعة التي تملّكت القوى والوسائل لترى ازدهارها واندحارها هي، أمام هذه الدعوة الكريمة بقوة الإيمان القوي المتدفق المتجدّد الوضئ. قارن بين وضع دعوة الإسلام اليوم وقبل نصف قرن أو يزيد، حتى ليصبح أمر الإسلام هو الوحيد، تطارد دعوته فلول الظلام، وهي في عنفوانها، وهو مجرد مأسور أعزل، لينتصر بعون الله سبحانه تعالى، والأدلة حولنا تكثر وتزيد. وانظر إلى ما يجري في العالم شرقه وغربه من عجز أنظمته عن حلّ مشاكل الحياة الإنسانية، والارتقاء بها إلى الآفاق الكريمة. * أدلة إيضاح وإفصاح: وقل مثل ذلك في الغرب بما ادعاه، وإن كانت هنالك فروق ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الغرب وحضارته مهدّدة اليوم بالانهيار؛ الذي بدت نذره واضحة لكثير من زعمائه وعلمائه وعقلائه، سواء السياسيين والاجتماعيين والعلميين؛ الذين ما فتئوا يحذّرونه من ذلك، مثلما حدث لحضارات أسلافها وامبراطوريات أمثالها، مما عدّ أكبر إمبراطوريات التاريخ العتيدة وحضاراتها، كاليونانية (الإغريقية) ووريثتها الإمبراطورية الرومانية (شرقا وغربا) ثم الفارسية. والحضارة الحالية تجري مجراها، ومهما امتلكت من إيجابيات- قد تؤجّل انهيارها- لكنها في النهاية لا تستطيع الإفلات من مصيرها المحتوم. فهي تحمل في طياتها عوامل الانهيار والاندثار، ويوم تذهب- بإرادة الله تعالى- لا تخلّف وراءها غير سجلّات التاريخ التي دوّنت أخبارها، كما جرى لمن مضى وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الرعد: 6] «1» . إن للحياة سننا ونواميس وقوانين، خلقها ويجريها الله سبحانه بإرادته، بلا تبديل ولا تحويل فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43] وهذه السّنن الإلهية هي التي لها وحدها الحتمية. وكم من أمم في التاريخ سادت بقوتها، وتغلبت بأجنادها، وتحكّمت بسطوتها وتسلّطها، لقرون عدة، ثم لم يبق منها غير أخبارها وآثارها، بل وربما أساطيرها، وحسبها ذلك وزيادة. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر: 44] . وظنّي أنّ أحد أسباب غلبة هذه الحضارات الجاهلية المعاصرة، وتوليها   (1) «المثلات» : (جمع: مثلة) : العقوبات المثكّلات، وهي العقوبة الفاضحة التي تجعل من تقع عليه مثالا يرتدع به غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الزّمام اليوم، وتحكّمها في الرقاب- إن لم يكن كلها- هو الغياب الإسلامي، يواجهها، ويظهر عوارها وعورها، وينهيها؛ لذلك فهي تحارب الإسلام بكل قواها، وبكافة الأساليب الخفية والجلية، وتتعاون في ذلك متحالفة، واقفة في وجهه، وهو ما نشاهده من هذا التقارب والتالف بل والامتزاج، هو كالزواج بعقد سفاح- بين الصهيونية العالمية والصّليبية العالمية. وذلك كله تراه رغم تناقضاتها وعداواتها وتناحرها، فالكفر ملّة واحدة؛ لأن ظهور الإسلام، وقيام مجتمعه وحضارته يعجل بها- كما جرى لأمثالها- بل ويعمل لتواريها- لعجزها وضعفها أمامه- فلا تثبت له فواق زمن، وبذلك تغدو كأمس الدابر، أو تصبح أثرا بعد عين. وغير بعيد عنا أخبار ما جرى لأكبر إمبراطوريتين في العالم يومها (الرومانية- الرومية- والفارسية الساسانية) ، وكيف واجههما الإسلام في عين الوقت، في العقد الثاني من الهجرة النبوية الشريفة، بحفنة من جند الله الأخيار، فزالتا من على وجه الأرض وإلى الأبد. وتلك سنّة الله في مصارع الضالين، ونصره المؤمنين بدعوته أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ «1» [الرعد: 41] . وقد أخبر الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم قبل حدوث ذلك كله وببضع سنين، بما علّمه الله سبحانه، وأوحاه إليه، يوم لم يكن في الأفق ما يدعو له أو يشير إليه، حتى لقد تعجّب فرحا متأكدا موقنا من سمعه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، حين قال صلّى الله عليه وسلم: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده! لتنفقنّ كنوزهما   (1) التفسير، 3/ 2065. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 (لتنفقنّ كنوزهما) في سبيل الله» «1» . وتفهم من هذا الحديث الشريف أمور كثيرة، منها: أنه بمجئ الإسلام أو قيامه تزول وتذهب وتندثر كلّ جاهلية مهما كانت، ومنها أنه حين يقوم الإسلام لا يبقى أمامه عند المواجهة لا كسرى ولا قيصر- وقد ذهبا نهائيا- كناية عن زوال الظلم والظالمين والقائمين به وعليه، وكل العتاة والبغاة والطواغيت. وذلك آت بعون الله، وكائن بإذنه سبحانه، وتلك من مهمات هذا الدين الإسلامي الذي لا بد أن يتحقق به ذلك، وهذه بعض ما أراده الله سبحانه وتعالى. وكان الذي جرى لتلك الإمبراطوريتين بما لم يكن ليخطر على بال أحد في العالم- يومها ولا اليوم أو غدا- لهم ولا من حولهم، لولا أنه قد حدث فعلا بشكل لا مجال لإغفاله أو إهماله أو تجاهله، سواء في إمكانية وقوف هؤلاء الأخيار من جند الله الأبرار، أو زوال أولئك الضالين المضلّين، وبهذه السرعة المذهلة، مما يعتبر واحدة من معجزات هذا الدين- أو عليها مسحة منه- بانت في تلك الفتوحات وفي ذلك الزمان على يد أولئك الذين تربّوا على مائدة القرآن الكريم في ظلّ السّيرة النبوية الشريفة، ومقتدين بصاحبها صلّى الله عليه وسلم. وهؤلاء الأعداء يعرفون جيدا صدق هذا الدين وحقيقته وأحقيته الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] لذلك هم يستميتون في حربه، فهم ما فتئوا كلما استطاعوا لذلك سبيلا- مهما تبدلت الأساليب- يقفون حائلا دون قيام أهله وأبنائه به، ويقاعدون لهم كل مرصد؛ لمنعهم من صراط الله المستقيم، يرتجفون أن يجتمع عليه وبه الأفاضل العماليق أو العمالقة، كما يسمّونهم؛ لذلك فهم يعملون- حسب تعبيرهم- على عدم إيقاظ العملاق وإبقائه نائما،   (1) أخرجه البخاري: كتاب الخمس، باب: قوله صلّى الله عليه وسلم: (أحلت لكم الغنائم) ، رقم (2953) . ومسلم: رقم (2918، 2919) . انظر كذلك: سير أعلام النبلاء (3/ 164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ويا ليت المسلمين يعلمون ما جاء- مثلا- في تقرير اللورد «كامبل» عضو مجلس اللوردات البريطاني، سنة (1907 م) مما يعتبر في وقت جدّ مبكر، لم يدركه جمهرة وكثرة كاثرة من المسلمين، حتى بعد هذا التاريخ ببضعة عقود، إن كانوا أدركوه الآن. فالإسلام هو الدين الوحيد، والمنهج الفريد، والشرع القديم الجديد، الذي يمكن أن يرتقي بالإنسان- كل إنسان، أراد ذلك، وعمل له بشرطه- وينقذه من شقوته النّكدة، وبؤسه الخانق المقيم، وضياعه المتواصل. لذلك أراده الله سبحانه وأبقاه وحفظه- بروعته- متولّيا بقوته العمل والقيادة مع جميع الأحوال، ولكلّ الأقوام والشعوب والأمم- بكل أجناسها وانتما آتها وعقائدها- في كل زمان ومكان، ومع كافة مراقي تحصيلهم، ودرجة علمهم، ومستوى معايشهم، فهو- بما أودع الله فيه، وجعله آخر الأديان، وخاتمة الشرائع، وسيد المناهج- قويّ بذاته وطبيعته، يتقدّم بنفسه بلا سيف أو مدفع لما فيه من التوافق المعشق والترافق المتدفق والتنادي أو التّداعي المتألّق، ولاستقامته المتيسّرة مع الفطرة الإنسانية وتساوقه معها بل واشتياقها له- ومع حقائق الحياة، ونواميس الوجود. فهو يلبّي ببساطة وعمق وسهولة كل حاجات الجسم والعقل والروح، والعمران المادي والمعنوي والروحي، والتقدم لكافة البيئات المتنوعة، وحاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة واستعلاء، من شعوب رعاة الكلأ، وساكني الخيام إلى سكنة ناطحات السحاب، وما يجدّ لأي أحد من جديد الأسباب. وهذا للأسف الشديد ما لا يدركه- كله أو بعضه- إلا القليل من أهله وأبنائه، وأدركه بوضوح كل أو جلّ أعدائه؛ لذلك هم يخافونه، ويخشون تقدّمه، وسيادته، وإقبال الناس عليه. ولذلك فإنّ هذا محسوب لديهم- في مجمل الأحوال، وعلى الدوام، وفي كل اتجاه- في غاية الدقة والعناية والاهتمام، مهما تظاهروا بغيره أو برروا من سيره أو عظموا- مداراة- من أمره، لا ينفكّون من ذلك بحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فإنّ ذكرى تلك الفتوحات وتذكّرها- وهم لم ينسوها- مؤلمة مفهمة مرعبة، يعملون ويجنّدون ويضحّون كيلا تتكرر، وليس ذلك فحسب، بل وعلى طمس حقائقها، وتشويه أخبارها، وحجب وقائعها الناطقة، وللمسلمين بالذات، لتحذف من مذكراتهم وذاكرتهم. فهم يجهدون في تصغير شأن أولئك الأبرار؛ الذين اقتدوا بصاحب السيرة الشريفة «1» صلى الله عليه وسلّم لئلا يتأثر بها من يتأثر، فيكون الذي ممكن أن يكون به. كما عرف في أوائل الدعوة الإسلامية وما بعدها في أكثر من بلد ومع أكثر من قوم، مما هو مدوّن في محفوظات التاريخ الإسلامي ومؤلفاته، معروفا وماثلا للعيان، ومحفوظا في الخواطر والنفوس والأفكار والأذهان وفي كل مكان؛ ولهذا فهم يعملون أيضا على تشويه التاريخ الإسلامي بكل سبيل قديم وجديد، مما تبتكره عبقرياتهم الشريرة، والأخيرة، أو الأجيرة. * جيلنا والاهتمام بالسيرة: ولقد كان الاهتمام بالسيرة النبوية الشريفة، وكذلك عموم السنة المطهّرة في العصور المديدة، والأجيال المتتابعة، والمواقع المتنوعة- مهما تفاوت   (1) الأمثلة كثيرة، تلك التي تبين نوعية أولئك الأبرار وفهمهم وقوتهم التي بناها هذا الدين، فكانوا تلك الصناعة العجيبة الفريدة الجديدة، فأتوا هم بالعجائب. وأحد هذه الأمثلة، والذي سبق ذكره: أنه حين ذهب وفد المسلمين قبل القادسية سنة (15 هـ) لمواجهة رستم قائد الفرس، فخرجوا وذهب ربعي بن عامر ليكلّمه، وجرت بينهما محادثة طويلة منها: قال رستم: ما جاء بكم؟ قال ربعي: (الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا. ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله) . قال رستم: وما موعود الله؟ قال: (الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي) . الكامل في التاريخ، ابن الأثير (2/ 320) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الوضع- ركنا مهما في معرفة المسلم بدينه، ومحثا كريما مصورا لتعاليمه، ومتمثّلا لشريعته، مثلما هو تحرك دعوي، ونهضة إسلامية تحثّ على التمسك والالتزام والتجديد. كان الاهتمام بالسيرة موطنا للكتابة فيها، والتفنّن في الاستنباط من معانيها، وبثّا لمعاني الإسلام من خلالها، وغرسا لمضامين الشريعة في نفوس الناس. ومن هنا فلا بدّ لأهل هذا الجيل- مثلما لسلفه الصالح من الأجيال السابقة ومن أجياله اللاحقة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها- من اعتبار السيرة الشريفة، فهما عميقا، واهتداء وثيقا، واقتداء شاملا دقيقا، مرتكزا أساسيا أصيلا في بناء حياته الإسلامية، بها يحيا، وعليها يا بني، ولها يقوم. ينطلق في الحياة على هداها، آخذا بمضامينها، متعلقا بحقائقها، بتحرّ ومحبة وعشق، تظهر آثاره في بنائهم الإيماني الراسخ على عقيدة لا إله إلا الله، توحيدا لله خالصا وعبادة له بشرعه- قرآنا وسنّة وسيرة- أداء صافيا حيّا متوجها لله سبحانه، في كل الشعائر التعبدية وفي كل أحواله، في مسالكهم وتعاملهم وأخلاقياتهم كافة. وهي أخلاق لا إله إلا الله، التي جاهد لها الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أكبر الجهاد، وصبر أشد الصبر، واحتمل جميع ألوان العذاب وأشكال العناء، حتى أقام ذلك المجتمع المثال بالجيل الفريد على القرآن الكريم والسنّة المطهرة. والأمثلة والشواهد ما أكثرها وأوفرها وأشهرها، من ذلك ما يعبّر عنها صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «لقد أوذيت في الله عز وجل وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثالثة من بين يوم وليلة ومالي ولعيالي طعام يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال» «1» .   (1) الترمذي (4/ 556) . مسند الإمام أحمد (3/ 120، 286) . ابن ماجه (1/ 54) (رقم: 151) . سيرة ابن كثير (1/ 272) . حياة الصحابة (1/ 264) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 والأمة المسلمة في أيامنا بأشد الحاجة أن تقف في ظلال هذه السيرة الشريفة، تستلهم معانيها، وتتفهم مضامينها، وتستروح نسمات الخير في جوّها، كما تتنسّم عبيرها الفيّاح. * واجب العناية بالسيرة: والعناية بالسيرة الشريفة ودراستها ومعرفتها مهمة جميع المسلمين، لا سيما من لهم إمكانية العناية بها بأي شكل، تأليفا وإخراجا. ولا بدّ أن تكون هذه العناية- وعلى هذا المنوال- أساسية، لكل أنواع الدارسين. ومن المهم إنشاء مركز أو مؤسسة لهذا الأمر، وحبذا لو استنبتت بعض الجامعات- جادة مهتمة مخلصة- رغبة وهمّة، في إقامة مثل هذا المركز للسيرة النبوية الشريفة، بل وإفراد كرسي فيها يتولّى شؤونها، ويقوم على خدمتها. ومن الغريب ألا تفعل ولا واحدة أي شيء منه، وقد تهيأت كل الأسباب، وبأنواعها كافة. ولا بدّ أن يواكب هذا الأمر ضرورة، نشر وطبع ودراسة المصادر الأمهات، لتكون أساس النهضة الإسلامية قائمة على العلم والمعرفة الحقة، وتصبح ركنها الركين، وموئلها الهانئ الأمين. أما تفاهات المستشرقين وربائبهم، فموطنها المهملات المحروقة الممزوقة، وليس بالضروري القصد رميها بأوراقها التي كتبت عليها، ولكن رميها ورفضها بزحف الحق المقام على الدراية والرواية، وإظهار بطلانها أمام انبلاج الحق الواضح (الحق أبلج والباطل لجلج) . ولقد آن لهؤلاء وأسيادهم أن يقرؤوا ما أنتجته وتكتبه الأقلام الخيّرة، لعلهم يفيقون ويؤمنون. وإن تفاهات المنهجية الغربية والشرقية في هذا المجال، وكلها- شرقية وغربية- شرقية، من الصّراعات والحتميات والمراحل والمجاهل، يفرضون ظلمة الجهل والجهالة على نور الإيمان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ستنهزم أمام الخير والمنهجية الحقّة، والحقائق العلمية، والدراسات الأمينة، إن شاء الله. المسلم ودراسة السيرة: ودراسة سيرة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة للمسلم- من مصادرها الأولية ومراجعها- ضرورة شرعية، يترسّمها في كل أحواله، عقيدة وعبادة، بلا مغالاة ولا مداناة، ليكون إنسانا ربانيّا في كافة أوقاته، وقضاياه، وأموره كلها. وأول مصادرها تماما: القرآن الكريم والسنة الصحيحة. وبالنسبة لغير المسلمين لا بد من تقديمها بشكل حقيقي واضح مشرق منير- وهي بوقائعها وحقائقها كذلك- فهو المثل الإنساني الأعلى صلّى الله عليه وسلم. والسيرة النبوية الشريفة متداخلة مع كل ما ومن صحب وعايش الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم. وواجب المسلمين اليوم تقديمها بأسلوب شيّق وصادق وجميل وجذّاب، للمسلمين وغير المسلمين- بالعربية وغيرها- تقرّبا إلى الله تعالى، ودعوة لدينه، وتنفيذا لأمره، وإحقاقا لشرعه. اللهم تولّنا بعونك، وكن أنت مولانا، وتقبّل أعمالنا، واجعلنا مترسّمين لقرآنك العظيم وسنّة نبيك ورسولك الكريم صلّى الله عليه وسلم. واجعل ذلك كله لنا شرعة وحبّا وعشقا وقوة وقدوة ومنهجا، وفي سبيلك مباركة ومقبولة وخالصة لوجهك الكريم، واجعل القرآن الذي أنزلته عليه ربيعا لقلوبنا، وسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم قدوتنا، إنك سميع ومجيب، آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المبحث الثالث السيرة النبوية الشريفة جمال نماذجها وشمول فضائلها * موقع السيرة النبوية من التاريخ * الصحابة والاقتداء بالسيرة * الخيرية والجيل المثال * السيرة موئل ومنهل * السيرة بناء وارتقاء * مدلولات فريدة جديدة * ثمار أغنت ميادينها * عصر النبوة وامتلاء ميادينه بالأعلام العالية * الحضارة والأصالة الإسلامية في الدعوة الربانية * الصحابة والولاء للإسلام * أسلموا وأهلهم أعداء * الإيمان وتكاليف تربيته * رهافة الثمرة الإيمانية * إضاآت كريمة ومدلولات فاضلة لقصة ربيعة * دقة الرهافة وأصالتها جعلتهم يشعرون بالتقصير * مدى عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحابة * العناية النبوية الحنون في رعاية الواقع الميمون * تفقد الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وحبهم له * النساء وفرض الحجاب * جيل الصحابة والإقبال على أمر الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 * قصة تحريم الخمر * الترقي الإيماني والإقبال على دخول الإسلام * حضور مشاهد الغابرين * المؤمنون والمعاندون وغيرهم * لله سنة جارية ثابتة بملازمة العاقبة للمتقين * معاني الأحداث السالفة * القرآن الكريم والعبر العامة المستفادة من قصصه * أجواء السيرة العبقة * الصحابة وسبل الارتقاء * القرآن والسيرة بين الدرجة والنوع * تذوق الصحابة نعمة الوحي وافتقادها لدى انقطاعها * شواهد وفرائد صحابية * الرخص أم العزائم * السيرة مدد وحياة * الثمار الطيبة الطّعوم * الإضافة وحديث القرآن * الإسلام منهج أهل الأرض ومستقبلهم المشرف المشرق * الصحابة فخر الميادين ازدحمت بهم الساحات * السيرة والتابعون وتابعوهم * الصحابة أئمة ومثل وهم بالرسول صلى الله عليه وسلم مقتدون * حب متوارث طهور * عناية الأجيال بالسيرة * وضوح أحداث السيرة * البشارات بالرسالة الخاتمة * عالمية الدعوة الإسلامية * السيرة ونسج المثال * السيرة ونفس المسلم * تفسير السيرة ومكانتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 السيرة النبوية الشريفة جمال نماذجها وشمول فضائلها * موقع السيرة النبوية من التاريخ: تعتبر السيرة النبوية الشريفة، هامة التاريخ الإسلامي وتاجه وضياؤه وقلادته. وإذا كان التاريخ الإسلامي- ولا سيما بإضاآته المتفردة وصفحاته الجميلة الملتزمة- زهرة الحياة الإنسانية ووجهها المشرق وتاريخها المنير، فإن السيرة النبوية الشريفة تاج الحياة الإنسانية وزبدة تاريخها الرفيع في العصور طرا، ولدى الأمم كافة. ومن الواجب أن تعطى من الأهمية- ومن قبل المسلمين أولا- القدر الذي يتناسب وتلك المكانة اللائقة بها، رعاية واهتماما وتأليفا وتوقيرا وإقبالا مثلما اقتداء واهتداء. وكان من الجودة اعتبار فهم القصد من إطلاق مصطلح السيرة مجردا ومطلقا، بأنه السيرة النبوية الشريفة. إشارة إلى أن سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هي المثال المقتدى في السّير الإنسانية بل ولسير الأنبياء جميعا، عليهم الصلاة والسلام. * الصحابة والاقتداء بالسيرة: وإذا كان الصحابة الكرام قد عايشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبوه وتابعوه واتبعوه، وحرصوا أشد الحرص على لقائه، أخذا عنه وتحريا لسيرته، وكل ما يصدر عنه، اقتداء به، وإن ذلك عبادة يتقربون بها إلى الله تعالى، فإنهم قد حافظوا على كل ذلك وبذلوا غاية الجهد في حفظه ونقله، وفي نفوسهم وسلوكهم، قبل نقله إلى الآخرين رواية ودراية. وكان السلوك- عملا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قرين العلم، لا يفترقان- من أو أكبر وسائل النقل والتوريث علما، مما يورثونه، أداء لوظيفتهم، في الإرث والتوريث، تلقيا وتلقينا «وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظّ وافر. (ومن سلك طريقا يطلب به علما سهّل الله له طريقا إلى الجنة) » «1» . لقد هيأ الله تعالى الصحابة الكرام- رضوان الله عليهم- ليحافظوا دين الله تعالى، حفظ نصوصه وفهم مضمونه وتطبيق مفهومه والعمل لتنفيذه وتمثيله والجهاد لإقامته والحرص على نقله وبثه والدعوة إليه بالقول والعمل. وتوفرت فيهم كل المواصفات، فاستحقوا وصف الله تعالى لهم* كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] الذي شملهم ومن ماثلهم من الأجيال التالية، ونقلوه إليها. وتوفر فيهم من يمد أروقته وينقلها ويوصلها لمن تلاهم جيلا بعد جيل، في العصور المتتالية المتتابعة والبلدان المتنوعة حتى يوم الدين. وهكذا ورثت الأمة عن الصحابة دينهم وسّنّة وسيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم. * الخيرية والجيل المثال: ويبقى الصحابة الكرام هم الجيل المثال الذين استحقوا الخيرية والأسبقية والأفضلية، التي وردت في القرآن الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وهم قدوة هذه الأمة بعده صلى الله عليه وسلم. وبهم كانت متوارثة في الأمة إلى يوم الدين.   (1) رياض الصالحين (526) رقم (1388) . والزيادة من البخاري: كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل. وأخرجه أبو داود، رقم (3641- 3643) . والترمذي، رقم (2682) (وفيهما مثال في فضل الرحلة لخدمة الحديث الشريف، وحديث واحد) . وانظر: مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، رقم (2699) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وهم الذين حملوا الإسلام وأبلغوه، ونقلوا الأمم إلى الإسلام «1» ونشروه وعلّموه وحموه، وحملوه في سلوكهم ونفوسهم وصدورهم هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح: 28- 29] «2» . فأيّا منهم تنظر إليه، ترى فيه الآفاق العجيبة والنفس القوية الرحيبة. فلقد روي عن عبد الله بن عمر (74 هـ- 693 م) قوله في الصحابة الكرام- وهو منهم- يبين نوعيتهم ومكانتهم من الإسلام وحرصهم على اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم. فلتقتد الأمة بهم، خلف نبينا الكريم ورسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم. وهو يحث على الأخذ بما كانوا عليه من ذلك الاتّباع والالتزام، الذي شملهم بذلك وصف الخيرية، ومن سلك مسلكهم وعمل عملهم والتزم بهدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فوفّاها حقّها وأدى مطلوبها وحمل رسالتها. فيقول رضي الله عنه: «من كان مستنا فليستنّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، أبرّها قلوبا وأعمقها علما وأقلّها تكلّفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله ربّ الكعبة» «3» . وحين سئل ابن عمر إن كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون، قال: (نعم   (1) انظر: التاريخ الأندلسي (173) . (2) وانظر: حياة الصحابة (1/ 35، 45، 301) . (3) سبق ذكره، ص 18. انظر: حلية الأولياء (1/ 35) . حياة الصحابة (1/ 46) . أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر، (450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال) «1» . كان إيمانهم غامرا وعملهم باهرا وجهادهم موّارا، لا يقف ولا يهدأ ولا يعبأ. ويشاركهم في ذلك علماء الأمة وأجيالها، التي تلقت ذلك كله بالقبول التام والحب والجد والعمل والصدق والإخلاص، أمانة صانتها وافتدتها، وأفنت ما عندها وأنفقته طائعة راغبة لحفظه وبثّه، لا تألو في ذلك جهدا ولا توفر طاقة ولا تدّخر مكنة. إلا أنه يبقى للصحابة الكرام شرف لا ينال ولا يطال بحال، هو شرف الصحبة والسبق والمستوى، لا سيما من كان في ذؤابتها منهم، مثل المهاجرين والأنصار، فغدا ذلك هو الشرف وهو النسب وهو الميزان. والصحابة هم الذين بلغوا- بهذا الدين- قمة إنسانية سامقة، فكانوا الجيل الفريد السعيد. كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم فيهم يدعوهم ويربيهم على كتاب الله، الذي كان له مثالا، قدوة عالية وأسوة حسنة. والله تعالى يقول: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 8- 10] . وهم الذين أثنى الله عليهم بقوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح: 18] . وكان هذا في أولئك الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية في ذي قعدة السنة السادسة للهجرة، وكان عددهم ألفا وخمسمئة (خمس عشرة مئة) ، جاؤوا للعمرة وغير مستعدين- من كل ناحية- للمواجهة والقتال. ومع ذلك بايعوه صلى الله عليه وسلم جميعا، على الموت وعلى أن لا يفرّوا. حقا إنه الجيل الفريد؛ الذين استحقوا هذه المكانة من الله تعالى،   (1) انظر: حلية الأولياء (1/ 311) . حياة الصحابة (1/ 48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وكانوا- أهل الحديبية- جديرين بها وبوصف الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» «1» . ولعل وصفهم هذا غير قاصر على زمانهم بل كذلك شامل لكل زمان ومكان وإنسان، بعد منزلة الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام. فهنيئا لهم تلك الصحبة والمكانة. والرسول صلى الله عليه وسلم بيّن ذلك في أحاديث كثيرة، جملة وتفصيلا. ودعا إلى محبتهم والاقتداء بهم والأخذ عنهم. فهم الحفظة والأمنة، على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر ما ورد في كتب الحديث الشريف في مناقب وفضائل الصحابة الكرام، من ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «لا تسبّوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» «2» . فإذا كان هذا موجّها للصحابة أنفسهم، فكيف بمن بعدهم؟ فلينظر كل هؤلاء الذين يتقوّلون على الصحابة الكرام رضي الله عنهم أو ينالون منهم أو يتهجمون عليهم. فماذا يكونون هم إذا، الذين يفعلون ذلك؟ والله تعالى قد رضي عنهم وأثنى عليهم في أكثر من موضع من القرآن الكريم، ووقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة. إذا فما الذي يتبعونه في إسلامهم، وهم من أي نوع من المؤمنين المسلمين؟ أم أنهم في أية قافلة يلتحقون ويسيرون وينتمون؟ «3» . وإن كان لمن بعدهم أيضا، شرف الاتباع والاقتداء والأخوّة، التي بينها   (1) سبق ذكره أعلاه، ص 64. أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم (3923) انظر كذلك: سير أعلام النبلاء (3/ 192) . (2) أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلا» ، رقم (347) . وأخرجه مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، رقم (2540) . ويرد ذكره أدناه. (3) انظر كذلك على سبيل المثال الواضح: سورة التوبة (100) ، سورة الفتح (18) ، سورة الحشر (8- 10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الرسول صلى الله عليه وسلم ويا له من شرف، حين قال يوما لأصحابه: «أي المؤمنين أعجب إليكم؟» . قالوا: الملائكة. قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟» . قالوا: فالأنبياء. قال: «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟» . قالوا: فنحن. قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها» «1» . ونحن إن شاء الله من هؤلاء، والحمد لله رب العالمين على نعمة هذا الدين. ولقد اعتبر صلى الله عليه وسلم الأجيال المؤمنة التالية للصحابة بأنهم إخوانه، فنعمت هذه الأخوة وكرمت ونفست. فلقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى البقيع فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنّا قد رأينا إخواننا» قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد» قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: «أرأيت لو أن رجلا له خيل غرّ محجّلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فإنهم يأتون غرّا محجّلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض» «2» . فالصحابة الكرام كانوا مثلا يهتدى بهم ويقتدى، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تربوا على كتاب الله فهو نور وهدى لهم ولأهل الأرض أجمعين، وهو الحق الذي تتبين آياته في كل حين. بلّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بلاغ وأدّاه خير أداء وجاهد له أعظم جهاد تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)   (1) التفسير (6/ 3483) . (2) رواه مسلم: كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرّة، رقم (249) . انظر: رياض الصالحين (429- 430) ، رقم (1029) . ودّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية إخوانه- ونحن منهم، إن شاء الله تعالى- في الدنيا. ولئن فاتنا هذا في الدنيا، فنرجو رؤيته واللقاء به والاجتماع تحت رايته في الآخرة، إن شاء الله. الغرّة: بياض في وجه الفرس. والتحجيل: بياض في قوائمه. الدّهم: السود. البهم: لا يخالط لونهم لونا آخر غير السواد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الحاقة: 43- 52] . والله تعالى هيأ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم- القدوة والأسوة النبوية- وأعده من كل ناحية، للاحتمال والاكتمال والتلقي للوحي الأمين. وهو أمر صعب يعرف عنه من اطلع كيف كان حاله صلى الله عليه وسلم حين يتلقى الوحي. ثم وجّهه- سبحانه وتعالى- بكل الأحوال، يوحي إليه ويسدده ويثبته وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً [الإسراء: 73- 75] . وهكذا يثبّته الله جل جلاله ويؤهله، فيرتقي بالاحتمال يمده به- سبحانه وتعالى- والاصطبار والكشف، مما لا يفعله إلا نبي ولا يستطيعه غيره، بتأييد الله له ومدده. كل ذلك وهو يقوى ويزداد ويثبت باستمرار. وعلى هذا المنهاج ربّى صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام، بالوحي الإلهي وبما أنعم الله عليه بالمعرفة والإعداد والعلم النوراني والوحي الرباني. وكان يعلّم الصحابة الكرام بالتمرين والممارسة المتلاحمة الدائمة والمباشرة والتدريب، وفي ميدان الحياة ومعتركها، ممارسة واحتمالا وتفاعلا. * السيرة موئل ومنهل: ومثلما نجد في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة، فلقد كانت من الرحابة غدت بها متّسعا لكل ما نريد من أمور الإسلام في الحياة، على مدى العصور والأجيال، في كافة الأحوال. وهكذا أحس الصحابة وفهموا، وكانوا يلجؤون إليه صلى الله عليه وسلم ويجدون عنده الراحة والأمان والأمل والحل والفضل والقوة والقدوة، ينهلون منها وبها يرتقون، وكأنهم يحيون معه في عالم آخر رفيع يستمدون منه، لينطلقوا في الحياة بها عاملين، تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 لهم السيرة مددا في جنبات الحياة ودروبها، وشعلة منيرة، يستضيئون بها ويفيئون إليها ويستريحون. ويوما قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يدل على الرهافة والتعلق والحساسية: يا رسول الله إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره. قال: «كيف أنتم وربكم؟» قالوا: الله ربّنا في السر والعلن. قال: «ليس ذلك النفاق» «1» . وكان هؤلاء الصحابة الكرام- رضوان الله عليهم- القدوة، يورثونها لمن بعدهم، ينشرون عطرها ويفيضون شذاها، وربّ العزة يقول في وصفهم: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] . ويقول كذلك: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 8- 10] . فكانوا بها يرتفعون وبمؤونتها يتغذّون، لينطلقوا في الحياة بقوتها متجددة. وكذلك الأجيال التالية- ونحن منهم بعون الله تعالى وفضله- وكل من يأتي يستمد من هذا النبع الكريم. وهكذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتعهدهم ويرعاهم ويرتفع بهم. فلقد ورد عن حنظلة الكاتب «2» ، أحد الصحابة الكرام، ومن كتّاب النبي صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: كنا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكّرنا الجنة والنار حتى كأنا رأي العين، فقمت إلى أهلي وولدي فضحكت ولعبت، فذكرت الذي كنا فيه، فخرجت فلقيت أبا بكر   (1) مسند أبي بكر البزار. (2) عن حنظلة هذا (حنظلة بن الربيع الأسيدي) انظر: الاستيعاب، (1/ 379) ، رقم (548) . أسد الغابة، (2/ 65) . الإصابة، رقم (1859) ويرد هذا بتفصيل أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 رضي الله عنه فقلت: نافقت يا أبا بكر! قال: وما ذاك؟ قلت: نكون عند النبي صلّى الله عليه وسلّم يذكّرنا الجنة والنار كأن رأي العين، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا، فقال أبو بكر: إنّا لنفعل ذلك. فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكرت له ذلك فقال: «يا حنظلة، لو كنتم عند أهليكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطريق. يا حنظلة، ساعة وساعة ... ولو كنتم تكونون كما تكونون عندي لأظلتكم الملائكة بأجنحتها» «1» . ومثل هذا كان مع أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إنّا إذا كنا عندك رقّت قلوبنا وزهدنا في الدنيا ورغبنا في الآخرة، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لو تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لزارتكم الملائكة ولصافحتكم في الطريق، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون حتى تبلغ خطاياهم عنان السماء، فيستغفرون الله فيغفر لهم على ما كان منهم ولا يبالي» «2» . وهذا يشير إلى الآفاق التي يحيا بها الصحابة الكرام وتساميها، يرتقون فيها، بيد الرسول صلّى الله عليه وسلّم يرفعهم إليها بهذا الدين، ليستمروا عليها في حياتهم ما داموا يستمدون منها. وهم دوما يقتدون بهذا النبي الكريم والرسول العظيم صلى الله عليه وسلم. وهذا وحده لا يكون إلا بنبوة ورسالة من الله تعالى إلى خلقه، يحملها من يختاره بحكمته، فاختار محمدا صلّى الله عليه وسلّم واصطفاه ليكون الأسوة الحسنة والقدوة الكريمة لأهل الأرض أجمعين. إنه سيد الأنبياء والمرسلين وقائد البشرية إلى طريق الله المنير. * السيرة بناء وارتقاء: وكان الصحابة الكرام يترقّون ويرتقون في سلّم الهداية ويرفلون في نعمة   (1) حياة الصحابة، (3/ 50) ، (320) رواه مسلم وآخرون. (2) حياة الصحابة، (3/ 320) . وتجد تمام الحديث في مسند الإمام أحمد، 2/ 304- 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 منهج الله تعالى، بعد أن أنقذهم الله سبحانه وتعالى بالإسلام من شفا جرف هار، ورفعهم من سفح الجاهلية ومستنقعها ليسمو بهم إلى القمم العالية التي أرادها الله للإنسان بهذا الدين على يد المصطفى صلى الله عليه وسلم. واقرأ معي- إن شئت- قول الله جلت قدرته وتباركت أسماؤه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 103- 104] . ودوما كان الصحابة يذكرون الله تعالى ويشكرونه أن أنقذهم من الجاهلية التي عاشوها «1» ، ليضعهم في أعلى قمة عرفها الإنسان. وهذا لا يتم إلا بالإسلام وحده الذي أنعم الله به عليهم ورعاهم به وأكرمهم وكرّمهم. ولقد ورد عن ربيعة بن كعب الأسلمي «2» أنه قال: كنت أبيت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: «سل» . فقلت: يا رسول الله، أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: «أو غير ذلك؟» . قلت: هو ذاك. قال: «فأعنّي على نفسك بكثرة السجود» «3» . انظر ماذا سأل ربيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، سأله لآخرته، والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم يعرف أن هذا السؤال بحاجة إلى استعداد، لا بد من توفره لمن يسأله، لا مجرد التمني؛ لأن المسلم يحس بمسؤوليته ويقدم لها مستلزماتها ويرتقي   (1) انظر كذلك في وصف تلك الجاهلية: سير أعلام النبلاء، (1/ 389) . (2) ربيعة بن كعب بن مالك (63 هـ) صحابي جليل من أصحاب الصّفّة (عنهم انظر، أعلاه) ومن أهل المدينة. كان يلزم النبي صلّى الله عليه وسلّم في السفر والحضر، وصحبه قديما. انظر: الاستيعاب، (2/ 494) ، رقم (765) . أسد الغابة، (2/ 216) ، رقم (1660) . الإصابة، (1/ 511) رقم (2623) . تخريج الدلالات السمعية، (69- 70) . حياة الصحابة، (2/ 605) ، (669- 671) . زاد المعاد، (1/ 236) . (3) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، رقم (489) . وانظر: زاد المعاد، (1/ 236) . التفسير، (2/ 700) . حياة الصحابة (2/ 605) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 بنفسه لاستعداداتها، حتى يكون أهلا لاستحقاقاتها. والرسول صلّى الله عليه وسلّم يعرف أصحابه وعنهم، أكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم «1» . وكان يدلّهم صلّى الله عليه وسلّم على الطريق، وأن التقرب إلى الله لا بد من العمل له، احتمالا وإقبالا وبذلا، يقوم على صدق النية والإخلاص الأكيد الكامل لله رب العالمين. وخلوص المسلم، بكل ما لديه همة ومكنة ووجهة، له سبحانه وتعالى متجردا وفرحا، بما يؤديه ويقدمه. وعند ذاك يعينه الله ويقويه ويستجيب له، وفي الحديث الشريف أن يدعو المسلم الله ربه وهو موقن بالإجابة «2» . وعلى ذلك، ولأن هذا الرجاء من ربيعة مطلب أساس يتمناه، فهو لا يستبدله ولا يريد غيره، بل أكده لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنه مستعد لتكاليفه التي تهون، ليتحقق له رجاؤه. فلم يكن حرصه على صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات حدود، محبة عظيمة لا مثيل لها، في صدقها وعمقها وقوتها. وكذلك يحبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يؤثرهم على نفسه ويقدم أمورهم ويرعاهم وفتقدهم ويتفقدهم ويحملهم، معينا على ذلك الارتقاء في سلّم الإيمان، ليصلوا باستعداداتهم الإيمانية التي بناها لهم بالإسلام وحده إلى قممه العالية ما استطاعوا. ولذلك بيّن صلّى الله عليه وسلّم لربيعة، كيف يمكنه أن تستمر الصحبة من الدنيا إلى الآخرة، وهو أمر كان يشغلهم بعد ما عرفوه وقدروه وذاقوا طعمه في الدنيا، فحرصوا عليه وغدا لهم شغلهم الشاغل «3» ، فقال له صلّى الله عليه وسلم: «فأعني على نفسك بكثرة السجود» . إذا حتى يدعو الله له ويستجيب لسؤاله، عليه أن يعين هو نفسه رسول الله صلى الله عليه وسلّم على تحقيق هذا المطلب بكثرة السجود لله رب العالمين. والرسول صلّى الله عليه وسلم- رغم كثرة عبادة الصحابة- كان صلّى الله عليه وسلّم أكثرهم عبادة   (1) التفسير، (2/ 698) . (2) بمعناه، ولعله أثر. (3) انظر: التفسير (2/ 700) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وسجودا، فهو أعرفهم بالله سبحانه وتعالى. وهكذا كان عليه الصلاة والسلام في كل الأمور عالي الآفاق، بعيد الأغوار، وفير الأذكار. * مدلولات فريدة جديدة: في قصة ربيعة مدلولات متعددة، كلها ذات معان رفيعة، ولكني أبرز هنا اثنين منها، هما: 1- شمول وعمق ودقة معرفة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بنفوس أصحابه، واستعداداتها ومداخلها ودواخلها وإمكانياتها ونوافذها ومقدار إقبالها، مثلما تشمل رعايتها وتربيتها ومعاونتها لتحقيق مستويات متراقية في تسلق وارتقاء واعتلاء قمم التقدم المتعالية في سلّم الإسلام. والأمر كذلك في أخذ هؤلاء الأصحاب الكرام بخير وأكرم وأفعل الأساليب للوصول إلى ذلك، بأبرك سبيل وأروع ثمرة وأزهى غرس، في تعميق الرغبة للاستمرار في هذا الاتجاه، وذلك اعتمادا على بنائهم الإيماني الرباني الذي شاده الإسلام وبوحي الله تعالى في قرآنه المنزل ثم بجهاد وجهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فكانت الإشارة والتلميح والنظرة كافية لتفعل ما لا يفعله المجهود الضخم والقوة الآمرة والقوانين الساهرة «1» .   (1) وهذا واضح في الأفراد والجماعات والتجمعات. والأمثلة لكل هذا كثيرة جدا، فالسيرة أحداث ومواقف وأخلاق وتعامل وبذل والتزام بالإسلام كله وفي كل الأحوال والدوائر. ولقد ورد ويرد بعض هذه الشواهد. خذ مثلا تعيير أبي ذر بلالا الحبشي رضي الله عنه بأمه السوداء، وماذا قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ... » . رواه البخاري: كتاب الإيمان. باب المعاصي من أمر الجاهلية، رقم (30) . كذلك: أرقام (2407) ، (5703) . ومسلم: رقم (1661) . وأبو داود، رقم (5157) . والترمذي، رقم (1945) . ومسند الإمام أحمد، (5/ 161) . وهو حديث حسن صحيح. وبالمناسبة فقد كان لعبد الله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما- ابن اسمه بلال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وهذا هو البناء العميق القوي المؤمن بالله ورسوله ودعوته، الذي أقامه الإسلام، يحافظ عليه صاحبه ويستمر في إعلائه ذاتيا، فتأتي ثماره في الحياة بكل أحواله، صورا جاهرة بارّة ناطقة، فتراه سلوكا ظاهرا وضيئا متلألئا. وهكذا يستمر ويقوى ويشتد عوده ثم يعلو وبشكل متواصل، بحرص من ذات النفس، ويقدّم بقوة عطاءه واضحا في مسالك الحياة ودروبها، وفي كل مجال، ليصبح لهم سمة خلقية، حتى غدوا يأخذون بالعزائم مع وجود الرّخص. فكانت حياتهم بناء وإعلاء وعطاء، تتناسب والمهمة التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، وبه يحققونه. وهي الخلافة في الأرض، لبنائها وعمارتها وإنارتها كلها، بشرع الله الذي أنزله على رسوله الكريم محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم، مقتدين به آخذين بسنته الكريمة. وكل يوم يزداد ذلك ويتضح ويتقدم، وكان يتم جميعا في هذا الجو الكريم وفي المعترك والمواجهة ومضطرب الأحداث. 2- بهذا البناء الإيماني الرباني الوحيد، أصبحت نفوسهم كلما وصلت   فمدحه أحد الشعراء بقوله: وبلال عبد الله خير بلال. فقال عبد الله بن عمر للشاعر: كذبت، بل: وبلال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير بلال. سير أعلام النبلاء (1/ 349) . ولهذه مدلولات كثيرة. وانظر عبد الله بن عمر حين علم ما قاله صلّى الله عليه وسلّم فيه عن طريق أخته أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهم حيث قال صلّى الله عليه وسلم: «نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي بالليل» . فما ترك صلاة الليل (التهجد) حتى وفاته (فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا) . البخاري، (3530) . هذه الشواهد للأفراد، أما الجماعات فما أكثرها، لأنها تتكون من هؤلاء الأفراد. وانظر مثلا في الهجرة والمهاجرين والنصرة والأنصار واستجابة المسلمين ومواجهاتهم، بل وإقدامهم وبذلهم وتضحياتهم- أفرادا وجماعات- في المعارك والفتوحات وهروعهم للمعاونات. يتعاونون في كل الأحوال والتجمعات على الخير والطاعة والاستجابة، للنساء والرجال والأطفال. خذ مثلا استجابتهم في فعل الأمر بالمعروف والانتهاء عن النواهي. من ذلك ما فعلت النساء المسلمات حين نزلت آية الحجاب (سورة النور، 31) وما فعل الرجال حين نزلت آية تحريم الخمر (سورة المائدة، 90- 91) . وسيأتي شرح ذلك بتفصيل إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 إلى قمة، نظرت وتطلعت إلى التي تليها لتعتليها. وتلك طبيعة الإسلام وصياغته التي اصطبغت بها كل تصرفاتهم، شأن كل من يقبل على هذا الدين، الذي لا يقبل الله سبحانه وتعالى من أحد دينا غيره، متوكلا على الله جل جلاله، ملتزما بشرعه العظيم مقتديا بنبيه الكريم صلّى الله عليه وسلم. ولكن بالاتجاه الرباني الذي يريده الإسلام والذي كلما تقدّمت فيه تقوى أكثر، آخذا بأسباب الترقي فيه، باتساعه الذي لا حدود له. وكان هذا الترقي- في سلّم الإيمان- النبع الذي جرى عذبا زلالا نقيا إلى التابعين ومن بعدهم، وسيبقى- إن شاء الله- إلى يوم الدين. والكل كان مهتما بدراسة ومعرفة السيرة الشريفة ويستقون منها. وتجد آثارها وثمارها ماثلة في حياتهم، ابتغاء رضوان الله تعالى وثوابه وجنته تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] . فهم لذلك يعملون ويجتهدون ويجدّون في هذا الاتجاه، وهو كل همهم لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8] . فكان هو بناؤهم ورّثوه لمن بعدهم من الأجيال التالية. وهذه التربية والبناء جعلت سمتهم الذاتية بهذه المعاني عالية جدا، إلى حد أن الخليفة عمر بن الخطاب- مثلا- رضي الله عنه يقول: (لو عثرت بغلة بالعراق لرأيتني مسؤولا عنها أمام الله تعالى لم لم أسوّ لها الطريق) . ومع ذلك فحين طعن قال لابنه عبد الله: خذ رأسي عن الوسادة فضعه في التراب، لعل الله يرحمني وويل لأمي إن لم يرحمني الله عز وجل، وأنشد: ظلوم لنفسي غير أني مسلم ... أصلي الصلاة كلّها وأصوم «1» إذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول هذا ويعتبر نفسه مقصرا، فما الذي نقوله نحن إذا، وما موقفنا؟ وقل معي:   (1) الاستيعاب، (3/ 1157) . أسد الغابة، (4/ 177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أما أنا ماذا أقول ... وكل أعمالي ذبول كيف أنا ماذا أقول ... ومحمد نعم الرسول نفسي فداك عزيزة ... وقليلة أبا البتول ولو ملكت مئاتها ... فهي للدين تؤول هذي بضاعتي وضراعتي ... وبالشفاعة للقبول حبّي لكم متواصل ... وجذوره فيه الشّمول الله يعلم كنهه ... عشق عذراء دلول وخطى الشريعة سرتها ... قدميّ للحمل ذلول إنه العشق الأصيل ... وذاك يكفي أن أقول * ثمار أغنت ميادينها: وظني أن الذي كان يتولى من الصحابة الكرام أمرا من أمور المسلمين- أو مهمة أو تكليفا- سليمة كانت أو حربية أو إدارية، يقوم به وهو يحيا بهذا البناء ويتعامل معه ويخوض ميدانه، في كل مرة جديدة. ويذهب إليه ويتعامل مع قضاياه ويسلك فيه مسالكه الواقعية التطبيقية، فتظهر فيه الآثار والثمار الطيبة لتلك التربية الفريدة والبناء المتنور والغرس الضارب الجذور إلى أبعد الأعماق. فيظهر كل ذلك بثماره في الميدان الجديد والمعترك الموكول، فتتمثل في تصرفاته، صيغا رائعة جديدة وصورا باهرة فريدة. عرفت من خلال التكليف بتلك المهمة التي بها ظهرت نوعية بنائه سلوكا، وأكسبته دراية وتعلية وتربية ليرتقي إلى قمة أخرى. وأرى أن الميدان نفسه ليس هو الذي أكسبه ذلك، ولكن كان هو المناسبة التي ظهر فيها هذا النوع الفريد، بهذا الموقف النادر. وهكذا كانت المهمة الجديدة- التي قد تكون جديدة وأكثر صعوبة مما ألفه- مظهرة مواصفات تلك التربية وصيغتها الكريمة. وهذا يعني أيضا أن الشعور بالمسؤولية والقيام بالتكاليف تستدعي ما يناسبها علوا وقوة وهمة. استجابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 مع نوعية تلك المضامين والمضامير والمفاهيم الكامنة في ذلك البناء. متناسبا مع تقديم تلك التكاليف والقيام بالواجبات الموكلة إليه، بأحسن نوعية من المستوى في التربية التي بها يستشعر المسؤولية ويستجيش المشاعر ويستدعي الطاقة بتمامها، حضورا أمام الله تعالى، مستمر التمرس والتمرن والتدرب على ارتقائها لقمّة أخرى. وهذا يشير إلى أن ذلك البناء كان من القوة بحيث يحتمل أية مهمة جديدة وتكليف قادم وعمل مرغوب لخدمة هذه الوجهة، مهما يتطلب من الهمة والقوة والمواصفات. ويجعله يحافظ ويلتزم بمستوى يبقي ذلك الواجب يؤدى بنفس تلك الصيغة والنموذج والمعدن. وهذا يعني أن الذين يتولون المهمات العامة- في هذا البناء والأجواء والمجتمع- تظهر فيهم تلك المواصفات، بصيغ تحافظ على النوعية، في مستواها الجديد مهما كانت مغرياتها وأثقالها وصعوباتها. وتظهر- رغم ذلك كله- أكثر قوة وازدهارا وإبهارا، كلما كانت أكبر وأشد وأقوى. وانظر إلى كل من تولى من الصحابة الكرام- ومن بعدهم لقرون، وحتى الوقت الحاضر، ودوما هي كذلك- مهمة في الحياة الإسلامية. وهي جميعا لها صيغها الإسلامية وتعليماتها وآدابها، فيأخذ بها. وكلما علت، تكثر فيها المواقف الأقوى والأعلى والأسمى، وتظهر وتبدي دقتها وترقيها، وتحرّج صاحبها ومحاسبته نفسه ومراقبة ذلك كله. ومن هنا ورد عن بعض الصحابة إنهم كانوا يتركون الكثير من الحلال خشية الوقوع في الحرام. * عصر النبوة وامتلاء ميادينه بالأعلام العالية: وانظر عصر النبوة الشريفة كيف امتلأ بالأعلام، وليس كأي أعلام. فهم أعلام في المجتمع المسلم، فكيف في غيره، في كافة الميادين، مما يعتبر إلى هذا اليوم- ويبقى بعده كذلك- وسيبقون مثالا يحتذى حتى عند غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 المسلمين. وكانوا قبل الإسلام مغمورين خائفين ضالين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 102- 103] . فهذا هو الجيل القرآني الفريد. ما كان أحد يحسّ بهم أو يحسب لهم حسابا، أي حساب، أو يسمع لهم صوتا. لكنهم بهذا الدين وحده غدوا القادة، لهم المحبة والتقدير والإعجاب حتى من عدوهم، فملؤوا سمع الدنيا وبصرها. فحازوا أعلى مكانة وارتقوا أشرف قمة، بعد أن كانوا لا يحيون إلا في تيه المنحدرات المظلمة. تم كل ذلك بهذا الدين وحده ولا يتم بغيره. والله تعالى يقول: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10] «1» . وحين قدم عمر الشام واستقبله القادة المسلمون (وهم من الصحابة، العرب) وقد «عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع خفيه فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره. فقال له أبو عبيدة: لقد صنعت اليوم صنعا عظيما عند أهل الأرض. فصك في صدره وقال: أوّه لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله» «2» . وإذا كان الإنسان المسلم من هذه النوعية، تظهر مكنوناته في المواقف والمواقع والمسؤولية، بما يتناسب ويتواكب معها من المراتب بعلوه وبفنونها ويعطوها السّمة الجديدة والصيغة الحميدة والصبغة الفريدة، بل ويفوقها.   (1) الذكر هنا: الشرف. وانظر أدناه، ص 198. (2) البداية والنهاية، ابن كثير، (7/ 60) . أخبار عمر، (316- 317) . تاريخ عمر بن الخطاب، ابن الجوزي، (174- 175) . مختصر منهاج القاصدين، (249- 250) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فإن العكس كذلك، إذا تولى وتولاها تظهره على حقيقتها في التدلي والتدني والتخلي، مهما ادعى وسعى وحمل لافتات العلم، فأين الثرى من الثريا؟ * الحضارة والأصالة الإسلامية في الدعوة الربانية: استعرض ما تعرف من الصور المتردية قديما وحديثا. أما قديما فترد في هذا الفصل بالذات نماذج منها، حكاها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم. وحديثا أمامك هذه الحضارة أو المدينة المعاصرة. وانظر إلى حياتهم ومجتمعاتهم وتعاملهم، لا سيما من الداخل، كما يفعل أهل النظر الثاقب. ولو عرفت حالهم لجانبتهم وحذرتهم وتجنبتهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً [الكهف: 18] . فهذه المدنية التي ادعت التحضر والإنسانية والديمقراطية، لا تملك من ذلك مصداقية، حتى لو وجدت بعض الظواهر والمظاهر العابرة؛ لأن ما تدعيه ليس أصلا فيها، بل هو سطحي، طالما تلوثه وتحتال عليه وتمرغه، ولا يسعها غير ذلك ولا تتوقعه، فتلك طبيعتها الحقيقية وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ [إبراهيم: 26] . وهذا بظهور ومنظور المجتمع المسلم، المسلم حقا، كما يريده الله تعالى. علما أننا لا ننكر- بل نعرف ونقدّر تماما- الجهد العلمي الكبير الذي بذلته هذه الحضارة والنتائج التي وصلت إليها والثمار التي جنتها. وإن كان كل ذلك تم لها بعد اتصالها بالعالم الإسلامي، يوم استقام له الأمر بهذا الدين، رغم النكبات والنكسات والانحسارات التي ألمت به. وإن هذه الحصيلة التي وصلت إليها هذه الحضارة الحديثة كانت بدوافع نفعية بعيدة عن دين الله. ولذلك كان اقتباسها من العالم الإسلامي بعيدا عن مضامينه ومعانيه وأصوله من العقيدة الإسلامية والشريعة الربانية؛ لذلك كانت بلا جذور ولا قيم منظورة أو غير منظورة، لأنها بلا رقابة من قبلها ومن قبلها لله سبحانه وتعالى، مما جعلها تستبد وتغر وتتجبر بهذه النتائج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 التي مكنتها في ميدان، خلا من منافس لوقت ما. وترانا للأسف الشديد- مع كل ذلك- نستعين بأهلها ونطمئن إليهم ونترجاهم لمعاونتنا ونتوادد أو نتودد إليهم ونخنع لهم، على ادعاء أننا نعمل باستقلالية تكافئية لا خوف منها على مصالحنا. ونجري معهم الصداقات آمنين، رغم ما يكنونه للإسلام وأهله من حقد دفين وعداء غائر ورغبة في الانتقام الذي لا يبقي ولا يذر. يجري ذلك مع كل التحذيرات التي وعاها السلف الصالح وجهلها أو تجاهلها أو أهملها الخلف. ورغم الأمثلة والشواهد والأحداث التي ما فتئت تشرح ذلك دون توقف، من أقدم الأوقات وأول المواجهات على مدار التاريخ وحتى الوقت الحاضر، هي دائرة في مدارها مهما تبرقع ذلك كله وأمثاله. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة ساقها الله سبحانه وتعالى لنعيها ونتفهمها ونعمل بها. فيقول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [آل عمران: 118- 119] . وحين نقارن أي وضع في أي من الحضارات- قديمها وحديثها، لا سيما المعاصرة منها- فإن هذه المقارنة لا تتم مقابل أوضاعنا الحالية بأي مقدار أو اعتبار أو منظار، لكنها تتم مع الحياة الإسلامية ماضيا ومستقبلا، إن شاء الله تعالى. إلّا أن هذه الحضارة أو المدنية المعاصرة- من الناحية الآخرى- كثيرا جدا ما استثارت في الإنسان حيوانيته، من كافة النواحي البشرية، وأخذت به إلى درك بعيد جدا عن إنسانيته، التي أرادها الله له أن تتحقق بهذا الدين. واستقرار واستمرار حالها المتردي تماما، لا بد أن يكون لها مثل هذه الثمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 المرة الشؤوم، ما دامت بعيدة عن دين الله وشرعه. وسيبقى الأمر كذلك ما بقي هذا حالها، وهي تنتظر مصيرها الذي تحتمه سنن الله تعالى في مصائر الضالين، والتي بيّنها الله تعالى في القرآن العظيم ووضحها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم في سنته المطهرة وسيرته الشريفة. تلك سنة الله التي لا تحيد. وهذه السنن هي التي لها الحتمية والوحيدة في نواميس هذا الكون والخليقة. إن كل التقنيات التي أبدعتها هذه الحضارة المعاصرة وأنجزتها تعتبر مهمة جدا ونافعة ومفيدة، لكن وجهها الآخر أنها ربما تكون أحد أسباب تحطيم البشرية ولهذه الحضارة نفسها والإجهاز على مستقبلها والإتيان على سعادتها؛ بما لديها من أساليب التدمير التي لا ترعى ولا ترعوي ولا تهتدي. وهذه هي طبيعة الجاهليات، القديمة والحديثة والمعاصرة وكل الجاهليات، ما قبل التاريخ وما بعد التاريخ وكل تاريخ، لأي قوم انتسبت وعلى أي أرض قامت وأي عصر تواجدت. وهي أيضا سلاح للتسلط والتحكم والعبث بالإنسان والمجتمع والعيث بالحياة وأهلها. وانظر ماذا يفعلون بنا وبغيرنا من البلاد الإسلامية، وقد فعلوا. حتى لقد أصبحت وكأن هذه الأفاعيل والأضاليل والمجاهيل سمة من سماتها ونتاج من نتاجاتها وأصل فيها لا تنفك عنها. ذلك لأنها لا تستمد تواجدها من أي قيم فاضلة تقوم على رضا الله تعالى وطاعته بشرعه المنير، بل من المصلحية والنفعية والأنانية، بحقدها الدفين وعدائها الشديد والاستصغار للآخرين وتسخيرهم لها. ومن لا يخضع لذلك فله الهلاك والتدمير. أمور عبر عنها الآخرون الذين ارتضوها وتابعوها وساروا في ركابها. وما يجري لنا مما ترتكبه فينا وفيما حولنا، لا يحتاج إلى مزيد من الأدلة. انظر إليها كيف تجمعت بكل شقاواتها وشقائها وضغائنها على المسلمين وكل عالمهم هذا وذاك وهنا وهناك واليوم وغدا. وهذا يؤكد تماما أن الضلال عن طريق الله تعالى وهديه المنير لا يقود إلا إلى الهلاك في الدنيا والآخرة سواء، ولا بديل. وهو واضح مؤكد في القرآن الكريم. رأيناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ونراه في تاريخ الأمم والشعوب، قديما وحديثا ودواما، خلال الأحداث وعلى تتابع الأجيال. ولا يغير من الواقع شيئا، أن تفعل كل ذلك وتستثيره باسم العناوين التي تبنتها والشعارات والأسماء التي تزيّت بها وقبعت وراءها لتسوق كل أنواع الأنانيات إلينا ولغيرنا- وكان ذلك شأنها- بمراكبها التي صنعتها أو التي استأجرتها ومولتها، أطلقتها علينا حمما حارقة وألسنة نزقة وسهاما خارقة، مهما ادعت وتظاهرت وتباكت، فذلك ستار لا بد لها، نفاقا وإغراقا وإغداقا. فإلى متى نبقى نسير معهم- أو خلفهم- ونستدلهم على أمورنا، بل نتعرف طريقنا بهم؟ وهم الذين يريدون لنا الضّياع. فهل نبقى نستنصحهم حتى يوصلونا إلى الهاوية؟ عندها نجلس نولول ونندب وننتحب نادمين، ولات ساعة مندم. فما ينفعنا حتى لو عضضنا حتى العظم أو القضم أصابعنا، حسرة وألما وندما، كما جرى لنا في الحربين العالميتين، من خدعهم، أفرادا أو جماعات أو من دولهم. ولقد جربنا وعودهم المخادعة التي صدقناهم بها وغدراتهم البارعة. وكم ركنا إلى رباياهم (جمع: ربيئة طليعة) ، أمثال: لورنس العرب «1» والحاج عبد الله فيلبي «2» الذي كان مثل آخرين   (1) هو) (الشهير: لورنس العرب (1888- 1935 م) . ضابط وكاتب بريطاني، قاتل في صفوف العرب (المسلمين) في الحرب العالمية الأولى، مشاركا في قيادة الثورة العربية الكبرى (1916- 1918 م) ضد الدولة العثمانية المسلمة (الأتراك) في الحجاز وفلسطين. (2) هو: هـ. سنت جون فيلبي 1960 -1885) (PHILBY (H.ST.JOHN) م) الشهير: الحاج عبد الله فيلبي!!؟ الذي ادعى الإسلام وعاش يخدم بريطانيا منذ أيام الحرب العالمية الأولى في العراق والبلاد العربية لا سيما الجزيرة العربية. وقد توزع هو ولورنس وغيرهم الأدوار لخدمة بريطانيا، وكل بأسلوب. قارن: المستشرقون، (2/ 116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 تظاهروا بالإسلام، ابتداء من ابن السوداء حبر يهود عبد الله بن سبأ إلى كثير من المعاصرين من الغربيين. وقل مثل ذلك في تجمعاتهم ودول حلفائهم. وهذه معاهدة سايكس- بيكو «1» السرية شاهدة. ولقد بلغت سياسة الغافلة أو التغرير ليس فقط أننا صادقناهم وتابعناهم، بل رضينا أن نقف معهم أو بل دونهم- وهم الأعداء- ضد إخوتنا المسلمين (العثمانيين) ، كي يعطونا حقوقنا!! كيف ذلك؟ وهُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون: 4] «2» . واليوم منا من يقوم لهم بما يريدون ويتمنون وزيادة، بل وأكثر مما يرغبون!!؟ وكل مرة نجرب ونعود نجرب. وهكذا وهكذا، حتى يظهر المستور وينكشف المخبوء وينجلي المضمور. ومع ذلك ترانا حولهم ندور! فما يمكن أن نسمي ذلك؟ أهو ... أم هو ... أم ماذا؟ إن مقتضى الأخذ بالإسلام أن يكون الولاء له صافيا وكاملا وخالصا، وينبذ كل صلة أخرى، ونعرف هؤلاء. ولا يعني ذلك أننا نعلن الحرب عليهم، دون سبب بين، بل الواجب ألّا نثق بنواياهم، ولا نواليهم أو نعتمد عليهم في أمورنا، وإن تعاملنا معهم، فهذه المعرفة لا تفارقنا. والسيرة   ولقد ذكر لي والدي- رحمة الله عليه- أنه رأى- وهو يافع- قبيل أو خلال (أثناء) الحرب العالمية الأولى، أكثر من واحد من الإنجليز قدموا إلى مدينتنا- المقدادية (شهربان) ، ديالى- على أنهم مسلمون. وأحدهم أقام في مسجد المدينة وأقبل الناس عليه فرحين بإسلامه، وكان يعرف العربية. ولما وصل الإنجليز- وكان لهم ربيئة (مقدمة لقومه للهجوم) - ترك المكان فجأة، فما عرفوا عنه شيئا واختفى سريعا. والظاهر أنه كان ضابطا، مقدمة لقومه. (1) وهي المعاهدة السرية التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا عام (1916 م) على توزيع البلاد العربية وجعلها مناطق نفوذ لهم، مكافأة (أو معاقبة) على وقوف العرب (المسلمين) مع الحلفاء (الأعداء المشركين) ضد الدولة العثمانية المسلمة. (2) أَنَّى يُؤْفَكُونَ: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 النبوية الشريفة مليئة بالعظات الموجّهة الغنية في كل هذه الأمور وغيرها. فانظر وقارن واقتد بحنكة وحكمة تليق بالمسلم. * الصحابة والولاء للإسلام: كان الولاء للإسلام واضحا في سلوك الصحابة الكرام، لا يعرفون غيره، وعلى أساسه توزن الأمور وتتخذ المواقف وتتجه النصرة مهما كانت. به يقيسون كل الأمور، يهرعون إلى كل ما يرضي الله تعالى وحسب شرعه، يتحرونه ويقبلون عليه. وكان بناء كل فرد في المجتمع على هذه الأسس الرصينة الصّلبة البالغة، وفي النهاية المجتمع كله كذلك، وفي أشد الأمور وأصعبها وأكثرها تضحية وبذلا. فانظر كيف قاتل المسلمون (العرب) المشركين (العرب) ، وكان فيهم إخوانهم بل وآباؤهم وأهلوهم، ومع ذلك كانت المواجهة واضحة والمفاصلة مكشوفة والمقاتلة شديدة. والمسلمون لا يفعلون ذلك جهلا بأي معنى كريم- وهم أهله وأولى به من كل أحد- بل على العكس، المسلم من أحفظ أناس للرّحم وكل صلة كريمة وكافة الروابط الخيرة البرّة. لكن تلك كلها مرتبطة بميزان الإسلام وحده وشرعه ومفاهيمه، وإن كان أحدهم ليتمنى أن يهتدي هؤلاء جميعا، كما رجا أبو حذيفة متألما عند مقتل أبيه كافرا في بدر: عتبة بن ربيعة. إذ كان يأمل بإسلامه (ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ... كنت أرجوه له) «1» . وأبو حذيفة هذا هو زوج سهلة «2» بنت سهيل بن عمرو   (1) سيرة ابن هشام، (1/ 640- 641) . أسد الغابة، (6/ 71- 72) . قارن: سير أعلام النبلاء، (1/ 165) . (2) أسد الغابة، (7/ 154- 155) . وأبو هاشم (أخ لأبي حذيفة) بن عتبة أخو مصعب لأمه: سير أعلام النبلاء، (1/ 166) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 (المستحاضة) . أسلمت قديما وهاجرت مع زوجها أبي حذيفة بن عتبة إلى الحبشة وولدت فيها ابنهما محمدا. ودعوة الآخرين إلى الإسلام وهدايتهم هو هدفهم، بعد ما هداهم الله تعالى له الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ [الأعراف: 43] . لكنهم حين أصروا على مقاتلتهم واجهوهم. فإذا ما أخذنا الصور الفردية، فمع كل فرد من الصحابة الكرام صورة في هذا وموقف وشاهد، مثلما في كل الأمور الآخرى، تجدهم دائما عندها. لأنها جميعا تصدر من هذا البناء، البناء الذي هو الأساس في قيام هذا المجتمع المثال بهذا المنهج الرباني الكريم. وهو لا يأتي إلا بالخير في أي حال ووضع وموقف أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم: 24- 25] . ونأتي الآن لتقديم بعض الأمثلة المعبرة عن هذا المعنى، واجعلها للجميع أفرادا وجماعات ومجتمعات ودولة، سلما وحربا وفي كل حال، ومهما كانت تفوّت من منافع أو تقدّم لهم من مغريات أو إغراآت الآخرين لهم أو تغريرهم بهم. * أسلموا وأهلهم أعداء: فكم من المسلمين- نساء ورجالا- أسلموا، ولهم من أسرتهم- ربما آباؤهم وإخوانهم- من أكبر أعداء الإسلام ومحاربيه، ويقودون ذلك ضد كل من أسلم. ونال هؤلاء الذين أسلموا منهم أشد أنواع النكال والتعذيب والحرمان. وكان هؤلاء المسلمون- فوق ذلك كله- يدعون أهليهم إلى دين الله تعالى. من أمثال: حنظلة الغسيل (غسيل الملائكة وشهيد أحد) بن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 عامر الفاسق. فكان أبوه هذا الفاسق يوم أحد مع المشركين «1» وابنه حنظلة يقاتل المشركين- ومعهم والده- ناصرا دعوة الله تعالى، حتى استشهد فيها، ومن أوائلهم. وعبد الله (الابن) بن عبد الله بن أبيّ بن سلول الخزرجي، كان أبوه رأس النفاق في المدينة المنورة، وبه عرف. أما ابنه (عبد الله الابن) فكان من سادة الصحابة وأخيارهم، وكان اسمه الحباب، وبه كان أبوه يكنى، فغيّره النبي صلّى الله عليه وسلّم وسماه عبد الله. واستمر هذا يجاهد مع الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم، واستشهد يوم اليمامة «2» ، في قتال مسيلمة الكذاب. ومن مواقفه (الابن) أنه وقف ضد أبيه حين عاد المسلمون من غزوة بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع، التي حدثت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة «3» . كذلك أخته رملة بنت عبد الله بن أبي بن سلول الأنصارية وأبوها رأس المنافقين، أسلمت وبايعت الرسول الكريم «4» صلى الله عليه وسلم. وكذلك أختها جميلة بنت أبي بن سلول، وكانت زوج حنظلة الغسيل «5» .   (1) كان هذا الفاسق يسمى في الجاهلية الراهب، وقد حسد- مع ابن سلول- رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما منّ الله به عليه. وأما حنظلة فهو من سادات المسلمين وفضلائهم. وسار للجهاد إلى أحد صباح ليلة عرسه فاستشهد فيها فغسلته الملائكة، فأصبح هذا اسما عرف به ويدل عليه. أسد الغابة، (2/ 66- 67) . (2) سير أعلام النبلاء، (1/ 321) . ولعبد الله الابن مواقف كثيرة رائعة رائقة. انظر: أسد الغابة، (3/ 296- 268) . (3) هناك نقاش في تحديد تاريخ هذه الغزوة، والذي يبدو أن التاريخ المذكور يكون هو الصحيح الذي اعتمده العديد، وأن معركة الخندق كانت بعدها، حيث جرت في شوال السنة الخامسة للهجرة. سبل الهدى، (4/ 502- 503) . زاد المعاد، (3/ 256- 269) . قارن: سيرة ابن هشام، (3/ 214، 289) . الذي جعل المريسيع في شعبان السنة السادسة للهجرة واتفق على تاريخ الخندق شوال السنة الخامسة للهجرة. (4) أسد الغابة، (7/ 117) . والأمثلة في هذا كثيرة ووفيرة جدا، من الرجال والنساء. (5) أسد الغابة، (7/ 51) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وأبو جندل من المسلمين الأوائل. وأبو سهيل بن عمرو، الذي كان خطيب قريش وفصيحهم ومن أشرافهم، أسلم فيما بعد، يوم فتح مكة (8 هـ) «1» ، واستشهد يوم اليرموك (15 هـ) «2» . وكان رئيس وفد مفاوضي قريش في صلح الحديبية، في ذي قعدة السنة السادسة للهجرة «3» . وسهلة- كما سبق ذكره- أخت أبي جندل بنت سهيل بن عمرو كذلك، وهي زوجة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة «4» ، وأخوها عبد الله بن سهيل بن عمرو، من فضلاء الصحابة، أسلم قديما في مكة وهاجر إلى الحبشة واضطرّ أن يكتم إسلامه، وخرج إلى بدر مع المشركين، فانحاز إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم «5» . وهذه الظاهرة- إسلام أفراد من أسرة عرفت بعداوتها للإسلام- تشمل النساء كذلك، رغم صعوبة ذلك على المرأة. فأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط التي أسلمت بمكة قديما، وقد صلّت القبلتين وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «6» . وهاجرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية، وسارت من مكة إلى المدينة ماشية (نحو 500 كم) ، فسار أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة خلفها ليردّاها، فمنعها الله تعالى منهما. وكانت كل أسرتها تحارب الإسلام أقسى الحرب، ولا سيما أبوها كان من أكبر أعداء الإسلام طوال العهد المكي، فاذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشد الإيذاء، وخرج في بدر مع المشركين يحارب الله ويحارب رسوله وقتل فيها في (17) رمضان السنة الثانية للهجرة الشريفة «7» . وهذه أم حبيبة، رملة بنت أبي سفيان، أم المؤمنين، المهاجرة إلى الحبشة، زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها، أسلمت قديما بمكة   (1) أسد الغابة، (6/ 54) . (2) سير أعلام النبلاء، (1/ 194) . (3) زاد المعاد، (3/ 286- 315) . سيرة ابن هشام، (3/ 308) وبعدها. (4) سبل الهدى، (5/ 57) وبعدها، (148) . (5) أسد الغابة، (1/ 271) . سير أعلام النبلاء، (2/ 276) . (6) أسد الغابة، (7/ 386) . سير أعلام النبلاء، (2/ 276) . (7) سيرة ابن هشام، (1/ 708) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها، الذي توفي هناك، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. عقد صلّى الله عليه وسلّم عليها سنة ست بعد الحديبية وهي بالحبشة. أسلمت وكانت أسرتها تحارب الإسلام، حتى أبوها، وإلى أن أسلم في فتح مكة، في شهر رمضان السنة الثامنة للهجرة النبوية الشريفة. وانظر موقفها من أبيها يوم جاء إلى المدينة بعد صلح الحديبية ليؤكده، لنقض قريش العهد جهارا نهارا «1» . ورفض المسلمون جميعا التحدث معه، حينما لا حظوا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أعرض عنه. وذهب إليها يستنجد بها، فلم تستقبله يومها فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلّى الله عليه وسلم، طوته دونه. فقال: يا بنية، أرغبت بهذا الفراش عني، أم بي عنه؟ قالت: بل فراش رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنت امرؤ نجس مشرك، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» . وفي معركة أحد (منتصف شوال السنة الثالثة للهجرة الشريفة) كان الذي يحمل لواء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير، وهو من بني عبد الدار «3» . والمشركون يحمل رايتهم بنو عبد الدار «4» ، وفيهم من إخوة مصعب. واستشهد مصعب في أحد «5» . كان مصعب أترف (أرق) وأنعم وأعطر غلام في مكة يضرب به المثل في لبسه ودلاله، حتى في الذي كان يستعمله «6» ، فكان فتى مكة جمالا   (1) سيرة ابن هشام، (2/ 395) . (2) سير أعلام النبلاء، (2/ 222- 223) . سيرة ابن هشام، (2/ 396) . (3) أسد الغابة، (5/ 182، 184) . سيرة ابن هشام، (3/ 73) . جمهرة أنساب العرب، (126) . الاستيعاب، (4/ 1475) . وكان مع مصعب أخوه أبو الروم، قديم الإسلام ومن مهاجرة الحبشة واستشهد في اليرموك (15 هـ) . (4) سيرة ابن هشام، (3/ 98) . مغازي الواقدي، (1/ 291) . (5) سيرة ابن هشام، (3/ 98) . مغازي الواقدي، (1/ 291) . (6) الاستيعاب، (4/ 1474) . أسد الغابة، (5/ 182) . سير أعلام النبلاء، (6/ 147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وتيها «1» . وقال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ وقف عليه حين رآه في ميدان المعركة يوم أحد، وهو منجعف (مصروع) على وجهه شهيدا «2» ، بعد أن استشهد، وكان لا يملك غير بردة (نمرة) لا تكفيه غطاء، إذا غطّي رأسه خرجت رجلاه وإذا غطيت رجلاه خرج رأسه «3» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك: «لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرقّ حلّة ولا أحسن لمة منك، ثم أنت (اليوم) شعث الرأس في بردة» «4» . دقق في حياته، أسلم بعد ذلك الترف كله، الذي كان يتمناه الآخرون، إعجابا بجماله ومكانته وغناه، حرم وسجن ثم هاجر إلى الحبشة الهجرتين وعاد إلى مكة متابعا جهاده. «كان من فضلاء الصحابة وخيارهم، ومن السابقين إلى الإسلام. أسلم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، وكان يختلف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرا، فبصر به عثمان بن طلحة العبدري يصلي، فأعلم أهله وأمه، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوسا إلى أن هاجر إلى أرض الحبشة، وعاد من الحبشة إلى مكة، ثم   (1) نفسه. (2) أسد الغابة، (5/ 183- 184) . طبقات ابن سعد، (3/ 121) . (3) أخرجه البخاري (رقم 1217، ورقم 3854) عن خباب بن الأرت، قال: (هاجرنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ونحن نبتغي وجه الله، فوجب (فوقع) أجرنا على الله، فمنا من مضى أو ذهب، لم يأكل من أجره شيئا كان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد فلم يترك إلا نمرة (بردة- ثوبا) ، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطيّ بها رجلاه خرج رأسه. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر» . أو قال: «ألقوا على رجليه الإذخر» . ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها) . البردة: كساء صغير مربع، وقد يكون مخطط، يلتحف به. جمعها: برد وبرد (أما البريد، فجمعها: برد) . النمرة: كساء فيه خطوط بيض وسود، جمعها: نمار. يهدبها: يجتنيها ويقطفها. انظر: الاستيعاب، (4/ 1475) . مغازي الواقدي، (1/ 310) . أسد الغابة، (5/ 183) . سير أعلام النبلاء، (1/ 164- 148) . سيرة ابن هشام، (3/ 64، 98، 164) . طبقات ابن سعد، (3/ 121) . (4) مغازي الواقدي، (1/ 311) . قارن: طبقات ابن سعد، (3/ 117) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 هاجر إلى المدينة بعد العقبة الأولى ليعلّم الناس القرآن، ويصلي بهم» «1» . وكان مصعب خلال ذلك كله مثالا في الصبر والاحتمال والتضحية والإقدام والإقبال والأخلاق وقلة الخلاف «2» . كان أول المهاجرين إلى المدينة، بعد بيعة العقبة الأولى (الصغرى) وعودة الأنصار الاثني عشر المبايعين إلى المدينة في ذي الحجة السنة الحادية عشرة للبعثة الشريفة. وقد أرسله النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم (أو معهم) وإلى المدينة، حيث «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير مع النفر الاثني عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى، يفقّه أهلها ويقرئهم القرآن (ويعلّمهم الإسلام) ، ويفقههم في الدين» «3» . فكان منزله على أسعد بن زرارة «4» . وكان مصعب إنما يسمى بالمدينة المقرئ. يقال: «إنه أول من جمع الجمعة بالمدينة. وأسلم على يده العديد، منهم ثلاثة من أئمة الأنصار وسادتهم وأعلامهم، كلهم من بني عبد الأشهل الأوسيين «5» ، وهم عبّاد بن بشر «6» ، وأسيد بن حضير «7» ، وسعد بن معاذ «8» . وكفى بذلك فخرا وأثرا في الإسلام» «9» . وعاد مصعب إلى مكة مع السبعين الذين وافوا يومها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيعة العقبة الثانية (الكبرى) في ذي حجة السنة الثانية عشرة للبعثة الشريفة. وكان مصعب أول من زار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أهله، فما كان ليبدأ بأحد قبل   (1) أسد الغابة، (5/ 181) . الاستيعاب (4/ 1474) . طبقات ابن سعد، (3/ 116) . (2) انظر: طبقات ابن سعد، (3/ 116) . (3) سيرة ابن هشام، (1/ 434) . (4) عن أسعد بن زرارة، انظر: سير أعلام النبلاء، (1/ 299) . (5) سير أعلام النبلاء، (1/ 337) . (6) نفسه. (7) سير أعلام النبلاء، (1/ 340) . (8) سير أعلام النبلاء، (1/ 279) . انظر: أدناه، ص 221 وبعدها. (9) أسد الغابة، (5/ 181) . سيرة ابن هشام، (1/ 434) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فسرّ به وبما حمل إليه من الأخبار في إسلام الأنصار «1» . ثم عاد إلى المدينة لهلال ربيع النبوي (الأول) ، وذلك قبل مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم باثنتي عشرة ليلة «2» . واستمر في المدينة يعمل لخدمة الإسلام، لم يدع فرصة لذلك. وشهد كل المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي بدر، كان لواء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأعظم يومئذ- لواء المهاجرين- مع مصعب بن عمير «3» . وكذلك الأمر كان في أحد «4» ، يقاتل بها حتى سقط. ولما أخذها أخوه أبو الروم «فلم يزل في يده حتى دخل به المدينة حين انصرف المسلمون» «5» . وكانت أم شيبة بنت عمير بن هاشم «6» (أخت مصعب) زوج الحجاج بن علاط السّلمي، أقبلت على هذا الدين العظيم دين الله تعالى. * الإيمان وتكاليف تربيته: المسلم- ولا سيما جيل الصحابة الكرام- يظهر جوهره ناصعا متلألئا فريدا، كلما كلفته وأسندت إليه تبعة وعركته المراتب. فكأن هذه التكاليف   (1) طبقات ابن سعد، (3/ 118- 119) . (2) نفسه. (3) طبقات ابن سعد، (2/ 14) . مغازي الواقدي، (1/ 56، 58) . سيرة ابن هشام، (1/ 646) . ويذكر ابن هشام هنا: أن أبا عزيز (أخو مصعب، لأبيه وأمه) كان صاحب لواء المشركين، وقع أسيرا بيد المسلمين. ولما رآه مصعب قال لآسره: تمسّك بفديته فإن أمه ذات متاع. فقال له: يا أخي أهذه وصاتك بي؟ فقال مصعب: إنه أخي دونك. سيرة ابن هشام، (1/ 645) . (4) سيرة ابن هشام، (3/ 73) . مغازي الواقدي، (1/ 221، 225) . (5) مغازي الواقدي، (1/ 239) . (6) مغازي الواقدي، (2/ 702) . والحجاج هذا أسلم والرسول صلّى الله عليه وسلّم في خيبر، سيرة ابن هشام، (3/ 345- 347) . كنت قد اطلعت في أحد المصادر التي تذكر أن أم شيبة أخت مصعب، ثم وجدت في سيرة ابن هشام (3/ 345) أن ابن إسحاق يجعل أم شيبة زوجة للحجاج هذا، لكنها ليست أخت مصعب. ولا يمكنني التأكد من ذلك؛ لبعد المصادر عن متناول يدي الآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 تتيح له مجال المران على القوة وتدربه على التعامل بتربيته وتثبت فاعليته ما أخذ به نفسه، حتى لكأنه كان ينتظره ويريده ويبحث عنه ويترقبه، بشوق يجد فيه ضالته. واستعداده في ذاته لا حدود له. وهو أكثر إقداما كلما كان أعلى وأقوى وأخطر، ومهما أحاطت به الأخطار من كل نوع، والمغريات وحتى الشهوات، شهوات النفس الفطرية. حيث إن هذه تربت بهذا الدين واستقامت واعتلت مقاعد وقواعد الإيمان النقي التقي الأصيل والأبي السّني القوي بالله تعالى ودعوته وبنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. ولقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يكلف الصحابة الكرام ويحملهم جميعا، وبشكل طبيعي وبإنسانيته وانسيابه المتساوق. فتراهم يقبلون متلهفين ويقبلون. فكان ذلك أحد أساليب التربية الجادة العميقة والتعليمية المتريثة المترتبة والتقوية المتثبتة. فكان يكلف المسلمين، بشكل قوي ومكلف ومجهد. ولولا تلك التربية بهذا الدين، لما كان ممكن أن يستجيب أحد منهم ولا فرد واحد، بينما الذي يحدث أنه لا يتخلف أحد منهم، ومع التخيير، كما حدث في غزوة عبد الله بن جحش (رجب- شعبان سنة 2 هـ) . بل ويستجيبون وهم في حالة لا ينتظر معها الاستجابة من أي أحد، لكنهم جميعا سارعوا بفرح وعزم وحرص، كما حدث في غزوة حمراء الأسد (16 شوال السنة الثالثة للهجرة) ، في اليوم التالي ليوم أحد وجراحهم ما زالت بدمائها تسيل. ولم يخرج فيها إلا من كان في أحد. ولم يسمح صلّى الله عليه وسلم لأحد غيرهم بالخروج، وقد أرادوا فردّوا. وكان صلّى الله عليه وسلّم في مقدمتهم، رغم ما حدث له يوم أحد. بل كانوا إذا ندبوا لشيء يقدّمون أكثر مما يطلب منهم، مثلما جرى في الهجرة والنصرة والمؤاخاة. بل العقبة يتقدمون إلى قمة نافلة، بل لم يطلب منهم فيها شيء. كما حدث في بيعة العقبة الكبرى في السنة الثانية عشرة للبعثة النبوية الشريفة- بجانب فرحهم بأعبائها التي تقتضي أن يقدّموا أموالهم فداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وأشرافهم أشلاء- حيث بعد هذه البيعة في مكة (منى) أرادوا مقاتلة قريش فمنعهم الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم إذ لم يكن قد أذن بالقتال. فالإيمان بالله تعالى ودعوته بطبيعته، يستجيش كل الطاقات الإنسانية بأعلى صياغة وأنقاها وأجودها، يغذيها ويقويها ويعليها لتقوم، وينشطها على شرعه بمنهجه الفريد الجديد ويوفرها ويولدها. فإن الله تعالى لا يأخذ أهل الغواية والضلال والشرك إلا بعد أن يظهر الحق أوضح ما يكون لكل أحد، وتظهر حجته كاملة قوية لهم ولا يبقى إلا العناد. فإذا ما أعرضوا أخذهم وخذلهم وهزمهم. وكان هذا الجيل وأمثالهم إذا استعدّوا لشيء وقالوه أعلنوه، لا ينكصون عنه أبدا بل يزيدون. وهذه إحدى صور الوفاء عند المسلم، الذي لا ننتظر غيره، مثلما لا ننتظر من غيرهم إلا الغدر والنكث والخلف إن لم يكن الاعتداء. ولا يعرفون غيره، وإن وفّوا فلمصلحة. وإنّ بعض مظاهر الوفاء التي تبدو على غير المسلمين ليس لها أصالة أو حقيقة أو جذور، ولذلك توقع الغدر، فهم حسب أهوائهم وعداوتهم وولاآتهم ومصالحهم. وهذا التاريخ الإسلامي منذ أيام الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وإلى ذهاب خلافة الإسلام (العثمانية) - بدايات القرن العشرين- كله وفاء، لكن ائتوني بحادثة وفاء واحدة لدى أمم الحضارة، فيها وفاء حقيقي أصيل ملتزم. أما التاريخ الحديث الذي نذكره، فكل يوم ترى على مسارحهم جديدا من هذه الصور الكالحة الفاضحة الموبوءة. ولكنهم يسيرون بكبرهم وتجاوزاتهم، التي غاب من أمامه أهل الإيمان والجهاد والفداء، بل وحكموا بالزيف والخديعة والادعاء. كما وجدوا أمامهم غفلة وأهواء ومظاهر خادعة. وسلوك الإنسان دليل على نوعيته وحقيقته ومعتقده. ومن هنا قال الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم: «الدين المعاملة» «1» ، أي: من ثماره حسن   (1) مشهور، رواه العديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 المعاملة للجميع. وقال صلّى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» «1» . فابتداء من معاهدة سايكس- بيكو وما تلاها وحتى اليوم، سيبقى الأمر كذلك حتى يأتي أمر الله تعالى، يوم تأتي أجناد الخير الأطهار ورايات الحق المنير ومواكب الدعوة المباركة إن شاء الله تعالى، غير بعيد في الآفاق. وكان من أساليب تربية الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم للصحابة، ارتقاء بهم لتأدية المهمات الإيمانية- ودوما كلها كذلك- والتزاماتها، باستيعاب واستيفاء واهتمام، يفرحون بها ويتقدمون لها ويقبلون عليها، متنافسين مسارعين متكاثرين لإنجازها، أنه صلّى الله عليه وسلّم يبدأ بنفسه الشريفة، بل وبأشق الأجزاء والمراحل والأعباء منها، يحثهم ويندبهم ويشجعهم لها، وهو في مقدمتهم جميعا. وربما يكلفهم بأمر أو يسأل القيام به بشكل عام، ويتولى ذلك من يستعد. وقد تكون شروط، كما جرى في أحد وإعطاء السيف لأبي دجانة. وقد يؤجّل من يتقدم، كما جرى للزبير بن العوام في الخندق، وقد يختار من يريد، كما جرى لحذيفة بن اليمان في الخندق وكذلك لعلي بن أبي طالب في خيبر. وفي دراستنا لهذه السيرة الشريفة نحاول أن نستشف ونكتشف ونتفهم ونتعلم ذلك، فيما نراه ونشهده ونلحظه، ونحاول أن نكتشف ما هو مثل المجاهل المتنوعة. وهذا الالتزام الإسلامي والترقي في سلّم منهجه وتربيته كانت وهي غير مرتبطة بأي اعتبار إلا طاعة الله تعالى: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «2» . و «اسمعوا وأطيعوا ولو إلى عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله» «3» .   (1) رواه أحمد والترمذي. (2) رواه الإمام أحمد. (3) ورد بصيغ متنوعة عند البخاري ومسلم وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وهذا أبو بكر حين تولى الخلافة واستعد لقتال المرتدين، أبى عليه بعض الصحابة، فقال كلمته المشهورة: (والله لأقاتلنهم وحدي ما استمسك السيف بيدي، أو ينقص هذا الدين وأنا حي) «1» . وكنت في أشد المواقف وأصعبها، التي ممكن أن تغلب النفس على ما فيها واعتادته أيام الراحة والسلم والهدوء، أيام الحروب والشدائد وكذلك الإغراء، تراهم يلتزمون بدون أية رقابة، بلا رقابة. إنها رقابة الله تعالى التي تقود النفس (جميعها) إلى رقابة الذات. فكان ذلك الجيل القرآني عجبا من أعاجيب هذا الدين، في قوته والتزامه وفي وفائه لله تعالى. وكأنه كلما تقدم ويتقدمون في الحياة يزدادون التزاما وحفاظا وتمكينا لما تعلموه وتربوا عليه وعيّشوه في نفوسهم، حتى بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم. ولذلك لا تكاد تجد أحدا من الصحابة الكرام قد تهاون- حتى بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم- فضلا عن أن يكون قصر أو انحرف. وهذا معلم من معالم السيرة النبوية الشريفة وعجيبة أخرى من عجائبها وعجائب هذا الجيل القرآني الفريد. والسيرة أمامنا نستقي منها مطلوبنا وقياسنا، آثار الإسلام في ذلك الجيل القرآني الفريد، ونقتفيه ونأخذ منه ونجعله المثال في الحياة وحمله هذه الأمانة وأدائها، وكذلك في دراسته السيرة الشريفة وآثاره. نرى ذلك في شرائحها المتنوعة، ومنها نستنبط رسم الصورة نتطلع إليهم، مقياسا وميزانا ومثالا، فيما يمكن أن يعود إليه المسلم من الترقي والإقدام والالتزام بهذا الدين ومنهجه الحكيم. والآن- بعد هذا التجوال في مرابع السيرة الشريفة ورياضها- نعود لنبني عليه. إنه كلما تقدم أحد في الحياة وتقدم لأمور المسؤولية تظهر قوته   (1) أبو بكر الصديق، علي الطنطاوي (163) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ونوعيته وتربيته السنية السوية القوية. وعليه فإن العلماء والقادة والخلفاء تظهر نوعيتهم وهم في الموقع والموقف أكثر، مثلما تظهر ببهائها كلما كبرت هذه المسؤولية، مهما كانت إغراآتها وانبهاراتها ومثقلاتها. ولا يفلح في ذلك أبدا إلا الفالحون المفلحون الذين تولوا كتاب الله تعالى، وجعلوه منهجا وحيدا لهم في حياتهم، إيمانا واحتسابا، واستقبلوا السنة الصحيحة منبعا وسيرته صلّى الله عليه وسلم، موئلا وقدوة. وانظر إذا إلى كل من تولى مسؤولية لترى كيف عمل العجائب التي لا تتم إلا بهذا الدين، أفرادا كانوا أو جماعة أو مجتمعا، جنودا وقادة حكاما ومحكومين، نساء ورجالا وأطفالا وشيوخا صغارا وكبارا، حيثما أتيتهم، مكلّفين من أحد أو متطوعين، مهمات علمية أو سلمية أو حربية. وقد تجدهم بحال لم يمكن أن تعرف أو حتى تتوقعه منهم قبل توليهم. انظر أبا عبيدة والهدية التي أتته من الروم- خلال فتح الشام- فرفضها، إلا أن يعطى أفراد الجيش مثلها!!! وانظر القادة والعلماء والخلفاء كانوا وقّافين في كل أحوالهم عند كتاب الله تعالى. وهؤلاء الخلفاء الراشدون مثلا ظهرت قوتهم في الأخذ بهذا الدين أكثر والارتقاء إلى قمم جديدة بعد توليهم الخلافة. وإذا كان ما يزال الحديث مستتبعا عن عمر، فانظر صنائعه في رعايته الناس وتواضعه وإحساسه بالمسؤولية عنهم- أمام الله تعالى- إلى حدّ أن علي بن أبي طالب- الذي كان أحد مستشاريه- قال له يوما: يا أمير المؤمنين لقد أتعبت الخلفاء من بعدك. انظره (عمر) كيف يرفض إلا أن يحمل هو نفسه الطحين للمرأة وأولادها الجائعين، قائلا لعامله: أأنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟ ثم لا يتركهم إلا بعد أن يراهم قد أكلوا وشبعوا. بل إنه منع ابنه عبد الله بن عمر أن يرعى إبله- مثل غيره من عموم الناس- في مراعي الدولة، فقد يكون يجوز أكثر مما له من ذلك لأنه ابن الخليفة. وكانت خشية الله تعالى وعقابه وطلب رضاه ماثلا أمامهم حيا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 نفوسهم، نديا في وجدانهم، وقدوتهم في ذلك كله رسول الله صلّى الله عليه وسلم، الذين كانوا ملازمين له صلّى الله عليه وسلم، باذلين غاية الجهد في كل شيء لتحري سيرته صلّى الله عليه وسلّم في كل الأمور، ويأتون منها ما استطاعوا. وكان صلّى الله عليه وسلّم في كل أمر يبدأ بنفسه، ولا يميزها في الواجبات، بل ويحمّلها أكثر، في العبادة والقيادة بالأعمال والأعباء. والقصص كثيرة جدا إلى حدّ أنه توفي صلّى الله عليه وسلّم ولم يشبع آله من لحم وخبز، وكان يمر الشهر والشهران وما يشعل في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار. وحين لحق صلّى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى كانت درعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير (أقل من مئة كيلو غرام) «1» طعاما لأهله يأكلونه.   (1) رواه البخاري، عن أنس بن مالك. انظر: السيرة النبوية، الذهبي، والسيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 652) . وتكمن في هذه الحادثة لفتة بارعة وناصعة وفذلكة رائعة ومعنى إضافي كريم. ذلك أن يهوديا يقرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيسا من شعير ويرتهن مقابل ذلك درعه صلّى الله عليه وسلّم لديه، ولا بد أن اليهودي هو الذي طالب به من الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم الذي يعرف صدقه وأمانته ونبوته، وهو يفعل ذلك رغم ثقته المؤكدة بالإسلام ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلّم والمسلمين. فاقرأ قول الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] . الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 20] . واليهود جميعا- وأهل الكتاب- يعرفون ذلك عن كثب ومن كتبهم وبالتجربة الواضحة المتكررة البديهية، الذي منه أن اليهود لم يكونوا مضطهدين في المجتمع الإسلامي المدني، بل لهم الأمن والحرية، وهو أمر ممتد على مدار التاريخ الإسلامي. فإنه بكل حرية طلب هذا الرهان- ولا أدري تماما لأي سبب فعله- وممن؟ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأعطيه، كما أراده. وهذا كله يشير إلى نوعية الحياة التي كان يحياها هو وأمثاله وكل غير المسلمين في المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، رغم مواقف اليهود العدائية من الإسلام وأهله ورسوله صلّى الله عليه وسلم. فأين الذين يولولون متخوفين ومحذرين من حكم الإسلام على غير المسلمين فيه. لكنهم لا يفعلون ذلك اهتماما- ولا حتى حمية- بغير المسلمين (وما كان لهم) وما عهدناه منهم، بل عداوة للإسلام نفسه من خلال إثارة هذه الشبهات، أحبولة من أحابيلهم- وهم معادنها- حربا لكل أمل إسلامي ولمسيراته وانتصاراته من أن تحوز الحياة وتوجهها وتقيم مجتمعه الفاضل الإنساني النبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 يا لله على هذا الدين العظيم ومنهجه الكريم وهذا النبي الذي أعده الله وهيأه ورباه ليكون قدوة القدوات، الذي ربّى بمنهج الله تعالى وكتابه الكريم ذلك الجيل القرآني الفريد. وكان صلّى الله عليه وسلّم قدوة متميزة وأسوة حسنة وقمة في كل شيء، واقفا على القمم كلها يرنو إليه الجميع ليسيروا خلفه مقتدين به صلّى الله عليه وسلم. وسيبقى قدوة لكل الأجيال، والتي به فقط تفلح وليس بغيره مهما ادعت، إلا بالاقتداء به، ليكونوا قدوة للآخرين. وهذا ما يحتاجه كل جيل وجيلنا الحاضر هو أحوج ما يكون إليه. وهكذا كان جيل الصحابة الذي يبقى هو الآخر مثالا للأتباع الأبرار والجنود الأخيار والأمة الأطهار، بحسن اقتدائهم بالرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي تمثل بأحسن صيغة وأرقى صبغة وأبهر مثال، لكتاب الله وأمره والأخذ بمنهجه. فكانوا خير القرون ونعم من أخذ بمنهج الله تعالى، وأجود من تابع خطوات هذا النبي صلّى الله عليه وسلم. جزاه الله خير ما يجزي نبيا عن أمته، وجعلنا من خيرة الأتباع في هذا الجيل، إن شاء الله تعالى. * رهافة الثمرة الإيمانية: وهذه الرهافة المؤمنة الربانية بلغت من الدقة والرقة والعمق إلى أنهم كانوا يتهمون أنفسهم لأدنى تقصير أو بدون تقصير، والشواهد كثيرة جدا. خذ مثلا ما رواه الصحابي الجليل عن نفسه حنظلة بن الربيع الأسيدي (50 هـ) المعروف بحنظلة الكاتب- وكان من كتاب الرسول صلّى الله عليه وسلم «1» - قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكّرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين. فإذا خرجنا من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عافسنا الأزواج والأولاد والضّيعات، فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فو الله إنا لنلقى   (1) زاد المعاد، (1/ 117) . ولقد سبقت الإشارة إليه قريبا باختصار. أعلاه، ص 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكّرنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة وساعة» «1» . وحين أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] ، تحرّج بعض الصحابة في حالهم، خوفا من أن يكونوا مشمولين بذلك. كان منهم أبو بكر وعمر «2» .   (1) سبق ذكره أعلاه، ص 97- 99. أخرجه مسلم: كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر، رقم (2750) . والترمذي: كتاب صفة القيامة، باب (59) ، رقم (2514) . وانظر كذلك: أسد الغابة، (2/ 65) ، رقم (1280) . الاستيعاب، (1/ 379) ، رقم (548) . حياة الصحابة، (3/ 50) ، (320) . الوافي بالوفيات، (13/ 209) . ومثله ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه. حياة الصحابة، (3/ 320) . حتى كأنا رأي عين (بالرفع) : كأنا بحال من يراها بعينه، (وبالنصب) : نراها رأي عين. عافسنا: عالجنا أمورنا واشتغلنا بمعاشنا وتابعنا أعمالنا. والضيعات: جمع ضيعة، وهي المعاش من مال أو حرفة أو صناعة. وكان حنظلة معتزلا الفتنة حتى مات سنة (50 هـ) ولما توفي حنظلة جزعت عليه امرأته فنهاها جاراتها وقلن لها: إن هذا يحبط أجرك، فقالت: تعجبت دعد لمحزونة ... تبكي على ذي شيبة شاحب إن تسأليني اليوم ما شفني ... أخبرك قولا ليس بالكاذب إنّ سواد العين أودى به ... حزن على حنظلة الكاتب وهذا يعبر عن مدى حب هذه المرأة المسلمة لزوجها وحسن العلاقة بينهما وعمق المحبة التي قامت في بيت بني على تقوى الله تعالى ومنهجه وطاعته. (2) البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحجرات، رقم (4564) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أما ثابت بن قيس بن شمّاس، خطيب الأنصار «1» ، فقد اتهم نفسه واعتبر أنه من أهل النار وقعد في بيته حزينا، ولكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم افتقده، فسأل عنه وعرف أمره، فطمأنه وأخبره أنه من أهل الجنة. هؤلاء الصحابة الكرام- وهم خير القرون- رباهم الإسلام هذه التربية الفذة، نقلهم وأدخل الإيمان عليهم من جميع المنافذ، سكب معانيه في نفوسهم، فظهرت شاهدة شاهرة شاخصة، سلوكا رفيعا يعبر عن المعاني الإسلامية. وهذا واضح في الأسلوب القرآني وطريقة تعبيره ومنهجه التربوي الفريد، الذي به ربى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأصحاب، نساء ورجالا وأطفالا. وكثيرا ما نجد القرآن الكريم يقارن ويقابل ويواجه حالات هذا المستوى أمام ما تؤدي إليه مباعدة منهجه ومصير الضلال الذي ينتظر أهله من الخسران في الدنيا والآخرة، مجلّلا بالخزي والعذاب في نار جهنم، بشكل يكون التقابل متزاحما. فكلما ارتفع المؤمنون إلى مستوى التربية العجيب يظهر في الجانب الآخر المستوى المتدني التعيس البئيس، لمن جافى شرع الله تعالى وجانب الأخذ به والبعد عنه مهما كانوا وبلغوا. ويجعل ذلك طبيعيا- وتلك سنة الله تعالى في الفلاح والخسران- مثلما مقابل خسارة الدارين للكفر- والعياذ بالله- طبيعته الدنسة المركسة المفلسة، بعيدة عن الله تعالى، وهو غاية التردي والشقوة والمرارة. فإن الإيمان بالله تعالى ودينه يأخذ أصحابه إلى قمة فريدة من الرقة والرقي والقرب من الله تعالى والأنس بشرعه في الدنيا   (1) البخاري، نفسه، رقم (4565) . مسند الإمام أحمد، (3/ 137) . سير أعلام النبلاء، (1/ 309) . كان ثابت بن قيس من نجباء الصحابة، شهد أحدا وبيعة الرضوان، وكان جهير الصوت خطيبا بليغا. وهو الذي خطب مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا؟ قال: الجنة، قالوا: رضينا. سير أعلام النبلاء، (1/ 309) . وكانت له مواقف في الرهافة، ذكرتها مصادر ترجمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 والآخرة، والتنعم بجواره يوم القيامة. وبه ربحوا الدنيا والآخرة، مقابل خسارة الدارين للكافرين. وإننا دوما لنحمد الله تعالى على نعمة هذا الدين. تلمس هذا واضحا في مواقع متعددة من القرآن الكريم، فالكافرون لا يكادون يحسون بذلك بما جنوه، فهم لا يريدونه، وغرتهم دنياهم بطرا وكبرا ووهما، مهما بلغ فعلهم وعنادهم واستكبارهم، ظنوا السراب ماء. أما المؤمنون فقد ارتقوا بهذا الدين وحده في سلم الإنسانية، حين ارتقوا في سلم الإيمان بالله تعالى والعمل بشرعه، إيمانا واحتسابا، وأحسوا ببرد هذا الإيمان الذي ملأ نفوسهم وحياتهم، وملك تصرفاتهم، فلا عيش لهم بدونه. وهذا يعني أن تفوق هذه المعاني الإيمانية وظهورها- لمن فاته أن يدركها في نصوصها- أن يراها ماثلة في حياة أهلها، وهو من واجباتهم، لا يتكلفونها أو يفتعلونها أو يدّعونها. والمؤمنون دوما تظهر عليهم معاني الإيمان بالله تعالى ودعوته، وهو طبيعتهم وواجبهم ومهمتهم، فإن حياتهم باستمرار تكون ترجمة قوية لها. وهؤلاء المؤمنون بالإسلام ودعوته الكريمة، أصبحت هي كل حياتهم، وعاشوا بها ولها وفيها، حتى إنهم رغم طاعتهم المعهودة والتزامهم وإقبالهم يحسون بالتقصير، ويجدون المتعة الحقة والأنس الحبيب والسعادة الكبرى بالقرب منه، يرجون رحمة الله تعالى وعفوه، تقربا إليه وحده. ويتطلعون إلى الكمال أو استكمال المؤهلات ليستحقوا تمام العبودية لله تعالى، ساعين إلى جنة عرضها السموات والأرض متنعمين بثواب من الله على تقواهم وحسن اتباعهم وطاعتهم إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54- 55] «1» . لكنهم مع كل هذه الاستجابة والإقبال والاتّباع تراهم- لهذا البناء الكريم خائفين، رغم هذا التوجه، مقابل الآخرين المعرضين، لاهين مع ما هم   (1) «نهر» : السعة والضياء، والنّهر: (نهر الماء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فيه من غضب الله تعالى، ببعدهم عن شرعه المبين الذي تراهم فرحين بتقلبهم وتقبلهم الانحدار في هذا التّيه المنكود المشقي المزري. وهذا التقابل يرسم مشهدا حيا ماثلا يبين الفرق الهائل المتقابل بين الذين آثروا رضا الله تعالى والجنة، وبين الذين عمدوا، فأخذوا طريق عصيان الله تعالى، فحازوا غضبه والنار. فبينما أنت تقرأ عن الضالين: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 53- 56] . إذا بك تقرأ بعدها مباشرة عن المؤمنين السعداء: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ [المؤمنون: 57- 61 ] . فهؤلاء متعلقون أشد التعلق وبشوق عميق ورغبة جامحة جدّ شديدة وإقبال عجيب على الله تعالى. وهم- ومع كل ما يقومون به ويؤدونه ويسارعون فيه- تراهم خائفين وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون: 60] . فهؤلاء المؤمنون بالله وحده لا شريك له الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا لا شبيه له ولا نظير ولا كفء، ويؤمنون بكتبه، وآخرها القرآن الكريم، المكلفون بالعمل بما فيه، وبرسله وخاتمهم محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله سبحانه وتعالى بهذا الدين، وهم مأمورون بمحبته واتباعه والاقتداء به. وهم قائمون بكل ذلك، ومع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من عذاب الله تعالى خائفون وجلون، فجمعوا مع الإحسان الشفقة. فعن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: «لا يا بنت الصّديق! ولكنه الذي يصلي ويصوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل» «1» . فهذا هو ذلك الجيل القرآني الفريد الذي تربى بهذا الدين، على يد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم. وهم وأمثالهم أقاموا دين الله تعالى وحموه وحملوه ونشروه وأقاموا وثبّتوا أعلامه في واقع الحياة. فكان يظهر أثره وثمره وجماله فيهم وفي الأجيال التي تلتهم، يتطلعون إلى الأعلى والأفضل والأرقى لما عند الله تعالى. وانظر ما يقوله عمر بن عبد العزيز (101 هـ) - معبّرا عن ذلك- بعد أن تولى الخلافة: (إنّ لي نفسا توّاقة لم تتق إلى منزلة فنالتها، إلا تاقت إلى ما هو أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم تاقت إلى الجنة) «2» . وها هو يخاطب نفسه بهذا البيت من الشعر «3» : تجهّزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا * إضاآت كريمة ومدلولات فاضلة لقصة ربيعة: ولقصة ربيعة الآنفة- بمضامينها الشاملة ومدلولاتها الفاضلة ولمساتها المتوثبة المحببة، نحو القمم المنيرة، سنلمح لبعضها الآخر- أمثلة متعددة متزاحمة تتجه بها نحو هذا الفهم، وتقود إلى هذا الوضوح، وتكشف الآفاق السامية، تلوح نحو معرفة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه إلى هذا الحد، وفي كل الأوقات والأحوال والمناسبات. وهو يعيش معهم دوما ليس من ناحية   (1) أخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب (24) من سورة المؤمنون، رقم (3175) . ورد الكلام بصيغة الجمع: «هم الذين يشربون الخمر ويسرقون ... » ، (5/ 306- 307) . التفسير، (4/ 2472) . (2) سيرة عمر بن عبد العزيز، (63) . كذلك: شذرات الذهب، (2/ 7) . الطبقات الكبرى، (5/ 401) . سير أعلام النبلاء، (5/ 134) . (3) القاموس المحيط، (652) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الكينونة أو التواجد الزماني والمكاني والإنساني، بل في نفوسهم وذواتهم ووجدانهم وكيانهم جميعا، بكل مشمولاتها ومحتوياتها ومكوناتها، حتى وهو غائب عنهم. وكذلك بالنسبة له صلّى الله عليه وسلّم حتى وهم غائبون عنه. فهو يتولى رعايتهم وتوجيههم وتربيتهم، حتى وهو يعمل معهم، وحتى في الحالات التي لا تدع لصاحبها مجالا لآخرين، كالمعارك. تجد ذلك مركّزا وواضحا ومقصودا، حتى كأنها كانت مناسبات يراد منها ذلك ويعمد له، يتعامل معهم فيها أفرادا وجماعات كل حسب استعداده، لكن يرتفع بالجميع، فيوجهه حسب استعداده وطاقته وحاجته، لكن الجميع بنفس الاتجاه. وهم مهما ارتقوا يجدونه صلّى الله عليه وسلّم قدوتهم وأسوتهم، وهو كذلك دوما. فكأني ألمحهم موكبا متقدما نحو القمم متتابعين متعلقين برسول الله صلّى الله عليه وسلم، بحب لا نظير له، وإحساس فريد متوثب، بأجمل المشاعر، واقتداء مهيب. وانظر مثلا قصة أصحاب يوم الرجيع (صفر السنة الرابعة للهجرة) «1» . العشرة (أو الستة) الذين أخذوا غدرا وخديعة ولؤما من قبيلتين عربيتين، هما: عضل والقارة، قتلوا أكثرهم وباعوا الآخرين لأهل مكة، فقتلا في يوم واحد شهيدين، انتقاما لمعركة بدر. هما: خبيب بن عدي وزيد بن الدّثنّة. فلما قدّموا زيدا (أو خبيبا) «2» ليقتلوه صبرا، صلبا ورميا مشدودا على الخشب، سألوه إن يقبل أن يكون عند أهله ويكون محمد صلّى الله عليه وسلّم يقتل مكانه، فقال: (والله ما أحب أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي) . فقالوا: ما رأينا من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا. أما خبيب فلما هددوه بالقتل إن لم يرجع عن الإسلام- نعوذ بالله العظيم- قال: (إن قتلي في الله قليل) «3» .   (1) البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع، رقم (3858) . (2) سيرة ابن هشام، (3/ 172- 183) . سبل الهدى: (6/ 67- 74) . (3) سبل الهدى: (6/ 70) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 إن بناء الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم- كما أدّبه الله تعالى ورباه وأعده- أحد الأدلة على نبوته، وما أكثرها وأوفرها وأظهرها. فهو بذاته في سيرته الشريفة دون أي دليل آخر، بمستواه ونوعيته ومثاليته، دليل أي دليل «1» . وتسير في عين الاتجاه من قصة ربيعة قصة حارث بن مالك الأنصاري الآتي ذكرها «2» . وحب الصحابة هذا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتمتعهم بحلاوة هذه الصحبة الكريمة جعلهم يفكرون ويرغبون ويطمعون ألا تنقطع، وأن تبقى موصولة حتى يوم القيامة، بل وفيها كذلك. والحق إنه أفق عظيم في عمق هذا الحب وصدقه وقوته التي عبق طيبها فملأ آفاق الحياة والنفوس والوجدان، ويشغلهم المحافظة عليها واستمرارها، ينعمون بها في الدنيا والآخرة. فيستجيب الله تعالى لهم حاثا على الأخذ بكل سبب يديم لهم متعة هذه الصحبة الكريمة وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً [النساء: 69- 70] . ورغم معرفة الصحابة الكرام- رضي الله عنهم- أنه سيفارقهم، لكونه بشرا إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، فما كانوا ليحتملوه بل حتى كأنهم لا يريدون وقوعه، أو كأنهم لا يكادون يريدون تصوره. وقد وجه الله سبحانه وتعالى الأذهان إلى ذلك مبكرا، لما يعلم- جل جلاله وعم نواله- من شدته عليهم «3» . ولعل كل هذا الأمر- بأحداثه   (1) انظر ما قاله ابن حزم الأندلسي: أعلاه، 60- 61. (2) التفسير: (3/ 1478) . المعجم الكبير، الطبراني، (3/ 266) . أسد الغابة، (1/ 414) . الإصابة، (1/ 289) . حياة الصحابة، (3/ 23) . وتجد في حياة الصحابة (3/ 24- 25) أمثلة أخرى عن معاذ بن جبل وسويد بن الحارث وأصحابه. (3) انظر: مثلا ما فعله سعد بن معاذ (5 هـ) في معركة بدر. وما فعلته تلك المرأة الدينارية (من بني دينار، الأنصارية) ، حين سمعت بما جرى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في معركة أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 المتعددة المتوالية المتعانقة- كان تهيئة لهذا الحدث الجلل، وهو أرحم الراحمين. جرى ذلك إذا لتوضيحه من خلال ماجريات (مجريات) أحداث السيرة النبوية الشريفة وجريانها في نهرها الزلال وموكبها المنير وخطها المرسوم لتحقيق أهدافها التي صرفها الله؛ لتكون موطن العبرة والتربية والتوجيه الدائم. من ذلك ما جرى في معركة أحد، وما أنزل الله تعالى فيها «1» . ثم تلميحاته الكثيرة صلّى الله عليه وسلّم لفرد- كما لا حظنا في قصة معاذ وهو يودعه لليمن- أو لجمع «2» ، أو أكثر، أو الجم الغفير في حجة الوداع. ومع ذلك لم يتحملوا خبر موته صلّى الله عليه وسلم، كما جرى لعمر بن الخطاب وآخرين. وكلهم كان حزنه غامرا، حيث قال أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم: (شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قطّ كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل المدينة علينا، وشهدته يوم مات، فما رأيت يوما قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات) «3» .   رغم علمها أنه قد أصيب فيها زوجها وأخوها وأبوها، مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأحد. فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالوا: خيرا يا أم فلان بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه أنظر إليه، حتى إذا رأته، قالت: كل مصيبة بعدك جلل (تريد صغيرة هينة) . سيرة ابن هشام، (3/ 99) . سيرة الذهبي، (المغازي) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 204) . وانظر كذلك: موقف سعد بن الربيع في أحد. سيرة ابن هشام، (3/ 94) . سيرة الذهبي، (المغازي) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 212) . (1) سورة آل عمران: (144) . (2) البخاري، رقم (3816) . (3) أخرجه البخاري: فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، باب مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. زاد المعاد، (3/ 55) . سيرة ابن كثير، (5/ 544) . وشبيه بذلك ما قاله أبو سعيد الخدري. وكان إدراك أم أيمن (الحبشية) رائعا. انظر: التفسير، (6/ 3938) . سيرة ابن كثير، (4/ 46) . سير أعلام النبلاء، (2/ 226) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 * دقة الرهافة وأصالتها جعلتهم يشعرون بالتقصير: حتى لقد بلغت رهافة الحس ورقة الشعور وسمو النفس عند الصحابة أنهم مهما ارتقوا يجدون أنفسهم مقصرين وعملهم زهيدا، ومهما قدموا يحسبون أنهم مقلّون، ومهما أحسنوا البلاء والفداء والأداء للإسلام وهو كبير، في نفسه وحتى بالنسبة لمستوياتهم العالية، يجدونه صغيرا في جنب الله تعالى (رغم) وهم فيه أقوياء أشداء وأصلاء. وتلك طبيعة الإسلام وبناؤه وتربيته التي أقاموا أنفسهم بها وعليها. وقد استمدوا طبيعتهم من طبيعة الإسلام، يعبّرون عنه في أعلى المستويات. لا تغرهم الدنيا، وقد أتتهم، لا تغريهم ولا تلهيهم. فهم لديهم الاستعداد أن يفعلوا كل شيء مهما كان صعبا وشاقا ومكلفا، وكأنهم يتنافسون فيه. كل ذلك وهم يقدّمونه لله تعالى، يطلبون رضاه وحسن ثوابه والجزاء الكريم لديه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعرفهم جميعا ويعرف كلّا منهم، بمفرده ومدى استعداده. ولذلك كانت مطالب الصحابة الكرام رضي الله عنهم أخذ هذا الاتجاه، ليست عابئة بغيرها أو ما دونها، بل بلغت حدا فريدا ومستوى عجيبا وقمة شاهقة. ومهما كانت تكاليفها وشدتها ومشقتها، تجد لديهم الحضور والسرور والإقبال «1» وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: 66] «2» . ورغم معرفة الصحابة الكرام رضي الله عنهم أنه لو طلب منهم ذلك لفعلوه. وحين نزلت هذه الآية الكريمة قال رجل (لم تذكر الرواية اسمه) : (لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا) . انظر لهذا الاستعداد في العمل والاستجابة وكذلك في الفهم. وحين بلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال   (1) التفسير، (2/ 692) . (2) انظر: التفسير، (2/ 697) وبعدها. تفسير الطبري، (8/ 526) ، (5/ 160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الرواسي» . وأشار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بمناسبة نزول هذه الآية إلى عدد من الصحابة أنهم سيفعلون ذلك، ذكر منهم ابن أم عبد (عبد الله بن مسعود) . وهذا يشير إلى معرفة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم العميقة الدقيقة الوثيقة بالصحابة الكرام، معرفة نفوسهم بكل أبعادها وأمجادها واستعداداتها. وهو موضوع مهم «1» . وعبد الله بن رواحة الذي بلغ من طاعته أنه كان قادما إلى المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، فسمعه يقول: «اجلسوا» فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ صلى الله عليه وسلم من خطبته. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «زاده الله حرصا على طواعية الله ورسوله» «2» . وهذا الاستعداد لتحمل الأمر الشاق كهذا، كان متوفرا لدى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله تعالى عافاهم وعافانا من مثل هذه التكاليف. وثمارها واضحة في السيرة الشريفة بكل وضوح، سلما وحربا وبذلا وإقداما والتزاما وتضحية بالنفس. ومعلوم ما جرى للمسلمين يوم أحد، الذي كان يوم السبت للنصف من شوال السنة الثالثة للهجرة، حيث رجع الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم مساءه إلى المدينة، وقد أصيب المسلمون فيها بما لم يصابوه في أية معركة أخرى في حياة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم، بما ناله من الأذى الشديد «3» ، وسالت الدماء ثم ما وقع من القتل في المسلمين. وفيها قتل عمّه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وسيد الشهداء رضي الله عنه. ومثّل بالعديد منهم، ولم يمثّل من المسلمين أحد. وانظر قصة المرأة الدينارية، استشهد اعزّ الناس إليها: أبوها وأخوها   (1) التفسير، (2/ 698) وبعدها. (2) سير أعلام النبلاء، (1/ 232) . (3) سيرة ابن هشام، (3/ 85- 101) . (3/ 79- 86) وبعدها، (121) وبعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وزوجها، وهي تقول: كيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا لها: هو بخير كما تحبين. فقالت: أرونيه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، تريد صغيرة. وآخرون أصيبوا بعشرات الضربات من ضربات الحرب، وهم يقاتلون مستمرين في القتال، من مثل سعد بن الربيع «1» . وأنس بن النضر (عم أنس بن مالك، خادم النبي صلّى الله عليه وسلم، وبه سمّي) «2» ، قاتل حتى قتل، فوجد به فوق ثمانين ضربة. وبذلك يقول أنس: (لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ (تسعين) ضربة فما عرفته إلا أخته، عرفته ببنانه) . وانظر ما فعلت نسيبة ودعوتها «3» . وحين تقرأ سيرة أي صحابي وصحابية تجد كل قضاياهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومقدمة أمامه، بطاقاتهم. فكانوا يبايعونه على كل شيء، وفي المعارك على الموت وعلى ألّا يفروا، حتى وهم على غير استعداد مادي ونفسي ومعنوي، كما حدث في صلح الحديبية. ومثلما كان هذا يتم في حياة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم كان كذلك بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، كما حدث في معركة اليرموك (15 هـ) وفي غيرها من أمثالها وهي كثيرة وجد وفيرة. وكذلك بعدها خلال التاريخ وعلى مدار الأحداث وكل المواجهات بين المسلمين وأعدائهم من كل جنس. يتبين لنا من خلال هذه النماذج الفرائد والقصص الكرائم والأحداث المحامد- بوفرتها وكثرتها وغزارتها- أن الصحابة الكرام كانوا يلجؤون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويهرعون (يهرعون) إليه، ليجدوا عنده برد النّفس الحنون وأنس الرفيق الأثير ونسيم الراحة الظليل في كل ما يشغلهم، مهما كان، وحسب هذا البناء، كما يجدون بقربه الأمان، وطلباتهم وحاجاتهم استزادة لها.   (1) سير أعلام النبلاء، (1/ 318) . (2) أسد الغابة، (1/ 155) . سيرة ابن هشام، (3/ 83) ، الإصابة (1/ 132) . (3) سبل الهدى، (4/ 298) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 من هذا قصة ذلك السّكوني الذي حضر ضمن وفد قومه الذين قدموا من اليمن إلى المدينة المنورة- على صاحبها الصلاة والسلام- عام الوفود السنة التاسعة للهجرة، بصدقات أموالهم. فأكرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفادتهم وقضى حوائجهم. لكن هذا الغلام الذي خلّفه قومه على رحالهم- وهو أحدثهم سنّا كانت له حاجة أخرى. وحينما جاؤوا إلى وداع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألهم- كعادته صلّى الله عليه وسلم- إن كانوا خلّفوا أحدا؟ فذكروا الغلام، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أرسلوه إلينا» . فأقبل الغلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إني امرؤ من بني أبذى، يقول: من الرهط الذين أتوك آنفا، فقضيت حوائجهم. فاقض حاجتي يا رسول الله، قال: «وما حاجتك؟» قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإني والله ما أعلمني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأقبل إلى الغلام: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه» . ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم. ثم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الموسم بمنى سنة عشر، فقالوا: نحن بنو أبذى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟» قالوا: يا رسول الله ما رأينا مثله قطّ، ولا حدّثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها. ولا التفت إليها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا» . فقال رجل منهم: أو ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تشعّب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك» . قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزق. فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه فذكرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق يذكره ويسأل عنه حتى بلغه حاله وما قام به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فكتب إلى زياد بن لبيد الأنصاري البيّاضي يوصيه به خيرا «1» . قصة أخرى- وهذه وأمثالها كثيرة- شبيهة بقصة هذا الغلام السّكوني اليماني، تلك هي قصة بشر وأبيه معاوية بن ثور بن عبادة البكّائي، من بني عامر بن صعصعة (عداده في أهل الحجاز) ، في وفد بني البكّاء القادمين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة تسع للهجرة. وهم ثلاثة نفر: معاوية هذا وهو سيدهم، وهو يومئذ ابن مئة سنة، ومعه ابنه بشر. وكان برّا بأبيه الذي طلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يمسح وجهه، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إني أتبرّك بمسّك، وقد كبرت وابني هذا برّ بي فامسح وجهه «2» . وكان معهما الفجيع بن عبد الله جندح بن البكّاء وعبد عمرو بن كعب بن عبادة، وهو الأصم. فأمر لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنزل وضيافة وأجازهم ورجعوا إلى قومهم. وكان معاوية قال لابنه بشر يوم قدم وله ذؤابة: إذا جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقل له ثلاث كلمات لا تنقص منهن ولا تزد عليهن، قل: السلام عليك يا رسول الله، أتيتك يا رسول الله لأسلّم عليك، ونسلم إليك وتدعو لي بالبركة. قال بشر: ففعلتهن، فمسح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رأسي ودعا لي بالبركة وأعطاني أعنزا عفرا. وبهذا افتخر محمد بن بشر بن معاوية، فقال: وأبي الذي مسح النبيّ برأسه ... ودعا له بالخير والبركات أعطاه أحمد- إذ أتاه- أعنزا ... عفرا ثواجل لسن باللّجبات يملأن رفد الحي كلّ عشية ... ويعود ذاك الملء بالغدوات بوركن من منح وبورك مانح ... وعليه مني ما حييت صلاتي «3»   (1) زاد المعاد، (3/ 651) . الطبقات الكبرى، (1/ 323) . (2) هذه رواية ابن كثير، سيرة ابن كثير، (4/ 175) . انظر كذلك عنها: سبل الهدى، (6/ 426) . الطبقات، (1/ 304) . ولعلها مختصرة. ويذكر أن أهل هذا الوفد كانوا ثلاثين. كما أنّ هناك تفصيلات أخرى سترد فيما بعد. (3) أسد الغابة، (1/ 225) ، رقم (441) . الإصابة، (3/ 430- 431) ، رقم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 * مدى عناية الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالصحابة: هكذا كانت عناية الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بهؤلاء الصحابة الكرام، به يقتدون، وإليه يهرعون وعنده يجدون التوجيه، فترتاح قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وتقرّ عيونهم. يجدون عنده الاستجابة والعناية والحنو الغامر، فينطلقون إلى الحياة عاملين أقوياء. بل إن العناية النبوية كانت تفوق كل تصور، حتى العناية بالأسماء- إذا كانت- يغيّر الجاهلية منها إلى الصيغ الإسلامية، كما رأينا آنفا بالنسبة لعبد عمرو الأصم، وسبق عند عبد الله ذي البجادين حين كان اسمه عبد العزى فغيره صلّى الله عليه وسلم. وهذه كثيرة جدا. بل إنه صلّى الله عليه وسلم كان نفسه يتفقدهم ويسألهم عما يشغلهم، ويعرض عليهم ما يقربهم ويراه مهما لهم، وما عليهم أن يكون لهم.   (1059) . كذلك المصادر المذكورة في الحاشية السابقة. والوفد المذكور- وسيدهم معاوية البكائي- أقام أياما في المدينة المنورة في ضيافة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم عادوا موفورين. فكانت بركات مسحة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن السّنة (القحط) تصيب بني البكاء، ولا تصيب آل معاوية. الإصابة، (1/ 753) ، رقم (212) . أما عبد عمرو الأصم فقد سماه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم عبد الرحمن «وكتب له بمائه الذي أسلم عليه بذي القصّة (موضع قرب المدينة) . وكان عبد الرحمن من أصحاب الظّلة يعني الصّفة صفة المسجد» . طبقات ابن سعد، (1/ 305) . سبل الهدى، (6/ 427) . الإصابة، (2/ 362) ، رقم (4914) . «أعنز» : جمع عنز، وهي الأنثى من المعز، والظباء (ظبي غزال) . وذكر أن عدد هذه الأعنز كان سبعا. الاستيعاب، (1413) ، رقم (2430) . «عفر» : جمع عفراء، وهي البيضاء. «ثواجل» : عظيمات البطون (من اللبن) . وهي جمع مفردها: ثجلاء، وليس نواجل (كما ورد عند بعضهم) . سبل الهدى، (6/ 426) . طبقات ابن سعد، (1/ 304) . سيرة ابن كثير، (4/ 175) . فإن نواجل جمع مفردها نجلاء: الواسعة. «اللّجبات» : القليلات اللبن، وهي جمع مفردها لجبة، وهي الشاة قلّ لبنها. والمعنى: أن هذه الأعنز لسن قليلات اللبن، بل هن عظيمات البطون ممتلآت باللبن (الحليب) . «رفد» (رقد) القدح الضحم. «الغدوات» : جمع مفردها: الغداة (الغدوة) : وهي ما بين الفجر وطلوع الشمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ولربيعة بن كعب الأسلمي الأنصاري نفسه قصة أخرى توضح ذلك، وهي مثال له وشاهد، وتحمل معاني جمة كريمة عالية متنوعة. يقول ربيعة: كنت أخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا ربيعة ألا تزوّج؟» قلت: والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحبّ أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، فخدمته ما خدمته، ثم قال لي الثانية: «يا ربيعة ألا تزوّج؟» فقلت: ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء. فأعرض عني، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: والله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني، والله لئن قال: تزوّج لأقولنّ: نعم، يا رسول الله، مرني بما شئت. فقال: «يا ربيعة ألا تزوّج؟» فقلت: بلى، مرني بما شئت، قال: «انطلق إلى آل فلان- حيّ من الأنصار، كان فيهم تراخ عن النبي صلّى الله عليه وسلم- فقل لهم: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوّجوني فلانة» ، لامرأة منهم. فذهبت فقلت لهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة، فقالوا: مرحبا برسول الله وبرسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والله لا يرجع رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا بحاجته، فزوجوني وألطفوني وما سألوني البيّنة. فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حزينا فقال لي: «ما لك يا ربيعة؟» . فقلت: يا رسول الله أتيت قوما كراما فزوجوني وأكرموني وألطفوني وما سألوني بيّنة، وليس عندي صداق. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا بريدة الأسلمي، اجمعوا له وزن نواة من ذهب» ، قال: فجمعوا لي وزن نواة من ذهب، فأخذت ما جمعوا لي فأتيت به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اذهب بهذا إليهم فقل: هذا صداقها» ، فأتيتهم فقلت: هذا صداقها، فرضوه وقبلوه، وقالوا: كثير طيب. قال: ثم رجعت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حزينا، فقال: «يا ربيعة ما لك حزين؟» فقلت: يا رسول الله ما رأيت قوما أكرم منهم، رضوا بما أتيتهم وأحسنوا، وقالوا: كثير طيب، وليس عندي ما أولم، قال: «يا بريدة اجمعوا له شاة» قال: فجمعوا لي كبشا عظيما سمينا، فقال لي رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 صلى الله عليه وسلم: «اذهب إلى عائشة فقل لها: فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام» ، قال: فأتيت إليها فقلت لها ما أمرني به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: هذا المكتل فيه تسع آصع شعير، لا والله إن أصبح لنا طعام غيره، خذه. فأخذته فأتيت به النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبرته بما قالت عائشة، فقال: «اذهب بهذا إليهم فقل: ليصبح هذا عندكم خبزا وهذا طبيخا» ، فذهبت إليهم وذهبت بالكبش ومعي أناس من أسلم، فقلت: ليصبح هذا عندكم خبزا وهذا طبيخا، فقالوا: أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفونا أنتم، فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمت ودعوت رسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» . * العناية النبوية الحنون في رعاية الواقع الميمون: قصة ربيعة هذه الآخرى «2» ، مليئة كذلك بالمعاني القوية، ذوات الإضاءة الناصعة، وهي عديدة، منها: التدليل والتأييد والتأكيد لمعرفة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بالصحابة الكرام- رضوان الله عليهم- بدقائق أحوالهم وأغوار نفوسهم وبما هو يصلح لهم دنيا وأخرى، كما بينه ربيعة نفسه بقوله: (والله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني) . بل وتصل هذه المعرفة الكريمة إلى أنه صلّى الله عليه وسلم يعرفهم معرفة تتجاوز كثيرا معرفتهم لأنفسهم «3» ، وكذلك في مقدار الاهتمام   (1) مسند الإمام أحمد، (4/ 54) . كذلك: المعجم الكبير، الطبراني، (5/ 59) ، رقم (4578) . حياة الصحابة، (2/ 669- 700) . «تراخ» : كانوا يأتونه قليلا. «ألطفوه» : قدموا له الهدايا. «بريدة بن الحصيب الأسلمي» : زعيم قبيلة أسلم. أسد الغابة، (1/ 209) . سير أعلام النبلاء، (2/ 469) . طبقات ابن سعد، (4/ 241) . وفي قصة زواج جليبيب ما هو شبيه بهذه. انظر حياة الصحابة، (2/ 671) . (2) سبق ذكر أمور متعددة عن ربيعة بن كعب. انظر: أعلاه، ص 100- 102، 132. (3) وانظر كذلك: التفسير، (2/ 699) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 بها وطريقة أخذها لخيري الدنيا والآخرة، وللارتقاء بكل ذلك بأفضل أسلوب وأجمل رعاية وأجود طريقة، تأخذ بالنفوس إلى المعاني الكريمة وإدراك المرامي السليمة وبناء واستخراج كوامنها الحرة. وكان هذا عاما للفرد منهم بكل أحواله، ولجميعهم بكل تنوعاتهم، ولكل أمور حياتهم وبكافة أحوالهم. فكان اهتمامه صلّى الله عليه وسلّم بكل فرد منهم وبجميعهم في مجمل شؤونهم دون استثناء. حتى لقد كان يشعر أحدهم أنه صلّى الله عليه وسلّم يخصه بهذا الاهتمام المركز الأصيل. أليست هذه وحدها توضيحا وتوكيدا وتدليلا على النبوة الكريمة؟ التي أعدها الله تعالى وأوحى إليها هذا الدين، نعمة منه على الإنسان، ساكن هذه الأرض. فكرّمه وجعله فيها خليفة يحكم بشرعه سبحانه. وهذه علامة ومؤهل وشرط لهذه الخلافة الأرضية. والسيرة كلها على ذلك دليل وأن هذا وأمثاله لا يكون إلا بنبوة اختارها الله وأوحى إليها الكتاب العظيم وهو القرآن الكريم، المهيمن على الحياة بكل ما فيها والمتضمن لخير منهاج ملئ بالمعجزات في كل اتجاه، تتبدى في كل يوم منها جديد، مدخر لكل الأجيال، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولكل جيل قسطه الذي قد كان قدّره الله تعالى لهم منه، معجزات لا تنفد تتحرر ولا تتأخر. فهذا القرآن الذي قد جعله الله تعالى «لا تنتهي عجائبه» ، كما وصفه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم في حديث شريف طويل «1» . هو وحده القائم على سعادة الإنسانية في الدنيا والآخرة. صيغة التكافل القوية الكريمة العاملة، التي أتمت وأنجزت وحلت بسرعة وسهولة ويسر هذه المشكلة التي كان يراها ربيعة- وحق له ذلك، وهي كذلك تماما- غير قابلة التنفيذ.   (1) للأسف حيث مصادري ليست معي، وأنا أكتب هذه الفقرة- وبعض التتمات الآخرى- في صنعاء اليمن (الأحد- الإثنين، ذو الحجة (14، 1418 هـ 5- 6/ 4/ 1998) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 اهتمام الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم المتسع بأمور الصحابة الكرام- رضوان الله عليهم- والسعي لإدراكها وتذكيرهم بها والعمل على إنجازها، بهذا الشكل المتعاون، بقيادته ورعايته صلّى الله عليه وسلم، بل ومشاركته، رغم حالة الزهادة وقلة ما عنده من الزاد في بيته، وكرمه به، ووضوح حاجته الشديدة وأهله إليه. سرعة استجابة أهل البنت لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفرحهم بذلك واعتبارهم له بركة ونعمة وكرم، ساقه الله إليهم على يد النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم الحبيب الأثير صلى الله عليه وسلّم ففرحوا به شاكرين ملبين متعجلين، مما جعلهم ليس فقط لا يسألونه عن شيء، بل هم يقدمون- ما ليس عليهم- الهدية على ذلك. أضف إلى ذلك: سرعة الاستجابة من الجميع وتعجل التنفيذ، مما يجعل أي مشكلة تحل- في هذا المجتمع- دون تأخير أو تقصير ولا تبرير، وكل ذلك يجري في الأمور المهمة. وهناك حقوق لا تسقط، ولها موقعها الاجتماعي، والنّفس الإنساني والجمال الحياتي، تلك التي يهتم بها الإسلام ويدعو إليها ويثبتها حقوقا في الحياة؛ لما تحمله من معان كريمة وأثر في المجتمع والحياة، وإن كانت خفية أو خفيفة رديفة، لكنها مؤثرة فوارة دوارة، أخرجها وأنضجها وأدرجها، فلا يدعها تهمل تحت أي مبرر أو حجة أو حال، وعلى قدر الاستطاعة، تعبيرا عن الاهتمام ودليلا على الفرح وأداء لحقوق، وبإمكانياته ومكنتها وحدودها، ودون مغالاة، حتى مع توفر ملبّياتها ومغنياتها ومتطلباتها، تجري بسمته وتدور مع شرعه وتحيا بصبغته. تلك هي الفرحة بهذه المناسبة أن تكون سعيدة ومجيدة وحميدة: الزواج وتقديم مستلزماته وأداء حق الزوجة والإعلان عن الفرحة، تعريفا بها وارتفاعا بقدرها وتكريما لمعانيها في تكريم الزوجة، شريكة ورفيقة درب. وقد تكون هناك أمور أخرى في هذه القصة التي جرت في ظل هذا الدين الذي ربى هؤلاء النفر المثال بيد رسول الله الكريم صلّى الله عليه وسلم. فكانت هذه الرعاية التي أظهرت عمليا تعاليم الإسلام والحرص على ممارستها في الواقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ورسم النماذج الفذة للحياة الكريمة السعيدة- دنيا وأخرى- تبقى مثالا للأجيال. وهي تبين كذلك هذا السلوك العملي- المشارك من الجميع- في هذه الحادثة وغيرها، هو مقتضى الأخذ بهذا الدين. وهكذا يتم بناؤه ويكون إعلاؤه وتثبيت شواهده وأعلامه وأفهامه في الحياة لتكون القدوة والمثال والدليل على الطريق، وليس غيره طريق، وهي من معالم الطريق، الطريق الوحيد المنير. ولكن هل يمكن إدراك أي شيء من ذلك إلا بهذا الدين؟ ذلك هو ما على مسلمة اليوم إدراكه والأخذ بأسبابه والعض عليها بالنواجذ. وهذا ما تهدف إليه كتابة هذه السيرة الشريفة. * تفقد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وحبّهم له: كان صلّى الله عليه وسلّم يتفقد أصحابه الكرام دوما- رضي الله عنهم- بعد الصلوات وغيرها ولا سيما بعد صلاة الصبح، «وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى الصبح انصرف، فيتصفح وجوه أصحابه ينظر إليهم» «1» . كما جرى لعبد الله ذي البجادين المزني، الذي أسلم بعد فتح مكة، والذي جرّده عمه- وكان في حجره- من كل شيء، حتى جرده من ثوبه، بسبب إسلامه، فلم يأبه لذلك. فأتى أمه فقطعت بجادا لها باثنين، فاتّزر نصفا وارتدى نصفا، ثم أصبح فصلى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصبح. فلما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تصفح الناس ينظر من أتاه- كان صلّى الله عليه وسلّم يفعله دوما- فرآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «من أنت؟» قال: أنا عبد العزى، فقال: «أنت عبد الله ذو البجادين، فالزم بابي» ، فلزم باب رسول الله صلّى الله عليه وسلم «2» . فخرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جيش   (1) مغازي الواقدي، (3/ 1013، 1028) . كذلك: 3/ 228) . (2) أسد الغابة، (3/ 228) . «والبجاد» : الكساء الغليظ الجافي. سيرة ابن هشام، (3/ 527- 528) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 العسرة. ولعله كان دليلا في هذه الغزوة، فتوفي في تبوك «1» (رجب- أو بعده- السنة التاسعة للهجرة) ، بعد إسلامه بقليل! أما الصحابة الكرام- رضي الله عنهم- فكان حبهم للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم يتجاوز كل أنواع الحب ودوافعه وتعبيراته. وكل حياتهم على ذلك دليل. علما أن هذا الوضع الشرعي الذي يستدعيه الانتماء لهذا الدين لا بد أن يتجاوز مقداره ومستواه ونوعيته حب النفس والأهل والولد، كما مر بيانه. ولكن هذا كان في نفوسهم حاضرا ومتدفقا وفعالا في واقع الحياة العملية لا يفتعلونه ولا ينبع من شعور إجباري أو دنيوي أو مشوب، بل هو حب مشبوب كانت نفوسهم متوازية متلازمة مع هذا، وهو ثمرة الصدق في الاتّباع لهذا الدين الإلهي ومنهجه الفريد الوحيد. كان أحدهم يتمنى أن يفدي نفسه له صلّى الله عليه وسلم، ويجد في ذلك حلاوة ومتعة لا تعدلها متعة ولا تقدّم عليها، بل إن أحدهم ليستقل نفسه في هذا. وكل أحداث السيرة الشريفة كذلك، في المنشط والمكره وفي العسر واليسر وفي السلم والحرب تعبر عن ذلك أقوى تعبير. وخذ في ذلك مثلا ما جرى في غزوة أحد المشهودة. وهذا الاستعداد المتقابل والتهيؤ المتواصل والتنامي المتماثل يجري في كل الأمور، وجرى لدى هؤلاء الأصحاب. وأقصد من ذلك أن تربية هؤلاء الأخيار على دين الله تعالى جعل نفوسهم مستعدة للامتثال، إلى حد أنها تمارس هذا المستوى ربما قبل نزول الأمر به من الله تعالى والكف عن المناهي قبل النهي بذلك فيها. حتى لتكاد نفوس هؤلاء الصحابة الكرام تطلب ذلك وتستشرفه وتتوق إليه قبل نزول الأمر فيه أو النهي عنه من الله تعالى، ويتولاه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم. وهذا يمثل أحد معالم وميزات ومتفردات التربية القرآنية التي قد أرادها الله تعالى لأهل هذه الدعوة الربانية الكريمة التي لا تصلح   (1) سبل الهدى، (5/ 661) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الحياة إلا بها. وهي- إن شاء الله تعالى- مال أهل هذه الأرض. ومهما حاول الأعداء الذين حاربوا وما زالوا يحاربون هذه الدعوة الكريمة فإن أمرها لابد قادم وقائم وغالب إن شاء الله تعالى وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21] . * النساء وفرض الحجاب: ومثال ذلك ما جرى في موضوع الأمر بفرض الحجاب للنساء، فمما رواه البخاري- رحمه الله تعالى- عن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول لمّا أنزل الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ [النور: 31] . شققن مروطهنّ فاختمرن بها) «1» ، كذلك روي عنها في وصف المؤمنات: (كن نساء المؤمنات (نساء من المؤمنات) يشهدن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الفجر متلفّعات بمروطهن ثم ينقلبن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهنّ أحد من الغلس) «2» . كذلك أثنت عائشة- رضي الله عنها- على نساء الأنصار بمثل ذلك.   (1) صحيح البخاري، كتاب التفسير (سورة النور) ، باب: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ رقم (4480- 4481) . كذلك: رواه أبو داود، كتاب اللباس، باب وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ (4/ 357) ، رقم (4102) . جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، (2/ 280) ، رقم (732) ، (10/ 644) ، رقم (8263) . «الخمر» : جمع خمار (بزنة كتاب كتب) . وهو غطاء الرأس. «الجيوب» : جمع جيب، وهو شق الثوب من ناحية الرأس (ما يظهر منه الصدر) . «المروط» : جمع مرط، وهو الإزار، ما يؤتزر به وتتلفع به المرأة (تغطي به رأسها) . وقد يقال: تلفعت المرأة بمرطها. (2) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر، رقم (553) . كذلك: أرقام (365، 829، 834) . وأخرجه مسلم، رقم (645) . «الغلس» : ظلمة آخر الليل. انظر: تفسير القرطبي، (12/ 230) . (تفسير آية الحجاب، في سورة النور، 31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وهذا يعني أن جميع النساء المسلمات هن كذلك، ولكن لكل وصف مناسبته، عند ذكر هؤلاء أو هؤلاء. روى أبو داود عن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- أنها ذكرت نساء الأنصار فأثنت عليهن، وقالت لهن معروفا، وقالت: لمّا نزلت سورة النور عمدن إلى حجوز فشققنهنّ فاتّخذنه خمرا «1» . وفي نفس المعنى كذلك روت صفية بنت شيبة عن أم المؤمنين أم سلمة- رضي الله عنها- قالت: لما نزلت يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب: 59] . خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية «2» . كذلك روت صفية بنت شيبة هذه عن عائشة، قالت: بينما نحن عند عائشة، قالت: فذكرن نساء قريش وفضلهن. فقالت عائشة- رضي الله عنها-: إن لنساء قريش لفضلا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار،   (1) رواه أبو داود، كتاب اللباس، باب قوله تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب: 59] . (4/ 356) ، رقم (4100) . انظر: جامع الأصول، (10/ 643) ، رقم (8263) . روته عن عائشة رضي الله عنها الصحابية صفية بنت شيبة. انظر في ترجمتها: أسد الغابة، (7/ 172) ، رقم (7058) . الإصابة، (4/ 348) ، رقم (6507) . سير أعلام النبلاء، (3/ 507) ، رقم (118) . حجوز وحجز: جمع، مفردها: جمع، مفردها: حجزة، بوزن حجرة، وهي معقد الإزار وموضع التكة من السروال، يقال: احتجز الرجل أو احتجزت المرأة بالإزار: إذا شده على وسطه أو شدته على وسطها. وصفة الاختمار: أن تضع المرأة الخمار على رأسها فترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر. وكانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدّامها، فأمرن بالاستتار. والخمار للمرأة كالعمامة للرجل. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، (8/ 490) . جامع الأصول، (2/ 280- 281) (الحاشية) ، رقم (732) . التفسير (4/ 2513) ، الأساس في التفسير، (7/ 3760) ، وهذه الأخبار تشير إلى سرعة المبادرة بالامتثال. (2) سنن أبي داود، نفسه، رقم (4101) . كذلك: جامع الأصول، (10/ 645) ، رقم (8264) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أشدّ تصديقا لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل. لما نزلت في سورة النور: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته. فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحّل، فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه. فأصبحن وراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتجرات كأن على رؤوسهنّ الغربان) «1» . * جيل الصحابة والإقبال على أمر الله: وهكذا تلقّى جيل الصحابة الكرام كل الأوامر والنواهي والتوجيهات. رغم أن الذي كان يحدث يعدّ أمرا فريدا، يصعب تصديق حدوثه لولا أنه قد حدث فعلا؛ فإن المسحة المعجزة التي تزينه والنسمة العالية التي توصله والقوة الإيمانية الربانية التي تحمله، هي من آثار الإعجاز في هذا الدين- قرآنا وسنة وسيرة- الذي نجده مبثوثا قويا شامخا في فعال أولئك الصحب الكرام، في كل أحوالهم، من الغضب والرضا والعسر واليسر والمنشط والمكره، وفي كل جوانب الحياة وأمورها وتعاملها، في السلم والحرب في الفقر والغنى والسراء والضراء وفي النصر والهزيمة. وإن كان لا هزيمة في مثل هذا البناء، في الحياة وتكاليفها أو في المعارك مع كل الأقوام الآخرى، التي عرف أهلها بالشجاعة. وهم الذين تصدوا ابتداء لحرب المسلمين، مغرورين بكل ما لديهم- وحق ذلك لهم- فهزموا، بفضل الله تعالى جميعا. ولكن أية هزيمة، ما توقعوها وما سبق أن عرفوها. هزائم تتلوها هزائم، حتى استقاموا أو تركوا أو بادوا.   (1) فتح الباري، كتاب التفسير، باب وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ، (8/ 489- 490) ، رقم (4758- 4759) . وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. انظر: البخاري، (5/ 1951، 1955) . ابن ماجه، (1/ 211) ، رقم (624) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وإن إعجابنا بذلك الجيل الفريد الجديد السعيد، في الفتوحات المعروفة- مثلا- المؤهّلة لهذا، حق وواجب وطبيعي، ولكن فتوحاتهم متوالية متتابعة متصاحبة، في كافة ميادين الحياة، ثمرة هذا الغرس الإيماني والمنهج الإلهي والتربية الربانية، الذي يؤتي أكله كل حين بإذن الله ربه سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم: 24- 25] . وهذا يتم في كل وقت يؤخذ به شرع ومنهج الله تعالى، كما أخذه الصحابة الكرام، ليتكرر في كل جيل ومع أي أحد في كل زمان ومكان وإنسان. تلك النماذج والنوعية والمثالية كانت بهذا الدين، وتكون متكررة حين الأخذ به، حيث إن الإسلام جاء لأهل الأرض، بشمولها وشمول حياتهم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن بشرعه نصا ومعنى وتطبيقا كاملا. كما تم في ذلك الجيل الكريم جيل الصحابة الحبيب، الذي حاز الخيرية الشاملة، لهم ولكل من يماثلهم في أي جيل من أي الأمم والشعوب. فكان تلقيهم الأوامر الشرعية- وفي أشق الأمور- تلقيا متعاليا متواليا ومتعانقا، مع كل ما يرضي الله تعالى وبينه لهم رسوله صلّى الله عليه وسلم. وما كان ذلك ليحدث لولا البناء بهذا الدين وعلى قواعده المتينة المتفردة المتجددة، لكل طاقة ومولّدة لها. وحتى لو عرفوه أو بعضه- وهو لا يكون- ما كان ليحدث ولو جزء منه بحال، إلا بهذا الدين. ومع ذلك فالعجب فوق هذا العجب كله، أن تكون الاستجابة جماعية لا نعرف فيها شذوذا لأحد. وكان كل أحد منهم رقيبا. ليس فقط على نفسه، ولكن كذلك على أهله ومجتمعه وكل من حوله، وبافاق لا مثيل لها، بل لا يعرفها أحد ولا يفتكر فيها أو يتخيلها، فضلا عن أن تكون صورا في الحياة ماثلة قائمة راسخة. بل إنه مهما كان تعلقهم بالأمر فإن استجابتهم للقيام به تتسم بلهفة التنفيذ والحرص عليه والسرعة في الاستجابة المتابعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الواعية الشمول، والذهاب إلى أبعد حد فيه وأجمل أخذ له. بل قد يسري هذا فيما لم يرد فيه أمر، حين يعرفون أنه لخدمة هذا الدين وتقربا إلى الله رب العالمين سبحانه وتعالى. فهم يسارعون إليه بأعلى مقدار من الاستجابة، لا تخلو من ذهاب إلى أبعد مدى يجاوز المطلوب، ولكنه يتمشى مع الروحية الجميلة الأمينة النزيهة لبناء النفس المسلمة، الذي أقامه هذا الدين، بعد أبعاده وأمدائه ومشمولاته المتلقاة جميعا. * قصة تحريم الخمر: كل ذلك يتبين في المثال التالي الذي جرى في حياتهم، وفي قضية كانت قبل الإسلام راسخة بتقاليدها الجاهلية وعاداتها المتأصلة القديمة الموروثة، مما يعتبر مسلكا عاما شاملا ومحمودا في مألوفات جاهليتهم ومن مفاخرها. وما كان لهم القيام بالإقلاع عنه- وبهذا النوع العجيب- لولا هذا الدين. ذلك هو قصة تحريم الخمر وكيفية استجابة الصحابة الكرام له ونوعيتها، وذلك في أواخر السنة الثالثة للهجرة وبعد معركة أحد، التي جرت في منتصف شوال منها. لقد كان تعاملهم مع الخمر واستعمالهم له وتناولهم إياه مسألة عامة يمارسها الجميع بشكل يفوق ممارسة العالم المتحضر اليوم له، شرقا وغربا. والذي للأسف قد سرت عدواه وتسربت إلى بلداننا الإسلامية، وبشكل مرعب ومخيف ومحزن، فنسأل الله العافية. ويبدو أن شيوع استعمال الخمر- وغيرها من المنكرات، القديمة والجديدة سواء- سمة بارزة، وظاهرة مميزة، ومعلم لازم لكل جاهلية وعلى مدار التاريخ، قديمه وحديثه ومعاصره. وكل هذه الجاهليات تمارسه وهي في أوج جاهليتها، كالمجتمع الروماني والفارسي والجاهلية العربية والجاهلية العلمية المعاصرة. وللمقارنة العابرة في موضوع الخمر في العصر الحاضر، وبعد أن تبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 بالعلم والواقع والرؤية آثاره المدمرة للإنسان نفسه ومجتمعه وأجياله، لم تفلح أية دولة ولا نظام ولا تربية حتى بالتخفيف أو التخفف منه، رغم الوسائل المتقدمة والإمكانيات الضخمة التي تحوزها والجهود الكبيرة. ليس ذلك فقط- ومع بذل المحاولات في بعضها وبشكل جاد- نرى هذه الظاهرة تتسع وتزداد، أفقا وعمقا. وتنتشر وعلى وضع مخيف ويزداد المعاقرون لها، بل وبين الناشئة والمراهقين والفتيان بل والصغار من الذكور والإناث. ولقد حاولت الحد منها أو منعها عدة دول غربية في أوربا وأمريكا وغيرها، كالسويد والولايات المتحدة والهند كذلك، ففشلت تمام الفشل. كانت هذه بدافع دنيوي طبعا، ولما لمست من آثاره المدمرة، ليس على الجيل المعاقر له بل على نسله، فضلا عن الأمراض والآثار الاجتماعية والخلقية والإنتاجية. لقد حاولت أمريكا وفشلت، بعد أن سنّت قانونا سنة (1919 م) ، واستمرت تعمل به طوال أربعة عشر عاما، ثم اضطرت إلى إلغائه والتخلي عنه، أمام الفشل الذريع المريع المذهل، الذي ربما أتى بعكس الرجاء منه، وبعد أن أنفقت مئات الملايين من الدولارات والجنيهات وأعدم بسببه المئات من الرجال وسجن مئات الآلاف منهم. كان الفشل الغريب- وليس بغريب- هو الحصيلة الواضحة من ورائه. وهذا في كل الأمور يتكرر وفي كل محاولات الإصلاح الجادة ينظر. وفي عالم المخدرات وتجاراتها نرى كم من محاولات بذلت في كثير من دول العالم، في مصر والغرب وأمريكا اللاتينية ولكن لا فائدة. وحتى لو أمكن تحقيق شيء فهو بالحديد والنار، وليس عن اقتناع أو استجابة، من المعاقرين له والمتاجرين به ومن معهم. وذلك لأنهم أخطؤوا الطريق، ربما اختيارا أو إصرارا أو جهلا أو تجاهلا وازدراء. وهذا الغرب أمامنا ومحاولاته في علاج أنواع الفساد الذي يستشري فيه. وكل يوم يزداد هذا كما يزداد فشله في علاجها، وفي تقابل مطّرد. ويعتبر هذا في الميزان الإسلامي ساذجا وفجا وعبيطا، ليس فقط لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 عالج القضية أجزاء وتفاريق ومن السطح، مقطوعة عن كلياتها وأمهاتها وارتباطاتها، بل يعتبر أسلوبا تائها لا يوقع الإنسان ولا يرفعه ولا يورثه إلا مزيدا من السقوط في التّيه، حين يكون بعيدا عن الله تعالى. وهو مظهر بوضوح عبث محاولات الإصلاح بغير منهج الله تعالى. وقل مثل ذلك في كل المحاولات بأنواع أساليبها وتعدد ميادينها. بل هو طبيعي لا تنتظر غير ذلك منه، مثلما هو طبيعي بالنسبة للإسلام، لا تنتظر منه إلا ذلك التفرد العجيب المميز. خذ كذلك الظواهر المتنوعة المعاصرة، حتى في البلدان التي بلغت شأوا بعيدا في مضمار التقدم المدني والعلمي والتقني ومعالجاتها التي ظنت- وللأسف ظننا معهم- رقيها وسبقها وتفردها، فما حصدت إلا الذّبول والنّكول والتّدني في جميع القضايا الإنسانية، وما يخص المرأة وما يخص الظواهر الجديدة كالإيدز، بسبب البعد عن منهج الله تعالى. إن الخمر- كالميسر، كبقية الملاهي- ثم كالجنون بما يسمونه (الألعاب الرياضية) والإسراف في الاهتمام بمشاهدها ... كالجنون بالسرعة ... كالجنون بالسينما ... كالجنون بالمودات والتقاليع ... كالجنون بالمصارعة والملاكمة ... كالجنون بمصارعة الثيران ... كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى البشرية، حتى لتكاد أن تصبح كالقطعان بل قل كالأنعام في بعض الأحيان في مواقع وبلدان في الجاهلية الحديثة اليوم، جاهلية الحضارة الصناعية والتقنية والعلمية المترهّلة. إن هذه كلها ليست إلا تعبيرا عن الخواء الروحي من التربية الحقة والعجز والهزيمة أمام تحقيق أي لون من الإصلاح والوصول لعلاج الفاسدات والمفسدات، لتفلس أمامها، الأمر الذي ينقلب أحيانا إلى مماشاتها بل والأخذ بها. بل وأحيانا- تلك وهناك- الفقر المدقع من الإيمان أولا ومن الاهتمامات الكبيرة- نتيجة لذلك- التي تستنفد الطاقة ثانيا. وهي ليست إلا إعلانا عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقة أو الحاجة أو الرغبة الفطرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 بطريقة سويّة. ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ، كما يقودان إلى كل أنواع ذلك الجنون وغيره. وهما الخواء والإفلاس وما يتبعهما، بذاتهما- اللذان يقودان، كما يتم، والعياذ بالله ونسأل الله العافية، إلى الجنون المعروف، وإلى المرض النفسي والعصبي والشذوذ. بل يذكر أن للخمر (والتدخين) علاقة بالعقم!!! لكن انظر الذي حققه الإسلام في هذا الشأن وفي غيره من كل شؤون الحياة، حققه ويحققه بكلمات الله تعالى المعجزة، بلاغة وأثرا وتفردا. إنها لم تكن مجرد كلمات- كما قد يظن- إنها كلمات الله سبحانه وتعالى، وهي التي حققت تلك المعجزة الفريدة. إنه كان بالمنهج الرباني، منهج هذه الكلمات، متنه وأصله، منهج من صنع رب الناس لا من صنع الناس. وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج لا تؤدي إلى كثير أو كبير أو جدير، بل إلى الهزيل لا بل إلى التأذي والتردي والتدني البعيد، لا بل إلى التدمير المحقق والخطير. إنه ليست المسألة أن يقال كلام، فالكلام كثير. وقد يكتب فلان أو غيره من الفلاسفة والمفلسفين أو من الشعراء أو من المفكرين أو حتى من السلاطين! قد يكتب كلاما ملفقا أو مزوقا أو ملقنا- استعارة أو تجارة أو شطارة، من يده أو يد غيره- قد يكتب كلاما مهما أو منمقا جميلا يبدو أنه يؤلف منهجا أو مذهبا أو فلسفة «1» ... ولكن ضمائر الناس تتلقاه بلا سلطان   (1) لقد توفرت كل هذه الأنواع وغيرها، مما قد لا يؤمن بها حتى مدّعيها أو مستأجريها، من الأقاويل المصنعة أو المصطنعة. نراه في عصرنا وحوالينا خاصة، لمواجهة الإسلام ومحاربته ورده. يريدون غلبته بما ملكوا من القهر والنهر والنحر، وبما أعدوا من أسباب القوة الغشوم، مما يشير إلى رعبهم من الإسلام، حين يأتي فارسه وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21] . ولكن حين ذاك لا ينفع ما لديهم، فيهربون باحثين عن ملجأ ويتمنون النجاة، لعلهم يعثرون على مخبأ ما، ولات ساعة مهرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 لأنه ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 40] «1» . فمصدر الكلمة هنا هو الذي يمنحها السلطان، سلطان العليم الرحمن الرحيم الحكيم القادر الكريم المتفرد. وهي كلمة- فوق ذلك- تستكمن في ذاتها أسرارا من القوة والفاعلية والبركة المؤثرة، بجعل أثرها معجزا، لا يدرك بحال. بينما مناهج البشر جميعا تفتقد كل هذا فلا تقود إلا إلى التردي، وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور ومحدودية وغموض وعجز. فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج، غير منهج العليم الخبير؟ وأن يشرّعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلّاق القدير؟ متى ومتى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟؟! لكني أقول: إنه لا يتم شيء من ذلك إلا يوم يتم- بقدر الله تعالى- لأهل هذه الدعوة الكريمة أن يقيموا منهج الله في الأرض، فيراه الآخرون حقيقة واقعة، يرون آثارها ويألفون منارها ويتذوقون ثمارها. وهو ما جرى واضحا في السيرة النبوية الشريفة، على صاحبها الصلاة والسلام. حيث أقبلوا عليها واستظلوا بظلها وتفيّؤوا أشجارها واجتنوا ثمارها الطيبة، عبقت بألوان الطّعوم. رغم أنهم حاربوه طويلا بكل سبيل دون هوادة، وبأكثر من ذلك. ولكن حين رأوه في الحياة قائما، هرعوا إليه مؤمنين به، يتسابقون ويتنافسون في   (1) انظر: التفسير، (2/ 667) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 خدمته غير مدخرين لطاقة. فأصبح أشدّ الأعداء من أبر الأبناء، وهذا من معجزات الإسلام لا يستطيعه غيره بحال «1» . ومن الملاحظ أن كثيرا من هذه الأنظمة الوضعية الأرضية البشرية- شرقا وغربا، التي تحاول عمل شيء في هذا المضمار، وهي لا تزيدها إلا سوآ فوق سوئها وترديا إلى جانب ترديها وعبئا مع ثقلها- لم تحقق شيئا في أي من هذه المضامير والضمائر والمضامين، وحتى التي رفعت لها الرايات وادّعت سبقها وتفردها متّهمة غيرها. وكانت أفشل من غيرها- كل الأنظمة الوضعية ومن تلك التي قامت على أنقاضها ووصفتها بأشنع الاتهامات، بل حتى صار الناس يترحمون على تلك والتي هم أنفسهم كانوا يتمنون زوالها: ربّ يوم بكيت منه فلما ... تولى بكيت عليه ومن العجيب- أو ليس بعجيب- أن كل هذه الأنظمة والأوضاع الجاهلية تحارب دين الله تعالى- بزعامة الصهيونية والصليبية والعلمانية- وتتحد عليه، وهي متعادية متحاربة متوالية، جمعها الهدف والمهمة والمركبة الواحدة، التي اصطنعتها من أجل ذلك، فصارت عليه إلبا واحدا، لحسابها أو لحساب غيرها. بل إن بعض الأوضاع ادّعت تقدمها وقوتها وتفردها في المناهج الإصلاحية وتحت هذه الشعارات- ليس فقط حاولت وفشلت ولا أهملت فحسب، بل كأنها تدعو إلى الفساد والإفساد والخروج عن طاعة الله تعالى، وإن تزيت به- لكنها تتعامل في الواقع بمقولة تستنكرها في الظاهر، هي: (إثابة المسيء وعقوبة المحسن) .   (1) يبدو أن كثيرا من الأوضاع في العالم اليوم تفرض القوى العالمية- الصهيونية والصليبية والعلمانية (اللادينية) - عليها توجيهات معينة وتملي إرادتها المحددة. وهذا يجري في بقاع كثيرة من العالم، شرقا وغربا. حتى ليظهر- أحيانا- أنه لا تكاد تفلت منها- إن فلتت بحال- إلا القلة، وأن هذه القوى تريد الإطباق على الجميع. ونحن نسأل الله العافية من ذلك وأمثاله، بالاعتصام بمنهج الله القويم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أمور لو تدبّرها حكيم ... إذا لنهى وهيّب ما استطاعا «1» وهذا كله مما يجعل النداء إلى دين الله قائما ولازما على أهله، معلنين الدعوة إلى هذا الخير والاستقامة والصلاح، الذي لا يتم إلا بهذا الدين وحده، ولا طريق له إلا من هذا الدين فهو وحده الطريق. وهو أقصر الطرق وأصدقها وأنجاها، فضلا عن كونه أجودها وأبركها وأحلاها. فإن تقوى الله وحدها والأخذ بمنهجه- عقيدة وعبادة وشريعة- هي دوما وحدها الكفيلة بإصلاح القلوب وإنارة النفوس وتعمير الحياة. وهذه التقوى لله تعالى والأخذ بشرعه تقوم على الأساس الأمين والركن الركين وهو لا إله إلا الله، بشمول معناها وعمق مبناها ودليل محتواها. وهي دعوة جميع الرسل، عليهم الصلاة والسلام. والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم دعا إليها طول عمر النبوة المنيرة الخيّرة المباركة. وخلال الدعوة المكية كانت الدعوة إليها باعتبارها الأساس الذي يقوم عليها البناء الإسلامي كله. وكانت خلالها هي القضية الوحيدة التي يعمل لها، ويجاهد لأجلها وينادي داعيا إليها «2» . من ذلك ما رواه الإمام أحمد عن ربيعة بن عباد، وكان جاهليا فأسلم، قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصر عيني بسوق ذي المجاز (يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله) يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» «3» .   (1) هذا البيت من قصيدة في الحكمة للقطامي (نحو 130 هـ) . «تدبرها» : نظر في عواقبها. «نهى» : انتهى عن فعلها. «هيّب» : خوّف الآخرين منها وحذّرهم إيّاها. (2) انظر: التفسير، (2/ 973، 987) . (3) المسند، (3/ 492) ، (4/ 341) . المعجم الكبير، الطبراني، (5/ 61) ، رقم الحديث (4582) . سير أعلام النبلاء، (3/ 516) ، رقم (124) . حياة الصحابة، (1/ 107) . سيرة ابن هشام، (1/ 423) . (ويذكر منى بدلا من المجاز، لقربها منها. ولعل رؤية ربيعة للرسول صلّى الله عليه وسلّم تكررت في عدة أماكن لقرب منازلهم من هذه الأمكنة المرتادة، للحج أو التجارة والمشاركة في هذه الأسواق) . سيرة ابن كثير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ولا بد قبل بيان سرعة استجابة الصحابة الكرام والمسلمين والهروع لتنفيذه، أن يعرف موقع شيوع الخمرة في الجاهلية العربية. أقول: لقد كان تعلق العرب بالخمر- قبل الإسلام، لا سيما في المدن مكة (وقريش) والمدينة وغيرها- ربما أكثر من تعلق المدمنين اليوم في الحضارة المعاصرة أو الجاهلية المعاصرة. وربما استعاض أولئك العرب بها عن الماء لأيام. ويلحظ أن هذه الأمور- كالخمر- هي من معالم الجاهلية وعلاماتها وعاداتها- وكل جاهلية- كما نشهده اليوم في الحضارة (الغربية) المعاصرة، شرقا وغربا. والبلاد الإسلامية كثيرا ما تقلدهم في ذلك وفي غيره، وكأنها زاد تقدّم وحضارة حقّة. كما لا بد من ملاحظة أن الذين أدركوا في الغرب خطورة الخمرة وأثرها السيىء وأضرارها المتنوعة، البدنية والعقلية والنفسية، وعلى النسل، وكذلك الاجتماعية والخلقية والحضارية. رغم ذلك فهم يعاقرونها صبوحا   (1/ 462) . وذكر مثل هذا المشهد أو الموقف آخرون مثلما ذكره ربيعة بن عباد. زاد المعاد، (3/ 39، 566- 567) . أسد الغابة، (3/ 49) . السيرة النبوية، الذهبي، (151) . (والذهبي يروي دعوة التوحيد: «لا إله إلا الله تفلحوا» مكررة) . ذو المجاز: من أشهر أسواق العرب في الجاهلية، يقع شمال عرفة. وكات تأتي أهميته بعد سوق مجنّة، وهذا بعد عكاظ. «وكانت العرب إذا حجت تقيم بعكاظ شهر شوال ثم تنتقل إلى سوق مجنة فتقيم فيه عشرين يوما من ذي القعدة، ثم تنتقل إلى سوق ذي المجاز فتقيم فيه إلى أيام الحج» . مراصد الاطلاع، (2/ 953) . والظاهر أن سوق ذي المجاز كان أقرب هذه الأسواق لمكة، حيث هو آخر الأسواق، لتواجدهم فيها، وفيها كانت إجازة الحاج، ولعله كان أقرب الأسواق لمنازل ربيعة بن عباد. وقد كان بلال الحبشي لدى أوائل الهجرة إلى المدينة يتشوق إلى هذه الأماكن ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنّة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل رواه البخاري، رقم (1790) . ومسلم، رقم (1376) . سير أعلام النبلاء، (1/ 354) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وغبوقا «1» ، بل وحتى الأطباء الذين يعرفونها أكثر من غيرهم وينصحون الناس بالكف عن تناولها. وهذا يعني أنه لا المعرفة وحدها ولا القناعة بحالها ولا التقنيات بمفردها تكفي للإقبال أو الإدبار، ولا تصلح للبناء والتربية والاستقامة، لانقطاعها عن النفس، بانقطاعها عن منهج الله تعالى. ومن هنا كان لا بد أن تفشل كل المبادئ الوضعية وفلسفاتها وأنظمتها ونظرياتها، التي يضعها البشر للبشر، والذي يمثل صيغة من صيغ الخروج عن الفطرة، بخروجها من العبودية لله تعالى والاستبداد بسلطان ليس لهم، هو سلطان الله تعالى، الذي اعتدوا عليه. ولا نذهب بعيدا، والحاضر على ذلك دليل، أي دليل. خذ مثلا وشاهدا وما أكثرها. فما أكثر النظريات الحديثة في مختلف الميادين، التي لو صدقت فلا تصلح لذلك. وقد بدا ليس فقط فشلها بل كذبها وسقوطها وبطلانها. فهي تنهزم أمام الواقع والحقائق والعلم. وتلحظ هذه الهزائم حتى في مواطنها، فيما قاله العديد من العلماء الذين ما يزالون- لا سيما عندنا- يحتلون منصات التقدم العلمي، من أمثال: دارون وفرويد ودوركايم وهكسلي ونيتشه وكنت وبرجسون وغيرهم كثير. وسيأتي يوم- إن شاء الله- تبدو فيه كل هذه الفلسفات والنظريات والمذاهب جاهلية، ننظر إليها كما ننظر إلى الجاهليات السابقة ومعبوداتها، إلى حد تثير الدهشة، كيف قبلها الناس في جيل وارتضوها وعاشوها؟ وكما أن الظّلمة لا تعرف لتهجر وتنبذ إلا حين يشع النور، أعني نور الله تعالى، يعرف به الإنسان الطريق صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ [البقرة: 138] . وكما حدث أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين أسلم من أسلم، وقد حمد الله تعالى   (1) «الصبوح» : ما يشرب (أو يحلب) صباحا. «الغبوق» : مثل ذلك مساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 على الإسلام بعد الجاهلية: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] . لقد حدثت الاستجابة لتحريم الخمر لدى الجيل الخيّر، والانتهاء منه، مثلما حدث في موضوع الحجاب، الذي تستبين من خلاله طاعة النساء كلهن، وهن جزء من المجتمع الإسلامي والجماعة المسلمة ونصفه. وكيف أيضا فرح الرجال بتنفيذه. وفي تحريم الخمر كذلك كانت نفس الاستجابة. والحق أننا لا ننتظر إلا هذه الصورة الفريدة. لأن الإسلام هو الذي يصلح القلوب التي منها يأتي كل الصلاح «ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» «1» . ومع ما كان للخمر من مكانة في نفوس أولئك القوم ومن تعلّق شديد ومعاقرة متسعة. انظر كيف كانت استجابتهم- بعد أن تربوا على الإسلام- للإقلاع عنها وعدم التعامل معها أو التداول بها أو التمثل بالأقاويل فيها، بأي شكل وحال. ما كان أحد يتصور- بدون الإسلام- أن يقلع أحد منهم عنها، فضلا عن أن يكون بالشكل الذي تم به، بعد ذلك التعلق الشامل والمعايشة الدائمة والإدمان الشنيع، إلى حدّ كانت من مفاخرهم في نواديهم ومجالسهم وشعرهم كذلك. فالآيات الكريمة والأمثلة الواضحة والروايات المتعددة كلها تبين وتؤكد وتؤيد بشكل شامل، على تغلغل هذه الظاهرة- معاقرة الخمرة- في المجتمع الجاهلي. وكانت هي والميسر الظاهرتين البارزتين المتداخلتين في تقاليد هذا المجتمع. فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة؟ ماذا صنع   (1) رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (52) . ومسلم، رقم (1599) . انظر: أعلاه، ص 75 وبعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 لمكافحة هذه الآفة، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقم واع أبدا؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصيلة قديمة، تتعلق بها تقاليد اجتماعية، كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟ لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن! وعلى مراحل، وفي رفق وتؤدة. وكسب المعركة، دون حرب ودون تضحيات ودون إراقة دماء. والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها، وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين- حين سمعوا آية التحريم- فمجّوها من أفواههم ولم يبلعوها!! لقد اتبع الإسلام- وهو دين الله تعالى- أسلوب التدرج أمام هذه القضية. علما أن هذا مرتبط بنوع البناء والتربية الربانية للجماعة المسلمة، وما كان يثمر أبدا، لا هذا ولا غيره بدون هذه القاعدة الإسلامية الصّلبة. ولقد كان للتحريم مراحل سبقت ومهدت له، حتى بات المسلمون هم أنفسهم يطلبون البيان الشافي في هذا ويستعدون، بل ويتمنون تحريمها. وهذه السّمة والعلامة والاتجاه هو ما أسميه الاستعداد المسبق المتقابل الذي يجعل النفس المسلمة ذاتها- بتربيتها- تطلب الوقوف عند الصيغ الإسلامية قبل الأمر بها، فإذا ما جاء ذلك الأمر كان التنفيذ سريعا. وهذا ما يجعله ترنو إليه بما تربت عليه قبل الأمر به، وعند ذلك يكون سبّاقا في قبوله وانطلاقه له، بل وفرحا بالأخذ به حريصا عليه، ومن فوق هذا الأفق الكريم المتسامي في امتثاله. جرى لتحريم الخمر ثلاث أو أربع مراحل، وذلك بعد بناء هذه النفس المسلمة ومجتمعها على كلمة التوحيد الخالص لله تعالى في العقيدة والعبادة والشريعة، وهو معنى ومحتوى ومقتضى كلمة «لا إله إلا الله» ، الكلمة التي لا يقدّم عليها شيء ولا يفوقها ولا يقوم قبلها. وكل أمر يا بنى عليها، بعد قيامها في النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 1- آية في سورة النحل وهي مكية: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 67] «1» . وهذه الآية لا تحرّم الخمر ولكنها تشير إلى أن الخمر (السّكر) ليس رزقا حسنا والرزق الحسن غيره. والآية تصف الواقع في ذلك الوقت من أنّ الخمر تؤخذ من ثمرات النخيل والأعناب، وليس فيها نص بحلّها. ولكن ذلك ممكن أن يعتبر إشارة إلى اتجاه تحريمها والتمهيد له. 2- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة: 219] «2» . وهذه الآية الكريمة تبين أن إثم الخمر- كالميسر (القمار) - أكبر من النفع فيه. وليس في هذا حل لها، وهو ما لا يوجد في القرآن مثله. وهذا يعتبر تلميحا- أكبر من الآية السابقة- إلى التقليل من التعامل بها. وهو تمهيد أكبر لتحريمها، وهو تدرج لتحريمها. 3- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء: 43] «3» . وهذه الآية الكريمة تعتبر حلقة أخرى في خطوات تحريم الخمر. حيث تضيّق أوقات شربها وتحدده، فلا يشربها قبل الصلاة لخمسة أوقات، حتى يعرف المسلم ماذا يقول في صلاته. فلم يبق إلا وقت قليل لمعاقرتها. وبعد نزول هذه الآية الكريمة كان منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أقيمت الصلاة ينادي: «ألا لا يقربنّ الصلاة سكران» . 4- ثم يأتي الأمر الجازم بتحريمها (مع الميسر) ، نصا قاطعا أقوى من   (1) تفسير القرطبي، (10/ 127) . التفسير (4/ 2181) . (2) تفسير القرطبي، (3/ 51) . التفسير، (1/ 229) . (3) تفسير القرطبي، (5/ 200) . التفسير، (2/ 662- 668) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 لفظ التحريم، حيث قرنها بتحريم الأنصاب والأزلام، أي الشرك بالله تعالى، نعوذ بالله منه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90- 91] «1» . كان هذا الأمر الإلهي- بالانتهاء عن الخمر- تحريما قاطعا حازما شديدا، ومع ذلك فقد استجاب المسلمون له أروع استجابة، مستريحة وفرحة متلهفة. تم ذلك وكأنه كان أملهم ومأربهم ومطلبهم. ذلك هو ثمر هذا البناء الرباني الكريم على منهج الله تعالى. وهذا هو الفرق بينه وفي علاجه للنفس الإنسانية والمجتمع والحياة وبين كل ما عداه من المناهج الوضعية الأرضية الجاهلية غابرا وحاضرا ومستقبلا. انظر كيف تمت هذه المعجزة المتفردة، التي لا نظير لها في تاريخ البشرية، ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والتقنيات والتنظيمات والتنظيرات والإجراآت والإصلاحات، في أي مكان ولا في أي زمان ولا لدى أي إنسان؟ لقد تمت المعجزة؛ لأن المنهج الرباني أخذ النفس الإنسانية بطريقته   (1) تفسير القرطبي، (5/ 200) ، (6/ 285) . التفسير، (2/ 973- 979) . «الأنصاب» : جمع مفردها: النّصب النّصب: ما ينصب ليعبد من دون الله. أو هي الأصنام أو حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح. «الأزلام» : جمع مفردها الزّلم: وهي السهام التي كانوا يستقسمون بها، إذا أرادوا أمرا فيأتمرون بها. تفسير القرطبي، (6/ 57) . أو هي القداح (الأقداح) مفردها القدح. يستعمل لنفس الغرض، أو هي قداح الميسر. تفسير القرطبي، (6/ 58) . البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة: 90] . التفسير، (4/ 1687) . رجس: نجس مستقذر أو إثم فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟: هي حرمة مشددة، وهي صيغة الاستفهام الإنكاري. وهو من أبلغ ما ينهى به ووعيد شديد زائد على معنى انتهوا. لذلك فهم قالوا في الامتثال: انتهينا. تفسير القرطبي، (6/ 292) . فهو تحريم قاطع مؤكد نهائيا تماما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الخاصة، أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته، وبحضور الله- سبحانه وتبارك وتعالى- فيها حضورا لا تملك الغافلة عنه لحظة من زمان. أخذها جملة لا تفاريق وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة. لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغا تملؤه بنشوة الخمر وخيالات السكر وما يصاحبهما من مفاخرات وخيلاء وادعاء، تذهب في الهواء. ملأ فراغها باهتمامات، منها: نقل هذه البشرية الشاردة كلها من تيه الجاهلية الأجرد وهجيرها المتلظي وظلامها الدامس وعبوديتها المذلة وضيقها الخانق إلى رياض الإسلام البديعة وظلاله الندية ونوره الوضئ وحريته الكريمة وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة! ملأ فراغها بالإيمان، وبهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج. فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر، تحلق بها في خيالات كاذبة وسراب خادع وأوهام مضحكة، تتراءى متوثبة متأهبة. فأين هي من تلك الأحاسيس الرضية، ترفّ بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضئ وتعيش بقرب الله ونوره وجلاله وتذوق طعم هذا القرب، فتمج طعم الخمر ونشوتها وترفض خمارها (آلامها وآثارها) وصداعها وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية! لقد استنقذ هذا الإيمان بكل إحساساته وموراته وتدفقاته الفطرة من ركام الجاهلية. وفتحها بمفاتيحها الذي لا تفتح بغيره، وتمشي في حناياها وأوصالها وفي مسالكها ودروبها، ينشر النور والحياة والنظافة والطهر واليقظة والهمة والاندفاع للخير الكثير والعمل الكبير والخلافة في الأرض؛ بأصولها التي قررها العليم الحكيم الخبير، وعلى عهد الله وشرطه وعلى هدى ونور منه. تم هذا بكل يسر وسهولة وشمول، رغم ما مر بنا من تعلقهم الزائد بالخمر قبل الإسلام- وفي الإسلام- حتى كان تحريمها. كانوا يعاقرونها بهذه الممارسة الشرهة الشاملة، إلى حدّ كانت الخمرة مادة فخرهم وأدبهم وشعرهم، مثلما هي مادة نواديهم ومجالسهم وأسمارهم. كما كان أدواتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وتقاليدها ومصطلحاتها، وأصبح الخمر أحد أهم أغراضهم الشعرية. وإنك لتجد ذلك في العديد من معلقاتهم، التي هي مستجاد شعرهم، ومستجاد الشاعر عندهم. وكانت- فوق ذلك كله- تقليدا اجتماعيا مرتبطا بجذور حياتهم الاقتصادية والتجارية، فهي قوام تجارتهم «1» . وقل مثل ذلك في الميسر الذي بلغ من ولوعهم به وتعلقهم بممارسته حدّا «كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله، فيقعد حريبا سليبا ينظر إلى ماله في يدي غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضاء، فنهى الله عن ذلك وقدّم فيه، والله أعلم بالذي يصلح خلقه» «2» . لقد بلغ من شيوع تجارة الخمرة ورواجها وإلفتهم لها أن كلمة التجارة غدت مرادفة لتجارة الخمر وبيعه. وفي ذلك يقول شاعرهم لبيد بن ربيعة بن مالك- قبل إسلامه طبعا- في معلقته «3» : قد بتّ سامرها وغاية تاجر ... وافيت إذ رفعت وعزّ مدامها   (1) كانت الخمر تصنع في المدينة- طبعا قبل تحريمها- من خمسة أشربة، من التمر (والعنب) والعسل والحنطة والشعير والذرة، وليس فيها شراب العنب. البخاري، رقم (4340) . التفسير: (4/ 1689) . (2) تفسير الطبري، (7/ 35) . «حريبا» : مسلوب المال الذي يعيش به. وهذا يشير أيضا إلى هبوط قيمة الإنسان عندهم، والمرأة طبعا أكثر. (3) لبيد بن ربيعة بن مالك العامري: شاعر مخضرم، أسلم سنة (9 هـ) . وهو من فحول الشعراء والفرسان الشجعان المخضرمين المعمرين، وأحد أصحاب المعلقات السبع. كان هو المقصود بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد، ألا كلّ ما خلا الله باطل..» البخاري، رقم (3628) . «سامرها» : سامرا فيها. «غاية تاجر» : راية تاجر يبيع الخمر، ينصبها علامة عليها وعلى جودتها. «رفعت» : رفعت الراية أو ثمن الخمر. «عز مدامها» : غلا ثمنها وهي معتقة. يريد أنه سهر تلك الليلة، فإذا تاجر (بائع خمر) رفع راية (غاية) ، علامة بائع الخمر الجيد، فاشتراها، رغم ارتفاع ثمنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ويقول المنخّل اليشكري «1» (نحو 20 ق. هـ) : ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير فإذا سكرت فإنني ... ربّ الخورنق والسّدير وإذا صحوت فإنني ... ربّ الشّويهة والبعير وشعراء آخرون كثيرون تناولوا هذا الاتجاه بشعرهم «2» . ومع كل ذلك كانت استجابتهم في الإقلاع عنها عجيبة من عجائب هذا الدين، وكله عجائب، عجبا مستمدا من هذا المنهج الإلهي وقائما على هذه التربية الربانية الفريدة ومتيقظا بالصدق الأمين في الله تعالى. وانتهى المسلمون كافة، وأريقت زقاق الخمر وكسرت دنانها في كل مكان، بمجرد سماع الأمر. ومج الذين كانت في أفواههم جرعات من الخمر ما في أفواههم- حين سمعوا الأمر- ولم يبلعوها وهي في أفواههم وهم شاربون. ولم يتم ذلك عن طريق سيطرة الدولة وتقنيناتها وتقنياتها وإشرافها ورقابتها، بل تم بسلطان القرآن الكريم، وما أعظمه من سلطان «3» . الظاهر أن كثرة من الصحابة الكرام كانوا يعاقرون الخمر، قبل تحريمها، مما يدل على شيوعها وتمكن هذه العادة وتأصل هذا التقليد. فعمر بن الخطاب- مثلا- ممن كان يعاقرها، منذ جاهليته. وهو الذي يقول في قصة إسلامه: (كنت للإسلام مباعدا وكنت صاحب خمر في الجاهلية أصبها وأشربها. وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزوّرة ... فقلت في نفسي: فلو أني جئت فلانا الخمّار، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي   (1) التفسير، (2/ 664) . (2) انظر في ذلك: التفسير، (2/ 663) وبعدها. (3) التفسير، (2/ 666) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أجد عنده خمرا فأشرب منها، فخرجت ... ) «1» . ولكنه ظل يشربها في الإسلام- مثل غيره- فلما نزلت آية البقرة (219) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا. ولما نزلت آية النساء (43) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. قال: اللهم بيّن لنا بيانا شافيا في الخمر. حتى إذا نزلت آية التحريم التي في المائدة (90- 91) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «2» . قال: - وقال المسلمون جميعا- انتهينا انتهينا «3» ! وانتهى وانتهوا منها جميعا، وإلى غير رجعة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا ... » » . وهكذا رويت أخبار عن عديد من خيار الصحابة من المهاجرين والأنصار، أنهم كانوا يعاقرونها، مثل سعد بن أبي وقاص «5» . وروي عن الصحابي الجليل أنس بن مالك، رضي الله عنه قال: (فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال: حرّمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس، قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل) «6» . ولقد ورد الخبر   (1) سبل الهدى، (7/ 33) . التفسير، (2/ 664) . (2) تفسير الطبري، (7/ 33) . التفسير، (2/ 664) . (3) تفسير الطبري، (7/ 33) وحولها. (4) التفسير، (2/ 665) . كذلك: تفسير الطبري، (5/ 95) . (5) تفسير الطبري، (7/ 34) . (6) رواه البخاري: كتاب التفسير (المائدة) ، رقم (4341) . «أهرق» : اسكب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 بكلمات أخرى عن أنس أيضا، يقول: (كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناديا ينادي: «ألا إنّ الخمر قد حرّمت» . قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها. فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة ... ) «1» . إن امتثال الصحابة الكرام في الانتهاء عن تناول الخمر- وبهذا الشكل القوي- لهو معجزة من معجزات الإسلام، إذ استجابوا بشكل كامل وجماعي، وأراقوا ما لديهم منه، ولم يؤجلوا ولم يبيعوا ما لديهم منه لغيرهم، حتى لغير المسلمين، بل ولم يعطوه لأحد «2» . فما أن سمعوا بالخبر- مجرد الخبر- من رجل مسلم حتى نفذوه قبل أن يستفسروا، حتى قالوا انتهينا يا رب «3» . وانظر هذه الصورة التي يذكرها الإمام ابن جرير الطبري (310 هـ) في تفسيره (جامع البيان عن تأويل القرآن) . فيروي عن الصحابي الجليل   «القلال» : جمع قلّة، وهي الجرة التي يقلها- أي: يحملها- القوي من الرجال. «عنها» : عن تحريم الخمر. «راجعوها» : أي لم يرجعوا إلى شرب الخمر، «أو» : لم يرجعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليتأكدوا منه خبر التحريم (ويبدو هذا أرجح) . وهذا يدل على صدق المسلمين فيما ينقلون وثقتهم بعضهم ببعض، وأنهم أتقياء في هذا وغيره. وهذا أمر طبيعي. (1) رواه البخاري: كتاب المظالم، باب: صب الخمر في الطريق، رقم (2332) . ومسلم، رقم (1980) . أبو طلحة بن سهل الخزرجي النجاري (51 هـ) زوج أم سليم (الرّميصاء) الأنصارية النجارية الخزرجية (1/ 304) . أسد الغابة، (7/ 345) . (2) حرم الإسلام التعامل به بأي حال وعدم المشاركة بأي أمر يتعلق به. انظر: الأساس في التفسير، (3/ 1507- 1508) . روى الإمام أحمد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعنت الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وعاصرها ومعتصرها وآكل ثمنها» . المسند، (2/ 97) . التفسير، (1/ 316) . الأساس في التفسير، (3/ 1506) . (3) تفسير الطبري، 7/ 33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 بريدة بن الحصيب الأسلمي (63 هـ) «1» . أنه قال: (بينما نحن قعود على شراب لنا، ونحن على رملة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطية لنا ونحن نشرب الخمر حلّا، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلّم عليه وقد نزل تحريم الخمر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة: 90] ، إلى آخر الآيتين فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: وبعض القوم شربته في يده، وقد شرب بعضا وبقي بعض في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجّام. ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا: انتهينا ربنا! انتهينا ربنا! «2» . وما عرف عن أحد من الصحابة أنه شرب خمرا أبدا، بعد ذلك بحال. فالحمد لله رب العالمين. وهكذا اندثرت هذه الممارسات والتقاليد الغائرة في جاهليتهم، وحتى في إسلامهم قبل التحريم، وفي لمح البصر. انتهت تلك من حياتهم، بعد ما أحبوها، وبعد التحريم أحبوها تحريمها وما أحبوها. وأصبحت من المنكر حتى ذكرها في أحاديثهم، مجرد ذكرها في مدح أو تمنّ أو تسلّ. وظني أن هذا هو سبب سجن عمر بن الخطاب للشاعر أبي محجن الثقفي (30 هـ) «3» ، لا لأنه شرب الخمر بل لأنه قال الشعر فيها وحسب. وهناك حادثة مشابهة، ذلك أن النّعمان بن عديّ بن نضلة القرشي العدوي (نحو 30 هـ) ، صحابي من مهاجرة الحبشة، ومن الولاة، وهو شاعر. ولّاه عمر على ميسان (كورة واسعة بين البصرة وواسط) . وهو الوحيد الذي ولّاه عمر من قومه (بنو عديّ) ، لما يعرف من صلاحه. ولمّا   (1) انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء، (2/ 469) . وأعلاه، ص 142- 143. (2) تفسير الطبري، (7/ 34) وبعدها. (3) انظر ترجمته في العديد من كتب الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أبت زوجته الخروج معه كتب إليها بأبيات، منها: إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلّم لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا في الجوسق المتهدّم ولما بلغ ذلك عمر كتب إليه: (بسم الله الرّحمن الرّحيم. حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر: 1- 3] . أما بعد فقد بلغني قولك: لعل أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا في الجوسق المتهدّم وايم الله إنه ليسوؤني، فأقدم فقد عزلتك) . فلما قدم عليه قال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قطّ، وإنما هو شعر طفح على لساني (وما كان إلا فضل شعر وجدته) وإني لشاعر. فقال عمر: إني لأظنّك صادقا، ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا. فنزل البصرة فلم يزل يغزو مع المسلمين حتى مات «1» ، رضي الله عنهما. جرى ذلك في تحريم الخمر الذي كان من مفاخرهم المعدودة في المعاقرة لها صباح مساء، ما إن تقارب بطونهم أن تخلوا منها حتى يترعوها من جديد. وبلغ الأمر حدا أنّ مدار الكثير من أشعارهم (ديوانهم) لأكبر شعرائهم من أصحاب المعلقات وغيرهم «2» ، كانت في المفاخرة والمعاقرة هذه المشاربة، والتي غدت- بعد الفخر بها- بهذا الدين وبنائه القوي الأمين الرباني الرصين، من أكبر العيوب والآثام لديهم، وهي أم الخبائث «3» .   (1) أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر، (157- 158) . (2) سبق ذكر ذلك. (3) كما جاء وصفها في حديث شريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وإذا نظرنا بعض أشعارهم في ذلك نستدل على أن الإسلام صنع إنسانا جديدا وحياة جديدة ومجتمعا فريدا، في كل مبانيه الحياتية والإنسانية والحضارية في الأنفس والحياة والآفاق. إن أخذنا الجدي العملي المتمكن بالإسلام يرينا بشكل أدق وأوفق وأبعد حقيقته، ويعمق أكثر فهمنا له، ويبصرنا زيادة بأسراره التي أودعها الله إياه مليئة، يدلنا على طريق الخير السليم القويم، وهو وحده يفعل ذلك. ولكن هذه ثمرة طبيعية مؤكدة، لا يرد غيرها. ولكنه الأساس لأنه يحقق غاية الوجود الإنساني في العبودية الحقة لله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] . وهي قوام كل إصلاح وبداية الاستقامة فيها وموئل الإنسانية الكريمة. والمرجو أن يرى المسلم- مسلم اليوم قبل غيره- ذلك، ليدرك بوضوح عظمة هذا الدين. وهو المستوى اللازم للقيام به والانتماء إليه والسير في موكبه الكريم، ليحقق في نفسه وفي ما حوله وفي الحياة ما يراد منه. ويدرك هو وغيره المنقذ والموجه والمسعد دنيا وأخرى، الذي يتناسب مع الإنسان الذي خلقه الله تعالى وجعله خليفة في أرضه وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] . وهو هذا الدين وحده. وسيبقى هذا الإنسان ضائعا بدونه أبدا. فلا يفلح في إصلاح الإنسان إلا الدين الذي أنزله الله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] . فالحياة كلها- قديما وحديثا، لا سيما عصرنا- خير دليل على ذلك. وإن هذا الدين يقود إلى خيري الدنيا والآخرة، فمن يقود إلى خيريهما غيره. إنه هو الذي أراده الله سبحانه وتعالى أن يكون كذلك. وبه وحده تعرف حقّ الله تعالى والاستئناس بالعبودية له سبحانه. ثم إنه به يعرف معنى الألوهية والربوبية والحاكمية، وهو ما على الإنسان أن يعرفه ويؤديه ويقوم به؛ ولذلك أرسل الله تعالى الأنبياء، وآخرهم محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ الذي بعثه الله تعالى بالرسالة الخاتمة الشاملة. فما من حجّة بعد ذلك لأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء: 165] «1» . وبيّن لهم وأراهم الصيغ الحقة التي لا بد أن تصطبغ بها أعمالهم، خلوصا لله تعالى، إيمانا واحتسابا صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ [البقرة: 138] . وإذا كانت هناك دول- مثل الولايات المتحدة الأمريكية- ذات إمكانيات ضخمة حاولت منع الخمر، واستعملت كل وسائل الإعلام والإبلاغ والإقناع، ثم فشلت، فألغت المنع، وأعادت إباحتها، فلماذا منعت وتكلفت، ولماذا أباحت من جديد؟ وهذا يجعل الفرق واضحا- وهو أحد وجوهه- بين الإسلام وغيره، لا يدع مجالا للادعاآت والأوضاع. ليس فقط في مقدرتها وصدقها، ولكن كذلك في نوع المنهج وتوجهه وأحقيته. مهما ادعت هذه الحضارة التي تحمل من الأدواء والفساد والإفساد ما يقود إلى دمارها، كما سبقت الإشارة إليه. والواقع الحالي يجعل ادعاآت هذه الحضارة الحديثة وأمثالها وغيرها- وكل تقدم أو منجزات بعيدة عن منهج الله تعالى، قانونا لا يتبدل- يجعلها عديمة القيامة خالية الأهمية خاوية المصداقية، أدركت ذلك أو لم تدركه، الأمر الذي يتيح القول في أن الفساد والشرور والمعاصي مدمرة للحياة الإنسانية مبيدة لحضارتها، بل عقبة كأداء ضروس عبوس في طريق كل إصلاح وبأي ميزان. ولكن الأشد منه أن يكون هذا ملفوفا بلفائف مدّعاة تجعل من ذلك الشر خيرا، إيهاما وإرغاما وانتقاما. وهذا ما يجري في الحضارة المعاصرة وتوابعها، وهي سمة من سماتها، الأمر الذي يجعل سوس الفساد والنخر يستمر في فعله وآثاره حتى يتهدم الهرم الضخم- في شكله وهيئته- فجأة، قشة أمام الأعاصير تذروها   (1) انظر: التفسير، (2/ 805- 812) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الرياح أو هشيما تأكله النار فيصبح المحذور منظورا، حين لا ينفع الندم والادعاء التبريري، من عدم الوعي المفتعل. عندها يكتبون عن عودة الوعي واللاوعي ويرون أنفسهم صغارا بعد أن خدعوها، وحتى لو عاقبوها حقيقة، إن كانوا صادقين. ولكن تلك سنّة الله التي تجنبوها وعقّوها، بفجاجة وغرور صبياني. أعرضوا عن سنن الله في الأنفس والآفاق والوجود، جهلوها وتجاهلوها واستجهلوها. وما يصيبهم- حاضرا ومستقبلا، مثلما حدث ماضيا ودوما- هو بعض آثار وموجبات ومعطيات سنن الله تعالى في عقاب المكاذبين، كما سنراه في مصارع الغابرين، حين الحديث عنها، يوم ضحكت عليهم شياطين الإنس والجن. وعلى أي من هذه الاعتبارات والمهمات والمفهومات، فلا منجاة ولا حق ولا استقامة إلا بهذا الدين. نهر زلال موفور ومتوفر لكل أحد، وللإنسان أنزله الله سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم، فليغترف منه من يشاء ما شاء كيف يشاء، وبشرطه وحدوده ومقتضياته وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21] . وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 109- 111] . * الترقي الإيماني والإقبال على دخول الإسلام: لقد غدا مجتمع الصحابة كلّه هكذا يترقى كل يوم في سلّم الإيمان، متقدما نحو قممه التي لا تدرك إلا بهذا الدين. وهذا المجتمع غدا كله ماثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وكرائم ومحامد. ومن هنا كان الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم يدع القادمين إلى المدينة المنورة يقيمون فيها أياما- مسلمين وغير مسلمين- ليروا وليشاهدوا نوعية هذا المجتمع الرباني الذي أنشأه الإسلام ونشّأه بهذا القرآن. فهو تربية وإخراج، كما قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] . كانت إقامة القادمين إلى المدينة المنورة مقصودة، على ما يبدو، ولمدة كثرت أو قلت، وتكون على الأغلب نحو ثلاثة أيام. وتبين من خلال متابعاتي في السيرة النبوية الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- أن الذي يأتي إلى المدينة من غير المسلمين- بأي دافع وسبب- لا أحد من الصحابة يشرح له الإسلام على الإطلاق، ولم يوجّه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أحدا ليقوم بذلك، بل لعل التوجيه ألا يفعله أحد. وأفهم منه أن يترك القادم هو نفسه يتولى معرفة الإسلام من خلال ما يراه من سلوك أهله وأخلاقهم وتعامل مجتمعهم، وذلك يكفيه وزيادة، ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك كله. كما أن الشرح قد يشير- مما يشير إليه- إلى إجبار القادم- بشكل ما- على قبول الإسلام، الذي لا يكون إلا بالقبول الذاتي القلبي الأصيل. يلزم به نفسه ويفرح بأخذه منهجا ويا بني حياته عليه. وهو بهذا يسعى إليه ولو على حياته. وهذا ما يريده الإسلام، وهو الذي رأيناه من هؤلاء الذين يصرون عليه ويأتون إلى المدينة معتمدين متعمدين محتملين حتى من أهليهم فارين إلى مدينته ومجتمعه ونبيه صلّى الله عليه وسلم. وبهذا انتشر الإسلام. وهذا يدل دلالة واضحة قوية جادة على نوعية المجتمع المسلم وقوة التزامه وشمول إقباله على منهج هذا الدين. فأينما يلتفت القادم لا يرى إلا عجبا في هذا الدين وماذا صنع بأهله، إذ أخذهم إلى قممه السامقة وأجوائه العبقة ومجتمعه الكريم الذي صاغه هذا المنهج الرباني الوضئ الجديد الفريد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وإن قصة جبلة بن الأيهم، ملك الغساسنة- الذي أصر الخليفة عمر بن الخطاب على تنفيذ العدل فيه، فهرب وعاد، ثم ندم «1» - لتمثّل دلالة طبيعية معتادة على الإسلام في كل شيء، والذي يقدّم ميزانه دوما على كل اعتبار، دون أي حسابات غير حساب موازينه من منهج الله المنير والسعي لرضاه سبحانه. ولا يجب أن ننتظر منه غيره، مثلما لا ينتظر مثله من أي توجّه أو منهج- إن صح ذلك- أو نظام. بل إنه لمن العبث والضياع والتيه انتظار ذلك من غيره، بل لا نتوقع مطلقا إلا عكسه تماما. أمّا ندم جبلة فلا بد أنه أدرك روعة هذا الإسلام ومحاسنه وتفرده التي حجبت أو تأخرت أو غلبت رؤيتها غروره وزعامته وجاهليته. وقد فات الأوان، إلا لو أنه أقبل من جديد بقوة وثبات وإقدام يعلن موقفه، دون تردد، ولا سيما وهو غارق بدنياه بترفها وأبهتها ونعيمها الزائف الزائل الغرور. أما موعد شرح الإسلام فكان يتم للمسلمين وللقادمين مسلمين أو بعد أو يدخلوه مؤمنين، أفرادا أو جماعات أو أفواجا. فكان بقاء القادمين إلى مجتمع المدينة لمدة، ليشهدوا هذا المجتمع القرآني الفريد وليعرفوا من خلال نوعيته هذا المجتمع الذي رباه الإسلام ونشّأه، وأخرجه الله تعالى إلى الحياة مثالا، بهذا الدين العظيم. وكيف وماذا صنع بهم، فكانوا ولادة جديدة للإنسان الفاضل الذي أخذ بهذا المنهج الفريد، المنهج الرباني الوحيد الذي يمكنه أن يصل بالإنسان- فردا ومجتمعا ودولة- إلى هذا الأفق السامي الوضئ، وبه وحده يكون. فكانوا يندهشون مأخوذين بهذا الإنسان الجديد، فيأتي إلى الإسلام فرحا طائعا ويصبح من خيرة أبنائه بعد ما كان من ألد أعدائه، بل ويندم على زمن من عمره أنفقه، معاديا للإسلام أو بعيدا عنه، يحاول ملافاته بمضاعفة جهده واجتهاده وجهاده، مثلما جرى لكثيرين، منهم: الحارث بن هشام بن   (1) أخبار عمر (193- 197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 المغيرة «1» أخو أبي جهل، فرعون هذه الأمة وعدوها اللدود. فيندفع هذا المسلم الجديد بهذا المنهج الجديد يحمله بين أضلعه، منطلقا به في الحياة يمثله في كل أحواله وتعامله. وقد يكون حرصه على خدمته أكثر قوة من شدته في عداوته له، والأمثلة كثيرة. وكم من أحد أو جمع جاؤوا ليوقعوا بالمجتمع وأهله وينالوا منه، بل ويتامروا على نبيه صلّى الله عليه وسلم ليقتلوه، فيعودون مسلمين، يعملون للإسلام بكل ما يملكون وبكل طاقتهم. جرى ذلك لعديد: من مثل: 1- ثمامة بن أثال «2» ملك اليمامة «3» ، الذي بعد أن كان يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلّم قبل إسلامه، لكنه بعد إسلامه غدا يقاتل أعداء الإسلام حتى لو كانوا من قومه وعشيرته (بنو حنيفة) . وكان ممن ثبت على الإسلام أيام الرّدّة بل وقاتلهم، حتى ضد من ارتد من قومه من المرتدين وقاتلهم، ومنهم مسيلمة الكذاب، حتى مكّن الله منه وتم القضاء عليه والحمد لله. 2- كذلك قصة إسلام عمير بن وهب، الذي أتى إلى المدينة بعد معركة بدر، رمضان السنة الثانية للهجرة. وكان يريد الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلم، بحجة فداء ابنه من الأسر، وكان قد حضر بدرا مع المشركين هو وابنه وهب، فنجا هو وأسر ابنه. وتعهد له ابن عمه صفوان بن أمية بن خلف أن يكفل عياله   (1) انظر ترجمته: أسد الغابة، (1/ 420) ، رقم (979) . الإصابة، (1/ 293) ، رقم (1504) . سير أعلام النبلاء، (4/ 419) ، رقم (167) . (2) انظر ترجمته: وقصة إسلامه: البخاري، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال، رقم (4114) . مسلم: رقم (1764) . أبو داود: رقم (2679) . أسد الغابة، (1/ 294) ، رقم (619) . الاستيعاب، (1/ 213) ، رقم (278) . الإصابة، (1/ 203) ، رقم (961) . طبقات ابن سعد، (5/ 401) ، زاد المعاد، (3/ 227) . الوافي، رقم (34) . (3) «اليمامة» : منطقة في نجد، وتقع فيها الرياض، وتسمى العارض، ومن مدنها: العيينة والدّرعيّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ودينه وجهازه ليذهب إلى المدينة لقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بسيف مسموم مصقول مشمول. ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يحدثه في المسجد- وعمير يخفي نيته- كشف له، بما أوحى الله إليه، اتفاقه مع صفوان في الحجر (في الكعبة) فقال صلّى الله عليه وسلم: «تحمّلت له بقتلي على أن يعول بنيك ويقضي دينك، والله حائل بيني وبينك!» . قال عمير: أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. يا رسول الله، كنا نكذبك بالوحي، وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحجر، والحمد لله الذي ساقني هذا المساق، وقد آمنت بالله ورسوله. ففرح المسلمون حين هداه الله «1» . 3- وشبيه بذلك إسلام نوفل بن الحارث بن عبد المطلب «2» . وهو ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم. أسر يوم بدر كافرا، ولما فداه عمّه العباس أسلم. وكان أسنّ إخوته (أبو سفيان وربيعة) ومن سائر من أسلم من بني هاشم. ولقد ذكرت في إسلامه رواية أخرى أراها أجود، وقد رواها حفيده عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، قال: لما أسر نوفل بن الحارث ببدر، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «افد نفسك» . قال: ما لي مال أفتدي به. قال صلّى الله عليه وسلم: «افد نفسك برماحك التي بجدّة» فقال: والله ما علم أحد أن لي بجدّة رماحا، بعد الله غيري، أشهد أنك رسول الله. ففدى نفسه بها، وكانت ألف رمح «3» .   (1) أسد الغابة، (4/ 300- 301) . كذلك: الاستيعاب، (3/ 1221) ، رقم (1997) . سبل الهدى، (4/ 110) . مغازي الواقدي، (1/ 62) ، (125- 127) . الإصابة، (3/ 36) ، رقم (6058) . (2) أسد الغابة، (5/ 369) ، رقم (5310) . الاستيعاب، (4/ 1512) ، رقم (1542) ، رقم (2642) . الإصابة، (3/ 577) ، رقم (8826) . سير أعلام النبلاء، (1/ 199) . الخلفاء الراشدون، الذهبي، (155) . طبقات ابن سعد، (4/ 44- 47) . سبل الهدى، 4/ 105. (3) أسد الغابة، (5/ 369) . كذلك: الاستيعاب، (4/ 1512) . طبقات ابن سعد، (4/ 46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ورجع إلى مكة ثم هاجر هو والعباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق. وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنين والطائف وثبت يوم حنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعان يومها بثلاثة آلاف رمح. وهكذا ترى بوضوح كبير أن أكثر الصحابة حاربوا الإسلام أولا أشد الحرب، ثم أسلم من أسلم منهم بعد ذلك، فكان أحدهم يتمنى أن يفدي الإسلام وقرآنه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه وماله وأهله، وهو بذلك سعيد. وكان أحدهم لا يود إلا أن يموت شهيدا في سبيل الله؛ ولذلك فإن خالد ابن الوليد بن المغيرة الذي سماه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد معركة مؤتة (8 هـ) «سيف من سيوف الله» «1» . قال حين حضرته الوفاة: (لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في بدني (جسدي) موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم. ثم ها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، وما من عمل أرجى من (لا إله إلا الله) وأنا متترّس بها) «2» . وكان حريصا أشد الحرص على الشهادة في سبيل الله، فيقول: (ما أدري من أي يوم أفر: يوم أراد الله أن يهدي لي فيه شهادة، أو يوم أراد الله أن يهدي لي فيه كرامة) «3» . وقال أيضا (عند الوفاة) : (ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محبّ (أو أبشّر فيها بغلام) أحبّ إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية (من المهاجرين) أصبّح فيها العدوّ (فعليكم بالجهاد) «4» .   (1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب خالد، رقم (3547) . الاستيعاب، (2/ 429) ، رقم (603) . (2) الاستيعاب، (2/ 430) ، رقم (603) . أسد الغابة، (2/ 111) . سير أعلام النبلاء، (1/ 371، 382) . (3) سير أعلام النبلاء، (1/ 375) . (4) سير أعلام النبلاء، نفسه. الإصابة (1/ 414) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وقال أيضا عند الوفاة: (لقد طلبت القتل مظانّه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي. وما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتّها وأنا متترّس، والسماء تهلّني ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار. ثم قال: إذا متّ، فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله) «1» . انظر إلى هذا التحول العجيب، فبعد ذلك العداء المتناهي يصبح لا همّ له في حياته إلا خدمة هذا الدين؛ الذي غدا عنده أغلى من حياته، وخير ما يفرحه خدمته والعمل له وبه والجهاد بكل الطاقة الإيمانية الجديدة في سبيل الله بل أصبح يتبرك حتى بشعر من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وذلك أن أبا سليمان خالد بن الوليد افتقد يوم اليرموك قلنسوته «2» ، فبحثوا عنها فلم يجدوها. واستمر البحث حتى وجدوها، فإذا هي خلقة (خلقة بالية) فقال: (اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فحلق رأسه فابتدر الناس شعره فسبقتهم إلى ناصيته الكريمة الشريفة فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالا وهي معي إلا رزقت النصر) «3» .   (1) سير أعلام النبلاء، (1/ 381) . الإصابة (1/ 414) . أسد الغابة، (2/ 111) . (2) وهو لباس للرأس متنوع الأشكال والألوان. (3) سير أعلام النبلاء، (1/ 374- 375) . الإصابة، (1/ 414) . وكان هذا في عمرة حجة الوداع، التي كانت رابع عمرة من عمر الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم. انظر: صحيح البخاري، كتاب العمرة، باب كم اعتمر النبي صلّى الله عليه وسلم، رقم (1685- 1689) . كذلك صحيح مسلم، كتاب الحج، باب عدد عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وزمانهن، رقم (1253) . وفي هذه المعركة (اليرموك، 15 هـ) من فتوحات الشام، عزل عمر بن الخطاب خالد ابن الوليد عن القيادة وتولاها أبو عبيدة بن عامر بن الجراح، فلم يخبر خالدا إلا بعد المعركة. وهنا موقف فريد من الاثنين، حيث يقول خالد: إن الأمر عنده سواء أن يكون قائدا أو جنديا، لأنه يقاتل في سبيل الله تعالى. وأبو عبيدة لا يخبره إلا بعد انتهاء المعركة، بينما الأمر بذلك وصله قبل المعركة!!! ولكن عزل خالد لأسباب رفيعة أصيلة وكريمة غير التي يرددها الجهلة والحاقدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وهذا ما فعله الإسلام بأتباعه يكسبهم طاقات جديدة، وينمي ما لديهم باتجاه العمل لله تعالى وطلب ثوابه وجنته. وعلى ذلك ففي معركة مؤتة (8 هـ) وقد آلت قيادة الجيش الإسلامي بالافه الثلاثة التي واجه جيش الروم بالافه المئة بمشيئة الله على أقل تقدير أو يزيدون، وبعد مقتل القادة الثلاثة، وتولي خالد القيادة، فيحارب ببطولة الإسلام الجديدة الوليدة الفريدة، وينسحب بعد أن تدقّ (تكسر) بيده تسعة أسياف، فما بقي في يده إلا صفيحة يمانية «1» . بهذا الدين غدا خالد بن الوليد علما في الحياة الإسلامية، عرفه المسلمون وغير المسلمين. فهو منا موضع التقدير والحب والاقتداء، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.   والأعداء. وإن موقف كل من خالد وأبي عبيدة (أمين هذه الأمة) في الفتوحات الإسلامية وفي الجبهة الغربية (الشام) له أمثلة متعددة في تاريخ الفتوحات الإسلامية- ثمرة البناء الكريم بالمنهج الرباني بهذا القرآن، وعلى يد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم- منها موقف في جبهة الفتوحات الإسلامية في الشرق (العراق وفارس) بين المثنى بن حارثة وسعد بن أبي وقاص، قبل القادسية سنة (15 هـ) . وقد مرّ بنا موقف النعمان بن عديّ العدوي. ولقد جعل خالد تنفيذ وصيته إلى الخليفة عمر (سير أعلام النبلاء، (1/ 382) . الإصابة (1/ 415) . وتوفي خالد سنة (21 هـ) وعمره دون الخمسين عاما، مجاهدا في سبيل الله وقائدا وعاملا للإسلام، وطلب الشهادة فلم يرزقها، وندبه المسلمون وحزنوا عليه، حتى قال عمر: «ما على نساء آل الوليد أن يسفحن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقعا أو لقلقة» . سير أعلام النبلاء، (1/ 381، 383) . «النقع» : التراب على الرؤوس، و «اللقلقة» : الصراخ. وندبته أمه وهي تقول: أنت خير من ألف ألف من القو ... م إذا ما كبّت وجوه الرجال (1) رواه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة، رقم (4017- 4018) . سير أعلام النبلاء، (1/ 375) . الإصابة، (1/ 414) . أسد الغابة، (2/ 110) . «والصفيحة اليمانية» . سيف عريض النصل (الحديدة) من صنع اليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 * حضور مشاهد الغابرين: في تاريخ البشرية العام أمثلة وفيرة معروفة. وفيما قصه الله تعالى في القرآن الكريم خير بيان، فيه العبرة الواسعة المشهودة، تزوّد الإنسان- في كل جيل- بالخبرة المؤكدة الحقة إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: 62] . مثلما فيها الأخبار الصادقة كل الصدق. فالقرآن الكريم أصدق مصدر في الوجود، وأصدق كتاب بكل ما فيه وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41- 42] . فهو الصدق الوحيد: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء: 87] . وهم الذين عليهم الانتفاع بها، حاضرة أمام الأنظار ماثلة لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111] . ومنذ خلق الله الإنسان على هذه الأرض جعل الحق والباطل، والصراع بينهما قائم. وكان دوما بين الأنبياء- عليهم السلام- وأتباعهم جبهة واحدة ضد الباطل وكل من قاده واستغواه. والحق يتمثل فقط في اتّباع منهج الله تعالى وحده، والباطل يجتمع فيمن رفضه وعاداه وحاربه. ويتخذ الباطل صيغا متنوعة، حكاما ومن تابعهم من المحكومين وغير المحكومين من أي مكان، جمعتهم اتجاهاتهم أو منافعهم أو مصالحهم، ومهما كانت دوافعهم وانتما آتهم وتناقضاتهم، مثلما حدث مثلا في معركة الخندق (الأحزاب) في مواجهة الدعوة الإسلامية ومجتمعها ونبيها صلّى الله عليه وسلم، وذلك في شوال السنة الخامسة للهجرة. وقد ذكر القرآن الكريم هؤلاء وهؤلاء مثلما ذكر أقوامهم ومواقفهم وأحداث الاتّباع والامتناع. أما المحاربون لدين الله، فقد ضرب الله تعالى الأمثلة لها، أفرادا أو أقواما أو شعوبا، ولكن دوما كان النصر للمؤمنين بالله ودعوته، مهما ادعى أولئك وجادلوا وما حكوا وعاندوا. فالأفراد من أمثال فرعون وهامان وقارون، وثلاثتهم متعاونون على الإثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 والعدوان، مجتمعون على الباطل والكفر، تجبرا وتكبرا وتطاولا إلى حد التأله في مواجهة دعوة الله تعالى التي بعث بها موسى وأخوه هارون عليهما السلام. فرعون: (مصري قبطي) ، وهو حاكم مصر الطاغي المستبد المتأله. ويمثل بوضوح سلطان الحكم المتجبر الذي يحارب الله ودعوته وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص: 38- 40] . هامان: (مصري قبطي) ، وهو- على ما يبدو- كبير وزراء فرعون ووزير مكائده ومعاونه في حربه لدعوة الله تعالى. وقد أوكل فرعون إليه أمورا كثيرة، ويبدو منها العسكرية وأمور الهندسة المعمارية. وهو يمثل سلطان المنصب والعلم وربما المال وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 6] ، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ [القصص: 8] . ولعل هامان كان على علم بهندسة البناء أو يتولى الإشراف عليها وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ [غافر: 36] . قارون: أما قارون فهو ليس مصريا وليس من قوم فرعون أو هامان، وإنما من قوم موسى ومن أعوان فرعون. وهو يمثل سلطة المال والعلم وتسلطهما وسطوتهما بالباطل لمحاربة الحقّ، الذي يريده الله تعالى والذي بعث به موسى وأخاه هارون عليهما السلام، ودعوته وأتباعه إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76] «1» .   (1) «المفاتح» : تعني الخزائن والكنوز نفسها، وهي طبعا غير المفاتيح، وهي العدد التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وهؤلاء الثلاثة جمعتهم مواجهة دعوة الله تعالى التي كلّف بها موسى وهارون- عليهما السلام- وإن اختلفت أقوامهم وانتما آتهم. واستمر الصراع الدامي المتنوع الطويل «1» بين الحق الذي أراده الله تعالى وبين الباطل وجنوده. وانتهى- كما هي سنة الله تعالى- بنصره عباده المؤمنين بدعوته العاملين بها ولها وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ [غافر: 23- 27] . هذه الآيات الكريمة من سورة غافر، التي فيها نماذج أخرى كثيرة. ولعل فرعون يعتبر نموذجا لسلطان الحكم وطغيانه وجبروته المتأله. وهامان وهو وزير فرعون المدبر لمكائده- نموذجا لسلطان العلم والمنصب. وقارون نموذجا لسلطان الثروة والعلم قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] . وكل هذه النماذج بات أصحابها جميعا معا في جبهة واحدة ضد الإيمان. والكفر ملة واحدة، مهما كان بينهم من التناقضات- وما أكثرها- والعداوات- وما أشدها- والحزازات- وما أعمقها وأعرقها- كما نلمسه اليوم في المعسكرات التي اتحدت ضد الإسلام. وهي ربما لم تتحد عمرها يوما ولا مرة واحدة إلا في هذا. فليس هناك إذا إلا معسكران: معسكر الإيمان بالله تعالى ودعوته، وهو   تفتح بها هذه الخزائن. (1) ذكر أن مدة بقاء موسى في مصر- وهو يواجه فرعون وملأه بهذه الدعوة الربانية- كانت ثلاثة وعشرين عاما. انظر: التفسير، (3/ 1366) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الإسلام بمعناه الشامل. وهو دين الله الواحد الذي دعا إليه كافة الأنبياء- عليهم السلام- وحمل صورته الأخيرة العامة الشاملة الكاملة الدائمة اللازمة الخيرة محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلى البشرية كافة في كل زمان ومكان وإلى يوم الدين، ولا يقبل الله من أحد دينا غيره. وهو الدين الذي بشّر به ووصى كلّ الأنبياء- عليهم السلام- أقوامهم بالإيمان به واتّباعه. والآيات القرآنية الكريمة في ذلك كثيرة وواضحة وملزمة ومفهمة. فالإيمان هو الآصرة الحقة والصلة الموثقة والوشيجة المرتجاة دوما، تجمع أهلها على شرع الحق ودعوته الأمينة ودينه المتين. ولذلك فإن مؤمن آل فرعون، وهو ليس من قوم موسى- عليه السلام- إلا أنه آمن به ووقف معه ومع المؤمنين من بني إسرائيل ضد فرعون وحزبه وجنده وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر: 28] . ومن هنا فعقاب فرعون قد انصب عليهم جميعا. وهكذا دوما يكون الإيمان بالله تعالى ومنهجه الكريم، وهو الآصرة الحقة الثابتة الصادقة. ثم إن الله سبحانه أخذ هؤلاء الظلمة ونصر عباده المؤمنين. وكلّا أخذ الله بذنبه وبما يستحق من العذاب في الدنيا، وفي الآخرة أشد وأخزى وأنكى. وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 39- 41] «1» .   (1) وَما كانُوا سابِقِينَ: لم يكونوا فائتين أو فالتين من أمر الله الذي لا بد أن يدركهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فإن عبادة الله تعالى واتّباع دعوته والاقتداء بنبيه صلّى الله عليه وسلّم هو الملجأ الحقيقي. وقوة الله تعالى هي القوة الحقيقة الحقة القوية العدل، وهي الوحيدة المتصرفة في هذا الوجود، وما عداها من قوة الخلق فهو الهزيل الواهن الضعيف كبيت العنكبوت. من يحتمي بها فهي خيوط واهية، سريعا ما تذهب وتزول ويبور صاحبها ويهلك. فالعاقل والعالم والفاهم لا يجب أن تخدعه قوة في الأرض وتصرعه وتصرفه عن دين الله تعالى- وهو الحق الوحيد السديد الأكيد الجدير- مهما بلغت، حكما وسلطانا وطغيانا، علما ومالا ومنصبا، وكلها سراب خادع وكلها قبض ريح، وبناء واقع وخيط واهن لا ينفع المتعلق به بشيء أبدا، لا يلبث أن يهوى، بل حتى من نفسه أحيانا، أو أحايين. وانظر إلى سحرة فرعون، وهم كهنة معابده الذين كانوا يزاولون السحر، كما هو الحال في الأديان الوثنية والمنحرفة والمتحرفة والمفتعلة. وظني أنهم من قوم فرعون (مصريون أقباط) ، وليسوا من قوم موسى- عليه السلام- بني إسرائيل. ولكن هؤلاء السحرة وقد رأوا الحق وعرفوه، وهم أهل السحر وأساتذته وأدرى بخدعه وبألاعيبه وبخلوه من الحقائق، رأوا أن ما جاء به موسى هو الحق الأكيد، فلا بد إذا أن يكون نبيا مرسلا من الله تعالى، ففتح الله قلوبهم له، فامنوا به واحتملوا ما يأتي من وراء ذلك. ولكن الروعة في قوة الحق المتمثل في رسالة الله تعالى التي انتزعتهم من وحل الباطل والكفر والضلال والغواية وأخذتهم من وهادها وإغراآتها ومنافعها ومناصبها ورفعتهم إلى قمة الإيمان. وهنا- في رسالة موسى، عليه السلام- إنهم قبل ساعات كانوا مع فرعون يناصرونه ويتقربون إليه بخدمته   «الحاصب» : الريح التي فيها حصباء (صغار الحجارة) ، وهي لقوم لوط ولعاد (قوم هود) . «الصيحة» : التي أخذت منهم الأصوات والحركات، وهم أهل مدين وثمود (قوم صالح) . «والخسف» : الذي وقع بقارون. «والغرق» : يعني قوم نوح، وفرعون وهامان وجنودهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وطاعته ويرجون المكانة عنده والمكافأة منه والرضا من قبله، بتنفيذ مؤامرته وتمرير باطله. فما أن رأوا الحق الإلهي قائما بأدلته ضاربا بجذوره ثابتا في واقعه، حتى آمنوا وكانوا بذلك ضد فرعون، وأنهم آمنوا جميعا وناصروا الحق الذي جاء به موسى الرسول- عليه السلام- من عند الله تعالى، وبهمة جديدة لديها من القوة، علوا وسموا وقمة لا تكون إلا بدين حق من الله سبحانه وتعالى. وكم من حادثة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم- وبعضها مرّ بنا- تجعل العدو الذي يتامر على الإسلام وأهله ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلّم عندما يرى الآيات يتحول حالا إلى دين الله، متخليا عن كل ما عداه، غير هياب ولا مرتاب ولا مبال لما يأتي به هذا الانتماء. ولعل قصة سحرة فرعون لبيان حقائق ومعان كثيرة، بها أراد الله تعالى أن تبين للناس في دعوة الإسلام، ومنها هذه النماذج، التي لا تبالي بأي أذى في سبيل الله حين تتبين لهم حقائق هذا الدين. وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 113- 128] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 * المؤمنون والمعاندون وغيرهم: إنه حين تقوم العقيدة بالله تعالى مستوية، وتستيقن وتستعلن حقيقة الإيمان الحق بدعوة الله تعالى غائرة في النفس، لا بد أن تستعلي على كل قوة في الأرض وتستهين بكل بأس، مهما تجبر وتنمر وتبختر واحتمى ببيوت العنكبوت وتترس بخيوطها، حماية له ووقاية لمن معه أمام قدرة الله تعالى وناموسه. علما أن الباطل- وذلك دينه وشنشنته- حين يداري أتباعه، فإنه لا يفعل ذلك محبة لهم أو اهتماما بهم أو رعاية لصلة معهم، بل هم أرخص ما يكونون عنده وأدنى من آخرين، بل كل الآخرين لديه أقل مما يتصورن. إنما فقط ليقفوا معه معاونين له على باطله وليستعملهم، مواجهة للحق الإلهي، تحقيقا لماربه واستمرارا في سلطانه وتثبيتا لحكمه. ولذلك إذا لم يؤدوا هذا له، تراه- وقد رأيته في فرعون- هو نفسه ينقلب عليهم أو يقلب لهم ظهر المجن- كما يقولون- وينيلهم أقسى أفانين العذاب وأشد ألوان التنكيل وأبعد مدى في الانتقام، حتى لكأنه يقول لهم: لم إذا قربتكم وقدمت لكم وأعطيتكم، فترقيتم وأثريتم وتنعمتم، وكل ذلك من يدي، واليوم تنكرونها. فكيف إذا وقد جاوزوا ذلك وأصبحوا في جبهة الحق الذي يحاربه. وتلمّس ذلك بوضوح باهر، فيما أوقعه فرعون بالسحرة الذين آمنوا، من التقتيل والتنكيل والانتقام الفظيع المريع السريع. والواضح من طريقة القرآن الكريم المعجزة في التعبير والتصوير للمعاني أن فرعون نفّذ تهديده فيهم وقتلهم جميعا، مثلما فعلوا- وبنفس أسلوب التعبير والتصوير للقرآن المعجز- بمؤمن آل فرعون. لكنهم- وكل المؤمنين بدعوة الله تعالى ورسالته- ثبتوا أقوياء وقاموا بسلاء ورضوا أولياء- إن شاء الله تعالى- خلال المواجهة والأذى. وهذا ما يجري وجرى لمن رفعه اليقين بهذا الدين إلى أن يكون من أتباع الأنبياء- عليهم السلام- الذين لا يعرفون الخنوع ولا الخضوع. كيف وقد امتلأت قلوبهم بالإيمان بالله وحده وأنست بمعرفته واطمأنت إلى جواره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وغدت هذه الأمور واضحة للمؤمنين بدعوة الله وعلى يد الرسول الكريم محمد صلّى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله تعالى بهذا الدين رحمة للعالمين، بما رباهم عليه القرآن الكريم بهذه المعاني المشهودة في تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) ومنهم قصة موسى (عليه السّلام) وفرعون. وهكذا القصص الآخرى التي أراد الله تعالى أن يتعلم المسلمون منها تثبيتا لقلوبهم وتسرية عنهم وتسلية لهم، ليحتملوا ألوان الاضطهاد على يد أعداء الله تعالى. وهو ما جرى لسحرة فرعون الذين آمنوا بموسى (عليه السلام) وما يجري دوما مع الأنبياء (عليهم السلام) وأتباعهم، حين غمر الإيمان قلوبهم، ونوّر بصائرهم، وأحيا نفوسهم. ومنه ما جرى- ويجري دوما- لأتباع هذا الدين الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، ابتداء من العهد المكي، ومنذ أول يوم آمنوا به ومن أول عهدهم بها هناك، لا يفزعون ولا يتزعزعون، حتى النساء والإماء والعبيد، مثلما الأغنياء المتقدمين والمتمكنين سواء بسواء. ثم الأنصار، من بيعات العقبة الثلاث، وآخرها بيعة العقبة الكبرى، فور إسلامهم وأداء البيعة للنبي صلّى الله عليه وسلم على نصرته. وذلك «حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله» » . وكذلك المهاجرون في العهدين المكي والمدني وبعدهما، ولصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طوال حياتهم وأجيال ممن تلتهم وتتلوهم من الأمة المسلمة، إن شاء الله تعالى. * لله سنة جارية ثابتة بملازمة العاقبة للمتقين: فالإسلام والأمة المسلمة حيثما بعث الله الأنبياء والرسل (عليهم السلام) ، لا سيما منذ بعث الله خليله إبراهيم (عليه السلام) وهو أبو الأنبياء جميعا (عليهم السلام) وأتباعه هم المسلمون، وصّاهم بذلك، وهي وصية   (1) سيرة ابن هشام، (1/ 438) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 جميع الأنبياء (عليهم السلام) . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: 77- 78] . وهذه الأمة كانت على منهج واحد هو منهج الله تعالى، على تتابع الأجيال وتوالي الرسالات حتى انتهت إلى خاتمهم محمد صلّى الله عليه وسلم، وأتباعه هم الذين حملوا هذه الأمانة وتحملوا مسؤوليتها وقبلوا وأدوا تبعتها، ما دامت تقوم بها بكامل احتشادها واستعدادها وإعدادها. ويوم تتخلى عن ذلك فتكون في ذيل القافلة، أو دون ذلك، فهي- عند ذلك- آخر الأمم، لا في العير ولا في النفير. وقد مرت بالأمة في تاريخها أوقات من ذلك، لكنها بعودتها لمعاني هذا الدين وتجديد نفسها وإحياء مضامينه في حياتها تعود لمكانتها الكريمة وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] . والطريق واضح والعودة دوما ممكنة ووعد الله قائم، بشروطه وحدوده ومستلزماته، أداء ووفاء وإقبالا. وليس منه الترامي هنا وهناك، مثلما حدث أحيانا في الماضي، منها أيام الطوائف في الأندلس في القرن الخامس الهجري. مثلما ليس منها التفلت والوقوع في المهاوي السحيقة الغارقة المغرقة، والانتساب للشرق أو للغرب، على فضلات شطائر مسمومة مدسوسة لا تجدي نفعا ولا تقيم وضعا، لا تسمن ولا تغني من جوع، أو فلم يرفع بهذا رأسا «1» .   (1) من حديث الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم، هو: قال صلّى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وإن الانتساب لهذه وتلك مدفوعة بأي شعار وادعاء وانتماء، وهم يعرفون أنها لا تبقي ولا تذر من الحق شيئا، حتى لو كانوا مخلصين، بعد أن جربنا كل تلك الشعارات والولاآت والانتما آت، وقد تملكت هذه كل أسباب القوة والأزمة والكلمة، فلم تثمر إلا أشد الثمار مرارة، دونها مرارة الحنظل الصحراوي المكتمل. وقد حذرنا الله تعالى أقوى تحذير من كل ذلك، وأن أية دعوة (أو دعوى) غير دعوة الله تعالى هي جعل أو وضع للأمة في قافلة الأنعام، إن لم يكن أبعد من ذلك. والرسول صلّى الله عليه وسلّم حذرنا من ذلك التفلت من دعوة الله أشد التحذير ووصفها بأنها منتنة وجاهلية ووثنية، وجعلها في أكثر من مناسبة تحت قدميه الشريفتين، كما قال ذلك مثلا في حجة الوداع: «ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي (هاتين) موضوع» «1» . ولكنهم ومع ذلك مازال أناس ماضين فيه لا ينفكون عنه، يحملون الأمة وراءهم بالسياط، إن لم يتم ذلك بالاختيار. وهم دعاة على أبواب جهنم «2» ، ولا ينفعهم عند الله ما يدعون من الصلة بالإسلام.   وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» . رواه البخاري: كتاب العلم، باب فضل من علم وعلّم، رقم (79) . ورواه مسلم: كتاب الفضائل، باب مثل ما بعث به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الهدى والعلم، رقم (2282) . وانظر البخاري: كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، رقم (6117، 6118) . (1) سنن أبي داود، كتاب المناسك (الحج) ، باب صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلم، رقم (1905) ، (2/ 461) . كذلك: مسند الإمام أحمد، (5/ 73) «ألا وإن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة» (من خطبة الوداع) ، (2/ 103) «ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت فإني قد أمضيتهما لأهلها» (يوم فتح مكة) . (2) من حديث الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم رواه البخاري، ونصه كما يرويه حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، فيقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير وكنت أسأله عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 والواقع يشهد على تلك الآثار المرّة الناقعة الصارفة التي أورثتها هذه التوجهات، مشبوهة أو غير مشبوهة، صدرت عن جهل أو غفلة أو موجة. فالإسلام ليس تراثا عربيا ومحمد صلّى الله عليه وسلّم لم يكن قائدا عربيا، بل للأمة الإسلامية. حمل الرسالة الإسلامية إلى الناس كافة، ليست خاصة بهم. ويدخل في هذه الأمة كل من اتبع دينه من أي جنس وبلد وقبيل. ويخرج منها كل من ليس كذلك دوما. وكل من ابتعد عنها أو واجهها أو حاربها فليس منها في شيء، فلا أنساب ولا أصلاب، حتى لو كان ذؤابتها ورأسها وأقحاحها. وهذا واضح جدا ليس فقط من نصوص الإسلام- قرآنا وسنة وسيرة- بل وكذلك حتى روحه العام وطبيعته وتاريخه. ووضوحه ليس بحاجة إلى دليل. وليس يصحّ في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل ولا ينكره إلا المماحكون الذين يريدون- متعمدين- إشاعة غير   الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» . قلت: وهل بعد ذلك من خير؟ قال «نعم، وفيه دخن» . قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر» . قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ فقال: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا» . فقلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» . قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» . كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم (3411) . وانظر كذلك: رقم (3408) . وحديث آخر يرد في هذا المعنى، رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما. قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات. رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة. لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها. وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا» . كتاب الجنة، باب النار والجنة، رقم (2128) . كذلك: مسند الإمام أحمد، (2/ 356، 440) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الإسلام. وهم بذلك يريدون تحقيق أهداف معادية وصرف الناس عن دين الله، مهما ادعوا العلم وغيره. وهم بجانب ذلك إنهم يحجّرون واسعا، فهم يريدون سلخ الأمة من دينها، وليس حبا فيما يدعون إليه، بل ليختفوا وراءه، بل حربا للإسلام. والعجيب أن هذا الاتجاه ينمو ويعمل له ويصر عليه في البلدان الإسلامية، ولا سيما بين البلدان العربية، وذلك لتشتيتها وقطع انتمائها لهذا الدين والقضاء على مصدر سعادتها وقوتها وعزتها. وكان على أعداء الإسلام من منصرين (مبشرين) ومستشرقين ومستعمرين (هوية الجميع واحدة) يبحثون عن شيء يصرفون به المسلمين عن دينهم، فتقدم أفراد من المسلمين بإهدائهم بغيتهم بإيجاد تيار آخر غير إسلامي- وإن ألبسوه مضطرين، لا مفر- ثوبا مرقعا ممزعا وموزعا يحمل طلاء مدّعى أنه إسلامي، وليس كذلك أبدا. وبدلا من أن نهدي العالم إلى هذا الدين ليهتدوا به ويسعدوا ويحضّروا، أهداهم هؤلاء سلاحا لحرب الإسلام نفسه، واستعمال ألفاظ وكلمات ومصطلحات لإخفاء الحقائق- وما تخفى أبدا- لإفراغها من مضامينها وجعلها بعيدة عن معانيها ومدلولاتها الحقة، في خلط عجيب وغريب مفضوح، ادعاء ودعاية ورواية وبأي ألفاظ، ترقيعا وتمييعا وترويعا. وفي معركة بدر (17 رمضان السنة الثانية للهجرة) قاتل المسلمون المشركين العرب، الذين قتل منهم سبعون، من زعمائهم من قريش وسادة مكة مثل أبي جهل، فرعون هذه الأمة «1» . كما أنه صلّى الله عليه وسلّم وصف أسارى بدر من المشركين (العرب) الذين وقعوا في أسر المسلمين (العرب) يوم بدر بأنهم نتنى (جيف) . وكان عددهم سبعين مثل عدد قتلاهم- فيهم أشراف قريش وزعماؤهم- قومه صلّى الله عليه وسلم- ولكنهم كفرة   (1) سبل الهدى والرشاد، (4/ 77، 79- 80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 مشركون، من أمثال سهيل بن عمرو «1» ، بل كان فيهم من أبناء عمومته صلى الله عليه وسلم من بني هاشم من أمثال عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب «2» من بني هاشم ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب «3» . بل كان في هؤلاء الأسارى أبو العاص بن الربيع صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وختنه، زوج زينب- رضي الله عنها- كبرى (أكبر) بناته، وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد أم المؤمنين- رضي الله عنها- زوج بل أول زوجات الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم، لأمها وأبيها «4» . ومع كل ذلك فقد وصف الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم هؤلاء الأسرى في بدر بأنهم جميعا جيف، بقوله: «لو كان المطعم بن عديّ حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له» «5» ، والنتانة هذه معنوية بسبب   (1) سيرة ابن هشام، (1/ 649) . (2) سير أعلام النبلاء، (1/ 218) . أسد الغابة، (4/ 63) . سيرة ابن هشام، (3/ 3) . (3) سير أعلام النبلاء، (1/ 199) . أسد الغابة، (5/ 369) . سيرة ابن هشام، (3/ 3) . وأسلم بعد فداء نفسه، وهاجر إلى المدينة أيام الخندق. وسبق تفصيل كيفية إسلامه. (4) سير أعلام النبلاء، (1/ 330) . أسد الغابة، (6/ 185) ، (7/ 130) . سيرة ابن هشام، (1/ 651) . وأسلم أبو العاص بن الربيع قبل الحديبية، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد فرق بينهما، فهي لم تعد- بعد الإسلام- تحل له، إذ هي مسلمة وهو كافر مشرك. ولكنها عادت إليه بعد إسلامه قبل الحديبية. سيرة ابن هشام، (1/ 657) . وانظر المصادر المذكورة آنفا في نفس هذه الحاشية. (5) رواه البخاري: كتاب الخمس، باب ما منّ النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأسارى، رقم (2970) . انظر كذلك: سير أعلام النبلاء، (3/ 95) . أسد الغابة، (3/ 323) . وكان المطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي (من عمومة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهو أحد الذين قاموا بنقض صحيفة القطيعة (المقاطعة)) . سيرة ابن هشام، (1/ 375) . وكان يحنو على أهل الشعب، وأجار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رجع من الطائف ليدخل مكة، وقد منعه أهلها منها! فأجاره. ومات المطعم قبل بدر بعدة شهور وله نيف وتسعون سنة. ولم ينس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له تلك اليد، حاشاه فهو سيد الأوفياء. سيرة ابن هشام، (3/ 381) . سير أعلام النبلاء، (3/ 95) . أسد الغابة، (1/ 323) . وابنه جبير بن مطعم بن عدي، أسلم بين الحديبية وفتح مكة. الإصابة، (1/ 266) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 كفرهم، فهم كذلك جميعا أحياء وأمواتا. ومما ينسجم ذكره مع هذه الوجهة ذلك أنه في معركة الخندق (الأحزاب) شوال السنة الخامسة للهجرة حاول بعض فرسان قريش اقتحام الخندق فأمكن عدد منهم ذلك، فقتل من قتل وهرب الباقون طالبين النجاة. وكان ممن قتل عمرو بن عبد ودّ العامري، وهو من فوارس العرب وشجعانهم وأبطالهم المعلمين. فلما بارزه علي بن أبي طالب- رضي الله عنه وكرم الله وجهه- قتله، وحمل الزبير بن العوام (حواري رسول الله صلّى الله عليه وسلم) على نوفل بن عبد الله حتى شقه باثنين وكاد يقتل فرسه بنفس الضربة. فقيل له: يا أبا عبد الله ما رأينا مثل سيفك، فقال: والله ما هو السيف، ولكنها الساعد «1» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد دعا له ولسيفه من قبل، فبارك الله تعالى له ذلك. وبقيت الجثتان (عمرو بن عبد ود ونوفل بن عبد الله) أياما فأرسل المشركون يريدون جثة عمرو بن عبد ود وعرضوا ثمنا ضخما لذلك، فقال لهم صلّى الله عليه وسلم: «لا خير في جيفته ولا في ثمنه، ادفعوه إليهم فإنه خبيث الجيفة (الجثّة) خبيث الدية» . فلم يقبل منهم شيئا، وقال صلّى الله عليه وسلّم مثل ذلك حين طلبوا جثة نوفل مقابل دية، فقال: «إنه خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته فلا أرب لنا في ديته ولسنا نمنعكم أن تدفنوه» «2» .   رقم (4573) . ولكن الإسلام كان يدق قلبه، من بعد بدر حين ذهب إلى المدينة لفداء بعض أسارى بدر، حيث سمع الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور. ويأتي على هذا المنوال منع أم المؤمنين رملة أم حبيبة (بنت أبي سفيان) أباها من الجلوس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم جاء إلى المدينة ليؤكد ويمد العقد لصلح الحديبية وقالت له: (هذا فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنت مشرك نجس) قالت ذلك لأبيها!!! (1) سبل الهدى، (4/ 535) . سير أعلام النبلاء، (1/ 51) . (2) سبل الهدى، (4/ 536) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 * معاني الأحداث السالفة: إن هذا الاستعراض أو التطواف الطويل في الأحداث السابقة للدعوة الإسلامية التي ذكرها القرآن الكريم ورأينا معانيها مستمرة، يحياها المسلمون واقعا، بما علمهم الله تعالى، وهي تظهر أثر الإيمان بهذا الدين واضحا، والأديان السابقة بصفائها، من قبل أتباعها. وهو الفرقان الواضح الذي يفرق بين الحق والباطل، وإنه هو الذي يميز الإنسان. وفيه وحده النجاة والسعادة، وهو الذي يعلي قدر الإنسان، وما عداه يهبط به أسفل سافلين، والإيمان يرفعه إلى عليين. ومن هنا فإن الله تعالى قصّ علينا أحوال السابقين ممن آمنوا بدعوة الله تعالى والذين واجهوهم ومصائرهم. وإن الإيمان العملي بدين الله وحده هو الذي ينجي الإنسان ويرفع قدره ويقربه من الله تعالى ويسعده في الدارين. وبه يكون الإنسان الكريم الذي عرف ربّه، ليكون العبد الفاضل المترقي الذي أدى واجبه نحو ربه وسلك سبيله ووفى حقه، حري برحمة الله في الدنيا وبجنته في الآخرة. أما الذين جانبوه وأهملوه وحاربوه عمرهم ولم يتوبوا فليس لهم إلا البوار والعقوبة والنار وبئس القرار. ولا بد للمؤمن أن يحتمل من أجل نصرة هذا الدين كلّ شيء، حتى يتحقق بإذن الله تعالى النصر لأهل دعوته. وهي سنة جارية وماضية ودائمة، ضرب الله تعالى لها الأمثلة في القرآن الكريم للاقتداء بها، فتعلمها المسلمون وعاشوها ومارسوها صابرين وبها سعداء فرحين. وهكذا ضرب الله لنا هذه الأمثلة في القرآن الكريم، ولأنبياء كثيرين آخرين (غير موسى عليه وعليهم السلام) في مواجهة المكابرين من أقوامهم ومواجهتهم لهم وحربهم بمختلف الأساليب. ثم إن الله تعالى أخذ هؤلاء الطغاة: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر: 41- 43] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 نوح عليه السلام وقومه «1» ، فكان الطوفان. هود عليه السلام وقومه «2» عاد وهلاكهم. صالح عليه السلام وقومه «3» ثمود وهلاكهم. إبراهيم عليه السلام «4» أبو الأنبياء عليهم السلام وأبو نبينا محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27] . وإبراهيم (عليه السلام) هو الذي واجهه أولا أهل بابل (أو أور) ذات الآلهة الكبيرة، وكبيرها مردوك، وملكهم الطاغية النمرود. لوط عليه السلام وقومه «5» ، وعقاب الله لهم. شعيب عليه السلام وأهل مدين «6» وهلاكهم. وبهذه الأمثلة وغيرها من الصيغ والشواهد الواضحة في دعوة الله تعالى يتبين نتيجة اتّباعها لدعوة الله تعالى ونصرهم على عدوهم، كما يتبين مصائر   (1) [العنكبوت: 14- 15] . كذلك [يونس: 71- 73] . وردت هذه الأمور والحديث عن الأنبياء في سور متعددة من القرآن الكريم، وكل مرة بما يناسبها وبالجانب المتعلق بالشاهد، وبالأسلوب المتناسق معها، بل وحتى طريقة التعبير وإظهار العبرة منها. كما رأينا في الحديث عن فرعون في سورة القمر حين أجمل الله تعالى قصته، بما يتبين كما في الآية السابقة حسب المقام والمناسبة. (2) [العنكبوت: 38] . منازل عاد (قوم هود) في الأحقاف جنوب الجزيرة العربية قرب حضرموت. أما منازل ثمود (قوم صالح) في الحجر شمال الجزيرة العربية قرب وادي القرى. وادي القرى اليوم هو وادي العلا. يبعد عن المدينة المنورة- صلى الله عليه وسلّم على صاحبها- نحو (350 كم) شمالا. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليها في مسيره إلى غزوة تبوك، سنة (9 هـ) . (3) [سورة العنكبوت: 38] . (4) [سورة العنكبوت: 16- 27] . (5) [سورة العنكبوت: 28- 35] . (6) [سورة العنكبوت: 36- 37] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أعدائها وأخذهم وخذلانهم بفضل الله تعالى في الدنيا، والخزي والندامة والعذاب يوم القيامة. وتلك سنة الله تعالى، أن ينصر المسلمين ويأخذ الكافرين أخذا قويا. والإسلام دين الله الواحد الذي أرسل به أنبياءه- عليهم السلام- وكلفهم بحمله إلى البشرية. فهم ذلك الرهط الكريم رعاة الموكب الإيماني الرباني. إذ الإسلام هو إسلام النفس والحياة والمجتمع كله لله تعالى ولأمره وشرعه. وكان آخر قادة هذا الموكب الكريم وخاتم الرسالات هو محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله. وكل الأنبياء- عليهم السلام- وأتباعهم صفتهم الإسلام وهم المسلمون. وهو أمر ماض في الحياة ولا يكون إلا بدعوة الله تعالى، ودعوته لا تكون إلا إسلاما كليا لله تعالى ودعوته الكريمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: 208] «1» . فلا يقبل الله غيرها. وهو أمر دائم وقائم ودائر، مثلما كان قديما فهو كذلك حديثا، غابرا وحاضرا ماضيا ومستقبلا. وهذا البيان القوي المعجز الذي جعل الله به هذا القرآن في أحواله وجوانبه ومحتوياته، كذلك في وضوحه وظهوره واستمراره، يواجه الله تعالى به العرب الذين هم أول من واجه الدعوة الإسلامية ونبيها محمدا صلّى الله عليه وسلم. وهو بيان كذلك، كما في آيات كثيرة «2» ، أنه الشرف وحده والرفعة هو منبعها والسيادة في الدنيا والسعادة في الآخرة. لكنهم- يا للأسف والحسرة والغرابة- واجهوا الإسلام وحاربوه، وعملوا بكل ما لديهم من مال وجهد وخبرة في حربه. فالقرآن الكريم كتاب الله المبين، الذي أوحاه إلى مصطفاه صلّى الله عليه وسلم، عرض عليهم في سورة العنكبوت   (1) «السّلم» : الإسلام. والخطاب للمؤمنين جميعا بدين الله تعالى أن يعملوا بشرعه كله، دون استثناء، لا من الشرع ولا من المؤمنين. (2) اقرأ الآيات الكريمة في سورة الزخرف، (44) . وسورة المؤمنون، (71) . وكذلك سورة الأنبياء، (10) . وانظر أعلاه، ص 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 - وسور أخرى كثيرة- مصائر الغابرين المكاذبين الذين حاربوا بقوة دعوة الله وآذوا أنبياءه. وكانت أمامهم ماثلة ديار بعض تلك الأقوام الذين أهلكهم الله تعالى بذنوبهم، يشهدونها خاوية على عروشها ويمرون باثارها وبقاياها وأطلالها، ويعرفون مواقعها. فهو سبحانه يحدثهم عن أخبارها ليزدجروا ويعتبروا فيهتدوا وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ [القمر: 4] «1» . * القرآن الكريم والعبر العامة المستفادة من قصصه: وبعد فهذا الاستعراض لمصائر ومصارع المكاذبين ومشاهدهم البائسة الماثلة أمامهم التي بينها الله تعالى لهم، يخاطبهم- بهذا القرآن الكريم- ومتوجها إليهم بالخطاب محذّرهم مصيرا كهذه المصائر، فكفار أهل مكة وقريش والعرب وغيرهم على الدوام ليسوا خيرا من كفار تلك الأقوام الغابرة الذين ترون مصارعهم شاهدة، وهم لا ينكرونها. إذا فأفيقوا وتداركوا واسعوا للنجاة والسعادة في الدارين والاستقامة باتّباعكم لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلّم وأنتم تعرفون صدقه وأمانته واستقامته، الذي جاءكم- من عند الله تعالى بهذا الدين الحق الصدق الجد، وكتابه القرآن الكريم. وأنتم ترون حقيقة النّذر فيما سبقكم من أقوام، مثلما ترون من حقيقته وإعجازه وصدقه وتشهدون به وتقرونه وتلمسونه في كل جانب وقضية وموضوع، وإن الكفرة لا بد أن يهزموا أمام المؤمنين بهذا الدين. فإن النصر لا محالة وبالتأكيد ولا مفر- بعون الله تعالى، وحسب سنة الله وإرادته ووعده للذين اتّبعوا شريعته وأحبوها أكثر من أنفسهم، وهي نفيسة، قدموها رخيصة ولم يدخروا شيئا دونها.   (1) وفي هذه السورة الكريمة كذلك العديد من صيغ الدعوة العظيمة العاملة الماثلة الفاضلة وأخبار أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وقد حدث هذا في معركة بدر الكبرى (17 رمضان السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة) . وهو أمر دائم، فالله سبحانه وتعالى ينزل نصره على أوليائه، ما داموا على شريعته قائمين، ويجعل ويحلّ الهزيمة على أعدائه، مهما ومن كانوا وما ادعوا وما تبجحوا وأظهروا أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 43- 45] «1» . وجاء في التنذير والتنبيه والتحذير- بعد تلك الأمثلة والشواهد والمشاهد في سورة العنكبوت للعرب أنفسهم من قريش وأهل مكة والجزيرة وغيرهم- المخاطبين بذلك أولا، ويشمل كل أحد مثلهم- إن هم حاربوا هذا الدين وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت: 18- 20] . ومن حكمة الله تعالى ونعمته ومنّته أن لم يكن المحق والسحق والدمار للمعاندين في أمر هذه الدعوة الكريمة، الذي كان مصير أمثالهم في دعوات الله السابقة؛ لأن هذا دين الله العام لأهل الأرض أجمعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وهي كذلك رحمة منه، لحكمة يريدها وهو بها عليم. ولكن جهاد المؤمنين بها، صابرين على كل أنواع الأذى والاضطهاد والتعذيب، حتى نصر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم وجنده ودعوته بهؤلاء المؤمنين   (1) انظر تفاصيل ذلك كما رواها البخاري في صحيحه: كتاب التفسير، باب قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، رقم (4594- 4596) . علما أن سورة القمر هي مكية ونزلت قبل الهجرة بعدة سنوات. ولم يفهم جمهرة الصحابة الكرام- إن لم يكن كلهم- فهم الواقع العملي لمعنى هذه الآيات إلا عندما نصرهم الله سبحانه وتعالى في بدر أو عند ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ميدان المعركة وقبل ابتدائها يتلو هذه الآية الكريمة، كما أشير إلى ذلك في البخاري في الهامشة الحالية توا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الذين اتبعوه في كل الأحوال، وفي حرب أعدائهم بهذا الدين وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 62- 64 ] . فالله سبحانه وتعالى يذكّر العرب- وغيرهم- الذين حاربوا الإسلام، بمصارع العصاة والعتاة والبغاة من الكفرة المتألهين والظلمة المتجبرين والفسقة المتبخترين، من الغابرين وعلى مدار القرون السابقة للدعوة الإسلامية ويدعوهم إلى الاعتبار، بعد أن تبين لهم أن هناك قوة واحدة هي قوة الله تعالى الذي أراد بالعباد خيرا بإرسال الأنبياء- عليهم السلام- التي كانت هذه الدعوة الكريمة خلاصتها وخاتمتها وكمالها في هذا القرآن الكريم، أنزله على محمد صلّى الله عليه وسلّم إمام الأنبياء وسيد المرسلين- عليهم السلام- وبيّن لهم من خلال الآيات في الكتاب- وهو الصدق الأكيد الذي وحده يحمل الحقيقة الوحيدة الأكيدة الرشيدة- ومن خلال واقع الحياة المشهود، مع أن أولئك القوم أو الأقوام كانوا أقوى منهم وأمضى وأعلى، عبرة وتذكرة وتنبيها: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [غافر: 21- 22] «1» .   (1) وسورة غافر من السور التي تعالج قضية الحق والباطل والإيمان والكفر والضلال والعلو والتجبر في الأرض، وتقدم الأمثلة الكثيرة لدعوة الله تعالى وأحوال أنبيائه (عليهم السلام) وما لقوه من أقوامهم، وما كانت مصائرهم النكدة البائسة التسعة، مقابل أهل الإيمان الذين نصرهم الله تعالى، وكيف نجا ونصر وأعز أولياءه وأهلك أعداءه، ليري سبحانه وتعالى أهل مكة وقريشا والعرب والعالم في ذلك العصر وفي كل العصور مصير كل فئة، ليتعظوا ويعتبروا ويهتدوا بهذا الدين الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وهكذا يضرب الله تعالى الأمثلة في القرآن الكريم للإيمان بدعوته وجبهة الحق والمؤمنين به في عصور سبقت، سواء ممن نصر من الأنبياء- عليهم السلام- في وقتهم أو بعدهم، من النساء والرجال. فزوجة فرعون المتأله كانت مؤمنة، وسحرة فرعون كانوا له ومعه، لكنهم لما رأوا الحق فاجتذبهم وأراد الله كرامتهم، آمنوا واحتملوا تهديد فرعون وتخويفه وتنكيله بهم- وقد أعلمهم به- لكنهم آثروا الحق الذي أنزله الله ورغبوا بما عنده تعالى من الأجر والثواب والجنة فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه: 70- 76] . وهكذا يستعرض لنا القرآن الكريم هذه الصور والصيغ والمشاهد بأسلوبه المعجز وتعبيره المتفرد وكلمات الله القوية- وتلك حقيقتها وطبيعتها وأحقيتها المؤكدة المتجددة المتفردة- في هذا البيان لدعوات الله السابقة، منذ البداية وحتى نوح- عليه السلام- إلى إبراهيم- أبي الأنبياء- عليه السلام- وموسى، أنبياء. ثم داود وسليمان، أنبياء وملوكا. ثم بأقوام آخرين من المؤمنين بالله تعالى والعاملين بمنهجه الآخذين بكلمته. فذو القرنين «1» كان ملكا مؤمنا صالحا. وقصة الفتية المؤمنين أصحاب الكهف «2» ، وأصحاب الأخدود «3» . وكلها أمثلة على مواجهة الإيمان الأعزل للكفر المدجج   (1) [سورة الكهف: 83- 98] . (2) [سورة الكهف: 9- 22] . (3) [سورة البروج] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 المتجبر. ولكنها مع ذلك تنتهي بانتصار الإيمان الصادق بدعوة الله تعالى. ويد الله تعالى القادرة دوما مع عباده المؤمنين، ما داموا آخذين بمضامينه وعاملين بمحتوياته مجاهدين له، وهم يرفضون ما عداه، وتلك هي سنة الله. والمثال الواقع المتواتر المشهود وبأجلى الصيغ وأعلاها وأحلاها تجده في الإسلام ودعوته التي حملها محمد صلّى الله عليه وسلّم وجاهد له ومن معه، أعلى ما يكون الجهاد، مقبلين على الله تعالى يتسابقون في الأخذ بشرعه والتزام طاعته، يتقربون بذلك له راغبين برضاه سبحانه وتعالى وبجنته. وهذا بعض ما يجعل دراسة السيرة الشريفة مهمة وواجبا إيمانيا ينبغي على المسلم الاهتمام به، إذ من خلالها ندرك حقيقة هذا الأمر وصدقه ووضوحه، كما ندرك تماما واقعه وواجبه وطريقه، ليبقى ماثلا للناس، ضمن سلسلة الدعوة إلى الله في عقدها الكريم، وأن هذا سنة الدعوات في المواجهة بين المؤمنين بالله ودعوته وبين الكافرين بها، ويكون الصراع وتقوم المواجهات وتقدم التضحيات. فإذا ما صدق أهل الدعوة وأدوا ما عليهم وثبتوا عليها، تمتد إليهم يد الله سبحانه وتعالى القاهرة بالعون والتأييد والنصر، ويذهب الكفر وأهله. وذلك حسب سنن الله تعالى من أخذ المؤمنين بالأسباب، فينصرهم على عدوهم، ما داموا لا يدخرون وسعا، بإقبال بيّن وصدق واضح وفداء أكيد، في موعد وحال يقدره الله سبحانه وتعالى. وهذا ما يجعل أمر الدعوة إلى الله في كل مراحلها، ولا سيما سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ضرورة لازمة لمن التحق بموكب هذه الدعوة الكريمة ويعمل على نصرتها في كل أحواله. وإذا كنا نرى اليوم ضعفا في ذلك، فلا بد أن يهيئ الله تعالى لدينه من ينصره، إنه على ما يشاء قدير، وإنه بالغ أمره، وهو الغالب بقوته وقدرته وحكمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 * أجواء السيرة العبقة: في هذه الأجواء العبقة الندية الرخية بايات الله تعالى ووحيه ورعايته لأهل دعوته، كان صلّى الله عليه وسلم يربي الصحابة الكرام، مما علمه الله وأوحاه إليه وأعدّه له. ويأخذ بأيديهم- حسب أحوالهم واستعدادهم ونوعياتهم- إلى الأرقى والأعلى والأوفى، في سلّم الإسلام والقرب من الله تعالى ورضاه، برفق وحكمة ودراية بهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتولى ذلك وهم يتربون على مائدة القرآن الكريم وينهلون من ينبوعه الصافي الزّلال المثال وبه يرتقون، مقتدين برسول الله صلّى الله عليه وسلم. فكانت مجرد الإشارة تكفيهم للقيام بكل عمل وواجب ومهمة، مهما كانت شاقة وبالإشارة، بل لمجرد معرفتهم أو ملاحظتهم أو إحساسهم بتوجيه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم في أي أمر من الأمور أو برغبته أو تفضيله له. فإن ذلك يقربهم إلى الله أكثر وبه يحصلون على رضاه سبحانه وتعالى وبالجنة، يستجيبون له، بجد وفرح وإقبال. فانظر إلى عبد الله بن عمر، ما إن سمع قول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه: «نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي بالليل» «1» ، فكان لا ينام من الليل إلا قليلا (يتهجد) ، حتى وفاته (رضي الله عنه) . * الصحابة وسبل الارتقاء: وكان صلّى الله عليه وسلّم دوما يأخذ بأيديهم ويرتقي بهم، يسألهم أو يسألونه، بعد ما   (1) رواه البخاري، رقم (3530) ، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أخته حفصة بنت عمر بن الخطاب (رضي الله عنهم) أم المؤمنين (زوج الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم) . انظر كذلك: سير أعلام النبلاء، (3/ 210) . أسد الغابة، (3/ 341) . وكان عبد الله بن عمر يحب ابنه سالما هذا فيلام عليه فيقول (سير أعلام النبلاء، (4/ 460)) : يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 رباهم على الإيمان القوي العميق بالله رب العالمين ودينه العظيم ونبيه الكريم. وعلموا أن لهذا الدين والإيمان به حقيقة يجدونها في أنفسهم، تجعل كلماته أجزاء من أبدانهم بل تفتدى لها أبدانهم. تتحول إلى عمل ماض وصوت جهير وإصرار مضئ، في واقع الحياة. آثاره تجول وتصول، وثماره تنادي وتقول، تفصح عن حقيقته وتؤكد وجودها. وعبروا عنه صورا متلألئة، ف «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل» «1» . ومهما كانت تكاليف هذا العمل يجري ذلك ويتم بدون موازنات أو حسابات أو أي اعتبارات، تترجح عندها الأمور الدنيوية. بل هي لا ترد في هذه الحسابات ولا وزن لها في كفته، بل هي تفتدى من أجل الحصول على رضا الله تعالى، بطاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم في رفع شأن هذا الدين وإعلاء كلمة الله في كل موطن، مهما كانت التكاليف وغلت التضحيات. ويوم مرّ الحارث بن مالك الأنصاري «2» برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «كيف أصبحت يا حارث؟» قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: «انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» ، فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري. وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا. وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال صلّى الله عليه وسلم: «يا حارث، عرفت فالزم» ثلاثا «3» . فحقيقة الإيمان بهذا الدين، آثار واضحة وثمار جلّى ناضجة، يراها كل   (1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أنس بن مالك. وانظر: التفسير، (3/ 1474) . (2) عنه انظر: الإصابة، (1/ 289) ، رقم (1478) ، (1/ 388) ، رقم (2055) الطبراني، (3/ 266) . أسد الغابة، (1/ 414) . حياة الصحابة، (3/ 23) . وانظر كذلك: التفسير، (3/ 1478) . (3) حياة الصحابة، (3/ 23) . التفسير، (3/ 1478) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 أحد، لا تحتاج إلى دليل، فهي الدليل الذي يبهر كلّ ناظر، يدهشه ويجذبه. لذلك فإن حارث طلب إلى الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو له بالشهادة، فقال: يا نبي الله، ادع الله بالشهادة، فدعا له. فنودي يوما: يا خيل الله اركبي، فكان أول فارس ركب وأول فارس استشهد «1» ، رضي الله عنه وأرضاه. وهكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرعاهم في كل الأمور، فردا فردا، وأسرة أسرة، وجماعة جماعة. يوجههم وهو معهم، يعاونهم ويرشدهم. فكانوا يلجؤون إليه في كل ما يعتملون ويواجهون ويأملون «2» - نساء   (1) الإصابة، (3/ 24) . وحياة الصحابة، (3/ 24) . (2) انظر مثلا: البخاري رقم (1239) ، ورقم (5153) وما قبله. ومسلم رقم (2144) ، كل ذلك عن أبي طلحة الخزرجي الأنصاري النّجّاري (زيد بن سهل، 34 هـ أو 51 هـ) العقبي النقيب البدري، شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان من الشجعان الرماة، وكان جهير الصوت، وعن ذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة (مئة) » . سيرة ابن هشام، (1/ 457) . أسد الغابة، (2/ 289) ، (6/ 181) . سير أعلام النبلاء، (2/ 27) . وزوجته أم سليم بنت ملحان النجارية الأنصارية، أم أنس بن مالك، وكانت صدرا في العاقلات المجاهدات بأسرهن. أسد الغابة، (7/ 345) ، رقم (7471) . ولما رغب أبو طلحة الزواج منها قالت له: (أما إني فيك لراغبة، وما مثلك يردّ، ولكنك كافر، فإن تسلم فذلك مهري، لا أسألك غيره، فأسلم، وتزوجها. فقالوا: فما سمعنا بمهر كان قط أكرم من مهر أم سليم: الإسلام) . سير أعلام النبلاء، (2/ 29) . نجد أنفسنا واقفين مع أبي طلحة أمام قضيتين فيهما غموض: الأولى: في سنة وفاته (سنة 34 هـ) أو قبلها أو سنة (51 هـ) ، الفارق كبير. فعلى الأول (34 هـ) في خلافة عثمان (23- 35 هـ) وعلى الثاني (51 هـ) ، لعل وفاته إذا في غزوة لفتح القسطنطينية سنة (51 هـ) . وكان من المشاركين فيها الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري الذي توفي هناك، حيث قد وصى أن يؤخذ جثمانه إلى أقصى مكان داخل أرض العدو ليدفن فيها، فدفنوه عند أسوار القسطنطينية. سير أعلام النبلاء، (2/ 402 413) . مسند الإمام أحمد، (5/ 419) . وهذا الاستنتاج ينسجم مع رغبته (أبو طلحة) في الخروج للجهاد استجابة للآية الكريمة انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ورجالا- حتى خصوصياتهم وزواجهم وكل قضاياهم دوما «1» . فكان صلّى الله عليه وسلّم لكل واحد منهم أكثر من أب وأم وأخ، يبذل من خاصة نفسه ولا يبقي لنفسه- إن بقي- إلا بعد أن يكتفي الآخرون، يعطي من كل ما عنده لدينهم ودنياهم، من ماله وتوجيهه وحبه الذي لا ينضب، والذي تجاوز أصحابه إلى أتباعه وإخوانه في كل جيل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولأهل الأرض أجمعين. فهو النبي الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وهو رسوله إلى الناس كافة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يمضي مع صحابته في الأمر حتى ينجزه، ويسعى معه أو قبله لذلك، حتى يصل به إلى النهاية بعون الله. وهو صلّى الله عليه وسلّم الذي يبدأ بإثارة الكلام عن قضية أحدهم، ويسأل عنها، ليسعى قبل صاحبها في حلّها وإنجازها، مهما كانت ضخمة وصعبة، يبحث عن طريق لحلها، ويتولى شأنها بنفسه، وهو القصد من سؤاله. وفي كل مسألة نماذج وشواهد كثيرة وفيرة غزيرة. ومرة جاءه أعرابي، وقد أقيمت الصلاة، فأخذ الأعرابيّ ثوبه صلّى الله عليه وسلم وقال: إنما بقي من حاجتي يسيرة، وأخاف أنساها، فقام معه حتى فرغ من حاجته، ثم أقبل فصلى «2» ، فأي اهتمام هذا؟!! وقد جرى ذلك مع كل واحد من صحابته- نساء ورجالا، صغارا   فغزا البحر فمات، فأيهما أكثر احتمالا؟ الثانية: قصة إسلامه، فروايات تذكر أنه عقبي نقيب، وهي نفسها حين تتحدث عن زواجه بأم سليم، مما يفهم منه أنه أسلم بعد الهجرة الشريفة إلى المدينة المنورة قبل بدر أو بعدها. وقبل هذا لا نجد له مشاهدات أو مشاهد في معترك الأحداث. وبعد (34 هـ) لا نجد له أمثالها!! (1) حياة الصحابة، (2/ 669) وما بعدها. (2) أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة، رقم (616، 617) . ومسلم، (376) . (وفيه جواز الفصل بين الإقامة والإحرام إذا كان لحاجة، أما إذا كان لغير حاجة فهو مكروه) . فتح الباري، (2/ 124) . السيرة النبوية، الندوي، (385) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وكبارا، أطفالا وشيوخا- مرات ومرات مع كل منهم، أو كثير، مهمات تنوعت ومهما اقتضت واشتدت. بل هو صلّى الله عليه وسلم الذي يقترح ويحث على إنجاز الرغبات وتوفير الضرورات وتحقيق آمال البركات «1» . ولقد كان ربيعة بن كعب الأسلمي يخدم الرسول صلّى الله عليه وسلّم متطوعا وحريصا، ويعتبر ذلك عبادة، ويكلف نفسه ما لا يكلف به أحدا، ويسعى به فرحا «2» . ما أجمل وأروع هذا الدين وأعظم خلق وفضل نبيه الكريم صلّى الله عليه وسلم. هذا الدين الذي اختار الله سبحانه وتعالى له هذا النبي العظيم، ورباه وأدبه وأعده على ما يريده سبحانه وتعالى من الخلق والفضل والعبودية لله. ذلك لكي يكون أهلا لحمل دعوة الله المباركة ووحيه المنزل على قلب هذا النبي الكريم والرسول العظيم صلّى الله عليه وسلم، قرآنا وسنة وسيرة. وبهذا تكون تربية أتباعه من الصحابة الكرام ومن تبعهم إلى يوم الدين. ويكون ذلك إعدادا فريدا يتناسب وهذا المنهج الرباني نفسه، ويسمو بهم إلى قمة عالية لا تدانيها أية من الواجهات والتربيات والمفهومات من كافة النواحي، نوعا ودرجة وطبيعة. تراها كذلك وهي ترتقي في سلّم الصعود نحو القمم تتسامى، وغيرها يترنح في وهاد المستنقعات، لتظهر بوضوح حقيقة هذا المنهج وقوته ومصداقيته وروعته وفعاليته ومصدريته. يرى ذلك في اتباعه، ويكون البناء عاليا والتأثير واضحا والأخذ به شاملا. وبلغ ذلك البناء إلى حد من التأثير والإثمار أن وجد الصحابة الكرام في تكاليفهم وبذلهم عبادة، بها يفرحون وعليها يقبلون وعلى الوفاء بها يصرون ولأجلها يسهرون وفي سبيلها يبذلون ولإعلائها يضحّون بكل ما يملكون، والنفس عندهم من أجلها قليلة. وهم يفعلون ذلك إيمانا واحتسابا وقربى. كيف لا والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم قدوتهم وأسوتهم، وكان يجد راحته   (1) انظر: البخاري، رقم (1239، 5153) وقبلها. (2) ربيعة بن كعب الأسلمي. انظر: هنا، (ص 100- 104، 132، 142- 146، 209 وبعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 في العبادة. فهو الذي كان يقول لبلال في وقت الصلاة: «أرحنا بها يا بلال» أو: «يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها» «1» ، ويقول: «حبّب إليّ من دنياكم النساء والطّيب وجعلت قرّة عيني في الصلاة» «2» . ولقد قال الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم يوما لربيعة: «يا ربيعة ألا تزوّج؟» قلت: لا والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج، وما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء!! فأعرض عني، ثم قال لي الثانية: «يا ربيعة ألا تزوّج؟» فقلت: ما أريد أن أتزوّج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء. فأعرض عني. ثم رجعت إلى نفسي فقلت: والله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلم مني بما يصلحني في الدنيا والآخرة، والله لئن قال لي ألا تزوج؟ لأقولن: نعم يا رسول الله، مرني بما شئت. فقال لي: «يا ربيعة ألا تزوّج؟» فقلت: بلى، مرني بما شئت، قال: «انطلق إلى آل فلان- حي من الأنصار، كان فيهم تراخ «3» عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم- فقل لهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة» ، لامرأة منهم. فذهبت إليهم فقلت لهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني، فقالوا: مرحبا برسول الله وبرسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والله لا يرجع رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا بحاجته، فزوّجوني وألطفوني وما سألوني البينة «4» . وهكذا تمضي القصة وتتعدى ذلك إلى معاونته صلّى الله عليه وسلّم لربيعة في تهيئة كل متطلبات الزواج، بل حتى القران والوليمة، يحث المسلمين على إنجاز ذلك له ومعاونتهم إياه، بل وإعداد مقتضيات العرس والوليمة التي يحثّ   (1) رواه أبو داود، رقم (4985، 4986) . وورد في مسند الإمام أحمد، (5/ 364، 371) . زاد المعاد، 1/ 265) . (2) مسند الإمام أحمد، (3/ 128) ، (199) ، (285) . حياة الصحابة، (3/ 89) . زاد المعاد، (1/ 265) ، (3/ 250) ، (336) . (3) «كان فيهم تراخ» : كانوا يأتونه قليلا. (4) حياة الصحابة، (2/ 669- 670) . «ألطفوه» : قدموا له الهدايا وسرّوا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 عليها الإسلام ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ودعوة الآخرين إليها «1» . هكذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يرعى أصحابه، وهكذا أحبوه أكثر من أنفسهم، وهكذا يكتمل الإيمان «2» . ونحن إن فاتنا مكانة الصحبة وشرفها فنجتمع وإياهم معه في الجنة- إن شاء الله سبحانه وتعالى وبفضله- وتحت لواء الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ونسأله- وهو العلي القدير- صحبته في الآخرة في الجنة، كما كان الصحابة يسألونه ذلك. إن نكن لم نر النبيّ فإنّا ... قد تبعنا سبيله إيمانا والحق أن هذا أفق عجيب ونظر ثقيب وتعلق باهر ومستوى نادر وإيمان متنور وعقل متفكر. ويبدو أن عددا كبيرا من الصحابة- إن لم يكن كلهم- قد حضر عندهم هذا التصور، كما في القصة السابقة وقصص أخرى، منها ما يشير إلى أنهم لا يحتملون ولا يتصورون فراقه. ومن ذلك ما يروى أنه جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو محزون فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «يا فلان ما لي أراك محزونا؟» فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه. فقال: «ما هو؟» ، قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك. فلم يرد عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا. فأتاه جبريل بهذه الآية الكريمة: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً [النساء: 69- 70] . فبعث النبي صلّى الله عليه وسلم فبشره «3» . وكلما ارتقى الصحابة الكرام أفقا جديدا، وجدوا سعة في حياة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وآفاقا لا زالت بعيدة، وكانوا أكثر إدراكا لها وأحدّ نظرا وبعدا   (1) حياة الصحابة، (2/ 670- 671) . مرت القصة مفصلة. (2) سبق ذكره. التفسير، (2/ 699) . (3) سبق ذكره. التفسير (2/ 699) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لمداها. هكذا في كل الصفات المتنوعة التي أرادها وأدارها الإسلام ودعا إليها وربى أتباعه عليها. فالقدوة والأسوة النبوية عميقة الغور، مثلما هي سامقة الآفاق دانية القطوف. والله تعالى أعد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ليرى كلّ أحد الإسلام نموذجا في الأرض، يصيغه إنسانا بشرا، ارتقى بهذا الدين العظيم، أنزله الله تعالى وأعده له وأدبه به ودعا الآخرين إليه، فرباهم بمنهجه، بتوجيه الله سبحانه وتعالى وتسديده بالوحي الأمين، قرآنا وسنة وتوجيها بالسيرة النبوية الشريفة. وهكذا فالسيرة الشريفة بحاجة إلى فهم متسع متفتح أصيل عميق متجدد. فلا يمكن أن يغور إليها إلا الذي أحبها وتعلق بها وعاش معانيها، وانطوى على هوى مكين، يغدو به وكأنه يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويصحبه في حياته. صورة متحركة أمامه، يراه فيقتدي به، وهو الذي رباه الله وأحسن أدبه وتوجيهه. * القرآن والسيرة: وإننا نجد ذلك في معاني الإسلام وفهم القرآن الكريم وعمليته وصدقه وأصالته ومناسبته للإنسان، وحياته وتكوينه وطبيعته. فهو يا بني الإنسان بناء لا يصح لغيره ولا يكون، ويرقى به إلى المستوى المثالي، تراه في واقع الحياة. فهو الذي يربيه ويرتقي به، بصيغة مثالية واقعية أو واقعية مثالية، جرت في الحياة، ليس في أفراد- وفي جماعة فحسب- ولكن في مجتمع متكامل في كافة شؤونه وأحواله، باطنا وظاهرا، انطلق بذلك البناء حريصا على معانيه وحارسا لمبانيه، يؤثره على كل ما عداه، بإقبال وانشراح. مجتمع كان كل أفراده كذلك. كان القرآن يربيهم وينشئهم وينشّئهم أمة كريمة. وهو أمر ما كان إلا به ولا يكون البتة إلا معه. ومن هنا نجد الوفرة من السيرة النبوية في القرآن الكريم، نفسر القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 بها ونفهمها، وندلها بها في التطبيق والعمل. وهكذا نفهمه ونفهمها. بل ويمضي الفهم والتربية والعمل والتخلق والتطبيق والاستبدال، وتتعمق كل الأمور وتستغرق كافة الجوانب. إن توالي الآيات الكريمة ينزّلها الله سبحانه وتعالى على رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلم ذاكرا حقائق الأحداث وخوافيها، مما هو في ضمير الناس- مسلمين ومشركين- مما يجهله الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم نفسه، ولم يتنبه أو يراه أي أحد ذو صلة بالأمر، يظهر خفاياها وبواطنها وما غاب منها، بل وينبه لنتائجها استقبالا، ويبين حقائق الأشياء والأحداث والأحياء وطواياها ويوضحها. فالقرآن الكريم يتنزل تشريعا وهداية وتربية، مثلما يبين حقائق الأحداث ومراميها، بدقائقها وحقائقها، مرئيّها ومخفيّها، واقعها ومستقبلها، مثلما ينبه إلى أبعادها ويشير إلى نواياها ومخططاتها، فيما لو حدثت. ويظهر نفوس أهليها وما انطوت عليه، وما تتولد منه، لو استمرت على منوالها، وذلك بالنسبة للمسلمين وغير المسلمين. ويظهر حقيقة الحادثة وظرفها وآثارها الدفينة، آنا ومستقبلا، في صيغة شاملة وصورة كاملة. يضعها أمام الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين ويبين دروبها في النفس والتواآتها وسيرها في منحنياتها، وما ترنو إليه وتطلبه وتريده وترغبه، وبيان الأطراف وما أضمرت والنفس وما نوت والحقيقة وما تثمر وأثمرات، مما قد لا يدركها صاحبها وتغيب عن طالبها، يجهلها كلّ أحد، حتى الذين عايشوها. وهذا بجانب إخبار الغيب في الأمور ماضيا ومستقبلا، وما التبس أو غاب حاضرا، مبينا آثار ذلك في كلتا الحالتين، جهلا بها أو معرفة لها، والحث على بيان طريق علاجها والموقف المناسب لها ووضع قواعدها، ليكون كل ذلك عاما وشاملا لكل زمان ومكان، مثلما هو التشريع القرآني شامل للحياة لمن وجههم الله تعالى في زمانهم. آياته تترى على الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، تربيهم على يديه وترفعهم إلى أعلى الآفاق أمام عينيه، ليبقى ذلك ملجأ لكل أحد ومطلبا لكل ساع في شرع الله في دربه الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وهكذا تتكامل حقائق السيرة المذكورة في القرآن الكريم بعمقها وصدقها، بإخبارها عن غيبها وحاضرها معلومها ومجهولها غيبا وشهادة، في كل الأحوال، مثلما يبين جل جلاله ما يصلح لهذا الإنسان من تشريع وتوجيه يكون دائما على مدى الحياة ويجعل الإنسان في وضعه الطبيعي الذي أراده الله له وخلقه من أجله وأعده لبناء الحياة الفاضلة، مستديرا بنفسه كما استدارت الحياة والكون على وضعها وفلكها ومسارها يوم خلق الله السموات والأرض. وهكذا تتعانق في القرآن الكريم موضوعات السيرة الشريفة مع موضوعاته الآخرى كالتشريع وغيره ليبقى كلها مرتبطا بالإنسان في كل زمان ومكان يريده ويطلبه ويرغبه، ليا بني حياته بهذا وذاك. وكل هذا لا غنى للإنسان- وطبعا للمجتمع المسلم- عن كل ما في القرآن الكريم، فكله دائم وصالح وضروري لإقامة الحياة الإنسانية بدروبها وفروعها وجوانبها. وهذا الفهم بحاجة إلى دراسة مستقلة فتح الله به وأنا أراجع هذا المبحث لتقديمه إلى الطباعة «1» . * بين الدرجة والنوع: وعلى كل أحد يريد أن يقيم مجتمع الإسلام، أن ينحو هذا المنحى وينظر إلى هذه الآفاق، يرتقي بها فهما وعمقا، حبا وصدقا، علما وعملا، ليقترب- مقتديا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم- من مستوى أولئك الصحب الكرام. فهو وإن تخلف عنهم في الدرجة، لا يحب أن يتخلف أو يختلف عنهم في النوعية. ولهذا أسبابه وعزمه وعزائمه وجدّه وإقباله، بحيث هؤلاء يتنسّمون وينسمون   (1) كان ذلك أثناء مراجعة المبحث، بعد كتابته، وتنقيحه، لرفعه إلى ضربه على الكومبيوتر، مساء الثلاثاء (27/ 2/ 1990) . وهذا يشير إلى المتابعات المتكررة والمراجعات الكثيرة وتوالي إعادة النظر الدائم للكتابة المتأنية، ابتداء من (1981 م) وحتى اليوم (11/ 4/ 1998) حيث أجهزه للطباعة وإن كان أحيانا وكثيرا على تتابع أو تراخ لوقت ما. وأعتبر هذا أطروحتي الأولى، أو الآخرى على أقل تقدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 روائع السيرة ويشفّون عنها ويشفون بها ويشون بها ويتمثلون روائعها، ينشرون شذاها وينثرون عبقها، تحبّهم كلما اقتربت منهم، تعرفهم بمواقفهم في كل الميادين، يقعون في النفس موقع التقدير حتى لو كانوا آخر الأفواج. لا يشقى بهم جليس بل يجد فيهم الأنس الأنيس وينتشي البئيس. فما الذي يدعو إذا إلى محبة بلال وسمية «1» وياسر وغيرهم، وهم حتى   (1) لقي هؤلاء وغيرهم كثيرا من العنت والإرهاق والتعذيب المتنوع المتكاثر والاضطهاد الكبير المريع، وكل المسلمين في العهد المكي. وأصروا بعناد قوي وواجهوا المشركين وأعلنوا إسلامهم وجاهروا به وأبوا إلا الإعلان عموما، رغم أن الدعوة كانت سرية. أما بلال الحبشي، بلال الخير (20 هـ) ، فهو مؤذن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أذّن في حياته صلّى الله عليه وسلّم حضرا وسفرا، وأذّن يوم الفتح على ظهر الكعبة. أسلم قديما، فكان أحد أول سبعة أظهروا الإسلام: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد (وذكر خبّاب بدل المقداد) ، سير أعلام النبلاء، (1/ 347) . أسد الغابة، (4/ 130) ، (7/ 152) . سيرة ابن هشام، (1/ 318، 632) . وكانت الدعوة الإسلامية في بداية العهد المكي سرّية، لكن بلالا أظهر الإسلام وأعلنه. وكان عبدا لأمية بن خلف، وكان يعذبه بوضع صخرة عظيمة على صدره في الرمضاء وهو صابر محتسب ويقول: أحد أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه. ولذلك يقول عمر بن الخطاب: (أبو بكر سيّدنا وأعتق سيدنا) يعني بلالا. البخاري: فضائل الصحابة، باب مناقب بلال بن رباح، رقم (3544) . حضر المشاهد (المعارك الغزوات) كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، روى له أصحاب الصحاح الستة عشرات الأحاديث. وبعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذهب إلى الشام للجهاد وفيها كانت وفاته. وحين حضرته الوفاة كان يقول: (غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه، وافرحتاه) . انظر: الطبقات الكبرى، (3/ 169) . سيرة ابن هشام، (1/ 339) . الإصابة، (1/ 165) ، رقم (736) . الاستيعاب، (1/ 178) ، رقم (213) . الوافي بالوفيات، (10/ 276) ، رقم (4776) . سيرة الذهبي، (217) . أما سميّة (نحو 7 ق. هـ 615 م) وزوجها ياسر وابنهما عمار فقد عذّبوا كثيرا وفيهم قال الرسول صلّى الله عليه وسلم: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» . (سبق ذكره أعلاه) ، ثم قتل أبو جهل سمية بأن طعنها بحربة في موطن العفة منها، فكانت أول شهيدة (شهيد) في الإسلام ثم استشهد زوجها ياسر، وهو يعذب بيد المشركين غرقا. أما عمار فعذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 لم يورّثوا علما ولم يرووا سنة إلا في حدود، ومنهم من استشهد مبكرا جدا، مقبلا ومقدما، يقبلون على الإسلام ويتمثلونه بتوازن واتزان. ولا بد لكل هذه أن تكون بارزة ظاهرة في تولي عملية البناء ورعايتها في الحديث عن الجماعة المؤمنة التي تريد وتعمل و «تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع، التي غلبت عليها الجاهلية، وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة!» «1» . وهكذا كلما مضيت وعشت، فهمت وتقويت واقتربت واستنتجت وتمثلت وانطلقت. وكلما زاد إيمان الشخص دقّ نظره وثقب بصره وعلا إدراكه، وكان فهمه أعمق وآفاقه أوسع وعمله أشجع. والصحابة الكرام كانوا يزاولون القرآن الكريم، ذوقا وإدراكا، ويعيشونه عملا وواقعا. وورد عن عبد الله بن مسعود «2» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعلمهم القرآن   كثيرا ثم قال كلمة لإرضاء قريش وندم عليها، لكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم طمأنه. انظر: أسد الغابة، (4/ 129) ، (5/ 467) ، (7/ 152) . الأعلام، (3/ 140) ، (5/ 36) ، (8/ 128) . الوافي بالوفيات، (15/ 457) ، رقم (617) . (1) التفسير، (3/ 1478) . (2) عبد الله بن مسعود (32 هـ 653 م) من أجلّاء الصحابة وأكابرهم ونجبائهم، فضلا وعقلا وقربا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهو من أهل مكة ومن السابقين إلى الإسلام وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة، وكان خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأمين وصاحب سره ورفيقه في حلّه وترحاله وغزواته. وقال صلّى الله عليه وسلم: «استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل» . وحين سئل حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي صلّى الله عليه وسلّم ليأخذوا عنه، قال: (ما أعرف أحدا أعرف سمتا وهديا ودلّا (شكلا وشمائل) بالنبي صلّى الله عليه وسلّم من ابن أم عبد (ابن مسعود)) . (البخاري، فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، رقم (3549، 3551)) . أسلم قديما وهاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد بعدها، وشهد فتوح الشام. روى عنه كثير من الصحابة والتابعين. وكان يقول: (أخذت من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين سورة ... والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل. وما أحد أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الكريم فيقرئهم العشر آيات فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمنا القرآن والعمل به جميعا «1» . * تذوّق الصحابة نعمة الوحي، وافتقادها لدى انقطاعها: والصحابة الكرام بجانب حيازتهم للصحبة وتشرفهم بها، كان ذلك ممدودا ومواكبا وحيويا، لنزول القرآن الكريم وترادف الوحي الذي به كانت تلك النعمة وكل النعم الآخرى، يرونه ويعيشونه ويحيون به. وكان كل ذلك فعالا في حياتهم عاملا في بنائهم فاصلا في مهماتهم، جمعوا به كل المفاخر وأقاموا كل العمائر وحازوا كل الماثر، بحيث إنه يوم توفي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم منتقلا إلى الرفيق الأعلى، أحس المسلمون بفقدان ما تمتعوا به في تلك المدة التي قضوها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعرفوا مذاقها ووجدوا حلاوتها، فافتقدوا الوحي بانتقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى. فلقد ذهب أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما- إلى أم أيمن «2» يزورونها،   بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تبلّغنيه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته) . وورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من أحبّ أن يسمع القرآن غضا فليسمعه من ابن أم عبد» . وقد عاش عمره يعلّم القرآن الكريم وأمور الإسلام للناس في أكثر من مكان لا سيما في الكوفة. ثم عاد إلى المدينة المنورة حيث توفي فيها (32 هـ) ، ودفن بالبقيع رضي الله عنه وأرضاه. انظر: الإصابة، (2/ 368) ، رقم (4954) . الاستيعاب، (3/ 987، 994) ، رقم (1659) . الوافي بالوفيات، (17/ 604) ، رقم (515) . الأعلام، (4/ 137) . سيرة ابن هشام، (1/ 336) . شرح الخشني، (1/ 388) . (1) انظر: تفسير القرطبي، (1/ 39) . التفسير، (4/ 2253) . حياة الصحابة، (3/ 176) . (2) أم أيمن (بركة) حاضنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكان يقول عنها: «أم أيمن أمي بعد أمي» . شهدت أحدا وخيبر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت تسقي الماء وتداوي الجرحى. الإصابة، (4/ 432) ، رقم (1145) . سير أعلام النبلاء، (2/ 223) . الوافي بالوفيات، (10/ 118) ، رقم (4575) . أسد الغابة، (7/ 303) . الاستيعاب، (4/ 1793) ، رقم (3252) . زاد المعاد، (1/ 83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزورها. فلما أتيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها «1» . لكن آثار هذه المدة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها، لولا أنها وقعت حقا، تبقى تعمل في حياة البشر في كل زمان ومكان وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها «2» . * شواهد وفرائد صحابية: ومنهج هذا الدين أنه يأخذ بصاحبه وتابعه دوما إلى الارتقاء، فردا وجماعة، مجتمعا ودولة، حاكما ومحكوما؛ لأنه يقوم على الصدق في الصلة بالله تعالى ويبحث عن رضاه، بكل طريق ويضحّي ويعطي، قبل أن يأخذ، إن كان يأخذ. وجواذب الإقدام لهذه الآفاق ونوافذه كامنة متوافرة. وهذا علامة صدق ودليل إخلاص. وأهله يقبلون على الأقوم والأقوى والأجود، حتى لو كان ذلك مغلفا مثقلا؛ لأن الهدف يصبح هو الارتقاء الذي يبذل له ما عداه، ولا يستطيع أن يرتقي في تلك الآفاق من أثقلته الدنيا بأي مقدار، والله تعالى يقول في القرآن الكريم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة: 38- 39] .   (1) انظر: التفسير، 6/ 3937- 3938) . وقد أخرجه مسلم، رقم (2454) . (2) انظر: التفسير، (6/ 3937- 3938) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 * الرخص أم العزائم: ومن هنا فإن الحياة الإسلامية، لا سيما مجتمع الصحابة الكرام، ملئ بالعزائم الغالية، موار بالعظمات العاليات. دعائمه ذلك البناء الرصين، قام على شرع الله المبين، قدوتهم ومربيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي اختاره الله تعالى لتولي هذه المهمة، أدّبه ورباه وأعدّه، فهو يعلمه ويوحي إليه ويوجهه «1» . وحتى وقت الشدائد والمازق، قلّ جدا وندر- حتى بعد عهد الصحابة الكرام- من أخذ منهم بالرخصة. فكلهم كانوا يأخذون بالعزيمة- رغم وجود الرخصة- وذلك من شدة حبهم لله تعالى ولرسوله الكريم صلّى الله عليه وسلم، ذلك الحب الرائق المترقرق والاقتناع البليغ المتدفق والحيوية الفعالة، في ذلك الحب الذي أخذ بهم إلى تلك الآفاق وأجلسهم أو أوقفهم على تلك القمم. وهم يسعون للارتقاء في مسعاهم طبيعة، لرضا الله تعالى والقرب منه، وهم طليعة البشرية ورواد الحياة السعيدة الفريدة، مقتدين بالرسول الكريم ومهتدين بهديه صلّى الله عليه وسلم. وقد فهموا معنى قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن   (1) هذه هي مباني الإسلام الفذة الرائعة في تلك الأحوال والظروف، وفي كل الظروف. وهكذا فالإسلام لا يعبر عن مستواه قياسا إلى غيره بل مستواه المتميز واضح وملحوظ، أمام كل أحد وفي كل العصور والأمكنة ولا يقاس بما حوله ولا يعتمد تقدمه على أي ظروف، لكن لا بد من شروط في أتباعه ليقيموا الحياة الإسلامية فيأتي بالعجائب في أي ظروف مهما تملك أهل العصر والمصر. ويوم انطلق المسلمون بهذا الدين ينشرونه انطلقوا وهم لا يملكون مما عند الآخرين من تقدم مدني أو علمي، وفي ذلك عبرة وحكمة أرادها الله تعالى، للبشرية جمعاء. وهكذا فالإسلام عظيم ودوما هو الموئل والمنهج والطريق للإنسانية، لإقامة حياتها الفاضلة وحضارتها الإنسانية، على غير مثال ونسق. فإنه دين الله الذي ارتضاه للعالمين حتى يوم الدين. ولا يقبل من أحد غيره. فلا يلحقه أحد أو منهج. وهو مستقل وثابت وسامق، في كل وقت، وينشئ الحياة الفاضلة الكريمة، ابتداء وانفرادا وتميّزا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 تؤتى عزائمه» «1» . إن هذه الرخص رخص العبادة، أما في الحياة والمواقف فالعزيمة أولى وأدعى وأجدى. وإن الذين بنوا الحياة الإسلامية هم أهل العزائم، في كل موطن وموقع، في البذل والتضحية والإقدام عليها، حبا ورضا وقربى. ويوم يكثر الأخذ بالرخص في أمور الحياة وتحقيق معاني الإسلام فيها، فقد تردت الأمور ونصل بها إلى أضعف الإيمان، الذي هو الاستنكار القلبي. وحتى هذا يصبح في خطر إذا جرى الاستمرار على الرخص والتّرخّص فيها. والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» «2» . فالأخذ بالعزيمة هو طبيعة الحياة الإسلامية وسمتها المتميّز، ونهرها الجاري. وهو زلال متدفق متدافع متسارع. وإن الأخذ بالعزيمة عبادة، وأحد ثمارها الطيبة، ولا انفصام بينهما، يجري بها للتقرب إلى الله تعالى. وإن النظرة في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم تنير هذا البصر والبصيرة وتبني هذا الفهم وتطلق المسلم قويا في الحياة أبيا نقي النفس عالي الهمة. وفي العهد المكي من أول يوم كان صلّى الله عليه وسلم إصراره على الدعوة وحملها وإبلاغها لا حدود له. فأي شيء تذكره في حياته تجدها من هذا النوع وعلى نفس النسج، مهما كانت الشدائد والصعوبات والقوى الباغية. ولا بد أنه قد مرّ بك ماذا قال لعمه أبي طالب حين بدا وكأنه يتخلى عنه بقوله له: يا بن أخي أبق عليّ وعلى نفسك ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عمّه خاذله ومسلمه وضعف عن نصرته، فقال صلّى الله عليه وسلم: «والله يا عمّ، لو وضعوا الشمس   (1) انظر: تفسير القرطبي، (5/ 356) . وكذلك رواه البيهقي. وقد رواه الإمام أحمد بلفظ آخر: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» . المسند، (2/ 108) . وكذلك رواه البيهقي. (2) رواه مسلم، رقم (49) . وأبو داود، (1140) و (4340) . والترمذي، (2172) . وانظر: رياض الصالحين، (125) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» «1» . وهذا تصوير لحقيقة هذا الدين والإصرار عليه، من الهادي القدوة والأسوة- صلوات الله وسلامه عليه- روحا استرضعها الصحابة واستنبتوها، شجرة باسقة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، لا تعرف غير هذا اللون من الثمار دائما، ومع كل الظروف. وقال صلّى الله عليه وسلّم مثل ذلك في المدينة، بعد أن نصره الله وأقام دولة الإسلام وحكّم شريعة الله، حيث بها قام مجتمع فاضل كريم، أيام الحديبية (6 هـ) حين تعنتت قريش وركبت رأسها: «يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم، دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش. فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به، حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» «2» . وبذلك تسمو الحياة الإنسانية وتتأكد معالمها وتشرق لوامعها. بل إننا لنجد في التضحيات والإقدام تمتلئ الساحات، يتنافسون فيها ويقدمون، كلما زاد الخطر وأقبلت الشدائد واعتركت المعامع، تكاثر الناس بالمواقف الشوامخ، حتى لنرى عجبا من التصرفات والأعمال، ما يظهر معادنهم الباهرة وشواهدهم النادرة، وفي شكل متسع ونوعية تعبر عن ذلك البناء الفرد أو المتفرد، تربّوا على مائدة القرآن، مقتدين برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهما وعملا. فهم كما وصفهم الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون   (1) سيرة ابن هشام، (1/ 266) . سيرة ابن هشام (بشرح الخشني، (1/ 329- 330)) . سيرة الذهبي، (149) . (2) سيرة ابن هشام، (3/ 309) . «السالفة» : صفحة العنق: وهي كناية عن القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 عند الطمع» «1» . كيف وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يفعل ذلك، وهو الذي كان يبدأ بنفسه في الملمات والتضحيات. وانظر إلى سعد بن معاذ «2» ، ماذا يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في معركة بدر: (فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته   (1) انظر: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، (72) . وهذا الوصف قاله صلّى الله عليه وسلّم أساسا في الأنصار. (2) سعد بن معاذ الأوسي الأشهلي الأنصاري (5 هـ) من مشاهير الصحابة وأبطالهم، سيد الأوس، وحامل لوائهم يوم بدر. وحضر أحدا والخندق التي استشهد من أثرها بسهم أصابه فيها، بعد غزوة بني قريظة بليال، وبعد أن نزل بنو قريظة على حكمه، وبعد الخندق بشهر. ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنه كان في بني عبد الأشهل ثلاثة لم يكن- بعد النبي صلى الله عليه وسلم- أفضل منهم: سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعبّاد بن بشر. وقال صلّى الله عليه وسلّم في حلّة رآها سيراء (بدلة أو بردة جميلة) : «لمنديل من مناديل سعد في الجنة خير منها» . ورد بعدة ألفاظ أخرجه مسلم، رقم (2468- 2469) . والترمذي، رقم (1723) . سير أعلام النبلاء، (1/ 292) . انظر: أعلاه، ص 119. أسلم على يد مصعب بن عمير بين العقبة الأولى والثانية، ودعا قومه إلى الإسلام فأسلموا جميعا نساء ورجالا (انظر: أعلاه، ص 119) ، إلا الأصيرم الذي أسلم يوم أحد، وشهدها واستشهد فيها، فحاز الكثير بالعمل أو الوقت القليل حيث إنه ضحى بنفسه في سبيل الله. وكان سعد بن معاذ من أعظم الناس بركة في الإسلام، سمعته أمّه يردد في معركة الخندق منشدا: لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل فقالت أمه: الحق يا بني فقد تأخرت. انظر: البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأحزاب، رقم (3895 و 3896) ، (4/ 1511) . الإصابة، (2/ 37) ، رقم (3204) . الاستيعاب، (2/ 602) ، رقم (958) . أسد الغابة، (2/ 374) ، رقم (615) . سير أعلام النبلاء، (1/ 281) . سيرة ابن هشام، (3/ 226- 227) . الوافي بالوفيات، (15/ 152) ، رقم (204) . الأعلام، (3/ 88) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنّا لصبر في الحرب صدق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله» «1» . فسّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك ونشّطه وقال: «سيروا وأبشروا فإنّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله كأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» «2» . ثم عبّر سعد عن حب المسلمين والأنصار الذين يتحدث بلسانهم للرسول صلى الله عليه وسلّم واستعدادهم للبذل في سبيل الله وأن من تخلف منهم كان بسبب عدم توقعهم قتالا فقال: (يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعدّ عند ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الآخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك) «3» ، فأثنى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا له بالخير، ثم بني لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عريش فكان فيه. وهكذا استحقت هذه النوعية نصر الله تعالى في بدر، أول لقاء بين المسلمين والمشركين، ورغم التفاوت الذي ما كان يظن أحد أن تدور الدائرة عليهم. أتى نصر الله الذي كانت ثقة الرسول صلّى الله عليه وسلّم به والمسلمين عالية جدا وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123] . وهكذا سمى الله سبحانه وتعالى يوم بدر يوم الفرقان وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال: 41] . وهذا هو الحق المبين الذي عاشه المسلمون وأدركوه.   (1) سيرة ابن هشام، (1/ 615) (سيرة ابن هشام شرح الخشني، 2/ 306) . وانظر: زاد المعاد، (3/ 173) . مغازي الذهبي، (107) . (2) سيرة ابن هشام، (1/ 615) . (3) سيرة ابن هشام، (1/ 620- 621) . سيرة ابن هشام شرح الخشني، (2/ 313) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ولم يكن الصحابة الكرام يأخذون بالرخصة في أي من هذه الأمور وأمثالها دوما، وعلى ذلك سرت الحياة الإسلامية وسارت مواكبها. ورغم ضعف المسلمين في مكة وقلة عددهم وشدة الاضطهاد عليهم فلم يأخذوا بالرخصة عموما، طيلة العهد المكي، الذي نعرف مقدار ونوعية الاضطهاد فيه للمسلمين، من قبل قريش وصدهم عن سبيل الله، ورفض أهل مكة والعرب من حولها لهذه الدعوة المباركة، رغم إعجازها وبيانها وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم المعروف عندهم قبل النبوة، بحيث إنهم هم الذين سمّوه «الصادق الأمين» ، وحكّموه جميعا راضين، في أكبر حدث كادت تسيل فيه الدماء، يوم الحجر الأسود، وكان سنه صلّى الله عليه وسلّم خمسا وعشرين سنة. وما كانوا ينكرون صدقه أبدا. ولشدة ثقتهم به وتأكدهم من أمانته وصدقه أنهم كانوا يضعون أماناتهم عنده، وهم يحاربونه ويحاربون رسالة الله التي أنزلها عليه ليبلغا للعالمين. فتراهم يسعون لقتله بكل سبيل. كما يعلمون صدق المسلمين في حملها ويرون آثارها عليهم خيرا وبركة واستقامة ظاهرة متجلجلة. فمضت قريش بعيدا في اضطهادها إلى القتل بالسلاح والقتل بالجوع والتعذيب الوحشي. واجه المسلمون كل ذلك بالعزيمة القوية التي تهد الجبال، وأعظم وأكبر من الجبال الراسيات «1» . كل هذا والإسلام في أوله لم تكتمل آياته ولم تتم شريعته ولم تظهر عظيم صوره وبليغات ماثره ولوامع جوامعه ولم تر أمجاده الواسعة وكل معجزاته الرائعة ولم يسجل بعد بواهر انتصاراته المتقدمة ولم يقم مجتمعه المتلاحم ودولته العظيمة وتتبين مفاخر حياته. ولكن الانتصار بدأ وسار موكبه المبارك الميمون لحظة استقرت عقيدته، عقيدة التوحيد «لا إله إلا الله» ومستلزماتها «محمد رسول الله» واستقامت على الهدى خطواته.   (1) انظر: أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر، (451) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وكلمة التوحيد خير ما قاله الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء- عليهم السلام- قبله «1» ، وذلك أساس دعوة الإسلام ودعوات الأنبياء. وكان صلّى الله عليه وسلّم في العهد المكي يلاقي الناس ويلتقي في أسواقهم وهو ينادي بهم ويقول: «يا أيها الناس قولوا: لا إله إلّا الله تفلحوا» «2» . وهذه المواجهة الصريحة المعلنة كانت في أشد ما يكرهون، لكنها النبوة والرسالة الحقة، وهي من أدلتها ومستلزماتها وأصولها ومقوماتها التي لا تصح بدونها، ولا يقبل الله عملا إلا بها. ولقد صدق المسلمون في حملها واستعدوا لأعبائها وأخذوا بالعزيمة، بالإيمان بها. وإن علموا الرخصة في ذلك بشروطها وضرورتها، والله تعالى يقول: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106] . وقد أتاح لهم ذلك لكنهم أخذوا بالعزيمة. وهذا بلال «3» العبد الحبشي- الذي أعتقه فيما بعد أبو بكر الصديق، والذي قال فيه عمر بن الخطاب: (أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا) «4» - كان عبدا لأمية بن خلف يعذبه تعذيبا يفري صاحبه، وكان بإمكانه أن ينجو من ذلك بكلمة يقولها بفمه، إرضاء لقريش، لكنه على العكس كان يكرر دوما- وهم يعذبونه- ويصرخ بها في   (1) معنى حديث شريف رواه الترمذي وآخرون. ونصه: «خير ما قلت أنا والنبيون (من) قبلي لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير» . (2) سبق ذكره أعلاه، ص 158- 159. وانظر: الإصابة، (1/ 509) (ترجمة ربيعة بن عباد رقم 2610) . حياة الصحابة، (1/ 107) ، وقبلها وبعدها. سيرة ابن هشام، (1/ 433) (سيرة ابن هشام، شرح الخشني، 2/ 74) . (3) سبق الحديث عنه. انظر: أعلاه، ص 214 (حاشية) . (4) أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب بلال بن رباح، رقم (3544) ، (3/ 1371) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وجوههم: (أحد أحد) ، وأنه لو يعرف كلمة في الإسلام تقال أشد منها عليهم لقالها. وكذلك آل ياسر الذين قال فيهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» «1» . سميّة وزوجها ياسر وابنهما عمار. كان الأبوان أول الشهداء في الإسلام إذ قتلت سمية بطعنة رمح، في موطن العفة، من أبي جهل. وهي تعلم أنه سيفعل ذلك بها. وكان يمكن أن تبقي على حياتها مسلمة مؤمنة بكلمات يرميها لسانها عليهم. واستشهد ياسر تحت التعذيب. وفي العهد المدني ترى جميع الصحابة- نساء ورجالا- أبطالا عظاما. انظرهم كيف فعلوا وهم يمتطون قمم العزائم. وذلك لا يحدث ولا جزء منه إلا بهذا الدين الذي نرجو أن تعود صيغه وفيرة منيرة، لتحرر الإنسان من العبودية لغير الله وتعبّده لله رب العالمين، وتحمل راية هذا الدين تطوف بها جنبات الأرض الواسعة. انظر ماذا فعل حبيب بن زيد الأنصاري «2» الذي أرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلم رسولا إلى مسيلمة الكذاب باليمامة. فكان مسيلمة إذا قال له: أتشهد أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، وإذا قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع. فعله مرارا، فقطعه مسيلمة عضوا عضوا ومات شهيدا رحمه الله «3» . لا يزيده على ذلك إذا ذكر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آمن به وصلّى عليه، وإذا ذكر له مسيلمة قال: لا أسمع «4» . وكان دمه يسيل ويسأله فيجيب نفس الجواب إلى آخر رمق به، وهو ثابت على ذلك. رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه.   (1) سبق ذكره، ص 214، وانظر: حياة الصحابة، (1/ 291) . (2) انظر: الإصابة، (1/ 306) ، رقم (1584) . الاستيعاب، (1/ 328) . (3) التفسير، (4/ 2196) . سيرة ابن هشام، (1/ 466- 467) (شرح الخشني، 2/ 120) . (4) سيرة ابن هشام، (1/ 466- 467) ، (شرح الخشني، 2/ 120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 * السيرة مدد وحياة: وظلت السيرة الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- تحمل الحياة الإسلامية بامتدادها، وتغذيها بروحها، وتقويها بمضامينها. يتوالى ظهورها، وتتجدد حقائقها، كلما تأكدت هذه التربية الفذة، في كل العصور وحتى العصر الحاضر، في الوقائع في العالم الإسلامي: في فلسطين والسويس وأفغانستان وغيرها، وفي كل المواقع. وإن جميع التحركات الخيرة والتجمعات الفاضلة والانبعاثات الوضيئة في عالمنا- بعد أن تهالكت الخلافة الإسلامية العثمانية وتهاوت وذهبت- كانت تنبع من هذا الفيض الكريم في كل العالم الإسلامي ومنها البلاد العربية. وهذا هو الأمل أن يتجدد ويقوم على عزيمة أهل الإيمان، يبنون من جديد الحياة الإسلامية، ويبذلون ويتقدمون. وهذا ما لا تقيمه الرخص بل تقيمه العزائم. ولا يجب أن يحدث العكس، بأن تؤخذ بالعزيمة في العبادة والرخصة في الحياة، بل الأصل: الرخصة في العبادة والعزيمة في الحياة. والبوادر ظاهرة، والخير قادم، والموكب يتهيأ للمسير. ولابد أن تنطلق القافلة وتسير- إن شاء الله سبحانه وتعالى، بعد أن تصفو الأمور، وقد جرى ويفهم الناس حقيقة الإسلام. وقد ذهبت كل تلك الشعارات الخادعة، وانهارت مبانيها المتداعية التي حمتها القوى الباغية العميلة ظاهرا وباطنا داخلا وخارجا في أي موطن وموقع، وفي العديد من عالمنا المتسع، واضحا أو خفيا. الثمار الطيبة الطّعوم: وهكذا كان الصحابة الكرام وبناؤهم ثمرا طبيعيا لمنهج الإسلام- قرآنا وسنة وسيرة- وصورة واضحة لتعاليمه، قدوتهم في ذلك خير خلق الله ورحمته المهداة إلى العالمين. فهو صلّى الله عليه وسلّم دائما الأسوة الحسنة والقدوة الكريمة للمسلمين جميعا في كل العصور، ابتداء من الصحابة الكرام، ومن أكبرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وأعلاهم وأقربهم، كيف لا وهو إمام الأنبياء وسيد المرسلين. وقد ربى أصحابه ويربي إخوانه التابعين في كل الأجيال- مقتدين به صلّى الله عليه وسلم- على مائدة القرآن الكريم، كتاب الله المبين الذي أنزله نورا وهدى للعالمين. رأينا ذلك تماما لدى الصحابة الكرام، نساء ورجالا، أغنياء وفقراء، كبراء وإماء. واقرأ- إن شئت- هنا تراجم الصحابة الكرام، تجدهم أهل مواقف للحق، لا يعرفون إلّا بها ولا يعرفون إلا بها. وأي مواقف تكون على منهج الإسلام! فأي قمم شواهد ارتقوها، وأي ذرا شواهق وقفوا عليها، وكأنهم ينادون البشرية ويدلّونهم ليذهبوا إليها، يترفقون بهم. ويقودهم لذلك معلم الإنسانية ورحمة الله إليهم وإلى البشرية كافة محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم. فمن سمع واستجاب ارتفع، ومن أعرض وقع. وانظر تصوير رسول الله صلى الله عليه وسلّم البليغ لذلك، كيف لا، والله قد رباه ورعاه وأدبه وأعدّه ووجّهه، والوحي يتنزل عليه، ويرشده ويسدده ويوجّهه، فيقول صلّى الله عليه وسلم: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبّهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون (تفلّتون) من يدي» «1» . * الإضافة وحديث القرآن: إن شخصا يقوم بكل ذلك، ينشئ أمة مثالا من عدم، ويهيب بها وفية، لتكون قائدة رائدة- في ذلك الزمان والوسائل- للبشرية كلها، وتدير دفة التاريخ وتحوز مقوده وتحوّل مجراه وتستديره إلى حاله يوم خلق الله   (1) انظر: تفسير القرطبي، (14/ 122) ، (20/ 165) . وقد أخرجه البخاري. روى أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهنّ ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحّمون فيها» . كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، رقم (6118) ، (5/ 2379) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 السموات والأرض «1» ، وتملك الزمام وتسيّر موكب الإنسانية وتنشر آثارها وتقدم ثمارها لكل أهل الأرض، تابعها وغيره. وما زال المستقبل لها- إن شاء الله تعالى- بجولات وصولات قادمات. تلك طبيعتها وطبيعة الحياة وحاجة الإنسان، وتقوم بتلك الإنجازات والفتوحات، لا شك أنه نبي من عند الله ورسول منه سبحانه وتعالى. وهو خاتمهم- الأنبياء والرسل، عليهم السلام- به صلّى الله عليه وسلّم ختم الله النبوات والرسالات، هيأه وأعده لهذه المهمة، أوحى إليه وسدده وأعانه ونصره ونشر دينه وأجرى المعجزات على يديه. والقرآن الكريم هو معجزة هذا الدين الكبرى الدائمة الباقية المتجددة المبينة المهيمنة الأكيدة، كل يوم تظهر من جوانبه أعاجيب ومعجزات وآيات جديدة. والقرآن الكريم وحي الله وهداه، بكل حروفه وكلماته وآياته، نصا ومعنى وترتيبا، تشرحه وتوضحه السنة المطهرة وتنشره السيرة النبوية الشريفة. وإن نبيا يحمل هذا المنهج الإلهي، الذي أنزله الله تعالى هدى ونورا للبشرية، وينفذه ويقيم به مجتمعا مثالا، تطبق فيه كل تلك المعاني الموحى بها والتعاليم التي أنزلها الله تعالى في ذلك الزمان بأحواله ووسائله، وتنشر دعوته وتنصر، ويقبل عليها الناس وتقيم مجتمعا مثالا لوقتهم وللأجيال التالية بعدها وهم ثلّة ضعيفة صغيرة كان يسخر منها «2» ومن أهدافها. وكان أهل الدعوة في ضيق لا يدعو للأمل- لولا نصر الله- إلى درجة أن أحد أوائل المسلمين وهو خباب بن الأرت «3» جرى معه مثل هذا، فيحدثنا عنه بقوله:   (1) مقتبس مما قاله الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم في خطبة حجة الوداع: «أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» . مجموعة الوثائق السياسية، (365) . (2) سيرة ابن هشام، (1/ 313، 320، 351) . شرح الخشني، (1/ 387، 396، 431) . (3) خبّاب بن الأرت (37 هـ 657 م) كان في الجاهلية قينا (عبدا أو حدادا) ، يعمل السيوف بمكة. أسلم قديما، فهو من السابقين الأولين للإسلام. قيل: سادس ستة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمرّ وجهه، فقال: «لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصرفه عن ذلك، والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» «1» . لا شك أنه الدين الذي أوحاه الله وارتضاه سبحانه وتعالى للعالمين. * الإسلام منهج أهل الأرض ومستقبلهم المشرّف المشرق: تلك إرادة الله ورحمته ونعمته على أهل الأرض أجمعين، أنزل كتابا وأحل حلالا وحرم حراما، وبين طريق الهداية وجعله نورا وارتضاه، بهذه النعمة الكريمة: الشريعة التي لا مفر للإنسان من الأخذ بمنهجها، ضرورة ولزاما وحتما وطبيعة، طوعا أو كرها. فمن لم يقبل عليه طائعا لا بد أن سيضطر لأخذه راغما.   ومن أول من أظهر الإسلام. عذبه المشركون، فكان ممن عذّب في الله وصبر على دينه. هاجر إلى المدينة، وكان من فضلاء الصحابة المهاجرين الأولين. شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (رحم الله خبابا، أسلم راغبا وهاجر طائعا وعاش مجاهدا) . وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبابا عما لقي من المشركين فقال: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري. فنظر فقال: ما رأيت كاليوم ظهر رجل. قال: لقد أوقدت لي نار وسحبت عليها، فما أطفاها إلا ودك ظهري. روى عنه العديد وروي له اثنان وثلاثون حديثا. الإصابة، (1/ 416) ، رقم (2210) . الاستيعاب، (1/ 423) . الوافي بالوفيات، (13/ 287) ، رقم (348) . (1) سبق ذكره. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم (3416) ، (3/ 1322) ، ورقم (1398) ، (6/ 2546) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وإذا كان الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم القدوة المثلى والأسوة الحسنى في كل ذلك لمن كان معه ولمن يأتي بعده- طول الحياة وحتى يوم الدين- فإن المجتمع الذي أنشأه بوحي الله ودعوته وبمنهج الإسلام وشريعته وتوجيه الله تعالى ووحيه، كان المثال والقدوة لكل ما يليه من الأجيال والمجتمعات في حياة الإنسان التي تريد السعادة وتأخذ بمنهج الله تعالى في جولات وصولات حاضرات وقادمات، حالا ومستقبلا إن شاء الله تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران: 85] . وليس أصح القول أن إنسانا بهذا الدين يستغني عن كل ما عداه فحسب، بل الصحيح الدقيق أنه لا يصلح حاله بسواه ولا يستقيم أمره إلا إياه، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وأول هذه الأمة ومجدها ونسبها إلى هذا الدين الذي ارتضاه الله للعالمين، وأرسل به محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليختم به الرسالات والأنبياء والمرسلين، ويبقى هو الدين المرتضى والمبتغى والمجتبى. فتاريخ الإسلام بدايتها، والإسلام نسبها، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قائدها، فلا يصلحها غيره. ومن الأولى ألّا يصلح غيره غيرها. * الصحابة فخر الميادين، ازدحمت بهم الساحات: فأولئك الصحابة الكرام استوعبوا واستجابوا، عرفوا بهذا الدين قدر الأمور فكانوا عندها. قدروا الله حق قدره وعرفوا مكانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونعمة هذا الدين ومنحوا ذلك كل ما عليهم نحوها. فكانوا قمة الإنسانية المؤمنة والجيل الذي لا يتكرر أو إلا بصعوبة بالغة وعصبة (سائغة) وبيعة زاكية، نوعا ودرجة وعددا، وبهذه السعة والأفق والكثرة، وملؤوا الميادين في كل العلوم والفنون. ومن تلك القلة كانت الأعلام الكثيرة، نساء ورجالا، شيوخا وأطفالا وشيبا وشبانا. والأعلام- كثرة ونوعا ودرجة- دليل أبلغ دليل، موضوع بحاجة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 دراسة متأنية. فظهرت نوعيات عجيبة ارتقى بهم المجتمع بالإسلام. وكم من أحد لم يكن له شأن، كان به عظيما، ليس لأنه عاش قبله في مجتمع قهره فقط وألغى إنسانيته فحسب، بل هو نفسه لم يكن فيه من عوامل الارتفاع. رفعه الإسلام وأصبح من الأئمة والأعلام، إلى حد أنه جعل من الأعمى إنسانا رائدا وقائدا، له مواقف، مثل ابن أم مكتوم «1» ، وهو أعمى، كانت بيده راية المسلمين في القادسية ويقاتل أعداء الله. وهذا وأمثاله، ومن هذا النوع وغيره وفي المواقف العجيبة غير المنتظرة، امتلأت الحياة الإسلامية بالأمثلة المتزاحمة المتلاحمة. كلها وكلهم ما زالوا مضرب المثال في كل الأحوال، ونعمل على النسج على المنوال. كان كل منهم علما حيث وضعته ملأ الحياة مواقف وشواهد وأمثلة ونماذج فريدة، فظهرت تلك القيادات، في أي موطن وضعتها برزت وأدهشت. وانظر إلى نوعياتهم وأخذهم الأزمة وما أنجزوا من فتوحات مدهشة لكل من اطلع عليها، وما زالت روعتها وقد أتت بالعجائب التي لا تتكرر إلا بهذا الدين الذي به تحقق المعجزات. ففي نفس الوقت الذي كانت جيوش الفاتحين، من الصحابة الكرام ومن معهم من التابعين، كانوا يطرقون أبواب أكبر امبراطوريتين في العالم (المعروف) ، تحكمانه وتتحكمان بمصائره وتتصرفان في شؤونه، وهما: الامبرطورية الرومية في الغرب والامبراطورية الفارسية في الشرق، بين كسرى وقيصر.   (1) عمرو بن قيس بن أم مكتوم (23 هـ 643 م) . وقيل اسمه عبد الله. وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها. صحابي شجاع، كان ضريرا أسلم بمكة. وهو من المهاجرين الأوائل إلى المدينة. قدم إليها مع مصعب بن عمير (قبل وصول الرسول صلى الله عليه وسلّم مهاجرا إليها) . وكان يؤذن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة مع بلال. واستخلفه صلّى الله عليه وسلم على المدينة ثلاث عشرة مرة، يصلي بالناس في عامة غزواته. وكان يحمل راية المسلمين في القادسية (15 هـ) ويقاتل وعليه درع!!! توفي بالمدينة. وهو المذكور في سورة عبس. سير أعلام النبلاء، (1/ 360) . الاستيعاب، (2/ 501) . الإصابة، (2/ 523) ، رقم (5764) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ففي عين الوقت التي كانت هذه الجيوش الإسلامية الفاتحة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح (والقادة الآخرين: خالد بن الوليد وأمراء الأجناد) بأعدادها القليلة (24 ألفا) تنازل جموع الروم بأعدادها الكبيرة (نحو 150 ألفا) وعدتها الوفيرة بقيادة ماهان (باهان) الأرمني وسقلاب (الرومي) وجبلة بن الأيهم العربي (ملك الغساسنة) في اليرموك (خامس رجب، 15 هـ) كانت جيوش المسلمين الفاتحة كذلك القليلة (ثلاث وثلاثون ألفا) تواجه جموع الفرس كثيرة العدة والعدد (120 ألفا، غير الاحتياط أو التبع نحو 80 ألفا) بقيادة رستم في القادسية (آخر شوال، سنة 15 هـ) (ومعه جالنوس ومهران وبيرزان وبهمن جاذويه وهرمزان، وقتلوا عدا الأخير) . وكتب الله سبحانه وتعالى النصر الكبير للمسلمين في كليهما «1» . وهذا التسامي والتمايز والانتصار، مع التفاوت بكل ألوانه ومعداته لصالح الأعداء، مثله كان في كل ميادين الحياة، أظهره المسلمون وانتصروا بالإسلام وحده وتمكنوا فيه يوم التزموا به، امتدادا للنوعية التي رباها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكانت هي القدوة لغيرها من بعده. هي وهم ودوما يقتدون في أخذهم بهذا الدين وتعبيد أنفسهم لله رب العالمين، مقتدين برسوله الأمين صلّى الله عليه وسلم. وكانت تلك العصبة التي ضحّت وأقدمت للحفاظ على هذا الدين وحمله علما وعملا، وحرصت عليه وعضّت عليه بالنواجذ، وصلوا القمم التي يمكن أن يصلها الإنسان، لا يصلها إلا بهذا الدين، ليس فردا بل ومجتمعا. وتلك من معجزات الإسلام. وإنا لنجد ذلك ممتدا خلال العصور والأفراد. والمجتمعات الإسلامية لم تحرم منها في أي عصر ومصر. والقوى المعاصرة شرقا وغربا وامتداداتها، سماسرة وعملاء، يعرفون ذلك. فهم يمكرون ويبكّرون دوما بضرب أية محاولة وأية حركة تسعى لبعث إسلاميّ جديد، تريد إعادة إنشاء هذا اللون من الأجيال والمجتمعات وتعيد   (1) البداية والنهاية. الخلفاء الراشدون، الذهبي، القادسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 هذه الصولة إلى ميادين الحياة وإقامة أي مجال لمثل تلك الجولة، فيغلقون عليه الطرق ويسدون الأبواب، يمارسون كل سبيل مهما كان، لا يرعون في ذلك قانونا ولا يعرفون إلّا ولا يحفظون ذمة. فليعرف أهل هذا الدين وحماته وجنده ماذا يفعلون ومتى يصنعون وكيف يسلكون. * السيرة والتابعون وتابعوهم: فكان توريث السيرة جزآ من هذه الوراثة الفاضلة التي لم يتعلق بغيرها، وأنفقوا أعمارهم وبهاءهم وذكاءهم، واعتصروا طاقاتهم لأجلها، جهادا من أنواع الجهاد. كذلك حافظت الأجيال التالية على هذا الأمر، وحرصت عليه، ورغبت في إتمام ما يمكن أن ينقصها فوت الصحبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. فاجتمعت لديها الشمول في المعلومات والأخبار والأقوال والسلوك والشمائل من منابعها، صبّت في نهر السيرة، بفضل كافة أولئك الذين أنفقوا كل شيء من أجل جمع معلوماتها والتحقق منها وإسناد أخبارها وأقوالها. وابتدعوا لذلك علوما وأفانين، اعتبرت الأمة الإسلامية بها رائدة. لقد كان اهتمام الصحابة بالسيرة الشريفة المطهرة عجيبا وعظيما ومتزايدا. ولم يكن هؤلاء التابعون وتابعوهم بكل أجيالهم وحتى اليوم والحمد لله، وسيبقى كذلك دائما وأبدا، بفضل الله تعالى- بعيدا أو أقل من اهتمام الصحابة الكرام بهذا الأمر ولا أدنى محبة للسنة المطهرة والسيرة الشريفة وتعلقا بها وسعيا لمعرفتها وجهدا لتدوينها وهمة للمحافظة عليها- كتابة ودراسة وتدريسا- وبذلا للسير وراء مادتها. مثلما كان الصحابة يحرصون على ذلك في حياة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم صحبة ونقلا وتناقلا، أو بعد وفاته تثبيتا وتأكيدا وتحققا. ولأن الصحابة عاشوها وكان مصدرهم لمعرفتها تلك الصحبة، وغدوا هم مصدرها للأجيال والتاريخ. والقرآن الكريم طبعا هو المنبع، جرى نهره الزلال الصافي الأصيل إلى النفوس، برعاية السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 النبوية المطهرة والسيرة النبوية الشريفة، تبينها وتوضحها وتمثلها. * الصحابة أئمة ومثل وهم بالرسول صلّى الله عليه وسلّم مقتدون: ولو أخذت أيّة شريحة من الأحداث والأشخاص تجد عجبا، وفي أشد الأوقات وأصعب الأمور والوقائع، ومع ذلك نجد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أولهم وأكثرهم وأبعدهم احتمالا من أشدهم، وهذا في كل الصفات. فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسرعهم وأنجدهم وأشجعهم وأكرمهم وأورعهم وأعبدهم لله رب العالمين. ويروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قوله: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت (وقد استبرأ الخبر) وهو على فرس لأبي طلحة رضي الله عنه عري، ما عليه سرج، في عنقه السيف، وهو يقول: «لم تراعوا، لم تراعوا، ما رأينا من شيء وجدناه لبحرا» «1» ، فكان بعد ذلك لا يجارى!!!   (1) أخرجه الشيخان (البخاري ومسلم) . البخاري: كتاب الهبة، باب من استعار من الناس الفرس، رقم (2484) ، (2/ 926) . ومسلم: رقم (2526) . كذلك: الترمذي، أرقام (1685- 1687) . (جامع الأصول، رقم 8818، 11/ 247) . انظر: حياة الصحابة، (2/ 609) . تجد هناك أمثلة كثيرة، حيث يتحدث العديد من الصحابة عن صفات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتي منها في الغزوات. فيروي العديد منهم قولهم: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند أحمد والبيهقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس بأسا. كما كان أقربهم إلى العدو. انظر: البداية والنهاية، (6/ 37) . حياة الصحابة، (3/ 610) . «لبحر (بحر) » : واسع الجري. «استبرأ الخبر» : كشفه وحقق أمره. وكانت هذه الفرس لأبي طلحة. وهو زيد بن سهل الأنصاري (34 هـ) . وهو زوج أم سليم أم أنس بن مالك، وكان مهرها إسلامه. شهد العقبة الثانية (وكان أحد نقباء الأنصار الاثني عشر) وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان يعد من خيار المسلمين، معروف المواقف والمحبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكان راميا شديد النزع. وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ففي الخندق كان الصحابة رضوان الله عليهم- مهاجرين وأنصارا- يحفرون الخندق (شوال السنة الخامسة للهجرة) حول المدينة المنورة وينقلون التراب على متونهم، في غداة باردة، فرأى صلّى الله عليه وسلّم ما بهم من النّصب والجوع والبرد، قال: «اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة» «1» ، فقالوا مجيبين له مرتجزين مرددين: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا كانوا يقومون بكل ذلك وهم مجهدون. وكان مأكلهم بشعا ومنتنا والقوم جياع، مرت ثلاثة أيام لم يذوقوا ذواقا. ورأى الصحابة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم خمصا شديدا، وهو ينقل من تراب الخندق، وكان عمره المبارك نحو ثمان وخمسين سنة، والغبار يلفّه حتى أتمه. فأقبلت العرب بقيادة قريش في عشرة آلاف. والمسلمون لا يتجاوزوا الثلاثة آلاف. ونصر الله النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن معه. فكان عليه الصلاة والسلام يقول، ويهتف: «لا إله إلّا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعزّ جنده وغلب (وهزم) الأحزاب وحده فلا شيء بعده» «2» . في هذا الجو الرعيب الرهيب الكئيب، المحاط بالبرد والجوع والخوف، كان الصحابة أقوياء، يعملون في تلك الظروف، ونصرهم الله على عدوهم. وفي كل ذلك كان صلّى الله عليه وسلّم أكثرهم عملا وتحملا وإقداما. فهو   يجثو بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحرب ويقول: نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء، ثم ينثر كنانته بين يديه. وكان جهير الصوت (صيّتا) . وفي الحديث: «لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل» . وكان ردف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر. وعاش بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسرد الصوم حتى وفاته بالشام وهو ابن سبعين سنة. وإنه ركب البحر غازيا فمات شهيدا رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين. سبق الحديث عن أبي طلحة مع ذكر المصادر. انظر: أعلاه، ص 206- 207. (1) أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب، أرقام (3871 3874) . كذلك: البخاري، أرقام (3878- 3880) . وفي رواية يرد (الإسلام) : نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا (2) البخاري، رقم (3888) . انظر: أدناه، ص 371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 دائما، وفي كل شيء ووقت وظرف، خير قدوة وأسوة لأشدهم وأقواهم، فكان يغمرهم بمحبته ويرفع من هممهم ونفسياتهم ويبعث فيهم روحا متفتحة مقبلة. وكانوا هم يقتدونه ويحبونه ويتبعونه ويفتدونه ويؤثرونه ويطيعونه، ويسرعون متسابقين لطاعته. * حبّ متوارث طهور: هذا الحب والتضحية والالتزام ورّثه الصحابة الكرام لمن بعدهم. فلقد قال محمد بن كعب القرظي «1» : إن رجلا من أهل الكوفة قال لحذيفة بن اليمان «2» : يا أبا عبد الله أرأيتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحبتموه؟ قال: نعم يا بن أخي. قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا! «3» . فكيف لا يفعل المسلمون ذلك وأكثر منه. إنه الحب العميق الذي لم   (1) هو أبو حمزة بن كعب (108 هـ) من بني سليم القرظي (من بني قريظة) ثم الأوسي (من حلفاء الأوس) ، الكوفي (ولد ونشأ فيها) ثم المدني. كان أبوه كعب من سبي بني قريظة (الذين استحيوا إذ وجدوا لم ينبتوا (صغارا غير محاربين) . الاستيعاب، (3/ 1317) ، رقم (2194) . أسد الغابة، (4/ 479) . الإصابة، (3/ 297) ، رقم (7414) . ومحمد هذا تابعي، عالم بالتفسير ومن الأئمة فيه، الإمام العلامة الصادق، كان كبير القدر، موصوفا بالعلم والورع والصلاح. سير أعلام النبلاء، (5/ 65) . البداية والنهاية، (9/ 257) . عبر الذهبي، (1/ 124) (2) حذيفة بن اليمان (36 هـ) ، هو وأبوه من سادات الصحابة المهاجرين، وهو من الولاة الشجعان الفاتحين، وصاحب سر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنافقين. ولاه عمر المدائن، وطلب ما يكفيه من القوت. وأقام هناك وأصلح البلاد. وروى له أصحاب الصحاح الستة (225) حديثا. انظر: الاستيعاب، (1/ 334) ، رقم (492) . أسد الغابة، (1/ 468) ، رقم (1113) . سير أعلام النبلاء، (2/ 361) . (3) سيرة ابن هشام، (3/ 231- 232) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 يحدث أن أحدا أحب أحدا مثلما أحب الصحابة محمدا صلّى الله عليه وسلم «1» . وهكذا الأجيال التالية حتى يوم الدين، ونحن منهم إن شاء الله رب العالمين. بل إن آخرين وإن لم يسلموا أعظموه وتمنوا أن يخدموه، ومنهم من أسلم حين سمع أخباره. وكثير من الأحبار والرهبان وحتى من ملوكهم، من عملوا ذلك. كما فعل هرقل (قيصر الروم) ، الذي وجه إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابه، بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة يدعوهم للإسلام. فلقد روي عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- أنه أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كتب إلى هرقل (قيصر الروم) يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي (نحو 45 هـ) فقرئ الكتاب لهرقل، وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين. و: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] «2» » . وقد سأل هرقل عن صفات الرسول الكريم الحبيب صلّى الله عليه وسلّم وأمور دعوته، فعلم أنه النبي الحق وقال: «وهذه صفة النبي، وقد كنت أعلم أنه خارج ... فيوشك أن يملك موضع قدمي هذين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت (عن) قدميه» «3» .   (1) سبق ذكره حين الحديث عن خبيب بن عدي. (2) وأول الآية الكريمة قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ. (3) أخرجه البخاري: باب بدء الوحي، كتاب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، رقم (7) . كتاب الجهاد، باب دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام والنبوة، رقم (2782) ، (3/ 1074- 1076) . ومسلم: رقم (1773/ 3) . حياة الصحابة، (1/ 134) . والمراد بالأريسيين: الأتباع من رعاياه والأتباع من أهل مملكته. وتجد في هذا الخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وملوك آخرين قالوا شبه مقالته من أمثال النجاشي ملك الحبشة، وقريب من ذلك «باذان» ملك اليمن الفارسي. * عناية الأجيال بالسيرة: وعلى ذلك اعتنى السلف بالسيرة النبوية الشريفة اعتناء الطاعة لله والمحبة فيه واعتناء الذي يتعبد الله تعالى بذلك. فلقد ورد عن زين العابدين «1» علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا نعلّم مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما نعلّم السورة من القرآن) «2» . وكذلك ينقل عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قوله: (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول يا بنيّ هذه شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها) «3» . وكذلك الإمام محمد «4» بن مسلم بن شهاب الزّهري عالم الحجاز والشام، ومن أقدم من اعتنى بجمع السيرة،   قول هرقل: (ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغنّ ملكه ما تحت قدميّ) . (1) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (94 هـ 712 م) رضي الله عنه، من سادات التابعين، أمه سلافة بنت يزدجرد آخر ملوك فارس، مولده ووفاته بالمدينة المنورة، كان يقوت نحو مئة بيت سرا، فافتقد ذلك بعد موته. انظر سير أعلام النبلاء، (4/ 386) . البداية والنهاية، (9/ 103) . وفيات الأعيان، (3/ 266) . (2) السيرة النبوية، أبو شهبة، (10/ 8) . (3) البداية والنهاية، (3/ 242) . والذكر هنا يعني: الشرف. (4) محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري (124 هـ 742 م) من أعلام التابعين، رأى عشرة من الصحابة، وحفظ علم الفقهاء السبعة. فهو تابعي من أهل المدينة. كان يحفظ ألفين ومئتي حديث، نصفها مسند. وهو من أول من دون الحديث، وكان أعلم بالسنة في زمانه وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء. كتب عمر بن عبد العزيز عنه إلى الآفاق: (عليكم بابن شهاب هذا فإنكم لا تلقون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه) . انظر: سير أعلام النبلاء، (5/ 336) . البداية والنهاية (9/ 340) . وفيات الأعيان، (4/ 177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ولعله بسيرته- المفقودة أكثرها- يعتبر من أول المؤلفين في السيرة النبوية الشريفة في الإسلام، يقول: (في علم السيرة علم الدنيا والآخرة) «1» ، جعلها علما قائما بذاته. وهكذا هذه الكلمات كانت تعبيرا عن حقائق قائمة، ورثت تنفيذها وتطبيقها الأجيال التالية التي جعلت مكتبة السيرة النبوية عامرة مثل مكتبة السنة المطهرة، وكلاهما يتعانقان ويتداخلان. لقد كان هذا الاهتمام بالغا وشاملا ومتواصلا لأنه عبادة وللعبادة، ولمعرفة الإسلام كافة، بتطبيقاته العملية في الحياة بكل ميادينها وأمورها ومراميها. فالصحابة مثلما لم تتغير مستوياتهم بل تأكدت وتثبتت واجتهدت، يتبعه ونبع منه أنه لم يتغير تحريهم وتعلقهم ونوعيتهم وآفاقهم. وانظر ما فعله عقبة بن عامر الجهني «2» (58 هـ 678 م) الذي رحل من المدينة المنورة إلى مصر ليتحقق من أحدهم حديثا عنده من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتى واليها مسلمة «3» . فلما دعاه للراحة، قال لمسلمة: إني لم آتك زائرا، جئتك لحاجة، أتذكر يوم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (سمعته أنا وأنت) : «من علم   (1) انظر: البداية والنهاية، (3/ 243) . السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، (1/ 8) . (2) عن عقبة بن عامر الجهني، انظر: الإصابة، (2/ 489) ، رقم (5601) . أسد الغابة، (4/ 53) . رقم (3705) . سير أعلام النبلاء، (2/ 467) . وهو من مشاهير الصحابة، وكان رديف النبي صلّى الله عليه وسلم. ولي مصر (44- 47 هـ) ، وولي غزو البحر، وكان عالما مقرئا فصيحا شجاعا فقيها فرضيا راميا كاتبا شاعرا كبير الشأن. وهو أحد من جمع القرآن الكريم. روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين كثيرين. (3) وهو الصحابي الجليل مسلمة بن مخلّد (62 هـ 683 م) . تولى إمارة مصر سنة (47 هـ) إلى وفاته (وهو أول من جعل بنيان المنار في المساجد سنة ثلاث وخمسين) . المنار: أي التي هي محل التأذين في المنائر. عنه انظر: الاستيعاب، (3/ 1397) ، رقم (2403) . أسد الغابة، (5/ 174) ، رقم (4917) . سير أعلام النبلاء، (3/ 424) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة» ؟ قال: نعم، قال: لهذا جئت. ثم عاد لتوه إلى المدينة «1» . ومثل هذا متكرر في الصحابة ومن بعدهم. فعل ذلك جابر بن عبد الله ابن عمرو بن سلمة الأنصاري «2» . وكذلك فعله أبو أيوب الأنصاري «3» ، إذ قدم من المدينة إلى مصر لأخذ حديث عند صحابي آخر هناك ثم رجع إلى المدينة على راحلته قبل أن يحل رحله «4» . والأمثلة في ذلك كثيرة «5» . والصحابة قد ورّثوا هذا وغيره، مما تعلموه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلى من تلاهم من الأجيال. حيث ظلت كلماته صلّى الله عليه وسلّم ترن في آذانهم وصورته لا تفارقهم، والقرآن الكريم وسنته وسيرته صلّى الله عليه وسلّم في صدورهم تملأ نفوسهم وتعمّر قلوبهم. وعلى دربهم- في كل ذلك- سار التابعون ومن بعدهم. فدوّنت كل ذلك وكانت مقوّما من مقومات الحياة الإسلامية، لمجتمع الأمة وحضارتها، يرتقي الناس عندها ويمتازون بها ويتبارون فيها، وفي حلبتها يتسابقون، تعلما وتمسكا واقتداء وخبرة، يبذلون ما اكتسبوه من علمها، ويتعبون لاقتنائه ويقدّمونه لكل أحد وينادون عليه بسلوكهم وحسن   (1) حياة الصحابة، (3/ 198) . (2) جابر بن عبد الله بن عمرو بن سواد بن سلمة الأنصاري (74 هـ) . من مشاهير الصحابة وأحد المكثرين من الرواية. روى له أصحاب الصحاح الستة (1540) حديثا. شهد- هو وأبوه- العقبة الثانية، وأبوه أحد الاثني عشر نقيبا. وشهد هو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر من عشر غزوات. رحل إلى مصر والشام، من أجل حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واشترى بعيرا واشتد رحله وسار لأكثر من شهر من أجل ذلك، ثم عاد إلى المدينة، وكانت له في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حلقة علم. راجع: الإصابة، (1/ 213) ، رقم (1026) سير أعلام النبلاء، (3/ 189) . حياة الصحابة، (3/ 196) . (3) عن أبي أيوب، انظر: سير أعلام النبلاء، (2/ 402) . (4) مسند الإمام أحمد، (4/ 153) . سير أعلام النبلاء، ((3/ 425) . حياة الصحابة، (3/ 198) . (5) انظر: أضواء على الحضارة والتراث، لكاتب هذه السطور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الأسوة وصدق القدوة، وروعة المتابعة وحرص الانتهاج. وهذا أمر لا يختص بعصر دون غيره. والمسلم الآن بحمد الله مستريح، أن لم يحدث أي تفلّت لشيء مما يتعلق بتلك السيرة، فكان تسجيلا شاملا كاملا لكل ما صدر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. كأنه تسجيل يكاد أن يبلغك صوته، بل ترى كذلك صورته، ضمّ كلّ الدقائق والأحوال والأحداث، وكأنه شمل الزمن بكل لحظاته في نبوته الشريفة عليه الصلاة والسلام. وهو أمر مستمر، بعد أن قيض الله لهذه السيرة من يحفظها، حتى في جزئياتها، في ليل أو نهار في يقظة أو منام في سلّم أو حرب، وعلى كل اجتماع وطعام وانفراد أو انقياد، في كل الملتقيات، السكون والحركة والسكوت والكلام، حتى في بيته وخاصة نفسه وحاله وخصوصيات تصرفاته وأنواع رغباته وألوان عباداته ودعواته، وكافة أخلاقياته العطرة وشمائله الخيرة وعموم سيرته النيرة، مع كل أحد وفي كافة الأحوال، وفي تعاملاته مع الجميع في البيت مع أهله وفي الحياة مع صحبه وفي اللقاآت مع القادمين والذاهبين ومع المتوجهين إلى الأقوام والشعوب والجماعات والزعماء والرؤساء والملوك في كافة مقاماتهم ومواقفهم وأوضاعهم، طاعة لله بشرعه الذي أرسله الله سبحانه وتعالى به، وهو له خير قدوة، عبادة لله تعالى ومحبة فيه وسعيا لمرضاته. وفي كل الأحوال لا تكاد تترك لحظة من ليل أو نهار، طوال تلك الأعوام الكريمة المضيئة الوضيئة الثلاثة والعشرين، عمر النبوة الشريف المبارك والمباركة، والرسالة الفاضلة والوحي المترادف والصلة المستمرة بالله رب العالمين «1» .   (1) جرت العناية بالتأليف في السيرة النبوية الشريفة، باتساعها وشمولها وأبعادها، في كل العصور. وقد ضمت المؤلفات في كل هذه الجوانب واعتنت بها، ودققت بعمق واضح فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ويمكن على ذلك القول: إن هذه الصورة مستمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. صورتان متقابلتان، كأنهما واحدة: صورة الصحبة وصورة القدوة والأسوة. فطوال العصور الإسلامية عاصر المسلمون الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم وصاحبوه. الصحابة الكرام- رضوان الله عليهم- صاحبوه صحبة زمانية ومكانية، روحية ونفسية، وتلقوا عنه سماعا ورؤية ورواية، ففازوا بشرف الصحبة الذي لا شرف غيره بعده يدانيه، ويعلي هذه الصحبة وشرفها الإسلام الذي كانت به هذه الصحبة وشرفها الرفيع الفريد. ولقد جاء في صحيح البخاري قول الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» «1» . وهي جزء من شرف الإسلام كله لا يصح بدونه، والذين أتوا من بعدهم صاحبوه صلّى الله عليه وسلّم صحبة عملية، صاحبوه في سيرته صلّى الله عليه وسلّم علما وعملا وتأليفا في السيرة والسنة، يفهمون الكثير من أمور القرآن من خلالها، كما يفهمون السيرة من خلال القرآن الكريم. فهما طريقان متعاونان متعانقان ملتقيان. يؤدي كل منهما إلى الآخر، توافقا وتطابقا وتكاملا «2» . * وضوح أحداث السيرة: ولعل من لطف الله تعالى: أن حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل النبوة، كانت   (1) التفسير، (3/ 1575) ، (6/ 3484) . رواه البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا خليلا» ، رقم (3470) ، (3/ 1343) . ومسلم: أرقام (2540- 2541) . كذلك. زاد المعاد، (3/ 416) . سيرة ابن هشام، (3/ 431) . وسبق ذكره. (2) هذا الموضوع بحاجة إلى بحث مستقل نجد في كثير من كتب السنة المطهرة والحديث الشريف مادة طيبة عن السيرة الشريفة. انظر: السيرة النبوية، أبو شهبة، (1/ 27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 معروفة ليس فيها مجهول، يعرفها قومه وأهل بلده، منذ صغره، وبتفاصيل كثيرة، بل وبكل تفاصيلها. فهي واضحة مكشوفة مرئية بسهولة- ولذلك حكمة- وليس فحسب، كي لا يكون الرسول الخاتم والنبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم مجهولا، مما قد يثير شيئا من التّقوّل، وعلى غير أساس، لكنها بجانب ذلك كانت- بفضل الله تعالى ورعايته وتوجيهه- واضحة ملموسة، بطهارتها وصونها وتمايزها ومغايرتها لما ألف قومه، كي لا يكون فيها مجال للمتقولين، أو حجة للمتعللين، أو مدخل للطاعنين، بل تكون موضعا للمتيقنين، وهي دليل قوي بليغ مكين، مؤكد صدق نبوته. وهي أيضا أحد الأدلة، على أن يد الله كانت ترعاه، إعدادا لحمل هذه الرسالة الخاتمة إلى أهل الأرض أجمعين. وليس في عصره فحسب ولكن في كل العصور، إلى يوم الدين. فلا بد أن تكون كل هذه الأمور متوافرة متضافرة، بما يتناسب وهذه الرسالة الخاتمة الشاملة الكاملة، المتفردة الدائمة المهيمنة دوما. بحيث تكون كل أدلتها واضحة ويجد الجميع في كل العصور الأدلة القوية على كل اعتبار وأي اتجاه، بحيث لا تبقى في أي مسألة حجة لمعتذر بلغته رسالته أن يمتنع من الالتحاق بها، ويجد لذلك عذرا. وهذا طبعا بجانب الإسلام نفسه، وحيث كانت السيرة واحدة من ثمراته الطيبة. وكل ما فيه- ابتداء من القرآن الكريم وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حياته وسيرته وكل شمائله، كلها ليس فقط مجتمعه بل حتى كل واحدة بمفردها- تقود لذلك وتدل عليه بقوة ووضوح. والإسلام جاء بالأدلة المتنوعة العريضة تمتلك النفوس وتشملها، مهما كانت نوازعها ومنازعها. وإن موقع مثل هذه الرسالة بحاجة إلى كل تلك العناية الإلهية، والله تعالى أحكم وأعلم وأكرم وأرحم. وهذا أمر امتازت به هذه الرسالة الإسلامية الربانية، حتى على غيرها من رسالات الله. وهي خاتمها ومهيمنة عليها وناسخة لها، تدعو كل أهل الأرض للإيمان بها، يؤمن بها كل أحد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ويدعو أهل الرسالات السابقة. وهم أولى أن يؤمنوا بها، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم يقول: «أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علّات، ليس بيني وبينه نبي» وكذلك: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلّات، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد» «1» . * البشارات بالرسالة الخاتمة: فهي الرسالة الباقية الخالدة على مر الزمان قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] . لقد بين الله ذلك في القرآن الكريم، وكلمته هي القول الفصل الأخير. وبذلك أخبرت رسل الله بما أوحى سبحانه وتعالى إليهم، مبلغين عن الله تعالى. وقد بين الله في القرآن الكريم أن رسل الله جميعا- عليهم السلام- بشّروا به وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] . ولقد ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ... » «2» . فالله تعالى يقول في القرآن الكريم: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] . وكما يقول الله تعالى أيضا في القرآن الكريم: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ   (1) سبق ذكره أعلاه، ص 13. رواه البخاري، رقم (3258- 3259) . ومسلم، رقم (2365) . (2) مسند الإمام أحمد، (4/ 127، 128) . سبل الهدى، (1/ 112- 113) . طبقات ابن سعد، (1/ 149) . ورد في بعض الأقوال، أنه صلّى الله عليه وسلم: ترنيمة أو أنشودة داود عليه السلام؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصف: 6] ، وقال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] . ووردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى «1» . * عالمية الدعوة الإسلامية: ولا بد لمثل هذه الرسالة الربانية، والعناية الإلهية بها، باكتمالها وبالبشارات أن تسبقها، وأنها ليست فقط خاتمة كونها الأخيرة بل لأهل الأرض ودائمة. وهي باعتبارها نعمة، على أهل الأرض أن يسلكوا سبيلها ولا يقبل الله غيرها الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] . إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] . ولذلك فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعث بكتبه وسفرائه إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام، في وقت مبكر، وكان ذلك مقدمة وإشارة وإيضاح لما سيكون بعده، ولقيام مواكب الفتح الإسلامي. ومن هؤلاء الرسل حاطب بن أبي بلتعة (30 هـ) رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المقوقس حاكم مصر بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، ونصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم (وأسلم) يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فعليك إثم القبط قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا   (1) السيرة النبوية، الذهبي، (42) . وانظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، (1/ 178) ، (247- 254) . تحفة الأريب، (256، 267) . السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 248) . قصص الأنبياء، (441) وبعدها. وانظر: أعلاه تجد تفصيلات أوسع ونصوصا أكثر وشرحا أوفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] » «1» . وكان مما قاله حاطب للمقوقس مما يشير إلى وضوح البشارة عنده برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإنجيل: (ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إيّاك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوما فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركت هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به) «2» . كل ذلك واضح، وأقر به، ولكن أهل الدعوة أولى بالكتابة عن هذه السيرة وكل متعلقاتها، وهذه القضية منها، وهم أمناء عرفوا بذلك. فإذا كانوا أمناء على حقوق غيرهم فهم على هذا آمن. وهو أمر متصل بالله تعالى، وهم يخافونه ويتقونه ويبحثون عن رضاه. فإنهم أهل الموضوعية الحقة، بكل مواصفاتها وجلائها وجلالتها وضيائها. رواه الصحابة، وهم أمناء شهداء عيان لجوانب السيرة كافة، وهي عملية، والأقوال صورة لها. وإبراز الجانب العملي في السيرة وفي حياة المسلمين، إن هو إلا مواكبة لآفاق السيرة في حقائقها ووقائعها وفي عرضها والاستواء معها، في دراستها وفهم مضامينها ومكنوناتها وموقعها. فهي سيرة تحمل معنى السلوك العملي والتطبيق للتعليمات والتعين للآيات وطريقة السير في الحياة بهذا الدين، وهي بجانب كونها السيرة العملية للأقوال، فهي تشمل أكبر الخير. ولو أخذنا السّنة فهي تشمل القول والعمل والتقرير، بل السيرة لتتسع- وإن اتسعت لها ولغيرها السنة- لكنها أحيانا لتتسع حتى لعلها تزيد جانبا أو   (1) زاد المعاد، (3/ 691) ، مجموعة الوثائق السياسية، (135- 136) . حياة الصحابة، (1/ 140) . (2) زاد المعاد (3/ 691) . أسد الغابة، (1/ 431- 433) ، رقم (1011) . السيرة النبوية، الندوي، (252- 254) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أكثر على السنة من بعض الوجوه، فإن تداخلت فهي لها جوانب أخرى. وكذلك الصحابة كانت أفعالهم أكثر من أقوالهم. إن المكانة التي يمثلها بلال تقوم على المواقف والفعال، نحبها ونتأثر بها وعلى دربها نسير إن شاء الله تعالى. ويوم وقف عثمان بن عفان رضي الله عنه على المنبر أرتج عليه لكنه قال وقتها: (أنتم إلى إمام فعّال أحوج منه إلى إمام قوّال) ثم نزل. فكل ذلك يقوم على العمل بالإسلام الذي جاء لأجله. فتقوم الحياة الإنسانية على عقيدته وشريعته ومنهجه، وتتحقق صورتها في الحياة والواقع، عملية تراها وتحياها وتلمسها وتحسها وتعايشها ناطقة معبرة. مثلما تقدّم تلك للأمور والحياة جديتها ومصداقيتها وقيمة ما فيها، كما هي تعطي للإنسان صورته الحقة الكريمة اللائقة وتقويه في حسن التعبير ودقته وجديته، وتنقذه مما دونها. ولقد يدخل الجنة أكثر من واحد، ولم يركع لله ركعة، منهم الأصيرم، الذي استشهد في معركة أحد «1» . فإن تحويل المعلومات الإسلامية- بعد الإيمان بها- إلى صورة عملية هي الهم الأكبر والأهم في الأمر وإعطائه القيامة والوضع الحقيقي والجدية والقوة. إن التلقي العملي، منه تستنبط الأحكام، ومنها الرؤية لطبيعة المعلومات ونوعيتها وتطبيقها. فكان المسلم لا يستمر في تعلم جديد، إلا بعد العمل بما سبقت معرفته، وتحول علمه إلى كتلة من العمل في كل حال، به يتحرك وله يغضب ومن أجله يفرح ويحزن ويحيا ويموت. وقد نقل العديد من المفسرين عن الصحابة الكرام أنهم كانوا إذا تعلموا آيات من القرآن الكريم وعلموا ما فيها يعملون بها تنفيذا، ثم بعدها يحفظون غيرها، وهكذا (تعلّمنا القرآن والعمل به) «2» .   (1) سيرة ابن هشام، (3/ 90) . (2) سبق ذكره. تفسير القرآن، الطبري، (1/ 36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 إن استعراضك للسيرة الشريفة إنما هي لرؤية المشاهد متسلسلة الحلقات متصلة، من العمل الجاد والمصابرة والجهاد والبذل والاستشهاد والمواجهة والثبات، أمام كل ألوان الاضطهاد والصعوبات والمشاكل والقدرات والمؤامرات، والاستعلاء بهذا الدين عن كل التّرّهات والوهدات. فكان الصحابة هم الجيل القدوة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة لهم في ذلك كله، القدوة المثلى والأسوة الحسنى والجانب العملي هو مثاله لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21] . وهكذا يقوم الأمر على أسس ومقومات ودعائم ويؤدّى بصيغ معروفة ويتميز بصفته الجميلة الجليلة. يقوم على الإيمان بالله تعالى ومحبته وطلب رضاه، فتكون الانطلاقة الصحيحة في الحياة في خطى ثابتة وفي درب سليم مأمون. وهذا ما نجده في السيرة النبوية الشريفة في الحياة الإسلامية ومجتمعها، وهي أفضل صورة اقتدت بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لتبقى حياة ذلك المجتمع والجيل قدوة لما يتلوها من أجيال في كل العصور والمواقع والمناطق، تحبه وتحييه وتنظر نحوه، تبقى تهتف إليه وتعمل لبلوغه واللحاق بأهله. * السيرة ونسج المثال: وتبقى السيرة الشريفة المثال الموحى به، لم ينسج على منوال، وهو في غاية الكمال. والعلماء جعلوا العلم، غير كاف وحده، شرطا لتولي المسؤوليات، ولا بد من التقوى والورع. والإسلام يوجب صفات، منها: الإحسان لكل أحد حتى مع العدو، ويطلب منه عدم مواجهة السوء بمثله بل بالحسن. ويرفض من المسلم صفات كالكذب والجبن والبخل والغدر والخيانة والفرار من لقاء العدو (الفرار يوم الزحف) والتخلف عن نصرة الإسلام وأهله. فتجد المسلم دوما أقرب إلى الصدق والشجاعة والكرم والوفاء والأمانة والقيام للعدو والإقدام لنصرة الإسلام وأهله. وإن تفاوتوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 في ذلك، لكنهم لا يهبطون عن الحد الأدنى. والأحاديث الشريفة كثيرة في بيان صفات تلازم المؤمن، وعكس لغيره كالمنافقين. ولقد تواترت الأحاديث الشريفة في ذلك. والرسول صلى الله عليه وسلم يشير في بعضها إلى أن «المؤمن إذا حدّث صدق وإذا وعد وفّى وإذا اؤتمن أدى ... » «1» . * السيرة ونفس المسلم: وهذه السيرة تملأ نفس المسلم بالمحبة لله تعالى وقرآنه وشرعه ومنهجه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وسنته وسيرته الشريفة. يهتم بكل ذلك ويسلك كل سبيل، ليس فقط للأخذ به والتمسك والالتزام والدعوة إليه وبما يخدمها وينشرها ويعرّف بها، وهو من الدعوة وإليها. وللدعوة وسائل منها التأليف والكتابة، في كل تلك الأمور وغيرها، مما يتعلق بالإسلام، باعتبارها دين وعبادة ومحبة وعشقا وتعبدا ورقة، بل وقبل ذلك الالتزام والوقوف عند حدود الله تعالى وسنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. والكتابة والتأليف من هذا الحرص المشوق، ومنه الكتابة في السيرة التي تنبع من هذا الاتجاه، الكتابة بمحبة وهيبة وتقوى وخشية لله سبحانه وتعالى ومحبة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تملأ النفس، قربى وعبادة لله جل جلاله «2» . * تفسير السيرة ومكانتها: السيرة هي التفسير الواقعي العملي المثالي الشامل الكامل للقرآن الكريم وبكل شروحه وتفصيلاته وبياناته «3» .   (1) مأخوذ بمؤداه ومعناه. (2) مهما كتب المسلمون (وغيرهم) ففيها دوما مجال للجديد. (3) لا بد لمن يتولى الكتابة في السيرة النبوية الشريفة والتاريخ الإسلامي عموما أن يحوز مؤهلات متنوعة، منها- وليست وحدها- العلمية والتخصصية والتعبدية. انظر: كتاب: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، وكتاب: تاريخنا من يكتبه، وكتاب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 السيرة منها جرت واستمدت سيرة التاريخ الإسلامي، بها موضوعات هذا التاريخ أولها السيرة النبوية الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- وهي جماله وكماله وتاجه، مثلما هي مهيمنة عليه وصفحة البدء الناصعة فيه. وحافظ عليها المسلمون وحفظوها، تفتحت لها نفوسهم، وبالإسلام، وبدفعها الميمون فتحوا العالمين. والحمد لله في البدء والختام، وعلى رسولنا أفضل الصلاة وأتم السلام.   أضواء على الحضارة والتراث، لكاتب هذه السطور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 * المبحث الرابع ولادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولادة تتبعها ولادة * فاتحة وافتتاح * هذا الاحتفال * أهمية المناسبات * مولد واقتران * تفكر وتفكر * الإسلام وحده هو الشرف * معنى الاحتفال بالمولد الشريف * هيمنة القرآن وإمامة الإسلام * يا حسرة على العباد * ولادة وولادة * المسلم قويّ بهذا الدين * أمة القرآن عودي للقرآن * الحياة البشرية من الجاهلية إلى الإنسانية * المثل والأمثلة * الشرود عن منهج الله تعالى هو الدمار * النجاة بهذا الدين وحده * مهمة المسلم وآفاقه وقوته * كيف السبيل * أداء حق أمانة الدعوة الإسلامية الكريمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ولادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولادة تتبعها ولادة * فاتحة وافتتاح: الحمد لله رب العالمين، هدانا لدينه القويم، وشرّفنا بدعوة الإسلام العظيم، حملها إلينا خاتم الأنبياء والمرسلين؛ الذي أرسله الله إلينا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45- 46] محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى الخلق أجمعين، رحمة مهداة، ونعمة مسداة، بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض كافة، وحمّله إبلاغ هذه الرسالة المباركة إليهم جميعا، فأحسن إبلاغها، فأدّاها نعم الأداء، وجاهد فيها حقّ الجهاد، لا يهدأ ولا يلين. وبكتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تربّى ذلك الجيل القرآني الفريد؛ الذي أقام دولة الإسلام، ورّثوها لمن بعدهم، وحملها المسلمون- ويحملونها- جيلا بعد جيل، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. * هذا الاحتفال: وحين نحتفل «1» اليوم بمولد هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إنما لنستحثّ أنفسنا، وندعوها إلى السير على الطريق، طريق الله المنير وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] وأنه المحجة البيضاء التي تركنا عليها   (1) ألقيت منذ سنوات في حفل جامعي (جامعة الإمارات) ، ثم رتبت وزيدت، فتضاعفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك «1» . * أهمية المناسبات: إنه لا يليق بالمسلم أن يعرف من هذا الدين مناسباته. ومن لا يتذكرون إسلامهم إلا في المناسبات، ليسوا أهلا لنصرته ودعوته، لكن المرجوّ أن تكون هذه المناسبات وقفة لإعادة النظر وإعمال الفكر؛ أن تكون نفحة تغسل الآثام، وتحرك النفوس للتوجّه إلى دين الله، والأخذ بكتاب الله، واتباع هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ولا يجب أن يشغلهم عنه أيّ شيء مهما كان، كما لا يصح أن يغنيهم عنه- أيّ غنى- أيّ منهج، مهما ادّعى وتبجح، فمنهج الله تعالى هو عدتهم وعدّة الإنسانية جميعا في كل العصور، وهو المنهج الوحيد الذي يجلب لها في الدنيا سيادة، وفي الآخرة سعادة. وحين تسمو نفس المسلم إلى هذا المستوى، وتشرئب إلى هذا الأفق، تكون في غنى عن مناسبات تذكّرها، فبين يديه كتاب الله، مصدرا ومرجعا ومنهجا، يعيش معه صاحبا كريما ناصحا أمينا، نورا وبصيرة، يسترشده في كل أمر، ويستوضحه في كل شأن. وما كان لهذه المناسبات من مكانة تربّعت عليها؛ إلّا لفقر في نفوس المسلمين، وخواء في أحوالهم وأفعالهم وتمسّكهم، وإلّا فالمسلم يحيا بعقله وقلبه وعقيدته وعبادته، مثلما يحيا بفكره وتصوره وسلوكه وكل حياته، مع القرآن الكريم ومع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سنّته وسيرته. وكلّ ذلك حيّ في ضميره، تماما كما هو حيّ في سلوكه، وحبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطاعته، عقيدة وعبادة. وهي من حب الله وطاعته ودينه وشريعته.   (1) المعنى مأخوذ من حديث شريف للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم رواه العديد، منهم الإمام أحمد في مسنده (4/ 126) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وبذلك يعلن محبة الخير للناس، ويعمل على دعوتهم بقوله وفعله، ولا خير إلّا بهذا الفهم والمسلك. وما كان المسلم يكره من المخالفين إنسانيتهم، بل يكره باطلهم وفسادهم. وإن ما وهبهم الله من نعم الدنيا برحمته، وفتح من إمكانيات بحكمته، لا يغنيهم في الدنيا ولا في الآخرة، بل الأمر أشد وأكبر. وكلّ ذلك حجّة عليهم، إذ كان لا بدّ أن يكون سببا لإدراكهم حكمة الله في الإنسان والحياة واستيعابها، فلا ينصرفون عن حكمه وشرعه، بل يقبلون عليه، وفيه وحده النجاة والسعادة في الدارين. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ «1» [المؤمنون: 53- 61] . وهكذا لقد وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما- في أوائل الدعوة المكية- يعلن لمن حوله حقائق هذه الدعوة العالمية، وديمومتها، وصدقها، وأحقيتها، فقال: «إنّ الرائد لا يكذب أهله، والله! لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم. والله الذي لا إله إلا هو! إني رسول الله إليكم خاصّة وإلى الناس كافة. والله! لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزونّ بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوآ، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا» «2» . * مولد واقتران: ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل، الذي تعرفون- أيها الأخوة- قصّته   (1) التفسير (4/ 2471) وبعدها. (2) سبل الهدى والرشاد (2/ 432) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وخبره. وقد استنتج واستنبع الدارسون- قدماء ومحدثون- من ماجرياته الكثير من هذا الاقتران، بين الحادثة والمولد، وما زال فيها متسع. فليس هذا الاقتران محض اتفاق، أيّ اتفاق، لكنه إشارة من الله تعالى لهذه الولادة الكريمة، وما جرى فيها من معان، كان منها التكريم لتلك الولادة، والتنويه بها، وإظهار مكانتها، والإعلاء لشأنها وما تنتظرها. فاحتملت قصة الفيل فضيلة النصر الذي أراده الله، وتمّ بمعجزة منه سبحانه وتعالى، سنّة خارقة. فإن الله ناصر دينه وحام حماه، وإن الدين الذي سيتّخذ- بإرادة الله سبحانه وتعالى- من الكعبة قبلة، ومن مكة حضانة، ومن مواقعها وحيا، سيتولاه ويتولاها الله بنصره، وستبقى قبلة يحميها الله من الآثمين، وينقذها من الوثنيين وأوثانهم؛ لتفئ إلى دين الله، وذلك بشارة أو إشارة إلى نبوة هذا الرسول الوليد، والوليد الرسول صلّى الله عليه وسلم. وإنّ أهل الدّين مهما ظنوا أو تخلّوا عن دين الله، فسنن الله في نصره كثيرة، سنّة معتادة جارية أو سنّة خارقة، فكلّها سنن من خلق الله معجزة، يجريها كيف يشاء، فإذا انحرفوا أو تخلّوا عن دعوته أو دولته أو عبادته وطاعته، وأحاط الخطر بهذا الدّين، فإن الله تعالى يتولى نصره بدونهم. وحتى لو أهمله أهله، فهو في رعاية الله سبحانه وتعالى، يتولّى حمايته، رغم إعراضهم وإهمالهم. والنّصر كلّه من عند الله الجليل سبحانه وتعالى، بهم أو بغيرهم أو بدونهم، فهو العليّ القدير سبحانه، ناصر دينه، فلله تعالى سنن وحكم. وهذا تنبيه إلى أولئك الذين عبدوا الأصنام المتعددة. وهم قد أدركوا حوادث الفيل والطير والأبابيل وحجارة السّجّيل «1» ؛ زمانا، وشاهدوها عيانا. وكان عليهم- وهم من ورثة دين إبراهيم، عليه السلام، وادّعوا   (1) اقرأ سورة الفيل، وهي سورة مكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فضيلة الأهلية لذلك، فسمّوا أنفسهم الحمس «1» - أن يتبصّروا في حكمتها، ويدركوا أبعادها، بأي مقدار، ففيها التنبيه الذي يجعلهم- لو عقلوه- أقرب إلى دين الله الواحد، وأسهل في التخلي عن تلك الأصنام، وأقبل وأميل إلى الخروج من حياة الجاهلية للدخول في دين الله، وليكونوا في إحساس من نعمة الله عليهم، تجعلهم أسرع استجابة إلى الله سبحانه وتعالى، وما أنزل جلّت قدرته من دين، وأرسل من رسول صلّى الله عليه وسلم، لا أن يواجهوه ويكونوا من ألدّ أعدائه، فلا أقلّ من أن يدعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويخلّوا بينه وبين الناس. * تفكر وتفكر: ولكن للأسف لقد كان الأمر على غير هذا السبيل؛ الذي كان التفكير فيه أن يكون أصيلا بعيدا عن التنكّر، وبذلك الشكل العنيد. وحين قام فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم بكتاب الله سبحانه وتعالى، وكان فيهم معروفا وبينهم موصوفا، تنكروا له، وحاربوه وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن: 19] . فكانت لهم- ولكل أحد بعدهم- عبرة، من أن أيّ قوم، وأهل أيّ دين، إذا تنكروا وتمردوا وجهلوا وضلوا ورفضوا أو أعرضوا عن نصرته أو حاربوه، فإن الله ناصره، يهيّئ من ينصره أو ما ينصره. وإن إقرارهم- بأيّ مقدار- بأحقيقته وواقعيته وتخلّفهم عن نصرته، لن ولا ولم تغن عنهم من الله شيئا، وقد تضعهم في صفّ أعداء الله، فليس في دين الله أنصاف، ولا في حياة المسلم مساومة ولا متاركة ولا إجازة، وإننا   (1) «الحمس» : جمع أحمس، وهو الصّلب المتشدّد في الدين والقتال. وهو لقب أطلقته قريش في الجاهلية على نفسها، وانضمت فيه إليهم قبائل أخرى؛ لزعمهم أنهم أهل الحرم، فخصّوا أنفسهم بشعائر ومشاعر، أخذا وتركا أو حلّا وحرمة. فأباحوا لأنفسهم- ومن التحق بهم- ترك الوقوف في عرفة والإفاضة فيها. راجع السيرة النبوية، ابن هشام (1/ 199) وبعدها. أدناه، ص 390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 لا نجد في دين الله موطنا للمبرقعين والمرقّعين والأدعياء والمدّعين. إن الله تعالى لا يقبل من المسلم إلا الإسلام الخالص والتوجّه الكامل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «1» [البقرة: 208] . والذين يعدون أنفسهم مسلمين لا بد أن تكون كلّ حياتهم على نهج هذا الدين، لا يرضون به بديلا ولا عنه تحويلا، ولا في جزء من جزئياته، وذلك شأن كلّ من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم نبيا ورسولا «2» . ولا يظن أحد أنه إذا ما تخلى عن دين الله- كائنا من كانت مكانته أو مقداره أو قوته- أنه يؤخّر ولادة الحياة الإسلامية، وإقامة دولة القرآن. فأن فعل أو بدا له، فقد توهّم السّراب ماء وأضلّ نفسه وخسر. إن نور الله لا يحجبه الضالون، ولا يوقفه التائهون، ولكن لله سننا ماضية، ولكل شيء عنده أجل مقدور ومعلوم، ويأتي نصره بتقدير منه سبحانه وتعالى. ولله تعالى في كونه وخلقه ودعوته وجنده سنن. لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد: 38] وعند الله الحساب وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ [المؤمنون: 41- 42] . فلو أعرض أهل الأرض جميعا عن دين الله- وهم عند ذلك الخاسرون، في الدنيا والآخرة- فإن الله تعالى سيسخّر كلّ شيء، وسيشقّق الأرض لتخرج الأبطال، من النساء والرجال والولدان والأطفال- لو اقتضى الأمر ذلك، وأراده الله سبحانه وتعالى- يحملون الراية في كتيبة خضراء، يفتدون هذا   (1) «السلم» : يعني الإسلام. (2) من حديث شريف رواه: مسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد في المسند (4/ 337، 5/ 367) . ونص الحديث عنده: «ما من عبد مسلم يقول ثلاث مرات حين يمسي أو يصبح: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، إلا كان حقا على الله عز وجل أن يرضيه يوم القيامة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الدين منذ البداية، ينظّفون الأرض من أوضارها، ويطهرونها من أدناسها. ولكل حادثة رواية، ولكل طاغية باغية نهاية. وذلك وعد الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] . * الإسلام وحده هو الشرف: إنه لاستشراف وشرف أن يقف المسلم هذا الموقف الطاهر وبالقلب العامر- في أية مناسبة كانت- يدعو إلى الله ويعاهده، متكلما أو مستمعا، يدعوه بقلبه وبفعله وبنيته وبحياته وبقلمه وعلمه، أن يعمل لهذا الدّين، ويكون في عداد المجاهدين، يعتبر نفسه في سبيل الله جنديا، ويرضى أن يكون لدينه برهانا. والمسلم الذي يتجه إلى القرآن، محبّا لله ورسوله صلّى الله عليه وسلم، حبّا يملك عليه نفسه، ويملأ به رأسه، ويحرّك حسّه ويجعل له بأسه وجهده وجهاده، يصبح الإنسان الحيّ، حيّا في الدنيا بالحق والنور، وحيّا في الآخرة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] . فدعوة الله تعالى هي الحياة الحقّة في الدنيا ويوم الدين، وما عدا هذه الدعوة هو الموت الأكيد أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122] . * معنى الاحتفال بالمولد الشريف: إننا حين نحتفل بمولد رسول الإنسانية، وقائد البشرية صلّى الله عليه وسلّم فذلك يسلمنا إلى ألانرضى بغيره قائدا وزعيما، ولا نعيش بدونه هاديا أمينا، مبلّغا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الله تعالى هذه الرسالة، وداعيا لكتاب الله القرآن الكريم، وعند ذلك يحق لنا الهتاف بزعامة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسولا نبيا، حبّا وطاعة، ويتوجّب اتّباعه، عبادة نتقرب بها إلى الله، ونتعبّد الله بذلك، سبحانه وتعالى، وجل جلاله، وعمّ نواله، وعزّت قدرته. إنّ احتفالنا بمولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، باعتبار نبوّته؛ التي كانت ولادته لها وما تلاها إعدادا لحملها، واستعدادا لإبلاغها، كان ذلك في علم الله؛ الذي اصطفاه، وأعدّه سبحانه؛ ليحمل هذه الرسالة، ويتلقّى عن ربّه قرآنا، معجزة الله الخالدة، يجاهد فيه، ويقيم دولة القرآن، ربّى عليه الأجناد، وعبّد لله العباد. * هيمنة القرآن وإمامة الإسلام: فحقّ لهم- ولنا ولكل المسلمين في كل زمان ومكان- أن يهتفوا بإمامة القرآن وهيمنته، كتابا هاديا، ودستورا مضيئا، لا نفرّط فيه، ولا نتحوّل عنه. وعلى ذلك تربّى صحابة رسول الله الكرام صلّى الله عليه وسلّم وورّثوه للأجيال التالية، وما زال- وسيبقى بعون الله تعالى- هذا القرآن، وهو كتاب الإنسانية، نفتديه على الدوام، وهو الذي آمنت به الجنّ إذ سمعته قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الجن: 1- 2] . فهو كتابنا، وهو قرآننا، إماما وهاديا، نفتديه على الدوام. وتتتابع في حمله الشعوب والأمم، وتتلاحم في أمّته، فتحيا به الأجيال، متحضّرة سعيدة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وسارت أمة القرآن تحميه، وتفديه، وتستلهمه، وتستهديه في دولة القرآن. وحين ضعف الأخذ به، والالتزام بأحكامه، ضعف حال أهله بنفس المقدار، حتى دالت هذه الدولة- بعيدا أو غير بعيد- بعوامل داخلية وخارجية، ولحكمة أرادها الله تعالى، وهو الحكيم العليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 لا نريد من مسلمة اليوم- في أية بقعة من بقاعهم- لا سيما الناطقين بالعربية- باعتبار معرفتهم لهذا القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة الشريفة، وشريعة هذا الدين، لمعرفتهم وفهمهم لغته- أن يكونوا آخر الركب التحاما بدعوة الإسلام، كما لا نريد أن يكون- هم وغيرهم وكل أمته إسلامهم باهتا، أو نائما، أو غائبا، فسيوقفهم الله سبحانه وتعالى، وسيسألهم عن كل ذلك، ويجزيهم بما يستحقون وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: 24] . إنّ أمّة تملك كتاب الله، كيف تهمله؟! كيف يشغلها عنه شاغل، أو يحول بينها وبينه حائل؟! إنها مدعوّة لتعيد قراءته، إن كانت قد قرأت، تقرؤه بكلّ حواسها ومشاعرها وبكل كيانها، تتذوقه، وتتفهمه، وتتمثله، وتأخذه شاملا، وتقبل عليه بكليتها، وتتعبّد الله به، باتخاذه منهجا، والاستمداد منه شريعة. فلا يصحّ للمسلم أن يحفظ هذا الكتاب في السطور أو الصدور، ولا يكون عنده حيّا في الشعور، ولا أن يحمله أوراقا ويهمله أخلاقا، أو يعرفه كلاما ويتركه أحكاما. * يا حسرة على العباد: إن الذي يهمل القرآن الكريم، ثم يذهب ليستجدي فتات القوانين، كمن يعاف الحلال الطيب في داره إلى جنبه، ويبحث عن اللحم الحرام! وكمن يملك الماء الزلال ويتركه ويهمله؛ ليرتاد آسن المستنقعات! وكمن عنده كنوز المال الحلال وخزائن الثروات، ثم يطلب الرّبا، به يقتات! فيهلك نفسه ويهلك من معه، نعوذ بالله، ووقانا منه. كيف يحدث ذلك أم كيف يكون؟! وماذا يقول المسلم أمام هذا الشجن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 والشّجون؟!! فاقرأ معي قول الله سبحانه وتعالى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ «1» [البقرة: 275] . يا حسرة على العباد! بأيديهم كتاب الله سبحانه وتعالى، فيه شفاء من كلّ داء، وصحة في كل ميدان، وتقدم نحو أرقى أفق وسعادة في الدارين، ويبحثون عند أهل الأدواء- في الدنيا والآخرة- ما يشفيهم. والوضع الطبيعي أن يتولّوا- هم حفظة وحملة وأهل هذا الكتاب الرباني الكريم- علاج أهل الأدواء. وعلى ذلك فعند أهله المسلمين وحدهم- بهذا الكتاب الكريم- العلاج، أنزله الله شفاء وضياء وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] . * ولادة وولادة: وحين نحتفل بولادة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم إنما نحتفل بنبوته ورسالته ودعوته وبنزول القرآن عليه؛ الذي كان نزوله من عند الله سبحانه، رحمة منه عز وجل، ونعمة، ومنّة مباركة، فهو بداية الولادة المحتفى بها؛ ولادة الإنسان القرآني الرباني. حمل هذا القرآن إلى الإنسان والإنسانية؛ في نوعيتها الجديدة، وولادتها الجديدة، ذلك المولود العظيم والنبيّ الكريم صلى الله عليه وسلّم الذي نحتفي اليوم بولادته، وبهذه الدعوة كانت ولادات الحيوات الفاضلة (جمع حياة) والحضارة الرافلة، بتعاليم هذا القرآن، وبمنهج الإسلام وشريعته كانت ولادة الإنسان الجديد. وعندها ابتدأ الطريق لولادة الإنسان الجديد والحضارة الفريدة، ولادة الحياة الإسلامية، وقيام الدولة القرآنية.   (1) انظر: التفسير (1/ 318- 333، 472- 478، 2/ 803، 2771- 2772) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فنزول القرآن الكريم هو بداية المولد بعد المولد، مولد الإنسان الربّاني الذي تربّى بهذا القرآن. ومع أن الله تعالى أراد لدينه النصر ووعد به، لكنه جعل ذلك حسب سننه الحكيمة التي وضعها، وكان هذا واضحا ومستيقنا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، بما أوحاه الله إليه، وقد علّمه للمسلمين الذين وعوه، لكنهم جاهدوا معه حق الجهاد، وكان أحدهم يستقلّ نفسه في سبيل الله، حتى إن المسلم ليتمنى أن يستجمع عمره لينفقه في أي حدث أو موقف أو حال أو معركة، دفاعا عن الإسلام، وتحقيقا لنصرته، وطلبا للشّهادة في سبيل الله سبحانه وتعالى. ومع أنّ ذلك كان واضحا، ومع أن المسلمين جميعا كانوا على يقين من تحقيق وعد الله بالنصر، إلا أنّهم أيضا كانوا على يقين وقناعة مما عليهم أن يقدّموه في سبيل الله، عشقا حقا، وغراما صدقا وفداء ووفاء وإقبالا وتنافسا، ليقوم المجتمع الإسلامي، ويا بنى وجوده، وتقوم دولة الإسلام، وترتفع راية القرآن، وعند الله خير الجزاء في الجنان إلى جوار الرحمن سبحانه وتعالى. فإنّ تلك سنّة الله، وهي كذلك تماما تحقيق لمقتضيات الإيمان، ونصرة لدولة القرآن، وتقديم لافتداء العاشق الولهان. فما كان يفكر أحدهم في النكوص؛ الذي ليس هو من صفات المؤمن، ولا ينظر أبدا في التّراجع، وقد برّأهم الله من ذلك. وهم الذين اجتنبوا السبع الموبقات، ومنها التّولّي يوم الزّحف «1» . فكان الإقبال كاملا، والمحبة عميقة، تدفع المؤمن ليطير إلى كل أفق كريم، وسط الأعاصير يزاحمها، وفوق الأمواج يعلوها، ويمتطيها، وبين الأسنّة يقارعها، ونحو القمم يجاورها ويحاورها.   (1) من حديث شريف رواه البخاري (رقم 2615) ونصه: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الهول في دربي وفي هدفي ... وأظل أمضي غير مضطرب ما كنت من نفسي على خور ... أو كنت من ربي على ريب ما في المنايا ما أحاذره ... الله ملء القصد والأرب «1» ولا بدّ للأمل من عمل، يتجه به المسلم إلى الله تعالى العزيز الكريم، وإن المسلم لا يستمدّ أمله مما حوله كثرة وقلة، وإنما يستمدّ ذلك من الإيمان بالله سبحانه، مصدر القوى ومنزل النصر من خلال التمسّك بحقيقة هذا الدين. كما يستمدها مما أودع الله جل جلاله فيما أنزله من منهج كريم وعظيم، وهذه هي بكل وضوح حقيقة هذا الدين. وكذلك من الاقتداء بسيّد الأنبياء، وإمام المرسلين محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم وعليهم جميعا، وبعد ذلك السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين. المسلم قويّ بهذا الدين: وكان هذا هو الأمل بنصر الله، وعليه يقوم، وبه يحيا شعور المسلمين، يوم كانوا قلّة مطاردة مضطهدة. مثلما كانوا يوم قامت دولتهم، دولة الإسلام. وحتى يوم قامت لم تكن تملك شيئا في مادياتها، وغير مادياتها، بجانب الدول الآخرى وإمكانياتها. وكان الحديث في غير دولة القرآن، عن مقارعة تلك الدول، أشدّ إيغالا من الخرافة المغرقة. فأقبلوا على دين الله لا يخافون على شيء، ولا يخشون من شيء، وآجالهم وأرزاقهم وحياتهم بيد الله، وقد جاء في معنى الحديث الشريف: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب» «2» . وكذا زيّنوا حياتهم بدين الله، وأعدّوا أنفسهم ليوم لقائه في الآخرة،   (1) هذه الأبيات الثلاثة من قصيدة للشاعر المسلم الكريم عمر بهاء الأميري. (2) التمهيد، ابن عبد البر (1/ 284) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 باذلين الحياة من أجله، وإن استقلّوها. وفي معركة اليمامة حين اشتدّت الحرب، وتكاثر العدو على المسلمين، صاح أبو حذيفة في المسلمين: (يا أهل القرآن زيّنوا القرآن بالفعال) . وفيها صاح سالم مولى أبي حذيفة؛ الذي وصفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «إنّ سالما شديد الحب لله» ، وهو فارسيّ من إصطخر، ومن المهاجرين، وكان يحمل رايته- راية المسلمين- في تلك المعركة، صاح قائلا: (بئس حامل القرآن أنا إن لم أقتل في سبيل الله) ، فحفر له حفرة، ووقف فيها يقاتل. فقطعت يده اليمنى ثم اليسرى، واعتضد الراية حتى استشهد «1» . إنّ ما يسكبه الإيمان بالله تعالى ودعوته، وكل مقتضيات هذا الإيمان، من قوة في النفس، وما يفتّق فيها من طاقة، وما يحبوها من بركة ويبوّئها من مكانة رفيعة، لأمر فوق التصوّر. إنه ينابيع كلمات الله تتفجر لتكون مثالا، مزيدا لا ينال، ولا يطلب إلا بهذا الدين وحده، كوّنه الإسلام، ويكونه الآن وعلى الدوام، بنوره في أكثر من مكان، في الدعوة الإسلامية العامرة، وهي تسعى لإقامة دولة القرآن، ومن أجل ذلك تسعى وتجاهد وتبذل وتضحي، وتقارع الظلم والظالمين، وتطارد البغي والباغين؛ لتغرس الخير والنور والحق المبين، وهذا ما نلحظه من خلال التاريخ الإسلاميّ كله، وعلى مداراته المتتابعة. * أمّة القرآن عودي للقرآن: فيا أمة القرآن! عودة إلى هذا القرآن، وهو الذي جعل الله القضية الأساسية الكبرى فيه: الألوهية والعبودية. الألوهية الحقة بخصائصها في الربوبية، والقوامة، والحاكمية، والعبودية الكاملة التي تعبّد الناس لإلههم الحق- سبحانه وتعالى- في كل حال ومال.   (1) انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي (1/ 169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وكلّ الأمور الآخرى في القرآن الكريم هي من مقتضيات هذه القضية الأساسية الكبرى (الألوهية الحقة الواضحة، والربوبية الكاملة، والعبودية الخالصة) ، والله تعالى يقول: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] . وبذلك ترقّت الأمة المسلمة في سلّم المكانة العالية الزاهية، وفي قمم العظمة الإنسانية الكريمة، بتباشير مستقبل البشرية المنير، ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبعتها ولادة الإنسانية الفاضلة بهذا القرآن الكريم؛ الذي أنزل الله تعالى عليه، وأمره بإبلاغه للناس كافة. * الحياة البشرية من الجاهلية إلى الإنسانية: وحياة الإنسان والإنسانية على الأرض- وفي البشرية أجمعين، بدون ذلك- يصيبها في هذه الحياة البوار والدمار، ويورّثها في الآخرة الخسار. فحياة البشر لا تستقيم إلا إذا استقامت هذه الحقيقة الكبرى، في اعتقادهم وتصورهم، في حياتهم وواقعهم، لا تستقيم إزاء الكون الذي يتعاملون مع أحيائه وأشيائه. إذ حين يضطرب تصورهم لحقيقة الألوهية والربوبية والعبودية، يؤلّهون الأحياء والأشياء، ولا تستقيم إزاء بعضهم البعض بدون استقامة هذه الحقيقة في كل جنبات الحياة، ابتداء من ذات الإنسان. وإن إنسانية الإنسان وكرامته وحريته الحقة الكاملة، لا يمكن أن تتحقق في ظلّ اعتقاد أو نظام أو مبدأ- مهما كان- لا يفرد الله سبحانه وتعالى بالألوهية وبالربوبية، بل ويشرد عن العبودية. وواقع البشر خلال تاريخه يثبت هذه الحقيقة ويصدّقها، فما من مرة انحرف الناس عن الدينونة لله وحده، ودانوا لغيره بالاعتقاد والشعائر أو الأحكام والشرائع، إلا وفقدوا بذلك إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم. وإن الذين شردوا من العبودية لله وقعوا في شقوة العبودية لغيره، والتي أكلت إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم. مهما اختلفت الأنظمة والقوانين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 شرقية أو غربية، مستوردة أو محلية. مهما ظنّوا فيها، أو ادعوا لها، لكن واقع الحياة كان كفيلا بكشف وهمهم ووهنهم، وبيان زيفهم وبعدهم، وربما ردّهم إلى الحق وسار أمامهم بوضوح كامل على الجادّة، بعد أو قبل فوات الأوان. لقد تبين لفرعون ضلاله، وقد أغرقه الله، وأعلن إيمانه بعد ما رأى مصيره غرقا، وقد فات أوانه، غفلة واستكبارا، وكان بإمكانه أن يدرك ذلك، ويتدارك أمره، قبله وأبكر منه، وضوحا واستجابة: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ [يونس: 90- 92] . لكنّ الذين أسلموا متأخرين قبل فوات الأوان، حازوا خير هذا الدين، والإسلام يجبّ ما قبله، فعوّضوا عما فات، والأمثلة كثيرة جدا «1» . * المثل والأمثلة: ففي معركة أحد، والمسلمون بقيادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متّجهون إلى المعركة، فتح الله قلب أصيرم (واسمه: عمرو بن ثابت بن وقش) - من بني عبد الأشهل- للإسلام، فأسلم، وعلم أن المسلمين ذهبوا للجهاد، فحمل سيفه في الحال، ولحق بهم مجاهدا، وقاتل حتى قتل، ووجد في الرّمق الأخير «2» ، ودهش لرؤيته الأنصار، لما يعرفون من كفره وصدّه، فقالوا:   (1) انظر ما فعله مثلا: الحارث بن هشام وحكيم بن حزام وعكرمة بن أبي جهل؛ بعد إسلامهم المتأخر، وقد حاربوا الإسلام قبل ذلك طويلا وضاريا وشاملا. انظر: الاستيعاب (1/ 303، 362، 3/ 1082) . أسد الغابة (1/ 420، 2/ 45، 70- 73) . سير أعلام النبلاء (4/ 419، 3/ 44- 51، 1/ 323) . (2) السيرة النبوية، ابن هشام (3/ 90) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 والله إن هذا للأصيرم، ما جاء به؟ فسألوا فأخبرهم الخبر، وإنه حين ذكر أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إنه لمن أهل الجنة» . وهكذا رحمه الله تعالى، ورضي الله عنه، وكان إقدامه واستشهاده. ذلك هو مقتضى الصدق في هذا الدّين، وقضى شهيدا، فكان هو الذي دخل الجنة، ولم يركع لله ركعة. ولدينا العديد من هذه النماذج الفذة، وغيرها الكثير والكثير جدا، تلك صنعها هذا الدين، دين الله الحق لأهل الأرض أجمعين، ولا يمكن أن تكون إلا به- وبه وحده- وهو أمر طبيعيّ. وفي معركة اليرموك (15 هـ) جرى مثل ذلك، حين أقبل إلى معسكر المسلمين «جرجة» أحد قادة الروم ليعلن إسلامه، ودخل المعركة إلى جانب عكرمة، وتعاهدا- مع آخرين كثير- على الموت في سبيل الله، فاستشهدا جميعا «1» . وهكذا وهكذا كثير، ووفير، وجدير. فليلتحق المسلمون بركب الإسلام المنير عاملين بجديّة أكثر، يزداد القريب قربا، ويقترب البعيد، كما يفوز بالخير ولا يفوته، ويحظى برضا الله عز وجل وجنته، إن شاء الله سبحانه وتعالى. * الشرود عن منهج الله هو الدمار: لقد هربت أوربا من شريعة الله، ومنه سبحانه وتعالى. وحين هربت من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف، وثارت على دين الله سبحانه وتعالى، ظن الناس هناك أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم ومصالحهم وحياتهم وسعادتهم، في ظلّ الأنظمة الفردية الديمقراطية؛ بما صاغوه، ووفّروه، ثم في ظلّ الأنظمة التفردية المستبدة الطاغوتية الجماعية، فلم يجدوا إلا الخيبة، والفشل الذّريع، والتغرير، والتدمير، وكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، وانتقلوا من الوهم إلى السّراب   (1) البداية والنهاية، ابن كثير (7/ 12- 13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 والأساطير. وسيبقى الإنسان كذلك حتى يعود إلى دين الله تعالى، ففيه وحده النجاح الأكيد الجديد، دنيا وأخرى، سيادة وسعادة. وقد أغرتهم بذلك تلك الأشكال، وغرّتهم تلك المنتجات والإمكانيات، إلا أنّ الأمر انتهى إلى الرأسمالية الطاغية، بتشكيلاتها المختلفة، ولا فتاتها التي تحولت إلى خيالات وأوهام، فوقعوا في عبودية ذليلة، عبودية البشر للبشر، كثرة ساحقة خضعت لأقلية طاغية، تملك رأس المال، وتملك كل المؤسسات، وإن وضعت عليها اللافتات المزوّقة، والشعارات المنمّقة. وهرب فريق منهم من تلك الأنظمة الفردية وأجهزتها؛ التي يطغى فيها رأس المال والطبقة، إلى الأنظمة الجماعية، فاستبدلوا طبقة بطبقة أعتى. وبعد أن كانت تبعيتهم لأصحاب رؤوس الأموال ومؤسساتهم، غدت للدولة التي تملك المال والسلطان، فكانوا كذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار الأشد قسوة ولظى، بعد تلك المعاناة. وسواء انتهت هذه السلسلة أو ما زالت فيها بقية، يدفعها الضلال والكبرياء إلى الشرود عن الله سبحانه وتعالى، والتمسك بالجاهلية، فسيبقى الإنسان خاسرا مسحوقا، مادام في معزل عن الله ومنهجه، ومهما كان في مستوى فلا يقارن مع منهج الله تعالى، ومهما بلغ تقدمه من كل نوع؛ ولذلك أنزل الله شرعه العظيم الذي لا يكون أفضل له فحسب، بل لا يكون بدونه أبدا. وفي كل مرة- لكل إنسان، وفي كل حال أو وضع أو نظام- دان فيه البشر للبشر، دفعوا له ضرائب فادحة، أنفسهم وكرامتهم وحياتهم وسعادتهم ودنياهم وأخراهم. إنه لا بدّ من عبودية لله تعالى، والأخذ بكل منهجه لكل الحياة الإنسانية، وهذا مما تحمله العبودية لله تعالى، وبها وحدها- يعرف الإنسان نفسه، ويجد حريته، ويحظى بإنسانيته وسعادته، فإن لا تكن لله وحده تكن لغيره، مما عداه، من حجر أو شجر أو شهوة أو هوى أو بشر أو وجهة، من أي نوع كانت وتكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 والعبودية لله وحده تطلق الناس أحرارا أبرارا شرفاء أعلياء، والعبودية لغير الله تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وسعادتهم، ثم تأكل حتى مصالحهم المادية. وإن هذه القضية لا تتعلق فقط بعبادة الأصنام والأوثان في الجاهليات، حتى القديمة، لكنها تتعلق بكل ألوان الجاهليات، وحتى الحديثة والمعاصرة والمستقبلة، وإن ادعت الحتميات والتقدميات وامتلكت التقنيات وكل الإنجازات، ورفعت الشعارات والعبارات، فإن جاهليات ما قبل التاريخ، وجاهليات التاريخ، وجاهلية القرن العشرين، وكل جاهلية، تقوم على أساس من تعبيد العباد للعباد تتردّى بالإنسان، وتذهب سعادته، وتأكل إنسانيته وكرامته، وهذه- لا غيرها- هي الجاهلية، مهما لبست والتبست وتنوعت وتشكلت واستخفت وأخفت أو أظهرت. وهذه القضية لا تتعلق بالمسلمين وحدهم بل بالبشرية كلها، بكل أجيالها وأجناسها وأحوالها وأوضاعها. ومثلما لا يغني عن المسلمين مجرد الانتساب، مثلما لا يغني عنهم الخلط والمزج بين الإسلام وغيره، للتمويه والتذويب أو لما سوى ذلك، فإن الله جل جلاله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم. * النجاة بهذا الدّين وحده: ومن أجل إخراج الناس من تلك الجاهليات، وكل الجاهليات في كل العصور والمواقع، أيّ شكل أخذت، وأيّ زي ارتدت، من أجل إخراجهم من كل ذلك، وتعبيدهم لله رب العالمين، من أجل إخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن عبادة العباد، وأية عبادة أخرى، إلى عبادة الله تعالى، جاءت رسالات الله، وبعث بها أنبياءه ورسله صلّى الله عليه وسلّم لتنظيم الحياة الإنسانية وانتظامها، كريمة فاضلة مرتوية ناهلة مؤمنة بربها بعمق أصيل، وسائرة في الموكب المنير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 والأنبياء والرسل- عليهم الصلاة والسلام- أخوة، هدفهم واحد، ومهمتهم واحدة، ودينهم واحد، وربهم واحد، بعثهم الله حكمة ورحمة وفضل ونعمة على الإنسانية، يرعون ركبها المتحضّر الفاضل، يقودها ذلك الرهط الكريم من الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام. وكان خاتمها تلك الرسالة الدائمة الباقية، رسالة الإسلام، وهدي القرآن، حملها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي نحتفل اليوم بمولده، وذلك واضح في القرآن الكريم المنزّل على رسوله الأمين صلّى الله عليه وسلم، والذي فهمه وعاشه أولئك الصّحب الكرام، ومن تبعهم ووالاهم في كلّ جيل، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الأنبياء أخوة لعلّات، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد» «1» . * مهمّة المسلم وآفاقه وقوّته: فحين سأل قائد الفرس في القادسية (15 هـ) رستم رئيس وفد المسلمين إليهم ربعي بن عامر عن الذي جاء بهم، قال: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه، ورجعنا، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله) . فقال رستم: (وما موعود الله) ؟ فقال ربعي: (الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي) «2» . وتحقيق هذا الهدف يناسبه البذل وعدم البخل بكل شيء، واسترخاصه، حتى لو كانت النفس، وذلك كان واضحا بالعمل عند المسلمين.   (1) سبق ذكره: أعلاه، ص 13، 244. رواه البخاري، رقم (3259) ، ومسلم رقم (2365) ، وأحمد (2/ 406، 437) . (2) تكرر ذكره آنفا: أعلاه، ص 36، 84. البداية والنهاية، ابن كثير (7/ 39) . القادسية: أحمد عادل كمال (106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ولقد ربّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه على ذلك، وكان لهم مثالا وقدوة، وفي كل شيء، مستعليا وزاهدا في كلّ ما حوله، إلا فيما يرضي الله تعالى، ويقرّب إليه أكثر، وهكذا عاش صلّى الله عليه وسلّم وصحبه المجاهدون الكرام. * كيف السبيل؟ وعلى مسلمة اليوم أن ينهجوا نهجه صلّى الله عليه وسلّم في نفوسهم وفي حياتهم، ابتداء من ذواتهم، عاملين على نصرة الإسلام. وإنّ الله سينصر هذا الدين، وينصر أهله، ويقيّض من ينصره، وتلك سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه دواما. وإن كنّا على يقين نشهد ونرى في نفوسنا وتصوّراتنا وعقيدتنا، مؤمنين أن دين الله منتصر، وأن فارس الإسلام قائم، وموكبه المنير قادم، ولكنه لا بد من تضحيات، ولا بد من بذل صادق يقدّمه المسلمون. كل ذلك يقوم على فهم رائق للإسلام، بكل ما يحتويه ويشمله، ولا تصفو المسيرة إلا بصفاء الفهم، وخلوص الإقبال على الله تعالى، بهمّة وحكمة وحنكة وكياسة، يوفره العيش في هذا الدين، تتفتح به المغاليق في النفس والحياة بكل مجاليها وأحوالها على الدوام. وهذا هو السبيل الذي لا بدّ من سلوكه، تقبل عليه النفس بلا تخفف، وتؤدي حقّه بلا تكلّف، بل إنها لتعشق ذلك، وتندفع نحوه، وتسرّ بما تقدمه، أكثر من ذلك الذي تدّخره وتوفره. * أداء حق أمانة الدعوة: فإذا كان للحمل ولادة والولادة قادمة، لا بدّ لها من مخاض، ولا بدّ للمخاض من آلام- سنّة الله وحكمته- يتحملها المسلم بنفس راضية، وروح وفيّة قوية، حتى لو كانت الولادة تورث الموت وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ولا بد- بعون الله سبحانه وتعالى وفضله- أن تشرق الأرض مرة أخرى بنور الله المبين، ويهتف أهل الأرض أجمعين بالألوهية والربوبية والعبودية لله عز وجل وحده سبحانه وتعالى، ونبوة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم قائدا وزعيما، وبالقرآن الكريم دستورا وكتابا مبينا، وبالجهاد سبيلا، مهما تحلّك الظلام، وتجهم الطغاة والطّغام، إن شاء الله تعالى قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15- 16] . اللهم انصر جندك، وأعل راية شريعتك، وأظهر دينك، واجعله ضياء ونورا لنا في الدنيا والآخرة، وأسكنّا جنتك تحت لواء محمد بن عبد الله رسولك صلّى الله عليه وسلم، وأنعم علينا بالنظر إلى وجهك الكريم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22- 23] اللهم آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 المبحث الخامس ولادة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم الإرهاص والإشارة * المولد الميمون: المناسبة والاحتفال * مدلول حادثة الفيل * عالمية الدعوة الإسلامية * السمو بالاستمرار والاتصال * صورة مضيئة يهبها الإيمان * السهمي في بلاط كسرى * معجزة نبوية شاهدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ولادة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم الإرهاص والإشارة الحمد لله رب العالمين؛ الذي أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم لنا ولأهل الأرض أجمعين، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45- 46] . * المولد الميمون: المناسبة والاحتفال: إنه لجميل حقا جدا- لا سيما في مثل هذا العصر، الذي جهل الكثير من المسلمين من دينهم غير قليل، علما وعملا- أن يلتئم جمع، ويقام حفل «1» ، في المناسبات الإسلامية الميمونة المتعددة المتنوعة. ومنها مولد الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم ليتم- من خلالها- التذكير بالمعاني الإسلامية، وتأكيد أبعادها في نفوس المسلمين، ودعوتهم في السير عليها، والأخذ بمضامينها، والعيش بتوجيهاتها، ويلتزمون بها في كل حال، ولا يتفلّتون منها، ولا يتلفّتون إلى أيّ من غيرها مهما كانت. فليس غير الشريعة الإسلامية تكون أو تصلح لهم- أو لغيرهم- طريقا كريما بارّا، فهم يواصلون المسيرة عليها؛ على الطريق المنير وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] . وإنه لمن الممكن اعتبار مولد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أكبر إرهاص مبكّر بقرب نبوته، ولادة اقترنت بها أحداث منبّهة قاطعة، مثل حادثة الفيل، في   (1) ألقيت- منذ سنوات- في حفل جامعي (جامعة الإمارات) ، ثم نقحت ورتبت وزيدت، فتضاعفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 العام الذي حمل هذا الاسم، وأضحى تاريخا- عند العرب قبل الإسلام- شهيرا، بحدث غير اعتيادي، استمروا يذكرونه ويتذكرونه مع استعماله وبدونه؛ ولذلك أهمية كبرى، ولعل فيه حكمة. على أن هذا الحدث- ذا السّنة الخارقة- يبقى معروفا ومذكورا، لمن شهده أو سمع به، مثولا في الذاكرة والخاطرة، مثلما لمن كان ناظره. وفيه كانت هذه الولادة الكريمة الميمونة المباركة لأهل الأرض أجمعين. * مدلول حادثة الفيل: ويمثل عام الفيل حادثة تعلن بقوة، تحفر في الحياة مشاهد لا تنسى، إشارة تضمّ إلى البشارات السابقة، والإشارات المتنوعة عن الإسلام، وبداية نزول القرآن، وبداية الوحي بهذا الدين، واختيار رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليحمل رسالة الله الخاتمة إلى أهل الأرض أجمعين «1» . وهذه الحادثة تشير إلى المولد الذي سيحملها، ويحمله من اختاره الله تعالى لذلك، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] ، لتشير إلى اقتراب موعد نزول القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد أن يبلغ الأربعين من عمره الكريم الشريف الأمين، والمبارك الخير الميمون، موعد ولادة الإنسانية الفاضلة على درب الهدى والنور. فكانت ولادته صلّى الله عليه وسلّم وما جرى فيها، تأكيدا وتذكيرا لأهل الكتاب ولغيرهم، وتقديما مبينا لما مرّ بهم من بشارات أوحى بها الله سبحانه وتعالى إلى أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام- ولغيرهم ممن له بذلك صلة وعلم، لعلهم يعتبرون. وكانت الولادة الكريمة تنبيها وتقديما مبينا؛ لأهل مكة والجزيرة العربية وغيرهم، لأهمية ذلك، حازمة ولازمة، تصديقا وتوثيقا، مؤشّرا بقرب موعد انبلاج الفجر، وسطوع النور على أهل الأرض أجمعين. كتاب من الله   (1) انظر: فتح الباري (1/ 22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 مبارك مبين، بعث به محمدا صلّى الله عليه وسلّم هاديا ومبلغا وداعيا وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155] . * عالمية الدعوة الإسلامية: فالإسلام دعوة الله سبحانه وتعالى لأهل الأرض جميعا- بألوانهم وانتما آتهم وولاآتهم- أن يؤمنوا به، ويكونوا من أهله، من بلغه منهم. وتلك طبيعة هذا الدين، وحقيقته الواضحة، بكل إيحاآته ومدلولاته ودلالاته، فضلا عن آياته إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير: 27- 29] «1» . بل إن من الجن- حين سمعته- لم تملك إلا أن آمنت به قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الجن: 1- 2] . إذ تبدأ الإنسانية المسير في الطريق الخير البار، يظلّلها الأمان، فتنجو من الضّياع، وتتجنب الهاوية، وتأمن الخسران، وتستقيم على درب الخير والنور، وحيدا قويما، بعد أن تلوذ في ظل شريعة الله سبحانه وتعالى. إن الاحتفال بمولده صلّى الله عليه وسلّم باعتبار نبوته ورسالته، وإن هذا المولد الكريم كان علامة مولد جديد للإنسانية؛ ليبدأ عنده موكب الإنسان الجديد؛ بالمسير نحو الخير في الطريق الإنساني الفريد، طريق الله الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] . وهذه الجموع المحبّة تحتفل بذلك، ولا نحتفل باعتبار المولد تأريخا تراثيا أو تقاليد، لنا فيها عادات وارتباطات قديمة متناقلة عابرة، ولكن نحتفل به باعتبار المولد الكريم إشارة إلى هذا الحدث: نزول القرآن الكريم   (1) سورة التكوير من السور المكية المبكرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 العظيم ومقدمة له، ودافعا إلى الأخذ بالإسلام عقيدة وشريعة، عبادة وطاعة والتزاما وحركة، ودعوة متجددة حية، ومنهجا فاضلا، وأسلوبا فذا فريدا لكل أمر، يمد بالحياة، ويباركها، ويعليها، ويرفع من شأنها. إننا كذلك لا نريد من هذه الاحتفالات، أن تكون ميدانا لعروض خطابية، وكلمات تلوكها الألسن، ثم يخرج كلّ ليمارس ما كان عليه؛ في حياته وفكره ونظره وتصوره وعقله وقلبه عن الإسلام. وسيكون من يفعل ذلك مخدوعا، لو أقنع نفسه ليكون بهذه المثابة، وغرّته كلماته، فصدق لسانه، وترك كيانه. وهو مخدوع كذلك، ولو حاز الرضا والتزكية من الآخرين: وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم: 28] . ولا يزحزح تبعاته أنملة، ولا يقدمه في مضمار الخير خطوة، بل لا بد أن يرتقي في سلّم الخير، وتتسامى نفسه شيئا فشيئا، أو دفعة تقوم على الحق تأخذ به، وتحميه، ولا يمكن لأحد أن يقوم على الحق أو يحميه إلا بعد أن يقيم نفسه عليه: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ [يونس: 35- 36] . * السموّ بالاستمرار والاتصال: وحين تسمو نفس المسلم إلى هذا المستوى وقتها، عندئذ تتفتح أمامه أبواب الخير، من خلال هذه الأحفال وغيرها، وتشرئب إلى هذا الأفق، فتكون بعد ذلك في غنى عن مناسبات تذكّرها، فبين يديه كتاب الله مرجعا يعيش معانيه، صاحبا كريما، وأنيسا حميما، وناصحا أمينا نورا وبصيرة، يسترشده في كل أمر، ويستوضحه في كل شأن، ويستهديه على الدوام. وما كانت لهذه المناسبات من مكانة، ومعوّل، ومؤمّل، تربّعت عليها بهذا الحجم والمقدار- لا يهمل المسلم مناسبة يفترصها- إلا لفتور وفقر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 نفوس المسلمين- كثرة منهم- وخواء في أفعالهم وتمسكهم، وإلا فالمسلم يحيا بعقله وقلبه وعقيدته وعبادته وتصوره وسلوكه وكل حياته، مع القرآن الكريم، وهو بين يديه، ميسّر مفسّر واضح موضّح، ومع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسيرته الشريفة الواضحة، وسنّته العطرة مهيأة جاهزة مدروسة، وهو صلّى الله عليه وسلم مع علم المسلم القليل وصلته اليسيرة، حيّ في ضميره وقلبه، مثلما هو حيّ في سلوكه. وكيف لا يكون المسلم كذلك وحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دين، وطاعته عقيدة وعبادة: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31] . لا نريد من مسلمة اليوم- في أي بقعة من بقاعهم- أن يكونوا آخر الركب إلماما والتحاقا بدعوة الإسلام؛ التي تتفتح أزاهير أتباعها في مواطن هي لها اليوم، أو محسوبة عليها، وفي مواطن أخرى جديدة كانت لها أو لم تكن ... إنه دين الله، ومال الإنسانية لا بد إليه. كما لا نريد أن يكون إسلام مسلمة اليوم باهتا أو نائما أو غائبا، إذ سيوقفهم الله، ويسألهم عن كل ذلك، ويجزيهم بما يستحقون: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: 24] . ولا يصحّ أن يكتفي المسلم بإسلامه، اسما وموطنا وتأريخا، أو لا يكون ولاؤه الكامل له في كل الأمور، فهو يأخذ من هنا وهناك، في كل أحواله، أو لا يرتبط بالإسلام إلا في دوائر ضيقة، يمدّ يده إلى تيارات أخرى يعبّ من مجاريها. فهو كمن يعاف الحلال الطيب في داره إلى جنبه، ليبحث على اللحم الحرام. وكمن يملك خزائن المال الحلال، ثم يأكل السحت الحرام وبه يقتات، من أكله الربا وألوان المحرمات والمظالم والاحتيال «1» الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275] .   (1) قد سبقت الإشارة لهذا المعنى مع زيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فالإسلام هو الحصن الحصين، ومنه وحده نستمد التقنين في كل الأمور، وعلى شريعته نبني الحياة الخيرة المتحضرة وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] فكيف نتّجه إلى من كان علينا أن نؤويه ونهديه؛ بإذن الله سبحانه وتعالى، إلى شريعته الغراء البيضاء النقية، والنبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «أحبّ الدين إلى الله الحنيفيّة السّمحة» «1» . ويحي على ساسة القانون ويحهم ... على جهود أضاعوها وما وجدوا وبين أيديهم القرآن يوردهم ... أسمى المناهج والأحكام لو وردوا * صورة مضيئة يهبها الإيمان: لقد وهب الإيمان بهذا الدين، بكليته وبأعماق المسلم وكيانه، حياة جديدة، أطلقت يده في الحياة سيدا فاضلا يرعاها، ويا بني عمرانها، ويحقق إنسانيته، ارتفاعا بها، وإعلاء لشأنها، وإضاءة لطاقاتها، فكان أحدهم ويكون به على الدوام- عجيبا في كل نواحي الحياة. اللهم اجعلنا منهم، بعونك ولطفك ومنّك. ولقد طفحت صفحات الحياة الإسلامية صورا، ما كانت لأمة غيرها، وما عرفتها- ولن تعرفها- أية حضارة أخرى. وهي ما زالت، وستبقى نابضة بالحياة نبوضها بطبيعة البناء الذي قامت عليه، وتتغذاه على الدوام. وهنا نضع واحدة من تلك الأحاديث المضيئة تروي معاني الخير، رسمت في مشهد فاضل مضيء تنادي وتندب وتدعو وتقود وتدفع وتحرك بقوة إلى هذا السلوك.   (1) رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب الدين يسر. انظر: أسد الغابة (1/ 88) . سير أعلام النبلاء (1/ 158) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 * السّهمي في بلاط كسرى: ولقد سمعت في الهجرة الشريفة «1» جزآ من قصة ذلك الأعرابي الذي وطئت قدماه بلاط الروم عبد الله بن حذافة السّهمي «2» (نحو 33 هـ) الذي وطئ كذلك بلاط كسرى، حيث أرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إمبراطور الدولة الفارسية كسرى أبرويز (خسرو الثاني) «3» بن هرمز بن أنوشيروان، برسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، وهذا نصّها: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتّبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد ألاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدا عبده ورسوله. وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ [يس: 70] . فأسلم تسلم فإن أبيت فإنّ إثم المجوس عليك» «4» . حملها ابن حذافة حتى وصل بها بلاط الفرس. وحين دخل ابن حذافة هذا، بشملته الرقيقة، وعباءته الصفيقة؛ إلى بلاط كسرى ذي الفخفخة والأبّهة والزهوّ المترف المتأله، كان ابن حذافة بإيمانه- الذي تقدم به، ورفعه مكانة عالية، استصغرت كل ذلك- أكبر من كل الجاهليات ومن كل الجبابرة، وأكبر من كل بلاط، مهما كانت فخامته وضخامته، وتجبر بجيشه وحاشيته وحرسه، وبدا في أبّهته وفخفخته، بترفه وطغيانه المتأله المبهور المغرور، مثلما استقر عليه حال بلاط كسرى، لكن ابن حذافة كان أقوى من   (1) انظر: أدناه، 299. والإشارة هنا حسب ترتيب الإلقاء يومها. (2) سير أعلام النبلاء (2/ 11) . الاستيعاب (3/ 888) . أسد الغابة (3/ 211- 212) . (3) زاد المعاد (1/ 121) . السيرة النبوية، الندوي (256) . الاستيعاب (3/ 889) . أسد الغابة (3/ 212) . (4) رواه البخاري: أرقام (64) (2781) (4162) (6836) . ومسلم: رقم (1774) . انظر: مجموعة الوثائق السياسية (140) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 كل ذلك؛ لأنه امتلأ بالإسلام، واتصل بالله، مصدر العزة والقوة والهداية وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8] . كان ابن حذافة عالي الهامة، مشدود القامة، تملأ نفسه معاني الإيمان، وتعليه حياة وكلمات الإسلام، ورفض أن يسلّم الرسالة إلّا لكسرى نفسه، يدا بيد، تنفيذا لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلى كسرى نفسه؛ الذي أبى أولا، كبرياء وجهالة، إلا بوسيط، لكنه استجاب أمام الإصرار. وما أن قرئت له سطورها الأولى حتى غضب واستشاط، لكنه استمعها كاملة، ومزّق رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راميا إياها في وجه ابن حذافة، وأسمعه كلمات التهديد والوعيد الأجوف الأضعف المنهوك «1» . وعاد ابن حذافة مسرعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحمل هذا الخبر، فلم يزد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن قال: «مزّق الله ملكه» . وفي رواية: «اللهم مزّق ملكه» «2» . معجزة نبوية شاهدة: هذا مشهد من مشاهد تلك الحادثة، لكن المشهد الثاني فيها يبهرك ويبدهك ويفجؤك، ذلك أنّ كسرى بطغيانه وضلاله وجاهليته لم ير أنه من الممكن أن يدعوه أحد إلى حقّ، أو يسمعه كلمة العدل، أو يقدم له صيغة أو   (1) ككل متجبر ضللّيل وغشوم مستهتر متأله ومغرور كفور، نعوذ بالله تعالى مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ [غافر: 27] . (2) انظر: البخاري، كتاب: المغازي، باب: كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى كسرى وقيصر، رقم (4162) . المسند (1/ 243، 305) (قديمة) ، رقم (2184 و 2780/ 4) (جديدة) . زاد المعاد (1/ 121) . سير أعلام النبلاء (2/ 11- 12) . الاستيعاب (3/ 888) . أسد الغابة (3/ 211- 212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 صبغة صدق، إذ قد أعلن ألوهيته أو كاد، وأطاعه الناس الذين أضلّهم، مثلما فعل ويفعل أمثاله. وقد حكى الله سبحانه وتعالى في القرآن المجيد عن فرعون مثل ذلك، فقال عز من قائل: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [الزخرف: 54] . فكتب في الحال إلى ملك اليمن باذان، عامله هناك، أن يرسل إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم من يأتيه به أسيرا مقيدا. فأطاعه باذان، وأرسل هذا في الحال وزيره مع أخيه إلى المدينة المنورة؛ ليقودا- في زعمهم- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيما يحضره أمام كسرى ليحاسبه ويعاقبه، في زعمه!!! وكذلك الطغاة الذين أحلّوا أنفسهم في العباد مقام الألوهية والاستبداد، وجعلوا رغباتهم وأهواءهم وأوامرهم بديل مقام شريعة الله، واستلبوا حق الحاكمية في أرض الله؛ التي لا تكون إلا لله رب العالمين، فاعتدوا على سلطان الله، وتحكّموا في رقاب خلقه. ولقد قصّ الله سبحانه وتعالى علينا من ذلك في القرآن الكريم أكثر من مثال، والأمثلة كثيرة ووفيرة جدا. كان النصر في تلك المواجهات لجند الله، فالله تعالى لا يتخلى عن جنده، وهو معهم يرعاهم بعنايته ونصره، بعد ما أخذوا بشرعه وأمره. ولما وصل رسولا باذان إلى المدينة المنورة طلب إليهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يمكثا فيها يوما أو أكثر، وهكذا كأني برسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل ذلك ليبلّغهم دعوة الله، ويدعوهم إلى رسالته السامية الخالدة، ويعلمهم إياها، يرونها خلقا وسلوكا، مثلما يسمعونها كلمات تنفرج عنها الشفاه. ثم أخبرهما صلّى الله عليه وسلّم بمعجزة، وربما في نفس اللحظة التي تمّت فيها تلك الحادثة أو قريبا منها، فأخبرهما صلّى الله عليه وسلّم بأنه في هذه الليلة- وكانت ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الآخرة من السنة السابعة للهجرة، بعد غروب الشمس بست ساعات «1» - قتل كسرى أبرويز بيد ابنه شيرويه (قباز) ، فدهشا   (1) السيرة النبوية، ابن كثير (3/ 510) . السيرة النبوية، الندوي (256- 257) . السيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 بهذا الخبر، وحملاه إلى الملك باذان، ورأيا- وفد باذان- أن تنفيذ ما أراده كسرى أخرف من خرافة، أو خرافة الخرافة. فعادا بهذا الخبر في رسالة حمّلهما إياها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهما ما يكادان يصدّقان، فأنهيا به إلى باذان الذي كان يتطلع إلى معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره، ويبحث صدق دعوته، فجاءه، وفاجأه الدليل. يالله! إنها لمعجزة تدعوهم وأمثالهم ليعيدوا النظر في مواقفهم، لا سيما إذا سلمت الفطر- ولو بعض السلامة- من التهتك والتحطم والتلوث، بل لتزيل ما عليها من صدأ، تطرقها طرقا، تزيل عنها الصدأ، وتثيرها إثارة تبهرها، تحكها وتدفعها إلى الإدراك، تستدرك ما فات وتلتزم الطريق، طريق الله المنير وشرعه الجديد الفريد. وبينما هم يتعجبون ويستنطقون، إذا ببريد فارس يأتي إلى باذان لينهي إليهم الخبر كاملا بمقتل كسرى أبرويز على يد ابنه، مثلما كان مدونا في رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبنفس التحديدات التي فاه بها عليه الصلاة والسلام، فأسلم باذان والعديد ممن معه ومنهم أخته وأفراد كثيرون من أسرته. وهكذا إذا ظنّ الضالون والظالمون والطغاة والعتاة والمتألهون والجبابرة المنكرون أنهم قادرون على دين الله وجند الله، يأتيهم أمر الله وقضاؤه من حيث لا يحتسبون ولا يظنون، ويأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلا يفلت أحد من قبضته، وهو مصير الطغاة في كل حين. فليحتفظ وليتيقظ كل أحد، وطريق التوبة مفتوح لمن أراد. فليكن الاحتفال بمولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احتفال النفوس باستقبال حياة جديدة والسير على طريق الإسلام، حثيثا قويا ملتزما واعيا متفهما جريئا مصمما شجاعا باذلا، متمثلا لشرع الله وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25] .   النبوية، أبو شهبة (2/ 360- 361) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد الهادي الأمين، ونرجو الله تعالى أن يأخذ بأيدينا إلى سواء السبيل، ويجعلنا من جنود محمد صلى الله عليه وسلّم الأمين آمين آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 المبحث السادس الهجرة النبوية بين الفداء والبناء * مؤشرات ومبشرات * محنة ومنحة * من الجاهلية إلى الإسلام * العزيمة وقيام الحياة الإسلامية * فطنة المسلم وتضحيته * النور وراء الظلمة * عجائب الإسلام وفرائده * هذه أخلاق القرآن * تعدد دروب النفس * الهجرة والأخذ بالأسباب * لقاء الهجرة والنّصرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 الهجرة النبوية بين الفداء والبناء الحمد لله رب العالمين الهادي الرحيم «1» ، أرسل النبي الخاتم رحمة مهداة، فالصلاة والسلام على هذا الرسول الأمين، صاحب الهجرة، وحامل لواء الدعوة، ومبلغ الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض أجمعين. فتح الله به آذانا صمّا، وعيونا عميا، وقلوبا غلفا «2» ، فكانوا الهداة، وكانوا الرعاة، وكانوا الدعاة، وخير أمة أخرجت للناس، بما عملت بشرع الله، فاجعلنا اللهم منهم بعونك ولطفك. إنه لسنة حسنة أن تحتفل جامعتنا بهذه المناسبة الإسلامية الكريمة، ذات الدّلالة الرائعة المتفردة- كأخوات لها كثيرات- نبتت في جو الإسلام، وارتوين به، واستمددن سمته وصبغته صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ [البقرة: 138] . والمرجو أن تمتد هذه السّنّة لتحتضن كلّ المناسبات الإسلامية، متعالية ومتجاوزة حدود الرسمية إلى الذاتية الخيرة، اعتزازا بها، وفرحا بوقتها، واحتفالا بمناسبتها.   (1) ألقيت في قاعة الاحتفالات الكبرى بكليات البنين بجامعة الإمارات، بمناسبة الاحتفال بالهجرة النبوية الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- ربيع النبوي (الأول) سنة 1399 هـ (1979 م) . وألقيت مرة أخرى، في كليات الطالبات- في نفس الموسم- بعد تغيير يناسب مخاطبة المرأة؛ ولذلك فالأمثلة كثيرة، منها ما تخص المرأة، ثم أدمجت الصيغتان- لتقدم هنا- بعد تنقيح وتحسين وزيادات وإضافة الهوامش والعناوين الفرعية. (2) مقتبس من حديث أخرجه البخاري: كتاب: البيوع، باب: كراهية السخب في السوق، رقم (2018) . وكتاب التفسير، باب إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب: 45] ، رقم (4558) وقد سبق ذكره آنفا، أعلاه، ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وهذا يجعلها تسمو على مجرد حفل ينفضّ بعد حين، واجتماع ينتهي في ساعات. بل المرجو أن يمضي أثره- إن شاء الله- لليوم والغد، لهنا وهناك، ندخر به عند الله أجرا وذخرا يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88- 89] . فلا تتحول الهجرة وأمثالها إلى مناسبات تذكر، أو احتفالات تقام، أو كلمات تلقى. فليس الإسلام شعارات ترفع، أو عبارات تسمع، ولا شيء بعد ذلك. وبه يكون حجة علينا أمام الله، ومسؤوليتنا في الجامعة أكبر ... مسؤولية الجامعة- ككل- باعتبارها أداة توجيه، ومسؤولية كلّ فرد فيها باعتبار موقفه وموقعه ومكنته. بل لا بد من استنبات بذوره- وبشكل مطرد- ورعاية شجره، ليأتينا بيانع ثمره. وعندها سنقول: يا ريح الإيمان هبّي، خيرا وبركة ونعمة، وفتوحا في كل ميدان، وتقدما كريما فريدا، وهجرة إلى الله وطاعة. وعلى هذا الأساس سيكون لهذا الاحتفال، والاحتفالات الإسلامية الآخرى، مدلول يجعل اهتمامنا بها جيدا، يفوق أية مناسبة أخرى. وعندها سوف لا يقف الأمر بحدودها، بل ستتّسع هذه السنّة لتتبنى كل قضية إسلامية والمعاني الإسلامية، في كل اتجاه. والجودة: أن تسير الجامعة- بأركانها- على هذا الطريق، يكون لها طابعا ودليلا وهاديا. وعندها لا تكون هذه المناسبات الرافد الوحيد لإمداد المسلم في حياته، والتامه في أجوائها متعطرا بالإسلام، وإلا فإن آثاره تنتهي عما قريب، ليبقى حالنا ماثلا بانتظار مثيله. لقد آن الأوان، لمن تعلق بصاحب الهجرة- عليه الصلاة والسلام- وبنيها وأتباعها، ليجعلهم أسوة وقدوة، بقيادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وحقيقة التعلق بصاحب الهجرة، اتخاذه أسوة، فهو قائدنا، ولا قيادة قبلها ولا بعدها ولا غيرها، فإننا نحتفل بالرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، شعورا منّا بالارتباط بهم، وذلك يحثنا على السير في الطريق الذي ساروه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 والهجرة والاحتفال بها، موسم إسلامي، جرى التنازل عن كثير من معانيها، فنزلت حالنا عن آفاقها، لكن الخير كل الخير في الأخذ بمنهج الإسلام وحده، واتّباع نبيه الكريم صلّى الله عليه وسلّم وأمته الربانية المؤمنة إلى يوم القيامة. ومثل هذا الاحتفال محطة وواحة؛ للترميم والمداواة والتجديد والترشيد في كافة الأحوال، تركن إليها كلما تكشف غطاء الحنين، واقتربت تقتبس الضياء، وأحست شدّتها اللاهثة عطشا فلا ماء، إلّا من هذا المورد الصافي الزلال الأصيل، لكن متى تأتي هذه الأمة لترتوي فتصح، وتسمو، فتفلح؟ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينادي في المواسم قائلا: «أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» «1» . فالفلاح في الدارين، بهذا الدين وحده؛ لتكون كل حياتها خضرة نضرة، تعمر الدنيا والآخرة، وتفوز برضوان الله والجنة. ليست الهجرة الشريفة حدثا ظاهريا، ولا قضية منقطعة؛ لظاهرة مبتورة، فهي فداء وعطاء ... كانت إحدى ثمار مقدمات ومقومات، هي التي فعلت، فكانت الهجرة التي استجاب المسلمون لأمرها سراعا، بحب وفرح، ولو طلب منهم أيّ شيء لتنافسوا في تقديمه. والاتجاه في الهجرة هو الاتجاه الإسلامي في تناول الأمور، القائم على الإيمان والحب والفداء، والأخذ بكل الأسباب- سنّة الله تعالى- معتمدين عليه سبحانه. وبه قامت دولة الإسلام الأولى وما تلاها وما بعدها، والفتوحات الإسلامية وحضارتها. ووصلنا الإسلام؛ الذي قصرنا فيه، ولعل الكثير من الأسباب والنتائج والآثار معروفة ومشهودة واضحة. وحين يكون احتفالنا بهذه الصفة الصافية، متجهين بالنية إلى الله، فهو عبادة، ولا نحتاج إلى زيادة في التحضير والإنفاق، غير اتجاه القلب إلى الله ليتم لنا ذلك إن شاء الله تعالى.   (1) سبق ذكره. انظر: سيرة ابن هشام (1/ 423) . حياة الصحابة (1/ 98، 107) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وفي هذه المناسبة يتاح المجال لزيادة المعرفة أو الجديد فيها، ولا تخلو إن شاء الله- من تجديد بعض ما هرم وشاب في مثل هذه الأجواء. وهي أحد أعيادنا الكثيرة، نحتفل بها لما فيها من حكمة ومعنى، نرجو الفائدة منها متنوعة، نرمم ونداوي ونعالج ونجدد ونقيم ونبني بشحنات (شحن) الإيمان الصافي الزلال القوي الأبيّ الفعال، كيما يأتي- بعد المخاض- المولود الجديد، ويتجدد القديم؛ لجعل مولد التحرك والاتصال أصيلا يستمد من المصدر، من منهج الله تعالى، وشرعه المبارك الميمون. وهو أمر يدعو إلى قيام التربية والتوجيه عليه. وإنه لشرف كبير أن نقوم جميعا بكل ذلك، وإنه لموقف مشرّف كريم، ونحن اليوم نقف في أعقاب عام ذهب ودّعناه، وأبواب عام جديد استقبلناه، ونحن كذلك الآن على أعتاب قرن هجري جديد، نودّع القرن الرابع عشر الهجري لنستقبل تاليه. * مؤشرات ومبشرات: هذا القرن الذاهب تميّز بأمرين مهمين، فيما يتعلق بالإسلام: نكبات ودعوات. نكبات أصيب بها المسلمون كما لم يصابوا في غيره، من ذهاب دولتهم، وإبعاد عن الحياة شريعتهم، وتوزعهم إلى شعوب مقطعة الأوصال، افترست نفوس أبنائها وأفكارهم، زاد مسموم، واستبدت بهم رياح هوجاء، تكاد تسقطهم في هاوية سحيقة. إن المسلم- كما تعلمنا من الصحابة الكرام- يرفض الموضوعات الأرضية، ولا يخدعه بريقها، والهالات التي حولها، والأضواء المحيطة بها، ولا ترديه المبادئ الوضعية، مهما تمكنت من بطشه، وتحكمت في عيشه، أو أحكمت من أمره ترهيبا، أو ألهته بشراسة أو أطعمته من الترهات، أو فتنته، وخدعته ترغيبا. وهو- من باب أولى- لا يجعل من هذه الأجواء له مثالا. وأية استجابة لذلك تنتج بعدا عن الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وإن التربية على العيش مع القرآن الكريم ومع سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو بدون حفظ النصوص- رغم أهميتها، وهي على العاشق سهلة ميسورة، يندفع لها- تجعل المسلم في حرز حصين، أمينا في السير على الدرب الأمين. ولكم نزلت نكبات بالأمة المسلمة: أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وا أسفاه على أمة محمد، وكم وجدنا من يلوّح لها رافعا غير كتاب الله، فيا حوبتاه! فجاءتها وفاجأتها وفجعتها المصائب والهزائم والمناكر، فيا ضيعتاه! نكبات: كان الأمر سيكون أشد وأبعد وأنكد لولا أن الله تعالى لطف في ظاهرة هذا القرن الثانية، وهو وعده الكريم، أن يقيّض لهذا الدين- في أرجاء العالم الإسلامي الوسيع- دعاة افتدوه بكل ما يملكون، استمدوا كيانهم من الإسلام، وحياتهم من حياته، وصدروا عن منبعه، ووردوا مشربه، على طريق أولئك الصحب الكرام؛ الذين كانت كل حياتهم جهادا مضيئا على الدوام. وبذلك كانت الهجرة وكافة الأمجاد، كانوا في كل سعيهم ومعاركهم يتجهون إلى الله، ويعملون لرضاه، ويشتاقون إلى جنته والاستظلال بظله حبا فيه، مع ما هيأ الله في تلك الجنة- للمؤمنين بدعوته- من متع ونعم، هي لهم متاحة مباحة، جزاء وثوابا. كلهم سعوا إلى رضا الله، ونعمة النظر إلى وجهه الكريم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22- 23] . فلقد اشتاقوا إلى الجنة، لا إلى أطيارها وأزهارها ولا إلى أنهارها وثمارها فحسب، بل قبل ذلك اشتاقوا أكثر وأكثر إلى رضا الله، في دار المقامة عنده، وصحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه: ركضا إلى الله بغير زاد، غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «1» [آل عمران: 148] . لم يأت دين الله إلا ليستمر هذا الموكب الفاضل المنير، برعاية الأنبياء   (1) التفسير (1/ 489) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 والرسل الكرام، وورثه سيدهم وسيدنا رسول الله- عليه وعليهم الصلاة والسلام- حتى يرث الله الأرض ومن عليها. * محنة ومنحة: فكانت الأولى من الظاهرتين في هذا القرن محنة مرعبة، وكانت الثانية منحة مخصبة. الأمل- بفضل الله ووعده- أن تنمو هذه الشجرة لتؤتي ثمارها يانعة في هذا القرن الخامس عشر؛ الذي قد يتم أمر الله فيه؛ في أي مكان من أرض الله. وهي كلها موطن لدعوته، وعلى أيدي أي شعب من شعوبه، أو أمة من أممه. وهم جميعا مكلفون بها، ويسعون بها ولها إذ بلغتهم هذه الدعوة وليست هي على أحد حكرا، والأمل بعون الله أن نحتفل- من مدّ الله في عمره، أو جيل من أجياله بقيام دولة الإسلام- كما نحتفل نحن اليوم بالهجرة التي كانت بداية للتاريخ الإسلامي، بقيام مجتمعه ودولته، راجين الله تعالى مشاهدتها، والتمتع بقيامها. ولهذا الاقتران مدلول وأي مدلول، يرى الناظر المتبصر ذلك، من خلال الركام. والله إني لأراها سافرة جاهرة باهرة، حتى لو تخلى عنها الناس أجمعين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] وذلك مقتضى الإيمان، وهكذا كان الأوائل. وعرفوا ذلك من أول يوم أنبأ الله نبيه الكريم صلّى الله عليه وسلم، وقص عليه، وعلى المؤمنين أخبار الرسل والمؤمنين من قبله: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: 4- 8] فكان صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون في قمة العذاب والإعراض الذي يكفي بعضه- لولا النبوة الكريمة بتأييد الله ومدده وتنزيله- لتوريث النكوص، والإلقاء في اليأس القاتل مدفونا دفينا تحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 إنها النبوة، وفي كل خطوة من الدعوة- بله المعجزات- عليها دليل، فكانت الأمور عندهم واضحة، ومثالهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فمعرفتهم بالطريق ووعوراته ومتطلباته مقننة، والتهيؤ للسير فيه والافتداء بكل شيء، حتى ليغدو كل عزيز في سبيل الله رخيصا، وبذلك قام البناء، وتنزّل الله سبحانه وتعالى عليهم بالنصر المبين في كل حين. وهو أمر واضح يقينا وتعيينا، وعلى أساسه كانت الخطى، يشق الموكب طريقه وسط الظلمات الحالكات، لا في مكة وحدها أو الجزيرة، بل في العالم أجمع. * من الجاهلية إلى الإسلام: فالجاهلية غائرة متمكنة بظلماتها وانحرافاتها وتعبّدها لغير الله تعالى، في العقيدة والعبادة والحياة. عبّدوا أنفسهم لحجر أو شجر أو بشر، وإن اختصت- بتفاوت الديار- في ألوان من هذه أو تلك. ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب» «1» . وفي وسط هذا الضلال الشامل بدأ الزمان يدور باسم الله وبدعوته؛ ليستقر عما قريب على الهيئة والحالة التي أرادها الله لها، ولاستحقاق الخلافة بأرض الله بشرعه الكريم، كان ذلك حين جلجل صوت الوحي بقراءة أول آيات من كتاب الله تنزّل بها الروح الأمين من عند الله تعالى على قلب محمد صلّى الله عليه وسلم، فكتبت فيه ليبدأ الإشعاع الرباني من غار حراء، وليرتفع بها صوت النبي صلّى الله عليه وسلّم عاليا مدويا في جنبات مكة وطرقاتها، وتردّده أحياؤها، ثم بعد ثلاث سنوات نادى على جبل الصفا بأعلى صوته، امتثالا لأمر الله:   (1) من حديث شريف، أخرجه مسلم: كتاب: الجنة، باب: الصفة التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، رقم (2865) . مسند الإمام أحمد (4/ 162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] فناداهم صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» «1» . فأقام النبي صلى الله عليه وسلم- والمسلمون في مكة- يرتاد تواجد الأقوام وتجمعاتهم ومجتمعاتهم، في منازلهم ومساكنهم وأسواقهم ومجالسهم ومواسمهم، وكافة مواقعهم، ثلاثة عشر عاما، يحفر في الأرض المصخرة، جرّب كلّ تلك المواقع، وكان يعرض نفسه على كل أحد، يسأل من يؤويه، وينصره   (1) أخرجه البخاري: كتاب: التفسير (الشعراء) ، باب: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، رقم (4492) . ومسلم، كتاب: الإيمان، باب: في قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، رقم (208) . مسند الإمام أحمد (1/ 281، 307) جديدة: (4/ 329، رقم 2544، 5/ 17- 18) رقم (2801) . والترمذي: التفسير، سورة المسد، رقم (3363) . جامع الأصول (2/ 286) ، رقم (739) وبعدها. الأساس في السنة (1/ 235- 239) رقم (87- 90) . حياة الصحابة (1/ 91) . سيرة ابن كثير (1/ 455- 469) . وتكاد كل هذه تورد وتؤيد وتبين أن هذه الحادثة كانت بمناسبة نزول آية (آيات) الشعراء: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء: 214- 216] . إلا أنّ ابن إسحاق في سيرته الشهيرة (سيرة ابن هشام) - وهو يقدّم ملخصا جيدا لبدايات الدعوة الإسلامية في عهدها المكي- يبين وكأن آية سورة الحجر [رقم 94- 95] فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ نزلت أولا، ثم آيات سورة الشعراء. فيقول ابن إسحاق: (ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدّث به. ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يصدع بما جاءه منه، وأن ينادي الناس بأمره، وأن يدعو إليه؛ وكان بين ما أخفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره، واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين- فيما بلغني- من مبعثه؛ ثم قال الله تعالى له: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وقال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ. (سيرة ابن هشام، 1/ 262- 263) . وانظر: من معين السيرة (43- 45) . وعلى كل حال فلعلّ هذا الأمر وموقفه قد تكرر، كما يقول البعض. انظر: جامع الأصول (2/ 286- 287) (الهامش) . من معين السيرة، نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ليبلّغ رسالات ربه سبحانه «1» . استمر ذلك كله، حتى كانت تباشير الهجرة تدق الطريق، حين بدأ دخول مجموعات من أهل المدينة في هذا الدين، خلال السنوات الأربع الأخيرة من مكوثه صلّى الله عليه وسلّم في مكة، أو التي أسلم من أهلها خلال ذلك نفر قليل، رأوا كل شيء في جنب الله زهيدا. تربّوا جميعا- رجالا ونساء وولدانا، فقراء وأغنياء وعبدان- على ذلك صناعة، وأتقنوه بضاعة، بشكل متفرد في تاريخ الإنسان، تفرّد الإسلام الذي رباهم على شرع الله وعلى يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ الذي كان أكثرهم تحملا وصبرا. وليس ذلك في العذاب والصدود فحسب، ولكن في الصبر عليه، والأمل بنصر الله من غير حدود. ألم تروه، متوسّدا برده- عليه الصلاة والسلام- في ظل الكعبة، وقد جاءه خبّاب بن الأرتّ «2» يشكوه- مع آخرين- شدّة العذاب، ليدعو الله للمسلمين بالنّصرة. يقول خبّاب: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسّد برده (بردة له) في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدّة، فقلنا له: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! فقعد وهو محمرّ وجهه، فقال: «لقد كان من قبلكم (لقد كان الرجل فيمن قبلكم) يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض (حفرة) فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على (مفرق) رأسه فيشقّ (فيجعل) نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون   (1) زاد المعاد (3/ 45) . حياة الصحابة (1/ 98- 110) . (2) خباب بن الأرت: كان قينا (حدادا) يعمل السيوف في الجاهلية، ولما جاء الإسلام كان من أوائل من أسلم، فهو قديم الإسلام وممن عذّب كثيرا جدا في الله، وصبر على دينه. وبعد الهجرة إلى المدينة المنورة جاهد جهادا كريما، فهو من المهاجرين الأولين، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد (المعارك والغزوات) مع الرسول صلّى الله عليه وسلم. انظر: الاستيعاب (2/ 437) ، رقم (628) . أسد الغابة (2/ 114) رقم (1407) . سير أعلام النبلاء (2/ 323) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 لحمه وعظمه، فما يصدّه (يصرفه) ذلك عن دينه. والله! ليتمّنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» «1» . وبعد أن يئست قريش من الإغراء والمداراة، وعرض عليه زعماؤها كل ألوان الإغراء: المال والرئاسة والملك «2» ، كانت قريش كل يوم تزداد كبرياء وتعنتا في تعذيب المسلمين، الذي لم يكن القتل أشدّها إيلاما، وكانوا لا يتزحزحون، بالحق- خلال كل ذلك- ينطقون، وتمسكا يزدادون إيمانا. فمن ضرب وجه حتى ضاعت معالمه، وأبو بكر رضي الله عنه لا يسأل إلا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فور ما أفاق «3» ؛ وأتلفت صخور ثقيلة صدور المؤمنين، وتنطلق من أفواههم: أحد أحد «4» ، مدوية قوية، مؤمنة بالله، تغدق عليهم ندى الإيمان، وترشق الكافرين بحمم النيران؛ وسلخت شمس الرمال الحامية ظهور الكثير، وكان الإيمان حجابا رطّب الظهور «5» ؛ ومزقت السياط مشدودا بالحبال «6» ، رجلا مقيدة، وعند الله الجزاء؛ وأطلعت عين مؤمنة بضربة مشرك جلّله صغار العصيان للواحد الديان، فأجاب عثمان بن مظعون متفاخرا معتزا بالله: (والله إن عيني الصحيحة، لفقيرة إلى ما أصاب أختها في سبيل الله) «7» .   (1) أخرجه البخاري: أرقام (3416، 3639، 6544) . أعلاه، 228- 229. (2) سيرة ابن هشام (1/ 313) . (3) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 309- 310) . حياة الصحابة (1/ 280) . (4) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 329- 340) . حياة الصحابة (1/ 288- 290) . (5) أسد الغابة (2/ 115) . الإصابة (1/ 416) ، رقم (2210) . الوافي بالوفيات (13/ 287) . (6) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 317) . سير أعلام النبلاء (1/ 348، 409) . سيرة الذهبي، (217- 218) . (7) سيرة ابن هشام (1/ 371) . أسد الغابة (3/ 599) . حياة الصحابة (1/ 280، 288، 290، 300) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 كانوا مؤمنين بصدق وعد الله، وإن لم يدركوا نصره، لكن النصر كان في النفس قائما، وفي العين ماثلا، يعيشونه حقيقة واقعة، هو أن يعيش المسلم بهذا الدين، يجاهد في سبيله، مادام فيه نفس يتردد، وآل ياسر- قلبي على آل ياسر- «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» «1» . فاستشهد غرقا بالماء شيخا كبيرا، ياسر أبو عمار. وسبقته إلى رحاب الله في جنة الخلد، زوجته سميّة بحربة فاجر أثيم وكافر لئيم، أبو جهل، طعنها في مقتل، في قبلها، في موطن العفة منها. وكل يوم تشتد المحنة ضيقا، لم يفلت منها أحد من المسلمين، كل قريش تقوم بذلك، متعاونة في كل اتجاه، لم يصدهم كل ما يعرفونه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وموقفهم منه، ودعوته لهم لينالوا خيري الدنيا والآخرة، فيجبهونه والمسلمين بتلك الأساليب التي هي أشد على النفس في كل الظروف، وبلغت إحدى كبر وأكبر عتواتها في المقاطعة «2» ؛ التي قاسى المسلمون فيها ثلاث سنوات من الحصر والجوع، ما نال منه أوفر القسط رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فشدّ حجرين تحت الحزام إلى جانب ما يرى من شدة حال المسلمين. والنساء باكيات لا سيما على أطفالهن، إذ لم يجدن بعض الحليب يرضعنهم به. وهل يتدفق بالحليب ثدي أم لا تجد طعاما فهي خاوية!!؟ وهم متعلقون بالدعوة وداعيها أكثر من تحقيق الرغبة في ملء البطون، وقد اختاروا هذا الطريق اختيارا، فكان مدد الدعوة أعلى وأقوى من كل مدد، ماديا ونفسيا، من الله رب العالمين. ما أعجب هذا الإيمان بالله تعالى ودعوته ونبيه، انظر كيف يجعل صاحبه   (1) سير أعلام النبلاء (1/ 409- 410) (فهناك تخريجه) . حياة الصحابة (1/ 292) . (2) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 350، 374) وبعدها. سيرة الذهبي (221) وبعدها. زاد المعاد (3/ 29- 31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 مليئا بالشوق لخدمته، ابتداء من دائرة النفس الإنسانية، بأن تجدها به سلوكا أسنى، ثم يأتي العمل على نشره. ويوم تخلو النفس من هذه المعاني والسلوك من صورها، فإن العمل أو الدعوة تصبح أمرا دنيويا لمصلحة أو منفعة، وهو أمر يرفضه الإسلام. فالإيمان بهذا الدين الكريم يشعر صاحبه بالتوق والشوق والتعطش له. ومن فقه المسلمين الأوائل، والمرأة المسلمة بالذات، في الهجرة، كما هي في الحياة الإسلامية، جنّدت نفسها مهاجرة ومحضّرة ومدبّرة، افتدت ذلك بنفسها. وهي مهمة تتكامل مع جهود الرجل، أو تنفرد بإجادتها في الهجرة وغيرها لخدمة الإسلام في كل ميدان وآن، ولدينا من هذا قمم عالية وأعلام هادية. فخديجة وسميّة وأم سلمة وعائشة وأسماء ونساء المقاطعة وأم معبد وغيرهن ما أكثرهن. جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين حلّا خيمتي أمّ معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به ... وأفلح من أمسى رفيق محمد وكم شاركن في بناء الدولة بعد الهجرة، وانتصرن لله ورسوله، فكن مثالا وأيّ مثال! * العزيمة وقيام الحياة الإسلامية: الأخذ بالعزيمة شأن ذلك الجيل القرآني، ومن سار على نهجهم ونهل كما نهلوا- من كتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. لقد أخذ أكثرهم بالعزيمة «1» ، ولديه متسع في الأخذ بالرخصة ... وخدمة الإسلام تحتاج إلى العزائم والأخذ بها، لا تقدّم عليها دنيا المال والمناصب والشهرة وغيرها. ومن مقتضى الصدق في الإيمان بالله تعالى ودعوته والجدية فيه: ظهور ذلك بوضوح تام ظاهر، سلوكا قراءة وأخلاقا.   (1) مرت أمثلة كثيرة على هذا الأمر الواضح. انظر أعلاه: 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 إن الكفر والشرك- والعياذ بالله- مرض يسد منافذ النفس، ويبيد رغباتها الفطرية، فهم- ككل إنسان- عطاش لدعوة الله بالفطرة، والماء قريب، خلقه الله للارتواء، وهم يرفضونه، ويجعلون حربهم لتياره الكاسح، بقوته الذاتية المستمدة من الله تعالى، ويذيقون أهله كل فنون المواجهة والتعذيب، ترطبت به نفوسهم، وبللت أرواحهم ينبوع (وينابيع) الإيمان من غير نضوب. والمرأة المسلمة كانت قوية صلبة، رغم ما يعرف عن جنسها من رقة لا تتحمل، إلا أنها أعطت صورة الإيمان بدعوة الله تعالى، إذا استقرت في قلب إنسان. فكم تحملت وبذلت المرأة المسلمة من كل لون بنفسها أو بأولادها أو بالأعزة عليها، وهذا يسري في كل آن، وكانت خلال القرون تجاهد في أكثر من ميدان، وأكبرها تنشئة الأبناء في محاضن القرآن. أيتها المرأة المسلمة! يا شقّ النفس المؤمنة! اكتحلت بك العيون، والفرح بمواقفك، أغلقت على الدموع الجفون. فروعة كل أحد مستمدة من هذا الدين ليس الرجال فقط، بل المؤمنات الفضليات، وكذلك الأطفال، بنين وبنات، ارتضوا جميع الأحوال، ولو أن يهلكوا عيانا لأمر الله، كما استسلم إسماعيل- عليه السلام- فاستعلوا على كل محرم، وانشغلوا بذكر الله، وعملوا لرضاه. فكل شيء لشرع الله مبذول، في السلم والحرب والسلامة والسامة، وطلب الجنة، بعد الدنيا، وكيف ينام طالبها «1» ، أو يركن لدنيا راغب فيها، فإن سلعة الله غالية إلا إن سلعة الله الجنة «2» ؟!   (1) معنى حديث شريف. (2) حديث رواه الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب: (18) ، رقم (2450) وتمامه: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» . انظر: جامع الأصول (4/ 9) رقم (1981) . «أدلج» : سار أول الليل، من الإدلاج. والمراد هاهنا (التشمير في أول الأمر، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 تبدل في حياتهم كل شيء، مذ بدعوة الله كانت ولادة الإنسان الجديد. غدا المسلم عبدا لله- بعد الأصنام- متوجها إليه عارفا طريقه. باعوا أنفسهم إيمانا، وارتبطوا بشرعه، تعبّدوا له، بعد العبودية لغيره، تابوا عن الفواحش، وعشقوا الفضائل الربانية. وبهذا التكوين الجديد الذي استهل الفداء طريقا، قائما على الإيمان بالله والحب فيه: حب دعوته وحب رسوله صلّى الله عليه وسلّم وحب المؤمنين وحب مستقبل الإسلام، يفعل ما يريده غير سائل عن لونه أو كنهه ولا مبال بضخامته وعتوه، يدور مع القرآن حيث دار «1» ، لا يريده في غير ذلك الاتجاه، ولا يتهاون في إدارته، يتنازل عن كل شيء له، ولا يتنازل منه بأي مقدار لشيء. بهذه الروح كانت تلك الأمور، وكانت الهجرة، وكانت الدولة، وكانت الفتوحات والحضارة والحياة الكريمة الفضلى والمثل العليا الكبرى والبطولات الفذة القصوى. ألم يأتكم خبر عبد الله بن حذافة السّهمي «2» ، حين وقع في أسر الروم- في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه- واستقدمه القيصر هرقل ليعرض عليه- ترغيبا وترهيبا- ليترك دين الإسلام. فقال- أخذا بالعزيمة دون الرخصة، ودولة الإسلام قائمة- (والله لو ملكتني ملك العرب والعجم ما تركت دين الله (دين محمد) طرفة عين) . ولما قتلوا أمامه بعض أسرى المسلمين رميا بالزيت المغلي إرهابا، لعله يضعف، وجيء به يبكي استبشروا، وسألوه إن كان يبكي ضعفا ويوافق؟ فلم يتغير جوابه، أو يتزحزح من موقعه. إذا لماذا كان يبكي؟ قال: (أبكي لأني لا أملك غير   من سار من أول الليل كان جديرا ببلوغ المنزل في وقت مبكر) . (1) من حديث شريف. (2) أسد الغابة (3/ 212- 213) . سير أعلام النبلاء (2/ 14- 15) . ويذكر صاحب الاستيعاب (3/ 891) أن أسره كان سنة (19) للهجرة النبوية الشريفة في خلافة عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 نفس واحدة إذا استشهدت انقطع جهادي في سبيل الله، وكنت أتمنى أن لي بكل شعرة في بدني نفسا تموت الواحدة تلو الآخرى في سبيل الله) . فلا عجب، ألم يقل رسولنا وقائدنا وقدوتنا وزعيمنا ومعلمنا وهادينا، ولا زعيم لنا غيره ولا نبي بعده صلّى الله عليه وسلم: «ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل» «1» . وحين اشترت قريش في مكة أسيرا مسلما خبيب بن عديّ «2» ، في السنة   (1) أخرجه البخاري: كتاب: الإيمان، باب: الجهاد من الإيمان، رقم (36) . وورد عنده بأطول من هذا: كتاب: الجهاد، باب: تمني الشهادة، رقم (2644) . ونصّه: «والذي نفسي بيده! لولا أنّ رجالا من المؤمنين، لا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده. لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل» . أدناه، ص 406. (2) خبيب بن عدي الأنصاري: أوسي من بني النجار، شهد بدرا وأحدا. وهو أحد العشرة أو الستة- الذين بعثهم إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قبائل عضل والقارة، في أواخر السنة الثالثة للهجرة أو أوائل الرابعة- وهو الأرجح- بعد أحد. وكان أميرهم عاصم بن ثابت ابن أبي الأقلح، جدّ عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه. هذا ما تقوله بعض المصادر، وهو يعني أن عمر بن الخطاب تزوج بنت عاصم بن ثابت. لكن الذي يبدو أن أم عاصم بن عمر بن الخطاب هي جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح، أي: أن أم عاصم بن عمر بن الخطاب هي أخت عاصم بن ثابت، وليست ابنته. انظر: التاريخ الأندلسي (189) ، حيث تجد التفاصيل. قدم المدينة المنورة رهط من هذه القبائل وسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (يا رسول الله إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلّموننا شرائع الإسلام) (سيرة ابن هشام، 3/ 169. حياة الصحابة، 1/ 521) . فبعث صلّى الله عليه وسلّم هؤلاء الصحابة الكرام، فخرجوا مع القوم. والصحابة هم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن أبي الأفلح، وخبيب بن عديّ، وزيد بن الدّثنّة بن معاوية، وعبد الله بن طارق. وهذا في حالة كونهم ستة نفر، كما يقول ابن إسحاق (السيرة 3/ 169) . لكن آخرين يقولون إنهم عشرة نفر ستة من المهاجرين وأربعة من الأنصار (مغازي الذهبي، 230) . فخرجوا مع القوم حتى إذا وصلوا ماء الرجيع (بين عسفان ومكة بناحية الحجاز) (وعسفان: مدينة تبعد نحو (130) كيلومتر (كيلا) شمال مكة باتجاه المدينة المنورة) غدروا بهم، واستصرخوا عليهم قومهم، فأحاط بهم نحو مئة أو يزيد، بأسلحتهم. فلم يستسلم الصحابة، وجرى قتال، ولم يكن معهم غير سلاح الراكب (السيوف في القرب جمع قراب) ، ولم يكن معهم سلاح المحارب، فقتل سبعة من الصحابة، منهم أميرهم، ثم قتل آخر، وبقي اثنان: خبيب بن عدي، وزيد بن الدّثنة. فأخذوهما إلى مكة، وباعوهما لمن يطلب الثأر منهما في قتلى بدر، فسجنا، وكان خبيب في بيت امرأة، رأت منه عجبا فأسلمت. ثم جيء بهما، فقتلا صبرا (قتل محبوسا محكوما، وليس في حرب) في يوم واحد. ولما أرادوا قتل خبيب قال لهم: ذروني أركع ركعتين، فتركوه، ولم يطل فيهما، قائلا: (لولا أن تظنوا أنّ ما بي جزع لطوّلتها) . فكان أول من صلب في الإسلام، وأول من سنّ الركعتين لكل مسلم قتل صبرا. وحين رفعوه على الخشبة قال: (اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا) (سيرة ابن هشام، 3/ 173) . ثم أنشد شعرا، وهو المذكور أعلاه، وهو في المصادر أطول. وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع فلست بمبد للعدو تخشّعا ... ولا جزعا إني إلى الله مرجعي فو الله ما أرجو إذا متّ مسلما ... على أيّ جنب كان في الله مصرعي ثم سألوه (هو أو زيد) : أتحبّ أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: (والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي) . فعجبوا من ذلك وقالوا: ما رأينا أحدا يحبّ صاحبه كما يحبّ هؤلاء محمدا. (سيرة ابن هشام، 3/ 172. حياة الصحابة 1/ 521، 523) . ثم قتلا، رحمهما الله تعالى، ورضي عنهما وأرضاهما. (أخرجه البخاري: كتاب الجهاد، باب: هل يستأسر الرجل، رقم 2880. كذلك رقم: 3858، ورقم 6967) . سيرة ابن هشام، (3/ 169- 183) . زاد المعاد (3/ 244، 246) . الإصابة (1/ 418) رقم (2222) . وعند الذهبي تلخيص جيد لحادثة يوم الرجيع (أو سرية الرجيع، أو ماء الرجيع) ذلك الذي وقع في صفر من السنة الرابعة للهجرة الشريفة حين الحديث عن خبيب يقول: شهد أحدا، وكان فيمن بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم مع بني لحيان، فلما صاروا بالرجيع، غدروا بهم، واستصرخوا عليهم، وقتلوا فيهم، وأسروا خبيبا، وزيد بن الدّثنّة، فباعوهما بمكة، فقتلوهما بمن قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم من قومهم (في المعارك والحرب) وصلبوهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الثالثة- أو الرابعة- للهجرة، أعدمته رميا بالنبال جنبا. ولما قدّموه إلى القتل، صلّى ركعتين، فكان أول من صلاهما في هذا الموقف، ولما رفعوه على الخشب سألوه إن كان يرضى أن يطلق سراحه مقابل وضع الرسول صلّى الله عليه وسلم مكانه فقال: (والله ما أرضى أن أكون عند أهلي ومحمد صلّى الله عليه وسلّم يشاك بشوكة في قدمه) «1» . فعجبت قريش من ذلك، وقال قائلهم: ما رأينا أحدا يحبّ صاحبه كما يحب هؤلاء محمدا. ألم يتربّى خبيب في مدرسة النبوة، يتغذى بايات الله تملأ قلبه، وهو يسمعها بصوت النبي صلّى الله عليه وسلم، ويسمعه وهو يردد: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما» «2» . ولما رفعوه على الخشبة كان يقول: (اللهم إنّا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا) «3» . ثم ردّد أبياتا من الشعر، بينما النبال تمزّق جسمه: فلست بمبد للعدو تخشّعا ... ولا جزعا إني الى الله مرجعي ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيّ جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع * فطنة المسلم وتضحيته: فلا تركن لذلك أو تستمرئه، وإن قصرت لفترة، فهي تعرف طريق التوبة سراعا، بل إنها تجاهد في الله لا تنثني ولا تنحني ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ   بالتنعيم) . سير أعلام النبلاء (1/ 246) (وانظر الهامش عنده) . كذلك طبقات ابن سعد (2/ 55- 56) ، مغازي الواقدي (1/ 354) ، سيرة ابن كثير، (3/ 123- 134) . وغيرهم كثير. (1) سيرة ابن هشام (3/ 172) . حياة الصحابة (1/ 523- 524) . (2) رواه الإمام أحمد (3/ 207، 278) . (3) سيرة ابن هشام (3/ 173) . سير أعلام النبلاء (1/ 248) . سيرة ابن كثير (3/ 130) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: 4] . وإنّ للمسلم من إيمانه مولّدا حيا، ومنبعا للوعي، ومجددا للتوبة، في التوجه إلى الله رب العالمين، وتغيير المنكر وإنكاره، ولو بالقلب، الذي هو أضعف الإيمان. فأين نضع ما هو أدنى من ذلك؟ وهل وراءه من إيمان حبة خردل؟ والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «والذي نفسي بيده! لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليسلّطنّ الله عليكم ذلّا لا يرفعه حتى تعودوا إلى دينكم» «1» . ويقول صلّى الله عليه وسلّم في حديث آخر: «وليقذفنّ الله في قلوبكم المهابة من صدور أعدائكم، ويقذف في قلوبكم الوهن» قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» «2» . فهذه النوعية من الناس حاملة الإيمان، ورافعة راية القرآن، مستعدة للتضحية من أجل الإسلام، بالمال والفلذ والنفس والأهل والولد، في كل الأحوال، وعلى طول الزمان، تتوارثه الأمة الإسلامية جيلا بعد جيل. * النور وراء الظلمة: وحين ظهر عقم مكة عن احتضان هذه الدعوة- بعد تلك السنين- هيأ الله لدعوته مستقرا جديدا، فكانت البيعات الثلاث- لأهل المدينة- المعروفة التي بايع فيها مجموعة من أهل المدينة في السنة الثالثة عشرة من النبوة، على طاعة الله ورسوله والموت في سبيله. فكانت بيعة على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق، وعدم الخوف في الله   (1) أخرجه العديد بتنوع. انظر: الترمذي (رقم 2169/ 4) . سير أعلام النبلاء (18/ 298) . (2) جزء من حديث شريف تجده كاملا في: أبو داود، كتاب: الملاحم، باب: تداعي الأمم، رقم (4297) ، باب: الأمر والنهي، أرقام (4336، 4338- 4341، 4344، 4335- 4337) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 لومة لائم، وعلى نصرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم عليهم المدينة فيمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، وعلى نهكة الأموال، وقتل الأشراف. قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «الجنة» ، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل «1» . وبهذا البناء كانت الهجرة، الحدث التاريخي الفريد، والرحلة الأرضية الكبرى، بعد الإسراء والمعراج الرحلة الكونية والعلوية العظمى. وظهرت في الهجرة البطولات الفريدة من كل لون في مستوى غامر، أظهرت عمق إيمانهم، وشدة حبهم، وشمول فدائهم. ولم يكن أحدهم يخشى على نفسه أو غيره إلا مستقبل الإسلام، وحماية رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومن هنا لم يبال أحدهم بشيء. واستغرقت مراحل الهجرة حوالي ثلاثة شهور، هاجر في نهايتها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي بكى من الفرح، وعن ذلك تقول عائشة- رضي الله عنها-: (فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ) «2» . انطلق صلّى الله عليه وسلّم مستخفيا ومستبقيا عليّا رضي الله عنه في فراشه؛ لتطمئن قريش وفتيانها الأربعون المحيطون بالدار ليقتلوه، ببقاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيه، في الدار- ولكي يعيد الأمانات إلى أهلها «3» ، وهو الأولى والأهم، وهذا أمر عجيب. ولعل هذا هو السبب الوحيد تماما لإبقائه، وما عداه كان من بركات هذه الدعوة الكريمة، ورعاية الله تعالى لها. * عجائب الإسلام وفرائده: وهذا أمر غريب وعجيب: في سلّم التعجب والإعجاب وفرائد   (1) التفسير (1/ 30، 3/ 1571- 1572، 6/ 3560) . مسند الإمام أحمد (3/ 340) . (2) سيرة ابن هشام (1/ 485) . سبل الهدى والرشاد (3/ 336- 337) . (3) سيرة ابن هشام (1/ 485) . سبل الهدى والرشاد (3/ 338) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الأخلاق، ألّا تجد قريش أكثر أمانة وصدقا وثقة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تضع عنده أماناتهم، وهم يقاتلونه ويحاربون دينه والمؤمنين به، ويحضّرون لقتله، ويعدّون لإبادة دينه، ولا يخشون على أماناتهم وهي عنده؟! إنه حقا لأمر فريد، جدّ فريد وجديد. إنه لأمر عجيب من الناحيتين: من ناحية الكفار، أنهم يفعلون ذلك، ولا يجد هذا الصدق والتفرد في الفضائل التي كانت بدعوة الله، فلا يفتحون لها القلوب، ومن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يراهم كذلك، ويؤدي لهم أماناتهم، وهذه أكبرهما وأعجبهما، ومن أجله استأمنوه، وإلى هذا الحد. * هذه أخلاق القرآن: فتلك أخلاق القرآن، وهو أمر لا يمكن أن نجده في غيره، وشتان بين هذه وتلك: الإيمان والكفر. وهذا فيه دليل على أمر آخر مهم، هو أن قريشا كلها- أو أكثر منها، ومنهم أولئك الذين كانوا يحاربونه- كانوا متأكدين من صدقه في الحياة، ومن صدق نبوته، ومع ذلك فلا يؤمنون به، فهم الذين أطلقوا عليه قبل النبوة (الصادق الأمين) ، وهو حجّة عليهم. وحين سأل أحدهم أبا جهل: أمحمد صادق أم كاذب؟ قال له: ويحك إن محمدا لا يكذب قط «1» . ثم هم لا يؤمنون قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . * تعدد دروب النفس: ويأتي من ذلك شيء: هو أن القناعة العقلية وحدها لا تكفي دائما لقبول الحق والخير، وإذا كفت فكفايتها باردة أو هامدة؛ لأن الإنسان متعدد   (1) تفسير الطبري (7/ 182) (الجديدة، 11/ 333) . (2/ 1075) . خلال تفسير الآية الكريمة: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 المكونات العاملة الحيوية المتحركة، كان العقل واحدا منها، فالله خالق الإنسان، وعالم به أنزل شرعه للعناية بكل المكونات، ليكون الإنسان الرباني الذي أراده الله تعالى بهذه المقومات والشريعة، وبذلك يتجه إلى الله بقوة وحرارة لا يلوي على شيء. وعلى التربية والمهتمين بها أن يلحظوا هذا الأمر الأساسي الخطير في عملية التوجيه والتعليم، وأن يقوم هذا على دين الله سبحانه وتعالى. * الهجرة والأخذ بالأسباب: أعدّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم عدّته للهجرة بعد أن أمره الله بها، ووضع خطتها، وكانت في غاية الإحكام والدقة ونهاية الحيطة، بتوجيه الله له، ووحيه الأمين، في أمور شرحها وبيانها وذكر معجزاتها يطول، منها: أنه بدل أن يتجه الركب المبارك إلى الشّمال اتجه إلى الجنوب- محفوفا بعناية الله- ملاحقا من قوى الكفر، تبتغي قتله، معلنة عن جائزة ضخمة؛ لمن يأتي به حيا أو ميتا. وأعدت أربعين شابا لقتله، في خطّة عنيفة مخيفة وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «1» [الأنفال: 30] . فخرج صلّى الله عليه وسلّم من بينهم- بقدرة الله- في الليل، واتّجه إلى دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث خرجا ليلا من هناك، من خوخة في ظهر دار أبي بكر، مبتدئين هذه الرحلة المباركة الكريمة من هناك «2» . أن تنشغل قريش كلّها وأهل مكة، وتبذل لذلك، وتحضّر، وتخطط، فذلك دليل- وهو حال متكرر- أن أهل الباطل- أفرادا وهيئات ودولا ومعسكرات وجهات ومؤسسات وأحزابا- إذا حاربوا الحق، وهم يحاربونه   (1) التفسير (3/ 1501) . (2) البخاري رقم (3692- 3694/ 3) . سيرة ابن هشام (1/ 485) . وانظر: سبل الهدى والرشاد في هدي خير العباد (3/ 338) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 دوما- يلجؤون إلى كل الوسائل، دون النظر إلى صلتها بمثل أو قانون أو عرف، حتى تلك التي وضعوها، أو ادّعوا التعامل معها. وهكذا دينهم وديدنهم، في كل الأمور، لا ترتبط بشيء غير مصلحتهم. وكلما يدّعون، أو يضعون من قوانين إنما هي لحماية هذه المصلحة، ويوم تعوّقها يدوسونها، ومع كل ذلك إذا فشلوا في شيء لمصلحتهم اتبعوا سبيل القتل والإبادة، لا يصدّهم عن ذلك وأكثر منه شيء. وهكذا فعلت قريش، ودبّرت له، رغم أنهم يتعاملون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم المعروف لديهم، وهو يدعوهم إلى الله، ودعوته الحقة الخيرة، يفعلون ذلك ظنا أنهم يقضون على هذه الدعوة المباركة، وهيهات! تقع المدينة المنورة بما يزيد على (450) كم شمال مكة المكرمة، لكن الركب الميمون- ركب الإنسانية، الذي يضمّ أو يحمل مستقبلها، كما أراد الله الكريم الرحيم لها- اتجه نحو الجنوب، حيث وصل غار ثور- بعد خمس كيلومترات من المسير- في الليل من يوم الخميس. فدخلا ذلك الغار في أعلى الجبل، والطريق إليه وعر شديد. وبعد ثلاثة أيام- قضوها في انتظار أن يخف الطلب، وفي إعداد للزاد والأخبار رائع جميل- بدأ الركب الميمون السير الحثيث- بدليل مكيث- ليلة الإثنين «1» متّجها نحو المدينة المنورة، في رحلة مباركة تحمل هداية الإنسانية، التي أرادها الله سبحانه وتعالى. حاز آل أبي بكر عظيم الشرف في الهجرة، إلى ما حازوه من قبل ومن بعد، فعائشة وأسماء ذات النّطاقين تكفّلتا بالطعام، وعبد الله الشاب الثّقف اللّقن (الحاذق اللّماع الفطن) «2» ينقل أخبار قريش، ويبيت عند الغار ليصبح في مكة وكأنه نائم فيها، وراع يتولّى السير خلفه كيلا يعرف له   (1) انظر: المسند (1/ 277) (جديدة رقم 2506/ 4) . سبل الهدى (3/ 360، 377) . (2) أخرجه البخاري: كتاب: فضائل الصحابة، باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، رقم (3692- 3694) . سيرة ابن هشام (1/ 486) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أثر «1» ، ومطاردة وصلت أبواب الغار، فكان أبو بكر يرى أقدامهم، ولا يرونه؛ فقال: لو أن أحدا نظر إلى موضع قدمه لأبصارنا. فقال له صلّى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر! ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا» «2» . فحماهما الله من كيدهم، وعاد المطاردون بعدما صدّتهم- بإرادة الله- أصناف من الحيوان الضعيف، قام مقام الجيش الكثيف، فارتدوا خائبين إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التّوبة: 40] . وبعد أيام ثلاثة جاء عامر بن فهيرة، يخدمهم، ويعاونهم في الطريق «3» . وأقدم الدليل في المساء بجملين (وثالث له) . فسار بهما ممعنا في الجنوب أيضا، ثم اتجه غربا نحو ساحل البحر الأحمر، مصعّدا شمالا إلى المدينة المنورة، في طريق غير معروفة. واستمر الركب يغذّ السير طوال الليل وشطر النهار، كي يبتعد عن مكامن الطلب والمطاردة، القادمة من مكة وما حولها. خطا ذلك بخطوات سريعة في جنح الظلام. وبعد بذل غاية الطاقة، وفي الساعات الحرجة، أو التي تنعدم فيها فعالية الجهد الإنساني، وقد بذل الجهد الماثل في تحقيق شيء، تتولّى العناية الإلهية الإحاطة بها كما هي منذ البداية، تغشاه وترعاه، فكيف وهنا دعوة ونبوة ورسالة؟! ولقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحوز كامل الاطمئنان، وهو في قمة الخطر،   (1) أخرجه البخاري، نفسه. سيرة ابن هشام، نفسه. (2) أخرجه البخاري: كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، رقم (3452- 3453) . زاد المعاد (3/ 53) . حياة الصحابة (1/ 340) . (3) أخرجه البخاري: كتاب: فضائل الصحابة، باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم رقم (3692- 3694) . إمتاع الأسماع (1/ 42) . سيرة ابن هشام (1/ 487- 488) . زاد المعاد (3/ 55) . سيرة الذهبي (326) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وغمرته المحدقة المبيدة. أليست تلك واحدة من علامات النبوة؟! بل وسراقة الذي جاء يطاردهم، طمعا في جائزة قريش، فلما ساخت فرسه لأكثر من مرة سقط من عليها في الثالثة، على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم محفوظ، وتحوّل من مطارد لهما طامع بالجائزة إلى راغب بوعد، يعمّي الأنظار، ويكتم الأخبار، والوعد أمان وإيمان، بشّره صلّى الله عليه وسلّم بأن الله سيفتح على المسلمين، ويلبس سراقة تاج كسرى وأسورته «1» . أليس هذا خيال!؟ لا بل واقع. ويتمّ الله فتح أكبر دولتين في العالم فارس والروم، ويلبس سراقة في خلافة عمر أسورة كسرى وتاجه، ذلك على ملأ من الصحابة. وقال عمر: (الحمد لله الذي سلب كسرى سواريه، وألبسهما سراقة بن جعشم الأعرابي) «2» . معجزتان في معجزة: الأولى: إخبار عن الغيب، بوحي الله، والثانية: إتمام هذا الأمر، وهو ما أخبر الله به نبيّه، وعرفه سراقة في يوم تمامه. فيا للفرحة والقوة! إنها النبوة الكريمة. ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طول الطريق خائفا، فلقد كان يقرأ القرآن، ويكثر من الدعاء، ذلك غاية الاطمئنان، وأعلى درجات الإيمان «3» . واستمر الركب الكريم أكثر من أسبوع حتى وصل المدينة المنورة في قباء، يوم الإثنين من شهر ربيع النبوي (الأول) . وأقام فيها أربعة أيام، أسّس أول مسجد في الإسلام «4» . ثم انتقل إلى داخل المدينة المنورة؛ التي   (1) حياة الصحابة (261- 262) . تاريخ الإسلام (الخلفاء الراشدون) (295) . (2) حياة الصحابة، نفسه، تاريخ الإسلام، نفسه. السيرة النبوية، أبو شهبة (1/ 493- 495) . (3) انظر: البخاري: كتاب: فضائل الصحابة، باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، رقم (3694/ 3) . سيرة ابن هشام (1/ 489- 490) . حياة الصحابة (1/ 341- 342) . (4) سيرة ابن هشام (1/ 493- 494) . قارن: الفصول في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ابن كثير (117- 118) . حياة الصحابة (1/ 342) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 انتشر فيها الإسلام، حتى لم يخل دار من قائل لا إله إلا الله محمد رسول الله «1» ، مستعدّين للفداء، حتى ولو كانوا مقاطع في ذلك البناء، أولئك الذين أحبّوه على البعد قبل الرؤية، مثلما أحببناه في غير رؤية في هذه الحياة إلا رؤية الصورة الواضحة في السلوك والسيرة، وفي القدوة والعشيرة، رؤية العاشق الولهان، فهو حيّ في النفوس والقلوب، راجين أن يجمعنا الله به يوم الدينونة عند الله الواحد الديان «2» . * لقاء الهجرة والنّصرة: كان أولئك في المدينة- قادمين ومقيمين أو مهاجرين وأنصار- أمضّهم الشوق، وحرّقهم العشق، يرنون إلى الأفق كل يوم؛ لتكتحل العيون برؤية الحبيب، فما أن رأته من بعيد حتى هتفت بنشيد الحبّ الوفي الأصيل ... كان يوما للمسلمين مشهودا، أفضل يوم فرح رأته، إنه يوم رؤية الحبيب «3» ، مقترنا- لأول مرة- ومعلنا إقامة بناء المجتمع المسلم، يحكمه شرع الله في كل أمره، ويتوجّه إلى الله في كافة شؤونه ... وأقام دولة الإسلام التي نبذت حكم الجاهلية، وحكمت بالشريعة الربانية أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] . إنها بداية جديدة لجهاد مضن طويل، تحمّلوا فيه التضحيات لنشر الإسلام والدعوة إلى الله، وبنفس نوع البناء وبكل ألوان الفداء، وهكذا المسلم يعيش في فداء وبناء، يقوم كله على بناء النفس المسلمة بدعوة الله، متجها إلى رب السماء، يحكم نفسه بشرعه، لا يرضى بذلك بديلا، ولا عنه تحويلا، حتى يظهر أمر الله، أو يهلك دونه، وهذا هو العهد الدائم   (1) سيرة ابن هشام (1/ 437، 500) . (2) انظر: البخاري: كتاب: فضائل الصحابة، باب: مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه المدينة، رقم (3709- 3710) . (3) انظر: السيرة النبوية، الندوي (168- 170) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 للمسلم، في بشارة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهو أمر ترخص له النفوس، وتقدّم الغروس، كل الغروس. وفي هذا بيان واعتبار على أن المسلم يأخذ بالأسباب، كأكثر ما يأخذها إنسان بأقصى الجهد، ثم ينتظر نصر الله. فلا إعداده يدعوه إلى أن يركن إلى نفسه، ولا توكّله على الله يهمله الأسباب، فكلاهما من أمر الله وسنّة الله (قدر الله وسنّته) . وهو في كلتا الحالتين مؤمن بالله تعالى، متوكل عليه، وهما جميعا لا يعملان بمعزل عن إرادة الله ورعايته، بل بهما لا بغيرهما تقوم المسيرات وتحدى القوافل. فكانت الهجرة، وكانت النصرة، وكل ما يتصل به، ويمتّ إليه، فاحتضن الأنصار المهاجرين، وبذلوا لهم- باصرة الدين- بعزة وفرح، فلم تبق مشكلة، وحلّت كلّ معضلة. كان بعضها يمكن أن يعوّق استمرار الطريق، لكن- بفضل الله- قام ذلك المجتمع الفريد، وأول دولة حكمت بشرع الله، بقيادة الرسول صلّى الله عليه وسلم. فكان قيامها يوما من أكبر أيام الله، اعتبر بداية التاريخ الإسلامي. إنه لجميل، أن نلتقي على هذه المعاني في حفل جليل، تكثر المعاني الكريمة وتتحدد، وتتزاحم الفكر، وتنهمر العبر، فنحن أمام حدث عظيم، كان له ما بعده، نستمدّ منه التعبير عن عظمة الإسلام. وليس من فوائده إكثار المعرفة والاستفادة من المعلومات فحسب، بل- وكذلك- هذا اللقاء للتناجي المتفتح المتوجّه إلى الله. وسواء تقدّم في هذا الحفل أفكار جديدة أو معلومات فريدة، فذلك مهمّ، ولا يقل عنه أهمية- إن لم يزد، بل هو- أن تنتعش الروح، وتنتشي النفس، وتطرق المغاليق من الأبواب، فتفتحها، أو تفتح نافذة فيها، تدخل منها نسمات الحياة، فيهبّ قويا لهذا الدين، عاملا لخدمته إن شاء الله سبحانه وتعالى. وفي مثل هذه المناسبة المباركة، تحدث مثل هذه الآثار، والأبواب مفتوحة، ورحاب الله واسعة، وأجواء رحمته طيبة قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] . والمسلمون اليوم يتلفتون- في موسم الهجرة وأمثاله- بحثا عن معانيها، وما هي ببعيدة، ليجدوها في دفتي الكتاب. وكم هزلت قلوب، حين أوصدت الأبواب. فحين تفتح الأبواب وتقبل مرتوية، ترتقي في سلم الفضيلة. بل إن البشرية لتتلفت بحثا عن قيادة رشيدة، قيادة إسلامية، يعرف إنسانها ربّه. وقيادة منهج كريم يملك أن يحقق للإنسان إنسانيته ويهبه حضارته ويقيم خلافته، وهو الأمر الذي تتحقق ويتحقق بالإسلام وحده. وكأن الله تعالى، قد وهب للإنسان وعلّمه، لينتج هذه الحضارة الحديثة، التي ضلت الطريق، أن يعوا درسا كبيرا: أنه ليس من شيء يغني عن شرع الله، والحاضر خير دليل، فحياة الإنسان اليوم تراب، ينتظر المطر قبل الاحتراق، وهو على شفا الارتطام، في هوّة تخنقه، يبحث عن كوة نور. وما كان لأمة أن تلد ذلك، وهي لا تنتظر ولا تأمل، بل تسير في عين الاتجاه، تفخر بباطلها، وتدّعي على الحق برهانا، معتدية على سلطان الله الكريم سبحانه وتعالى. وهذا دليل آخر على أن الرقيّ البعيد عن الله، يورث مزيدا من الانحراف، مما يجعل التوجه إلى الله بشرعه ضرورة وحتمية، أوثق من كل الحتميات المدّعاة جزافا. ولذلك كانت حضارة اليوم صخرية الطبيعة، عقيمة الرحم، وإن لجأت إلى الأنابيب، لكنها سوف لا تلد المولود الكريم، ما دامت شاردة عن الله تعالى. فالهجرة حدث فريد في التاريخ الإسلامي، وتاريخ النبوات كذلك، فليس له مثيل، مثلما أراد الله لهذا الدين أن يكون متميزا في كل شيء، دين يلقى هذه الصعوبة في مكة، كان الأمل- في العوامل الظاهرة- أن يستجيب أهلها، أكثر بمراحل، مما فعلوا. ولكنها كانت كالصخر أو أشد، إذ أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 معدل من أسلم (وكلهم نحو 300 مسلم خلال العهد المكي كله، ثلاثة عشر عاما) كان بمعدل حوالي اثنين في كل شهر، وهذا لم يشكّل يأسا لأحد من المسلمين، بل وكأنه كان للصبر مددا. ولكن مدده طاعة الله ورضاه، من غير استكثار لكل تضحية، وما نال المسلمين في سبيل ذلك. وكان الأمل دوما في الله غير منقطع، كما كان ورأيناه في أحداث الهجرة كذلك. والدعوة الإسلامية على الدوام لا تقف، فإن لم تتقدم اليوم فغدا، أو لم يستجب لها هؤلاء القوم، فغيرهم. فإذا عقمت أرض فعداها، ولا تدري من أين يأتي الفرج، لكنه دوما من المؤمنين قريب، ما دام متوجها إلى الله، كالماء يحمل الحياة، وقد ترفضها أرض فلا يتغير، ولا بد أن يشق طريقه مهما كانت العراقيل. لقد كان الأمل في المدينة أن أول من يؤمن فيها من ساكنيها هم اليهود، وهم أهل كتاب. لكنهم رفضوا حسدا، وهم يعلمون صدق هذا الدين وكتابه ونبيّه صلّى الله عليه وسلم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 20] . وتصوّر الهجرة ألوانا كثيرة من أحوال الدعوة والدعاة، بقيادة النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم كيلا ييأس الدعاة، إذا ما نظروا إليه وهو نبيّ، فكيف بغيره؟ وإذا ما أغلقت قلوبهم فتحت أخرى، أو تصخّرت أرض تمهدت غيرها. كما أنه ليس من الضروري توفر عوامل معينة تقرّب من الدين أو تبدو كذلك وتوفر العلم به وغير ذلك، مدعاة لهؤلاء أن يؤمنوا فلا يفعلون، كيلا يكون الدين حكرا على أحد، فقد يؤمن البعيد دون القريب أو الضعيف دون القوي، فمن التحق بهذا الدين نال الشرف، وليس الشرف بالادّعاء، إنما بالانتساب الحق لهذا الدين سلوكا وعملا والتزاما. إنّ مقتضى الاحتفال بالهجرة وشقائقها أن تتوجّه القلوب إلى معانيها تستلهم روحها، وتصدر عن تعاليمها، من غير مفارقة لسمتها، ونرجو وندعو الله تعالى أن تتجلى هذه المعاني التعبدية والفكرية والنفسية، تصوّرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وسلوكا- بهذه الصيغة- في احتفالاتنا كافة، مبنية على نية مؤمنة، وطوية ربانية خيّرة، ليكون لنا فيها أجر، ونية المرء قاعدة ركنيّة ركينة مهمة في عمله، وهي أمر لازم في كلّ عمل، لا بدّ أن تكون خالصة لله تعالى، وحسب شرعه؛ ليكون العمل مقبولا ومأجورا عند الله تعالى. وحديث النية الشريف صدّر به عدد من أهل الصّحاح والمؤلفات الحديثية كتبهم، وهو حديث كان بمناسبة الهجرة، لكنه عام شامل لكل حال، وهو من الأحاديث الجامعة: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها (يتزوجها) فهجرته إلى ما هاجر إليه» «1» . فإذا ما تجلّت هذه الروح، وتفتحت النفس لهذه المعاني وكانت لها من المرامي، فلعلها محاطة برعاية الله سبحانه وتعالى، وتحفها ملائكته، وتنزل علينا في مثل هذا اليوم الفاضل رحمته، فيفتح الله علينا ابتداء، في الهداية، بدا وزيادة فيها والتزاما أكيدا لها، وفي هذا الاتجاه الرشيد؛ لنسير في طريق الله؛ الذي لا يضل سالكه قبل اليوم ولا بعده، ولا يحيد، وهل من رأى النور، وأضاء الله دربه، وعمّر قلبه أن يترك؟ كلا؛ بل يمضي فيه عزيزا غير هيّاب، ولو صبّ عليه كلّ عذاب. اللهم! هبنا الصّلابة في الحق، والثبات فيه، والصبر عليه، اللهم! هبنا صبرا، وتوفّنا مسلمين، اللهم! إنا نسألك البر والتقى والعفاف والغنى والفطنة والحجا، واجعلنا لكلمتك العليا مخلصين.   (1) أخرجه البخاري: كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (1) . ومسلم: كتاب: الإمارة، باب: قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات ... » ، رقم (1907) . وأورده النووي في الأربعين النووية، الحديث الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40] . وصلّى الله على صاحب الهجرة الشريفة والنصرة الكريمة وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 المبحث السابع الهجرة (النبوية) قائمة ودائمة * مناسبات وأحفال * بين العلم والعمل * الجيل المسلم والسيرة * الهجرة والدولة * الهجرات الثلاث * إقامة الحياة الإسلامية * الخلوص الكامل لله * الإسلام هجرة وبيعة * الإسلام وطن وقومية * الهجرة هجرة ونصرة * الحق قادم بأهله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الهجرة قائمة ودائمة أحمد الله إليكم، وأصلّي، وأسلم على رسوله الأمين وآله وصحبه والتابعين كلهم أجمعين إلى يوم الدين «1» . * مناسبات وأحفال: إنه لنشوة ومسرة، أن يلتئم هذا الجمع ليستمع، أو يكتب أحد ليقرأ الآخرون، وينتظم مجلس يتداول بكل مناسبة إسلامية، وقضية ذات علاقة بهذا الدين. وجميل كذلك أن يحتفل المسلمون بمناسبة عالية المكانة، كريمة الموضع، لا بدّ أن تكون فيها- وفي أمثالها- من الرعاية الحقة، ما تفوق أية مناسبة احتفال أو استقبال. يرى المتكلم- في هذه الاحتفالات- وجوها مشرقة بالخير، آملة بالنصر، طافحة بالبشر. والسّنّة يتعطّر حديثها بنفح كريم، يخاطبها، ويكتب لها، ويحادثها، ويتعاهد على خدمة هذا الدين. فهو لقاء شوق وحديث حب ودود، مهما تباين الأسلوب. وحتى ولو لم تجدوا في حضوركم واستماعكم والقراءة، زيادة علم أو معرفة، فلا يجعلكم ذلك تندمون عليه، فلا تثريب كبير. وللإنسان منافذ وأوعية كثيرة، منها وعاء العلم. لكن هناك أوعية أخرى تمتلئ وتشحن   (1) ألقيت بمناسبة الهجرة النبوية الشريفة يوم الجمعة (26/ 12/ 1399 هـ 16/ 11/ 1979 م) ، في الإمارات، أربع مرات- تكررت- بعد المرة الأولى، في جامعة الإمارات في أكثر من جهة ومكان، بنفس العنوان وبصيغ متنوعة، وجمعت وأدمجت في هذا المبحث الحالي، بعد التنقيح والتحسين والزيادات، أما الحواشي والعناوين الفرعية فكلها زيادات جديدة مضافة، يتقدم هذا الكلام قبل أكثر من ثماني عشرة سنة، وفضلت إبقاءه على حاله، لمناسبته وجوّه ووضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 بثماره وبعوامل متدفقة من الإيمان والمحبة والعاطفة، وهي بحاجة إلى امتلاء لزاما ودواما، في كل حال. * بين العلم والعمل: ومثل هذا اللقاء يجدّد تحريك المعرفة؛ لتكون عاملة بما توفر من علم، يكفي ليكون صاحبها عاملا، والمسلم يزداد علما، ويكون بالعمل له الأجر، ويتحقق القصد. فسعي المسلم إلى الصلاة بالمسجد يكسبه الأجر؛ للمعاني المتنوعة في ذلك، غير مقتصرة على علم. وكثرة منا اليوم بحاجة إلى العمل أكثر منه إلى العلم، وما لديه من علم يكفيه لعمل أكثر، فالعلم حجة علينا، وهو دليلنا، يقودنا إلى الأخذ بالإسلام، وليس من فائدة إن لم يكن هذا من ثماره. فلا بد من علم يقود إلى الله في كل أمر، ويوجّه إليه في كل حال، ولاء واهتداء، في الغيب والشهادة والذكر والعبادة والتفكير والتعبير والسعي والجهاد والعلم والاجتهاد. * الجيل المسلم والسيرة: وهكذا كان الجيل المسلم؛ الذي أقام الحياة الإسلامية على أرض الله، وهو أمر مطالب به المسلمون في كل زمان ومكان، وإلا فهم مقصّرون، وذلك واضح في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، في الهجرة وغير الهجرة، حيث ارتبطت كلها بخيط واحد، مبدؤه ومنتهاه وما بينهما، متصل بالله وشرعه المنير. والسيرة الشريفة مستودع، أودعها الله حقيقة الإسلام، وصورة شريعته، وسر هذا الدين، يجد الناس فيها سيرة الإنسان المثال والصورة الكمال؛ لكل الأمم والأجيال، للقائد والجندي وللرجال والنساء والأطفال، والشيوخ والشباب، في السلم والحرب، والفرد والأسرة، والمجتمع والدولة، في الهجرة والنصرة. والمرأة المسلمة مكانها معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 * الهجرة والدولة: لقد أقامت الهجرة دولة في مبتدأ تاريخ الإسلام؛ الذي قام منذ نحو أكثر من ألف وأربعمئة عام، حيث بداية التاريخ الإسلامي، وقامت دولته بكليتها، تحمل راية الحق، فواجهت صراعا في كل ميدان وهجمات من كل اتجاه ومكائد بكل لون، كان بعضها كافيا لسحق الدولة الإسلامية، وحضارتها الفريدة، وتفتيت كيانها، لولا- بعد عون الله- قوة البناء الإسلامي لمجتمعه الكريم، وحضارته الفذة، وبنيته المكينة. واليوم يقف المسلمون في وجه ذلك كله، ولا خلافة- أو ما يماثلها- في الأرض، تحملهم وتحميهم، ولا مجتمع يضمهم، يحتكم بكليته إلى الله، ويؤول لشرعه. وهذا لون آخر من الدروس. إن قوة وقوف أي تجمع إسلامي ليس مقتصرا- فحسب- حين تقوم الحياة الإسلامية، وتكون لها دولة، بل بغيرها أو بدونها أيضا. فهو الذي يسعى ليقيم الحياة الإسلامية ودولتها، ويعلي الراية في مجتمع ترفرف عليه، خضراء نضرة. ولا بدّ من مسعى لإقامة المجتمع المسلم الذي قام أولا في تاريخ الإسلام ثمرة لتلك الهجرة، هجرة إلى الله تعالى، منذ أول يوم التحق المسلم فيه بموكب الإيمان. * الهجرات الثلاث: فكانت هجرات ثلاث «1» : الهجرة إلى الحبشة «2» ، وهي الوجهة   (1) يعدّ كاتب هذه السطور- منذ مدة- بحثا لكتابة ودراسة هذا الموضوع (الهجرات الثلاث) ، وأسأل الله سبحانه وتعالى العون. (2) كانت هجرة الحبشة- وهي أول هجرة في الإسلام- في نهاية السنة الخامسة للبعثة النبوية الشريفة، أو بداية السادسة منها. وهجرة الحبشة هجرتان أو مرتان. هاجر أولا عدد قليل، نحو ستة عشر مسلما، بينهم أربع نسوة (رجب السنة الخامسة من البعثة النبوية الشريفة) . وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن مظعون أميرهم. ثم عادوا كلهم أو بعضهم، ومنهم من لم يذهب للهجرة إليها ثانية (سيرة ابن هشام، 1/ 322- 323) . وهاجروا ثانية مع آخرين. بلغ عدد جميع من هاجر هذه المرة- نساء ورجالا- نحو مئة أو يزيدون. وهذا يعني أن أكثر المسلمين- حتى ذلك الوقت- هاجروا إلى الحبشة. وكانت لهم هناك أحداث ومواقف. وعادوا مجموعات في أوقات، بعضهم إلى مكة- قبل الهجرة إلى المدينة، وهم الأكثر، على ما يبدو- وآخرون إلى المدينة (حياة الصحابة، 1/ 357) ، وعلى مراحل متباعدة. وكان آخرهم عودة جعفر بن أبي طالب مع آخرين- بعد فتح خيبر في السنة السابعة للهجرة (زاد المعاد، 1/ 102) . أما جعفر فقد استشهد في معركة مؤتة السنة الثامنة للهجرة. وكان قد عاد مع هؤلاء أبو موسى الأشعري- ومن كان معه- حيث قد هاجروا من اليمن إلى الحبشة. وهذه القضية فيها غموض واختلاف في المصادر، بحاجة إلى متابعة وتجلية، ولكن ابن قيم الجوزية يلقي عليها ضوآ جيدا (زاد المعاد، 3/ 28. وانظر: حياة الصحابة، 1/ 357) . ومن المهم- وهو مطلوب- تحديد المدينة التي لجأ إليها المسلمون في هذه الهجرة، وفيها كانت مقابلاتهم للنجاشي (أصحمة) الذي أسلم. أخرجه البخاري، كتاب: فضائل الصحابة، باب: هجرة الحبشة، رقم (3659) وبعده. وهل هذا النجاشي هو نفسه الذي كتب إليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم كتابا يدعوه إلى الإسلام، وبعث بالكتاب- في السنة السابعة للهجرة- مع عمرو بن أمية الضّمري (زاد المعاد، 3/ 689) ، بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة؟! ويبدو هذا الأمر مضطربا في بعض المصادر، فلا وضوح في أن الذي لجأ إليه المسلمون غير الذي بعث إليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضمري بعد الحديبية بكتابه يدعوه إلى الإسلام، وكذلك إن كان هو نفسه. فيفهم من العديد أنهما نجاشيان (البداية والنهاية، 4/ 262. السيرة النبوية، الندوي، 255- 265. إمتاع الأسماع، 1/ 20، 308) . لكن يبدو من استعراض الأحداث، والنظر في ماجرياتها (مجرياتها) والاطلاع على رسائل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجوابات النجاشي له (مجموعة الوثائق، 43، 99، 107) ، إن النجاشي (أصحمة أو أصحم) الذي لجأ إليه المسلمون هو نفسه الذي كتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الحديبية كتابا حمله عمرو بن أمية الضمري يدعوه إلى الإسلام. وموضوع الحبشة- مقرّ هجرة المسلمين- بحاجة إلى بحث مجتهد أصيل، أرجو الله تعالى أن يهيئ له. عن هجرة المسلمين إلى الحبشة راجع كذلك: التفسير (1/ 28- 33) . سيرة ابن هشام (1/ 344) (الخشني، 1/ 397) . البداية والنهاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الأولى، ولم يكن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وحين سأله عثمان بن عفان رضي الله عنه «1» عن ذلك قال صلّى الله عليه وسلم: «أنتم مهاجرون إلى الله وإليّ» «2» . وهذا هو المعنى الدائم للهجرة، وكان جواب عثمان: فحسبنا الله يا رسول الله! ثم كانت هجرة الطائف «3» ، هاجرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحده. كانت بحثا   (3/ 66- 95) . الفصول في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم (99) . زاد المعاد (3/ 23) وبعدها (515) . سيرة الذهبي (183) . إمتاع الأسماع (1/ 20) . مجموعة الوثائق السياسية (43، 99- 107) . (1) كان عثمان بن عفان رضي الله عنه أول المهاجرين إلى الحبشة، ومعه امرأته رقية- رضي الله عنها- بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهي الهجرة الأولى إلى الحبشة، وأول هجرة في الإسلام، في رجب السنة الخامسة للبعثة النبوية الشريفة. وعادوا إلى مكة مع المهاجرين الآخرين جميعا في شوال منها (سيرة ابن هشام، 1/ 344 الخشني، 1/ 397. البداية والنهاية 3/ 66. حياة الصحابة، 1/ 346) . وربما لم يعودوا جميعا (إمتاع الأسماع، 1/ 21) . ثم كانت الهجرة الثانية التي ذهب فيها بعض من هاجر الأولى (فرجع من رجع منهم، ومكث آخرون بمكة، وخرج آخرون من المسلمين إلى أرض الحبشة، وهي الهجرة الثانية) . البداية والنهاية (3/ 67) . والظاهر: أن عثمان وزوجته رقية رضي الله عنهما لم يكونا فيها، وهذا غير واضح عند ابن إسحاق، ولا من المصادر التي توفرت لي. ويفهم- من ابن إسحاق- أن عثمان وزوجته رضي الله عنهما هاجرا الهجرة الثانية، ولكن لا يبدو ذلك راجحا. بل إن ابن إسحاق يتناول موضوع الهجرة إلى الحبشة على أنها هجرة واحدة، تتابع المسلمون إليها على مجموعتين منفصلتين. (2) هذا الحديث الشريف نقلته من أحد المصادر، لكني لم أجده في المتوفّر لي حاليا. وعن موضوع الهجرة ومعانيها وأمثلة منها انظر: باب الهجرة (والنصرة) في كتاب: حياة الصحابة (1/ 335- 373) . (3) كانت هجرة الطائف في السنة العاشرة للبعثة النبوية الشريفة، بعد انتهاء المقاطعة وموت أبي طالب، وبعده بأيام قليلة موت خديجة- رضي الله عنها- (سيرة ابن هشام، 1/ 416. البداية والنهاية، 3/ 122، 127. الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، 105) . وقبل الإسراء والمعراج (البداية والنهاية، 3/ 108) . ذهب صلّى الله عليه وسلّم أو هاجر إلى الطائف، بصحبة زيد بن حارثة رضي الله عنه. وبقي فيها عشرة أيام يدعو الناس إلى دين الإسلام، فلم يؤمن منهم أحد، ولم يلق من أهلها غير الصدّ والكيد، ورموه صلّى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 عن أرض جديدة للإسلام، وقوم آخرين يدعون إليه. ودوما يشق الإسلام مسالك؛ لتتقدم دعوته، وتنتشر، ويدخلها الناس محبين. ثم الهجرة الثالثة الكبرى إلى المدينة المنورة؛ التي أقامت مجتمع الإسلام ودولة الإسلام، واستعد لها المسلمون؛ ليتمّ الله أمره، وينصر دينه، وهي في علم الله كائنة قبل أن تكون. اتخذ لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون كل الأسباب ... جرى كل ذلك مع الاستسلام الكامل لأمر الله وشرعه والركون إليه والأمل بنصره، وهكذا أقامت الهجرة الدولة. والهجرة إلى الله أقامت وتقيم الحياة الإسلامية. إنّ العدو الخارجي والداخلي أصاب منّا ما أصاب، يوم أصيب المسلمون في تمسّكهم، فليلتفت المسلم إلى هذا بقدر حرصه على انتمائه لهذا الدين الرباني وحده. * إقامة الحياة الإسلامية: إن الذين يقيمون المجتمع الإسلامي والحياة الإسلامية ودولتها، هم   بالحجارة حتى سالت قدماه الشريفتان دما، وأسلم هناك شابّ نصراني اسمه عدّاس (فأكب عدّاس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبّل رأسه ويديه وقدميه) . (حياة الصحابة، 1/ 276) . وفيها كان دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ! إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين! أنت ربّ المستضعفين وأنت ربي! إلى من تكلني إلى بعيد يتجهّمني، أم إلى عدو ملّكته أمري؟! إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» . (زاد المعاد، 1/ 98- 99. السيرة النبوية، الذهبي، 285. حياة الصحابة، 1/ 277) . وبهذه المناسبة يذكر أن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وهو عائد من الطائف آمن به نفر من الجن. (التفسير، 6/ 3725- 3726. البداية والنهاية، 3/ 137. البخاري، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة الجن، رقم 4637) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أولئك الذين يرسمون صورة الإسلام في سلوكهم، ويتمثلونها في حياتهم، ويفتدونها بالنفس رخيصة. يهتفون بهتاف الخلود في كل موطن شديد: (الله أكبر لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) ، فتصغر الدّنيا في عيونهم، وينظرون إلى الصّعاب منهزمة، وإلى الطغاة راغمة، مهما كانوا مدججين بالسلاح، وممتلكين للمناصب، ومتسلطين، يتولون الإنسان بالجبروت المتفرعن على خلق الله سبحانه وتعالى. وكلّ جمع تتركز فيه تلك المعاني الفاضلة الخيرة، تبرز فيه هذه الحقائق، فكما برز في العهد الأول القدوة تبرز على مر التاريخ، ماضيا وحاضرا ومستقبلا. فكم من مؤمن أوذي في الله بكل طريق، وحورب بكل أسلوب، وتقطّع أوصاله، وتتناثر أشلاؤه، وتستنزف دماؤه وهو يشدو وينشد أناشيد الإسلام ... أناشيد القوة الفاضلة، والعدل الأمين بكلام الله المبين وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم: 12] وهكذا يردد المؤمنون الآيات الكريمة، ويتلونها حق تلاوتها، علما وعملا، ويفهمون معانيها وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] . كما كان ينشد السلف، وهكذا يفعل الخلف، آيات من الكتاب المبين، والذكر الحكيم، والطريق المستقيم، وبه الهداية، وفي غيره الغواية. وهكذا فهم الجميع، كلّ المسلمين، دوما مثلما يستلهمون كتاب الله سبحانه وتعالى، وحديث الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم يتمثلونها، ويتعلمون منها مسالكهم، فهم يستنبطون ويستنبطون من معانيها ومبانيها ما يترسّمون وما يفعلون وما يقولون «1» :   (1) أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، رقم (3878) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا إنّ الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا * الخلوص الكامل لله: فكيف يمكن للمسلم أن يدين في صلاته، أو بالعبادة لله شمولا واكتمالا، ويتجه إلى غيره في قوانينه وتفكيره وتصوراته وولائه وإرضائه، ومن يفعل ذلك يكون قد قصر في حق الألوهية، والربوبية لله، والعبودية له سبحانه وتعالى، وذلك واضح في القرآن الكريم «1» . وحين قدم عديّ بن حاتم «2» على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليسلم، فدخل المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ في وصف أهل الكتاب قول الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] . فقال عدي: إنهم لم يعبدوهم! فقال صلّى الله عليه وسلم: «بلى، إنهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام، فاتبعوهم: فذلك عبادتهم إياهم» «3» . فلا يصحّ للمسلم أن يقف من الإسلام ودائرته بعيدا، ويسلك دوما سبيل الضعف، فهؤلاء لا يقيمون الآفاق الإسلامية، ولا دولة الإسلام، ومجتمعه، وحياته، فكيف بمن لم ينكر الباطل قلبه أو والاه وأيده؟!   (1) انظر: أعلاه، ص 13، 15، 264. (2) انظر عن عدي بن حاتم (68 هـ 687 م) : سير أعلام النبلاء (3/ 162) . الإصابة (2/ 468) رقم (5475) . أسد الغابة (4/ 8- 10) رقم (3605) . (3) انظر: تفسير الطبري، (10/ 114- 115) . (الجديدة، 14/ 208- 213) . تفسير القرطبي (8/ 120) . التفسير (3/ 1641) . سنن الترمذي (5/ 259) رقم (3095) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 إنّ الذين أقاموا الحياة الإسلامية، أولئك الذين هاجروا إلى الله هجرة كاملة، هاجرت نفوسهم التي خلّصوها من درن الدنيا، فافتدوا شرع الله بكل شيء، وجاهدوا عمرهم له محتسبين ... تربعوا أمام القرآن مأدبة الله الإلهية، ويقودهم حادي الإنسانية، وهاديها محمد صلّى الله عليه وسلم، ويعلمون أنّ الضّياع لمن ارتضى غير كتاب الله منهجا ودستورا وغير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زعيما: نبيا ورسولا، وهو كذلك. * الإسلام هجرة وبيعة: لقد كانت الهجرة بيعة، تجاوزت حد الانتماء الاسمي أو الأرضي، وإن قصة مهاجر أم قيس غير مجهولة «1» . بل حتى التعبد في الصلاة، مع ترك ما عداه يجعل ذلك حجّة على صاحبه ومسؤولا، فلا ينفع المسلم أن يؤدّي صومه وصلاته، ويفي حجّه وزكاته، وليس بعد ذلك من شيء، بل إنّ ثمار ذلك أشياء تجعله أكثر قربا إلى الله، وهجرا لما عداه. ومن لم يهجر مبادئ الأرض، ويرفض كلّ غير شرع الله لا يمكن أن يهاجر إليه، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من لم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية» «2» . فلا يمكن أن تكون الهجرة إلى الله، وصاحبها مثقل بالعصيان، ومؤتزر   (1) سبق ذكره. وهي أن رجلا خطب امرأة اسمها: أم قيس، فرفضته حتى يهاجر، ففعل. فتزوجها فسمّي: مهاجر أم قيس. والحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم: «إنما الأعمال بالنيات ... » الذي مر ذكره أعلاه، يبين هذا وأمثاله. وإن الله تعالى يقبل من الأعمال ما كانت النية فيه خالصة له، ليكون العمل، ويقبل ويؤجر صاحبه، وإلا فلا أجر عند الله له به أبدا. انظر: أعلاه، ص 314. (2) أو هذا معناه. نقلته من مصدر لم أجده. لكن أمثاله عدد من الأحاديث. انظر: مسلم، رقم (1910) . زاد المعاد (3/ 11، 86- 87) . رياض الصالحين (512) ، رقم (1341) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 بالآثام، وخامل في طريق الالتزام، فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم «1» ، وفي كل الأحوال. * الإسلام وطن وقومية: وتشير الهجرة إلى أن الإسلام لا يعرف وطنا ولا قوما بعينهم، يكون حكرا عليهم، فالقوم في الإسلام هم المسلمون، والوطن فيه الذي ترتفع على قممه شامخات: راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، يعمل المسلم على امتدادها حيث استطاع. ويوم كان الجيش الإسلامي يتجه نحو القسطنطينيّة سنة خمسين للهجرة، وحضرت الوفاة أبا أيوب الأنصاري «2» كان من وصاته: طلب من   (1) معنى حديث شريف. (2) أبو أيوب الأنصاري: خالد بن زيد (51 هـ 671 م) ، من المسلمين السابقين، ومن نجباء الصحابة، ومن أحبّهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وهو الذي حرسه- متطوّعا- ليلة بنى بصفية بنت حييّ بن أخطب- رضي الله عنها- (7 هـ) بعد خيبر (الإصابة، 4/ 346، رقم 650. السيرة النبوية، أبو شهبة، 2/ 383. حياة الصحابة، 2/ 663) ، بعد أن أسلمت، وطهرت، فأعتقها صلّى الله عليه وسلّم وتزوجها، رضي الله عنها. (الإصابة، نفسه. مغازي الواقدي، 2/ 707. الطبقات الكبرى، 8/ 120) . وكان أبو أيوب عقبيّا كثير المناقب، شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشهد الفتوح. وسكن المدينة ثم انتقل إلى الشام. وضيّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في داره لما هاجر إلى المدينة، نزل في داره وأقام عنده سبعة أشهر (زاد المعاد، 1/ 102) ، حتى بنى صلّى الله عليه وسلّم حجره ومسجده في نفس السنة. وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم في الطابق الأرضي وأبو أيوب في العلوي، ووجد في ذلك حرجا شديدا. ويوم أهريق ماء في الغرفة، فأخذ أبو أيوب وزوجته ينشّفونه بقطيفة يتبعونه، كيلا يخلص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرجاه أن ينتقل إلى فوق. وكان صلّى الله عليه وسلّم يرسل له الطعام، فيضع أصابعه حيث يرى أثر أصابع الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم (فكنا نصنع طعاما فإذا رد ما بقي منه تيممنا موضع أصابعه، فأكلنا منها نريد البركة) . (حياة الصحابة، 2/ 329) . وآخى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين مصعب بن عمير. وكان أبو أيوب شجاعا صابرا تقيا قويا أبيا محبا للغزو والجهاد، ولزم الجهاد حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 المسلمين، وقائدهم حمل جثته- بعد الوفاة- إلى داخل أرض الروم ما استطاعوا، ليدفنوه هناك، ثم ليعملوا على فتح تلك الأرض، ففعلوا. فدفنوه عند القسطنطينية «1» . ولشدة عشقه للجهاد، وخدمة الإسلام أراد أن يحيا مجاهدا، ويموت شهيدا، ويستمرّ أثره في الجهاد، لا سيما حين أحسّ بالموت خارج المعركة.   وفاته. ومما يتردد ذكر أبي أيوب حول تصحيح فهم هذه الآية الكريمة وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] . وتفسيره بأن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو بترك الجهاد (حياة الصحابة، 1/ 470- 471. زاد المعاد، 3/ 87- 88) . وذلك في إحدى غزواته إلى الروم. والظاهر أنها في غزوة بحرية إلى أرض الروم، غير التي توفي فيها (حياة الصحابة، 1/ 471) . روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وروى عنه العديد من الصحابة والتابعين، وله مئة وخمسة وخمسين حديثا (الأعلام، 2/ 295) . ولزم الجهاد، وحرص عليه بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم وبقي مجاهدا حتى مات في غزاة القسطنطينية (51 هـ) التي قادها يزيد بن معاوية في خلافة أبيه. ومرض أبو أيوب فعاده يزيد، وسأله حاجته، فقال: حاجتي إذا أنا متّ فأركب واحملوني، فإذا صاففتم العدو (والمسلمون معه) ، ثم سغ بي في أرض العدو ما وجدت مساغا، فإذا لم تجد مساغا فادفني تحت أقدامكم حيث تلقون العدو. (حياة الصحابة، 1/ 458- 459) ، ففعلوا. (انظر: الإصابة، 1/ 405، رقم 2163. الاستيعاب، 1/ 403) . ودفنوه عند سورها، ليعمل المسلمون على فتح ذلك المكان. وتم هذا أيام العثمانيين (857 هـ 1453 م) ، حيث فتحت القسطنطينية- عاصمة الدولة البيزنطية- في خلافة محمد (الثاني) الفاتح، وسميت إسطنبول (إسلام بول مدينة الإسلام) ، وهي من أهم مدن تركيا الحالية، حيث بنى الفاتح في ذلك الموضع مسجدا عند قبره، وهو اليوم من مساجد تركيا الشهيرة بتاريخها ومعمارها، حيث يرقد الصحابيّ الجليل- رضي الله عنه وأرضاه-. وحتى اليوم يعتبر مسجد أبي أيوب الأنصاري من معالم إسطنبول المعمارية الجميلة، فرضي الله عن أبي أيوب الأنصاري، وأرضاه. (1) انظر: حياة الصحابة (1/ 458) . كأنه يريد حثّ المسلمين على الوصول إلى مكان قبره، وفتح تلك المنطقة، والحمد لله قد تم ذلك، وغدت بلدا مسلما، وتلك المدينة عاصمة لقرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ولتربية المسلمين على هذا المعنى كان كل ذلك بينهم معروفا، وبه تأسّى سميّ أبي أيوب: خالد بن الوليد «1» ، حين مات على فراشه، واعتبر ذلك موتة الجبناء «2» . فالمسلم معناه أن يسعى حثيثا لخدمة الإسلام- وهو كل حياته- حتى لو اقتضى أن يموت شهيدا، يا بني الأحداث، وينيرها بهذا الدين، لا يتخلف عنه بل يعشقه، ويسعى إليه. والمسلم يقيم أموره كلها على الإسلام، باتّساق وانسجام. وهذا ما كان في التربية التي قادت إلى الهجرة، قامت بالانقياد إلى شرع الله سبحانه وتعالى. أيها المؤمنون! فلنمض في الطريق إلى الله، مهاجرين إليه بشرعه، هاجرين لكل فكرة وخلقية وزعامة غير الإسلام ومنهجه وغير رسول الله صلّى الله عليه وسلم   (1) خالد بن الوليد (21 هـ 642 م) ، أسلم سنة (7 هـ) فسرّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسمّاه: سيف الله. وهو فارس الإسلام الشهير، وقائد المجاهدين. (انظر: البخاري، فضائل الصحابة، باب: مناقب خالد بن الوليد رضي الله عنه، رقم 3547. الإصابة (1/ 403) رقم (2201) . الاستيعاب (1/ 405) . سير أعلام النبلاء (1/ 366) . الوافي بالوفيات (13/ 264) . البداية والنهاية (7/ 113) . شذرات الذهب (1/ 174) . حياة الصحابة (1/ 455) . الأعلام (2/ 300) وأعلاه، ص 179- 181. (2) وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه دائم الرغبة في الجهاد (حياة الصحابة، 1/ 455. البداية والنهاية، 7/ 113. سير أعلام النبلاء، 1/ 382) . وهذا تمام قوله المذكور أعلاه الذي يبيّن هذا الحب لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلم وحب نصرة دينه. وقد تربّوا على مائدة القرآن الكريم وعلى يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك المجتمع الإسلامي الرصين البناء. (ولما حضرت خالد بن الوليد الوفاة، قال: لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ثم ها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء) . (الاستيعاب، 1/ 409. سير أعلام النبلاء، 1/ 382. حياة الصحابة، 1/ 565) . ويقول: (وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتّها وأنا متترس والسماء تهلني، وننتظر الصبح حتى نغير على الكفار، إذا أنا متّ فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدّة في سبيل الله) . (البداية والنهاية، 7/ 116، سير أعلام النبلاء، 1/ 381) . وانظر أعلاه، ص 179- 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 نبينا المجتبى، وأسوتنا الحسنة، وحادي الهداية دوما للبشرية أجمعين. إن الذي كان يسلم- في العهد المكي- يرى ويعرف مقدما ما سيصيبه من عذاب وحرمان، ويغدو أرملا بعد أن يكون أرفلا. وفي العهد المدني يعلم ما يترتب على ذلك، تضحية وإقداما، ورضوا بكله بمحبة جامحة، وسعي حثيث، ورغبة متدفقة، مقبلة، قوية مسرعة أبية. فموكب الهجرة دائم، حيث تبقى مهاجرا إلى الله، وتموت مهاجرا، مناديا: يا رباه! نداء يجمّل الحياة، وينميها، ويمنحها، ويعطيها، بنظر يرافقه ويناغيه، فلا يصارعه أو يباهيه. فهو ليس في صراع مع الكون والحياة، بل مع الباطل وأهله، يأتي الحق لمواجهته ليزهقه، وليا بني حضارة الإنسان، وينير دربه، ويسدد خطوه. * الهجرة هجرة ونصرة: لم تكن الهجرة خطوات لقطع طريق خطر، والنجاح في التخلص من مطارد، للوصول إلى مكان آمن، أو النجاح بانتقال مجموعة، من موطن إلى آخر جديد، إنما هي الخلوص لله والتضحية بالنفس، وكل شيء، من أجل الإسلام، فلولا الهجرة إلى الله لما كانت الهجرة، ولما كانت النصرة، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] . وإذا تلاقت الهجرة والنصرة، فالكل في نصرة، والكل في هجرة. وأدرك أولئك أنه لا بد أن يكون للإسلام وطن، وللشريعة سكن، فكان مرة، ولا بدّ أن تكون له الكرة، إن شاء الله. ولعل القرن الخامس عشر يمثل باب الهجرة إن شاء الله، فيكون القرن الرابع عشر أشبه بالعهد المكي، والقرن الخامس بالعهد المدني، نبني به الحياة الإسلامية، ومجتمع الإسلام، وقيام آماله. فهي هجرة: بين- من وإلى- حياة الجهاد والمجاهدة والاصطراع، إلى قرن تقوم فيه خلافة الإسلام ودولة الإسلام، إن شاء الله تعالى وبعونه ومنّه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فهي تماثل بالمعنى الأساس لكل هجرة، يقوم بها الذين هاجروا إلى الله تعالى على الدوام. فهذا مصعب بن عمير «1» ، زين شباب أهل مكة، جمالا ودلالا ونعمة وقوة وفتوة وعبثا ولهوا وغنى وزهوا، مضرب المثل بما يلبس، ويتزين، ويتطيّب كذلك تماما. وحين أسلم حرمه أهله من كل ذلك، وقاوموه، فاستغنى، واستعالى،   (1) مصعب بن عمير (3 هـ 625 م) القرشي، مصعب الخير: صحابي، شجاع، من السابقين إلى الإسلام. ولما أسلم حاربه أهله، وحرموه من غناهم. واحتمل كل ذلك راضيا قويا أبيا. هاجر إلى الحبشة، وعاد إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة. وكان أول من قدم إليها من المسلمين مع ابن أم مكتوم (عنه انظر: أعلاه) . وكانا يقرئان القرآن (البخاري، فضائل الصحابة، باب: مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، رقم 3709- 3710) . فهو السيد الشهيد السابق البدري، وحامل لواء المسلمين يوم معركة بدر ويوم أحد، واستشهد فيها، وهو يدافع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم (حياة الصحابة، 1/ 595) . قال البراء بن عازب: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير، ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الأعمى رضي الله عنه. ثم قدم علينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عشرين راكبا. فقلنا له: ما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: هو مكانه، وأصحابه على أثري. ثم أتانا بعده عمرو بن أم مكتوم أخو بني فهر الأعمى. وقال خباب: (هاجرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لسبيله لم يأكل من أجره شيئا، منهم: مصعب بن عمير قتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطّينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر» ، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها) . وذكر أنه حين أتي عبد الرحمن بن عوف بطعام بكى، وقال: (قتل حمزة، فلم يوجد ما يكفن فيه إلا ثوبا واحدا، وقتل مصعب بن عمير فلم يوجد ما يكفن فيه إلا ثوبا واحدا، لقد خشيت أن يكون عجّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا) . وجعل يبكي. «النمرة» : بردة من صوف. «الإذخر» : نبت معروف طيب الرائحة يبيض إذا يبس. «يهدبها» : يجتنيها. (سير أعلام النبلاء 1/ 145- 147. كذلك: الاستيعاب، 3/ 468. الإصابة، 3/ 421 رقم 8002. حياة الصحابة، 2/ 267. البداية والنهاية، 4/ 33. الأعلام، 7/ 248) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 واستغلى. وهو بالإسلام أغنى وأعلى وأغلى، فرضي به مسرورا، وعاش فقيرا، من ذلك محروما. وكان من المهاجرين إلى الحبشة في المرتين، والمهاجر الأول إلى المدينة المنورة، ومعلّم القرآن إلى أهلها. اختاره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لذلك، واشترك في الأحداث والمعارك، وكان حامل لواء المسلمين في بدر وفي أحد، قطعت يده اليمنى، فحملها باليسرى، وقطعت فاحتضنها، ثم استشهد وهو لا يملك شيئا من الدنيا؛ حتى ولا بردا، يغطّي جسمه كله، فإذا سحبوه على رأسه ظهرت رجله، وإذا غطيت رجله تكشف وجهه، وجه الجهاد على أرض الجهاد، مهاجرا إلى الله في الحياة وحتى الممات «1» . وحين أطل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتفقد الشهداء رأى مصعبا، فقال: «لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرقّ حلّة، ولا أحسن لمّة منك، ثم أنت شعث الرأس في بردة» «2» . نقول هذا لكل مسلم، وللشباب خاصة، ليسلكوا هذا المسلك في حياة الإنسان المسلم العزيز الحر الكريم الرباني الوضئ. * الحق قادم بأهله: فأين لي بأولئك الذين لا يتقدم عندهم حبّ على حبّ الله ورسوله، لا يحبون إلا الله، ولا يوالون إلا من والى الله ووالى رسوله صلّى الله عليه وسلم، ويكرهون أن يحيوا خارج الإسلام ولو لحظات «3» . والحرق بالنار والضرب بالأحجار   (1) سير أعلام النبلاء (1/ 146) . حياة الصحابة (1/ 116، 187- 190) . سيرة ابن هشام (1/ 434- 438، 612، 645- 646، 3/ 98، 149) . (2) سبق ذكره، انظر: إمتاع الأسماع (1/ 162) . انظر أعلاه، 117- 120. (3) انظر ما قاله وفعله الصحابي الجليل: عبد الله بن حذافة السهمي، حين أسرته الروم. انظر: أعلاه، ص 299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 والتعليق على الأشجار والتغريق في البحار أهون عليهم، وأطيب إليهم. وهم قادمون إن شاء الله تعالى ليقيموا الحياة الإنسانية. فمن تكن كلمات الله حجّته ... فلن يهاب من الدنيا وما فيها إنني ألمحهم في الآفاق من حولنا والبقاع في كل مكان، يتنادون بالإسلام، مستعدين للتضحية في سبيل الله، وقد جرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا [الأحزاب: 23] . وفي الماضي بدأ الإسلام غريبا «1» ثم انتشر، فكانت الهجرة ثم كانت الدولة والخلافة، رعت الجهاد، وحملت الراية، واستمر الإسلام في الامتداد، وما زال اليوم، بعد ذهاب الخلافة، يمتد وحده رغم كل ما يرصد له على أيدي الأعداء، وما أكثرهم. ولكن ما تزال لهذا الدين جولات وصولات وأدوار يؤديها في تاريخ البشرية، ظاهرا بإذن الله على الدين كله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ   (1) من حديث شريف. وتمامه: (رواه عبد الله بن مسعود وأبو هريرة وعوف بن مالك) ، قالوا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنّتي» . صحيح مسلم، رقم (145/ 1) . سنن الترمذي، رقم (2629- 2630/ 5) . جامع الأصول، رقم (62- 63/ 1) . مسند الإمام أحمد (5/ 296) . «طوبى» : من الطيب، وهو من قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد: 28- 29] . «تطمئن» واطمأنت: سكنت واستأنست بتوحيد الله تعالى فتطمئن، وهم يذكرونه ويطيعونه قولا وعملا في كل حال. «طوبى» : على وزن كبرى، من طاب يطيب، للتفخيم والتعظيم. «وحسن ماب» : حسن منقلب ومرجع، أي: وحسن ماب إلى الله تعالى الذي أنابوا إليه، ودانوا في الحياة الدنيا. تفسير الطبري (13/ 145) وبعدها. تفسير القرطبي (9/ 314) وبعدها. التفسير (4/ 2059) وبعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور: 55] . وذلك لوعد الله الذي لا يقف في وجهه كيد الكائدين ولا قوة المضلين يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 8- 9] . وإنه لوعد حق، منجز، منصور، مكتوب: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] . فالحمد لله على نعمه، وأكبرها كلها نعمة هذا الدين العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا. كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 المبحث الثامن الهجرة (النبوية) بيع وبيعة * بداية وافتتاح * الإسلام كبرى النعم * ولادة الإنسان الجديد * دعوة اليقظة والارتقاء * تقدم الركب الميمون * حمل الراية المباركة * ذلك الجيل الفريد * قوة التضحية والفداء * الإقبال خفافا وثقالا * لقاء الهجرة والنصرة * واجب الشباب الطلاب * تضحيات فائقة رائقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 * بداية وافتتاح: حمدا لله، وصلاة وسلاما على رسول الله ومن والاه، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [الكهف: 1] أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [الصف: 9] نعمة ومنّة وفضلا، بيّن للناس دين الله، وفيه سعادة الدارين، فدعاهم وبصّرهم، فامن من آمن، وضلت عنه أقوام لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال: 42] . * الإسلام كبرى النّعم: الحمد لله الواحد المنعم، أسبغ على الإنسان نعمه، ظاهرة وباطنة، شرّفهم بالعبودية له، يدين بهذه العبودية لله وحده سبحانه وتعالى. وهي أعلى مقام للإنسانية، توحيدا خالصا، عقيدة للضمير، وتفسيرا للوجود، ومنهجا للحياة، حياة مستمرة تقود إلى جنّة عرضها السموات والأرض. فكانت نعمة هذا الدين أكبر نعمة، أنزله- سبحانه وتعالى- برّا وعدلا وصدقا وحقا وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً [الإسراء: 105] فكل ما عداه باطل وفاشل وشاغل، ضال ومضل وممل فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125] . بعث به البشير النذير، وريث موكب الأنبياء، ليحدو قافلة الإنسان المؤمن، خليفة في أرض الله، يعمّرها بدينه، وينيرها بشرعه، ويقيم حضارة الحق باتّباعه. يقيّض الله لهذا الدين من ينصره، والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم (ولا من خالفهم) حتى يأتي أمر الله وهم كذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 (على ذلك) » «1» . وهذا حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فغدت نعمة الإسلام كبرى نعم الله على الإنسان- وما أكثر نعمه- لينتزع البشر من مخالب الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبودية البشر للبشر، ويعبّدهم لله رب العالمين. فله الأمر، وله الحكم، وإليه المرجع وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [الرعد: 31] وليبدّل واقع الأرض، وتصوّرات الإنسان، على غير مثال، ولا مطالبة، ولا اصطراع، أو إبدال. تشقّقت حجب الظلام، وتحطّمت الأوثان، وتحرّر الإنسان، من العبوديات والجاهليات، حين نزلت آيات الله، منذ فجر حراء المبارك. آمن بالله تعالى إيمانا، جعله حيا بعد موات، فأشرقت بصيرته بنور الله، فرأى الكون والحياة رؤية حقيقية، كما لم يرها من قبل أبدا، ولم تخطر له على بال، ولم ترد على قلب بشر بأيّ حال «2» ، بعد أن عبّد نفسه لله رب العالمين، عبودية للخالق، جعلته في أعلى مقام الإنسانية. * ولادة الإنسان الجديد: وتوالت آيات الله، فكانت إعلانا عن ولادة الإنسان الجديد، إنسان   (1) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم. البخاري: كتاب المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبي صلّى الله عليه وسلّم آية، رقم (3442/ 3) . مسلم، رقم (1920/ 3) . أبو داود، رقم (2484/ 3) . (2) من حديث شريف أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . فاقرؤوا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] . البخاري: كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم (3072، 3/ 1185) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الحضارة الحقة، إنسان العبودية الحقة، لله رب العالمين. وهو إنسان الحرية الصادقة، لا زيف يخرقها، أو يحبكها، أو يحلكها، وإنسان التقدمية الأصيلة، لا دجل يخنقها، يرث سعادة الدنيا والآخرة، كما بين وعد الواحد الأحد في قرآنه الكريم الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] . والإسلام- كبرى نعم الله- أنزله دواء وضياء وشفاء وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] ، وصلاة وسلاما على النّبي الكريم، وصاحب الخلق العظيم، دعا إلى الله فاهتدى به إلى طريق الله الحق أقوام أنقذها من الشّقوة والكبوة في الدنيا والآخرة، فكانوا من أهل السّيادة والسعادة والشهادة. وحماهم من النار، فكانوا من أهل الفوز والفلاح إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] ، وضلت عنه أقوام وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] . أصرّت على الضلال- وا أسفاه- ف لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] فشقت دنيا وأخرى، فالله تعالى يتولّاهم، وجزاء المؤمنين الجنّة، وجزاء الضالين جهنم، وهو جزاء الكافرين «1» . ونسأل الله تعالى الهداية لنا وللخلق أجمعين، والإنقاذ من الغواية، إنه على ما يشاء قدير.   (1) وللأسف فإن من المسلمين من أعرض عن معاني الإسلام، وهم قد ولدوا به وعلى الفطرة، وكأنهم يصرون بالبعد عنه. والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش (الجنادب) وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهنّ ويغلبنه فيقتحمن فيها (وهو يذبّهنّ عنها) ، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم (تفلّتون من يدي) تقحّمون فيها» . أخرجه الشيخان. البخاري: كتاب: الرقاق، باب: الانتهاء من المعاصي، رقم (6118) (5/ 2379، 3/ 1260- 1261) . مسلم، كتاب: الفضائل، باب: شفقته صلّى الله عليه وسلّم على أمته، (2284) (4/ 1789- 1790) . تفسير القرطبي (14/ 122، 20/ 165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 * دعوة اليقظة والارتقاء: طلع النهار فقام النبيّ المختار صلّى الله عليه وسلم، ينادي بايات الله، أنزلها عليه وحيا كريما، وقرآنا عظيما، نصّا ومعنى من عند الله تعالى وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 192- 194] . أنزله سبحانه وتعالى على قلبه ابتداء من يوم حراء، تبعته القلة المؤمنة فكانت قطر عين صفاء، وينبوع ارتواء زلالا، حتى صارت نهرا، يهدر هدرا، يجرف كل عائق، يزيله صخرا، ويدحرجه حجرا، حفّت بذلك الأهوال، وإنفاق المال، وتقديم الأنفس من النساء والرجال والأطفال. استمر الحادي البار، والهادي المختار، يقود موكب النور، فاهتزت به نفوس، واستنارت قلوب، حين صحا فيها إنسانها من رقدة، ونهض من كبوة، وأطل من كوة، على الضياء، يحمل مشعله ونبراسه هاديا، وهو الهادي الأمين، رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويرفع لواءه عاليا، وينشده ويرنّ صوته مدوّيا، بايات الله البينات لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] . حملها الحبيب يجوب بها دروب مكة وما حولها ليل نهار، ويجول أحياءها وسهولها (السهل) وجبالها (الجبل) وصخورها، وينادي أبناءها وقبائلها، ويرتاد أسواقها، ويغشى اجتماعاتها ومجتمعاتها، أهل مكة أمّ القرى وما حولها، ويأتي أسواق العرب ومواسمها قائلا ومناديا فيهم: «يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» «1» . سرت الحياة في نفوس آمنت، واهتدت، وباعت نفسها لله، وبايعت   (1) حياة الصحابة (1/ 107) . انظر كذلك: حياة الصحابة (1/ 98- 99) . سير أعلام النبلاء (3/ 516) . السيرة النبوية، الذهبي (150- 151، 285) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 على الطاعة والفداء، تتحرك بشرعه، وتقبل على أمره. * تقدم الركب الميمون: لحق بركبه الميمون المؤمنون، باعوا أنفسهم لله، ونصروه نصرا مؤزرا وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146] فلم يتخاذلوا، لزموا غرزه «1» ، ففازوا. وفي سبيل الله سقط على الطريق شهداء، من الرجال والنساء، شيبا وشبانا وأطفالا «2» . بدأ الركب الميمون السير قويا منطلقا، يقوده خاتم الأنبياء والرسل الكرام، عليه وعليهم الصلاة والسلام، ابتداء من يوم حراء. اهتزت الأحجار بغاره فرحانا ... جاء الأمين يرتّل القرآنا يوم نزول القرآن، نزول الماء إلى الأرض، يحييها ويخصبها ويملؤها بالبركات، وسيبقى كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فهو وحده المنقذ من الشّقوة والكبوة، تستهلك العالمين بدونه، وبه لا بغيره يسعد الإنسان أيّما سعادة في الدنيا والآخرة. رقص الكون فانهمر ... سال سيله نهر طرب الكون وانتشى ... أخضر وجهه نضر وتغنّت بقاعه ... حين صابها المطر أخضر الماء عينه ... وغدا ثاقب النظر والحياة جديدة ... إنسانها قد انبهر   (1) سيرة ابن هشام (3/ 331) (الخشني، 3/ 440) . مغازي الذهبي (372) . حياة الصحابة (1/ 154) . «الغرز» : ركاب الدابة يعتمد عليه في الركوب. «الزم غرزه» : الزم أمره ونهيه. (2) الأمثلة على ذلك كثيرة. انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 97) . حياة الصحابة (1/ 598- 599) . السيرة النبوية، الندوي (186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ماذا جرى في كوننا؟ ... جاءه هادي البشر حين دعا محمد ... إلى الحياة واشتهر يوم نادى كل الورى ... إلى الله بلا ضجر الله أنزل شرعه ... وحي به قد انهمر لصبره احتارت قريش ... جهاده كان الأغر جاء بها نبوة ... وللحق بها ظهر بدعوة الله قائم ... بالغا قمة الفخر فانبرى يوقظ الورى ... تتهاوى عنده الشرر وتحالفت في حربه ... كلّ البغاة وانحصر شدّت عليه مطارقا ... ومحارقا لا مدّخر والأقربون تنافسوا ... في بغيهم كانوا الأشر لكنه حمل اللواء ... به اقتدى ذوو الخير كان أمضى من الرياح ... كان أقوى من الصخر فاستنارت به النفوس ... فهو أسنى من القمر رفع الحقّ صوته ... ضياؤه قد انتشر والطواغيت تندب ... مجدها باء واندثر كل قوم لهم إله ... عبدوه وهم حجر ذهب الظلم وانطوى ... تحت الثرى قد انقبر حل عدل مكانه ... غصونه تدني الثمر ملأ الأرض نفحها ... تنشر فوقه الدرر ومضى يحمل الزمان ... ويداوي بني البشر قائدا موكب الحياة ... ويعاني فتنة الزّمر لا يبالي مهما التوى ... دربه حالك السّير حتى انطوى قبيله ... على ارتخاء وانقعر حين لانت قناتهم ... فاستبيحوا من الغجر يوم هابوا عدوّهم ... يوم هانوا على الصّغر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 يا بني الجيل نهضة ... تنفض عنكم الغبر يا صحابا بصيحة ... توقظ كل من هجر هذا الكتاب نداؤكم ... فاسرعوا غير معتذر فهو فيه سعادة ... وحده، كل من حضر به النفوس كريمة ... تبتني كلّ مزدهر به العيون قريرة ... ترقى الفضائل وانتصر * حمل الراية المباركة: حمل رسول الله الحبيب صلّى الله عليه وسلّم راية الموكب المبارك، ينادي الناس عليه، ويدعو إليه، فجّرت آيات القرآن المنزّل عليه، ينابيع الخير، ووفرتها وصاغتها، يتلوها صلّى الله عليه وسلّم ندية قوية، تشقّق بها الظلمات، وتشرق بها الآفاق، ويحيا بها الوجود. واستمر داعيا يجلجل بها صوته المدوّي في دروب مكة وشعابها، حداء ماله مثيل، ولا بديل، ولا غيره دليل، يضيئها بنور الله المبين وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] . وصلت قلوب المؤمنين بالله، تملأ جنباتها أشعته، يوقظ النيام والسّكرى السّادرين هديرها، تنشده الفئة المؤمنة، مقتدية بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. أيقنت وانطلقت مؤمنة بقوتها الإيمانية الربانية، موصولة بالله القوي العزيز. آمنت به جل جلاله ربا معبودا واحدا أحدا لا إله غيره ولا مالك سواه، ولا حاكم دونه، ولا مشرّع إلا إيّاه. إنه البيع الخالص لله، بلا خلف ولا أنصاف أبدا. واستعراض السيرة الشريفة يقدّم ذلك واضحا لكل المسلمين، نساء ورجالا. وانظر من شئت وما شئت وتمثّل بمن شئت، ولا بد أن نمثل ونتمثل. فهذا الطفيل بن عمرو الدّوسي (الشهيد أبو الشهيد) ، أسلم في العهد المكي، وباع نفسه وحياته للإسلام، دعا إليه وجاهد من أجله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وحماه، حتى استشهد في حرب اليمامة أوائل سنة (12 هـ) «1» .   (1) الطفيل بن عمرو الدوسي (12 هـ 633 م) ، ذو النور. أسلم بمكة قبل الهجرة إلى المدينة. وكان في قومه سيدا مقدما مطاعا شريفا وشاعرا لبيبا. وقصة إسلامه ذكرها ابن إسحاق (سيرة ابن هشام، 1/ 382- 385، شرح الخشني، 2/ 25- 29) . ونقلها عنه آخرون. وأخرج طرفا منها البخاري ومسلم. البخاري، رقم (2779/ 3) ، ورقم (4131/ 4) ، ورقم (6034/ 5) . مسلم، رقم (2524/ 4) . جامع الأصول (9/ 221، رقم 6806) . وخلاصتها: أن الطفيل قدم مكة- لعله في السنة العاشرة من البعثة، بعد عودة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الطائف- فحذرته قريش من الاستماع إلى الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وبينوا له خطورة ذلك عليه، وأن قوله كالسحر، وزادوا في تحذيره، مما دعاه أن يسد أذنه بقطن إذا دخل المسجد، حتى لا يسمعه. لكنه حين ذهب إلى المسجد رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما فيه، ووقف قريبا منه وسمعه (فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا وقع في نفسي) (سيرة ابن هشام، 1/ 382) . ولما انصرف صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته اتبعه، وجلس إليه، وطلب أن يعرض عليه الإسلام (فعرض عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلام، وتلا عليّ القرآن. فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت، وشهدت شهادة الحق) (سيرة ابن هشام، 1/ 383) . وهذا ما أورده- مع تفصيلات أخرى- ابن هشام (ابن إسحاق) في السيرة وآخرون، بعضهم نقلا عنه. فلحق بقومه، فدعا أهل بيته، فأسلموا وجماعة من قومه، وعصت عليه دوسا (قومه) وأبت. فقدم (ثانية) إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مكة وقال: يا رسول الله! إن دوسا قد عصت وأبت، فادعوا الله عليهم. فقال صلّى الله عليه وسلم: «اللهم اهد دوسا، وائت بهم» . وهذا ما أخرجه البخاري وآخرون. فعاد إليهم ودعاهم إلى الإسلام، فاستجاب من استجاب، ثم قدم بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، بثمانين بيتا، ولحق به في خيبر، فأسهم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع المسلمين. ثم شارك مع قومه في فتح مكة، وأرسله صلّى الله عليه وسلّم إلى صنم هناك فأحرقه، وبقي يجاهد في خدمة الإسلام حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج هو وابنه (عمرو) في قتال الكذّابين بقيادة مسيلمة الكذاب، واستشهد يوم اليمامة أوائل سنة (12 هـ) وجرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبلّ منها، حتى كانت معركة اليرموك (15 هـ) مشاركا فيها، وفيها استشهد، رضي الله عنهما وعنهم أجمعين. الإصابة (2/ 225) رقم (4254) . الاستيعاب (2/ 230) رقم (1274) . سير أعلام النبلاء (1/ 344) ، تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين) (62، 82، 96) ، زاد المعاد (3/ 495، 624) وبعدها. الوافي بالوفيات (16/ 460، 17/ 225) . إمتاع الأسماع (1/ 28) حياة الصحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 * ذلك الجيل الفريد: فارتفعت به هامات، كانت متهطّلة في الجحور، بعين الشّقوة والخمور، متدلية بين الأوثان، فغدت بالله عزيزة، فما عادت تنحني لغيره، وتساوت في ظل الإسلام الرؤوس، كانت متعالية فارغة أو متسافلة متمرغة، فما رضيت الخضوع لغير شرع الله، وتحررت من كل أثقال الأرض، لتطير إلى عليين، في هذه الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر: 51] . وتحطمت الطواغيت والأوثان، ومن كل الألوان، فأشرقت الأرض بنور الله رب العالمين. فكل ما عداه باطل، ومهلك مضلّ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام: 115] . إنه لفريد وعجيب ومدهش ذلك الجيل؛ الذي تربى على مائدة القرآن، ونهل من فيضه، وأترع من نهره، بيدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتربيته وأسوته، فارتدى ذلك، واكتساه، واحتذاه. وعلى دربهم سارت ما تلاه من أجيال، وحتى اليوم والمستقبل على الدوام إن شاء الله تعالى، تربّت على الدعوة الإسلامية، وتعلمت أنّ الإسلام بيعة. ومنذ قبله، ودخل دائرته، وحمله باع نفسه لله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة: 111] ، كل بمقدار إقباله وإخلاصه وتضحيته والتزامه وإقدامه. وبهذا يقام مجتمع الإسلام، يسير على ذلك المنهج الكريم الذي عليه ربّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، بما أوحى الله له وعلّمه، قرآنا وسنّة وسيرة. يقبلون عليه لا يتخلفون، ويفرحون بما يقدّمون، يسترخصون من أجله كل ما يملكون.   (1/ 201) وبعدها (2/ 458، 550، 3/ 230، 613) . الأعلام (3/ 227) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 تجدون النماذج الكثيرة الوفيرة، من كل لون وميدان وتخصص، في العصور الإسلامية المتلاحقة، كلها تتضافر لإظهار هذه المعاني المثلى، قائمة في حياة المجتمع، تجتذب الناس، وتدعوهم إليه. وإذا حلّ الإيمان بهذا الدين الكريم- قلب إنسان، كانت ولادة جديدة رشيدة. وانظروا إلى بيعة العقبة كيف كانت وكيف كان أصحابها، وكيف كان استعدادهم الرفيع للبذل من أجل هذا الدّين «1» . ثم كانت الهجرة، والتقى أهل الهجرة بأهل النصرة «2» ، بعد أن حمل الطريق خطواتهم السارّة البارة، هجرة عن الوطن من أجل الدعوة إلى الله، وحمل الأمانة، وتبليغ الرسالة، وهو أمر فريد «3» .   (1) سبق الحديث عنها، انظر: أعلاه. كذلك مسند الإمام أحمد (3/ 322- 323، 339- 340) . سير أعلام النبلاء (1/ 309) . (2) حياة الصحابة (1/ 335) وبعدها (377) وبعدها. (3) ولقد ورد عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه حزن على ترك مكة المكرمة في الهجرة، لكن دين الله أعزّ من كل شيء، حتى من النفس والأهل والولد. وكانت الهجرة هجرة إلى الله، ونصرة لدينه. فأخرج الترمذي (5/ 679 حديث رقم 3925) أن أحد الصحابة رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الهجرة واقفا على راحلته بالحزورة، في سوق مكة (موضع مرتفع خارج مكة، ومعناها الرابية) وسمعه يقول: «والله إنّك لخير أرض الله وأحبّ أرض الله إلى الله عز وجل، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» (زاد المعاد، 1/ 48- 49) . وأخرجه كذلك أحمد في مسنده، المسند، (4/ 305) ، والترمذي، رقم (3925/ 5) . أسد الغابة (3/ 336) ، رقم (3068) . كما أخرج الترمذي بعده ما يؤكده من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مخاطبا مكة: «ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» . (انظر: السيرة النبوية، الندوي، 145- 146) . وذكر أن أصيل الهذلي (أو الغفاري) قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة- قبل أن يضرب الحجاب على أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم- فقالت عائشة رضي الله عنها: يا أصيل، كيف عهدت (تركت) مكة؟. فلما أجابها، قالت له: أقم حتى يأتيك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يلبث أن دخل عليه النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: «يا أصيل! كيف عهدت مكة» ؟ قال: عهدتها والله وقد اخضرت أجنابها (أخصب جنابها) وابيضت بطحاؤها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 * قوة التضحية والفداء: من أجل العقيدة تركوا كلّ شيء، فرحين بنصرتها، وإعلاء رايتها، وقدّم أهل النصرة كل شيء لهم، أخوّة في الدين، وإخلاصا لله رب العالمين، فوطن المسلم حيث يستقر دينه، وتقوم دولته، وتنتشر دعوته. هذا المستوى واللون لا يأتي بكثرة العلم اللساني، بل العلم القلبي الرباني؛ الذي قيضه الإيمان بالله رب العالمين وعمّقه حبّ هذا الدين ومعرفته. ولا يتم بالمنصب والمال، فليس ذلك مورده ولا سنده، ولا يأتي من بابه، بل بالارتباط الوثيق بالله تعالى، يمتلىء القلب المؤمن به ليثمر عملا صادقا صالحا وماء من العين صافيا، ولا تقبل صدقة من ريّ بل بطاعة الله تعالى والعمل على رضاه بشرعه. وانظر إلى ما عمله، وقدمه، وبلغه عموم الصحابة الكرام «1» . فصدق التوجّه في الإيمان قوة تفتّق كل شيء خيرا وهو مختوم، وتفجر الينابيع الثرة، وكانت مغلقة، وتنبت كل طاقة فاضلة غائبة أو موقوفة،   (أباطحها) وأعذق إذخرها، وانتشر سلمها، وأرغل (أسلب) ثمامها. فقال صلّى الله عليه وسلم: «حسبك يا أصيل لا تحزنا، لا تشوقنا، ويها يا أصيل دع القلوب تقر» . الاستيعاب (1/ 136) رقم (139) . أسد الغابة (1/ 121) ، رقم (192) . الإصابة (1/ 53) ، رقم (215) . وأخرج البخاري (2/ 667، رقم 1790، 3/ 1428، أرقام: 3711، 1057، 2729، 5/ 2141، أرقام 5330، 2148، 5353، 2343، 6011) أنه كان بلال الحبشي في المدينة يتشوق إلى مكة يرفع صوته مكررا: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل انظر: سيرة ابن هشام (1/ 589) (الخشني 2/ 272- 273) ، سير أعلام النبلاء (1/ 354) . «مجنّة» : موضع ماء قرب مكة أسفلها، قرب عكاظ، كان به سوق باسمه، «شامة» و «طفيل» : جبلان قرب مكة. معجم البلدان (3/ 315) . «الإذخر» : نبات طيب الرائحة. «الجليل» و «الثّمام» : نوع من النبات. (1) مرت أمثلة متعددة، انظر مثلا: أعلاه، 18، 93، 96 وبعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 تقيم البناء، وتربو الحياة بنصر الله وتأييده، يتوجّه إلى الله يرجوه القبول. أحزان قلبي لا تزول ... حتى أبلّغ بالقبول وأرى كتابي باليمين ... وتقرّ عيني بالرّسول فكم من مجاهد سعى يبحث متلهّفا عن الشهادة حثيثا فرزقها، أمنية عزيزة ألذ من شهد، وأحفل من زفاف. وشهيد استعد لها، وتمنّاها، ووجد ريحها، وتمنى أن يعود، ويقتل فيعود، ويقتل فيعود، كانت ثيابه كفنا قصيرا لا تغطيه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] . وكم من عين رخص ماؤها، وأخرى ذهب بصرها في سبيل الله، وجزء من بدن مجاهد ترك في ميدان المعركة بعيدة، سابقة صاحبها إلى الجنة، وجسد كثرت فيه الطعان تجاوزت جروحه العشرات يغبطه فيها ومنها، السليم المصاب. إنها بيعة دائمة، وعهود قائمة. فانظروا ماذا صنع خبيب، وماذا طلب قبل الموت «1» : الصلاة. وعمر بن الخطاب يوم طعن عمّ سأل: عن الصلاة «2» . هجروا كل شيء، وهاجروا إلى الله، باعوها (النفس) له، وبايعوا عليها. أقبلوا عليه بخلوص وصفاء، ملك عليهم الحياة، وتخلوا عن كل ما عداه، من منصب ومال وزعامة وجاه، إذ لا حياة ولا جاه إلا بالإسلام، وكانت لهم النّصرة والنفرة في كل الأحوال. * الإقبال خفافا وثقالا: ذكر عن أحدهم أنه قال: وافيت المقداد بن الأسود- فارس رسول الله   (1) انظر: أعلاه، ص 104، 301. (2) أخبار عمر (405) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 صلى الله عليه وسلم- جالسا على تابوت (صندوق) من توابيت الصيارفة، وقد فضل عنها من عظمه: أريد الغزو، فقلت له: قد أعذر الله إليك، فقال: أبت علينا سورة البعوث (التوبة) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41] «1» . وفهم أن ذلك محفوف بالأهوال خفّت وبذل المال، وتقديم الأنفس إحقاقا له، وإعلاء لشأنه، نساء ورجالا، شيبا وأطفالا. وكان هذا أمنية «2» يسعون إليها، ويضرعون إلى الله في تحقيقها في كل طور، وما أكثر الأمثلة «3» ! هبّت نفوس أحياها الإيمان، وأشرقت جوانبها، وأضاءت جوانحها بالهداية، فباعت نفسها لله، وبايعت على الطاعة والفداء تتحرك بشرعه تدور مع القرآن حيث دار «4» ، ولا تخاف في الله لومة لائم «5» . نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا «6» وتقدّموا على الطريق يحملونه بأرواحهم، ويغسلونه بدمائهم شهداء، يتمنون على الله أن يعادوا لمثله «7» . وانظر ماذا فعل ثابت بن قيس سيد الخزرج «8» في حرب اليمامة تحنط وتكفن وخطب في المسلمين حتى أثخنته   (1) وكما يقول الله عز وجل من قائل في سورة النساء (71) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً. (2) حياة الصحابة (1/ 457، 2/ 109، 389) . (3) انظر: أعلاه. (4) معنى حديث شريف. انظر: موضوع أبي بصير الذي كان ينشد: الحمد لله العلي الأكبر ... من ينصر الله فسوف ينصر (5) من الآية الكريمة: سورة المائدة (54) . (6) البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، رقم (3873- 3874/ 4) . (7) أخرجه البخاري، أرقام (2642- 2646) . مسلم، رقم (1877) . انظر: رياض الصالحين، (504) ، رقم (1311) . (8) سيد الخزرج، وحامل راية الأنصار، وخطيب الأنصار. انظر: الاستيعاب (1/ 200) ، رقم (250) . أسد الغابة (1/ 275) ، رقم (569) . الإصابة (1/ 195) ، رقم (904) . البداية والنهاية (6/ 335) . سير أعلام النبلاء (1/ 310- 311) . حياة الصحابة (1/ 535، 537، 2/ 367) . الأعلام (2/ 98) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الجراح، فذهب شهيدا، وفاز بالشهادة. عجيب ذلك الجيل الكريم، وما تلاه من أجيال سارت على الدرب المنير، وكذا الآن وفي كل آن والمستقبل ما دامت تقتديه وتفتديه، تعلّقت بالله وعبدته بشرعه وعملت لرضاه، أملا وعملا، بنت الحياة منيرة معمورة متعالية منصورة «1» . إذا حلّ الإيمان قلب إنسان كانت له بذلك ولادة جديدة رشيدة، وبيعة العقبة طليعة أهل النصرة. ثم كانت الهجرة لتغرس على الطريق أزاهير المسك فوّاحة، بأقدامهم القوية خلال خطواتهم السّارة البارّة. هجروا الموطن وما فيه وهو عزيز، ولاحتضانه البيت العتيق، من أجل الدعوة إلى دار الهجرة، إشارة إلى أن موطن المسلم حيث تكون دعوته، وتقوم دولته وأهله وقومه؛ الذين يعيشون فيه بها وله، فهم إخوانه والمعسكر الذي ينتمي إليه، وهم فئته وأمته من دون الناس، وسماعها ذكر اسم الله تعالى. هاجروا إلى المدينة أرسالا وفي أحدها مجموعة فيها عمر بن الخطاب، وسالم «2» مولى أبي حذيفة، كان يؤمّهم لأنه أحفظهم للقرآن. وفيه قال عمر: (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته) «3» (يعني: الخلافة) .   (1) وهذا نجده في كل العصور واضحا، والشواهد على ذلك كثيرة، وكثيرة جدا. (2) أخرجه البخاري، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، رقم (3709- 3710، 3/ 1428، 1372) . كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إمامة العبد والمولى، رقم (660) (1/ 246) . سير أعلام النبلاء (1/ 168- 169) . حياة الصحابة (1/ 344، 535، 3/ 96) . «أرسالا» (مفردها: رسل) : بعضهم في إثر بعض، تفسير القرطبي (2/ 131) . (3) أسد الغابة (2/ 307) ، رقم (1892) . سير أعلام النبلاء (1/ 170) . أخبار عمر (412) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 حتى جاء موكب الهادي المدينة مهلّلة مكبرة «1» . طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع وجب الشّكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع جئت شرّفت المدينة ... مرحبا يا خير داع فالتقى أهل الهجرة بأهل النصرة أخوّة في الله وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 62- 64] . ذلك الجيل الفريد تربّى على مائدة القرآن وسيرة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم، وكذلك حين يفعل أي جيل. وانظر إلى ما صنعوا هم وغيرهم ممن أتى بعدهم، وكلهم كانوا كذلك ويكونون بعون الله تعالى، وعلى مدار التاريخ. فهذا سعد بن معاذ، وموقفه العظيم في بدر والخندق وفي الحياة الإسلامية كلها «2» ، وتعرّف إلى أي أحد منهم تجد في حياته عجبا، وقمة سامقة، ونموذجا باهرا. أظهرت الهجرة- مثل غيرها من الأحداث الكثيرة الوفيرة- قوة الإيمان التي لا تقاس بالقوة المادية. وإن الله ينصر عبده، ويبعث له جنده، حتى ليقوم القليل منهم بما يواجه بهم الجيش الجليل، كما جرى في الغار والمعارك والفتوحات «3» . * لقاء الهجرة والنّصرة: ووصل الركب الكريم مدينة النور والحبور «4» ، واجتمع المهاجرون   (1) تخريج الدلالات السمعية (761) . البداية والنهاية (3/ 197) . حياة الصحابة (1/ 344) . (2) انظر: أعلاه، 119، 123- 138، 221. (3) انظر: أعلاه، ص 150. (4) حياة الصحابة (1/ 342- 344) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 والأنصار على الأخوّة في الله «1» ، وجرت أحداث عجيبة، ودوما كان كذلك، وهكذا يفعل دوما صدق التوجّه إلى الله- إيمانا واحتسابا- ينشئ طاقة جديدة تقوم هي أيضا، قوة تفتق الخير كله، بكل ما لديه، وتأخذ بها إلى قمة عليا، تقيم البناء، وتربو الحياة- بنصر الله وتأييده- متوجهة إلى الله تعالى، وترجو رضاه. إن الذين حملوا الإسلام، وهاجروا به ونصروه، نراهم نعم القدوة، لا لأنهم أكثر علما- مع أهميته وضرورته- أو خلفوا لنا الكتب، بل لأنهم تربوا على القرآن وسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأحيا ذلك نفوسهم، وأنار قلوبهم، وملأ كيانهم. كم هو جيد أن نحتفل بهذه المناسبات، في وقت حاول البعض تشويهها وطمسها ونسيانها، ولكن يجب أن يتجاوز اهتمامنا الاحتفال إلى الإقبال والعمل والإقدام. وكم من أناس وتجمع يحاربون الإسلام، ويحتفلون به، وهم أكثر ضيقا به من أعدائه، يغشونه، ويجهلونه، ويرفضونه. نريد أن تحتفل به نفوسنا، وتتنوّر به أعمالنا، وتحفل به حياتنا؛ لتقوم الحياة الإسلامية، وترتفع راية شريعته، وتتثبت في الحياة أعلامه. فالقرن الخامس عشر الأمل- إن شاء الله تعالى- أن يهيئ الله أمر دعوته وينجز ذلك بسنته؛ لتسوس الحياة، وتقيم شؤون الناس على حكمه، وهو أمر كائن إن شاء الله ولا شك فيه بعونه، إن لم يكن بنا فبغيرنا. وسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: 54] ، يحتضنون دينه، وينصرونه. وكل حرب له لا تفيد، فالخير قادم، والحق قائم، والنبع الجديد ماء الحياة سالم، وما يريد الله وصله لا ينقطع أبدا.   (1) حياة الصحابة (1/ 343، 344، 380) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 إنه دين النصر والانتصار في كل ميدان، والخير فيه وحده. وعدّة النصرة بيع النفس لله رب العالمين إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 111] . وانظر إلى صنع الصحابة- نساء ورجالا وأطفالا- في أي موقف، ازدانت بهم المواقف، وازدهرت بهم المواقع، وجملت بهم المواضع. انظر إلى خبيب وجليبيب وسميّة «1» وغيرهم، وغيرهم كثير. إن الذين حملوا الإسلام، وهاجروا به، ونصروه، تراهم نعم القدوة لأنهم تربّوا على مائدة القرآن، وعاشوا سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] . فالمرجو لإقامة مثل هذه المناسبات أن تورث آثارا كريمة، تعين على البناء، بمثابة منافذ للنفس وسقيا للروح، تنعشها مباركة، لتنتقل هذه الأحفال بمعانيها إلى النفس الإنسانية ثم الى الحياة. * واجب الشباب الطلاب: أيها الأخوة الطلبة- وأستميح الأساتذة الكرام- أن أخصكم أولا ببعض كلمات، حتى لأحسب أنني أتكلم بلسانهم. إن الشباب- في كل أمة- موئل قوتها، ومركز حركتها، وهذا لا يقلل من شأن من تجاوز هذه المرحلة، وقد عاشوها، فلهم السبق ومعهم التجربة والقيادة.   (1) انظر: هنا، ص 225، 360، 296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 أيها الشباب الطلاب: ليس من بديل لهذا الدين عن التمسك والأخذ به والعمل بمنهجه، ففيه الغناء والغنى والتقى والقوة والمنعة والعزة. ولا قيمة لمال أو رفاه أو شباب ومنصب ومكانة بدونه. وجمال تلك الأشياء به، وبدونه تصبح نقما وبه تكون نعما. والعلم والتحصيل- في ظل الإسلام- شيء جدّ كريم، علم الصيانة والديانة. فلنكن مثالا للشباب المتعلم المتفهم المستقيم، الملتزم بدينه، المتمثل بتعاليمه، العازم على نصرته. فهو يغنيه، وبه يكون التفاضل. وهذه النعم سيسألنا الله عنها، فاغتنموا شبابكم قبل الهرم، كما تحدث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم «1» . ونحن على أبواب قرن هجري جديد، ونرجو أن يكون للإسلام. وبالإمكان أن يأمل الإنسان، ويتوقع من ذلك خيرا كثيرا، ولكن لا القرون ولا الاحتفال بها وحدها تكفي، وأهمية الزمن تكمن لما يتمّ فيه. ففي ربع قرن من أول عمر الدعوة الإسلامية تم في الأرض عجبا. فإذا أردنا أن يكون هذا القرآن يحكم في الأرض، أو أردنا أيّا من الأزمان أن يكون قرنا للإسلام وما بعده، فإن ذلك يتأتّى بتربية النفس على الإيمان، وحملها على الإسلام، وأخذها بشرع الله، إيمانا وتضحية وفداء. عند ذلك سيأتي نصر الله، وإنه لمن المؤمنين قريب، إذا وفّوا التزاماتهم، وأدّوا أماناتهم في أي شيء يشاء، وذلك ماثل إن شاء الله، ولكن- وتلك سنة الله- لا بد من توفر الجند، واحتمال كل جهد، والبذل من أجله.   (1) حديث شريف تمامه: «اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» . فتح الباري (11/ 235) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 * تضحيات فائقة رائقة: فلا بدّ لهذا الأمر من تضحية تهون عنده الأمور، وتسترخص النفوس، ولا بد من الإقدام والبذل من أجله أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] . في ليلة قدم فارس إلى المدينة المنورة، ودفع باب أحد دورها برمحه، فخرج عليه شابّ دون التاسعة والعشرين من عمره، واستغرب وتعجّب كل منهما من الآخر. أتدرون من هذا الفارس ومن هذا الشاب العالم؟ هو الأب الذي خرج للجهاد «1» قبل نحو تسع وعشرين سنة، يوم كان الشاب جنينا في بطن أمه. وتعرفا على بعضهما، ولف الأب ابنه بذراعيه ذراع البطولة، وكان الابن من علماء المدينة يستمع الناس له بشوق. جاهد الأب في ميدان القتال، وجاهد الابن في ميدان العلم، وكلاهما لحمل الإسلام، وحفظه، ونشره، ذاك يرعاه بسلاحه، وهذا يرعاه بعلمه وفقهه. وكلاهما صفحة لقرطاس حملن أن يكون عند واحد، وعند كليهما عند الآخر «2» : «وإنّ العلماء ورثة الأنبياء» «3» .   (1) فإن «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد» . أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. سنن الترمذي (5/ 13) ، رقم (2616) . كذلك (4/ 159) ، رقم (1658) . ثم انظر: زاد المعاد (3/ 85، 111) . (2) الشاب، هو: أبو عثمان ربيعة (ربيعة الرأي، 136 هـ 753 م) بن أبي عبد الرحمن فرّوخ. انظر: وفيات الأعيان، (2/ 288) (232) . سير أعلام النبلاء (6/ 89) . الأعلام (3/ 17) . (3) وهذا الجزء من الحديث الشريف بتمامه هو: «إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما إنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظّ وافر» . الترمذي، رقم (2682/ 5) . كذلك أبو داود، رقم (3641/ 4) . البخاري، كتاب: العلم، باب: العلم قبل القول والعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 إن الأمر جدّ، ينتظم الدنيا والآخرة، فلا بدّ من سلوك الجد في أمر الدنيا والآخرة، ولا بد من التوجه إلى الله تعالى والأخذ بشرعه، ونبذ ما عداه. وإن كل نصر في الحياة وبعد الممات يأتي تاليا بنصرة العقيدة وانتصارها في النفس، ثم يأتي بعدها انتصارها في الحياة. اللهم اجعلنا من العاملين بشرعك والدّاعين إليك، إيمانا عظيما، والمجاهدين في سبيلك، والحاملين مشاعل دعوتك ونور شريعتك، نحمل رايتها خفاقة، نعليها ونفتديها، واحفظ دينك، وأقم دعوتك دعوة القرآن، بأيدينا وأيدي هذا الجيل، وكل جيل من المسلمين، يمسكون قيادتها نحو الخير والبركة ينبوعا، يبنون مجتمعه المتحضّر، مثابة للناس كافة، ومهوى الأفئدة، وموئلا آمنا كريما لأهل الأرض أجمعين «1» . اللهم أعزنا بكلمتك، وأعزّها بنا، وانصرنا بدعوتك، وانصرها بنا، وأقم شريعتك الغراء في حياتنا، واجعل مجتمعاتنا له حامية وبانية وحانية، واجعلنا من جنودك المخلصين، وهيئ لنا فرص خدمة هذا الدين، وقوّنا في أداء أمانته، آمين كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 249- 250] .   (1) كان هذا المبحث في الأصل كلمة ألقيت بقاعة الاحتفالات الكبرى (كليات البنين) بجامعة الإمارات العربية المتحدة (مدينة العين) ، قبل نحو خمسة عشر عاما، بمناسبة الاحتفال بالهجرة النبوية الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- ثم زيدت هنا كثيرا جدا وتعنونت (العناوين الفرعية كافة) وتهامشت (تزويدها بالمصادر والمراجع) . والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 المبحث التاسع حقائق الهجرة (النبوية) ودعائمها * مناسبات ذات دلالة * قوة الإسلام ذاتية ربانية أودعها الله تعالى * التسخير لهذا الدين * الهجرة حب وحفظ * النصر حليف الإيمان * عجائب هذا التاريخ * الإسلام ارتقاء وشموخ * الإسلام تعامل وأخلاق * الإسلام شفاء وبناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه. يمضي عام وعام، والمسلمون يحتفلون بالهجرة- وغير الهجرة- من المناسبات الإسلامية «1» . * مناسبات ذات دلالة: إنه ليس معرضا خطابيا يتبارى فيه الخطباء، وليس حلبة يتجارى ويتباهى المتكلمون فيها، إنه موقف مسؤولية كبرى، موقف لا يصحّ معه بالمتكلم والسامع، على السواء، وعلى الجميع- أن يكون مقصّرا. والمرجو أن يكون لهذا الحضور مدلول، واهتمام، ونية مكرورة مذكورة؛ للأخذ بتعاليم الإسلام، نحتفل ونأمل في مستقبل كريم، ولا بدّ أن نسعى بجدّ وصدق كيلا تتحول جهودنا إلى احتفالات، وكفى بذلك هدفا. وإن الهجرة وأمثالها مدعاة للتأمل والعمل، أن تعود سيرة تلك الوجوه الجميلة، والأيدي المتوضئة، والقلوب المتنوّرة، والأذرع الممتدة، والصدور المحتضنة للخير تفتديه، وتقبّله بلذة، وتعانقه بنشوة، وتحمله بفرح شديد. امتلأت حياة المسلمين من المهاجرين والأنصار- أهل الهجرة وأهل النّصرة- بالأمثلة على ذلك، طيلة حياتهم الإسلامية. وقد مرت بنا قصة   (1) ألقيت بمناسبة الهجرة النبوية الشريفة في جامعة الإمارات العربية المتحدة، في مكانين (كليات البنين وكليات البنات) بصيغتين- إجمالا- بتاريخ (18/ 11/ 1980 و 19/ 11/ 1980) . ثم جرى دمج الصيغتين هنا، كما جرى تحسينهما، واستكمالهما، وإضافة الحواشي والعناوين الجانبية، وتوثيق النصوص، وذكر مصادرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 حبيب بن زيد الأنصاري ذات المدلول الكبير «1» . إنّ هذا اللون من البناء هو الذي يستطيع أن يهاجر، ويقيم الهجرة، ويقدم النصرة. * قوة الإسلام ذاتية ربانية أودعها الله تعالى: إنّ قوة الإسلام ذاتية مستمدّة من الله تعالى، أقرّها فيه، ومودعة في حقيقته وطبيعته. ومن يتّصل بها يتّصل بالله، ومن اتصل بالله ملك، واتّصل بالقوة العليا الغالبة البالغة. ليس الذي يملك القوة- جائرا ظلوما غشوما- ويغلب بها هو المنتصر، مهما بدا كذلك. فكم من دول في التاريخ ملكت القوة، وهي تحيا بالطغيان «2» ؛ لأنها متوشّحة بالكفر والعصيان، فذلك كله يثقله إلى الأرض، ويحجبه عن الخير والنور والبر والبركة. إنّ الظلم والطغيان والكفر والعصيان، يمثل الهزيمة. أما الطاعة والإيمان بالله تعالى، مقود البطولة، ومقوّم العمران، ومجلبة لنصر الله في كل ميدان، وكل طاغية جبان هزيل وضعيف، وانظر الى فرعون ونهايته مخذولا. ليس الإيمان وظيفة أو تخصّصا، إنه ينبوع متدفق لا يغيب، ولا يغيض، بل ويفيض. وأعداء الإسلام يعرفون ذلك، فهم يخافونه ويحاربونه، في الماضي والحاضر وعلى الدوام. واليوم فما يشنّ عليه- شرقا وغربا- على ذلك دليل أي دليل، فدول تدّعي الحضارة والسلام، وهي تعيش بين الدماء والليالي الحمراء، منعوا وأجبروا وتعاملوا بمكائن ثرم اللحوم في روسيا، وقتل السود في أمريكا   (1) انظر: أعلاه، ص 225. (2) التاريخ الأندلسي (31- 32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وغيرها، وفي المجر (هنغاريا) منعوا الأسماء الإسلامية «1» . * التّسخير لهذا الدّين: ولكنّ دين الله تعالى قوي بتأييد الله تعالى له، وبه قوته، فهو قوي بما أودع الله فيه من ذاتية فاضلة شاملة، قويّ بما يهيئ له من عوامل النصر لمن، وبمن أطاعه، ووالاه. وقد يجري الله تعالى هذا على يد من ليسوا من أهل طاعته ولا من أتباع دينه. والكثير من الآخرين يخدمونه، حتى «وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» «2» . وإن المسلم يعيش حياته مهاجرا، وهو منتصر من أول يوم يتعلّق قلبه بالإسلام. خبّروني بربكم من المنتصر بلال» أم أمية؟ ومن المنهزم المفلس أبو جهل أم سميّة «4» ؟ وبالقياس لأيّ ميزان واعتبار وأية حسابات؟ وما الذي جعل بلالا وسميّة في نصر دائم، وأبا جهل، وأميّة في هزائم متصلة؟. إنه ذلك البناء هو الرصيد الذي أقامه الإسلام، وصاغ تلك النفوس، وملأ تلك القلوب، وعمر تلك الصدور؛ بهذه المعاني الربانية. * الهجرة حبّ وحفظ: إنّ هذا اللون من البناء هو الذي يستطيع أن يهاجر، ويقيم الهجرة. فالهجرة إلى الله تعني هجر كل ما عداه، بحفظ أمره وطاعته: «يا غلام   (1) انظر، التفسير (3/ 1609- 1610) . دراسات إسلامية (187- 218) . (2) حديث شريف أخرجه البخاري رقم (2897/ 3) . ومسلم، رقم (111/ 1) . جامع الأصول، رقم (7738/ 10) . (3) انظر: أعلاه، ص 102، 214، 224. (4) انظر: أعلاه، ص 214، 225، 296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 احفظ الله يحفظك» «1» . وعند ذلك يسمو الإنسان بالحبّ في الله، ويغدو كلّ شيء من أجله هين، وكلّ مشكلة في طريقه ميسورة. ومن أجل هذا الدين وحبّه ترك المهاجرون كلّ شيء: الأهل والولد والمال، وكذلك البلد. وهذا كلّه رغم حبّ الإنسان لكل ذلك، وتعلّقه بها، ولكن دين الله تعالى أغلى من ذلك كله، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو يترك مكة المكرمة حين الهجرة: «والله! إنك لخير أرض الله وأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» «2» . وبذلك يقوم المجتمع المسلم، وينصر الله المؤمنين، وبه حلّت كلّ المشكلات، يوم انتقلوا إلى دار جديدة، إذ كانت بعض المشكلات- بدون هذا الدّين- تجعل قيام المجتمع (الإسلامي) ودولته أبعد من البعيد. * النصر حليف الإيمان: فالنصر يدور مع الإيمان، مع الإيمان- العميق الواعي المتفهم- بالله تعالى، ودعوته الكريمة، وبالنبوة الخاتمة، ومع الأخذ بكلّ الأسباب   (1) حديث شريف وتمامه: (عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه) ، قال: (كنت ردف النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما، فقال لي) : «يا غلام! إني معلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أنّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف» . أخرجه الترمذي، رقم (2516/ 4) . المسند (1/ 293، 303، 307) (الجديدة: أرقام 2669/ 4، 2763/ 4، 2803/ 5) . جامع الأصول، رقم (9315/ 11) . (2) سبق ذكره، أعلاه، ص 345. انظر: زاد المعاد (1/ 49) . رواه الترمذي رقم (3925/ 5) ، وأحمد (4/ 305) . كذلك: سبل الهدى (3/ 333) . أسد الغابة (3/ 336) ، رقم (3068) . الاستيعاب (3/ 949) ، رقم (1608) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الممكّنة، كما رأينا في الهجرة النبوية الشريفة واضحة، فالنصر إذا لا يدور مع القلّة والكثرة، كما هو مشاهد في السّيرة الشريفة وعموم التاريخ الإسلامي. وحتى الكثرة تأتي بهذا البناء، فتغني نعم الغناء. وكذلك كانت الهجرة، تمت في ظروف صعبة، وإمكانيات قليلة، في خضم متلاطم من الأعداء والأهواء والأهوال، وهكذا كانت وجرت كلّ أمور الإسلام. إنّها القوة الإيمانية الربانية التي تقود إلى الانطلاق بهذا الدّين، حرصا والتزاما حبا وطاعة لله تعالى. يلازمها تحرّي منهج الله والسعي لرضاه، وصورة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدوة ماثلة. وبذلك لا يهمّ المسلم ما يلقاه من أجل نصرة هذا الدّين. وكل المشكلات، وكل الطغاة لا ينالون من الدّعاة شيئا. هؤلاء الدّعاة الذين رسموا صورة الإسلام بسلوكهم، وأقاموا الحياة بجهادهم، فالله تعالى مانعهم من كلّ الأذى، إلا ما يجريه- سبحانه وتعالى عزّه- حسب إرادته وحكمته. وهي سنّة الله الذي منع أنبياءه وحفظهم عليهم السلام- وسيدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ الذي يقول مخاطبا ابنته فاطمة يوم اشتدّ عليه الأذى في مكة: «فإن الله مانع أباك» «1» . وبهذه الرّوح انطلقوا في الحياة على بيعتهم يوفونها، وهم بها فرحون وينشدون: نحن الذين بايعوا محمّدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا «2» لا بدّ أن يعود الإسلام ليقود ويسود، ولكن لله تعالى سننا، فلا بدّ من جند أمناء أقوياء أوفياء، ينصرونه ويحملونه ويفتدونه، والتباشير بادية إن شاء الله تعالى. وإن الغرب الذي غزا العالم الإسلامي بعسكره وفكره، بخيله ورجله، صحا أو غدا على صليبيته ووحشيته، انهزم مرتين في البلاد، بكل   (1) انظر: سيرة الذهبي (235) . البداية والنهاية (3/ 134) حياة الصحابة (1/ 266) . (2) سبق ذكره، انظر: أعلاه، ص 348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ما استعمله، رغم إمكانياته ومعاونيه من الخونة العاقّين، على مختلف الأصعدة (الصّعد) والميادين. ورغم ذلك، فالإسلام يتقدّم، وتتّسع مروجه، وتغلب أطايبه، وتسمو راياته الخفاقة عالية. * عجائب هذا التاريخ: وهذا تكرار لظاهرة فريدة، جرت ومرّت في التاريخ الإسلامي، عرفها وألفها، فالتتار والمغول الذين حملوه، وأقاموا دولته، أتوا إلى دياره غزاة، ويومها أفنوا وقضوا على كلّ ما واجهوه، بوحشية وتدمير. وهذه خصيصة في الإسلام قائمة ومكينة، عرفناها في التاريخ الإسلامي تكرارا، وهي دوما لا تريم ولا تغور، والإسلام هو البداية والنهاية، وهو أولا وآخرا، وهكذا بوضوح تامّ. وهذا أمر متميّز في الإسلام: تحوّل أشدّ الأعداء إلى خير الأبناء «1» ،   (1) يقول الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم: «تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا؛ وتجدون خير الناس في هذا الشأن (الأمر) أشدّهم له كراهية (حتى يقع فيه) ؛ وتجدون شرّ الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه» . رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري، عدا ما بين الأقواس فهي من مسلم. البخاري، رقم (3304- 3305/ 3) . ومسلم، رقم (2526/ 4) . المعنى: أي أن الناس مثل المعادن، تجد فيها النفيس كما تجد فيها الخسيس. والإسلام ينظفه ويشرفه ويزيده. هذا الشأن الأمر، قيل: الإمارة والإدارة. وممكن وهذا مهمّ جدا- أن يعني: الإسلام. فالذين حاربوا (ويحاربون) دعوته أولا، (بعضهم أو كلهم إذا عقلوا وقبلوا وأقبلوا) كانوا (ويكونون) فيما بعد من أشد أبنائه فداء وتضحية وجهادا، من أمثال: عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، والأصيرم، ومخيريق، وثمامة بن أثال، وغيرهم كثير، وأمثال مسلمة الفتح، ومن قبلهم، ومن بعدهم كثير جدا، مثل: أبو سفيان بن الحارث، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، وفضالة بن عمير بن الملوح الليثي؛ الذي أراد قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فما أن مسح صلّى الله عليه وسلّم صدره حتى كان أحبّ شيء، وأحبّ كل خلق الله إليه. ولما عاد إلى أهله مرّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وهو أمر واضح من بداية الدعوة الإسلامية. دع عنك ما قاله الأعداء تشويها ... هي الدعاية فلتسقط مباديها لا يقدرون على شيء بما كسبوا ... غير المكائد في أقصى معانيها والحق يقذف نارا فوق باطلهم ... فيدفع الله أهواء ويوهيها فمن تكن كلمات الله حجّته ... فلن يخاف من الدّنيا وما فيها فالإسلام ارتفع بالإنسانية، همة وخلقا وفكرا ومسلكا، في أي من الميادين، وأي من المضامين، وفي أي حقل للعاملين. * الإسلام ارتقاء وشموخ: وانظر إلى من شئت من الصحابة الكرام تجد حياتهم وتصرفاتهم ومواقفهم معبرة عن ذلك ومؤشرة ومفسرة. كل حياتهم مواقف كريمة، وكل مواقفهم بارّة حميمة جسيمة. أناروا الحياة، وتنوّرت بهم، وجعلوها حلوة خضرة نضرة. بنوها وعمروها وحضّروها، حتى كانت بدمائهم، يبذله مقبلا مختارا، ويصرّ على ذلك إصرارا. فهذا سالم «1» - مولى أبي حذيفة «2» - الذي استشهد مع أبي حذيفة في معركة اليمامة (12 هـ) (لما انكشف المسلمون يوم اليمامة، قال سالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فحفر لنفسه حفرة، فقام فيها، ومعه راية المهاجرين يومئذ، ثم قاتل حتى قتل. وقيل: إن   بامرأة كان يتحدث إليها، فقالت له: هلمّ إلى الحديث، فقال: لا، ثم أنشد (سيرة ابن هشام، 3/ 417) : قالت هلمّ إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليك الله والإسلام لو ما رأيت محمدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسّر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بيننا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام (1) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (1/ 167) . (2) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (1/ 164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 سالما وجد هو ومولاه أبو حذيفة، رأس أحدهما عند رجلي الآخر صريعين رضي الله عنهما) «1» . ومصعب الذي استشهد وهو يدافع عن رسول صلّى الله عليه وسلّم في أحد، وقطعت أعضاؤه، وهو مستمرّ في القتال «2» . إنّ فوت الزمان يجعل الإنسان المسلم يتشوّق، ويتحوّل أكثر نشاطا لتعويض ما فات «3» . وكلّ ذلك بسبب بنائه على دين الله، وقيام حياته على منهجه وارتباطه بالله تعالى، طاعة وعبودية وحبّا. * الإسلام تعامل وأخلاق: إنها العقيدة في الله، تنير القلب، وشريعة الله تضئ الدرب، وتحطّم   (1) سير أعلام النبلاء (1/ 169) . (2) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (1/ 145) . أعلاه، ص 117- 120، 331. (3) مثلا، انظر ما فعله الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي (15 هـ) ، أبو المغيرة، وأبو عبد الرحمن، (أخو أبي جهل) من مسلمة الفتح (8 هـ) . ولما أسلم قال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي هداك، ما كان مثلك يجهل الإسلام» . استأمنت له أم هانئ، فأمّنه النبي صلّى الله عليه وسلم. وهو من المؤلّفة قلوبهم، والذين حسن إسلامهم. ترك مكة في خلافة عمر بن الخطاب متوجها إلى الشام، متفرغا للجهاد هو وأسرته وماله، واستشهد باليرموك (15 هـ) . وهو أحد الثلاثة الجرحى في اليرموك، وآثروا بعضهم بالماء، وماتوا ولم يشربه أحد منهم. ولما خرج أهل مكة يشيّعونه، ويبكون، فقال لهم: (يا أيها النّاس! والله ما رغبت بنفسي عنكم، ولا اخترت بلدا غير بلدكم، ولكن كان هذا الأمر فخرجت فيه رجال من قريش، والله ما كانوا من ذوي أسنانها ولا في بيوتاتها، فأصبحنا والله لو أن جبال مكة ذهبا، فأنفقناها في سبيل الله عز وجل ما أدركنا يوما من أيامهم، وأيم الله لئن فاتونا في الدنيا لنلمسنّ أن نشاركهم في الآخرة، ولكنها النقلة إلى الله تعالى، فاتقى الله امرؤ) . وخرج في سبعين من أهل بيته فلم يرجع منهم إلا أربعة. الاستيعاب، (1/ 301- 304) ، رقم (440) . أسد الغابة، (1/ 420- 421) ، رقم (979) . سير أعلام النبلاء، (4/ 419) رقم (167) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 كلّ الجدر، فيصل صوتها الى النفس، تخترق الحواجز فيقيم الإنسان من رقدة، وتنفض عنه همدة. وانظر ما جرى لثمامة بن أثال «1» ، الذي كان   (1) ثمامة بن أثال (12 هـ 633 م) بن النعمان اليمامي من بني حنيفة، أبو أمامة: سيد أهل اليمامة، صحابي. وقف في حروب الردة ضد الذين حاربوا الإسلام من قومه، وقاتل مع المسلمين، وبعد أن نصح قومه، وواجههم بالحق، وحثّهم على الصدق. وقبل إسلامه له جهود طويلة، وأعمال كثيرة، وإعداد متكرر، كان يرتب أساليب الأذى، ويجهز من أتباعه، ويبعث الأعوان لقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ويذكر أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم دعا: «اللهم اهد عامرا، وأمكنّي من ثمامة» . الإصابة، (2/ 250) ، رقم (4390) . فأسلم عامر (عم ثمامة) وأسر ثمامة، ثم أسلم. ويوما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية بقيادة سليط بن عمرو العامري (إمتاع الأسماع، 1/ 308. زاد المعاد 1/ 122، 3/ 110) ، أو محمد بن مسلمة (البداية والنهاية، 4/ 149) على ما يبدو، في السنة السابعة للهجرة- فأسرت هذه السرية ثمامة بن أثال- وهو يريد العمرة- وهم لا يعرفونه. فجاؤوا به إلى النبي الكريم والرسول العظيم صلّى الله عليه وسلم، فوضعه في المسجد، وترك من يقوم على ضيافته يسقيه ويطعمه، ويقدم له الحليب من ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. كما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما عندك يا ثمامة» ؟ فقال: عندي خير يا محمد! إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل منه ما شئت. فتركه حتى كان الغد ثم قال له: «ما عندك يا ثمامة» ؟ فقال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد فقال: «ما عندك يا ثمامة» ؟ فقال: عندي ما قلت لك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أطلقوا ثمامة» . فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا والله! لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلّى الله عليه وسلم. البخاري: المغازي، باب: وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال، رقم (4114/ 4) . ومسلم، كتاب: الجهاد والسير، باب: ربط الأسير، رقم (1764/ 3) . وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في الأسير يوثق، رقم (2679/ 3) . زاد المعاد (3/ 110، 277) . مغازي الذهبي، (350- 351) . الاستيعاب (1/ 203) . فقدم ثمامة إلى اليمامة، فحبس عنهم ما كان يردهم من الحنطة، وضاقت بهم الحال، فلم يجدوا من يلجؤون إليه في رفع هذا الحصار عنهم غير رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وإنه لأمر عجيب أن يلجؤوا إليه في ذلك وهم يحاربونه حربا طاحنة، لو استطاعوا قتله، وإبادة المسلمين، وإفناء الإسلام ما تأخروا. ولكنهم يعلمون خلق الرسول صلّى الله عليه وسلم الذي وصفه الله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . وإنه لعجب جدّ شديد أنهم يعرفون ذلك ويحاربونه، وأن يستجيب صلّى الله عليه وسلّم لذلك، ويتمه، وينجزه، فأي أفق يرفع الإسلام إليه الإنسان، ويضعه فيه، ويحرّكه في مداره. وهكذا يربي الإسلام أتباعه، ويدعوهم إليه مقتدين برسول الله صلّى الله عليه وسلم (فكتبوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرّحم، وإن ثمامة حبس عنا الحمل. فكتب إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فحمل إليهم) . الوافي بالوفيات، (11/ 19) . زاد المعاد، (3/ 277) . «الحمل» : ثمر الشجر الناضج، جمعها: أحمال وحمول وحمال. ومنه: «هذا الحمال لا حمال خيبر» يعني: ثمر الجنة، وأنه لا ينفد، وشجرة حاملة. (القاموس المحيط، 1276. تخريج الدلالات السمعية، 739.) . وهذا جزء من شعر أحد المهاجرين تمثّل به الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أثناء بناء مسجده بالمدينة بعد الهجرة إليها. هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ- ربّنا- وأطهر أخرجه البخاري، رقم (3694/ 3) . حياة الصحابة (1/ 343) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 30) . وكان ثمامة ممن ثبت حين الردّة عن الإسلام، وله مقام محمود في ذلك. وقد أغلظ لهم، وبرأ منهم، وقال مخاطبا زعيمهم: (ما قضيت حق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد) . ثم جمع بني حنيفة، وخاطبهم فقال: (يا بني حنيفة إني أرى فيكم بغيا ولجاجة والبغي هلاك واللجاج نكد ... ، وإنكم والله لو قاتلتم أمثالكم لما خفت أن يغلبوكم، ولكنكم تقاتلون النبوة بالكهانة، والقرآن بالشعر، والأنصار بالكفار، والمهاجرين بالأعراب، فلو كان لنادم إقالة أو لشاك بقاء، لم نكره أن تذوقوا عواقب ما أنتم فيه، ولكنه هلاك الأبد) . الوافي بالوفيات، (11/ 19- 20) . كذلك: الاستيعاب، (1/ 213) ، رقم (278) . أسد الغابة، (1/ 294) ، رقم (619) . فأعظمه القوم أن يجيبوه، وبقوا على حالهم ورجع ثمامة مغضبا وقال في ذلك شعرا متنوعا، ثم جمع أتباعه، وشارك المسلمين في دفع أهل الردة وقتالهم ومواجهتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 يكرر الإجراآت- وبإصرار وعناد ومتابعة- لقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم يقع أسيرا بين يدي سرية لمسلمين لم تكن تعرفه، فلما جاءت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقيّده في المسجد- وأبقاه فيه أياما- لعله ليرى نوعية المجتمع المسلم الذي يحاربه، ويعدّ العدّة لقتل نبيه صلّى الله عليه وسلم؛ ووكل به من يسقيه ويطعمه، بل وحتى من ناقته صلّى الله عليه وسلم، ثم أطلقه بدون أي شرط ولا مقابل ولا تكليف. وكان من أمره أن أسلم، ثم واجه قريشا في مكة لعداوتها للإسلام ورسوله صلّى الله عليه وسلم، وقاطعهم، وحاصرهم اقتصاديا، حتى فكّ الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم حصار مكة، وقريش ما زالت في حالة حرب مع الإسلام، ونبيه صلّى الله عليه وسلّم وأهله. * الإسلام شفاء وبناء: وكم واجهت المسلمين بعد الهجرة أمور ومشكلات، كان بعضها كافيا لتعويقها وإيقافها، وربما لتفتيتهم، ولكن بهذا الإيمان بشرع الله تعالى حلّت كلها. وما تمت من أمور كانت لذلك عنوانا، فانظر في المؤاخاة «1» ، كيف أظهرت معاني الإسلام بشكلها العملي الناصع، ممارسة ومظاهرة. وهؤلاء رغم قلّتهم، وقلّة إمكانياتهم، حملوا رسالتهم في مجتمعهم، وانطلقوا بها إلى الناس. فالمسلم يحمل رسالته إلى العالم، لا يبالي أن يواجه الصعاب والأعداء بكل وسائلهم، وهم لا تهمّهم الوسيلة، ولا بدّ للمسلم أن يعرف ذلك، يعرف سبيل الأعداء مثلما يعرف سبيل الإيمان. والمسلمون في كل ذلك يقتدون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عصره وما تلاه من عصور، ينظرونها، ويمرّرونها أمامهم في كل شأن وأمر. فهو القدوة والأسوة والإمام والحادي والقائد والرائد والمرشد، فإذا ما نالهم شيء فقد ناله أكثر.   حتى انتهت تلك الأحداث، ثم توفي بعيد ذلك رضي الله عنه وأرضاه، ورحمه. (1) انظر: أعلاه، ص 303- 305، 310- 311، 345- 347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 والدعاة إلى الله يهون عليهم كل ما يلقون، فهم يعرفون الطريق ويعرفون نحيزة الطغيان وديدن الطغاة. فدور الهجرة ومعناها ومقتضاها وطريقها ومبناها مستمر ومفتوح. رسم المسلمون، خلال التاريخ، وعلى مداره: معانيها، وصوّروا الإسلام بسلوكهم، وأقاموا الحياة بجهادهم، فكانوا في هجرة دائمة بكل ألوانها، يلجؤون إلى الله، ويحتمون بشرعه. وإن الذي يطّلع على الإسلام لا بد أن يهاجر إليه، لا أن يهرب منه. كيف يحدث ذلك؟ ومن هنا كانت الهجرة- ولا بد أن تكون- مستمرة بألوانها الزاهية وصفحاتها الباهية، والأمر كله لله سبحانه وتعالى. إنّ الهجرة هجرة عقيدة ونصرة؛ لنشر الإسلام، وتخليص أنفسنا وبني الإنسان من ظلمات النفس وظلام الحياة، وندعو أهل الأرض لإنقاذهم، عاملين على إبلاغه إليهم حيثما كانوا. فلنهاجر إلى الله لنبني الحياة، ونفوز بخيري الدنيا والآخرة، وبهذه الروح تتمّ الهجرة، ويتمّ كلّ شيء في حياة المسلم، ما دامت نفسه ونيته عليه قائمة، وحياتها به دائمة، تلتحف بالبشر والسعادة. ف «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» «1» والهجرة إلى الله تعالى مفاصلة ومهاجرة لكل سوء وانحراف وعصيان وانجراف، وعند ذاك سيمدّ الله المؤمنين بنصره، ويؤيدهم، ويعلي شأنهم، ويرفع قدرهم، ويكتب لهم الأجر، إن شاء الله سبحانه وتعالى، وبمنّه وكرمه. وهو عزّ وجلّ الذي يقول: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] .   (1) أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم افتتح مكة: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» . كتاب: أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب: لا يحل القتال بمكة، رقم (1737/ 2) . كتاب: الجهاد والسّير، باب: فضل الجهاد والسّير، رقم (2631/ 3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وماذا بعد؟ خاتمة ونتيجة وعبر مستفادة!! «لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده» «1» . والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه واتبع هداه وأعلاه إلى يوم الدين. إنه مثلما حفظ الله تعالى القرآن الكريم عمود الدين، حفظ كذلك دعامته سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأرضيته سيرته، إذ كان هذا الحفظ هو حفظ النصوص وحفظ الدروس، أعني التطبيق العملي والشرح الواقعي لمضامين الإسلام، قرآنا وسنة وسيرة. وكانت السيرة الشريفة مستوعبة- من الناحية العملية- للإسلام كله، قرآنا وسنة وسيرة، بكل أبعاده وأمجاده وإرفاده، وكل جهده وجهاده واجتهاده، بحيث يرى المسلم الإسلام كاملا في السيرة النبوية الشريفة. لقد هيأ الله سبحانه وتعالى من الأسباب والأفراد والجماعات من يقوم بذلك ويطبقه، بأعلى صيغة وأفخم صورة وأرجى إقبال، بأداء متحفز قوي منطلق لا حدود له، وبشكل رائع، لا يدانيه ما عداه ولا يتخيله أو لا يعرفه أو يفهمه. فيكف يطبقه ومن أين له؟ وحتى لو عرفه لا يستطيع- ولو استطاع- لما وصل لهذا المستوى، وبهذه القوة والفاعلية والوضاءة. وهذا وحده دليل على أنه من عند الله تعالى، أودعه سرا لا يظهر أثره إلا لمن أقبل   (1) من دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلم، يوم فتح مكة (وهو على درجة الكعبة) . زاد المعاد، (3/ 358) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 447) . السيرة النبوية (المغازي) ، الذهبي، (1/ 556) . سيرة ابن هشام، (3/ 412) . أعلاه، ص 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 عليه، دينا وعقيدة وشريعة. مثلما هي- بنفس الوقت- دليل على أن كل وضع منقطع الصلة بالله، لا يرجى منه خير. وحتى لو عرف أيّ أحد هذه الأبعاد فالذي جرى يفوق أي خيال وآمال ومال. هذا من ناحية التطبيق، ثم كان الأمر من ناحية التوثيق والدقة والثقة والحرص، بحيث إن هؤلاء أنفسهم كان من ماثرهم، أنهم أدّوا صيغ هذه السيرة العطرة بأخبارها وأقوالها وأوصافها، شمولا وإدراكا وتنقيبا. حرص هؤلاء الصحب الكرام حرصا كليا، مثلما تجاوز بطبعه كل الحدود تجاوز كذلك تنقيبهم كلّ الصيغ المعهودة، منظورة وغير منظورة، في السعي وراء كلمة، بل حرف، ولو كانت بديلة، بحيث إن أحدهم سافر وفي ذلك الزمان ووسائل الانتقال تلك- من بلد إلى آخر بعيد، ليتأكد فحسب من أمر يعرفه، متعلق بالإسلام عموما أو بشيء من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسيرته، قولا وفعلا أو تقريرا «1» . وكانوا ينقبون عن أحواله صلّى الله عليه وسلّم وسلوكه الكريم وتصرفاته في كل ميدان، ومع كل إنسان وفي أي أوان، حتى في خصوصياته أو فيما قد يكون فيه حرج أو حياء أو حاجب يستوجب التوقف عنده. لكنهم كانوا يمضون إليه بصراحة أنيقة وعبارة رقيقة وصحبة رفيقة، حتى في أشد الأمور خصوصية، مما يتعلق ببيته الكريم وزوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين «2» . والإسلام دين شامل كامل باق عام، لم يدع شيئا إلّا وبينه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] . وأن الله جل جلاله هيأ الأسباب   (1) انظر: أعلاه، ص 239- 240. (2) وهنا تظهر بعض جوانب حكمة التعدد والخصوصية بذلك للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم. فكنّ خير من يروي ذلك ويخبرن ويعلّمن الأمة (نساءها ورجالها وأطفالها) كل تلك الأمور وغيرها. كما أن هذا دليل على شمول الإسلام وأنه دين البشرية الكامل التام، يوجه الإنسان في كل أمور الحياة الإنسانية على هذه الأرض حتى يرث الله الأرض ومن عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 لكي ينجز كل ما وعد سبحانه مما يتعلق بهذا الدين. فأنت ترى منذ بداية الدعوة الإسلامية، كيف سارت ونمت. تتبدى لك فيها بشرية الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ونبوته في عين الوقت، حيث أبلغ منهج الله تعالى للأمة وجاهد له وصبر وضحى، حتى نصره الله تعالى وحققه نافذا وواقعا معاشا، بكل أبعاده. يتعايش الإنسان به ومعه وله، ثم كيف أن سياقاته وحركته وانطلاقته مصونة مأمونة مضمونة، وراءها يد الله القادر تسيّرها. وكان لا بد أن يتم ما يريده سبحانه وتعالى، من اكتما لهذا الدين- بعد النصوص- في تطبيقه الشامل. ولذلك وإن كان هذا المعنى فهم واضحا؛ لكنه بحاجة إلى تجلية أكثر، تتعمق وراء مضامينه وارتباطاته في واقع الحياة. تحس كأن الله تعالى صرّف سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتجري بالكيفية التي تمت بها، محقّقة إرادة الله جل جلاله في اكتما لهذا الدين، نصوصا وتطبيقا، في كل الآفاق والمجالات والصيغ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران: 152] «1» . وكلما تعمق الدارس- المسلم خاصة- في السيرة الشريفة، يرى بشكل أوضح هذه الآفاق. ومن خلالها وفي هذا الأمر يشهد أيضا في الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بشريته مثلما يرى نبوته، حيث اجتمعت كلتاهما، تلاقيا طبيعيا لا تكادان تنفكان، بل هما تماما كذلك «2» . ولذلك فإنك ترى- مما ترى- أن كل ما في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قول وفعل وتقرير وحركة وسكنة- وتأمل يشير إليك بوضوح- أنه نبي، أرسله الله تعالى بالصيغة المبيّنة في كتابه سبحانه وتعالى. وبهذا فإنك كلما ارتقيت وتعمقت وترققت، لا تسأل عن معجزة أخرى للتدليل على نبوته الكريمة، على الرغم من أن هذا لا يعد من المعجزات المفهومة والمعروفة.   (1) الحس: إخماد الأنفس والاستئصال. التفسير (1/ 493) . أعلاه، ص 16. (2) انظر أعلاه، (12، 17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ولكن المعجزة هنا متضامنة متضمنة متداخلة «1» . أما المعجزات الآخرى التي أتمها وأجراها الله تعالى على يديه، ورآها صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات، وكذلك المعجزات الإخبارية (الغيبية) التي كان صلّى الله عليه وسلّم يلقيها، بما كشف الله تعالى له، سواء من معرفة الأشخاص أو دعاء لأحد أو على أحد بإنجاز، منعا وتثبيتا، أو بإخبار من الأحداث، كان الصحابة يعرفون ذلك. مثلما ورد عن عديّ بن حاتم «2» ، وبعضها كانوا يستغربونها أو يستفسرونها لجدّتها، ومثلما جرى لسراقة بن مالك بن جعشم. بل إن ذلك كان مفهوما حتى لغير المسلمين، بل- وأكثر من ذلك- لمن كانوا يحاربونه، كما جرى لأبي بن خلف وأخيه أمية وأبي لهب (عمه) «3» . وهذه المعاني يكفي أن ترى- من خلال صحبة هذه السيرة- ليس علما يتابع أو يدرس أو يؤلّف أو يحاضر، لكن من خلال المعايشة العملية والوقوف في ميادينها، مستشعرا معانيها ملتصقا بمبانيها معبرا عن تطبيقاتها، بشمول وتكامل وامتداد. والحق أن هذا هو أحد مضامين الهدف المرجو من وراء دراسة السيرة النبوية الشريفة. وعلى هذا ربما أجد المبرر فيما أردده، من أن كثرة كاثرة من المسلمين لا يعرفون سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأقول: دعوني أزعم ذلك. وهذا في حالة ما يمكن ألا يكون كثرة يستسلمون لهذه المقولة ولا يقرّون بها ويرونها مبالغة وبعيدة. فكانت السيرة النبوية الشريفة أعلى مرتقى للإنسانية في صياغة الإنسان.   (1) انظر: هنا، (70- 71، 82، 375، 377) . (2) انظر: سير أعلام النبلاء، (3/ 164) . (3) السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 652) ، (3/ 84) . السيرة النبوية، الذهبي، (1/ 184- 185) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 126) ، (199) . انظر كذلك: أعلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 ولكن لا يمكن أن تتم ولو بأصغر صورة مثل هذه الصياغة، دون منهج الله تعالى الذي أودع سبحانه تعالى فيه سرا يقيم الحياة الإنسانية الفاضلة عليه بمستويات وصور وصيغ، تجعلها هي التي تحس بهذا السر المودع، حتى لو لم يمكنك التعبير عنه، لكنك في الواقع تكاد تلمسه، بل تراه وتشهده. وحتى مع توفر هذا المنهج بين يديك، قد لا يفلح الكثير في الوصول إلى تلك الصيغ التي وصل إليها الصحابة، وبذلك التكامل والشمول والارتقاء، ليس في جانب من جوانب الحياة، بل في كافتها وكلها، بذلك المستوى للفرد، مثلما لم يتم ذلك لفئة أو أفراد أو جماعة فحسب، بل للمجتمع كله صغارا وكبارا نساء ورجالا شيبا وشبابا وشوابّا «1» ، لا يكاد يشذ عنه أحد منذ الجيل القرآني الفريد (جيل الصحابة الكرام) . وفي كلتا الحالتين تحقيق لمعجزة الإسلام وبيان إعجازه المتنوع المتسع المكين. لذلك فالإنسان فيه مولود جديد وهو في نوعيته فريد وفي حياته سعيد، سعادة الدنيا والآخرة. فإن يتم إنشاء وتنشئة جيل بأكمله، معبّرا عن معاني الإسلام في مسلكه وحياته وإنجازاته التي طبعت بطابع الإسلام المعجز، فكانت إنجازاته بروعتها كذلك، فهو أمر لا يخلو بحال من روائع وروائح عطر الإعجاز والمعجزات. وتصور ما جرى للمسلمين في الحديبية الذين قال الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم فيهم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» «2» . إذا فهذه التربية على منهج الله تعالى وإنجاز صياغة مثل هذا المجتمع هو بذاته معجزة من معجزات الإسلام، أو من ثمارها. وحيثما تلفّتّ تنظر في حياتهم وجدت ثمار تصرفاتهم موصوفة بذلك. إنسان ارتقى بهذا المنهج على يدي هذا الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أسوتهم، بيده   (1) جمع شابّة. (2) سبق ذكره. انظر: أعلاه، ص 47، 64، 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الكريمة رفعهم وبهذا المنهج التقطهم من سفح الجاهلية المتدني ومستنقعاتها الآسنة «1» ، وارتقى بهم برفق إلى قمم لا يعرفها أحد، وما عرفها إلا بهذا الدين. وحتى لو عرفها ليس من السهل- أو بالأحرى لا يكون ممكنا بحال أبدا- ارتقاؤها والوقوف عندها، في كل صيغ الحياة وميادينها ومعتركاتها. تجدهم في الأمور كلها على ذلك المستوى العجيب في البذل والعطاء والإقدام والعفة والوفاء والكرم والصبر والاحتمال والجهاد والفداء، جنديا كان أو قائدا حاكما أو محكوما تابعا أو متبوعا، بل حتى مذنبا ومعاقبا ومحروما. فانظر إلى قضية المثنى بن حارثة الشيباني (14 هـ) وخالد بن الوليد (21 هـ) وأبو عبيدة بن الجراح (18 هـ) وعديّ بن النّعمان «2» ، ثم انظر إلى تلك الغامدية وماعز وأبي محجن والبكائين ومواقفهم. حتى حين كان يرتكب المسلم إثما- قياسا إلى إيمانه- فذلك إنما يقوده لخير، ويثمر لديه ارتقاء جديدا، كما في قصة أبي لبابة وما أدركه واعتبره ذنبا «3» . والإثم نفسه كان يوزن- لديهم- بمقدار الإيمان، وقد يكون في الآخرين، حتى لا يوصف بأنه ذنب، كالذين تخلفوا في غزوة تبوك «4» ، انظر مواقفهم وهي في حالة الضعف المردي المتردي. ليس هذا كأفراد لكن (أركز) كمجتمع. والأمجاد التي تواجهها لا تحسبها أفرادا- وهي كذلك تكوّن المجتمع- ولكن (اركز) المجتمع. لا يأخذه النصر ولا تقعده الهزيمة والشدة. والأمر تساوى وروافده له في أول الدعوة، وهي مطاردة أو يوم انتصرت وحققت. ففي مكة مرت سنوات كان كل من يأتي إلى الدعوة الإسلامية يوضع   (1) انظر: التفسير، (2/ 44- 845) وبعدها، (3/ 1548) . (2) عنه انظر: أعلاه، 170. (3) السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 407- 408) . (4) السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 511- 518) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 تحت السياط، وحتى الدعوة الإسلامية، وهي مطاردة كان أعداؤها- وهم يحاربونها- يدركون أن حربهم لها ليس معتادا لهم، إنما هناك في الأمر جديد، سر كامن لا تمت إلى بشر لكنه فوق طاقته، يحسون ويكادون يدركون- أو يدركونها فعلا- أنها من عند الله، بل فعلوا ذلك إقرارا باللسان حين استمعوا إلى كتاب الله تعالى. وانظر قصة الوليد بن المغيرة المخزومي (أبو خالد بن الوليد وأخوه الوليد بن الوليد) . ومثلها قصة عتبة بن ربيعة «1» . ثم إن ذلك الجيل النبوي استمر يأتي بالعجائب- بمسحة المعجزات- التي حتى لو كان بناء الأفراد بذلك المستوى قد يتفلّت كثير منها في الأعمال الجماعية لا سيما الشديدة القوية، تفوق طاقاتهم وإمكاناتهم، أعني بذلك- بصورة رئيسية- الفتوحات الإسلامية وأمثالها من المواجهات، كحروب الرّدّة مثلا. إن مواجهة المسلمين للامبراطوريتين الرومية والفارسية الساسانية، اللتين حكمتا العالم المعروف يومها، وكانتا تمتلكان القوة العسكرية والبشرية والمادية، أمر تجاوز حدوثه حدا وراء الخيال. بل إن مواجهة واحدة منها ودون القضاء عليها، بل وحتى أن يتناوبا الهزيمة والنصر سجالا، لكان شيئا غير اعتيادي ولا مألوف ولا مسموع ولا يمكن تصوره، فكيف لو انتصرت عليها، بل فكيف لو قضت عليها. إذن فما القول في مواجهتهما معا والقضاء عليهما جميعا في وقت قصير وذهابهما إلى الأبد. «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ... » «2» . وهذا أمر لا يمكن تصور حدوثه أبدا في أي عصر من العصور. علما   (1) عن قصة الوليد بن المغيرة، انظر: التفسير، (6/ 3756) . وعن قصة عتبة، انظر: التفسير، (6/ 3422) . (2) انظر: أعلاه، (81- 82) . أستشعر أن هذا الحديث- وقد قيل قبل هلاكهما ببضع سنين- فيه الحث والإخبار والتعريف بحدوث ذلك، فهو- لا شك- من المعجزات المحمدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 أنهما- وعلى انفراد- ما كان بهما ضعف معنوي أو مادي، لا سيما عن مواجهة هؤلاء الحفنة الذين كانوا خاضعين لهم دوما. بل على العكس كانوا يحسبون- كلّا على انفراد- أنهم سينتهون من موضوع هذه الدعوة الإسلامية في أقصر وقت، ويعدّ بالأيام وبأقل جهد وأدنى مؤونة. بجانب أنه ما كان يخطر على بال أحد أن هؤلاء العرب ممكن أن يفكروا في مواجهة أيّ من هاتين الدولتين. كيف وهم كانوا مستعبدين لهم وعملاء (المناذرة للفرس والغساسنة للروم) ، فما كانوا يفكرون في حربهم، وما لهم بهم طاقة. لكن الذي حدث لم يصدقه أهل ذلك الزمان، ولا يصدقه أهل أي زمان، لولا أنه وقع فعلا «1» . وكان أيضا من أثر ذلك ليس جريان هذه الأحداث فحسب، بل تبدل الحياة وآفاقها وطبيعتها ومثلها وإنسانها، التي تثبتت في نفوسهم وما كادوا يتصورون غيرها. إذا فما الذي أحدثه هذا الدين بتربيتهم على منهج الله تعالى، وبيد الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم. فأي رسول كان هو، باستحقاق هو سيد المرسلين وإمامهم. وهو كما وصفه رب العالمين وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . ومع أني لم أقدّم الأحداث والوقائع في هذه الخاتمة، الأحداث التي مر عرضها- أو كثير منها- فيما سبق من مباحث، لكن مع ذلك فإن هذه الشروح مستنبطة وقائمة ومستمدة من الأحداث والوقائع والصنائع التي مضت رتيبة منسابة طيبة، لا يكاد يجد أحد شذوذا فيها. مما يجعل أن طبيعة الأفراد في ذلك المجتمع المسلم كانت طبيعة مستقرة متجانسة ذات بناء رصين طيب متناسق، في أفراده وفي تجمعاته. جرى ذلك رغم التناقضات العميقة المتجذّرة والاختلافات الغائرة وحروبها المدمرة والتحالفات المتأصلة، التي كانت بينهم قبل الإسلام.   (1) انظر: أعلاه، (81- 83) وبعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وبقدر ما كانت هذه العداوات مركّزة ومركسة كذلك- مما كان يبدو من المستحيل حتى تخفيفها، فضلا عن القضاء عليها- غدت علاقاتهم الأخوية وبناء الحب الرصين فيهم قائما وفعالا وقائدا، شاملا وكاملا ودائما، إلى حد غدا سمتا وصبغة مميزة وصيغة معتمدة مشهودة ومرئية، إلى حد بحيث يثير أعلى درجات الاندهاش والانتعاش لدى كل أحد من سامع أو قارئ. وصدق الله تعالى- وهو أصدق القائلين- حيث يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] . لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164] . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 63] . وهذه الانتصارات لا تنحصر في المواجهات بل في كل ميادين الحياة- كانت بنفس تلك المواجهات- فكانت الفتوحات في أوسع معناها في كل جوانب الحياة. وذلك بعد أن كان الفتح الأساسي هو فتح القلوب لهذا الدين ولكافة مضامين الإسلام ومعانيه، التي بها قامت مبانيه فامتلأت تلك القلوب والنفوس والأرواح وكل مكونات النفس الإنسانية. فتحت مقبلة على شرع الله تعالى ومنهجه وكلماته، عقيدة وعبادة وشريعة، قامت بكل ذلك، تسير في الحياة وتحييها من جديد وترفعها. وبهذا انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا، بما رأوا من روعة منهجه المنير، وجديته الواقعية الراقية موضحة بسلوك أهله. ولكن الفتوحات المعهودة هي صيغة ملموسة، مثلها كانت بقية الفتوحات. ومثلما هي تحمل سرا ترى آثاره واضحة، كان الأمر كذلك بالنسبة لكل ما يتعلق بالمجتمع المسلم ذاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فما القول في أن ينتصر جمع قليل- هم حفنة- بخبرة محدودة، إن وجدت، وبإمانيات ضعيفة ومهيّات أولية، على جموع مؤلّفة ضخمة، ذات خبرة ومجد تاريخي قديم وعدة متقدمة عالية، هي أشبه بالدول الغربية اليوم التي تمتلك التقنيات بل والخطط والخبرات، تجعلها مترقية متقدمة تأخذ بالمبادرة. كانت تلك الجولات تقوم وتتم أيضا في أرضها التي تعرفها وتجيد هي الانتفاع بأحوالها وتضاريسها وأجوائها ومناخها، مع روح معنوية عالية، مستهينة بهذه الحفنة القليلة. ومع ذلك يكون الانتصار لهذه الحفنة القلة، والاندحار للكثرة بكل إمكانياتها. لو أن هذا جرى في معترك واحد فهو يشير إلى سر كامن، فيه المؤشر على نوعية هذه القلة. فكيف إذا استخرجنا قاعدة لا نكاد نجد لها شذوذا أو تخلفا أو توقفا، هو أن جميع المعارك ومع كافة الأقوام- ابتداء من سيرة رسول الله الكريم صلّى الله عليه وسلم- كان عدد المسلمين أقل وعدتهم وخبرتهم وكل المتطلبات اللازمة في تلك المواجهات والمعتركات، ومع ذلك يكون لهم الانتصار. والحقيقة أن هذا كان من بعد الهجرة النبوية الشريفة وعلى مدار التاريخ. ربما يمكنني أن أقول: إن هذا نفسه كان في العهد المكي، وإن لم تكن فيه مثل تلك المعتركات- وإن كانت بحاجة إلى قوة إيمانية لا تقل عن تلك- لكن الحقيقة أن كان الانتصار الباهر النادر للمسلمين. أية قوة امتلكتها هذه المرأة المسلمة، جارية بني مؤمّل- حي من بني عديّ بن كعب- ومن أين أتتها وهي أمة (عبدة) تباع وتشترى وتضرب بالعصا أو بالحربة قتلا، إذا اقتضى (كما جرى لسمية أم عمار بن ياسر) . فكان عمر بن الخطاب يعذبها كل يوم- قبل إسلامه طبعا- حتى يملّ فيقول لها: ما تركتك رحمة بك بل مللا منك، فتقول له: ستبقى كذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 يا عدو الله حتى تشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله «1» . فمن يا ترى هو الأقوى، هو أم هي؟ ومن هو القوي منهما، مواجهة واستضعافا ودعوة؟ ومن منهما المنتصر؟ «2» . ومثلها زنّيرة (عبدة، كذلك) التي كانت تعذّب، ربما لذلك فقدت بصرها، بعد أن أعتقها أبو بكر الصديق مع ستة (ست) آخرين من الرجال والنساء «3» . فادّعت قريش أن آلهتهم هي التي فعلت بها ذلك. فردت عليهم هي نفسها قائلة: كذبوا وبيت الله ما تضر آلهتهم وما تنفع. فردّ الله سبحانه وتعالى بصرها، وعاد كما كان «4» . فانظر مدى ثقة المسلم والمسلمة بالله رب العالمين. وأبو بكر الذي كان من التجار الأغنياء أنفق ماله منذ يوم أسلم في خدمة الإسلام. وحين أسلم كان له أربعون ألف درهما، فهاجر بما تبقى من ماله: خمسة آلاف درهم، ومات- وهو خليفة المسلمين- وما ترك دينارا واحدا ولا درهما «5» . هكذا كان جيل الصحابة متعلقا بالإسلام باذلا كل شيء، وكان أحدهم يستقل نفسه، وكلهم كان يودّ أن يموت شهيدا، وقبل صاحبه. وهذا يعني أنه منذ استقرار الإيمان في قلب أحدهم وامتلك بناءه وحياته تحقق ذلك الانتصار، وإن أخذ أوضاعا وأشكالا وأحوالا متنوعة، حسب الظروف التي تلفهم. عجائب وأعاجيب وتعاجيب، ولا عجب من أمر الله تعالى. كيف ارتقى   (1) انظر: سيرة ابن هشام، (1/ 319) . (2) انظر: التفسير، (5/ 3086) . (3) هم: بلال الحبشي وعامر بن فهيرة وأم عبيس وزنير والنهدية وبنتها وجارية بني مؤمل. وكلهم- مع كثيرين آخرين- كان يعذّب في الله، وهم أقوياء صابرون. (4) سيرة ابن هشام، (1/ 318) . (5) الإصابة، ترجمة أبي بكر الصديق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 أولئك الصحب الكرام وكيف رباهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بعد تلك الحياة الجاهلية المعتمة المظلمة الآثمة، التي لم تدع في الإنسان ونفسه وحياته شيئا إلا طحنته وأذهبته وأقعدته، حتى دون الحد الأدنى من الفطرة- إلا ما ندر- وفي حالات أتت على كل ذلك. وساد ذلك حتى أهل مكة المكرمة- وهي موطن دين إبراهيم (عليه السلام) وفيها الكعبة المشرفة- كما ساد الجزيرة العربية والعالم الظلم والظلام ولفّه القتام «1» . شمل ذلك كل شيء حتى العبادات التي جرى تحريفها والافتئات عليها بل وفي امتطائها، زورا وبهتانا وادعاء وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة: 198] . وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام: 115] . هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة: 2- 4] . إنه القرآن الكريم الذي أنزله الله، وحيا صادقا، وإنها النبوة الكريمة التي بعث بها الله سبحانه وتعالى، وأعدّ لها محمدا صلّى الله عليه وسلّم لتؤدي هذه المهمة، وذلك بوحي الله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] . رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] . وأرادها سبحانه وتعالى أن تكون الخاتمة والأسوة، فهي كذلك استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام «2» . تجد أن الإعداد واضح والتهيئة مبكرة وتصريف الحسنة لأهل الأرض أجمعين. وإذا نظرت عليها قبل النبوة اختارها الله تعالى وهي لا تعرف عن ذلك شيئا ولم تتطلع إليه. قُلْ لَوْ   (1) التفسير، (3/ 3566) . (2) انظر: أعلاه، 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: 16] . كان ذلك تكريما ورقيا وتحقيقا لإنسانية الإنسان وإعدادا إياه للخلافة في أرض الله. وبذلك وحده يمكن، وبدونه يبقى حلما حتى لو أمكن تصوره وتخيله وتأمله، وأبعد منه آمادا متطاولة لا يصل إليه، حتى لو عرف الطريق إليه، وهو لا يعرفه، بل كيف يمكنه أن يعرف؟ إن تربية هؤلاء الصحب الكرام والقدوة الإمام صلّى الله عليه وسلّم والجيل المثال، بهذا القرآن العظيم وعلى يدي الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم ووقوفهم أو جلوسهم على هذه القمم لأكبر من إزالة الجبال وما هو أكبر من ذلك. ولعل هذا بعض ما يمكن فهمه من الآية الكريمة أو وجه من وجوه المعاني التي تحملها وتتحملها: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد: 31] . وقد أحسّ بهذا- كله أو ببعضه- غير المسلمين، بل الأعداء المحاربون «1» . ارتقوا بهذا الدين إلى قمم ما كانوا يعرفونها وما كان لهم ذلك، حتى لقد بلغت بهم الرهافة مثلا أنهم مهما ارتقوا يرون أنفسهم مقصرين «2» . وكانوا يعملون بما يعرفون ويسارعون لكل تعليم يسمعون. فهذا حكيم بن حزام (54 هـ) الذي أسلم يوم فتح مكة وكان من المؤلفة قلوبهم. وأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين فاستقله فزاده فقال: يا رسول الله أي عطيّتك خير: «الأولى» وقال: «يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس وحسن أكلة بورك له فيه ومن أخذه باستشراف نفس وسوء أكلة لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع» فقال: (فو الذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا) . فلم يقبل ديوانا ولا عطاء حتى مات «3» .   (1) انظر: التاريخ الأندلسي، (121) . (2) انظر: أعلاه. (3) سير أعلام النبلاء، (3/ 48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وهذا المرتقى يستطيع اعتلاءه من أخذ به إيمانا وعقيدة وعملا «1» . يقول الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم: «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل» . كما يقول صلّى الله عليه وسلم: «الإيمان تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان» «2» . ويقول ابن عمر: تعلمنا الإيمان ثم القرآن. والصعود من السفوح لها متطلبانهم، والحصول على مستوى رفيع من الفقه الراقي العجيب لهذا الدين وآفاقه. وانظر أنه حين قدم خراج العراق إلى عمر، خرج مع مولى له يعدّ الإبل فإذا هي كثيرة، فجعل عمر يقول: الحمد لله تعالى، ويقول مولاه: هذا من فضل الله ورحمته. فنهره عمر وقال: ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] . فالرحمة عنده- وعندهم- هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى، وكل ما عداه تابع «3» . فبهذا الدين وحده تقوم البشرية- من أي جنس كانت- وهو الموجّه إلى أهل الأرض أجمعين، وبه وحده يحقّق إنسانيتها وترقى إلى مستوى تعمر الحياة وتبنيها وتعرف مهمتها وتقيم حضارتها. وما يصنعه هذا الدين دوما كثيرا وكثيرا جدا، كما جرى ذلك في الجولة الأولى. وبجانب علو البناء الإنساني بمنهج الإسلام، ولا يكون بغيره، المتمثل في واقع الحياة في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والصحابة ومن تبعهم، فإن هذا يفصح كذلك عن أن الإسلام منهج عملي- وتلك من معالمه وطبيعته وحقيقته- لا ينفك عن ذلك. وبجانب كل ما يفهم من وصفه عملي- تنفيذيته وحياتيته ومثاليته (حب وبناء) - جاء ليطبق في واقع الحياة. والمسلم الذي يفشل أو يتخاذل أو يتجاهل ذلك- إهمالا وعجزا وضعفا   (1) انظر: أعلاه. (2) انظر: أعلاه. (3) انظر: التفسير، (3/ 1799) وبعدها. أدناه، ص 407. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 - ربما هو مقصر ومتأخر ومتحدر عن الإسلام ومراميه وأهدافه، وفهمه سقيم ومستواه ردئ ونوعيته فجّة متدنية متردية. وهو بأشد الحاجة إلى إعادة تفهّمه وتجديد ولائه وترقية حيويته؛ لينطلق يا بني نفسه بمعانيه وقوته بحياته وإقامة أمره بحقائقه. وبدونه- مهما ادعت وامتلكت وأبدعت- لا تعرف شيئا من ذلك بحال. تنزلق وتتناقض وتتناقص وتهوي وتذهب شذر مذر، وتقع فرائس سهلة لكل آكلة وأكول، وتتوزعها الكوارث أيدي سبأ، مهما أعلت مبانيها ناطحات، وأرسلت أقمارها مسرعات، وقمعت (تلقت) أسلحتها جامحات. وكم ذكر القرآن الكريم صورا مشهودة من هذا وأمثاله، من التخلف والانحراف والانحياز، في معسكر الكفر وحربه لدين الله ورسالاته وأنبيائه، فيما قص علينا- سبحانه وتعالى- من مصائر الغابرين الذين كفروا والذين تخلفوا وألفوا المعاصي ورضوا بالدنية. وفيما ورد في القرآن العظيم- عن موسى عليه السلام وبني إسرائيل ومواجهتهم لفرعون- وضوح تام شامل، تبرز فيه طبيعة الإنسان- فردا أو جماعة- عن كل ذلك وفي كافة الأحوال. وكأني أشعر أن هذه القصص التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن العظيم هي الصور- والتي هي مكشوفة في علم الله تعالى- تتكرر في الحياة في كل حين بطبيعتها وحقيقتها وأساليبها، لتكون مواجهة جموع المؤمنين لها على خبرة ومعرفة واضحة وأساس، ليتولوا أمرهم ويجهزوا أحوالهم ويتخذوا العدة له. فانظر ما عمل فرعون- وما أكثرهم اليوم- هو والملأ من حوله «1» . وهؤلاء يندفعون معه ولما يريده ويأمرهم به، بل ويزينون ذلك- قناعة   (1) الملأ، هم: أنصاره وأتباعه ومساندوه، وربما هم من المتزعمين الذين تمكنوا أو مكّنوا في المجتمع، جمعهم أعوانا له. فارتبطت- أيضا- مصائرهم معه، فيحركهم كيف يشاء ولا يتخلفون. وإلا فسينالهم منه أشد النكال والعذاب، لا يدخر عنهم وسيلة إيذاء، كما حدث لسحرة فرعون الذين آمنوا بموسى عليه السلام، حيث أعدمهم جميعا وبأبشع صورة. انظر: أعلاه، 182 وبعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 متعاقبة مدعاة، بسطحية وسذاجة وقصر نظر غريب، بعوامل متنوعة تأخذهم إلى الهاوية، وكأنهم مشدودين نحوها. وهكذا دوما يفعل الضلال بأهله، حتى لكأنه يجردهم من مقوماتهم الإنسانية الفطرية التي خلقهم الله تعالى بها فينطلقون معه، ربما أكثر مما يريد وكأنهم منزوعون من إنسانيتهم وبشريتهم. وهو ما نراه في الحياة بكل تفاصيلها هنا وهناك وهنالك، صورا مكرورة مشهورة مشهودة. وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص: 38- 40] . وانظر إلى أي حد وصل استمراؤه وادعاؤه الألوهية. وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ [غافر: 36] . وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [الزخرف: 51- 54] . بل إن فرعون كان يدّعي لنفسه الصلاح ويتهم موسى- عليه السلام- بالفساد وأنه غيور على الدين دين قومه وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غافر: 26] . مع ملاحظة أنه يصف ضلاله بأنه دين، للمماثلة والمقابلة والمحاربة. ولكن مهما جال الباطل وأهله وصال، فإن نصر الله تعالى لا بد أن يكون للمؤمنين أهل دعوته، ما داموا قد وفّوا ما عليهم في الأخذ بدين الله ودعوته وراموا الفداء لأجلها. وهو وعد قائم من الله سبحانه وتعالى الذي لا يخلف وعده أبدا. إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 51- 52] . وقد يكون هذا العناد والكبرياء والحرب لدين الله تعالى من الأمم والولاء للظلم وأهله، سبب بلائها وعظيم لأوائها وسر زوالها، فتغدو أثرا بعد عين، غير مذكورة إلا بهذا الاعتبار العبرة المثار، تناقصت فذرت وذهبت. ولعل هذا مشمول ببعض معاني وإشارات هذه الآيات الكريمة. يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الرعد: 39- 41] . أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الأنبياء: 44] . والصحابة الكرام جيل القرآن الفريد السعيد، نجدهم قد فهموا الإسلام أروع فهم وأخذوا به خير أخذ، وعملوا به أجمل عمل، حتى صاروا صورة لهذا الدين، تنظر الأجيال فيهم ترى حقيقة الإسلام ماثلة في الحياة. بل هم لا مثيل لهم في أيّ من الأمم الآخرى ممن كان قبلهم- حتى من أتباع الأنبياء السابقين، عليهم السلام، ومن الحواريين وغيرهم- ولا بعدهم إلا بهذا الدين وعلى مثالهم ومستواهم وتفانيهم، وبلا نظير. استعرض تواريخ الأمم الآخرى كلّها، بكل وقائعها وتفاصيلها، فإنك لست واجدا مثيلا أبدا أبدا، نوعا وكما وكيفا، ولا شبيه بها بأي مقدار، وأنى لها بحال! صفات كريمة سارت في كل اتجاه طيبة الطّعوم وطيبها متنوع تسقى بماء واحد. وقد عرفت الأمة- بكل أجيالها- مكانة الصحابة الكرام- رضوان الله عليهم- وأدت حقهم ورعت حرمتهم، حمية وهيبة واقتداء، إلا من هوى به الهوى، مهما ادعى واحتوى. ونرجو الله تعالى الهداية ونستعين به سبحانه وتعالى بالبراءة من كل غواية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وبجانب ما كانت الأمة تتبرك بهم كانت تقومهم وتستوضحهم. فما كان المسلمون أيامهم يولون غير الصحابة في الأحداث والملمات والمهمات، ومنها المعارك في الفتوحات. لقد نقل هؤلاء الصحابة صيغ السيرة النبوية الشريفة التي تلقوها من الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم، وهم وإن لم يبلغوا القمم النبوية التي كان عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا أنهم تلقوا عنه وجلسوا على أعلى قمة يمكن أن يصلها إنسان بعد النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم بهذا الدين. وتجد فيهم نكهة تلك الثمار ولألاء تلك الأنوار وعبق ذلك الإزهار، طبعا في النوع وليس في الدرجة، ليبقى هو صلّى الله عليه وسلّم القدوة دوما، ليس للأجيال التالية بل حتى لجيل الصحابة الكرام الذي رباه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بالعلم والعمل والتقويم والتوجيه، أليس هو الأسوة للأمة، بكل أجيالها، حتى الصحابة الكرام؟ فكان الصحابة الكرام يستقون منه صلّى الله عليه وسلّم بكل ترتيب واعتبار وحال، سواء في الإقبال على توجيهاته والأخذ بتعليماته أو بالإسراع إلى محاكاته. ووصلوا إلى حد أنه مجرد الإشارة يسارعون إليها متنافسين. وتربوا على ذلك مستمدين من مائدة القرآن الكريم وبيده الكريمة صلى الله عليه وسلم. فإذا ذكر شيئا حاثا بشكل عام سارعوا إليه، ولا تكاد تجد استثناء. انظر مثلا بيعتهم في الحديبية! فهذا عمير بن الحمام، فانظر ما فعل في معركة بدر. بل إن أحدهم يسأل عما يقربه إلى الله سبحانه وتعالى أكثر، لا يسأل عن تكاليفه مهما كانت حتى لو بذل نفسه، مقبلا غير مدبر. بل ويستقلها، كما قال خبيب حين أتوا به للقتل. استمع إلى قصة عوف بن الحارث «1» . إن أمر هذه السيرة عجيب، كيف وقد صرّفها الله تعالى وجعلها تحتوي الإسلام كله، مطبقا عمليا مرسوما في الحياة قام به أفراد ومجتمع وتمثّله ومثّله. وإذا نظرت فيها جيدا وجدت يد الله العلي القدير كانت توجهها وترعاها وتسيرها حيث يريد سبحانه لتحقيق هذا الأمر.   (1) انظر عن كل ذلك: أعلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وهذا التصريف لها ترى فيه صياغتها مستوعبة التعاليم محوّلة إلى واقع عملي. خذ مثلا الأحداث الاعتيادية اليومية في مكة والمدينة كلها في أية شريحة أو مقطع أو جزء تجدها ناطقة بذلك. والمعارك والأحداث وتوسع الدعوة وانتشارها. ذلك واضح في شدة الأمور ودرجاتها ومسيرتها ونصرها وفي مشقاتها وتيسراتها. وهي خلال ذلك لا تكشف عن حقيقة الإيمان وطبيعته وآثاره فحسب، بل تكشف لك أيضا طبيعة الكفر والعدو، سر معها خطوة خطوة منذ البداية يوميا. عسر الدعوة ومشقاتها وأساليب حرب الأعداء لها، والمؤمنون وصبرهم واحتمالهم واستشهادهم، ورفض الآخرين لها وتنوع استجاباتهم وتحجر مجالاتها أحيانا، كما في مكة والطائف، حتى يصل لليأس، لولا أنها نبوّة لا تعرف اليأس بأي حال، بل تستمر بذلك. وهذا دليل على أنها نبوة من الله تعالى وإن كان كل ما فيها على ذلك دليل. وإذا بدون ترقب، وبكل يسر وسهولة يسلم الستة الأوائل من الخزرج من أهل المدينة، ثم يستمر ذلك حتى كانت البيعات والهجرة والنصرة. وكلها بشكل قوي، العداء والولاء سواء. ثم أحداث المدينة بكل ألوانها، الحربية وغيرها. وخذ أي قطع من هذا وذلك، تجد أن يد القدرة الإلهية من ورائها وأداتها المجتمع وأفراده وأحداثه تجري في اتجاهه. خذ بدرا وكيف أن المسلمين خرجوا للقافلة وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ [الأنفال: 7] . ثم تفلت القافلة فيكون اللقاء والحرب وتكون النتيجة المعروفة وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123] «1» . وانظر فتح مكة حيث كانت معاهدة صلح الحديبية عشر سنوات، وكيف   (1) انظر: سورة التوبة: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 تنقضها قريش ليكون ذلك معجلا لفتح مكة، حتى تتم الصيغة ويتلوها أن يزول الشرك من العاصمة الكعبة ويقصم ظهر الوثنية وأهلها، وكلها تخلص: هذه المدن ثم الجزيرة للإسلام. وذلك كي يتم نزول القرآن كما تم تطبيق كل الإسلام بأركانه وعباداته ونصوصه وتطبق في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم. فما إن ينتقل صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد تم الإسلام نصوصا ودروسا وتطبيقا. وتعرف الفروض وتطبق عمليا. ويعلن في حج السنة التاسعة انتهاء الجاهليات في الحج، حيث جاء في صحيح مسلم أنه: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافا «1» . تجعله على فرجها! وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... فما بدا منه فلا أحلّه فكان الأذان (الإعلان والإعلام) في الناس يوم النحر (حج السنة التاسعة) : لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان «2» ، لأن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس هي قريش «3» . ثم يتم في حجة الوداع التي خلصت للإسلام كل تعليماتها وأركانها، ويتم بذلك الإسلام قائما مرئيا في الواقع العلمي. تجد في السيرة النبوية كل المعاني الإسلامية وصيغ تطبيقات الإسلام لتعرف الأمة ذلك بوضوح، بل عليها تقيس وبها تستشهد وتجد لكل أمور الحياة. حتى في بعض التصرفات المتناسبة مع التعليمات الإسلامية ومنهج دعوته وتصريف ذلك حتى فيما حولها مما يتناسب مع معانيها وأمورها.   (1) مسلم، رقم (3028) (شرح النووي) (18/ 162) . التطواف: ثوب تستعيره للطواف به، ثم ترميه. (2) البخاري، (5/ 212) ، مسلم، رقم (1347) (شرح النووي، (9/ 116) . (3) مسلم (شرح النووي، (8/ 196- 197) . زاد المعاد، (1/ 55) ، (3/ 520) . التفسير (3/ 1277، 1282- 1283) . كذلك أعلاه، 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 ففي المقاطعة التي أرادتها قريش ضد المسلمين وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة لحصر المسلمين ومن عاونهم من بني عبد المطلب وإجاعتهم حتى يسلّموا لهم محمدا صلّى الله عليه وسلم. وفي هذا تصحيح لما هو معروف من أن هذه المقاطعة كانت لإجاعتهم، بل هو حتى يسلموهم محمدا صلّى الله عليه وسلم ليقتلوه، وبذلك ينتهون من هذا الأمر، أمر الإسلام ودعوته. وكان ابتداء هذه المقاطعة من ليلة هلال المحرم من سنة سبعة للبعثة ولمدة ثلاث سنوات إلى السنة العاشرة، وظهرت في ذلك المعجزات المادية والمعنوية في الصبر والإصرار والتقوية. ويبدو لي أن الذين يحاربون الإسلام، فيهم غباء، يورثه إياهم بعدهم عن الحق وحربهم له، فماذا يفعلون؟ فهم يعرفون أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم حق وأن هذه الأمور لا تقوم له، ولكن كيف يصنع مبطلون يحاربون دعوة حق، مثل ما يفعل المعاصرون، أنظمة وحكاما ومؤسسات (المستشرقون وأتباعهم، والكنيسة) وما يشيعونه من شبهات على التاريخ الإسلامي، ابتداء من السيرة الشريفة، يدل على غبائهم وأشد أنواع الغباء ودرجاته. شجعهم على ذلك جهل المسلمين بتاريخهم. فحين أتمّ صلّى الله عليه وسلم فتح الفتوح (فتح مكّة) سأله أسامة بن زيد: أين ننزل غدا يا رسول الله؟ قال: «وهل ترك لنا عقيل دارا» . وطلب أن تضرب قبته (خيمته) في نفس المكان الذي حاصرت قريش فيه المسلمين في شعب أبي طالب في خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر، حيث قال صلّى الله عليه وسلم: «نحن نازلون غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» «1» . ومن أعاجيب هذه الدعوة الكريمة وتعاجيبها- ولا عجب من أمرها لأنها من الله تعالى- أن هؤلاء الصحابة الكرام حين عادوا إلى مكة فاتحين- رمضان   (1) السيرة النبوية، المغازي الذهبي، (1/ 709- 710) . زاد المعاد (2/ 271) ، ومسلم، رقم (1314) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 السنة الثامنة للهجرة- لم يأخذ أي أحد منهم ولم يفكر بمال أو عقار، أثاث أو دار، مما تركه وأخذته قريش، ولم يكن ذلك على بالهم أو في حسابهم، لا سيما بعد توجيه الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم من سأل منهم عن هذا الأمر «1» . كانوا يريدون أن يكون جهادهم خالصا لله تعالى، وهذا في كل الأعمال. وكانوا يحافظون على ذلك ولا ينقصون منه، سائلين الأجر من الله تعالى في كل هذا وغيره، ديدن مألوف. وحين سأل أسامة بن زيد بن حارثة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة- عن مكان نزوله قال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور (من منزل) » «2» . لكنه صلّى الله عليه وسلم- في فتح مكة وفي حجة الوداع- نزل في خيف بني كنانة، حيث ضربت له القبة. وكان هذا توجيه صلى الله عليه وسلّم حين أراد أن ينفر من منى: «نحن نازلون غدا- إن شاء الله- بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» «3» ، يعني: المحصّب، وهو الأبطح.   (1) زاد المعاد، (3/ 105- 106) ، (5/ 70) . (2) أخرجه البخاري في الحج، باب: توريث دور مكة وبيعها وشرائها. وفي الجهاد، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب. ومسلم في الحج (1351) وشرح النووي له (9/ 120) . زاد المعاد، (3/ 106) ، (383- 384) . (3) أخرجه البخاري في الحج، باب نزول النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة، ومسلم (1314) في الحج، باب استحباب النزول بالمحصّب. زاد المعاد، (2/ 267، 271) . السيرة النبوية، المغازي، الذهبي، (709) . «تقاسموا على الكفر» : تحالفوا وتعاهدوا عليه. وهو تحالفهم على إخراج النبي صلّى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب من مكة إلى هذا الشعب وهو خيف بني كنانة، وكتبوا بينهم الصحيفة المشهورة، وكتبوا فيها أنواعا من الباطل وقطيعة الرّحم والكفر. فأرسل الله تعالى عليها الأرضة فأكلت كل ما فيها من كفر وقطيعة رحم وباطل، وتركت ما فيها من ذكر الله ... فكان نزوله صلّى الله عليه وسلّم شكرا لله تعالى على الظهور (النصر) - بعد الاختفاء- وعلى إظهار دين الله تعالى. شرح مسلم، النووي، (9/ 59- 62) . المقصود هو موضوع القضية المعروفة، وهي الصحيفة أو المقاطعة: ألّا يعاملوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وكان الصحابة الكرام يحرصون أن يحافظوا على خلوص أعمالهم لله تعالى ويحزنون لو جرى أمر ينقص من ذلك. وفي قصة عيادة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم- في حجّة الوداع- سعد بن أبي وقاص (55 هـ) في مرضه في مكة خلالها وتخوّفه أن يموت بمكة أو لا يستطيع- لأي سبب- العودة إلى المدينة، فيذهب منه الكثير من أجر الهجرة التي تمثّل معلما مهما في السير النبوية الشريفة، ومثلها في حياة كل مهاجر، ألّا يحرم من العودة إلى المدينة مهجره وأن يحدث له ما يبقيه في مكة أو يموت فيها بعيدا عن مهجره، وهي دليل على من عاش بهذه الهجرة ألا يغبّش شيء مؤداها ومعناها ومبناها. والمحاورة التي جرت بين الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وبين سعد بن أبي وقاص «1»   المسلمين ومن أيدهم ويمنعوا عنهم حتى الطعام، كي يسلّموا إليهم محمدا صلّى الله عليه وسلم ليقتلوه. وذلك حين تعاهدت قريش وتعاقدت على إخراج النبي صلى الله عليه وسلّم وبني هاشم وبني المطلب من مكة إلى شعب أبي طالب (وهو خيف بني كنانة) واجتمعوا إليه. والشّعب هو كالوادي. السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 350) وبعدها. السيرة النبوية، المغازي، الذهبي، (709- 710) . وهذه اللفتة الكريمة مهمة (نزول الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم في هذا المكان) ليتذكروا ما أصابهم من بلاء فيشكروا الله على ما أنعم عليهم من الفتح العظيم ومبالغة في الصفح عن الذين أساؤوا، ومقابلتهم بالعفو والإحسان. وكان هذا الخيف يقع مقابل الشّعب. السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 444) . وهذا في فتح مكة وتكرر ذلك في حجة الوداع. نفس المصدر، (2/ 580) . كما قصد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر، كما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يا بنى مسجد الطائف موضع اللات والعزّى. زاد المعاد، (2/ 271) . وهناك لفتة أخرى كريمة مماثلة، ذلك أن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم- كما يروى عن ابن عباس حين نحر يوم الحديبية (6 هـ) سبعون بدنة أهدى جملا كان لأبي جهل (كان قد غنمه صلى الله عليه وسلّم يوم بدر) في أنفه برة (حلقة تكون في أنف البعير) من ذهب (أو فضة) أهداه ليغيظ به قريشا والمشركين. السيرة النبوية، ابن هشام، (3/ 320) . السيرة النبوية، (المغازي) الذهبي، (1/ 392- 393) . زاد المعاد، (1/ 129) ، (3/ 266، 268) . (1) سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري (من بني زهرة) المكي، من أخوال رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 رضي الله عنه خلال ذلك توضح هذا المعنى، أوردها كما في صحيح مسلم. يقول سعد: عادني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجّة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» ، قال قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: «لا، الثلث، والثلث كثير. إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللّقمة تجعلها في في امرأتك» قال: قلت: يا رسول الله أخلّف بعد أصحابي؟ قال: «إنك لن تخلّف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة. ولعلك تخلّف حتى ينفع (ينتفع) بك أقوام ويضرّ بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردّهم على أعقابهم. لكن البائس سعد بن خولة» . قال (الراوي) : رثى له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أن توفي بمكة «1» . وكان المشركون يعرفون عن هذه الأخلاق منذ وقت مبكر، إلى حد أنهم يريدون قتله وهو يدعوهم إلى الله، دعوة فيها خير الدنيا والآخرة، ولما كسرت رباعية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشجّ في رأسه فجعل يسلت الدم (يمسحه ويزيله) عنه ويقول: «كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيّهم وكسروا رباعيته   صلى الله عليه وسلم. أسلم قديما بمكة. وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وآخرهم موتا (55 هـ) . وهو قائد معركة القادسية (15 هـ) وقائد فتح المدائن (16 هـ) وأحد أهل الشورى الستة الذين اختارهم عمر ليكون الخليفة بعده منهم. وولي إمارة الكوفة أيام الخليفة عمر بن الخطاب. وكان مستجاب الدعوة بما دعا له بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد اعتزل الفتنة في خلافة علي بن أبي طالب. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء، الذهبي، (1/ 92- 124) . (1) مسلم (1628/ 3) (الرقم الأول- قبل الخط المائل- يشير إلى رقم الحديث والثاني- بعده- إلى رقم الجزء. شرح مسلم للنووي، (11/ 76- 82) . زاد المعاد، (3/ 105- 106) . وانظر: السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 45) . السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 329، 368، 685) . الإصابة، (3/ 73) . سير أعلام النبلاء، (1/ 121) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وهو يدعوهم إلى الله» «1» . فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [آل عمران: 128] . والرسول صلّى الله عليه وسلّم رغم ذلك يستمر يدعوهم، ويدعو لهم بالهداية: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» «2» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يرجو «أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا» «3» . لقد كان الأولى بأهل مكة أن يكونوا أول المؤمنين، لكنهم كانوا له من أكبر المعاندين والمحاربين! فأين الرابطة القومية التي يتحدثون عنها؟ هل حقيقة أن دعاتها يصدقون ويصدّقون ذلك؟ لكن الذي يبدو أنهم أدرى من غيرهم ببطلان هذا الكلام. وهم لا يدعون إليها عن إيمان بها، بل مؤامرة على الإسلام ومواجهة له، ومتى كانت القومية رابطة؟ فضلا عن أن تكون فكرة أو منهجا، لا سيما بالنسبة للإسلام «4» . لماذا لا يتحدثون عنها رابطة وصلة. ومجتمعا قبل الإسلام؟ إنه من العجيب أن يتكلم أحد بذلك في البلاد الإسلامية. ومن كان يدعو إليها فيما سبق هجرها، وهؤلاء الأوربيون تخلوا عنها، وجدوا أيّ بلد غير إسلامي يدعو لقومية «5» . أما الأتباع فللأسف إنهم تابعوا لأسباب قلّ فيها التأصيل، كما قلّ فيهم النظر الثاقب والدليل. بل وصل الأمر في العهد المكي أن المشركين وهم يحاربونه صلّى الله عليه وسلّم مع ذلك يضعون أماناتهم عنده. ولكن رغم هذا العداء والعناد، فقد بلغت الدعوة   (1) أخرجه البخاري في المغازي. ومسلم في الجهاد والسير (1719) . وأحمد، (3/ 99) . زاد المعاد، (3/ 184) . (2) السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 639) . (3) نفسه. (4) التفسير، (2/ 1006) ، (3/ 1434) . (5) راجع كتاب: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، ص 100 وبعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ونبيها ودعاتها وأتباعها من العلو والسمو والوضوح، في مسالكهم وتعاملهم وأخلاقياتهم أن ذلك أمر مسلّم به. فهم يعترفون بإصرار بهذه الأخلاق العوالي التي لا يمكن إخفاؤها، بل كانت القوة والظهور والاعتزاز، أنهم يعترفون بها بإعجاب وإصرار. فهذا أبو جهل فرعون هذه الأمة وهو يقود قريشا وأهل مكة لقتال الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وإبادة الإسلام والقضاء على المسلمين، إلى معركة بدر (17 رمضان، سنة 2 هـ) وبعد فشل كل المحاولات- من عدد من زعماء قريش ومكة- لترك الحرب والعودة إلى مكة بعد نجاة العير القادمة من الشام، بقيادة أبي سفيان وحماية سبعين من فرسان قريش وشجعانها- التي خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاعتراضها- أصر أبو جهل على مواجهة المسلمين والقضاء على الإسلام ونبيه صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه «1» . وفي الطريق سأل الأخنس بن شريق أبا جهل منفردا- خلا به- فقال له: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا! فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قطّ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسّقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ «2» . ولدى ابن إسحاق في سيرته أورد هذا المعنى- بعد أن يذكر استماع زعماء قريش إلى القرآن الكريم- فيقول: ثم خرج (الأخنس) من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الرّكب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل   (1) التفسير، (3/ 1453- 1463) . (2) التفسير، (2/ 1075) . أعلاه، ص 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدّقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه «1» . وقد وصف الله تعالى ذلك بقوله العظيم، مخاطبا رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلم: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . ومضى الصحابة بهذا الخلق مقتدين برسول الله صلّى الله عليه وسلم، يسمعون فيهرعون إلى الامتثال، بكل محبة وشوق وفرح. فكانوا يسعون لكل أمر يقربهم إلى الله تعالى، مهما كان شاقا، سواء يسمعونه فيأتمرون، أو يسألون عنه فيسارعون. فانظر إلى عمير بن الحمام حين سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في معركة بدر يقول: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة» . فقال عمير بن الحمام، أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء. ثم قذف التّمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل «2» . ويذكر ابن القيم كلاما إضافيا في هذه القصة، فيقول: ولما دنا العدو وتواجه القوم، قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الناس، فوعظهم وذكّرهم بما لهم في الصبر والثبات من النصر والظّفر العاجل وثواب الله الآجل، وأخبرهم أن الله قد أوجب الجنة لمن استشهد في سبيله، فقام عمير بن الحمام، فقال: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: «نعم» . قال: بخ بخ يا رسول الله، قال: «ما يحملك على قولك بخ بخ» ، قال: لا والله يا رسول الله إلّا أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها» . قال:   (1) السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 316) . (2) السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 627) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل. فكان أول قتيل «1» . وصورة أخرى في معركة بدر كذلك- وما أكثر الصور فيها وفي غيرها- إذ سأل عوف بن الحارث «2» ، فقال: يا رسول الله، ما يضحك الرّب من عبده؟ قال: «غمسه يده في العدو حاسرا» . فنزع درعا كانت عليه فقذفها! ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل «3» . وهذا وأمثاله يقوم على الإيمان القوي العميق الوثيق بالله تعالى وكتابه العظيم ورسوله الكريم صلّى الله عليه وسلم. فهو يأتي بالعجائب غير المسموعة ولا المنطورة ولا المعروفة، والتي لا تخطر على بال أحد. لكنه برز أمام العيان أن المجتمع المسلم- كمجتمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن على منوالهم وعلى مدار التاريخ- يكون في أموره وحياته ومعيشته صورة مصغرة عن الحياة في الآخرة من الرقي المثال والخلق الرفيع والتعامل الفاضل. فهي تكون معيشته من ناحية الاكتفاء والاستمتاع وروعة النّتاج وتوفره لكل أحد. وهذا بطبعه- في الحياة الدنيا- ينتفع منه من يحيا في المجتمع المسلم ويظلّله بوارف ظله ومن يقتبس منه ممن في خارجه أو مارا به أو حتى سامعا عنه. وهذا لكي يشهد غير المسلمين روعة هذا الدين مما هو محروم منه، لكي يكون مجتمعه دوما متميزا يرى الناس فيه صيغ هذا الدين ماثلة أمامهم شاهدا على دين الله تعالى ومنهجه. وهو بذاته دعوة قائمة لا مجال لتجاهله أو إنكارها وعندها يبقى الناس بين معجب يقوده ذلك إلى الانضواء تحت لوائه أو مسالم يقترب يوما فيوم منه ليطرق بابه   (1) زاد المعاد، (3/ 162- 163) . انظر: السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 141) . نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، (73- 74) . (2) ابن عفراء؛ الصحابية الجليلة ذات المواقف، شأن كل الصحابيات، رضي الله عنهن. (3) السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 627- 628) . «يضحك» : تعني: يرضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ويدخله، أو حقود عنود حسود، مثل أبي جهل ومن معه، الذين ساقتهم إرادة الله إلى بدر ليقتلوا، ويزالوا من أمام دعوة الله تعالى، بتصريف الله سبحانه وتعالى لأمر هذه الدعوة الكريمة المباركة. وهؤلاء يستمرون في العداء والحرب والتجييش، ويقضى عليهم بسواعد المؤمنين بهذه الدعوة التي بنتها الشريعة الإسلامية باسم الله تعالى وبكتابه وعلى يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم. عند ذلك يؤيدهم سبحانه بأي من جنده وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] «1» . يتم بقدرته المطلقة وإرادته القوية ورحمته الواسعة، كما جرى للصحابة الكرام بقيادة رسول الله الكريم صلّى الله عليه وسلّم في معركة بدر الكبرى، وهي فاصلة في التاريخ الإسلامي والإنساني على السواء. وبهذا يتوفر الحبّ لله وكتابه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فيأتي بعجائب الصور التي يستغرب حدوثها ولا يقدر عليها- وما قدر- إلا بهذا الدين، فليتق الله تعالى امرؤ، ويلزم التقوى، ثم ليرى ما سيكون. هكذا تلقى الصحابة الكرام رضي الله عنهم هذه المعاني وارتقوا قممها وجلسوا فوق صهواتها، فكانوا نموذجا يحتذى طوال الزمان، وبالنسبة لأي أحد لا تنال ولا تطال بأي حال، إلا تباعا واتّباعا لهذا الدين، ويا ليتها، اقترابا وتسديدا. وكلهم بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على هذه المعاني ووفّوا، وتكررت هذه البيعة، وأدوا حقها بأعلى المستويات، وكانوا لا يعرفون غير الوفاء، كانوا على الهدى المستقيم وربّ الكعبة المشرفة. بلغت محبة هؤلاء الصحابة الكرام للرسول الحبيب صلّى الله عليه وسلّم ليست أعلى درجات الحب فحسب، ولكنه الحب الذي لا مثيل له، وهذا يعني أن كل   (1) وآيات أخرى بهذا المعنى، انظر: سورة الفتح: (4، 7) . سورة الأحزاب: (9) . سورة التوبة: (26، 40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 الأمور والأحداث والمعاني التي تبنى على الإسلام لا مثيل لها بالتأكيد؛ لأن صناعته المتفردة عديمة النظير. صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ [البقرة: 138] . كانوا يفدونه بالنفس والمال والأهل والولد، ومع ذلك يستقلونها «1» . ومع أن هذا شرع ودين لكن كان أيضا رغبة النفس وهوى القلب وفيض العاطفة. وهذا يعني أن أمور الإسلام وتشريعاته وأوامره لا بد أن تؤخذ بهذا الأسلوب والمستوى والطريقة، وإلا فهي لا تقبل إلا بهذه النوعية وخالصة لله تعالى، إيمانا واحتسابا وطلابا. وغدت هذه الأمور تؤدى من قبلهم، ليس فقط رغبات يسعون إليها بل هوى وعشق يجعلهم يؤدون أكثر منها لو استطاعوا، فيقدمون أقصى الطاقة، ولكن أي طاقة: الطاقة الإيمانية بهذا الدين وبما ابتنت عليه من المعاني العالية التي ترفع صاحبها فوق كل مستوى عرفه ويعرفه أي إنسان، مستوى لا يكون إلا بهذا الدين. انظر إلى ما جرى مع عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصيّ القرشيّ المطلبي أحد السابقين الأولين، ومن عمومة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسنّ منه عشر سنين في معركة بدر (صبيحة يوم الجمعة 17 رمضان 2 هـ) ، حيث أخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة من أصحابه للمبارزة: عبيدة (من أبناء العمومة) لعتبة بن ربيعة، وحمزة (عمه) لمبارزة شيبة بن ربيعة، وعلي (ابن عمه) لمبارزة الوليد بن عتبة. أما حمزة وعلي فقتل كل منهما خصمه (شيبة والوليد) ، أما عبيدة فاختلف هو وخصمه (عتبة) ضربتين، «فأثبت كل منهما الآخر، وشدّ عليّ وحمزة على عتبة فقتلاه (فذفّفا عليه: أجهزا عليه) ، واحتملا عبيدة وبه رمق، ثم توفي بالصفراء» «2» . ثم حملا صاحبهما عبيدة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم   (1) انظر: أعلاه. (2) السيرة النبوية، الذهبي، (1/ 306) . الإصابة، (4/ 254) . السيرة النبوية، ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ففرش له قدمه فوضع خده عليها وقد طابت نفس عبيدة بذلك، ثم قال عبيدة: أما والله لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لعلم أني أحق منه بقوله «1» : كذبتم وبيت الله يبزا محمد ... ولمّا نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل وفي بدر لما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعدل صفوف الصحابة استعدادا للقتال، وبيده سهم يعدل به القوم فمر بسواد بن غزيّة، وهو مستنتل (متقدم) من الصف فأشار صلّى الله عليه وسلّم إليه قائلا: «استو يا سواد» . فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال: «فأقدني» فكشف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بطنه الشريفة وقال: «استقد» . قال: فاعتنقه فقبّل بطنه، فقال: «ما حملك على هذا يا سواد؟» . قال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخير «2» . فلا يوجد وما وجد في العالم كله أحد أحب أحدا كما أحب أصحاب محمد محمدا صلّى الله عليه وسلم «3» . والحق أن هذا دائم، فالحب هو طبيعي لكل مسلم حق، على مر العصور حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وانظر هذه الصورة كذلك: أن رجلا من أهل الكوفة قال لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحبتموه؟ قال: نعم يا بن   هشام، (1/ 325) ، (3/ 41- 42) . لاحظ أن الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم أخرج أهله وأقاربه للمبارزة، للقتال والقتل. وهكذا يفعل صلّى الله عليه وسلّم دوما في الأخطار، ويبدأ بنفسه وأهله، آخذا بأشق التكاليف وأثقلها وأخطرها، وهكذا دوما!!!. (1) السيرة النبوية، ابن هشام، (3/ 24) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 139) . وتجد القصيدة كاملة: سيرة ابن هشام (1/ 272- 280) . «نبزى» : لا نبزى: يقهر ويغلب. والكلام على حذف (لا) والبيتان من قصيدة أبي طالب اللامية المشهورة. ويقسم أنه لا يسلمون محمدا صلّى الله عليه وسلّم حتى يموتوا حوله. «الحلائل» : الزوجات. (2) السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 626) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 139) . (3) السيرة النبوية، ابن هشام، (3/ 172) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا «1» . وهذا الحب العظيم لم يكن مقصورا على أحد دون أحد، الكل كذلك، وهو أمر طبيعي، كما سبق بيانه قبل قليل «2» . وكان هو صلّى الله عليه وسلّم يبادلهم هذا الحب، يحبهم ويرعاهم ويؤثرهم، تشهد ذلك في كل موطن. فلدى وصول موكب النبوة الكريم إلى المدينة المنورة في الهجرة الشريفة، استقبله نحو خمسمئة من الأنصار بأسلحتهم، وخرج أهل المدينة والعواتق «3» فوق البيوت، يقلن: ما رأينا منظرا شبيها به، الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء رسول الله. ويصف أنس بن مالك ذلك اليوم فيقول: (شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قطّ، كان أحسن ولا أضوأ (أنور) من يوم دخل المدينة علينا، وشهدته يوم مات فما رأيت يوما قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه) «4» . وخرجت الجواري (النساء) من بني النجار يضربن الدفوف وينشدن: نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار فقال لهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أتحببنني» ؟ قلن: أي والله يا رسول الله. فقال: «وأنا والله أحبكم» قالها ثلاثا «5» . كان الصحابة جميعا يحسون بقربهم منه وقربه منهم، متواضعا للجميع وإلى أبعد الحدود، لأنه تواضع لله تعالى، ومن يتواضع لله يرفعه، ومن لا يتواضع لله لا يتواضع لغيره ولا يعرف التواضع إليه سبيلا. ففي فتح مكة (20 رمضان 8 هـ) حين دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووصل إلى ذي طوى «وقف   (1) السيرة النبوية، ابن هشام، (3/ 231- 232) . (2) وانظر، أعلاه، (60- 65) . (3) «العواتق» : جمع عاتق، وهي الشابة. (4) رواه الإمام أحمد، (3/ 122) . زاد المعاد، (3/ 55) . (5) السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 25) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 على راحلته معتجرا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرّحل» «1» . وكذلك دوما في كل تصرفاته. وكان صلى الله عليه وسلّم يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» «2» . ومعلوم- طبيعيا- أن التوجه في كل ذلك إلى الله تعالى وحب لقائه وثوابه في نعيم الآخرة إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54- 55] . وغدا هذا هو بناء الصحابة الكرام إلى حد أن أصبح لديهم طبيعة لا يفكرون فيه فهم يصدرون عنه ويردون. فحين حضرت الوفاة أبا بكر الصديق رضي الله عنه (22 جمادى الآخرة سنة 13 هـ) أي حين كان يحتضر دخلت عليه عائشة رضي الله عنها وكان يعاني سكرات الموت، هي معاناة حقة. والرسول صلّى الله عليه وسلّم لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: «سبحان الله إن للموت لسكرات» «3» . فلما رأت عائشة رضي الله عنها ذلك قالت لأبيها أبي بكر متمثلة بقول الشاعر: لعمرك ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فنظر إليها أبو بكر معاتبا غير راض، ثم قال لها: لا تقولي هكذا، ولكن قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19] . كان همّ الصحابة الكرام- رضي الله عنهم أجمعين- الآخرة ورضا الله تعالى وحسن لقائه. وفي كل أحوالهم، وقدوتهم وأسوتهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فلا يصدر عنهم في كل ذلك إلا ما يرضي الله تعالى حتى في مزاحهم ولهوهم وغنائهم، وهو أمر طبيعي لا يتكلفونه.   (1) السيرة النبوية، ابن هشام، (3/ 405) . العثنون: طرف اللحية. (2) رواه البخاري. السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 633) . (3) التفسير، (6/ 3364) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وحين كان المسلمون- والرسول صلّى الله عليه وسلّم معهم- يبنون المسجد النبوي الكريم، بعد الهجرة في المدينة المنورة، كان صلّى الله عليه وسلّم يا بني مع الصحابة الكرام، ويحمل التراب وينقل اللبن والحجارة بنفسه، ويقول وهم يرددون: اللهم لا عيش إلّا عيش الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره كما كان صلّى الله عليه وسلّم يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ- ربّنا- وأطهر «1» وهم ينقلون اللبن ويرتجزون: لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منّا العمل المضلّل وهكذا كان صلّى الله عليه وسلّم في كل التكاليف- وفي أشقّها- يأخذ بنفسه ويبدأ بها وبأهله، مع ترفقه بالمسلمين. والمتابع للسيرة الشريفة لا يخطئ أبدا هذا الأمر، ولا يجد مطلقا- ولا يمكنه مهما بحث وحاول- أي عمل أو جهد أو جهاد إلا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أوله، ويتولى أثقله وأكبره وأجهده، مع إلحاح المسلمين عليه بالقيام به دونه. ومثل ذلك تنفيذ الأمور الشرعية كما جرى في تحريم الربا وإبطال الأخذ بالثار حين أعلنه صلّى الله عليه وسلّم في خطبة حجة الوداع، حيث قال: «ألا إنّ كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع، وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب. وإنّ دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدا به دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب» «2» . وهذا الأمر يعتبر معلما بارزا من معالم السيرة النبوية. كان صلّى الله عليه وسلّم يأخذ نفسه بالتطوع في كل الأمور، ابتداء من العبادة بأشقها   (1) زاد المعاد، (3/ 56) . السيرة النبوية، الذهبي، (1/ 290) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 30) . (2) السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 572) . «موضوع» : يعني: باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وإلى أشق الأمور جميعا. ويتخفف أحيانا، حتى لا تكون رتيبة، قد تصل إلى حد الفرض فيما تبدو للمسلمين، فيأخذونها كذلك. وفي هذا جانبان من روائع البناء الإيماني: الأول: ما يخص النبوة الكريمة، وإلى أي مدى إيماني يدفعها ويرفعها إلى هذه الآفاق الوضيئة، فتأخذ بالتطوع حتى لكأنها فروض تستمر في القيام بها. فهو صلّى الله عليه وسلّم أتقى الخلق لله تعالى، وأخشاهم له، وأعبدهم له سبحانه. فيقول صلّى الله عليه وسلم: «فو الله لأنا أعلمهم بالله، وأشدّهم له خشية» «1» . ولعله لأنه صلى الله عليه وسلّم أعلمهم بالله فهو أخشاهم له. وهذا يعني أن المسلم كلما كان أعلم بالله وشرعه زادت خشيته له، وهذا الأمر طردي. إنها نبوة كريمة، تبقى الأسوة الحسنة طول الآماد والأزمان والإرفاد لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21] . الثاني: ما يخصّ الصحابة الكرام وإلى أي حد هم متابعون للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم، ويقدمون على الأخذ به دوما، حتى بالتطوع، لمجرد ما يرون فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مهما بدا، وكان ذلك شاقا، حتى في التطوع بل حتى بالفروض «2» . والرسول صلّى الله عليه وسلّم يعرف ذلك من أصحابه الكرام أعرف وأعمق وأدق معرفة «3» ؛ ولذلك كان يشفق عليهم فلا يحملهم في هذه الأحوال أحمالا، وإن تحملتها طاقتهم التي لا حدود لها. ولم يكن هذا فقط في العبادات، بل حتى في الجهاد والإنفاق في سبيل الله تعالى، وهو صلّى الله عليه وسلّم يعرف مقدار بذلهم وإقدامهم واحتمالهم فيه، فهم قد   (1) مسلم، رقم (2356) . (2) انظر: أعلاه، ص 136- 138. (3) انظر: أعلاه، ص 95- 96، 137، 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 عشقوا الجهاد والبذل والاستشهاد في سبيل الله؛ ولذلك كان صلّى الله عليه وسلّم لا يرضى هو في أقصى الطاقة التي يحبها ويرغبها ومستعد لها، يتوقف أحيانا من أجلهم. فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يرغب أن يخرج في كل جهاد يتولاه المسلمون، رغم واجبات النبوة والرسالة الكريمة التي اختاره الله تعالى لها، واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] . وما أكثر هذه الواجبات المضنية؛ ولذلك كان حين يقوم بالأمور التطوعية وحده، بعيدا عن عيون الناس يقوم بها أكثر وأشد وأطول، والأمثلة كثيرة شاهدة. وفي العبادات وغيرها. فكان في تهجده في بيته يطيل ويكثر العبادة تطوعا «1» . ومن المفيد هنا ذكر الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه «2» : «تضمّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه (عرفه) «3» مسك «4» . والذي نفس محمد بيده لولا أن يشقّ (أشقّ على المؤمنين) ما قعدت خلاف (خلف) سرية تغزو في سبيل الله أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم. ولا يجدون سعة. ويشقّ عليهم أن يتخلفوا عنّي. والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل» .   (1) زاد المعاد، (1/ 311) وبعدها. (2/ 83) وبعدها. (2) مسلم، رقم (1876) . كتاب الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله. (3) «العرف» : الرائحة. (4) سبق ذكر هذا المقطع. وعن بقيته، انظر: أعلاه، ص 300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 كان إحساس الصحابة عاليا بواجبهم وحبهم لتأدية ما هو مطلوب وأكثر. كما كان كذلك بأن الفضل لله تعالى لدينه، وهذا فوق كل ما في الحياة من متع ونعيم ومرابح. لما قدم خراج العراق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج عمر ومولى له، فجعل عمر يعدّ الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل يقول: الحمد لله تعالى، ويقول مولاه: هذا والله من فضل الله ورحمته. فقال عمر: كذبت، ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «1» [يونس: 57- 58] . من هذا الخلق العالي أنه كان صلّى الله عليه وسلّم والصحابة ثم المسلمون يحفظون المعروف حتى للأعداء، مثلما قال صلّى الله عليه وسلّم عن المطعم بن عديّ في أسرى معركة بدر (وكان قد توفي قبلها) : «لو كان المطعم بن عديّ حيّا، ثم كلّمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» «2» . بل يحسن إلى أعدائه، كما جرى مع أسرى بدر ومع الثمانين المسلحين الذين هاجموا المعسكر الإسلامي في صلح الحديبية (6 هـ) يريدون غرّته «3» ، فأسرهم جميعا ثم منّ عليهم دون مقابل ودون أي شرط، بل ولا بطلب من قريش. وكما جرى مع ثمامة بن أثال «4» . حيث أحسن صلّى الله عليه وسلّم معاملته بعد أن كان يعمل لقتله، فكان من ذلك أنه أسلم، وغدا مجاهدا. وهكذا كانت السيرة شرحا للإسلام وأخلاقياته حبا في الله تعالى، وطاعة له وبحثا عن رضاه ونعيمه سبحانه وتعالى. والحمد لله رب العالمين في الأولى والآخرة.   (1) انظر أعلاه، 384. (2) سبق ذكره. انظر: أعلاه، 194. (3) أخرجه مسلم، رقم (1808) . والإمام أحمد، (3/ 124) . (4) سبق ذكره. انظر: أعلاه، 366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 المصادر والمراجع (القرآن الكريم) الأساس في التفسير، سعيد حوى. تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) الطبعة القديمة (الحلبي) والجديدة (دار المعارف) . تفسير ابن كثير تفسير القرآن العظيم. التفسير في ظلال القرآن، الطبعة القديمة والجديدة، الشهيد سيد قطب. الأربعون النووية، النووي. جامع الأصول في أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ابن الأثير (مجد الدين الجزري، 606 هـ) . رياض الصالحين، النووي. سنن البيهقي السنن الكبرى. سنن الترمذي. سنن الدارمي. سنن أبي داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 سنن ابن ماجه. سنن النّسائي. صحيح البخاري وشرحه فتح الباري لابن حجر العسقلاني. صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. مسند أبي بكر البزار. مسند الإمام أحمد، الطبعة القديمة والجديدة. مسند الفردوس، الديلمي. المعجم الكبير، الطبراني. الأخلاق والسير في مداواة النفوس، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي. الأساس في السنة، سعيد حوى. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، أبو عمر يوسف بن عبد البر الأندلسي. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير عز الدين الجزري. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني. أضواء على الحضارة والتراث (*) هذه النجمة في نهاية العنوان تعني أن الكتاب للمؤلف. الأعلام، خير الدين الزّركلي. إمتاع الأسماع، المقريزي. البداية والنهاية في التاريخ، ابن كثير: عماد الدين أبو الفدا إسماعيل الدمشقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 أبو بكر الصديق، علي الطنطاوي. تاريخ الإسلام (الخلفاء الراشدون) ، شمس الدين الذهبي. التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة (*) . تاريخنا من يكتبه؟ (*) . تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي. تاريخ عمر بن الخطاب، ابن الجوزي. تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب، راهب إسباني (أنسيلمو ترميدا) ، أسلم وسمّى نفسه عبد الله بن عبد الله الترجمان، وألف هذا الكتاب. تخريج الدلالات السمعية فيما كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوظائف والصنائع والعمالات الشرعية، علي بن مسعود الخزاعي. تذكرة الحفاظ، شمس الدين الذهبي. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي. جوامع السيرة، ابن حزم الأندلسي. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، أحمد بن عبد الله بن أحمد. حياة الصحابة، محمد يوسف الكاندهلوي. دراسات إسلامية، سيد قطب. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد الحنبلي. سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي. سيرة عمر بن عبد العزيز، ابن الجوزي. السيرة النبوية، شمس الدين الذهبي. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة. السيرة النبوية، ابن كثير: أبو الفدا إسماعيل الدمشقي. السيرة النبوية، أبو الحسن الندوي. السيرة النبوية، ابن إسحاق وتهذيب ابن هشام، وشرح الخشني لها. الطبقات الكبرى، محمد بن سعد. عبد الله بن عمر (الصحابي المؤتسي برسول الله صلّى الله عليه وسلم) ، سلسلة أعلام المسلمين رقم (6) ، محيي الدين مستو. العبر في خبر من غبر، شمس الدين الذهبي. الفصل في الملل والنحل، ابن حزم الأندلسي. القادسية، أحمد عادل كمال. القاموس المحيط، الفيروز آبادي. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، دار ابن كثير. الكامل في التاريخ، ابن الأثير: عز الدين أبو الحسن علي الجزري. ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، د. محمد حميد الله الحيدر آبادي. مختصر منهاج القاصدين. المستشرقون، نجيب العقيقي، دار المعارف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة. المغازي، الواقدي، تحقيق مارسدن جونس، بيروت. من معين السيرة، صالح أحمد الشامي. نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي (*) . الوافي بالوفيات، الصفدي. وفيات الأعيان، ابن خلكان، تحقيق د. إحسان عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 للمؤلف (1) تحقيق ودراسة لسفر من كتاب المقتبس في أخبار بلد الأندلس، للمؤرخ الكبير ابن حيان القرطبي (377- 469 هـ) ، بيروت (1965 م) . يتحدث هذا الجزء من المقتبس عن خمس سنوات (360- 364 هـ 970- 974 م) من أيام الحكم الثاني، المستنصر بالله (350- 366 هـ 961- 976 م) . CRITICAL EDITION OF AL MUQTABIS FI AKHBAR BALAD AL- ANDALUS, BY IBN HAYYAN) 964 6701 (BEIRUT, 5691. THIS VOLUME, OF AL- MUQTABIS, DISCUSSES ALMOST FIVE YEARS) 4- 079 4- 063 (OF- THE RIEGN OF AL- HAKAM II (67- 169 66- 053 ( (2) تحقيق ودراسة للنص الجغرافي المتعلق بالأندلس وأوربا من كتاب المسالك والممالك، للجغرافي الأندلسي الكبير أبو عبيد البكري (عبد الله بن عبد العزيز، 406- 487 هـ) . ظهر هذا النص تحت عنوان: جغرافية الأندلس وأوروبا، بيروت (1387 هـ 1968 م) . CRITICAL EDITION- OF THE GEOGRAHPHY OF AL- ANDALUS AND EUROPE FROM THE BOOK AL- MASALIK WAL- MAMALIK, BY ABU UBAYD AL- BAKRI) 4901 784 ( (3) أندلسيات، المجموعة الأولى، بيروت (1388 هـ 1969 م) . المجموعة الثانية، بيروت (1389 هـ 1969 م) . وتضم بحوثا ومقالات غالبيتها في التاريخ الأندلسي. (4) نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت (1389 هـ 1969 م) . الطبعة الثانية، دمشق (1395 هـ 1975 م) . الطبعة الثالثة، دمشق (1399 هـ 1979 م) . وهي طبعة مزيدة ومنقحة. الطبعة الرابعة، القاهرة (1400 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 1980 م) . الطبعة الخامسة، الكويت (1407 هـ 1987 م) ، وهي تصوير الطبعة الثالثة. والطبعة الجديدة تجهز بعون الله. (5) الحضارة الإسلامية في الأندلس، بيروت (1389 هـ 1969 م) . (6) تاريخ الموسيقي الأندلسية، بيروت (1389 هـ 1969 م) . (7) الدكتوراه (بالإنجليزية) عن: «العلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وأوربا الغربية حتى نهاية الخلافة» : ANDALUSIAN DIPLOMATIC RELATIONS WITH WESTERN EUROPE DURING THE UMAYYAD PERIOD, BEIRUT, 0931) 07091 (. (8) التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة (92- 897 هـ 711- 1492 م) ، الطبعة الأولى، دمشق (1396 هـ 1976 م) . الطبعة الثانية، دمشق (1984 م) . الطبعة الثالثة، دمشق (1407 هـ 1987 م) . الطبعة الرابعة، القاهرة. الطبعة الرابعة (الخامسة) بيروت 1994 م. الطبعة الخامسة (السادسة) بيروت، 1997. (9) جوانب من الحضارة الإسلامية، الطبعة الأولى، بيروت (1979 م) . الطبعة الثانية، الكويت (1987 م) (تصوير) . (10) مع الأندلس لقاء ودعاء، بيروت (1980 م) . (11) محاكم التفتيش الغاشمة وأساليبها، الكويت (1407 هـ 1987 م) . (12) ابن زيدون السفير الوسيط، الكويت (1407 هـ- 1987 م) . (13) أضواء على الحضارة والتراث، الكويت (1408 هـ 1987 م) . (14) تاريخنا من يكتبه، دار الفضيلة، القاهرة (1418 هـ 1997 م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 (15) هجرة علماء الأندلس لدى سقوط غرناطة، ظروفها وآثارها، دار الفضيلة، القاهرة (1419 هـ 1999 م) . (16) بحث بالإنجليزية: INTERMARRIAGE BETWEEN ANDALUSIA AND NORTHERN SPAIN IN THE UMAYYAD PERIOD, THE ISLAMIC QURTERLY, LONDON, VOL. XI, NOS. 1- 2, 1387- 1966. نشر بالعربية ضمن المجموعة الأولى من أندلسيات. (17) نقد) REVIEW (بالإنجليزية، لكتاب: A HISTORY OF ISLAMIC SPAIN, W. MONTGOMERY WATT) ISLAMIC SURVEY 4) , EUP, 5691.IN THE ISLAMIC QURTERLY, VOL.X, NOS.3- 4, 6831) 6691 (. نشر (النقد) باللغة العربية ضمن المجموعة الأولى من أندلسيات. (18) بحث بالإنجليزية يتناول جانبا من شخصية الرحالة الأندلسي (إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلي الطّرطوشي) : AL- TURTUSHI THE ANDALUSIAN TRAVELLER, AND HIS MEETING WITH POPE JOHN XII, THE ISLAMIC QURTERLY, VOL.XI, NOS. ) 7691 (7831 ,4 -3. نشر باللغة الإيطالية في مجلة: RIVISTA STORICA ITALIANA, NAPOLI, ANNO LXXIX, FASC. 1, 7691, PP.461- 371. (19) بحث: «القضاء ودراسته في الأندلس» ، نشر في العدد الأول (1392 هـ 1972 م) من مجلة كلية الإمام الأعظم (بغداد) . (20) بحث: «الكتب والمكتبات في الأندلس» ، نشر في العدد الرابع (1392 هـ 1972 م) من مجلة كلية الدراسات الإسلامية (بغداد) . (21) بحث: «العلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وبيزنطة حتى نهاية القرن الرابع الهجري» ، نشر في صحيفة معهد الدراسات الإسلامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 في مدريد، المجلد الثاني والعشرون (1983- 1984 م) . (22) بحث: «المورسكيون في المصادر والمخطوطات الأندلسية» ، قريبا تحت الطبع، بالعربية وكذلك بالإنجليزية. (23) كتاب: دراسة للظاهرة العلمية في المجتمع الأندلسي، من خلال الكتاب الأندلسي والمكتبات فيه، يجهز قريبا للطباعة. (24) كتاب: السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها، دار ابن كثير، دمشق- بيروت، وهو هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 الفهارس العامة فهرس الآيات القرآنية فهرس الأحاديث والآثار النبوية فهرس الشعر فهرس الأعلام فهرس الأماكن والبقاع فهرس القبائل والجماعات فهرس الموضوعات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 فهرس الآيات الآية رقمها رقم الصفحة (2) سورة البقرة وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ 30 172 رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا 129 244، 382 صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً 138 160، 173، 286، 400 الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ 146 82 وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ 198 382 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ 208 198، 257 أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ 214 354 يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما 219 163، 168 كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً 249 355 وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا 250 355 لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ 256 338 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما 275 261، 278 (3) سورة آل عمران إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ 19 230، 245 قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ 31 29، 278 إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ 62 182 قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ 64 237، 245 وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ 81 244 وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ 85 230 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ 102 107 وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا 103 100، 107، 379 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ 104 100 كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ 110 16، 45، 63، 64، 92، 175 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ 118 109 ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ 119 109 وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا 123 222، 389 لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ 128 395 وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ 146 72، 340 فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ 148 290 وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ 152 373 لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ 164 379 (4) سورة النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ 43 163، 168 وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ 66 136 وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ 69 134، 210، 258 ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً 70 134، 210 وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً 87 182 وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا 122 338 رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ 165 173 (5) سورة المائدة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ 3 245 قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ 15 272 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ 16 272 أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ 50 14، 161، 310 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ 54 76، 291، 351 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ 90 164، 168، 170 إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ 91 164، 168، 170 (6) سورة الأنعام الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ 20 313 قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ 33 305، 397 وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ 115 344، 382 أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً 122 258 اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ 124 275، 382، 406 فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ 125 336 وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ 153 252 274، 276 وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ 155 276 (7) سورة الأعراف الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ 43 114 وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا ... لِلْمُتَّقِينَ 113- 128 187 وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها 156 21 الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ 157 21 قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ 158 244 (8) سورة الأنفال وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ 7 389 وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ 30 306 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ 41 222 لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى 42 336 وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ 62 201، 350 وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ 63 201، 350، 379 يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ 64 201، 350 (9) سورة التوبة قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ 24 55 اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ 31 325 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا 38 217 إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً 39 217 إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ 40 308، 315 انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا 41 348 وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ 92 41 وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ 100 98، 352 إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ 111 344، 352 (10) سورة يونس قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ 16 383 وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي 25 283 قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ 35 277 وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ 36 277 يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ 57 407 قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا 58 384، 407 وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ ... لَغافِلُونَ 90- 92 266 (12) سورة يوسف وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ 21 148، 174، 271 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها 40 156 وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي 109 174 حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا 110 174 لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ 111 174، 182 (13) سورة الرعد وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ 6 80 وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ 31 337، 383 لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ 38 257 يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ 39 387 وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ 40 387 أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها 41 81، 387 (14) سورة إبراهيم وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا 12 324 أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً 24 114، 151 تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها 25 114، 151 وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ 26 108 (15) سورة الحجر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 9 63 فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 94 293 (16) سورة النحل وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ 67 163 مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ 106 224 (17) سورة الإسراء إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ 9 338 وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا ... نَصِيراً 73- 75 97 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ 82 261، 338 وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ 105 336 (18) سورة الكهف الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ 1 336 لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً 18 108 (20) سورة طه فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا ... تَزَكَّى 70- 76 202 كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ ... وَأَبْقى 99- 127 51 (21) سورة الأنبياء لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ 10 107 بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ 18 17 وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي 25 265 أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها 44 387 وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ 105 205، 258، 334 وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ 107 59 (22) سورة الحج يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ... النَّصِيرُ 77- 78 190 (23) سورة المؤمنون اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ 32 13 فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 41 257 ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ 42 257 فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ ... لا يَشْعُرُونَ 53- 56 130، 131، 254 إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ... سابِقُونَ 57- 61 130، 254 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 (24) سورة النور وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ 31 148، 150 وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ 40 261، 279، 338، 342 وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ 55 55 (26) سورة الشعراء وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 191 12 وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ... الْمُنْذِرِينَ 192- 194 12، 339 بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ... إِسْرائِيلَ 195- 197 12 (27) سورة النمل وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ 77 59 (28) سورة القصص وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما 6 183 إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا 8 183 وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ ... الظَّالِمِينَ 38- 40 183، 386 إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى 76 183 قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي 78 184 تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ 83 104 (29) سورة العنكبوت وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ... قَدِيرٌ 18- 20 200 وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ 27 197 وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ ... يَعْلَمُونَ 39- 41 185 وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا 69 324 (33) سورة الأحزاب ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ 4 302، 303 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ 6 55 لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ 21 4، 29، 66، 248، 405 مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ 23 333، 347 يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً 45 21، 252، 274 وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً 46 21، 252، 274 وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً 47 21 يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ 59 149 وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا 62 67 (35) سورة فاطر فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ 43 80 أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا 44 80 (36) سورة يس لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ 70 260 (37) سورة الصافات وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ 24 260، 278 (39) سورة الزمر اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً 23 63 إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ 30 134 قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ 53 311، 312 (40) سورة غافر حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 1- 2 171 غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ 3 171 أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ... الْعِقابِ 21- 22 201 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ... ضَلالٍ 23- 25 184 وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ... الْحِسابِ 26- 27 184، 386 وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ 28 185 وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً 36 183، 386 إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا 51 344، 386 يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ 52 387 (41) سورة فصلت وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ 41 32، 182 لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ 42 32، 182، 338 (42) سورة الشورى وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا 52 12 (43) سورة الزخرف وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ ... مُقْتَرِنِينَ 51- 53 386 فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ 54 282، 386 (47) سورة محمد وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ 38 257 (48) سورة الفتح لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ 18 94 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ 28 4، 20، 93 مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ 29 4، 20، 93 (49) سورة الحجرات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ 2 128 (50) سورة ق وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ 19 403 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 (51) سورة الذاريات وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ 56 172 (53) سورة النجم وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ 28 277 (54) سورة القمر وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ 4 199 وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ... مُقْتَدِرٍ 41- 42 196 أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ 43 196، 200 أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ... الدُّبُرَ 44- 45 200 إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ 54 131، 403 فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ 55 131، 403 (57) سورة الحديد وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ ... خَبِيرٌ 8- 10 94 (58) سورة المجادلة كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي 21 334، 369 (59) سورة الحشر فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ 2 330 لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ 8 98، 104 وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ ... رَحِيمٌ 9- 10 98 لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ 21 339 (61) سورة الصف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ... مَرْصُوصٌ 2- 4 76 وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ 6 244 يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ 8 334 أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ 9 334، 336 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 (62) سورة الجمعة هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا ... الْعَظِيمِ 2- 4 382 (63) سورة المنافقون هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ 4 112 وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ 8 190، 281 (67) سورة الملك أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 14 172، 372 (68) سورة القلم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ 4 52، 378 (69) سورة الحاقة تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ... الْأَقاوِيلِ 43- 44 96 لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ... الْعَظِيمِ 45- 52 97 (72) سورة الجن قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ ... أَحَداً 1- 2 259، 276 وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا 19 256 (74) سورة المدثر وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ 31 399 (75) سورة القيامة وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ 22- 23 272، 290 (76) سورة الإنسان إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ 9 69 (81) سورة التكوير إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ... الْعالَمِينَ 27- 29 276 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 (85) سورة البروج قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ ... الْحَمِيدِ 4- 8 291 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 فهرس الأحاديث والآثار النبوية طرف الحديث رقم الصفحة ا- اتق الله حيثما كنت واتبع الحسنة 123 أجل، والله إنه لموصوف في التوراة 21 أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة 279 إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده 81، 377 أرحنا بها يا بلال 209 اسمعوا وأطيعوا ولو إلى عبد حبشي 123 افد نفسك برماحك التي بجدة 178 أفلا أكون عبدا شكورا 403 ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية 191، 404 ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت 75، 161 أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله 63 أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود 57 إنّ إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا 45 إن الرائد لا يكذب أهله والله 254 إن روح القدس نفث في روعي 263 إن سالما شديد الحب لله 264 إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم 292 إن الله يحب أن تؤتى رخصه 218 إن لنساء قريش لفضلا 149 إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت 136 إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون 220 إنما الأعمال بالنيات 314 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 إنه خبيث الدية، فلعنه الله 195 إنه لمن أهل الجنة 267 أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا 13 أنا أولى الناس بابن مريم والأنبياء أولاد علات 244 أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى 244 أنت عبد الله ذو البجادين 146 أنت مهاجرون إلى الله وإليّ 322 أنتم اليوم خير أهل الأرض 64، 95، 375 أي المؤمنين أعجب إليكم؟ 96 الأنبياء أخوة لعلّات أمهاتهم 270 الإيمان تصديق بالجنان وقول باللسان 384 أيها الناس إني نذير لكم 293 أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا 288 ب- بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى 280 بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس 245 بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل 237 بلى إنهم حرموا عليهم الحلال 325 ت- تحملت له بقتلي على أن يعول بنيك 178 تضمن الله لمن خرج في سبيله 406 ث- ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان 55 ج- الجهاد ذروة سنام الإسلام 77 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 - ح- حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب 209 خ- خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم 64 د- الدين المعاملة 122 ر- ربح البيع: لا نقيل ولا نستقيل 304 ز- زاده الله حرصا على طواعية الله 137 س- سبحان الله إن للموت سكرات 403 السلام عليكم دار قوم مؤمنين 96 سيروا وأبشروا فإن الله تعالى 222 ش- شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قط 135، 402 ص- صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة 225، 296 غ- غمسه يده في العدو حاسرا 398 ف- فأعني على نفسك بكثرة السجود 100، 101 فإن سلعة الله غالية ألا أن سلعة الله الجنة 298 فإن الله مانع أباك 362 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فإني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن 31 ف- فإني لا أقبل هدية مشرك 42 فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا 168 فو الله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية 405 ك- كان خلقه القرآن 41، 63، 65، 74 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح انصرف 146 كان يمر الشهر والشهران وما يشعل في بيت 126 كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة 390 كنّ نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 148 كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة 169 كيف أصبحت يا حارث 205 كيف أنتم وربكم؟ 98 كيف تقضي إذا عرض لك قضاء 56 كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم 394 ل- لقد أوذيت في الله عزّ وجلّ وما يؤذي أحد 85 لقد رأيتك بمكة وما بها أحد أرق حلة 118، 332 لقد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له 229، 294 الله أكبر، فزت ورب الكعبة 42، 45 اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه 139 اللهم إن العيش عيش الآخرة 235 اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون 395 اللهم مزّق ملكه 281 لم تراعوا، لم تراعوا ما رأينا من شيء 234 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجوز 149 لما نزلت يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج 149 لو تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون 99 لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في 194، 407 لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما 57 ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي 205، 384 م- ما حملك على هذا يا سواد؟ 401 ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان 19 ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات 12 ما يحملك على قولك بخ بخ 397 مثلي ومثلكم كمثل رجل أو قد نارا 227 مزّق الله ملكه 281 من رأى منكم منكرا فليغيره بيده 219 من علم من أخيه سيئة فسترها 239- 240 من لم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة 326 المؤمن إذا حدث صدق 249 ن- نحن نازلون غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة 391، 392 نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي بالليل 204 ووأنا والله أحبكم 402 وإن العلماء ورثة الأنبياء 92، 354 وإن الله ليؤيد هذا الدين 360 وإنه والله لو كان موسى حيا 57 والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل 397 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون 128 والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى 55 والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف 303 والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض 361 والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني 219 ولوددت أني أقتل في سبيل الله 300 وليقذفن الله في قلوبكم المهابة 303 وهل ترك لنا عقيل من رباع 392 لا- لا إله إلا الله وحده صدق وعده 235، 371 لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق 336 لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق 242 لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده 95 لا، الثلث، والثلث كثير 394 لا خير في جيفته ولا في ثمنه 195 لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق 123 لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية 369 لا يا بنت الصديق! ولكنه الذي يصلي 130 لا يا عمر، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك 56 لا يحج بعد العام مشرك 390 لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله 302 لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما 55 ي- يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ 308 يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله 158، 224، 339 يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها 209 يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة 383 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 يا حنظلة، لو كنتم عند أهليكم كما تكونون 99 يا ربيعة ألا تزوج؟ 142، 209 يا غلام احفظ الله يحفظك 360- 361 يا فلان ما لي أراك محزونا؟ 210 يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب 220 يرحم الله نساء المهاجرات الأول 148 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فهرس الشعر البيت رقم الصفحة الألف المقصورة- والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا 325 فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا 325 إنّ الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا 325 ب- الهول في دربي وفي هدفي ... وأظلّ أمضي غير مضطرب 263 ما كنت من نفسي على خور ... أو كنت من ربي على ريب 263 ما في المنايا ما أحاذره ... الله ملء القصد والأرب 263 ت- وأبي الذي مسح النبيّ برأسه ... ودعا له بالخير والبركات 140 أعطاه أحمد- إذ أتاه- أعنزا ... عفرا ثواجل لسن باللّجبات 140 يملأن وفد الحي كلّ عشية ... ويعود ذاك الملء بالغدوات 140 بوركن من منح وبورك مانح ... وعليه مني ما حييت صلاتي 140 ث- تجهزي بجهاز تبلغين به ... يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا 132 د- نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا 235، 348، 362 ويحي على ساسة القانون ويحهم ... على جهود أضاعوها وما وجدوا 279 وبين أيديهم القرآن يوردهم ... أسمى المناهج والأحكام لو وردوا 279 جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلّا خيمتي أم معبد 297 هما نزلا بالبرّ وارتحلا به ... وأفلح من أمسى رفيق محمد 297 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 - ر- لعمرك ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر 403 هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ- ربّنا- وأطهر 404 نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار 402 ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير 167 فإذا سكرت فإنّني ... ربّ الخورنق والسّدير 167 وإذا صحوت فإنّني ... ربّ الشّويهة والبعير 167 رقص الكون فانهمر ... سال سيله نهر 167 طرب الكون وانتشى ... أخضر وجهه نضر 340 وتغنّت بقاعه ... حين صابها المطر 340 أخضر الماء عينه ... وغدا ثاقب النظر 340 والحياة جديدة ... إنسانها قد انبهر 340 ماذا جرى في كوننا؟ ... جاءه هادي البشر 341 حين دعا محمد ... إلى الحياة واشتهر 341 يوم نادى كل الورى ... إلى الله بلا ضجر 341 الله أنزل شرعه ... وحي به قد انهمر 341 لصبره احتارت قريش ... جهاده كان الأغر 341 جاء بها نبوة ... وللحق بها ظهر 341 بدعوة الله قائم ... بالغا قمة الفخر 341 فانبرى يوقظ الورى ... تتهاوى عنده الشرر 341 وتحالفت في حربه ... كلّ البغاة وانحصر 341 شدّت عليه مطارقا ... ومحارقا لا مدّخر 341 والأقربون تنافسوا ... في بغيهم كانوا الأشر 341 لكنه حمل اللواء ... به اقتدى ذوو الخير 341 كان أمضى من الرياح ... كان أقوى من الصخر 341 فاستنارت به النفوس ... فهو أسنى من القمر 341 رفع الحق صوته ... ضياؤه قد انتشر 341 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 والطواغيت تندب ... مجدها باء واندثر 341 كل قوم لهم إله ... عبدوه وهم حجر 341 ذهب الظلم وانطوى ... تحت الثرى قد انقبر 341 حل عدل مكانه ... غصونه تدني الثمر 341 ملأ الأرض نفحها ... تنشر فوقه الدرر 341 ومضى يحمل الزمان ... ويداوي بني البشر 341 قائدا موكب الحياة ... ويعاني فتنة الزّمر 341 لا يبالي مهما التوى ... دربه حالك السّير 341 حتى انطوى قبيله ... على ارتخاء وانقعر 341 حين لانت قناتهم ... فاستبيحوا من الغجر 341 يوم هابوا عدوّهم ... يوم هانوا على الصّغر 341 يا بني الجيل نهضة ... تنفض عنكم الغبر 342 يا صحابا بصيحة ... توقظ كل من هجر 342 هذا الكتاب نداؤكم ... فاسرعوا غير معتذر 342 فهو فيه سعادة ... وحده، كل من حضر 342 به النفوس كريمة ... تتبني كلّ مزدهر 342 به العيون قريرة ... ترقى الفضائل وانتصر 342 ع- أمور لو تدبرها حكيم ... إذا لنهى وهيّب ما استطاعا 158 من الوجوه المصابيح الذين هم ... كأنهم من نجوم حية صنعوا 19 أخلاقهم نورهم من أي ناحية ... أقبلت تنظر في أخلاقهم سطعوا 19 طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع 350 وجب الشّكر علينا ... ما دعا لله داع 350 أيّها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع 350 جئت شرّفت المدينة ... مرحبا يا خير داع 350 فلست بمبد للعدوّ تخشّعا ... ولا جزعا إنّي إلى الله مرجعي 302 ولست أبالي حين أقتل مسلما ... علي أيّ جنب كان في الله مصرعي 302 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع 302 ل- يا مسلمون ألا اقبلوا ... نحو الرّسول وهلّلوا 62 فهتافه كلّ الورى ... درب الحقيقة ماثل 62 لتحكّموا شرع الهدى ... فالأرض منه تنهل 62 اسقوا العطاش مرامهم ... إذ هم بهذا يمتلوا 62 ولوحده ريّ النعيم ... وبغيره لا تأملوا 62 وإذا اكفهرّت غبرة ... واسودّ جوّ ممحل 62 وإذا اضمحلّت خضرة ... إذ زال عنها آمل 62 أو أقفرت من بلدة ... قد غاب عنها سائل 62 لا تبحثوا عن غيره ... كلا، عداه قوّل 62 لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منّا العمل المضلّل 404 أحزان قلبي لا تزول ... ختى أبلّغ بالقبول 347 وأرى كتابي باليمين ... وتقرّ عيني بالرّسول 347 كذبتم وبيت الله يبزا محمد ... ولمّا نطاعن دونه ونناضل 401 ونسلمه حتى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل 401 وليس يصحّ في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل 192 أمّا أنا ماذا أقول ... وكل أعمالي ذبول 105 كيف أنا ماذا أقول ... ومحمد نعم الرسول 105 نفسي فداك عزيزة ... وقليلة أبا البتول 105 ولو ملكت مئاتها ... فهي للدين تؤول 105 هذي بضاعتي وضراعتي ... وبالشفاعة للقبول 105 حبّي لكم متواصل ... وجذوره فيه الشّمول 105 الله يعلم كنهه ... عششق عذراء دلول 105 وخطى الشريعة سرتها ... قدميّ للحمل ذلول 105 إنه العشق الأصيل ... وذاك يكفى أن أقول 105 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 - م- ظلوم لنفسي غير أني مسلم ... أصلي الصلاة كلّها وأصوم 104 إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المثلّم 171 لعلّ أمير المؤمنين يسؤوه ... تنادمنا في الجوسق المتهدّم 171 ن- اهتزّت الأحجار بغاره فرحانا ... جاء الأمين يرتّل القرآن 340 إن نكن لم نر النّبي فإنّا ... قد تبعنا سبيله إيمانا 210 وعالم بعلمه لم يعملن ... معذّب من قبل عبّاد الوثن 76 هـ- قد بتّ سامرها وغاية تاجر ... وافيت إذ رفعت وعزّ مدامها 166 فمن تكن كلمات الله حجته ... فلن يهاب من الدنيا وما فيها 333 دع عنك ما قاله الأعداء تشويها ... هي الدعاية فلتسقط مباديها 364 لا يقدرون على شيء بما كسبوا ... غير المكائد في أقصى معانيها 364 والحق يقذف نارا فوق باطلهم ... فيدفع الله أهواء ويوهيها 364 فمن تكن كلمات الله حجّته ... فلن يخاف من الدّنيا وما فيها 364 ربّ يوم بكيت منه فلمّا ... تولى بكيت عليه 157 اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... فما بدا منه فلا أحلّه 390 اللهم لا عيش إلّا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة 404 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 فهرس الأعلام 1 الاسم رقم الصفحة أ- إبراهيم عليه السلام 189، 197، 202، 244، 255، 382 ابن إسحاق 33، 396 ابن أم مكتوم 231 ابن جرير الطبري 169 ابن حزم الأندلسي 60، 61، 71 ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب 404 ابن القيم 397 أبو أيوب الأنصاري 240، 327، 329 أبو بكر الصديق 43، 99، 124، 127، 128، 139، 216، 224، 295، 304، 306، 308، 381، 403 أبو جندل 116 أبو جهل 177، 193، 225، 296، 360، 396، 399 أبو حذيفة بن عتبة 113، 114، 116، 264، 364، 365 أبو داود 149 أبو دجانة 123 أبو الروم 120 الاسم رقم الصفحة أبو سفيان 178، 396 أبو طالب 219، 391، 401 ابو طلحة 168، 169، 234 أبو العاص بن الربيع 194 أبو عبيدة بن الجراح 107، 125، 232، 376 أبو علي الصيرفي 71 أبو لبابة 376 أبو لهب 374 أبو محجن الثقفي 170، 376 أبو هريرة 96، 99 أبي بن خلف 374 أحمد 158 أحمد بن عرفان الهندي 72 الأخنس بن شريق 396، 397 أسامة بن زيد 391، 392 أسعد بن زرارة 119 أسماء ذات النطاقين 297، 307 إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص 238 إسماعيل عليه السلام 298 أسيد بن حضير 119 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 أصيرم، عمرو بن ثابت بن وقش 247، 266، 267 أم أيمن 216 أم سلمة 149، 297 أم شيبة بنت عمير بن هاشم 120 أم قيس 326 أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط 116 أم معبد 297 أمية بن خلف 224، 360، 374 أنس بن مالك 43، 44، 45، 135، 138، 168، 169، 234، 402 أنس بن النضر 138 ب- باذان 238، 282، 283 البخاري 21، 44، 77، 148، 242 برجسون 160 بريدة بن الحصيب الأسلمي 142، 170 بشر بن معاوية 140 بلال الحبشي 85، 209، 214، 360 بهمن 232 بيرزان 232 بيكو 112، 123 ث- ثابت بن قيس بن شماس 129، 348 ثمامة بن أثال 177، 366، 407 ج- جابر بن عبد الله 240 جاذويه 232 جالنوس 232 جبلة بن الأيهم 176، 232 جرجة 267 جليبيب 352 جميلة بنت أبي بن سلول 115 ح- الحارث بن الصمة 43 الحارث بن مالك الأنصاري 134، 205، 206 الحارث بن هشام بن المغيرة 176 حاطب بن أبي بلتعة 245، 246 حبيب بن زيد الأنصاري 225، 359 الحجاج بن علاط السّلمي 120 حذيفة بن اليمان 123، 236، 401 حرام بن ملحان 43، 44، 45 حكيم بن حزام 383 حمزة بن عبد المطلب 137، 400 حنظلة بن الربيع الأسيدي (الكاتب) 98، 99، 127، 128 حنظلة الغسيل بن أبي عامر 114، 115 خ- خالد بن الوليد بن المغيرة 179، 180، 181، 232، 329، 376 خباب بن الأرت 228، 294 خبيب بن عدي 132، 300، 302، 347، 352، 388 خديجة بن خويلد 194، 297 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 - د- دارون 160 داود عليه السلام 202 دحية الكلبي 237 دوركايم 160 ذ- ذو القرنين 202 ر- ربعي بن عامر 36، 270 ربيعة 132، 134، 178 ربيعة بن عباد 158 ربيعة بن كعب الأسلمي 100، 101، 102، 142، 143، 144، 208، 209 رستم 36، 232، 270 رملة بنت أبي سفيان، أم حبيبة 116 رملة بنت عبد الله بن أبي بن سلول 115 ز- الزبير بن العوام 123، 195 ز- زنّيرة 381 زياد بن لبيد الأنصاري 140 زيد بن الدثنة 132 زين العابدين، علي بن الحسين 238 زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم 194 س- سالم مولى أبي حذيفة 264، 349، 364، 365 سايكس 112، 123 سراقة بن جعشم 309 سعد بن أبي وقاص 168، 393، 494 سعد بن خولة 394 سعد بن الربيع 138 سعد بن معاذ 119، 221، 222، 350 سقلاب الرومي 232 سليمان بن سالم الكلاعي الأندلسي 38، 71 سليمان عليه السلام 202 سمية أم عمار 214، 225، 297، 352، 360، 380 سهلة بنت سهيل بن عمرو 113، 116 سهيل بن عمرو 116، 194 سواد بن غزية 401 ش- شعيب عليه السلام 197 شيبة بن ربيعة 400 شيرويه (قباز) 282 ص- صالح عليه السلام 197 صفوان بن أمية بن خلف 177، 178 صفية بنت شيبة 149 ط- الطفيل بن عمرو الدوسي 242 ع- عامر بن الطفيل 44 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 عامر بن فهيرة 43، 308 عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة 42 عائشة 65، 74، 130، 143، 148، 149، 297، 304، 307، 403 عباد بن بشر 119 العباس بن عبد المطلب 178، 179، 404 عبد الرحمن بن عوف 168 عبد العزى 141، 146 عبد الله بن أبي بكر 307 عبد الله بن جحش 121 عبد الله بن الحارث بن نوفل 178 عبد الله بن حذافة السهمي 280، 281، 299 عبد الله بن رواحة 137 عبد الله بن سبأ 112 عبد الله بن سهل بن عمرو 116 عبد الله بن عباس 237 عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول 115 عبد الله بن عمر بن الخطاب 18، 29، 93، 104، 125، 204، 384 عبد الله بن عمرو بن العاص 21 عبد الله بن مسعود 15، 137، 215 عبد الله ذو البجادين المزني 141، 146 عبد الله فيلبي 111 عبد عمرو الأصم 141 عبد عمرو بن كعب بن عبادة 140 عبيدة بن الحارث بن المطلب 400 عتبة بن ربيعة 113، 377، 400 عثمان بن طلحة العبدري 118 عثمان بن عفان 247، 322 عثمان بن مظعون 295 عدي بن حاتم 325، 374 عدي بن كعب 380 عدي بن النعمان 376 عروة بن أسماء بن الصلت السلمي 43 عقبة بن عامر الجهني 239 عقيل بن أبي طالب 194 عكرمة 267 علي بن أبي طالب 123، 125، 168، 195، 304، 400 عمار بن ياسر 225 عمارة بن عقبة 116 عمر بن الخطاب 56، 57، 104، 107، 125، 128، 135، 167، 170، 171، 176، 216، 224، 299، 309، 347، 349، 380، 384، 407 عمر بن عبد العزيز 132 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 عمرو بن عبدود العامري 195 عمير بن الحمام 388، 397 عمير بن وهب 177، 178 عوف بن الحارث 388، 398 عيسى بن مريم عليه السلام 13، 57، 244، 246 غ- الغامدية 376 ف- فاطمة الزهراء 362 الفجيع بن عبد الله بن جندح بن البكاء 140 فرعون 182، 183، 184، 185، 186، 187، 188، 189، 202، 266، 282، 359، 385، 386 فرويد 160 ق- قارون 182، 183 قيصر 81، 82، 231، 377 ك- كامبل 83 كسرى أبرويز (خسرو الثاني) 81، 82، 231، 280، 281، 282، 283، 309، 377 كنت 160 ل- لبيد بن ربيعة 166 لورنس العرب 111 لوط عليه السلام 197 م- ماعز 376 مالك بن جعشم 374 ماهان (باهان) الأرمني 232 المثنى بن حارثة الشيباني 376 محمد بن أبي حذيفة 114 محمد بن بشر بن معاوية 140 محمد بن كعب القرظي 236 محمد بن مسلم بن شهاب الزهري 238 مسروق بن الأجدع 19 مسلم 44، 239، 390، 394، 406 مسيلمة الكذاب 115، 177، 225 مصعب بن عمير 117، 119، 120، 331، 365 المطعم بن عدي 194، 407 معاذ بن جبل 56، 135 معاوية بن ثور بن عبادة البكائي 140 المقداد بن الأسود 347 المقوقس 245، 246 المنخل اليشكري 167 المنذر بن عمرو 42، 44 موسى عليه السلام 57، 183، 184، 185، 186، 187، 189، 196، 202، 246، 385، 386 ن- نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي 43 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 النجاشي 238 نسيبة 138 النعمان بن عدي بن نضلة القرشي 170 نمرود 197 نوح عليه السلام 197، 202 نوفل بن الحارث بن عبد المطلب 178، 194 نوفل بن عبد الله 195 نيتشه 160 هـ- هارون عليه السلام 183، 184 هالة بنت خويلد 194 هامان 182، 183، 184 هرقل 237، 299 هرمزان 232 هكسلي 160 هود عليه السلام 197 وولي الله الدهلوي الهندي 72 الوليد بن عتبة 400 الوليد بن عقبة 116 الوليد بن المغيرة 377 الوليد بن الوليد 377 وهب 177 ي- ياسر 214، 225، 296 يوسف بن عبد البر 71 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 فهرس الأماكن والبقاع 1 المكان رقم الصفحة أ- أحد 114، 115، 117، 118، 120، 121، 123، 135، 137، 147، 152، 247، 266، 332، 365 إصطخر 264 أفغانستان 226 أمريكا 153، 359 أمريكا اللاتينية 153 أوربا 153، 267 ب- بابل 197 البحر الأحمر 308 بدر 113، 116، 120، 132، 177، 178، 193، 194، 200، 221، 222، 332، 350، 388، 396، 397، 398، 399، 400، 401، 407 البصرة 170، 171 بغداد 6 البقيع 96 بئر معونة 42، 43 - ت- تبوك 147، 376 ج- جبل الصفا 292 جدّة 178 الجزيرة العربية 200، 275، 292، 382، 390 ح- الحبشة 114، 116، 117، 118، 170، 238، 320، 332 الحجاز 140، 238 الحجر الأسود 223 الحديبية 47، 64، 94، 95، 116، 117، 138، 220، 237، 375، 389، 407 ح- حضر موت 229، 295 حمراء الأسد 121 حنين 179، 383 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 - خ- خيبر 123 ذ- ذو طوق 402 ر- روسيا 359 س- السويد 153 السويس 226 ش- الشام 107، 125، 238 ص- صنعاء 229، 295 ط- الطائف 179، 389 ع- العراق 104، 384، 407 العقبة 119، 121، 189 غ- غار ثور 307 غار حراء 292، 294، 339، 340 ف- فارس 280، 283، 309 فلسطين 226 ق- القادسية 36، 231، 270 القسطنطينية 327، 328 ك- الكعبة 178، 229، 294، 382، 390، 391 ك- الكوفة 236، 401 م- المجر (هنغاريا) 360 مدين 197 المدينة المنورة 115، 116، 117، 118، 118، 119، 120، 135، 139، 159، 175، 176، 177، 178، 220، 235، 239، 240، 282، 303، 304، 306، 308، 309، 310، 313، 323، 332، 349، 350، 354، 389، 393، 402، 404 المريسيع 115 المسجد النبوي 404 مصر 153، 239، 240، 245 المغرب 153 مكة المكرمة 116، 117، 118، 119، 122، 132، 146، 159، 167، 179، 199، 200، 223، 275، 292، 293، 294، 300، 303، 306، 307، 308، 312، 331، 339، 342، 361، 362، 368، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 376، 382، 383، 389، 390، 391، 392، 393، 394، 395، 396، 402 منى 122، 139 مؤتة 179، 181 ن- نجد 42 هـ- الهند 153 - وواسط 170 الولايات المتحدة الأمريكية 153، 173 ي- اليرموك 116، 138، 180، 232، 267 اليمامة 115، 177، 225، 264، 343، 348، 365 اليمن 56، 135، 139، 238، 282 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 فهرس القبائل والجماعات 1 الاسم رقم الصفحة أ- آل فرعون 185، 186، 188 أسلم 143 الأنصار 18، 44، 94، 119، 120، 129، 142، 148، 168، 189، 209، 210، 222، 235، 266، 310، 351، 358، 402، 404 الأوربيون 79، 395 ب- بنو أبذى 139 بنو إسرائيل 185، 186، 385 بنو البكّاء 140 بنو حنيفة 177 بنو سلمة 397 بنو سليم 43، 44 بنو عامر 43، 44، 140 بنو عبد الأشهل 119، 266 بنو عبد الدار 117 بنو عبد المطلب 391 بنو عبد مناف 396 بنو عدي 170 بنو كنانة 391، 392 بنو المصطلق 115 بنو النجار 402 بنو هاشم 178، 194 ت- التتار 363 ث- ثمود 197 خ- الخزرج 348، 389 د- دار الأرقم 118 ذ- ذكوان 44 ر- رعل 44 الروم 125، 181، 232، 237، 267، 280، 299، 309، 328، 378 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 - ع- عاد 197 العرب 107، 113، 159، 193، 195، 198، 199، 200، 201، 220، 223، 235، 299، 339، 378 عصية 44 عضل 132 غ- الغساسنة 177، 232، 378 ف- الفرس 36، 232، 270، 280، 378 ق- القارة 132 القبط 245 قريش 116، 117، 122، 149، 159، 167، 193، 195، 199، 200، 220، 223، 235، 295، 296، 300، 302، 304، 305، 306، 307، 309، 341، 368، 381، 390، 391، 392، 396، 407 م- المغول 363 المناذرة 378 المهاجرون 18، 44، 94، 118، 120، 168، 179، 189، 235، 264، 310، 311، 332، 350، 358، 361، 364، 404 ي- اليهود 57 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة الإهداء 5 ملاحظات 7 تقديم 9 تمهيد وتنجيد 11 المبحث الأول: السيرة النبوية الشريفة ظلالها وآفاق دراستها 25 المبحث الثاني: السيرة النبوية الشريفة استمرار موكب وقواعد فهم ثاقب 53 المبحث الثالث: السيرة النبوية الشريفة جمال نماذجها وشمول فضائلها 89 المبحث الرابع: ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم ولادة تتبعها ولادة 251 المبحث الخامس: ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم الإرهاص والإشارة 273 المبحث السادس: الهجرة النبوية بين الفداء والبناء 285 المبحث السابع: الهجرة النبوية قائمة ودائمة 317 المبحث الثامن: الهجرة النبوية بيع وبيعة 335 المبحث التاسع: حقائق الهجرة النبوية ودعائمها 357 وماذا بعد؟ خاتمة ونتيجة وعبر مستفادة!!! 371 مصادر ومراجع 409 للمؤلف 415 الفهارس العامة 419 فهرس الآيات 421 فهرس الأحاديث والآثار النبوية 433 فهرس الشعر 440 فهرس الأعلام 445 فهرس الأماكن والبقاع 451 فهرس القبائل والجماعات 454 فهرس الموضوعات 456 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456